الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لا وثنية في الإسلام
(نبذة من الجزء الثاني من كتاب أشهر مشاهير الإسلام الذي يطبع الآن)
(رأيت ما قاله عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار، وهو قول لا نحب أن
يفوتنا البحث فيه، لهذا رأينا أن نفرد له هذا الفصل فنقول [1] : أولع الإنسان
بالإفراط، كما أولع بالتفريط في كل شؤونه الروحية والجسمانية، ولو أنصف
واعتدل ولم يطلق لنفسه العنان ليبلغ مقام الملائكة في أعلى عليين أو يهبط بها إلى
مقر الشرور في أسفل سافلين؛ لكانت السعادة الدائمة به ألزم وطريق النعيم الحيوي
لديه أوسع، ولما احتاج إلى كثير من هذه القوانين وقوّامها، وزعماء السيطرة
وجنودهم، والحكام وأعوانهم، والسجون وحراسها، بل ولكان اكتفى بدين واحد قويم
وشرع إلهيّ مستقيم ولم يشوّه وجه الشرائع ولم يدعُ لتعدد الأديان وإرسال الرسل في آن وآن.
أجل، أولع الإنسان بالشطط حتى في العقائد، فبينا يكون هذا في طرف
التفريط مارقًا من كل دين منكرًا لكل نحلة، هائمًا في المادة التي يتناولها حسه، وينكر
ما فوقها عقله، يكون الآخر مسلمًا لعقيدته، بما لا يبعد طبعه عن طبيعته طالبًا بخياله
ما يظن له قدرة فوق قدرته، وسلطة أعلى من سلطته، وأوّل ما يلاقيه في طلبه يعلق
بقلبه ويظنه منتجع عقله والغاية التي يطلبها في سيره فتولع به نفسه ويقوى فيه أمله
ويختص به عمله فيغلو في عبادته غلو المادي في مادته، حتى يساويه من طرف
الأطراف بالتوجه تارة للأقمار وأخرى للأشجار وآونة للأحجار، ووقتًا للأرواح
وآخر للأشباح إلى غير ذلك مما هو داخل في المادة قريب من متناول الحس.
فكأن العقل الإنساني في حال الإيمان والكفر أسير المادة لا يفلت من شَرَك
الحس ولا يذعن إلى ما فوق المادة ويصعد إلى أفق الكمال إلا هنيهة ريثما يتلقى
برهان ربه بواسطة الأنبياء، ويطمئن إلى التسليم بقوة إلهية تفوق قوى المادة وتعلو
عن العقل وتتحكم على الكائنات تحكم الصانع المختار، ثم لا يلبث أن ينحط عن هذه
المرتبة، فيعود إلى نحيزته الأولى للهبوط إلى هوة النقص والتوجه إلى مظاهر
المادة ولو تدريجيًّا حتى يلتصق بالحضيض، ويعود إلى الشرك وهو يظنه الإيمان
ويخاله منتهى العبادة، وإنْ من دين إلا أصيب أهله بهذا المصاب وأشركوا مع الله
الأرواح تارة، وأخرى الأنصاب توصلاً إليه على زعمهم بالحس، وارتياحًا إلى ما
تحت النظر والعقل، والله سبحانه وتعالى فوق ما يتصورون، ليس من المادة ولا
المادة منه، بل هي مخلوقة له مفتقرة إليه، وليس بينه وبين خلقه سبب منها
يتوصل به إليه بل هو كما قال في كتابه الكريم: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ
لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) الآية.
ومن الثابت أن العرب كانوا على دين إبراهيم الذي هو كباقي الأديان الإلهية
دين التوحيد بالله والإيمان بأنه تعالى خالق الكون وما فيه، وإنكار ما دون ذلك من
الاعتقاد بشيء من المادة ومن التمسك في العمل بأهداب الشرك، ولكن لم يلبثوا أن
تدرجوا في مدارج المادة وهبطوا إلى حضيض الشرك، وتدرجوا من الاعتقاد
بالأرواح إلى الاعتقاد بالأشخاص ثم إلى الاعتقاد بالأنصاب والأحجار، وغير ذلك
مما هو داخل في المادة واقع تحت الحس.
وهم مع ذلك كانوا يزعمون أنهم مؤمنون لا مشركون، وأنهم بعبادة المادة
يعبدون الله ويتقربون بها إليه كما أخبر عن ذلك القرآن بقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) وهذا من الإغراق في الجهل،
والانحطاط في العقيدة والإفساد لأصل التوحيد. ولم يكن هذا الإفساد قاصرًا على
العرب فقط بل عمَّ سائر أرباب الأديان، مما لا محل لبسطه الآن.
إذا تمهد هذا علمنا أن الإسلام بما جاء به من آيات التوحيد الخالص من كل
شائبة من شوائب الشرك إنما جاء لاستئصال شأفة الوثنية من نفوس العرب وغيرهم
من أرباب الأديان بمحو شائبة الاعتقاد بأي أثر من آثار المادة، وصرف النفوس عن
التوجه إلى تلك الآثار بالحس لتتوجّه إلى واجب الوجود بالضمائر، والاكتفاء
باستحضار هيبة جلاله في القلب، وتمكين الاعتقاد بأن الأثر الواقع تحت الحس إنما
يقوم قوامه بالمؤثر المستحضر في الضمير الخارج عن الحس؛ إذ بغير هذا لا يقوم
للتوحيد أثر متين في النفس ينجي من مزلة القدم إلى الوثنية المفضية إلى الشرك
المؤدي إلى الجحود، وإنما الإنسان مادة، وهذه أعراض منها تنمو وتعظم في النفس
ما دامت النفس مستشعرة بشيء من وجوب التعظيم لغير الله تعالى والتوجه لأيّ أثر من آثار المادة وساء منقلب الظالمين.
هذا هو التوحيد الذي جاء به الإسلام ودعا إليه النبي محمد عليه الصلاة
والسلام، وإنما اضطربت العقول وساءت الأوهام لتفاوت الأفهام، وتباين
مراتب المسلمين في العلم بحقيقة الدين والإحاطة بأسراره، والوقوف على جميع
مقاصده حتى على عهد الرسالة، وإليك الدليل:
أخرج الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في سيرته العمرية عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب في حجة حجها قال: فقرأ بنا في الفجر
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ} (الفيل: 1) و {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1) فلما انصرف رأى الناس مسجدًا فبادروه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا
مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا أهلك أهل الكتاب
قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له فيه صلاة فليصلّ، ومن لم
تعرض له صلاة فليمضِ.
فلو كان أولئك المصلون يومئذ في مرتبة عمر في العلم، واستشعروا من إقبالهم
على ذلك المسجد للصلاة فيه تعظيمًا له كما استشعر به عمر رضي الله عنه وعنهم
أجمعين لما بادروا للصلاة فيه إلا إذا عرضت لهم صلاة. ولا جرم أن أعظم الناس
فهمًا للإسلام وعلمًا بغوامض الدين ووقوفًا على مقاصد النبوّة المحمدية وما كانت
تدعو إليه من التوحيد البحت الخالي عن كل شائبة من الشوائب التي مَرّ ذكرها -
هم أهل السابقة من المهاجرين الأولين الذين تلقوا الدين أنجمًا كان ينزل بها الوحي
على رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن البعثة، ولازموا الرسول ملازمة الظل،
فاكتنهوا سرّ، شريعته وأدركوا مرامي غرضه، وقلدوه في أعماله وأقواله، وانتهجوا
منهجه واهتدوا بسيرته، فتفوقوا على غيرهم في العلم بالدين وعرفوا حقيقة التوحيد.
ومن هؤلاء من هم في المرتبة الأولى في فهم مقاصد الإسلام، ومنهم عمر
ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومن تتبع سيرته وأمعن النظر في أقواله وأفعاله
وانطباقها على الكتاب الكريم ونهج السنة القويم، علم ما هو التوحيد الذي أرشد إليه
الإسلام وعرفه أولئك الصحابة الكرام، فأرادوا أن يمحوا به كل أثر من آثار الوثنية
عن صفحات الضمائر والقلوب. وحسب العاقل دليلاً على هذا قول عمر ابن
الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار لما أشار عليه بجعل المصلَّى إلى الصخرة:
(لقد ضاهيت اليهودية يا كعب. إلى قوله: اذهب إليك [2] فإنا لم نؤمر بالصخرة
ولكنَّا أُمرنا بالكعبة) وقد مرّ الخبر في الفصل السابق نقلاً عن الطبري، ولأجله
عقدنا هذا الفصل ليكون به عبرة وذكرى لقوم يعقلون.
تقدم معنا كيف تدرّج العرب إلى الوثنية حتى أنسوا بلمس الأحجار، وعكفوا
على عبادة الأصنام، وأن أصول التوحيد عند أرباب الأديان كلها أفسدت تدريجًا كما
حصل في دين العرب. وإنما كان مبدأ هذا التدريج الاستسلام للشعور بوجوب تعظيم
مظهر من مظاهر المادة يظن أن له صلة بما فوق المادة كالعابد مثلاً، ثم يأخذ هذا
الشعور ينمو ويتعدى المظهر الأول إلى غيره، ويتدرج في أطوار التعبد له حتى
تنقلب صورة التوحيد المرتسمة على صفحات الضمائر إلى صورة من صور المادة
مجسمة للحس، ويستحيل الإيمان بإله واحد فوق المادة إلى آلهة شتى كلها من المادة
أو لها صلة بها.
وهذا هو الشرك التام الجلي، ومبدؤه ذلك الشرك الخفي، ولم تكن دعوة
الإسلام قاصرة على استئصال الوثيقة فقط , بل كان من مقاصدها الأولى والغايات
التي ترمي إليها - بل من أولاها بالاهتمام وأجدرها بالعناية - تطهير النفوس من كل
أثر من آثار ذلك الشعور الفاسد، ولو أشبه بدقته دقة الجرثومة الحية التي لا ترى إلا
بالنظارة المكبرة، إلا أنها إذا وجدت منبتًا صالحًا لها تولد عنها ما لا يحصى من
الجراثيم في بضع ثوان.
فمن قال بخلاف ذلك، أو ظن أن الإسلام يتسامح في تلك الجزئيات أو يبيح
تعظيم أي مظهر من مظاهر المادة تعظيمًا دينيًّا؛ فقد أخطأ ونسب العبث إلى دين الله
لهذا. ولما أشرب قلب عمر (رضي الله عنه) من التوحيد الحق الصادق لم
يتسامح مع كعب الأحبار حتى في خلعه عند دخوله المسجد الأقصى، وأخذه على
عمله ذلك كما أخذه على رأيه في جعل المصلى إلى الصخرة كما رأيت وسترى من
أخباره بهذا الصدد إن شاء الله.
هكذا كان فهم كبار الصحابة للدين , ومن أمعن النظر في قول أبي بكر
الصديق رضي الله عنه في إحدى خطبه التي مر إيرادها في هذا الكتاب وهو (إن
الله لا شريك له، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف
عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره) يعلم كيف كان أولئك الصحابة الكرام يعلّمون
الناس التوحيد، ويقتلعون من أعماق نفوسهم أصول الشرك. ورحم الله امرأً حاسب
نفسه وعرف دينه وتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه , ونبذ بدع
النفوس وأهواءها، وتنكب مواضع الزلل ومواقع الخطأ وسوء الفهم، والله ولي الرحمة وهو القاهر فوق عباده) . اهـ
__________
(1) يريد قول عمر لكعب: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، ولقد رأيتك وخلعك نعليك. وذلك حين استشاره في أمر قبلة المسجد فأشار بجعل المصلى إلى الصخرة.
(2) هكذا جاءت هذه العبارة في تاريخ الطبري بهذا اللفظ ولعلها إليك عني اهـ من الأصل.(5/93)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في الجزء الرابع منها نبذة في الطعن
بالمسلمين عامة وبأكابر الصحابة الكرام خاصة، وذلك أن عابتهم وعابت دينهم
بالرجاء لفضل الله والخوف من الله , وهذا مبلغ القوم من العلم بالله وبدين الله، أثبتت
(إن كثيرين من المسلمين يموتون على بساط الرجاء بدخول الجنة والتنعم بنعيمها بناء
على ما لهم من المواعيد الكريمة في قرآنهم) إلى أن قالت: (وما علة ذلك سوى
جهلهم حقيقة أنفسهم وكمالات الباري تعالى) ثم قالت مستدركة: إن أولي العلم
والذكاء من المسلمين غالوا في النسك والتعبد والصلاة والابتهال إلى الله تعالى
وجعلتْ علة هذه العبادة أنهم لم يجدوا ما يريح نفوسهم من الشعور بثقل حمل
خطاياهم.
واستشهدت على المعلول دون العلة بكلام في الخوف من الله عن أبي بكر
الصديق وعلي بن أبي طالب وسفيان الثوري، وعُدَّ سفيان من الصحابة وما هو
من الصحابة، ولكن العلم ليس شرطًا للقول عند هؤلاء المشاغبين، وفي العبارة أيضًا
تحريف، وليست الأمانة من شروط النقل عند هؤلاء المبشرين.
وما لنا وللبحث في الروايات التي نقلتها وبيان التحريف , وضعف الضعيف؟
نضرب عن ذلك صفحًا، وعن العبارات التي أساء بها الكاتب الأدب مع هؤلاء
الأئمة الذين يفتخر بهم النوع الإنساني , ولو صدق المسلمون هذه الكتب التي تسمى
التوراة، وسمح لهم دينهم بتفضيل أحد على الأنبياء لكان لهم من التاريخ ما يفضلون
به هؤلاء الأئمة على أنبياء التوراة؛ إذ لم ينقل عن واحد منهم مثلما نقل القوم عن
أنبيائهم من القسوة والظلم والسكر والزنا وسفك الدماء برأهم الله مما قالوا.
نغضّ الطرف عن هذا ونبين للقراء أن الغرض من ذم الخوف والرجاء اللذين
هما الركنان لكل دين صحيح هو تقرير قاعدة إباحة المعاصي والشرور التي هي
العنوان لبشارتهم والجاذبة إلي ديانتهم , وهي أن النجاة في الآخرة من العذاب
والحياة الأبدية في الملكوت إنما يحصلان باعتقاد أن الإله لم يجد وسيلة لنجاة البشر
من ذنب أبيهم آدم إلا بحلوله في جسم إنسان، وتسليط طائفة كانت أفضل الشعوب
عليه، وصلبها إياه وصيرورته ملعونًا بحكم الناموس والشريعة! ! فمن أطفأ سراج
عقله وأفسد فطرة نفسه وسلم بهذه القاعدة فهو الناجي الذي يرث الملكوت الأعلى، وإن
قَتَلَ وَزَنى وسكر وأكل أموال الناس بالباطل وظلم العباد وكان آفة العمران. ولذلك
صرح الكاتب الذي لا أقدر أن أصفه إلا بكونه مبشرًا داعيًا إلى هذه العقيدة بأن
سبب خوف أبي بكر وعلي وسفيان من الله هو جهلهم بقاعدة الفداء , يعني أنهم لو
عرفوا وصدقوا بها لكانوا عاشوا آمنين من مكر الله وعذابه، يسرحون ويمرحون في
أهوائهم وحظوظهم.
والحاصل أن المسلم الذي يغلب عليه الرجاء بفضل الله ووعده للمحسنين بالنعيم
جاهل ضال , والذي يخاف الله هيبة وتعظيمًا أو لاتهام نفسه بالتقصير في
الأعمال الصالحة النافعة للناس وفي المعارف والكمالات المزكية للنفس , فهو
جاهل ضال. وأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من غير تفرقة بينهم وتهذيب
الأخلاق وإصلاح الأعمال - كل ذلك لا ينفع المسلم الصادق ولا يغني عنه شيئًا،
فما حيلة المسلم المسكين إذا ابتلاه الله تعالى بسلامة الفطرة ونور العقل فلم يقبل تلك
القاعدة التي تفصَّى منها الذين تربوا عليها تقليدًا لما عقلوا وميزوا، على أن كتب القوم
لا تخلو من نصوص تدل على أن رسلهم ومقدسيهم كانوا يخافون من الله تعالى
ويرجون رحمته؛ لأنهم لم يكونوا إباحيين بل كانوا قومًا صالحين.
إن القرآن الحكيم علمنا بأن دين الله تعالى واحد في جوهره , وأن جميع
الأنبياء وصالحي المؤمنين بهم كانوا عليه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن صفات
الحوادث وإفراده بالعبادة والخوف الزاجر عن المعاصي والشرور والرجاء الباعث
على الخير والصلاح، وإننا نرى جميع عقلاء المسيحيين يوافقوننا على هذه القاعدة
ويودون أن يهتدي إليها دعاة كل دين ورؤساؤه ليكون الدين كما شرع الله سعادة
للبشر , لا وبالاً وشقاءً عليهم , ومثارًا للخلاف والشحناء والبغضاء بينهم.
وقد ذكر الإمام الغزالي أنواعًا للخوف كخوف الموت قبل التوبة، وخوف نقض
التوبة ونكس العهد وخوف ضعف القوة عن الوفاء بالحقوق، وخوف زوال رقة القلب
وتبدلها بالقساوة وخوف الميل عن الاستقامة، وخوف استيلاء العادة في اتباع
الشهوات المألوفة، وخوف الغرور بالحسنات وخوف البطر بكثرة النعم وخوف
انكشاف غوائل الطاعات بأن يبدو للمرء ما لم يكن يحسب وخوف ما عساه يطرأ
عليه في مستقبله، وخوف نزول البلاء، وخوف الاغترار بزخرف الدنيا وخوف
اطلاع الله على السريرة في حال الغفلة وخوف سوء الخاتمة. ويمكن استنباط أنواع
أخرى، وأعلى الخوف خوف المهابة والإجلال لله عز وجل، وكل ذلك من الذنوب
عند هؤلاء المبشرين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/98)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام في إنكلترا
رأينا في كراسة سياسية تسمى (ديبلوماتيك فلي شينس) أي: المنشورات
السياسية لشهري نوفمبر وديسمبر سنة 1887 مقالة بإمضاء المستر جورج كراشي
أحد أعضاء البرلمنت الإنكليزي أخذنا منه ما يأتى تعريبه وهو:
الإسلام دين لا يبتدع أحكامًا، ولا يخترع للوحي أساسًا جديدًا، ولا يوصي بغير
معهود ليس له كهنوت خاص ولا رئاسة كنسية، ولكنه يسن للملة شرعًا وللدولة قانونًا
يكون تنفيذهما باسم الدين. هذا ما قاله (داود أرقوهارت) في المجلد الأول من
كتابه المسمى بروح الشرق في الصفحة الخامسة والعشرين من مقدمة طبعته الثانية
سنة 1839.
إن حقيقة الإسلام التي أماط الحجاب عنها أولاً من اشتهر بروح الشرق،
وأبرزها للمرتابين من الغربيين، لم تزل تزداد وضوحًا منذ كشفها حتى تجلت اليوم
بنفسها على وجه لم يبق معه للأكاذيب المفتراة على الإسلام سبيل لسلطتها على
النفوس فيما بعد ذلك التجلي الباهر كان فيما ألقاه القسيس (إسحاق طيلر) من
خطابته في المحفل الديني، صدق أرقوهارت في دعواه أن حقيقة الإسلام أمر مسلّم
عند كثيرين، فالنبلاء الكرام (بالكراد) و. مبري و. راولنسون و. لايارد
و. رولاند و. ستانلي أوف ألدرلي و. ديشانسكي وقوم آخرون من قبيلهم شاركوه
في البصيرة وصدقوه فيما قرره. وكل مسافر عاشر الأقوام المحمدية وأنس إليهم،
فله عنهم خبر محمود ومع ذلك كله نرى الجمهور في إنكلترا لم تزل آراؤهم في
مواقفها الأولى.
كانت الحقيقة في احتجاب عن أنظار العامة لأن أكثر أهالي إنكلترا
مصروفون إلى النصرانية عن النظر فيما سواها، وتوارثوا فيها عصبية تظهر لهم
في شعار الدين أما الآن وقد قام قسيس محترم من البيعة الإنكليزية يصدع بهذا الحق،
فلا بد أن يصغي إلى قوله ويذعن له ملايين ممن كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم
ويعرضون عن مقالات قوم يعدونهم سياحين أو متفلسفين.
هذه الحقائق مما لا يقبل الإنكار، وإنما كان الإشكال في طريق اجتلاب
الخواطر إليها حتى تجتليها، وحيث زال هذا الإشكال بهمة أحد القسيسين المحترمين
فالغاية المطلوبة أصبحت مما لا يشك فيه معشر الذين قبلوا نصيحة داود أرقومارت.
ليس السعي لبيان أن الإسلام مما يمكن احتماله فقط، بل لم نزل نطلب أن يكون من
النفوس في مكانة الاحترام، وقد استيقنّا الآن أن رجاءنا المُرْجَأ قد تحقق ومدّعانا
الحق قد سلم به.
لا ينبغي أن يظن أننا نحسب دين الإسلام مخالفًا للدين المسيحي، فذلك مما لم
يخطر لنا ببال قط، وقصارى ما نقول: إن الغاية من كل دين إنما هو العمل الصالح
والمسلك المستقيم، ولسنا نحكم على أبناء جنسنا إلا كما قال المسيح عليه السلام
(بثمراتهم تعرفونهم) وحيث استمسكنا بهذا الأصل فلنا أن نجهر بأن المعتقدين بالدين
المسيحي في هذه الأوقات ليسوا بمنزلة يفضلون بها على المسلمين.
هذا الحق ننادي به ونحن على يقين منه ونحثّ الذين يقولون إنا نصارى. على
أن يضعوا الإسلام في منزلة تنطبق على الواقع ونفس الأمر، فإن استطاعوا أن
يدحضوا حجتنا بالبراهين الساطعة فليعملوا على مكانتهم، وإن لم يفعلوا ولن يفعلوا
فليكن نظرهم إلى الإسلام على حد ما بيّنا مناسبًا للحقيقة الواقعية، ولينصفوا الإسلام
ذلك الدين القيم الذي هو نظام لمعيشة قسم عظيم من أمم كريمة كثيرة العدد من النوع
البشري.
مما يهم الشعب الإنكليزي خاصة أن يتخلصوا من أطوار التعصب التي لا
تنحصر آثارها في إلحاق العار بهم فقط بل تتعدى إلى جلب المضرة عليهم أيضًا؛ لأن
لحضرة الملكة ملايين من رعاياها كلهم مسلمون ونحن في مقام على أحد جانبيه
دولة الروسية، وعلى الجانب الآخر الدولة العثمانية ولا يمكننا أن نزعم عدم المبالاة
بعقابيل الحروب التي قامت على سوقها بين هاتين الدولتين من أمد بعيد، وإلى الآن
لم تضع أوزارها وضعًا حقيقيًّا. إن الدولة الروس لا يمكنها أن تكون في حرب
مستمرة، لكنها لا تراعي ما تكلف به من شروط السلام ولا يزال وكلاؤها الخفيّون
مشتغلين بالعمل (كذا) وما من زمان إلا والحذر فيه من الروسية ضروري للباب
العالي وهذا مجموع أحوال توجب على دولة الإنكليز أن تسأل نفسها آنًا بعد آن: هل لنا أن نقاوم الروسية أو ندعها وشأنها؟
كل وجه من وجوه السياسة يتعلق بسلامة الدولة الإنكليزية وبقائها، يرشدنا
إلى الاعتراف بلزوم عقد معاهدة مع الدولة التي لم تضرنا قط، وفتحت فُرَصَها
لتجارتنا، وأبواب بلادها لأشغالنا، أما الصيحة الفارغة بأن الروسية دولة نصرانية،
والدولة العثمانية دولة محمدية فقد كان لها إلى الآن أسوأ الأثر في إعماء عقولنا
وخطلنا في سياستنا، فلنأخذ من الآن بأصل صحيح وهو أن نعلق الحكم بالأعمال لا
بالعقائد، فإنه ليس خاصًا بالأفراد، بل كما يكون بها يكون بالأقوام والدول أيضًا،
فإن قابلنا بين روسيتنا النصرانية وبين العثمانية المحمدية لم يشك في أن المعاهدة
مع العثمانية هي التي تظهر أفضليتها عند الحاكمين بالحق أجمعين، وإذا ذكرنا
المعاهدة العثمانية فلا نستعمل اللفظ فيها بمعناه السياسي أو تركيبه الديبلوماسي، ولا
ينبغي أن يفهم ذلك من كلامنا، إنما المعاهدة التي كنا نجتهد في إعدادها لسنين طويلة
كانت معاهدة مبنية على شروط مساواة مؤسسة على الاحترام من الجانبين، وظهر لنا
في الأزمان الماضية أن إكمال مثل تلك المعاهدة من المحال. أما الآن فلا نقول: إنها
من قبيل الممكن الذاتي فقط بل صارت من قبيل ما بالقوة القريبة من الفعل.
__________(5/101)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الاجتماع الثاني
لجمعية أم القرى
الداء
أو: الفتور العام
أجابه (المرشد الفاسي) إننا كنا على عهد السلف الصالح وشريعتنا سمحة
واضحة المسالك معروفة الواجبات والمناهي، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وظيفة لكل مسلم ومسلمة، وكنا في بساطة من العيش متفرغين لذلك، ثم شغلنا
شأن التوسع فخصصنا لذلك محتسبين ثم دخل في ديننا أقوام ذوو بأس ونفاق أقاموا
الاكتساب مكان الاحتساب، وحصروا اهتمامهم في الجباية وآلتها التي هي الجندية
فقط؛ فبطل الاحتساب وبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طبعًا، فهذا يصلح
أن يكون سببًا من جملة الأسباب، ولكنه لا يكفي وحده لإيراث ما نحن فيه من الفتور.
على أن انحصار همة الأمراء الدخلاء في الجباية والجندية أدى بهم إلى
إهمال الدين كليًّا ولولا أن في القرآن آيتين اثنتين لهجروه ظهريًّا إحداهما قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) مع الغفلة عن
المراد بكلمة (أولي) وما تقتضيه صيغة الجمع وما يقتضيه قيد منكم. والثانية قوله
تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 218) مع إغفال بيان الجهاد المأمور
به؛ هل هو ما يكون به إعزاز كلمة الله أم ما تؤيد به سلطة الأمراء العاملين على
الإطلاق؟ فإهمال الاهتمام بالدين قد جر المسلمين إلى ما هم عليه حتى خلت قلوبهم
من الدين بالكلية، ولم يبق له عندهم أثر إلا على رءوس الألسن لا سيما عند بعض
الأمراء الأعاجم الذين ظواهر أحوالهم وبواطنها تحكم عليهم بأنهم لا يتراءون بالدين
إلا لقصد تمكين سلطتهم على البسطاء من الأمة، كما أن ظواهر عقائدهم وبواطنها
تحكم عليهم بأنهم مشركون ولو شركًا خفيًّا من حيث لا يشعرون.
فإذا أضيف إلى شرهم هذا ما هم عليه من الظلم والجور يحكم عليهم الشرع
والعقل بأن ملوك الأجانب أفضل منهم وأولى بحكم المسلمين لأنهم أقرب إلى العدل
وإقامة المصالح العامة وأقدر على عمارة البلاد وترقية العباد، وهذه هي حكمة الله في
نزع الملك من أكثرهم كما يقتضيه مفهوم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117) [1] . وقد افتخر النبي عليه السلام بأنه ولد في زمن
كسرى أنوشروان عابد الواكب [2] فقال: (ولدت في زمن الملك العادل) [3]
وحكى ابن طباطبا في (الآداب السلطانية والدول الإسلامية) أنه لما فتح
السلطان هلاكو (وهو مجوسي) بغداد سنة (656) أمر أن يستفتى علماؤها: أيّ
الرجلين أفضل السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ فاجتمع العلماء
في المستنصرية لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب حيث كان رضي
الدين علي بن طاووس حاضرًا وكان مقدمًا محترمًا فتناول الفتيا ووضع خطَّه
فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الظالم فوضع العلماء خطوطهم بعده.
ثم قال: إني أظن أن السبب الأعظم لمحنتنا هو انحلال الرابطة الدينية؛ لأن
مبنى ديننا على أن الولاء فيه لعامة المسلمين، فلا يختص بحفظ الرابطة والمسيطرة
على الشؤون العمومية رؤساء دين سوى الإمام إن وجد وإلا فالأمر يبقى فوضى بين
الجميع، وإذا صار الأمر فوضى بين الكل فبالطبع تختل الجامعة الدينية وتنحل
الرابطة السياسية كما هو الواقع. ومن أين لنا حكيم (كبسمرك) أو ملزم
(كغاريبالدي) يوفق بين أمرائنا أو يلزمهم بجمع كلمتنا. وقد زاد على ذلك فقدنا
الرابطة الجنسية أيضًا، فإن المسلمين في غير جزيرة العرب لفيف أخلاط دخلاء،
وبقايا أقوام شتى لا تجمعهم جامعة غير التوجه إلى هذه الكعبة المعظمة.
ومن المقرر المعروف أنه لولا رءوساء الدين في سائر الملل وروابطهم
المنتظمة المطردة أو من يقوم مقام الرؤساء من الدعاة أو مديري ومعلمي المدارس
الجامعة المتحدة المبادئ لضاعت الأديان وتشعب أخلاق الأمم ونالهم ما نالنا من
كون كل فرد منا أصبح أمة في ذاته.
أجابه (المحقق المدني) إن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفيان أن
يكونا سببًا للفتور العام بل لابد لذلك من سبب أعم وأهم. ثم قال: أما أنا فالذي
يجول في فكري أن الطامة هي من تشويش الدين والدنيا على العامة بسبب العلماء
المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوه وضيعوا أهله. وذلك
أن الدين إنما يعرف بالعلم، والعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال العلماء قيامهم
في الأمة مقام الأنبياء في الهداية إلى خير الدنيا والآخرة. ولا شك أن لمثل هذا
المقام في الأمة شرفًا باذخًا يتعاظم على نسبة الهمم في تحمل عنائه والقيام بأعبائه.
فبعض ضعيفي العلم وفاقدي الدم تطلعوا إلى هذه المنزلة التي هي فوق طاقتهم،
وحسدوا أهلها المتعالين عنهم، فتحيلوا للمزاحمة والظهور في مظهر العلماء العظماء
بالإغراب في الدين , وسلوك مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف العلم
إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر، وكما يلجأ قليل المال إلى زينة اللباس
والأثاث (مرحى) .
فصار هؤلاء المتعالمون يدلسون على المسلمين بتأويل القرآن بما لا يحتمله
محكم لفظه الكريم، فيفسرون البسملة أو الباء منها مثلاً بسفر كبير تفسيرًا مملوءًا
بلغط لا معنى له، أو تحكم لا برهان عليه، ثم جاءوا الأمة بوراثة أسرار ادعوها
وعلوم لدُنيات ابتدعوها وتسنيم مقامات اخترعوها ووضع أحكام لفقوها وترتيب
قربات زخرفوها. وبالإمعان نجدهم قد جاءوا مصداقًا لما ورد في الحديث الصحيح
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع - وفي رواية: حذو القذة بالقذة -
حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال هو
فمن؟) . وذلك أن هؤلاء المدلسين اقتبسوا ما هنالك كله أو جله عن أصحاب
التلمود وتفاسيرهم ومن المجامع المسكونية ومقراتها ومن البابوية ووراثة السر ومن
مضاهاة مقامات البطارقة والكردينالية والشهداء وأسقفية كل بلد ومطاهر القديسين
وعجائبهم والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها وحالة الأديرة
وبادريتها، والرهبنة أي التظاهر بالفقر ورسومها والحمية وتوفيتها ورجال الكهنوت
ومراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم ومن مراسم الكنائس وزينتها، والبيع
واحتفالاتها والترنحات ووزنها والترنمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور
وشد الرحال لزيارتها والإسراج عليها والخضوع لديها وتعليق الآمال بسكانها.
وأخذوا التبرك بالآثار كالقدح والحربة والدستار من احترام الذخيرة وقدسية
العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر بعض الصالحين من إمرارها
على الصدر لإشارة التصليب، وانتزعوا الحقيقة من السر، ووحدة الوجود من
الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء
المصدرة بالندامة على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة
من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام، ومنع الاستهداء من نصوص الكتاب
والسنة من حظر الكهنة الكاثوليك قراءة الإنجيل على غيرهم، وسد اليهود باب
الأخذ من التوارة وتمسكهم بالتلمود إلى غير ذلك مما جاء به المدلسون تقليدًا لهؤلاء
شبرًا شبرًا واقتفاء لأثرهم بالدخول حيث دخلوا جُحرًا جحرًا. وهكذا إذا تتبعنا
البدع الطارئة نجد أكثرها مقتبسًا وقليلها مخترعًا.
وقد فعل المدلسون ذلك سحرًا لعقول الجهلاء، واختلابًا لقلوب الضعفاء كالنساء
وذوي الأهواء والأمراض القلبية أو العصبية من العامة والأمراء السلسي القياد طبعًا
إلى الشرك؛ لأن التعبد رغبة أو رهبة لما بين أيديهم وتحت أنظارهم أقرب إلى
مداركهم من عبادة إله ليس بجوهر ولا عرض وليس كمثله شيء، ولأن التعبد باللهو
واللعب أهون على النفس والطبع من القيام بتكليفات الشرع كما وصف الله تعالى
عبادة مشركي الرب فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَة} (الأنفال: 35) أي: صفيرًا وتصفيقًا وهؤلاء جعلوا عبادة الله تصفيقًا وشهيقًا
وخلاعة ونعيقًا (مرحى) .
والحاصل أنه بذلك وأمثاله نجح المدلسون فيما يقصدون، ولا سيما بدعوى فئة
منهم الكرامة على الله والتصرف بالمقادير وباستمالتهم العامة بالزهد الكاذب والورع
الباطل والتقشف الشيطاني وبتزيينهم لهم رسومًا تميل إليها النفوس الضعيفة الخاملة
سموها آداب السلوك ما أنزل الله بها من سلطان ولا عمل بها صحابي ولا تابعي،
ظاهرها أدب وباطنها تشريع وشرك، وبجذبهم البله الجاهلين لتصعيب الدين من
طريق العلم والعمل بظاهر الشرع، وتهوينه كل التهوين من طريق الاعتقاد بهم
وبأصحاب القبور.
وقد تجاسروا على وضع أحاديث مكذوبة أشاعوها في مؤلفاتهم حتى التبس
أمرها على كثير من العلماء المخلصين من المتقدمين والمتأخرين مع أنها لا أصل
لها في كتب الحديث المعتبرة. وجلبوا الناس بالترهيب والترغيب، أما الترغيب:
فبالاستفادة من الدخول في الرابطات والعصبيات المنعقدة بين أشياعهم. وأما
الترهيب: فبتهديدهم مناوئيهم أو مسيئي الظن بهم بإضرارهم في أنفسهم وأولادهم
أموالهم ضررًا يتعجلهم في دنياهم قبل آخرتهم. (مرحى)
وقد قام لهؤلاء المدلسين أسواق في بغداد ومصر والشام وتلمسان قديمًا،
ولكن لا كسوقها القائم في القسطنطينية منذ أربعة قرون إلى الآن حتى صارت فيها
هذه الأوهام السحرية والخزعبلات كأنها هي دين معظم أهلها، لا الإسلام، وكأنهم لما
ورثوا عن الروم الملك حرصوا على أن يرثوا طبائعهم أصلاً حتى التوسع في هذه
المصارع السيئة، فاقتبس لهم المدلسون كثيرًا مما طبقوه على الدين، وإن كان الدين
يأباه، وزينه لهم الشيطان بأنه من دقائق الدين، ومن هذه العواصم سرى ذلك إلى
الآفاق بالعدوى من الأمراء إلى العلماء الأغبياء إلى العوام.
فهؤلاء المدلسون قد نالوا بسحرهم [4] نفوذًا عظيمًا، به أفسدوا كثيرًا في الدين
وبه جعلوا كثيرًا من المدارس تكايا للبطالين؛ الذين يشهدون لهم زورًا بالكرامات
المرهبة وبه حولوا كثيرًا من الجوامع مجامع للطبالين الذين ترتد من دوي طبولهم
قلوب المتوهيمن، وتكفهر أعصابهم فيتلبسهم نوع من الخيل يظنونه حالة من الخشوع
وبه جعلوا زكاة الأمة ووصاياها رزقًا لهم وبه جعلوا ربع أوقاف الملوك والأمراء
عطايا لأتباعهم مما نسمي في البلاد العثمانية (دعا كوا وطعامية) (مرحى) .
وبذلك ضاق على العلماء الخناق لا رزق ولا حرمة وكفى بذلك مضيعًا للعلم
وللدين؛ لأنه قد التبس على العامة علماء الدين بالفقراء الأدلاء من هؤلاء
المدلسين الأغنياء الأعزاء، فتشوشت عقائدهم وضعف يقينهم فضيع الأكثرون
حدود الله وتجاوزوها، وفقدوا قوة قوانين الله ففسدت أيضًا دنياهم واعتراهم هذا
الفتور.
أجاب (المولى الرومي) إن كل الديانات مُعَرَّضة بالتمادي لأنواع من
التشويش والفساد، ولكن لا تفقد من أهلها حكماء ذوي نشاط وعزم ينبهون الناس
ويرفعون الالتباس، أو يعوضون قواعد الدين إذا كان أصلها واهيًا (لا متينًا كقواعد
الإسلام) بقوانين موضوعة تقوم بنظام دنياهم ويتحملون في سبيل ذلك ما يتحملون
من المشاق خدمة لأفكارهم السامية، ويبذلون ما عز وهان حفظًا لشرفهم القائم بشرف
قومهم، بل حفاظًا لحياتهم وحياة قومهم من أن يصبحوا أمواتًا متحركين في أيدي
أقوام آخرين. ولقد أثبت الحكماء المدققون بعد البحث الطويل العميق أن المَنْشأ
الأصلي لكل فساد في أخلاق العباد، والمَنْبَت الأول لكل شقاء في بني حواء هو أمر
واحد لا ثاني له؛ ألا وهو وجود السلطة القانونية منحلة ولو قليلاً لفسادها، أو لغلبة
سلطة شخصية عليها من فرد أو أكثر، فما بال الزمان يَضِنُّ علينا برجال ينبهون
الناس، ويرفعون الالتباس، يفتكرون بحزم، ويعلمون بعزم، ولا ينفكون. حتى
ينالوا ما يقصدون، فينالوا حمدًا كثيرًا، وفخرًا كبيرًا، وأجرًا عظيمًا؟ وعندي أن
داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى تحت ولاية
الجهال المتعممين.
وهنا نبه السيد الفراتي الأستاذ الرئيس إلى قرب وقت الانصراف؛ عندئذ
جهز (الأستاذ الرئيس) بشعار (لا نعبد إلا الله) تنبيهًا للإخوان وقال لهم إن أخانا
المولى الرومي لفارس مغوار نحب ما عودنا من التفصيل والإشباع، والآن قد آن
وقت الظهر وحان أن نتفرق لندرك الصلاة وموعدنا غدًا إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الظلم هنا الشرك.
(2) يظن أن اتخاذ الشمس إلى الآن شارة للملك في إيران وكذلك اتخاذ الهلال والنجم شارة للملك عند الترك هو من بقايا دياناتهم الأولى.
(3) الحديث موضوع باطل وإن استشهد به بعض العلماء الأعلام ومنهم حجة الإسلام.
(4) السحر لغة إخراج الباطل في صورة الحق بالتمويه والخداع، والسحر الذي جاء في الشرع ليس غير هذا بدليل وصفه تعالى لعمل سحرة فرعون في قوله جلت حكمته: [قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ] (الأعراف: 116) وقوله: [فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى] (طه: 66) .(5/105)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قانون التعليم الرسمي والجمعية العمومية
كان كل مصري يسيء الظن بكل عمل يجري على أيدي المحتلين فما زالت
الأعمال تنقض وتبرم وتمحو وتثبت حتى اعترف الأكثرون بأكثر نتائج الأعمال
الإصلاحية النافعة في الري والمالية والإدارة والسياسة، ولولا أن أكثر الناس أو كل
الناس غير راضين عن سير نظارة المعارف لاعترفوا أجمعين بحسن نية المحتلين
وإرادتهم الخير للبلاد وأهلها، وليس هذا مقام بسط هذه المسألة ولكن هذه الكلمة
تمهيد لما يأتي وهو أن سخط الناس من سير نظارة المعارف في التعليم جعل شأنًا
عظيمًا لاقتراح الوجيه الفاضل أمين بك الشمسي على الجمعية العمومية أن تطلب
من الحكومة عرض قوانين التعليم (بروجرامات) ومنشورات المعارف على
مجلس شورى القوانين ومجلس النظار.
وتوقع الناس أن تقبل الحكومة هذا الاقتراح بمقدار ما لهم من حسن الظن فيها.
وما كانوا ينتظرون أن يدافع صاحب السعادة ناظر المعارف الجمعية العمومية
ويناضلها نضال بني ثعل؛ ليدفع عن نظارته هذا الاقتراح؛ لأنهم يعتقدون أنه
مستريح من أعمال المعارف لثقته بأمين أسرارها العامل الدائب المستر دنلوب
وسائر الموظفين تحت يده، ولأن من شأن الواثق بحسن عمل ينسب إليه حقيقة أو
عرفًا بالذات أو بالواسطة أن يحب عرضه على الناس ويسعى في توجيه أنظارهم إليه
لا سيما إذا كان الغرض من العمل المنفعة العامة وكان نقد الناظرين فيه من أسباب
ترقيه وإتقانه كنظام التعليم ولكن الناظر جاء بما لم يكن في الحسبان ولا نخوض في
تعليل ذلك مع الخائضين، ولكننا نبحث في دفاعه وتعليله في مناقشة الجمعية العمومية
في جلسة 6 ذي الحجة سنة 1319 ونختصر ما نورده من المناقشات غالبًا ونحذف
الألقاب الرسمية فنقول:
عندما عرض اقتراح الشمسي بيَّن الناظر للجمعية كيفية وضع قوانين التعليم
(البروجرامات) وهو أن نظار المدارس ومفتشيها يقدمون في آخر كل سنة مكتبية
تقارير بما يرونه في نظام التعليم فتبحث فيه اللجنة العلمية المؤلفة من كبارهم، وتقدم
ما تقر عليه منه إلى مجلس المعارف الأعلى فيبحث فيه ويقدم ما يراه منه إلى
مجلس النظار (قال) : (والذي يتقرر يصدر الأمر بإجرائه) .
فقال مفتي الديار المصرية: الذي يلاحظه الناس هو أن القوانين تعرض
بمقتضى العادة على مجلس النظار ثم ترسل إلى مجلس شورى القوانين، ومن ذلك ما
يكون متعلقًا بوضع مائة قرش غرامة ونحوه. فالقوانين المتعلقة بالأصول العامة
للتربية والتعليم أولى بهذا، وهي لا تخص نظارة المعارف وحدها بل القطر كله،
فيصح للجمعية العمومية أن تطلب ضمانًا زائدًا بالنسبة إلى حالة الأشخاص، فإن
الكثيرين يعتقدون أن تلامذة السنة الثانية في المداس الابتدائية يعلمون بعض العلوم
باللغات الأجنبية فلا يفهمونها طبعًا. ثم إن طرق التهذيب وتربية النفوس هي التي
عليها مدار مستقبل الناشئين ومعرفتهم ما يجب عليهم لمصلحة أنفسهم فمن الضروري
الاعتناء بأمثال هذه المسائل، فلو درس قانون التعليم بمجلس النظار وتحول إلى
مجلس الشورى لكان ذلك أكثر ضمانًا، فإن المشتغل بعمل يحكم ذلك العمل عليه
فيضيع منه كثير من الأشياء المتعلقة بالحالة العمومية.
(الناظر) : (البروجرامات) جار نشرها قبل دخول السنة المكتبية، وما
يفهمه البعض من أن السنة الثانية تدرس باللغة الأجنبية فهو خطأ؛ لأن التلميذ يبتدئ
في هذه السنة في تعلم مبادي اللغة الأجنبية فقط، ولم يكن المعلمون وحدهم منفردين
في إبداء رأيهم في سير التعليم بل المشتغل بذلك هم ونظار المدارس والمفتشون
الذين هم من خيار الناس، فعندنا تقارير نظار المدارس وتقارير المفتشين وتقارير
اللجنة العلمية وقرار مجلس المعارف وقرار مجلس النظار فهذه خمس ضمانات) .
أوردنا جواب ناظر المعارف بلفظه كما نشر على ما فيه من ضعف العبارة
لتظهر مغالطته بأتم إيضاح، وهي من وجهين:
أحدهما قوله: إن التلميذ يبتدئ في السنة الثانية بتعلم اللغة الأجنبية؛ أي:
العلوم فلا يتعلم بها شيئًا من العلوم والصواب أنه يبتدئ بتعلمها في السنة الأولى كما
ترى في الصفحة 10 من قانون التعليم الابتدائي الصادر بإمضاء الناظر نفسه في
جمادى الثاني سنة 1319 أي قبل هذه المناقشة بنحو نصف سنة، وكون التلميذ يتعلم
في السنة الأولى وكذا الثانية لغة أجنبية خطأ ظاهر، وإننا لنعرف كثيرين من المعلمين
ونظار المدارس يتبرمون منه ولكنهم يعتقدون أنه أمر مبرم هبط من سماء القوة على
أرض الضعف والاستكانة، ولو علموا أن إبداء رأيهم يصل مجلس الشورى فيطالب
به باسم الأمة لأبدوه آمنين من مغبته؛ لأن كل ما يتوقعونه حينئذ من المؤاخذة على
نكث شيء من فتل ذلك الأمر المبرم يكون معلومًا للناس إذا وقع بعد إطلاع
مجلس الشورى ومجلس النظار وسائر الناس على اقتراح المقترح.
ثم إن تعليم التاريخ الطبيعي (الأحياء) وتقويم البلدان يكون باللغة
الإنكليزية في السنة الثالثة الابتدائية والفرق بينها وبين السنة الثانية ليس كبيرًا
وإنهم ليعلمون أنه لا يمكن أن يحصل التلميذ من اللغة الأجنبية في سنتين ما يتمكن
به من فهم العلوم الطبيعية فيها، ولذلك يعيدون عليه في السنة الثالثة من دروس
تقويم البلدان بالإنكليزية ما كان تعلمه بالعربية، فإن كان الغرض العلم فلا معنى لهذا
الرجوع القهقرى، وإن كان المراد اللغة العربية فالأوقات المخصصة لها ليست
بقليلة كما سنبينه في نبذة أخرى.
والوجه الثاني: (الضمانات الخمس) وهي لا تصلح دفعًا لقول المفتي؛ لأنه
قال: إن عرض نظام التعليم على مجلس الشورى أكثر ضمانًا أي: إن الخمس تكون
به ستًّا فإذا كان الناظر واثقًا من إتقان نظام نظارته ويود أن تزداد إتقانًا وارتقاءً
فماذا يضره لو عرض ذلك على كل من له رأي من الناس وعلم رأيه؟ ثم هو يعلم
أن الحكومة أنشأت مجلس الشورى والجمعية العمومية لتعلم الأمة كيف تحكم
ولتجعل لها رأيًا في قوانينها ونظاماتها لتكون أمة حية كأمم أوربا، حتى إذا ما
استعدت لذلك يكون كل شيء برأي مجلسها النائب عنها، فلماذا يبخل عليها ناظر
المعارف بالبحث في قوانين نظارته ونظام التعليم في مدارسها بواسطة أعضاء
مجلس الشورى الذين هم من خيارها كما أن نظار المدارس ومفتشيها من الخيار كما
قال وزيادة الخُيَّار خير.
ولا يخفى عليه أن الأمة تثق بمجلس الشورى أكثر من ثقتها بأي مجلس من
مجالس الحكومة؛ لأنها تعتقد أن أعضاءه لا سلطان عليهم للسياسة؛ لأن الحكومة
وضعتهم للانتقاد على قوانينها، ولأنهم لا يتوقعون ضرًّا من مخالفة رغائبها.
أما (الضمانات الخمس) فهي في المعنى شيء واحد، وإن شئت قلت: لا
شيء؛ لأن العامل الذي تطلب الأمة الضمان على إتقان عمله هو نظارة المعارف،
فلا يصح أن تكون هي الضامنة لنفسها بأن عملها برأي الموظفين فيها. وذلك
التعدد في الضمانات لا تأثير له؛ لأن آراء المعلمين والناظرين والمفتشين يدغم
بعضها في بعض، ولا يعرض على مجلس النظار إلا ما يراه مجلس المعارف الأعلى
وحده فمجلس النظار لا يبحث في آراء أصحاب (الضمانات) الثلاث
ولا يعرفها. ذلك أن المعلمين يبدون آراءهم لنظار مدارسهم فيختار منها هؤلاء ما
يرضونه أو ما يرضون به، ويقدمونه للجنة العلمية فتمحو منه ما تشاء وتثبت ما
تشاء وترفعه إلى اللجنة العليا فتنسخ منه ما تشاء، وتقدم الباقي إلى مجلس النظار
فيصدق عليه. وإنما يتحقق الضمان من معلمي المدارس ونظارها ومنشئيها إذا
أعطوا حرية بأن يقولوا ما يرونه وكان يعمل بما يقولون أو يبين المانع من العمل
به وأعطوا مع ذلك ضمانًا بأن من رأت اللجنة العلمية أو العالية خطأ رأيه فإنه لا
يؤاخذ سرًّا ولا جهرًا.
ثم إن المفتي احتج على كون تلك (الضمانات) غير كافية بأمرين، أحدهما:
استمرار التغيير في قانون التعليم (البروجرام) حتى في المسائل الكلية. قال:
وهذا يدل على أن معلومات واضعي التقارير غير كافية. وأجاب الناظر عنه بأن
التغيير يدل على دقة البحث. وظاهر أن هذا الجواب غير سديد؛ لأن دقة البحث إذا
سلمت وكان من المسلم أيضًا أن التغيير مستمر حتى المسائل الكلية فذلك دليل على
أن هذه الدقة لم تأت بالفائدة المطلوبة، وما ذلك إلا لأنها غير مبنية على علم
كاف فهي تحتاج إلى الإمداد والمساعدة، وللحكومة مجلس أنشئ للبحث في القوانين
خاصة فيجب أن يكون هو المساعد والممد لنظارة المعارف في تنقيح قوانينها.
والأمر الثاني الذي احتج به المفتي: هو أن لكمال ثقة الناس بسير التعليم أكبر
شأن وأهمه، وإن ذلك يكون باطلاع مجلس النظار ومجلس الشورى على قوانينه،
وأجاب الناظر بإعادة ذكر (الضمانات الخمس) وزاد ضامنًا آخر سماه (الضمانة)
الكبرى وهو طبع تلك القوانين ونشرها. قال: وقلما نرى واحدًا من الناس يقرؤها
فيعرف سير التعليم. وظاهر أن هذا الجواب في غير موضوع الدعوى؛ لأن
الدعوى هي أن ثقة الأمة بالتعليم مطلوبة، وأنها تكون بكذا بدليل طلب نوابها له.
فكان ينبغي أن يكون الجواب إما بالتسليم وإما بمنع الحاجة إلى ثقة الأمة بالتعليم، أو
بمنع أن ثقتها تكون بعرض قوانين التعليم على مجلس النظار ومجلس الشورى، فأما
المنع الأول فيستحيل أن يصدر من ناظر المعارف، وأما الثاني فالفصل فيه للجمعية
العمومية، وقد وافقت أخيرًا عند أخذ الآراء على وجوب عرض قوانين التعليم
ومنشورات المعارف على مجلس الشورى فثبت رأي مفتي الديار المصرية، وأما
الجواب عن (الضمانة) الكبرى، فهو أن عدم رؤية الناظر لقراء قوانين التعليم لا
يدل على عدم القارئين لها فإذا قال: كان يجب أن ينتقدوها إن لم يرتضوها. نقول:
إن العامل لا يتوجه إلى عمل إلا إذا رجا فائدته، ولا يطوف في ذهن أحد أن
انتقاده قانون التعليم يكون سببًا لرجوع نظارة المعارف عن خطئها فيه. وإذا كان قد
ظهر أن ناظر المعارف يدافع الجمعية العمومية الناطقة باسم الأمة المصرية،
ويمنعها بالمغالطات عن طلب النظر في قوانين التعليم، فهل كان ينتظر أن يلتفت إلى
قول واحد من الناس أو اثنين أو أكثر إذا هم انتقدوا على قوانينه؟ على أن الجرائد
كثيرًا ما تنتقد المعارف في سير التعليم وسائر نظامها فيه ولم يغن ذلك شيئًا.
ثم تكلم بعد المفتي الشيخ علي يوسف فذكر بعض ما ينتقد على نظام التعليم
وقوانينه مما يصح أن يذكر في مجلس رسمي، وسنذكر ذلك الجزء الثاني مع جواب
الناظر وبيان الصواب، ونزيد من الانتقاد على تلك القوانين ما شاء الله أن نزيد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/110)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
آثار علمية أدبية
(إلى الأغنياء)
قال الأديب الشهير حافظ أفندي إبراهيم في حريق ميت غمر الذي يذكر
في باب الأخبار:
سائلوا الليل عنهم والنهارا ... كيف باتت نساؤهم والعذارى
كيف أمسى رضيعهم فقد الأ ... م وكيف اصطلى مع القوم نارا
كيف طاح العجوز تحت جدار ... يتداعى وأسقف تتجارى
رب إن القضاء أنحى عليهم ... فاكشف الكرب واحجب الأقدارا
ومر النار أن تكف أذاها ... ومر الغيث أن يسيل انهمارا
أين طوفان صاحب الفلك يروي ... هذه النار فهي تشكو الأوارا
أشعلت فحمت الدياجي فباتت ... تملأ الأرض والسماء شرارا
غشيتهم والنحس يجري يمينًا ... ورمتهم والبؤس يجري يسارا
فأغارت وأوجه القوم بيض ... ثم غارت وقد كستهن قارا
أكلت دورهم فلما استقلت ... لم تغادر صغارهم والكبارا
أخرجتهم من الديار عراة ... حذر الموت يطلبون الفرارا
يلبسون الظلام حتى إذا ما ... أشرق الصبح يلبسون النهارا
حلة لا تقيهم البرد والحـ ... ـر ولا عنهم ترد الغبارا
أيها الرافلون في حلل الوشـ ... ـي يجرون للذيول افتخارا
إن تحت العراء قومًا جياعًا ... يتوارون ذلة وانكسارا
أيُّهذا السجين لا يمنع السجـ ... ـن كريمًا من أن يقيل العثارا
مر بألف لهم وإن شئت زدها ... وأجرهم كما أجرت النصارى
قد شهدنا بالأمس في مصر عرسًا ... ملأ العين والفؤاد انبهارا
سال فيه النضار حتى حسبنا ... أن ذاك الفناء يجري نضارا
بات فيه المنعمون بليل ... أخجل الصبح حسنه فتوارى
يكتسون السرور طورًا وطورًا ... في يد الكأس يخلعون الوقارا
وسمعنا في (ميت غمر) صياحًا ... ملأ البر ضجة والبحارا
جل من قسم الحظوظ فهذا ... يتغنى وذاك يبكي الديارا
رب ليل في الدهر قد ضم نحسًا ... وسعودًا وعسرة ويسارا
__________(5/114)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(كتاب الفوز الأصغر)
هو للفيلسوف الإسلامي الشيخ أحمد بن مسكويه الرازي صاحب كتاب
(تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) المتوفى سنة 421 وضعه لتحقيق البحث
النظري في ثلاث مسائل: (1) إثبات الصانع و (2) النفس وأحوالها و (3)
النبوات وقد نزع فيه منازع دقيقة في الوفاق بين الفلسفة والدين، وجعل لكل مسألة
عشرة فصول، فمن فصول المسألة الأولى فصل في بيان أن وجود الأشياء
كلها إنما هي بالله عز وجل، وفصل في أن الله تعالى أبدع الأشياء من لا شيء ومعلوم
أن الفلاسفة يقولون: يستحيل إيجاد شيء من لا شيء. وفي فصول المسألة الثانية
إثبات النفس وكونها ليست جسمًا ولا عرضًا، وإثبات أنها جوهر حي باق وأنها
ليست الحياة بعينها بل إنها تُعْطى الحياة، وبيان ماهية النفس والحياة، وبيان كمال النفس والكلام في السعادة وفي حال النفس بعد البدن.
وفي فصول المسألة الثالثة بيان مراتب الموجودات واتصال بعضها ببعض
وبيان أن الإنسان عالم صغير وقُواه متصلة ذلك الاتصال والكلام في كيفية الوحي وفي
العقل وكونه ملكًا مطاعًا، وفي المنام الصادق، وفي الفرق بين النبوة والكهانة وفي
النبي المرسل وغيره وفي أصناف الوحي، وفرق بين النبي والمتنبئ. وقد طبع
الكتاب طبعًا جميلاً في بيروت ويباع في مكتبة أمين أفندي هندية بمصر، فنحث
جميع المشتغلين بالعلم على مطالعته.
* * *
(كتاب تفصيل النشأتين. وتحصيل السعادتين)
هو للإمام أبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني
المتوفى في رأس المائة الخامسة. ومباحث الكتاب فلسفية أخلاقية إسلامية، وقد قرن
جميع مسائله بالآيات القرآنية فجعلها شواهد وأدلة، وبعضها لا يصلح لما وضعه
له، ولكن له منازع دقيقة فيها. وأبواب الكتاب على اختصار 33 وهي في معرفة
الإنسان نفسه، وفى أجناس الموجودات ومواضع الإنسان منها، وفي العناصر التي
أوجد منها الإنسان والقوى التي جمعت فيه، وفي تدرج الإنسان حتى يصير كاملاً،
وفي كونه مستصلحًا للدارين، وفي كونه هو المقصود من العالم وكون ماعداه خلق
لأجله، وفي تفاوت الناس وسببه، وفي الشجرة النبوية وفضلها، وفي الشرع والعقل
والعبادة وغير ذلك، وهو كالذي قبله جدير بالمطالعة وطبع حيث طبع ويباع حيث
يباع.
* * *
(إقامة البراهين العظام على نفي التعصب الديني في الإسلام)
رسالة من تأليف الشيخ محمد بن مصطفى بن الخوجة الجزائري بوجوب
الخضوع لفرنسا وعدم الخروج عليها، وقد جاء فيها بمسائل نافعة تثبت أن دين
الإسلام يأمر بمعاملة المخالفين في الدين بالعدل، ويحرم إيذاءهم والاعتداء عليهم
وأنه شرع فيه ما يقتضي التآلف مع أهل الكتاب كحل مؤاكلتهم وتزوج المسلم منهم،
وغير ذلك من الفوائد المسلمة. وفي الرسالة ما يُنتقد. فمنه أنه أخطأ في بعض ما
أسنده إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية عند الاحتجاج بكلامه
واصفًا إياه بكونه (خاتمة الأئمة وعلامة الآفاق على الإطلاق) فقد قال عن الأستاذ
الإمام إنه قال في دروس التفسير بالأزهر: إن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) خاص بالواقعة التي كانت متوقعة
للمسلمين في رواحهم إلى مكة إلخ.
والأستاذ الإمام لم يقل بهذا التخصيص، وإنما قال: إن معنى {حَتَّى لاَ تَكُونَ
فِتْنَة} (البقرة: 193) : هو أن يؤمن شر المعتدين ويأمن الدعاة إلى الدين على
أنفسهم وعلى من يجيبهم إلى ما دعوا إليه. ومعنى {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه} (البقرة:
193) : أن يكون دين كل شخص خالصًا لربه لا تدخله محاباة ولامداجاة ولا يهدده
مهدد، ولا ينقضه خوف من معتد. فلا يكون لغير خشية الله أثر في نفوس
المؤمنين. وانظر بم يكون هذا؟
ومما ينتقد عليه أشد الانتقاد قوله في نصيحته للمسلمين بعد إطراء فرنسا
وذمهم ووصف سوء حالهم: (فلا ينبغي لهم الاهتمام إلا بشئونهم المعاشية) إلخ كأنه
يريد أن يجعلهم بهائم. وهل يرى ذلك الأستاذ أن فرنسا التي وصف عدلها وحريتها
وفضلها ومدنيتها لا ترضى من المسلمين في الخضوع لها إلا أن يكونوا كالأنعام. لا
يهتمون إلا بالأكل والشرب والمنام. وهل ينافي خضوعهم لها اشتغالهم بالعلوم
والآداب التي يرتقون بها ارتقاءً معنويًّا ويسامون الإفرنج في الصفات
البشرية؟
إن كان يقول هذا فهو ناقض به كل مدح مدح به فرنسا! فينبغي لهذا الشيخ
المدرس وأمثاله إذا كُلفوا بالكتابة في مثل هذا المقام أن يقتصدوا ويقفوا عند حد
معلوم وكان المجال واسعًا لإقناع المسلمين بعدم الخروج على فرنسا وتعريض أنفسهم
للهلكة من غير عبث بالأحكام، ولا تكليف للمسلمين بأن يكونوا كالأنعام. وبهذا القدر
كفاية وسلام.
* * *
(الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية)
للشيخ عبد الغني النابلسي الفقيه الصوفي الشهير رحلتان أو ثلاث، وهذه منها
وهي أخصرها وقد طبعت في مطبعة جريدة الإخلاص الغراء على نفقتها، ووقف
على طبعها أحد محرري الجريدة ديمتري أفندي نقولا المحترم صاحب مجلة الفكاهة.
أما المؤلف فإنه يذكر في هذه الرحلة كيفية سفره من الشام إلى القدس ونواحيه، وما
رآه وجرى له فيه، وأهمه زيارة قبور الأنبياء والصالحين بحسب تعريف المعرفين
الذين يصحبون الزائرين في تلك البلاد وما في الكتب المؤلفة في تاريخها، وقد ختم
الكتاب ملتزم طبعه بإحصاء ما ذكر في الرحلة من المدن والقرى والأمكنة
ومقامات الأنبياء، والجوامع والمساجد والمدارس والكنائس والأديرة والأنهر
والعيون والآبار وقبور الصحابة والأولياء والصالحين، وذلك أحسن ما في الرحلة
وربما ينقل بعد في باب البدع شيئًا مما في الرحلة. وصفحاتها 84 وهي تطلب
من إدارة جريدة الإخلاص الغراء وثمنها 5 قروش صاغ.
* * *
(الدنيا في باريس)
هي الرسائل التي وصف بها مشاهد معرض باريس الأخير صديقنا الفاضل
الشهير أحمد زكي بك الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، وقد اشتهر أمر هذه
الرسائل وانتشرت في البلاد؛ لأن رصيفنا البارع الدكتور عيد أفندي كان يطبعها
ويوزعها مع مجلة (طبيب العائلة) وقد سبق للمنار تقريظها وبيان بعض فوائدها.
الآن وقد جمعت هذه الرسائل كلها في كتاب واحد مزين بالرسوم صفحاته 372 وثمنها
15 قرشًا وسننقل بعض فوائدها عند سنوح الفرصة إن شاء الله تعالى.
* * *
(قاموس الجغرافية القديمة بالعربي والفرنساوي)
أهدى إلينا صديقنا مؤلف رسائل (الدنيا في باريس) مع هذه الرسائل
نسخة من هذا القاموس المختصر المفيد الذي يعرف الكتاب حاجتهم إليه من اسمه.
قال المؤلف في مقدمته: هذا معجم صغير أوردت فيه كثيرًا من الأعلام الجغرافية
التي لها ذكر في تواريخ الأقدمين من مصريين وآشوريين وروم وعجم وغيرهم
من الأمم جمعته بعد أبحاث شتى ومطالعات عديدة، فكابدت فيه عناء ليس باليسير
يعرفه من أُطِلعَ عليه أو انشغل بشيء من هذا القبيل ثم قال: (وإذا نال هذا الكتاب
الصغير من الإقبال ما هو خليق به لشددت عزيمتي لإبراز المعجم الكبير الوافي الذي
جمعته في هذا الموضوع المفيد) فعسى أن تتحقق الآمال وينال فوق ما يطبله مؤلفه
الفاضل من الإقبال، والكتاب مطبوع في المطبعة الأميرية وثمنه 8 قروش وهو يطلب من مؤلفه ومن إدارة مجلة طبيب العائلة.
* * *
(مجموعة حقوقية طبية هندسية. لجميعة متخرجي المدرسة الخديوية لسنة ... 1901)
إذا وجب أن نذكر ما ينتقد على نظارة المعارف في نظام التعليم وقوانينه
فمن الواجب أيضا أن نذكر ما لها من الحسنات؛ لأن الله تعالى يحب العدل في كل
شيء، ولأن فائدة استحسان الحسن لا تنقص عن فائدة انتقاد المنتقد، فكل واحد من
الأمرين جعله الله سببًا لإتقان الأعمال واختيار النافع منها وتجنب الضار.
ومن حسنات المعارف المصرية الإذن للتلامذة المتخرجين من المدرسة
الخديوية بإنشاء جمعية علمية أدبية في نفس المدرسة يعدون فيها المقالات الضافية في
مسائل العلوم التي يتعلمونها في المدرسة وفي المداس العالية التي ينتقلون منها
إليها ويعرضونها للانتقاد والبحث والتمحيص وقد حضرت اجتماعًا في المدرسة
فسررت سرورًا عظيمًا، ورغبوا إليّ في انتقاد ما تكلموا فيه وهو حقيقة الجنون
وتاريخه وأنواعه فانتقدته علنًا فتلقوا انتقادي بالقبول والشكر كما هو شأن الباحث
المستفيد.
وقد طبعوا في هذه الأيام الجزء الأول من مقالاتهم التي تليت في السنة
الماضية وسموه بما ذكر في صدر الكلام. وتفضل وكيل الجمعية الفاضل النبيل
علي بك ماهر نجل صاحب السعادة ماهر باشا محافظ مصر بتقديم نسخة إلينا بنفسه
فشكرنا له ذلك. وفي المجموعة ست مقالات: (1) في التربية والتاريخ لعلي بك
ماهر بمدرسة الحقوق و (2) في أشعة رنتجن لعبد الرحمن أفندي عمر بمدرسة
الطب و (3) في التكافل والتضامن لمحمد حلمي أفندي عيسى بمدرسة الحقوق.
و (4) في التنويم المغناطيسي واستحضار الأرواح لمحمد أفندي شكري بمدرسة
الطب و (5) في لوازم الحياة الأصلية لمحمد أفندي ماهر بمدرسة الطب. و (6)
شهران بسويسرا لعلي بك ماهر وفي المقالات فوائد كثيرة وعدد صفحات المجموعة
612 فنحث جميع المصرين على اجتناء هذه الثمرة الشهية، التي أنتجتها فروعهم
الذكية.
* * *
(مجلة الأحكام الشرعية)
كثرت الجرائد والمجلات في مصر حتى تناولت كل موضوع يمكن أن تنشأ له
إلا موضوع القضاء الشرعي كأن المحاكم الشرعية وأعمالها ليست من حاجات
العمران التي يجب أن تخدمها الصحافة. وقد انبرى في أول هذا العام للقيام بهذه
الخدمة الجليلة المحامي الشرعي الشهير حسن بك حمادة المتخرج في مدرسة
الحقوق السلطانية في الأستانة العلية فأنشأ هذه المجلة الشهرية، وقد صدر الجزء
الأول منها مفتتحًا بمقدمة بليغة في حالة القضاء الشرعي والمحاكم الشرعية وسيرها
والحاجة إلى الإصلاح فيها على الوجه الذي حرره الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية
في تقريره المشهور.
وقد كادت هذه المقدمة أن تكون تاريخًا للمحاكم الشرعية بصورة مجملة.
ويلي ذلك مقالة في القضاء الشرعي بمصر ماضيه وحاضر وهي تاريخية
مفصلة، ومقالات أخرى في المحاماة والقضاء وفي المجالس الحسبية وتاريخها وفي
المحاكم الشرعية وتنازع الاختصاص. وقد فتح فيها بابًا لنشر تراجم المشهورين
من علماء الشرع، وبدأ بترجمة الإمام أبي حنيفة، وبابًا لأشهر القضايا الشرعية التي
لها فائدة عامة وفي المجلة غير ذلك من الفوائد العلمية والأدبية وقيمة الاشتراك
فيها ستون قرشًا في القطر المصري وعشرون فرنكًا في خارجه فتنتمى لها
النجاح الذي تستحقه.
* * *
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد لسنة 1320 على ما يعهد الناس وفوق ما يعهدون من
الإتفان وكثرة الفوائد العلمية والفلكية والطبية والتاريخية والأدبية وغير ذلك، وقد
جلد في هذه السنة تجليدًا جميلاً مزخرفًا اجتلب له جلد من أوربا منقوشًا عليه اسمه
واسم مؤلفه فنهنئ صديقنا الفاضل محمد أفندي مسعود بما صادف عمله المتقن من
النجاح الذي هو جدير به.
* * *
(النتيجة الوحيدة)
أهدتنا مطبعة الموسوعات نسخة من هذه النتيجة التي تطبع فيها بالدقة والإتقان
فنشكر لها إتقان طبعها، ولمؤلف النتيجة الحاسب المدقق السيد مصطفى
محمد الفلكي المحامي تلك الفوائد التي فيها.
* * *
(التقويم الأزهري)
يسر المسلمين أن يروا جميع الآثار العلمية منسوبة إلى الأزهر الشريف
وصادرة من أهله، وهذا الشاب الفاضل الشيخ محمد محمد عمر الأسطنهاوي
الفلكي قد أنشأ تقويمًا يصدره في كل سنة هجرية وقد أراد الأستاذ الأكبر شيخ
الجامع الأزهر بأن يسميه التقويم الأزهري فعسى أن يقبل عليه الناس ليزيدوا مؤلفه
تنشيطًا على إتقان عمله.
__________(5/115)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحريق في ميت غمر
(ميت غمر)
بلدة في مديرية الدقهلية أصابها في آخر الشهر الماضي حريق دمر الدور،
وقوض القصور، والتهم الأثاث والرياش، ولم يبق على الناس إلا من لجأ إلى الفرار
قبل أن تحيط به النار، فيأخذه لسانها، أو يخنقه دخانها، ويقال: إن عدد البيوت
التي أحرقت بأهلها إلا من أنجاه الله تقارب 500، وإن الخسائر تقدر بمئات الألوف
من الجنيهات. وقد كان الهول عظيمًا، والخطب جسيمًا، وقد كاد يكون حال الذين
نجوا شرًّا من حال الذين فقدوا، فإن عذاب ساعة وإن كان شديدًا دون العذاب
المستمر الذي يتلون ألوانًا كثيرة، وكيف حال من أمسى واجدًا فأصبح معدومًا،
وكان كاسيًا فصار عاريًا، وكان ذا مكان آهل، فعاد ولا مكان ولا أهل. صار
الزوج أيّمًا، والمرأة أرملة، والولد يتيمًا، كما صار الغني فقيرًا والعزيز ذليلاً.
وما من هؤلاء أحد إلا وقد لفحته النار أو لذعته أو أحرقت له عضوًا، وحاصل
القول أن هؤلاء الذين سلموا من هذا الحريق قد صبت عليهم جميع المصائب التي
تفرقت في العالمين فكان كل واحد منها باعثًا للرحمة والشفقة وسببًا للإغاثة والإعانة.
وقد توجهت النفوس لجمع الإعانات لهم ولا شك أن الباخل في هذا الموضوع هو
أبخل الناس بل هو من جنس الجماد، لا من نوع الإنسان ولا من جنس الحيوان.
لا عذر لأحد من خلق الله في البخل على هؤلاء {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَن نَّفْسِهِ} (محمد: 38) فمن وجد في قلبه قساوة وفى نفسه شحًّا مطاعًا وفي يده
انقباضًا وإمساكًا فليمثل في نفسه هذا المصاب واقعًا به وبأهله، والناس معرضين
عنهم لا يجودون عليهم بشيء، ولينظر كيف يكون حكمه عليهم، ثم لينظر هل
يرضى بأن يكون محكومًا عليه عند الله والناس بمثل ما يحكم به عليهم. ليبذل كل
إنسان ما يستطيع، ولولا الاعتماد على التعاون لوجب عليه أن يبذل كل ما يملك
إن كانت وقاية إخوانه متوقفة على ذلك {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: 7) .
__________(5/120)
16 صفر - 1320هـ
24 مايو - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القضاء في الإسلام
النبذة الثالثة في آدابه
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
السكوت عند الغضب
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (لايقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان) [1] وروي عن غير أبي بكرة
أيضا وهذا أدب عظيم لا بد من مراعاته، فإن الغضب يذهب بالرويّة والفطنة
ويحكم الهوى فلا يتيسر معه استيفاء النظر والإحاطة بأسباب الحكم العادل , وقد ذهب
بعض العلماء المسلمين إلى أن الحكم في حال الغضب لا ينفذ لثبوت النهي عنه،
والنهي يقتضي الفساد. وقال الأكثرون: إنه صحيح وإن كان إتيانه مكروها وينفذ
إذا وافق الحق؛ لأن النهي الذي يفيد الفساد عند هؤلاء هو ما كان لذات المنهي عنه
أو لجزئه أو لوصفه اللازم له. وفي القاعدة خلاف لا محل للبحث فيه هنا.
***
المساواة بين الخصمين
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: (قضى رسول الله صلى
الله وعليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم) [2] . وهذا من المساواة التي
جاء بها الإسلام. وقال بعض العلماء: إن هذه الهيئة مشروعة لذاتها لا لمجرد
المساواة.
[3] عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال له: (يا
علي، إذا جلس إليك الخصمان لا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من
الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) .
[4] عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده
ومجلسه، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر) وهذا هو
العدل الأكمل الذي ما بعده غاية. وذكر المسلمين فيه؛ لأن الكلام في دينهم
وشرعهم وحكومتهم وإن كان المتقاضون من غيرهم كذلك؛ إذ لا فرق في حكمهم
العادل بين مسلم وذمي ومعاهد. وما روي عن علي كرم الله وجه أنه جلس بجنب
شريح القاضي في خصومة له مع يهودي أو نصراني وقال لو كان خصمي مسلمًا
جلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: (لا
تساووهم في المجالس) فقد قال المحدثون: إنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل
وقال: لا يصح، تفرد به أبو سمية هذا ما قالوه في رواية أن الخصم كان يهوديًّا.
ورواية البيهقي التي ذكر فيها أن الخصم كان نصرانيًّا في إسناده عمرو بن سمرة
عن جابر الجعفي وهما ضعيفان. وقال ابن الصلاح: لم أجد له إسنادًا، فهو منكر
وباطل ومضطرب، والعلة في سنده ومتنه معًا، وكان مروجه من الجهلاء الذين
يرون تعظيم شأن المسلمين بظلم غيرهم، ولو كانوا كذلك لما قامت لهم دولة.
ومما تجب ملاحظته هنا أن ملوك عصرنا وأمراءه لو فعلوا مثل ذلك ورضي
أحدهم بأن يخضع للقضاء ويتحاكم مع بعض رعيته الموافقين أو المخالفين في الدين
وجلس مع ذلك بجنب القاضي أو على رأسه لوصف بأنه أعدل العادلين، وفضل
على الخلفاء الراشدين، وإنهم ليصفونهم بالعدل وينتحلون لهم ما شاء الهوى من
الفضل، على حين أنهم رفعوا أنفسهم فوق الشريعة الإلهية، بل نسخوا أكثر
أحكامها بقوانينهم الوضعية، فلا يمكن أن يتحاكم سلطان أو أمير مع كبير من
رعيته ولا صغير، فأضاعوا بكبريائهم الدين وإلى الله المصير.
[6] عن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم
فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن لي على هذا أربعة
دراهم، وقد غلبني عليها. فقال: أعطه حقه. قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر
عليها قال: أعطه حقه قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قد أخبرته أنك
تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئًا فأرجع فأقضيه قال: أعطه حقه.
قال (الراوي) : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثًا لا يراجع فخرج به
ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة فنزع العمامة عن
رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال: اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربعة
الدراهم فمرت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فأخبرها فقالت: ها دونك هذا - لبرد عليها طرحته عليه. وقد أوردت هذا في أدب
المساواة وإن كان من باب آخر لمناسبة له. وانظر إلى شدة الإسلام في أداء
الحقوق، وإلى قساوة اليهود في أخذ دينهم فقد ترك اليهودي صاحب النبي صلى الله
عليه وسلم عريانًا لا ساتر لعورته إلا عمامته لأجل أربعة دراهم لم ينظره بها.
*** ...
الاحتجاب عن المتظلمين
[7] عن عمرو بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(ما من إمام أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة إلا أغلق الله دونه أبواب
السماء دون خلته وحاجته وسكنته) استدلوا بالحديث على منع الحاكم من اتخاذ
حاجب لبابه لمجلس حكمه. والحديث ناطق بأن المراد منع المظلومين من
التقاضي والشكوى اشتغالاً عنهم بشئون النفس أو حبًّا بالراحة أو ترفعًا عن الناس
ونحو ذلك ولا يدخل في النهي الحُجّاب الذين يقفون على أبواب المحاكم لحفظ
النظام ومنع الفوضى والخلل وهو الذي قال بعض علمائنا بجوازه وبعضهم
باستحبابه. وإنما يدخل فيه حجاب الأمراء والسلاطين الذين يذودون
الناس عن مجالسهم؛ لأنهم لا يقابلون إلا أشخاص معلومين لهم صفة رسمية عندهم
ويجهلون سائر أصناف رعيتهم بدون عذر. ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال:
الذي أحدثه القضاة من شدة الاحتجاب وإدخال بطائق من الخصوم لم يكن من فعل
السلف. ثم قال متعقبًا له: إن كان مراده البطائق التي فيها الإخبار بما جرى
فصحيح، وإن كان مراده البطائق التي يكتب فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة
من سبق فهو من العدل في الحكم. وقال الشوكاني: لو لم يحتجب الحاكم لدخل
عليه الخصوم وقت طعامه وشرابه وخلوته بأهله وصلاته الواجبة وجميع أوقات ليله
ونهاره. وهذا ظاهر لا نزاع فيه.
***
منع الرشوة:
[8] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي) ، والرشوة هي السحت في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42) .
[9] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم) وفي هذا زيادة بيان.
[10] عن ثوبان رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الراشي والمرتشي والرائش، يعني الذي يمشي بينهما وفي هذا زيادة فائدة، ولا
حاجة لبيان مفسدة الرشوة وتدميرها للممالك وثلها لعروش الأمراء والسلاطين فإن
هذا يكاد يكون معلومًا للناس أجمعين.
*** ...
منع الحاكم من الهدية:
[11] عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله وعليه وسلم رجلاً
من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال:هذا لكم وهذا أهدي إليّ
فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (قال سفيان أيضًا) فصعد المنبر فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لكم وهذا لي فهلا
جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا. والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا
جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تَيْعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه (ألا هل بلغت) ثلاثًا. وتيعر الشاة
بمعنى تصيح.
[12] عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (هدايا العمال غلول) وفي رواية: (هدايا الأمراء) . الغلول في الأصل:
خيانة في الغنيمة وهي المال الذي كان يأتي إلى أيدي العمال والأمراء في الأكثر
وورد في الكتاب العزيز التشديد فيه والهدية للحاكم مثله أو منه بحكم السنة. قال
الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف. ولكن له شواهد وطرقًا متعددة تقويه. والهدية
مستحبة لغير علة الحكم وما بمعناه.
[13] عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من
استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذه بعد فهو غلول) .
[14] عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الأمير
الهدية سحت وقبول القاضي الرشوة كفر) وإنني لأتنسم من تشديده الوضع.
***
آثار السلف عبرة للخلف
عدل عمر وسياسته
(2) روى سعيد بن منصور في سننه، وأبو بكر بن شيبة في مسنده
والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اشتريت إبلاً وارتجعتها إلى الحِمى
فلما سمنت قدمت، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سمانًا فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل
لعبد الله بن عمر فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر! بخ بخ ابن أمير المؤمنين! !
فجئت أسعى فقلت ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قلت: إبل
اشتريتها وبعثت بها الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون. فقال: ارعو إبل ابن أمير
المؤمنين. اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين. يا عبد الله بن عمر اغد على رأس مالك
واجعل الفضل في بيت مال المسلمين. اهـ قوله: (ارعو إبل ابن أمير المؤمنين)
إلخ حكاية قول الناس.
فماذا يقول أمراؤنا الذين يستعبدون رعاياهم ما استطاعوا، ويمتصون دماءهم
إن استطاعوا، ويسخّرونهم في خدمة أرضهم ومواشيهم. ما لم يأخذ الأجنبي
الذي يسمونه كافرًا على أيديهم، فما هذا الزمان الذي يعلمنا فيه (الكفار) العدل بل
يلزموننا به إلزامًا حتى يطمئن الرعية على أموالهم ويأمنوا على أنفسهم من أمرائهم
وأئمتهم الذين انتحلو لأنفسهم إمامة الدين.
***
(3) روى ابن سعد في الطبقات وابن راهويه عن عطاء قال: كان عمر
بن الخطاب يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم فإذا اجتمعوا قال: يا أيها الناس إني لم
أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من أعراضكم إنما
بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم. فما قام
أحد إلا رجل قام فقال: أمير المؤمنين إن عاملك فلانًا ضربني مائة سوط. قال
فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن
فعلت هذا يكثر عليك وتكون سُنة يأخذ بها من بعدك. قال أنا لا أقيد وقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِيد من نفسه [15] قال: فدعنا لنرضيه. قال:
دونكم فأرضوه. فافتدي منها بمائتي دينار عن كل سوط بدينارين.
فماذا يقول الناس هنا في أمرائهم الذين كانوا يضربون السياط بغير حساب
لتحصيل الأموال الأميرية، ويضربونهم بغير حساب لتحصيل الضرائب والمكوس
الظالمة، ويضربونهم بغير حساب لتحصيل ديون الخراجات، ويضربونهم بغير
حساب لتسخيرهم في الأعمال العامة والخاصة. ومع هذا كله يمنون على البلاد
أنهم أنقذوها من ظلم الظالمين السابقين؛ أي: إنهم حصروه في أنفسهم واحتكروه لها
ولا فرق عند المظلوم بين أن يسمى ظالمه مالكًا أو مملوكًا. وإنه ليفرح بإنقاذه سواء
سمي منقذه مسلمًا أم سمي كافرًا. فالحقائق لا تتبدل بتبديل الأسماء والألقاب
وبالعدل قامت ممالك الإسلام، وبالظلم سقطت ممالك المسلمين {عَسَى رَبُّكُمْ أَن
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 8) .
***
(4) روى ابن عساكر من مسند عمر عن الأحنف بن قيس قال: ما كذبت
إلا مرّة قالوا: وكيف يا أبا بحر قال وفدنا على عمر بفتح عظيم فلما دنونا من المدينة
قال بعضنا: لو ألقينا ثياب سفرنا ولبسنا ثياب صوننا فدخلنا على أمير المؤمنين
والمسلمين في هيئة حسنة وشارة حسنة كان أمثل. فلبثنا ثياب صوننا وألقينا ثياب
سفرنا حتى إذا طلع في أوائل المدينة لقينا رجل فقال: انظروا إلى هؤلاء أصحاب
دين ورب الكعبة. فقال: فكنت رجلاً ينفعني رأيي فعلمت أن ذلك ليس بموافق القوم
فعدلت فلبستها، (وفي نسخة: فلبثت ثياب سفري) وأدخلت ثياب صوني العيبة
وأشرجتها [16] وأغفلت طرف الرداء ثم ركبت ولحقت بأصحابي، فلما دفعنا إلى عمر
نَبَت عيناه عنهم ووقعت عيناه عليَّ فأشار إليّ بيده فقال: أين نزلتم؟ قلت في مكان
كذا وكذا فقال أرني يدك فقام معنا إلى مناخ ركبنا فجعل يتخللها ببصره، ثم قال:
ألا اتقيتم الله في ركابكم هذه؟ أما علمتم أن لها عليكم حقًّا؟ ألا تقصدتم بها في
المسير؟ (وفي راوية: قصدتم. وهما بمعنى التوسط) ألا حللتم عنها فأكلت من نبت
الأرض؟ فقلنا يا أمير المؤمنين إنا قدمنا بفتح عظيم فأحببنا أن نسرع إلى أمير
المؤمنين وإلى المسلمين بالذي يسرهم فحانت منه التفاتة فرأى عيبتي فقال: لمن
هذه العيبة؟ قلت لي يا أمير المؤمنين. قال: فما هذا الثوب؟ قلت ردائي. قال: بكم
ابتعته، فألقيت ثلثي ثمنه فقال: إن رداءك هذا لحسن لولا كثرة ثمنه! ثم انطلق
راجعًا ونحن معه فلقيه رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معي فأعذني على فلان
فإنه قد ظلمني. فرفع الدرة فخفق بها رأسه [17] وقال: تدعون أمير المؤمنين وهو
معرض لكم حتى إذا أشغل في أمر من أمر المسلمين أتيتموه: أعذني أعذني.
فانصرف الرجل وهو يتذمر فقال: علي الرجل. فألقى المخفقة فقال: امتثل. فقال:
لا والله، ولكن أدعها لله ولك. قال: ليس هكذا. إما تدعها لله إرادة ما عنده،
أو تدعها لي فأعلم ذلك. قال: أدعها لله. قال: فانصرف ثم مضى حتى دخل منزله
ونحن معه، ففتح الصلاة فصلى ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعًا
فرفعك الله وكنت ضالاًّ فهداك الله وكنت ذليلاً فأعزك الله ثم حملك على رقاب
المسلمين فجاءك رجل يستعديك فضربته. ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ قال فجعل
يعاتب نفسه في ذلك معاتبة ظننا أنه خير أهل الأرض.
فأين أمراؤنا اليوم؟ وما مبلغ معرفتهم بالله وخوفهم منهم وتعظيمهم له. أعرف
أن بعض من يتراءى بالدين ويفتخر بأنه يصلي قال له قائل مرة: ورد في الحديث
(الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) ومولاي من أئمتهم فأنا عملاً
بالحديث أقدم له هذه النصيحة في شأن كذا. فغضب عليه غضبًا شديدًا؛ لأنه وجه
إليه النصيحة ومثله أعلى في اعتقاده من أن ينصح، وإن كان الحديث ناطقًا بأن
النصيحة لله ولرسوله. ومثل هذه من أمرهم لا يحصى.
***
(5) روى الدينوري في (المجالسة) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قدم
بريد ملك الروم على عمر بن الخطاب، فاستقرضت امرأة عمر بن الخطاب دينارًا
فاشترت به عطرًا فجعلته في قوارير، وبعثت به مع البريد إلى امرأة ملك الروم فلما
أتاها فرغتهن وملأتهن جواهر وقالت اذهب إلى امرأة عمر بن الخطاب فلما أتاها
فرغتهن على البساط فدخل عمر فقال: ما هذا؟ فأخبرته بالخبر، فأخذ عمر الجواهر
فباعها ودفع إلى امرأته دينارًا وجعل ما بقي من ذلك في بيت مال المسلمين. اهـ
وفي الأثر من الفقه: أن الهدية وإن كانت مكافأة على هدية أخرى فهي لأجل أن
امرأة عمر امرأة أمير المؤمنين لا لذاتها فيجب أن يكون ما أخذ بجاه أمير المؤمنين
للمؤمنين، ولكن الملوك والأمراء على المؤمنين في هذه العصور قد ملأوا قصورهم
جواهر من بيت مال المؤمنين، وهم يهدون منها ويهبون بلا معارض ولا منازع.
وفيه أيضًا الموادة والتحاب بالهدايا بين المسلمين وغيرهم وإن كانوا حربيين
ولكن في غير وقت الحرب وغير ما يتعلق بالحرب كالإعانة عليها فإن عمر لم ينكر
على امرأته إهداء العطر إلى ملكة الروم وهو يدل أن النساء أسرع إلى الائتلاف
والموادة بعضهن مع بعض من الرجال وهو مشاهد معروف.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة.
(2) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم، وقد طعن بمصعب بن ثابت من رجاله بأنه كان يغالط كثيرًا على صدقه، ولا يضرنا هذا في هذا الحديث.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه وله طرق أخرى.
(4) رواه الدارقطني والطبراني والبيهقي وفي إسناده عبادة بن كثير وقد ضعف ولكن الحديث صحيح المتن.
(5) رواه الإمام أحمد.
(6) استعداه عليه أي استغاثه واستنصره.
(7) رواه أحمد والترمذي والحاكم والبزار وتقدم غيره في الكلام على الأمراء في المجلد الرابع.
(8) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا النسائي، وابن حبان والطبراني والدارقطني.
(9) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه.
(10) رواه أحمد.
(11) رواه البخاري بل هو متفق عليه.
(12) رواه أحمد والبيقي وابن عدي وكذا أبو سعيد النقاش زاد في كنز العمال بعد ذكر أبي حميد الساعدي في الأولى (عن عرباض) وفي الثانية (وعن أبي سعيد عن أبي هريرة) وابن جرير وابن عساكر وغيرهم.
(13) أخرجه أبو داود.
(14) رواه أحمد في الزهد عن علي.
(15) القَوَدُ: القصاص. وأقاد الأمير القاتل بالقتيل إذا قتله به. المراد هنا: التمكين من القصاص.
(16) العيبة وعاء توضع فيه الثياب وأشرجها: ضمها.
(17) خفقه: ضربه ضربًا خفيفًا بشيء عريض كالمِخفقة، وهي الدرة أو خشبة عريضة.(5/125)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
نزول المسيح
(س1) من أحمد أفندي عبد الحليم بشبين الكوم: هل يوجد دليل شرعي على
أن المسيح سينزل ويحكم؟ وهل يكون بنزوله نبيًّا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم
هو خاتم النبيين كما هو معلوم في الشرع، ولماذا حينئذ ينزل المسيح؟ وهل
يكون قبل نزوله فترة؟
(ج) ليس في الكتاب والسنة نص قطعي الثبوت والدلالة على نزول
المسيح توجب على المسلمين الاعتقاد بذلك، وإنما ورد في نزوله أحاديث اشتهرت
لغرابة موضوعها وتخريج الشيخين لها وأكثرها عن أبي هريرة. وهذه المسألة من
المسائل الاعتقادية التي يطلب فيها النص القطعي المتواتر. وقد استدل بعضهم
عليها بآيتين من القرآن ليستا نصًّا فيها بل ربما كان الظاهر منهما خلاف ما حملتا
عليه عند من ذكر، (إحداهما) قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) جاءت الآية في سياق الكلام على المسيح ومزاعم
أهل الكتاب فيه ومعناها الظاهر أنه لا أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بالمسيح
الإيمان الصحيح قبل أن يموت أي: قبل خروج روحه؛ لأنه وقت تشرف فيه النفس
على العالم الآخر فيظهر لها الحق، ولكن إذا جاء هذا الوقت {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ
تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (الأنعام: 158) فالضمير في
(موته) للمنفي في قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَاب} (النساء: 159) الذي معناه لا
أحد من أهل الكتاب. وعليه الأكثرون. وذهب المستدل بالآية على نزول المسيح إلى
أن الضمير للمسيح، وأنهم يؤمنون به قبل أن يموت عندما ينزل ويقيم دين الإسلام
ويحكم به، ولكن النفي العام في الآية لا يصح على هذا الوجه؛ لأنه لا يشمل أهل
الكتاب الذين يموتون قبل النزول ولا يؤمنون به كاليهود في عصر التنزيل وما بعده
إلى عصر النزول المدعى. على أن القرآن مصرح بأن المسيح قد توفي قبل رفعه
كما هو المتبادر من قوله عز وجل: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} (آل عمران: 55) ولا يصار إلى التأويل ما لم يقم على خلاف الظاهر الدليل،
هذا ما يقال في الآية بذاتها فهي من حيث إنها متواترة ليست نصًّا ولا ظاهرًا في
المطلوب وإن وردت شاهدًا في بعض الروايات المرفوعة، وللرواية حكمها ومن
ثبتت عنده وجب عليه الإيمان بها.
والآية الثانية قوله تعالى بعد ذكر عيسى عليه السلام ومقارنة المشركين
بينه وبين آلهتهم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 61) فذهب بعضهم إلى أن الضمير (إنه) لعيسى، واختلفوا في وجه
كونه علمًا للساعة فقيل: إنه حدوثه، وقيل: إحياؤه الموتى وقيل: نزوله في
آخر الزمان، والآية لا تدل على هذا وإنما هو احتمال، وإنما ذهب بعضهم إلى
أن الكلام في القرآن؛ لأن فيه الإعلام بالساعة والاستدلال عليها بالأدلة التي
تقرب الاعتقاد بها من العقول، وهذا مما امتاز به على سائر الكتب السماوية
التي سكتت عن ذلك أو أشارت إليه من طرف خفي، ولا غرو، فنبي القرآن هو
نبي الساعة، وقد عرفنا من أسلوب القرآن الانتقال من محاجة الزائغين في عقائدهم
وتقاليدهم إلى الدعوة إلى القرآن واتباع من جاء به، وتتمة الآية تؤيد هذا القول
الأخير، فظهر أن لا دليل في القرآن على نزول المسيح، وأما الأخبار فقد ورد فيها
ذلك فتلقاه الناس بالقبول لا سيما بعد اشتهار كتابي الشيخين ولكنهم لم
يذكروه في العقائد الإسلامية؛ لأنه ليس قطعيًّا.
ومما يستحق الذكر أن القول بظهور المسيح في آخر الزمن قد اتفق فيه
المسلمون مع اليهود والنصارى في الجملة، ولكنهم اختلفوا في التفصيل، فاليهود
ينتظرون مسيحًا جديدًا يجدد ملك إسرائيل ولذلك يسعون لتحقيق هذه الأمنية سعيًا
ماديًّا يناسب الملك. والنصارى ينتظرون مجيء المسيح في ملكوته وصليبه ليدين
العالمين ويحاسبهم على نحو ما يعتقد المسلمون في الآخرة. والمسلمون يعتقدون أن
المسيح ينزل في آخر الزمان فيكسر الصيلب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقيم
الشريعة الإسلامية ويصلي مأمومًا وراء أحد أئمة المسلمين ليظهر أن الدين عند الله
الإسلام.
وقد بنت فرقة البهائية دينها على أساس هذا الاتفاق الإجمالي بين أهل الأديان
السماوية، وزعموا أن زعيمهم (بهاء الله) دفين عكا هو المسيح المنتظر، وأن
الباب هو المهدي الذي يقول المسلمون: إن ظهوره يتقدم ظهور المسيح. ولهم سبح
طويل في تأويل الأحاديث وأقوال الصوفية الواردة في المهدي والمسيح وتطبيقها
على الباب والبهاء وعندما يدعون النصارى إلى دينهم يعترفون بأن المسيح كان إلهًا
كاملاً ويقولون: إنه لم يكن إلهًا بجسمه بل بروحه وهذه الروح الإلهية نفسها هي التي
حلت في البهاء فهو إله كامل {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
وفي الهند قائم يدعي الآن أنه المسيح عيسى ابن مريم وكان من مشايخ الطريق
وأهل العلم الإسلامي، وقد رددنا عليه في مجلد المنار الثالث ورددنا على البهائية
أيضًا، وإن لنا لعودة إن شاء الله تعالى.
وإن من النصارى من يحمل ظهور المسيح أو نزوله في آخر الزمان على أن
الصفات التي امتاز بها والتعاليم التي كان يرشد إليها هي التي تكون سائدة في الناس
وهي المحبة والمسالمة والمؤاخاة والأخذ بمقاصد الدين والشريعة دون الوقوف عند
الرسوم الظاهرة التي قالوا: إنه طمسها من اليهودية. ثم عاد المنتسبون إليه فوضعوا
لهم رسومًا غيرها ربما تزيد عليها من بعض الوجوه. وهذا التأويل على حدّ (ظهر
في المسلمين عمر) إذا قام فيهم ملك عادل (وهذا الجيش يقوده نابليون) إذا كان
قائدة شجاعًا مدربًا ولا حاجة للمسلمين بالتأويل إلا إذا ثبت أن الأخبار الواردة
متواترة ويعارضها قطعي آخر ككون محمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين.
فعلم من هذا أنه لا يكون زمن فترة يضيع فيها الإسلام فيجدده المسيح، وإنما يبقى
الإسلام معمولاً به إلى قيام الساعة كما ورد في الحديث الصحيح.
هذا وإن لفظ النزول يستعمل بمعنى الخروج كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: 25) فإذا احتجنا للتأويل نقول: إن معنى حديث نزول عيسى هو ظهور
حقيقته بظهور الإسلام واستعلاء برهانه فيعلم النصارى أن المسيح بشر لا إله، وأن
دين الله واحد لا فرق فيه بين عيسى ومحمد وغيرهما من الرسل، وهو توحيد الله
والإيمان بلقائه في الآخرة ووجوب عمل الخير وترك الشر وما يتفرع عن هذه
الأصول، ولا شك أن الترقي في علم النفس وعلم الكون سيرتقي بالناس إلى هذه
المعرفة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
***
انتفاع الموتى بالقراءة
(س2) من الشيخ أحمد حسن يوسف معمَّر بالأزهر:
هل ورد دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع بانتفاع الموتى بقراءة القرآن عليهم
أم لا؟ فإن كان ورد شيء يؤيد ذلك فما معنى قوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا
سَعَى} (النجم: 39) الرجاء كشف النقاب عن هذه المسألة ولكم الفضل.
(ج) لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع شيء يثبت انتفاع
الأموات بقراءة غيرهم القرآن عليهم، والآية ناطقة بأن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله
وكسبه، ومنه ما يبقى أثره أو عينه بعد موته كالصدقه الجارية والعلم النافع والذرية
الصالحة، ولذلك ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم يُنْتَفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه
مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة.
فهذه الثلاث ملحقة بعمل الإنسان ومعتبرة منه فلا حاجة إلى ما قاله بعضهم من
تخصيص عموم قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) .
بالحديث إذ لا منافاة. ومثل ذلك يقال فيمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل
يتصدق عن أبيه، ومَنْ سأله هل يتصدق عن أمه، وإجابته إياهم بنعم ومنهم سعد بن
عبادة الذي سأله: أي الصدقة أفضل؟ فقال: سقي الماء. ولم يرد مثل ذلك إلا في
صدقة الأبناء عن الوالدين. وقد ألحقوا بهم غيرهم في الصدقة، ولا دليل على ذلك إلا
إذا صح القياس في الأمور التعبدية. وخصوا الآية بالعبادات البدنية كالصلاة
والقراءة.
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بالآية على أن ثواب القراءة
لا يلحق الأموات، وهو مذهب مالك أيضًا. ولا نخوض هنا في خلاف العلماء
وتأويلهم؛ لأن السائل لم يسأل عن ذلك.
وأما حديث (اقرأوا يس على موتاكم) فقد رواه أبو داود وابن ماجه
والنسائي وابن حبان وصححه وأحمد بلفظ آخر. ولكن ابن القطان أعله بالاضطراب
وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه من رجال سنده، وقال الدارقطني: هذا حديث
ضعيف الإسناد مجهول المتن. وتصحيح ابن حبان لا يُعول عليه مع هذا الجرح؛
لأنه كان يتساهل بالجرح فيعتمد جرحه دون تعديله إذا انفرد به كما صرح به
الذهبي في (ميزان الاعتدال) على أنه فسره في صحيحه بقراءتها عند المحتضر
فقال: (أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يُقْرَأ عليه) وخالفه المنتصرون
للقراءة على الأموات. ولو أن في الباب حديثًا صحيحًا لما احتاجوا للاستدلال
بحديث وضع الجريدتين على القبر، ولا دلالة فيه كما هو ظاهر.
***
اتخاذ الصور
(س3) أحمد أفندي صادق الدباغ بالإسكندرية: ما حكم اتخاذ الصور وهل
يحرم تزيين المنازل بها؟
(ج) اختلف العلماء في اتخاذ الصور فقيل: إنه محرم مطلقًا. وقيل: إن
المحرم منها ما له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه. وقيل: إن المحرم هو ما
اتخذ بهيئة تعظيم، وهذا أقوى الأقوال عندي لوجهين:
أحدهما حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم وهو:
(أنها نصبت سترًا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونزعه. قالت: فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما) وفي لفظ أحمد (فقطعته
مرفقتين فلقد رأيته متكئًا على إحداهما وفيها صورة) المرفقة: المتكأ والمخدة،
ولو كانت الصورة ممنوعة لذاتها لأزالها من المرفقة، وإنما هتك الستر؛ لأنه كان
منصوبًا كالصور المعبودة فهو يذكر بها وفيه تشبه بعابديها.
ثانيهما: العلة الحقيقية في النهي عن التصوير والصور المعظمة وهي محاكاة
عُباد الأصنام لا ما قالوا من أن فيها محاكاة خلق الله، فإن هذه العلة تقتضي تحريم
تصوير الشجر والجماد، وقد نقل بعضهم الإجماع على حله. فإذا انتفت العلة انتفى
المعلول والله تعالى أعلم.
__________(5/135)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع الثالث
الداء
أو: الفتور العام
في مكة المكرمة يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة سنة 1316
في الوقت المعين وهو بعد طلوع الشمس بساعة تم توارد الإخوان لمحفل
الجمعية غير أن الأستاذ الرئيس تأخر نحو نصف ساعة ثم حضر واعتذر بأنه عاقه
عن الحضور أن حضرة الشريف الأمير قد طلبه لزيارته فما وسعه إلا الإجابة باكرًا
وما كان يظن أن يسترسل بينهما الحديث فيتأخر عن الميعاد، ولكن اتفق أن
الحديث كان طويلاً.
ثم قال الأستاذ الرئيس: إننا متشوقون لتمام بحث المولى الرومي، وأمر السيد
الفراتي كاتب الجمعية فقرأ ضبط مذاكرات الاجتماع السابق حتى بلغ آخره
من عبارة المولى الرومي، وهي قوله: وعندي أن داءنا الدفين دخول ديننا تحت
ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى: ولاية الجهال المتعممين.
فحينئذ أفاض (المولى الرومي) في الكلام فقال: وهم المقربون من الأمراء
على أنهم علماء، وارتباط القضاء والإمضاء بهم فإن بعض هؤلاء المتعممين في
البلاد الإسلامية كانوا اتخذوا لأنفسهم قانونًا جعلوا فيه من الأصول ما أنتج منذ
قرنين إلى الآن أن يصير العلم منحة رسمية تعطى للجهال حتى للأميين بل
وللأطفال. ويترقى صاحبها في مراتب العلم والفضل والكمال بمجرد تقادم
السنين أو ترادف العنايات لا سيما إذا كان من زمرة الأصلاء. فإنه يكون طفلاً
في المهد وينعت رسمًا بأنه (أعلم العلماء المحققين) ، ثم يكون فطيمًا فيخاطب بأنه
(أفضل الفضلاء المدققين) ، ثم يصير مراهقًا فيعطى لقب (أقضى قضاة المسلمين
معدن الفضل واليقين، رافع أعلام الشريعة والدين، وارث علوم الأنبياء
والمرسلين) ثم وثم حتى يبلغ الوصف (بأعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء
المتورعين، ينبوع الفضل واليقين) .
ولا يظن ظانّ أن هذا الإطراء من الأمراء للمتعممين هو بقصد أن يقابلوهم
بالمثل بألقاب (المولى، المقدس، ذي القدرة، صاحب العظمة والجلالة، المنزه
عن النظير والمثال. واهب الحياة، ظل الله، مهبط الإلهامات، سلطان السلاطين،
مالك رقاب العالمين، ولي نعمة الثقلين، ملجأ أهل الخافقين، إلى غير ذلك من
مصارع الكبرياء والمهالك) .
هذا ولا ريب أن كثيرًا من هؤلاء العلماء المتبحرين لا يحسنون قراءة نعوتهم
المزورة كما أن بعض أولئك المتورعين رافعي أعلام الشريعة والدين يحاربون الله
جهارًا ويستحقون ما يستحقون من الله وملائكته والمؤمنين.
ويكفي حجة عليهم بذلك تميزهم جميعًا بلباس عروسي مزركش بكثير من
الفضة والذهب مما هو حرام في الإسلام، وقد اقتبسوا هذا اللباس من كهنة الروم
الذين يلبسون القباء والفلنسوات المذهبة عند إقامة شعائرهم وفي احتفالاتهم الرسمية
وكم من خطيب يستوي على المنبر ويقول: اتقوا الله. وعلى رأسه وصدره ومنكبيه
هذا اللباس المنكر (مرحى) .
ثم إن هؤلاء المتعممين ما كفاهم هذا القانون فألحقوه بقانون آخر جعلوا فيه
التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية كالعروض تباع
وتشترى وتوهب وتورث وما ينحل منها نادرًا عن غير وارث يبيعها القضاة لمن
يزيد في ثمنها أو يتكرمون بها على المتملقين، وبهذا القانون انحصرت الخدم
الدينية في الجهلاء والمنافقين. ثم لما شكلت بعض الحكومات مجالس إدارية لم
يرض المتعممون حتى جعلوا فيها قاضي المسلمين، وكذلك مفتي المؤمنين فهما في
كل بلد عضوان في مجالس الإدارة يحكمان بأشياء كثيرة مما يصادم الشرع كالربا
والضريبة على الخمور والرسوم العرفية وغيرها مما كان الأليق والأنسب بالإسلامية
أن يبقى العلماء بعيدين عنه، كما أن القسيس بل الشَّماس لا يحضر مجلسًا يعقد فيه
زواج أو تفريق مدينان ولا يشهد في صك دين داخله ربًا فضلاً عن أن يقضي أو
يمضي بصفة رسمية كهنوتية أمثال ذلك من الأعمال التي تصادم دين النصرانية.
وكذلك لما وضعت المحاكم العرفية (الأهلية) تهافت المتعممون على جعل
قاضي المسلمين رئيسًا للمحكمة العرفية التي تحكم بما لم ينزل الله وبما يتبرأ الدين
الحنيف منه من نحو ربًا صريح، ومن إبطال حدود الله التي صرح بها القرآن أو
باستبدال عقوبات سياسية أو تغريمات مالية بها.
ومن نحو معاقبة العباد بمجرد الظن والرأي وشهادة الواحد وشهادة الفاسق
وشهادة العاهرة المجاهرة بما لا يلائم الشرع قطعًا، ومن نحو تنفيذ كل حكم
عرفي حق أو باطل بدون نظر فيه، ومن تحصيل ضرائب وغرامات، ومن
توقيف الأحكام الشرعية على استيفاء الرسوم من الأخصام وأموال الأيتام.
ومن أهم دسائس المتعممين أنهم ينفثون في صدور الأمراء لزوم الاستمرار
على الاستقلال في الرأي وإن كان مضرًّا، ومعاداة الشورى وإن كانت سنة متبعة
والمحافظة على الحالة الجارية وإن كانت سيئة ويلقون عليهم بأن مشاركة الأمة في
تدمير شؤونها وإطلاق حرية الانتقاد لها يخل بنفوذ الأمراء ويخالف السياسة
الشرعية ويلقنونهم حججًا واهنة، ولولا أن أمامها جهل الأمة ووراءها سطوة
الإمارة لما تحركت بها شفتان ولا تردد في ردها إنسان.
والأمر الأمرّ أن أولئك الأمراء يقتبسون من هذه الحجج ما يتسلحون به في
مقابلة من يعترض على سياستهم من الدول الأجنبية بقولهم: إن قواعد الدين
الإسلامي لا تلائم أصول الشورى ولا تقبل النظام والترقيات المدنية، وإنهم
مغلوبون على أمرهم ومضطرون لرعاية دين رعاياهم ومجاراة ميل الفكر العام.
وبهذه القوانين استأثر الجهلاء الفاسقون بمزايا العلماء العاملين واغتصبوا
أرزاقهم من بيت المال ومن أوقاف الأسلاف، فبالضرورة قلَّت الرغبات في
تحصيل العلوم. وتثبطت الهمم وصار طالب العلم يضطر للاكتفاء ببلغة منه ويشتغل
بالاحتراف للارتزاق، وهكذا فسد العلم وقل أهله فاختلت التربية الدينية في
الأمة فوقعت في الفتور وعمت فيها الشرور.
أجاب الرياضي الكردي: إن هذا الداء خاص ببعض الشعوب الإسلامية
فلا يصاغ سببًا للفتور العام الذي نبحث فيه ونتساءل عنه , وعندي أن السبب العام
هو أن علماءنا كانوا اقتصروا على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي
العلوم الرياضية والطبيعية التي كانت إذ ذاك ليست بذات بالٍ ولا تفيد سوى الجمال
والكمال ففقد أهلها من بين المسلمين، واندرست كتبها وانقطعت علاقتها فصارت
منفورًا منها على حكم (المرء عدو ما جهل) بل صار المتطلع إليها منهم يفسق
ويرمى بالزيغ والزندقة، على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب وعلى مر
القرون ترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في جميع الشئون المادية والأدبية حتى
صارت كالشمس لا حياة لذي حياة إلا بنورها فأصبح المسلمون مع شاسع بعدهم عنا
محتاجين إليها لمجاراة جيرانهم احتياجًا يعم الجزيئات والكليات من تربية الطفل إلى
سياسة الممالك ومن استنبات الأرض إلى استمطار السماء، ومن عمل الإبرة
والقوارير إلى عمل المدافع والبوارج، ومن استخدام اليد والحمار إلى استخدام البرق
والبخار.
ولا شك أن المسلمين أصبحوا بعد الاكتشافات الجديدة يستفيدون من العلوم
الطبيعية والحكمية فوائد عظمية جدًّا بالنظر إلى كشفها بعض أسرار كتاب الله وبالغ
الحكمة المطوية فيه مما كان مستورًا إلى الآن وقد خبط فيه المفسرون خَبْط
عشواء.
بل أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين أدرى
منا حتى بمباني ديننا كاستدلالهم بالمقايسة على أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام
أفضل العالمين عقلاً وأخلاقًا؟ وكإثباتهم بالمقابلة أن ديننا أسمى الديانات حكمة
ومزية.
وعندي أنه لولا هذا القصور، لما وقع المسلمون في هذا الفتور. والأمل بعناية الله أنه بعد زمان قصير أو طويل لا بد أن يلتفتوا إلى هذه العلوم النافعة
فيستعيدوا نشأتهم بل يجلبوا إلى دينهم العالم المتمدن؛ لأن نور المعارف على
قدر إبعاده العقلاء عن النصرانية وأمثالها يقربهم من الإسلامية؛ لأن الدين المملوء
بالخرافات والعقل المستنير لا يجتمعان في دماغ واحد. (مرحى)
ثم إن تبعة هذا التقصير وإن كانت تلحق علماء الأمة المتقدمين إلا أن علماءنا
المتأخرين أكثر قصورًا؛ لأنهم في زمان ظهرت فيه فوائد هذه العلوم ولم يحصل
فيهم ميل لاقتباسها بل نراهم مقتصرين على تدريس فنون اللغة والفقه فقط أو
بعلاوة شيء من المنطق إتمامًا للعقائد وشيء من الحساب إكمالاً للفرائض
والمواريث قلما يفيد.
وكذلك نرى وعاظنا مقتصرين على البحث في النوافل والقربات المزيدة في
الدين ورواية الحكايات الإسرائيليات، ومثلهم المرشدون أهل الطرائق فهم
مقتصرون على حكايات نوادر الزهاد من صحيح وموضوع ورواية كرامات الأنجاب
والنقباء والأبدال وعلى ضبط وزن التمايل وأصول الإنشاد. ولا ننسى خطباءنا
واقتصارهم على تكرار عبارات في النعت والدعاء للغزاة والمجاهدين وتعداد
فضائل العبادات والشهور والمواسم، والحاصل أن تقصيرات العلماء الأقدمين
واقتصارات المتأخرين وتباعد المسلمين إلى الآن عن العلوم النافعة الحيوية أحط من
كثير من الأمم، ولا شك أنه إذا تمادى تباعُدهم هذا خمسين عامًا آخرين تبعد النسبة
بينهم وبين جيرانهم كبعدها ما بين الإنسان وباقي أنواع الحيوانات فبناءً
عليه يكون ناموس الارتقاء هو المسبب لهذا الفتور كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .
فأجابه الكامل الإسكندري: إن هذا سبب من الأسباب ولا يكفي وحده لحل
الإشكال؛ لأن فقد العلوم الحكمية والطبيعية لا يصلح سببًا لفقد الإحساس المِليّ
والأخلاق العالية؛ لأنها توجد في أعرق الأمم جهالة، وإنما سبب فتور حياتنا الأدبية
هو يأسنا من المباراة وذلك أننا كنا علماء راشدين وكان جيراننا متأخرين عنا فغرنا
البقاء فنمنا واجتهدوا فلحقونا , ولبثنا نيامًا فاجتازوا وسبقونا، وتركونا وراء، وطال
نومنا فبعُد الشوط حتى صار ما بعد ورائنا وراء، فصغرت نفوسنا وفترت همتنا
وضعف إحساسنا فيئسنا من اللحاق والمجاورة، وخرجنا من ميدان المنافسة
والمباراة وألسنتنا تفيض بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن
مَّحِيصٍ} (إبراهيم: 21) فعدنا إلى كهف النوم مستسلمين للقضاء , نطلب الفرج
بمجرد التمني والدعاء ذاهلين على أن الله تعالى جلت حكمته رتب هذه الحياة لدنيا
على أسباب ظاهرية ولم يشأ أن يجعلها كالآخرة عالم أقدار، فهذا اليأس هو سبب
الفتور فنسأل الله تعالى اللطف في المقدور.
أجابه العارف التاتاري: أن هذه شكاية حال ولا تفي بالجواب؛ لأنه ما
السبب في أن هذا النوم غشي المسلمين ولم يزل يغشاهم دون كثير غيرهم من الأمم
التي انتبهت وسارت ولحقت ظعن الأحياء، وما المسلمون بالأبعدين المتقطعين
كأهل الصين ولا هم بالمتوحشين العريقين كأهل أمريكا الأصليين.
ثم قال: أنا أرى أن عارضنا فقدنا السراة والهداة فلا أمير عام حازم مُطاع
ليسوق الأمة طوعًا أو كرهًا إلى الرشاد، ولا حكيم معترف له بالمزيد والإخلاص
لتنقاد إليه الأمراء والناس، ولا تربية متحدة المقصد ينتج منها رأي عام، لا يطرقه
تخاذل وانقسام، ولا جمعيات منتظمة تسعى بالخير، وتتابع السير، ولذلك حل فينا
الفتور وإلى الله ترجع الأمور.
أجابه الفقية الأفغاني: إن ما وصفته من أمير وحكيم لا يوجدان في الأمم
المنحطة إلا اتفاقًا، وأما الرأي العام والجمعيات فلا يفقدان إلا بسبب فقد الإحساس
وهذا ما نتساءل عنه. وذكر أن الداء العام فيما يراه هو الفقر الآخذ بالزمام؛ لأن
الفقر قائد كل شرور ورائد كل نحس فمنه جهلنا ومنه فساد أخلاقنا بل منه تشتُّت آرائنا
حتى في ديننا، ومنه فقد إحساسنا ومنه كل ما نحن فيه , أو نتوقع أننا سنوافيه: فهذه
فطرتنا لا ننقص فيها عن غيرنا وعددنا كثير وبلادنا متواصلة وأرضنا خصبة
ومعادننا غنية وشرعنا قويم وفخارنا قديم فلا ينقصنا عن الأمم الحية غير القوة
المالية التي أصبحت لا تحصل إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تحصل إلا بالمال
الطائل فوقعنا في مشكل الدور، وعسى أن نهتدي لفكه سبيلاً وإلا فيحيق بنا ناموس
فناء الضعيف في القوي وفناء الجاهل في العالم.
ومن أعظم أسباب فقر الأمة أن شريعتنا مبنية على أن في أموال الأغنياء حقًّا
معلومًا للبائس والمحروم فيؤخذ من الأغنياء ويوزع على الفقراء، وهذه الحكومات
الإسلامية قد قلبت الموضوع فصارت تجبي الأموال من الفقراء والمساكين وتبذلها
للأغنياء وتحابي بها المسرفين والسفهاء.
((يتبع بمقال تالٍ))
___________(5/141)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
الكتاب الثالث من
أميل القرن التاسع عشر في اليافع [*]
شذرات مقتطفة من جريدة أراسم. تحريرًا بمرازيون في سنة -185
الداخلة في سنة - 186
الشذرة الأولى
حب الزوجة والولد والوطن
منذ سنة تغيرت شئون حياتي كلها ولقد وجدتها هي بعينها [1] ولما تلاقينا كنا
كأننا لم نفترق في حياتنا فإن النَّوى لم تغير شيئًا من ضروب وجداننا ولا من عاداتنا
لبقاء قلبينا على ما كانا عليه من الارتباط والاتحاد، وغاية ما حدث أني أراني
الآن آنس مني في جميع أيامي السالفة بحسن معاشرتها وجمال معاملتها. نعم إنها
لم تبقَ طفلة كما عهدتها ولكنها لم تأخذ من مرور الأعوام وكرور الأيام إلا ما يزيد
المرأة في القلوب محبة وفي النفوس تأثيرًا، فكأن روحها وملامح وجهها تكملت
وتطهرت بأدائها فروض الأمومة المقدسة.
كنت أوشكت أن أقنط من معرفتي لولدي، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا
المقام أن الذين هم أكثر الناس اشتغالاً بالتربية لم يرزقوا أولادًا أو رُزقوهم وحُرموا
من رؤيتهم، وربما كان هذا هو الباعث لهم على الاهتمام بالتربية وجعل البحث في
شئونها غايتهم ليؤدوا بذلك ما فرضه الله عليهم منها بنوع آخر من الأداء.
فليت شعري بماذا استحققت أن أكون أسعد من هؤلاء مع كونهم أجدر مني
بالسعادة؟.
ما أشدني حُنُوًّا وتأثرًا عند تقبيل ولدي إياي، وما أعظم زهوي وإعجابي به
عندما آخذ بيده أتنزه معه في المزارع، وإن الدنيا لتُرى في عيني جديدة وهو معي
كأن لم أرها منذ سبع سنين. ولا جرم أن الإنسان لا يبصر وهو رهين السجن
محروم من الحرية فكل ما كنت أراه من أشجار وصخور عمرت عمر الدنيا القديمة
كأن يخيل إلي أنه لم يخلق إلا بالأمس.
خطر في ذهني ساعة خاطر العود إلى فرنسا ولكن ألف مانع، وإن شئت فقل
ألف وَهْم قد تحول بين المرء وبين معيشته في وطنه، وما أدراك أن من هذه الموانع
ما يعتريني من الألم الممضّ الذي لا أستطيع التعبير عنه إذا رأيت أمة عظيمة
عهدتها حرة قد أصبحت في قبضة حاكم وجميع ما يحصل في هذا الوطن لا يقل عن
ذلك إيلامًا للقلب ولا إزهاقًا للنفس.
يوجد في جميع عصور التاريخ رجال بررة صالحون رأوا من الواجب عليهم
لأنفسهم ولأوطانهم أن يخدموا هذه الأوطان وهم بمعزل عنها، فمثل هؤلاء هم فيما
أرى أشد حبًّا لها؛ لأنهم سواء قربوا منها أم بعدوا عنها يحيون بنفحاتها وينتشعون
بمجاهداتها في سبيل الخير وبما لها من الآمال في الوصول إليه. جرحهم في صميم
أفئدتهم ما مس أمتهم من القروح، وإن كان يبدو من حال الأمة عدم شعورها بألمها
كأن في مرور الزمن عليها والاعتياد على احتمالها من قوة التأثير ما يكفي لاندمالها
جميعاً. مثل هؤلاء المتطوعين بالاغتراب والنفي يلومون الناس وحوادث الدهر
ولكن إذا حاول مجادل أمامهم أن ينقص من كرامة فرنسا ويحط من شأنها استشاطوا
غضبًا وتليّغ الدم في عروقهم. ذلك أن هذه القطعة من الأرض التي تنازلوا عن
سكناها مختارين قد تغلغل حبها في أحشائهم وأخذ بمجامع قلوبهم، فتراهم يبذلون
الوطن نفسه في إعزاز شأن المعنى الذي قام في أذهانهم ويفضلون الحكم على
أنفسهم بالبعد عنه على رؤيتهم إياه مهينًا ذليلاً.
كأني بسائل يقول: لماذا اتخذت هذه العادة وهي تقييد أفكارك ومذكراتك كل
يوم بحسب المصادفة والاتفاق؟ فأجيبه: إن هذا مطوي أيام معيشتي في السجن أنشره
للناس، لأني لما لم يكن لي فيه أنيس أطارحه الحديث كنت أكتب كأني أراسل
نفسي. اهـ
***
الشذرة الثانية
تعليم المسميات قبل الأسماء
لم تُخْلِفْ طريقتها في تربية (أميل) أملاً من آمالي فلتبق على ما هي بسبيله
من تهذيبه وتثقيفه بما تقدمه له من الأُسى وبما توحيه إلى نفسه من الثقة بها، على
أننا من عهد أن أنعم الله علينا باللقاء رأينا من المفيد أن نقسم العمل بيننا؛ لأن
التعليم - إن لم أكن غاليًا في حكمي - هو من وظائف الوالد غالبًا، وأما التربية
فإنها من أعمال الوالدة، وإن أردت أن تعلم أين نحن من قيام كلٍّ بعمله فأقول:
لما يدرس (أميل) شيئًا درسًا منتظمًا فهو إنما لقف دروسه الأولى في علم
التاريخ الطبيعي متفرقة على نحو من الاتفاق وذلك بمعاينة ما كان يجده كل يوم
على شاطئ البحر من أنواع المحار والصدف. ثم إنني أمكنه من النظر بالمنظار
المعظم (الميكرسكوب) وهو آلة شائعة الاستعمال جدًّا عندنا محركًا أجزاءه
بنفسي فيكبر له بعض عجائب المخلوقات غير المتناهية في الصغر وأريه بالمرقب
(التليسكوب) وهو آلة أرصد بها النجوم ليلاً عجائب المخلوقات غير المتناهية في
الكبر.
وقد ملأنا إناءً من الزجاج بالماء المالح ووضعنا فيه حيوانات هلامية
وحيوانات قشرية وأسماكًا وكنا نجدد ماءه كل ثمانية أيام، ومنه تلقى (أميل) كل ما
عرفه فيما أرى من علم حياة الحيوانات التي تعيش في جوف البحر. وفي بعض
الأحيان أكرر بمشهد منه بعض تجارب سهلة جدًّا في الكيمياء والطبيعة وهو على
جهله باسمَيْ هذين العلمين يدرك بعض الإدراك تأثير بعض الأجسام الفطرية في
بعض. ورآني يومًا أضع مقاييس للحرارة والهواء، ومع كونها لم تكن من الإتقان
في شيء بدا لي منه أنه أدرك استعمالها في الجملة؛ لأني رأيته يريد محاكاتها.
جميع ما تقدم هو كتب تعليمنا حتى الآن.
لا بد أن أكون أنا و (أميل) تابعين في التعليم لمذهب أرسطاليس؛ لأن أغلب
درسنا يحصل في وقت التنزه، فإني أدع لأمور الكون وحوادثه تنبيه ذهنه غير
متعرض لها بشرح ولا تفسير إلا أن يكون إجابة عما يوجه إليّ من الأسئلة مجتهدًا
في أن يكون الشرح واضحًا والبيان وافيًا. وقد عرفت من محاورته أن الوسيلة إلى
إصغائه إليّ هي تتبع سلسلة أفكاره عند محادثته، وإن كثيرًا ممن يأخذون على أنفسهم
تعليم الأطفال ليبالغون لهم في البيان ويفرطون في الشرح كما لو كانوا في حاجة إلى
أن يثبتوا بذلك لأنفسهم أنهم على معارف واسعة وعلوم جمة.
أنا لا أعلم (أميل) شيئًا بل إني أتعلم معه فعوضًا عن كوني أعلمه طريقتي في
النظر أجتهد في معرفة طريقته وتمييزها وما لا يميل إلى معرفته بحال أجهله مثله أو
أتجاهله. نعم إن هذه الطريقة ليس من شأنها أن تعلي قدر الأستاذ في نظر تلميذه،
وأنه لا بد في اتباعها من تنزه العقل عن الغرض وتنازله عن بعض شهواته، ولكن
ما هو متبع الآن من نقش صيغ العلوم وقوانينها وقضاياها في أذهان الأطفال ليس هو
إلا كرقم الألفاظ على الرمل.
ملكة البحث عند الطفل هي كغيرها من الملكات تنمو بالاعتياد والمراس، فإن
الشوق إلى معرفة الأشياء يتولد في الإنسان ولا يولد معه وإنما يكتسب ذوق الملاحظة
الاستقلالية بالملاحظة نفسها. إن لي أن أعين تنبه (أميل) والتفاته بأن أريه ما لا
يراه في الأشياء لأول نظرة إليها غير أنه في هذه الحالة يجب أن يكون هو مصدر
الميل إلى ذلك أيضًا، وأن يكون صدور هذا الميل منه فطريًّا. ثم إن الأطفال في
الجملة مدفوعون جدًّا بسائق الطبع إلى الإكثار من السؤال، فرأيي أن التعجيل لهم
بالجواب قبل السؤال وتجاوز حدود ما يطلبون معرفته مما تخبو به نار هذا
الاستعداد المبارك، لأن ذلك يفضي بكثير منهم إلى التزام السكوت ليكفوا أنفسهم
مؤنة سآمة الدرس وطوله. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) الباب الأول من هذا الكتاب في الأم، والباب الثاني في الولد، وقد تقدما وهذا الباب الثالث في تربية الغلام اليافع.
(1) يريد زوجته أم أميل.(5/146)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية
النبذة الثانية
تقدم في الجزء الماضي ملخص ما دار بين مفتي الديار المصرية وناظر
مدرسة المعارف من المناقشة والمراجعة في اقتراح عرض قوانين التعليم في
مدارس الحكومة على مجلس شورى كسائر قوانين الحكومة. ونذكر في هذا الجزء
ملخص ما دار في الجمعية بين الناظر والشيخ علي يوسف مع ذلك مع بيان رأينا فيه ثم ننقد القانون فنقول:
(الشيخ علي) (الضمانات) [1] التي ذكرها سعادة ناظر المعارف إنما هي
كافية في التغييرات الإدارية كتحديد أوقات الدروس وحصص المدرسين، وأما
القواعد الكلية المتعلقة بالعلوم من حيث ترتيبها في التعليم واللغة التي تعلم بها فربما
لا يصح تغيير قوانينها في أقل من عشرين سنة مثلاً لذلك يجب الضمان. والتعليم
باللغة الأجنبية معناه نقل أشخاص إلى العلم، وأما التعليم بلغة الأمة فهو نقل العلم إلى
الأمة فيسهل على الطالب معه أن ينفع بيته بعلمه وبما يجيء به من كتب التعليم.
وقد نشأ عن التعليم باللغة الأجنبية قلة التأليف بالعربية وعدم وجود الأساتذة الأكفاء في
المدارس الحرة ولم نق من ذلك (ضمانات) ناظر المعارف. فالقوانين
العمومية يجب عرضها على مجلس شورى القوانين؛ إذ لا يكفي فيها نظر
الحكومة وحدها.
(الناظر) إن الطرق المتبعة في التعليم ما وضعت إلا بعد تجارب شتى
بمعنى أن هذا التعليم الذي تبين أن تعليمه بالعربية أنفع يكون تعليمه بها والعكس
بالعكس إذ المدار في ذلك على الكتب والمدرسين والأقرب للترقي. ومما بينته من
(الضمانات) وغيرها يتضح أن وضع (البروجرامات) يتبع فيه أحسن الطرق
وأفضلها اهـ كما كتب.
(الشيخ) ذلك يراد به الأسهل في التعليم، والذي نريده هو نفع الأمة وقد كان
منذ عشر سنين تؤلف كتب في الطب والطبيعة وغيرهما من العلوم فيأتي بها التلميذ
فيستفيد منها أبوه وأهله، ولا شيء من ذلك الآن؛ لأن التعليم والتأليف باللغة الأجنبية
فيجب أن يكون التعليم الوسط بلغة البلاد، ويصح أن يكون في المدارس العالية باللغة
الأجنبية.
(الناظر) يترتب على هذا جعل التعليم ناقصًا، وانتشار العلم في البيوت لا
يكون بوجود الكتب في أيدي أفرادها؛ إذ لا من يفهم الكتاب إلا من كانت عنده
مبادي العلوم.
وعند ما رأى أعضاء الجمعية أن الناظر يعيد كلامه ويحتج (بضماناته) كلما
ألحت الجمعية بوجوب اطلاع مجلس الشورى على قوانين التعليم قال حسن بك
مدكور إن أحسن ضمان هو إرسال قوانين التعليم لمجلس الشورى. وأمر الرئيس
بأخذ الآراء (فتقرر بأغلب الآراء) طلب ذلك من الحكومة. ولا أدري هل كان في
المخالفين أحد غير ناظر المعارف؟ إن كان فلعله من بعض الموظفين الذين يرون
موافقة الناظر تأييدًا لحزب الحكومة وإن كانت المصلحة واحدة والشورى من
الحكومة.
أما الجواب الأول للناظر فقد أحسن الشيخ علي في نقضه بقدر ما يسمح له
المجلس الرسمي، ونزيده إيضاحًا بأن هذا التعليم الذي وصفه الناظر بأنه أنفع
وأحسن وأفضل قد خالفت النظارة فيه ما اتفقت عليه الأمم الأوربية كلها وفي
مقدمتهم الإنكليز.
ذلك أن التعليم الابتدائي في أوربا لا يكون إلا بلغة البلاد؛ لأن حياة الأمة بلغتها
وتعلم لغة أخرى لأجل المزيد في العلم كتعلم الإنكليز لغة الألمان هو من
الكماليات التي يجب أن تكون بعد الضروريات. فهل وصل نظار مدارس معارفنا
ومفتشوها - إن كان قانون التعليم برأيهم - إلى ما لم يصل إليه فلاسفة أوربا
وأساتذتها في علم التربية والتعليم؟ ؟
فإن قال الناظر: إذا ثبت أن تعلم الطبيعيات مثلاً أسهل باللغة الإنكليزية منه
باللغة العربية فكيف نتنكب الطريق السهل ونسير في الحزون الوعرة؟ نقول له
بعد التسليم: وهل تعدل عن الإنكليزية إلى التركية أو اليابانية إذا ثبت عندك أن
التعليم بها أسهل والتحصيل أقرب؟ وإنما قلنا: أسهل وأقرب ولم نقل: (أنفع) كما
قال الناظر لأن الأنفعية لا شبهة عليها إذا فسرت بالسهولة وقرب التحصيل؛ إذ لا
يمكن أن يقول عاقل: إنني أسعى بمحو لغة أمتي واستبدال لغة أخرى بها لمنفعة من
المنافع، وأي نفع في الدنيا يوازي ضرر إهمال الأمة التي هي من أقوى مقوماتها أو
هي أقواها في نظر الأكثرين.
وأما الجواب الثاني من أجوبة الناظر فأمثل ناقض له ما فعلته الجمعية من
ترك المناقشة بالمكابرة والإصرار على أن الضمان على التعليم لا يكون للأمة إلا
بعرض قوانينه على مجلس الشورى والجزم بطلب ذلك من الحكومة، وماذا عسى
أن يقال لمن يقول: إن التعليم الابتدائي بلغة الأمة يكون ناقصًا وجميع الأمم الحية
عليه كأن الكمال لم يوجد إلا في معارف مصر التي لا أثر لمعارفها يذكر بالنسبة
إلى سائر الأمم. وماذا عسى أن يقال لمن يدعي أن انتشار الكتب العلمية في الأمة
لا تأثير له في منفعة البيوت وترقي أفرادها؟ أليس تحدث التلامذة في بيوتهم
ومذاكراتهم في المسائل العلمية بلغتهم مما يجعل الاصطلاحات العلمية مألوفة في
البيوت لكثرة طروقها للسامع؟ أليس الآباء والأمهات الذين تلقوا شيئًا من مبادئ العلوم
وقضت عليهم شئون المعيشة بعدم إتمام تعليمهم ينتفعون بالكتب المؤلفة إذا كانت
بلغتهم؟ بلى وإننا نعود إلى الكلام في قانون التعليم فنقول: إن في هذا القانون
(البروجرام) عيوبًا وتقصيرًا نسرد ما يظهر لنا منها باختصار على ترتيب القانون
وهو:
(1) كون القرآن لا يدرس في السنتين الأولى والثانية وكون الذي يقرأ منه
جزأين فقط. والأمة ترغب في إقراء أولادها القرآن كله لما في قراءته من تقويم
اللسان وتعويده على الفصاحة في النطق والاستعانة على الكتابة والخطابة، ولكونه
أصل الدين والوسيلة العظمى لكمال من يفهمه. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن
هذا النقص شيئًا.
(2) كون تعليم الدين والتهذيب في أثناء سنتين فقط مع أنه يجب أن يكون
ذلك موزعًا على جميع السنين؛ لأن الدين والتهذيب هما المقصود والأهم من التعليم
ومن لم يتمكن منهما يكون خاسرًا في حياته وإن تعلم جميع الفنون الأخرى. ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(3) كون الوقت المخصص لتعليم الدين والتهذيب معًا ساعة واحدة في
الأسبوع مع أن اللغة الأجنبية التي تعلم من السنة الأولى الابتدائية إلى آخر يوم من
أيام التعليم العالي لها سبع ساعات في الأسبوع من السنتين الأوليين. فالساعات
المقررة في القانون لتعليم علوم الدين وعلم التهذيب 36 ساعة في السنة و 72
ساعة في مدة الدراسة كلها، وتغتال منها أيام الأعياد والمواسم ما تغتال. فالمدة نحو
ثلاثة أيام وهي لا تكفي لتعليم الأكل. فهل تكفي ببركة (الضمانات الخمس) لمعرفة
الله وما أوجبه على عباده من أصول الإيمان وتثقيف الأخلاق وكيفية العبادات مع
التهذيب المدني الدنيوي الذي نوه به ذلك القانون. هذا أكبر عيب ونقص في نظام
المعارف ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(4) كون علم الدين لا شأن له في درجات ترقي التلامذة في الامتحان
المعبر عنها بالنمرة، فلو فرضنا أن تلميذًا بلغ في فهم الدين ومعرفة أحكامه مبلغ
الأئمة وكان مساويًا لآخر في سائر العلوم فإن هذه المعرفة لا ترفعه عنه درجة واحدة
فإن زاد ذلك الآخر درجة واحدة في الخط الإفرنجي مثلاً فإنه يرتفع بذلك ويتقدم
على ذلك الإمام الديني الجليل، ومن لاحظ أن التلامذة لا يجتهدون إلا لأجل السبق
في الامتحان وعلم أن الدين لا مجال فيه للسبق؛ لأنه لا درجة له علم أن النظارة
متعمدة إهمال الدين أو جاهلة منزلته ومكانته، وهذا نقص فاحش في قانون التعليم ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(5) كون المسائل التي يبتدأ بها في تعليم الدين تعلو على عقول المبتدئين
وهي كما في الصفحة 12 من قانون (احتياج الإنسان إلى الدين - بيان الفوائد
المترتبة على التمسك به - بيان أنه ليس قاصرًا على أنواع العبادات بل هو مشتمل
على ما يلزم للإنسان من المعاملات وغيرها ويرشده إلى طريق المجد والشرف في
الدنيا والآخرة - أول ما أوجبه الدين - ما يجب في حقه تعالى وما يستحيل وما يجوز - الحكمة في إرسال الرسل - ما يجب في حقهم عليهم الصلاة والسلام وما يستحيل وما يجوز - نسبه صلى الله وعليه وسلم من جهة أبيه وأمه) .
ولا شك أن هذه المسائل يتوقف فهمها على معرفة الأحكام العقلية والإلمام بعلم
الاجتماع فابتداء التعليم بها نقص. وإذا فرضنا أن تلاميذ السنة الثالثة الذين لم
يكونوا تعلموا من الدين شيئًا مستعدون لفهم مقدمات هذه المسائل ثم لفهمها، ثم
فرضنا أنهم يعلمون المقدمات فعلاً، فهل يقدر المعلمون على تعليم ذلك كله مع علم
التهذيب في ست وثلاثين ساعة وهو الوقت المعين لدرس هذه الأشياء كما تقدم؟
اللهم إن هذا ما لا يستطيع أن يتصوره عاقل وإنه لنقص فاحش وخلل فاضح في
قانون تعليم المعارف، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(6) كون هذه المسائل غير محيطة بالعقائد الدينية فهناك مسائل أخرى
تجب معرفتها وليس بعد هذه السنة تعليم للعقائد وهذا نقص ضار منتقد، ولم تغن
(الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا آخر.
(7) كون الكتاب الذي تعلم به هذه العقائد وما معها ليس مؤلفًا على الوجه
الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قانون التعليم قبل تلك المسائل التي ذكرناها، ثم
إن أثر تلك الغاية لم يظهر في تلامذة مدرسة من المدارس كلهم أو جلهم فنقول:
إن المدار على المعلمين في الوصول إليها وهذا إهمال عظيم ونقص محسوس ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(8) كون قسم الأخلاق الدينية لا وجود له في تعليم مدارس الحكومة وهذا
نقص عظيم، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(9) كون علم الحلال والحرام مهملاً لا وجود له في التعليم الديني وهذا
النقص قبيح، والغاية من تعليم الدين لا تتم إلا به، ولم تغن (الضمانات الخمس)
عن هذا النقص شيئًا.
(10) كون مسائل العبادات التي تدرس في السنة الرابعة غير كافية وغير
مؤدية إلى الغاية المطلوبة، وكون الوقت المخصص لتعليم العبادة غير كافٍ، وهذه
أنواع من النقص والخلل جعلناها واحدة؛ لأنه تقدم في قسم العقائد نظيرها. ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. وقد طال الكلام في انتقاد تعليم
القسم الديني ومن بين لنا خطأ في شيء منه فإننا نرجع عنه؛ لأن قصدنا الإصلاح
لا إظهار العيوب. وسنتكلم عن النقص في سائر الأقسام فيما يأتي إن شاء الله
تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رأى القراء في النبذة الأولى أننا كنا نضع كلمة (الضمانة) و (الضمانات) بين علامات مميزة كما هنا إشارة إلى معناها الذي يخالف ما استعملت فيه وهو المرض فكان ناظر المعارف يقول: إن لقوانين التعليم في نظارته خمسة أمراض ونحن نقول: إنها أكثر.(5/149)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شهادة مفتي الديار المصرية
لكتاب أسرار البلاغة
طلبنا من مولانا الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية أن يكتب لنا رأيه في
كتاب أسرار البلاغة الذي طبعناه بإرشاده فكتب حفظه الله ما يأتي:
اطلعت على كتاب أسرار البلاغة من تأليف الإمام الجليل الشيخ عبد القاهر
الجرجاني وسعيت في طبعه وقرأته درسًا في الجامع الأزهر. وقد وضعه مؤلفه في
علم البيان والاستعارة والمجاز وسلك المسلك الذي يوافق العقل البشري سلوكه في
تصوير المعاني وتشخيصها على وجه تتأثر منه العقول بالأثر المطلوب من إبرازها
لها. ولم أرَ كتابًا في هذا الفن لا بقلم متأخر ولا بقلم متقدم يقرب من هذا الكتاب
في حسن الأسلوب وحياة المعنى ورونقه. ولقد كان كنزًا مخفيًّا لا تصل إليه يد
الباحث حتى يسر الله لنا نسخة بعث بها إلينا أحد أهل العلم من طرابلس الشام، وكان
فيها نقص وتحريف فأرسلت أحد طلبة العلم إلى الآستانة العلية ليقابلها على نسخة هناك ثم أكمل تصحيحها أثناء الدرس فكان ظهور هذا الكتاب من نعم الله على
المشتغلين بهذا الفن الجليل. وهو جدير بأن ينتفع به الأستاذ ويقتطف منه التلميذ
وتزين به كل مكتبة في مشارق الأرض ومغاربها.
... ... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده
***
دلائل الإعجاز
يعلم قراء المنار أن الإمام عبد القاهر الجرحاني قد أسس علمي البلاغة بكتابيه
المشهورين (أسرار البلاغة) الذي طبعناه، وهو في فن البيان، و (دلائل الإعجاز)
الذي نطبعه وهو في فن المعاني. وإنما سماه دلائل الإعجاز؛ لأنه لا طريق إلى
معرفة كون القرآن الآن معجزًا ببلاغته (كما أنه معجز بهدايته) إلا بالقوانين التي
وضعها في هذا الكتاب. وقد كتب رحمه الله مقالة أو رسالة سماها (المدخل في
دلائل الإعجاز) وجعلها مقدمة له مبينة لمنزلته، ودالة على مكانته , ومصرحة بأنه
هو الواضع للفن. وهي على اختصارها قد أشارت إلى أصول قواعد النحو، وقال
بعد ذلك: إن جميع كلام العرب كان موافقًا لهذه القواعد، فإذا قال معترض: ما هذا
الذي امتاز به القرآن حتى كان معجزًا؟ نقول: إن الجواب عن هذا السؤال هو
كتاب دلائل الإعجاز لا جواب غيره. وإنني أذكر خاتمة كلامه في المدخل بنصه
وقصيدة ختمه بها وهو:
(إذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه
الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما
ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها
وكانت حقائق لا تتبدل ولا يختلف بها الحال؛ إذ لا يكون للاسم بكونه خبرًا لمبتدأ أو
صفة لموصوف وحالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف
حقيقته في كلام آخر - فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل
والعجيب من الرصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء
بالقوى والقدر , وقيد الخواطر والفكر حتى خرست الشقاشق [1] ، وعدم نطق الناطق
وحتى لم يجر لسان. ولم يُبِن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زَند،
ولم يمض له جد وحتى أسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا؟
أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونرده عن ضلاله، وأن نَطِبَّ لدائه
ونزيل الفساد عن رائه؟ [2]
فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي
وضعناه، ويستقصي التأمل لما أودعناه، فإن علم أنه الطريق إلى البيان،
والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقًا غيره أومأ
لنا إليه ودلنا عليه، وهيهات ذلك، وهذه أبيات في مثل ذلك:
إني أقول مقالاًُ لست أخفيه ... ولست أرهب خصماً إن بدا فيه
ما من سبيل إلى إثبات معجزة ... في النظم إلا بما أصبحت أبديه [3]
فما لنظم كلام أنت ناظمه ... معنى سوى حكم إعراب تزجيه
اسم يرى وهو أصل للكلام ... فما يتم من دونه قصد لتشبيه
وآخر هو يعطيك الزيادة في ... ما أنت تثبته أو أنت تنفيه
تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ ... تلقى له خبرًا من بعد تثنيه
وفاعل مسند فعل تقدمه ... إليه يكسبه وصفًا ويعطيه [4]
هذان أصلان لا تأتيك فائدة ... من منطق لم يكونا من مبانيه
وما يزيدك من بعد التمام فما ... سلطت فعلاً عليه في تعديه
هذي قوانين يكفي من تتبعها ... ما يشبه البحر فيضًا من نواحيه
فلست تأتي إلى باب لتعلمه ... إلا انصرفت بعجز عن تقصيه [5]
هذا كذاك وإن كان الذين ترى ... يرون أن المدى دانٍ لباغيه [6]
ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم ... بما يجيب الفتى خصمًا يماريه
تقول من أين أن لا نظمَ يشبهه ... وليس من منطق في ذاك يحكيه
وقد علمنا بأن النظم ليس سوى ... حكم من النحو نمضي في توخيه [7]
لو نقَّب الأرض باغٍ غير ذاك له ... معنًى وصعد يعلو في ترقيه [8]
ما عاد إلا بخسر في تطلبه ... ولا رأى غير غي في تبغيه [9]
ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في ... أحكامه ونروي في معانيه
كانت حقائق يُلفى العلم مشتركًا ... بها وكلا تراه نافذًا فيه
فليس معرفة من دون معرفة ... في كل ما أنت من باب تسميه
ترى تصرفهم في الكل مطردًا ... يجرونه باقتدار في مجاريه
فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا ... حتى غدا العجز يهمي سيل واديه
قولوا وإلا فاصغوا للبيان تروا ... كالصبح منبلجًا في عين رائيه
وقد كان هذا الكتاب كالذي قبله كنزًا مخفيًّا فظفر الأستاذ الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية بنسخة منه، وكان عند الأستاذ العلامة اللغوي الشيخ محمد
محمود الشنقيطي نسخة أخرى، وكلاهما كان محرفًا ومبدولاً فعلم الأستاذ الإمام أن
في المدينة المنورة نسخة منه وفي بغداد أخرى فعمل على استناسخها وصحح
الكتاب هو والأستاذ الشنقيطي بمقابلة النسخ الأربع فكان الكتاب الوحيد الذي اجتمع على تصحيحه أعلم علماء العصر في المعقول والمنقول.
هذا وإن هذا الكتاب أكبر من أسرار البلاغة حجمًا، وأغزر علمًا، فهو يزيد
عليه بنحو عشر ملازم، وقد شرعنا بطبعه على ورق جيد وجعلنا قيمة الاشتراك فيه
مع ذلك قيمة الاشتراك في أسرار البلاغة رفقًا بمجاوري الأزهر الذين سيكونون
أكثر الناس اشتراكًا به؛ لأن الأستاذ الإمام سيقرأه درسًا في الأزهر الشريف.
وستكون قيمته بعد تمام الطبع عشرين قرشًا أميريًّا فمن أراد الاشتراك فليدفع إلينا
القيمة ويأخذ بها وصلاً بإمضائنا.
__________
(1) الشقاشق ج شقشقة بكسر الشين وهي لهاة البعير أو شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، ويقال للفصيح: هدرت شقاشقه، يريدون الانطلاق في القول وقوة البيان، ويقال في مقابل ذلك، خرست الشقاشق.
(2) الراء هنا بمعنى الرأي كما قال ابن نباتة السعدي:
... ... يا أيها الملك الذي أخلاقه من خلقه ورواؤه من رائه
(3) يريد كتاب (دلائل الإعجاز) وهو صريح في كونه هو الواضع لعلم المعاني.
(4) يريد نظم القرآن وأسلوبه وفي هذا البيت تصريح أيضًا بأنه هو الواضع للفن.
(5) تزجُّه بالتشديد تدفعه برفق وتسوقه ومثله التخفيف.
(6) يكسبه من الثلاثي ومنه الحديث (تكسب العدوم) .
(7) التقصي: التتبع.
(8) باغيه: طالبه.
(9) توخي الشيء: تحريه وتعمد طلبه.
(10) صعَّد بالتشديد رقي كالثلاثي وهو هنا مقابل التنقيب في الأرض الذي فيه معنى التسفل، ويقال صوَّب النظر وصعده إذا نظر في أسفل الشيء وأعلاه، وعدَّى نقب بنفسه حاذفًا الخافض ولعله كان يراه قياسًا والمسموع تعديه بفي [فنقبوا في البلاد] .
(11) تَبغَّاه كابتغاه: طلبه.(5/154)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الاحتفال بتذكار محمد علي باشا)
في يوم الأربعاء الماضي تم لتأسيس محمد علي باشا هذه الإمارة في مصر
مائة عام هجري فاحتفل ديوان الأوقاف بذلك في جامع القلعة وكذلك احتفلت به مشيخة
الأزهر في الجامع الأزهر، ومن بدع الزمان وغرائب الأيام أن يحتفل في بيوت الله
تعالى بذكر الأمراء والسلاطين والظلمة من الحاكمين، وهي البيوت التي أذن الله أن
ترفع عن الحظوظ الدنيوية ويذكر فيها اسمه وحده تقربًا إليه وابتغاء مرضاته لا
لذكر أمير ميت ولا لمرضاة أمير حي. فلماذا تنفق أوقاف المسلمين على إحياء
البدعة ومخالفة السنة؟ ولماذا لا تكون أمثال هذه الاحتفالات في قصور المنعمين
كعابدين ورأس التين؟ فمحمد علي لم يؤسس دينًا ولم يكن إمام مذهب في دين
وإنما أسس ملكًا عضوضًا بسفك الدماء والقوة والجبروت، هذا هو محمد علي في
نظر الدين، والحكمة في الاحتفال بذكره والإشادة بحمده في بيوت الله تعالى دون
بيوت الحكومة يعرفها جميع الناس.
أما محمد علي في نظر التاريخ فهو من الرجال العاملين الذين يحفظ التاريخ
فضلهم؛ لأن التاريخ سياسي أكثر مما هو ديني أو علمي، وقد جرت العادة أن يتملق
الناس للأمراء بمدحهم ومدح سلفهم وجعل سيئاتهم حسنات، فإنك ترى العالم الديني
الذي يحكم بكفر من يحكم بالقانون وظلمه وفسقه يقدس من وضع القانون باسمه ويحكم
فيه بأمره فمدح الأمراء والسلاطين وأصحاب الجاه أكثره كذب، والمادح محل التهمة،
والمنتقد لهؤلاء أقرب إلى العدل والإنصاف وإن احتمل أن يكون له هوى في بعض
الأحوال، وإننا نقول في تاريخ محمد علي كلمة عادلة نرجو أن يتلقاها كل عاقل
بالقبول وهي: إذا ذكر الرجل بأعماله فلمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة وهي:
(1) تأسيس حكومة في بلاد مصر كانت مقدمة لدخول الأجانب فيها واحتلالهم
إياها. و (2) محاربة الدولة العثمانية وإظهار ضعفها للبرية. و (3) محاربة
الوهابية وخضد شوكتهم وإبطال امتداد دعوتهم.
وكل عمل من هذه الأعمال محل نظر الناس من بعده له، ومنهم من يعده
عليه وهم الأكثرون أو المحققون.
أما الأول فالمكبرون لأعماله يتوسعون فيه ما شاءوا؛ لأن المجال واسع
أمامهم فيذكرون إزالة دولة المماليك الظالمة الغاشمة وهو عمل جليل، ولكنهم
يستدلون بذلك على أن دولته كانت عادلة وهذا غير صحيح، فإن حكومته كانت
ظالمة منذ أسست إلى أن تولى الأوربيون السيطرة عليها فكان الظلم يقل كلما كثروا
والبغي يضعف كلما قوي نفوذهم ولكن الحسن في إزالة دولة المماليك من وجهين:
أحدهما: أن الظلم كان مشوشًا وحكومة محمد علي وأبنائه نظمته وكان متفرقًا
فوحدته وكان غير محصور فحصرته.
وثانيهما: أن نتيجة هذا النظام وهذه الوحدة هي تمهيد السبيل لدخول مدنية
أوروبا في مصر والأعمال إنما تمدح وتذم بنتائجها وغاياتها والعاملون إنما يمدحون
بحسن القصد والنية وبإتقان العمل، فأما محمد علي فقد أتقن عمله ولكن قصده لا
يحمد في نظر الدين ولا في نظر الفضيلة وإنما يحمد في نظر متاع الحياة وزينتها؛
لأن سيرته الملطخة بالدماء المحترمة تدل على أنه لم يكن يقصد غير الملك
وعظمته له ولذريته من بعده. وأما نتيجة عمله - فهي كما قلنا - دخول الأوربيين
هذه البلاد ونشر مدنيتهم فيها وإلقاء سيطرتهم عليها بالاحتلال الإنكليزي، فمن يرى
أن هذا خير وسيلة لنجاح البلاد وسعادتها فعليه أن يحمد عمل محمد علي وآل بيته
مهما ظلموا في الأموال والأعراض؛ لأن الإصلاح الكبير لا يأتي إلا ببذل الثمن
الكثير، ومن يقول: إن مدنية أوروبا شر على البلاد وأن الإصلاح الإنكليزي بلاء
عليها ووبال، فليحكم على عمل محمد علي وذريته بالإفساد وليحفظ له سوء الذكر إلى
يوم التناد.
وأما العمل الثاني وهو الخروج على الدولة العثمانية ومحاربتها وقهرها
وإظهار ضعفها، فلو سألت عنه أي مسلم في أي قطر لأجابك بأنه كان أضر عمل
عمله إنسان على الإسلام والمسلمين؛ لأنه في ذاته خروج والٍ على موليه وسلطانه
وتلك أكبر الخيانات، وأقبح الجنايات في الشرائع الإلهية، وفي القوانين البشرية.
وفي نتيجته إضعاف وقهر لأقوى دولة إسلامية، في عصر قويت فيه الدول
الأجنبية، فضعف بذلك الإسلام، ولم تقم لأهله قائمة بعد ذلك إلى الآن، ولكنك لا
تعدم ثلاثة نفر أو ثلاثين من الثلاثمائة المليون المسلمين يعتذر عن عمله أو يعده
فضيلة ومحمدة. فأشد هؤلاء المدافعين أَفَنًا في الرأي وصغارًا في النفس من يقول:
إن الدولة العلية لم تكن مرتاحة لاستقلاله، فكانت تدس الدسائس لزلزاله؛ أي: إنه
انتقم لنفسه من دولته، وحاربها لتمكين سطلته، ومن الناس من يقول: إن تلك
الحرب كانت بمواطأة بين محمد علي ورجال الدولة العلية في الأستانة وأنهم هم
الذين مكنوا له في أرض مصر ليخرج على الدولة، وأنه كان غرضهم الأخذ على
يد السلطان محمود وتخفيف سلطته الاستبدادية ومنعه من سفك الدماء، وعزل
العمال والوزراء بمجرد الهوى.
وأما العمل الثالث وهو محاربة الوهابية فأكثر العامة أو كلهم يعتقدون أنه كان
خدمة للإسلام، كفرت عن محمد علي جميع الذنوب والآثام، أما الخواص فإنهم
يعلمون أن الوهابية كانوا قائمين بإصلاح إسلامي لو تم لعاد للإسلام مجده الأول وأن
الذين وسوسوا لمحمد علي بمحاربتهم هم الأوربيون الذين ينظرون إلى غايات الأمور
وعواقبها كما هو مصرح به في بعض تواريخهم، وأما ما شاع في بلاد الشام
والحجاز من أن الوهابية خارجون عن السنة وملحقون بأهل البدعة فسببه بعض
المصنفات التي لفقها العلماء الرسميون المصانعون للحكام وهي مملوءة بالأكاذيب،
وإنما مذهب القوم مذهب السلف في العقائد مذهب الإمام أحمد في الفروع ولهم تشديد
عظيم على مخالف السنة. هذا هو اعتقاد الخواص، وهم يقولون: إن هذا العمل
الثالث هو أكبر سيئات محمد علي وأنه به وبما سبقه كان أكبر بلاء على الإسلام
والمسلمين في القرن الماضي.
* * *
(مكتوب عالم هندي من أركان النهضة الإسلامية)
كتب إلينا العلامة العامل، والسري الكامل، محسن الملك بهادر سيد مهدي
علي خان ناظم مدرسة العلوم (في على كده) وكان انقطع المنار عنه؛ لأن جزءًا
ردّ إلينا مما أرسل إليه لخطأ في عنوانه فتوهمنا أنه هو الذي ردّه فمنعناه فكتب إلينا
يقول بعد رسوم المخاطبة ما نصه:
(كانت ترد علينا في الأعوام الخالية مجلتكم الغراء وكنا نقرأها بشغف
وفرحة لا مزيد عليهما، ونستفيد من مقالاتها الصافية العلمية الدينية الإسلامية في
الرد على المنكرات والبدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا عامًّا،
ويسرُّنا ما لاح لنا من تآلف الأذواق وتوارد الخواطر بيننا وبينكم فإننا أيضًا قد
بذلنا جهدنا منذ عشرين عامًا في إيقاظ المسلمين من نوم الغفلة التي غرقوا فيها حتى
أضاعوا كل ما كان في أيديهم من العلوم والفنون والحكم والصنائع واتخذوا دينهم
هزؤًا ولعبًا، فأصبحوا كأنهم قوم لا يعقلون. فأخذنا ندعوهم إلى الانتباه من منامهم
الذي سبب امتهانهم لأجل تأخرهم عن الأقوام الذين كانوا شركاءهم في الوطنية
بالمقالات المشتهرة في الجرائد والمجلات، والخطبات والتصنيفات والتأليفات،
لتنبيههم واستنهاض هممهم على الأعمال النافعة، كتحصيل العلم حسب مقتضيات
الزمان وتعلم اللغة الإنكليزية (في الأصل اللسان) التي هي لغة حكامنا العادلين مع
الإقبال على تحصيل العلوم الجديدة المغربية، والنظر في شئون حياتهم الاجتماعية
وأمورهم الدينية والالتفات إلى إصلاحهم من كل الوجوه.
ولكننا نقول بأسف زائد: إن جميع مؤلفاتنا ومصنفاتنا ورشحات أقلامنا كلها في
لغتنا الأوردية، (وفي الأصل لساننا) التي لا تكاد تفهم في البلاد الأجنبية، وإلا
كان بودي أن نرسل إليكم بعض مؤلفاتنا.
أما الآن فالمرجو من حضرتكم أن تفضلوا وتراسلوا بإرسال مجلتكم الغراء
ولا تقطعوا عنا إرسالها.
ونثني ثناء جميلاً على غيرتكم الدينية وشغفكم بالاجتهاد في إصلاح حال
المسلمين وإرجاع مجدهم وحثهم على أسباب التقدم الملية والقومية. وقد سرني ما
شاهدت في مجلتكم من المقالات البديعة البالغة حد الإعجاز، المطابقة لذوقي تمامًا
وكمالاً.
فبهذا تعرفون ما يناسب ذوقي من الكتب؛ لأن ما وجدتم أنه تلذكم مطالعته فلا
بد من أنه يلذني أيضًا، فالرجاء أن ترسلوا إلينا من أمثال تلك الكتب، منها
مصنفات حضرتكم ومصنفات حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده المصري صاحب
رسالة التوحيد وغير ذلك من الكتب المفيدة ... إلخ.
فنشكر لهذا الأستاذ حسن ظنه ونسأل الله أن يوفقنا جميعًأ لما يرضاه.
__________(5/157)
غرة ربيع الأول - 1320هـ
7 يونيه - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القضاء في الإسلام
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
النبذة الرابعة
ما به القضاء:
(تمهيد) أركان القضاء وأصول الحكم في الإسلام أربعة: الكتاب العزيز
والسنة المتبعة، والاجتهاد في الرأي، والمشاورة في الأمر، وإنها لأركان عظيمة،
وأصول قويمة، والأساس الذي بنيت عليه هذه الأركان (درء المفاسد وجلب
المصالح والمنافع) ولهذا كان الاجتهاد شرطًا في القاضي لوجوب تطبيق الأحكام
على المنفعة في كل زمان ومكان بحسبه. فمن يدّعي أنه وجد في أمة من الأمم
أساسًا أثبت من هذا الأساس وأركانًا أقوى من هذه الأركان فليدلنا على ذلك؛ وإلا
فليذعن لنا الناس بأن شريعتنا خير الشرائع وأساس العمران ولا يحتج علينا بسوء
حال قومنا الذين ما رَعَوها حق رعايتها في زمان ولا مكان، أما الأخبار والآثار
الدالة على ما ادعيناه فهذا بعضها:
(الحديث 25) [1] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم قال له لما بعثه إلى اليمن: (كيف تقضي؟) قال: أقضي بكتاب
الله قال: (فإن لم تجد في كتاب الله؟) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (فإن لم تجد في سنة رسول الله؟) قال: أجتهد رأيي ولا آلو أي: لا
أقصر، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: (الحمد
لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله) . فهذا دليل على أن
القاضي مفوض إليه تحري الحق في الأقضية والاجتهاد لاستبانة العدل المطلوب في
الكتاب والسنة وذلك بعد اختياره من أهل الكفاءة الذين استوفوا الشروط التي نوهنا بها
من قبل، وقد اتبع هذه الطريقة الانكليز في هذا العصر، فالعمدة في الأحكام اجتهاد
القاضي العادل.
(ح 26) [2] عن عمرو بن العاص وأبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران)
والذي يصيبه الحاكم أو يخطئه هو الحق وإصابة الحق هي العدل، ومتى
تحرى الحاكم العدل ولم يتعمد الميل إلى أحد الخصمين يظهر له الحق في الغالب
فإذا تعمد الجور اختلط عليه الأمر وكان مخذولاً في الدنيا والآخرة. يدل على ذلك
الحديث الآتي وهو:
(ح 27) [3] عن واثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم
ولي من أمر المسلمين شيئًا إلا بعث الله إليه ملكين يسددانه ما نوى الحق، فإذا نوى
الجور على عمد وَكَلاه إلى نفسه) ويظهر من النصوص الواردة في الحق والعدل
أن مراد الشرع منهما هو ما يعرفه الناس بالفطرة السليمة والعقل وإنما شُرعت
الأحكام ووضعت القواعد لتهدي الحاكم إلى طريق الوصول إلى الحق الذي يتعمد
الظالمون إخفاءه.
(ح 28) [4] عن علي - كرم الله وجهه - قال: قلت: يا رسول الله إذا
بعثتني في شيء أكون كالسُّكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يراه الغائب؟ قال: (بل
الشاهد يرى ما لا يرى الغائب) وهذا دليل على أن مراعاة المصالح والمنافع هي
الأصل في القضاء؛ لأن الأحكام القضائية ليست من الأمور التعبدية، وإنما هي
وسائل لمعرفة الحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه، ولذلك لا يحل لمن حُكم له بشيء
يعلم أنه ليس له أن يأخذه وإن كان القاضي هو الرسول عليه الصلاة والسلام كما يُعلم
من الحديث الآتي وهو:
(ح 29) [5] عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من
بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما
أقطع له قطعة من النار) ، والألحن بالحجة: هو الأبلغ قولاً والأفصح عبارة.
وبقي من أركان الحكم المشاورة، ولا أعرف فيها حديثًا مرفوعًا يتعلق بالقضاء
وحسبنا الأمر العام بها في القرآن وستأتي شواهدها في آثار السلف.
(ح 30) [6] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين
على المُدَّعَى عليه) قال النووي في شرح مسلم: وفي رواية البيهقي بإسناد حسن
أو صحيح، زيادة عن ابن عباس مرفوعًا (لكن البينة على المدعي واليمين على من
أنكر) .
(ح 31) [7] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلي الله
عليه وسلم قال: (البينة على المُدّعِي واليمين على المُدَّعَىَ عليه) .
(ح 32) [8] عن وائل بن حجرة قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من
كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد
غلبني على أرض كانت لأبي، قال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له
فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: (ألك بينة؟) قال: لا.
قال: (فلك يمينه) فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل: (أما لئن حلف على مالٍ
لِيأكله ظلمًا لَيلقينّ الله وهو عنه معرض) .
قال الإمام الحافظ الفقيه ابن القيم الجوزية في كتابه (إعلام الموقعين) ما
نصه: البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم
من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمن. لا حَجْر
في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم
النصوص. ونذكر من ذلك مثلاًُ واحدًا -وهو ما نحن فيه - لفظ (البينة) فإنها في
كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَات} (الحديد: 25) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ} (النحل: 43-44) وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ
الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 4) وقال: {قُلْ إِنِّي
عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} (الأنعام: 57) وقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه} (هود: 17) وقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْه} (فاطر: 40) [9]
وقال: {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) وهذا كثير لم
يختص به لفظ البينة بالشاهدين بل ولا استعمل في الكتاب فيها ألبتة.
إذا عرف هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي (ألك بينة؟)
وقول عمر: البينة على المدعي، وإن كان هذا قد روي مرفوعًا المراد به ألك ما
يبين الحق من شهود أو دلالة؟ فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق
بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له ولا يردّ حقًا قد ظهر
بدليله أبدًا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها. ولا يقف ظهور الحق على أمر معين
لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن
جحده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على
رأسه عمامة وبيده عمامة، وآخر مكشوف الرأس يعدو أثره ولا عادة له بكشف
رأسه.
فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد
عند كل أحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة ويضيع حقًا يعلم كل أحد ظهوره وحجته. بل لما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير من
الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين وصار الظالم الفاجر ممكَّنًا من ظلمه
وفجوره فيفعل ما يريد ويقول لا يقوم عليَّ بذلك شاهدان اثنان. فضاعت حقوق
كثيرة لله ولعباده وحينئذ أخر الله أمر الحكم العام عن أيديهم وأدخل فيه من أمر
الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى ويحصل به العدوان تارة
والعدل أخرى، ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه؛ لكان فيه تمام المصلحة
المغنية عن التفريط والعدوان.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع
فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور، وأما في غير الزنا
فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال فقال في آية الديْن {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان} (البقرة: 282) فهذا
في الحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه لا في طريق الحكم وما يحكم
به الحاكم فإن هذا شيء وهذا شيء. وأمر في الرجعة بشاهدين عدلين وأمر في
الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم،
وغير المؤمنين: هم الكبار، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية
(المسلم) في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين وقد حكم به النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة بعده ولم يجئ بعدها ما ينسخها فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً
وليس فيها منسوخ وليس لهذه الآية معارض ألبتة، ولا يصح أن يكون المراد بقول:
(من غيركم) من غير قبيلتكم فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة
حتى يكون قوله: (من غيركم) أيتها القبيلة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا
من الآية، بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.
(وهو سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا
يحكمون إلا بذلك. فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ولا بالنكول ولا
باليمين المردودة ولا بأيْمان القَسامة ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق
ويظهره ويدل عليه) . اهـ المراد منه، وذكر بعده ما اتفقوا عليه من الشهادات وما
اختلفوا فيه.
***
(آثار السلف عبرة للخلف)
قضاء الخليفتين
(1) روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران أنه قال: (كان أبو بكر
إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم،
وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة فإن
علمها قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال أتانى كذا وكذا فنظرت في
كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجد في ذلك شيئًا فهل
تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط
فقالوا نعم قضى فيه بكذا وكذا؛ فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول
عند ذلك: الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. وإن أعياه ذلك دعا رءوس
المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به. وأن عمر
ابن الخطاب كان يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن أو السنة شيئًا دعا رءوس
المسلمين وعلماءهم واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى بينهم) وإنما كان
يرجع إلى أقضية أبي بكر؛ لأنها مبنية على ما ذكر فربما ذَكَّرَتْه بدليل كان عنه
ذاهلاً. ولينظر في سؤال مثل أبي بكر رضي الله عنه عن قضاء رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم، وكون الصحابة كانوا يخبرونه بما لا يعرفه منها فإنه حجة
على الجاهلين الذين كانوا يزعمون أن ملقديهم كانوا محيطين بالسنة لا يغيب عنهم منها
شيء. وقد ورد بمعنى هذا الأثر آثار أخرى. وفي المحاكم الآن ضرب عن
المشاورة.
(2) روى البيهقي عن ابن سيرين أنه قال: إن كان عمر بن الخطاب
لَيستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء
يستحسنه فيأخذ به. وفي هذا الأثر من الفقه تكريم النساء ومشاركتهم للرجال في
الرأي حتى في الأمور العامة وهذا مما يرفع نفوسهن التي كانت قبل الإسلام
مهضومة. وما رُوي عنه من أنه قال: (خالفوا النساء فإن في خِلافهن البركة) فمعناه لا تتبعوا أهواءهن على أن سنده ضعيف.
***
كتاب عمر في القضاء
(3) روى الدارقطني والبيهقي وابن عساكر عن أبي العوام البصري قال:
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري (أما بعدُ فإن القضاء فريضة محكمة وسنة
متبعة فافهم إذا أدلي إليك [10] فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له. آس [11] بين الناس
في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من
عدلك. البينة على المدَّعي واليمن على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا
صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فأضرب له أمدًا
ينتهي إليه، فإن بينه [12] أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك استحلت عليه القضية فإن
ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى [13] ولا يمنعك قضاء قضيت فيه [14] اليوم فراجعت
فيه رأيك [15] وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق [16] فإن الحق قديم لا يبطله [17]
شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل [18] والمسلمون عدول بعضهم على
بعض [19] إلا مجربًا عليه شهادة زور أو مجلودًا في حد أو ظنينًا في ولاء أو قرابة
[20] فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان.
ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك [21] مما ليس في قرآن ولا سنة. ثم
قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال [22] ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله
وأشبهها بالحق. وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند
الخصومة أو الخصوم (شك أبو عبيد) فإن القضاء. في مواطن الحق مما يوجب
الله به الأجر ويحسن به الذكر [23] . فمن خلصت نيته [24] في الحق، ولو على نفسه
كفاه الله ما بيْنه وبين الناس ومن تزين لهم بما ليس في نفسه شانه الله [25] فإن الله
تعالى لا يقبل من العباد إلا من كان خالصًا، فما ظنك بثواب عند الله [26] في عاجل
رزقه وخزائن رحمته. والسلام عليك ورحمة الله) [27]
قال ابن القيم بعدما أورد هذا الكتاب في إعلام الموقعين: (وهذا كتاب جليل
تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج
شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه) ثم شرحه شرحًا مطولاًُ، وقد اعتمد في نصه هنا
على نسخة إعلام الموقعين؛ لأننا رأيناها أصح وذكرنا ما وجدناه من الاختلاف بينه
وبين (كنز العمال) في الهامش وليس فيه شيء جوهري.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والدارمي.
(2) رواه البخاري ومسلم وكذا الحاكم والدارقطني وأحمد بألفاظ أخرى.
(3) رواه الطبراني ورواه البيهقي بلفظ آخر بمعناه من حديث ابن عباس وضعفوه ورواه البزار بلفظ آخر وفي سنده متهم.
(4) رواه أحمد والبخاري في التاريخ والدورقي وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر وابن منصور.
(5) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة.
(6) رواه أحمد ومسلم.
(7) رواه الترمذي.
(8) رواه مسلم والترمذي وصححه.
(9) قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر (بينات) والباقون (بينة) .
(10) أدلي إليك أي تخوصم إليك، وقال ابن القيم أي ما توصل به إليك الكلام الذي تحكم به بين الخصوم، وفي نسخة كنز العمال (إذا أدى إليك) ولعلها تحريف.
(11) في نسخة كنز العمال (آس) والمعنى ساوِ بينهم.
(12) في نسخة كنز العمال (فإن جاء بينة) .
(13) في الكنز (وأحلى) وذكرت نسخة في هامش إعلام الموقعين وهي تحريف كما حرف فيه لفظ للعمى فكتب (للعلماء) .
(14) في الكنز (قضيته) .
(15) في الكنز (لرأيك) .
(16) في الكنز (إن تراجع الحق) .
(17) في الكنز (لا يبطل الحق) .
(18) الجملة في الكنز بدون عطف.
(19) في الكنز زيادة (في الشهادة) .
(20) المستثنيات في نسخة الكنز مرفوعة والظنين المتهم في شهادته للقرابة أو الولاء.
(21) في الكنز (أدى إليك) .
(22) في الكنز زيادة لفظ (والأشباه) وليس المراد أنه يقيس على كلام غيره وإنما ميزان القياس ما ذكره بعدُ.
(23) في الكنز (ويحسن له الذخر) .
(24) في الكنز (نفسه) .
(25) سقط لفظ الجلالة من نسخة الكنز.
(26) في الكنز (وما ظنك بثواب الله) .
(27) آخر الرواية في الكنز (والسلام) .(5/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار محمد علي في مصر
لغط الناس هذه الأيام في محمد علي وما له من الآثار في مصر وأهلها
وأكثرت الجرائد من الخوض في ذلك والله أعلم ماذا بعث المادح على الإطراء،
وماذا حمل القادح على الهجاء غير أنه لم يبحث باحث في حالة مصر التي وجدها
عليها محمد علي وما كانت تصير بالبلاد إليه لو بقيت.
وما نشأ عن محوها واستبدال غيرها بها على يد محمد علي. أذكر الآن شيئًا
في ذلك ينتفع به من عساه ينتفع، ويندفع به من الوهم ما ربما يندفع، كانت حكومة
البلاد المصرية قبل دخول الجيش الفرنساوى فيها من أنواع الحكومات التي كانت
تسمى في اصطلاح الغربيين حكومات الأشراف وتسمى في عرف المصريين
حكومات الالتزام وتعرف عند الخاصة بحكومات الإقطاع , وأساس هذا النوع من
الحكومة تقسيم البلاد بين جماعة من الأمراء يملك كل أمير منهم قسمًا يتصرف في
أرضه وقوى ساكنيها وأبدانهم وأموالهم كما يريد فهو حاكمهم السياسي والإداري
والقضائي وسيدهم المالك لرقابهم. ومن طبيعة هذا النوع من الحكومة أن تنمو فيه
الأثرة وتغلط فيه أصول الاستبداد وفروعه وتنزع نفس كل أمير إلى توسيع دائرة
ملكه بالاستيلاء على ما في يد جاره من الأمراء. فكان من مقتضى الطبيعة أن كل
أمير لا ينفك عن التدبير والتفكير فيما تعظم فيه شوكته، وما يدفع به عن حوزته،
وأن يكون الجميع دائمًا في استعداد إما للوثوب وإما للدفاع. ولكن الأمراء في
مجموعتهم كانوا يقاومون سلطة الملوك فيضطر الملك لاستمالتهم ومجابهة بعضهم
للاستعانة به على البعض الآخر فضعف بذلك استبداد الملوك فيهم حاجة الأمراء إلى
المال كانت تسوقهم إلى ظلم رعاياهم وكانت شدة الظلم تميل برعاياهم إلى خذلانهم
عند هجوم العدو عليهم. ظهر ذلك في خصوماتهم المرة بعد المرة فاضطر الأمراء
أن يخففوا من ظلمهم وأن يتخذوا لهم من الأهلين أنصارًا يضبطون عند قيام الحرب
بينهم وبين خصومهم. أحسَّ الأهلون بحاجة الأمراء إليهم فزادوا في الدالة على
الأمراء واضطروهم إلى قبول مطالبهم فعظمت قوة الإرادة عند أولئك الذين كانوا
عبيدًا بمقتضى الحكومة وانتهى بهم الأمر أن قيدوا الأمراء والملوك معًا ولم يكن
ذلك في يوم أو عام، ولكنه في عدة قرون كما هو معروف عند أهل المعرفة.
نعم كانت الحكومة في مصر على نوع تخالف به جميع الحكومات المشرقية
وكانت البلاد متوزعة بين عدة أمراء كل منهم يستغل قسمًا منها ويتصرف فيه كما
يهوى، وكان كل يطلب من القوة ما يسمح له يده إلى ما في يد الآخر أو يدفع به
صولته فالخصام كان دأبهم والحرب كانت أهم عملهم. لذلك كان كل منهم يستكثر
من المماليك ما استطاع ليعد منهم جنده ولكن كانت تعوزه مؤنتهم إذا كثروا
فاضطروا إلى اتخاذ أعوان من أهالي البلاد فوجدوا من العرب أحزابًا كما وجدوا
منهم خصومًا. ثم رجعوا إلى سكان القرى فوجدوا فيهم ما يحتاجون إليه فاتخذوا
بيوتًا منها أنصارًا لهم عند الحاجة وعرف هؤلاء حاجة الأمراء إليهم فارتفعوا في
أعينهم وصار لهم من الأمر مثل ما لهم أو ما يقرب من ذلك. لهذا كنت ترى في
البلاد بيوتًا كبيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم.
ذلك كان يقضي على كل أمير من أولئك الأمراء أن يصرف زمنه في التدبير
واستجلاب النصير، وإعداد ما يستطيع من قوة لحفظ ما في يده والتمكن من
إخضاع غيره، أنصاره من الأهالي كانوا يجارونه في ذلك خوفًا من تعدي أعوان
خصمه عليهم فوقعت القسمة بين الأهالي ولا تزال أسماء الأقسام معرفة إلى اليوم -
سعد وحرام، هذا يحدث بطبعه في النفوس شممًا وفي العزائم من قوة ويكتسب
القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احترقت نوعها. فكانت العناصر جميعها
في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه ويعرف العالم بمكانته.
جاء الجيش الفرنساوى والبلاد في هذه الحالة. دخل البلاد بسهولة لم يكن
ينتظرها، احتل عاصمتها واستقر له السلطان فيها. لم تكن أيام قلائل حتى
ظهر فيه القلق وعظمت حوله القلاقل ولم تنقطع الحروب والمناوشات ولم يهدأ
لرؤساء العساكر بال. يدلك على ذلك شكوى نابليون نفسه في تقاريره التي كان
يرسلها إلى حكومة الجمهورية من اصطياد العربان لعساكره من كل طريق، وسلبهم
أرواحهم بكل سبيل، واضطر نابليون أن يسير في حكومة البلاد بمشورة أهلها
وانتخب من أعيانها من يشركه في الرأي لتدبيرها طوعًا لحكم الطبيعة التي
وجدها.
قتل بعض رؤساء الجيش واضطربت عليه البلاد، وجاء الجيش العثماني
وعاونه الجيش الإنكليزي وخرجت عساكر الفرنساويين من مصر، ولا أطيل الكلام
فقد ظهر محمد علي بالوسائل التي هيأها له القدر.
ما الذي كانت تنتظره البلاد من نوع حكومتها؟ كانت تنتظر أن يشرق نور
مدنية يضيء لرؤساء الأحزاب طرقهم في سيرهم لبلوغ آمالهم، وقد كان ذلك يكون
لو أمهلهم الزمان حتى يعرف كل منهم ما بلغ به غيره الغاية التي كان يقصدها في
بلاد غير بلاده. وما كان بينهم وبين ذلك إلا أن يختلطوا بأهل البلاد الغريبة
ويرتفع الحجاب الذي أسدله الجهل دونهم. أو كانت تنتظر أن يأتي أمير عالم
بصير فيضم تلك العناصر الحية بعضه إلى بعض ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة
منها ويأخذها منها ويأخذ في تقوية مصباح العلم حتى ترتقي بحكم التدريج الطبيعي
وتبلغ ما أعدته لها تلك الحياة الأولي.
ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت. كان
معظم قوة الجيش معه وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة فأخذ يستعين بالجيش وبمن
يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه ثم يعود بقوة الجيش وبحزب
آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه وهكذا حتى إذا
سُحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدَع منها رأسًا
يستتر فيه ضمير (أنا) واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من
الأهلين وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منم وأجهز
على ما بقي في البلاد من حياة في أنفُس بعض أفرادها فلم يبقِ في البلاد رأسًا يعرف
نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه.
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه على أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يُبقِ في البلاد إلا آلات له
يستعملهافي جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه فمحق بذلك
جميع عناصر الحياة الطبيعية من رأي وعزيمة واستقلال نفس ليصيّر البلاد
المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة كانت
لأمراء عدة.
ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأنْ يكون ملكًا غير تابع للسلطان العثماني
فجعل من العُدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين فأوسع لهم في المجاملة
وزاد لهم في الامتياز خارجًا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة
العثمانية صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكًا من الملوك في بلادنا يفعل
ما يشاء ولا يُسأل عما فعل. وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة
الحاكم وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرم منها وانقلب الوطني غريبًا في داره،
غير مطمئن في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته
الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم
غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة.
قالوا: إنه طلع نجم العلم في سماء البلاد. نعم عني بالطب لأجل الجيش
والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم.
وبالهندسة لأجل حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير، ليستغل إقطاعه الكبير.
هل تَفكر يومًا في إصلاح اللغة عربية أو تركية أو أرنؤدية؟ هل تفكر في
بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي
رأيًا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ هل توجهت نفسه لوضع
حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ لم يكن شيء من ذلك بل كان
رجال الحكومة إما من الأرنؤد أو الجراكسة أو الأرمن المورلية أو ما أشبه هذه
الأوشاب، وهم الذين يسميهم بعض الأحداث من أنصاره اليوم دُخلاء. وكانوا
يحكمون بما يهوون لا يرجعون إلى شريعة ولا قانون، وإنما يبتغون مرضاة الأمير
صاحب الإقطاع الكبير.
أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة؟ أين
البيوت المصرية التي كانت لها القَدَم السابقة في إدارة حكومته أو سياستها أو سياسة
جندها مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد الثابتة الأوتاد.
أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها. فهل أطلق لهم الحرية
أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس
لها إرادة فيما تصنع. وُجد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، ووجد بعض
المهندسين الماهرين وليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن
فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من الأعوان
مسلطًا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب
أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من
النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين.
هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هي؟ وأين الذين نبغوا من
طلابها؟ فإن وُجد أحد نابغ، فهل هو من المصريين؟ عدوا إن شئتم أحياءً أو
أمواتًا.
وجد كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب
ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طبعت وغلقت عليها الأبواب إلى
أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها، وتخفيف ثقلها
عنها، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول، وهذا يدلنا على أنها ترجمت
برغبة بعض الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم
ينجحوا؛ لأن حكومة محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون.
كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى (الأفناء: الناس ...
المجهولون) كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم في
العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة
كما كان يخيفهم من الجيش.
حمل الأهالي على الزراعة ولكن ليأخذ الغلات، ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر، والموت الأحمر. وقوانين
الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك.
يقولون: إنه أنشأ المعامل والمصانع! ولكن هل حبب إلى المصريين العمل
والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم؟ وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم
الصنعة وينشرونها في البلاد؟ أين هي؟ ومن كانوا؟ وأين آثارهم؟ لا بل بغّض
إلى المصريين العمل والصنعة بتخسيرهم في العمل والاستبداد بثمرته فكانوا
يتربصون يومًا لا يعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين
عليه، لاعنين الساعة التي جاءت بهم إليه.
يقولون: إنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به الممالك ودوخ به الملوك وأنشأ أسطولاً
ضخمًا تُثقل به ظهور البحار، وتفتخر به مصر على سائر الأمصار. فهل
علَّم المصريين حب التجنيد، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب وحبب إليهم
الخدمة في الجندية وعلمهم الافتخار بها؟ لا بل علمهم الهروب منها وعلم آباء
الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت بعد أن كانوا
ينتظمون في أحزاب الأمراء ويحاربون ولا يبالون بالموت أيام حكم المماليك
وكان من ينتظم في الجندية على عهجد محرر مصر لا يخرج منها إلا بالموت. ... هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه، وهل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه بأن يقول هذا جيشي وأسطولي أو جيش بلدي أو أسطوله؟ كلا لم
يكن شيء من ذلك، فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونًا لظالمه فهي
قوة خصمه. كذلك كان يعدها كل عثماني في مصر أو في غير مصر. ليقل لنا
أنصار الاستبداد كم كان في الجيش من المصريين الذين بلغوا في رتب الجندية إلى
رتبة البكباشي على الأقل؟ فما أثر ذلك في حياة مصر والمصريين إلا أسوأ الأثر، كله شر في شر؛ لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت.
ظهر الأثر العظيم عندما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي. دخل الإنكليز مصر
بأسهل ما يدخل به دامر على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس
تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها، وهو ضد ما رأيناه عند دخول
الفرنساويين إلى مصر، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير
وجهله الأحداث، فهم يسألون أنفسهم عنه ولا يهتدون إليه.
لا يستحيي بعض الأحداث من أن يقول: إن محمد علي جعل من جدران
سلطانه بنية من الدين، أي دين كان دعامة لسلطان محمد علي؟ دين التحصيل،
دين الكرباج. دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده. وإلا فليقل لنا أحد من الناس
أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي الجليل؟ لا يذكرون إلا
مسألة الوهابية وأهل الدين يعلمون أن الإغارة فيها كانت على الدين لا للدين، نعم
إن الوهابية غلوا في بعض المسائل غلوًّا أنكره عليهم سائر المسلمين، وما كان
محمد علي يفهم هذا ولا سفك دماءهم لإرجاعهم إلى الاعتدال وإنما كانت مسألة
سياسية محضة تبعها جراءة محمد علي على سلطانه العثماني فكان معه ما كان مما
هو معروف.
نعم: أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيء من النقد يسمى فائض
رزنامه لا يساوي جزءًا من الألف من إيراده. وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما
لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل
ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة.
وقصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخِلَع أو إجلاسهم
على الموائد لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك، وأفاضل العلماء كانوا
عليه في سخط ماتوا عليه.
ولا أظن أن أحدًا يرتاب بعد عرض تاريخ محمد علي على بصيرته أن هذا
الرجل كان تاجرًا زارعًا وجنديًا باسلاً. ومستبدًّا ماهرًا لكنه لمصر قاهرًا، ولحياتها
الحقيقية معدمًا، وكل ما نراه الآن فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره متعنا الله
بخيره وحمانا من شره والسلام.
مؤرخ
__________(5/175)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بقية الاجتماع الثالث لجمعية أم القرى
(المنعقد في مكة المكرمة في 18 ذي القعدة سنة 316)
أجاب (السعيد الإنكليزي) إن المسلمين من حيث مجموعهم أغنياء لا
يعوزهم المال اللازم للتدرج في العلوم حتى للسياحات البحرية والقطبية؛ لأن
فريضة الزكاة على مالكي النصاب والكفارات المالية جاعلة لفقراء الأمة وبعض
الشؤون العمومية نصيبًا غير قليل من مال الأغنياء، إذا عاش المسلمون مسلمين
حقيقة أمنوا الفقر، وعاشوا عيشة الاشتراك العمومي المنتظم التي يتمنى ما هو من
نوعها أغلب العالم المتمدن الإفرنجي الذين لم يهتدوا بعد لطريقة نيلها مع أنه تسعى
وراء ذلك منهم جمعيات وعصبيات مكونة من ملايين باسم (كومون وفنيان
ونيهلست وسوسيالست) كلها تطلب التساوي أو التقارب في الحقوق والحالة
المعاشية، ذلك التساوي والتقارب المقررين في الشريعة الإسلامية دينًا بوسيلة أنواع
الزكاة والكفارات، ولكن تعطيل إيتاء الزكاة وإيتاء الكفارات سبب بعض الفتور
المبحوث فيه، كما سبب إهمال الزكاة فقد الثمرات العظيمة، من معرفة المسلم ميزانية
ثروته سنويًّا فيوفق نفقاته على نسبة ثروته ودخله ولا شك أن الواحد من الأربعين يفي
أن يبذل لأجل هذه الثمرة وحدها، والشريعة الإسلامية هي أول شريعة ساقت الناس
والحكومات لأصول الميزانية المؤسس عليه فن الاقتصاد المالي الأفرادي
والسياسي.
ويخيل إليَّ أن سبب هذا الفتور الذي أخلَّ حتى بالدين هو فقد الاجتماعات
والمفاوضات، وذلك أن المسلمين في القرون الأخيرة قد نسوا بالكلية حكمة تشريع
الجماعة والجمعية وجمعية الحج، وترك خطباؤهم ووعاظهم خوفًا من الأمراء
التعرض للشئون العامة كما أن علماءهم صاروا يسترون جبنهم بجعلهم التحدث في
الأمور العامة والخوض فيها من الفضول والاشتغال بما لا يعني وعدهم إتيان ذلك
في الجوامع من اللغو الذي لا يجوز وربما اعتبروه من الغيبة أو التجسس أو السعي
بالفساد؛ فسرى ذلك إلى أفراد الأمة وصار كل شخص لا يهتم إلا بخويصة نفسه
وحفظ حياته في يومه كأنه خلق أمة وحده وسيموت غدًا وهكذا صار المسلم جاهلاً
أن له حقوقًا على الجامعة الإسلامية والجامعة البشرية وأن لهما عليه مثلها ذاهلاً عن
أنه مدني بالطبع لا يعيش إلا بالاشتراك ناسيًا أو هاجرًا أوامر الكتاب والسنة له
بذلك (مرحى) .
ثم بتوالي القرون والبطون على هذه الحال تأصل في الأمة فقد الإحساس إلى
درجة أنه لو خربت هذه الكعبة - والعياذ بالله تعالى - لما تقطبت الحياة أكثر من
لحظة، ولا أقول لما زاد تلاطم الناس على سبعة أيام كما ورد في الأثر؛ لأن
المراد بأولئك الناس أهل ذاك الزمان.
وإذا دققنا النظر فى حالة الأمم الحية المعاصرة وهى ليس عندها ما عندنا من
الوسائل الشريفة للاجتماع والمفاوضات نجدهم قد احتالوا للاجتماعات ولاسترعاء
السمع وتوجيه النظر بوسائل شتى.
(1) منها تخصيصهم يومًا في الأسبوع للبطالة والتفرغ من الأشغال
الخاصة لتحصل بين الناس الاجتماعات وتنعقد الندوات فيتباثُّون
ويتناجون.
(2) ومنها تخصيصهم أيامًا يتفرغون فيها للمذاكرة في مهمات الأعمال
لأعاظم رجالهم الماضين تشويقًا للتمثل بهم.
(3) ومنها إعدادهم في مدنهم ساحات ومنتديات تسهيلاً للاجتماع
والمذاكرات وإلقاء الخطب وإبداء التظاهرات.
(4) ومنها إيجادهم المنتزهات الزاهية العمومية وإجراء الاحتفالات
الرسمية والمهرجانات بقصد السوق للاجتماعات.
(5) ومنها إيجادهم محلات التشخيص المعروف (الكوميديا) و (التياترو)
بقصد إراءة العبر واسترعاء السمع للحكم والوقائع، ولو ضمن أنواع من الخلاعة
اتخذت شباكًا لمقاصد الجمع والإسماع ويعتبرون أن نفعها أكبر من ضرر الخلاعة.
(6) ومنها اعتناؤهم غاية الاعتناء بتعميم معرفة تواريخهم الملية المفصلة
المدمجة بالعلل والأسباب تمكينًا لحب الجنسية.
(7) ومنها حرصهم على حفظ العاديّات المنبهة وادخار الآثار القديمة
المنوهة واقتناء النفائس المشعرة بالمفاخر.
(8) ومنها إقامتهم النُّصُب المفكرة بما نصبت له من مهمات الوقائع القديمة.
(9) ومنها نشرهم في الجرائد اليومية كل الوقائع والمطالعات الفكرية.
(10) ومنها بثهم في الأغاني والنشائد الحكم والحماسات إلى غير ذلك من
الوسائل التي تنشئ في القوم نشأة حياة اجتماعية وتولد في الرءوس حمية وحماسة
وفي النفوس سموًّا ونشاطًا.
أما المسلمون فإنهم كما سبق بيانه أهملوا استعمال تلك الوسائل الشريفة
المؤسسة عندهم للشورى والمفاوضات والتناصح والتداعي، أعني بذلك الجماعة
والجمعية وجمعية الحج حتى كأن الشارع لم يقصد منها غير أداء الفريضة فقط
بصورة تعبدية بسيطة، والحال أن حِكمة الشارع أبلغ من ذلك، وعندي أن هذا
أعظم أسباب الفتور (مرحى) .
فأجابه (الإمام الصيني) إن هذا أشبه بالعوارض منه بالأسباب، فهو أليق
بأن يكون دواء للداء ونحن مهتمون ابتداءً بمعرفة سبب الفتور.
ثم قال: إني أرى أن السبب الأكبر للفتور هو تكبر الأمراء وميلهم للعلماء
المتملقين المنافقين الذين يتصاغرون لديهم ويتذللون لهم ويحرفون أحكام الدين
ليوفقوا بينها وبين أهوائهم، فماذا يُرجى من علماء يشترون بدينهم دنياهم ويُقَبِّلُون
يد الأمير ليُقَبّل العامة أيديهم ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على ألوف من
الضعفاء، أكبر همهم التحاسد والتباغض والتجادل والتفاضل لا يُحْسِنُون أمرًا من
الأمور حتى الخصومة؛ فتراهم لا يرغمون إلا بتكفير بعضهم بعضًا عند الأمراء
والعامة.
وهذا داء عُياء صعب المداواة جدًّا؛ لأن كِبْر الأمراء يمنعهم من الميل إلى
العلماء العاملين الذين فيهم نوع غلظة لا بد منها ونعمًا هي مزية لولاها لفقد الدين
بالكلية (مرحى) .
فلا شك أن أفضل الجهاد في الله في هذا الزمان الحط من قدر العلماء المنافقين
عند العامة وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين حتى إذا رأى الأمراء انقياد
الناس لهؤلاء أقبلوا عليهم أيضًا رغم أنوفهم وأذعنوا لهم طوعًا أو كرهًا على أنه
يجب على حكماء الأمة المجاهدين في الله أن يعتنوا بالوسائل اللينة لتثقيف عقول
العلماء العاملين؛ لأن العِلم رافع للجهل فقط ولا يفيد عقلاً ولا كياسة فيلزم تعليمهم
وتعريفهم كيف تكون سياسة الدين وهكذا يفعل الحكماء عندنا، معاشر إسلام الصين
ولا تفقد أية بلدة كانت رجالاً حكماء نبلاء يمتازون طبعًا على العامة، لهم نوع من
الولاء حتى على العلماء.
وهؤلاء الذين نسميهم عندنا بالحكماء هم الذين يطلق عليهم في الإسلام اسم
أهل الحل والعقد الذين لا تنعقد (الإمامة) شرعًا إلا ببيعتهم وهم خواص الطبقة
العليا في الإسلام الذي أمر الله عز شأنه نبيه بمشاورتهم في الأمر الذين لهم شرعًا
حق الاحتساب والسيطرة على الإمام والعمال؛ لأنهم رءوساء الأمة ووكلاء العامة
والقائمون في الحكومة الإسلامية مقام مجالس النواب والأشراف في الحكومات
المطلقة كالصين وروسية ومقام شيوخ الأفخاذ في إزاء أمراء العشائر العربية،
أولئك الأمراء الذين ليس لهم من الأمر غير تنفيذ ما يبرمه الشيوخ.
وإذا دققنا النظر في آراء الحكومات الإسلامية من عهد الرسالة إلي الآن نجد
ترقيها وانحطاطها تابعَين القوة أو ضعف احتساب أهل الحل والعقد واشتراكهم في
تدبير شئون الأمة.
وإذا رجعنا البصر إلى التاريخ الإسلامي نجد أن النبي عليه السلام كان أطوع
المخلوقات للشورى امتثالاً لأمر ربه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) حتى إنه ترك الخلافة لمجرد رأي الأمة.
ثم كان أول الخلفاء رضي اللهعنه أشبه به حتى إنه أخذ رأي سراة الصحابة فيمن استخلف. ثم إن الخليفة الثاني اتبع أثر الأول وإن استأثر في ترتيب الشورى فيمن يخلفه ثم لما اجتهد الخليفة الثالث في مخالفة رؤساء الصحابة في بعض المهمات
لم يستقم له الأمر وظهرت الفتن كما هو معلوم ثم إن معاوية رحمه الله كان قليل
الاستقلال بالرأي فحسنت أيامه عما كان قبلها. وهكذا كانت دولة الأمويين تحت
سيطرة أهل الحل والعقد لا سيما من سراة بني أمية فانتظمت على عهدهم الأحوال
كما كان كذلك على عهد صدر العباسيين حيث كانوا مذعنين لسيطرة رؤساء بني
هاشم ثم لما استبدوا في الرأي والتدبير فخالفوا أمر الله واتباع طريقة رسول الله
ساءت الحال ففقدوا الملك.
وهكذا عند التدقيق في كل فرع من الدول الإسلامية والحاضرة، بل في
ترجمة كل فرد من الملوك والأمراء، بل في حال كل ذي عائلة أو كل إنسان فرد
نجد الصلاح والفساد دائرين مع سنة الاستشارة أو الاستقلال في الرأي.
فإذا تقرر هذا علمنا أن سبب الفتور العام المبحوث فيه هو استحكام الاستبداد
في الأمراء عُتوًّا وتَكبرًا، وترك أهل الحل والعقد الاحتساب جهلاً وجبانة، وهذا
عند بعض الأقوام المسلمين، وأما الأكثر فقد أمسوا لا علماء هداة ولا سراة أُباة بل
هم فوضى في الدين والدنيا ولا بدع فيمن يكونون على مثل هذه الحال أن لا يرجى
لهم دواء إلا بعناية بعض الحكماء الذين ينتخبون من أية طبقة كانت من الأمة وقد
قضت سنة الله في خلقه أن لا تخلو أمة من الحكماء.
فأجاب (العالم النجدي) إن شئون السياسة في الصين تختلف كثيرًا عنها في
غيرها، وليس في الصين ملوك كثيرة وأمراء جبابرة كما عند غيرهم، فالحكماء
في الصين آمنون من جهة أخرى لم يزل الإسلام في الصين حنيفًا خفيفًا لم يفسده
التفنن والتشديد وعلى ذلك نرى الفتور شاملهم أيضًا، ونحن الآن نبحث عن السبب
العام لهذا الدواء وليس كل السبب أحوال الأمراء والعلماء.
ثم قال: إني أجزم ولا أقول أظن أو إخال أن سبب الفتور الطارئ الملازم
لجماعة هذا الدين هو هذا الدين الحاضر ذاته ولا برهان أعظم من الملازمة وما
جاء الخفاء من شدة الوضوح، فهل بقي من شك بعد هذه الأبحاث التي سِيقت في
جمعيتنا ولا سيما ما بينه المحقق المدني في أن الدين الموجود الآن بالنظر إلى ما
ندين به لا بالنظر إلى ما نقرره وباعتبار ما نفعله لا باعتباره ما نقوله ليس هو
الدين الذي تميزت به أسلافنا متين من السنين على العالمين كلا بل طرأت على
الدين طوارئ تغيير غيرت نظامه.
وذلك أن الخلف تركوا أشياء من أحكامه كإعداد القوة بالعلم والجهاد في الدين
والأمر بالمعروف وإزالة المنكر وإقامة الحدود وإيتاء الزكاة وغير ذلك مما أوضحه
الإخوان الكرام، وزاد المتأخرون بدعًا وتقليدات وخرافات ليست منه كشيوع عبادة
القبور والتسليم لمدعي والتصرف في المقدور.
وهذه الطوارئ من تغييرات أو متروكات أو مزيدات أكثرها يتعلق بأصول
الدين وبعضها بأصل الأصول؛ أعني التوحيد، وكفى بأن يكون ذلك سببًا للفتور
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11) - مرحى.
ولقائل أن يقول: إن سلمنا أن الدين تغير عما كان عليه فما تأثير ذلك في
الفتور العام الذي هو من شأن الحياة الدنيا، وها نحن أولاء نجد أكثر الأمم الحية
التي نغبطها، قد طرأ على دينها التغيير والتبديل في الأصول والفروع ولم يؤثر
ذلك فيها الفتور بل زعم كثير من حكماء تلك الأمم أنهم ما أخذوا في الترقي إلا بعد
عزلهم شئون الدين عن شئون الحياة وجعلهم الدين أمرًا يتعلق بالنفس ولا علاقة له
بشئون الحياة الجارية على نواميس الطبيعة.
فالجواب على ذلك أنه كما يطالب كل إنسان بأن يكون صاحب ناموس أي
متبعًا على وجه الاطراد في إخلافه وإعماله قانونًا ما موافقًا ولو في الأصول فقط
لقانون الهيئة الاجتماعية التي هو منها وإلا فيكون لا ناموس له منفورًا منه مضطهدًا
فكذلك كل قوم مكلفون بأن يكون لهم ناموس عام بينهم ملائم لجملة لقوانين الأمم
التي لها معهم علاقات جوارية أو تجارية أو مناسبات سياسية وإلا فيكونون قومًا
متوحشين لا خلاق لهم ولا نظام منفورًا منهم مضطهدين.
وذلك أن الناموس الطبيعي في البشر هو ناموس وحشي لا خير فيه؛ لأن
مبانيه هي تنازع البقاء وحفظ النوع والتزاحم على الأسهل والاعتماد على القوة
وطلب الغايات، وحب الرئاسة وحرص الادخار ومجاراة الظروف وعدم الثبات
على حال إلى غير ذلك وكلها قواعد شر ومجالب ضر لا يلطفها غير ناموس
شريف واحد مودوع في فطرة الإنسان وهو إذعانه الفكري للقوة الغالبة أي معرفته
الله بالاهتمام الفطري الذي هو إلهام النفس رشدها {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس: 8) .
ولا ريب في أن الفطرة الدينية في الإنسان علاقة عظمى في شئون حياته؛
لأنها أقوى وأفضل وازع يعدل سائر نواميسه المضرة ويخفف مرارة الحياة التي لا
يسلم منها ابن أنثى، وذلك بما يؤمله المؤمن من المجازاة والمكافأة والانتقام منه وله
(مرحى) .
وعند تدقيق النظر في حالة جميع الأديان والنحل تدقيقًا تاريخيًّا توجد كلها
ناشئة عن أصل بسيط سماوي لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا ويوجد أن كل دين كان في
أوله باثًا في أهله النظام والنشاط وراقيًا بهم إلى أوج السعادة في الحياة إلى أن يطرأ
عليه التأويل والتحريف والتفنن والزيادات رجوعًا إلي أصلين اثنين:
(الإشراك بالله. والتشديد في الدين) ؛ فيأخذ في الانحطاط بالأمة ولا يزال نازلاً
بها إلي أن تبلغ حالة أقبح من الحالة الأصلية الهمجية فتنتهي بالانقراض أو الاندماج
في أمة أخرى. أو بتدارك الله تلك الأمة بعناية فيبعث لهم رسولاً يجدد دينهم أو
يخلق فيهم أنبياء أو حكماء يصلحون لهم ما فسد من دينهم كما حصل ذلك في الأمم
الماضية كعاد وثمود وكالسريان وإسرائيل وكنعان وإسماعيل وكما قال الله
تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون} (التوبة: 115)
وعند التأمل يوجد الشرك والتشديد كأنهما أمران طبيعيان في الإنسان يسعى
وراءهما جهده بسائق النفس وقائد الشيطان؛ لأن النفس تميل إلي عبادة المشهود
الحاضر أكثر من ميلها إلى عبادة المعقول الغائب، ومفطورة على التشديد رغبة في
التميز، والشيطان يسعف النفس بالتسويل والتأويل والتحويل والتضليل إلى أن
يفسد الدين (مرحى) .
ثم إذا دققنا النظر في حالة الإسلامية في القرون الأخيرة نجدها عند أكثر أهل
القبلة قد أصابها بعض ما أصاب غيرها من الأديان قبلها كما أخبرنا الله تعالى
بقصصها في كتابه المبين ووعدنا بوقوعنا فيه سيد المرسلين وأرشدنا إلى طرائق
التخلص منه إن كنا راشدين.
أعني بذلك ما طرأ على الإسلامية من التأويل والتحريف في بعض أصولها
وكثير من فروعها حتى استولى عليها التشديد والتشويش وتطرق إليها الشرك الخفي
والجلي على يمينها وشمالها فأمست إلى التجديد بتبيين الرشد من الغي وعندي أن
هذه الحال وأعظم سبب الفتور المبحوث فيه قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} (طه: 124) (مرحى) .
وأنتم أيها السادة الأفاضل في غناء عن إيضاح ذلك لكم بوجه التفصيل.
قال (الأستاذ الرئيس) : إني أرى أن البحث في أعراض الداء وأسبابه
وجراثيمه وما هو الدواء وكيف يستعمل قد نضج أو كاد، وقد قررنا في اجتماعنا
الأول أننا سنبحث في ما هي الإسلامية وما يتبع ذلك مما أدرجناه في برنامج
المباحث، وإني أرى تقرير أخينا العالم النجدي نِعم المدخل لنقل البحث ولا سيما
إذا تَكرم بتفصيل ما أجمله؛ لأن مسائل منشأ الديانات وسنن الله في مسراها
وأسباب طوارئ التغيير والتحريف عليها كلها مسائل مهمة تقضي تدقيق النظر
واستقصاء التحقيق وتحسن فيها الإطالة والاستيعاب عليه، نرجو من العالم النجدي
أن يتكرم بإعادة ما قرره صورة مفصلة في اجتماعنا إذ قد أذن لنا الوقت
بالانصراف اليوم. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/183)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر [*]
تربية الذكور مع الإناث وتعليمهما معاً
الشذرة الثالثة من جريدة أراسم
إني لا أخشى مغبة إفراطي وإفراط هيلانه في مَيْلنا إلى تلك الصبية التي
ألقتها العاصفة بين أيدينا لجواز أن يطلبها بعض ذويها يومًا ما، وكيفما كانت
نتيجة هذا الميل فلا بد له هنا من إثبات أمر يتعلق بعلم تركيب الإنسان ووظائف
أعضائه فأقول: كانت دولوريس لما التقطناها وآوينها إلى بيتنا محلاًّ لجميع العيوب
التي توجد في نظائرها اللاتي من قبيلها وبلادها فإنها كانت مع ظرافتها مكسالاً وأناة
قليلة العناية بشأنها، وإن كان لا بد من التصريح، قلت: إنها كانت كثيرة الوساخة،
وكان هذا الإغفال منها لنفسها مع مقدار عظيم من التغنج والتدلل من موجبات تكدر
هيلانه وحزنها، ولم ينجع في الكسر من زهوها والمطامنة من صلفها ما اتخذته
لذلك من العظات وضروب التوبيخ وأنواع الإيلام الخفيفة ولِمَا كان فيها من حدة
المزاج والتهيج عند مخالفتها فيما تريد كانت لا تبدي أدنى إشهاء للتعليم. أفرغت
هيلانه جهدها في إيقاظ عقل هذه الحسناء ناعسة الغابة [1] من سباته، فأخفق
مسعاها وبطل أثر ما استعملته من التعاويذ والطلاسم لرد هذا السحر الذي لا يدرى
أي جنية خبيثة من جنيات البيرو رمتها به على ما يظهر وإن أردت أن تعلم من
الذي أبطل هذا السحر فاعلم أنه (أميل) .
ذلك لأن مَيْلَ (لولا) إلى أن تعجبه وأن تتحامى ضروب سخريته بها وأنواع
زرايته عليها كان أشد تأثيرًا في إرادتها من جميع عظاتنا ونصائحنا.
كان هذا أول سلطان (لأميل) على قلبها وهي لا خطر فيه في سنهما.
من ذلك الحين وقع التنافس بينهما أما من جهته فلشدة زهوه وفخره بما له من
التقدم عليها في علومه القليلة وأما من جهتها فلغيرتها ورغبتها في منازعة ذلك التقدم،
والمرجو من هذا التنافس أن يعود دائمًا بفائدة على كليهما فإن درسهما مجتمعين
أحسن وأتقن منه منفردين؛ لأنه إذا اعتبر (أميل) نفسه أعلم من (لولا) اجتهدت
في التبريز عليه في ميدان المطالعة.
أرى أن هذه الصحبة تفيدها في أخلاقها أيضًا فائدة كبرى فإن الأطفال على
علم تام بما يشتركون فيه من العيوب، ولا يبقي بعضهم على بعض في تشهيرها
وتعييره إياها لذلك نرى (أميل) قلما يوقر (لولا) فيما يراه فيها من النقائص،
وهي أيضًا لا تقصر في أن تكيل له الصاع بمثله بدون أن يكون في هذه المشاغبات
الخفيفة ما يكدر صفو مودتهما الشريفة في شيء، وكأني بقائل يقول: إن هذه
المزايا بعينها توجد في معاشرة الأخ لأخته ووجودهما معًا! فأجيبه بأني في شك من
ذلك لعدم تمام الشبه في الجهتين.
زرت فيما مضى مدرسة للصم البكم كانت تنقسم في أول نشأتها إلى قسمين:
أحدهما للذكور والآخر للإناث فلم تلبث التجربة أن كشفت عيوب هذا التقسيم فإن
الصبايا اللاتي كن مقصورات في قسمهن كان يبدو عليهن التأخر عن الغلمان سنة
أو سنتين ولم يكن الغلمان أنفسهم بارعين في التقدم والنجاح فخطر في بال القائمين
على المدرسة أن يجمعوا الفريقين في غرف واحدة فكانت نتيجة هذا التغيير محمودة
فإنه لم يمضِ إلا يسير من الزمن حتى زال تأخر أحد الفريقين وانحطاطه عن الآخر
وتقدم الآخر تقدمًا لا نزاع فيه، ذلك لأن العُجب الذي هو خلق فطري في الذكر
والأنثى والطمع الذي هاجه في نفوس الغلمان وجود منافسات زاهيات بأنفسهن بينهم
واهتمامهم بأن يظهروا في أعينهن ممتازين عنهن كل ذلك ساعد من الجهتين على
ازدياد درجة معارفهم في دروسهم مع أنهم كانوا هم التلامذة الأولين لم يتغيروا وإنما
ظهر أن قواهم تضاعفت. لماذا لا يصح في حق الناطقين والناطقات ما صح في
حق الصم والبكم.
إنما يعارض القائمون على تربية الناشئين في الجمع بين الذكور والإناث
بحجة المحافظة على الأخلاق والآداب، ولو كانت هذه المعارضة مبنية على سبب
صحيح لكانت وجيهة سديدة ولكن لا بد أن نجيب هؤلاء المعارضين بأنه لم يفكر أحد
مطلقًا في جمع هذين الصنفين في قاعات النوم العامة، ولا شك أن تقسيم محالّ
المدرسة وأفنيتها والرياضيات المدرسية بالحكمة والتدبير يجنب كثيرًا من المضار
التي يخشى منها على الآداب والأخلاق.
على أن العمل العقلي إنما جعل لتذليل الغرائز والشهوات الخبيثة وقمعها لا
تنبيهها وتقويتها وإني خلافًا لأولئك المعارضين أرى أن في التفريق الكلي بين
الصنفين خطرًا على الفضيلة فإن فرط الاحتراس والاحتياط الصادر عن الرياء
والنفاق لا يكون منه إلا دعوة الفساد إلى الاحتيال للتطرق إلى الأخلاق من سبيل
الشر فلا يلبث أن يظهر فيها، وإن كثرة بث روح الحذر في أطهر المعاملات
وأعفها توقظ في اليافعين ما هو نائم من شهواتهم، وتظهر ما يكون كامنًا من
أشواقهم؛ فينبغي أن تزال هذه الحدود المادية ويعتاض منها بحدود الله التي فطرهم
عليها وجعلها في نفوسهم سياجًا لما فرضه عليهم.
لا أريد مما تقدم أن الذكر والأنثى في التربية سيان يصلح لأحدهما كل ما
يصلح للآخر، كلا بل إن كلاًّ منهما يقتضي تربية خاصة لاختلافها في المواهب
والفروض والغرض المخلوقَيْن من أجله، على أننا نرى النابغين والنابغات من
الصنفين يتكافئون ويتناسبون في بعض ذرى العلوم والفنون الجميلة والشعر،
فالأجدر بنا أن نفكر بإعداد الازدواج بين ما أوتيته الأنثى من رقة الوجدان وما
أوتيه الذكر من حصافة الجنان، فإن في ذلك لذة حياة الصنفين. وإن تربية شطري
النوع الإنساني منعزلين كأنهما لا يشتركان في شيء مما خلقا لأجله تعجيلاً بقطع
الصلة الاجتماعية، وأما تقديم الصبية إلى الصبي وتفهيمه أنها ستكون له في
المستقبل رفيقة في العمل والكدح في سبيل الخير والعدل والحق فهو أكثر انطباقًا
على مقتضى الفطرة وعلم الأخلاق.
وعلى كل حال ستتعلم (لولا) و (أميل) معًا إلى أن يقضي الحال التفريق.
إني لأرجو لكل منهما خيرًا كثيرًا من وراء هذا الاقتران العقلي.اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) يلمح المؤلف بقوله: (هذه الحسناء ناعسة الغابة) إلى أسطورة من أساطير الكاتب الفرنساوي شارل بيرولت المسماة حكايات الجن، ملخصها أن أحد الملوك وزوجته ابتليا بالعقم مدة طويلة ثم رزقا فتاة حسناء، فجعلاها في كفالة سبع جنيات، وأولما لهن وليمة أعدا فيها لكل واحدة منهن صحفة فاخرة لها كيس من الذهب الخالص فيه ملعقة وشوكة وسكين من الذهب أيضا، وفي أثناء جلوسهن على المائدة جاءت جنية عجوز ثامنة لم يكن حضورها في الحساب، فقدمت لها صحفة بلا كيس فظنت ذلك احتقارًا لها، فخافت إحدى الجنيات أن تسيء هذه العجوز إلى المولودة، فخرجت، ثم إن كلاًّ من الأخريات منح المولودة صفة جميلة ما عدا العجوز فإنها قالت: إن الفتاة ستخرق يدها بمغزل وتموت، فجاءت الجنية التي خرجت وقالت: إنها لن تموت، ولكن يغشاها النعاس مائة سنة ولا يوقظها إلا ابن ملك من الملوك، ثم اتفق أن الفتاة رأت مغزلا في يد عجوز فتناولته فخرق يدها فسقطت نائمة، ثم نقلت إلى قصر لوالدها في غابة، وبعد مائة سنة أيقظها ابن ملك وتزوجها.(5/190)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قوانين التعليم الرسمي
النبذة الثالثة في تعليم البنات
إن المغامز العشرة التي ذكرناها في النبذة الثانية من انتقاد قوانين التعليم
الرسمي كانت في موضوع تعليم الدين، وقد فاتنا التنبيه على مغمز آخر عظيم وهو:
(11) لم يرد في قانون التعليم ما يدل على أن البنات يُعلَّمن ما يختص
بالنساء من الأحكام والآداب الدينية، ورجعنا إلى كتب التعليم فلم نجد فيها شيئًا من
ذلك. ونحن نعلم كما تعلم نِظارة المعارف أن النساء ليس لهن مورد من موارد العلم
إلا هذه المدارس فإذا جاز أن يكتسب التلميذ بعض ما يفوته من الأحكام الدينية في
المدرسة بمعاشرة أهل العلم الديني وحضور مجالسهم وسماع الخطب الدينية في يوم
الجمعة وحضور دروس الوعظ في المسجد فمثل هذا لا يتأتى للبنات ولا للنساء؛
لأنه ليس فيهن عالمات بأمور الدين فيقتبس بعضهن من بعض ولم تجر العادة
بحضورهن الجمعة ومجالس العلم في المساجد.
ثم إن البنات أحوج من الصبيان إلى الدين عقائده وأعماله وآدابه لسبب آخر
وهو أن صنفهن في الشرق لا يزال في تأخر عظيم، والنسبة بين الرجال والنساء في
مصر كالنسبة بين المصريين والزنوج فإذا قرأت جريدة أو كتابًا على رجل وامرأة
من الأميين، فإن الرجل يفهم منك ما لا تفهم المرأة، وأكثر النساء لا يفهمن من
المقروء شيئًا ما؛ لذلك نشكر للحكومة ما نراه من الرغبة في تعليم البنات ولكن
التعليم بغير تربية قليل الجدوى، ولا يزال أكثر الناس عندنا يعتقد ضرر التعليم
للبنات وليس لنا من هؤلاء المتعلمات في المدارس حجة عليهم، فإن آداب هؤلاء
البنات غير مُرضية والسبب في ذلك عدم العناية بالتربية التي ملاكها الدين. فإذا
كانت الحكومة توافقنا على أن الحاجة إلى تعليمهن أشد لأنهن أضعف عقلاً؛ فعليها
أن توافقنا على أن الحاجة إلى تربيتهن أشد أيضًا لأنهن أضعف نفسًا.
وهناك وجه ثالث لوجوب العناية بتربيتهن أكثر من تعليمهن وهو أن
وظيفتهن الطبيعية هي التربية لا التعليم فيجب أن تكون التربية هي المقصودة لهن
بالذات من المدارس وأن يكون التعليم ممدًّا لها ومساعدًا عليها. ونظارة المعارف لا
تخالفنا في أن ملاك التربية الدين لا سيما عند المسلمين ولا تقدر أن تنكر تقصيرها
في تعليم الدين وإهمالها لتربيته.
وإن تعجب فعجب أن موظفي النظارة من غير المسلمين كانوا ولا يزالون أشد
محافظة على آداب البنات الإسلامية من كبار الموظفين المسلمين. فمن ذلك أن
بعض الضباط من الإنكليز كان يعلم البنات في المدرسة السنية الألعاب الرياضية
البدنية وهي ضروب شتى منها الانحناء والانثناء وتحريك بعض الأعضاء دون
بعض، وكان المعلم لا يستغني في تعليمه عن اللمس والجسّ وربما تبع ذلك الجَت؛
فراع الأمر بعض المعلمين الذين لم يفقدوا نعرة الدين فاحتالوا في تبليغ ذلك بعض
كبار الموظفين في المعارف من المسلمين وما كانوا جاهلين فلم يُفد ذلك حتى اتفق
أن زار المدرسة يعقوب باشا وكيل النظارة ورأى بعينه ما رأى فعاد إلى الديوان
وأصدر أمرًا بمنع ذلك.
واذكرْ خبر (مسز جِريفِنسْ) الناظرة الأولى للمدرسة السَّنية التي كانت قبل
(فُورْبِز) التي عزلت في السنة الماضية فلقد كانت من خير ما أنبتت أرض
الإنكليز تربية وحرية وفضيلة وإنصافًا ولا أغلو في الإطراء إذا صعدت بها أفق
الفلاسفة والحكماء. ومن أثرها أن اقترحت على نظارة المعارف أن تلزم جميع
البنات في مدارسها بتعلم الديانة الإسلامية والتربية عليها عملاً. قالت: إن تعليمًا
بلا تربية لا يفيد، وإن التربية لا تكون بغير دين وإن توحيد طرق التربية والتعليم
ضروري فلا يصح أن يكون في مدرسة واحدة دينان، وإن أولى الأديان
بالترجيح في مدارس حكومة إسلامية وبلاد إسلامية هو دين الحكومة وأكثر أهالي
البلاد فالنتيجة أنه يجب على نظارة المعارف تعميم الديانة الإسلامية في مدرسة
البنات وجعلها إلزامية.
ومن آثارها تقنيع البنات، وكنَّ قبلها في المدارس حاسرات، فأخبرها
بعض المعلمين لما عرف فضلها بأن كشف رءوس البنات أمام المعلمين محرم في
الديانة الإسلامية وأن الصلاة لا تصح من مكشوفة الرأس، فكتبت إلى النظارة
تطلب أن تجعل لكل بنت في المدرسة قناعين في السنة فأجيب طلبها، فطلب هذه
الناظرة الحكيمة الفاضلة تعميم التربية الدينية حجة على النظارة وقد كانت إحدى
(ضمانات) ناظر المعارف ولكنها لم تغن شيئًا بل لم يطل عليها الأمد في المدرسة
حتى استبدلت بها الناظرة فوربز.
اعتقد المصريون العارفون بخبرها أن المستر دنلوب نَقِمَ عليها أنها غير
متعصبة للديانة المسيحية فأخرجها وهو العامل المستقل في النظارة بدون (ضمانات)
الناظر وزاد هذا الاعتقاد رسوخًا سوء سيرة الناظرة التي خلفتها ولكن القوم لم
يلبثوا أن عزلوا الناظرة الأخرى لما كثر الإرجاف بها وأنكروا عليها محادثة المستر
هوتن المفتش الإنكليزي في المدارس واستبدادها في المدرسة. ويقال: إن اللورد
كرومر هو الذي أوعز إلى الناظرة والمفتش أن يستقيلا معًا وإيعازه حكم لا يرد.
نعم كان من سوء سيرة هذه الناظرة استقالة الأستاذين الفاضلين الشيخ حسن منصور
والشيخ محمد عز العرب من المدرسة ومن خدمة معارف الحكومة وهما من خيرة
الأساتذة تعليمًا وتربية بل لا يوجد في مصر أفضل منهما لتعليم البنات. فكانت
استقالتهما من أسباب سوء الاعتقاد بالنظارة، وإن شئت فقل: بالمحتلين، وكانت
الجرائد كالأهالي مجمعة على عدم الرضا بحالة المدرسة، ولا يوجد فيما أعلم
موظف في الحكومة اتفقت على الارتياح لعزله الجرائد الإسلامية والقبطية
والسورية إلا المستر هوتن وناظرة المدرسة السنية.
عدّ هذا العقلاء مَحمدة للمحتلين ولم يشذ عن هذا إلا حَدَث السياسة المشهور
بالخَطَل في كل ما يكتب فقد اتخذ عزل الناظرة والمفتش دليلاً على سوء قصد
المحتلين ولاك عرضهما لوكًا خرج به عن محيط الأدب وكتب كتابة لا يصح أن
تكتب في الجرائد التي تعرض على جميع الأنظار، ولكن كلامه لا أثر له في الأمة
وقد مضى الزمن الذي كان الناس يرون فيه كل عمل يعمله المحتلون قبيحًا فقد زالت
غشاوة السياسة الخرقاء عن عيون الأكثرين فهم يرون الحسن حسنًا والقبيح قبيحًا
وقد قلنا في النبذة الماضية: إنه لم تبق نظارة ولا مصلحة للحكومة إلا واعترف
الأهالي بالإصلاح الذي حصل فيها إلا نظارة المعارف فإنها لا تزال مثارًا لسوء
الظن؛ لأن الإصلاح الحقيقي إنما يكون في التربية والتعليم، والناس يقولون: إن
التعليم تدلى في عهد الاحتلال وصار سيره دون ما كان عليه من قبل وإن تَحَسَّنَ
نظامه. وإنني أرى الواقفين على عناية المعارف الجديدة بإعانة الكتاتيب الأهلية
وتنظيمها مع إبقائها على استقلالها يحمدون ذلك ويعدونه من الإصلاح ولا ينكرون
منه إلا كون حفظ القرآن غير مُكافَأ عيه وإنها لغلطة من واضع القانون لم تغن عنها
(الضمانات الخمس) شيئًا بل لا رأي في هذا القانون (للضمانات) فعسى أن
يصلحه المستر دنلوب في سنة أخرى فيكون له ولقومه الثناء الجميل.
هذا، وقد كدنا نخرج عن موضوع هذه النبذة وهو تعليم البنات وتربيتهن،
فالأمة تطلب والعدالة تشفع أن تكون عناية المعارف بتربية البنات الدينية أشد ولكن
قانون التعليم والعمل الذي في المدارس على ما قلناه من إهمال التربية والتقصير في
التعليم فإلى ذلك نوجه أنظار أهل الحل والعقد العاملين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/193)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مستقبل الحجاز وأمير مكة المكرمة)
نشر المؤيد الأغر من أيامٍ رسالةً مطولةً (لعثماني صادق) عنوانها (مستقبل
الحجاز) تكلم فيها صاحبها عن حالة البلاد في هذه الأيام كلامًا تاريخيًّا ينبغي أن
يعلم وحمل على أميرها الشريف (عون الرفيق باشا) حملة منكرة عد عليه فيها
سيئات، إذا صحت الرواية فهي أقبح السيئات، ولكن الكاتب عد عليه أيضًا ما يُعَدُّ له
فكان بذلك متهمًا بالغرض أو الجهل، وقلما تجد كاتبًا يقف عند حدود الاعتدال. أما
السيئات الحقيقية فهي الظلم في أرض الحرم والاستبداد في الحكم وعدم العناية بحفظ
الأمن بل اتهمه بإغراء الأعراب بالحجاج لسلب المال منهم وهذا شيء عظيم لا نلوم
الكاتب على التطويل بذمه ونقده، وإن كان أكثر كلامه من قبيل الشعر لا من قبيل
سرد الحقائق وبيان الأوصاف، ويظهر أن الغرض من الكتابة حمل السلطان على
عزل الشريف من إمارة مكة المكرمة.
ومن غلو الكاتب المنكر شرعًا مخاطبة السلطان والاستعانة به بكلام لا يقال
إلا في الله تبارك وتعالى كقوله: (فإليك يتوسل المسلمون، وبك يستغيث المؤمنون.
يا غياث المستغيثين، وأمان الخائفين) . وإنه لكلام تقشعر من توجيهه لغير الله
تعالى قلوب المؤمنين. وإذا كانت مبالغة في الذم على نسبة مبالغته في المدح فلا
شك أنه كاذب فيما كتب، فالذي يجعل السلطان إلهًا اتباعًا لهواه لا يبعد أن يجعل
الشريف شيطانًا اتباعًا لهواه. وعجيب من المؤيد كيف نشر هذا الإطراء وأقره.
ولولا أن الطاعنين في هذا الأمير كثيرون لما حفلنا بهذه الرسالة وقد كنا نوهنا
في المنار (14: 2) الصادر في 9 صفر سنة 1317 برسالة مطبوعة وردت
علينا في بريد سنغافورة اسمها (ضجيج الكون من فظائع عون) وهي مملوءة
بالشكوى من الشريف، وقد كتب إلينا يومئذ أنها ترجمت ووزعت في الأقطار
فكانت لها تأثير عظيم؛ حتى إن بعض المساجد قطع الخطبة لمولانا الخليفة أيده الله
تحاشيًا من الكذب بأنه خادم الحرمين الشريفين، وقد أرسلت هذه الرسالة يومئذ إلى
الحضرة السلطانية ويظهر أن ذلك كان عمل جمعية ولكن لم يظهر لها أثر لأن
الشريف متفق مع السلطان راضٍ عنه.
وصاحب رسالة (مستقبل الحجاز) يؤكد القول بأن الشريف يجتهد في إقناع
الناس بأنه لا يفعل فعلة إلا بإذن السلطان ومرضاته لينفرهم منه، فإذا ثبت هذا
للسلطان فربما يعزل الشريف أو يرسل إليه واليًا حازمًا يغلّ يده ويحفظ الأمن
ويكون هذا حجة على الذين يقولون: إن السلطان يحب أن يكون الشريف ظالمًا
غاشمًا ليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض بأن حكم الترك أفضل من حكم
أشراف العرب.
ومما عده صاحب الرسالة (مستقبل الحجاز) من سيئات الشريف هدم بعض
القبور والقبب والمساجد التي بنيت على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم
وتقصد لزيارتهم، وقال: إنه أزعجهم في قبورهم وكذلك القبر المنسوب إلى أمنا
حواء عليها السلام. ومن أين لمثل هذا الكاتب الذي عدَّ هذه الأعمال ذنبًا لا يغفر
أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطمس القبور المشرفة ونهى عن بناء
المساجد على القبور ولعن فاعليها ونهى عن شد الرحال إلى مثلها.
أخرج الإمام أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي في
سننهم عن أبي الهياج الأسدي، عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أبعثك على ما
بعثني عليه رسول الله صلى الله وعليه وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا
مشرفًا إلا سويته) قال الإمام الشوكاني في شرح هذا الحديث بعدما رجح أن رفع
القبور زيادة عن القدر المأذون فيه حرام ما نصه:
(ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا: القبب والمشاهد
المعمورة على القبور وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله
عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من
مفاسد يبكي لها الإسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار بالأصنام. وعظم ذلك
فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج
وملجأً لنجاح الطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال
وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت تفعله بالأصنام إلا
فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد
من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا
ولا ملكًا. وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يُشَكُّ معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين
أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد
ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق. وهذا
من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين
أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من هذا
الكفر! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله! وأي مصيبة يصاب بها
المسلمون تعدل هذه المصيبة! وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك
البين واجبًا؟ !) اهـ. ثم تمثل الشوكاني بعد ما تقدم بقول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد
والسبب في موت العلماء والأمراء الذي عناه بالتمثيل هو اختيار مرضاة
العوام الذين فشا فيهم هذا المنكر على مرضاة الله تعالى، فالعوام بمقتضى طبيعة
الكون تبع لهم ولكنهم لضعف إراداتهم وانحلال عزائمهم جعلوا أنفسهم تبعًا للعوام
وسيتبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان
والحاكم من حديث جابر أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّصَ
القبر وأن يُكتب عليه وأن يُبنى عليه) ولفظ الكتابة لم يذكره مسلم ولكنه على
شرطه كما قال الحاكم، والتجصيص: الطلاء بالجِصّ وهو الكلس والجير،
والنهي حقيقة في التحريم.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) زاد مسلم
والنصارى.
وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرت القبور والمتخذين عليها المساجد
والسرج) وقد عد العلماء اللعن من علامة كون المعصية من الكبائر، وما كان كذلك
تجب إزالته. فإذا تصدى مثل شريف مكة لإزالة هذا المنكر عملاً بسنة جده عليه
أفضل الصلاة والسلام لقدرته على ذلك نَعُدُّه عاصيًا ومبتدعًا لقول كاتب جاهل
ومجهول ونخاطب السلطان بما لا يخاطب به إلا الله عز وجل لأجل التنكيل به؟ !
لقد انقلب المعروف منكرًا والمنكر معروفًا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما مستقبل الحجاز فهو مما لا يصح لمثل هذا الكاتب أن يخوض فيه إلا إذا
عرف ما ورد من الأخبار النبوية فيه وأخذ حظًّا من علم طبائع الأمم وسنلمّ بشيء
من ذلك إن شاء الله تعالى في مقالة نكتبها في مستقبل الإسلام.
ولا يُفْهم من انتصارنا للحق في مسألة القبب ومساجد القبور أننا ننتصر
للشريف على كل حال فإننا كنا أول من وجه أنظار مولانا السلطان - أيد الله
دولته - إلى تحقيق ما ينسب إليه في أمر الأمن وعدمه والظلم في الحرم وفعل ما
يجب من إزالة ذلك، وذلك من مدة سنتين كما أشرنا إليه في أوائل الكلام ونكرر
ذلك الآن، والله الموفق وإليه ترجع الأمور.
* * *
(وفاة الشيخ أحمد الجيتيكير)
نعى إلينا بريد الهند في الشهر الماضي وفاة هذا العالم الفاضل والأديب الكامل
الذي يعرف قراء المنار بعض فضله وغيرته الملية من قصائده التي نشرت في
المنار مما كان ينشد في جمعية ندوة العلماء , وقد كانت وفاته في يومي 19 محرم
رحمه الله رحمة واسعة وعَزَّى آله وأصدقاءه أحسن العزاء.
***
(وفاة عقيلتين)
في 17 صفر توفيت العقيلة عائشة عصمت كريمة المرحوم إسماعيل بك تيمور
وأخت الفاضل أحمد بك تيمور وكانت أديبة شاعرة في العربية والتركية والفارسية
وقد لقبها المؤيد بشاعرة مصر في هذا العصر. فنسأل الله أن يحسن عزاء أخيها وأنجالها الكرام.
وفي 19 منه توفيت والدة الفاضل النبيل أحمد بك تيمور فاجتمع على هذا
الفاضل مصابان عظيمان في شهر واحد مصاب الأخت ومصاب الأم، وله أكبر
عزاء بما وُفِّقَ له من اتباع السنة في تشييع الجنازة والمأتم؛ إذ كان قدوة صالحة
للناس الذين اعتادوا أن يروا في جنائز الكبراء والأمراء ألوان البدع كحملة مجامر
الفضة وصحافها الملأى بالرياحين وكطغمة الخدم المؤتزرة بأُزُر الحرير وكزعنفة
الصائحين بالأشعار والأدعية والصلوات وغير ذلك. ولكن أحمد بك تيمور انفرد
دون أولاد الباشوات في مصر بمزيد الاستقامة واتباع السنة والاشتغال بالعلم والأدب
بل لا نكاد نرى في هذه البلاد شابًّا مثله في استقامته وأدبه، وإن كثيرًا من أهل
الفضل ليودون إبطال هذه العادات القبيحة ولكن إرادتهم ضعيفة لا تقوى على ما
يتوهمون من الانتقاد ورميهم بالبخل على الموتى.مثل أحمد بك تيمور يصح أن
يكون قدوة لهؤلاء إذا وفقهم الله تعالى.
ولقد سمعت نفرًا من العامة يتحدوث في الطريق ونحن مشاة في تشييع الجنازة
يسأل بعضهم بعضًا عن السبب في خلو هذه الجنازة من الصياح والضجيج ونحوه
مما أشرنا إليه آنفًا فأجابه آخر بأن هذا هو السنة فحمدت الله تعالى أن جعل في
العامة من يفرق بين السنة والبدعة ويعرف أهلهما فكما نعزي صديقنا الكامل أحمد
بك تيمور في مصابيه نهنئه بما وفق له من إقامة السنة وخذل البدعة، ونسأل الله أن
يجعله قدوة حسنة لأمثاله من الوجهاء الذين هم قدوة لسائر الطبقات في جميع
التقاليد والعادات.
***
(نصير محمد علي)
استحسن الفضلاء ما كتبناه عن محمد علي وأعجبوا به وهنأونا بخدمة الدين
والأمة به إلا حدث السياسة فإنه شتمنا في جريدته وعَيَّرنَا بلقب (الدخيل) يعني
أننا لسنا من سلالة الفراعنة، وقد أمر الله بالإعراض عن مثله. ونحمد الله أننا من
ذرية أفضل أنبيائه فوالدنا حسيني وأمنا حسينية. وذلك أفضل عند كل مسلم من
السلالة الفرعونية.
وأما إرجاف الحدث بذكر الاستعداد لثورة كالثورة العرابية فهو
مما لا يفهم؛ لأن الثورة لا تكون إلا لمقاومة قوة ولا قوة في مصر إلا للمحتلين، فإن
كنا نحن ومن (ينصرنا أو يحمينا) نريد أن نثور عليهم فإننا نستحق من سعادة
الحدث الثناء لا الذم وإن كان يعني أننا نثور على جانب آخر فذلك الجانب هو الذي
يشكو الحدث دائمًا من سلب حقوقه، ونشكو نحن العقلاء من الثورات المعنوية التي
هاجها عليه هذا الحدث وأمثاله وكان من أثرها ما كان وما هو كائن ما دام هؤلاء
الأحداث متصلين به.
__________(5/196)
16 ربيع الأول - 1320هـ
23 يونيه - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شروط الواقفين
وعدم التعبد بكلام غير المعصومين
جرى على الألسنة واشتهر بين الناس قول بعض الفقهاء: (إن شرط الواقف
كنص الشارع) وهو ما عليه عمل المحاكم من عهد بعيد إلى اليوم فيتمسكون
بكلمات كُتِبَتْ في (الوقفيات) وربما لم يكن يفهمها الواقف، وإنما كتبها
الكاتب فيما يكتب من عباراته التقليدية ويتركون أحيانًا المقصود من الوقف للشارع
وللواقف؛ وقوفًا عند الألفاظ. وقد رأيت بحثًا نفيسًا في هذا الموضوع للإمام الحافظ
الفقيه ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أحببت أن أنشره في المنار ليعلم الناس
أن ديننا دين مقاصد عالية ومصالح تقوم بها المنفعة لا دين ألفاظ تبتدع ثم تتبع قال
رحمه الله تعالى - مناقشًا فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية في مسائل خالفوا فيها
النص أو خرجوا عن القياس الصحيح - ما نصه بمقدمته:
(فصل) وقالت الحنفية والمالكية والشافعية: إذا شرطت الزوجة أن لا
يخرج الزوج من بلدها أو دارها وأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى فهو شرط باطل
فتركوا محض القياس بل قياس الأولى فإنهم قالوا: لو شرطت في المهر تأجيلاً أو
غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لزم الوفاء بالشرط. فأين المقصود الذي
لها في الشرط الأولى إلى المقصود الذي لها في هذا الشرط؟ وأين فواته إلى فواته؟
وكذلك من قال منهم: لو شرط أن تكون جميلة شابة سوية فبانت عجوزًا شمطاء قبيحة
المنظر أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه حتى إذا فات درهم واحد من الصداق فلها الفسخ بفواته قبل الدخول فإن استوفى المعقود عليه ودخل بها وقضى وطره منها ثم فات الصداق جميعه ولم تظفر منه بحبة واحدة فلا فسخ لها.
وقِسْتُم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يودها ولا ينفق عليها ولا يطأها
ولا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك مما هو من أفسد القياس الذي فرقت الشرعية بين
ما هو أحق بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به وجمعتم بين ما فَرَّقَ القياس والشرع
بينهما وألحقتم أحدهما بالآخر، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الوفاء بشروط
النكاح التي يستحل بها الزوج امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق
فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقها بعدم الوفاء.
وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح (أي
بأن وقف على أهل هذه التكية ما لم يتزوجوا) وكشرط الصلاة في المكان الذي
شرط الصلاة فيه وإن كان (المصلي) وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة
المسلمين. وقد ألغى الشارع هذا الشرط في النذر الذي هو قربة محضة وطاعة فلا
تتعين عنده بقعة عيَّنها الناذر للصلاة إلا بالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد
المدينة ومسجد بيت المقدس) وقد شرط الناذر في نذره تعيينه فألغاه الشارع
بفضيلة غيره عليه أو مساواته له فكيف يكون شرط الواقف الذي غيره أفضل
منه وأحب إلى الله ورسوله لازمًا يجب الوفاء به؟ وتعيين الصلاة في مكان معين لم
يرغب الشارع فيه ليس بقُربة لا يجب الوفاء به في النذر ولا يصح اشتراطه في
الوقف.
(فإن قلتم: الواقف لم يخرج ماله إلا على وجه معين فلزم اتباع ما عينه في
الوقف من ذلك الوجه، والناذر قصد القربة، والقُرَب متساوية في المساجد غير
الثلاثة فتعيين بعضها لغو. قيل: فهذا الفرق بعينه يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة
فيه من شروط الواقفين واعتبار ما فيه قربة فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف
التقرب من الله فتقربه بوقفه كتقربه بنذره، فإن العاقل لا يبذل ماله إلا لما فيه
مصلحة عاجلة أو آجلة، والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه مباحة كانت أو
غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى الله.
وأما بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه تَقَرُّبٌ إلى الله. ولو قيل له: إن هذا
المصرف لا يقرب إلى الله عز وجل أو إن غيره أفضل منه وأحب إلى الله منه وأعظم
أجرًا لبادر إليه.
ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: إذا بذلت مالك في مقابلة هذا الشرط حصل لك
أجر واحد، وإن تركته حصل لك أجران فإنه يختار ما فيه الأجر الزائد فكيف إذا
قيل له إن هذا لا أجر فيه ألبتة؟ فكيف إذا قيل له: إنه مخالف لمقصود الشارع
مضاد له يكرهه الله ورسوله. وهذا كشرط العزوبية وترك النكاح فإنه شرط لترك
واجب أو سنة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنة دون الصلاة والصوم.
فكيف يلزم الوفاء بشرط ترك الواجب والسنن اتباعًا لشرط الواقف وترك شرط
الله ورسوله الذي قضاؤه أحق وشرطه أوثق.
(يوضحه أنه لو شرط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء وكان
شرطًا باطلاً عند جمهور الفقهاء، قال أبو المعالي الجويني - هو إمام الحرمين
رضي الله عنه -: ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان. هذا مع أن وصف الغنى
وصف مباح ونعمة من الله، وصاحبه إذا كان شاكرًا فهو أفضل من الفقير مع صبره
عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية فكيف يلغى هذا الشرط ويصح الترهب في
الإسلام الذي أبطله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا رهبانية في الإسلام)
يوضحه أنَّ مَنْ شَرَطَ التعزبَ فإنما قصد أنّ تركه [1] أفضل واجب إلى الله فقصد أن
يتعبد الموقوف عليه بتركه، وهذا هو الذي تبرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه
بعينه (فقال: من رغب عن سنتي فليس مني) وكان قصد أولئك الصحابة [2] هو
قصد هؤلاء الواقفين بعينه سواء فإنهم قصدوا ترفية [3] أنفسهم على العبادة وترك
النكاح الذي يشغلهم تقربًا إلى الله بتركه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ما
قال وأخبر أن من رغب عن سنته فليس منه. وهذا في غاية الظهور فكيف يحل
الإلزام بترك شيء قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من رغب عنه فليس
منه؟ هذا مما لا تحتمله الشريعة بوجه [4] .
فالصواب الذي لا تُسَوِّغُ الشريعةُ غيرَه عرضُ شروط الواقفين على كتاب
الله سبحانه وعلى شرطه فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطًا
باطلاً مردودًا ولو كان مئة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم
الله ورسوله ومن رد فتوى المفتي. وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجنف (وفي
نسخة الحائف وكلاهما بمعني الجائر في وصيته والآثم فيها) مع أن الوصية تصح في
غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه
أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يقبله
ويعتبره ويصححه.
ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها
وإن لم تكن قربة ولا للواقفين فيها غرض صحيح مما يقربهم إلى الله ولا يوجبون
الوفاء بالشروط التي إنما بذلت المرأة بضعها للزوج بشرط وفائه لها بها ولها فيها أصح غرض ومقصود وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء بنص رسوله الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وهل هذا إلا خروج عن محض القياس والسنة.
ثم من العجب العجاب قول من يقول: إن شروط الواقف كنصوص الشارع.
ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر إليه سبحانه مما جاء به قائله ولا نعدل
بنصوص الشارع غيرها أبدًا. وإن أُحْسِن الظن بقائل هذا القول حُمل كلامه على
أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامّها بخاصّها وحمل مًطلقها على
مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها، وأما أن تكون كنصوصه في وجوب
الاتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يُظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم. فإذا كان
حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه
وآله وسلم من ذلك. فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال. فقد
ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات وخروجهم عن موجب القياس
الصحيح والسنة وبالله التوفيق.
يوضح ذلك أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كان إذا قسم يعطي الآهل
حظين، والعزب حظًّا، وقال: (ثلاثة حق على الله عونهم) وذكر منهم الناكح يريد
العفاف. ومصححو هذا الشرط عكسوا مقصوده فقالوا نعطيه ما دام عزبًا، فإذا
تزوج لم يستحق شيئًا ولا يحل لنا أن نعينه؛ لأنه ترك القيام بشرط الواقف وإن
كان قد فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك
الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم والصلاة لا تحل مخالفته، ومن خالفه كان
عاصيًا آثمًا حتى إذا خالف الأحب إلى الله ورسوله والأرضى له كان بارًّا مثابًا قائمًا
بالواجب عليه؟
يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع الله ورسوله
أنكم قلتم: كل شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل حتى أبطلتم بذلك شرط دار
الزوجة أو بلدها وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة وأبطلتم اشتراط
الخيار فوق ثلاثة وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي
صححها النص والآثار من الصحابة والقياس كما صحح عمر بن الخطاب وسعد بن
أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان اشتراط المرأة دارها أو بلدها
وأن لا يتزوج عليها ودلت السنة على أن الوفاء به أحق من الوفاء بكل شرط وكما
صححت السنة اشترط انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة فأبطلتم ذلك، وقلتم: يخالف
مقتضى العقد وصححتم الشروط المخالفة بمقتضى عقد الواقف لعقد الوقف؛ إذ هو
عقد قربة مقتضاه التقرب إلى الله تعالى، ولا ريب أن شرط ما يخالف القربة
يناقضه مناقضة صريحة، فإذا شرط عليه الصلاة في مكان لا يصلي فيه إلا هو
وحده أو واحد بعد واحد أو اثنان فَعُدُولُه عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع
فيه جماعة المسلمين مع قِدَمِهِ وكثرة جماعته فيتعداه إلى مكان أقل جماعة وأنقص فضيلة وأقل أجرًا اتباعًا لشرط الواقف المخالف لمقتضى عقد الوقف خروج من محض القياس وبالله التوفيق.
يوضحه أن المسلمين مجمعون على أن عبادة الله في المسجد من الذِّكر
والصلاة وقراءة القرآن أفضل منها عند المقابر فإذا منعتم فعلها في بيوت الله
سبحانه وأوجبتم على الموقوف عليه فعلها بين المقابر إن أراد أن يتناول الوقف
وإلا كان تناوله حرامًا كنتم قد ألزمتوه بترك الأحب إلى الله الأنفع للعبد والعدول
إلى بعض المفضول والمنهي عنه (أي كالصلاة إلى القبور أو بقربها) مع مخالفته
لقصد الشارع تفصيلاً وقصد الواقف إجمالاً فإنه إنما يقصد الأَرْضَى لله والأحب إليه
ولما كان في ظنه أن هذا إرضاء لله اشترطه فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود
الشارع وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا الله ورسوله مقصوده في
نفسه أو لا.
ثم لا يمكنكم طرد ذلك أبدًا فإنه لو شرط أن يصلي وحده حتى لا يخالط
الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر أو شرَط ألا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على
قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار أو شرط على الفقهاء أن لا يجاهدوا في
سبيل الله ولا يصوموا تطوعًا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك، فهل يمكنكم تصحيح
هذه الشروط. فإن أبطلتموها ففعل النكاح أفضل من بعضها أو مساوٍ له في أصل
القربة وفعل الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل، وذكر الله
وقراءة القرآن في المسجد أفضل منها بين القبور.
فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك؟ فما هو الفارق
بين ما يصح من الشروط وما لا يصح ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم
يشترط التعزب فأبحتهم له التزوج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط
الواقف منه فكيف تقسموها بينهما أم ماذا تقدمون، أمَا أوجبه الله ورسوله من المبيت
والقسم للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين وصيانة المرأة وحفظها وحصول
الإيواء المطلوب من النكاح؟ أم ما شرطه الواقف وتجعلون شرطه أحق والوفاء
به ألزم؟ أم تمنعونه من النكاح والشارع والواقف لم يمعناه منه؟ فالحق أن مبيته
عند أهله إن كان أحب إلى الله ورسوله جاز له بل استحب فلا نص ولا قياس ولا
مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه ولا مرضاة لله ورسوله، والمقصود بيان ما في
الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي يبين أنه من عند غير الله؛ لأن ما كان
من عنده فإنه يصدق بعضه بعضًا ولا يخالف بعضه بعضًا وبالله التوفيق) .
***
(المنار)
إن مسألة الأوقاف هي من المسائل الحيوية في شئون المسلمين فلو أحسن
المسلمون إدارة الأوقاف الخيرية وصرفوها في الوجوه الفضلى فإنها تكون
أكبر الوسائل لتقدمهم وارتقائهم ولكنهم يعتذرون بشروط الواقفين التي تعبدنا بها
بعض الفقهاء وإنما يعتذرون عن صرف الأوقاف في الوجوه الفضلى والمنافع العامة
ولكنهم إذا لاح لهم شيء منها وثبوا عليه والتهموه التهامًا من غير نظر إلى شرط
الواقف ولا إلى نص الشارع، وكذلك شأن أهل الطبقة العليا في علوم المسلمين في
أعظم معهد للعلم الإسلامي، يأكل الأغنياء حقوق الفقراء ويهضم الكبار ما وقف
على الصغار، فهم حجة على أنفسهم وكلام هذا الإمام المجتهد وبراهينه حجة على
كتبهم ولا بد أن يجيء يومٌ تزول فيه سلطة الطامعين، فتصرف أموال الأوقاف في
مصلحة المسلمين أو تقع في سلطة المتغلبين، إذا دمنا على هذا الجمود المبين،
والعاقبة للمتقين.
__________
(1) كذا في الأصل والمراد ترك النكاح ولم يذكر في الجملة ولعله سقط من النساخ.
(2) يريد الذين أرادوا ترك التزوج كعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه.
(3) فسر الترفية في هامش الأصل بالتسكين والإقامة على الشيء.
(4) أبعد من هذا عن قصد الشارع الوقف على تشريف القبور وبناء القبب والمساجد عليها وعلى إيقاد السرج والشموع عليها، وذلك من المحرمات التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعلها , فيجب على القاضي أن ينصح من أراد الوقف على محرم أو مكروه , وأن لا يقبل منه وأن يدله على أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى بوقفه كمساعدة الجمعيات الخيرية وبناء المدارس لتعليم الأمة.(5/210)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
قراءة المولد بالتركية
(س 1) من الشيخ م. م في مصر: ما حكم الله في قراءة قصة مولد النبي
العربي صلى الله عليه وسلم باللغة التركية في بيت الله تعالى على قوم من العرب
وبمحضر العلماء الذين لا يعرفون إلا لغة نبيهم كما يجري ذلك كل عام في مسجد
الحسين رضي الله عنه، وإن تفضل السيد فذكر أصل ذلك في دين الله أو في السياسة
الوضعية شكره الله والناس.
(ج) يشبه أن يكون هذا من اللغو الذي لا يعني ولا يفيد؛ لأنه لا يفهم،
وقد وصف الله المؤمنين بالإعراض عن اللغو في آيات من كتابه كقوله:
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْه} (القصص: 55) وقوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3) وقوله جل ذكره في
وصف عباده: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان: 72) وأخرج أحمد
وأبو داود عن عثمان بن طلحة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعاه بعد دخوله الكعبة فقال: إني كنت رأيت قرنيْ الكبش حين دخلت
البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرها فَخَمِّرْهَا فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت
شيء يلهي المصلي) ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحِلَق (جمع
حلقة) يوم الجمعة قبل الصلاة كما في حديث أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
وقراءة قصة المولد يتحلقون في قبلة المسجد ويرطن خطيبهم بالقصة التركية ولا
شك أن ذلك يلهي المصلي ولا فائدة فيه فهو داخل من منع الحديث من هذا الوجه
أيضًا.
وقد نهى الفقهاء عن رفع الصوت في المسجد بالقرآن الشريف والعلم النافع
إذا كان يشغل المصلي. فما بالك بمن يرطن بالتركية على قوم لا يفهمون منها شيئًا؟ أما أصل ذلك في السياسة فهو أن أمراء السوء لما صعب عليهم إقامة الدين
على وجهه جعلوا هذه المواسم المبتدعة من شعائر الإسلام ليوهموا عامة المسلمين
بأنهم قائمون بإقامة الدين وإحياء شعائره وأن رياستهم الدينية هي بحق. ولما حكم
الترك هذه البلاد جعل بعضهم قراءة قصة المولد بالتركية؛ لأن الأمير هو المقصود
بالاحتفال وقراءة القصة لا الأمة، وإنما على هذه أن تعتقد تدينه وإحياءه للشعائر
الإسلامية. وأعجب من هذا أن نحو اللغة العربية وصرفها يعلمان في مدارس
الدولة العثمانية (وفقها الله وأيدها) باللغة التركية لأبناء العرب في سوريا وغيرها
وكذلك علم الدين. وقد عين أحد الأرمن معلمًا للدين في بعض مدارس سوريا
الأميرية كأنهم لم يجدوا مسلمًا يحسن تعليم الديانة الإسلامية بالتركية. فالأصل في
هذه السياسة إحياء لغة الأمة الحاكمة وإماتة ما عداها وانتهى الخلل إلى هذا الحد،
ومن هذا القبيل أن سلطاننا المعظم (وفقه الله) كان أرسل بعض الوعاظ الأتراك
ليعلموا العرب في معان والكرك دينهم وليس في المعلمين من يعرف العربية ولا
من المراد تعلمهم من يعرف كلمة تركية؛ لأنهم من صميم العرب الذين لا يزالون
على بداوتهم.
***
مس المحدِث القرآن
(س 2) ومنه أن كثيرًا من المسلمين شعروا بحاجتهم إلى حفظ القرآن
الكريم وتدبره فلما هموا بذلك صدهم تحريم الفقهاء مس الصحف لغير المتوضئ وما
رضوا حِيلهم في ذلك من تقليب أوراقه بنحو عود أو مسه بنحو خرقة أو حمله مع
متاع إلخ؛ لأنهم يعتبرونها ألاعيب، فهم الآن في حيرة، والرجاء كشف الغمة
في هذه المسألة. ولكم من الله المثوبة، ومن المؤمنين الدعاء والشكر. اهـ
(ج) مسألة مس المحدث المصحف خلافية بين المسلمين، وكذلك قراءة
الجنب القرآن، وينبغي للإنسان أن يحكّم الاحتياط في المسائل الخلافية المتعارضة
الدلائل. والاحتياط ممن يريد قراءة القرآن بالمصحف للتدبر والتعبد أن يختار قول
من قال بوجوب الطهارة من الحدث الأكبر للقراءة ومن الحدثين لمس المصحف.
وليس من الاحتياط أن يترك المسلم حفظ القرآن؛ لأنه يتعسر أو يتعذر عليه الحفظ
ما لم يحمل القرآن ويمسه على غير وضوء فحفظه حينئذ هو الأحوط والأفضل.
ونشير إلى الخلاف في المسألة وأدلته بالإيجاز فنقول:
أما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ
المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 77-79) فقد فسروا الكتاب المكنون باللوح المحفوظ
والمطهرين بالملائكة. ومنهم من قال: المطهرين من الأحداث وجعل الكتاب
المكنون صفة للقرآن. قال البيضاوي في تفسير الآية: (لا يطلع على اللوح إلا
المطهرون من الكدورات الجسمانية وهم الملائكة. أو لا يمس القرآن إلا
المطهرون من الأحداث فيكون نفيًا بمعنى نهي، أو لا يطلبه إلا المطهرون من
الكفر) . اهـ وتفسير المطهرين بالملائكة مروي عن ابن عباس وقتادة. وأما
حديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) فهو ضعيف لا يحتج به وكذلك حديث (لا
يمس القرآن إلا طاهرة) فهو ضعيف لا يحتج به وكذلك حديث (لا يمس
المصحف إلا على طهارة) كما جزم بذلك فيهما النووي وابن كثير. على أن
بعضهم قال: إن المراد بالطاهر المؤمن أو الطاهر من النجاسة والمروي عن ابن
عباس والشعبي والضحاك وداود جواز مس المصحف للمحدث حدثًا أصغر.
والخلاف كبير في الحدث الأكبر حتى قيل: إنه لم يخالف فيه من الأئمة إلا داود
الظاهري ولكن لا يعرف للجماهير دليل.
وبقيت القراءة ولا نزاع في جوازها مع الحدث الأصغر، وقد ضَعَّفُوا ما ورد
في الحديث في منع القراءة مع الجنابة ولكن الجماهير على التحريم. وأخرج
البخاري عن ابن عباس أنه لم ير في القراءة للجنب بأسًا.
قال في نيل الأوطار: ويؤيد التمسك بعموم حديث عائشة أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه وبالبراءة الأصلية حتى يصح ما
يصلح لتخصيص هذا العموم وللنقل عن هذه البراءة. ومع هذا لا أحب لحفظة القرآن
القراءة مع الجنابة، ولكن لا بأس بحملهم المصحف مع الحدث الأصغر والقراءة كذلك
وأنصح لهم أن يتحروا الطهارة والوضوء ما أمكن ذلك والله الموفق.
***
الظلم بالأكل من الشجرة
(س4) الشيخ محمد محمد عباد الحنفي بالأزهر. أرجو حضرتكم أن
توضحوا معنى قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) وأن تبينوا معنى ظلمه مع ملاحظة قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُون} (البقرة: 254) وأن تبينوا معنى قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوَى} (طه: 121) مع ملاحظة عصمة الأنبياء.
(ج) ترون معنى الآية الأولى في نبذة التفسير من هذا الجزء وتقدم الكلام
في معصية آدم وعصمة الأنبياء في الدرس 34 من العقائد في (ج 3: 5) .
والظلم أعم من الكفر فكل كفر ظلم وليس كل ظلم كفرًا فمن قَصَّر في فضيلة
أو عمل نافع فقد ظلم نفسه بمقدار ما فاته من ثمرة الفضيلة وفائدة العمل فقوله
تعالي: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) لا ينافي هذا؛ لأن كون
الظلم وصفًا راسخًا فيهم بأفظع أنواعه وهو الاعتماد في النجاة يوم القيامة علي
الشفاعة ونحوها لا يمنع أن يلمّ غير الكافرين بنوع آخر من أنواعه الخفيفة. وقد
فسر بعضهم الظلم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ
ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا
وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135) بالصغيرة وأنت ترى أن هذا ذنب تنتظره
المغفرة والشرك ظلم عظيم و {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) .
***
إمهار الذمية قرءانًا
(س 5) عبد الفتاح أفندي البدن بالإسكندرية: إذا أراد المسلم أن يتزوج
ذمية واتفقا على أن يجعل صداقها من القرآن الكريم فهل يصح ذلك؟
(ج) يصح جعل المنفعة مهرًا وتعليم القرآن أعظم المنافع؛ لأنه نور وهدى
للناس، وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه
أن النبي صلى الله وعليه وسلم زَوَّجَ رجلاً فقيرًا امرأة فوّضت أمرها إليه بما معه
من القرآن ولفظ العقد زوجتكها بما معك من القرآن) وكان سأل عنه فعين له السور
التي يحفظها، وفي روايات وأحاديث أخرى ذكر التعليم وتعيين السور وفي بعضها
ذكر عشرين آية، والراجح أن ذلك في وقائع متعددة فثبت بالسنة أن تعليم القرآن
يصح أن يكون مهرًا وعليه الجماهير إلا الحنفية. ولم أرَ من استثنى الذمية في
المقام ولا من ذكرها فيه وأنت تعلم أن القرآن أفضل ما يُدعى به إلى الدين وأكبر
المنافع ولا شك أن رضاء هذه الذمية بتعلم شيء من القرآن هو لاعتقادها أن فيه
منفعة لها. ولكن الذي منعوه هو تمليك القرآن لغير المؤمنين حذرًا من إهانته.
ومن أراد الاحتياط وموافقة الجميع فليضف إلى التعليم قليلاً من المال. هذا ما ظهر
لنا من الجواب والله أعلم بالصواب.
__________(5/218)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى
الدين والإسلام والشرك والتصوف
في مكة المكرمة يوم السبت العشرين من ذي القعدة سنة 1316.
انتظم عِقْد الجمعية في هذا اليوم صباحًا وقرئ الضبط السابق حسب العادة
وأذن الأستاذ الرئيس بالشروع في البحث.
فقال العالم النجدي: إني أطلب السماح من السادة الإخوان عن إملالهم
بمقدمات وتعريفات هم أعلم مني بها، بل هي عندهم في رتبة البدهيات ولكن لا بد
منها للباحث رعاية لقاعدة التسلسل الفكري والترتيب القياسي فأقول:
إن النوع الإنساني مفطور على الشعور بوجود قوة غالبة عاقلة لا تتكيف
تتصرف في الكائنات بنواميس منتظمة، فالعامة يعبرون عن هذه القوة بلفظ الطبيعة
والراشدون من الناس مهتدون إلى أن لهذه القوة من هو قائم بها يعبرون عنه بلفظ
(الله) ثم إن هذا الشعور يختلف قوة وضعفًا حسب ضعف النفس وقوتها ويختلف
الناس في تصور ووصف ماهية هذه القوة حسب مراتب الإدراك فيهم أو حسبما
يصادفهم من التلقي عن غيرهم وذلك هو الضلال والهداية.
على أن الضلال غالب؛ لأن موازين العقول البشرية مهما كانت واسعة قوية لا
تسع وتتحمل وزن جبال الأزلية والأبدية واللامثال واللامكان ونحو ذلك ما يسمى
العلم به لصعوبته على ما وراء العقل، ولهذا لا يقال في الضالين إنهم منحطون عقلاً
عن المهتدين بل كثير منهم في الماضين والحاضرين أسمى عقلاً بمراتب كثيرة من
المهتدين ولكن صعوبة التطور والحكم أوقعتهم في بحار من الأهام وظلمات من
الضلال.
على أن البارئ تعالى قدر اللطف ببعض عباده وأراد إقامة الحجة على الآخرين
فأوجد بعض أفراد من البشر تميزوا في تطور ووصف ماهية هذه القوة تميزًا كبيرًا
فصاروا هداة للناس وهم (الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام.
وقد قام بعض هؤلاء الأنبياء الكرام فيمن حولهم من الناس مقام المشرعين
وأثبتوا ببراهين خرق العادات على يدهم عند التحدي أي عند طلب ذلك منهم [1] أن
مخاطبيهم مكلفون باتباعهم هم (المرسلون) فآمن بهم من آمن أي شهدوا لهم بالرسالة
واتبعوهم في هديهم مستسلمين فأخرجوهم من بحار الأوهام إلى ساحل الحكمة ومن
ظلمات الضلال إلى نور الهداية وهؤلاء هم (المؤمنون) فهذه مقدمة أولى. (مرحى)
ومن المؤمنين نحن معاشر (المسلمين) علمنا مما علمنا أن محمد بن عبد الله
الهاشمي القرشي العربي أجلّ البشر حكمة وفضيلة وصدقناه بأنه رسول الله إلى
العالمين كافة مصححًا ملة إبراهيم داعيًا لعبادة الله وحده هاديًا إلى ما يكلف الله به
عباده من أمر ونهي كافلين لكل خير من الحياة وبعد الممات.
ومن أمهات قواعد الدين عندنا أن نعتقد أن محمدًا بلَّغ رسالة ربه لم يترك ولم
يكتم منها شيئًا وأنه أتم وظيفته بما جاء به من كتاب الله وبما قاله أو فعله أو أقره
على سبيل التشريع إكمالاً لدين الله.
ومن أهم قواعد ديننا أنه محظور علينا أن نزيد على ما بلغنا إياه رسول الله
أو ننقص منه أو نتصرف فيه بعقولنا، بل يتحتم علينا أن نتبع ما جاء به الصريح
المحكم من القرآن الواضح الثابت مما قاله الرسول أو فعله أو أقره وما أجمع عليه
الصحابة إن أدركنا حكمة ذلك التشريع أو لم نقدر على إدراكها وأن نترك ما يتشابه
علينا من القرآن (يريد نفوض فيه) فنقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل
عمران: 7) ، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: 7) .
ومن قواعد ديننا كذلك أن نكون مختارين في باقي شئوننا الحيوية نتصرف
فيها كما نشاء مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها الرسول
وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة كعدم الإضرار بالنفس أو الغير والرأفة بالضعيف
والسعي وراء العلم النافع والكسب بتبادل الأعمال والاعتدال في الأمور والإنصاف
في المعاملات والعدل في الحكم والوفاء بالعهد إلى غير ذلك من القواعد الشريفة
العامة. وهذه مقدمة ثانية ويتفرع عن هاتين المقدمتين مسائل مهمة ينبغي إفرادها
بالبحث تباعًا وإشباعًا.
ومنها أن أصل الإيمان بوجود الصانع أمر فطري في البشر كما تقدم فلا
يحتاجون فيه إلى الرسل وإنما حاجتهم إليهم في الاهتداء إلى كيفية الإيمان بالله كما
يجب من التوحيد والتنزيه. هؤلاء قوم نوح وقوم إبراهيم وجاهلية العرب واليهود
والنصارى ومجوس فارس ووثنيو الهند والصين ومتوحشو أفريقيا وأمريكا
وسائر البشر كلهم كانوا ولا يزالون أهل فطرة دينية يعرفون الله وليس فيهم من
ينكر كليًا كما قال عز من قائل: {َ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء:
44) بل يغلب على البشر الإشراك بالله فيخصصونه تعالى شأنه بتدبير الأمور
الكلية والشئون العظام كالخالقية وتقسيم الأرزاق والآجال كأنهم بجلونه عن تدبير
الأمور الجزئية ويتوهمون أن تحت أمره مقربين وأعوانًا ووسطاء من ملائكة وجن
وأرواح وبشر وحيوانات وحجر وأنه جعل لهم وللنواميس الكونية من أفلاك وطبائع
وللحالات النفسية من سحر وتوجه فكر دخلاً وتأثيرًا في تيسر الأمور الجزئية إيقاعًا
أو منعًا وأعطاهم شيئًا من القوة القدسية وعلم الغيب.
وتوهمهم هذا ناشئ عن قياسهم ملكوت ذي الجبروت على إدارة الملوك في
اختصاصهم بتدبير مهمات الأمور وتفويضهم ما دون ذلك إلى العمال الأعوان
واستعانتهم بالبطانة والحاشية وربطهم مجرى الأعمال بالقوانين والنظامات
(مرحى) .
ومن تتبع تواريخ الأمم الغابرة وأفكار الأمم الحاضرة لا يرتاب فيما قررناه
من أن آفة البشر الشرك الذي أوضحناه فقط وكفى بالقرآن برهانًا فقد قال الله تعالى:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) وقال
تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} (الأنعام: 41) وقال تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) وقال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) إلى غير ذلك من الآيات البينات المثبتة أن زيغ البشر هو
الإشراك من بعض الوجوه فقط الإنكار ولا الإشراك المطلق؛ لأن العقل البشري
مهما تَسَّفَل لا ينزل إلى درجة الشرك المطلق.
بناء عليه جرت عادة الله - جلت حكمته - أن يبعث الرسل ينقذون الناس من
ضلالة الشرك وينتاشونهم من وهدة شره في الحياة الدنيا والآخرة ويهدونهم إلى
رأس الحكمة أي (معرفة الله) حق معرفته لكي يعبدوه وحده بذلك تتم حجته عليهم
ويملكون حريتهم التي تحميهم من أن يكونوا أرقاء أذلاء لألف شيء من أرواح
وأجسام وأوهام. فثمرة الإيمان بأن (لا إله إلا الله) عتق العقول من الأسر وثمرة
الإذعان بأن (محمد رسول الله) اتباعه حقًا في شريعته التي تحول بين المسلم
وبين نزوعه إلى الشرك وتنيله سعادة الدارين.
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) أو قَبُحَ ما أَجْهَلَهُ. لا يهتدي إلى
التوحيد إلا بجهد عظيم ويندفع أو ينقاد بشعرة إلى الشرك فيتلبس به على مراتب
ودرجات في اعتقاد وجود قوة قدسية ترجى وتتقى في غير الله أو تبعًا لله ذاهلاً عن
أنه لو كان في الأرض والسماء آلهة غير الله أي أصحاب تصرف في شيء ولو في
تحريك ذرة رمل - لفسدتا.
فالناس سريعو الإعراض عن ذكر الله إلى ذكر من يتوهمون فيهم أنهم شركاء
وأنداد لله فيعبدونهم أي يعظمونهم ويخضعون لهم ويدعونهم ويستمدون منهم
ويرفعون حاجاتهم إليهم ويرجون عند ذكر أسمائهم الخير ويتوقعون من سخطهم
الشر، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (طه: 124) والله صادق الوعد نافذ الحكم. وفي الواقع - وبالضرورة والطبع -
لا معيشة أشد ضنكًا من معيشة المشركين الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم
لأنفسهم ظالمون فقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) وقال: {وَلاَ
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) ، وهذا زيد بن عمرو بن نفيل الحكيم الجاهلي
ضجر من الشرك فقال من أبيان له:
أربًّا واحدًا أم ألف ربٍّ ... أدين إذا تقسّمت الأمور
تركت اللات والعُزَّى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل الخبير
ومثل الحياة الأدبية في الموحدين والمشركين كبلد سلطانه حكيم قاهر بابه
مفتوح لكل مراجع وينفذ قانونًا واحدًا ولا يصغي لساعٍ ولا شفيع ولا يشاركه في
حكمه أحد. وبلد آخر سلطانه جبان مغلوب على أمره نال منه مقربوه المتعاكسون
وأعوانه المتشاكسون من حوائج خير لذويهم أو دفع شر عن أتباعهم فهل يستوي
أهل البلدين؟ كلا لا تستوي السعادة والشقاء ولله المثل الأعلى فإنه جلّت عظمته لا
يرضى أن يشاركه في ملكه أحد كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء:
116) ولا شك أن الشرك من أكبر الفجور وعمل السوء وقد قال تعالى: {وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 14) وقال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123) وما الجحيم والمجازاة خاصين بالآخرة بل يشملان الحياة الدنيا
والآخرة.
ثم أقول: إذا أراد المسلم أن يعلم ما هو الشرك المشئوم عند الله بمقتضى ما
عرفه إياه في كتابه المبين يلزم أن يعرف ما هو مدلول ألفاظ (إيمان وإسلام وعبادة
وتوحيد وشرك) في اللغة العربية التي هي لغة القرآن إذا قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً
عَرَبِياًّ} (الزخرف: 3) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (إبراهيم: 4) فإذا علم المسلم
معنى هذه الألفاظ وأراد أن يمتثل أمر به بأن لا يتعدى حدود الله يتعين حينئذ عنده
ما هو مراد الله بالشرك الذي لا يرضاه والذي أشفق وخاف علينا نبينا عليه الصلاة
والسلام من الوقوع فيه فقال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك) [2] .
ومن يبحث عما ذكر من الألفاظ يجد أن أهل اللغة مجمعون على أن المدلول
للفظ (الإيمان) الطاعة والتسليم بدون اعتراض [3] وللفظ (العبادة) التذلل
والخضوع [3] وللفظ (التوحيد) العلم بأن الشيء واحد، وإذا أضيف إلى الله فيراد به
نفي الأنداد والأشباه عنه. ومن هذه المادة الواحد والأحد صفتان لله تعالى معناهما
المنفرد الذي لا نظير له أو ليس معه غيره. وأصل معنى مادة الشرك لغة الخلط
واستعمالاً الإشراك بالله وفي اصطلاح المؤمنين الإشراك بالله في ذاته أو ملكه أو
صفاته.
ثم إذا وزعنا اعتقادات من وصفهم الله بالشرك في كتابه العزيز على هذه
الأنواع الثلاثة نجد مظنة (الإشراك في الذات) قائمة في اعتقاد الحلول وهو أنه
تعالى شأنه عما يصفون أفنى أو يفني بعض الأشخاص في ذاته كقول النصارى في
عيسى ومريم عليهما السلام، وقول غلاتنا في وحدة الوجود. وهذا النوع من
الشرك عسر التصور والتعريف حتى عند أساطين أهله ولذلك يسميه النصارى
حقيقة سرية ويسميه غلاتنا حقيقة ذوقية، (مرحى) .
أما مظنات (الإشراك في المُلْك) فيدخل تحتها اعتقاد اختصاص بعض
المخلوقين بتدبير بعض الشئون الكونية كاعتقاد اليهود في ملك الموت وكاعتقاد
بعض الناس تصرُّفَ غير الله في شيء من شئون الكون كقول من يقول: (فلان
عليه دَرَك البر أو البحر. أو الشام أو مصر)
وأما مظنات (الإشراك في الصفات) فهي الاعتقاد في مخلوق أنه متصف
بشيء من صفات الكمال من المرتبة العليا التي لا تنبغي إلا لواجب الوجود جلت
شئونه، وهذا النوع أكثر شيوعًا من النوعين الأولين لثلاثة أسباب:
(الأول) كون غير الأَحَدية والخالقية ونحوهما من الصفات الخاصة بالله
تعالى صفات مشتركة يعسرعلى غير العلماء الراشدين تميز الحد الفارق بين مراتبها
في المخلوقين وبين مراتبها المختصة به تعالى.
(الثاني) ما نطقت به الشرائع من تفويض الله تعالى بعض الأمور إلى
الملائكة واستجابة دعاء المقربين وإكرامه تعالى بعضَ عباده الصالحين ووعده
بقبول شفاعة من يأذن لهم بها يوم القيامة فالتبس على الجهلاء التفريق بين هذه
وبين التصرف.
(الثالث) هو كون التعظيم مدرجة طبيعة للإغراق والتغالي ومطية سريعة
السير لا يلتوي عنانها عن تجاوز الحدود إلا برغم الطبع وتوفيق الله. ولذلك قاسى
الرسل أولو العزم الشدائد في كبح جماح الناس عن إشراك معظميهم مع الله تعالى
في مرتبة بعض صفاته العليا وركبوا متون المصاعب والعزائم في إرجاع الناس
إلي حد الاعتدال وشددوا النكير على إطراء الناس إياهم وحذروا وأنذروا من مقاربة
مظانّ الشرك حتى الخفي الذي يدب دبيب النمل.
ومن المعلوم عندنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام لبث عشرة أعوام يقاسي
الأهوال في دعوته الناس إلى التوحيد فقط وسمى أمته الموحدين وأنزل الله القرآن
ربعه في التوحيد وتأسيس دين الله على كلمة (لا إله إلا الله) وجعلت أفضل الذكر
لحكمة أن المسلم مهما رسخ في الإيمان يبقى محتاجًا إلى نفي الشرك على فكره
احتياجًا مستمرًا وذلك من شدة ميل الإنسان إلى الشرك ولشدة التباسه عليه ولشدة
قربه منه طبعًا فنسأل الله تعالى الحماية (مرحى) . وما هذا خاص بالمسلمين بل
مضت الأمم كلها لم يكد يفارقها رسلها الكرام إلا وقعت في الشرك كقوم موسى عليه
السلام فارقهم أربعين ليلة فاتخذوا العجل (مرحى) .
(للاجتماع بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار - هكذا فسر التحدي هنا والمعروف في علم الكلام أن التحدي طلب المعارضة للمعجزة بأن يقول الرسول هذه آية صدقي فأتوا بمثلها أو فآمنوا.
(2) المنار: الحديث رواه ابن ماجه عن شداد بن أوس ولفظه (إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله أما أني لست أقول تعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا وثنًا ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية) رواه أحمد والبيهقي بلفظ آخر.
(3) ما فسر به الإيمان هو معنى (الإسلام) وعدم ذكر هذا اللفظ يدل على أنه سقط من الأصل تفسير الإيمان وهو التصديق القطعي بلا تردد وسقط بعده لفظ الإسلام فصار تفسيره تفسيرًا للإيمان.
(4) فسر العبادة بالمشهور في كتب اللغة وغيرها، ولكن استعمال العرب يدل على أنهم لا يسمون كل تذلل وخضوع عبادة وإنما يخصون العبادة بالخضوع الناشيء عن الاعتقاد بسلطة غيبية وراء الأسباب العادية.(5/223)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الشذرة الرابعة من جريدة أراسم [*]
الجزيرتان - والتعليم بضرب الأمثال
يحسن أحيانًا في حوار الأطفال أن يكون تفهيمهم الحقائق على طريقة ضرب
الأمثال.
سألني (أميل) منذ أيام لماذا وجد في الناس فقراء وبدا لي من (لولا) كثرة
اهتمامها بمعرفة العلة في أن فيهم أغنياء.
جرى على الألسنة جواب مشهور لهذين السؤالين وهو (ذلك ما أراده الله)
وما كنت لأجيبهما بمثل هذا التعليل؛ لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى أذهان الأطفال
معنى كبيرًا لعدل الذات العلية وما كنت أيضًا لأدخل معها في أعوص مسائل علم
الاقتصاد السياسي وأصعبها، من أجل ذلك رأيت أن أحسن جواب أخرج به من
هذه الحيرة أن أقص عليهما قصة فقلت:
روي أنه كان يوجد في مكان سحيق من بحر لست على يقين من معرفته
جزيرة بنى فيها الأغنياء قصورًا من المرمر وزرعوا في أرضها بساتين وحدائق
ذات بهجة ربوا فيها من الأزهار ما يندر وجوده في غيرها واحتفروا بركًا توفيرًا
لأسباب اللذة، ولم يكن في الدنيا ما يعادل زخرف موائدهم فقد كان يطاف عليهم
بصحاف من الذهب بها أشجار ضخمة طبخت بمرقة سرطان البحر، وهو ألذ ألوان
الطعام في ذوق (أميل) وكانوا في لباسهم بالغين حد الإفراط في التأنق خصوصًا
نساءهم وكان أولادهم يلعبون الكُجَّة [1] في الميادين العامة بكرات من الماس.
وأما فقراء تلك الجزيرة فكانوا يمشون حفاة وكانت صباياهم تغدو كل يوم في
أسمال من الثياب فتطوف بأبواب الأغنياء التماسًا لما ألقاه خدمهم من قمامات موائد
العشية، لم يقتصر الأغنياء في سوء معاملتهم على استعمالهم في الأعمال الشاقة
الممقوتة، بل إنهم كانوا يحتقرونهم، وبلغوا من ذلك إلى حد أنهم كانوا
يحظرون على ذوي الثياب الرثة منهم أن يوجدوا في المنتزهات العامة ولم يكن
لهذا الحظر من سبب سوى خوفهم على بُسُط هذه المنتزهات السندسية أن تدنسها
أقدامهم أو خشيتهم أن يكون منظر بؤسهم قذًى في عيونهم، وهذا هو الأقرب إلى الحقيقة.
من أجل ذلك كله غادر الفقراء المدينة ذات ليلة وآووا إلى جبل ليأتمروا
بالأغنياء فكان رأي الشبان منهم أن يأخذوا أسحلتهم ويسطوا عليهم وهم نيام في
مضاجعهم ويقتسموا أموالهم فقام من بينهم شيخ حكيم وتربص حتى قَرَّتْ شقشقتهم
ثم قال: إياكم أن تفعلوا من ذلك شيئًا لأسباب ثلاثة أبديها لكم، أولها: أن الأغنياء
يقوم على حراستهم في صروحهم خدم هم شر منهم وكلاب أضرى من الحراس
أنفسهم. ثانيها: أني لا أعتقد أن سطوكم هذا عليهم وسلبكم لأموالهم يكون من
العدل؛ لأنهم قد كسبوا هذه الأموال التي تحسدونهم عليها أو كسبها أسلافهم من
وجوه شريفة أو خسيسة ثم ملكوها من بعدهم بمقتضى قوانين أرى مع كوني لا
أدرك كُنهها كمال الإدراك أنه لا بد لوجودها من سبب؛ لأن جميع الناس محافظون
عليها راضخون لأحكامها حتى الآن. ثالثها: أن ما يجوز أن تنزعوا اليوم من
أعدائكم بغلبتكم عليهم يجوز أن يسلبه غدًا منكم غيركم بقوته وضعفكم فعلينا إذن أن
نفكر جميعًا في اتخاذ وسيلة أخرى.
لا بد أنكم سمعتم بوجود جزر أخرى في البحر غير هذه الجزيرة التي قضى
علينا نحس طالعنا بالولادة فيها، فقد حكى لنا فقراء الملاحين إخواننا الذين يحضرون
إلى هنا بسفنهم مشحونة بالأوراق ومواد الزخرف التي يستعملها الأغنياء أنهم رأوا
غير مرة في أسفارهم أرضين تمهد من الماء مكللة بالنباتات والأشجار الكبيرة المثمرة
ويستفاد من حكايتهم أن إحدى الجزر خاوية من السكان ولا ينقصها إلا إرادتكم حتى
تصبح جنة جمة الثمار دانية الجنى فإن لنا سواعد قوية تساعدنا على العمل وها أنا
مع شيخوختي سأكون لكم قدوة فيه وأمدكم بنصائحي عند الحاجة، هذا هو رأيي قد
أفضيت به إليكم فانظروا ماذا تفعلون. فتلقى جميعهم نصيحته بالقبول وما تمّموا أن
هاجروا إلى تلك الجزيرة متعاقبين على سفن واهنة صنعوها بأنفسهم من ألواح
خصاصهم فثمل الأغنياء فرحًا لسفر هؤلاء الغوغاء ولم يستطيعوا كتمان فرحهم
وكانوا يصفقون ويجهرون بقولهم: حبذا حبذا هذا الخلاص!
قلما كانت تلك السفن تقل إلا أشخاص المهاجرين؛ لأنهم لا يملكون شيئًا،
أستغفر الله، بل إنهم حملوا معهم فيها أدوات عملهم.
مضى على سفرهم بضع سنين انقطعت فيها أخبارهم واختلفت أقوال أهل
الجزيرة في شأنهم فمن قائل بأن البحر ابتلعهم ومن واهم بأنهم أكل بعضهم بعضًا.
وبينما هم في هذا الاختلاف إذ رأوا ذات يوم سفينة مشحونة بالغلال وعروض
التجارة رست على ميناء جزيرتهم فلم يلبثوا أن عرفوا من لهجة ملاحيها وبعض
ملامح وجوهم أنهم من سكانها السالفين وقد أخبرهم هؤلاء الملاحون أنهم آتون من
جزيرة أخرى استقامت فيها أمورهم ونجحت نجاحًا عظيمًا؛ لأنهم ما حرثوا
الأرض وأحيوا مواتها حتى جللتها الحصائد وملأتها المزارع والمواشي فاعتبر
الأغنياء هذه الأخبار من الأساطير وقهقهوا لسماعمها قهقهة المجانين.
على أن الملاحين لم يكونوا مبالغين في شيء مما قالوا، فإنه كان يخرج من
أرض تلك الجزيرة القفرة على نحو من السحر حقول مكسوة بالزروع وقرى ومدن
وطرق ومدن وترع، فكان سكانها في معيشتهم على وفاق تام؛ لأنهم كانوا منها في
غبطة وهناء، وقد ضربت عليهم السكينة رواقها فكانوا يعتبرون أبناءهم بذورًا
لخلف أرقى وأكثر منهم ولذلك كانوا يبكرون بتعليمهم العمل وإنشائهم على حبه.
أصبح الأمر على خلاف ذلك في جزيرة الأغنياء فكانت الثروة تنقص من يوم
إلى يوم؛ لأن سكانها لما كانوا من فرط الكبر والكسل بحيث إنهم يستنكفون أن
يتولوا بأنفسهم حرث الأرض لم تلبث أن امتلأت عاقولا وتعطلت جميع الحرف
والصنائع لفقد عمالها وتبع ذلك زوال مواد الزخرف وتداعت الصروح والقصور
والمقصود فلم يوجد من الرجال من يقيم من منآدها.
فزع الأغنياء في بدايا هذا الانحطاط إلى صناع الجزائر المجاورة لهم فلم
يجيبوا دعوتهم؛ لأنهم كانوا على بينة مما كانوا به إخوانهم فلم يرضوا لأنفسهم ما
قاساه هؤلاء من ضروب الإهانة.
نعم إن من بقي في الجزيرة من سكانها كانوا يملكون كثيرًا من الذهب والفضة
وأنهم اشتروا من التجار الأجانب كل ما كانوا في حاجة إليه مدة من الزمن ولكن كل
كنز لا بد من نفاذه بالغًا من الكثرة ما بلغ خصوصًا إذا كان أصله لا يتجدد من أجل
ذلك لم يمض إلا بضع سنين حتي غاضت أموالهم وأنشأوا يندمون ولات حين مندم
على ما فرط منهم من القسوة والظلم في معاملة الفقراء.
صاروا إلى حالة محزنة جدًّا فقد تخلى عنهم من كانوا يحوطونهم من الخدم
والحشم لعجزهم عن دفع أجورهم وعجزت خيلهم عن جر عجلاتهم لفقدها من كانوا
يقومون على تغذيتها وإصلاح شأنها وكانت نساؤهم تُرى في الشوارع منتعلات نعالاً
من الديباج مشوهة الأعقاب ولابسات جلابيب من الحرير المذهب كلها ممزق
ومخرق؛ لأنه يخجل أولئك السيدات الجليلات أن يرقعن ثيابهن بأيديهن فإذا نظر
إليهن ناظر وهن في هذه الأهدام بهذا الصلف والعجرفة بعثته حالهم إلى الضحك
والاستهزاء بهن لو لم يكن من القسوة واللؤم الاستهزاء بالتعساء البائسين ولو كانوا
من الأشرار.
وجملة القول أن جزيرة الأغنياء المترفين قد أصبحت جزيرة الفقراء المعدمين.
كان القحط يزداد فيها من سنة إلى أخرى فقد ضعفت الأرض على التحصيل لعدم
ما كان يخدمها من الأيدي وكاد الأغنياء يموتون جوعًا في صروحهم ولو لم
يتداركهم أولئك الفقراء الذين أخرجوهم من ديارهم بالإفراط في سوء معاملتهم
ويساعدوهم بما فضل عن حاجتهم لهلكوا عن بكرة أبيهم.
كان (أميل) كثير الإصغاء إلي في حكايتي لهذه القصة وما فرغت منها حتى
ابتدرني بقوله: (يستفاد من القصة إذن أن العمل هو سبب الغناء والثروة) فأجبته
أن هذا ليس مطردًا ولكن أقل فائدة له أنه يغني الأمم التي تعرف مناهج العدل
وتسلكها. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) الكجة بالضم والتشديد لعبة: يأخذ الصبي خزقة فيدورها ويجعلها كأنها كرة ثم يتقامرون بها، وتسمى هذه اللعبة في الحضر باسمين، فأما الخزقة فيقال لها التون وأما الأجرة فيقال لها البكسة.(5/228)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أأحياها محمد علي وأماتها خلفه؟
نشرنا ما نشرناه في المنار من الخلاصة التاريخية لمحمد علي الكبير وحده
وليس فيه تعرض لذكر بيت الإمارة (العائلة الخديوية) في مصر بمدح ولا قدح
ولكننا لم نسلم من عقارب السعاية، فقد قال المحّالون أننا أهنّا هذا البيت الرفيع،
وهم كاذبون، فإننا نبرأ من إهانة البيت أو إهانة أي فرد من أمرائه، ولكن خواص
الناس الذين اتفق لهم الاطلاع على خطبة مصطفى بك كامل التي ألفها وطبعها
وقرأها في الإسكندرية قد عجبوا لما فيها من المبالغة والغلو في مدح محمد علي وذم
خلفه في الإمارة لا سيما إسماعيل باشا ومن بعده. وإنما عجبوا - ولا عجب في
خطل الأحداث - لعلمهم بأنه لا يراد بالخطبة خدمة لتاريخ، ولا تأييدًا لمعتقد، ولا
تنبيه الأمة إلى عمل معين يمكن أن تعمله، وإنما المراد بها إرضاء الأمير الحاضر،
والتزلف إليه، والشهرة بين الناس. ولهم أن يعجبوا ممن يحاول إرضاء إنسان
بقوله: إن جدك الأعلى بنى، وأنت وأبوك وجدك الأدنى هدمتم، وجدكم الأعلى
أحيا وأنتم أمتم، وجدكم الأعلى حفظ وأنتم أضعتم.
فهذا هو ملخص الخطبة، ونحن نزيده تفصيلاً تبرئة للمنار من قول السعاة
المحالين أنه أهان البيت الخديوي الآن، وتوجيهًا للأفكار إلى هذه المسألة الحيوية
التي هي أم المسائل الاجتماعية والسياسية في مصر.
كلام الخطبة المؤيّد بكلام صاحبها في جريدته - وسائر قوله صريح - في أن
الأمة المصرية أمة حية قوية، عزيزة الجانب، مستعدة لأن تَبُذَّ جميع الأمم وتعلوها
في كل علم وكل عمل، وإنما يظهر أثر هذا الاستعداد وهذه الحياة إذا كان أميرها
ومدير شوؤنها كفؤا للإمارة، قادرًا على الإدارة، ولذلك جاءها محمد علي الكفؤ
القادر، وهي على شر حال، فعمل بأيديها أعظم الأعمال، وصريح أيضًا في أن
مصر الآن في ذل وصَغَار وضعف ومهانة: حقوق مغصوبة، ووظائف مسلوبة،
وعزائم مقبورة، ومزايا مستورة ولكنه سكت عن التصريح بالسبب للعلم به مما قبله
مع عدم إمكان التصريح به؛ لأن كل إنسان يفهم أن السيف الذي يقط الرقاب ويفلق
الهام وهو صَدِيء مُفَلَّل لا يعجز عن ذلك بعد السن والشحذ، وأن العمل الذي يقدر
عليه الإنسان وهو ضعيف ومريض يكون أقدر عليه بعد عود الصحة وثوب العافية.
فكيف دوخت الأمة المصرية الأمم القوية وظفرت بالدول الحربية المستعدة مع
محمد علي واستسلمت وخنعت للإنكليز على عهد توفيق وعباس الثاني، إن هذا
لعجاب بلسان مقال مصطفى بك كامل، ولسان حاله بل مفهوم كلامه يقول:
وعادة السيف أن يزهو بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
جاء في الصفحة الرابعة من الخطبة أن الأمة المصرية التي فتحت البلاد
والأمصار، وكان عددها يومئذ لا يزيد عن ثلث عددها اليوم قادرة على بلوغ غاية
العز ... وجاء فيها أن محمد علي ما ضرب وغلب وساد، وأخضع لسلطان مصر
البحار والبلاد، إلا بعقل المصريّ وبأسه، وجاء في الصفحة الخامسة أنه أخذ
مصر (وهي عليلة ضئيلة لا حراك بها) ... (فرآها بعد عهد الشقاء وزمن البلاء
وأيام المحن والفتن قادرة على القيام بأعظم الأعمال، فيها من روح الحياة وقوة
النهوض ما يزحزح الجبال الراسيات، وتخرّ أمامه الشمّ الثابتات) ثم ذكر الجند
الذي جنده وهو جند الغزاة الفاتحين، وأنه (أخرج من أولئك الفلاحين الذين طالما
تصرفت فيهم الكوارث كما شاءت أبطالاً وشجعانًا اهتزت الأرض تحت أقدامهم
إجلالاً وإعظامًا وعجزت جيوش العالم عن مجاراتهم ومناظرتهم) .
وفي الصفحة الخامسة كشف السر عن ظهور المصريين بعد ذلك الذل المهين
بمظهر الفاتحين القادرين وهو أن (محمد علي) الذي أدرك بواسع عقله كنوز هذا
الاستعداد في المصريين (لم يترك لليأس سلطانًا على نفسه) كأنه يقول إن الأمير
الموجود لم يدرك هذا الاستعداد بعد ظهوره في أكمل مظهر بعمل جده وكان جده رآه
وهو كنز مخفيّ، وأن هذا يئس من نفسه ومن أمته ولذلك لم يتصد للانتفاع بكنوز
استعدادها الظاهرة. نعم إنه لم يصرح بهذا ولكنه قال في أول الصفحة السابعة أن
من يعرف جيش مصر وأسطولها في زمن محمد علي يظن (أن حادثًا استثنائيًّا محا
أمة إليها تنتهي القوة وأحلّ محلّها أمة عاداها الزمان فلم يترك لها إرادة ولم يلبسها
غير لباس الوهن والاستسلام) فهل أن نفسر هذا الحادث الاستثنائي على رأيه
بغير ما تقدم من عدم معرفة الأمير الحاضر بقوة الأمة المصرية ويأسه من نفسه
ومنها؟ كيف والأمة في أعلى الدرجات؟ وكأنه ذكر الأسطول تعريضًا ببيع
البواخر الخديوية على عهد هذا الأمير.
بعد هذا نوهت الخطبة (ص7) بالمعامل والمصانع التي أنشأها محمد علي
في المدائن والقرى، وبالعمال الذين ازدحمت بهم البلاد ولم يذكر لنا مَنْ هدم تلك
المعامل، ومَنْ غلّ أيدي هذه الأمة الحية عن الأعمال بعد ارتقائها فيها، ثم عادت
إلى التنويه بالقوة الحربية والسياسية ففي الصفحة التاسعة أن (محمد علي) أحاط
مصر بسور من القوة والرهبة وجمع شملها بعد أن كانت مفرقة؛ فصارت وطنًا
واحدًا لأمة واحدة.
وأنه: (وهب مصر عقلاً مدبرًا وقلبًا شاعرًا وساعدًا شديدًا ومجدًا تليدًا (كذا)
وأنه وهب المصريين وطنًا وأمة وحكومة ولسانًا، وطبع على قلوبهم وأفئدتهم
محبة الوطن والشهامة والإقدام وحبّب إليهم الفتح والنصر ورفع الراية المصرية
على كل صقع ومكان) .
فأين ذهبت هذه المزايا كلها وكيف حل محلها (الوهن والاستسلام) وكيف
هبطت من أعلى مكانة تعرج إليها الأمم إلى أسفل تيهور؟ لا يُفْهَمُ من الكلام إلا أن
أحفاد ذلك الواهب هم الذين استردوا الموهوب وفرقوا الشمل المجتمع، وحولوا
بسياستهم الشهامة والإقدام إلى ذل ووهن واستسلام، يدل على هذا ما بعده في
الخطبة.
جاء في الصفحة التاسعة عقيب ما تقدم أن حكومة محمد علي كانت (قائمة
على مبادئ ثلاثة لا تدوم دولة بغيرها، ولا تحيا مملكة بدون إحياءها؛ وهي:
أولاً: حماية الوطن من اعتداء الاجنبي وسلطته.
ثانيًا: ترقية المصري إلى أسمى الوظائف وترشيحه إلى استلام مقاليد
الأمور..
ثالثًا: الامتناع عن الدَّيْن واجتنابه كل الاجتناب، وظاهر أن أحفاد محمد علي
لم يتمسكوا بهذه المبادئ التي لا تدوم دولة بغيرها فإسماعيل باشا أخذ الدَّين
بالملايين وهو أساس الاستعباد كما في (ص11) من الخطبة، وتوفيق باشا لم
يسمع شكوى المصريين حتى ضباط العساكر من ترقيته الجراكسة والأتراك
(الدخلاء) في الوظائف السامية وحرمان أبناء الوطن العزيز منها ثم استعان عليهم
بالإنكليز عندما اجتمعت كلمتهم وثاروا يطلبون أحد المبادئ (الثلاثة) التي زعم
حَدث السياسة أن (محمد علي) أقام عليها حكومته، وأن إسماعيل باشا وتوفيق
باشا هما اللذان أضاعا البلاد المصرية وأماتاها وهدما دولة جدهما. وفي هذا بيان
لحقيَّة مطالب العُرابيين، فلا ندري هل فهم الخطيب من خطبته ما فهمه كل قارئ
أم لا؟ إن كان قاله عن فَهْم فلم يعلن العُرابيين في جريدته؟ وإن كان قاله من غير
فَهْم فكيف يكن هو مؤلف الخطبة ومنشئها ولا يفهمها! !
وفي الصفحة العاشرة فصل الخطاب في مقابلة الخطبة بين الماضي والحاضر
قال: (مصر اليوم تمتثل الاستسلام للإنكليز، والرضوخ لسلطته، والامتثال
لإرادته، وهي هي التي ردته عن الديار تحت إمارة محمد علي وفي ظل رايته)
ثم أثنى على الأمة المصرية بغلب الإنكليز ما أثنى، وذكر أن إنكلترا (أرادت أن
تقضي على هذا الملك الجديد وهذه الدولة الناشئة) فأراها يومئذ بنو مصر أي أمة
هم وأراها محمد علي أي أمير هو!
فتركت الثغور والبلاد آسفة على فشلها معجبة بهذا المجد الباهر، والعزم
القاهر، والوطنية الحقة، والهمة الحديدية) منطوق الكلام صريح في أن الذي أرى
الإنكليز ذلك العزم القاهر في نفسه، وفي الأمة المصرية هو محمد علي، وأنه هو
الذي كان إمام الأمة في الاستقلال ومفهومه أن أميرها في عصر الاحتلال الحاضر لم
يقدر أن يرى الإنكليز..، أي أمير هو؟ وأية أمة أمته؟ فالنتيجة أنه هو القائد
والإمام في هذا الاستسلام.
ولكن أكثر المصريين إن لم نقل كلهم قالوا: إن الأمير الحاضر (وفقه الله
تعالى) قد جاء مصر بهمة محمد علي وعزمه، وزاد عليه بدينه وعلمه، ولكنه لم
يجد في البلاد رجالاً أصحاب عزائم يعمل بهم كما وجد محمد علي، والسبب في هذا
هو ما تقدم في المنار الماضي من كون محمد علي وجد الشجاعة والعزيمة والنجدة
في البلاد فحارب بها وحاربها حتى فنيت بعد ولايته في زمن قريب، فمقالة (آثار
محمد علي في مصر) التي نشرناها في الجزء الماضي يمكن أن يحتج بها من
يعتذر لأميرنا الحاضر (أيده الله) وإذا سلمت هذه المدائح والمناقب التي ذكرت في
الخطبة لمحمد علي فهي حجة على كل أولاده وأحفاده، ويجب أن تبعث في نفوس
المصريين حب محمد علي وبغض جميع ذريته الحاكمين ومقتهم؛ لأنهم هم الذين
أضاعوا استقلال النفوس فضاع في أثره استقلال البلاد لا سيما بُعْد الدين وإعطاء
الوظائف (للدخلاء) .
وإن تعجب فعجب سعي بعض الذين يزعمون حب سمو الخديو الحاضر أو
سعايتهم إليه باسم النصيحة بأن يجتهد في مقاومة كل صاحب إرادة وعزيمة في
مصر، حتى قال أحدهم لسموه (إذا لم تقطع هذه الرؤوس الناتئة كما فعل جدك فلا
يصفو لك الملك في مصر) فليتق الله هؤلاء الذين يقدحون من حيث يمدحون،
ويغشون في عين ما به ينصحون، ويضرون الراعي والرعية إذا رأوا أنهم
ينتفعون.
ومما يصح أن يعد حجة صريحة في الخطبة على ما تقدم فيها بالمفهوم من أن
خلف محمد علي هدموا ما بناه، وأماتوا ما أحياه، ما في الصفحة (13) من
المقابلة بين الأمة المصرية، والأمة اليابانية، وتفضيل نشأة الأولى على الثانية،
والحكم بأنها لو سلكت السبيل الذي وجهها إليه محمد علي لبلغت من الشأن والشأو
ما لا يُكْتَنَه كُنْهه، فإذا وجه الحكام المطلق الأمة إلى شيء هو في طبيعتها
واستعدادها فمن الذي يحولها عنه بعد ذلك إلا الحاكم المطلق الذي هو مثله؟ الكلام
صريح، ليس بتعريض ولا تلويح.
هذه هي الخطبة من حيث المقابلة بين الماضي والحاضر ومدح محمد علي
وهجو خَلَفه ولا نتعرض لما فيها من الغلو والكذب على التاريخ كزعم أن محمد
علي وفق بين المدنية العصرية والدين والإسلامي وغير ذلك فمحمد علي لم يكن
عالمًا ولا فيلسوفًا وإنما كان أميًّا لا يعرف من علوم الدين ولا من علوم الدنيا شيئًا.
وفي الخطبة أنه تعلم القرءاة بعد الأربعين. ولكنه لم يتعلم من العلم شيئًا وحسبنا ما
تقدم في المنار من حقيقة أمره. نعم إننا لم ننكر أنه كان جنديًّا باسلاً وشجاعًا حازمًا
وبذلك تيسر له أن يكون قائدًا لأولئك الشجعان الذين أَبَادَ بِهِم ثم أبادهم.
وبقى في الخطبة كلمتان لا بد من التنبيه عليهما. إحداهما ما جاء في الصفحة
(15) من أنه بقى في مصر من الاستقلال الذي أزاله الإنكليز قوة كبرى إليها
انتهت وتنتهي كل قوة في مصر وهي السلطة العالية التي استمدت وتستمد البلاد
منها كل نجاح وفلاح وهي عرش الخديوية الذي يمثل قوة مصر في ماضيها وآتيها.
فمن ذا الذي يستطيع أن يفهم هذا الكلام، بعد كل ما تقدم من الإيهام، وهل يصح
أن يسأل قائله عن رأيه في استعمال صاحب هذا العرش المتولي على هذه الأمة
الحيّة لهذه القوة الكامنة أولا؟ وثانيهما نصيحته في آخر الخطبة للمصريين أن
يتركوا اليأس ويبنوا مجدهم المقبل على (التربية الوطنية) ليخرج منهم رجال
عظام يبدلون ليل الأوطان بالنهار. فهل يريد أنه ليس فيهم الآن رجال وهل يريد أن
يعتمدوا على أنفسهم، لا على عرش الخديوية وقوته الكامنة؟ وهل يمكن أن يعود
إليهم مجدهم بدون أمير كمحمد علي الكبير؟ .
كلا، إنه ذكر التربية الوطنية التي يزعم أنه المنفرد بالحث عليها وأنها
المحيية للبلاد ليفهم الناس أنه هو محيي الوطن بعد محمد علي ولذلك ختم خطبته
بكلمة لم تطبع وهي: إنني خطبت هنا سنة 1896 خطبة كانت من أثرها هذا
الانقلاب الكبير في التربية والتعليم، وسيكون أثر هذه الخطبة أكبر وأعم في تقدم
الوطن العزيز؛ فخرج القوم يضحكون من هذا الغرُور.
__________(5/232)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم
في يوم الجمعة 6 ربيع الأول أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال
الاصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء الاجتماع
البشري، ألا وهو السائح الشهير، والرحالة الخبير، السيد الشيخ عبد الرحمن
الكواكبي الحلبي مؤلف كتاب (طبائع الاستبداد) وصاحب (سجل جمعية أم القرى)
الملقب فيه بالسيد الفراتي.
اختطفت المنية منا بغتة هذا الصديق الكريم، والولي الحميم، بل هدمت منا
الركن الركين، وقوضت أقوى الدعائم والأساطين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
لو كان الرثاء والتأبين من موضوع المنار لرثيته بما يليق بخَطْبِه العظيم،
وما كنت لأستعير المدامع لأستعبر القارئ والسامع، ولا لأستمدّ الرثاء من خيال
الشعراء، ولا الحزن من فؤاد الخنساء، وإنما أستملي القلب بعض ما يجد من
الكرب، فإنه ما أحزنني خطب كخَطْبِه، ولا أَمَضَّنِي كَرْب ككربه.
حزني عليه دوره مسلسل ... مهما انتهى إلى النفاد انقلبا
ولكنني أدع الرثاء والتأبين لأفاضل الشعراء المجيدين، وأذكر في المنار ما
يليق بموضوعه من خلاصة سيرة هذا الرجل؛ ليعلم القراء منها كيف يُنْبِت الشرق
الرجال العظام، وكيف تُضيّعهم الأمم والحكام، ولتكون ذكرى لمن يدَّكر، وعظة
لمن يعتبر، وأبدأ بترجمة الفقيد الرسمية وهي مطبوعة في ورقتين رسميتين
إحداهما مُصَدَّق عليها من والي حلب المشير عثمان نوري باشا ورؤساء حكومة
حلب يومئذ، والثانية مُصَدَّق عليها من الوزير رائف باشا والى حلب وهي الأخيرة
وإنما أبدأ بالسيرة الرسمية؛ لأنها من مواد استنباط سيرته الاجتماعية والسياسية
والأدبية وهذا تعريبها ملخصًا:
السيرة الرسمية
هو عبد الرحمن أفندي ووالده الشيخ أحمد أفندي من آل الكواكبي ومن
المدرسين في الجامع الأموي الكبير والمدرسة الكواكبية، وآخر وظيفة كان فيها
عضوية مجلس إدارة ولاية حلب. وبيتهم من بيوتات المجد والشرف (خاندان)
المشهورة في الأستانة العلية وحلب. ولد السيد عبد الرحمن أفندي الكواكبي في
23 شوال سنة 1265 وتعلم القراءة والكتابة في المدارس الأهلية الابتدائية، ثم
استحضر له أستاذ مخصوص عَلَّمَه أصول اللسانين التركي والفارسي. وتلقى
العلوم العربية والشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، وأخذ الإجازات من
علمائها ودَرَّس فيها. وهو يقرأ ويكتب بالعربية والتركية. وقد وقف على العلوم
الرياضية والطبيعية وبعض الفنون الجديدة بالمطالعة والمراجعة. ومن تأليفه تحرير
الجريدة الرسمية (فرات) بقسميها التركي والعربي في سنة 1292 إلى سنة
1297. ومنه جريدة الشهباء التي أنشأها في حلب سنة 1293 وكان هو المحرر
لها.
خدمته ووظائفه:
دخل في وظائف الدولة رسميًّا في الثامنة والعشرين من عمره وفي سنة 1293
عُيِّنَ محررًا رسميًّا للجريدة الرسمية بقسميها (كأنه كان في سنة 1292 يحررها
بصفة غير رسمية للاختبار) براتب قدره ثمانمائة قرش. وفي 5 ربيع الأول سنة
1295 عُيِّن كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف التي تأسست في ولاية حلب (يعنون بالفخري
ما كان بدون راتب) . وبعد ثلاث سنين اتسعت دائرة اللجنة وزيد فيها قسم النافعة
(الأشغال العمومية) وعين عضوا فخريًّا فيها. وفي 2 جمادى الأولى تعين محررًا
للمقاولات (مسجل المحكمة) وفي 16 ربيع الثاني سنة 1298 صار مأمورالإجراء
(رئيس قلم المحضرين) في ولاية حلب. وفي 7 رمضان سنة 1298 عين
عضوًا فخريًّا للجنة (قومسيون) النافعة. وفي 22 ذي القعدة سنة 1299 عين
بأمر نظارة العدلية (الحقانية) في الآستانة عضوًا في محكمة التجارة بولاية حلب
مع البقاء في وظيفته الأولى (محرر المقاولات) وفي سنة 1303 انفصل من هذه
الأخيرة وفي 4 رجب سنة 1304 عاد إلى وظيفة مأمور الإجراء، وفي 23 رجب
سنة 1310 عُيِّنَ رئيسًا للبلدية.
إلى هنا انتهت وظائف الترجمة الرسمية الأولى، وجاء في الثانية بعد ذكر ما
تقدم أنه في 29 من ربيع الأول سنة 1312 عين رئيس كُتّاب المحكمة الشرعية في
حلب (باشكاتب) بقرار من مجلس النواب في دار السعادة. وفي 28 ذي الحجة
سنة 1312 عين ناظرًا ومفتشًا لمصلحة انحصار الدخان (الريجي) المشتركة مع
نظارة المالية في ولاية حلب ومتصرفية الزور، وفي أثناء ذلك اتفق مع إدارة
المصلحة وتعاقدا على أن يستلم من المصلحة جميع ما تقدمه من الدخان (التبغ)
إلى الولاية المتصرفية بزيادة كثيرة عن القدر المعتاد وجميع ما يزرع فيهما منه،
ويتولى بيعه، وتعهد في إزاء ذلك بمبلغ من المال يزيد عما كانت تبيع به المصلحة
دخانها زيادة كبيرة.
وفي غضون ذلك استقال من رياسة كُتَّاب المحكمة الشرعية ثم في 9 ذي
الحجة سنة 1314 أعيد إليها وعين رئيسًا للجنة البيع والفراغ (أي استبدال
الأراضي الأميرية من أصحاب اليد بالمال) وفي 7 ربيع الأول عين رئيسًا أولاً
لغرفة التجارة في حلب ورئيسًا لمجلس إدارة المصرف (البنك) الزراعي، وفي
22 رجب عين قاضيًا شرعيًّا لراشيا التابعة لولاية سوريا.
رتبه ووساماته:
في 19 رجب سنة 1297 وجهت إليه نيابة دروس أدرنة العلمية. وفي 25
ربيع الثاني وجه إليه تدريس هذه الرتبة. وفي 22 ذي الحجة سنة 1312 وجهت
إليه مولوية أزمير المجردة. وفي 28 من جمادى الثانية أعطي الوسام المجيدي من
الدرجة الثالثة. اهـ
إن من ينظر في هذه الترجمة الرسمية ولم يكن عارفًا بالمترجم ولا بسيره في
هذه الوظائف العلمية الأدبية، الإدارية القلمية، الحقوقية التجارية، الزراعية
المالية يقول: إن صاحبها من أوساط الناس لا من أفراد الرجال الذين يعدون من
علماء الاجتماع وأركان العمران، ومهذبي الأمم كما وصف في فاتحة القول، ولكن
من يعلم أنه في كل عمل منها آية بينة في إتقان العمل، وحكمة التصرف، يحار
كيف يحسن رجل هذه الأعمل المتباينة. وإذا وقف بعد ذلك على بعض سيرته في
العزيمة وقوة الإرادة وعلم ما كانت تسمو إليه نفسه، ويرمي إليه فكره، وقرأ
بعض ما جادت به قريحته الوقادة، وفكرته النقادة، علم أنه من أفراد الزمان،
وأدرك ماذا كان يرجى منه لو ساعد الزمان والمكان، وإننا نلم بشيء مما وقفنا
عليه من سيرته في مدة صحبتنا له في هاتين السنتين اللتين أقامهما في مصر.
أدبه وأخلاقه:
توفيت والدة الفقيد وهو في أول سن التمييز فعهد والده بتربيته إلى خالة له
(من بيوتات أنطاكية) من نوابغ النساء اللواتي قلما يعرف مثلهن الشرق، لا
سيما في هذا الزمان، كانت تعرف بالعقل والكياسة والدهاء والأدب البارع فنشَّأته
على أدب اللسان والنفس فكان من أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة
والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة وحب الضعفاء. وقد كنت ككل من عرفه
معجبًا بأناته حتى كنت أقول: إنني أراه يتروّى في رد السلام ويتمكث في جواب
من يحييه عدة ثوان! ولا أكاد أعرف أخلاقًا أعصى على الانتقاد من أخلاقه ولقد
كان لسان الحال يصفه بقول ابن دريد:
يعتصم الحلم بجنبي حُبْوتِي ... إذا رياح الطَّيْش طارت بالحبي
لا يطبيني طمع مدنّس ... إذا استمال طبع أو اطَّبي
والحلم خير ما اتخذت جُنَّة ... وأنفس الأبراد من بعد التقى
علمه ومعارفه:
نزيد على ما جاء في السيرة الرسمية أن الفقيد درس قوانين الدولة درسًا دقيقًا،
وكان محيطًا بها يكاد يكون حافظًا لها وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم
الحقوق والشرائع، ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين. ولا أعلم أن برّز
في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فنُ يفْهَم، وعَقِل
بحيث إذا أراد الاشتغال به عملاً أو تأليفًا أو تعليمًا يتسنى له أن ينفع نفعًا لا ينظر
من الذين صرفوا فيه أعمارهم. ألا تراه كيف ألف كتابًا في طبائع الاستبداد لم
يكتب مثله فيلسوف في الشرق ولا في الغرب فيما نعلم وكما سمعنا من كثيرين لهم
اطلاع واسع في مؤلفات فلاسفة الغرب وكتابه.
على أن الفقيد لم يتعلم شيئًا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل
والفلسفة في مدرسة، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه فيها من المؤلفات
والجرائد التركية والعربية.
أرأيت عقلاً يتصرف هذا التصرف الذي يفوق فيه الحكماء والفلاسفة في علم
لم يأخذه بالتلقي وهو أصعب العلوم البشرية وأعلاها.
كيف يكون أثره لو تربى وتعلم في مدارس منتظمة كمدارس أوربا الجامعة
وكان عنده من مواد العلم ومعرفة الأمة والحكومة بقيمة صاحبه مثلما في أوربا.
وبالجملة إنك لم تكن تذاكره في شيء ولا علم إلا ويشاركك فيه على بصيرة.
عمله ووجهته:
كانت وجهة الفقيد في كل عمل عمله أو حاوله هي المنفعة العامة فأول شيء
ولاَّه وجهه هو إنشاء جريدة في بلاد لم تكن تعرف الجرائد الأهلية ولم تكن بضاعة
الكتب رائجة فيها ولو كان في بلاده حرية للجرائد لكان في (الشهباء) الأثر
المحمود، ولكن البلاد التي تحكم بالاستبداد كالأرض الموبوءة لا تحيا فيها الجرائد،
ولذلك لم تنجح جريدة من الجريدتين اللتين أنشأهما لأن نفسه الأبية لم تستطع إرضاء
الحكام فيما يكتب. وهكذا كان شأنه في وظائفه: ولي رياسة البلدية فكان أول عمل
عمله للبلدان أن وضع على طرق المدينة من خارجها سلاسل من الحديد تمنع الجمال
التي كانت تسدّ الطرقات وتمنع المارين من التردد في حوائجهم وجعل لهذه الجمال
التي تُحْمَل إلى البلد ومنه مكانًا أو أمكنة مخصوصة، وكانت مصلحة (القبان) قد
حصرت في واحد من الأغنياء يأخذها من البلدية بالالتزام ولا يتجاسر على الزيادة
عليه أحد لتقربه من الرؤساء فلما علم أن الرئيس الجديد لا يصدّه التقرب إليه عن خدمة المصلحة عرض عليه أربعين ألف قرش أو أكثر يعطيه إياها (رشوة) كل عام في مقابلة سكوته عنه فلم يقبل الفقيد أن يأخذ لنفسه شيئًا ولكنه قبل أن يكون المبلغ
إعانة لصندوق البلدية فعلم الوالي بهذه الزيادة في الصندوق وسعى في أن يكون له
سهم منها فأبى عليه الفقيد ذلك فعزله. وهكذا كانت سيرته مع الحكام في كل وظائفه
أو جلها: يتصدى للإصلاح فيصدونه عنه لأجل منفعة مالية أو لتقليل نفوذه فلا
يتم له عمل.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/237)
غرة ربيع الثاني - 1320هـ
7 يوليو - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(الدرس 35)
عدد الأنبياء ومواطنهم وتعددهم
(المسألة 96)
عدد الأنبياء والمرسلين رووا في عددهم أحاديث لا يحتج بشيء منها ومنها
الضعيف والموضوع وأمثلها ما رواه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وابن
مردويه والبيهقي في الأسماء عن أبي أمامة قال: قلت يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟
قال (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا
غفيرًا) وفي رواية للحاكم والبيهقي عن أبي ذر (والمرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر
وآدم نبي مكلّم) ومن حديث أنس عند الحاكم وابن سعد أن الأنبياء ثمانية آلاف
ويفهم منه أن المراد بهم المرسلون، وفي حديث جابر عند ابن سعد، وأبي سعيد عند
الحاكم (إني خاتم ألف نبي أو أكثر) ولعدم الثقة بهذه الروايات قال العلماء بالوقف
في مسألة عدد الأنبياء؛ لأن القائل بعدد يكون نافيًا لما زاد عنه فهو كالمكذّب بالزائد
وما يدريه لعل هناك زيادة. هكذا قالوا وأقوى منه أنه قول على الله بغير علم فهو
من الكذب عليه جلّ ثناؤه ومن اتباع الظن في الأمور الاعتقادية {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي
مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) . وقد قال تعالى لنبيه {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) فحسبنا من العدد ما قصّه الله تعالى
في القرآن أن الرسل الذين ذُكروا في القرآن يجب الإيمان بهم تفصيلا. قال تعالى:
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ
فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ} (الأنعام: 83-86) فهذا هو تفضيل النبوة والرسالة
يَفْضُلُونَ به سائر الناس.
وقد وردت هذه الأسماء متصلة على هذا الوجه، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي
الكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ} (مريم: 56) وقال جل جلاله في ذكر قصص
المرسلين {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} (الأعراف: 65) وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ
صَالِحاً} (الأعراف: 73) وقال: {َإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} (الأعراف: 85)
أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا ومثله ما بعده وقال تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ} (ص: 48) ، فذكر ذا الكفل بين الأنبياء،
ولم يبق إلاَّ ذكر الفاتح وهو آدم والخاتم وهو محمد عليهم الصلاة والسلام وذكرهما
في القرآن مستفيض.
***
(المسألة 97)
معاهد الأنبياء ومواطنهم: إن المعروف من تاريخ هؤلاء الأنبياء الكرام يدل
على أنهم كانوا كلهم أو جلّهم من بلاد العرب وما يتصل بها من الشام وفلسطين
والعراق كأن هذه القطعة الصغيرة من الأرض التي يكوّن منها القاموس الهنديُّ
والبحر الأحمر والبحر المتوسط شبه جزيرة هي منبت الأنبياء والمرسلين من بعد
آدم أي من عهد نوح إلى عهد محمد عليهما الصلاة والسلام. وكأن الله تعالى
اختص أهلها بالهداية دون سائر خلقه وإن القول بحصر النبوة والرسالة في هذه
البقعة لمن أقوى شبه الملاحدة على الدين وهو ينافي ما تقدم في بيان وجه الحاجة
إلى إرسال الرسل فيمكن أن يبطلوا ذاك بهذا إن صح وقد حملهم ما رأوا في كتب
اليهود والنصارى من حصر الأنبياء في بلاد فلسطين والشام وما جاورها على
البحث في أخلاق أهل هذه البلاد وطبائعهم وعاداتهم فزعموا أن عند خواصهم
استعدادًا خاصًّا للقيام بالدعوات الدينية والمذاهب والرياسة الروحية وأن عند عوامهم
استعدادًا لإجابة كل داعٍ واتباع كل ناعقٍ قالوا: ولأجل هذا حدثت الأديان والمذاهب
والفرق في هذه البلاد دون غيرها.
هذه الوساوس لا منفذ لها إلى قلب من يفهم القرآن فقد قال جلت حكمته:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24)
فهذا نص قاطع صريح في أن هذه الرحمة الإلهية والهداية السماوية كانت منحة
عامة لجميع الأمم في كل بقعة من بقاع الأرض. وإنه لقول فصل، تصافح فيه
العقل والنقل، فإن قيل لِمَ لَمْ يذكر في بيان هذا الإجمال بذكر الأنبياء والمرسلين
نبيَّا أرسل في الهند أو الصين أو أوربا أو أميركا؟ نقول إن ذكر الأنبياء لم يأت بيانًا
لإجمال في هذه الآية وإنما أتى لبيان سنن الله تعالى في الأمم مع أنبيائهم لأجل
العبرة للمنذَرِين. وتثبيت المرسلين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111) وقال: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: 120) وكل من العِبْرة والتثبيت إنما يكون بما هو
معروف ولو بوجه ما، ولذلك تكرر ذكر الأنبياء الذين تعرف أقوامهم أو بلادهم
بالتفصيل أكثر مما لا يعرف إلا بالإجمال. ويكفي ذكر آية واحدة لبيان أن رحمته
تعالى لعباده بإرسال الرسل لهدايتهم عامة؛ لأن جميع الخلق عيال الله تعالى وهو بهم
رؤوف رحيم.
أرأيت لو جاء هذا النبي العربي قومه بذكر نبي كان أرسل في أميركا منذ
مائة ألف سنة وذكر لهم بعض شأنه معهم أكان يحصل لهم من العِبْرَة بعض ما
حصل من أخبار أمة اليهود، وخبر صالح في ثمود؟ كلا إن ذكر المجهول المطلق
يحمل على التخيل والاختراع، ويقول الناس في أمثالهم: إذا أردت أن تكذب فأبعد
الشهود.
ولذلك كان يأمرهم أحيانًا بسؤال اليهود، ونزل في قصة ثمود: {وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (الصافات: 137-138) .
وما يدرينا أن كونفشيوس كان نبيًّا مرسلا إلى أهل الصين، فإن آثار هدايته
وحكمته لم تمح بالمرة وكذلك يقال في بوذة فإن قيل يوجد في عقائد القوم ما يحكم
الإسلام بأنه لا يمكن أن يكون من دين الله لا سيما ما في الديانة البوذية من الشرك
بالله تعالى؟ نقول أليس يوجد في عقائد من صرح القرآن الحكيم بأن كتبهم سماوية
وديانتهم إلهية، أمثال هذه العقائد التي يعدها الإسلام وثنية؟ فما يدرينا أن هذا دخل
على القوم بالتأويل والتحريف كما دخل على من بعدهم إلى يومنا هذا {أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) إذن إن طول الأمد على البعثة مظنة الفسوق عن أمر الله تعالى
والعبر بين أيدينا وعن أيماننا وشمائلنا، فألهمنا اللهم رشدنا.
فإن قيل: إذا جوزتم أن تكون الأمم التي سبقت لها آداب سامية، ومدنية
زاهية، قد استمدت ذلك من الديانة السماوية، كما قلت في الأمة الصينية، فما هو
الحكم في الأمم الهمجية التي لا يكاد يَفْصِلها عن الحيوان الأعجم إلاَّ بدوُّ البشرة
والضحك بالطبع كبعض زنوج أفريقيا وسكان بعض جزائر القاموس المحيط
الأعظم؟ إن قلتم إنه بُعِثَ فيهم أنبياء فأين آثار هدايتهم في الأمة؟ وإن قلتم لّما
يُرْسَل إليهم رسول فأين العموم في قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) فالجواب أن الله جلت حكمته خلق هذا الإنسان وجعل كماله
الوجودي بالارتقاء التدريجي في عمله بالكون وعمل الكون به فكلما استعد لمرتبة
من مراتب ذلك الكمال أعطاه إياها فهو يأخذ دائمًا بقدر استعداده. وإطلاق القول في
العموم والخصوص يراعى فيه قيد ما عرف في نظام الوجود أنه شرط له فإذا قلنا:
إن الأنثى تلد أو كل أنثى تلد فالمراد أنها تلد في سن الولادة وبشرطها الوجودي فلا
ينقضه كون الصغيرة لا تلد. فإذا فرضنا أن المسئول عنهم لم يظهر فيهم مرشد ينذر
قومه بما يعطيه الإلهام الإلهي من المعرفة سوء ما هم فيه من إفساد ويدلهم على
الحق وطرق الإصلاح فلا شك أن ذلك لعدم استعدادهم لفهم الحق ومعرفة الخير من
الشر.
على أن عدم ارتقائهم في المدنية لا يدل على أنه لم يظهر فيهم نذير ولا مرشد
لأن الناس في كل عصر لا يستفيدون في هداية الأنبياء إلا بقدر استعدادهم فكم من
نبي لم يؤمن به إلا النفر القليل كما ورد في نوح عليه السلام.
وكم من نبي لم يؤمن به أحد كما قال تعالى بعد ذكر قصة نوح: {ثُمَّ بَعَثْنَا
مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ} (يونس: 74) وأكثر الأنبياء قد دَرَست آثارهم في الشرق حتى إن صحف
إبراهيم لم يُحْفَظ منها شيء وهو أبو الأنبياء وخليل الرحمن والذي حفظت له الذكر
الحسن جميع الأمم المؤمنة لأنها كانت قد ارتقت وصار فيها من يعرف قدر العظماء
ويحفظه؛ ولأن النبوة تسلسلت في ذريته باتصال فهل ينكر مع هذا أن لا يحفظ
للأنبياء الذين يظهرون في الأمم الجاهلة الهمجية أثر؟
***
(المسألة 99)
ارتقاء الدين: جرى الدين في سنة الارتقاء وكان كماله في الشرق وذلك من
عهد إبراهيم إلى عهد محمد خاتم النبيين فالأنبياء ليسوا سواء في إصلاح الأمم في
عقائدها وأعمالها وآدابها وروابطها الاجتماعية؛ لأن الحاجة إلى الإصلاح تختلف
باختلاف الأمم والأقوام فالبدو أقل من الحضر ضلالاً في الفكر وأقل علمًا لأنهم أهل
فطرة لم تتحكم فيها المذاهب الوضعية والآراء النظرية وأقل فساداًُ في الأخلاق
والآداب لسذاجتهم وبُعْدهم عن الترف وليس في البداوة من الشئون الاجتماعية مثل
في ما في الحضارة فتحتاج إلى ما تحتاج إليه من الشرائع المدنية والقضائية
والسياسية.
كان الناس على بساطتهم وسلامة فطرتهم فلمّا دبَّ فيهم الفساد لم يَفْشُ إلا
بالتدريج فكان يظهر فيهم الشكر في العبادة وهو التوجه إلى شيء من المخلوقات
يكون صلة بينهم وبين الخالق الذي يشعر به فطرتهم، ولا يحيط به علمهم ولا
تحدده مخيلتهم، ويفشو فيهم بعض الشرور فيُظهِر الله فيهم واحدًا منهم كبير العقل
زكي النفس يلهم قلبه بوحي إليه أن ينذرهم العقوبة على ظلمهم وينهاهم عن الشك
والرذيلة ويأمرهم بضدهما وبذلك تستقيم حال من أطاعه؛ لأن هذا الذي طرأ عليهم
هو الذي يطفئ نور الفطرة بالتمادي فيكون الإنسان شيطانًا مريدًا.
ألا ترى أن من الأنبياء من لم يذكر له القرآن إلا الدعوة إلى التوحيد فقط.
ومنهم من ذكر له النهي عن معصية كانت فاشية فكان يدعو إلى التوحيد
وينهى عنها دائمًا كما جاء في قصة لوط من النهي عن الفاحشة دائمًا.
وكقوله تعالى في رسالة شعيب عليه السلام {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} (الأعراف: 85) ثم حكي عنه {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} (هود: 85) .
فيفهم من تكرار ذلك أن المقصود الأعظم من رسالة شعيب عبادة الله تعالى وحده.
وإيفاء المكيال والميزان لأن قومه كانوا مُطَفِّقِينَ (كأكثر الباعة في مصر لهذا العهد)
{إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (المطففين: 2) ، {وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ
يُخْسِرُونَ} (المطففين: 3) ، ولم تكن رسالة موسى بهذا الاختصار فقد كانت لها
شريعة واسعة وفيها هجرة وحرب؛ لأن معيشة الحضارة وحكم الاستبداد أثرا في بني
إسرائيل تأثيرًا أفسد طباعهم من جهة، وجعلهم مستعدين لحياة مدنية فاضلة من جهة
أخرى فكانت هدايتهم أصعب.
***
(م 100: تعدد الرسل ومراتبهم)
كان الناس أمة واحدة على فطرة الله التي فطر الناس عليها ذلك عندما كانوا
على البداوة التي هي أقرب إلى الحياة الفردية منها إلى الحياة الاجتماعية فقضت
سنة الارتقاء أن يزيدوا اجتماعًا بالتدريج فكانت بعد البيوت والأسر العشائر
والفصائل والقبائل والشعوب والأمم. وكانوا كلما ارتقوا درجة في الاجتماع تقوى
فيهم الأطماع التي يقضيها التنازع، وكان يظهر فيهم عند الدخول في كل طور من
هذه الأطوار هُدَاة يرشدونهم إلى ترك الضار بأنفسهم منفردة ومجتمعة ويدلونهم على
ما به تسلم أرواحهم من الفساد في الاعتقاد والأخلاق وفي ذلك سعادة الدنيا والآخرة،
وبهذا وما قبله يُعْلَم أن المقصود من بعثة الأنبياء والمرسلين واحد في الجملة وأنه
يختلف في تفصيله باختلاف أحوال الأقوام وإنما كانوا ممتازين بفِطَرِهِم السليمة عن
قومهم امتيازًا كانوا به على علم بالإصلاح ضروري عندهم سعى لخفاء منشأه
وسرعة حدوثه في النفس وحيًا. (راجع الكلام على الوحي في المسألة 61 من
الدرس العشرين - 252: 4) وكان علمهم مؤثرًا في النفس باعثًا لها على العمل
به؛ لأنه وجداني إلهي لا من استنباط التصور والفكر الذي يصحبه الشك والتردد أي
إنه كان يقع في قلب صاحبه ومعه علم آخر وجداني وهو أنه من الله تعالى سواء
نزل على القلب في اليقظة أم في المنام.
ونتيجة هذا وذاك أن علوم الرسل وأعمالهم متفاوتة بحسب أحوال أممهم،
وبذلك فَضَّلَ الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات وسمى بعضهم أولي
العزم، ومنه ومن اختلاف اللغات في الأقوام يُعلم أنه الرسل قد يتعددون في زمان
واحد بين أقوام ولو متجاورين وقد يتعددون في أمة واحدة للتعاون كموسى وهارون
في بني إسرائيل. إذا كان فضل بعض الرسل على بعض يكون بحسب حال الأمم
التي بعثوا إليها وما يستلزمه إصلاحها من العلم والعمل؛ فموسى جدير بأن يكون
أفضل من صالح وشعيب والمرسل إلى الخلق كافة أفضل من المرسل إلى أمة
معدودة، وبهذه المناسبة ومناسبة كون إرسال الرسل كان على حسب حاجة البشر
إلى الإصلاح الروحي والاجتماعي نتكلم في الدرس الآتي عن ختم النبوة وخاتم
النبيين عليه أفضل الصلاة والتسليم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/245)
الكاتب: أمين عز الدين
__________
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
بقلم الشيخ أمين أفندي عز الدين
من أهل العلم والأدب في طرابلس الشام ونزيل مصر الآن
صدق الله العظيم وكذب هوس الناس: نقوم أمام المحراب تماثيل بشرية يحرك
حكم العادة أيدينا بالتكبير وألسنتنا بالتلاوة والتسبيح ويحني ظهورنا للركوع ويثني
عظامنا للسجود من غير أن يلم بنا شعور بهذه الأوضاع أو يفعل في أنفسنا تأثير
من تلك الأعمال فضلاً عن نظر في مقاصدها وتوجه إلى غاياتها ونحسبها من
الصلاة التي قال فيها رب محمد صلى الله وعليه وسلم {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ
الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) ونحن مشمرون للفواحش عن ذراع،
سبحان الله نحن ما نحن مصلون.
الصلاة ما جعلها الله أفعالاًِ ميتةً وأوضاعًا جامدةً تُقصد لذاتها ولكن جعلها
مظاهر سكينة ومواقف خضوع تُؤذن الناس أنها شعار مناجاة بين العبد وبين ربه
كل يوم ليكون هذا الإنسان على نوع من ذكر الله تعالى في معارك معاشه ومعامع
حياته وفي الآخرة أعد الله له أجرًا عظيمًا.
تعالى الله أن يكلف قلوبًا غلفًا ونفوسًا جلفًا باختلاجات عضوية فارغة الإناء
ثم يعد لفاعلها حسن الجزاء.
الصلاة أفعال مخصوصة ذات أركان معلومة جعلها دين الله الإسلامي مرقاةً
لمراقبة المعبود أنزلت من السماء مائدة تحمل للأرواح غذاءها من العالم النوراني
كيلا تضل في الغربة ويتغلب عليها سلطان الشهوة عالمين متباينين لكل منهما
مطالب تناسب طبيعته في وجوده وبقائه والثاني: أثيري لطيف يستمد وجوده من
النور القدسي، ويستفيض بقاءه من النفحات الإلهية فالأول جسم والثاني روح.
تناول الجسد وجود من هذه البساط الأرضية فجرت عليه قوانين الطبيعة
واعترته أحكام من قوة وضعف وزيادة ونقص وتحلل وتركب وأصبح من أجل ذلك
في حاجة شديدة لتعويض ما تستلبه منه نواميس التحليل مثلاً بمثل وجنسًا بجنس
وذلك غذاؤه وأما الروح فهو وإن كان آمنًا على وجوده من غارة الفناء وانحلال
الأجزاء إلا أنه هبط من السماء وله مع العالم المادي شئون أيريد كل من
المتجاورين أن يكون هو المتغلب ليتمكن من امتلاك هذا الهيكل الإنساني فيستسعيه
في أمياله ويتصرف فيه كيف يشاء، ومن ثمة كان الروح مضطرًّا أن يستمد من
عالمه العلوي ما يقوى به على التغلب أو يحفظ به مركز استقلاله وهذا هو غذاؤه،
متى تمت الغلبة رفرفت بهذا الإنسان إلى معاهدها الأولى في مظاهر الملكوت
ومصاف الملكية، وأذنت له أن يتصرف بما في آفاقه من الكونيات المادية إلى حيث
يجعلها من خدم شئونه الحيوية على عكس من الجسد إذا تسنم صهوة القلب واقتعد
سرير السلطة فإنه يهبط بالإنسان إلى عالمه في الدرجات السفلية وبرزخ العجم من
الحيوانات إلى حيث ترتفع الطبيعة أن يمسها بكفه تصرف أو تمكنه من وطر، فأي
الطريقين خير؟
أراد الإسلام بهذا الإنسان خيرًا فحتم عليه في سائر أحواله أن يجيب مطالب
عالمه الروحي ويتقاعس عن مشتهيات عالمة المادي ما استطاع ودعاه أن يقف بين
يدي ربه سبحانه وتعالى خمس وقفات في اليوم يناجيه بهيئة الذل وشعار الخضوع
بحيث ينبذ ما سواه في العراء ليتأهل لقبول الفيض الإلهي الذي هو لروحه غذاء
تتقوت به وتعتمد عليه في مناوراتها مع الجسم والمادة وتلك هي الصلاة التي تنهى عما
تنهى وتقرب إلى الله زلفى.
تلك التي كفكفت جبروت أولئك القوم الجاهلية في ردح من الزمن وهي التي
كان مؤمن القلب في القرون الغابرة يتغيب فيها عن مشاعره بحيث لم يكن يشعر
بالفواجع الخطرة والمؤلمات الجسدية ولو كان في هذه نشر عظمه أو عرق لحمه وها هوتاريخ حياة القوم كانوا يعلمون أن الصلاة ماهية دعامتها الخشوع. كانوا يعلمون أن ما فيها من الأعمال إنما هو ركن ثانوي يقصد به تمثيل الخضوع
القلبي على الجوارح ليشترك السر والعلانية في التذلل والسكينة فطفقوا يصلون
متجردين عن المشاغل الفكرية وهو السبب فيما يبلغنا عنهم من الغيبة عن مشاهد
الكون في خلال الصلاة أما نحن فإننا ذهبنا إلى أن الصلاة إنما هي تلك الأعمال
الظاهرية لا دخل فيها للخشوع ولا يغني فيها خضوع وأقبلنا نجتزئ بتلك الوقفات الجمادية والاختلاجات اللسانية وهي لا تصدفنا عن فحش نأتيه ولا تنهانا عن منكر نفعله فهل تخلف قول القرآن أم نحن لم نكن مصلين؟
نزعم أننا لم نخاطب خطاب التكليف بتلك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء
والمنكر حيث فهمنا أنها هي الكاملة، ويكأن القوم لا يعلقون هل أمر الله إذ أمر بإقامة
الصلاة أن تكون ناقصة أم دلت الإقامة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: 43) على ذلك المعنى الناقص؟
أستغفر الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن
لم تكن تراه فإنه يراك) اللهم ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا.
__________(5/252)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الملائكة والنواميس الطبيعية
سأل سائل: إذا كانت الملائكة هي عبارة عن القوى المعنوية والنواميس التي
بها نظام العوالم الحية. فما معنى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ} (النبأ: 38) وأمثاله؟ والجواب: إن الذي تقدم في التفسير هو أن الملائكة عالم
مستقل مستتر عنا وإنما كان ذكر القوى والنواميس الطبيعة جذبًا لمنكري الملائكة
إلى التصديق؛ لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون، فيكف يكفرون لاختلاف
الألفاظ لا أن الكلام كان إرجاعًا لنصوص الدين إلى أقوالهم.
__________(5/255)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب دلائل الإعجاز
للإمام عبد القاهر الجرجاني
(وهو يطبع الآن)
فصل
في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه
وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه
لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور (أحدها) : أن يكون رفضه له وذمه إياه
من أجل ما يجده فيه من هزل أو سُخْف وهجاء وسب وكذب وباطل على الجملة،
(والثاني) : أن يذمه لأنه موزون مُقفّى، ويرى هذا بمجرده عيبًا يقتضي الزهد فيه
والتنزه عنه (والثالث) : أن يتعلق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر،
ويقول: قد ذُمُّوا في التنزيل، وأي كان من هذه رأيًا له فهو في ذلك على خطأ ظاهر
وغلط فاحش، وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر، بالضد مما جاء به الأثر،
وصح به الخبر.
أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسُخْف وكذب وباطل،
فينبغي أن يذم الكلام كله. وأن يضل الخرس على النطق والعيَّ على البيان فمنثور
كلام الناس على كل حال أكثر من منظموه، والذي زعم أنه ذم الشعر بسببه، وعاداه
بنسبته إليه أكثر؛ لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون، والعامة ومن لا
يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل. ونحن نعلم أنه لو كان منثور الكلام يجمع كما
يجمع المنظوم. ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثرًا في عصر
واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظمًا في الأزمان الكثيرة، ولغمره حتى لا
يظهر فيه، ثم إنك لو لم تَروِ من هذا الضرب شيئًا قط ولم تحفظ إلا الجِدّ المحض
وإلا ما لا يعاب عليك في روايته وفي المحاضرة به وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك
غنى ومندوحة، ولو وجدت طلبتك ونلت مرادك حصل لك ما نحن ندعوك إليه
من علم الفصاحة، فاختر لنفسك ودع ما تكره إلى ما تحب (هذا) وراوي الشعر
حاكٍ وليس على الحاكي عيبٌ. ولا عليه تبعة، إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر
باطلاً أو يسوء مسلمًا. وقد حكى الله تعالى كلام الكفار، فانظر إلى الغرض الذي له
روي الشعر، ومن أجله أُرِيدَ وله دُوِّنَ، تعلم أنك قد زغت عن المنهج، وأنك مسيء
في هذه العداوة، وهي العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماء لغريب
القرآن وإعرابه بالأبيات، فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك إذا
كانوا يقصدون إلى ذلك الفحش، ولم يريدوه ولم يرووا الشعر من أجله. قالوا:
وكان الحسن البصري رحمه الله يتمثل في مواعظه وكان من أوجعها عنده:
اليوم عندك دلها وحدثيها ... وغدًا لغيرك كفها والمعصم
وفي الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذكر المَرْزُباني في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال: (أوتي عمر - رضوان الله عليه -
بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصديق
ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي
الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء المحمَّدون بالباب يطلبون الكسوة فقال: ائذن
لهم يا غلام فدعا بحلل فأخذ زيد أجودها، وقال هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه
عنده وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه: أَيْهَاتَ أَيْهَاتَ، وتمثل بشعرعُمارة
بن الوليد:
أسرك لما صرع القوم نشوة ... خروجي منها سالمًا غير غارم [1]
بريئًا كأني قبل لم أك منهم ... وليس الخداع مرتضى في التنادم
رُدّها، ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل، وقال: أدخل يديك فخذ حلة
وأنت لا تراها فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها. وعُمارة هذا هو
عمارة بن الوليد بن المغيرة خطب امرأة من قومه، فقالت: لا أتزوجك أو تترك
الشراب، فأبى ثم اشتد وجده بها، فحلف لها أن لا يشرب، ثم مر بخمَّار عنده شَرْب
يشربون [2] فدعوه، فدخل عليهم، وقد أنفدوا ما عندهم فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه
ومكثوا أيامًا، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته امرأته قالت: ألم تحلف أن لا تشرب
فقال:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى عندهم كالغنائم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الرَّيان ليس بعائم [3]
أسرك البيتين. فإذنْ: رُبَّ هزل صار أداة في جد، وكلام جرى في باطل، ثم
اُستعين به على حق؛ كما أنه رُب شيء خسيس، تُوصِّلَ به إلى شريف، بأن
ضرب مثلاً فيه، وجعل مثالاً له؛ كما قال أبو تمام:
والله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس
وعلى العكس، فرب كلمة حق أريد بها باطل، فاستحق عليها الذم كما عرفت
من خبر الخارجي مع علي، رضوان الله عليه. وربَّ قول حسن لم يحسن من
قائله حين تسبب به إلى قبيح كالذي حكى الجاحظ قال: رجع طاوس يومًا عن مجلس
محمد بن يوسف وهو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أن قول سبحان الله يكون
معصية لله حتى كان اليوم سمعت رجلاً أبلغ ابن يوسف عن رجل كلامًا فقال رجل من أهل المجلس: سبحان الله، كالمستعظم لذلك الكلام ليغضب ابن يوسف، فبهذا
ونحوه اعتبر، واجعله حكمًا بينك وبين الشعر.
(وبعد) فكيف وضع من الشعر عندك وكسبه للمقت منك أنك وجدت فيه
الباطل والكذب، وبعض ما لا يحسن ولم يرفعه في نفسك، ولم يوجب له المحبة من
قلبك، وأن كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب. وأن كان مَجْنَى ثمر
العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة،
وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى
الولد عن الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار
الماضين، مخلدة في الباقين، وعقول الأولين، مردودة في الآخرين، وترى لكل من
رام الأدب، وابتغى الشرف، وطلب محاسن القول والفعل، منارًا مرفوعًا، وعلمًا
منصوبًا، وهاديًا مرشدًا، ومعلمًا مسددًا، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر،
والزاهد في اكتساب المحامد، داعيًا ومحرضًا، وباعثًا، ومحضضًا، ومذكرًا
ومعروفًا وواعظًا ومثقفًا، فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا
الرأي منك، وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه، ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به،
ولكنك أبيت إلا ظنًّا سبق إليك، وإلا بادئ رأي عنَّ لك، فأقفلت عليك قلبك،
وسددت عما سواء سمعك، فعيّ الناصح بك [4] ، وعسر على الصديق الخليط
تنبيهك، نعم وكيف رويت (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا فَيَرِيَه [5] خير له أن يمتلئ
شعرًا) ، ولهجت به وتركت قوله صلى الله وعليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة
وإن من البيان لسحرًا) [6] وكيف نسيت أمره صلى الله وعليه وسلم بقول الشعر
ووعده عليه الجنة، وقوله لحسان: (قل وروح القدس معك) ، وسماعه له،
واستنشاده إياه، وعلمه صلى الله عليه وسلم به، واستحسانه له، وارتياحه عند
سماعه؟
(أما) أمره به فمن المعلوم ضرورة، وكذلك سماعه إياه فقد كان حسان وعبد
الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويسمع منهم، ويصغي إليهم، ويأمرهم
بالرد على المشركين [7] فيقولون في ذلك ويعرضون عليه , وكان عليه السلام يذكر
لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب: (ما نسي ربك
وما كان ربك نسيًّا شعرًا قلته) [8] قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: (أنشده يا أبا
بكر) فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه:
زعمت سَخِينةُ أن ستغلب ربها ... وليغلبنّ مُغالب الغَلابِ [9]
(وأما) استنشاده إياه فكثير، من ذلك الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسُقِيَ قول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامي عصمة للأرامل
يطيف به الهلاَّك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
الأبيات. وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق عن عبد الله قال: لما نظر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتلى يوم بدر مصرّعين، فقال صلى الله عليه
وسلم لأبي بكر رضي الله عنه (لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت
بالأنامل) قال: وذلك لقول أبي طالب [10] :
كذبتم وبيت الله أن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأنامل
وينهض قوم في الدروع إليهم ... نهوض الروايا في طريق حلاحل
ومن المحفوظ في ذلك حديث ابن مسلمة الأنصاري [11] ...
جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق، قال: فتذاكرنا الشكر والمعروف، قال: فقال محمد: كنا يومًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت:
(أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإن الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها
وروايته) فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة عُلاثة:
علقمَ ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد
مجلسك هذا) فقال: يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر فقال
النبي صلى الله وعليه وسلم: (يا حسان، أَشْكَرُ الناس للناس أَشْكَرَهُم لله تعالى،
وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني، وفي خبر آخر: فشعَّث مني
وإنه سأل هذا عني فأحسن القول) فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
وروي من وجه آخر أن حسان قال: يا رسول الله من نالتك يده وجب علينا شكره،
ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول (أبياتك) فأقول:
ارفع ضعيفك لا يَحُرْ بك ضَعفُه ... يومًا فتدركه العواقب قد نَمَى
يجزيك أو يثني عليك وأنَّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) صرع بالتشديد كصرع بالتخفيف والضمير في منها لنشوة السكر ومن شأن المنتشى أن يتلف ماله فيخرج غارمًا وأن للإمارة نشوة أدعى إلى الغرم، وسكره أبعث على الظلم، ومثل عمر من يخرج منها وهو سالم، لا ظالم ولا غارم.
(2) الشرب بالفتح جماعة الشاربين.
(3) العائم ذوالعيمة (كخيمة) وهي شهوة اللبن مع فقده.
(4) عي: عجز أصله عيي فأدغم.
(5) حديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن أبي هريرة وعن غيره والرواية المشهورة فيه (حتى يره) أي يفسده، وفي رواية يحذف حتى يريه، وفي أخرى حذف حتى، وقرأها بعضهم حينئذ يريه بالفتح وبعضهم بالضم ولم أر من رواه بالفاء (فيريه) كما في نسخة المصنف وفي رواية ابن عدي عن جابر (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا أو دمًا خيرًا له من أن يمتلئ شعرًا مما هجيت به) .
(6) الحديث المشهور رواه أصحاب الصحاح وغيرهم، ورواية المصنف ملفقة من روايتين لقد وردت كل جملة من طريق وأما الجملتان معًا فقد جاءتا في حديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه هكذا (إن من البيان سحرًا وإن من الشعر حكمًا) وعند ابن عساكر من حديث علي باللام وله تتمة وهي (وإن من العلم لجهلاً وإن من القول عيالاً) .
(7) روى الخطيب وابن عساكر عن حسان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اهجُ المشركين
وجبرائيل معك، إذا حارب أصحابي بالسلاح فحارب أنت باللسان وفي حديث جابر عند ابن جرير أنه قال يوم الأحزاب (من يحمي أعراض المؤمنين، قال كعب: أنا يا رسول الله فقال: إنك محسن الشعر، فقال حسان بن ثابت: أنا يا رسول الله قال: نعم اهجهم أنت فسيعينك روح القدس) وكتب الأستاذ الإمام في هامش النسخة الأصلية بإزاء اسم كعب: (لعله كعب بن مالك لأن ابن زهير وإن مدح لكنه لم يؤمر بالشعر للمناضلة عن الإسلام، فقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع) ويؤيد قول الأستاذ ما رواه ابن جرير عن ابن سيرين وملخصه: أن المهاجرين رغبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يأمر عليا بهجاء الرهط الذين هجوه (وهم عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبعري وأبو سفيان بن الحارث) فقال: ليس علي هنالك وعرض بالأنصار فانتدب لذلك حسان وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وفيه أنه استنشد كعبًا وهو راكب ناقته الأبيات التي أولها:
قضينا من تهامة كل ريث ... وخيبر ثم أجمحنا السيوفا
لخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسًا أو ثقيفا
قال: فأنشد الكلمة كلها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لهي أشد عليهم من رشق النبل) قال ابن سيرين: فنبئت أن دوسًا إنما أسلمت بكلمة كعب هذه.
(8) قال الأستاذ الإمام: (هذا هو كعب بن مالك) .
(9) كتب في هامش الأصل: سخينة لقب تنبز به قريش لأنها كانت تأكل السخينة وهي طعام من دقيق الشعير واللحم وتسخن وذلك من أيام المجاعات والحديث رواه ابن منده وابن عساكر عن جابر.
(10) البيت الذي فيه لفظ الأنامل في قصيدة أبي طالب هو قوله:
وقد حالفوا قومًا علينا أظنة ... يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل
والبيت الذي فيه كذبتم هو قوله:
كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل
وقوله:
كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدًا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
والبيت الذي فيه لتلتبسن إلخ هو قوله:
وأنا لعمر الله إن جد ما أدوى ... لتلتبسن أسيافنا بالأناثل
والذي فيه ينهض إلخ قوله هو:
وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وبهذا تعلم مافي بيتي الشيخ اهـ من هامش الأستاذ الإمام.
(تفسيره) قوله أظنة جمع ظنين وهو المتهم والظنة بالكسر التهمة وجمعها ظنين وجمع فعيل على أفعلة غير قياسي ولكنه ورد ومنه قوله تعالى: [أَشِحَّةً عَلَيْكُم] (الأحزاب: 19) وقول نترك مكة أي لا نتركها ومثل قوله نبزي محمدًا أي لا نبزاه ولفظ (محمدًا) منصوب بنزع الخافض يقال: أبزى فلان بفلان إذا غلبه وقهره أي لا نغلب بمحمد ولا نقهر عليه، والحال أننا لم نطاعن دونه بالرماح ونناضل عنه بالسهام فالجملة المنفية بلمَّا حال من نائب الفاعل، وقوله (لتلتبسن أسيافنا بالأماثل) أي لتختلطن بالأشراف بما تفتك بهم في الحرب، والروايا جمع رواية هو ما يستقى عليه من بعير وغيره، والصلاصل القِرَب فيها بقايا الماء واحدها صُلصلة بضم الصادين وهي بقية الماء في الإداوة والقربة- يريد أن قومه ينهضون مثقلين بالحديد تسمع له قعقعة كصلصلة الماء في المزادات.
(11) الحديث رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج وابن عساكر عن محمد بن مسلمة بلفظ (يا حسان أنشدني من شعر الجاهلية فإن الله قد وضع عنك آثامها في شعرها وروايتها) وفيه أنه قال له بعد إنشاد القصيدة: (يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة فإني ذكرت عند قيصر وعنده أبو سفيان وعلقمة بن علاثة فأما أبو سفيان فتناول مني، وأما علقمة فحسن القول وأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس) .(5/256)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى
ثم إذا انقلبنا في البحث إلى ما هو الشرك في نظر القرآن وأهله لنتقيه، نجد
أن الله تعالى قال في اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن
دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) مع أنه لم يوجد من قبل ولا من بعد من الأحبار والرهبان
من ادعى المماثلة ونازع الله الخالقية أو الإحياء أو الإماتة كما يقتضيه انحصار
معنى الربوبية عند العامة من الإسلام، حسبما تلقوه من مروجي الشرك والإيهام،
بل الأحبار والرهبان إنما شاركوا الله تعالى في التشريع المقدس فقط فقالوا: هذا
حلال وهذا حرام. فقبل منهم أتباعهم ذلك فوصفهم الله بأنهم اتخذوهم أربابًا من دون
الله.
ونجد أيضًا أن الله تعالى سمى قريشًا مشركين مع أنه وصفهم بقوله: {وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي يخصصون
الخالقية بالله. ووصف توسلهم بالأصنام إلى الله بالعبادة فحكى عنهم قولهم: {مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) والمعظمة من المسلمين يظنون أن
هذه الدرجة التي هي التوسل ليست من العبادة ولا الشرك ويسمون المتوسَل بهم
وسائط ويقولون: إنه لا بد من الواسطة بين العبد وربه (وإن الواسطة لا تنكر) .
ويُعلم من ذلك أن مشركي قريش ما عبدوا أصنامهم لذاتها ولا لاعتقادهم فيها
الخالقية والتدبير بل اتخذوها قبلة يعظمونها بندائها والسجود أمامها وذبح القرابين
عندها أو النذر لها على أنها تماثيل رجال صالحين كان لهم قرب من الله تعالى
وشفاعة عنده فيحبون هذه الأعمال الاحترامية منهم فينفعونهم بشفاء مريض أو
إغناء فقير وغير ذلك، وإذا حلفوا بأسمائهم كذبًا أو أخلوا في احترام تماثيلهم
فيضرونهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم.
ونجد أيضًا أن الله تعالى قال: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18)
وأصل معنى الدعاء النداء، ودعا الله: ابتهل إليه بالسؤال واستعان به، والدليل
الكاشف لهذا المعنى هو قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} (الأنعام: 41) وكذلك أنزل الاستعانة به مقرونة بعبادته في قوله جلت كلمته:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) .
وبما ذكر وغيره من الآيات البينات جعل الله هذه الأعمال لقريش شركًا به
حتى صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلف بغير الله أنه شرك فقال:
(من حلف يغير الله فقد كفر وأشرك [1] ) وجعل الله القربان لغيره والإهلال والذبح
على الأنصاب شركًا وحرم تسييب السوائب والبحائر لما فيها من ذلك المعنى، وكان
المشركون يحجون لغير بيت الله بقصد زيارة محلات لأصنام يتوهمون أن الحلول
فيها يكون تقربًا من الأصنام، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام أمته عن مثل ذلك
فقال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد
الأقصى [2] ) . فلا ريب إذن أن هذه الأعمال وأمثالها شرك أو مدرجة للشرك.
(مرحى)
فلينظر الآن هل فشا في الإسلام شيء من هذه الأعمال وأشباهها في الصورة
أو الحكم؟ ومن لا تأخذه في الله لومة لائم لا يرى بدًّا من التصريح بأن حالة السواد
الأعظم من أهل القبلة في غير جزيرة العرب تشبه حالة المشركين من كل الوجوه
وإن الدين عندهم عاد غريبًا كما بدأ كشأن غيرهم من الأمم. فمنهم الذين استبدلوا
بالأصنام القبور فبنوا عليها المساجد والمشاهد وأسرجوا لها السرج وأرخوا عليها
الستور يطوفون حولها مقبلين مستلمين أركانها، ويهتفون بأسماء سكانها في الشدائد
ويذبحون عندها القرابين يُهلُّ بها عمدًا لغير الله وينذرون لها النذور ويشدون للحج
إليها الرحال ويعلقون بسكانها الآمال، يستنزلون الرحمة بذكرهم وعند قبورهم،
ويترجونهم بإلحاح وخضوع ومراقبة وخشوع أن يتوسطوا لهم في قضاء الحاجات
وقبول الدعوات، وكل ذلك من الحساب والتعظيم لغير الله [3] والخوف والرجاء من
سواه.
ومنهم مَنْ استعاضوا عن ألواح التماثيل عند النصارى والمشركين بألواح فيها
أسماء معظَّميهم مصدرة بالنداء تبركًا وذكرًا ودعاءً يعلقونها على الجدران في بيوتهم
بل في مساجدهم أيضًا [4] ويتوّجون بها للأعلام من نحو (يا علي، يا شاذلي، يا
دسوقي، يا رفاعي، يا بهاء الدين النقشي، ويا جلال الدين الرومي، يا بكتش ولي)
ومنهم ناس يجتمعون لأجل العبادة بذكر الله ذكرًا مشوبًا بإنشاء المدائح لغُلاة شعراء
المتأخرين التي أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام
حتى لنفسه الشريفة فقال: (لا تطروني كما أطرت اليهود والنصارى أنبياءهم [5] )
وبإنشادهم مقامات شيوخية تغالوا فيها في الاستعانة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ
لو سمعها مشركو قريش لكفروهم؛ لأن أبلغ صيغة تلبية لمشركي قريش قولهم:
(لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك غير شريك واحد تملكه وما ملك) وهذه أخف
شركًا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادًا بأصوات عالية مجمتعة وقلوب
محترقة خاشعة كقولهم:
عبد القادر يا جيلاني ... يا ذا الفضل والإحسان
صرت في خطب شديد ... من إحسانك لا تنساني
وقولهم:
الآهم يا رفاعي لي ... أنا المحسوب أنا المنسوب
رفاعي لا تضيعني ... أنا المحبوب أنا المنسوب
إلى غير ذلك مما لا يشك فيه أنه من صريح الإشراك الذي يأباه الدين الحنيف.
ومنهم جماعة لم يرضوا بالشرع المبين فابتدعوا أحكامًا في الدين سموها علم
الباطن أو علم الحقيقة أو علم التصوف، علمًا لم يعرف شيئًا منه الصحابة والتابعون
وأهل القرون الأولى المشهود لهم بالفضل في الدين. علمًا انتزعوا مسائله من
تأويلات المتشابه من القرآن مع أن الله تعالى أمرنا أن نقول في المتشابه منه:
{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللَّهُ} (آل عمران: 7) وقال عز شأنه في حقهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: 68) وقال
تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود: 112) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (النور: 63) وانتزع هؤلاء المداحون أيضًا بعض تلك
المزيدات من مشكلات الأحاديث والآثار ومما جاء عن النبي عليه السلام من قوله
على سبيل الحكاية أو عمل على سبيل العادة، أي لم يكن ذلك منه عليه السلام من
قول على سبيل التشريع. أو من الأحاديث التي وضعها أساطينهم إغرابًا في الدين
لأجل جذب القلوب كهذا الحديث الذي ننقله بالمعنى وهو (يفتح بالقرآن على الناس
حتى يقرأه المرأة والصبي والرجل فيقول الرجل قد قرأت القرآن فلم أتبع لأقومن
بهم فيه لعلي أُتَّبَع فيقوم به فيهم فلا يُتبع، فيقول قد قرأت القرآن وقمت به فلم أتبع،
لأحتظرن من بيتي مسجدًا لعلي أتبع فيحتظر من بيته مسجدًا فلا يتبع، فيقول قد
قرأت القرآن وقمت به واحتظرت من بيتي مسجدًا فلم أتبع، والله لآتينهم بحديث لا
يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلي أتبع) .
ومنهم فئة اخترعوا عبادات وقربات لم يأت بها الإسلام ولا عهد له بها إلى
أواخر القرن الرابع فكأن الله تعالى ترك ديننًا ناقصًا فهم أكملوه، أو كأن الله جل
شأنه لم يُنَزِّل يوم حجة الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) أو كأن النبي عليه السلام لم يتمم كما
يزعمون تبليغ رسالته فهم أتموها لنا، أو كتم شيئًا من الدين وأسرَّ به إلى بعض
أصحابه وهم أبو بكر وعلي وبلال رضي الله عنهم، وهؤلاء أسروا به إلى
غيرهم وهكذا تسلسل حتى وصل إليهم فأفشوه لمن أرادوا من المؤمنين؛ تعالى الله
ورسوله عما يأفكون , أليس من الكفر بإجماع الأمة اعتقاد أن النبي عليه السلام
نقص التبليغ أو كتم أو أسرَّ شيئًا من الدين (مرحى) .
ومنهم جماعة اتخذوا دين الله لهوًا ولعبًا فجعلوا منه التغني والرقص ونقر
الدفوف ودق الطبول ولبس الأخضر والأحمر واللعب بالنار والسلاح والعقارب
والحيات يخدعون بذلك البسطاء ويسترهبون الحمقى.
ومنهم قوم يعتبرون البلادة صلاحًا والخبل خشوعًا والصرع وصولاً والهذيان
عرفانًا والجنون منتهى المراتب السبع للكمال.
ومنهم خلفاء كهنة العرب يدَّعون علم الغيب بالاستخراج من الجفر والرمل أو
أحكام النجوم أو الروحاني أو الزايرجه أو الأبجديات أو بالنظر في الماء أو السماء
أو الودع أو باستخدام الجن والمردة، إلى غير ذلك من صنائع التدليس والإيهام
والخزعبلات وليس العجب انتشار ذلك بين العامة الذين كالأنعام في كل الأمم
والأقوام، بل العجب دخول بعضه على كثير من الخواص وقليل من العلماء كأنه من
عزيز الكمالات في دين الإسلام (مرحى) .
فهذه حالات السواد الأعظم من الأمة وكلها إما شرك صراح أو مظنات إشراك
حكمها في الحكمة الدينية حكم الشرك بلا إشكال، وما أخر الأمة إلى هذه الحالات
الجاهلية، وبالتعبير الأصح: رجع بها إلى الشرك الأول إلا الميل الطبيعي للشرك
كما سبق بيانه مع قلة علماء الدين وتهاون الموجودين في الهدى والإرشاد.
نعم، إن رد العامة عن ميلها أمر غير هين وقد شبه النبي عليه السلام معاناته
الناس فيه بقوله: (مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل
الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن
فيها فأنا آخذ في حجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها [1] ) وقد قال الله تعالى في
العلماء المتهاونين عن الإرشاد كيلا يقابلوا الناس بما لا يهوون: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
إِلاَّ النَّارَ} (البقرة: 174) ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما وقعت بنو
إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم
وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) فالتبعة كل التبعة على العلماء الراشدين، ولم
يزل والحمد لله في القوس منزع ولم يستغرقنا بعد انتزاع العلماء بالكلية كما أنذرنا
به النبي عليه السلام في قوله: (إن الله لا يقبض العلماء انتزاعًا من الناس ولكن
يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهلاء؛ فسئلوا فأفتوا بغير
علم؛ فضلوا وأضلوا) ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ثم قال: ولننتقل من بحث الشرك والإعراض عن ذكر الله إلى بيان أسباب
التشديد في الدين وحالة التشويش الواقع فيه المسلمون فأقول ...
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: هذا الحديث رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما.
(2) رواه أحمد والشيخان عن أبي هريرة وروياه عن أبي سعيد ورواه أصحاب السنن وغيرهم.
(3) أي من عبادة غيره.
(4) كجوامع القسطنطينية وبلاد الترك، كذا في هامش الأصل ومثل بلاد الترك كثير من بلاد المسلمين.
(5) لفظ الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري والترمذي في الشمائل ولا أذكر غيرهما الآن.
(6) ينقل عنهم (إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) .
(7) الحديث رواه أحمد ومسلم عن جابر بلفظ (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون من يدي) .
(8) رواه الترمذي وقال حسن غريب.
(9) رواه الشيخان وأصحاب السنن ما عدا أبا داود عن عبد الله بن عمرو ولفظ مسلم (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وفي البخاري (من العباد) بدل (من الناس) وقال (حتى إذا يبق عالم) كما هنا.(5/264)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر [*]
الشذرة الخامسة من جريدة أراسم
الخط الديواني
أنشأ (أميل) يخط بالقلم خطًّا مناسبًا لحاله ولكني في شك من جريه على
قواعد الخط في شيء مما يكتب.
كان الخط فيما مضي كأنه من صفات الكاتب الذاتية وكان يدل على حالة
من أحواله، سواء فيه الحسن والقبيح، ولذلك وجد متوسمون يعتقدون أنهم يقرأون
في خط من لا يعرفونه من الناس ضروب استعداده النفسي. ولا بدع في هذا فإن كل
أعمال الإنسان منبعثة عن أخلاقه وسجاياه، فلا شيء من الاستحالة ولا من البعد عن
الحقيقة - على ما أرى - في أن يكون الخط وهو الأثر الدقيق المثبت لصنوف
الوجدان وأنواع المعاني على الورق سمة من سمات النفس وأمارة من أمارات الطبع.
يشهد لذلك أن من الذين خطوطهم بين أيدينا قد غيروا في حياتهم طريقتهم في
صوغ حروفهم عدة مرات، فلا يمكن أن يكون هذا التغيير الذي يحق لنا المراهنة
على حصوله بغير شعور منهم أجنبيًّا عن بعض استحالات حصلت في عقولهم.
ومن الأمور التي اعتقد الباحثون في هذه المسألة أنهم تنبهوا إليها ولاحظوها أن أقرب
أطوار الكاتب إلى الفطرة هو ذلك الطور الذي يكون فيه خطه مرسومًا بأقرب
السمات إليها أيضًا.
اخترع الناس في هذه الأيام للخط طرقًا لا شك لها مزية في تهذيبه وتقويم يد
الكاتب، ولكنها متى انتشرت وعم استعمالها اتحدت الخطوط وتشابهت فلم يبق بينها
فروق تميز بعضها من بعض، فنحن في هذا القرن قرن السكك الحديدية والأقلام
الحديدية نسارع كلنا إلى تحقيق الوحدة في كل شيء.
لو أن هذا الميل إلى الصناعة اقتصر على أمارات الفكر وقوالب المعاني لكان
الخطب هينًا ولكنه لم يقف عندها بل تعداها إلى الفكر نفسه.
أنا على يقين من وفرة علومنا ومعارفنا فليست هي التي تعوزنا؛ إذ قد وجدت
طرق سهلة صيرت مبادئ العلم وآداب اللغة والفنون الجميلة قريبة التناول لجميع
الناس، وكل يوم يتحدث الناس بانتشار العرفان بيننا، وهو أمر أنا بعيد عن المنازعة
في جلالة خطره وعظم شأنه، ولكني لا أرى علي حرجًا إن سألت نفس هذه الأسئلة
وهي: هل ارتفع عقل الإنسان في هذه القرون إلى مدارك أسمى مما بلغه في
القرن الثامن عشر؟ هل حصل له من قوة النفس والانبعاث الذاتي إلى العمل
والأخلاق الممتازة التي تتجلى في صورة مجتمعة - المُظلمة والأعمال البديعة -
أكثر مما كان له في ذلك القرن؟ هل ارتفعت قوة الإدراك مع انتشار تساوي الناس
فيها كل يوم؟
واأسفى أني ألتفت حولي فيعروني الذهول ويملكني الدهش لما أراه من غلبة
الأوساط في العقل وكثرتهم، وأسمع الناس يرددون القول بأن العقل والاستعداد قد
شاعا في هذه الأيام حتى عما السابلة الغوغاء ولو أنهم قالوا: إن كل واحد أصبح
فيه عقل غيره واستعداده. لكان هذا القول أصح وأقرب إلى الصواب. نعم إن قرننا
قد وصل إلى طريقة بديعة في الإكثار من الدواليب والآلات المحاكية للفكر وقامت
المهارة في الفنون مقام الاستعداد الفطري والعزيمة وأزهق التكلف في آداب اللغة
روح الإلهام وأنزلت الدسيسة والخداع في مجرى الحياة وشئونها الفضل والجدارة عن عرشهما وحلا محلهما، فترانا الآن منحدرين على طريق مستقيم عام
إلى محو ضروب الفصل والرجحان في العقل والخلق محوًا تامًّا، فعليك أيها الإنسان
من الآن أن تقنع بأن تكون كجميع الناس.
ولا شك أن هذه الحالة التي عليها العقول الآن ترجع إلى أسباب كثيرة ليس
من غرضي استقصاؤها هنا، منها نظام معيشتنا وفقدان الحرية السياسية عندنا
واهتمامنا المتزايد بالمصالح المادية، ومنها أمر لا يسعني إغفاله وإلا استحققت اللوم
وهو أن التربية بالحالة التي هي عليها اليوم أقرب إلى ستر عيوب الأطفال وإخفاء
مواضع الضعف فيهم ببعض طرق التعليم السريعة التي تكاد تكون آلة محضة.
أقول: إنها أقرب إلى ذلك منها إلى قصة اكتشاف ملكاتهم وقواهم النفسية وتنميتها،
فترى القائمين على التعليم عوضًا عن تميمهم أن الغرض من مجاهداتهم وكدحهم في
التعلم إنما هو نيل الفخر بأن يكونوا عمالاً نافعين- يجعلون غايتهم الارتقاء إلى
المناصب ونيل الغنى، ويقتضون منهم أن يبلغوا إليها وهم بذلك يبكرون بحمل
الأحداث على أن يتبينوا أن المواضعة والصنعة هما أقرب طرق النجاح وأحسن
وسائل الفلاح. اهـ
الشذرة السادسة
(مذهب تشغيل المتعلمين بالأعمال المادية الشاقة)
توجد في بعض المدارس بإنكلترا عادات قديمة يدهش منها الأجانب كثيرًا ذلك
أن التلامذة فيما يوجد منها بمدينتي راتون وهارو وهي التي يدخلها أبناء السراة
غالبًا يخدم بعضهم بعضًا، وليس أمر الخادمية والمخدومية فيها متعلقًا بمكانة التلميذ
في قومه، ولا بغنى أهله أو فقرهم بل بالأقدمية وبعض الدرجات المدرسية، فيجوز
أن يلزم الطفل الغني السري بتنفيض ثياب الطفل الفقير الوضيع وتأدية مطالبه
وتنظيف غرفته وإيقاد ناره وتسوية طعامه وحمل كتبه إليه في قاعة الدرس، فيقع
الإلزام بالخدمة على من تجعلهم المدرسة في الدرجات الدنيا من أقسامها.
والذي أستهجنه من هذه العادة ما يكون بين التلميذ الخادم والمخدوم من رابطة
التابعية الذاتية، فإن الأقدمين من التلامذة يسيرون أحيانًا مع من يعتبرونهم خدمًا لهم من إخوانهم سيرة في غاية القسوة حتى إنه ليقع منهم في حقهم ما نقرأه في قصص موليير [1] المضحكة من الشتائم وضربات الأكف، وجميع ضروب سوء
المعاملة التي تقع من صغار الموالي على خدمتهم بأرجلهم وأيديهم الخفيفة الحركة.
أولئك الخدم الصغار الذين كانوا بالأمس أرقاء وصبرًا على الذل مستسلمين للجور يصيرون في الغد سادة متجبرين، وهكذا شأن الدنيا وبمثل هذا تنقل جميع أنواع العتو والطغيان من سلف إلى خلف.
لا أرى فيما عدا هذا العيب شيئًا في هذه الطريقة فإنه لا ضرر مطلقًا في أن
يقوم بخدمة المدرسة التلامذة أنفسهم. ولقد عرفت فيما مضى مدرسة كان يديرها
رجل وافر العقل عالي الفكر اختار هذا المذهب وتيسر له أن يجني منه فوائد كبرى
في تربية الناشئين، ذلك أنه عهد بمعظم أعمال مدرسته إلى جماعات من الغلمان
واليافعين منقسمين إلى طوائف على حسب مقتضيات أذواقهم وضروب ميلهم
الفطري؛ لأنهم كانوا في هذه الأعمال مختارين متطوعين فكان الواحد مهنم إما لبادًا
أو كناسًا أو وقادًا للمصابيح أو موقظًا لإخوانه في الصباح أو منظمًا لقاعة الدرس
وكانوا يتناولون خدمة المائدة وكانت الأعمال المسخرة التي تقتضي أكثر من غيرها
إخلاصًا أجلَّ من غيرها أيضًا في نظر التلاميذ؛ لأن رئيس المدرسة كان يتظاهر
بتميزها عن غيرها بما كان يوزعه من شارات الشرف على من كان يدعوهم
إقدامُهُم إلى مباشرتها. وليتك زرت هذا المكان حتى كنت تشاهد مقدار التحمس
المفرح الذي يبديه كل تلميذ في القيام بعمله كأنه فرض اختياري أوجبه على نفسه.
كان من مزايا هذه الخدمة البيتية للتلاميذ أنها كانت تسلية لهم من عناء الدروس؛
لأنه كان من رأي رئيسهم أن في المراوحة بين الأعمال استراحة من مشقتها وكان
من غرضه فوق ذلك أن يلقي في نفوسهم معنى احترام جميع الوظائف وكل فروع
العمل اليدوي، فإن الإنسان لا يحتقر من غيره ما يباشره هو بنفسه.
إني لتعرض لي في بعض الأحيان أحوال تحملني على اعتقاد أن ما ندعيه من
حب المساوة ليس إلا رياءً ونقاقًا؛ لأني أرى من لا تفتر ألسنتهم عن اللهج بهذه
الدعوى لا يجرون على مقتضاها في أعمالهم، فالطفل الذي يرى في المدارس أو
البيوت أناسًا اُستؤجروا لخدمته يستنتج من ذلك طبعًا أن الأعمال الشاقة أو الكريهة
هي من حظ الطبقة السفلى من قومه ولا يفيد في محو هذا الاعتقاد من نفسه أن
تحدثه في المستقبل عن ضرورة تقسيم العمل بين الناس أو عن غير ذلك من
المسائل النظرية الكثيرة فإنه يعلم كمال العلم أن ليس للخدم أن يأكلوا على موائد
سادتهم ولما كان يتوسم في ما لديه أنهما يعدانه؛ لأن يكون من العلماء ويكفيانه بذلك
مؤنة الاشتغال ببعض الأعمال التي من شأنها أن توسخ يديه أو تقذر وجهه كان
رأيه في هذه الأعمال لا بد أن ينتقل إلى من يقارفونها من الناس فيحكم عليهم
بحكمه عليها وبذلك لا يكون إلا كثير الانسياق إلى احتقار جميع الصناع والرزاية
عليهم.
صممت أنا وهيلانه على تكليف (أميل) بعمل كل ما يلزم لفراشه وهجرته
وثيابه ولا أكره مطلقًا أن أراه يمسح نعليه ويسوي عند الحاجة طعامه، فإن الفائدة
التي تعود عليه من ذلك ليست قاصرة على كونه يتعلم عدم امتهان من يكسبون
قوتهم بمثل هذه الأعمال، بل إن فيه أيضًا تنمية لحريته الشخصية على الاستغناء
عن مساعدة غيره، فالأسير المسكين من يعجز عن خدمة نفسه. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(2) موليير هو أكبر شاعر قصصي فرنساوي ولد في باريس سنة 1633 ومات في سنة 1673 مسيحية.(5/269)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال السنوي بمدرسة الجمعية الخيرية
وخطبة المفتي
في أصيل يوم الجمعة 21 ربيع الأول احتفل في قبة الغوري الاحتفال السنوي
المعتاد بمدرسة الجميعة الخيرية الإسلامية في القاهرة، وقد أجاب دعوة رئيس
الجمعية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والجم الغفير من
الفضلاء والوجهاء حضروا الاحتفال، ابتدأ أحد التلامذة بترتيل آيات من
سورة الفتح، ثم ارتقى أحد التلامذة الدكة التي يختبر عليها التلامذة فأعطي كتابًا
ففتحه وقرأ فيه جملة صالحة قراءة صحيحة فسأله الرئيس بيان معناها فبينه، ثم
اختبر آخرون بالإعراب وبالحساب وبرسم خريطة أفريقيا وبالتاريخ الطبيعي ككيفية
الدورة الدموية وقرأ بعضهم مقالات محفوظة في فوائد الصوم وفوائد التربية وغير
ذلك فأحسنوا جميعًا وصفق لهم النادس مرات متعددة.
وأنكر الأستاذ الشنقيطي التصفيق على القوم لأنه بدعة فتركه بعضهم
وأصر عليه الأكثرون؛ لأن بعضهم يراه من العادات المباحة التي اقترن بها تنشيط
التلامذة وإدخال السرور على قلوبهم وبعضهم لم يصل إليه الإنكار.
وكان الرئيس كعادته يناقش كل تلميذ فيما يقول ويطلب منه التعبير عما
قاله حفظًا بعبارة أعرفية. ثم وزع الجوائز وهي على ما ذكرنا في السنة
الماضية، قسمان أحدهما ريع المال الذي جمع لإقامة تذكار لعلي باشا مبارك لخدمته
المعارف في مصر والثانية تبرع الأستاذ الشيخ عبد الرحيم الدمرداش فهذا وزع على
نفر من الناجحين في المدرسة، وأما الأول فاستقر الرأي على أن يشترى به كل
عام كتب نافعة تعطى للتلميذين اللذين يفوقان سائر التلامذة ممن أتموا المدة بشرط أن
يشتغلا بعد المدرسة بتعلم صنعة من الصنائع وكذلك كان. وبعد ختم الاحتفال بترتيل
أحد التلامذة آيات من الكتاب العزيز وقف رئيس الجميعة فشكر للحاضرين سعيهم في
الخير لمشاهدة أولاد الفقراء المتعلمين ثم قال ما معناه ملخصًا:
لا بد أن يكون بعض الحاضرين ممن يشتغلون بعلم التربية ينتقد علينا شيئًا،
أنا أوافقهم على انتقاده قبل أن أذكره وأجيب عنه، وهو أن يحفظ التلامذة مقالات
في الدين والأدب كالذي سمع منهم الآن فيها من الحكم والمعاني العالية مما لا ترتقي
عقولهم إلى الإحاطة به وما تعجز ألسنتهم عن بيانه بغير العبارة المحفوظة. أعيد
القول بأن هذا الانتقاد صحيح وأن حشو الأذهان بحفظ ما لا يفهم يُفسدها ويَذهب
باستعداد العلم منها. ومدارس الجمعية تهتم بهذا الأمر فنحن نؤكد دائمًا على أن
المعلمين أَنْ لا يعلموا التلامذة كلامًا لا يفهمونه والعمل على هذا والتفتيش من ورائه
لتحقيقه.
وأما ما سمعتم فقد جاء من باب الاستثناء لغرض صحيح يوافقنا عليه
المنتقدون بادي الرأي. وذلك أن التلميذ يخرج من مدارسنا إلى العمل غالبًا ولا ثقة
لنا بأنه يسمع في خطب المساجد وفي دروسها شيئًا من حكم الدين وأسراره التي
تبعث النفوس على العمل بأحكامه كالذي سمعتم من حكم الصوم. وكذلك لا نرجو
أن يجد معهدًا من معاهد العلم يسمع به شيئًا من مباحث التربية وعلم الاجتماع
والآداب العالية بالأَوْلَى، فرأينا أن يحفظ كل تلميذ بعض مقالات في هذه المقاصد
بجتهد في إفهامه معانيها بالجملة كما يقتضيه سنه ويوكل الفهم التفيصلي إلى حوادث
الزمان وارتقاء الفكر فيها، فهذه المحفوظات القليلة المفيدة ذُخْر للتلميذ في مستقلبه
وهي كبذرة وُضِعَتْ في أرض صالحة يتعاهدها الزمن بالسقي والتغذية حتى تثمر
الثمرة الصالحة إن شاء الله تعالى.
إذا أجلتم النظر في أحوال المسلمين دون أن نترك تعليم الدين على هذا الوجه
من بيان فوائده وحكمه وغرسها في النفوس (وهو الفقه الحقيقي في الدين) فقد أدى
إلى تركه من بعض المسلمين والإتيان على غير وجهه من بعض آخر. ولنضرب
المثل بفريضة الزكاة التي حفظ تلامذتنا مقالة في فوائدها في العام الماضي كما يذكر
من حضر احتفاله وفريضة الصوم التي سمعتم فوائدها وهي التي تلي الزكاة في
الترتيب.
الزكاة ركن من أركان الإسلام، وبذل المال في إقامة هذا الركن يفضل غيره
من أنواع البذل، ولذلك قرنت الزكاة بالصلاة في القرآن في أكثر المواضع، وقد
جعل الله إنفاق المال في سبيله آية الإيمان، وجعل تركه علامة النفاق والكفران،
وقاتل الخليفة الأول بموافقة الصحابة كلهم رضي الله عنهم مانعي الزكاة ومع هذا
كله نرى المسلمين قد هدموا هذا الركن ونسوه حتى كأنه ليس من الدين بالمرغوب
وأطال الأستاذ الكلام في الزكاة وفي مضرة تركها ثم انتقل إلى الصوم وبيَّن أن
بعض المسلمين تركوه وأن الذين يصومون لا يؤدون هذه الفريضة على الوجه الذي
أراده تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) وأوضح هذا بذكر ما عليه الناس، ثم انتقل
إلى الكلام في تعليم مدارس الجمعية فقال:
إن مدارس الجمعية وضعت لتعليم أولاد الفقراء ما لا بد منه لكل إنسان وهو
أن يحسن القراءة بلغة أمته ويعرف ما يجب عليه من أحكام دينه ويتربى عليه عملاً
والحساب والتاريخ وتقويم البلدان وطرقًا من مبادئ التاريخ الطبيعي وحفظ الصحة
وآداب المعاشرة، ولا بد عندنا من تعليم هذه الأشياء على وجه مفهوم في أربع
سنين وسن التلميذ لا يتجاوز الخمس عشرة سنة، وليس عندنا لغة أجنبية لأننا لا نعد
التلاميذ للوظائف والشهادات وإنما نعدهم للعمل بالحرف والصنائع وما ذكرنا من
التعليم لا يستغني عنه صانع ولا زارع.
قال: كنت أحب أن يكون هذا التعليم عامًّا في البلاد ومبينًا في جميع الطبقات
ثم يتسنى بعده لكل طبقة أن تتناول من العلوم والفنون واللغات في المدارس الثانوية
والعالية ما هي مستعدة له , ولكن المانع للمشتغلين بالتعليم والتعليم من التوجه إلى
سلوك هذه الطريقة أمران أحدهما: أن رغبة الناس منصرفة إلى جعل التعليم ذريعة
لأخذ الشهادة؛ لأنها شرط للاستخدام في الحكومة، والسبب في رغبة الناس في خدمة
الحكومة هو أن الناس لعدم ثقتهم بأنفسهم ولجهلهم بطرق الكسب الواسعة وضعف
هممهم عن سلوكها يود كل واحد منهم أن يكون له مورد من الرزق مضمون يعتمد
عليه وإن كان وشلاً آسًا فإذا اسْتُخْدِم بمائة وخمسين قرشًا ولو في أعلى الصعيد أو
السودان ينام آمنًا مطمئنًا ويلقي هم الدنيا وراء ظهره إلا إذا تيسر له السعي في
شفاعة تزيد في راتبه أو ينتقل بها إلى مكان غير مكانه ولو استعمل مواهبه التي
منحه الله إياها وكدح في طلب الرزق من طرقه الواسعة لا سيما التجارة، لجاز
أن يكون من انتقل إلى بيان السبب الآخر في عدم التوجه إلى التعليم النافع فقال:
أما ثاني السببين فداؤه أقتل، وعلاجه أعسر، أتدرون ما هو؟ هو المعلمون
والمربون فإننا تحتاج في التعليم الابتدائي إلى من يبدئ التلميذ في السنة الأولى
بألف با فلا تنتهي السنة الرابعة إلا وهو يكتب ويعرف ما ذكرناه آنفًا وعرض
عليكم نموذجيه، والذين يحسنون هذا النوع من التعليم قليلون. وقد عزمنا على تحديد
مدرسة للجمعية، وكنا عند المذاكرة فيها كنا نشكو من قلة المعلمين. إننا نحتاج معلمًا
لإحدى مدارسنا فنعلن ذلك في الجرائد فيجيئنا الراغبون بالعشرات فنمتحنهم ونختار
من نراه الأمثل، وإن لم يكن على حسب الرغبة تمامًا ثم يتمرن على طريقتنا
في المدرسة مع طول التنبيه والتفتيش، ومثل هؤلاء يجدر بنا أن نسميهم معلمي
الضرورة.
قال: ذكرت هذه لأوجه نفوس العلماء والوجهاء إلى تلافي هذا الخطب
ومداوة هذه العلة التي هي أم العلل وذلك بإنشاء مدرسة لتخريج المعلمين ولا بد في
هذا من سعي العلماء ومساعدة الأغنياء، ثم شكر للحاضرين سعيهم فانصرفوا
شاكرين. أقول: كتبت بعد أيام من الاحتفال في إثر انحراف في الصحة فإن
نقصتُ من فوائد الخطاب ففي غير الفوائد الأصلية وإن زدت فربما كان كلمة في
معنى الكلام تزيد في إيضاحه.
__________(5/273)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة سيرة الكواكبي
وكان أول عمل عمله في إدارة مجلس البلدية هو قطع عرق الرشوة من
العمال الذين يباشرون الأعمال والمصالح ويسمون (الجاويشية) ولكنه زاد في
راتبهم؛ لعلمه بأن الذي يضطر أكثر العمال إلى الرشوة هو قلة الراتب. وكان من
ظلم الوالي بعد عزل الفقيد من رياسة البلدية أن أرجع راتب الجاويشية كما كان
وألزم صاحب الترجمة بدفع ما كان زاده لهم في مدته إلى صندوق البلدية كما ألزمه
بدفع ما أنفق على سلاسل الحديد التي منع بها الجمال من طرق المدرسة؛ لأن
الوالي أمر بإزالتها عقيب عزله ثم عاد فأمر بإعادتها بعد زمن قريب ولكنه لم يعد
إلى الفقيد الغرامة التي ظلمه بها.
ولما عين رئيسًا لكتاب المحكمة الشرعية كانت المحكمة في أسوإ الأحوال في
الصورة والمعنى، فكان ينفق على إصلاحها من جيبه حتى إنه استحضر لها
السجوف والأستار من بيته ومنع اختلاط النساء بالرجال إذ جعل لكلٍّ مكانًا ينتظر
فيه دوره للتقاضي ورَتَّبَ الأوقات ونظَّم الدفاتر.
وكان صاحب عزيمة قوية لا يهاب حاكمًا ولا يخاف ظالمًا وعزيمته هي التي
جنت عليه فقد كان نجح في عمله عندما عين مديرًا ومفتشًا لمصلحة حصر الدخان كما
تقدم في السيرة الرسمية حتى وقع النزاع بنيه وبين عارف باشا والي حلب يومئذ
فبطل العمل عمل الفقيد في ضبط هذه المصلحة ما عجزت عنه إدراتها العمومية
والحكومة جميعًا حتى كانت تخسر في ولاية حلب دون سائر بلاد الدولة،
وكان المشتغلون بتهريب الدخان البلدي وبيعه في حلب سبعمائة رجل فعين لهم
رواتب ومنعهم من التهريب بحكمة عجيبة وسيأتي مجمل خبره في عداء الوالي عند
الكلام على بعض الصعوبات التي لقيها في طريقه.
كانت مدة الاتفاق الأول مع مصلحة حصر الدخان ثلاث سنين فانفصل من
إدارة العمل والتفتيش بعد سنتين بالسبب الذي ألمعنا إليه، ولثقة الفقيد بنفسه
واقتداره على العمل ذهب إلى الأستانة بعد عزل عارف باشا من ولاية حلب فعقد
اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدته عشر سنين وكان أراد أن يضم إلى ولاية
حلب متصرفًا فعقد اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدة عشر سنين وكان أراد أن
يضم إلى ولاية حلب ومتصرفية الزور ولايتي بيروت وسورية فلم يرض له ذلك
من استشاره من الأقربين فرجع عنه. وقد نجح أيضًا في المرة الثانية ولكن حدثت
بعد أربع سنين الفتنة الأرمنية فنهب الأرمن الدخان من عدة بلاد وقتلوا موظفي
المصلحة فكان الفقيد يخسر في الشهر بضعة عشر ألفًا من الليرات فتوسل بذلك إلى
الآستانة بحل العقد وإبطال الاتفاق فتم له ذلك بعد عناء وخسارة عظيمة ولإخلاصه
بحب المصلحة العامة كانت أكثر وظائفه فخرية أي بغير راتب كما عرف من
الترجمة الرسمية ويزيد على هذا أنه كان يبذل شيئًا من ماله فوق ما أخذه من راتب
بعض الوظائف لأجل ترقية العمل وإتقانه، وهذا خلق لم يعرفه الشرق في هذا
العصر.
مشروعاته:
طلب من الحكومة عدة امتيازات بأعمال عظيمة لم تكن تخطر لأهل بلاده
على بال. (منها) إنشاء مرفأ في السويدية وطريق حديدي منها إلى حلب.
و (منها) جلب نهر الساجور إلى حلب لأن ماء المدينة قليل، ولو تم هذا العمل
لأحييت به أرض واسعة فكانت جنات وحدائق. (ومنها) أن عينًا خوارة في سفح
جبل بين أرمنان وأدلب قد أغرقت أمواهها تلك الأرض فجعلتها مستنقعات تضر
الناس، ولا يأوي إلى غاباتها إلا الخنزير البري فذهب الفقيد إليها واختبر حال
الأرض والعين اختبارًا هندسيًّا زراعيًّا فعلم أنه يمكن جر مائها إلى أدلب القليلة
الماء وتجفيف تلك المستنقعات فتصير نافعة وتحيا أرض أدلب ويحيا أهلها
فطلب بذلك امتيازًا.
و (منها) إنارة حلب وبيره جك ومرعش وأورفه بالكهربائية بواسطة شلال
يحدثه من نهر العاصي في محل اسمه المضيق بالقرب من دركوش تابع لجسر
الشغر وكان اختبر المكان اختبارًا هندسيًّا فعلم أن إحداث الشلال فيه ممكن.
(ومنها) استخراج معدن نحاس من أرغنه التابعة لولاية حلب. وقد حال دون إعطاء
بعض هذه الامتيازات ما يحول كل مصلحة عامة يطلبها الوطنيون كالرشوة ونحوها.
وقد كان أعطى امتياز استخراج النحاس واشتغل به ثلاثة سنين ونيف وبعد ذلك
أرادت حكومة الولاية إبطاله لأمر ما فأدخلت مع الفقيد في العمل بعض الأجانب
وتوسلت بذلك إلى إبطاله.
خدمته للناس وللحكومة:
كان اتخذ له مكانًا بين داره ودار الحكومة سماه المركز يأوي إليه وكلاء
الدعاوي فكان يؤمه أصحاب الحاجات والقضايا يستشيرون صاحب الترجمة في حل
عقد المشكلات، ويستضيئون برأيه في دياجير المهمات، وكان في الغالب يفضل
بينهم بالتراضي ويغنيهم عن المحاكمة والتقاضي فإن احتيج في قضية إلى الحكومة
يندب له من يراه أهلاً لها من الوكلاء المحامين، وإن كانت عظيمة الشأن أن يندب
نفسه ويحاكم المبطل حتى يحق الحق لصاحبه. وقد كان قُصَّادُ ذلك المركز يكادون
يزيدون على قصاد دار الحكومة، وكانت الحكومة نفسها تستشيره في الشئون
الغامضة تعتمد على رأيه.
* * *
مقاومة الحكام له:
ورث الفقيد عن سلفه السادة الأمراء علو الهمة وقوة العزيمة وعدم المبالاة
بالأخطار فهو من سلالة السيد إبراهيم الصفوي الأردبيلي المهاجر إلى حلب وما
حديث الصفوية في الإمارة بمجهول. بهذا كان رحمه الله تعالى لا يهاب الحكام
ولا يداريهم مع أن حكومتهم في الحقيقة استبدادية. وهذا هو الذي أحبط أعماله في
بلده وذهب بثروته. غَاضَبَ عارف باشا أحد ولاة حلب فأغرى بعض الناس بأن
يكتب إلى الأستانة شاكيًا من سيئات الوالي شارحًا لهم فعلم الوالي بذلك فعمل مكيدة
لحبس الفقيد وضبط أوراقه وزوَّر عليه ورقة سماها (لائحة تسليم ولاية حلب
إلى دولة أجنبية) وطلب محاكمته عليها، وحكمُ القانون في هذه الجريمة الإعدامُ
ولكنهم غلطوا في معاملته بالحبس وطلب الاستنطاق غلطًا قانونيًّا ما كان ليخفى
على الفقيد فكتب إلى الأستانة كتابة مطولة يظهر فيها أن خروج حكومة الولاية
عن حدود القانون هو من دلائل تحاملها عليه وتحريها ظلمه، وطلب أن يحاكم في
ولاية أخرى فأجيب طلبه وحُوكم في بيروت فحكم ببراءته وما زال يتتبع الوالي
حتى عزل بعد عودته إلى حلب وكان هو أول من بشره بالعزل بواسطة قاضي
الولاية ثم إنه أخرجه من حلب بإهانة عظيمة؛ لأنه أوعز إلى أصناف الفقراء
الذين كانوا يسمون الفقيد أباهم لنصرته إياهم فاجتمعوا عند داره بهيئات غريبة
فترك أهله وخرج كالهارب وسافر إلى الأستانة وتبعه الفقيد ليحاكمه ولكنه لم يكد
يصل إليها حتى مات قهرًا.
وكان الشيخ أبو الهدى أفندي الشهير من أعدائه ويقال أن السبب الأول في
ذلك إباء الفقيد أن يصدق على نسب الشيخ أبي الهدى هذا، وإن الشيخ أبا الهدى
صار نقيب أشراف حلب وكانت هذه النقابة من قبل في آل الكواكبي. ومن آداب
الفقيد العالية أنه كان هنا يثني على صفات الشيخ أبي الهدى الحسنة كالمروءة
والكرم والذكاء والثبات وقلما كان يخوض بانتقاده إلا مع الخواص الذين يعرفون
الحقائق فكانت عداوتهما عداوة العقلاء.
خسر الفقيد بتلك المحاكمة ألوفًا من الجنيهات وخسر أضعافها بإدارة شركة
انحصار الدخان للمرة الثانية أيضًا؛ لأن الحكومة مكلفة بحفظ أماكن الشركة فلما
حدثت فتنة الأرمن امتنع الوالي عن إرسال العساكر لمنع نهب الأرمن مال الشركة
وخسر بعدم مداراة الحكام غير ذلك من المزارع والأرض (منها) مزرعة (جفتلك)
جميل باشا الوالي التي اشتراها منه الفقيد فاعتدى عليها زعماء التركمان بإغراء خفي
حتى أخذوها ومنها مزرعة (جفتلك) كانت مستنقعات تابعة للأراضي الأميرية فألف
لها شركة وأخذها من الحكومة وجففها فأغرى المغرون بعض عشائر الأكراد بالتعدي
على حصته فحاكمهم فحكم لهم عليه بالمساعدة الخفية، وفي أثر ذلك سافر مهاجرًا
إلى مصر.
سياسته ورأيه في الإصلاح:
لم يكن الفقيد في اشتغاله بخدمة بيته وبلده وحكومته غافلاً عن شئون
المسلمين العامة فقد كان يقرأ الجرائد التركية والمصرية حتى الممنوعة التي كانت
تدخل إلى حلب كغيرها بوسائط خفية. ولما هاجر إلى مصر كان أول أثر له فيها
طبع سجل جمعية أم القرى وكان يقول: إن لهذه الجمعية أصلاً، وأنه هو توسع في
السجل ونقحه ست مرات آخره عند طبعه منذ سنتين ونيف أي عقيب قدومه إلى
مصر. وقد قال لنا مرة: إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا
يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء
ما لا يتولد في غيرها. ومن يقرأ الكتاب يظن أن صاحبه صرف معظم عمره
في البحث عن أحوال المسلمين وتاريخهم في عقائدهم وعلومهم وآدابهم وتقاليدهم
وعاداتهم ومنه يعلم رأي الفقيد في الإصلاح وقد كنا معه على وفاق في أكثر
مسائل الإصلاح حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف الكتاب
عندما اطلع عليه وربما نشير إلى المسائل التي خالفنا الفقيد فيها في هامش الكتاب
عند طبعه وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية.
أما آراؤه السياسية فحسبنا منها كتاب طبائع الاستبداد الذي يكاد يكون معجزة
للكتاب السياسيين. وقد زعموا أن معظم ما في هذا الكتاب مقتبس من كتاب
لفليسوف إيطالي في الظلم. ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية
وأحوالنا وذوقهم في العلم وذوقنا يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم
الاجتماع والسياسة في حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرًا، وإذا لاحظ مع ذلك أن
هذا الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في المؤيد ثم مدها صاحبها مد الأديم
العكاظي وزاد فيها فكانت كتابًا حافلاً يتجلى له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى،
وإذا علم بعد هذا كله أنه نقحه بعد الطبع فحذف منه قليلاً وزاد فيه كثيرًا يعلم علم
اليقين أن ينبوع علم هذا الرجل صدره وأنه كان يزداد في كل يوم فيضانًا وتفجيرًا،
نعم إن قال في مقدمته: إن بعضه مما درسه، وبعضه مما اقتبسه، وإننا نعلم أنه
لم يولد إنسان عالمًا ولكن فرقًا عظيمًا بين من يحكي كلام كغيره كآلة (الفوتغراف)
وبين من يُحَكِّم عقله في علوم الناس فيأخذ ما صح عنده وينبذ ما لا يصح. من كان
له مثل هذا العقل الحاكم في كليات العلوم فهو الفيلسوف إن كان اجتهاده هذا في
العلوم العقلية والكونية وهو الإمام إن كان اجتهاده في العلوم الدينية.
وجهته الأخيرة:
وجه همته أخيرًا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح
على بصيرة فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية تركها وعربها وأكرادها وأرمنها،
ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية
الشرقية وسواحل أسيا الغربية، ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب
التي كانت موضع أمله أتم الاختبار فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي ومازال
يوغل فيها حتى دخل في بلاد سوريا واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف
استعدادهم الحربي والأدبي وعرف حالة البلاد الزراعية وعرف كثيرًا من معادتها
حتى إنه استحضر نموذجًا منها. وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي (من
مواني الهند) وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من
وكيل إيطاليا السياسي في مسقط فطافت به سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقيا
الشرقية فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارًا سبق به الإفرنج، وكان في نفسه
رحلة أخرى يتم بها اختباره للمسلمين وهي الرحلة إلى بلاد الغرب ولكن حالت
دونه المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم.
أرأيت رجلاً كريم الأصل، كبير العقل، تربّى أحسن تربية وتعلم أحسن
تعليم ودخل في الأعمال المختلفة وتصدى للمشروعات المتعددة وكتب في أدق
المسائل أحسن الكتابة وساح في البلاد، واختبر أحوال الأمم، حتى بلغ أشده،
واستوى كيف يكون حاله وما هي درجة استعداده؟ هذا هو صديقنا الذي فقدناه
بالأمس، فكأنما فقدنا به الشمس، ومثل تلك الآمال الكبيرة لا تبلغ إلا بمساعدة
الحكومة أو سعة المال أو الجمعيات، وقد كان له أمل في مصر وأميرها أراه الاختبار
خلافه. ولقد كان لموته تأثير كبير في الفضلاء والعقلاء، وقد نُعِيَ إلى الجناب
الخديوي في صبيحة الليلة التي مات فيها فأمر بأن يجهز على نفقة سموه وأن يعجل
بدفنه فكان ذلك. فرحم الله فقيدنا وأحسن عزاء الإسلام والشرق فيه.
__________(5/276)
16 ربيع الثاني - 1320هـ
22 يوليو - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
الدهر والزمن
(س1) أحمد أفندي عبد الكريم بالزقازيق: نقرأ ونسمع كل يوم من مذام
الدهر نظمًا ونثرًا من جميع الملل ما لا يخفى عليكم ولا نعلم ما يقصدون بالدهر
الذي ينسبون إليه أفعالاً كالرفع والخفض والعسر واليسر وما مسمى هذا الاسم، أهي
المدة الزمانية ولا دخل لها في الأفعال أم ماذا؟ والحامل على هذا السؤال أنني
سمعت من أحد العلماء حديثًا أدهشني وهو: (لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله)
وقد نرى أكثر سابِّي الدهر من العلماء الذي لا يغيب عنهم هذا الحديث فما رأيكم في
هذا السؤال وفي صحة الحديث؟ أجيبوني ولكم مزيد من الشكر ومن الله الأجر.
(ج) اختلف العلماء في تفسير الدهر والزمان والنسبة بينهما فقال الراغب:
الدهر اسم لمدة العالم من مبدئه إلى منتهاه، ثم صاروا يطلقونه على المدة الطويلة،
وأما الزمان فيطلق على المدة الطويلة والقصيرة إطلاقًا حقيقيًّا، وزعم السعد أن الدهر
طول الزمان. وقد فشا بين الأدباء والشعراء ذم الدهر والزمان ونسبة الحوادث
السيئة إليهما، وترى شعراء العرب بعد الإسلام قلما يذمون الدهر وإنما يذمون الزمن.
ولا يقصد هؤلاء ولا أولئك بالزمن أو الدهر حركة الفلك أو الليل والنهار أو ما
يقول المتكلمون في تعريف الزمن (مقارنة متجدد معلوم لمتجدد موهوم) وإنما
يقصدون أن تعاستهم أو شقاءهم وكل ما يشكون منه لم يكن من تقصيرهم وإنما علته
عدم مواتاة الشئون الكونية المتعلقة بغيرهم من الخلق ولما كانت هذه الشئون
التي يتوقف عليها النجاح مع سعي الإنسان غير معينة صاروا ينسبوها إلى أعم
شيء يمكن أن تسند إليه وهو الزمن أو الدهر.
وقد حكى الله تعالى عن بعض الملاحدة نسبة الإحياء والإماتة إلى الدهر فقال:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) والظاهر أنهم يعنون أن هذا هو
المعروف طول الدهر فلا يوجد شيء آخر يحيي ويميت، وهذا النفي المطلق جهالة
لا دليل عليها. وأما الحديث فقد جاء في صحيح مسلم بلفظ (لا يسب أحدكم الدهر
فإن الدهر هو الله تعالى) وورد بلفظ آخر عند أبي داود والحاكم وقال صحيح على
شرط مسلم وهو: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فإني أنا
الدهر أقلب ليله ونهاره) ورواه غيرهم وله ألفاظ أخرى لا حاجة إلى استقصائها.
ولم يرد اسم الدهر في أسماء الله تعالى؛ لأنه أطلق عليه سبحانه على سبيل التجوز
والمعنى فيه أن الشيء الذي يسند إليه الناس الأفعال ولا يعرفون حقيقته وإنما يسمونه
الدهر؛ لأنه غير متعين في علمهم الناقص هو الله جل شأنه؛ لأنه هو الفاعل
المختار والذي يرجع إليه الأمر كله.
***
الدعاء والقضاء وطول العمر
(س2) أحمد أفندي متولي بمصر: اطلعت على حديث في تفسير الخازن
هذا نصه: عن سلمان أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال: (لا يرد القضاء إلا
الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) وهذا مضاد ما نعتقده من أنه لا رادّ لقضاء الله،
وإن العمر لا يزيد ولا ينقص لقوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)
وقوله جل ذكره: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) فالرجاء إفادتنا عن ذلك.
(ج) اتفق النقل مع العقل على أن كل ما يقع في الوجود فإنما يقع بحسب
ما في علم الله تعالى؛ لأن وقوع شيء على خلاف ذلك يستلزم الجهل وهو مُحَال
على الله تعالى فما خالف هذه العقيدة خلافًا حقيقيًّا فهو مردود نقطع بأنه مكذوب على
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا لم يمكن تأويله وإرجاعه إليها، وقد أول
العلماء حديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء) فقالوا: قد يكون في علم الله تعالى أن
فلان يصاب بكذا أو يكون بصدد أن يصاب به فيدعو الله فيكشف عنه البلاء الذي
كان معلقاً نزوله أو دوامه على عدم الدعاء، وانكشافه على الدعاء ويسمون هذا
القضاء المعلق.
أما القضاء المبرم هو ما سبق في علم الله تعالى أن يكون لا محالة فهو الذي لا
يمكن أن يرد. وإذا كان هذا التقسيم لأجل الجواب عن هذا الحديث فهناك أحاديث لا
يمكن أن يجاب عنها منها ما أخرجه أبو الشيخ عن أنس مرفوعًا (أكثر من الدعاء فإن
الدعاء يرد القضاء المبرم) وما أخرجه ابن عساكر عن نمير بن أوس مرسلاً (الدعاء
جند من أجناد الله مجندة يرد القضاء بعد أن يبرم) والحديثان ضعيفا السند جدًّا.
والحديث الوارد في السؤال رواه الترمذي والحاكم. وقد ذكر المحدثون أن من
علامة الحديث الموضوع مخالفته للعقائد القطعية والأصول الثابتة ومنها مخالفته
للعقل وللوجود.
وأما كون البر يزيد في العمر فقد ورد بمعناه أحاديث في الصحيح وهو كلام
في الأسباب لا في علم الله تعالى وقضائه في العباد. قال بعض العلماء في تفسيره:
إن أهل البر يكونون أهنأ الناس عيشًا لما بينهم وبين والديهم وأهليهم وسائر الناس
من الحب وحسن المعاملة، وهذه هي الزيادة في العمر فإن من يعيش بالمناكدة
والفجور كأنه لم يعش لأن حياته تذهب سدًى. وفيه وجه آخر وهو أن البر وحسن
الأخلاق والاعتدال في الأمور من أسباب الصحة واعتدال المزاج، والصحة هي
مادة طول الحياة في الغالب، وهذا إنما يأتي بالنسبة لحالة البنية واستعداد الشخص
لا بالنسبة لما في علم الله تعالى؛ لأنه لا يتغير، وأكثر الكلام بين الناس يكون في
الأسباب لا في أصول العقائد، وقد أوضحنا هذه المسألة في الدرس 16 من الأمالي
الدينية. (راجع 3: 558)
***
رضاع الزوج من الزوجة
(س 3) م. ص في الجيزة: إذا رضع الزوج من ثدي زوجته هل تحرم
عليه؟
(ج) لا، فإن حكم الرضاع إنما ثبت في الصغير عند جماهير العلماء من
السلف والخلف والمروي عن الأئمة الأربعة وغيرهم أنه لا تأثير له بعد الحولين
وفيه حديث رواه الدارقطني عن ابن عباس: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين)
وفي حديث صححه الترمذي (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل
الفطام) والمراد بفتق الأمعاء كونه عمدة في التغذية ولكن وردت أحاديث أصح من
هذه التحريم برضاع الكبير، وقد أجابوا عنها بما يحتمل البحث ومن أراد الاحتياط
فليجتنب كل ما فيه خلاف. وأما سؤالكم الأول فإننا لم نفهمه وسنجيب عن اقتراحكم
في الطلاق عند سنوح الفرصة.
__________(5/289)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فرنسا والإسلام
لا تزال دولة فرنسا في حيرة وعمه لا تهتدي معهما إلى طريقة تطمئن إليها
في سياسة مستعمراتها الإسلامية فكتابها من الفلاسفة والسياسيين يواصلون البحث في
الإسلام على مر الأيام والأعوام لأجل إشراع هذه الطريقة وما هم بمشرعيها ولما
تطمئن نفوسهم إلى شيء كاطمئنان نفس إنكلترا في سياسة مستعمراتها الإسلامية
وغير الإسلامية. ولقد ظهرت نتيجة حسن سياسة إنكلترا في ارتباكها بحرب
الترانسفال فلقد كانت عاجزة عن تأديب مملكة واحدة من ممالكها الاستعمارية
الواسعة إذا هي تألبت عليها وثارت تريد الخروج من دائرة سلطتها. والله يعلم ما
يكون من أمر مستعمرات فرنسا معها إذا وقعت في مثل ذلك الارتباك وانتهت إلى
مثل ذلك الخطر الذي كانت فيه إنكلترا أيام كانت الحرب في شبابها.
سلكت فرنسا مع المسلمين مسلك العنف والضغط حتى حالت بين المسلمين
الذين تحت سيادتها وبين العلم والتعليم وزعمت أن فرقًا بينها وبين إنكلترا فإنها تحكم
شعوبًا لا تزال الشهامة الإسلامية والشجاعة العربية متمكنة في نفوسها، وأن إنكلترا
تسوس قومًا فسد بأسهم وهجرتهم الشجاعة والشهامة بما توالى عليهم من ظلم
حكامهم كالهنديين والمصريين الذين لا تخشى بادرتهم، ولا تحذر غائلتهم، وجهلت
أقرب حوادث التاريخ في مصر وهو خروج المصريين على حكامهم الذين يدينون
بدينهم وينطقون بلغتهم عندما أمكنتهم الغرة من الخروج عليهم حتى كان العلماء
وهم أبعد الناس عن السياسة من خطباء الثورة العرابية ودعاتها بعدما كانوا يقولون
بوجوب طاعة هؤلاء الحاكمين والخضوع لهم.
لا أنسى كلمة سمعتها من كبير العلماء في بلد من سوريا قالها في محفل كبير
ذكرت فيه الثروة العرابية فقال ذلك الشيخ رحمه الله: (كلنا عرابيون) ودعا لعرابي
وحزبه بالنصر، وإذا وجد في العلماء رجل واحد بصير بالسياسة كان يحذر العرابيين
وينذرهم سوء عاقبة الثورة كالشيخ محمد عبده فذلك لا ينافي أن الجماهير كانوا
راضين عنها وداعين إليها.
أتجهل فرنسا سياسة الظلم والقوة التي نفخت روح الثورة في المصريين
الجبناء في نظرها على حكامهم المسلمين تخشى عاقبتها من الجزائريين والتونسيين
وهم من أهل النجدة والبأس والشجاعة والشهامة؟ أتجهل السر في سكون هؤلاء
الذين عهدهم بالثورة غير بعيد عند ظهور انكسار إنكلترا في الحرب المرة بعد المرة؟
السر ظاهر غير مكتوم، وهو أنهم في رخاء من العيش يرفلون في ظلال الحرية
التامة ونعيمها. نعم إنهم يتمنون الاستقلال التام؛ لأنه هو كمال الحياة الاجتماعية
ومن نجا من الاستعباد والاستذلال، يشتهي كمال الاستقلال، ولكن الناس لا
ينبعثون إلى الثورة إلا بالظلم فإن الانفجار نتيجة الضغط.
إذا كانت إنكلترا لا تساعد استعداد الشعوب على الترقي كما هو شأنها في
زنجبار فإنها قلما تعارضه؛ لأنها لا تحارب الطبيعة فقد كان مسلمو الهند في جهل
وخمول فتركتهم وشأنهم فظهر فيهم مرشدون اشتغلوا بتربيتهم وتعليمهم فصادفوا
من الحكومة الإنكليزية ارتياحًا بل تنشيطًا ومساعدة وأعطتهم الحرية التامة في
إنشاء المدارس والجرائد وعقد الجمعيات. والبريد عندهم حر فلم نسمع أن جريدة
منعت عن الهند وإن مكتوبًا ضاع أو رسالة اختزلت أو كتابًا أرسل فلم يصل، فهل
تعامل فرنسا أهل الجزائر بمثل هذه المعاملة أو بما يقرب منها؟ .
لقد كان لفرنسا في سيرة الإنكليز في الاستعمال ما يغنيها عن كثرة البحث
والتأليف والتصنيف في حال المسلمين، وكيف ينبغي أن يعاملوا ويغنيها عن تأليف
اللجنة التي ألفتها من عهد قريب لتمحيص البحث في هذه المسألة.
يحكم كتاب فرنسا وساستهم على المسلمين من غير أن يستشيروهم أو يعرفوا
ما يكتبه الأحرار العارفون بالدين وأهله عنهم، ولكن بعض حكامهم يستكتبون بعض
المصانعين لهم ما أرادوا ويغشون أنفسهم وقومهم بما يوهمونهم أن هذا هو رأي
علماء المسلمين وأهل الرأي فيهم. أكثر ما يكتبه الفرنسويون عن الإسلام
والمسلمين يُحفظ القلوب ويثير الأحقاد ويخرج الأضعان وكل هذا يُحْتَمَل ما دامت
القوة، فإذا عرض عليها ما يضعفها فهناك يحصدون شر ما يزرعون. وليس من
العقل الاغترار بدوام القوة.
الفرنسيون أبعد الناس عن الدين وعن التعصب له، ولكنهم إذا كتبوا عن
الإسلام فإنما ينفثون السموم ويُظلون المسلمين بظل من يحموم، إلا ما كان من
فيلسوف حكيم يكتب للعلم لا للسياسة. حكومة الجمهورية ليست مسيحية فتتعصب
على الإسلام لأجل النصرانية، وإنها لتقاوم النصرانية في بلادها كما تقاوم الإسلام
في مستعمراتها، ولكنها تعتقد أن المسلمين قوم حرب وأن دينهم يطالبهم بأن يكونوا
سائدين غير مسودين، وأنهم يتربصون بمن يسودهم الدوائر حتى إذا ما سنحت لهم
الفرصة وثبوا، فسلبوا ونهبوا، وأن السياسة الواقية أن يوضعوا في الأوهاق،
وتغل الأيدي إلى الأعناق، وأن تحجب شمس العلم عن الأنظار، وتحول بين
السماع وما في الإسلام من الأخبار، وأن تراقب الحكومة السائحين، إذا كانوا
مسلمين أو عثمانيين؛ ومن الاعتقاد ما هو ظن و {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ولا شيء يحرج الصدور، ويُمِضُّ النفوس مثل هذه المعاملة
السوءى؛ لأنها برهان على أن هذه الحكومة تبغض المسلمين، والجاهل لا يعرف
سببًا للعداوة والبغضاء إلا الأمر العام وهو الدين؛ لذلك يعتقد الأكثرون في
المستعمرات الفرنسية أن فرنسا تبغض المسلمين؛ لأنهم مسلمون يعبدون الله من
دون المسيح ويؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
نحن والعقلاء نقول: إن الأمر ليس كذلك، ومثلنا من يقدر على إقناع المسلمين
لأننا من خَدَمَةِ الدين والعلم فيهم، ولكن هذا الإقناع يتوقف على وصول صوتنا إلى
تلك المسامع وفرنسا لا ترضى بذلك بل ولا ترضى بأن يتعلم المسلمون إلا اللغة
الفرنسية التي تزيد المسلمين بغضًا في فرنسا كما صرح بذلك بعض كتباها وذلك
أنهم يرون في الكتب والجرائد الفرنسية الطعن الموجع مصوبًا دائمًا إلى صدور
المسلمين. وفرنسا أقدر منا على إقناع المسلمين بحسن نيتها وسلامة عاقبتها إذا
برهنت عليه بالعمل ولكن يتعذر علهيا إقناع مسلم واحد بالقول وإن أوتيت من سحر
البيان؛ وخلابة اللسان ما لم يؤته إنسان.
فرنسا في شك مريب من أمر مسلمي مستعمراتها لا تدري أيمكن أن تعيش
معهم في وئام وهدوء وسلام، أم ذلك من الأماني والأوهام التي لا تدرك ولا تُرَام،
ولا شك عندنا نحن في الإمكان، والمرتاب لا يقنعه البرهان، ولكن ربما تقنعه
حوادث الزمان، والمريب يكون دائمًا في حذر، والظالم لا يمكن أن يأمن الغير ولو
أخلصت فرنسا التنبيه، لعرفت القضية، وبلغت الأمنية.
لو أطلقت فرنسا لأهل الجزائر حرية العلم والدين وحافظت فيهم على أحكام
شريعتهم وآدابها وساعدتهم على ترقي بلادهم وعمرانها وأقامت فيهم العدل وأباحت
لكل أحد أن يمازجهم ويرى ما هم فيه حينئذ من غبطة ونعيم لكانت هذه المعاملة
الحسنى أقوى جاذب يجذب جيرانهم المراكشيين إلى الدخول في حكم الولاية
الجزائرية قبيلاً بعد قبيل لا سيما إذا جعلت للولاية حاكمًا مسلمًا يصدر الأحكام
الشرعية وينفذها.
قد نعلم أن من الفرنسيين من يسخر من هذا الكلام إذا سمعه متوهمًا أننا نقوله
خداعًا لهم لا عن اعتقاد منا بصحته. ولا يعلم الساخر المفروض أننا أقرب إلى
الشك في كون إحسانهم معاملة المسلمين خيرًا للمسلمين منا إلى الشك فيما قلناه، فإن
الظلم والقسوة في المعاملة هي التي تربي الأمم وترجع إليها استعدادها المفقود، أو
تبعث فها استعدادًا لم يكن بالموجود، ولقد كانت الحرب الروسية العثمانية أكبر
منبه للمسلمين إلى الحياة الاجتماعية في مشارق الأرض ومغاربها، وإن كانت أكبر
خسارة على المسلمين في الظاهر. وإن ساسة المسلمين وعقلائهم من يعتقد أن
نجاح الإسلام الأكبر يتوقف على سقوط كل هذه الحكومات الإسلامية التي بقيت لها
رسوم مماثلة فإن أعظم دواء المسلمين الاجتماعية اعتمادهم على حكوماتهم واستبداد
حكامهم بهم فلن تعود إليهم قوتهم الحقيقة واستقلالهم الذاتي إلا بسقوط هذه الرسوم
ليرجعوا إلى قوتهم الذاتية الاستقلالية.
بم يفسر مسلمو الجزائر وتونس وغيرهم عداوة فرنسا للسيد المهدي السنوسي
وهو من رجال الدين وشيوخ الطريق، ولماذا يكتب الفرنسيون في جرائدهم وكتبهم
أنه لا بد من استئصال قوته، واصطلام دعوته وإخماد جذوته، كما كان بَيَّنَا في
العدد 23 من منار السنة الأولى ولماذا لا يحفل الإنكليز بذلك ولا يبحثون عن زواياه
وأتباعه في السودان ومصر ولماذا لم يكتب أحد من الإنكليز ناصحًا قومه ومبينًا لهم
الحيل والدسائس التي تفتت القوة السنوسية؟ إن سياسة فرنسا في أفريقيا خرقاء
وربما تكشف هذه المناوشات الأخيرة بينها وبين المهدي السنوسي خرقها إلا إذا أراد
الله لها زيادة الاستدراج والإملاء إلى أجل مسمى وإلى الله المصير.
(يطلب خبر محاربة فرنسا والسيد المهدي السنوسي في باب الأخبار)
__________(5/292)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب دلائل الإعجاز
للإمام عبد القاهر الجرجاني
(تتمة الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه
وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه)
كان آخر القول في النبذة الماضية أن النبي كان يستنشد عائشة فتنشده ما تقدم.
قالت: فيقول عليه السلام (يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده صنع إليك
عبدي معروفًا فهل شكرته عليه فيقول يا رب علمت أنه منك فشكرتك عليه قال
فيقول الله عز وجل: لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريته على يده) .
(وأما) علمه عليه السلام بالشعر فكما روي أن سودة أنشدت (عدِيٌّ وتَيم
تبتغي من تحالف) فظنت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عَرَّضَتْ بهما
وجرى بينهن كلام في هذا المعني فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليهن
وقال: (يا ويلكن ليس في عديكن ولا تيمكن قيل هذا، وإنما قيل هذا في عدي تميم
وتيم تميم) وتمام هذا الشعر:
فحالف ولا والله تهبط تَلْعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف [1]
ألا من رأى العبدين أو ذكرا له ... عدي وتيم تبتغي من تحالف
وروى الزبير بن بكار. قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو
بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقة مكة:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد الدار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر هكذا قال الشاعر) قال: لا يا رسول
الله ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا سألت عن آل عبد مناف
فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم هكذا كنا نسمعها.
(وأما) ارتياحه صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه له فقد جاء فيه
الخبر من وجوه من ذلك حديث النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله صلى الله
عليه وسلم قولي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق مظهرا
فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (أين المظهر يا أبا ليلى؟) فقلت: الجنة يا
رسول الله قال: (أجل إن شاء الله) . قال: (أنشدني) فأنشدته من قولي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوة أن يكدرا [1]
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال صلى الله عليه وسلم: (أجدت، لا يفضض الله فاك) قال الراوي: فنظرت
إليه فكأن فاه البَرَد المنهلّ ما سقطت له سن ولا انفلت تَرَف غُرُوبه [2]
(ومن ذلك) حديث كعب بن زهير روي أن كعبًا وأخاه بجيرًا خرجا إلى
رسول الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العَزَّاف فقال كعب لبجير: القَ هذا الرجل وأنا
مقيم ههنا فانظر ما يقول وقدم بجير على رسول الله صلى الله وعليه وسلم فعرض
عليه الإسلام فأسلم وبلغ ذلك كعبًا فقال في ذلك شعرًا فأهدر النبي صلى الله عليه
وسلم دمه فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله وعليه وسلم
ويقول: وأن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل منه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأسقط ما كان قبل ذلك فقدم كعب وأنشد النبي صلى الله عليه
وسلم قصيدته المعروفة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفيد مغلول [4]
وما سعاد غداة البين إذ رحلت ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
سحَّ السقاة عليه ماء مَحْنِيَة ... من ماء أبطح أضحى وهو مشمول [5]
أكرم بها خلة لو أنها صدقت ... موعودها أولو أن النصح مقبول
حتى أتى على آخرها فلما بلغ مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما بهم عن حياض الموت تهليل
شهم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسيج داود في الهيجا سرابيل
أشار رسول الله صلى الله وعليه وسلم إلى الحِلَق أن اسمعوا قال: وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم يتحلقون حلقة دون
حلقة فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة والأثر به
مستفيض.
وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى حتى كان الوزن عيبًا،
وحتى كان الكلام إذا نُظِمَ نَظْمَ الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله. فقد أبعد وقال
قولاً لا يُعرف له معنى، وخالف العلماء في قولهم: إنما الشعر كلام، فحسنه حسن
وقبيحه قبيح [6] وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.
فإن زعم أنه إنما كره الوزن؛ لأنه سبب لأن يغني في الشعر ويلتهى به فإنا إذًا
كنا لم نَدْعُه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل،
والمنطق الحسن البين، والى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة،
وإلى صنعة تعميم المعنى الخسيس فتشرفه، وإلى الضئيل فتفخمه، وإلى المشكل
فتجليه، فلا متعلَّق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكر، فليقل في الوزن
بما شاء، وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي
راجعنا القول فيه، وهذا هو الجواب لمتعلِّق إن تعلّق بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: 69) وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر ومن
حفظه ومن روايته، وذاك أنا نعلم أنه صلى الله عليه لم يمنع من الشعر من أجل أن
يكون قولاً فصلاً، وكلامًا جزلاً ومنطقًا حسنًا وبيانًا بينًا، كيف وذلك يقتضي أن
يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة، وحماه الفصاحة والبراعة، وجعله لا يبلغ
مبلغ الشعراء في حسن العبارة، وشرف اللفظ وهذا جهل عظيم. وخلاف لِمَا
عرفه العلماء وأجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب. وإذا
بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من
أجلها ونحدو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية مُحالاً والتعليق بها خطلاً من
الرأي وانحلالاً:
فإن قال إذا قال الله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: 69)
فقد كره للنبي صلى الله عليه وسلم الشعر ونزّهه عنه بلا شبهة وهذه الكراهة كانت
لا تتوجّه إليه من حيث هو كلام ومن حيث إنه بليغ بيّن وفصيح حسن ونحو ذلك
فإنها تتوجه إلى أمر لا بد لك من التلبس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من
الشعر وذلك أنه لا سبيل لك إلى أن تميز كونه كلامًا عن كونه شعرًا حتى إذا رويته
التبست به من حيث هو كلام ولم تلتبس به من حيث هو شعر هذا مُحال. وإذا كان
لا بد لك من ملابسة موضع الكراهة فقد لزم العيب براوية الشعر وإعمال اللسان فيه.
قيل له [6] : هذا منك كلام لا يتحصل وذلك أنه لو كان إذا وزن حطّ ذلك من قدره
وأزرى به وجلب على المفرِّغ له في ذلك القالب إثمًا، وكسبه ذمًّا. لكان من حق
العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو من يريده لمكان الوزن خصوصًا دون من
يريده لأمر خارج عنه ويطلبه لشيء سواه فأما قولك: إنك لا تستطيع أن تطلب من
الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره فإني إذًا لم أقصده من أجل ذلك المكروه
ولم أرده له وأردته لأعرف به مكان بلاغة. وأجعله مثالاً في براعة. أو أحتج به
في تفسير كتاب وسنة وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن، فأرى موضع الإعجاز وأقف
على الجهة التي منها كان، وأتبين الفصل والفرقان، فحق هذا التلبس أن لا يعتد
عليّ ذنبًا وأن لا أؤاخذ به إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عَمْدٌ إلى أن تواقع
المكروه وقصد إليه [1] وقد تتبع العلماء الشعوذة والسحر وعُنُوا بالتوقف على حيل
المموِّهين ليعرفوا فرق ما بين المعجزة والحيلة فكان ذلك منهم من أعظم البر إذ كان
الغرض كريمًا والقصد شريفًا هذا وإذا نحن رجعنا إلى ما قدمنا من الأخبار، وما
صحَّ من الآثار، وجدنا الأمر على خلاف ما ظن هذا السائل ورأينا السبيل في منع
النبي صلى الله عليه وسلم الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام غير ما ذهبوا إليه وذاك
أنه لو كان منع تنزيه وكراهة لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونًا وأن ينزّه
سمعه عنه كما ينزه لسانه ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر به ولا يحثّ عليه.
وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرًا ولا يؤيد فيه بروح القدس،
وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة بل
سبيل الوزن في منعه عيه السلام إياه سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا
يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط بل؛ لأن تكون الحجة
أبهر وأقهر، والدلالة أقوى وأظهر، ولتكون أعم للجاحد [2] وأقمع للمعاند، وأردّ
لطالب الشبهة، وأمنع في ارتفاع الريبة.
وأما التعليق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذُمُّوا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً
يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته،
والعلم بما فيه من بلاغة، وما يختص به من أدب وحكمة؛ ذاك لأنه يلزم على قول
هذا القول أن يعيب العلماء في استشاهدم بشعر امرئ القيس وأشعار أهل الجاهلية
في تفسير القرآن وغريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم
ذكره من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له، هذا
ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله، وأن يحمل ذم الشاعر على الشعر لكان
ينبغي أن يُخص ولا يعم وأن يستثنى فقد قال الله عز وجل: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الشعراء: 227) ولولا أن القول يجر
بعضه بعضًا وأن الشيء يذكر بدخوله في القسمة لكان حق هذا ونحوه أن لا يتشاغل
به وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره اهـ.
__________
(1) التلعة تطلق على ما علا وما سفل من الأرض وقيل هي ما اتسع من فوهة الوادي.
(2) البوادر جمع بادرة وهي الحدة أو ما يبدر من الإنسان عند الحدة من الخفة إلى الانتقام بالقول أو الفعل والحديث رواه ابن عساكر وابن النجار بلفظ (بجدنا) بدل (مجدُنا) وفيه أنه أنشد البيتين بعد ذلك من نفسه فقال له عليه السلام: (لا يفضض فوك) مرتين قال الراوي: وهو يعلى بن الأشدق فلقد رأيته بعد عشرين سنة ومائة، وأن لأسنانه أُشُرًا كأنه البرد والأشر الحدة والرقة في أطراف الأسنان والتحزيز الذي يكون فيها.
(3) الغروب: الأسنان ورفيفها بريقها كذا في الهامش بخط الأستاذ وقبل هذه الجملة (ولا انفكت) وهي مع ترف غروبه جملة واحدة ولا الانفلال التثلم والأشر.
(4) المتبول: من تبله الحب إذا أضناه وأفسده أو ذهب لبه وعقله، والمتيم: المذلل المعبَّد والمغلول من وضع الغل في عنقه، وفي رواية (مكبول) وهو المقيد بالكبل أي القيد.
(5) وفي نسخة (سحَّ لسقاة عليها) أما الرواية المشهورة في البيت فهي شٌجَّت بذي شبم من ماء مخنية/ صافٍ بأبطح أضحى وهو شمول.
(6) وفي رواية (وَيْلُمّها خلة) .
(7) وفي رواية لنور بدل السيف ولا تفسر الأبيات فالقصيدة شهيرة وشروحها في الأيدي على أنني لم أر أحدًا من المحدثين رواها.
(8) روى الدارقطني في الأفراد عن عائشة والبخاري في الأدب والطبراني في الأوسط وابن الجوزي في الواهيات عن عبد الله بن عمر والشافعي والبيهقي عن عبد الله مرسلا: (الشعر كلام بمنزلة الكلام فحسنه حسن الكلام وقبيحه قبيح الكلام.
(9) هذا هو جواب قوله: (فإن قال إذا قال الله) إلخ قاله الأستاذ الإمام.(5/298)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى
قد وجد فينا علماء كان أحدهم يطلع في الكتاب أو السنة على أمر أو نهي
فيلقاه على حسب فهمه ثم يُعدي الحكم إلى أجزاء المأمور به أو المنهي عنه أو إلى
دواعيه أو إلى ما يشاكله، ولو كان من بعض الوجوه، وذلك رغبة منه في أن يلتمس
لكل أمر حكمًا شرعيًّا، فتختلط الأمور في فكره وتشتبه عليه الأحكام ولا سيما من
تعارض الروايات فليلتزم الأشد ويأخذ بالأحوط ويجعله شرعًا، منهم من توسع
فصار يحمل كل ما فعله أو قاله الرسول عليه السلام على التشريع، والحق كما
سبق لنا ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وفعل أشياء كثيرة على سبيل
الاختصاص أو الحكاية أو العادة، ومنهم من تورع فصار لا يرى لزومًا لتحقيق
معنى الآية أو للتثبت في الحديث إذ كان الأمر من فضائل الأعمال فيأخذ بالأحوط
فيعمل في الشديد ويظن الناس منه لك ورعًا وتقوى ومزيد علم واعتناء بالدين
فيميلون إلى تقليده ويرجحون فتواه على غيره.
وهكذا عظم التشديد في الدين بالتمادي حتى صار إصرًا وأغلالاً فكأننا لم نقبل
ما مَنَّ الله به علينا من التخفيف، وأن وضع عنا ما كان على غيرنا من ثقل
التكليف، قال تعالى شأنه وجلت حكمته: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ، وقال جلت منته مبشرًا: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) أي يخفف عنهم التكاليف الثقيلة. وعلمنا كيف
ندعوه بعد أن بَيَّن لنا أنه {َلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وهو
أن نقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة: 286) وقال تعالى: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) وقد ورد في الحديث (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) [1] حديث
آخر (هلك المتنطعون) أي المتشددون في الدين وظن بعض الصحابة أن ترك
السحور أفضل بالنظر إلى حكمة تشريع الصيام فنهاهم النبي عليه السلام عن ظن
الفضيلة في تركه، وقال عمر رضي الله عنه في حضور رسول الله لمن أراد أن
يصلي النافلة بالفرض: بهذا هلك من قبلكم فقال النبي عليه السلام: أصاب الله
بك يا ابن الخطاب وأنكر النبي عليه السلام على عبد الله بن عمرو بن العاص التزامه
قيام الليل وصيام النهار واجتناب النساء، وقال له: (أرغبت عن سنتي؟ فقال، بل
سنتك أبغي، قال: فإني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن
سنتي فليس مني) وقد كان عثمان بن مظعون وأصحابه عزموا على سرد الصوم وقيام الليل والاختصاء، وكانوا حرموا الفطر على أنفسهم ظنًّا أنه قربة إلى
ربهم فنهاهم الله عن ذلك؛ لأنه غلُّو في الدين واعتداء فيما شُرِّعَ فأُنزل {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) أي أنه لا يحب من تعدى حدوده وما رسمه من الاقتصاد في
أمور الدين، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله عليه السلام: (والذي نفسي بيده
ما تركت شيئًا يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئًا
يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا نهيتكم عنه) فإذا كان الشارع يأمر بالتزام
ما وضع لنا من الحدود فما معنى نظرنا الفضيلة في المزيد، وورد في حديث
البخاري (إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّم من أجل
مسألته) وبمقتضى هذا الحديث نقول: ما أحق بعض المحققين المتشددين بوصف
المجرمين.
وهذه مسألة السواك مثلاً فإنه ورد عن النبي صلى الله وعليه وسلم فيها
أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) فهذا الحديث مع صراحته
في ذاته أن السواك لا يتجاوز حد الندب جعله الأكثرون سنة وخصصه بعضهم بعود
الأراك، وعمَّم بعضهم الإصبع وغيرها بشرط عدم الإدماء، وفصّل بعضهم أنه إذا
قصر عن شبر وقيل: عن فتر كان مخالفًا للسنة، وتفنن آخرون بأن من السنة أن
تكون فتحته مقدار نصف الإبهام ولا يزيد عن غلظ إصبع، وبيَّن بعضهم كيفية
استعماله فقال يسند ببطن رأس الخنصر ويمسك بالأصابع الوسطى ويدعم بالإبهام
قائمًا، وفصَّل بعضهم أن يبدأ بإدخاله مبلولاً في الشدق الأيمن ثم يراوحه ثلاثًا ثم
يتفل وقيل: يتمضمض ثم يراوحه ويتمضمض ثانية وهكذا يفعل مرة ثالثة، وبحث
بعضهم في أن هذه المضمضة هل تكفي عن سنة المضمضة في الوضوء أم لا،
ومن قال لا تكفي احتج بنقصان الغرغرة، واختلفوا في أوقات استعماله هل هو في
اليوم مرة أو عند كل وضوء أو عند تلاوة القرآن أيضًا حتى صاروا يتبركون بعود
الأراك يخللون به الفم يابسًا والبعض يعدون له كثيرًا من الخواص منها: إذا وضع
قائمًا يركبه الشيطان والبعض خالف فقال: بل إذا ألقي يورث مستعمله الجذام،
ويتوهم كثير من العامة أن السواك بالأراك من شعائر دين الإسلام إلى غير هذا من
مباحث التشديد والتشويش المؤديين إلى الترك على عكس مراد الشارع عليه السلام
من الندب إلى تعهد الفم بالتنظيف كيف ما كان.
ثم قال (العالم النجدي) : هذا ما ألهمني ربي بأنه في هذا الموضوع، وربما
كان لي فيه سقطات ولا سيما في نظر السادات الشافعية من الإخوان كالعلامة
المصري والرياضي الكردي؛ لأن غالب العلماء الشافعية يحسنون الظن بغلاة
الصوفية ويلتمسون لهم الأعذار وهم لا شك أبصر بهم منا معاشر أهل الجزيرة لفقدانهم
بين أظهرنا كليًّا ولندرتهم في سواحلنا ولولا سياحتي في بلاد مصر والغرب والروم
والشام لما عرفت أكثر ما ذكرت وأنكرت إلا عن سماع ولكنت أقرب إلى حسن
الظن ولكن ما بعد العيان لتحسين الظن مجال، وما بعد الهدى إلا الضلال، فنسأل
الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل.
فأجابه (العلامة المصري) أن أكثر الصوفية من رجال مذهبنا معاشر
الشافعية نتأول لهم كثيرًا ما ينكره ظاهر الشرع ونلتمس له وجوهًا ولو ضعيفة لأننا
نرى مؤسسي التصوف الأولين كالجنيد وابن سبعين من أحسن المسلمين حالاً وقالاً.
وفيما يلوح لي أن منشأ ذلك فينا جملة أمور منها: كون علماء الشافعية بعيدون
عن الإمارة والسياسة العامة إلا عهدًا قصيرًا. ومنها كون المذهب الشافعي مؤسسًا
على الأحوط والأكمل في العبادات والمعاملات أي على العزائم دون الرخص ومنها
كون المذهب مبنيًا على مزيد العناية في النيات. فالشافعي في شغل شاغل بخويصة
نفسه وهو مستمر من جهة دينه ومحمول على تصحيح النيات وتحسين الظنون ومن
كان كذلك مال بالطبع إلى الزهد والإعجاب بالزاهدين وحمل أعمال المتظاهرين
بالصلاح على الصحة والإخلاص بخلاف العلماء الحنفية فإنهم من عهد أبي يوسف
لم ينقطع تقاربهم في النظر في الشئون العامة في عموم آسيا وكذا المالكية في
الغرب وإمارات أفريقيا والحنابلة والزيدية في الجزيرة ومن لوازم السياسة الحزم
وتغليب سوء الظن وإتقان النقد والأخذ بالجرح ومحاكمة الشئون لأجل العمل
بالأسهل الأنسب.
وقد امتاز أهل الجزيرة في هذا الخصوص بأنهم كانوا ولايزالون بعيدين عن
التوسع في العلوم والفنون وهم لم يزالوا أهل عصبية وصلابة رأي وعزيمة، وقد
ورد قول النبي عليه السلام فيهم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المسلمون في
جزيرة العرب ولكن في التحريش) أي إغراء بعضهم ببعض، وكذلك أهل
الجزيرة لم يزل عندهم بقية صالحة كافية من السليقة العربية فإذا قرأوا القرآن أو
الحديث أو الأثر أو السيرة يفهمون المعنى المتبادر باطمئنان فينفرون من التوسع في
البحث ولا يعيرون سمعًا للإشكالات فلا يحتاجون للتدقيقات والأبحاث التي تسبب
التشديد والتسويش، وأما غيرهم من الأمم الإسلامية فيتلقون العربية صنعة
ويقاسون العناء في استخراج المعاني والمفهومات ومن طبيعة كل كلام في كل لغة
أنه إذا مخضته الأذهان تشعبت وتشتت فيه الأفهام.
وربما جاز أن يقال في السادة الشافعية - ولا سيما في علماء مصر منهم -:
إن انطباعهم على سهولة الانقياد سهل أيضًا دخول الفنون الدينية المستحدثة عليهم
ودماثة أخلاقهم تأبى عليهم إساءة الظن ما أمكن تحسينه فلذلك حازت هذه الفنون
التصوفية المستحدثة قبولاً عند علماء الشافعية الأولين.
هذا وحيث قلنا: إن من خلق المصريين سهولة الانقياد ولا سيما للحق وكذلك
علماء الشافعية الأكراد كلهم أهل نظر وتحقيق فلا يصعب حمل الشافعية على النظر
في البدع الدينية خصوصًا ما يتعلق منها بمظنات الشرك الجالب للمقت والضنك ولا
شك أنهم يمتثلون أوامر الله في قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) وقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:
24) وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) هذا وكثير من علماء الشافعية الأقدميين والمتأخرين
المنتصرون للمذهب السلفي السديد، المقاومون للبدع والتشديد، والحق أن
التصرف المتغالى فيه لا تصح نسبته لمذهب مخصوص فهذا الشيخ الجيلي
رضي الله عنه حنبلي وصوفي.
قال (الأستاذ الرئيس) : إن أخانا العالم النجدي يعلم أن ما أفاض به علينا لا
غبار عليه بالنظر إلى قواعد الدين وواقع الحال وكفى بما استشهد به من الآيات
البينات براهين دامغة، ولله على عباده الحجة البالغة، وعبارة التردد التي ختم بها
خطابه يترك بها الحكم لرأي الجمعية ما هي إلا نزعة من فقد حرية الرأي والخطابة
فأرجوه وسائر الإخوان الكرام أن لا يتهيبوا في الله لومة لائم، ورأي كل منا هو
اجتهاده وما على المجتهد سبيل، وليعلموا أن رائد جمعيتنا هذه الإخلاص، فالله
كافل بنجاحها، وغاية كل منا إعزاز كلمة الله، والله ضامن إعزازه قال تعالى:
{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) .
نعم هذا النوع من الإرشاد أعني الانتقاد على الاعتقاد هو شديد الوقع والصدع
على التائهين في الوهلة الأولى؛ لأن الآراء الاعتقادية مؤسسة غالبًا على الوراثة
والتقليد دون الاستدلال والتحقيق وجارية على التعاون دون التقانع، على أن
أعضاء جميعتنا هذه وكافة علماء الهداية في الأمة يشربون والحمد لله من عين واحدة
هي عين الحق الظاهر الباهر الذي لا يخفى على أحد فكل منهم يختلج في فكره ما
يخالج فكر الآخرين عينه أو شبهه لكنه يهيب التصريح به لغلبة الجهل على
الناس واستفحال أمر المدنسين ويخاف من الانفراد في الانتقاد، في زمان فشا فيه
الفساد، وعم البلاد والعباد، وقلَّ أنصار الحق، وكثر التخاذل بين الخلق.
ويسرني والله ظهور الثمرة الأولى من جمعيتنا هذه، أعني اطمئنان كل منا
على إصابة رأيه واطلاعه على أن له في الآفاق رفاقًا يرون ما يراه ويسيرون
مسراه، فيقوى بذلك جنانه، وينطلق لسانه، فيحصل على نشاط وعزم في إعلاء
كلمة الله ويصبح غير هياب لوم اللائمين، ولا تحامل الجاهلين، ومن الحكمة
استعمال اللين والتدريج والحزم والثبات في سياسة الإرشاد كما جرى عليه الأنبياء
العظام عليهم الصلاة والسلام وقد بسطت ذلك في اجتماعنا الأول وسنلاحظه في
قانون الجمعية الدائمة الذي نقرره إن شاء الله بعد استيفاء البحث في طريقة
الاستهداء من الكتاب والسنة في اجتماعاتنا الآتية، أما اليوم فقد انتهى وانتصف
النهار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه البخاري عن أبي هريرة بلفظ (لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا) ورواه غيره أيضًا.(5/304)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قوانين التعليم الرسمي - انتقاد
النبذة الرابعة - تعليم اللغة والتاريخ والعلوم
انتقدنا في النبذة السابقة قانون التعليم الرسمي من حيث تعليم الدين وودَدْنا لو
نعلم لنِظَارة المعارف عذرًا نعذرها على تلك العيوب وضروب القصير ونتكلم في
هذه النبذة على تقصير القانون فيما يتعلق بتعليم اللغة العربية لغة الأمة والبلاد
وتعليم التاريخ والعلوم.
العيب العامّ الأكبر هو ما جاء في عرض كلامنا على اقتراح الجمعية العمومية،
أعني مزاحمة اللغة الأجنبية للبلاد في التعليم الابتدائي وقد خرجت نظارة معارف
مصر في هذا عن سُنة أئمتها الأوربيين كلهم، فهي لا تجد لها دولة أوربية تقتدي
بها. ولم تكتف بتعليم قواعد اللغة الأجنبية ومبادئها بل زادت على ذلك تعليم مبادئ
العلوم، فالتاريخ الطبيعي يُبتدأ به في السنة الثانية وله درس واحد في الأسبوع،
يقرأ بالعربية ثم يقرأ في السنتين الثالثة والرابعة باللغة الأجنبية وله فيها درسان في
كل أسبوع فكأن دروس السنة الثانية تمهيد لما بعدها فتكون لغة البلاد وسيلة لا
مقصدًا. وكذلك الحال في علم تقويم البلدان إلا أن دروسه في الثالثة والرابعة ثلاثة
في كل أسبوع.
ومَنْ نظر في جدول توزيع حصص الدروس في التعليم الثانوي لا يرى بإزاء
خطوط اللغة العربية من الجدول إلا النقط والأصفار، فالعلوم كلها تقرأ باللغة
الأجنبية وهي الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان والتاريخ والطبيعة والكيمياء
والرسم. وكأن (الضمانات الخمس) التي قدمها ناظر المعارف لنواب الأمة في
الجمعية العمومية هي التي جعلت دروس الترجمة من حصص اللغة العربية في
الجدول الابتدائي والثانوي ليزيد العدد فتقتنع الأمة بأن لغتها قد اعْتُنِيَ بها وأدخل
فيها العلوم والفنون، ولكن هذا غش وخداع فإن الترجمة كما تكون من اللغة
الأجنبية إلى العربية تكون بالعكس والعناية الكبرى فيها باللغة الأجنبية ومعلموها هم
معلمو اللغة الأجنبية إلى العربية فكان الأقرب إلى الصواب أن تعد الترجمة من
دروس اللغة الأجنبية.
فدروس الأسبوع في التعليم الثانوي 33 درسًا: ثمانية منها للغة العربية نفسها
(النحو والصرف والبلاغة) والباقي للغة الإنكليزية، تسعة لنفس اللغة وواحد
للترجمة والباقي للعلوم.ومما يدل على أن حصص الترجمة تعدّ من دروس اللغة
الأجنبية إهمال الكلام عليها في الفصل الذي يشرح كيفية تعليم العربية من القانون
وذِكْرها في الفصول التي يشرح فيها كيفية تعليم اللغة الأجنبية.
الأمور التي تهم الأمة في التعليم وتود الضمان عليها ثلاثة: الدين وهو في
المرتبة الأولى، واللغة وهي في المرتبة الثانية، والتاريخ وهو المرتبة الثالثة،
فأما الدين فقد بيّنا وجوه تقصير المعارف فيه وجعله كالرسم الدارس.
وأما اللغة العربية فتقصيرها فيها من وجهين أحدهما نسبي وهو جعلها دون
اللغة الأجنبية، والواجب أن تكون فوقها، وثانيهما عدم تعليم العلوم والفنون بها
والواجب أن تجعلها لغة العلم؛ لأن الأمة لا تحيا حياة حقيقية إلا بجعل لغتها لغة
العلم ليتسنى بذلك تعميم العلم فيها فتكون حياتها العلمية مُمِدّة لحياتها المعاشية
والقومية. وإذا نحن جعلنا للعلم لغة ولسائر الشئون لغة أخرى نكون قد جعلنا في
مقومات حياة الأمة تنازعًا بفصل العلم عن العمل ولا يمكن أن يكون العلم مرشدًا
إلى العمل، والعمل منبعثًا عن العلم إلا إذا كان العامل عالمًا، ونتيجة هذا من غير
تطويل بشرح المقدمات أن أحد الأمرين واجب لكمال الحياة؛ إما نقل العلم إلى لغة
الأمة وهو المعقول المقبول، وإما نقل الأمة إلى لغة العلم الطارئ وهذا إعدام الأمة
وجعلها غذاءً وممدة للأمة التي تنتقل إلى لغتها، وما أخال أن ناظر المعارف
ورجال (ضماناته الخمس) من أمته يرضون بذلك سرًّا وجهرًا فإن كان لهم من الأمر
شيء فليعلموا أبناء الأمة العلوم بلغتها وإن كانوا مغلوبين على أمرهم للمستر
دنلوب ومن ينصره فلا يعارض ناظر المعارف الجمعية العمومية في طلبها عَرْض
قوانين المعارف على مجلس الشورى ولا يكابر نفسه وقومه بزعمه أن قوانين
نظارته موافقة لمصلحة الأمة ومؤيدة منها (بخمس ضمانات) ! !
وأما التاريخ فهو عند جميع الأمم الحية قِوام التربية الاجتماعية به تنفخ روح
محبة الجنس والأمة والوطن في الناشئين فبتعليم التاريخ كانت ألمانيا ألمانيا
وإنكلترا إنكلترا وفرنسا فرنسا، فالغرض الأول من علم التاريخ معرفة الإنسان أُمته
أو معرفته نفسه من حيث هو أمة، ثم معرفته سائر الأمم ليعرف مكانه منها ومكانها
منه وبذلك يُحصِّل الإنسان العلم النافع الذي هو غاية كل تربية وتعليم وهو الذي
عرّفه حكيمنا الإمام بقوله: (العلم ما يعرّفك مَنْ أنت ممن معك) .
إذا كان هذا هو الغرض من التاريخ فقد أصابت الأمم الأوربية بتلقين الناشئين
في أول الأمر تاريخ أمتهم مفصلاً وجعلهم تاريخ بقية الأمم في الدرجة الثانية، فالتلميذ
عندهم لا يعرف شيئًا من عظمة غير قومه وأمته إلا بعد أن يُشْرب قلبه عظمة سَلَفه
وحبهم وحب بلادهم. ويقال إن أكثر الألمانيين لا يكادون يتعلمون شيئًا عن غير
بلادهم وأمتهم إلا إجمالاً؛ لأن الواجب في رأيهم على كل إنسان أن يعرف نفسه
وقومه الذين سعادته بسعادتهم وشقاؤه بشقائهم. وأما معرفة أحوال بقية الأمم فإنما
تجب على طائفة من الناس كالذين يتصدُّون للسياسة وللتعليم ونحو ذلك مما يحتاج
فيه إلى معرفة تاريخ الآخرين وأحوالهم.
على هذا كان الواجب على نظارة معارفنا أن تجعل تاريخ الإسلام والسيرة
النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين في مقدمته هو أول ما يغرس في نفوس تلامذتنا وأن
تتوسع في تاريخ جميع الدول الإسلامية وبيان أسباب تقدمها وتأخرها حتي تنتهي
بالدولة العثمانية والبلادُ المصرية جزء منها وبعد هذا كله تلقن التلامذة بالإجمال
تاريخ سائر الأمم لا سيما المجاورة للممالك الإسلامية ليعرفوا نسبتهم إلى قومهم ونسبة
قومهم إليهم.
ما أدت نِظَارة المعارف هذا الواجب ولا رَعَتْهُ حق رعايته فإنها لم تعتبر
جنسية قومها في الدين ولا في اللغة ولا في الحكومة (وهي العثمانية)
ولكنها اعتبرت أن جنسيتها نسبتها إلى مصر وأن سلف هذه الأمة الغربية هم
الفراعنة والرعاة واليونان والرومان والعرب وخَلَفها الترك فهي والأَوْشاب تعلم
التلامذة في الطور الابتدائي تاريخ هذه الأمم الكثيرة بهذا الترتيب.
وأما تعليم التاريخ في القسم الثانوي: ففي السنة الأولى منه يعلمون تاريخ
الرجال وذكرهم في قانون وليس فيهم مسلم ولا عربي إلا محمد على باشا
وإسماعيل باشا أميرَيْ مصر، وفي السنة الثانية أقسام (1) الدولة الرومانية (2)
الدولة الإنكليزية (3) الحروب الصليبية (4) الدولة العثمانية (5) عظم دولة
أسبانيا وفيها الإصلاح المسيحي (6) عظم فرنسا (7) ارتقاء الروسيا وفيه
تاريخ المسألة الشرقية وما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها وتغلب روسيا عليها
وإضعافها.. (8) ارتقاء بروسيا (9) نابليون (10) المستعمرات الأوربية.
وفي السنة الثالثة أقسام أيضًا: (1) قيام أمم أوربا (2) نمو الحرية السياسية
في أوربا (3) المدنية عند جميع الأمم ماعدا المسلمين (4) تقدم مصر (5)
أسباب ارتقاء واضمحلال الأمم باختصار، وكل هذا يَعْلمه الأوربيون بلغتهم؛
فاعتبري أيتها الأمة المصرية (بضمانات ناظر المعارف الخمس) واطمئني له
ولها ما أجدر هؤلاء التلامذة بأن يشبّوا لا يعرفون لهم أمة ولا جنسًا ينتمون إليه
ويفتخرون به ويعملون على إحياء مجده وتجديد فخره. بل ما أجدرهم بفساد الفطر
التي نراها في بعض أحداثهم الذين ينادون بالوطنية المصرية بغير عقل. فإن قيل
لهم: هل الوطني المصري هو من يسكن مصر ويتخذها وطنًا؟ قالوا: لا لا إن
ممن يسكنها النزلاء الإفرنج وهؤلاء يحترمون في الظاهر ويبغضون في الباطن
ومنهم الدخلاء العثمانيون من سوريا وغيرها وهؤلاء يمقتون في الظاهر والباطن.
وإن قيل لهم: هل الوطني المصري ما كان من سلائل القِبْط والفراعنة فيجب أن
نبغض من يسكن مصر من سلائل العرب والترك الأرنؤود والجراكسة وإن كان
حكامنا منهم؟ قالوا: لا لا إن الجنس القبطي هو شر الأجناس فنسميه وطنيًّا ظاهرًا،
ولكننا في الباطن نفضل عليه المسلمين المصريين. فإن قيل لهم: إذن إن
جنسيتكم هي الإسلام فيجب أن تعتصموا مع كل مسلم من أي مملكة كان؟ قالوا: لا
لا إن هذا ينافي الوطنية الحقّة، وإننا لا نعتد إلا بالمسلمين المصريين الأصليين لا
الذين سكنوا مصر من عهد قريب. فهذه الذبذبة والحيرة عند هؤلاء الأحداث من
المسلمين لها سبب أقوى من هذا التعليم المذبذب. وظاهره أن نتيجة هذا التعليم الجناية
على الرابطة الدينية وعلى الرابطة اللغوية وعلى الرابطة الوطنية؛ لأن هؤلاء
الأحداث لا يحبون كل أبناء وطنهم بحيث يفضلونهم على سواهم. نعم إن مَضرّته
وفساده في القبط أقل منها في المسلمين فإن القبطي المتعصب يقول: إن المصري هو القبطي وكل من عداه دخيل، وغير المتعصب يقول: إن المصري هو من يقيم
في مصر ويتخذها وطنًا ينفعها وينتفع منها سواء كان شرقيًّا أم غربيًّا، مسلمًا أم مسيحيًّا. ولا يقول بهذا القول إلا أفراد قليلون على أنني أحكم بوجودهم بالرأي والتخيل، لا بالمعرفة والاختبار.
رُبّ قائل يقول: إن غرض الحكومة أن تربّي الناشئة على هذا الرأي
ونحن نقول: إن هذه غاية لا تُدْرك إلا بمحو الدين وذلك متعذر على الحكومة إذا
فقدت الدين وأرادت محوه ولكن حكومة البلاد إسلامية، والشعب الكبير إسلامي
وإذا وُجِدت آداب الإسلام الحقيقية فهي تقتضي الوطنية الحقيقية وهي اتفاق جميع
سكان البلاد على ما فيه خيرهم وخير بلادهم ومعاملة الجميع بالعدل والمساواة
بينهم بالحقوق وقد أوضحنا هذا في مقالة (الجنسية والديانة الإسلامية) فلتراجع
في المجلد الثاني، والله أعلم.
__________(5/308)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(كتاب حاضر المصريين أو سرّ تأخرهم)
كتاب صنّفه أحد شبان المصريين النجباء المولعين بالبحث وهو أحمد أفندي
عمر أحد مستخدمي مصلحة البريد تكلم فيه عن حالة المصريين الاجتماعية في
معيشتهم وكسبهم وعاداتهم وأدبهم وعلمهم وقد جعله ثلاثة أقسام: قسمًا للأغنياء،
وقسمًا للمتوسطين، وقسمًا للفقراء. ولا شك أن المؤلف قد تعب في الوقوف على
عادات الطبقات الثلاث في المحبة والزواج والعشرة بين الزوجين وتربية الأولاد
وتعليمهم وعاداتهم في النفقة والبذل والأوهام، وفي معرفة أحوالهم في التجارة
والزراعة والطباعة والكتب والجرائد التي تنتشر فيهم، وبَحْثُه في جميع المسائل
بحث انتقاد صحيح ينبّه الأفكار المستعدة إلى السعي في إصلاح الخلل واتقاء الزلل.
ولا ينفع الناس شيء مثل علم ما هم فيه من نافع وضارّ لذلك نقول: إن هذا
الكتاب من أنفع ما كتب في العربية في هذا العصر.
الكاتب تحرّى الصواب وبيان الحقائق بقدر الاستطاعة مع الوقوف عند حدود
الأدب فإن قصر في بعض المسائل فعُذْره أنه لم يستمد من كتب مؤلفة ينقل عنها
بسهولة وإنما استمد من المشاهدة والاختبار، وأن ما تسنى من ذلك له كثير على من
كان مشغولاً بوظيفة صغيرة كوظيفة تستغرق معظم أوقاته في خدمتها وقد طالعنا
جملة صالحة من الكتاب فوافقناه في أبحاثه وقد انتقدنا عليه التقصير في تصحيح
عباقرة الكتاب وعدم بدئه بالبسملة الشريفة عملاً بالحديث الشريف واتباعًا لسنة
المسلمين سلفهم وخَلَفهم. وقد قرظ الكتاب القاضي الفاضل أحمد فتحي بك زغلول
رئيس محكمة مصر وأجازه وأثنى عليه وبدأ تقريظه بسنة البسملة على أن العادة لم
تَجْر بذلك وكأنه أراد مع اتباع السنة تنبيه المؤلف على تركها بالعمل دون القول.
أقول: إنني لا أوفي هذا الكتاب حقه في التقريظ إلا بنقل فوائده في أجزاء
أخرى على أنه هضم حق المنار عند كلامه على الجرائد الدينية فإنه لم يكتب عنه
إلا جملة وجيزة في الهامش اعترف فيها بعناية المجلة بالإصلاح الديني والتنفير عن
البدع، ولكنه عرَّض فيها بنا بأن للأمور الشخصية سبيلاً علينا وقد ظهر لنا منه أنه
رجع عن هذا الرأي والله أعلم بالسرائر وهو الموفِّق للصواب.
* * *
(كنز الجوهر في تاريخ الأزهر)
كتاب مختصر ألفه الفاضل الشيخ سليمان رصد الحنفي أحدُ المشغلين بالعلم
في الجامع الأزهر الشريف وأهل الأزهر أجدر الناس بمعرفة تاريخه والتأليف فيه.
الكتاب يشتمل على مقدمة ذكر فيها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم واستطرد منها
إلى الفتح الإسلامي. الذي كان منه فتح مصر وفيها الكلام على جامع عمرو بن
العاص وجامع ابن طولون. ويلي المقدمة خمسة مقاصد أحدها في ابتداء تأسيس
الجامع وما عرض عليه بعد ذلك وتجدد فيه، وثانيها في أروقة الأزهر
والمؤسسين لها، وثالثها في شيوخ الأزهر وأشهر علمائه لهذا العهد، ورابعها في
الحوادث الشهيرة كحادثة رواق الشواء في أثناء الوباء، وخامسها في عادات أهل
الأزهر، ويتلو ذلك خاتمة في الإحصاء وفيه عدد المشتغلين بالعلم في القطر
المصري وبيان مواضعهم.
ومما ذكره من عادات أهل الأزهر أنه لا يمكن لأحدهم أن يعمل عملاً يكتسب به
لا في أثناء الاشتغال ولا بعده. قال: (بل إذا انْتَحَل شيئا ينتفع به يعدّ في أعين
أترابه كأنه اقترف ذنبًا عظيمًا) وذكر أن هذه علة فقرهم. وذكر أن غير
المصريين من المجاورين في الأزهر أحسن حالاً من المصريين في المعيشة
والنظافة وذكر من أسباب وساخة المصريين في أبدانهم وثيابهم وآنيتهم الانهماك في
الطلب، وما يقع بين المشتركين منهم في المعيشة من العناد والتواكل، وَفَاتَهُ أن
يبين أن الاشتراك هو الذي يساعد على النظافة لتوزيع الأعمال، وأن الوساخة
واختلال نظام المعيشة يشوش الذهن ويضعف العقل فلا يفيد مع الانهماك في الطلب
كثيرًا. قال: وأما عادتهم في الأكل وهو غالب أكل المجاورين فهو فول مدمس
ونابت وطعمية ومُخلّل وكراث وغير ذلك من الأشياء التافهة لفقرهم بلا فرق بين
مصري وغيره، وكذلك غالبهم يقوم بعمله بنفسه كغسل ثياب وطبخ وغير ذلك.
هذه عبارته بحروفها ويسوءنا جدًّا ما نراه في الكتاب مثلها من كثرة الغلط والخطأ.
ثم ذكر كيفية إلقاء الدروس والمطالعة قال: (واعتناؤهم فيها بفهم العبارات
وحلّ التراكيب والمناقشات بالاعتراضات والأجوبة عنها والإطلاق والتقييد والمفهوم
والمنطوق وغير ذلك من غير اعتناء بالحفظ فتجد كثيرًا منهم بحرًا للعلوم في الفهم
في الكراس وإذا سئل من خارج فقلّ أن يجيب لعدم استحضاره) اهـ بالحرف
أيضًا والكلام صحيح وصريح في أنه لا عناية عندهم بتحصيل مَلَكة العلم وتكيف
النفس بها بحيث تكون قادرة على الكلام في المسائل عند السؤال والمناسبة وإنما
العلم الذي يكونون فيه بحارًا زاخرة هو المناقشة في عبارات الكتب التي يقرؤونها
وإعادة ما كتبه الشراح وأصحاب الحواشي على المتون قراءة.
وبالجملة إن في الكتاب فوائد لا توجد في غيره من المصنفات في تاريخ
الأزهر التي هي أوسع منه تحريرًا وصفحات الكتاب تزيد على 200 وثمنه خمسة
قروش ويطلب من جميع المكاتب المشهورة بمصر والإسكندرية وطنطا فنحث
على قراءته.
* * *
(شذا العرف في فن الصرف)
كتاب صنفه الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد الحملاوي مدرس العربية في مدرسة
دار العلوم سابقًا. وقد تصفحت بعض أوراقه ورأيت تقسيمه وتبويبه فظهر لي أنه
أحسن كتاب لتعليم هذا الفن. وكان طبع في سنة 1312 بإذن نظارة الداخلية بناء
على شهادة الإنبابي شيخ الجامع الأزهر لذلك العهد بصحته وخلوه من الخطأ. وقد
طبع في هذه السنة طبعة ثانية بالمطبعة الأميرية بعد تنقيح وإضافة كثير من
الأمثلة والشواهد وهذا من مزايا الكتاب فنحث كل طالب لفن الصرف على
قراءته.
* * *
(كتاب الحساب)
كتاب يؤلفه الفاضل عوض أفندي خليل، مؤسس وناظر مدرسة الاجتهاد
الوطنية ببولاق وصاحب مجلة السمير الصغير المدرسية. وقد أصدر الجزء
الأول منه وأودعه: ما هو مقرر للتعليم في السنة الأولى الابتدائية بحسب قانون
التعليم في المعارف (البروغرام) فنحث التلامذة على الاستفادة منه.
* * *
(المستظرفات)
كتاب وضعه الأديب إبراهيم أفندي زيدان جَمع فيه من كتب الأدب والتاريخ
كثيرًا من النوادر الأدبية والفكاهية والغرامية وطبع في مطبعة الهلال على نفقة
مديرها الهُمَام متري أفندي زيدان وثمن النسخة منه خمسة قروش ويطلب من مكتبة
الهلال وهو مما يَرْغب فيه الناس فلا حاجة إلى الترغيب فيه.
* * *
(كتاب رسائل إرشاد الأفكار إلى طريق الأبرار)
للشريف منصور أفندي رئيس جمعية التعاون الإسلامي. وقد كتب هذه
الرسائل في مسائل سُئِلَها فأجاب عنها بفهمه واجتهاده على طريقة المتصوفة وقد
تصفحنا بعض صفحاتها فعلمنا منها أننا نخالفه في بعض مسائلها ولا سعة معنا في
الوقت الآن لقراءتها وبيان ما نراه صوابًا وما نراه منتقدًا، وربما يسمح لنا الوقت
بذلك بعد.
__________(5/312)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(حرب فرنسا والسنوسي)
كتب بعض كبار التجار في طرابلس الغرب إلى صديق له في بعض البلاد
وكان سأله عن أخبار بلادهم ما نصه بحروفه:
(ورد لنا جواب من بُومَه تاريخ 19 ماي أفرنجي ووصل لطرفنا تاريخ 14
ربيع أول سنة 1320 قال فيه بعد السلام: وبعد، أخي فقد تم البحث الذي وقع عليّ
كما أخبرتك في شأن سيدي المهدي (يعني الشيخ السنوسي) ولما أن كانت نيتي
طبق الإحسان والصدق مع الله تعالى وخلقه سلمت والحمد لله على كل حال، والآن
أنا سافرت إلى فرانسة ثم أرجع إلى قسطنطينة الجزائر ثم أسافر من هناك ثانيًا،
فالمطلوب من فضلك الكريم أن تجعل لنا جوابًا على كل مسألة داخل جوابنا هذا
وتسأل خليفة سيدي المهدي ولا تذكر لي إلا الخبر الصحيح.
أولاً: ما هي الأخبار الواردة لكم من ناحية داركانم وألبركو وزاوية الشيخ
سيدي المهدي بعد ما وقع بعد من الحرب بين الفرنسيس وعرب أولاد سليمان
والتوارق واستيلاء فرانسة على بيرهلالي.
ثانيًا: هل يرضى الشيخ سيدي المهدي بالصلح مع دولة فرانسة بواسطتي فإن
كان يقبل، وإن كان غرضه العافية لصلاح الجميع فَخَبِّرْنِي بذلك فأكلم الدولة
الفرنساوية ويكون الخير إن شاء الله وإن كان نيته الحرب مع فرانسة والجهاد فخبرني
وانصحني وقل للخليفة يعرفك بالحقيقة ولا يستخوش مني أبدًا. لا بد تعرفني بحقيقة
الأمر وإن وجب السفر إلى طرابلس فعرفني أقدم إلى طرفك؟
ثالثًا: ما بلغ إليكم من أخبار واداي؟
رابعًا: ما هي أحوال إخوان طريقة سيدي المهدي مع دولة الأتراك هل اعتقاد
الإخوان مثل الزمان الأول أم لا؟
خامسًا: من مات من الأعيان في المحاربة التي وقعت في بير هلالي علمي
بذلك الشيخ سعد البراني والشيخ غيط والشيخ شرف الدين وغيرهم. اهـ
قال التاجر: (حاصله: وقعت محاربة كبيرة بين دولة فرنسة والشيخ سيدي
المهدي وأكلتها دولة فرنسة وإن الجواب الوارد لنا هو من نفس مهندس من طائفة
فرنسة نحن نرسله إلى جغبوب ونحكي لهم بالكيفية وهم يعرفون شغلهم، ربنا ينصر
الإخوان على القوم الكافرين! وبر السوادين واقع فيه حرب واليوم صار لدولة فرنسة
مع المهدي مثل ما صار للإنكليز مع الترانسفال ندعو الله أن يهلك دولة فرنسة.
وأرسلنا جواب إلى رحب خوجة المذكور وعرفناه هذه المسألة لا تهمنا والسلام.
اهـ مكتوب التاجر.
والقارئ لهذا الكتاب يظهر له أنه كتب عن معرفة وأنه صدق لا شبهة فيه ولكن
فيه شيئًا من الإبهام. قال الذي أرسل صورته إلينا: حبذا لو علمنا من هو صاحب
التحرير المرسل إلى التاجر وأين هي بلدة بُومَة؟ وما معنى قوله: تم البحث الذي
وقع عليّ؟ وقد ذكر التاجر صاحب المكتوب أنه مهندس طائفة فرنسا وسماه رحب أو
رجب خوجه. فما هذا السر؟ هل الرجل مسلم كما يظهر من كلامه أو مسلم جغرافي
(كما تقولون في المنار) يريد أن ينتفع من فرصة الخلاف بين السنوسي وفرنسا؟
أو هو مسلم من مسلمي الجزائر وتونس موظف عند فرنسا ويريد أن يخدمها
ويخدم سيده المهدي؟ وربما كان قوله: (تم البحث) إلخ إشارة إلى أنهم فتشوا عليه
لكونه جاسوسًا من قبل المهدي أو متهمًا بالتجسس. والذي حملني على هذا الظن قوله
في آخر الجملة: (سَلِمتُ) . ويفيد قوله: (وتسأل خليفة سيدي المهدي) أن للمهدي
خليفة مقيمًا في طرابلس الغرب. والذي يجعل في النفس ريبة من قول صاحب
المكتوب هو قوله: (ولا يستخوش مني أبدًا) وقوله: (ما هي أحوال الإخوان مع
دولة الأتراك) إلخ
أما نحن فنعلم أن للسيد المهدي السنوسي خلفاء في طرابلس وكل بلاد أفريقية
الشمالية والوسطى وصحاريها ونرجح أن المهندس صاحب المكتوب جاسوس
فرنسي كما أنه مهندس ولذلك لم يجاوبه التاجر عن أسئلته.
***
(مسيح الهند والمنار)
سبق لنا رد على القائم في الهند المدعي أنه المسيح الموعود به وعلى كتابه
الذي سماه إعجاز المسيح، وإن كان قوله كالريح , وسجعه دون سجع شق وسطيح،
وقد ترجمت رد المنار عليه الجرائد الهندية , وأذاعته في تلك الممالك القصية،
فاستشاط الرجل غضبًا وملأ النواحي سبابًا وصخبًا، والمؤمن ليس بسبَّاب ولا
بذيء ولا صخاب، فهل يكون المرسلون والمسحاء من أهل السفه والبذاء، وهل
ينزل الوحي على أهل الإلهام، وتقام الحجة على الأنام بالسخرية والاستهزاء،
والقول الهراء والانتصار للنفس، ومكابرة الحس، والتنفج والتبجح، والتجرم
والتذقح، كما فعل هذا المدعي في الكتاب الذي لفقه في الرد على (المنار) فكان
مجلبة الخزي والعار وقد سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) وما عهدت الهداية بشتم
الورى.
بعد أن أهدى إلينا كتابه وأرسل شتمه وسبابه. كتب إلينا أحد كبار علماء
الهند من لاهور كتابًا يشكو فيه من انتشار البدع في الهند وقال فيه: (الآفة التي لا
تذكر، والعاهة التي لا تسطر هي فتنة المسيح الدجال الهندي الشهير بميرزا غلام
أحمد القادياني. فهي لا تنقطع كسير السواني، وهو في زعمه الباطل مجدد مهدي
ملهم محدث مسيح مرسل إمام عند شرذمة قليلين. ما لهم من دنيا ولا دين، والحق
أنه رجل خَتَّال ختار، بَطَّال شطار، يدعي الوحي والنبوة، ويثبت للمسيح البنوة،
ويحرف آيات القرآن بتأويلات فاسدة، ويتنطع في أحاديث النبي بخزعبلات كاسدة،
ثم ذكر هذا العالم مجادلته لعلماء الهند وإفحامهم اياه وانصرافه لدعوة العلماء في غير
الهند ومنهم الفقير صاحب المنار.
وانتقل من هنا إلى ذكر ردنا على كتابه (إعجاز المسيح) وذكر أن الجرائد
الهندية نقلته عن المنار، وكان له شأن في تلك الديار، أثار من ذلك المدعي أشجانه،
وأطلق بالسب لسانه، ثم رغب إلينا في الرد عليه وقال: (فإن لتحريركم وقعًا في
النفوس، أشد من حرب البسوس) .
نعم إن من وظيفة المنار الرد على هذا المدعي، ولو لم يرغب إلينا فيه ذلك
العالم الألمعي، ولكن الرد إنما يكون على الشبهات التي تساق مساق البينات وليس
لهذا المدعي شبهة يستند إليها، ولا تكأة يتوكأ عليها، إلا ذلك المؤلف الذي هو حجة
عليه، بل سهام منه تصوب إليه فقد ادعى أنه معجز للبشر لا تأتي بمثله القوى
والقُدَر، فما هو وجه الإعجاز فيه. الذي جعله عمدة تَحَدِّيه؟ إن قال: إن العمدة هي
قصر المدة، فإنني ألفته في سبعين ولا يقدر على مثل ذلك أحد من العالمين، نقول:
أولاً: إننا لا نصدقك في هذا التحديد على أنه طويل، فهل لك عليه من بينة
ودليل؟
وثانيًا: إن كثيرًا من العلماء ألفوا كتبًا طويلة في مدة قليلة. ولم يدعوا أن ذلك
من المعجزات؛ لأنه ليس من خوارق العادات فالفناري ألف شرحه على
الأيساغوجي في يوم من أقصر الأيام ولم يتحدَّ به أحدًا من الأنام.
وثالثًا: إننا نطلب منه محكمين من أهل الإنصاف، يرضى بهم كل منا ومنه
للحكم في مواضع الخلاف، وعند ذلك نظهر له أغاليط كتابه في اللفظ والفحوى،
والعاقبة كما قال الله تعالى للتقوى، ليعلم الناس أن تحدي النبوة والرسالة، لا يكون
بالخطأ والجهالة، وأن ادعاء إقامة الدين وتأييد الشريعة لا يكون بتقويض أركانهما
الرفيعة، وتشويه محاسنها السنية السنيعة، وأن إصلاح نفوس المسلمين لا يكون
بشتم خاتم النبيين. وموعدنا الجزء الآتي.
أما الآن فإننا نذكر بعض عباراته في الرد علينا، وما وجه من الطعن إلينا،
ليعلم القراء مبلغ آدابه، وعسلطته في خطابه، قال بعدما زعم أنه آثرنا بكتابه
(إعجاز المسيح) على علماء الحرمين والشام والروم ما نصه:
(ثم لما بلغ كتابي صاحبَ المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار، ما
اجتنى ثمرة من ثمار ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى
الكلم والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي
ويزري غير وان في الإزراء والالتطام، ولا لاو إلى الكرم والإكرام، كما هو سيرة
الكرام وعمد أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع
وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى، وقال ما
قال وما أمعن كأولي النُّهى، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأولي التقى، وخر
بعدما علا وإن الخرور شيء عظيم فما بال الذي من المنار هوى، واشترى الضلالة
وما اهتدى أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نبأٌ من الله الذي يعلم السر
وأخفى.
ثم قال: (وكنت رجوت أن أجد عندك نصرتي، فقمت لتندد بهواني وذلتي،
وتوقعت أن يصلني منك تكبير التصديق والتقديس، فأسمعتني أصوات النواقيس
وظننت أن أرضك أحسن المراكز، فجرحتني كاللاكز والواكز، وذكرتني بالنوش
والنهش والسبعية، نبذًا من أيام الخصائل الفرعونية، ولست في هذا القول كالمتندم،
فإن الفضل للمتقدم، وكنت أتوقع أن يتسرى بمواخاتك همي، ويرفض بجندك كتيبة
غمي، فالأسف كل الأسف أن الفراسة أخطأت، أي: فلم يصدق عليه حديث (اتقوا
فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ؛ لأنه ينظر بظلمة غروره والروية ما تحققت
ووجدت بالمعنى المنعكس ريّاك (وهنا إشارة قبيحة تليق بقائلها ولا تليق بنزاهة من
يصطفيهم الله تعالى لهداية خلقه) فهذه نموذج بعض مزاياك، (أنث النموذج
وكم كنت مذكرًا) وعلمت أن تلك الأرض أرض لا يفارقها اللظى، وتفور منها إلى
هذا الوقت نار الكبر والعلى، فعفى (كذا) الله عن موسى لِمَ تركها وما عفّى
(وههنا أساء الأدب مع سيدنا موسى الكليم ونسب إليه الخطأ والذنب والتقصير، على
أن تعفية مصر وإهلاكها بيد الله لا بيده عليه السلام) .
ثم قال بعد مكابرة في ردنا على كتابه ونسبته للغلط والتكلف ما نصه:
وحسبتك حبيبًا يريحني كنسيم الصباح، فتراءيت كعدو شاكي (كذا) السلاح،
وخلت أنك تهدر بصوت مبشر كالحمام، فرأيت وجهك المنكر كالحمام، وأعجبني
حدتك وشدتك من غير التحقيق (كذا) فأخذني ما يأخذ الوحيد الحائر عند فقد الطريق،
لكني أسررت الأمر وقلت في نفسي: لعله تصحيف في التحرير، وما عمد إلى
التوهين والتحقير، وكيف قصد شرًّا لا يزول سواده بالمعاذير. وكيف يمكن الجهر
بالسوء، من مثل هذا النحرير (يذم ويمدح) ولما تحققت أنه منك تقلدت أسلحتي
للجهاد، وقلت: مكانك يا ابن العناد، وعلمت أنك ما تكلمت بهذه الكلمات، إلا حسدًا
من عند نفسك لا لإظهار الواقعات، (إنني لا أدعي المسيحية فأحسده على دعواها
ولا شيء آخر يحسد عليه) فابتدرت قصدك، لئلا يصدق الناس حسدك، فإن
علماء ديارنا هذه يستقرون حيلة للإزراء، فيستفزهم ويجرئهم عليّ كلما قلت
للازدراء، ولولا خوف فسادهم لسكت وما تفوهت وما تجلدت، ولكن الآن أخاف
على الناس، وأخشى وسوسة الخناس، وإن بعض الشهادات أبلغ من الضرب
بالمرهفات، فأخاف أن يتجدد الاشتعال من كلمات المنار، ويسقط ميمه ويبقى على
صورة النار) .
ثم ادعى أنه كان غلب علماء الهند وسرق سجعات من كلام الحريري، وقال:
(فالآن أحيي اللئام بعد الممات، وشد المنار عضدهم بالخزعبيلات (كذا)
فأرى أنهم يتصلفون، ويستأنفون القتال، ويبغون النضال، ويخدعون الجهال،
ورجعوا إلى شرهم وزادوا صدًّا، بما جاء المنار شيئًا إدًّا وجاز عن القصد جدًّا (كذا
بالزاي والحريري استعملها بالراء من الجور) فأكبر كلمه حزب من العمين إلخ.
ثم ذكر أنه كثيرًا ما كان يغضي عن المعترضين والمزدرين وقال: (ولكن
رأيت أن صاحب المنار، عظم في عين هذه الأشرار، (كذا) وأكبر شهادته بعض
زاملة المنار، وكانوا يذكرونها بالعشي والأسحار، فبلغني ما يتخافتون، وعثرت
على ما يسرون ويأتمرون، وأخبرت أنهم يضحكون علي، وفي كل يوم يزيدون)
إلى أن قال في صاحب المنار: (بل أصر على الإزراء في الجريدة فأكل
الحاسدون حصيدة لسانه كالعصيدة، وتلقفوا قوله وجددوا الخصومة بعدما قطعوها
كما هو من شيم القرائح البليدة، وحسبوا كلمه كالأسلحة الحديدة وأشاعوها في
الأخبار (الجرائد) والجوائب الهندية وكتبوا كلمًا يشق سماعها على الهمم البريئة
المبرءة، وآذوا قلبي كما هي عادة الرذل والسفهاء وسيرة الأراذل من الأعداء) ثم
قال: (وما أتظنى أن يكتب المنار من معارف كمعارف كتابي ويرى بريقًا كبريق ما
في قرابي، ثم مع ذلك تناجيني نفسى في بعض الأوقات أنه ما عمد إلى الاحتقار
والنطح كالعجماوات، بل أراد أن يعصم كلام الله من صغار المضاهات وإنما الأعمال
بالنيات) (وههنا حاشية في الأصل ذكر فيها أنه يظن أن سبب غيظي منه حكمه
بمنع الجهاد) فإن كان هذا هو الحق فلا شك أنه ادخر لنفسه بهذه المقالات، كثيرًا من
الدرجات، وأي ذنب على من سبني لحماية الفرقان، لا للاحتقار وكسر الشان) إلى
أن قال: (ولكني معتذر كمتل اعتذاره، فإن الفتن قد انتشرت من أقواله وأخباره)
إلخ إلخ.
__________(5/315)
غرة جمادى الأول - 1320هـ
5 أغسطس - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(الدرس 36)
محمد رسول الله وخاتم النبيين
الكلام في نبوة خاتم المرسلين لا يتجلى للعقول كمال التجلي إلا بعد بيان
مسألتين تجعلان مقدمة له: إحداهما بيان حاجة البشر إلى رسالته العامة، والثانية بيان
استعداد الناس لها.
***
(المسألة 101) حاجة البشر إلى هداية عامة:
الحاجة إلى بعثة النبي عليه الصلاة والسلام في الجملة تعرف من البحث في
حاجة البشر إلى إرسال الرسل كما تقدم في الدرسين 18، 19 (راجع المنار9
و140) ولا يوجد في أعداء الإسلام المؤمنين بالوحي والنبوة عاقل ينكر أن العرب
كانوا في أشد الحاجة إلى بعثة رسول منهم ينتشلهم من تلك الوثنية، ويخرجهم من
هاتيك الجهالة والهمجية، وأن تأثير هداية محمد فيهم كان مثل تأثير هداية موسى في
بني إسرائيل أو أعظم وأظهر، ولكن الذين ينكرون حاجة الناس كافة إلى هذه
الهداية الإلهية على لسان محمد عليه السلام كثيرون، وإنما حال بينهم وبين معرفة
هذا الحق المبين التقليد الأعمى، فالتقاليد أعدى أعداء الحق في الدين والعلم وفي كل
شيء؛ لأن المقلد ليس له عينان فينظر في الدليل والبرهان، بل ينكر الحسن
والعيان، ويكابر الوجود والوجدان، وإنما نكتب ما نكتب ليزداد الذين آمنوا إيمانًا
وليعتبر أصحاب المطلقة العقول المطلقة والأفكار الحرة من غير المؤمنين.
بيان حاجة جميع الأمم إلى الإصلاح المحمدي يتوقف على معرفة تاريخ الأمم
قبل الإسلام لا سيما تاريخ أهل الكتاب الذين يدعون أن في كتبهم ما يغني عن هداية
الإسلام وإصلاحه، ولا يمكن سرد تاريخ الأمم تفصيلاً في التمهيد من مسائل العقائد
ولكن في الإجمال مع الإحالة على كتب التاريخ غناء، وقد كتب أستاذنا الإمام نبذة
في ذلك وافية بالمرام في (رسالة التوحيد) التي هي حجة الإسلام في هذا الزمان
وما بعده إلى ما شاء الله، وإننا نقتبسها هنا فانظر هذه البلاغة في الإيجاز التي تكاد
تبلغ به حد الإعجاز، قال حفظه الله:
(ليس من غرضنا في هذه الورقات أن نلم بتاريخ الأمم عامة وتاريخ العرب
خاصة في زمن البعثة المحمدية لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض خاصة في
زمن البعثة المحمدية لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسة إلى قارعة تهز
عروش الملوك وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان
السماء إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء، وإلى نار تنقض من سماء الحق
على أُدُم النفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به الأباطيل القاتلة للعقول، وصيحة
فصحى تُزعج الغافلين وتُرجع بالباب الذاهلين، وتنبه المرءوسين إلى أنهم ليسوا
بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين، والقادة الغارّين ,
وبالجملة تئوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنها الله له [1]
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} (الإِنسان: 3) ليبلغ بسلوكه كماله، ويصل على نهجها
إلى ما أُعِدَّ في الدارين له، ولكنَّا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق
عليه مؤرخو ذلك العهد نظر إمعان وإنصاف.
وكانت دولتا العالم [2] دولة الفرس في الشرق ودولة الرومان في الغرب في
تنازع وتجالد مستمر، دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة،
وظلم من الإحن حالكة، ومع ذلك فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة
والتفنن في الملاذ بالغة حد ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء والقواد
ورؤساء الأديان من كل أمة وكان شر هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد فزادوا
في الضرائب وبالغوا في فرض الإتاوات حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم وأتوا
على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القوي في اختطاف ما بيد
الضعيف، وفكر العاقل في الاحتيال لسلب الغافل، وتبع ذلك أن استولى على
تلك الشعوب ضروبٌ من الفقر والذل والاستكانة وخوف والاضطرابات لفقد الأمن
على الأرواح والأموال.
غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب يديرها من
وراء حجاب، ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب، ففقد بذلك الاستقلال الشخصي
وظن أفراد الرعايا لم يخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذاتهم كما هو الشأن في
العجماوات مع من يقتنيها. ضلت السادات في عقائدها وأهوائها وغلبتها على الحق
والعدل شهواتها، ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها فلم يفارقها الحذر من أن
بصيص النور الإلهي الذي يخالط الفطر الإنسانية قد يفتق الغُلف التي أحاطت
بالقلوب، ويخرق الحجب التي أسدلت على العقول، فتهتدي العامة إلى السبيل،
ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا
سُحُبًا من الأوهام، ويُهيّئوا كسفًا من الأباطيل والخرافات ليقذفوا بها في عقول
العامة فيغلظ الحجاب ويعظم الرين ويختنق بذلك نور الفطرة ويتم لهم ما يريدون من
المغلوبين لهم , وصرح الدين بلسان رؤسائه أنه عدو العقل وعدو كل ما يثمره
النظر إلا ما كان تفسيرًا لكتاب مقدس.
وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب، ومدد لا ينفد، هذه كانت
حالة الأقوام في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم: عبيد أزلاء حيارى في
جهالة عمياء، اللهم إلا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية، والشرائع السابقة
أوت إلى بعض الأذهان ومعها مقت الحاضر، ونقص العلم بالغابر، ثارت الشبهات
على أصول العقائد وفروعها بما انقلب من الوضع، وانعكس من الطبع فكان يرى
الدنس في مظنة الطهارة، والشره حيث تنتظر القناعة، والدعارة حيث ترجى
السلامة والسلام، مع قصور النظر عن معرفة السبب وانصرافه لأول وهلة إلى أن
مصدر كل ذلك هو الدين. فاستولى الاضطراب على المدارك، وذهب بالناس مذهب
الفوضى في العقل والشريعة معًا، وظهرت مذاهب الإباحين والدهريين في شعوب
متعددة وكان ذلك ويلاً عليها فوق ما رُزِئَتْ به من سائر الخطوب) .
(وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات، خاضعة للشهوات، فخر
كل قبيلة في قتال أختها وسفك دماء أبطالها، وسبي نسائها وسلب أموالها، تسوقها
المطامع إلى المعامع، ويزين لها السيئات فساد الاعتقادات، وقد بلغ العرب من
سخافة العقل حدًا صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها، فلما جاعوا أكلوها،
وبلغوا من تضعضع الأخلاق وهنًا قتلوا فيه بناتهم تخلصًا من عار حياتهن، أو
تنصلاً من نفقات معيشتهن، وبلغ الفحش منهم مبلغًا لم يعد للعفاف قيمته، وبالجملة
فكانت رُبُط النظام الاجتماعي قد تراخت عقدها في كل أمة، وانفصمت عراها عند
كل طائفة) .
(أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم يوحي إليه
رسالته، ويمنحه عنايته ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي
أظلت رءوس جميع الأمم، نعم كان ذلك وله الأمر من قبل ومن بعد) . اهـ
فعلم مما أورده الأستاذ الإمام أن فساد الأمم كان من فساد رؤساء الدين
ورؤساء الدنيا وهم الملوك والأمراء، وأن قصارى سيرة الفريقين كان محصورًا في
إطفاء نور الفطرة الإلهية وهدم ركني السعادة البشرية وهما استقلال الفكر واستقلال
الإرادة.
فإذا قيل: إنه كان في الدنيا دينان سماويان أي دين اليهود ودين النصارى
وكتابان إلهيان وهما التوارة والإنجيل فكان يغني عن بعثة محمد صلى الله تعالى
عليه وسلم إلهام الله تعالى رؤساء الدينين وحملة الكتابين أن يقيما أصولهما ويسيرا
على صراطهما ويَدْعُوا الناس إلى ذلك.
نقول في الجواب: إن دين اليهود كان خاصًّا بشعب إسرائيل وهم المخاطبون
بالتوراة دون سواهم؛ لعلم الله تعالى أن هذا كتاب يصلح لهدايتهم وحدهم في الزمن
الذي أنزل فيه وبعده إلى أجل مسمى، وبعد ذلك أفسد بنو إسرائيل في الأرض
فسلط الله عليهم الوثنيين فسبوهم وخربوا ديارهم وأحرقوا كتابهم.
ثم إن كاتبًا منهم اسمه (عزرا) كتب لهم بعد زمن طويل ما يحفظه من
كتابهم وشريعتهم بإذن الملك الوثني، ومنها الأسفار الخمسة التي يسمونها التوراة،
وهي تحكي عن موسى بضمير الغائب وفيها ذكر وفاته وليس ذلك مما أوحي إليه،
ولولا أن الله أخبرنا في كتابه بأن اليهود نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به لا جميع ما ذكروا
به، ولولا أنه احتج عليهم بعدم العمل بالتوراة؛ والحجة تقوم ببعض كلام الله كما
تقوم به كله - لما صدقنا كلمة واحدة من كتبهم ولا وثقنا بحكم واحد من أحكام
شريعتهم.
وحاصل القول أن الله تعالى لم يجعل التوارة منذ شرعها هداية
عامة مرشدة لجميع البشر إلى كمال الفطرة فكيف تصلح بذلك بعدما طرأ عليها
وعلى الناس ما طرأ.
وأما السيد المسيح عليه السلام فإنه لم يأت بدين جديد، وإنما ديانته اليهودية
وشريعته التوارة ولكنه كان مصلحًا؛ لأن اليهود جمدوا على ظواهر الشريعة حتى
صاروا كالماديين فأرسله الله (إلى خراف إسرائيل الضالة) ليهديهم إلى الروحانية
ويبالغ فيها بمقدار ما بالغوا في الظواهر والماديات؛ ليكون ذلك تمهيدًا لدين الفطرة
الذي يجمع بين مصالح الروح والجسد.
وأما الديانة البولسية التي انتشرت في أوربا بتعليم بولس ثم مساعدة قسطنطين
ومن بعده من الملوك وإلزامهم الناس إلى إرسال الرسل لهدايتهم إلى سعادة الدنيا
والآخرة بتربية الروح والجسد وليس فيها قاعدة واحدة من قواعد الفطرة وإنما هي
عبارة عن شيء واحد وهو الإيمان بالمسيح على الوجه الذي يقولونه، وأنه لا
حاجة مع هذا الإيمان إلى العمل بالشريعة، والظاهر من نصوص كتب العهد الجديد
أن المسيح خلص العالم كله من العذاب، من آمن به ومن لم يؤمن وإنما يفضل
المؤمن به غيره بأنه يحل فيه روح القدس. قال يعقوب في رسالته: (وليس من
أجل خطايانا فقط بل من أجل عدة قرون يخبطون في دياجير الأوهام والجهالات
حتى دخل عليهم الإصلاح الإسلامي من بلاد الأندلس والشرق كما سنبينه.
***
(م 102) الاستعداد لعموم البعثة:
حاجة الناس إلى الشيء تولد فيهم الاستعداد له فإذا استدللنا بالعلة على
المعلول فالدليل أوضح؛ لأنه ههنا وجودي مشهود لا نظري مستنبط، وهو قبول
الأمم على اختلافها في الأديان واللغات والمواقع هذا الإصلاح الروحي الاجتماعي
الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي الإلهي والإلهام فقد انتشر الإسلام
في المشرق والمغرب بسرعة لم يعرف التاريخ مثلها، حتى كان ملك الإسلام بعد
ثمانين سنة من ظهوره أوسع من ملك الرومان بعد ثمانمائة سنة والرومان أعظم
أمم التاريخ الماضي في الحروب والفتوحات.
هذا هو الإصلاح الذي غيَّر هيئة الأرض وبدَّل نظام الاجتماع الإنساني في
السياسة والحرب والمدنية والعلوم والآداب على أيدي أمة كانت قبل الإسلام أبعد
عن السياسة والمدنية والنظام والعلوم وهي الأمة العربية.
ألم تر أن نور الهداية الفطرية ما خبا بعد الإسلام من مكان إلا وأومض أو
تألق قي مكان آخر، وأن دعائم العمران ما تداعت في مملكة إلا وشيدت في غيرها
وأن غرس العلم والفلسفة ما ذبل أو تصوح في أرض إلا ونما وترعرع في سواها،
كل ذلك كان ينتقل مع الإسلام فكلما ظهرت قوة الإسلام، والمسلمون في الشرق
والغرب ضعف العلم والعمران والمدنية في العالم، ولكنه لم يذهب من العالم
فيحتاج العالم إلى مصلح آخر يبني له قواعد الاجتماع على أصول العلم الصحيح
وسنن الكون إذ لو حصل لما كان محمد خاتم النبيين.
ولكن تلك القواعد انتقلت من مسلمي الأندلس ومسلمي الشرق إلى
أوربا مع تلامذة ابن رشد وفي الكتب التي أخذها الصليبيون من المسلمين.
من عجيب أمر استعداد العالم لهذا الإصلاح العام سرعة انتقال العلم من قطر
إلى قطر ومن خافق إلى خافق أيام مدنية العرب لأول عهدها مع صعوبة المواصلة
بين الخافقين، فقد كان المؤلفون من الأندلس وبلاد البربر ينقلون من كتب المؤلفين
المعاصرين في العراقَيْنِ من المشرق كما كان هؤلاء ينقلون من أولئك في كل عصر
فكانت تلك الهمم الكبار تغنيهم عن الكهرباء والبخار، وآية أخرى من آيات هذا
الاستعداد حفظ العلم والتاريخ فقد كان الكتاب يوجد قبل الإسلام في الأمم ثم يذوب
ويضمحل كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، أرأيت الإسرائيليين على غلوهم في دينهم كيف
مرت عليهم السنون والأحقاب وليس عندهم من كتاب شريعتهم إلا نسخة واحدة
حتى إذا فقدت ذهبت الثقة بمجموع ديانتهم إلا ما كانوا يحفظون ويعملون. وقس
بهم العرب الأميين، وانظر كيف حفظوا كتابهم في الصدور والسطور. وكيف
رأوا في الصدر الأول أن يرسلوا بالمصاحف إلى الأقطار لتكون أصولاً يكتب منها
بصفة رسمية؛ لأن مصحفًا يرسله خليفة رسول الله بمشاورة أصحاب رسول الله
واتفاقهم له حكم النقل المتواتر المجمع عليه، ولولا ذلك لكان نقل المصاحف
مقصورًا على الأفراد الذين كانوا يحملونها، وإذا اشتبه في هذه الحال بكلمة اختلف
فيها ناقل مع ناقل أو حافظ تقع الحيرة في الترجيح لعدم وجود أصل مجمع عليه أو
عدد كثير من المصاحف مأخوذة عن ذلك الأصل أو عدد مثله من الحفاظ. ولكن
ذلك لم يقع فلا خلاف بين المسلمين في كلمة ولا في حرف من حروف القرآن
العزيز.
من آية استعداد الأمم للإصلاح الإسلامي على الطريقة الأولى (الاستدلال
بالعلة على المعلول) النظر في أصول هذا الإصلاح فمنها حاجة البشر الطبيعية
إلى رابطة عامة بين الأمم المختلفة في الجنس واللغة والدين، فقد كانت هذه الروابط
خاصة تجمع طائفة محصورة ليعيش أفرادها معيشة اجتماعية ولكنها تجعلهم أعداء
للطوائف التي ترتبط برابطة أخرى والإسلام جاء لجمع كل الأمم كما سنبينه بعد.
ومنها إقامة قواعد العمران والاجتماع على سنن الكون التي تُعرف بالاختبار،
ومنها تقييد سلطة رؤساء الدين والدنيا وجعل مصالح الأمم شورى بين أهل الرأي
منهم وأصحاب الحل والعقد المرضيين عندهم، ومنها جعل أحكام الشريعة دائرة على
درء المفاسد وحفظ المصالح وتحكيم العرف. وكل الأمم الراقية إنما ارتقت بمثل هذه
الأصول التي وضعها الإسلام، سواء لقبت بلقب الإسلام أو لم تلقب به.
ومن آية ذلك تلك الطريقة أيضًا ما أثبته علم الاجتماع من ارتقاء الإنسان
بالتدريج فبعد أن كان في ظلمات من بحر الوثينة اللجي من فوقه موج من فوقه
سحاب لا يكاد يرى شيئًا من نور الفطرة ارتقى في الوثنية من الاعتقاد بتأثير
مظاهر الطبيعة التي لا يفهم معناها من جماد ونبات وحيوان وإنسان إلى الاعتقاد
بأن تلك المعبودات لا تؤثر بنفسها، وإنما تقرب من يخضع لها من واجب الوجود
وتشفع له عنده في قضاء الحوائج بهذا الاستعداد اصطلم الإسلام بالتوحيد جراثيم
الوثنية من جزيرة العرب ثم انتشر التوحيد الخالص في العالم مؤيدًا بالعلم فلم
يخبُ مصباحه في مكان إلا وأشرق في غيره. فأكثر أهل أوربا اليوم موحدون لا
يعتقدون بسلطة ولا تأثير في الكون إلا لمدبر الكون الذي وضع سنته ونواميسه.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2) ولقد كان النبي قبل الإسلام يًبعث
بالتوحيد فيؤمن به النفر أو القوم فلا يمضي عليهم زمن إلا ويعودون إلى الوثنية
ويلتمسون لها الدلائل من الدين فيمحى التوحيد بالمرة. ولكنه لم يمح بعد ظهور
الإسلام وإن دبت الوثنية إلى بعض المسلمين وصُبغت عندهم بصبغة الدين
بضروب من التأويل والتحريف، وسنوضح مسألة الاستعداد بما قاله الأستاذ في
ارتقاء الأمم بالدين وبسبب ظهور الإسلام في العرب الأميين، فانظر ذلك في الدرس
الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المراد بالطريق فطرة الله التي فطر الناس عليها.
(2) شروع في بيان الكلمة المستعارة قال في الدرس: وفاتني وقت الكتابة ذكر دولة الصين فإنها كانت أيضًا ممزقة بالحروب الأهلية والحرب مع التركمان، وسنذكرها في طبعة ثانية إن شاء الله تعالى.(5/329)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الزواج وشبان مصر وشوابُّها
أكثرت الجرائد العمومية اليومية الخوض في هذه الأيام في مسألة اجتماعية
ذات بال وهي ميل كثير من الشبان المصريين إلى التزوج بالأوربيات، وإحجام كثير
منهم عن التزوج بالمرة، وزعم بعض الباحثين أن السبب في الأمرين هو عدم وجود
بنات مصريات (متربيات) يصلحن لشبان مصر (المتربين) .
وههنا شرح بعض الكتاب سوء حال تربية البنات ووصف من جهلهن وأطنب
في التنفير عنهن، وكنت أحب أن يكثر الكتاب البحث في تربية البنات في معرض
غير معرض تفضيل الزواج بالأوربيات والترغيب عن الزواج بالوطنيات.
المسألة كبيرة وفروعها متشعبة ولطريق البحث فيها نواشط كثيرة، وكأني بهذه
النواشط قد تمثلت أمامي فلا أدري أي ناشط أختار في ابتداء السير لأَصِلَ منه إلى
الطريق الأعظم. ولكنني أقول قبل كل قول: إن الذين تزوجوا بالأوربيات أو
يفضلون التزوج بهن هم أبعد المصريين عن التربية الصحيحة النافعة. وإن أكثر
الذين يتريثون بالزواج يتربصون الظفر بزوج غنية لا بزوج مهذبة متربية.
ثم أقول: إنه لا تربية عندنا للفتيان ولا للفتيات، وإن الإناث يقربن من الذكور
في الأخلاق والآداب والعادات والرغبات، ولكن الفرق بين الفريقين في التعليم،
فالمتعلمون أكثر من المتعلمات، ولكن أكثر هذا العلم مما لا يصح التفاضل فيه؛ لأنه
قليل التأثير في الحياة المنزلية والحياة القومية والحياة الملية. ولو ارتقى المتعلمون
في شئون الحياة لأصلحوا بيوتهم، ورأس إصلاح البيوت تربية البنات فكما يريد
الرجال يكون النساء؛ لأنهم القوامون عليهن والقوة بأيديهم فهم يسيرون العمران
كيف شاءوا ورب متفرنج غبي ينغض رأسه إذا سمع قولنا: كما يريد الرجال يكون
النساء. ويقول: إن هذا قول مَنْ لا يعرف الحقائق فإن الأوربيين يقولون: كما
يريد النساء يكون الرجال. رويديك أيها الغر المتفرنج إن في كلمة سادتك شيئًا من
المبالغة وإن كان نساؤهم وصلن إلى درجة من الاستقلال والعناية بالتربية بسعي
الرجال صار لهن بها شأن في تربية الأطفال يصح معها أن تقال هذه الكلمة فيهن
ولكن شأن بلادنا ونسائنا مباين لشئونهن.
التربية شيء والتعليم شيء آخر: التربية هي تعاهد القوى الجسدية والنفسية
ومساعدتها على الوصول إلى الكمال المستعدة له في أصل الفطرة حتى يكون
المربي إنسانًا كاملاً سويًا في خلقه، مهذبًا في خلقه، نافعًا لنفسه ولقومه، والتعليم
إيداع صور المعلومات في ذهن المتعلم، وقد وجد في مدارس مصر شيء من
التعليم الناقص ولكن التربية لم توجد في المدارس ولا في البيوت فما في الأمة من
الأخلاق والآداب الصحيحة فهو على قلته من سؤر ما تركه السلف الصالح من
التراث، وأشد الناس جناية عليه وإتلافًا له هؤلاء المتعلمون الذين انتفعوا بالتعلم
الجديد فصاروا ينفعون أنفسهم وأمتهم قليلون جدًّا، وإنما ساعدهم على الانتفاع
استعداد قوي في الفطرة وبعض الأخلاق والآداب المورثة؛ ولذلك يعد نجاحهم شذوذًا
لا نتيجة طبيعية لهذا التعليم الناقص في المدارس. وهؤلاء لا يَنصحون لشبان أمتهم
أن يتزوجوا بالأوربيات، وإنما ينصحون لهم أن يربوا ويعلموا البنات، وإذا
اشتكوا فإنما يشتكون من جهل الأغنياء وبخلهم إذ لا يسمحون بشيء من فضل مالهم
لإنشاء معاهد أهلية للتربية والتعليم.
أما تلك الحُثالة من سائر المتعلمين - وهم الأكثرون على أنهم قليل في مجموع
الأمة - فإنها لم تستفد من التعليم إلا رطانة لغة أوربية بها يتمكنون من معاشرة بغايا
الإفرنج مسافحات أو متخذات أخدان. وإن عقائل نساء الإفرنج ليترفعن ويستنكفن
أن يعاشرن هؤلاء الغلمان السفهاء الأحلام بَلْهَ الاقتران بهم وقبولهم بعولة لهن فهذا
التبجح الذي يتبجحه شباننا في الجرائد بعلمهم إنما هو التبجح بتفضيل البغايا
الأجنبيات على المحصنات الوطنيات.
لولا هؤلاء المتعلمون لما راج سوق الفحش في مصر، لولا هؤلاء المتعلمون
لما نشأ داء الزهري في البلاد؛ لولا هؤلاء المتعلمون لما فشا السُّكْر في القطر لولا
هؤلاء المتعلمون لما عُرِفَ الميسر والقمار في وادي النيل. لولا هؤلاء المتعلمون لما
فتن الناس بزخرف الأثاث والرياش والماعون التي تُجلب من أوربا فتذهب بثروة
البلاد. لولا هؤلاء المتعلمون لما خربت تلك البيوت العامرة التي ورثت الثروة
والمجد عن أب وجد، لولا هؤلاء المتعلمون لما انتهكت حرمات الدين وتركت فضائله
وسنته. فبماذا يفتخر هؤلاء المتعلمون المغرورون على البنات الأغرار الجاهلات؟
ولماذا يترفعون عليهن مع أن جهلهن لم يجن على الأمة والبلاد بعض ما جناه علم
أولئك المتبجحين المترفعين.
البنت الجاهلة تتربى في بيت زوجها تربية جديدة؛ لأن العذراء لا تستقر
أخلاقها وعاداتها على شيء إلا بعد الزواج كأنها قبل ذلك ترى كل شيء موقتًا غير
ثابت؛ لأنها في طور غير ثابت تنتظر في كل يوم الانتقال إلى الطور الذي بعده
الذي حكمت الفطرة بأن تقضي حياتها فيه؛ وهو كونها زوجًا لرجل ثم أمًّّّّّّّا لولد.
فليت شعري كم عدد المتعلمين الذين تزوجوا من هؤليَّا العذارى واشتغلوا بتربيتهن
ليعيشوا معهن عيشة راضية؟ كم عدد الذين أحصنوا بالزواج فرضوا بأزواجهن
حتى لا يَغْشَوْنَ المواخير ولا بيوت السر؟ ويا ليت شعري كم عدد البيوت التي كان
فيها هؤلاء المتعلمون صالحين مصلحين وأزواجهم فاسدات مفسدات؟ أظن بل أوقن
أن الرجال هم الذين يفسدون النساء بسوء المعاملة وقبح السيرة إلا ما جاء على
سبيل الشذوذ. فما بال تلك (الفتاة التعيسة) التي أرادت الدفاع عن أخواتها
التعيسات طفقت تذمهن وتهجوهن في مقالتها التي نشرتها في المؤيد توسلاً إلى كلمة
تسترضي بها الشبان في آخرها بأنهم مقصرون وبأن في البنات الآن من المتعلمات
من يليق بهم.
الغميزة الكبرى في تربية بنات مصر هي أنهن يكلمن هؤلاء الشبان
المغرورين ويعاشرنهم، وهذه الفتنة فاشية في المتعلمين والمتعلمات أكثر من فُشُوِّها
في الجالهين والجاهلات، والذنب في هذه الغميزة على الشبان فمنهم بدأت الفتنة
وإليهم تعود؛ لأنهم هم الذين يتعرضون لإغواء البنات، وقد حدثني غير واحد منهم
بأنه لا يكاد يوجد تلميذ إلا وله خليلة من البنات. ولكن لا تكاد توجد بنت بدأت شابًّا
بالمغازلة والمناغاة , فإذا كان هذا حظ شباننا المتعلمين من البنات فماذا ينقمون
عليهن من فساد التربية! أينقم بعضهم على من يحبها أنها لا تُحسن الرطانة بلغة
أوربية، كيف وهو أوسع مادة في المسائل التي يكلمها بها بلغته العرفية منه باللغة
الأجنبية؛ لأنهما لا يتكلمان إلا باللغو والهذيان الذي يناسب العشاق الذين لا تربية لهم
ولا تهذيب.
يوهمنا بعض الكتاب أن هؤلاء المتعلمين يود أحدهم أن تكون له زوجة
تعلمت مثلما تعلم تكون حياته معها إنسانية بالمذاكرات العلمية والأدبية لا حيوانية
محضة مقصورة على التمتع البهيمي.
ويا ليت هذا كان صحيحًا ولكن يحزننا ويمضنا أنه غير صحيح فإن موضوعات
حوارهم في أنديتهم وسمارهم دون ما يقتضيه علمهم الناقص، كأن فساد التربية
حال بينهم وبين الانتفاع بالعلم. ومن ذا الذي يطلب العلم ليعمل به أو ليكمل؟ كلنا
نعرف علة طلبهم للعلم. هي أخذ الشهادة التي تعدهم لوظائف الحكومة والغرض من
وظائف الحكومة الأكل مع الراحة لما جلبوا عليه من الكسل. نرى أحدهم يجد ويكد
قريحته بالحفظ مدة الدراسة حتى إذا ما نال ورقة الشهادة التي سماها بعض الأوربيين
(جلدة الحمار) قال: ذهب دور التعب والعناء وجاء دور التمتع؛ فيترك البحث
والمذاكرة في كل ما تعلمه إلا إذا كان رزقه منه كالمهندسين والأطباء وقليل ما هم.
إن من يدرس لحاجة كرشه وفرشه كالثور الذي يدرس ليأكل بل ربما كان الثور
أنفع منه؛ لأنه يأكل ويأكل غيره من عمله بدرس الحنطة، ولكن أكثر الذين يدرسون
العلم عندنا لا يأكلون ولا يأكل أحد من ثمرة دراستهم وهم الذين قال فيهم الشاعر:
ودرس ثورين قد شُدَّا إلى قرن ... أقنى وأنفع من تدريس حَبرينِ
أين أثر علم هؤلاء المتنفجين في التأليف أو العمل؟ أين الأندية والسمار
الأدبية؟ أين الجمعيات العلمية؟ أين الشركات الصناعية؟ أين الأعمال التجارية؟
أين التآليف النافعة في العلوم اللغوية أو العلمية أو الأدبية أو الدينية. أخرت ذكر
الدين؛ لأن أكثر المتعلمين؛ أجهل به من العامة الأميين، ولا يخفى أن الكلام كله في
المجموع لا في عموم الأفراد فإن من التلامذة من يرغب في العلم لفضله ونفعه
ومنهم من أحسن أهلُه أدبه وتربيته.
فيا معشر المتنفجين بالعلم - وإن كان الجهل خيرًا منه - إذا فتنتم بالأوربيات أو
استغنيتم بالسفاح عن الزواج الشرعي أو كنتم ترجئون الاقتران ليظفر أحدكم بامرأة
غنية يتنعم بمالها؛ لأن المدرسة ربته على الترف والكسل معًا - فأقسم عليكم بالشرف
الذي تذكرونه، والوطن الذي تتهمونه، بل أقسم عليكم بالله الذي تعبدونه أن لا
تعتذروا عن ذلك بغميزة أخواتكم والإزراء بأمهاتكم! ومن كان منكم يغار على قومه
وبلاده فليجتهد بتربية نفسه ثم تربية الأقرب فالأقرب، واعلموا أنه لو وجد عندنا
تربية وتعليم لوجد عندنا رجال وإذا وجد الرجال توجد النساء كما يريد الرجال
ويوجد المال ويوجد الاستقلال، فالرجال الذي عملوا كل شيء في الماضي وهم الذين
يعملون كل شيء في المستقبل، وخير لهم أن يكون نساؤهم عونًا لهم من أن
يكونوا كلاًّ عليهم، والسلام على من علم وعمل.
__________(5/338)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع الخامس لجمعية أم القرى
(في مكة المكرمة يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة 1316)
في الوقت المعين من هذا اليوم تكامل الاجتماع واستعدت الهيئة للمذاكرة
والسماع، وقرأ كاتب الجمعية ضبط الجلسة السابقة حسب القاعدة المرعية.
قال (الأستاذ الرئيس) : سنبحث بعد يومين في وضع قانون الجمعية الدائمة
وإني أرى أن نفوض للجنة منا من الذين سبق لهم دخول في جمعيات علمية أو
الذين لم وقوف على مباني الجمعيات القانونية ولا سيما الغربية المعروفة باسم
(أكاديميات) لتنظم لنا هذه اللجنة سانحة قانون نضعها تحت البحث في الجمعية.
وإني أكلف بهذه اللجنة أخانا السيد الفراتي؛ ليقوم بكتابتها وأخانا السعيد
الإنكليزي ليفيد اللجنة عما يعلمه عن الأكاديميات وعن مجربات جمعيات ليفربول
ورأس الرجا وإخواننا العلامة المصري والصاحب الهندي والمدقق التركي وهذا
يرأسهم؛ لأنه أسنّهم [1] وهؤلاء أعضاء فهل تَسْتَصْوِبُ الجمعية ذلك وترى فيه
الكفاية والكفاءة أم تستدرك شيئًا.
ثم ابتدر (السعيد الإنكليزي) للمقال مخاطبًا الأستاذ الرئيس فقال: إننا
مسلمي (ليفربول) حديثو عهد بالإسلام ولنا إشكالات مهمة تتعلق ببحث اليوم،
أعني بطريقة الاستهداء من الكتاب والسنة؛ لأن أكثرنا قد هدينا والحمد الله إلى
الإسلامية منتقلين إليها من (البروتستانتية) أي الطائفة الإنجيلية لا من الكاثوليك أي
الطائفة التقليدية فنميل طبعًا لاتباع الكتاب والسنة فقط، ولا نثق بقول غير معصوم
فيما ندين.
وقد تركنا دين آبائنا وقومنا لنتبع دين محمد نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام
لا لنتبع الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أو المالكي وإن كانوا ثقاة ناقلين.
ولنا جمعية منتظمة لها شعبتان في أمريكا وجنوب أفريقيا، ونحن راغبون أن
نسعى سعيًا حثيثًا في الدعوة للدين السامي الإسلامي المبين، والأقوام الذين ندعوهم
غالبهم متمدنون أي أفكارهم متنورة بالعلوم والمعارف وأكبر أملنا معقود بهداية فئتين
اثنتين: الأولى البروتستان والثانية الزنادقة.
أما أملنا في البروتستان، فلأنهم منقلبون حديثًا من الكاثوليكية انقلابًا ناشئًا عن
ترجيحهم الاقتصار على الإنجيل ومجموعة الكتب المقدسة متونًا فقط أي بإهمال
الشروح والتفسيرات والمزيادات التي لا يوجد لها أصل صريح في الإنجيل.
والبروتستان في أوربا وأمريكا يزيدون على مائة مليون من النفوس كلهم
مفطورون على التدين قليلو العناد في الاعتقاد مستعدون لقبول البحث والانقياد للحق
بشرط ظهوره ظهورًا عقليًّا، ولا سيما إذا كان الحق ملائمًا لأسباب هجرهم
الكاثوليكية، من نحو إنكارهم الرياسة الدينية والرهبانية والتوسل بالقديسين وطلب
الشفاعة منهم واحترام الصور والتماثيل والدعاء لأجل الأموات وبيع الغفران والقول
بأن للبطارقة قوة قدسية وقوة تشريعية، وأن للبابا صفة العصمة عن الخطأ في الدين
وأن للأساقفة ومن دونهم من القسيسين مراتب مقدسة إلى غير ذلك مما يُنْتِجُ في
النصرانية سلطةً دينية وتشديدات تعبدية لا يوجد لها أصل في الإنجيل.
وقد يشبه هؤلاء البروتستان في رأيهم فئة قليلة من اليهود تعرف باسم
القرائين وهم الآخذون بأصل التوراة والمزامير والنابذون للتلمود أي للتفسيرات
ومزيدات الأحبار والحاخاميين الأقدمين.
أما الفئة الثانية فهم الزنادقة المارقون من النصرانية كليًّا؛ لعدم ملائمتها للعقل
وهؤلاء في أوربا وأمريكا كذلك يزيدون على مائة مليون من النفوس غالبهم
مستعدون لقبول ديانة تكون معقولة حرة سمحة تريحهم من نصب الكفر في الحياة
الحاضرة فضلاً عن العذاب في الآخرة.
ومن غريب نتائج التدقيق أن أفراد هذه الفئة كلما بعدوا عن النصرانية نفورًا
من شركها وخرافاتها وتشديداتها يقربون طبعًا من التوحيد والإسلامية وحكمتها
وسمحاتها، فبناءً على هذا الحال وهذه الآمال ترى جمعية (ليفربول) أهمية عظيمة
لتحرير مسألة الاستهداء من الكتاب والسنة وتصوير حكمة وسماحة الدين الإسلامي
للعالم المتمدن، فأرجو حضرة الأستاذ الرئيس أن يسمح لي بتفهم مسألة الاستهداء
على أسلوب المحاورة والمساجلة مع بعض الإخوان الأفاضل في هذا المحفل العلمي
العظيم.
فأجابه (الأستاذ الرئيس) بقوله له: ساجِل مَن شئت وخاطبْ مَن أردت
فالإخوان كلهم علماء أفاضل حكماء.
فقال (السعيد الإنكليزي) مخاطبًا العالم النجدي: إنك يا مولاي قد صورت
في مقدمة خطابك في التوحيد مَنْ هو المسلم وألزمتَه العمل بالكتاب والسنة فأرجوك
أن تعرفني أولاً ما هو الكتاب وما هي السنة.
فقال (العالم النجدي) أما (الكتاب) فهو هذا القرآن الذي وصل إلينا بطريق
لا شبهة فيه؛ لاجتماع الكلمة واتفاق الأمة عليه وتناقُلها إياه جيلاً عن جيل حفظًا في
الصدور وضبطًا في السطور مع الحرص العظيم على كيفية أدائه لفظًا وعلى هيئة
إملائه كتابة ومع الاعتناء الكامل في تحقيق أسباب النزول ومكانه ووقته مع حفظ
اللغة العربية المضرية القرشية التي نزل بها بإتقان لا مزيد عليه. وبقاء القرآن
محفوظًا من التحريف والتغيير وموجات الريب إلى الآن هو أحد إعجازه حيث جاء
مصدقًا لقوله تعالى فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) .
أما (السنة) فهي ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أو فَعَلَه أو أقرَّه ولم يكن
صدر منه ذلك على سبيل الاختصاص أو الحكاية أو العادة، وقد اعتنى الصحابة ولا
سيما التابعون وتابعوهم رضي الله عنهم بحفظ السنة حديثها وآثارها وسِيَرها غاية
الاعتناء وتناقلوها بالرواية والسند مُتحرين الوثوق منتهى مراتب التحري والتثبت،
وقد حازت بعض مدونات السنة وثوقًا تامًا وقبولاً عامًّا في الأمة فوصلت إلينا بكمال
الضبط خصوصًا منها الكتاب السنة.
قال (السعيد الإنكليزي) لا يشك أحد حتى العدو المعاند في أنه لم تبلغ ولن
تبلغ أمة من الأمم شأو المسلمين في اعتنائهم بحفظ القرآن الكريم وضبطهم التاريخ
النبوي أي السنة، وكذلك يقال في اعتنائهم باللغة العربية التي هي آلة فهم الخطاب.
وبالنظر إلى ذلك كان يجب أن نحرر الشريعة الإسلامية أحسن تحرير فلا
يوجد فيها ما وجد في غيرها بسبب عدم ضبط أصولها من اختلافات ومباينات مهمة
بين العلماء الأئمة فأرجوك أن تبين لي ما هو منشأ هذا التشتت الذي نراه في
الأحكام.
أجابه (العالم النجدي) أن الاختلافات الموجودة في الشريعة ليس كما يظن
شاملة للأصول بل أصول الدين كلها والبعض من الفروع متفق عليها؛ لأن لها في
القرآن أو السنة أحكامًا صريحة قطعية الثبوت قطعية الدلالة بإجماع الأمة الذي لا
يُجَوِّز العقلُ فيه أن يكون عن غير أصل من الشرع [2] .
أما الخلافات فإنما هي فروع تلك الأصول في بعض الأحكام التي ليس لها في
القرآن أو السنة نصوص صريحة بل بعض علماء الصحابة رضي الله عنهم وفقهاء
التابعين، ومن جاء بعدهم من الأئمة المجتهدين أخذوا تلك الأحكام التي اختلفوا فيها إما
تلقيًا من بعض الصحابة، فكلٌّ قَلَّدَ مَن صادف [3] . وإما استنبطوها اجتهادًا من
نصوص الكتاب أو السنة بالمدلول المحتمل أو بالمفهوم أو بالاقتضاء أو من قرائن
الحال أو قرائن القال أو بالتوفيق أو بالتخريج أو التفريع أو بالقياس أو باتحاد
العلة أو باتحاد النتيجة أو بالتأويل أو الاستحسان، وهذه الأحكام الخلافية كلها ترجع
إلى دلائل إما قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت ظنية الدلالة. ولكل واحد
من المجتهدين أصول في التطبيق وقوانين في الاستنباط يخالف فيها الآخر، ومنشأ
معظمها الخلافات النحوية والبيانية.
ثم إن أكثر الخلافات هي في مسائل المعاملات وعلى كل حال جاحدها لا يكفر
باتفاق الأئمة بل المخالفون لا يفسق بعضهم بعض إذا كان التخالف عن اجتهاد لا
عن هوى نفس أو تقصير في التتبع الممكن للمقيم في دار الإسلام (مرحى) .
قال (السعيد الإنكليزي) : إني أشكرك على ما أجملت وأوضحت غير أنك لم
تذكر في جملة أسباب الاختلاف في اعتبار الناسخ والمنسوخ بين آيتين أو حديثين
أو آية وحديث وإني أظن أن ذلك من أعظم أسباب الاختلاف في الأحكام.
أجابه (العالم النجدي) : إن نواسخ الأحكام قليلة ومعلومة والخلاف فيها أقل؛
لأن النسخ في زمن التشريع لم يحصل إلا عن حكمة ظاهرة كالتدريج في منع
السُّكْرِ كالنهي عنه حالةَ الصلاة ثم تعين منعُه. وكتغيير المقتضي للتوارث بالإخاء
وهو القطيعة التي حصلت بين المهاجرين وذوي أرحامهم في بدء الأمر ثم لما
تلاحقوا بعد فتح مكة نُسخ ذلك وجُعل التوارث بالنسب. وكالدعوة في أول الإسلام
إلى التوحيد والدين بمجرد الموعظة بدون جدال ثم به بدون صدع ثم به بدون قتال
ثم به في أهل جزيرة العرب فقط ثم بتعميمه مع قبول الجزية والخراج من
غيرهم [4] (مرحى)
قال (السعيد الإنكليزي) : إن ما وصفت من أصول الاجتهاد وقوانين
استنباط الأحكام قد أنتج خلاف ما يأمر الله به في قوله تعالى: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) وخلاف ما تقضيه الحكمة فهل من وسيلة سهلة
لرفع هذا التفرق.
أجابه (العالم النجدي) إني لا أهتدي لذلك سبيلاً [5] ولعل في الإخوان من يتصور وسيلة لهذا الأمر المهم.
فابتدر (العلامة المصري) مخاطبًا السعيد الإنكليزي وقال: إن رفع الخلاف
غير ممكن مطلقًا ولكن يمكن تخفيف تأثيراته: وذلك أنه لما كان معظم الاختلاف
كما قرره أخونا العالم النجدي في الفروع دون الأصول وفي السنن والمندوبات
والصغائر والمكروهات دون الشعائر والواجبات والكبائر والمنكرات كان أكثر الأمة
هم العامة الذين لا يقدرون أن يميزوا بين الواجب والسنة والمندوب وبين النفل
والمباح بل تنقسم الأحكام كلها في نظرهم إلى نوعين أصليين فقط: مطلوب
ومحظور، وبتعبير آخر: إلى حلال وحرام، وكانت أحكام الشريعة كثيرة جدًّا،
فالعامة يجدون أنفسهم مكلفين بما لا يطيقون الإحاطة بمعرفته فضلاً عن القيام به
ويرون أن لا مناص لهم من التهاون في أكثره أو بعضه فيقوم أحدهم بالبعض فيأتي
بالنفل ويتهاون بالواجب ويتقي المكروه ويقدم على الحرام وذلك كما قلنا لاستكثاره
الأحكام وجهله بمراميها في التقديم والتأخير [6] .
بناءً على ذلك أرى لو أن فقهاء الأمة كما فرقوا مراتب الأحكام على المسائل
يفرقون المسائل أيضًا على المراتب في متون مخصوصة. فيعقدون لكل مذهب من
المذاهب كتابًا في العبادات ينقسم إلى أبواب وفصول تذكر في كل منها الفرائض
والواجبات فقط وتنطوي ضمنًا الشرائط والأركان بحيث يقال: إن هذه الأحكام على
هذه المذاهب هي أقل ما تجوز به العبادة.
ويعقدون كتابًا آخر ينقسم إلى عين تلك الأبواب والفصول تذكر فيها السنن
بحيث يقال: إن هذه الأحكام ينبغي رعايتها في أكثر الأوقات. ثم كتابًا ثالثًا مثل
الأولين تذكر فيه السنن الزوائد بحث يقال: إن هذه الأحكام رعايتها أولى من تركها
وعلي هذا النسق يوضع كتاب للمنهيات يقسم إلى أبواب وفصول تعد فيها المكفرات
والكبائر وكذا الصغائر والمكروهات، ومثل ذلك تقسم كتب المعاملات على طبقات
من الأحكام الاجتماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية.
فبمثل هذا الترتيب يسهل على كل من العامة أن يعرف ما هو مكلف به في
دينه؛ فيعمل عل حسب مراتبه وإمكانه، وبهذه الصورة تظهر سماحة الدين الحنيف
ويصير المسلم مطمئن القلب مثله كمثل تاجر له دفاتر وقيود وحسابات وموازنات
منتظمة فيعيش مطمئن الفكر، وكم بين هذا التاجر وبين تاجر آخر حساباته في
أوراق منتثرة ومعاملاته متزاحمة في فكره لا يعرف ما له وما عليه فيعيش عمره
مرتبك البال مضطرب الحال. (مرحى)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو من تُرْك كاشغر لا من أتراك الروم اهـ من الأصل.
(2) المنار- هذا القول غير مسلّم إذ يُجَوِّزُ العقلُ أن يقول المجتهدون في زمن من الأزمان قولاً مبنيًّا على خطأ لا سيما إذا كانوا قليلي العدد كما هو الواقع بعد الصدر الأول وقد حصل مثل هذا في جميع الملل والذي لا يُجَوِّزُه هو الذي لا يمكن أن يقع.
(3) وهذا أيضًا غير صحيح فإن هؤلاء الأئمة ما كانوا مقلدين للصحابة.
(4) شرع الإسلام أو السيف خاصًّا بأهل جزيرة العرب بقصد إحكام الوحدة السياسة في الوحدة الجنسية لا كما يتوهم الطاعنون في الإسلامية أنها لم تقم إلا بالسيف اهـ من الأصل وما ذكره في الدعوة وفي تحريم الخمر ليس النسخ في شيء.
(5) الأديان والمذاهب كلها مصابة بالانشقاق فهذه البرتستانتية تفرقت في مدة مائتي سنة إلى ما يزيد على مائتي فرقة وهذه أحكام الأحوال الشخصية من نكاح ونحوه في النصرانية مختلف فيها بين الكنائس أو بين رؤساء كل كنيسة اختلافًا لا يهتدي معه إلى نتيجة اهـ من الأصل.
(6) كالأتراك يهتمون بالسنن والمكروهات أكثر من الواجبات والمنهيات اهـ من الأصل.(5/344)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الشذرة السابعة من جريدة أراسم [*]
(رؤيا منام، أرجو أن تحققها لنا الأيام)
رأيتني ممتطيًا جوادًا أسيح في بلاد مجهولة لا أدري إن كانت من الدنيا
القديمة أو الجديدة ولكني بحسب ما بدا لي من ظواهرها أرى أنها لا بد أن تكون
واقعة على تخوم بلاد الألدورادو [1] أو الأوتوبيا [2] .
بصرت في طريقي بحظائرمسيجة باسيجة خضراء فيها قطعان من البقر
والغنم وغيرها من الحيوانات المجترة التي لا توجد قط في مراعينا تسوم آمنة لا
كلب يحرسها ولا راعي يراقبها ولاحظت في انتظام طرق الري في هذه البلاد
وحسن توزيع الماء بين جهاتها على نحو يثير الاستحسان، ويدعو إلى الإعجاب أنه كان من مزاياه امتلاء جو ريفها بالنسيم البارد على ما فيه من حرارة النهار وشاهدت سلاسل من الهضاب مكللة بالأشجار كأنها في تتابعها واتصال بعضها ببعض تخط للرياح والسحاب طريقهما، ضرب الغنى سرادق حول قرى هذا الريف وظهرت
على أهله آثار النعمة والاغتباط، نساؤه حسان وولدانه أسوياء أصحاء الأبدان
يبشرون حكومتهم بأنهم سيكونون نسلاً قويًّا باسلاً.
ثم رأيت حواضر هذا القطر فلم أكن لرؤيتها أقل مني دهشًا لرؤية قراه ومما
أرشدت إليه من إحداها بناءان كانا أقيما في عصر يسميه أهلها الآن عصر الهمجية
أحدهما سجن والثاني مأوى للمساكين وقد أصبحا من أهلهما خلاءً لعدم اللصوص
والبؤساء ومع أنهما لم تبق لوجودهما فائدة حفظهما القائمون على شئون المدينة
ليكون للأجانب فيها ذكرى لتاريخهم.
حدد في هذه البلاد ما للناس وما عليهم من الحقوق والفروض وما للحكومة
وما عليها من ذلك وامتاز بعضه عن بعض امتيازًا بينًا ولهذا تجد الرعايا لا يُوَلُّون
حُكَّامهم من شئونهم إلا ما ليس من مصلحتهم أن يتولوْه بأنفسهم، وحقيقة الأمر أن
القوانين فيها على قلتها جدًّا وصدورها عن رأي من اختارتهم الأمة نوابًا عنها لا
سبيل لها إلا على ما كان من الأعمال متعلقًا بالحكومة، ولما كان الناس جميعًا هم
الذين قد سنوا لأنفسهم هذه القوانين لحماية كل منهم كانت مخالفتها وعدم الرضوخ
لأحكامها حمقًا وسخفًا على أنهم يؤملون تعديلها والتقليل من سلطانها بترقية العلوم
وبث أضواء العرفان.
رأيهم هو حاكمهم المطاع أمره النافذ قوله، ولم يعهد أن ملكًا من الملوك
الممتنعين في صياصهم المعتزين بحصونهم كان له من المعاقل والمتاريس ما يعادل
ما حيط به ذلك الحاكم من ضروب الكفالة وأنواع الضمان المؤيدة له القائمة على
إعزازه فالقوم أحرار يتفكرون في كل ما يكتبون، ويكتبون كل ما يتفكرون، وإنه
ليدهشم كثيرًا على ما أرى أن يعلموا أن فوق الأرض أممًا في قدرتها أن تستسلم للحاكم
وتلقي بنفسها في قبضة ظالم.
لاقيت في هذه المدينة شيخًا لا أذكر أين ولا كيف لاقيته، وقع التعارف بيني
وبينه فأخذ على نفسه أن يشرح لي نظام حكومتهم ويطوف بي على المعاهد المُعَدَّة
للمنافع العامة؛ لأني لم أر في المدينة قصورًا بُنِيَتْ لبعض الأفراد توفية لأسباب
لذاته ولا مسالح ولا دور لجيش ولا مواخير للفحش.
لما راقنى ما شاهدته قلت للشيخ: هل لك أن تخبرني باسم ذلك الواضع
الكبير الذي سن لكم هذه القوانين.
فتبسم ضاحكًا من قولي وقال: أراك آتيًا من عالم آخر فاعلم أن قوانينا ليست
من وضع البشر وإني أراني الآن مضطرًّا إلى أن أقص عليك تاريخنا في كلمات
قلائل فاستمع لما أقول: إننا قبل اليوم بنحو قرنين لم نكن أحسن حالاً من غيرنا من
الأمم وآخر ملك تولى علينا ولا نذكر منه شيئًا حتى اسمه (لأن النسيان أحسن
عقاب للمسيئين الأشرار) خلع عنه عرشه بعد حكم أسخط عليه جميع رعاياه وأَلَّبَهُم
على نبذ طاعته والخروج عليه، ثم عرض الثائرون بعد خلعه صورًا مختلفة وأشكالاً
متنوعة للحكومة، وكادوا يقتتلون على اختيارهم حاكم لولا أن آباءنا بما كان لهم من
حكمة الدراية قد تراجعوا وقال بعضهم لبعض: إن الأولى لنا أن نرجئ الفصل فيما
شجر بيننا وأن نترك لأعقابنا النظر لأنفسهم فيما هو خير لهم فإنه لا خير في أحسن
الأوضاع ولا في أعدل القوانين إن لم نجد في أخلاق الناشئين وسيلة لاستبقائها
وحينئذ اتفق القوم على أن يُبقوا من قوانيهم القديمة أكثرها مطابقة لحكم العقل حينًا
من الدهر، وأن يُنَشِّأوا الجيل الجديد في هذه الفترة على حب الحرية والأخذ بها ثم
لعلك لم تر مدرستنا، إنها أصل نظامنا السياسي فهيَّا بنا إليها.
أخذني إلى مكان على مقربة من المدينة فما هو إلا أن تجلى لنظري في لسعة
الشمس المشرقة قصر أو هيكل فوق ربوة شجراء قد عادل اتساعه وانفساح أرجائه
ما له من الفخامة والجلال لو أردت أن أصف لك جملته لعييت بذلك. بني كل قسم
من أقسامه الداخلية على طريقة حديثة في فن العمارة وبلغ من الازديان بما وضع
فيه من التماثيل والصور وآثار الفنون إلى حيث إن جدرانه كانت تكاد تكفي أن
تكون وحدها طريقة من طرق التعليم بكون ما حوته ينقش على أذهان التلامذة
ومشاعرهم، وينقسم هؤلاء إلى عدة أمم يمثل كل منها جيلاً من أجيال الإنسان وقد
وقع ذلك البناء في وسط مشاهد تأسر القلب وتأخذ باللب بما فيها من ضروب التباين
ووجوه التخالف فنجد حوله الآجام والصخور ومساقط الماء وتحته البحر.
وقفت على إحدى حلقات الدروس فإذا بغلمان يمارسون أنواعًا مختلفة من
الرياضات البدنية بالمصارعة والعدو والرماية بالقوس، أكثر ما دهشت له في هذه
الحلقات أن معلميها كانوا من هنود أمريكا الحمر الأصليين كما تبينت ذلك من لونهم
ونحافة أعضائهم وما كان على شعورهم من مواد الزينة الوهمية.
قال لي الدليل: إن هذه القبيلة المتوحشة لم تأت إلى بلادنا إلا من عهد قريب
وإنما جذبها إلى حدودها حسن أخلاق قومنا ورقة طباعهم فإننا لم نعتبرهم أعداء لنا
كما يفعل غيرنا بل دعوناهم إلى مشاركتنا في نعم الحضارة وأرشدناهم إلى ما
تحصله لنا من الفوائد ومزايا مبينين لهم مقدار رُجْحانها على البداوة، ولما كنا لا
نجهل ما لهم من المذاهب الفطرية التي نحن محرومون منها قد عرضنا عليهم
معاوضة المنافع ومبادلة المرافق فقبل فريق منهم ذلك منا وهاهم أولاء الآن يروضون
أبناءنا على احتمال الآلام الجسدية غير معطلين من جباههم وعلى استعمال
أبصارهم وأسماعهم في اجتناب ما يُنْصَب لهم من الحبائل وإبطال ما يكاد لجلّهم من
المكائد ويعودونهم على البسالة في ثني أعضائهم وإدارة مرافقهم لسلطان الإرادة،
وعلى تعرُّف أخلاق الحيوانات وعوائدها في حالتها الوحشية.
وفيما نحن نجول داخل هذا المكان الذي هو منقسم كما قلت إلى دارات مختلفة
للتربية والتعليم شهدت أحد الأعياد التي تقام في هذه الدارات التاريخية أو العلمية
من حين إلى حين فخيل لي أننا في أثينا (عاصمة بلاد اليونان) إن لم أكن واهما
وأبصرت قامتها المسماة بالأقروبول شاخصة أمامي على صخرة يعلوها معبد
وتماثيل وآلهة صنعت من النحاس الأحمر والمرمر ورأيت في الجانب الغربي لهذه
القامة دهاليزها التي أقامها بريكليس [3] وكنت أشاهد طوائف من القيان في أزياء
يونانية يُشَخِّصُون اليونان في أطوارهم وأحوالهم تشخيصًا يقرب من الفطرة
ويتكلمون بلغتهم ويمثلونهم في تنزههم في المدينة أو غُدُّوهم إلى مرافئ بيريه [4]
ومونخيي [5] وفالير [6] فاستغربت ما رأيت مع قلة استغراب الحالم وأقسمت بآتينيه
بروماخوس لاكتنهن هذا السر.
فلما رأى صاحبي شدة ولعي بمعرفة حقيقة ما رأيته قال لي: إن الأمر في
غاية السهولة ذلك أننا لما تبين لنا بالاختبار أن التاريخ في تعليمه للأحداث يمر
بأذهانهم مرور الظل غير تارك له فيها آثارًا بينة اجتهدنا في أن نجعل له جسمًا
تخلد فيها صورته فترى تلامذتنا لا يقتصرون في تعلمه على مطالعة ما كان في
العصور الخالية بل إنهم يعيشون في تلك العصور.
فقلت له: لا بد أن تكون جمهوريتكم قد بلغت من الثروة غايتها حتى تقوم
بنفقات هذه المعاهد فكان جوابه أنها غنية لمهارتها في طرق الكسب؛ ولأنها هي التي
تدبر نفقاتها بنفسها على أني أرجو أن لا تنخدع بما تراه فإن ما تظنه بذلاً للمال
وإسرافًا فيه هو في الحقيقة تدبير له وتوفير لو صح ما نسمعه عن أوربا القديمة
لكان ما تنفقه أممها على حكوماتها في جانب التبذير وما تنفقه على التعليم العام في
طرف التقتير، وأما نحن فأمورنا تجري على خلاف ذلك فحكومتنا لا تكلفنا أو لا
تكاد تكلفنا شيئًا وتنفق كل أرزاقنا على مدارسنا فكان لنا بالسير على هذه السنن ما
يسمى في عرف التجارة صفقة رابحة، ولله طريقتنا في التربية فإننا ببركتها استغنينا
عن اتخاذ جيش دائم وكهنوت وغيرها من الأثقال التي توقع الحكومات في مهواة
الفاقة وتؤديها إلى الخراب.
هذه الأمة التي ضل عني الآن اسمها لا تقصد في تربية عقول أبنائها وتقويم
طباعهم إعدادهم لأن يتبعوا في مستقبلهم نظامًا مقررًا كائنًا ما كان بل إنها عقدت
النية على أن تقبل ما ينتج من التربية الحرة المؤسسة على نواميس الكون وأصول
العلم من الثمرات فبعثها إقدامها على أن تعهد بمستقبل بلادها إلى معارف الأجيال
الجديدة وعلومهم، فهي تعتبر المدرسة أمة في سبيل نشأتها لها قوانينها كما أن
للحكومة قوانينها وترى تلك القوانين كأنها مقدمة لهذه وتبكر بتعليم التلامذة ممارسة
ما يتحلى به الرجال من الفضائل القومية.
ليس لمعلمي المدرسة على التلامذة أدنى سبيل إلى التأديب ولكنهم لا يُسَلَّمُون
عليها بما يقترفونه من مخالفة قوانينها وعوائدها بل إنهم يعاقب بعضهم بعضًا على
ما يقع منهم من المخالفات، فالمخالفون يحاكمون إلى محكمة ينتخب أعضاؤها من
أخواتهم لمدة معلومة، ومن مصلحة هؤلاء الأعضاء أن يعدلوا في أحكامهم وأن لا
يطيعوا فيها دواعي الهوى والغرض؛ لعلمهم أن الاعتداء على حقوق الناس قد يعود
عليهم ضرره في الحال أو في المآل.
ويقوم أمام هذه المحكمة محاميان أحدهما من جانب المدَّعِي والثاني من جانب
المدَّعى عليه فيبينان لها وقائع الدعوى بالرزانة والوقار ثم يصدر المحلفون
المتطوعون أحكامهم وهي واجبة الاحترام على الدوام وما يحكم به من الجزاء يصير
على كونه غاية في الخفة شديد الإرهاب والزجر لأنه يؤدي إلى لوم المحكوم عليه
وتأنيبه من المدرسة جميعها لا من معلميه فقط. يقيم الصبايا التلميذات بهذه المدرسة
في قسم آخر منها غير قسم الصبيان ولكنهن يحضرن معهم في غرف التعليم بعض
الدروس العامة التي تلقى نهارًا.
قال لي الشيخ: إننا نعول كثيرًا في طريقة تربيتنا للناشئين على ما للنساء من
التأثير المعنوي في النفوس فهن اللاتي نعهد إليهن بتوزيع الجوائز والمكافآت على
التلامذة، فترى المهرة من هؤلاء في الرياضات البدنية يختبرون أنفسهم أمامهن في
ساحتها ببعض الحركات التي هي مظاهر البأس والقوة، والمستعدين منهم لأنْ
يكونوا خطباء المستقبل يَمثلون بين أيديهن على منبر المدرسة ويثير بعضهم على
بعض في ميدان الفصاحة والبلاغة حربًا عوانًا كل ذلك في سبيل إرضائهن وهيج
إعجابهن، ولما كان المعروف فيهن أنهن صائبات الرأي سديدات الحكم في مواد
الفنون كان معلمو المدرسة تطيب أنفسهم بالركون إلى رأيهن في امتحان الشعر
والموسيقى والتصوير فإذا صرن محكمات في الذوق، أعلنَّ حسان الأعمال ونوَّهن
بقدرها وتوجنها تاج الشرف والفخار.
كذلك يعتاد أحداثنا على أن يستشيروا النساء ويسترشدوا بآرائهن ويلتمسوا
تصديق وجدانهم لحسن أعمالهم فيما يبديه لهم مما يرقنهم منهن من دلائل استحسان
هذه الأعمال بتلقيها بالابتسام والبشاشة وينشأون على أن يعتبروا عيون ربات الجمال
مرايا تمثل لهم فيها الفروض التي كتب عليهم أداؤها.
لا يزال صدى الكلمات الأخيرة التي سمعتها من ذلك الشيخ يرن في أذني إذ
قال لي في نهاية حديثه: لو طال زمن مكثك بيننا لشاهدت من مستحدثاتنا ما لا
أشك في أنه كان يبعث في نفسك دواعي الدهش والعجب، فحسبك أن تعلم كيف أننا
قطعنا ما كان يربطنا بماضينا من قيود الذل والبؤس والاستعباد التي كانت كالثلج
جمودًا وبرودة ونفيًا لحرارة الحياة وأن تعرف أن الأمم الحرة إنما تنشأ برجالها
الأحرار وأن آباءنا لم يخطئوا في أن يلتمسوا في وجدان كل إنسان أقوى ناصر
على الاستبداد لاعتقادهم أن أحسن الحكومات أقلها وجودًا فتراهم قد فضلوا أن
ينقشوا في نفوس الأحداث وجدان العدل والحق الذي لا تغيره الحوادث ولا تمحوه
الكوارث على أن يدونوا لهم قانونًا نظاميًا في كتاب ربما أن رياح الفتن وعواصف
الثورات الداخلية كانت مزقته من زمن بعيد.
وجملة القول أن الحكومة عندنا ليست هي التي تدير المدرسة بل إن المدرسة
هي التي توجدها وتنشئها. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) الألدورادو: كلمة أسبانية معناها بلاد الذهب وتطلق على بلاد يزعم الناس أن ضابطًا من مدينة بيزار اكتشفها في أمريكا الجنوبية وأنه كان يوجد بها من الذهب وخيرات الأرض شيء كثير ثم أطلقت هذه الكلمة على بلاد الرخاء والنعيم.
(2) الأوتوبيا كلمة يونانية تطلق على بلاد وهمية جرت أمورها على أحسن ما يتخيل من النظام وصفها كاتب اسمه توماس موريس في كتاب له.
(3) بريكليس: أحد رجال حكومة آثينا الأقدمين.
(4 و 5 و 6) بيريه ومونخيي وفالير كلها مدن يونانية فيها مرافئ.(5/349)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(تأسيس النظر)
كتاب وجيز صنفه الفقيه الأصولي أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى
الدبوسي الحنفي في علم الخلاف، وهو أول من صنف في خلاف الأئمة في الفقه.
وعلم الخلاف نافع لمن يريد معرفة مدارك الأئمة ودلائلهم ووجوه الترجيح فيما
شجر بينهم من الاختلاف في الأحكام فهو فرع من علم أصول الفقه، وقد سعى في
طبع هذا الكتاب الشيخ مصطفى القباني الدمشقي كما هو شأنه في السعي بإظهار
كتب الأولين النافعة ونشرها، طبعه على نفقته ونفقة محمد أفندي أمين الخانجي على
أجود الورق الناعم الموجود في مصر، وكنت أود أن يقف على تصحيحه أحد
المشتغلين بالفقه والأصول ولا أعرف كتابًا طبع في علم الخلاف غيره فعسى أن
يقبل أهل العلم على مطالعته.
وقد طبع في آخر الكتاب رسالة (الأصول التي عليه مدار كتب الحنفية)
وهي نحو أربعين أصلاً وضعها الإمام أبو الحسن الكرخي من فقهاء القرن الثالث
ووضع لها الأمثلة والشواهد الفقيه عمر النسفي المتوفى سنة 537 ونحن نورد
بعض أمثلتها عبرة للمتفكرين قال: الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها
تُحمل على النسخ أو الترجيح، أو الأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق)
ويا ليته ذكر وجهًا آخر وهو الرجوع عن قول أصحابهم إلى الآية الكريمة ولو عند
عدم ظهور وجه وجيه في التأويل.
ومنها قوله: الأصل أن كل خبر (أي حديث نبوي) يجيء بخلاف قول
أصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض بمثله، ثم صار إلى دليل آخر
أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق، وإنما
يفعل ذلك على حسب قيام الدليل فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه وإن قامت الدلالة
على غيره صرنا إليه. أي أنه لا بد من تصحيح قول فقهائهم والعمل به على كل
حال، ونحن نقول كما يحتمل نسخ الآية أو الحديث يحتمل رجوع ذلك الفقيه عن
قوله، فالمنسوخ قليل جدًّا، ولكن الأقوال المرجوحة التي يرجع عنها العلماء أكثر
من أن تُحْصى يقابل هذا بذاك وتبقى وجوه أخرى للعمل بالآية أو الحديث منها أنهما
أصل الدين، فإن قبل قول الفقيه فإنما يقبل لاستناده إليهما أو أحدهما ولو ظَنًّا فإذا
تعارض الأصل والفرع يُعمل بالأصل، ومنها أن الثقة بنقل الكتاب والسنة أعظم،
ومنها أن خطأهما مُحَال، وكل إمام وفقيه عرضة للخطأ، ومنها أنهما أصح وأفصح
الكلام، ففهمهما أسهل، وبيانهما أعظم والله الهادي وهو أعلم وأحكم.
* * *
(نهضة الأسد)
قصة تاريخية تشرح حوادث الثورة الفرنسية الشهيرة ومقدماتها ونتائجها وهي
من تأليف القصصي الشهير ألسكندر ديماس الكبير وقد عرَّبها صديقنا الفاضل فرح
أفندي أنطوان صاحب مجلة الجامعة النافعة ونشرها تباعًا في ذيل مجلته ثم جمعها
في أربعة أجزاء واسم الثالث منها (وثبة الأسد) والرابع (فريسة الأسد) وهي
أنفع القصص المعرَّبة فيما أظن، لأن مطالعة حوادث الانقلاب في الأمم هي أكبر
العبر، وأولى الناس بالإقبال على قراءة هذه الأخبار مَنْ دبَّت فيهم نسمة الحياة
الاستقلالية واستعدوا لأن يكونوا أمة حية، فعسى أن يرغب شبابنا وشوابنا من
مطالعة القصص الغرامية السخيفة إلى مطالعة مثل هذه القصة التي تفوق مثلها لذة
وتزيد عليها المنفعة.
* * *
(مجلة المجلات العربية)
نهنئ صديقنا الفاضل محمود باشا حسيب صاحب هذه المجلة بما وفق له من
زيادة إتقانها وتكثير فوائدها فقد صدر آخر جزء منها يزيد على ما تقدمه في الفوائد
العلمية والأدبية وكثرة الرسوم الجميلة التي لم تسبقه إليها مجلة عربية، فنسأل الله
أن يزيد مجلته بكماله كمالاً، ويوفق الناس لأن يزيدوا عليها إقبالاً.
* * *
(الحجاج بن يوسف)
قصة تاريخية غرامية تتلو قصصًا نشرت قبلها في التاريخ الإسلامي وسيتلوها
غيرها فيه فهي الحلقة السادسة من السلسلة وفيها خبر حصار مكة على عهد عبد الله
ابن الزبير وفتحها ومقتل ابن الزبير والكلام في أخلاق أهل الحرمين وعاداتهم،
مؤلف هذه القصص صديقنا المؤرخ المنصف جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة
الهلال الغراء، وقد اشتهرت هذه القصص بنشرها في الهلال بل زاد اشتهار الهلال
وانتشاره بها لما فيها من اللذة والفائدة وما زلت أمنّي نفسي بمطالعة هذه القصص
من أولها مطالعة تأمل وانتقاد ولما يتح لي ذلك.
وقد رأيت من المسلمين من ينتقد هذا الوضع من وجهين: أحدهما أن من شأن
القصص أن تكون فيها أخبار كاذبة فيشتبه على القارئ الحق بالباطل، وثانيهما
استثقال نسبة العشق والغرام إلى رجال سلفنا الكرام، وقد كان بعض هؤلاء
المنتقدين كتب رأيه في جريدة المؤيد ورد عليه المؤلف بما عرف واشتهر، وقد
تصفحت ورقات من هذه القصة فألفيت أن الحوادث الغرامية لم تسند إلى أحد من
رجال السلف العظام، والأئمة الذين يُجَلُّون عن الاشتغال بالغرام. وأما مسألة
الاشتباه فقد رأينا في مقدمة هذه القصة ما يكشف عن الحقيقة فيها وهو قول المؤلف:
(فالعمدة في رواياتنا على التاريخ وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقًا للمطالعين،
فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وندمج من خلالها قصة غرامية تشوق المطالع
إلى استتمام قراءتها، فيصح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث
التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان
والأشخاص إلا ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير له على
الحقيقة) اهـ
ولنا الثقة بالمؤلف الفاضل بأنه لا يكتب عن الإسلام والمسلمين إلا ما يعتقده وإن لم يكن مسلمًا؛ لأنه من أبعد خلق الله عن التعصب الديني وأحسنهم إنصافًا فإن فرط منه ما أوجب الانتقاد أو يوجبه فهو عن غير سوء قصد.
ولا شك أن قراءة هذه القصص مفيدة فمن يرى من المنتقدين أن فيها تقصيرًا
فليصنف ما هو خير منها، وإننا لا نتحزب لصديقنا بما لا نعتقد، وإذا أتيح لنا
مطالعة هذه القصص أو بعضها وظهر لنا فيها خطأ فإننا ننبه عليه إن شاء الله
تعالى، وثمن النسخة من هذه القصة عشرة قروش وأجرتها في البريد قرشان
وتطلب من مكتبة الهلال بمصر.
* * *
(مسامرات الشعب)
قصص مختصرة يؤلفها أو يُعَرِّبها بعض المشتغلين بالكتابة والأدب لمكتبة
الشعب ومطبعتها فتطبع وتنشر على نفقة صاحب المكتبة والمطبعة الهمام، ويصدر
في كل شهر قصتين، وجعل ثمن القصة قرشًا أميريًّا وقيمة الاشتراك إلى سنة
عشرين قرشًا. وقد ذكر في مقدمتها أنه يقصد بنشر هذه القصص التهذيب وخدمة
الوطن، وإنما يتحقق هذا إذا جُعلت هذه القصص حكايات عن أخلاق الشعب
وعاداته مع استحسان الحسن واستهجان المستهجن، ولم أر أعلق بهذا القصد من
القصة الرابعة واسمهما (الحال والمآل) فقد أودعها كاتبها أحمد عوض بيانًا في
كيفية عشق الناشئين والناشئات، وما يتبع ذلك من المفاسد والمنكرات، وسنتكلم
عنها في جزء آخر.
__________(5/355)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الوباء والعدوى والوقاية)
ظهرت الهيضة الوبائية في بلدة موشة التابعة لمديرية أسيوط وانتقلت إلى
القاهرة ثم ظهرت في عدة بلاد، وقد اعتنت الحكومة بالوقاية منها، واهتم رجال
الصحة بمنع انتشارها بقدر الإمكان، ولا أظن أن العناية في غير القاهرة مثلها فيها
وإن كان متيسرًا، على أن حفظ الماء من القذارة في الأرياف عسر جدًّا وإلزام الناس
بالنظافة هناك أعسر، ومما يزيد الوباء فتكًا عدم مساعدة الأهالي للحكومة فيما
تفعله لوقايتهم؛ لأنهم لجهلهم يتوهمون أن الحكومة تسعى في إهلاكهم وتريد إهانتهم
وضررهم حتى أن الأكثرين يعتقدون أن أطباء الحكومة يُسفون المصابين الأدوية
السامة ليميتوهم، ولا شك أن هذا الوهم فاسد، وأن الحكومة خير لهم في هذه الحال
من أهليهم ومن أنفسهم لأنها تجتهد في وقايتهم قبل أن يصابوا وفي معالجتهم بعد ذلك
بعلم ومعرفة وإنما تخدمهم برجالهم وتنفق عليهم أموالهم المحفوظة عندها.
ونحن لا ننتقد على الحكومة إلا عدم الاعتناء بالتنظيف حيث يسكن الوطنيون
كاعتنائها به حيث يسكن الأجانب، فقد استغاثت الجرائد بمصلحة الصحة طالبة
تنظيف بعض الجهات القذرة التي اتخذها الناس مناصع (والمناصع هي المواضع
يتخلى فيها للبول والغائط) كشارع الخليج من جهة باب الخلق، فكان الواجب على
الحكومة أن تأمر بمنع التخلي هناك وفي أي شارع لئلا يتخلى فيه مصاب فيحمل
الذباب جراثيم الداء من برازه إلى البيوت المجاورة، وشيء آخر لا يزال منتقدًا من
رجال الصحة وهو معاملة الناس بالغلظة والخشونة عند أداء وظائفهم وهم يعلمون
أن الناس معذورون بالجهل ولعل هذه المعاملة لطفت بعد أمر جناب مستشار
الداخلية بالتلطف في المعاملة.
ومن أسباب انتشار الوباء جهل الأهلين بصحة العدوى، وهي ثابتة شرعًا
وعلمًا واختبارًا بالمشاهدة، وأما العدوى المنفية بالحديث فهي ما كان يعتقد في
الجاهلية من حصول ذلك بطبعه من غير قدرة الله تعالى وفي روايات الحديث ما
يدل على ذلك.
أخرج أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة: (لا عدوى ولا طيرة ولا
هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) فبعد أن نفى ما كانت تعتقده
الجاهلية أمر بالفرار من المجذوم، وصرح الحافظ ابن حجر وغيره من شراح
البخاري في حديث المجذوم بأن العلماء المحققين لا سيما الشافعية قالوا بإثبات
العدوى على أنها سبب من الأسباب العادية التي قام بها نظام الكون.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر،
ولا يحل الممرض على المصح وليحل المصح حيث شاء قيل: ولم ذاك يا رسول
الله، قال: لأنه أذى) وهذا أصرح من الأول في إثبات سببية العدوى، وأخرج
أحمد والبخاري ومسلم عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والنسائي عن
الأول وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها)
فهذا الحديث الصحيح أصل في الحجر على المصابين أن يخرجوا فيخالطوا الناس
الأصحاء فتنتقل إليهم بذلك العدوى، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ومن أسباب انتشار الوباء الجهل بمداراة الصحة والوقاية من الأمراض،
ولو كان الناس يعملون بالآداب الشرعية لكان لهم فيها غناء فإن أهم أركان الصحة
النظافة وقد اشترط في تطهير الأشياء وتنظيفها عند الشافعية وأكثر أهل هذا القطر
منهم أن يكون الماء الطاهر واردًا على الشيء الذي يراد تطهيره لا مورودًا، وهذا
الشرط موافق للصحة، فإن الثوب أو العضو المتنجس إذا ورد على الماء ينتشر في
الماء ميكروب المرض وإذا ورد الماء عليه يزيل النجاسة وما فيها من الميكروبات،
ولا يجوز وضع النجاسة في الماء ولا اليد المتنجسة على تفصيل في ذلك. ومما لا
خلاف فيه بين المسلمين أن كل ما علم ضرره بالاختبار أو بقول الطبيب الموثوق به
فالواجب اجتنابه.
وأما الاحتياط في الأكل والشرب فأحسن ما يذكر فيه الآن ما روي عن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم في بيان سبب عدم قبول الطبيب الذي أهداه إليه
المقوقس ملك القبط وهو (لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) ولا أذكر من
خرَّجه من المحدثين وهو مذكور في كتب السير وهذا أصل عظيم في الوقاية من
الهيضة الوبائية فإن جراثيم الهيضة لا تضر إلا إذا انتقلت من المعدة إلى الأمعاء في
طعام غير مهضوم، فمن يأكل عن جوع حقيقي ولا يكثر من الأكل فإنه يهضم ما
أكله بسهولة فإذا وجد في طعامه وشرابه شيء من جراثيم الهيضة الوبائية
(الكوليرا) فإنه حينئذ يُهضم ولا يضر، وإذا كان مع هذا يراعي النظافة في
الطعام والماء مراعيًا فيه وصايا الأطباء فذلك أكمل الاحتياط.
ولا يتوهم أن الحديث المذكور آنفًا يدل على أن التطبب غير مطلوب شرعًا
فقد وردت الأحاديث الصحيحة والحسنة أن لكل داء دواء إلا الموت وفي رواية إلا
الهرم وكثير من الأحكام الشرعية يبنى على قول الأطباء حتى في العبادات، فالاعتماد
على قول الطبيب العدل في ذلك واجب شرعًا، وكذلك غير العدل إن صدقه فإننا كثيرًا
ما نجزم بصدق من لم توجد فيه صفات العدالة الشرعية كلها؛ لأننا عرفنا صدقه
ومهارته بالتجربة.
* * *
(إبطال المولد الحسيني وغيره)
أمرت الحكوم بإبطال المولد الحسيني وغيره؛ لأن الاحتياط الصحي يقضي
بتقليل الاجتماع والازدحام في أيام الوباء لا سيما مثل اجتماع الموالد المشتملة على
الفحش والفجور والإسراف في كل الأمور حتى تكون في بيت الله تعالى، كالمزبلة
لا يمكن لمن يدخله أن يصلي فيه إلا إذا كان معه سجادة يصلي عليها. ولعل الله
تعالى يوفق الحكومة إلى إبطال هذه الموالد بالمرة؛ إذا كان رجال الدين لا يسعون
بإزالة المنكرات الدينية منها، فإن زعم الزاعمون أن فيها منفعة تجارية فلتكن أسواقًا
تجارية لا صبغة للدين فيها، وقد أرادت إحدى الجرائد تسلية الناس عن إبطال
المولد الحسيني فقالت: إن هذه الموالد ليست من أصول الدين ولكن النظافة من
أصول الدين كأنها تعني أن الموالد من فروع الدين، وأن مراعاة الأصل مقدمة على
مراعاة الفرع، ذلك جهل على جهل فأصول الدين عقائده، والنظافة ليست منها وإنما
هي من الفروع العملية، وأما الموالد فليست من الأصول ولا من الفروع بل هي
من البدع القبيحة والضلالات المشتملة على كثير من الفواحش والمحرمات.
* * *
(الخمارة الإسلامية والاستهانة بالدين اعتمادًا على الأولياء)
فشا شرب الخمر في مسلمي مصر وجاهروا به حتى كأنه مباح أو مستحب
ويقال أنهم أكثر شربًا من القبط والإفرنج، لكنهم ظلوا مقصرين في هذا النوع من
الفسق إذ لم يشتغلوا ببيع الخمر حتى أزال عنهم عار التقصير واحد منهم اتخذ له
حانة يفتخر بأنها الحانة الإسلامية الوحيدة، وكأن السكارى في الحانة الإسلامية هم
المتحمسون فيما يسمّيه الجهلاء في هذه الأيام لباب الإسلام وأظهر مميزات المسلمين،
مثال من ذلك أنني مررت من أمامها ليلاً فرأيت على بابها رجلاً يناهز الستين
والكأس في يده وهو يصيح (يا سيد يا باب النبي) كأنه علم أن الذين يقلدهم هو
وأمثاله في شرب الخمر يشربون على أسماء الكبراء والأمراء والملوك وهو ما
تسميه الجرائد الآن النخب فأراد أن يشرب نخب السيد البدوي وإلا فهو يشيد باسمه
لأجل أن يشفع له، فخطر لي أن أرمي كلمة أنهاه بها فقلت: وهل أمرك النبي بهذا؟
فصاح بأعلى صوته: هو يغفر لي، هو يحب السيد، الله يحب النبي والسيد،
النبي عربي ما هو تركي، وقد علمت أنه يعرّض بذَمِّي بكلمة تركي؛ لأنه رأى
زيّي كزي علماء الترك، وكأني بمن معه قد اعتقدوا أنه من الأولياء؛ لأنه ذكر اسم
الله والنبي والسيد على الخمر، وإن كان الفقهاء يعدون هذا استهانة بالدين وبحثوا
في كفر صاحبه.
***
سيجمع ما كتبته الجرائد وما نظمه الشعراء في فقيد العلم والإصلاح السيد عبد
الرحمن الكواكبي في مجموعة تطبع فنرجو من الأدباء الذين رثوه ولم يرسلوا إلينا
مراثيهم أن يرسلوها عن قريب إلى إدارة مجلة المنار بمصر ولهم الثناء والشكر.
(أرجأنا الكلام في مسيح الهند إلى الجزء الآتي)
__________(5/357)
16 جمادى الأولى - 1320هـ
20 أغسطس - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفيلسوف أبو الوليد محمد بن رشد
قاضي القضاة في الأندلس
هذا الفيلسوف أشهر فلاسفة المسلمين وأكبر أساتذة أوربا في العلم والفلسفة؛
لأن فلسفته انتقلت من الأندلس (أسبانيا) إلى سائر بلاد أوربا فكانت مبدأ نهضة
الأوربيين الحاضرة. ولد سنة 520 في قرطبة، وتوفي سنة 595 في بلاد المغرب.
وقد نشرت مجلة الجامعة الغراء تاريخه وتكلمت عن فلسفته، واستطردت إلى
مسائل أخرى كمذهب المتكلمين في الوجود والمقابلة بين الإسلام والنصرانية في
اضطهاد العلم والفلسفة وعدمه، وقد وقع في تلك الترجمة غلط في هذه المسائل.
والإنسان دائما عرضة للخطأ والغلط فيما تعلمه وأتقنه فكيف يكون حاله فيما لم
يتعلمه بالتلقي عن أهله إذا تكلم أو كتب فيه، وإن صاحب الجامعة الفاضل لم يتعلم
علم الكلام الذي هو فلسفة العقائد الإسلامية لأنه ليس مسلمًا؛ ولا فلسفة اليونانيين
لأنها قد نسخت بالفلسفة العصرية، فلا شك عندنا أنه لم يتعمد تكفير القاضي ابن رشد
ولا نسبة أئمة المسلمين في العقائد إلى إنكار ارتباط الأسباب بالمسببات، ولكن
بعض الذين قرأوا تلك الترجمة في مجلته أساءوا الظن به واحتموا عليه ورغبوا
إلينا في الرد عليه؛ لأن من وظيفة المنار الدفاع عن العقائد الإسلامية وعن أئمة
المسلمين.
وطلب بعضهم مثل ذلك من بعض أساتذتنا الأعلام، الذين يُرجع إليهم إذا
اعتكر من ليل الشبهات الظلام، ولما رأينا ذلك الأستاذ وعد الطالبين بأن يكتب في
بيان حقيقة تلك المسائل التي وقع فيه الخطأ أمسكنا نحن عن الكتابة؛ لأنه هو الأجدر
بالفصل بين الحق والباطل، والذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل، وقد تفضل علينا
وعلى الجامعة بما كتب فننشر في هذا الجزء مقالته في فلسفة ابن رشد ومذهب
المتكلمين (وسننشر في الأجزاء التالية مقالاته في الاضطهاد في النصرانية
والإسلام) .
تمهيد لمقالة الأستاذ الحكيم:
لا بد لفهم قراء المنار هذه المقالة من ذكر ما قالته الجامعة في فلسفة ابن رشد لأن
كاتب المقالة لم يذكر فيها إلا مواضع النقد قالت الجامعة:
المادة وخلق العالم
إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات، وهو يرى
في ذلك رأي أرسطو، فيقول: إن كل فعل يُفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن
حركة، والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق وهذا الشيء هو
رأيه في المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هي
شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف، بل هي ضرب من الافتراض لا
بد منه ولا غنى عنه، وبناء عليه يكون كل جسم أبديًّا بسبب مادته أي أنه لا يتلاشى
أبدًا لأن مادته لا تتلاشى أبدًا، وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل
لا بد له من هذا الانتقال وإلا حدث فراغ ووقوف في الكون، وعلى ذلك تكون
الحركة مستمرة في العالم ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية
الواجبة لخلق العالم بل لما حدث شيء قط، وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو
مصدر القوة والفعل (أي الخالق سبحانه وتعالى) يكون غير مختار في فعله؛ لأن
الحرية والاختيار يقتضيان كونه محدثًا والخالق تنزه عن أن يكون حديثًا.
* * *
اتصال الكون بالخالق
(هذا فيما يختص بخلق العالم، وهو مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين
كما ترى، ولكن كيف يستولي العامل الأول على الكون ويدبره) .
لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة،
فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة، فإنه كما أن كل شئون المدينة
تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرًا
لكل شئون الحكم ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون كذلك الخالق في
الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة
في كل جزء من هذه القوات، فبناء على ذلك لا يكون للكون (اتصال) بالخالق
مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده، وهذا العقل الأول هو عبارة
عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب، وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف
قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء والكائنات، وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر
يعتبرها أعضاء أصيلة للحياة والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر، أما العقل
الأول الذي منه قوتها وحياتها فهو في قلب هذه الدوائر، ولكل دائرة منها عقل أي قوة
تعرف بها طريقها كما أن للإنسان عقلاً يعرف به طريقه، وهذه العقول الكثيرة
المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض إنما هي
عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء
إلى أرضنا هذه، وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها، وبناء على ذلك يكون للعقل الأول الذي هو مصدر كل هذه المحركات علم بكل ما يحدث في العالم.
* * *
طريق الاتصال
وإن قيل: ما هي علاقة الإنسان بالخالق، فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد
أيضًا عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه (النفس) وخلاصة ذلك أن الكون
عقل فاعل وعقل منفعل، فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير
قابل للامتزاج بالمادة، وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل
باقي قوى النفس، وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين، ذلك أن العقل
المنفعل يميل دائمًا للاتحاد بالعقل الفاعل كما أن القوة تقتضي شكلاً توضع به، وأول
نتيجة تحصل من هذا الاتحاد تُدعى العقل المكتسب، ولكن قد تتحد النفس البشرية
بالعقل العام اتحادًا أشد من هذا فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج
بالعقل القديم الأزلي، ولا يتم هذا الاتحاد بالعقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره فإنما
وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به، وأما
إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق العلم، فالعلم إذًا هو سبب الاتصال
بين الخالق والمخلوق، ولا طريق غير هذا الطريق، ومتى اتصل الإنسان بالله صار
مثله يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب ويخرق بنظره حجب
الأسرار التي تكتنف الكون فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كُنه الأمور وجد
نفسه وجهًا لوجه أمام الحقيقة الأبدية.
أما المتصوفة فإنهم يقولون: (إن هذا الاتصال يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد، وليس العلم صروريًّا له) .
وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي
قاعدته العلم والكون في رأيه كما مر بك إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة
بعضها ببعض وكلها مرتبطة ارتباطًا مبهمًا بقوة عُليا، ومن هذه المبادئ شيء
يستولي على العالم ويضع فيه العقل فهو عقل الإنسانية، وهذا الشيء الذي يسميه
عقلاً أيضا هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر لا يزيد ولا ينقص،
والناس يشتركون فيه ويستمدون منه بكميات متباينة، على أن من كان منهم أكثر
استمدادًا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة.
* * *
الخلود
ثم تكلمت الجامعة بعد ما تقدم عن رأي ابن رشد في خلود النفس فقالت بعد
كلام ما نصه: (قال: إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل
ومنفصل عن المادة وغير قابل للفناء والملاشاة، والعقل الخاص المنفعل من صفاته
الفناء مع جسم الإنسان، وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالداً والعقل المنفعل
فانيًا، ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد في رأي ابن رشد، إن هذا
العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية، فالإنسانية إذًا هي خالدة وحدها دون
سواها، وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية ولا شيء مما يقوله العامة
عن الحياة الثانية) اهـ.
* * *
دفع وهم عن فلسفة ابن رشد والمتكلمين
لأستاذ حكيم، وفيلسوف عليم
قرأت ما نشرت الجامعة من ترجمة ابن رشد، مررت على ما نقلت من آراء
المتكلمين وآرائه بغير تدقيق لأنني أعرف آراء الفريقين من قبل ولم يكن لي قصد
إلى النقد وإنما أريد أن أستفيد جديدًا، لهذا لم يقف نظري لأول وهلة إلا على ما
حوته تلك الجملة (الاضطهاد في النصرانية والإسلام) قرأتها بتروٍّ وانتهيت منها
إلى حكم من الجامعة يخالف ما أعتقد ولا يلتئم مع ما أعرف ويعرف العارفون من
الشواهد التاريخية، عند ذلك تحركت نفسي إلى كتابة سطور، أشير فيها إلى كشف
مستور، أو إعادة ذكر مشهور على أسماع الجمهور.
لاقاني بعض قراء تلك الترجمة فرأيت الأثر في نفسه أشد، ولسانه في العتب
أحد، وذكر أشياء في غير هذا الفصل من الترجمة، ولفتني إلى إعادة النظر فيها،
رجعت إلى الترجمة فوجدت فيها موضعين آخرين يطلبان مني الكلام عليهما وبأن
أحاديث الجامعة فيهما، لو كانت منزلة الجامعة من نفسي منزلة غيرها من المجلات
التي لا يُعْنَى كاتبوها إلا بنقل ما يقع تحت أنظارهم، أو تحبير ما يعبر عن أهوائهم
وأفكارهم، من دون عناية بتقرير الحقيقة، ولا رعاية لمعتقدات القراء لوجدت من
شواغل عملي ما يصرفني عن ذكر ما عرض فيها، لكنها من المجلات التي لو
أهملت مباحثها من إمعان النظر وجعلتها في جانب عما تستحقه من النقل لبخستها
حقها، ونَبَوْتُ بها عن موضعها.
لهذا رأيت أن أذكر لها ما رأيت في ذينك الموضعين وأبين حقيقة الأمر في
الثالث أما الموضعان فهما: (فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود) و (فلسفة ابن
رشد وآراؤه في خلق العالم واتصال الكون بالخالق وطريق اتصال الإنسان به
والخلود) وهما موضوع كلامي اليوم.
* * *
فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود
قالت الجامعة: فلسفة المتكلمين هذه (أي في وجود العالم) مبنية على أمرين:
الأول حدوث المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق. والثاني: وجود خالق
مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له وبما أن الخالق مطلق التصرف
في كونه فلا تسأل إذًا عن السبب إذا حدث في الكون شيء لأن الخالق نفسه هو
السبب وليس من سبب سواه، إذًا فلا يلزم عن ذلك قطعيًّا أن يكون بين حوادث
الكون روابط وعلائق كأن ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث تحدث بأمر
الخالق وحده وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصوَّر بها الآن
وذلك بقدرة هذا الخالق، ثم ذكرتْ في الجملة التي تلي ما تقدم أن هذه فوضى،
وأن روحًا جديدًا أخذ يُدْخِلُ شيئًا من النظام فيها [1] .
حدوث المادة عند المتكلمين ليس معناه أن تكون بخلق خالق، فإن الخلق في
اصطلاحهم هو الإيجاد وكون المادة صادرة عن موجد لم يختلف فيه المتكلم
والفيلسوف الإلهي، فأرسطو يقول: إن المادة قد استفادت وجودها من موجدها
وهو الواجب وواسطة فيض الوجود عليها هو العقل الفَعَّال على ما سيأتي بيانه، وإن
كان لا أول لوجودها، وإنما حدوث المادة عند المتكلمين هو وجود الأجسام وعوارضها
بعد أن لم تكن موجودة بحيث يفرض لوجودها بداية زمانية تنتهي إليها سلسلتها من
جانب الماضي، ولا يجوز أن يوصف بالأزلية إلا الله وحده في صفاته عند القائلين
بأنها وجودية، وقبل هذه البداية التي لا يمكن تحديدها لم يكن وجود سوى وجود خالق
الكون، ثم إنه أراد إيجاد الكون فأوجده من العدم البحت، هذا هو بناء مذهب
المتكلمين وهو مذهب أهل النظر من المسيحيين واليهود أيضًا فلم يخالف فيه ملّي
من أهل الملل الثلاث.
أما كون هذا المذهب وحده هو الذي يصح أخذه من القرآن، أو أنه يجوز أن
يتفق مع معاني القرآن رأي آخر بل هو الذي يظهر منه، فذلك بحث آخر لسنا
بصدده الآن فإن كلامنا في تصوير مذهب المتكلمين.
الأصل الثاني وهو وجود خالق مطلق التصرف لازم للأصل الأول؛ لأن هذا
العالم إذا كان موجودًا بفعل موجد فموجده هو خالقه وهو مطلق التصرف بمعنى أنه
يختار ما يخلق على الوجه الذي يخلق.
والمتكلمون وإن اتفقوا على أن خالق العالم مختار انقسموا إلى فريقين
عظيمين، فالقدرية منهم ويسمون بالمعتزلة أيضًا قالوا: إن الخالق وضع للكون
نظامًا تنطبق أصوله على مصالح المخلوقين وأودع في المخلوقين قوًى أو قُدَرًا
تصدر عنها آثارها بطريق التوليد والسببية أو بطريق الإرادة والاختيار،
فهذا فريق من المتكلمين لا يخالف الفلاسفة في قولهم بلزوم الآثار لمصادرها أو تأثير
قدر المخلوقين في أفعالهم، وقد بقي من أهل هذا المذهب إلى اليوم طائفة الشيعة
الإمامية والزيدية فإنهم لا يخالفون المعتزلة في هذه الأصول فإذا حدث في الكون
حادث سأل صاحب هذا المذهب عن سببه المباشر له وإن كانت جميع الأسباب تنتهي
إلى مصدرها الأول وهو الخالق كما يسأل الفيلسوف بلا فرق.
والفريق الآخر الذي عنته الجامعة وهو الذي يرى إسناد الآثار إلى الخالق
مباشرة لم يقطع العلاقة بين الأسباب الظاهرة ومسبّباتها بل قال: إن الله يُصدر
وجود المسبب عند وجود السبب فلا يقال: إن الأكل (مثلاً) هو الذي يحدث الشبع
بل الشبع شيء يحدثه الله عند الأكل ولكنه لا يحدثه عند الخوى إلا إذا أراد أن
يخرق النظام الذي جرت به سنته لأمر عظيم يريد توجيه النفوس إليه، وحمل هذا
الفريق على هذا القول إنكار نسبة الإيجاد ومنح الوجود إلى شيء سوى واجب
الوجود، وقالوا في الأفعال الاختيارية: إن الله يوجدها عند تعلق كسب العبد بها
ولهم في تصوير معنى الكسب كلام طويل لا يليق بهذا المقال استيفاؤه، وقالوا: إن
الأسباب والآلات لا بد منها في صدور الأثر إلا أن الذي يعطيه الوجود عند
استكمالها هو الخالق، ولهذا اتفق جميع المتكلمين على أن التكليف بالأحكام
الشرعية يعتمد التمكن من الإيتان بالمكلف به من حيث حال المكلف وصرّحوا بأنه
لم يقع تكليف بشيء إلا إذا تيسرت أسبابه وارتفعت الموانع منه غير أنهم يلقبون
هذه الأسباب بالعادية؛ لأنه ليس من الواجب على الخالق أن يلتزمها مع اعتقادهم
بأنه قررها وجرت سنته بها ولقبوا ما يحدث في العالم مخالفًا لها بخارق العادة
وليس كل غريب عندهم خارقًا للعادة بل الخارق هو ما لا يدخل في مكنة قوة حادثة
ولا يقدر على إحداثه إلا للقادر على مخالفة النظام الذي سنَّه وهو الله.
هذا الفريق من المتكلمين يستند في إثبات صفة العلم لله تعالى إلى ما في هذا
العالم من النظام وإلى ما حواه ذلك النظام من الأسرار والحِكَم، وهل يتأتى هذا
الاستناد منهم إن لم يقولوا بوجود العلاقة بين الأسباب ومسبباتها كان من هذا الفريق
أئمة تناول بحثهم كثيرًا من الفنون كالطب وعلوم المواليد الثلاث الحيوان والنبات
والمعدن منهم الأئمة الرازيون: كفخر الدين الرازي وأبي بكر الرازي ومحمود
الرازي، وأمثالهم ومنهم مثل الإمام أبي بكر الباقلاني، وكيف يتيسر لقائل أنه لا
علاقة بين الأسباب والمسببات أن يبرع في فنون بناؤها على الارتباط بين الآثار
وما يقارنها في العادة مما هو مصدر لها في بادئ النظر.
فإذا حدث في الكون حادث سأل صاحب هذا المذهب عن سببه الذي جرت
سنة الله بأن يكون معه وإن شئت قلت: سأل عن السبب الذي أصدر الله وجوده
عنده، وهل يمكن أن يقول المتكلم: إنه لا علاقة بين وجود الولد ووجود والديه أو
بين جَوْدة العمل وعلم العامل أو بين غزارة الثمر وخدمة الشجر؟ هذا شيء لم يقل
به قائل منهم قط وإلا لما قرأ واحد منهم كتابًا ولا خط في صحيفة سطرًا؛ لأنه لا
علاقة بين المطالعة والفهم ولا بين التحرير والأفهام.
فإن شئت أن تقول: إنه مذهب مع ذلك غامض يكدّ الذهن في فهمه فلك أن
تقول وأن تمعن النظر حتى تفهم مبانيه وأصوله وأن تناقش بالدليل الدليل، وعلى
الله قصد السبيل.
القول بنفي الرابطة بين الأسباب ومسبباتها جدير بأهل دين ورد في كتابه أن
الإيمان وحده كافٍ في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل تحوّل عن مكانك فيتحول
الجبل [2] يليق بأهل دين يعدّ الصلاة وحدها إذا أخلص المصلي فيها كافية في إقداره
على تغيير سير الكواكب وقلب نظام العالم العنصري، وليس هذا الدين هو دين
الإسلام، دين الإسلام هو الذي جاء في كتابه {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: 105) الآية، {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ} (الأنفال: 60) إلخ {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وأمثالها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ
وَالنَّهَارِ} (البقرة: 164) الآيات، فلا يمكن لأهل هذا الدين وهو هو أن يقطعوا كل
علاقة بين الأسباب في هذا العالم المسببات، ولهم أن يتيهوا على أرباب ذلك الدين
الآخر بأن دينهم لم يوضع أساسه على دعث من الخوارق لا يلبث أن يخسف
بالسالك فيه إذا سأل عليه سيل الدليل، وإنما وضع على مستقر من الحقائق لا
يتزلزل بالقائم عليه مهما عظم القال والقيل، وليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى
ارتفاع ما بين حوادث الكون بالترتيب في السببية والمسببية إلا إذا كفر بدينه قبل أن
يكفر بعقله.
نعم طرأ فساد على عقائد بعض المنتسبين إلى أئمة ذلك المذهب وأساءوا
الظن بالقدر وتظاهروا بترك الأسباب في أقوالهم، وإن كانوا أشد الناس تمسكًا بها
في رذائل أعمالهم، وتعلقوا من الخوارق بجبل وهن ميلاً إلى أهواء من جاورهم
من الملل فظن الناظرون في قذائف أفواههم أن هذه الأوهام مما بني عليهم اعتقاد
أسلافهم فلا يغترن بعد ذلك مغتر بما يظن أولئك الناظرون ولا بما يتوهمه هؤلاء
الواهمون {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
هذا ما يتعلق برأي الجامعة في مذهب المتكلمين أو فلسفتهم وننتقل الآن إلى
روايتها مذهب الفيلسوف ورأيها فيه.
* * *
فلسفة ابن رشد ورأيه في المادة وخلق العالم
قالت الجامعة: إن المادة (ضرب من الافتراض لا بد منه) الافتراض يراد به عند الإطلاق الفرض وهو في اصطلاح الفلاسفة ما لا وجود له والمادة عندهم موجودة
كما قالت الجامعة فيما قبل ذلك التعريب وفيما بعده.
ثم قالت: (وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو مصدر القوة والفعل (أي
الخالق سبحانه وتعالى) يكون غير مختار في فعله؛ لأن الحرية والاختيار يقتضيان
كونه محدثًا والخالق يتنزه عن أن يكون حديثًا) وقالت بعد هذا بسطرين: (وهو
(أي مذهب ابن رشد) مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين كما ترى، ثم ذكرت
أن الفيلسوف يشبه حكومة الكون بحكومة المدينة وأن المباشر للتصريف في الكون
هو العقل الأول في قلب هذه الدوائر ولكل دائرة عقل أي قوة تعرف بها طريقها)
إلخ.
أما مسألة نفي الاختيار فقد ذكرتُ عليها إيهامَهَا وأدى ذكرها كذلك إلى استنتاج
أن مذهب ابن رشد قريب من مذهب الماديين وليس الأمر في حقيقته كذلك.
يعلم كل ناظر في مذاهب فلاسفة اليونان أنهم كانوا فريقين إلهيين وماديين والأولون
فريقان مشاءون وإشراقيون واشتهر أتباع أرسطو باسم المشائين وأتباع أفلاطون
باسم الإشراقيين.
وأول مميز للإلهيين عن الماديين أن الأولين يقولون بوجود واجب بريء من
المادة والماديات وبوجود عقول مجرّدة عن المادة وغواشيها وبأن للواجب علمًا بذاته
وبجميع ما يصدر عنه وعن آثاره وأن للمعقول المجرد عقلاً علمًا بذواتها وبمَبْدئها
وبما يصدر عنها، والماديون لا يقولون بشيء من ذلك ألبتة، فالتقريب بينهما تقريب
بين النقيضين، وابن رشد من مقرري مذهب أرسطو فهو من الإلهيين.
وتشبيه الفيلسوف لتدبير الكون بتدبير المدينة أكبر دليل على مفارقة الماديين
كما يفارق المجرد والمادة، وقد شرطوا في هذا التشبيه أن المُدَبِّر خارج عن المدبَّر
مُفارقٌ له مُنَزَّهٌ عن مخالطته.
أما العقل الأول فليس كما تقول الجامعة، فإن العقل الأول جوهر مجرد عن
المادة وهو أول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمّى عندهم بالفلك
الأطلس ونفسٌ لذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية وعقل آخر هو العقل الثاني، وعن
هذا الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم فلك الثوابت ونفسه والعقل الثالث
وهكذا إلى أن صدر عن العقل التاسع فلك القمر ونفسه والعقل العاشر وهو المسمّى
عندهم بالعقل الفعّال أو العقل الفياض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية وإليه
يرجع ما يحدث في عالمها، ولا يكون العقل الأول ولا غيره من العقول في قلب تلك
الدوائر عند أحد من هؤلاء الفلاسفة الإلهيين بل هو مفارق لها كما أن نفوسها
جواهر مفارقة أيضًا، ولها تعلق بأجسادها كتعلق أنفسنا بأبداننا على ما سيأتي بيانه.
والذي حمل الإلهيين على ذلك مبالغتهم في تنزيه الواجب وقولهم: إنه واحد
من جميع الوجوه وزعمهم أن الواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا الواحد فيلزم أن
لا يصدر عن الواجب إلا واحد وهو العاقل الأول. ولما تعددت وجوه العاقل في
ذاته والنسبة بينه وبين مصدره العاقلة لذاته وعقله لموجده صح أن يصدر عنه
متعدد، ولهم في الاستدلال على حياة الأفلاك مقدمات لا حاجة إلى ذكرها؛ لأن
الكلام في تصوير مذهبهم لا في تقريره أو إبطاله.
فالعقول عند الفليسوف ليست مخالطة للمادة ولا يغشاها شيء من ظلماتها
وليس العقل الأول بمدبر الكون وإنما هو مصدر الفلك الأطلس ومفيض نفسه عليه
وخزانة معقولاته، وهكذا الأمر في كل عقل مع الفلك الذي صدر عنه وتدبير العالم
العنصري وهو ما دون فلك القمر راجع إلى العقل العاشر وهو العقل الفعّال.
قال الفلاسفة الإلهيون: ولا يجوز أن تكون لأفعال الله غايات وأغراض
تبعثه على إصدارها وأن ما يصدر عنه إنما يفيض بمحض الجود المطلق عن غني
مطلق، وقد صرح ابن رشد في تهذيبه لإلهيات أرسطو بذلك وهذا مبالغة منهم في
نسبة الكمال إلى الله على أن ما يصدر عنه إنما يصدر عن علم فالذي ينفى عنه إنما
هو الاختيار بمعنى التردد بين الغايات ثم ترجيح إحداهما أما الاختيار بمعنى أن
الفعل صدر عن علم العالم بدون إكراه عليه فذلك لا ينفيه أحد منهم، والملِّيون من
متكلمين ولاهوتيين وإن لم يصرحوا بذلك قالوا بما يئول إليه والتزموه فقد ذهب
جمهورهم والمعوَّل على رأيه عند قومه منهم أن علم الله محيط بالكليات والجزئيات
أزلاً وأبدًا وقد تعلقت إرادته بتخصيص كل كائن بما هو عليه على حسب علمه
وعلمه لازم لذاته أزلي بأزلية ذاته وكل ما يكون في الكون لا بد أن يقع على وفاق
مع علمه الأزلي جل شأنه فلا تردد عنده بين الغايات بل ما يصدر عنه اليوم كان لا
بد أن يصدر عنه، والأسباب والمسببات وارتباط بعضها ببعض مما انتظم في علمه
فهي تصدر عنه على حسب ترتيبها في العلم، وسواء كان القول غامضًا أو غير
غامض وسواء توجه عليه من النقد ما يصعب الجواب عنه إذا روعيت بقية
الأصول أو لم يتوجه، كل ذلك لا يدفع عنهم أنهم قالوا بنفي الاختيار بالمعنى
المعروف عند الناس، وإن ثبت الاختيار بالمعنى الذي يليق بكمال الله تعالى،
فالفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيين على وفاق في حقيقة المسألة وإن اختلفت
العبارات فابن رشد رحمه الله لم يخرج في آرائه عن الملِّيين فلا يصح أن يكون
مذهبه مذهب الماديين ولا قريبًا منه.
* * *
طريق الاتصال
يتوهم الناظر في هذا العنوان في الجامعة مع مراعاة الفصل الذي تقدمه فيها
أنه عنوان لرأي ابن رشد في طريق اتصال الكون بالخالق فإذا استمر في قراءة ما
بعد العنوان إلى آخر الفصل علم أن المراد طريق اتصال الإنسان وحده بخالقه
وعثر في آخر البحث على هذه العبارة: (وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب
الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم) أما ما بين العنوان وهذه العبارة فهو
مما لا يمكن أن يتحصل له معنى مفهوم في مذهب الفيلسوف، وإني ذاكر لك رأيه في
اتصال الإنسان بالله أي قربه منه وسعادته به وفي طريقة تكميله لنفسه حتى يسعد
لذلك القرب، وبذلك تعرف أن ما جاء في الجامعة ليس بالذي تصح نسبته إليه
خصوصًا بعد قولها: إنه أخذ مذهبه في ذلك عن أرسطو من الفصل الثالث في
كتابه (النفس) وما قاله أرسطو في ذلك الكتاب معروف مشهور.
أثبت أرسطو وتبعه ابن رشد وجُل فلاسفة الإسلام أن نفس الإنسان التي هو
بها إنسان وهي ما يلقبونها بالنفس الناطقة - جوهر مجرد عن المادة لا هو جسم ولا
حال في جسم، وإنما له علاقة بالجسم يدبره ويصرفه وشبهوا هذه العلاقة بعلاقة
الملك بالمدينة وهو خارج عنها ولهذه النفس آلة في الجسم بها يكون التدبير.
وقالوا: إن انطباع المحسوسات والمعاني الجزئية في الحواس الظاهرة
والباطنة على ما فصلوه يُعِدُّ النفس لقبول الكليات ويهيؤها لتلتقي المعقولات عن
مفيضها عليها وهو العقل الفعّال الذي سبق لنا ذكره.
وجعلوا مراتب النفس في استحصالها كمالها العلمي وبلوغها ذروته أربعًا
(الأولى) العقل الهيولاني، وهو قوة استعداد النفس نحو المعقولات وتسميته عقلاً
تسمية مجازية و (الثانية) العقل بالملكة وهي القوة التي تحصل للنفس عند
حصول المعقولات الأولى مثل الجزء والكل ومثل الحكم بأن الأول أصغر من
الثاني ومثل النفي والإثبات والحكم بأنهما لا يجتمعان في محمول واحد لموضوع
واحد، وكذلك كل ما خلص من محسوس وهو لا يحتاج في تخليصه إلى فكر
والنفس تتهيأ بهذه القوة لاكتساب المعقولات الثانية إما بالفكر وإما بالحدس، وليس
الحدس هو الظن كما هو في المشهور بل هو سرعة انتقال النفس من المبادئ إلى
المطالب أو انتقال النفس من المعلومين إلى الوسط الذي يصل بينهما ومن ذلك إلى
معلوم ثالث بلا تجسم نظر، ولذلك جعل مقابلاً للفكر الذي هو النظر بعينه؟
و (الثالثة) قوة تسمى العقل المستفاد وهي أن تحصل المعقولات الثانية بالعقل
متمثلة كالأولى مشاهدة في الذهن، والرابعة قوة تسمى (العقل بالفعل) وهي ما به
تتمكن النفس من استحضار المعقول المكتسب المفروغ منه متى شاءت من غير
افتقار إلى اكتساب.
قالوا: والذي يرقى بالنفس في هذه المراقي هو العقل الفعال، وهو ذلك العقل
العاشر المصرّف للمادة العنصرية لا عقل الإنسانية العام كما تقول الجامعة، فإن
أرسطو وابن رشد لا يقولان بعقل يسمى عقل الإنسانية العام بل كان ذلك من مزاعم
أفلاطون التي عُني أرسطو بإبطالها وتبعه ابن رشد وغيره في نفيها، فالعقل الفعال
هو الذي يخرج النفس من العقل الهيولاني إلى العقل بالملكة ومن العقل بالملكة إلى
العقل المستفاد ومعه إلى العقل بالفعل.
ولما كان العقل الفعال جوهرًا عقليًّا بالفعل كانت المعقولات بأسرها حاصلة له
بالفعل، أما نفوسنا فهي عقول بالقوة ولكنها إذا استعدت استعدادًا خاصًّا للاتصال
بذلك العقل أي بالإقبال عليه وتوجيه وجهتها نحوه ارتسم منه فيها الصور العقلية
الخاصة بذلك الاستعداد الخاص لأحكام خاصة وإدراك المعاني الجزئية بواسطة
الحواس وحركة النفس في المعقولات الأولى والبحث والتجربة والدرس وما ينحو
هذا النحو كل ذلك من محصلات الاستعداد لقبول المعقولات في الموضوعات التي
كان الاستعداد فيها. فإذا أعرضت النفس عن العقل الفعال والتفتت إلى جانب الحس
أو إلى صورة أخرى غير التي حصلت لها بذلك الاستعداد انمحى المتمثل الذي كان
أولاً كأن المرآة التي كان يحاذي بها جانب القدس قد أعرض بها عنه إلى جانب
الحس، أو إلى شيء آخر من الأمور القدسية.
قالوا: وهذا الاتصال الذي يفيض به العقل الفعال على النفس ما استعدت له
من المعقولات له علة، وعلته قوة تامة الاستعداد لها أن تقبل بالنفس جهة الإشراق
متى شاءت بملكة متمكنة وهي المسماة بالعقل بالفعل.
ثم إن الفيلسوف وأتباع مذهب أرسطو ذكروا آراء بعض الفلاسفة ممن لا يعتد
بقولهم وفيها ما يشبه ما نسبته الجامعة لابن رشد منها أن الجوهر العاقل إذا عقل
صورة عقلية صار هو إياها، واستدلوا على استحالة هذا القول بأنه يلزم عليه أن
تصير النفس جميع المنقولات التي تحصل لها وتصير المعقولات كلها معقولاً واحدًا
بل يلزم عليه انعدام النفس ووجوه ما عقلته أو استحالة النفس إليه وهو محال
وخلاف الفرض ونقلوا عن فرقوريوس أنه قال: إن النفس الناطقة إذا عقلت شيئًا
فإنما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال وهو حق في رأيهم ولكنه قال: إن
معنى اتصالها بالعقل الفعال أن تصير هي نفس العقل الفعال؛ لأنها تصير العقل
المستفاد والعقل الفعال يتصل نفسه بالنفس فيكون العقل المستفاد، وقد أبطلوا هذا
القول بأنه يستلزم أن يكون العقل الفعال متجزئًا قد يتصل منه شيء دون شيء وهو
مجرد لا يتجزأ أو تتصل به النفس اتصالاً واحدًا تكون به النفس كاملة واصلة إلى
كل معقول وهو ليس بحاصل في جميع الأحوال وقالوا: إن دعوى اتحاد شيء
بشيء آخر على معنى استحالة الأول إلى الثاني قضية شعرية غير معقولة فلا يصح
النظر فيها، أما استحالة النفس إلى العقل الفعال فلم يقل به أحد.
فقد عرفت من هذا أن اتصال النفس بالعقل الفعَّال ليس معناه الفناء فيه أو
الاندغام كما عرفته الجامعة بلا معناه أن ترتفع النفس بقواها عن ظلمة الطبيعة بما
يكون لها من الاستعداد وتنجذب نحو العالم الأعلى فتشرق فيها المعلومات بمحاذاتها
لمطلع ذلك النور الأجلى، فهل مع هذا يصح أن ينسب إلى الفيلسوف ما عدّه غير
معقول؟
قال الفيلسوف وشيعته: إن النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصورة
المحددة غير منطبعة في جسم تقوم به بل هي جوهر عاقل ذو آلة بالجسم فإذا
استحال الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظًا للعلاقة معها بالموت لم يضر ذلك
جوهرها بل تكون باقية بما هي مستفيدة الوجود من الجواهر العقلية، فالنفس بعد
مفارقتها للبدن باقية على استقلالها لا تعدم شخصيتها بالفناء في شيء سواها لا عقل
فعّال ولا وجود واجب وهي تسعد بكمالها العلمي والأدبي الذي حصلته مدة تعلُّقها
بالبدن، وجَوَّزَ الفيلسوف أن تتعلق بعد فراقها للبدن بجسم آخر من عالم آخر تتخيل
فيه ما هو لذة لها، وتشقى بجهلها ورداءة ملكاتها، فالنفس عند الفيلسوف باقية
خالدة خلودها خلود لشخصها المتميز من كل شيء سواها سواء كان عقلاً فعالاً أو
غيره.
فهل بعد هذا يُعدُّ الفيلسوف ماديًّا ومذهبه مذهبًا ماديًّا قاعدته العلم؟ لا بل هو
إلهي ومذهبه مذهب إلهي قاعدته العلم قائل بخلود النفس وسعادتها وشقائها وعذابها
ونعيمها كما رأيت.
بقي علينا أن نشير إلى ما نقله فلاسفة أوربا عن الفيلسوف الجليل ابن رشد
في مبدإ العالم ومصدر وجوده، قالوا: لم يكن يُعرف العلم والفلسفة عند الأوربيين
إلا في مدارس المسلمين في أسبانيا، فكان يقصد تلك المدارس طلاب العلم من كل
ناحية، كان يجلس في درس الفيلسوف عدد عظيم لم تأت نهاية القرن الثاني عشر
(الميلادي) إلا وقد انتشر بين المشتغلين بشيء من العلم رأي زعزع طمأنينة
الكنيسة وأفزع القابضين على مفاتيح القلوب بذلك الوقت الواقفين على أبوابها
يأذنون لمن شاءوا من العقائد والأفكار أن يدخل فيها ويطردون عنها ما شاءوا ذلك
الرأي الذي أخذ يتسرب إلى القلوب رغم حجابها هو أن الكون أجمع يرجع في
وجوده إلى واحد هو حياة الكل وهو روح يقوم به كل جزء منه.
وقالوا: إن الذي نشر هذا المذهب بين الناس هم تلامذة ابن رشد ففهم بعض
علمائهم من ذلك أن ابن رشد كان يقول: إن مبدإ العالم هو أصل عرضت له صور
العالم أو روح ظهر في مظاهر الكائنات كما يقول الصوفية أو نحو ذلك، واستتبع هذا
رأيًا آخر وهو أن كل صورة من صور الموجودات إذا بطلت فإنما تعود إلى أصلها
وهو الوجود المطلق، وظن الواهم أن الأرواح تعود بعد مفارقة الأجسام إلى
مشرقها العام، وتفقد امتيازها فيه، وذلك كله وإن ذهب إليه بعض النظار من
الأوربيين غير ما يقول ابن رشد، أما ما يقول ابن رشد فهو كما ترى.
قال ابن رشد وكل من تابعه على رأيه ولم يخالفوا في ذلك أرسطو: إن
الممكن لا وجود له في ذاته وإنما يستفيد الوجود من غيره، وقد كانوا قالوا: إن جميع
ما في الكون ما عدا واجب الوجود المبرأ من المادة وغواشيها فهو ممكن فكل ما في
العالم فهو مستفيد الوجود من غيره، فذلك الغير إن كان ممكنًا فكي يُعطى الوجود وهو
لا وجود له إلا من غيره، فإذا استمد منه مستمد فإنما يستمد من فضل ذلك الوجود
الذي جاءه من موجده إلى أن ينتهي إلى الوجود الأول فكل وجود سطع على
الممكنات فهو فائض من وجود الواجب فلا وجود إلا من وجوده أو كل وجود فهو
شعاع لضياء وجوده، فإذا حرر المعنى من هذا على وجه أمكن عند العقل وجدته
يرجع إلى ما قاله السيد الشريف من أئمة أهل السنة وغيره وهو أن الممكن ليس
بشيء في ذاته ثم يكون شيئًا بالإيجاد، والإيجاد لو حققته أمر اعتباري انتزاعي له
منشأ في الواقع، وذلك المنشأ هو ذات الموجد وماهية الموجود الممكن التي صارت
شيئًا بتلك العلاقة الاعتبارية بينها وبين موجدها، وهي ما يسمونها تعلق القدرة
بالمقدور، وماهية الممكن ليست بوجود ولا الوجود أمر موجود قائم بها، فإذًا ليس
من موجود نفس الأمر إلا وجود الواجب فكان الوجود الحقيقي واحدًا وسائر ما
يسمى وجودًا فإنما ينال ذلك بالإضافة إلى الوجود الحقيقي وأولى بالتسمية أن تكون
مجازية من أن تكون حقيقة.
مع ذلك لا يزال صاحب هذا القول يعتقد بتجرد الواجب عن المادة والمدة إلا
أن من تلقفه منه توسع فيه حتى كان من ذيوله رأي القائلين بأن الموجد الأول روح
سار في العالم وإليه يرجع كل أشخاصه لفناء شخصيتهم فيه وما هو برأي ابن رشد
ولا يعرفه.
على أن الصوفية وهم المصرحون بوحدة الوجود المعبرون بالشهود أولاً
والفناء آخرًا، الناطقون في ذلك بما لم ينطق به أحد سواهم لم يقولوا بزوال هُوِيَّات
النفوس زوالاً حقيقيًّا بل قالوا: إنها خالدة بعد مفارقة الأبدان ولكنها تسعد في
خلودها باستغراقها في شهودها، وذهولها عن كل ما يشغلها عن مصدر وجودها،
فهي غنيَّة بعرفانه عن معرفتها بنفسها وهو ما يعبر عنه بالفناء ولذته، والمحو
وبهجته، وهو معنى تقصر دون إيضاحه العبارات، وإن كفى في تعريفه لأهله
أخفى الإشارات.
ولعل الجامعة لا تعتب على الكاتب فيما كتب أو فيما أجاب به من طلب فقد
وفى حقًّا لها لو أغفله مع علمها بالقدرة عليه، لحق لها أن توجه العتب إليه.
هذا ما أردنا إيجاز القول فيه متعلقًا بفلسفة المتكلمين ورأي الفليسوف وسنتبعه بمقال آخر فيما حكمت به الجامعة من الكلام على الاضطهاد في النصرانية والإسلام،
إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ذكرت الجامعة الغراء أن منبع هذا الروح النظامي في مجلة المنار واستشهدت لذلك بالتفسير الذي نقتبسه من دروس الأستاذ الإمام كبير رجال النهضة الإسلامية الحاضرة.
(2) المنار يشير إلى ما جاء في إنجيل لوقا من الباب 11 (23 لأني) الحق أقول لكم: إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر ولا يشك في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له، 24 لذلك أقول لكم كلما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوا فيكون لكم.(5/361)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الاجتماع الخامس لجمعية أم القرى
قال (المحدث اليمني) إننا معشر أهل اليمن ومن يلينا من أهل الجزيرة كما
إننا لم نزل بعيدين عن الصنائع والفنون كذلك لم نزل على مذهب السلف في الدين
بعيدين عن التفنن فيه، ومسلكنا مسلك أهل الحديث، وأكثرنا يُخَرِّجُ الأحكام
على أصول اجتهاد الإمام زيد بن علي بن زين العابدين أو أصول الإمام أحمد بن
حنبل وإني أذكر للإخوان حالتنا الاستهدائية عسى أن الذكرى تنفع المؤمنين، وعسى
أن يعلم المسلمون ولا سيما الأتراك ومن يحكمون أننا من أهل السنة لا كما يوهمون أو
يتوهمون فأقول: إن المسلمين عندنا على ثلاث مراتب: العلماء والقراء والعامة.
فالطبقة الأولى (العلماء) وهم كل من كان متصفًا بخمس صفات:
1ـ أن يكون عارفًا باللغة العربية المضرية القرشية بالتعلم والمزاولة معرفة
كافية لفَهْم الخطاب لا معرفة إحاطة بالمفردات ومجازاتها وبقواعد الصرف
وشواذه والنحو وتفصيلاته والبيان وخلافاته والبديع وتكلفاته مما لا يتيسر
إتقانه إلا لمن يفني ثلثي عمره فيه مع أنه لا طائل تحته ولا لزوم لأكثره إلا
لمن أراد الأدب.
2- أن يكون قارئًا لكتاب الله تعالى قراءة فهم للمتبادر من معاني
مفرداته وتراكيبه مع الاطلاع على أسباب النزول ومواقع الكلام من كتبها
المدونة المأخوذة من السنة والآثار وتفاسير الرسول عليه السلام، أو
تفاسير أصحابه عليهم الرضوان، ومن المعلوم أن آيات الأحكام لا تجاوز
المائة والخمسين آية عدًّا [1] .
3 - أن يكون متضلعًا في السنة النبوية المدونة على عهد التابعين
وتابعيهم أو تابعي تابعيهم فقط بدون قيد بمائة ألف أو مائتي ألف حديث بل
يكفيه ما كفى مالكًا في موطئه وأحمد في مسنده، ومن المعلوم أن أحاديث
الأحكام لا تجاوز الألف وخمسمائة حديث أبدًا [2] .
4 - أن يكون واسع الاطلاع على سيرة النبي وأصحابه وأحوالهم من
كتب السيرة القديمة والتواريخ المعتبرة لأهل الحديث كالحافظ الذهبي وابن
كثير ومن قبلهم كابن جرير وابن قتيبة ومن قبلهم كمالك والزهري
وأضرابهم.
5 - أن يكون صاحب عقل سليم فطري لم يفسد ذهنه بالمنطق والجدل
التعليميين [3] والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورسية وبأبحاث الكلام
وعقائد الحكماء ونزعات المعتزلة وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج
وتخريجات الفقهاء المتأخرين وحشويات الموسومين وتزويقات المرائين
وتحريفات المدلسين (مرحى)
فأهل هذه الطبقة يستلهمون بأنفسهم ولا يقلدون إلا بعد الوقوف على دليل
من يقلدون فإذا وجدوا في المسألة قرآنًا ناطقًا لا يتحولون عنه لغيره مطلقًا وإذا
كان القرآن محتملاً لوجوه فالسنة قاضية فيه مفسرة له، ثم ما لم يجدوه في
كتاب الله أخذوه من صحيح سنة رسول الله سواء كان الحديث مستفيضًا أم غير
مستفيض عمل به أكثر من واحد من الصحابة المجتهدين أم لم يعمل به إلا واحد فقط
ومتى كان في المسألة حديث صحيح لا يعدلون عنه إلى اجتهاد، ثم إذا لم
يجدوا في المسألة حديثًا يأخذون بإجماع علماء الصحابة، ثم بقول جماعة من
الصحابة والتابعين ولا يتقيدون بقوم دون قوم، فإن وجدوا مسألة يستوي فيها
قولان رجَّحوا أحدهما بمرجح يقوم في الفكر لا يتبعون فيه أصولاً موضوعة
غير مشروعة أو طرقًا مقررة غير مرفوعة وأهل هذه الطبقة عندنا ينورون
أذهانهم بأصول استدلالات الإمام زيد رضي الله عنه أو غيره من الأئمة في
تخريج الأحكام واستنباطها من النصوص بدون تقيد بتقليد أحدهم خاصة دون
غيره؛ لأنهم لا يجوزون اتباع إمام إذا رأوا ما ذهب إليه في المسألة بعيدًا عن
الصواب فلا يقلدون أحدًا تقليدًا مطلقًا كأنه نبي مرسل.
والطبقة الثانية هم (القراء) وهم الذين يقرأون كتاب الله تعالى قراءة
فهم بالإجمال مع اطلاع على جملة صالحة من سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فهؤلاء يستهدون في أصول الدين بأنفسهم؛ لأنها مبنية غالبًا على قرآن
ناطق أو سنة صريحة أو إجماع عام مفسر لغير الناطق والصريح.
وأما في الفروع فيتبعون أحد العلماء الموثوق بهم عند المستهدي من
الأقدمين أو المعاصرين بدون ارتباط بمجتهد مخصوص أو عالم دون آخر مع
سماع الدليل والميل إلى قبوله كما كان عليه جمهور المسلمين قبل وجود
المتعصب للمذاهب.
والطبقة الثالثة هم (العامة) وهؤلاء يهديهم العلماء مع بيان الدليل
بقصد الإقناع، فالعلماء عندنا لا يَجْسُرُونَ على أن يفتوا في مسألة مطلقًا ما لم
يذكروا معها دليلها من كتاب منتقى الأخيار الذي شرحه وهو ليس له،
والعرب لم يهملوا المنطق وإنما خرجوا به عن النظريات المحضة إلى الكتاب
أو السنة أو الإجماع، ولو كان المستفتي أعجميًا أميًّا لا يفهم ما الدليل
وطريقتهم هذه هي طريقة الصحابة كافة والتابعين عامة والأئمة المجتهدين
والفقهاء الأولين من أهل القرون الأربعة أجمعين (مرحى) . ...
والتزام علمائنا هذه الطريقة مبني على مقاصد مهمة أعظمها تضييق
دائرة الجرأة على الإفتاء بدون علم وفي هذا التضييق على العلماء توسعة
على المسلمين وسد لباب التشديد في الدين والتشويش على القاصرين، ولهذه
الحكمة البالغة بالغ الله ورسوله في النكير على المتجاسرين على التحليل
والتحريم والمستسلمين لمحض التقليد.
فالعالم عندنا لا يستطيع أن يجيب إلا عن بعض ما يسأل ولا يأنف أن
يقف عند (لا أدري) بلى يحذر ويخاف من غش السائل وتغريره إذا أجابه بأن
فلانًا المجتهد يقول: إن الله أحل كذا أو حرم كذا؛ لأن السائل لا يعلم ما يعلم
هو من أن هذا المجتهد الذي ليس بمعصوم كثيرًا ما يخالف في قوله من هو
أفضل منه من الصحابة والتابعين ومن أنه يتردد في رأيه وحكمه، كم اجتهد
وكم رجع، ومن أن أكثر دلائله إما ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة أو ظنيتهما،
ومن أنه لم يدون ما قاله ولكن نقله عنه الناقلون، وكم اختلفوا في الرواية عنه
بين سلب وإيجاب ونفي وإثبات وكم زيف أصحابه اجتهاده ورأوا غير ما رآه
ومن أنه أي المجتهد إنما اجتهد لنفسه وبلغ عذره عند ربه وصرح بعدم جواز
أن يتبعه أحد فيما اجتهد وتبرأ من تبِعة الخطأ.
فهذا (الإمام مالك) رضي الله عنه يقول: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من
كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل المؤرخون أن
المنصور لما حج واجتمع بمالك أراده على الذهاب معه ليحمل الناس على
الموطأ كما حمل عثمان الناس على المصحف فقال مالك: لا سبيل إلى ذلك؛
لأن الصحابة افترقوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام في الأمصار يريد أن
السنة ليست بمجموعة في موطئه الذي جمع فيه مرويات أهل المدينة.
وحكي في اليواقيت والجواهر أن (أبا حنيفة) رضي الله عنه كان يقول:
لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يأخذ بكلامي، وكان إذا أفتى يقول: هذا رأي
النعمان بن ثابت- يعني نفسه - وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه
فهو أولى بالصواب.
وروى الحاكم والبيهقي أن (الشافعي) رضي الله عنه كان يقول: إذا
صح الحديث فهو مذهبي، وفي رواية: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث
فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط وأنه قال يومًا للمزني: يا إبراهيم
لا تقلدني فيما أقول وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين، وكان يقول: لا حاجة في
قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى عن (أحمد بن حنبل) رضي الله عنه أنه رأى بعضهم يكتب
كلامه فأنكر عليه وقال: تكتب رأيًا لعلي أرجع عنه، وكان يقول: ليس لأحد مع
الله ورسوله كلام، وقال لرجل لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الأوزاعي ولا الحنفي
ولا غيرهم وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة، وأسس
مذهبه على ترك التأويل والترقيع بالرأي واتباع الغير فيما فيه طريق العقل واحد.
ونقل الثقاة أن (سفيان الثوري) رضي الله عنه لما مرض مرض الموت
دعا بكتبه فَغَرَّقَها جميعًا.
وروي عن (أبي يوسف وزُفر) رحمهما الله تعالى أنهما كانا يقولان:
لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وقيل لبعض أصحاب أبي
حنيفة: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة فقال: لأنه أوتي من الفهم ما لم نؤتَ
فأدرك ما لم ندرك ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم دليله ونقنع (مرحى) .
ثم قال: أيها الإخوان الكرام قد أطلت المقال فاعذروني فإني من قوم ألفوا
ذكر الدليل وإن كان معروفًا مشهورًا وقد ذكرت طريقة علماء العرب في
الجزيرة منوهًا بفضلها لا بفضلهم على غيرهم كلا بل غالب علماء سائر
الجهات أحدّ ذهنًا وأدق نظرًا وأغزر مادة وأوسع علمًا، ولذلك لم نزل نحن في
تعجب وحيرة من نظر أولئك العلماء المتبحرين في أنفسهم العجز عن الاستهداء
وقولهم بسد باب الاجتهاد.
نعم لم يبق في الإمكان أن يأتي الزمان بأمثال ابن عمر وابن عباس أو
النخعي وداود أو سفيان ومالك أو زيد وجعفر أو النعمان والشافعي أو أحمد
والبخاري رضي الله عنهم أجمعين، ولكن متى كلف الله تعالى عباده بدين لا يفقه
إلا أمثال هؤلاء النوابغ العظام؟! أليس أساس ديننا القرآن وقد قال تعالى عنه فيه:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3) وقال تعالى:
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (فصلت: 3) وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) وقال {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ} (البقرة: 99) وقال تعالى: {َفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ} (النساء: 82)
فما معنى دعوى العجز والتمثيل بمن قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88)
حمانا الله تعالى (مرحى) .
أما السنة النبوية أفلم تصل إلينا مجموعة مدونة بِهِمَّةِ أئمة الحديث جزاهم
الله خيرًا الذين جابوا الأقطار والبلاد التي تفرق إليها الصحابة رضي الله عنهم
بسبب الفتوحات والفتن فجمعوا متفرقات ودوَّنوها وسهَّلوا الإحاطة بما لم يتسهل
الوقوف عليه لغير أفراد من علماء الصحابة الذين كانوا ملازمين النبي عليه
السلام.
وكذا يقال في حق أسباب النزول ومواقع الخطاب ومعاني الغريب في
القرآن والسنة فإن علماء التابعين وتابعيهم والناسجين على منوالهم رحمهم الله لم
يألوا جهدًا في ضبطها وبيانها.
وكذلك الأئمة المجتهدون والفقهاء الأولون علمونا طرائق الاستهداء
والاجتهاد والاستنباط والتخريج والتفريع وقياس النظير على النظير فهم
أرشدونا إلى الاستهداء وما أحد منهم دعانا إلى الاقتداء به مطلقًا (مرحى) .
ثم إننا إذا أردنا أن ندقق النظر في مرتبة علم أولئك المجتهدين العظام لا
نجد فيهم علمًا وهبيًا أو كسبيًا خارقًا للعادة فهذا الإمام الشافعي رحمه الله وهو
أغزرهم مادة وأول وأعظم من وضع أصولاً لفقهه نجده قد أسس مذهبه على
اللغة فقط من حيث المشترك والمتباين والمترادف والحقيقة والمجاز والاستعارة
والكناية والشرط والجزاء والاستثناء المتصل والمنفصل والمنقطع والعطف
المرتب وغير المرتب والفور والتراخي والحروف ومعانيها إلى قواعد أخرى لا
تخرج عن علم اللغة، واتبع أبا حنيفة في إدخاله في أصول مذهبه بعض قواعد
منطقية مثل دلالة المطابقة والتضمن والالتزام ومعرفة الجنس والنوع والفصل
والخاصة والعرض والمقدمين والنتيجة والقياس والمنتج واتبعه أيضًا في قياس
ما لم يرد فيه قرآن أو حديث على ما ورد فيه، وهكذا فتح كل من أولئك الأئمة
العظام لمن بعده ميدانًا واسعًا فجاء أتباعهم ومدوا الأطناب وأكثروا من الأبواب
وتفننوا في الأشكال وتنويع الأحكام وأحدثوا علمي الأصول والكلام، وهذا
التوسع كله ليس من ضروريات الدين بل ضرره أكثر من نفعه وما أشبه الأمور
الدينية بالأمور المعاشية كلما زاد التأنق فيها بقصد استكمال أسباب الراحة
انسلبت الراحة.
والقول الذي فيه فصل الخطاب أن الله سبحانه وله الحكم لم يرض منا أن
نتبع إلا علم الأفضل بل كلفنا بأن نستهدي كتابه وسنة رسوله على حسب
إمكاننا وطاقتنا وهو يرضى منا بجهدنا حيث قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) فنسأل الله التوفيق لسواء السبيل.
قال الأستاذ الرئيس: إني أحمد الله تعالى على توفيقه إيانا إلى هذا
الاجتماع المبارك الذي استفدنا منه ما لم نكن نعلمه من قبل عن حالة إخواننا
وأهل ديننا في البلاد المتباعدة ولم يكن يسمع بعضنا عن بعض شيئًا إلا من
السياح المتكدين الجهلاء الذين لا يعرفون ما يصفون أو من أهل السياسة
والعلماء المتشيعين لهم الذين ربما يموهون الحق بالباطل بقصد تفريق الكلمة
ومنع الائتلاف (مرحى) .
ثم قال هذا واليوم قد انسحب ذيل الظل وقرب الزوال وأذن لنا الوقت
بالانصراف.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قد أحاط بها التفسير الأحمدي الهندي.
(2) وقد أحاط بها الإمام الشوكاني اليمني.
(3) قد حقق الغربيون أن لا ثمرة من المنطق كليًّا فأهملوه مع أنهم يعتنون بالبحث عن وسائط تفاهم العجماوات اهـ من الأصل، ولعله يريد بما أحاط به الشوكاني.(5/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأزهر والأزهريون - وفاضل هندي
إلى السيد الحكيم الفاضل محرر مجلة المنار الغراء:
لست في حاجة أيها السيد الحكيم لأن أسهب لكم القول في فضل الانتقاد
والمنتقدين وما لهم من الأيادي في ترقية الأمم فإن العوان لا تعلم الخمرة، وهذا
مناركم الأغر لا يكاد يقف على رأس كل سنة حتى يكون قد ذكر فصولاً ضافية في
الانتقاد، وإنه المقوم لما اعوج من أعمال الأمم والرافع لما خمل من شأنها والآخذ
بيدها على مدارج الرقي والكمال، وعلم الله أنه لا حامل لي على أن أوجه
بسطوري هذه إليكم آملاً في نشرها على صفحات مناركم إلا عظيم الثقة ووطيد
الأمل: بأنكم لا تخشون في الله لومة لائم وأنه لا يوقفكم عن السير في سبيل
الإصلاح غرض لهيان أو هنات مما يكتب في صدر فلان.
خرجت ذات يوم إلى منتزه الجيزة لأبدد ما تراكم بصدري الحَرِج من الهموم
والأكدار في تلك الرياض الفسيحة وذاك الفضاء الممتد حتى إذا كنت على قيد أذرع
من رأس المنتزه الجديد حيث تقف هناك مركبات الكهرباء القادمة من الأهرام
فالجيزة إذا أنا بأحد صبية الفلاحين وقد أخذ ناحية عن أعين الناس وهو قابض على
كثير من الأوراق المكتوبة يتصفحها واحدة واحدة وبعضها يتناثر من بين يديه إلى
حيث تتلاقفها الرياح فتعبث بها أضعاف عبثه من قبل فأهويت إلى واحدة منها وقد
جرى بها الريح إلى ما تحت قدمي فإذا بها كلام عربي فتقدمت نحو الغلام وتلطفت
في طلبها منه وأمرته أن يذهب فيجمع لي ما فرقته يده في الهواء في مقابلة فلس
أعطيته إياه ففعل شاكرًا وذهب طيب الخاطر راضي النفس بعد أن علمت منه أنه
عثر عليها وقد لفت في غلاف على طريق الكهرباء فيما بين الجيزة والجزيرة
وأخذت أنا طريقي الأول حيث أشجار اللبخ القائمة على ضفة النيل الغربية فجلست
هناك في ظلها الوارف وكان الوقت أصيلاً وصرت أقلبها وأجيل فيها النظر وأطيل
الفكر حتى انكشف لي أمرها بعد طول إمعان وإعمال روية، إنها صحائف سَوَّدَها
بعض أفاضل الهند المولعين بالبعد عن دين الإسلام المتين من بلدة يقال لها (الله
أباد) وعلمت من مجموعها أن الرجل أخو أَسْمَارٍ وجَاشِم أخطار وجَوَّاب أقطار من
حيث لا صاحب له إلا همة يحاول أن يطأ بها قمة العيوق ونفس تنزع به إلى ذرى
شرف لا تتطاول إليه الأعناق وقد تجلى لي من رسائل كانت ترد إليه أن الرجل
سيد بلدته، وأشرف بني جلدته، قدم هذه الديار سائحًا متجولاً كما جال في كثير
غيرها من بلدان المسلمين ولا هم له إلا التنقيب عن أدواء الأمة الإسلامية وأسباب
انحطاطها وقد عاهد صديقًا له في (حيدر أباد) على أن يوافيه برسائل متتالية
يصف له بها كل ما يراه من أدواء الإسلام وعوامل ضعفه وأسباب تأخره، ولقد
قلبت في الأوراق كثيرًا وقد كتب بعضها بالأُردية والبعض بالعربية علني أجد فيها
ما يشير إلى الرغبة في كتمانها وصونها عن أنظار غيره فلم يظهر لي إلا عكس
ذلك فقد وجدت في أولى رسائله عبارة صريحة يأذن لصاحبه فيها بنشر ما كتب
ويكتب لكل من أحب. وأهم ما رأيت في تلك الرسائل ثلاثًا بعث بها إلى صاحبه
في حيدر أباد يصف له فيها الأزهر والأزهريين بعبارة لا تسلم من العجمة ولكن لم
يركب بها مخارم الإغراب ولم يتدل إلى حضيض العامية المبينة وقد تحامى في
انتقاداته خشن القول وغليظ الكلام حتي جاء كلامه أكرم انتقاد وأعفه وأكفه وأحلمه.
لذلك أحببت أن أبعث بها إلى أعظم مجلة إسلامية وأرسخها قدمًا في الإسلام
وأحبها لنشر فضائل رجاله وأحرصها على رَأْب صدعهم ومداواة دائهم، وقد
تصرفت بالعبارة تصرفًا لا يمس شيئًا من المعنى راجيًا أن لا تضيعوا لي أملاً،
والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهذه صورة الرسالة الأولى:
(من القاهرة إلى حيدر أباد)
سلام عليك أيها الأخ الفاضل، أمد الله في حياتك ولا حرمني إخاءك، وأسبغ
علي رداء إخلاصك، وبعد فقد ورد إلي كتابك الكريم أحوج ما كنت إليه فاستعذبته
وحسن موقعه من قلبي، وما ذكرت أيها الأخ من استبطاء المراسلة وإشفاقك من أن
يصرم البعد حبل الود ويطفئ غلة الشوق والوجد ويضرب على ما سبق به الوعد،
فأنا أستغفر لك الله في ذلك وهو العليم بما لك في فؤاد أخيك مهما شطت به دار
الغربة وبعدت به النَّجْعَةُ. وما كان لي وأنت موضع ثقتي ومكان إخلاصي وبك
أعتضد وعليك أعتمد أن أظهر قولك زورة طيف أو أنسى وعدك لمحة طرْف وإنما
هي الأسفار أورثتني من الضعف والشحوب والإنضاء، ما لو رأيته لأصبحت
عذيري فيما ارتكبت من الإبطاء، ويعلم الله أنني أكتب لك ما أكتب وأنا نضو سفر
قد ألحفني وعثائه جلبابًا، وقل أطرقة ضربت علي من رواقها قبابًا، ولقد كان
الأجدر بي أن لا أكتب لك كلمة حتى أتزيد من الراحة أيامًا، وأسترد بعض ما فقدت
من القوة لولا ما أخشاه من جرح صدرك وتغير فؤادك، فأما ما ذكرتني به وأخذتني
على تأخيره وسألتني إنجازه من زيارة مدرسة الأزهر الإسلامية الهائلة واستعجالي
بزيارتها إن لم أكن فعلت ثم بالكتابة إليك بما استبان لي من أمرها وطريقة التعليم
بها، وأن أسهب لك القول فيما أجده بها من مواضع النقد والملاحظة. فقد صادف
جميع ما ذكرت سابق رأي مني فيه. وإن مدرسة يزيد عدد طالبيها على تسعة
آلاف من المسلمين ما بين مصريين وسوريين وروسيين وعرب وأتراك وبربر
وهنود لجديرة بأن لا أنساها في سياحتي بل جديرة بأن تكون زيارتها ودرس
أحوالها جُلّ ما أنا قاصده من تجوالي في ربوع الإسلام غير أن كتابك قد ورد عليّ
وأنا لم يمضِ لي غير يومين في القاهرة قد مضى يومان آخران من تاريخ وروده
وأنا لم أزر تلك المدرسة إلا زورة واحدة لما ذكرت لك من الضعف واللغوب
وسأكتب نموذجًا بما وقع لي منها في تلك الزورة مرجئًا التفصيل والإسهاب لغيرها
من الرسائل ولا غَرْو أيها الفاضل أن أكتب رسالتي هذه مختصرة في الوصف
مقتصرة على ما ذكرته لك على وجه الجملة شأن من كان غريب الدار غريب اللغة
فأقول:
كثيرًا ما كنت أسمع من إخواني في الهند إذا حادثتهم في شأن الأزهر كلمة
مقولة وهي (الأزهر أكبر مدرسة دينية على سطح الكرة الأرضية) فكنت أهتز
لذلك من الارتياح والطرب (كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب) ولطالما كان
يقع في أذني إذ ذاك أنه على كثرة طالبيه وتعدد معلميه قليل النظام مختل طريقة
التعليم عقيم النتيجة، ولكن ما كان ذلك لينتزع من قلبي تلك الهزة وذلك الإعجاب به
وبكثرة طلابه وما كان ليسوئني من أن أجد فيه إذا دخلته قليلاً من النظام وبعض
الترتيب ولقد بت ليلة قدومي إلى القاهرة من الوجد لزيارته بليلة الملسوع. حتى إذا
كنت من صباح الغد وبلغت الساعة.. أسرعت بركوب عربة إليه ودخلت فإذا
ساحة مترامية الأنحاء لا فرش فيها إلا الغبراء ولا غطاء عليها إلا السماء غير أنها
تخلو من جمال هندام في جدرانها وكمال الهندسة في شكلها وإتقان صنعة فيما يحيط
بها من الأبواب والنوافذ ورأيت بها - والفصل كما تعلمون شتاء - أناسًا كثيرين
يتشمسون وقد اشتغل البعض بتلاوة القرآن والبعض بالمذاكرة في كراسة بيده،
وآخرين ما بين مستلقٍ على ظهره ومُنْكَبٍّ على وجهه ومن بينهم من التفوا حول
أدون المآكل يأكلون فيها بشهوة المنهوم فألقي في روعي لأول الأمر أنها ساحة
يستريح بها الطلبة في أوقات معلومة بعد طول المطالعة والدرس، وإجهاد القوة
ونصب النفس، فعَذَرْتُهم إذ ذاك على استلقائهم وانكبابهم وتزاحمهم على المأكل
لتعويض ما اندثر من أدمغتم عقب الجد والتحصيل، والاشتغال الطويل، غير أني
لم ألبث هُنية حتى أخبرني صاحب إلى جانبي من الطلبة السوريين - وكنت قد
اصطحبته لمثل هذه الحال - بأن تلك الساحة قطعة من المدرسة نفسها وأن ما أراه
إنما هو نظامهم في الطلب والتحصيل فكدت أن أصعق إذ ذاك، وتلبد فكري بغيوم
الكدر والحزن حتى أوشكت أهلك أسًى وغمًّا، ولقد كنت أرى في تلك الساحة الرجل
وقد كبرت سنُّه حتى خارت قوته ورقَّ عظمه فانحنى ظهره، وضعف عضده،
حتى رعشت يده، وكلَّ بصرُهُ حتى لا يبصر إلا شفًا، وإنه على ذلك كله ليجلس
وإلى جانبه فتًى حديث السن غض الشباب ماطر له شارب ولا خط له عِذار
وكلاهما يدرس ويتفاهم مع الآخر على أنه من أضرابه في الطلب ومنافسيه في
التحصيل ويجلس كل منهما في حلقة درس واحد.
ثم اخترقت تلك الساحة وأنا مدهوش العقل ذاهل اللب لما أراه من اجتماع
الأضداد المتناقضات وولجت من باب هناك إلى المقصورة المُعدة للتدريس، وقد كنا
قبيل الظهر فإذا محل فسيح الأرجاء ذو سقف يقوم على نحو أربعمائة عمود يخال
إلي من شكلها أنها نقلت إليه من المعابد والهياكل القديمة تميد بها تلك الألوف مَيدَانًا
وهم على مثال من رأيت في صحن المدرسة من اختلاط الحابل بالنابل، وتلاشي
النظام والترتيب إلى حد ظننت معه أنهم مأمورون بذلك، وأن من قوانين التعليم هناك
استئصال حب النظام من الصدور كما يستأصل الخلق السيئ.
وأعجب ما رأيته بين الطلبة من سلطان العادة على النفوس أن الطالب هناك لا
تحلو له المذاكرة ولا يروق التحصيل إلا إذا رفع صوته بأقصى ما في إمكانه فيتألف
من مجموعهم دَوِيٌّ يصم أذن القادم عليهم، فاخترق بي صاحبي السوري الجموع
حتى انتهى بي إلى محل هناك يقال له (رواق الشوام) فصعد بي على مدارجه إلى
غرفة هناك استرحت بها قليلاً وكان قد أذَّن الظهر فقال لي الصاحب هلم نمر بالدروس
وهي منتظمة، أما الدوي فلا يلبث أن يسكن لاشتغال الطلبة بالسماع من معلمهم؛ فلم
أتمالك نفسي علم الله من البكاء على أثر قوله انتظام الدروس وقلت - ومهجتي تذوب
من الأسى فتنحدر من عيني دموعًا -: يا حبذا ذاك الدوي لو كان زمجرة رعد تبشر
بسقوط غيث العلم من سماء على صدور الطالبين، فتنبت ما يقوم بشفاء داء الإسلام
والمسلمين.
ثم قمت وقام الصاحب حتى إذا كنا في واسطة الدرج أخذت أرسم له كيف
يغشى بي الدروس، وذلك أن يبدأ بدرس أول كتاب يدرسونه في النحو ثم ينتقل
بالتدريج حتى درس آخر كتاب اصطلحوا أن يكون خاتمة الطلب في الفن ففعل
وكان أول درس وقفت عليه درس الكتاب الأول وأول كلمة سمعتها فيه قول المعلم
(واختلف في الجارّ والمجرور هل هو متعلق بظرف أو بفعل) فالتفتّ إلى صاحبي
وقلت أوتهزأ بي يا هذا، ألم أقل لك أن تذهب إلى أول كتاب فقال: لم أهزأ بك
والشيخ إنما يقرأ أول كتاب في النحو ويقرر ثاني درس في الكتاب فقلت لن يثبت
ما تقول في نفسي حتى تريني آية ذلك فأشار إلى غلام يليه من الدرس فسأله ماذا
يقرأ الشيخ يا صاحبي؟ قال الكفراوي قلت أنا والكفراوي ماذا؟ قال: أول كتاب يقرأ
في النحو؟ فأخذت بيد صاحبي إذ ذاك وأنا خَجِل من اتهامي إياه وقلت: اذهب بي
توًا إلى الدروس الثانوية حتى أرى ماذا يقرأون.. . ولا أريد أيها الأخ أن أطيل لك
القول في هذه الرسالة بتفصيل ما رأيته بعد ذلك بل أجمل لك فيه القول إجمالاً.
وجدت معلم الكتاب الثاني يشتغل بتعريف المركب عند المناطقة طويلاً ثم لوى
زمام الكلام إلى تعريف عند اللغويين فالبيانيين فالتوحيديين إلى فنون أُخَرَ ذهب
عني أسماؤها وحفظ تعاريف واضعيها، أما الدرس الثالث فكان الشيخ فيه منهمكًا
في تعريف الرئة واختلاف الأطباء الأقدمين فيها وما قالوا في تكييف الصوت إلى
كلام طويل، وكان ذلك كله استطرادًا من قول النحاة: اللفظ صوت مشتمل على بعض
الحروف وعلى ما ذكرت لك كان الحال في بقية الدروس حتى إذا انتهيت إلى
درس آخر الكتب كان يخيل لي أن الشيخ إنما يلفظ رطانة لا أفهمها وإني
لأقسم لك - وأنت تعلم قدر اشتغالي بالعربية وشدة شغفي بها - إنه لم يعلق بذهني من
كل ما سمعته إلا كلمتين إحداهما قوله بين أجزاء كل جملة وعلى رأس كل كلمة:
(قال الشيخ رحمه الله تعالى) ، والثانية ذكر سبب تسمية سيبويه من أن سيب
اسم للرائحة بالفارسية وويه اسم للتفاح.
هذا ما رأيته وأقول لك على الجملة في مدرسة بعيدة الصيت طائرة الشهرة في
كل قطر من بلاد المسلمين حتى كاد بعضهم أن يعلق بها الأمل في نجاح كل عمل.
ومما هو جدير بي أن أجمل لك فيه القول في الرسالة أن سِنِيَّ الطلب يغلب
أن تكون من خمس عشرة سنة إلى ما يحتمل أن يعمر إنسان، والطالب يشتغل
هناك بالكتاب الأول في السنة الأولى ثم بالكتاب الثاني في الثانية ثم بالثالث والرابع
والخامس والسادس في خمس سنين ثم ينتقل على النحو ويكون قد حضر ما يقابله
من كتب الفقه إلى علوم البلاغة ثلاث سنين ثم يصرف ما بقي في تلقي كتاب كبير
في الأصول وفي خلال هذه المدة يكون قد حضر في أوقات غير مضبوطة ولا
منتظمة علوم التوحيد والمنطق والتفسير، وبعد أن يأتي على ذلك كله درسًا يكون
يكون على خيار من أن يتقدم لشهادة الدراسة أو يرجع إدراجه إلى تلك الكتب
والفنون فيتلقاها درسًا درسًا ويسمون ذلك فيما بينهم إعادة المذهب.
وقد ضمني مجلس مع أحد المترشحين لشهادة الدراسة وكان ممن أعادوا
المذهب فرأيت منه رجلاً وقورًا صالحًا على رأس الخامسة والأربعين من عمره غير
أن بلسانه حبسة وعيًّا فعمدت إلى أن أعرف مبلغ علمه بالكتابة فقدمت إليه بلطف
طلب ورقة سؤال راجيًا أن يكتب لي ما تيسر من إنشائه ولما لم أفلح أكثرت عليه
من الإلحاح والإلحاف في الطلب فاكتفى بأن أخرج لي كتابًا كان قد حرره لأخ له من
أبيه أصغر منه سنًّا يرتزق من الفلاحة والزرع يرجو منه إرسال شيء من النقود
والزاد ويبشره بقرب نيل الشهادة، أحببت أن أبعث به إليك بعد أن أقسم لك بالله قسمًا
حقًّا لا آثمًا فيه ولا حانثًا أنه على أصله، ما تخونت منه حرفًا واحدًا وهو كما ترى قد
قبضت من أسطره روح البلاغة وانطفأ منها نور البيان وجفت منها غضاضة الذوق
في التعبير، ولقد كانت النفس تجد لها بعض السلوى وتلتمس لكاتبها شيئًا من العذر
لو لم تكن الرسالة محشوة بالأغاليط الصرفية واللحنات النحوية كما يظهر ذلك لأول
نظرة فيها ولله حكمة خافية في ثماني سنوات مضت في درس النحو والصرف هذا
ما أذكره لك في رسالتي هذه إجمالاً وسترى فيما يتلوها إن شاء الله إسهابًا شافيًا
والسلام عليك ورحمة الله (الإمضاء) .
وسأوافي حضرات قراء المنار الأغر بالرسالتين الباقيتين اللتين أرسلهما
لصاحبه بعد هذه وهما كما قلت غاية في آداب الانتقاد والاعتدال مما يستميل قلوب
العقلاء إليه ويستدر ألسنة الناس بالثناء عليه.
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيزعثمان العريشي ... بالأزهر
(المنار) نشرنا هذه الرسالة تنشيطًا لكاتبها الأديب وبيانًا لكيفية التعليم في
الأزهر يعرف ذلك بالتفصيل من لا يعرفه من أهل الأقطار الإسلامية وننتظر أن
تكون الفائدة في رسالتي الهندي الأخريين أتم مما فيه هذه الرسالة.
__________(5/386)
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
__________
أفكوهة أدبية
للشاعر المجيد مصطفى أفندي صادق الرافعي
يا طير ما للنوم قد طارا ... وما قضينا منه أوطارا
كأن هذا السهد لا يأتلي ... يطلب من أجفاننا نارا
إن كنت ظمآن فذي أدمعي ... تفجرت في الأرض أنهارا
أو كنت ذا مسغبة فالتقط ... حبة قلبي كيفما صارا
أو كنت مشتاقًا فكن مثلنا ... على النوى يا طير صبارا
وجارني إن كنت لي صاحبًا ... فإن خير الصحب من جارى
يا طير كم في الحب من ساعة ... يزيد فيها العمر أعمارا
إن قلت تلهبي بها فكرة ... جرت على الأفكار أفكارا
أو قلت أنساها أقام الهوى ... من حرها في القلب تذكارا
والصب ما ينفك في حيرة ... تزيده حزنًا وأكدارا
ما لي أرى الأطيار نواحة ... كأنما فارقن أطيارا
وما لأغصان الربى تلتقي ... كأنما استودعن أسرارا
فأسأل نسم الصبح إن مر بي ... هل حملته الغيد أخبارا
وأسأل عن الدار ويا ليتني ... أزور يومًا هذه الدار
كأنها الجنة لكنني أبطنت ... من وحدي بها النارا
سماؤها مطلعة أنجمًا ... وأرضها تطلع أقمارا
وكم بها من أكحل إن رنا ... سلت لك الأجفان دبتارا
وإن مشى بخطر في تيهه ... هزت لك الأجفان خطارا
لا أنكر السحر وذا طرفه ... أصبح بين الناس سحارا
يا فاتن الصب على رغمه ... والمرأ لا يعشق مختارا
طورًا بنا هجر وطورًا نوى ... أهكذا تخلق أطوارا
لو شبهوا بدر السماء درهمًا ... لشبهوا وجهك دينارا
وكم دررًا فيك نظمتها تجل ... أن تحسب أشعارا
لو أن بشارًا حكى مثلها ... أعطت لواء الشعر بشارا
__________(5/392)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(خير الكلام في القراءة خلف الإمام، وقرة العينين برفع اليدين)
كتابان مختصران للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري
صاحب الجامع الصحيح، جمع في الأول ما رواه من الأحاديث النبوية الدالة على
وجوب القراءة خلف الإمام في الصلاة، وفي الثاني ما رواه في إثبات رفع اليدين عند
الركوع وعند القيام، ومن التشهد الأول، والأحاديث في المسألتين كثيرة، وقد
تذكرتُ الآن أنني سمعت أستاذنا الفقيه المحدث الشيخ محمود نشابه الطرابلسي
الأزهري (رحمه الله تعالى) قال: وهو يقرأ لنا شرح البخاري في أوائل طلبنا
للعلم أن البخاري روى رفع اليدين عن خمسين صحابيًّا وله فيه كتاب، ومن ذلك
اليوم تمنيت أن أرى هذا الكتاب الذي أثبت البخاري المسألة فيه بالتواتر حتى رأيته
مطبوعًا في هذه الأيام، وكنت أعجب لترك الناس هذه السنة حتى الذين أثبتها
أئمتهم كالشافعية.
الحنفية يتركونها لأن شيوخهم قالوا أنها مكروهة لأنها لم تثبت عند إمامهم
وإن كان كل من شم رائحة علم السنة منهم موقن بأنها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لو وقع مثله لإمامهم لما تركها مرة واحدة، وأما الشافعية فإنهم قد
يتركونها مسايرة للحنفية. صلى كاتب هذه السطور إمامًا بأستاذه الشيخ حسين
أفندي الجسر فرفعت يدي عند الركوع والقيام منه ومن التشهد الأول كما هو دأبي
فلما فرغنا من الصلاة قال لي أحد الشيوخ من الشافعية وكان حاضرًا الصلاة:هلا
تركت رفع اليدين أدبًا مع أستاذك؟ فقلت: ما علمني أستاذي أن أترك السنة أدبًا
معه، ولا أرى أن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينافي الأدب معه فقال
ذلك الشيخ: إن إمامك الشافعي ترك القنوت في الصبح أدبًا مع الإمام أبي حنيفة
عندما زار قبره فقلت معاذ الله أن يترك الإمام السنة لأجل أحد من الناس وقد أوَّلَ
العلماء هذه الحكاية على تقدير ثبوتها (وما هي بثابتة) بأن الإمام ترك القنوت
لشبهة عرضت له في بلده غَيَّرَتْ اجتهاده وقتئذ، فصدقني الأستاذ وقال: نعم هكذا
أولوها.
فليعتبر المسلمون بهؤلاء الشيوخ الذين يأمروننا بترك السنة مداهنة لأهل الجاه
من الأحياء وتقليدًا لأهل الشهرة من الأموات، ومثل هؤلاء الشيوخ الذين يرجعون
الدين إلى الأفكار الفاسدة يتجرأون على انتقاد أئمة العلماء والمصلحين من
المعاصرين ويكثرون من عيبهم ويتملقون لهم أشد التملق في حضرتهم
والعامة تغتر بهم إذا درسوا وخطبوا فيزيدونها غرورًا.
الكتابان اللذان نحن بصدد تقريظهما طُبِعَا معًا في المطبعة الخيرية على نفقة
صاحبها الهمام السيد عمر الخشاب ويباعان في مكتبته، فنحث محبي السنة على
مطالعتهما والعمل بهما {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7) .
* * *
(الروضة الأنيقة في بيان الشريعة والحقيقة)
كتاب يدل على مسماه من تصنيف العالم الصوفي الشيخ عبد العزيز
الديريني المتوفى سنة 679 رحمه الله تعالى، وفي الكتاب مسائل نافعة يصح أن
تجعل حُجة على الذين يدعون التصوف وينتهكون حرمات الدين، ويدعون أنهم
أولياء الله وأحباؤه، من ذلك أنه عقد بابًا للإنكار على مشايخ الطريق الذين يجتمعون
بالنساء، ويزعمون أنهم يرشدونهن واستشهد لذلك بعدم مصافحة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم للنساء عند مبايعتهن على الإيمان وغير ذلك وقال: إنه لا يصلح لتعليم
النساء إلا الراسخون في العلم والدين بشرط عدم الخلوة وعدم إظهار الزينة على أن
المرأة إنما تتعلم من الأجنبي ما يجب عليها إذا لم يكن لها محرم يعلمها، وقد ختم المؤلف هذا الباب بفصل قال فيه:
وقد زاد قوم فزعموا أن اجتماعهم بالنساء والشبان وتعاطي هذه الأمور مما
تحصل به البركة فإن قرب المرأة أو الشاب من الرجل سبب لحياة القلب فإن النور
يسري من القلب إلى القلب وأشباه هذه الزخارف الباطلة. فهؤلاء قوم تشبهوا
بالشياطين فإن الشيطان يسول للجاهل أمورًا محرمة ويزينها بصور باطلة، فهذه
حيلة فسق وحيلة مكر وخديعة كذب؛ فليت هؤلاء حيث وقعوا في هذه القبائح لم
يضيفوا إليها ما هو أقبح منها، فإن العاصي المعترف بمعصيته أخف إثمًا
وأقل جُرْمًا ويجب على من له أمر أن يردع هؤلاء بالتعزيز الشافي والزجر الكافي،
ومن لم يقدر على ذلك فلينههم نهيًا كافيًا فإن لم يقبلوا وَجَبَ الإنكار عليهم بالقلب
كما قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتْعُوا} (الحجر: 3) الآية اهـ.
وقد وضع ناشر الكتاب في آخره قواعد جميلة منها هذه القاعدة الثابتة، قال:
إذا حُقِّقَ أصل العلم وعُرفت مواده وجرت فروعه ولاحت أصوله كان الفهم فيه
مبذولاً بين أهله، فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر وإن كان له فضيلة السبق،
فالعلم حاكم ونظر المتأخر أتم؛ لأنه زائد على المتقدم، والفتح من الله مأمول لكل
أحد، ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: إذا كانت هذه العلوم مِنَحًا إلهية
ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير
من المتقدمين، نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف،
انتهى وهو عجيب) والكتاب مطبوع طبعًا حسنًا على ورق جيد ومكتوب عليها
(إيليا 1320) فليته بين أهل الطريق فينتفعوا باعتداله.
* * *
(الحال والمآل)
قصة وضعها أحمد حافظ أفندي عوض كما ذكرنا في تقريظ (قصص
مسامرات الشعب) شرح فيها كيفية عشق الفتيان والفتيات أو التلامذة والتلميذات
في مصر، وكيف يغوي بعض البنات المتعلمات بعضًا، وقد علمنا أنه لم يذكر إلا
بعض الواقع بالاختصار، القصة أنفع القصص التي ألفت لمكتبة الشعب أو أنفع ما
ألف الشبان المصريون من هذه القصص، وإن كانت في عبارتها دون ما كتب
حافظ من قبل؛ لأنه كان في وجل من طروق هذا الباب الذي يظهر من ورائه سوء
التربية في قومه وفي حذر وانشقاق من عذل العاذلين، ولوم اللائمين، فلم
ينطلق قلمه بحرية تامة وله الفضل إن طرق هذا الباب من أبواب الجد.
موضوع القصة بنت اسمها (أسماء) نشأت - ولا أقول تربت - في حجر
الدلال ثم وضعت في المدرسة فصاحبت فيها بنت أحد الأغنياء من المصريين
المتفرنجين حتى صارت تركب معها أحيانًا إلى بيت أبيها فترى فيه الأثاث والرياش
وكيفية المعيشة على الطريقة الإفرنجية فمقتت عادات بيت أبيها الشرقية
وفي هذا المقام إلمام بكيفية الانتقال من العادات الشرقية إلى العادات الغربية في
شئون المعيشة.
امتدت المعاشرة بين البنتين حتى ركبتا يومًا للنزهة فلقيهما في الطريق أحد
الشبان المتعلمين الذين قال حافظ في وصفهم (كان مبلغ ما تعلموه من المدارس وما
تلقنوه من دروس الحياة مقصورًا على العناية بملابسهم وتنسيق هندامهم ووضع
طرابيشهم المائلة إلى جهة الأذن على شعر لامع مدهون بكذا وكذا.. وياقة مرتفعة
ورباط رقبة فيه دبوس من الماس ولباس - أي سراويل - ضيق وخواتم من الذهب
ومنظار بسلسلة ذهبية وحذاء أصفر رفيع براق) وكان هذا الشاب عشيق الفتاة
المصرية فكاشفت أسماء بعشقهما وسألتها عن العشق ولما عرفت أنها لا تعرفه
نبذتها بلقب المسكنة، ثم أقبل الشاب وصافحهما مُسَلِّمًا ولما اضطربت من الخجل
لأنها لم تتعود ذلك الشاب فقالت لها رفيقتها: (ما لي أراك قد خجلت وهل في
الحديث والتسليم على الشبان عيب؟ إنما العيب أن لا ينظر إلينا أحد ولا ينظر إلى
محاسننا إنسان) ثم رَغَّبّتْهَا في قراءة القصص الغرامية وأعطتها واحدة منها ففتنت
أسماء بأخبار العشق والغرام، وشغلت عن الدرس والمنام، فتغير حالها حتى
تنبهت والدتها لذلك التغير وسألتها عن سببه فكذبت في الجواب، قال المؤلف
(وليس الصدق صفة محترمة عندنا معاشر المصريين بل يكاد الإنسان أن لا
يعرف له مزية، بل إن شئت فقل إننا نتعلم الكذب في بيوتنا من آبائنا وأمهاتنا) ثم
إن أسماء تعلمت العشق فعشقت شابًّا مهذبًا.
ثم إن المصنف ذكر أن البنتين حضرتا احتفال عرس صديقة للثانية ووصف
فيه ما هو جار في مصر الآن من مغازلة النساء المتزينات للرجال من النوافذ
والكوى ومن شرب النساء الخمر جهرًا، وذكر أن أسماء تعلمت في تلك الليلة من
البنات الشرب على أنه من (التمدن والمودة) فلما ثملت مع صديقتها قامتا إلى
النوافذ كغيرهما فأبصرت كل منهما مع من تحب، وكانتا على موعد منهما فأشارتا
إليهما بالانتظار فلما التقى الأربعة حصل التعارف بين الجميع - كذلك العادة بين
الأحداث من العاشقين والعاشقات في مصر كما أخبره المجربون - ثم ركبت أسماء
مع عشيقها في مركبته كما ركب عشيق نجية معها في مركبتها وانطلقوا إلى الجزيرة
ولكن ساء صاحب أسماء سكرها وتهتكها الذي تعلمته من نجية، وعَنَّفَها على ذلك
فوعدته بأن تكون كما يحب وهيهات ذلك فإن السائر في طريق الرذيلة كمن يتدهور
بين حالين لا يقف حتى يبلغ القرار كما أشار المصنف، ثم إن عاشق أسماء يأس من
صلاح حالها فتركها ثم قضى أهلها عليها بالتزوج بأحد أولاد العمد الأغنياء فرضيت
كارهة وعاملت زوجها أقبح المعاملة لاحتقارها إياه لأنه لا يعرف الفرنسوية وفنون
التخنث والتهتك وكان أولاً يحبها ويتحمل إهانتها حتى عيل صبره فأبغضها وعلق
بالراقصات وعرف البغايا وشرب الخمر واعتزلها بالمرة فشكت يومًا إلى صديقتها
القديمة فأشارت عليها بأن تعامله بالمثل فتنتقم منه بالبغاء ففعلت فأصيبت بداء
الزهري وانتقل منها المرض إلى ولدها بالعدوى، عاث فيها المرض فتقرح بدنها
وانقلبت سحنتها وتحول ذلك الجمال إلى قبح تقشعر منه الجلود وانتهى بالجنون ثم
بالموت.
هذا هو الوباء الساري في حياة مصر الأدبية وما وصف كاتب القصة إلا
بعض ما علم فهل يوجد في مصر قوم يغارون على الملة والأمة فيسعون في تربية
الناشئين والناشئات تربية دينية تصادم هذه الشرور، وتقلل من هذا الفجور؟ الآباء
مهملون والأمهات جاهلات فماذا يفعل البنون والبنات؟
إذا كان رب البيت بالطبل ضاربًا ... فلا تلم الأولاد فيه على الرقص
الرجال هم الذين يغيرون أحوال الأمم الاجتماعية وليس عندنا رجال، نعم إن
خير رجال مصر هم الذين أسسوا الجمعية الخيرية الإسلامية ولكن عملهم للأمة لا
يزال ناقصًا، فإذا استطاعوا أن يوجدوا مدرسة كلية في مكان بعيد من المدن بل
عن الناس يربون فيها طائفة من الناشئين حتى يكونوا رجالاً عاملين فذلك باب
النجاح دون سواه وإن لم يستطيعوا فمستقبل مصر مظلم جدًا والله أعلم بمصير
الأمور.
__________(5/393)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قصص (روايات) مجلة الهلال
جاءنا من بعض فضلاء القراء ما يأتي بحروفه:
(رأيت في مجلة المنار الصادرة في غرة جمادى الأولى سنة 1320 تقريظًا
للرواية الأخيرة من روايات حضرة محرر مجلة الهلال التي عنوانها (الحجاج بن
يوسف) وقد ألمعتم فيه إلى ما انتقد به على المؤلف حينما ظهرت رواية (عذراء
قريش) وقد ظهر لبعض القراء أن حضرتكم لا تنقمون على هذه الروايات لما
قدمتموه من الأعذار عما يشوبها من الأكاذيب التي هي من لوازم وضعها مع أن
منها نسبة العشق إلى مثل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما مع شهرته في التاريخ
بضد ذلك، وتشبه عذراء قريش بالرجال ووقوفها في مجمع الصحابة ترشدهم إلى
حقائق الدين وتوبخهم على ما حصل منهم في بدء الفتنة المشهورة، ولا يخفى
حضرتكم أن مثل مقدمته التي نقلتموها لا يبرئ الكاتب مما يأتي به مخالفًا لحقائق
التاريخ كما هو مبدأ الإسلام في كراهة الكذب على أية حال، وإني متيقن أنكم لو
كنتم اطلعتم على هذه الرواية لما قلتم كلمة واحدة في تقريظها وما كنا نهتم لو جاء
هذا المدح في غير مجلة المنار التي هي المجلة الدينية الموثوق بها فيما تبديه من
الآراء في أحكام الدين، فمعظم القراء يطلبون من حضرتكم الإفصاح عما ترون فيها
لأن المسألة عظيمة؛ إذ أساسها تاريخ الإسلام والصحابة الذين هم الأسوة الحسنة في
أعمالهم وهم نقلة الحديث وهم الثقات فيما يروون، وأنا واثق أن كلمة منكم ليست
ككلمة من غيركم، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق إلى الحق والسلام) .
(المنار) قد صرحنا في تقريظ القصة الأخيرة بأننا لم نقرأ القصص التي
ينشئها صاحب الهلال في التاريخ الإسلامي فنحكم لها أو عليها، وإنما ذكرنا أننا
قرأنا في المؤيد نقدًا عليها وعلمنا أن بعض الفضلاء ناقمين من مؤلفها؛ لأنه وصف
بعض رجال السلف الكرام بالعشق الذي لا يليق بمقامه، وقلنا في القصة الأخيرة
إننا رأيناها خالية من هذا العيب، وهذا دليل على إنصاف المؤلف وعمله بما يقتضيه
نقد الناقد برجوعه عن نسبة العشق إلى الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم.
والحاصل أن ما تنتقد به هذه القصص أمران أحدهما عدم حفظ كرامة السلف
بأن ينسب إليهم ما لا يليق بهم، وقد كان المؤلف وقع في هذا تقليدًا للإفرنج الذين لا
يتحامون مثله، ويظهر أنه رجع عنه إرضاءً لقراء ما يكتب من المسلمين، وثانيهما
اشتباه الحق بالباطل في سرد وقائع التاريخ ممزوجًا بأخبار الغرام الكاذبة ونحن
نرى أن المقدمة التي نقلناها عنه تبرئه من هذا النقد إلا أن تكون غير صادقة، فإذا
كان يقول إن كل ماعدا الحكاية الغرامية من القصة هو من التاريخ المنقول فلا
سبيل إلى تخطيئه إلا ببيان أن بعض ما في تلك القصص وراء الحكاية الغرامية التي
تتخللها غير صحيح أو أن هناك اشتباهًا بين الحكاية والتاريخ، فعلى المنتقد
الشواهدُ والبيناتُ إذا ادعى هذا، وعلينا أن ننشره ونبين رأينا فيه والله يوفقنا جميعًا
لما يحبه ويُرضِيه.
__________(5/397)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسيح الهند
ملأ هذا الرجل المدعي المهدية والمسيحية الدنيا صراخًا ونشر الكتب
والرسائل الناطقة بدعواه في الهند ثم في سائر الأقطار الإسلامية، ولكن لا يتفهم
أحد حقيقة مراده، والأصول التي يدعو إليها في كتبه ورسائله كلها سجع كسجع
الكهان، بل هو أقل وأضعف، فإن صبر الإنسان على قراءته ليفهم مراده يرجع إلى
ذهنه بعد القراءة فلا يجد فيه إلا إطراء هذا المدعي أو الدعيّ نفسه والإغراق في
الثناء عليها وذم الذين لا يؤمنون به ولا يجيبون دعوته وربما يجد في الكتاب
الطويل كلمات في دينه الجديد لا يعقل أحد لها فائدة إلا تزلفه للإنكليز ليتركوه وشأنه
يتمتع بلقبه الذي زعم أن الله منحه إياه (المسيح) كنسخه حكم الجهاد وتحريمه
على المسلمين، وكمدحه الإنكليز والدعاء لهم؛ لأنهم يحمونه.
ليخبرنا هذا المسيح الدجال أين المسلمون المشتغلون بالجهاد فيجعل ركن
دعوته وأسّ إصلاحه إرجاعهم عنه، ألم ير أن معظم بلادهم ذهبت من أيديهم
لإهمالهم أمر المدافعة عنها؟ ألم ير أن الأجانب الذين يعيبونهم بأنهم أمة حربية قد
سبقوهم في الفنون الحربية حتى سادوا عليهم؟ فهل نزل عليه الوحي من أوربا بأن
الحرب عار على المسلمين، فضيلة للمسيحيين، فصدَّق الوحي الأوربي وقام يدعو
إليه قومه ليهديهم ويلم شعثهم ويرأب صدعهم!
يزعم أن الأخبار الواردة بنزول المسيح كلها تصدق عليه، الأخبار ناطقة
بنزول عيسى ابن مريم، فأين عيسى عليه السلام من غلام أحمد القادياني عليه
الملام! الأخبار ناطقة بأن المسيح ينزل من السماء بين ملكين فأين الهند من السماء؟
وأين الملائكة من أتباعه البلداء؟ الأخبار تصف المسيح بما لا ينطبق عليه مهما
تنطع في التأويل، وزخرف الأباطيل، يقول: (إن ظاهر القرآن يدل على أن
المسيح قد توفي وأنهم اكتشفوا قبره) . نقول: إذا سلمنا لك أنه مات لأنه هو
ظاهر القرآن، فهل يدل موته على أنك أنت المراد بالأخبار الواردة في نزوله؟ كلا
فإما أن تؤول الأحاديث تأويلاً مقبولاً، وإما أن تقول إنها غير صحيحة متنًا، وإن
صحت سندًا؛ لأن القرآن متواتر قطعي وهو كلام الله تعالى فكل قول خالفه فهو
باطل إذا كان لا يتفق معه بالتأويل.
يدعي هذا الدجال أنه جاء بخوارق العادات؛ لأنه ألف كتابًا عظيمًا في عينه
وحقيرًا في أعين الناس، لما فيه من الهذيان والوسواس فإذا كان التأليف السخيف
دليل المهدية والمسيحية، فهل يكون التأليف الذي يستحسنه جميع العقلاء دليلاً على
الألوهية؟ أيظن هذا الغافل أن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم لأنه كتاب مؤلف؟ كلا إنه معجزة؛ لأنه اشتمل على أعلى العلوم الإلهية
والاجتماعية التي اهتدى بها الناس وصلحت عقائدهم وأخلاقهم، وقد ظهر مع ذلك
بلسان أمي لم يتعلم شيئًا؛ فهذا هو الوجه الأعلى في إعجازه، ومن وجوهها أنه
وصل من البلاغة إلى حد عجزت عن بلوغه البلغاء مع أنَّ الجائي به لم يكن معروفًا
بالبلاغة، ومن بلغ الأربعين ولم يعرف له امتياز بالشيء فلا يعقل أن ينتقل مرة
واحدة إلى درجة يفوق بها جميع الناس بذلك الشيء إلا بإمداد من بيده خرق العادات،
والمؤيد مَن شاء بالآيات البينات، وأما زعمه أن الفاتحة تدل على مسيحيته وأن
لفظ الرحمن الرحيم يدل على محمد خاتم الأنبياء وعلى مشيخة أحمد القادياني فهذا
أقبح تلاعب بالقرآن ويمكن أن يستدل صاحبه بكل كلام على كل شيء لأنه لا يتقيد
بلغة ولا عقل ولا فهم، فعسى أن يرجع هذا القادياني إلى رشده، ونرى الجزر قلل
من طغيانه ومده.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/398)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار وآراء
(مثال من أمثلة طفولية الأمة إبطال مدرسة فرجللي)
تحمس حسين بك فرجللي واحتمى على نظارة المعارف المصرية منذ أربع
سنين؛ لأنها لم تقبل بعض أولاده في مدارسها وسوَّل له تحمسه أن ينشئ مدرسة
ينسبها إلى نفسه تكون حجة على (وطنيته) وزلفى يتزلف بها إلى أميره وسلطانه
لأنها ضد المحتلين؛ فأوحى إلى الجرائد أن تنوه به فنوهت وساعدناها نحن على
تنويهها؛ لأن إنشاء المدارس الأهلية هو أفضل عمل يعمله الأهلون لأمتهم وبلادهم،
والرياء قنطرة الإخلاص، كما يقول الصوفية، ومما تبجح به وافتخر أن مدرسته
تزيد على مدارس الحكومة بتعليم التركية إثباتًا لجنسيته وبتعليم الدين خدمة للملة،
وقد كان أول دليل على انفراد زاوية الخلف بين القول والعمل أن اللجنة التي عقدها
في داره لانتخاب المعلمين للمدرسة عرض عليها فيمن عرض من المعلمين رجل
اعترفت اللجنة بأنه أقدر المعروضين على تعليم الدين والعربية ولكن فرجللي بك
ومستشاريه من الأحداث الذين يسمون أنفسهم (الشبيبة المصرية الحقة) ويمتازون
بكثرة اللغط بالوطنية المبهمة لم يقبلوا هذا المعلم؛ لأنه ليس مصريًّا، فلم تشفع
لذلك الرجل عند هؤلاء الوطنيين ديانته الإسلامية، ولا جنسيته العثمانية.
مع هذا كنا ندعو أن يثبت هذا الرجل في عمله حبًّا في المحمدة ولكن بلغنا في
هذه الأيام أنه لم يتم على إجازة المدرسة الصيفية الشهر حتى أرسل إلى معلميها
يخبرهم بعزلهم وإبطال المدرسة، واختار هذا الوقت ليحرم الأساتذة من أجورهم
مدة الإجازة.
الأمة في طفولية، وسقوط الطفل ليس بعجيب، وإنما العجيب ثباته فإذا
سقطت مدرسة فرجللي فإن من ذوي المدارس الأهلية من هم أقوى عزيمة منه
ولذلك ثبتت مدارسهم كالمدرسة العثمانية وكمدرسة الماجدي وغيرها، فلا تيأس إذا
سقط قوم ونهض قوم ما دمنا نرى الأمة متحركة لطلب العلم والعمل على أننا نرجو
أن يثوب فرجللي بك لرشده وينثني عن عزمه الأخير والله الموفق وهو نعم
النصير.
* * *
(الوباء والعدوى)
ثبت بالمشاهدة أن في قيء المصاب بالهيضة الوبائية وبرازه مادة سامة حية
تنمو وتزيد في الجوف الذي تدخله، فالعدوى التي يقولها الأطباء هي انتقال هذه
المادة السامة من شخص إلى آخر كما ينتقل السوس والبق والثعابين، إلا أن الفرق
بين جنة الوباء وغيرها أن الأولى لا ترى إلا بالنظارة، فالاحتياط الصحي هو ما
يمنع انتقال جنة الوباء من مريض إلى صحيح والدواء الذين يطهرون به أمتعة
المصاب كالدواء الذي يقتل البق والسوس، فما معنى إنكار هذه العدوى باسم الدين
ممن لا يعرفون دينًا ولا دنيا؟
__________(5/400)
غرة جمادى الآخر - 1320هـ
4 سبتمبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد عبده
__________
الاضطهاد في النصرانية والإسلام
المقالة الثانية لذلك الأستاذ الحكيم والفيلسوف العليم
ذكرت الجامعة في الجزء الثامن من السنة الثالثة في سياق الكلام على ما
جرى لابن رشد أن للناس آراء في: هل الدين المسيحي أوسع صدرًا في احتماله
مجاورة العلم والفلسفة، أو أن الدين الإسلامي هو الأرحم خلقًا والأوسع حلمًا من
الدين المسيحي في قبول أهل النظر في الكون إذا نزلوا بداره، ولاذوا بجواره،
وذكرت أن للقائلين بتسامح الدين المسيحي مع العلم وأهله دون الدين الإسلامي أن
فولتير وديدرُو ورُوسُّو ورِنَان قالوا فيما يضاد الدين ما قالوا ولم يصابوا بضرر،
وابن رشد لم يقل شيئًا سوى أنه قرر ما قال أرسطو وأوضحه مع تصريحه
بسلامة اعتقاده ومع ذلك أهين وبصق على وجهه.
وللقائلين بسعة حلم الإسلام أن الإسلام لم يحكم بإحراق أحد لمجرد الزيغ في
عقيدته، وكم حكمت المسيحية بذلك!
ثم جعلت أهل الرأي الأول آخر من يتكلم وقالت: (فيردُّ عليهم الأولون
بقولهم: هل يجب أن يكون التسامح مع القريب فقط، أم مع القريب والغريب معًا؟
ثم، ألا تذكرون الحروب والفتن التي قامت بين شعوب المسلمين وحكامهم بسبب
الاعتقادات الدينية فأضعفت أمتهم وفرقت كلمتهم، فهل يجوز أن تسموا محاربة
شخص واحد وإعدامه (محاربة للإنسانية) ولا تُسموا كذلك محاربة شعب لشعب
وأمة لأمة) اهـ.
ثم قالت الجامعة: إنها لا تفصل بين القولين، ولكنها فصلت فيهما فصلين
الأول في قولها: (إنا نرى أن السلطة المدنية في الإسلام مقرونة بالسلطة الدينية
بحكم الشرع؛ لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معًا، وبناءً على ذلك فإن التسامح
يكون في هذه الطريقة أصعب منه في الطريقة المسيحية، فإن الديانة المسيحية قد
فصلت بين السلطتين فصلاً بديعًا مَهَّدَ للعالَم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدن
الحقيقي وذلك بكلمة واحدة: (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) .
وبناءً على ذلك؛ فإن السلطة المدنية في هذه الطريقة إذا تركت للسلطة الدينية
مجالاً للضغط على حرية الأفراد من أجل اعتقاداتهم الخصوصية فضلاً عن قتلهم،
وسقي الأرض بدمائهم البريئة، فإنها تجني جناية هائلة على الإنسانية، وعلى ذلك
لا يكون في هذه الطريقة من التسامح أكثر مما في تلك إذا بدا منها نقص، ولو كان
هذا النقص أخذ شقيقتها؛ لأنه لا نقص أعظم من نقص القادر على التمام، والفصل
الثاني في قولها: (إن العلم والفلسفة قد تمكنا إلى الآن من التغلب على الاضطهاد
المسيحي ولذلك نما غرسها في تربة أوربا وأينع وأثمر التمدن الحديث، ولكنهما لم
يتمكنا من التغلب على الاضطهاد الإسلامي، وفي ذلك دليل واقعي على أن النصرانية
كانت أكثر تسامحًا) اهـ
* * *
(الجواب الإجمالي)
وإني أعجل في الجواب بما يلاقي هذين الحكمين إجمالاً، أما الأول فإن كان
الإنجيل فصل بين السلطتين بكلمة واحدة، فالقرآن قد أطلق القيد من كل رأي
بكلمتين كبيرتين لا كلمة واحدة، قال في سورة البقرة: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى
لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256) وقال في سورة الكهف {وَقُلِ
الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) .
وأما الثاني فأسأل الجامعة في جوابه: أين الاضطهاد الواقع على العلماء اليوم
عند المسلمين؟ وأين أولئك العلماء المضطهدون؟ وأريد بالعلماء أولئك الذين
يساوون مَن ذكرتهم من فولتير وديدرو وروسو وأمثالهم، وكيف ساغ لها أن تقول
ما تقول، وهي في أرض مصر، ومصر بلاد إسلامية وحالها كما ترى؟ فإذا أرادت
شاهدًا على حال المسيحية والعلم، فلتمر بنظرها اليوم على أسبانيا، ولتقف برهة
من الزمان ثم لتحكم، يمكنها أن تعد من طلبة العلوم المسلمين مئين في مدارس
المسيحيين من جزويت وفرير وأميركان وهي مدارس دينية، خصوصًا مدارس
الجزويت، فهل يمكنني أن أجد طالبًا واحدًا مسيحيًّا في مدرسة دينية إسلامية يباح
الدخول فيها لكل طالب علم من أي ملة؟ لا نجد إلا قليلاً منهم في مدارس الحكومة
لعلمهم أنها مدارس رسمية لم يقم بناء تعليمها على الدين، فهل سمع أن والدًا
اضطهد لأنه بعث بولده إلى مدرسة مسيحية يديرها قسوس مسيحيون؟ ألا يعد
هذا من تسامح الإسلام مع العلم اليوم؟
لولا أن موضوع كلامي محدود باعتبار التسامح بالنسبة إلى العلم والفلسفة
وحدهما لذكرت لصاحب الجامعة أنه يوجد في بلاده طائفتان تعد إحداهما بالألوف
وتزعم كل منهما أن لها نسبة إلى الإسلام وهي تعتقد بما لا ينطبق على أصل من
أصوله حتى أصل التوحيد والتنزيه عن الحلول ولا تقول بفرض من فروضه
المعلومة منه بالضرورة، وأجمع فقهاء الأمة على أنهما من قبيل المرتدين والزنادقة
لا تؤكل ذبائح أفرادهما، ولا يباح لهم أن يتزوجوا من المسلمات، وإنما اختلفوا في
قبول توبة من تاب منهم، ومن العلماء من قال لا تقبل توبته، وهم مع ذلك
عائشون بجوار المسلمين ومضى عليهم ما يزيد على تسعمائة سنة وقد كانوا تحت
سلطان المسلمين والإسلام في أوج القوة، دخلوا في حكم الأتراك وهم أيام كان ملك
فرنسا يستنجد بملكهم وكانت عساكرهم على أسوار فيينا، كان أولئك الذين يراهم
المسلمون قد خرجوا من دينهم وأَسَرُّوا عقيدةً تُنَاقض عقيدتهم قد ظهروا بأعمال
تضاهي أعمالهم وهم جيرانهم وتحت أيديهم وفي مُكْنتهم محوهم، ومع ذلك عاشوا إلى
اليوم ولهم أحبة وأصدقاء بين المسلمين، وللمسلمين بينهم مصافون وأودَّاء، فهل عُهِدَ
مثل ذلك عن المسيحيين؟
غير أن موضوع قولي محدود كما قلت فلا أخرج عنه وأراني أضفت فيه
بكلمتي المجملة، ولكن لا يكفي لبيان ما عرضت به الجامعة في قولها (هل يجب
أن يكون التسامح مع القريب فقط أو مع القريب والغريب إلخ) ولا لتحقيق الحق
فيما حكمت به في حكمها إلا تفصيل تعرض فيه حالة الدينين مع العلم تحت نظر
القارئ على وجه يمكن معه الحكم عن فهم، ولا تلتبس فيه الحقيقة بالوهم.
* * *
(الجواب التفصيلي)
أرى الجامعة جاءت في كلامها بأربعة أمور آتي بها على حسب ترتيب النسق
في تعبيرها.
(الأول) : أن المسلمين قد تسامحوا لأهل النظر منهم ولم يتسامحوا لمثلهم
من أرباب الأديان الأخرى.
(الثاني) : أن من الطوائف الإسلامية طوائف قد اقتتلت بسبب الاعتقادات
الدينية.
(الثالث) : أن طبيعة الدين الإسلامي تأبى التسامح مع العلم وطبيعة الدين
المسيحي تيسر لأهله التسامح مع العلم.
(الرابع) : أن إيناع ثمرالمدنية الحديثة إنما تمتع به الأوربيون ببركة
التسامح الديني المسيحي؛ فلا بد لي من الكلام على كل واحد من هذه الأمور
الأربعة، وأبتدئ منها بالثاني لقلة الكلام عليه.
* * *
(نفي القتال بين المسلمين لأجل الاعتقاد)
لم يُسمع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين (الآخذين بعقيدة السلف)
والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة
والمعتزلة مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة
كما لم يسمع بأن الفلاسفة الإسلاميين تألفت لهم طائفة وقع الحرب بينها وبين
غيرها، نعم سمع بحروب تعرف بحروب الخوارج كما وقع من القرامطة وغيرهم
وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في
طريقة حكم الأمة، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ولكن لأجل
أن يغيروا شكل حكومة، وما كان من حرب بين الأمويين والهاشميين فهو حرب
على الخلافة وهي بالسياسة أشبه بل هي أصل السياسة.
نعم وقعت حروب في الأزمنة الأخيرة تشبه أن تكون لأجل العقيدة وهي ما
وقع بين دولة إيران والحكومة العثمانية وبين الحكومة العثمانية والوهابيين ولكن
يتسنى لباحث بأدنى نظر أن يعرف أنها كانت حروبًا سياسية ويبرهن على ذلك
بالولاء المتمكن بين الحكومتين اليوم مع بقاء الاختلاف في العقيدة وبين الحكومة
العثمانية وابن الرشيد أمير الوهابيين.
أما الحروب الداخلية التي حدثت بعد استقرار الخلافة في بني العباس
وأضعفت الأمة وفرقت الكلمة فهي حروب منشأها طمع الحكام وفساد أهوائهم وحبهم
الاستئثار بالسلطان دون سواهم ومصدر ذلك كله جهلهم بدينهم وارتخاء حبل التمسك
به في أيديهم، وأكبر داء دخل على المسلمين في هممهم وعقولهم إنما دخل عليهم
بسبب استيلاء الجهلة على حكومتهم.
أقول: (الجهلة) وأريد أهل الخشونة والغطرسة الذين لم يهذبهم الإسلام ولم
يكن لعقائده تمكن من قلوبهم، ولو رزق الله المسلمين حاكمًا يعرف دينه ويأخذهم
بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن الكريم في إحدى اليدين، وما قرر الأولون وما
اكتشف الآخرون في اليد الأخرى ذاك لآخرتهم وهذا لدنياهم وساروا يزاحمون
الأوربيين فيزحُمونهم.
ما لنا وللحكام نعرض لهم؟ الذي عليّ أن أقول ولا أخشى منازعًا: إنه لم
تقع حرب معروفة بين المسلمين للحمل على عقيدة من العقائد أو على تركها، على
أن هذا الأمر الذي جاءت به الجامعة، وألجأتنا إلى الكلام فيه خارج عن الموضوع
بالمرة؛ لأن الكلام في التسامح الديني مع العلم، لا فى تسامح عقيدة مع عقيدة أو
دين مع دين وإلا لأوردنا لها من حروب الطوائف المسيحية بعضها مع بعض
وحروبها مع غيرها ما يستغرق أجزاء الجامعة بقية هذه السنة إذا أوجزنا ما
استطعنا، هل أذكرها بما كان يقع في القسطنطينية من سفك الدماء بين
الأرثوذوكس والكاثوليك على عهد القياصرة الرومانيين؟ هل أذكرها بحادثة
برتملي سنتهلير التي سفك فيها الكاثوليك دماء إخوانهم البروتستانت وأخذوهم في
بيوتهم على غرة وقتلوهم نساء ورجالاً وأطفالاً، بماذا أذكّر الجامعة من أمثال هذه
الوقائع التي اسود لها لباس الإنسانية، وتسلّبت لحدوثها البشرية؟ هل يمكن لأحد
أن يروي حادثة مثلها وقعت بين شعوب المسلمين بعضهم مع بعض لخلاف في
العقيدة مهما عظم الاختلاف.
* * *
(تساهل المسلمين مع أهل العلم والنظر من كل ملة)
ثم أرجع إلى الأمر الأول من الأمور الأربعة؛ لأن الكلام عليه أقل منه على
الأمر الثالث، وإنني لا أستدل على رعاية الإسلام للحكماء من الملل غيرالمسلمة
بقول كاتب مسلم، وإنما أرجع في جميع ما أذكر إلى كتب المؤرخين والفلاسفة من
المسيحيين وأذكر أسماء جماعة من المسيحيين وغيرهم بلغوا من الحظوة عند
الخلفاء وعامة المسلمين وخاصتهم ما لم يبلغه غيرهم قال المستر دراير أحد
المؤرخين وكبار الفلاسفة من الأمريكان: (إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء
لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على
مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرًا من الأعمال الجسام، ورقوهم إلى المناصب
في الدولة حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا مسنيه)
(هو يوحنا بن ماسويه الشهير) وقال في موضع آخر: (كانت إدارة المدارس
مفوضة مع نبل الرأي وسعة الفكر من الخلفاء إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود تارة
أخرى، لم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذي ولد فيه
بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة.
قال الخليفة العباسي الأكبر المأمون: (إن الحكماء هم صفوة الله من خلقه
ونخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وارتفعوا
بقواهم عن دنس الطبيعة وهم ضياء العالم وهم واضعو قوانينه ولولاهم لسقط العالم في
الجهل والبربرية) .
وقال في موضع آخر: (إن العرب قد زحفوا بجيش من أطبائهم اليهود
ومؤدبي أولادهم من النسطوريين ففتحوا من مملكة العلم والفلسفة ما أتوا على حدوده
بأسرع مما أتوا على حدود مملكة الرومانيين) . ولست في حاجة إلى ذكر ما أسس
الخلفاء والملوك من المدارس وأقاموا من المراصد وما حشدوا من الكتب إلى
المكاتب؛ لأن هذا خارج عن بحثنا الآن، وسيرد عليك شيء منه فيما بعد.
***
(طائفة من الحكماء والعلماء الذين حظوا عند الخلفاء)
أذكر ممن اشتهر من الحكماء بالحظوة عند الخلفاء جيورجيس بن بختيشوع
الجنديسابوري طبيب المنصور كان فيلسوفًا كبيرًا علت منزلته عند المنصور؛ لأنه
كانت له زوجة عجوز لا تُشتهى فأشفق عليه المنصور وأنفذ إليه بثلاث جوار
حسان فردّهن، وقال: إن ديني لا يسمح لي بأن أتزوج غير زوجتي ما دامت حية.
فأعلى مكانته حتى على وزرائه.
ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار العامة وخرج إليه ماشيًا يسأل عن حاله
فاستأذنه الحكيم في رجوعه إلى بلده ليدفن مع آبائه فعرض عليه الإسلام ليدخل الجنة
فقال: رضيت أن أكون مع آبائي في جنة أو نار. فضحك المنصور وأمر تبجهيزه
ووصله بعشرة آلاف دينار (وهو المنصور الدوانيقي المشهور بالإمساك وكزازة
اليد) وأوصى من معه بحمله إذا مات في الطريق إلى مدافن آبائه كما طلب، ثم
سأله عمن يخلفه عنده فأشار إلى عيسى بن شهلاثا أحد تلامذته فأخذه المنصور مكان
جيورجيس فطفق يؤذي القسوس والبطارقة ويهددهم بمكانه عند الخليفة لينال منهم
رغائبه فشعر الخليفة بذلك فطرده.
وممن حظي عند المنصور نوبخت المنجم وولده أبو سهل وكانا فارسيين على
مذهب الفُرس ثم كانت ذرية مسلمة لأبي سهل، وكانوا جميعًا منجمين لهم شهرة في
علوم الكواكب فائقة.
وممن حظي بالمكانة العليا عند الخليفة المهدي: تيوفيل بن توما النصراني
المنجم، وكان على مذهب الموارنة من سكان لبنان، وله كتب في التاريخ جليلة
ونقل كتاب أميروس إلى السريانية بأفصح عبارة.
وممن ارتفع شأنه عند الرشيد من الفلاسفة: بختيشوع الطبيب وجبريل ولده
ويوحنا بن ماسويه النصراني السرياني، ولاه الرشيد ترجمة الكتب القديمة طبية
وغيرها وخدم الرشيد ومن بعده إلى المتوكل، وكان يعقد في داره مجلسًا للدرس
والمناظرة ولم يكن يجتمع في بيت للمذاكرة في العلوم من كل نوع والآداب من كل
فن مثل ما يجتمع في بيت يوحنا بن ماسويه.
وممن علا قدره في زمن المأمون يوحنا البطريق مولى المأمون أقامه كذلك
أمينًا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة.
كذلك ارتفع شأن سهل بن سابور، وسابور ابنه وكانا نصرانيين وولي سابور
بن سهل بيمارستان جنديسابور.
وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيبًا عند المعتصم ولما مات جزع عليه
جزعًا شديدًا وأمر بأن يدفن بالبخور والشموع على طريقة النصارى وكان بختيشوع
بن جبريل عند المتوكل يومًا فأجلسه بجانبه وكان عليه درَّاعة حرير رومية بها فتق
فأخذ المتوكل يحادثه يعبث بالفتق حتى وصل إلى النيفق (هو ما اتسع من الثوب)
ودار الكلام بينهما حتى سأله المتوكل: بماذا تعلمون أن الموسوس
(المصاب بخبل في عقله) يحتاج إلى الشد؟ فقال بختيشوع: إذا عبث بفتق
دراعة طبيبه حتى النيفق شددناه فضحك المتوكل حتى استلقى.
وفي أيام المتوكل اشتهر حنين بن إسحق النصراني العبادي وهو من أشهر
المترجمين لكتب أرسطو وغيره وامتحن المتوكل صدقه فظهرت له عزيمة لا تفلّ؛
فأقطعه إقطاعات واسعة وكان قد عرف بفصاحة العبارة وحسن الترجمة في زمن
المأمون وهو فتًى؛ فكلفه بترجمة الكتب وكان يعطيه وزن ما يترجم ذهبًا وكانت
بينه وبين الطيفوري النصراني محاسدة أفضت إلى طلب الحكم على حنين في
مجلس الأساقفة بالحُرْمِ من الكنيسة فمات غمًّا لاضطهاد أهل طائفته له مع عزته
وعلو قدره عند الخليفة وهذا الطيفوري أيضًا كان من المقربين عند الخلفاء.
وممن ارتفع شأنه عند الخلفاء والخاصة والعامة في زمنه أيام خلافة الراضي:
متى بن يونس المنطقي النصراني النسطوري كان مفننًا في جميع العلوم العقلية
أخذ عنه أبو نصر الفارابي وانتهت إليه الرياسة في بغداد وكان من أهل دير قنى
ونشأ في مدرسة مارماري وقرأ على روفائيل وبنيامين الراهبين اليعقوبيين.
ومن المقربين عند الخليفة: قسطا البعلبكي من فلاسفة دولة الإسلام وهو
النصراني، طلبه الخلفاء إلى بغداد لأجل الترجمة ثم يحيى بن عدي بن حميد بن
زكريا المنطقي انتهت إليه الرياسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته. وقرأ على متى
ابن يونس وعلى أبي نصر الفارابي.
ومنهم أبو الفرج الطبيب فيلسوف عالم، قالوا: كان كاتب الجاثليق ومتميزًا
في النصارى ببغداد وكان يقرئ صناعة الطب في البيمارستان العضدي وكان
معاصرًا للشيخ الرئيس ابن سينا والرئيس يمدح طبه ولا يحمد فلسفته وله كلام فيه.
وممن كانت له المكانة الرفيعة عند الخلفاء والخاصة والعامة ثابت بن قرة
الحراني الصابئ من طائفة الصابئين المعروفة، وتربى في بيت محمد بن موسى
بن شاكر الفلكي المشهور وبلغ في علوم الفلسفة مبلغًا لم يدانه فيه غيره، وله تآليف
كثيرة في المنطق والطب والرياضيات وبلغ عند المعتضد مقامًا تقدم فيه عنده على
وزرائه، ووُلِدَ ثابت هذا سنة إحدى عشرة ومئين بحران ثم كان ابناه إبراهيم وسنان
على قدم أبيهما، ومن حفدته أبو الحسن ثابت بن قرة، وكان ثابت وإبراهيم وسنان
صابئين ولهم من المنزلة ما علمت ومدحهم كثير من شعراء المسلمين وهم صابئة.
ماذا أعد للجامعة من الفلاسفة والحكماء من الملل المختلفة الذين وسعهم صدر
الإسلام، ولم يضن عليهم بالرعاية والاحترام، هل تريد أن أتمم الكلام بذكر كثير
من فلاسفة الإسلام المسلمين الذين نالوا أسمى الدرجات وأعلى المقامات عند الخلفاء
والملوك، هل أنا في حاجة إلى ذكر فيلسوف الإسلام أبي سيف يعقوب الكندي وهو
بصري الأصل.
أين الأمير إسحاق الذي كان أميرًا للمهدي والرشيد على الكوفة
وهو من ذرية الأشعث بن قيس أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
عالمًا بالطب والفلسفة والهيئة والحساب والموسيقى واشتغل بالترجمة، كما اشتغل
غيره بها فترجم كثيرًا من كتب الفلسفة وأوضح الغامض منها، وكانت له المكانة
العليا عند المأمون والمعتصم وولده أحمد، هل أنا في حاجة إلى ذكر بني موسى بن
شاكر محمد وأحمد والحسن الذين اشتغلوا في مساحة الكرة الأرضية ومعرفة محيطها
وقطرها وما كان لهم من المنزلة عند الأمراء والخلفاء؟ أأذكر ابن سينا ومنزلته في
قومه ووصوله إلى مسند الوزارة عند شمس الدولة؟ أم أذكر الفارابي وما كان له
من المكانة عند سيف الدولة بن حمدان.
لا ريب أن أبا العلاء المعري يصلح أن يكون رجلاً ممن تعني الجامعة بنشر
تراجمهم وقد قال ما لم يقل بمثله فولتير وروسو، وقد مات مع ذلك على فراشه
وقبره اليوم مزار يُرْحَل إليه في بلده.
أظن أنه يسهل بعد سرد ما عددناه أن يعرف قراء الجامعة أن الإسلام كان
يوسع صدره للغريب كما يوسعه للقريب بميزان واحد وهو ميزان احترام العلماء
للعلم، ويسهل عليَّ أن ألتمس العذر للجامعة بأنها عندما كتبت ما كتبت تمثلت لها
بعض حوادث قيل: إنها حدثت للدين وما حدثت له، بل كان سبب حدوثها إما سياسة
خرقاء أو جهالة عمياء أو تَأْرِيث بعض السفهاء، لا أطيل خوف الإملال وأنتقل
الآن إلى الأمر الثالث وهو المقابلة بين طبيعة الدينين، وهو أهم مما سبق ومما
سيلحق.
* * *
(طبيعة الدين المسيحي وأصوله)
(تمهيد) ظنت الجامعة أن الدين المسيحي فصل بين السلطة الدينية
والسلطة المدنية؛ ولذلك كان في طبيعته التسامح، أما الدين الإسلامي فمن أصوله
أن السلطان ملك وخليفة ديني وذلك مما يصعب معه التسامح في رأيها.
ليس هذا بكافٍ في بيان طبيعة كل من الدينين واستعدادها للتسامح مع العلم أو
مع أية عقيدة تخالفها بل لا بد من بيان أركان الدين وأهم أصوله التي ترجع إليها
جميع الفروع، وعنها تصدر الآثار الحقيقية.
عند النظر في أي دين للحكم له أو عليه في قضية من القضايا يجب أن يؤخذ
ممحصًا مما عرض عليه من بعض عادات أهله أو مُحْدَثَاتهم التي ربما تكون جاءتهم
من دين آخر، فإذا أريد أن يحتج بقول أو عمل لاتباع ذلك الدين في بيان بعض
أصوله فليؤخذ في ذلك بقول أو عمل أقرب الناس إلى منشأ الدين، ومن تلقوه على
سذاجته التي ورد بها من صاحب الدين نفسه، وإنني أوجز القول في إيراد الأصول
الأولى التي وردت في الأناجيل المعروفة الآن في أيدي المسيحيين وجاءت في كلام
أئمتهم الأولين. ثم إيراد ما جر إليه الأخذ بتلك الأصول بحكم طبيعة الدين.
* * *
(الأصل الأول للنصرانية الخوارق)
أول أصل قام عليه الدين المسيحي وأقوى عماد له هو خوارق العادات، تقرأ
الأناجيل فلا تجد للمسيح عليه السلام دليلاً على صدقه إلا ما كان يصنع من
الخوارق وعددها في الأناجيل يطول شرحه؛ ثم إنه جعل ذلك دليلاً على صحة الدين
لمن يأتي بعده فجعل لأصحابه ذلك كما تراه في الإصحاح العاشر من إنجيل مَتَّى
وغيره، وإذا تتبعت جميع ما قال الأولون من أهل هذا الدين تجد خوارق العادات من
أظهر الآيات على صحة الاعتقادات، ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي
يصدر مخالفًا لشرائع الكون ونواميسه، فإذا ساغ أن يكون ذلك لكل من علا كعبه
في الدين؛ لم يبقَ عند صاحب الدين ناموس يعرف له حكم مخصوص.
زاد الإنجيل على هذا أن الإيمان ولو كان مثل حبة خردل كافٍ في خرق
نواميس الكون كما قال في الإصحاح السابع عشر من متى: (فالحق أقول لكم لو
كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك،
فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم) وفي الحادي عشر من مرقس: (23
لأني الحق أقول لكم: إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر، ولا يشك
في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له 24 لذلك أقول لكم:
كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم) .
فكل بحث يؤدي إلى أن للكون شرائع ثابتة، وأن للعلل والشرائط أو الأسباب
أو الموانع أحكامًا في معلولاتها أو ما شرطت فيه أو ما تسبب عنها أو ما استحال
وجوده لوجودها كان مضادًا لهذا الأصل في أي زمن، وقد كان كل علم من علوم
الأكوان لا بد فيه من هذا البحث فكل علم مضاد لهذا الأصل، ثم إن صاحب
الاعتقاد بهذا الأصل لا يحتاج إلى البحث في الأسباب والمسببات؛ لأن اعتقاده في
الشيء أن يكون وإرادته لأن يكون كافيان في حصوله فهو في غنًى عن العلم،
والعلم عدو لما يعتقد، فما أصعب احتماله إذا جاء يزاحمه في سلطانه.
* * *
(الأصل الثاني للنصرانية سلطة الرؤساء)
وبعد هذا الأصل أصل آخر وهو السلطة الدينية التي منحت للرءوساء على
المرءوسين في عقائدهم وما تُكنه ضمائرهم، وقد أحكم هذه السلطة ما ورد في
16-19 من إنجيل متى: (أعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على
الأرض يكون مربوطًا في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في
السموات) وفي 18-18 منه: (الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في
السماء) .
فإذا قال الرئيس الكهنوتي لشخص: إنه ليس مسيحيًّا صار كذلك، وإذا قال:
إنه مسيحي فاز بها فليس المعتقد حرًّا في اعتقاده يتصرف في معارفه كما يرشده عقله
بل عَيْنَا قلبه مشدودتان بشفَتَيْ رَئيسه؛ فإذا اهتزت نفسه إلى بحث أوقفها قابض على
تلك السلطة، وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه
النصرانية خمسة عشر قرنًا طوالاً.
* * *
(الأصل الثالث للنصرانية ترك الدنيا)
وبعد هذين الأصلين أصل ثالث، وهو التجرد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة
تجد هذا الأصل في الأناجيل وفي أعمال الرسل وكلما قرأت في الكتب الأولى
عثرت به، وتجد الأوامر الصادرة بالانقطاع إلى الملكوت من عالم الملك صريحة
في الإصحاح السادس والعاشر والتاسع عشر من إنجيل متى فما جاء في السادس:
(لا تقدرون أن تخدموا الله والمال 25؛ لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما
تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام،
والجسد أفضل من اللباس (إلى أن قال) 33 ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره
وهذه كلها تزاد لكم 34 فلا تهتموا للغد؛ لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره،
وقال في التاسع عشر: 23 الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات
24 وأقول لكم. إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت
الله) وفي العاشر: (9 لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا نحاسًا في مناطقكم 10 ولا
مزودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا، إلخ) .
وحث على الرهبانية وترك الزواج وفي ذلك قطع النسل البشري قال في
(19من متى) : (يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع
أن يقبل فليقبل) ثم إن ملكوت السموات قد نيط أمره بالإيمان المجرد عن النظر في
الأكوان، فماذا يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم،
والعلم لا دخل له في شئون الآخرة والدنيا قد حرمت عليه، لا ريب أن همه يكون
في الصلاة وصرف القلب بكليته إلى العبادة دون سواها وليس الفكر في الخليقة من
العبادة عنده، فإن عبادة الإنجيل ليست شيئًا سوى الإيمان والصلاة.
* * *
(الأصل الرابع للنصرانية الإيمان بغير المعقول)
وبعد هذه الأصول أصل رابع، وهو عند عامة المسيحيين أصل الأصول لا
يختلف فيه كاثوليك ولا أرثوذكس ولا بروتستانت، وهو أن الإيمان منحة لا دخل
للعقل فيها وأن من الدين ما هو فوق العقل بمعنى ما يناقض أحكام العقل وهو مع
ذلك مما يجب الإيمان به قال القديس أنسيلم: (يجب أن تعتقد أولاً بما يعرض على
قلبك بدون نظر ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت) فليس الإيمان وهو الوسيلة
الفردة إلى النجاة في حاجة إلى نظر العقل والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل
فيه نظره، وقول القديس: (ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت) نوع من
التفصيل على النزعة البشرية إلى الفهم وعلى الميل الفطري إلى تصور ما يتعلق
به الاعتقاد وإلا فمجرد الإيمان كافٍ في الخلاص، ثم الويل كل الويل لطالب
الفهم إذا أدى اجتهاده إلى شيء يخالف ما تعلق به إيمانه، فكأن معنى الفهم أن يخلق
المؤمن لنفسه ما يسلي به نفسه على إيمانه بغير المفهوم.
* * *
(الأصل الخامس للنصرانية الكتب المقدسة
حاوية كل ما يحتاج إليه البشر في المعاش والمعاد)
ثم ينضم إلى الأصول الأربعة أصل خامس، وهو أن الكتب المعروفة بالعهد
القديم والعهد الجديد تحتوي على كل ما يحتاجه البشر إلى علمه، سواء كان متعلقًا
بالاعتقادات الدينية والآداب النفسية والأعمال البدنية مما يؤدي إلى نيل السعادة في
الملكوت الأعلى، أو كان من المعارف البشرية التي يتأتى للعقل الإنساني أن يتمتع
بها قال تيرتوليان - وهو أفضل من وصف الاعتقاد المسيحي في نهاية القرن
الثالث قبل أن تعرض عليه البدع الكثيرة -: (إن عقائد المسيحية أسست على
الكتب السماوية، ودليل صحة هذه الكتب قِدَمُها، وكونها أقدم من كتاب أميروس،
وأقدم من أقدم أثر معروف عند الرومانيين، وأقدم من تأسيس الحكومة الرومانية
نفسها، والزمن ناصر الحقيقة، ثم تحقق النبوّات التي وردت فيها) ثم قال: (إن
أساس كل علم عندهم هو الكتاب المقدس، وتقاليد الكنيسة، وأن الله لم يقصر
تعليمنا بالوحي على الهداية إلى الدين فقط، بل علمنا بالوحي كل ما أراد أن نعلمه
من الكون؛ فالكتاب المقدس يحتوي من العرفان على المقدار الذي قدر للبشر أن
ينالوه من جميع ما جاء في الكتب السماوية من وصف السماء والأرض وما فيها،
وتاريخ الأمم مما يجب تسليمه مهما ضارب العقل أو خالف شاهد الحس، فعلى
الناس أن يؤمنوا به أولاً، ثم يجتهدوا ثانيًا في عمل أنفسهم على فهمه؛ أي على
تسليمه أيضًا كما ترى، وقال بعض فضلائهم: إنه يمكن أن يؤخذ فن المعادن بأكمله
من الكتاب المقدس.
* * *
(الأصل السادس للنصرانية
التفريق بين المسيحيين وغيرهم حتى الأقربين)
ينظم تلك الأصول كلها أصل سادس وهو آخرها فيما أرى، ذلك الأصل هو
الذي ورد في الصحاح العاشر من إنجيل متّى وهو: (34 لا تظنوا أني جئت
لألقي سلامًا على الأرض ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا 35 فإني جئت لأفرق
الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها 36 وأعداء الإنسان أهل بيته)
وقد صرح في عدة مواضع من الإنجيل أن الإخلال بشيء من محبة المسيح أو
بالانقياد إلى جميع ما أوصى به موجب للهلاك، وإن كان قد جاء في مواضع كثيرة
أن الإيمان وحده كاف في الخلاص غير أن روح الشدة التي جاءت في قوله: (لا
تظنوا أني جئت لألقي سلامًا إلخ) هي التي بقي أثرها في نفوس الأولين من
المعتقدين بالدين المسيحي وعفت على آثار ما كان يصح أن تستشعره النفوس من
بعض الوصايا الأخر.
* * *
(نتائج هذه الأصول وآثارها)
من هنا أعرض المسيحيون الأولون عن شواغل الكون وصدوا عن سبيل
النظر فيه إظهارًا للغنى بالإيمان والعبادة عن كل شيء سواهما، وحجروا على همم
النفوس أن تنهض إلا إلى الدعوة إلى ذلك الإيمان وتلك العبادة ووسائل الدعوة هي
الإيمان والعبادة كذلك، فإذا نزعت العقول إلى علم شيء من العالم وضعوا أمام
نظرها كتب العهد القديم وحصروا العلم بين دفاتها استغناءً بالوحي عن كل عمل
للعقل سوى فهمه من عباراته وليس يسوغ لكل ذي عقل فهمه بل إنما يتلقى فهمه
من رؤساء الكنيسة خوفًا من الزيغ عن الإيمان السليم (البروتستانت رأوا أنه يجوز
تفسير الكتاب لغير الكنيسة) .
ثم إن إلقاء السيف ووضع التفريق بين الأقارب والأحبة إنما جاء حافظًا لذلك
كله فإذا خطر على قلب أحد خاطر سوء يرمي إلى معارضة شيء من أمور الإيمان
المقررة وجب قطع الطريق على ذلك الخاطر، ولم يجز في شأن صاحبه هوادة ولا
مرحمة، كما أفهمه المسيح بعمله على حسب ما ورد في الإنجيل فقد قيل له: 47
(أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك 48 فأجاب وقال للقائل له: من
هي أمي ومن هم إخوتي 49 ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي) ونحو
ذلك مما يدل على وجوب المقاطعة بين من يعتقد بالدين المسيحي ومن يحيد عن
شيء من معتقده، ولا يخفى أن الشيء يكون بذرة ثم نبتًا ثم شجرًا فانظر إلى ما صار
أمر هذه البدايات بحكم الطبيعة.
وقر في نفوس المسيحيين أن السلامة في ترك الفكر والأخذ بالتسليم وتقرر
عند القوم قاعدة أن: (الجهالة أم التقوى) (وكثير من أهل الأديان مسيحيين
ومسلمين لا يزالون يجرون على هذه القاعدة ببركة ما ورثوا عن أبناء الزمن الغابر)
فحصروا التعليم في الأديار ومنعت الكنيسة أن ينشر التعليم بين العامة إلا ما كان
دعوة إلى الصلاح وتقرير الإيمان على وجه ظاهر وبقي غير القسيسين في جهالة
حتى بأمور الدين وحقائقه وأسراره، ظهرت ذات الذنب التي تنسب إلى هالي في
سنة 1682 فاضطربت لظهورها أوربا ولجأوا إلى البابا واستجاروا به فأجارهم
وطردها من الجو فولّت في الفضاء مذعورة من لعنته ولم تعد إلا بعد خمس وسبعين
سنة! !
لم يكن يسمح لأحد أن يبدي رأيًا يخالف صريح ما في الكتاب وعندما أظهر
بلاج رأيه في أن الموت كان يوجد قبل آدم أي إن الحيوانات كان يدركها الموت
قبل أن يحظى آدم بالأكل من الشجرة قام لذلك ضوضاء وارتفعت جلبة وانتهى
الجدال والجلاد إلى صدور أمر إمبراطوري بقتل كل شخص يعتقد بذلك، يقول
المؤرخ: وهكذا عُدَّ الاعتقاد بأن الموت كان يزور الأحياء قبل آدم جريمة على
الملك.
أحرقت كتب البطالسة والمصريين بالإسكندرية على عهد جول قيصر ثم إن
تيوفيل بطريرك الإسكندرية انتحل أدنى الأسباب لإثارة ثورة في المدينة لإتلاف ما
تبقى في مكتبة البطالسة بعضه بالإحراق وبعضه بالتبديد، قال أوروسيوس المؤرخ:
إنه رأى أدراج المكتبة خالية من الكتب بعد أن نال تيوفيل الأمر الإمبراطوري
بإتلافها بنحو عشرين سنة.
ثم جاء بعد تيوفيل ابن أخته سيريل، وكان خطيبًا مفوهًا له على الشعب سلطان
بفصاحته، وكان في الإسكندرية بنت تسمى هيباتي الرياضية تشغل بالعلوم والفلسفة
وكان يجتمع إليها كثير من أهل النظر في العلوم الرياضية، وكان لا يخلو مجلسها
من البحث في أمور أخر خصوصًا في هذه المسائل الثلاث: (من أنا، وإلى
أين أذهب، وماذا يمكنني أن أعلم) .
فلم يحتمل ذلك القديس سيريل مع أن البنت لم تكن مسيحية بل كانت على دين
آبائها المصريين فأخذ يثير الشغب عليها حتى قعدوا لها وقبضوا عليها في الطريق
وهي سائرة إلى دار ندوتها وجردوها من ثيابها وأخذوها إلى الكنيسة مكشوفة العورة
وقتلوها هناك ثم قطع جسمها وجرد اللحم عن العظم وما بقي منها ألقي في النار،
يقول المؤرخ راوي هذه القصة: ولم يسأل سيريل عما صنع بهيباتي ولم تنظر
الحكومة الرومانية فيما وقع عليها، ولعل ذلك كان أول ما تقررت تلك القاعدة:
(الغاية تشفع للوسيلة) .
ما من عقيدة ظهرت في المسيحية وأريد تقريرها من فريق ونازع فيها فريق
إلا وقد سالت لها الدماء فليراجع التاريخ لتتمثل أرض مصر مصبوغة بدماء
المسيحيين من فريقين مختلفين عندما أريد تقرير عبادة العذراء واتخاذها لله أمًّا.
وكان ذلك في طبيعة الدين: أن من لم يتبع المسيح فهو هالك والهالك لا يستحق
الحياة، ألم تر في الإصحاح الخامس من الأعمال إلى قصة الرجل الذي باع جميع
ما عنده وعندما جاء إلى بطرس أعطاه الثمن وادخر لنفسه شيئًا أخفاه عنه فاطلع
بطرس على حقيقة الأمر ووبخ الرجل وتصرف فيه بسلب حياته من طريق
المعجزة ثم جاء امرأته وكان لها اطلاع على ما أخفى زوجها ولم تنهه فوبخها
بطرس وأخبرها بموت زوجها فماتت هي أيضًا. فإذا كان الله يسلب الحياة جزاء
على اختلاس الرجل شيئًا من مال نفسه لم يقدمه هدية للرسل فكيف تكون الحياة من
حقه إذا خالف خلفاء الله في الأرض ونابذهم فيما يعتقدون.
قال البابا أنوسان الثالث عند الكلام في مصادرة الذين يخالفون العقيدة
الكاثوليكية: (لا يجوز أن يترك لأولاد الجاحدين سوى الحياة وترك الحياة لهم مَنٌّ
وإحسان) فلم يقصر الجزاء على الجاحدين ولكن عدّاه إلى أولادهم وعدّ ترك الحياة
لأولادهم يتمتعون بها ضربًا من الإحسان عليهم؛ لأنه لا حق لهم في أن يعيشوا وقد
جحد آباؤهم.
* * *
(مقاومة النصرانية للعلم)
لا أجد في التاريخ ذكرًا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة
لعهد قسطنطين وما بعده إلا في أثناء المنازعات الدينية التي كان يفصل فيها تارة
بسلطان الملوك وأخرى بجمع المجامع وثالثة بسفك الدماء فتخمد شعلة العلم وينتصر
الدين المحض. وإنما الذكر كل الذكر لما كان بين المسيحية وما جاورها من الملل
الأخرى من الحروب الدينية للحمل على العقيدة بما كان يعتقد المسيحيون، وما كان
يقع بني ملوك أوربا من التسافك في الدماء بإغراء رؤساء الكنيسة، وأمر ذلك
معروف عند من له إلمام بالتاريخ وليس من موضوعنا الكلام فيه.
ولكن أرى شبه نزاع بين العلم والدين ظهر في أوربا بعد ظهور الإسلام
واستقرار سلطانه في بلاد الأندلس واحتكاك الأوربيين بالمسلمين في الحروب
الصليبية.
رجع الآلاف من الغزاة الصليبيين إلى بلادهم وحملوا إلى الناس أخبارًا
تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة من أن المسلمين جماعة من
الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة وأجلوا عنها دين التوحيد ونفوا منها كل فضيلة
وإخلاص، وهم وحوش ضارية وحيوانات مفترسة، فلما قفل الغزاة إلى ديارهم
قضوا على قومهم أن أعدائهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة ذوي ود ووفاء وفضل
مجاملة.
ثم كان الخليفة الْحَكَم الثاني جعل من بلاد الأندلس فِرْدَوْسًا كما قال الفيلسوف
الأميركاني، وكان اليهود والنصارى يتلاقون في تلك البلاد تحت ظلال الأمن
والحرية، قال بطرس المحترم الشهير: إنه رأى كثيرًا من العلماء يأتون إلى تلك
البلاد لتلقي العلوم الفلكية حتى من بلاد إنكلترا وأولئك الذين يسعون إلى طلب العلوم
من أي بلاد جاءوا كانوا يجدون فيها رحبًا وسعة وكان قصر الخليفة يشبه أن يكون
مصنعًا للكتب نسخ وتذهيب وتجليد، إلخ ما قال.
ثم انتشرت صناعة الورق التي اخترعها العرب ثم اكتشفت المطبعة وسهل
على الناس أن ينشروا آرائهم بعد أن تنبهت أفكارهم بما جلب إليهم رسل العلم الذين
حملوه إليهم عن أهالي أسبانيا ومن حملوه مما جاورهم ثم انساب إلى العقول شيء
مما سماه الأوربيون فلسفة ابن رشد، عند ذلك اهتمت المسيحية بالأمر وأخذت
تحارب كل ما يظهر على ألسنة الناس أو يرد على أسماعهم مما يخالف ما في
الكتب المقدسة وتقاليد الكنيسة.
قال دي رومنيس: إن قوس قزح ليست قوسًا حربية بيد الله ينتقم بها من عباده
إذا أراد بل هي من انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء. فجلب إلى روما وحبس
حتى مات ثم حوكمت جثته وكتبه فحكم عليها ألقيت في النار، وقيل في علة الحكم:
إنه أراد الصلح بين كنيستى روما وإنكلترا، وأي ذنب أعظم من هذا الصلح؟ هو
أضخم بلا ريب من ذنب القول بأن قوس قزح من انعكاس ضوء الشمس في نقط
الماء.
* * *
(مراقبة المطبوعات ومحكمة التفتيتش)
أنشئت المراقبة على المطبوعات وحتم على كل مؤلف وكل طابع أن يعرض
مؤلفه أو ما يريد طبعه على القسيس أو المجلس الذي عين للمراقبة وصدرت أحكام
المجمع المقدس بحرمان من يطبع شيئًا لم يعرض على المراقب أو ينشر شيئًا لم
يأذن المراقب بنشره، وأوعز إلى هذا المراقب أن يدقق النظر حتى لا ينشر ما فيه
شيء يومئ إلى مخالفة العقيدة الكاثوليكية ووضعت غرامات ثقيلة على أرباب
المطابع يعاقبون بها فوق الحرمان من الكنيسة (كأن الحكومة العثمانية على ما
تنشر بعض الجرائد أخذت نسخة من قرار المجمع المقدس لتجري عليه مراقبة
المطبوعات ولكن للسياسة لا للدين) أنشئت محكمة التفتيش لمقاومة العلم والفلسفة
عند ما خيف ظهورهما بسعي تلامذة ابن رشد خصوصًا في جنوب فرنسا وإيطاليا
أنشئت هذه المحكمة الغربية بطلب الراهب توركماندا.
قامت المحكمة بأعمالها حق القيام ففي مدة ثماني عشرة سنة - من سنة
1481 إلى سنة 1499 حكمت على عشرة آلاف ومئتين وعشرين شخصًا بأن
يحرقوا وهم أحياء فأحرقوا وعلى ستة آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير
فشهروا وشنقوا، وعلى سبعة وتسعين ألفًا وثلاثة وعشرين شخصًا بعقوبات مختلفة
فنفذت ثم أحرقت كل توراة بالعبرية.
ماذا كانت وسائل التحقيق عند هذه المحكمة المقدسة؟ وسيلة واحدة هي أن
يحبس المتهم وتجرى عليه أنواع العذاب المختلفة بآلات التعذيب المتنوعة إلى أن
يعترف بما نسب إليه، وعند ذلك يصدر الحكم ويعقبه التنفيذ، قرر مجمع لاتران
سنة 1502 أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد، وطفق الدومينكان يتخذون
من ابن رشد ولعنه ولعن من ينظر في كلامه شيئًا من الصناعة والعبادة، لكن ذلك
لم يمنع الأمراء وطلاب العلوم من كل طبقة من تلمس الوسائل للوصول إلى شيء
من كتبه وتحلية العقول ببعض أفكاره.
اشتدت محكمة التفتيش في طلب أولئك المجرمين طلاب العلم والسعاة إلى
كسبه، ونيط بها كشف البدعة فيها مهما اشتد خفاؤها - في المدن وفي البيوت، في
السراديب، في الأنفاق، في المخازن، في المطابخ، في المغارات في الغابات،
في الحقول فوفت بما كلفت به مع البهجة والسرور اللائقين بأصحاب الغيرة على
الدين عملاً بالقول الجليل (ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) كان يؤخذ الرهبان في
صوامعهم، والقسوس في كنائسهم، والأشراف في قصورهم، والتجار بين
بضائعهم، والصناع في مصانعهم، والعامة في بيوتهم ومزارعهم، وحيثما وجدوا،
وأينما ثقفوا، ويوقفون أمام المحكمة وتصدر الحكام عليهم يوم اتهامهم.
قرر مجمع لاتران أن يكون من وسائل الاطلاع على أفكار الناس الاعتراف
الواجب أداؤه على المذهب الكاثوليكي أمام القسيس في الكنيسة (أي الاعتراف
بالذنوب طلبًا لغفرانها) تذهب البنت أو الزوجة أو الأخت لأجل الاعتراف بين يدي
القسيس يوم الأحد فيكون مما تسأل عنه عقيدة أبيها أو زوجها أو أخيها وما يبدر من
لسانه في بيته وما يظهر في أعماله بين أهله، فإذا وجد القسيس متلقي الاعتراف
شيئًا من الشبهة في طلب العلم غير المقدس على من سأل عنه رفع أمره إلى
المحكمة فينقضُ شهابُ التهمة عليه، فإذا سأل عن الشاهد الذي عول عليه في إتهامه
لا يجاب وإنما يقام التعذيب مقام شخص الشاهد وهو من أهله حتى يعترف أوقعت
هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما خيل لكل من يلمع في ذهنه
شيء من نور الفكر إذا نظر حوله أو التفت وراءه أن رسول الشؤم يتبعه، وأن
السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه من ورود الفكرة العلمية إليه، وقال
باغلياديس ما كان يقوله جميع الناس لذلك العهد: (يقرب من المحال أن يكون
الشخص مسيحيًا ويموت على فراشه) .
حكمت هذه المحكمة من نشأتها سنة 1481 إلى سنة 1808 على ثلاثمائة
وأربعين ألف نسمة منهم نحو مائتي ألف أحرقوا بالنار أحياءً.
* * *
(اضطهاد المسيحية للمسلمين واليهود والعلماء عامة)
لما كان ابن رشد هو الينبوع الذي تفجر منه ماء العلم والحرية في أوروبا
على زعم القسوس، وكان ابن رشد أستاذًا يتعلم عنده كثير من اليهود وقد اتهموا
بنشر أفكاره وآرائه ثم هو مع ذلك مسلم صب غضب الكنيسة على اليهود
والمسلمين معًا فصدر الأمر في 30 مارس سنة 1492 بأن كل يهودي لم يقبل
المعمودية في أي سن كان وعلى أي حال كان يجب أن يترك بلاد أسبانيا قبل شهر
يوليو (تموز) ومن رجع منهم إلى هذه البلاد عوقب بالقتل وأبيح لهم أن يبيعوا ما
يملكون من عقار ومنقول بشرط أن لا يأخذوا في الثمن ذهبًا ولا فضة وإنما يأخذون
الأثمان عروضًا وحوالات، ومن ذا الذي يشتري اليوم بثمن ما يأخذه بعد ثلاثة
أشهر بلا ثمن؟ (يعنى أن أموال اليهود تكون مباحة بعد جلائهم الذي يتم في يوليو) ،
وصدر أمر توركماندو أن لا يساعدهم أحد من سكان أسبانيا في أمر من أمورهم،
وهكذا خرج اليهود تاركين كل ما يملكون ناجين بأرواحهم على أنه لا نجاة لكثير
منها فقد اغتالها الجوع ومشقة السفر مع العدم والفقر، وفي فبراير (شباط) سنة
1502 نشر الأمر بطرد أعداء الله المغاربة (المسلمين) من أشبيلية وما حولها -
من لم يقبل المعمودية منهم يترك بلاد أسبانيا قبل شهر (نيسان) وأبيح لهم أن
يبيعوا ما يملكون على الشرط الذي وضع لليهود، ولكن وضع للمسلمين شرط
آخر وهو أن لا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية ومن خالف فجزاؤه
القتل، فهؤلاء المساكين نفوا جميعًا إلى القتل إن لم يكن قتل الجزاء عند الرجوع،
فالموت ملاقيهم بالتعب مع العري والجوع.
ألا يعجب القارئ إذا رأى أن برونو يحرق بالنار حيًّا بعد حبس طويل سنة
1600 لأنه قال بقول الصوفية في وحدة الوجود وقال: إن هذا العالم يحتوي على
عوالم كثيرة. الحمد لله رب العالمين.
ظهر القول بكروية الأرض - ذلك الأمر الذي عرفه المسلمون وصار رأيًا لهم
في أول خلافة بني العباس ولم تتحرك له شعرة في بدن - فأحدث اضطرابًا شديدًا
في عالم النصرانية ولا يسع هذا المقال ما وقع من الحوادث في شأنه.
هل يصدق القارئ أن ما قصده كريستوف كولمب من السفر في المحيط
الأطلانطيقي لعله يكتشف أرضًا جديدة كان من الأمور التي اهتمت لها الكنيسة
وحكم مجمع سلامانك بأنه مخالف لأصول الدين، ثم أعيد النظر فيه وعرض على
أقوال الآباء من كريزيستوم وأوغستين وجيروم وغريغوار وبازيل وإنبراوز
وعلى رسائل الرسل والأناجيل والنبوات والزبور والأسفار الخمسة ولم ينتج هذا
العرض شيئًا، ولكن ساعده على ما قصد بعض الملوك رغم الكنيسة كما هو معلوم،
قال كريستوف كولمب بأن الذي أوحى إليه هذا القصد النبيل هي كتب ابن رشد،
من هنا نفهم لِمَ قامت له الكنيسة وقعدت؟
ما أشد تمسك الكنيسة بهذا الأصل الجليل (السلطة للقسوس والطاعة على
العامة) كل رأي لم يصدر عن ذلك المصدر الديني الذي يربط ويحل في الأرض
والسماء فهو باطل تجب مقاومته بكل ما يستطاع، لهذا حكم على غاليلي الذي ذهب
إلى أن حركة الكواكب هي على النظام المعروف عند الفلكيين اليوم.
* * *
مقاومة الكنيسة للحقن تحت الجلد: هل تدري ماذا حصل من المقاومة
لإدخال الحقن تحت الجلد بمادة المرض؟ اكتشف هذه الطريقة الطبية عند المسلمين
في الأستانة ثم نقلتها إلى أوروبا امرأة تسمى ماري مونتاجو سنة 1721 فقامت
قيامة القسوس وعارضوا في استعمالها واحتيج في تعضيدها إلى التماس المساعدة
من ملك إنكلترا، وعادت هذه الشدة في المعارضة عندما اكتشفت طريقة تطعيم
الجدري.
* * *
مقاومة تسهيل الولادة: أي مقاومة لم يلاقها اكتشاف تخدير المرأة عند
الولادة حتى لا تحس بألم الطلق، اكتشاف أميركاني رأت حضرات القسوس فيه أنه
يخلص المرأة من تلك اللعنة أو تلك العقوبة التي سجلت عليها في سفر التكوين؛ إذ
جاء في الإصحاح الثالث منه: (وقال للمرأة تكثيرًا أكثر أتعاب حملك بالوجع تلدين
أولادًا) .
* * *
مقاومة السلطة المدنية وحرية الاعتقاد: نشر البابا منشورًا في سنة 1864
جاء فيه لعن كل من يقول بجواز خضوع الكنيسة لسلطة مدنية أو جواز أن يفسر
أحد شيئًا من الكتب المقدسة على خلاف ما ترى الكنيسة أو يعتقد بأن الشخص حر
فيما يعتقد ويدين به ربه، وفي منشور له سنة 1868 أن المؤمنين يجب عليهم أن
يفدوا نفوذ الكنيسة بأرواحهم وأموالهم، وعليهم أن ينزلوا لها عن آرائهم وأفكارهم
ودعا الروم الأرثوذكس والبروتسانت إلى الخضوع للكنيسة الرومانية على هذه
الوجه.
في سنة 1871 كان النزاع بين حكومة بروسيا والبابا في عزل أستاذ في
إحدى الكليات رأى رأيًا لا يروق للحزب الكاثوليكي فحرمة البابا وطلب من
الحكومة عزله وكانت إحدى المعضلات السياسية غير أن عزيمة بسمارك نصرت
مدنية القرن التاسع عشر على سلطان الكنيسة وأبقت الأستاذ وجعلت التعليم تحت
السلطة المدنية.
* * *
مقاومة الجمعيات العلمية والكتب: لا أذكر الجمعيات العلمية (الأكادميات)
التي ألغيت والاجتماعات التي عطلت لا لشيء كان فيها سوى هداية البشر إلى
منافعهم وتنوير بصائرهم بكشف ما احتجب عنهم من سر الخليقة بالبحث النظري
ومن الطريق العقلي من غير استشارة المسيطر الإلهي وهو الكنيسة، ولكن أذكر
شيئًا واحدًا وهو أن الكردينال أكسيمنيس أحرق في غرناطة ثمانية آلاف كتاب بخط
القلم فيها كثير من ترجمة الكتب المعول عليها عند علماء أوربا لذلك العهد.
* * *
(البروتستانت أو الإصلاح)
ربما يقول قائل: إن هذا الذي ذكرت هو عمل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية
ولكن قد قام في المسيحية مصلحون يرون إرجاع الدين إلى أصل الكتب المقدسة
ويبيحون لعامة أهل الدين أن ينظروا فيها ويفهموها وقد رفعوا تلك السيطرة عن
الضمائر والعقول، ومن عهد ظهور الإصلاح والرجوع إلى أصول الدين الأولى
بزغت شمس العلم بالمغرب وبسط للعلم بساط التسامح، وذلك لا يمكن أن يكون إلا
جريًا مع طبيعة الدين.
لا أذكر في الجواب عن ذلك إلا ما ذكر البروتستانت أنفسهم في تاريخ
الإصلاح: استمرت عقوبة الموت قانونًا يحكم به على كل من يخالف معتقد الطائفة
وقد أمر كلفان [1] بإحراق سيرفيت في جنيف؛ لأنه كان يعتقد أن الدين المسيحي كان
قد دخل عليه شيء من الابتداع قبل مجمع نيقة، وكان يقول: إن روح القدس
ينعش الطبيعة بأسرها، فكان جزاؤه على هذا أن شوي على النار حتى مات وهكذا
أحرق فايتي في تموز سنة 1629.
كان لوتير أشد الناس إنكارًا على من ينظر في فلسفة أرسطو وكان ذلك
المصلح يلقب هذا الفيلسوف بالخنزير الدنس الكذاب، ونحو ذلك من الألقاب التي لا
بأس بها إذا صدرت من أهل الغيرة على الدين في طريق الدفاع عنه! ! وكان
كلفان أقل شتمًا للفيلسوف من لوتير لكنه لم يكن أحسن ظنًا به ولا أوسع صدرًا لمن
يطلع على شيء من كتبه، وكان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف (المعلم
الأول) فتأمل الفرق بين الفريقين! !
قالوا: البرتستانت قاموا يطالبون بالحرية في فهم الكتب المقدسة وبإبطال
السلطة على غفران الذنوب والتجارة ببيع الثواب والسعادة الأخروية وإبطال عبادة
الصور، ولكنهم لم يغيروا شيئًا من الاعتقاد بأن الكتب المقدسة هي نبراس الهداية في
طريق العلم البشري كما أنها منبع نور الإيمان بالدين الإلهي، وأنه لا يباح للعقل أن
ينساق في نظره إلى ما يخالف شيئًا مما حوته وأنه لا حاجة إلى شيء من العلم
وراء ما ورد فيها، وبالجملة إنهم لم يبطلوا أصلاً من الأصول الستة التي تقدمت إلا
أنهم قالوا بمنع غلو الرؤساء في سلطتهم المبنية على الأصل الثاني في سابق قولنا.
قالوا: ولهذا لم يكن مذهب الإصلاح أخف وطأة على العلم ولا أفضل معاملة
له من الكاثوليك؛ لأن كلا المذهبين يرجع إلى طبيعة واحدة (وهي القائمة على
الأصول الستة) ولم يكن لأهل النظر العقلي جزاء في كلا الملتين إلا القتل وسفك
الدم.
لو كنت ممن يحب الجدال في الدين لعددت فيما ذكرته من عناصر الدين
المسيحي ما تضمنه قول بعض الناقدين عند الكلام على الحروب المسيحية
واضطهادات الكنيسة (ما أهون الدم على من يمثل في عبادته أكل الدم وعلى من
يعتقد أن خلاص العالم الإنساني من الخطيئة إنما كان بسفك الدم البريء على يد
المعتدي الأثيم) لكني في بحثي هذا لا أريد أن أستعمل قوة الخيال، ولا أن أذكر ما
يعد من قبيل الجدال، وإنما آتي بما هو حكاية حال، ليس للناظر فيها مقال.
* * *
(الفصل بين السلطتين في المسيحية)
بقي علينا الكلام فيما جعلته الجامعة أساسًا للفصل بين السلطتين الدينية
والملكية وبه كانت طبيعة الدين المسيحي أدعى إلى التسامح مع العلم في نظرها،
لو سلمنا أن في تلك العبارة معنى الفصل كما قالت الجامعة، وقال كثير غيرها ممن
أرادوا مقاومة السلطة الدينية فماذا يفيد الفصل إذا كان دين الملك نفسه يقضي عليه
بمعاداة العلم؟ أفلا يغلب اعتقاد الملك وما يملك نفسه مما فيه نجاته الروحية على
مطالب الملك؟ وكم من ملك جعل مصالح مملكته قربانًا لسلطان عقيدته، هب أن
مصالح الملك تكون دائمًا أغلب على النفس من حكم العقيدة وقاهر الإيمان والوجدان
وقد أقام الدين سلطتين منفصلتين: إحداهما تحل وتربط في الأرض وفي السماء فيما
هو من خاصة الدين والأخرى تحل وتربط في الأرض فيما هو من خصائص الدنيا،
أفلا يكون هذا الفصل قاضيًا بتنازع السلطتين وطلب كل واحدة منهما التغلب على
الأخرى فيمن تحت رعايتهما معًا؟ وهل يسهل على السلطة الدينية أن تدع رعاياها
تتصرف في أبدانهم وأموالهم بل وفي عقولهم أيدي الملوك بما تقتضيه مصالح الملك
الفاني إذا كان ذلك التصرف مخالفًا لما جاء في كنز المعارف وهو الكتب السماوية
وتأويل الرؤساء الروحيين وسنتهم فإذا همت هذه السلطة بالمعارضة أفتصبر
الأخرى؟ هذا هو الذي وقع في العالم المسيحي منذ ظهرت سلطة الدين.
كيف يتسنى للسلطة المدنية أن تتغلب على السلطة الدينية وتقف بها عند حدها
والسلطة الدينية إنما تستمد حكمها من الله ثم تمد نفوذها بتلك القوة إلى أعماق قلوب
الناس وتديرها كيف تشاء والملك لا قوة له إلا بأولئك الناس المغلوبين للسلطة
الدينية؟ لا يتأتى للملك أن يغالب تلك القوة إلا بعد أن يتناول من الوسائل ما لا يعد
لإضعاف سلطتها، نعم هذا الفصل يسهل التسامح لو كانت الأبدان يحكمها الملك
يمكنها أن تأتي أعمالها على حدة مستقلة عن الأرواح التي تحيا بها والأرواح كذلك
تأتي أعمالها بدون الأبدان التي تحمل قواها.
ثم هل هذا هو معنى قول الإنجيل؟ القصة على ما جاء في الإنجيل أن بعض
المرائين أراد أن يتسقط المسيح ليأخذ عليه ما ينم به فسأله: أيجوز أن نعطي جزية
لقيصر؟ فأجاب لم تجربوني ائتوني بدينار لأنظر إليه، فأتوه بدينار فقال: لمن
هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له لقيصر، فقال: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله
فمعناه الظاهر من سياق القصة أن صاحب السكة التي تتعاملون بها إذا ضرب
عليكم أن تدفعوا منها شيئًا فادفعوه له، أما قلوبكم وعقولكم وجميع ما هو من الله
وعليه طابع صنعته فلا تعطوا منه لقيصر شيئًا، والعلم ليس مما عليه طابع قيصر
بل عليه طابع الله، فلا يمكن أن يكون العلم تحت سلطة غير السلطة الروحانية
الدينية، فأي تسامح مع العلم في هذا.
* * *
(اعتقاد المسلمين في المسيح والمسيحية)
هذا الذي عرضناه من طبيعة الدين المسيحي وأوردناه من مشاربه فيما بعد
نشأته وما وقع من حوادث مع طلاب العلم ورواد المعارف في كل زمن إلى ما
يقرب من أيامنا هذه كل ذلك مأخوذة من تاريخهم الذي كتبوه عن أنفسهم ومن
نصوص كتبهم الدينية التي يتوكأون عليها فيما ذكرنا من سيرتم وأعمالهم.
أما رأيي ورأي أهل العقيدة الصحيحة من المسلمين في المسيح عليه السلام
ودينه فهو على غير ما رآه القارئ، إنا نعتقد أن المسيح روح الله وكلمته ورسوله
إلى بني إسرائيل بُعِثَ مصدقًا لما بين يديه من التوراة وجاءهم من الدين بما فيه هدى
لهم ورشاد في شئون معاشهم ومعادهم ولم يطالبهم بتعطيل قوة من قواهم التي وهبهم
الله تعالى إياها بل طالبهم بشكر الله تعالى عليها ولا يشكر حق الشكر إلا باستعمالها
جميعها فيما أعدها الله له.
والعقل من أجل القوى بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها والكون جميعه هو
صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل
للوصول إليه، وكل ما صح عندنا عن السيد المسيح لا يخالف شيء منه هذا الذي
نعتقد، فإن صح عنه شيء يكون في ظاهره مخالفة لهذه الأصول أمكننا تأويله حتى
يرجع معناه إليها أووكلنا الأمر فيه إلى الله وقلنا (لا علم لنا إلا ما علمتنا) ؟
الدين دين الله وهو دين واحد في الأولين والآخرين لا تختلف إلا صوره
ومظاهره، وأما روحه وحقيقة ما طولب به العالمون أجمعون على ألسن الأنبياء
والمرسلين فهو لا يتغير - إيمان بالله وحده وإخلاص له في العبادة ومعاونة الناس
بعضهم لبعض في الخير وكف أذاهم بعضهم عن بعض ما قدروا، وهذا لا ينافي
الارتقاء في الدين بارتقاء عقول البشر واستعدادهم لكمال الهداية، ونعتقد أن دين
الإسلام جاء ليجمع البشر كلهم على هذه الأصول، ومن أهم وظائفه إزالة الخلاف
الواقع بين أهل الكتاب ودعوتهم إلى الاتفاق والإخاء والمودة والائتلاف وهذا ما
عمل عليه المسلمون قرنًا بعد قرن بحسب قوة تمسكهم بالإسلام.
فإذا سأل سائل بماذا كان ذلك الذي قدمت فيما سبق هو اعتراف فضلاء
الأوربيين أنفسهم في منافاة طبيعة الدين للعلم واشتداده في معاداته فما هذا الانقلاب
الذي حصل في أوربا، وما هذا التسامح الذي يتمتع به العلم اليوم في أقطارها؟
فجوابه في الكلام على الأمر الرابع مما ذكرت الجامعة، وهو يكون بعد عرض
طبيعة الدين الإسلامي وما يليق أن يكون له مع العلم وما انجر إليه الحال بمقتضى
تلك الطبيعة، وما عرض عليها مما سترها وحال بينها وبين أثرها في أخريات
الأيام؟ وسنوجز القول فيه كما أوجزناه فيما مضى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كلفان هو الزعيم الثاني للبروتستانت ولوثر الأول.(5/401)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
(س1) غمغمة المتصوفة: من الشيخ عبد الله عبد الرحمن بالقايات: قال
بعد كلام يعرِّض فيه بعلماء التقليد وعدم الثقة بهم ويثني فيه على المنار ما نصه:
(ما يرى سيدي فيمن نطق بالشهادتين أو بطلاق امرأته أو بأي عقد يحتاج
في اعتباره إلى صراحة اللفظ نطق به كما تصنعه هذه الفرقة (المتصوفة) في
ذكرهم (وأريد غمغمتهم) أهو إسلام صحيح أو طلاق صريح، أو عقد معتبر
شرعًا؟ فإن قلتم بصحته كلية فما هذا الذي ينكره الناس على هذه الطائفة؟ وإن
رأيت غيره فأي شيء هو؟ أَلَغْوٌ من الكلام، لا يثبت به إسلام، ولا يعطي ما يعطيه
اللفظ الصريح من المعاني؟
(ج) الغمغمة هي النطق لا بيان فيه، وأصلها أصوات الثيران عند الذعر
وتقع من الناس اضطرارًا يقال: غمغم الأبطال عند الكفاح في الحرب، وهذا هو
الذي يناسب المعنى الحقيقي، فإذا عغمغم الإنسان مختارًا فإنما يكون لاعبًا وهازلاً
فإذا جاء في هزله بكلمة الشهادة فلا يعتد بها ظاهرًا ولا باطنًا، أما عدم الاعتداد بها
في الباطن فلأن اللعب بأصل الدين سخرية وهزء وهو مزيد في الكفر، فكيف
يحصل به الإيمان؟ وأما عدم الاعتداد بها في الظاهر فلأنها غير ظاهرة وربما لا
يعرف غير المغمغم أنها وقعت في غمغمته؛ ولأن قرينة الهزء والسخرية تصرف
الكلام عن ظاهره، ومثل هذا يقال في الطلاق، لا أن الفقهاء من الحنفية والشافعية
يعتبرون هزل الطلاق جدًّا.
فإذا اعترف بأنه في غمغمته نطق بصيغة الطلاق المعتبرة فربما كان يحكم
القاضي عليه بما تقتضيه تلك الصيغة في مذهبه، وإذا كان المغمغم يعتقد ذلك فهو
يعمل به أيضًا، والسائل يعلم أن العقود التي من شأنها أن يحكم فيها الحاكم تكون
العبرة فيها بظاهر القول وبالعرف، وأما العبادات فالعبرة فيها بما ورد في الكتاب
العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى.
فالناس ينكرون على المتصوفة المغمغمين في الذكر أنهم اخترعوا لأنفسهم
عبادة لم يأذن بها الله تعالى في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
فيتلو لهم قوله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) ويصدق عليهم قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا
وَلَعِبًا} (الأعراف: 51) وكل مسلم ألحق في إنكار كل عبادة لم ترد في الكتاب
والسنة في ذاتها أو صورتها فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه بأنه أكمل ديننا وأتم علينا
نعمته فكل من يزيد فيه شيئًا فهو مردود عليه؛ لأنه مخالف للآية الشريفة وللحديث
الصحيح (كل من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) .
كل بدعة في الدين فهي ضلالة كما ورد في الحديث، وأما البدع التي منها
حسن ومنها سيئ فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ووسائله ومقاصده وهي
المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى
يوم القيامة) ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ركعات الصلاة أو سجداتها والله أعلم.
***
(س2) خرافة المشاهرة محمد أفندي عباسي السمرة ببولاق: أرجوكم
إفادتي عن (المشاهرة) وهي أن تدخل امرأة تحمل عقدًا من اللؤلؤ على إحدى
النساء الواضعات فيكون أثر ذلك في الواضعة أنها لا تحبل بعد ذلك أبدًا إلا أن تأتي
بعقد من اللؤلؤ فتضعه في الماء بشكل مخصوص فإنها بعد ذلك تحبل، وقد أثبتت
كثرة التجارب كثيرًا من هذا، فهل ورد عنه شيء في الشرع الشريف؟
(ج) الشرع أباح للناس أو أرشدهم إلى البحث عن منافعهم الدنيوية
ليستفيدوا مما ثبتت لهم فائدته ويجتنبوا ما ثبتت لهم مضرته، فلو فرضنا أن التجارب
التي ذكرها السائل صحيحة محققة لكان حكمها في الشرع أنه يحرم على المرأة أن
تدخل على النساء بعقد من اللؤلؤ؛ لأنها تضرها بمنع الحبَل ثانية لا سيما إذا كان
العقد خفيًّا أو كانت النفساء لا تعرف العلاج أو لا تقدر عليه، وأنه يجوز لمن
منع حبلها بذلك أن تعالج نفسها بوضع عقد من اللؤلؤ في الماء إذا أرادت إزالة
المانع.
أما نحن فلا نعتد بتجارب العامة ولاسيما النساء ولا نرضى للسائل أن
يصدقهن بهذه المزاعم، وكم لهن من أمثالها كزعمهن في الزار، فالعاقل يشك في
مزاعم هؤلاء الجاهلات إذا كانت في ذاتها قريبة في نظر العقل فكيف يصدقهن فيما
يكون بعيدًا من النظر كمسألتنا فإن العقل لا يتصور علاقة لعقد اللؤلؤ بأمر الرحم
والتناسل لا سيما في صورة الانفصال والبعد.
__________(5/434)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إيمان المسلمين وأعمالهم
جاء في الجزء 8 من مجلة بشائر السلام نبذة تحت هذا العنوان ملخصها أنه
يجوز على مذهب أهل السنة (أن يؤمن أحد بالإسلام إيمانًا حقيقيًّا وتبقى أعماله
شريرة) واعترض الكاتب على هذا اعتراضين؛ أحدهما: أن الإيمان الذي لا
ينشئ في صاحبه توبة وعملاً صالحًا بل يتركه وسيئاته تفوق حسناته ومضاره تزيد
عن منافعه.. . فهو إيمان باطل عديم النفع يحط من كرامة الخلق ويزيد في شقاوة
المخلوق. ثانيهما: عجز الإيمان المحمدي عن الخلاص التام.
وقد أورد الكاتب بعد الاعتراض الأول كلمات من كتب العهدين تدل على أنه
يطلب من الإنسان أن يكون كاملاً، ولكنها لا تدل على أن المؤمن يكون معصومًا من
الذنوب، وأورد بعد الثاني كلمات تدل على أن الإيمان بالمسيح كافٍ للخلاص ولكن
لم يشترط مع الإيمان عملاً صالحًا.
لو كان هؤلاء المعترضون يعتقدون بما يقولون لكانت هدايتهم قريبة وإقناعهم
أقرب ولكنهم يلوكون الكلام ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليفتنوا به عامة المسلمين
الجهلاء ولا يبالون إن كان الكلام حجة عليهم، عهدهم الجديد ناطق بأن البر والعمل
بالناموس الإلهي لا يغنيان عن الإنسان شيئًا وإنما يغني عنه الإيمان بالمسيح فقط
وبذلك ينجو ويرث الملكوت وإن كان شر الأشرار وأفجر الفجار والقرآن لا يكاد
يذكر الإيمان إلا مقرونًا بذكر العمل الصالح، وورد في السنة الصحيحة أن الإيمان
قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وهذه السنة مؤيدة بخمس وسبعين آية
من القرآن، وهذا ما عدا الآيات التي ذكر فيها العمل الصالح بدون ذكر الإيمان قال
تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وقال
عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ
لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123-124) وقال جل
ذكره: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ *
أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاّ} (الأنفال: 2-4) وقال تقدست أسماؤه: {وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) ، فهذه السورة القصيرة أجمع للفضائل،
وأبلغ في الهداية من جميع الكتب التي في العالم سماوية كانت أو غير سماية، وهي
كافية لأن تكون دينًا مستقلاً لقوم يتدبرون.
إن الشبكة التي يصيد بها الجاهلين هذا الكاتبُ وأمثاله إلى المسيحية هي أن
خلاص الإنسان محصور في أن يؤمن - أي: يقول وإن لم يعقل - أن الإله مركب
من ثلاثة أصول كل واحد منها عين الآخرين، فالثلاثة واحد، وأن أحد الثلاثة وهو
الابن حل في جسم إنسان بواسطة آخر وهو روح القدس فصار هذا الإنسان الإله
وابن الإله وإنسانًا وابن الإنسان وصار هو الله ثم إنه سلط أعداءه على نفسه
فصلبوه واحتمل الألم واللعنة الإلهية لأجل خلاص الناس من ذنب أبيهم آدم؛ لأنه لم
يجد غير هذه الطريقة لخلاص عباده.
لا يطلب هذا الكاتب وأمثاله ممن يدعوهم إلى دينه إلا هذا القول الذي لا يعقل
ولا يحمل النفس على عمل صالح بل يجرِّئها على جميع المعاصي، والجاهل يحب
أن تباح له المعاصي ويكون ناجيًا بكلمة يقولها، فإذا كان دعاة النصرانية قد بدا لهم
أن يشترطوا مع هذه الكلمة التي يسمونها إيمانًا ترك المعاصي والأعمال الصالحة
فأية مزية لدينهم غير تلك الكلمة التي لا تعقل ولا تفهم؟ ألا يعلم أنه إذا دعا مسلمًا
إلى دينه وطالبه بترك المعاصي وبعمل الصالحات فإنه لا يستطيع أن يصيده مهما
كان جاهلاً؛ لأنه يقول: إن هذا يكلفني بمثل ما يكلفني به ديني ويزيد علي ثقلاً
آخر وهو الإيمان بما لا أعقله ولا أفهمه وهو أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن الله
عجز عن إنجاء الناس بدون أن يهين ذاته العلية بالحلول في أحدهم وبالتألم وبلعن
نفسه.
المسلمون يعتقدون أن الإيمان يهذب الأخلاق ويصلح الأعمال، وأنه يجوز مع
ذلك أن تغلب على شهوته أو غضبه فيعمل شرًّا لا سيما إذا لم يترب على أعمال
الإيمان من النشأة الأولى ولكنه يرجع ويتوب عن قريب قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201)
وقال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (النساء: 17) ومن التوبة أن يعمل صالحًا
يكفر سيئته {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} (هود: 114) فإذا قصر فهو تحت
مشيئة الله.
فتبين مما ذكرنا بالاختصار أن الإيمان عند المسلمين يثمر الأعمال الصالحة
وأن العمل لا قيمة له في إيمان النصارى، أما قول مجلة بشائر السلام في نتيجة
الاعتراض الأول: (وبناءً على ما تقدم كل إيمان لا يكون الكمال غايته والتقوى
ثمرته فهو إما إيمان كاذب بالإله الحق كإيمان النصارى بالاسم واليهود بالاسم أو
إيمان صادق لكنه بإله باطل خيالي قائم على الأوهام) فهو مسلم ولقد أنصفت فيما
كتبت عن إيمان النصارى ولم يكن من شأنها ذلك فإن إيمانهم ليس إلا أسماء سموها
وأقوالاً لا تعدو الفم؛ لأن العقل ينكرها، ولا يستطيع أن يتصورها.
وأما قولها بعد ذلك: (وأظنك لم تنس ذكر القوم الذين هم على الإسلام بالإجماع
وهم مع ذلك من أهل العصيان والفجور بحيث يحكم عليهم بالسجن في جهنم مدة لا
تنقص عن تسعمائة سنة ولا تزيد عن سبعة آلاف) إلخ، فهذا التحديد فيه لم يصح
في كتاب ولا سنة فهو لا يعتد به عند المسلمين، وإن ذكر في بعض الكتب فكم في
الكتب من أحاديث موضوعة وأقوال مكذوبة، ولا حجة علينا إلا في القرآن
الكريم والأحاديث الصحيحة، وأما كلام المؤلفين في أمور الآخرة فلا يعتد به ما لم
يكن منقولاً على أنه لا يجب الإيمان فيما يتعلق بعالم الغيب كأحوال الآخرة إلا
بالقرآن والأحاديث المتواترة وهي قليلة جدًّا، وهذا الذي قلناه هو الأصل المعمول عليه عند المسلمين.
وأما قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (مريم: 71) فليس خطابًا
للمسلمين كما زعم الكاتب؛ لأن الآيات التي قبلها كلها في الكفار فقيل: إن الخطاب
لهم خاصة. وقيل: إنه عام. والمراد بورود المؤمنين حينئذ المرور عليها والجثو
عندها قبل دخول الجنة وبذلك يعرفون مقدار نعمة الله تعالى عليهم بدخول الجنة.
(كلمتان) أختم هذا الرد بكلمتين أولاهما للسلمين الذين يرسلون إلينا هذه الجرائد لنرد عليها: لا يحزنكم أيها المسلمون هذا الاعتداء الذي لم تعتادوه، ولا تعدوه من سيئات حرية المطبوعات فهو من حسناتها؛ لأن هذا الاعتداء على الطعن بدينكم هو الذي يوقظكم من نومكم ويبعث فيكم شعور البحث والاستدلال
ويحيي فيكم روح الغيرة الملية والمباراة القومية حتى تعرفوا حقائق دينكم
بالبراهين والدلائل، والبحث لا يزيد الحق إلا ظهورًا.
والكلمة الثانية للنصارى المعترضين، الذين يسمون أنفسهم مبشرين , وهي:
إننا نعتقد أنكم تطعنون بدين الإسلام الذي لولاه لا يثبت دين في هذا العصر المنير
مأجورين لا معتقدين بما تقولون وما تكتبون، ولذلك يترك أحدكم التبشير إذا عزل
من الجمعية ومنع عنه الراتب الذي كان له، ولو كنتم تعتقدون بالدين لعلمتم أن دين
الله واحد وهو تنزيه الباري وتوحيده والإخلاص في عبادته وترك الشرور وعمل
البر ونفع العباد، وكنتم ترون أن الإسلام قد خدم العالم الإنساني بهذا الإصلاح
المنقح وأنه هو دين الأنبياء أجمعين ظهر في أكمل ارتقاء وأخرج أهل الكتاب من
الخلاف والمشكلات ولكن الهوى يصدكم عن هذا فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون،
وانتظروا إنا منتظرون.
__________(5/436)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(المصريون في أوربا وسوء التقليد)
لما ولع أمراء المصريين وكبراؤهم بالاصطياف في أوربا دب فساد التقليد
في نفوس الطبقات المتوسطة المتصلة بهم فصار الكثيرون منهم يهاجرون إلى
أوربا لتبذير الأموال، واقتباس أسوء الخلال.
قد علمنا أن شيخًا من هؤلاء استدان مبلغًا من المال وسافر به إلى باريس وقد
أتحف بنتًا له في المدرسة السنية برقعة بريدية مصورة (كرت بوستال) أرسلها
إليها في البريد، ولو علم القراء ما هي الصورة التي عليها لكان لهم عبرة في هذا
التقليد الضار ولا يكون التقليد إلا ضارًّا.
تلك الصورة هي صورة أشهر بغي من مومسات باريس وقد صورت على
الرقعة عارية لترغيب الفساق بالإقبال عليها وكتب تحت الصورة وصفها ووصف
مكانها وكتب الشيخ المصري لبنته تحت تلك الكتابة الفرنسوية انظري يا بنتي ما
أجمل هذه الغادة الباريسية! فماذا نرجو من رجال يربون بناتهم هذه التربية وكيف
نقول: إن البنات مَلُوَمات على فساد أخلاقهن وأدبهن؟ ولو أن ناظرة المدرسة السنية
اطلعت على هذه الرقعة مع البنت لطردتها من المدرسة وأَنَّى لها بالاطلاع عليها.
ولا يتوهمن أحد أن هذا الشيخ الجاهل هو من شيوخ العلم أو شيوخ الطريق كلا إنه من المتعممين الذين ليس لهم لقب أفندي أو بيك.
* * *
(ابن الرشيد وابن سعود في نجد)
قد استولى ابن سعود على القسم الجنوبي من بلاد نجد إلى حدود بلاد اليمن
فصار في يده نصف البلاد أو يزيد، والباقي في يد ابن الرشيد، ويود جميع
الأهالي لو خلصت الإمارة لابن سعود لأنه أعلم وأرحم، وابن الرشيد أجهل وأظلم،
والأميران الآن في شبه هدنة؛ لأن ابن الرشيد يتوقع إعانة الدولة العلية وإمدادها
إياه بالرجال والسلاح، وهذا دليل على معرفته بعجزه , وعندنا الحكمة في عدم دخول
الدولة العلية في هذا الأمر بالفعل؛ لأن عاقبة ذلك وخيمة جدًّا، والخطر متوقع
على كلا الحالتين الآتيتين - إذا خلصت الإمارة لابن سعود من غير أن تحاربه
الدولة فإنه يكون مواليًا لها وخاضعًا لأمرها كابن الرشيد أو أشد ولاءً وخضوعًا،
وإذا غلب على أمر البلاد بعد مناوئة من الدولة فيخشى أن يسقط نفوذها من قلب
البلاد العربية، وهذا أحد الخطرين، وأما الخطر الثاني وهو أشدهما فهو ما ينتظر
من احتماء ابن سعود بدولة إنكلترا إذا جردت الدولة عليه جيشًا لا قِبَل له به، ولولا
أن وصل إلى آذاننا شيء من الهمسات الخفية التي يتناجى بها سعاة الفتن في بلاد
العرب لَمَا كان يخطر في بالنا أن يكون شيء من هذا، وقانا الله وبلاد العرب من
عواقب هذه الفتن.
لهذا قلنا: إن من الحكمة أن لا تسيء الدولة العلية أحد الخصمين بالفعل، ولا
شك أن العاقبة الحسنة تكون لها إذا اتقت هذين الخطرين (والعاقبة للمتقين) .
__________(5/439)
16 جمادى الآخرة - 1320هـ
19 سبتمبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم
طبيعة الإسلام مع العلم بحكم أصوله
(تمهيد للأصل الأول) للإسلام في الحقيقة دعوتان: دعوة إلى الاعتقاد
بوجود الله وتوحيده ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما
الدعوة الأولى فلم يُعَوَّل فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في
الكون واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب
وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعًا واجب الوجود عالمًا
حكيمًا قادرًا وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان، وأطلق للعقل البشري
أن يجري في سبيله الذي سَنَّتْهُ له الفطرة بدون تقييد فنبَّهه إلى أن خلق السموات
والأرض واختلاف الليل والنهار وتحريك الرياح على وجه يتيسر للبشر أن
يستعملها في تسخير الفلك لمنافعه وإرسال تلك الرياح لتثير السحاب فينزل من
السحاب ماء فتحيي به الأرض بعد موتها وتنبت ما شاء الله من النبات والشجر مما
فيه رزق الحي وحفاظ حياته - كل من آيات الله عليه أن يتدبر فيها ليصل منها إلى
معرفته.
ثم قد يزيده تنبيهًا بذكر أصل للكون يمكن الوصول إلى شيء منه بالبحث في
عوالمه فيذكر ما كان عليه الأمر في أول خلق السموات كما جاء في آية: {أَوَ لَمْ
يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) ونحوها من الآيات، وهو إطلاق لعنان العقل
البشري شوطه الذي قدر له في طريق الوصول إلى ما كانت عليه الأكوان، وقد
يزيد التنبيه تأثيرًا في إيقاظ العقل ما يؤيد ذلك من السنة كما جاء في خبر من سأل
النبي صلى الله عليه وآله: أين كان ربنا قبل السموات والأرض فأجابه عليه السلام:
(كان في عماء تحته هواء) [1] والعماء عندهم السحاب، فنرى القرآن في مثل
هذه المسألة الكبرى لا يقيد العقل بكتاب، ولا يقف به عند باب، ولا يطالبه فيه
بحساب؛ فليقرأ القارئ القرآن، يغنني عن سرد الآيات الداعية إلى النظر في آيات
الكون - {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (الأعراف: 185) ، {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ} (يس: 33) - {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُم} (الروم: 22) وأمثال ذلك، فلو أردت سرد جميعها لأتيت بأكثر من
ثلث القرآن بل من نصفه في مقالي هذا.
يذكر القرآن إجمالاً من آثار الله في الأكوان تحريكًا للعبرة، وتذكيرًا بالنعمة،
وحفزًا للفكرة، لا تقريرًا لقواعد الطبيعة، ولا إلزامًا باعتقاد خاص بالخليقة،
وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل، انظر كيف يقرع بالدليل:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91) .
فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء
سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري، (وهو ما
نسميه بالنظام الطبيعي) فلا يدهشك بخارق للعادة، ولا يغشي بصرك بأطوار غير
معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية،
وقد اتفق المسلمون إلا قليلاً ممن لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله فلا
يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزَّلة [2] فإنه لا يعقل
أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل
كتابًا أو يرسل رسولاً.
وقالوا كذلك: إن أول واجب يلزم المكلف أن يأتي به هو النظر والفكر
لتحصيل الاعتقاد بالله لينتقل منه إلى تحصيل الإيمان بالرسل وما أنزل
عليهم من الكتاب والحكمة.
وأما الدعوة الثانية فهي التي يحتجّ بها الإسلام بخارق العادة، وما أدراك ما
هو الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي
عليه السلام؟ هذا الخارق للعادة هو الذي تواتر خبره، ولم ينقطع أثره، هذا هو
الدليل وحده وما عداه مما ورد في الأخبار سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو
وَهِيَ فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على
سبيل تقوية العقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله، ذلك
الخارق المتواتر المُعَوَّل عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده.
والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من
اختراع البشر هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم وقد
نزل على وتيرة واحدة، هاديًا للضال مقومًا للمُعْوَجِّ كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي
به من الأمم، منقذًا لهم من خسران كانوا فيه وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع
ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه حتى لقد دُعِيَ
الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجوزا ولجأوا إلى المجالدة
بالسيوف وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به إلى أن ألجأوهم إلى الدفاع عن حقهم
وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد
عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جِوائها.
وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم وطولبوا بأن يأتوا في
نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم فإما وجدوا طريقًا لإبطال إعجازه أو كونه لا
يصلح دليلاً على المدعى فعليهم أن يأتوا به قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه} (البقرة: 23) وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82) وقال
غير ذلك مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم
من العقل.
معجزة القرآن جامع من القول والعلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم،
فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها وأطلقت له حق النظر في
أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها حظه الذي لا ينتقض، فهي معجزة
أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها،
أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت أو حياة ميت أو إخراج شيطان من
جسم أو شفاء علة من بدن فهي مما ينقطع عنه العقل، ويجمد لديه الفهم، وإنما
يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم تضئ عقولهم بنور العلم،
وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات [3] .
ثم إن الإسلام لم يتخذ من خوارق العادات دليلاً على الحق لغير الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ولم ترد فيه كلمة واحدة تشير إلى أن الداعين إليه يمكنهم أن يغيروا
شيئًا من سنة الله في الخليقة ولا حاجة إلى بيان ذلك فهو أشهر من أن يحتاج إلى
تعريف.
***
(الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل الإيمان)
فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة
الإيمان الصحيح فقد أقامك معه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك
إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه.
بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي
جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبًا غير واقف عند الظن فهو
ناج، فأي سعة لا ينظر إليها الحَرِجُ أكمل من هذه السعة.
***
(الأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض)
أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره: اتفق
أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا يُنْظَرُ إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل
أُخِذَ بما دل عليه النقل وبقي في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول مع
الاعتراف بالعجز عن فهمة وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثانية
تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل،
وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم مُهِّدَتْ بين يدي العقل كل سبيل، وأُزِيلَتْ من سبيله جميع العقبات،
واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما
هو أبعد من هذا؟ أي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا
الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها، ولا
سماء بأجرامها وأبعادها.
***
(أصل ثالث من أصول الأحكام في الإسلام البعد عن التكفير)
هلا ذهبت من هذين الأصلين إلى ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد
أحكام دينهم وهو: إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل
الإيمان من وجه واحد حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت
تسامحًا مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من
الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من مائة وجه؟ إذا بلغ به الحمق هذا
المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه
فيلقى في النار.
***
(أصل رابع في الإسلام الاعتبار بسنن الله في الخلق)
يتبع ذلك الأصل الأول في الاعتقاد - وهو أن لا يعول بعد الأنبياء في الدعوة
إلى الحق على غير الدليل وأن لا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات -
أصل آخر وضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها
في معاشها ومعادها، ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من
البشر وفي آثار سيرهم فيهم، فما جاء في الكتاب العزيز مقررًا لهذا الأصل
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ، {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا
تَحْوِيلاً} (الإسراء: 77) ، {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} (الروم: 9) إلخ.
في هذا يصرح الكتاب بأن لله في الأمم والأكوان سننًا لا تتبدل والسنن
الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلى حَسَبِهَا تكون الآثار وهي التي
تسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها بالقوانين، ما لنا ولاختلاف العبارات والذي
ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير
ولا يتبدل وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام
حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه، فإن غفل عن ذلك غافل
فلا ينتظرن إلا الشقاء، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه
فمهما بحث الناظر وفكّر وكشف وقرَّر، وأتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري
مع طبيعة الدين، وطبيعة الدين لا تتجافى عنه، ولا تنفر منه، فَلِمَ لا يعظم
تسامحها معه.
جاء الإسلام لمحو الوثنية عربية كانت أو يونانية أو رومانية أو غيرها في أي
لباس وجدت، وفي أي صورة ظهرت، وتحت أي اسم عرفت، ولكن كتابه عربي
والعربية لغة أولئك الوثنيين، أعدائه الأقربين، وفَهْم معناه موقوف على معرفة
أوضاع اللسان ولا تُعْرَف أوضاعه حتى تُعْرَف مواضع استعمال كَلِمِه وأساليبه،
ولن يكون ذلك إلا بحفظ ما نطق به العرب من منظوم ومنثور وفيه من آدابهم
وعاداتهم واعتقاداتهم ما يعيد عند الناظر في كلامهم صورة كاملة من جاهليتهم وما
فيها من الوثنية وأطوارها، وهكذا صنع المسلمون الأولون ركبوا الأسفار، وأنفقوا
الأعمار، وبذلوا الدرهم والدينار في جمع كلام العرب وحفظه وتدوينه وتفسيره
توسلاً بذلك إلى فهم كتابهم المنزل فكانوا يعدون ذلك ضربًا من ضروب العبادة
ويرجون من الله فيه حسن المثوبة فكان من طبيعة الدين أن لا يحتقر العلم للدين
الذي ولد فيه، بل قد يكون من الدين عِلْمُ ما ليس منه متى حَسُنَتْ النية في تناوله،
وهذا باب من التسامح لا يقدر سعته إلا أهل العلم به، أما المسيحيون الأولون فقد
هجروا لسان المسيح عليه السلام سريانيًا كان أو عبرانيًا وكتبوا الأناجيل باللغة
اليونانية ولم يكتب في العبرية إلا إنجيل متّى فيما يقال، ألا ترى أن اسم الإنجيل
نفسه يوناني؟ كل ذلك كراهةً لليهود الذين كان ينطق المسيح بلسانهم ويعظهم
بلغتهم وَتَحرُّجًا من النظر في دواوين آدابهم، وما توارثوا من عاداتهم.
***
(الأصل الرابع للإسلام قلب السلطة الدينية) [4]
أصل من أصول الإسلام أنتقل إليه وما أجلّه من أصل قلب السلطة الدينية
والإتيان عليها من أساسها، هَدَمَ الإسلامُ بناءَ تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها
عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا
على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، على أن الرسول عليه السلام كان مبلغًا
ومُذكرًا لا مُهيمنًا ومُسيطرًا قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم
بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا
في الأرض ولا في السماء بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه
وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم
مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهم انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة
والإرشاد قال تعالى في وصف الناجين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 3) وقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال: {فَلَوْلاَ
نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) .
فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعوهم إلى الخير وهم المراقبون
عليها يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه، وتلك الأمة ليس لها فيهم إلا
الدعوة والتذكير، والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتبع
عورة أحد، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب
على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن
رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل
ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها
وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله
عليه وسلم وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي وشيء من الناسخ والمنسوخ
من الآثار، فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة
والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما وله بل عليه أن يطالب المجيب
بالدليل على ما يجيب به سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من
الأعمال، فليس في الإسلام من يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه.
***
(السلطان في الإسلام)
لكن الإسلام دين وشرع فقد وضع حدودًا ورسم حقوقًا، وليس كل معتقد في
ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله، فقد يغلب الهوى وتتحكم الشهوة فيغمط
الحق، أو يتعدى المتعدي الحد فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وُجِدَتْ
قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا
يجوز أن تكون فوضى علي عدد كثير فلا بد أن تكون في واحد وهو السلطان أو
الخليفة.
الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه
الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، نعم شرط فيه أن يكون مجتهدًا أي أن يكون من
العلم باللغة العربية وما معها مما تقدم ذِكْره بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب
والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل
والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معًا.
هو على هذا، لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية، ولا
يرتفع به إلى منزلة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء
العقل، وكثرة الإصابة في الحكم [5] ثم هو مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب
والسنة، والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموا عليه، وإذا اعْوَجَّ
قَوَّمُوه بالنصيحة والإعذار إليه [6] (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) [7] فإذا
فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في
استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه [8] فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة
هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها
فهو حاكم مدني من جميع الوجوه.
ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج
(تِيوُكَراتِيك) أي سلطان إلهي، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن
الله وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة لا بالبيعة وما
تقتضيه من العدل وحماية الحَوْزَة بل بمقتضى الإيمان فليس للمؤمن ما دام مؤمنًا أن
يخالفه وإن اعتقد أنه عدو لدين الله، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق على ما
يعرفه من شرائعه؛ لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر
ظهر هو دين وشرع، وهكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى، ولا تزال
الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة إلى اليوم كما سبقت الإشارة إليه.
كان من أعمال التمدن الحديث الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية
فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه،
تشرع وتنسخ ما تشاء وتراقب وتحاسب كما تشاء وتحرم وتعطي كما تريد وخول
السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض وحق السيطرة على
ما يحفظ نظام اجتماعهم، في معاشهم لا في معادهم، وعدوا هذا الفصل منبعًا للخير
الأعم عندهم، ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في
شخص واحد ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرر الدين
وهو واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب
بالإخضاع، وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده إلا متاع، ويبنون
على ذلك أن المسلم مستعبدًا لسلطانه بدينه، وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان
يحارب العلم، ويحمي حقيقة الجهل، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح
مع العلم ما دام من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين، وقد تبين لك أن
هذا كله خطأ محض وبُعْد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام، وعلمت
أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير،
والتنفير عن الشر، وهي سلطة خَوَّلَها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم،
كما خَوَّلَها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم، ومن هنا تعلم (الجامعة) أن مسألة
السلطان في دين الإسلام ليست مما يضيق به صدره، وتحرج به نفسه عن احتمال
العلم، وقد تقدم ما يشير إلى ما صنع الخلفاء العباسيون والأمويون والأندلسيون من
صنائع المعروف مع العلم والعلماء، وربما أتينا على شيء آخر منه فيما بعد
يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ
الإسلام، وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير
الأحكام وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قرَّرَها الشرع
الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته
لربه أو يُنازعه في طريق نظره.
***
(الأصل الخامس للإسلام حماية الدعوة لمنع الفتنة عن المسلمين)
قالوا: إن الدين الإسلامي دين جهادي شُرِعَ فيه القتال، ولم يكن شرع في الدين
المسيحي، ففي طبيعة الدين الشدة على من يخالفه وليس فيها ذلك الصبر والاحتمال
اللذان تقضي بهما شريعة المسالمة وهي الشريعة التي وردت في كثير من الوصايا
المسيحية (مَنْ ضَرَبَك على خدك الأيسر فأَدِرْ له خدك الأيمن، من سَخَّرَكَ مِيلاً
فَسِرْ معه مِيلينِ) ونحو ذلك، حتى لقد طلبت فيها محبة الأعداء وإن كانت محبة
العدو مما لا يدخل تحت الاختيار بل ولا محبة الصديق وإنما الاختياري العدل بين
الأعداء والأولياء لكن في ملكوت الله كل شيء مُستطاع ولا شيء فيه بمستحيل،
قلنا: لكن انظروا هل دَفع الشر بالشر عند القدرة عليه وعند عدم التمكن من سواه
خاص بالدين الإسلامي أو هو في طبيعة كل قادر يُعْذِرُ إلى خَصْمِهِ؟ ليس القتل في
طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) ، ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على
الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم ويضمن السلامة من غوائلهم، ولم يكن ذلك للإكراه
على الدين ولا للانتقام من مخالفيه ولهذا لا تسمع في تاريخ الفتوح الإسلامية، ما
تسمعه في الحروب المسيحية، عندما اقتدر أصحاب (شريعة المسالمة) على
محاربة غيرهم من قتل الشيوخ والنساء والأطفال.
لم تقع حرب إسلامية بقصد الإبادة كما وقع كثير من الحروب بهذا القصد
بأيدي المسيحيين، وإنما كان الصبر والمسالمة دينًا عندما كانت القدرة والقوة تعوزان
الدين، وغاية ما يقال: إن العناية الإلهية منحت الإسلام في الزمن القصير من
القوة على مدافعة أعدائه ما لم تمنحه لغيره في الزمن الطويل، فتيسر له في شبيبته
ما لم يتيسر لغيره إلا في كهولته أو شيخوخته.
***
(مقابلة بين الإسلام الحربي والمسيحية السلمية)
الإسلام الحربيّ كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض تحت سلطانه ثم يترك
الناس وما كانوا عليه من الدين يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك
الاعتقاد، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونًا على صيانتهم والمحافظة على
أمنهم في ديارهم وهم في عقائدهم وعباداتهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار لا يُضايَقُون
في عمل ولا يضامون في معاملة خلفاء المسلمين كانوا يُوصون قوادهم باحترام
العُبَّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة كما كانوا
يصونهم باحترام دماء النساء والأطفال، وكل من لم يُعِن على القتال، جاءت السنة
المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين
(لهم ما لنا وعليهم ما علينا) و (من آذى ذميًّا فليس منا) واستمر العمل على
ذلك ما استمرت قوة الإسلام، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه
الأحكام، عند ما بدأ الضعف في الإسلام - وضِيقُ الصدر من طَبْعِ الضعيف فذلك
مما لا يُلْصَق بطبيعته، ولا يُخْلَط بطينته.
المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها
تراقب أعمال أهله وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر
مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم
وتعميدهم أَجْلَتهْمُ عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في
كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاءً حقيقيًّا، لا يمنع غير المسيحي من
تعدي المسيحي إلا كثرة العدد، أو شدة العضد، كما شاهد التاريخ وكما يشهد كاتبوه،
ذلك كله؛ لأنه ما جاء ليلقي سلامًا بل سيفًا؛ ولأنه جاء ليفرق بين البنت وأمها
والابن وأبيه [9] والإسلام يقول كتابه في شأن الوالدين: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إِلَيّ} (لقمان: 15) . فهو في اشتداده على المهددين لأمنه لا يقضي
بالفُرْقَة بين أب وابن ولا بين أم وبنت، بل يأمر الأولاد المؤمنين أن يصحبوا
آباءهم المشركين بالمعروف في الدنيا مع محافظتهم على دينهم.
فأنت ترى الإسلام من جهة يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها
بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه بنظام السلطة العامة، ثم يرخي لهم بعد ذلك
عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم، ومن
جهة أخرى ينهي أفراد المؤمنين عن مقاطعة ذوي قربانهم من المشركين ويطالبهم
بحسن معاملتهم.
ففي طبيعته أن يَكل أمر الناس في سرائرهم إلى ربهم، وفي طبيعته أن يجير
من لا يعتقد عقيدته، ويحمي من لا يتبع سنته، وإن كان في عمًى من الجهالة وخَبَل
من الضلالة، أَفَتَرى أنه يصعب عليه بعد ذلك أن يحتمل العلم والعلماء، ويضيق به
حلمه عن صنع الجميل بالفضل والفضلاء، ممن ينفق عمره في تقرير حقيقة، أو
كشف غامض أو تبيين طريقة؟ كلا ثم كلا، فمن بحث ونقب، وسبر ونقر، أو
شق الأرض، أو ارتقى إلى السماء فهو في أمن من أن يعرض الإسلام له في شيء
من عمله إلا أن يُحْدِث شغبًا، أو يُفْسِد أدبًا، فعند ذلك تمتد يد الملك لرد كيد
الكائد، وإصلاح الفاسد، بسماح من الدين.
***
(الأصل السادس مودة المخالفين في العقيدة) [10]
المصاهرة: أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية كانت أو يهودية
وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها،
والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهي منه بمنزلة البعض
من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته في العز والذل، والترحال والحل، بهجة
قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف
فيه، لم يفرق الدين في حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية، ولم
تخرج الزوجة الكتابية باختلافها في العقيدة مع زوجها من حكم قوله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) فلها حظها من المودة، ونصيبها
من الرحمة، وهي كما هي، وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما
أنها لباس له، وأين أنت من صلة المصاهرة التي تحدث بين أقارب الزوج وأقارب
الزوجة وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة على ما عُهِدَ في طبيعة البشر،
وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم، وذوي القربى لوالدتهم، أيغيب
عنك ما يستحكم من ربط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذي لم
يُعْهَد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه [11] .
ولا يخفى على صحيح النظر أن تقرير التسامح على هذا الوجه في نشأة الدين
مما يُعَوِّد القلوب على الشعور بأن الدين معاملة بين العبد وربه، والعقيدة طور من
أطوار القلوب، يجب أن يكون أمرها بيد علام الغيوب، فهو الذي يحاسب عليها، أما
المخلوق فلا تطول يده إليها، وغاية ما يكون من العارف بالحق أن ينبه الغافل، ويعلم
الجاهل، وينصح للغاوي، ويرشد الضال، لا يكفر في ذلك نعمة العشير، ولا يسلك
مسالك التعسير، ولا يقطع أمل النصير ولا يخالف سنة الوفاء، ولا يحيد عن
شرائع الصدق في الولاء، ماذا ترى في الزوجة الكتابية لو كانت من أهل النظر
العقلي وذهبت مذهبًا يخالف مذهب زوجها؟ أفينقص ذلك من مودته لها، أو يضعف
من شعور الرحمة التي أفاضها الله بينه وبينها، فإذا كان المسلم يتعود الاحتمال بل
يتعود المحبة والنصرة لمن يخالفه في عقيدته، ودينه وملته، ويألف مخالطته
وعشرته، وولايته ونصرته، أتراه لا يحتمل أن يرى بجواره من يُعْمِل نظره في
نظام الخليقة ليصل منه إلى اكتشاف سر أو تقرير أصل في علم أو قاعدة لصناعة
وإن كان قد يخالف ظاهرًا مما يعتقد، أو يميل إلى رأي غير الذي يجد، أفلا يسع
هذا ما يسع المجاهر بالخلاف، وهو معه على ما رأيت من الائتلاف؟ ؟
لو ذهبت أعد ما في طبيعة الإسلام من عناصر وأركان كلها تؤلف مزاج
الكرم، وتكون حقيقة المسامحة مع العلم؛ لأطلت على القارئ أكثر مما أطلت
ولهذا أرى من الواجب عليّ أن أختم القول بذكر أصل أشرت إليه ولا غنى لما نحن
فيه عن ذكره.
***
(الأصل السابع للإسلام الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة) [12]
الصحة: الحياة في الإسلام مقدمة على الدين، أوامر الحنيفية السمحة إن
كانت تختطف العبد إلى ربه، وتملأ قلبه من رَهَبِهِ، وتفعم أمله من رَغَبِهِ، فهي
مع ذلك لا تأخذه عن كَسْبِهِ، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف
الزهادة، ولا تُجَشِّمه في ترك اللذات ما فوق العادة.
صاحب هذا الدين صلى الله عليه وسلم لم يقل (بع ما تملك واتبعني) ولكن
قال لمن استشاره فيما يتصدق به من ماله: (الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك
أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) [13] .
الرُّخص: فرض الصوم على المؤمنين لكن إذا خشي منه المرض أو زيادته
أو زادت المشقة فيه جاز تركه بل قد يجب إذا غلب على الظن الضرر فيه،
الوضوء والغسل من شروط الصحة للصلاة إلا إذا خشي منه الضرر أو عرضت
مشقة في تحصيل الماء. القيام مما لا تصح الصلاة إلا به إلا إذا أصابت المصلي
مشقة فيه فيسقط ويصلي قاعدًا. السعي إلى الجمعة واجب إلا إذا كان وحل غزير
أو مطر كثير أو ما يوجب تعبًا ومشقة فيسقط.
وهكذا تجد القاعدة قد عمت: (صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان) فترى
الدين قد راعى في أحكامه سلامة البدن كما أوجب العناية بسلامة الروح.
الزينة والطيبات: أباح الإسلام لأهله التجمل بأنواع الزينة والتوسع في
التمتع بالمشهيات على شريطة القصد والاعتدال وحسن النية، والوقوف عند الحدود
الشرعية، والمحافظة على صفات الرجولية، جاء في الكتاب العزيز:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31-33) ثم عد الله النعيم والجمال والزينة من نعمه علينا التي يذكرنا
بها فضله، ويهيج بها نفوسنا لذكره وشكره، كما قال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ
أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ *
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 5-8)
ثم قال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 14) .
الاقتصاد: ووضع قانونًا للإنفاق وحفظ المال في قوله: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا
إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء: 27) ، {وَلاَ تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورا} (الإسراء: 29) .
النهي عن الغلو في الدين: وخشي على المؤمن أن يغلو في طلب الآخرة
فيهلك دنياه وينسى نفسه منها فذكرنا بما قَصَّهُ علينا أن الآخرة يمكن نيلها مع التمتع
بنعم الله علينا في الدنيا إذ قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: 77) .
فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها،
فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقته واعتبره حيوانًا ناطقًا لا جسمانيًا صرفًا، ولا
ملكوتيًا بحتًا، جعله من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة، استبقاه من أهل هذا
العالم الجسداني، كما دعاه إلى أن يطلب مقامه الروحاني، أليس يكون بذلك وبما
بينه في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: 29) قد
أطلق القيد عن قواه، لتصل من رقة الحياة (مع القصد) إلى منتهاه، والنفوس
مطبوعة على التنافس، قد غرز فيها حب التسابق فيما تعتقده خيرًا، أو تجده لذيذًا
أو تظنه نافعًا.
وليس في الغريزة الإنسانية أن يقف بها الطلب عند حد محدود أو ينتهي بها
السعي إلى غاية لا مطلع للرغبة وراءها، بل خصها الله بالمكنة من الرقي في
أطوار الكمال من جميع وجوهه إلى ما شاء الله أن ترقى بدون حدٍ معروف.
فإذا جمع سائق الأنفس ومُزْجِيها ومرشدها وهاديها بين شاحذين: شاحِذ التمتع
بمتاع الحياة الدنيا، وشاحذ الرغبة في النعيم الدائم في الآخرة، فقد جمع لها كل ما
يسمو بها عن الرضاء في الدنيا بالدون، وفي الآخرة بعذاب الهون، فترى كل نفس
تمضي مع استعدادها، بشهامة فؤادها، مضاء الزَّميعِ [14] لا تخشى العثرة بالوعيد،
ولا تقعد عن مطلبها قِعدة الرِعديد [15] فتطلب منافعها، من هذا الكون الذي
وُجدت فيه ووجد فها، فتسير في مناكب الأرض، ولا تكتفي عن الكل بالبعض،
وتبحث في تربتها، ولا يقف بها ظاهرها عن باطنها؛ ولا يحجبها ظهرها عن
مديديها إلى ما في جوفها، ولا تجد ما يصدُّها عن النظر في الهواء، والبحث في
الماء، والاهتداء بنجوم السماء بعد معرفة مواقعها وحركتها في مداراتها واستقامتها
وانحرافها، وظهورها وخنوسها، وبالجملة فكل مستعدِّ لوجه من وجوه النظر أو
الولوج في باب من أبواب العلم، ينطلق إلى حيث يبلغ به استعداده إما للنجاة من
ضرورة، وإما لاستتمام منفعة أو استكمال لذة لا يجد من نواهي الدين ما يصدّه عن
مطلب، ولا ما يكف يده عن تناول رغيبه، أين هذا من ذلك الذي لا يرى الخلاص
إلا في مجافاة هذا العالم ولذائذه ويجد أن الغنى والثروة من الحجب التي لا تُخرق
تحول بينه وبين ملكوت السموات.
كيف يتسنّى للمسلم أن يشكر الله حق شكره، إذا لم يضع العالم بأسره تحت
نظر فكره لينفذ من ظاهرة إلى سرّه ويقف على قوانينه وشرائعه ويستخدم كل ما
يصلح لخدمته في توفير منافعه، كيف يشكر الله إذا توانى في ذلك وقد أرشده الله
في كتابه وبسنة نبيه إلى أن عالمه إنما خلق لأجله، وقد وضعه الله تحت تصرف
عقله، انظر إلى لطف الإشارة في الآية المتقدمة {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} (الأعراف: 32) إلخ، حيث قال: {ِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32) فأهل العلم هم الذين يعرفون مقدار نعم الله تعالى فيما يرفه به
معيشتهم، ويُجَمّل به هيأتهم ويجلي به زينتهم.
المسلمون مسوقون بنابل من دينهم إلى طلب ما يكسبهم الرفعة والسؤدد والعزة
والمجد ولا يرضيهم من ذلك بما دون الغاية ولا يتوفر شيء من وسائل ذلك إلا
بالعلم، فهم محفوزون أشدَّ الحفوز إلى طلب العلم وتلمسه في كل مكان، وتلقيه من
أيّة شفة وأي لسان، فإذا لاقاهم العالم في أي سبيل أو عثروا به في أي جيل، أو
ظهر لهم من أي قبيل، هشوا له وبشوا ونصبوا إليه وكمشوا [16] ، وشدوا به
أواصرهم، وعقدوا عليه خناصرهم، ولا يبالون ما تكون عقيدته، إذا نفعتهم
حكمته، (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) [17] ألم يأتهم عن
ربهم: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) ألم يسمعوا في وصفهم قوله: {الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} (الزمر: 18) ذلك شأن المسلم مع العلم إذا كان
مسلمًا حقًّا. وذلك ما تنجرُّ إليه طبيعة دينه. وحديث (اطلبوا العلم ولو
بالصين) [18] إن كان في سند لفظه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقال فسند معناه
متواتر فإنه سند القرآن نفسه فإن الله يفضل العلم بدون قيد ولا تخصيص. فالمسلم
مطالب بطلب العلم ولو في الصين ولم يكن في الصين مسلم على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم لا شيء ينقلب عند النفس الإنسانية لذة بنفسه وإن كان في أول أمره
مطلوبًا لغيره مثل العلم. تطلب العلم أولاً لحاجتك إليه في تقويم معيشة أو ترفيه
حال، أو دفاع عن نفس وماله، ثم لا تلبث إذا أوغلت فيه أن تجد اللذة في
العلم نفسه فتصيب اللذة بتحصيله والوصول إلى دقائقه غاية تقصد بنفسها.
وتضمحل فيها كل غاية سواها وعلة ذلك ظاهرة فإن العلم مسرح نظر النقل،
والعقل قوة من أفضل القوى الإنسانية بل هي أفضلها على الحقيقة قد وضع لها
العليم الحكيم لذة كما منح لكل قوة سواها نعيمًا ولذة. ولست في حاجة إلى تعديد لذة
البصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس فالحيوان يعرفها بله الإنسان.
وكلما عظم اختصاص القوة بالنوع عظمت لذته باستعمالها فيما وجهت له
فيمكنك أن تستنتج من ذلك أن لا شيء عند الانسان ألذ من كشف المجهول. وإحراز
المعقول. وقد سمح الإسلام للمسلم أن يتمتع في هذه الحياة الدنيا بما يلذ له مع
القصد والاعتدال. أفلا يكون من لذائذه ومتممات نعيمه أن يسيح في مملكة العلم
ليتمع عقله، كما يسيح في بسيط الأرض ليكسب رزقه ويُقيت أهله على أن العلم
كان من ضروريات معيشة المسلم أو حاجياتها كما ذكرنا فإذا طفق يستنبط ماءه
للضرورة، ويستجلي سناءه للحاجة، فلا يلبث أن يصير هو حاجة نفسه، وشاغله
عن حاجات حسه، حتى يدخل معه في رَمْسِهِ، كما وقع لكثير من المسلمين. قال إمام
جليل من أئمتهم (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله) .
... ... ... ... ... (له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن أبي رزين السائل رضي الله عنه.
(2) المنار: أي لا يؤخذ منها بالتسليم بناء على أنها من الله ولا ينافي هذا أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل وكتبهم بما يقيمون من البرهان على ذلك لا بمجرد التسليم ولا باعتبار أنهم رسل الله، ثم بعد الإيمان بالله وبهم يكمل إيمانه بالأخذ عنهم.
(3) راجع الصفحة 731 من مجلد المنار الرابع وانظر الكلام في الآيات الكونية والآيات النفسية العلمية.
(4) هذا الأصل هو ضد الأصل الثاني من أصول النصرانية (راجع ص 414) .
(5) المنار: من شواهد ذلك ارتفاع قدر العلماء على الخلفاء الذين قصروا عنهم في الفهم والعلم ألم يأتك نبأ الإمام مالك مع الخليفة هارون الرشيد (رحمهما الله) وكيف أنزل الإمام الخليفة عن المنصة وأقعده مع العامة عند إلقاء الدرس؛ لأنه في رتبة المستفيد.
(6) من شواهد ذلك قول الخليفة الأول رضي الله عنه في خطبته: (وإن زغت فقوموني) راجع 734 من مجلد المنار الرابع.
(7) حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما (راجع 732 من مجلد المنار الرابع) .
(8) مثال ذلك أن يكون له عصبية أقوى من الأمة يخشى أن يبيدها بها (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
(9) تقدم نص إنجيل متى في هذا ومثله قول إنجيل لوقا 15-25 و26 (وقال لهم (يسوع) : إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وإخوانه حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا) وفي الباب 19 من هذا الإنجيل ما نصه (27 أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم تأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) وأما أسفار التوراة فقد جاء فيها نحو ذلك في القسوة مع الأهلين المخالفين ومع سائر المحاربين قال في 13: 6-9 من تثنية الاشتراع (وإذا أغواك سرًا أخوك ابن أمك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب القريبين منك أو البعيدين عنك من أقصاء الأرض إلى أقصائها فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه ولا ترق له ولا تستره بل قتلاً تقتله إلخ) وفي سفر التثنية أيضا (20: 10-16) ما نصه (حين تقرب من مدينة لتحاربها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وإن لم تسلم لك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم، وكلّ ما في المدينة كُلْ غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك الذي أعطاك الرب إلهك وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة جدًا منك التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا نستبق منهم نسمة ما) .
(10) هذا الأصل الإسلامي هو ضد الأصل السادس للنصرانية (راجع ص 418) .
(11) المنار: يقول بعض النصارى: إذا كان الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج بالكتابية ليعلم البشر التآلف والتعاطف مع التباين في العقيدة والتخالف فلماذا لم يسمح للكتابي أن يتزوج بالمسلمة لهذا الغرض؟ والجواب أن الرجال قوامون على النساء؛ لأنهم أقوى منهن فليس من العدل ولا من الرحمة أن يسمح لقوي يفرق دينه بينه وبين زوجته الضعيفة ويأمره ببغضها وببغض أولاده ووالديه إذا خالفوا عقيدته أن يتزوج بامرأة مخالفة، وأباح الإسلام ذلك لمن يعمل بما أمر من العدل والرحمة وهو المسلم.
(12) هذا الأصل ضد الأصل 3 للنصرانية (راجع 413 من المنار) .
(13) المنار: يشير الكاتب إلى حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة: كان سعد مريضًا في حجة الوداع فعاده النبي صلى الله عليه وسلم وكان عازمًا على الصدقة بثلثي ماله وفي رواية بماله كله فسأله النبي عما ترك لولده فقال: هم أغنياء وفي رواية الجماعة أنه لم يكن له إلا بنت وفي رواية أحمد والنسائي أنه أمره أولاً بأن يتصدق بالعشر والحاصل أنه ما زال يراجعه حتى رضي صلى الله عليه بالثلث وحرم الزيادة بالحديث.
(14) هو الحازم القوي العزيمة يزمع على الأمر فيمضي فيه ولا ينثني، والجيد الرأي المقدام.
(15) الرِّعديد الجبان الكثير الارتعاد.
(16) لعل نَصَبوا من نَصَب السَّير وهو أن يسير طول يومه سيرًا ليّنا وكَمِشَ الرجل كان سريعًا ماضيًا وكَمًشَ كماشة شجع أسرع.
(17) المنار - حديث رواه الترمذي عن أبى هريرة، ورواه غيره بألفاظ أخرى والمعنى واحد ومنه رواية موقوفة على ابن عمر رضى الله عنهما (خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت) وفي رواية عن علي كرم الله وجهه (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) .
(18) رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي في شُعب الإيمان والمدخل وابن عبد البر في العلم والخطيب في الرحلة والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم، وله طرق كثيرة يقوي بعضها بعضًا.(5/441)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الشذرة الثامنة من جريدة أراسم [*]
(تجلي العلم في العمل)
زرت بالأمس أنا وأميل ولُولا مسبك قصدير في بانزانس واقع على
ضفاف خليج الجبل ولست أقضي العجب من منعطف هذا الخليج الذي كأنه في
عظمه وجماله صدر تيتيس [1] أحاطت به السكة الحديدية فجعلت له من شريطها
قلادة. يوجد المسبك تجاه الخليج ويتألف بناؤه من أماكن قديمة تقوم على أعمدة من
الخشب تغطيها سُقُفٌ من البلاط الأسود لا يتردد الناظر إليها في أن يحسبها سقائف
لانخفاضها وانفراجها للرياح من كل ناحية.
رأينا في إحدى هذه السقائف أكوامًا من تراب أسمر يسمى بمعدن الحجر
جمعت فيه ووزعت على غير نظام وتنحصر أعمال المسبك في إحالة هذا التراب
القسطني اللون (كذا) إلى معدن يطلبه التجار كثيرًا.
كانت زيارتنا للمسبك في نحو الساعة التاسعة من المساء أي بعد غروب
الشمس بزمن طويل في ليلة ظلماء كان يتخلل ظلامها بصيص نار الأفران التي
بنيت بالآجر وجعل لكل منها باب من حديد في وسطه ثقب مستدير كأنه حدقة من
نار.
يصهر القصدير وبعد مكابدته مِحَنًا مختلفة يتجرد مما كان ممتزجًا به من
المواد المكدرة لصفائه وهي الحصا والكبريت والنحاس فإذا تم ذلك جاء وقت صبه
وهي الساعة المشهورة. يخرج هذا المعدن الثقيل الصافي من ثقب في أسفل الفرن
وقد بلغ من الحرارة درجة البياض ويسقط في خابية من الحديد المصبوب فيذكر
الناظر ساعة باستدارة سطحه ولمعانه القمر في إحدى ليالي الصيف أبيض
ساطعًا.
إذا صُبَّ القصدير في الخالية آخر مرة (ولا بد من إذابته أكثر من مرة)
ألقيت عليه أغصان من الشجر الأخضر خصوصًا أغصان التفاح فتفوره وتهيجه
وويل حينئذ للعمال أو الناظرين الذين لا يبادرون بالابتعاد عنه ليتقوا عوادي هذا
المعدن الغضبان. ذلك أن فقاقيع الهواء التي تنفصل منه ترتفع معها قطيرات
محرقة تسمع لها نشنشة تنبجس من كل ناحية انبجاس الشرر من باقة نار
الزينة.
لا جرم أن أميل ولُولا لم يدركا السر الكيماوي في جميع هذه الاستحالات التي
تعاورت معدن الحجر قبل صيرورته قصديرًا بل إنهما ربما لم يحصل في ذهنهما
من مجموع ما حصل من الأعمال إلا معنى في غاية الإبهام ولكن قد شاقهما من هذا
المنظر جدته فإنهما رجواني أن آخذهما إلى المسبك مرة أخرى.
أرى أن القائمين على تربية الناشئين قد أفرطوا في التفريق بين العلم وبين ما
يربطه بالصناعة من الروابط ومع كوني لا أنكر أن ما في المدارس من المعامل
الكيماوية والمجموعات التعليمية والدروس العامة هو من المساعدات العظمى على
التعليم، وأقصد قصدًا أكيدًا أن أستعين به على تعليم ولدي في مستقبله تراني أفضل
الآن أن أختلف به إلى معهد آخر تتمثل فيه أمامه الأعمال وتتراءى له الوقائع.
زرنا معًا متحفًا من متاحف الدفائن الأثرية في بانزانس، وهي ليست كثيرة في
بلاد كرنواي والكثير فيها إنما هو المعادن المفيدة كالرصاص والقصدير والنحاس
وغيرها من المعادن الحجرية الغريبة فلم يلفت ذهن (أميل) ما في خزائنه من قطع
هذه الدفائن المرتبة إلا قليلاً، وأما دولوريس فأخص ما استرعى نظرها ما يوجد فيها
من فلذ البلور وبعض الحجارة التي لو تناولتها يد الصناعة لصارت من مواد الزينة
الجميلة.
ثم أخذنا طريقنا بعد ذلك بأيام إلى متحف كبير يمتد مكشوفًا على ضفاف
المحيط بين جبال من الصوان بَعَّجَتْهَا يدُ الإنسان فكان مَرْآه في نظر الفلاحين أحسن
من جميع متاحف الدنيا.
ففرق عند الطفل بين أن يرى من وراء الزجاج معادن حجرية رتبت في
رواق ترتيبًا خاليًا من دواعي التأثر وبين أن تتمثل أمامه الصخور في وضعها
الطبيعي ويشاهد الأرضين وقد شاه وجهها وانقلبت ظهرًا لبطن وكتل البلاط الأسود
والرخام السماقي في جسامتها المريعة وقد تناوبها المصدع وبارود المدفع فأوسعاها
صدعًا وأشبعاها كسرًا، وقد هاج شوق (أميل) منظر أعمال النحت هيجًا شديدًا
فطفق يخاطب النحاتين، ولا بدع فالإنسان في سِنِّهِ لا يستنكف أن يخاطب كل من
يراه؛ لأن قلبه حينئذ لا يكون قد أفسده الكِبْر، وقد استفاد من مجاورته معهم فلم
تذهب عليه عبئًا.
إن فتى إيقوسيًّا اسمه هوج ميلار صار من أشهر العلماء في بريطانيا العظمى
ببركة تكسيره الأحجار ونحتها من منحت حجر رملي قديم واستولى استيلاء المالك
على إقليم ذلك المنحت الحافل بالدفائن الأثرية وأصبح اسمه كأنه علم له.
ربما احتذى (أميل) مثال هذا العالم إذا زرنا معا إقليم ديقُو نشَايرْ فاعتضد
المطرقة وحمل المتحاف فإني أراه مدفوعًا على ذلك بسائق الطبع؛ لأنه يشتهي كغيره
من أترابه أن يهجم على ما يلاقيه من العقبات فيدمره ويزيله؛ ولأن الدفائن الأثرية
التي يستخلصها الإنسان بنفسه من الصخرة أعلى في نظره كثيرًا مما يجده منها
مرتبًا في المتاحف ذلك؛ لأن آثار الأجسام العضوية تكون غالبًا من الاختباء في
باطن الحجر بحيث إنه لا بد قبل استخلاصها من تمييزها منه بل ربما صح لي أن
أقول: إنه لا بد من تخمين وجودها بما يبدو من تحت غطائها الجافي من سمة تدل
عليها أو طرف من أطرافها ثم إن الصخرة تارة تكون صلبة فتقاوم منحات الناحت
وتحتمله وطورًا تكون هشة فتتلاشى وتتفتت وفي كلتا الحالتين يَهدم الخرْق والخطأ
بنقرة واحدة عملَ الدهر في قرون كاملة وما أكثر ما يتعلم الطفل في هذا الجهاد.
نعم إن (أميل) سيخدع فيه غير مرة وسيتفق له أن يخسر لقطاته أو يعيها
على حين اعتقاده أنه حصل عليها سالمة من كل نقص ولكن لا شيء في هذا فإن
مثله من اليافعين إذا غلبته العقبات المادية وجد عليها وبعثه ذلك على الانتقام لنفسه منها فلا يلبث أن يظفر بها.
كأن مشاهدة المناحت واسطة ينتقل بها الذهن من علم طبقات الأرض إلى فن
العمارة فسيذكر (أميل) إذا عرض له في طريقه ما في المدن من الأبنية الفخيمة
أن حجارتها تحنت من قاع البحار القديمة، وإذا رأى المعابد والقصور فإن نوع
حجارتها سيحضر في ذهنه الصخرة التي نحتت منها والمخلوقات العضوية القديمة
التي صارت هذه الصخرة رَمْسًا لها.
العلم الذي يحصله الإنسان بعرق جبينه ربما لا يكون واسعًا ولكنه يكون متينًا
راسخًا خذ لذلك مثلاً: الزهرة التي تُجْنَى من غَوْر بعد اقتحام ما كان دونها من
العقبات يكون لها في ذاكرة جانيها آثار أقوى مما يكون لزهرة رآها بلا عناء مجهزة
محفوظة في إحدى صحف المجموعات النباتية. وما يجمعه المرأ بنفسه من المحار
والصدف على شاطئ البحر يدرب بصره على إدراك ما يميزه من صفاته الظاهرة
أكثر مما يدربه على ذلك ما يوجد منه مرتبًا ومَعَنْوَنًا في رواق مُعَدّ له فالبحث
يُكسب البصر واليد دربة ومرانة.
أنا لا أشك في أن التجارب الكيماوية والطبيعية مفيدة لمن منحوا الميل إلى
التعلم ولكني أرى أن عامة الأطفال قد يبدون من الارتياح إلى العلم معمولاً به في
الصناعة ومن الانفعال بما يرونه من آياته فيها أكثر مما يبدونه لمثل هذه التجارب
وقلما يوجد معمل من المعامل الكبيرة إلا وهو أيضًا مدرسة كبرى للعقل فما أبهر ما
يُرى فيه من قوى للطبيعة مقيدة ومطلقة و (كلٍّ) مؤلف من عجلات وأسنان تسحق
الحجر سحقًا وتمضغ الحديد ومضغًا وتقطع الخشَبَ قطعًا وآلاف مؤلفة من إنباض
البخار الذي يحرك جسم هذا (الكل) وإنسان استبدل بأعضائه هذه الأعضاء الصلبية
في كده وكدحه فحلت محله وجرت على مقتضى إرادته وقام هو عليها يلاحظ
مجاهداتها العجيبة بعين قريرة ساكنة.
نعم إن هذا المشهد لا يأخذ أول الأمر إلا ببصر اليافع ولكنه متى كان فيه
شيء من الشوق إلى العلم لا يلبث أن يسأل عن سبب هذه الحركات الاستقلالية وعَمَّا
للمواد بعضها على بعض من التأثير المتناوب وبالجملة عن سر الطرق التي تحيل
المادة الفطرية إلى محاصيل صناعية.
ليس أحقر الأشياء بأقلها دائمًا في صنعة إثارة للشوق ولا ملاحظته بأقل
جدوى في التعليم فعلبة الكبريت والدبوس والشمعة (كما بَيَّنَه فاراداي [2] حق البيان)
لها بعلمَيْ الطبيعة والكيميا تعلق يدركه كل واحد من الناس ويعرفه لأول نظرة.
أنا أعلم أن تحصيل عِلْمِ عِدَّةٍ من الصناعات والاختصاص به يقتضي أن
يعيش الإنسان أضعاف عمره ولذلك لا أرجو مطلقًا أن (أميل) إذا رأى غيره
يشتغل بحرفة يحيط خيرًا بأسرار العمل فيها.
على أن الشبان أقل حاجة إلى الوقت من غيره فلو أن القائمين على التعليم
أحسنوا في توجيهه إلى غايته ما شككت أبدًا في أن الطفل الذي بين الثانية عشرة
والثالثة عشرة من عمره يتعلم في المعامل شيئًا كثيرًا.
وجملة القول أن لدينا في جميع المدن الكبرى بل وفي القرى كثيرًا من معاهد
العمل التي لو اختلف الطفل إليها لأدرك بالعيان والحس بعض قوانين المادة وتعلم
حب العامل وتعظيمه، وكانت أقل فائدة له من ذلك: ملاحظة طرق الصناعة أو
الزراعة إن لم يباشر شيئًا من أعمالها بيديه وتلك مزية أخرى له فليت شعري هل
يصح في نظر العقل أن نغفل هذه الينابيع المتدفقة للعرفان وتبخس حقوقها من
العناية وتكون دراسة الألفاظ هى موضع الاهتمام والرعاية. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من (باب تربية اليافع) من كتاب أميل القرن التاسع عشر في التربية والتعليم.
(1) تيتيس جنية من جنيات أساطير اليونان.
(2) فاراداي عالم إنكليزي من أشهر علماء الطبيعة اشتهر بتأليفه في الكهربائية ولد في سنة 1794 ومات سنة 1867.(5/466)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مثال من أمثلة تسامح الإسلام
وضيق صدر المسيحية
تعرض صاحب مجلة الجامعة للكلام في علم العقائد الإسلامية وهو لا شك
جاهل به؛ لأنه لو عرفه لكان مسلمًا أو لو كان مسلمًا لعرفه، فزعم أن علماء الكلام
(وهو العلم الذي وضع لإثبات العقائد وردّ الشُّبَهِ عنها) ينكرون ارتباط الأسباب
بالمسببات، وإن كان القرآن يثبتها.
وتعرَّض للكلام في طبيعة الدينين الإسلامي والمسيحي فزعم أن طبيعة الإسلام
تنافي العلم والحكمة دون طبيعة المسيحية ولذلك ارتقت العلوم في أوربا وماتت في
البلاد الإسلامية يعني أن طبيعة الإسلام حكمت على المسلمين بالجهل والغباوة والبعد
عن المدنية، ونتيجة هذا أنهم لا يرتقون إلا إذا تركوا هذا الدين وصاروا نصارى
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى} (البقرة: 120) وتعرض للكلام في تاريخ بعض حكماء الإسلام، فأورد عنه ما
يقتضي كفره وهو غير صحيح. كل هذا في جزءٍ واحد من أجزاء مجلته وهو
أعظم جناية جناها على قارئيها من المسلمين؛ لأنه يشكك غير العالم الراسخ في دينه،
والشك في الدين كفر.
قامت قيامة من اطلع على هذا الجزء من أذكياء المسلمين وعدوا هذه المجلة
أضر عليهم من المجلات النصرانية الدينية التي تطعن في الإسلام طعنًا صريحًا؛
لأن مجلة الجامعة تكلمهم بلسان العلم المحبوب عندهم بطبيعة دينهم فيخشى أن يغتر
الغافل بما فيها، وتلك المجلات والجرائد تقابلهم بالعدوان الظاهر فينفرون منها.
وقد علم القراء أن المستائين رجعوا إلينا وإلى إمام من أئمتنا راغبين في الردّ
ورأوا أن ذلك الإمام كتب في بيان الحقيقة كتابة أثنى فيها على صاحب الجامعة وعلى
مجلته على ما كان منه، وأن تلك الكتابة كانت مثال الأدب والكمال الذي يليق بسعة
صدر الإسلام وتسامحه مع المخالفين، وإن كانوا طاعنين وقادحين، والتمس له
العذر على طعنه بالدين القيّم وبأعظم علمائه وحكمائه.
وَرَأَوْا أيضًا أن المنار قد حسن الظن فيه واعتذر عنه وَبَرَّأَهُ من سوء القصد.
ولكن صاحب الجامعة لم يرض بذلك كله وأثبت لنا في الجزء الأخير أنه متعمد
لذلك الطعن ومُصِرّ عليه. وقد قابلنا على الاعتذار عنه بالسب والشتم.
أما شتمه لنا فلأننا قلنا أنه قال: إن تلك المقدمة تنتج هذه النتيجة. يعني أن
(الفضيلة والحقيقة والضمير) التي يلهج بأسمائها تقضي علينا أن نقول: إنه لا
يعرف اللغة الفرنسية إذا هو قال إننا لا نعرفها. وأما شتمه للإمام صاحب الرد فلم
ينتحل له سببًا والسبب معروف وهو تأثير النصرانية في عدم التسامح وحملها على
الشدة مع المخالف بقدر الاستطاعة. وفي مصر الآن من الحرية ما يسمح للصغير
أن يتسامى ويتسلّق للطعن في الكبير، وربما زين الغرور لصاحبه أن كلام الوضيع
في الرفيع هي الطريقة المثلى للانتقال من الضعة إلى الرفعة لذلك نرى أكثر
المتطفلين على إنشاء هذه الجرائد التي تبرز كل حين في مصر ثم تخفى كفقاقيع
الماء يستهلون جرائدهم بالنيل من الجرائد الغنية المنتشرة توهمًا أنها تهتم بالرد
عليهم فيكونون سواء وينالون ما نال أولئك من الشهرة والثراء، ولا نرضى هذه
الخطة للجامعة وصاحبها.
قال بعض الناس الذين رأوا الجامعة الأخيرة للإمام: أرأيت ما كان من
صاحب الجامعة الذي أثنيت عليه وعلى مجلته حتى رفعتها إلى أعلى منزلة
للمجلات. فقال الإمام: (لا خسارة في حسن الأدب) ولم يزد على ذلك
شيئًا.
فهل يتوهمنّ الرصيف المحترم صاحب الجامعة أن صاحب هذا الأدب الباهر
يتنازل تواضعًا إلى تصحيح مقاله والعناية بإرشاده بعد العلم بأنه لا قابلية فيه لذلك
ولا استعداد، ولا يعرف قيمة هذا الإرشاد، أم يتوهمن أن أحد تلامذته يحفل برد
سفسطة الجامعة وتحريفها الكلم لأجل تصحيح أغلاطها. أما ما تفتأت به على
المسلمين وتتقوله على اعتقادهم فإننا نبّين الحق فيه لا بصفة رد أو مناظرة بل
نجعله في باب رد شبهات المسيحيين وحجج المسلمين؛ لأن الجامعة التي كان
اسمها (الجامعة العثمانية) ثم صار اسمها (الجامعة) فقط قد صارت (الجامعة
النصرانية) ولا نعيب صاحبها بخدمة الدين الذي ينتسب إليه ولكننا ننصح له
بالتروي والاعتدال.
المنار مجلة مِلِّيَّة، كما أنها علمية أدبية، وهي -مع ذلك- لا تتعرض لدين
المخالفين إلا ردًّا على ما يعتدون به على الإسلام. والجامعة لا تعترف بأنها مجلة
ملية مسيحية وهي مع ذلك تطعن في الإسلام والمسلمين ابتداءً. وتفتحر الكلام في
ذلك افتحارًا، فهي في ظاهرها علمية أدبية صحية كالمقتطف والهلال وفي باطنها
دينية ملية كراية صهيون وبشائر الإسلام والمشرق ونحب لها أن يكون ظاهرها
كباطنها.
قلنا: إن صغار التلامذة لا يحفلون برد سفسطة الجامعة التي سمتها ردًّا فإن
القيد الذي خلفته لتصحيح زعمها إنكار المتكلمين للأسباب (وهو أنهم ينكرونها كما
يفهم الفلاسفة) لا يفيدها شيئًا. فإن قولها الأول بالإنكار كان مطلقًا وحكم المطلق
أن يجري على إطلاقه كما هو معلوم.
وقولها: إن ابن رشد كَفَّرَ الأشعرية وقال بضلالهم لأمور نسبها إليهم منها
إنكار الأسباب الضرورية. واستدلالها بذلك على أن المتكلمين ينكرون الأسباب كما
يفهمها الفلاسفة هو حجة عليها؛ لأن ابن رشد يرد على الأشعرية بذلك ردًّا دينيًّا -
وهو من علماء الدين الراسخين - لأنه بنى عليه التكفير والتضليل، والفلاسفة لا
يسمون مخالفهم كافرًا فكأن ابن رشد يقول: إن من أنكر الأسباب فهو عند المسلمين
كافر أو ضالّ؛ لأن من أصول الإسلام التي يشهد لها القرآن وتنطبق على سيرة
السلف والخلف المهديين أن الأسباب مربوطة بالمسببات وأن للكون سننًا ونواميس
مطردة، قال الله تعالى فيها: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
وأما زعمه أن المعتزلة ليسوا من المتكلمين، فكل طالب علم يعرف تقوّله
فيه على المسلمين، فالمتكلمون منهم المعتزلة ومنهم الأشاعرة ومنهم الماتريدية.
وكذلك الفقهاء منهم الحنفية والشافعية والمالكية. وكما اختلف هؤلاء في بعض
المسائل الفقهية وكلهم فقهاء اختلف أولئك في المسائل الكلامية وكلهم متكلمون.
والجميع مسلمون من أهل القبلة.
ومن أعجب المزاعم زعمه أن الاعتقاد بوجود النواميس (أي سنن الكون)
والاعتقاد بتغيرها نقيضان لا يجتمعان. وهو يعلم أن الفلاسفة أنفسهم يقولون بإمكان
تغير النواميس بل يقولون بأن التغير حدث ويحدث بالفعل، وهو ما يعبرون عنه
بفلتات الطبيعة. فإن احتاج الفلاسفة إلى تأويل هذه الفلتات فالمسلمون أحوج؛
لأن أساس هذه الفلسفة كلها قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
ومما يُضْحِك صغارَ التلامذة استدلالُه على معاداة الإسلام للعلم والعقل بكلمة
جارية على ألسنة العامة لا يعرف قائلها وهي: (من تمنطق تزندق) ويفهمون منها
أن من تعلم المنطق صار زنديقًا. هذه الكلمة لعاميٍّ مجهول في شخصه وفي ملته
ودينه، والدليل على كونه عاميًّا أن معنى (تمنطق) لبس المنطقة وليس معناها أنه
تعلم المنطق خلافًا لما يُوهِمُه (المصباح) ، يستدل بهذه الكلمة صاحب الجامعة
الذي لا يراعي في قوله إلا (الحقيقة والضمير) على ما ذكره وينسى أو يتناسى أنه
لا يوجد طالب علم في المسلمين لم يقرأ المنطق وأن الأزهر لا يعطي شهادة العالمية
إلا لمن يؤدي الامتحان في علم المنطق ومثله جميع المدارس الإسلامية. ومن كلام
حجة الإسلام (من لا يعرف المنطق فلا ثقة بعلمه) .
لا يبعد أن يكون صاحب الجامعة قد كتب ما ذكرنا عنه وهو يعتقد أنه مموِّه.
ويقرب أن يكون مغترًّا بما أجاب به عن تخطئته في تلخيص فلسفة ابن رشد؛ لأن
سنده في هذا الجواب ثلاثة أمور:
أحدها: زعمه أن النساخ من العرب كانوا يحذفون من كتب ابن رشد
المواضع المهمة أو يبدلونها فرارًا من الملام والاضطهاد. أي أن أولئك النساخ كانوا
علماء بالفلسفة وبعلوم الدين ومكلفين بأن يتصرفوا بما ينقلونه بحسب معارفهم حتى
يكون الكتاب مشتملاً على فلسفة الناسخ لا فلسفة المؤلف. فإذا خالفوا لامهم من استأجرهم للنسخ أو اضطهدهم! ! !
ثانيها: أن الفيلسوف رينان - الذي نزهته الجامعة عن التعصب والذي
علمنا عنه أنه كان أشد المتعصبين على الإسلام حتى إن السيد جمال الدين
الأفغاني والشيخ محمد عبده ناظراه في باريس وأرجعاه عن كثير من خطئه -
قال: إن العرب أخطئوا في فهم فلسفة اليونان ونقلها. ومنهم ابن رشد.
ثالثها: أنه (لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن
الإفرنج أنفسهم ولا يشترط في هذا الأخذ سوى حسن اختيار المؤلف أي أن
يكون ثقة ومنصفًا غير متعصب لفريق دون فريق. وهذا ما توخته الجامعة)
اهـ بنصه.
ولاحتمال اغترار الكاتب بهذه المقدمات التي صحح بها قوله نبشره بأنها لا تروج عند أحد طلاب العلم لأمور:
أحدها: أن العرب قد اعتنوا بأمر النقل والرواية اعتناء لم يسبقهم به سابق،
ولم يلحقهم فيه لاحِق، ومن آثار ذلك أنهم نقلوا فلسفة اليونان بغاية الدقة
والإتقان، وقد تعلموا اليونانية ولهم فيها قواميس، وقد اعترف لهم الإفرنج
المنصفون بذلك وفضَّلوهم به على أنفسهم ومنهم سيديو المؤرخ الشهير.
ثانيها: أن الإفرنج برعوا في علوم التجربة ولكنهم لا يوثق بهم في علوم
النقل فكتبهم طافحة بالكذب على الإسلام والمسلمين في دينهم وتاريخهم. قال سيديو
في مبحث باشتغال العرب بالعلوم الرياضية: (وليس للعرب مجرد نقل كتب
اليونان حرفيًّا كما زعم بعض الإفرنج) ثم ذكر أنهم زادوا عليها ما اخترعوه في
هذه الفنون. وقال في أول المبحث الذي عقده في عدم اقتصار العرب على شرحهم
فلسفة أرسطو ما نصه معربًّا: (زعم الإفرنج أنه لم يكن فلسفة عربية، وما ذاك إلا
لجهلهم بأشغال العرب فإن جميع الدروس بمدارس أوربا في القرون المتوسطة
مستمدة من تآليف العرب الفلسفية) إلخ وقال غير ذلك بمعناه.
ثالثها: غير معقول أن الذين كانوا يستنسخون الكتب الحكمية كانوا يرضون بأن يغير النساخ فيها وغير معقول أن النساخ كانوا يستطيعون التصرف في تلك الكتب ويعملون بتلك الاستطاعة.
رابعها: أن ما نقلته الجامعة عن الإفرنج غير موثوق به؛ لأن صاحبها
غير عالم بالفلسفة فيستطيعَ نقلها من لغة إلى لغة؛ لأنه إذا كان لم يفهم فلسفة
المتكلمين بالعربية فكيف يفهم فلسفة ابن رشد واليونان من الفرنسية؟ ولو فرضنا
أنه أحسن الفهم فلا يسهل علينا أن نفرض أنه حسن القصد؛ لظهور تعصبه على
الإسلام والمسلمين، وإصراره على هذا التعصب ومُمَاراته ومُكَابرته فيه بعد بيان
الحق له بالتي هي أحسن. وقد زعم في هذا الجزء أن المسلمين كاليهود والنصارى
يعتقدون أن العالم وجد منذ بضعة آلاف من السنين وليس هذا من اعتقاد المسلمين
في شيء. فما يدرينا أن كل نقله من هذا القبيل.
وأما كلام الجامعة فيما سمته الأمور الجزئية فحسبها فيه الخلط بين
الاصطلاحات العلمية ومعاني الكلم اللغوية. وزعمها أن ما قاله الإمام في علاقة
الإنسان بالخالق غير صحيح؛ لأن رنان أفرد فصلاً لهذا البحث استعان فيه بكلمات
أرسطو اليونانية. وهل يقول عاقل: إن قول فلان غير صحيح لأن فلانًا خالفه فيه
وما يدري صاحب الجامعة أن ما قاله الإمام هو الصحيح وما قاله رنان هو الخطأ
إن صح نقلها عن رنان هذا، وإن الإمام مُطَّلع على ما كتب رنان وغيره من الإفرنج
وقد كتب ما كتب.
(الخاتمة) نشكر في ختام القول للجامعة ولصاحبها هذا التحامل على
الإسلام والمسلمين؛ لأنه كان السبب في تصدي ذلك الإمام العظيم إلى بيان هذه
الحقائق التي تحيي الشعور الإسلامي في نفوس المسلمين وتبعثهم إلى العمل بما
يرشد إليه دينهم القويم من الرغبة في العلم والحكمة، وإِعلاء شأن الأمة، ومعاملة
المخالفين بالمحاسنة، وإن ظهروا بمظهر المخاشنة، وليس في كلام الإِمام إلا برد
الهدون والسلام، الداعي إلى حسن الالتئام، فلا يخشينّ الرصيف منه إِثارة الخصام،
وإن كان هو يحب الموادّة ويدعو إليها فليدع الكلام فيما يتعلق بالإسلام. فإنه ليس
من موضوعه ولا يعنيه. ولا علم له بظاهره ولا خافيه. وهذا القدر يكفيه.
***
جاءنا من الأستاذ الفاضل صاحب التوقيع ما يأتي بنصه:
بماذا دفع العلماء نازلة الوباء؟
دفعوها يوم الأحد الماضي في الجامع الأزهر بقراءة متن البخاري موزعًا
كراريس على العلماء وكبار المرشحين للتدريس في نحو ساعة جريًا على عادتهم
من إعداد هذا المتن أو السلاح الحبري لكشف الخطوب وتفريج الكروب فهو يقوم
عندهم في الحرب مقام المدفع والصارم والأسل، وفي الحريق مقام المضخة والماء
وفي الهيضة مقام الحيطة الصحية وعقاقير الأطباء وفي البيوت مقام الخفراء
والشرطة وعلى كل حال هو مستنزل الرحمات ومستقر البركات.
ولما كان العلماء أهل الذكر والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) فقد جئت أسألهم بلسان كثير من المسترشدين عن مأخذ
هذا الدواء من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله أو رأي مستدل عليه لأحد
المجتهدين الذين يقلدونهم إن كانوا قد أتوا هذا العمل على أنه ديني داخل في دائرة
المأمور به. وإلا فعن أي حذاق الأطباء تلقوه ليتبين الناس منه أو من مؤلفاته عمل
تلاوة متن البخاري في درء الهيضة عن الأمة وأن هذا داخل في نواميس الفطرة أو
خارج عنها خارق لها.
وإذا كان هذا السر العجيب جاء من جهة أن المقروء حديث نبوي، فلم خص
بهذه المزية مؤلف البخاري وَلِم لَمْ يجز في هذا موطأ مالك وهو أعلى كعبًا وأعرق
نسبًا وأغزر علمًا ولا يزال مذهبه حيًّا مشهورًا. وإذا جروا على أن الأمر من وراء
الأسباب فلم لا يقرءه العلماء لدفع ألم الجوع كما يقرأونه لإزالة المغص أو القيء
والإسهال حتى تذهب شحناء الجراية من صدور كثير من أهل العلم، وعلى هذا
القياس يُقْرَأُ لكل شيء ما دامت العلاقة بين الشيء وسببه مفصومة.
فإن لم يستطيعوا عزو هذا الدواء إلى نطاس الأطباء سألت المُلِمّ منهم بالتاريخ
أن يرشدنا إلى من سن هذه السنة في الإسلام، وهل قرأ البخاري لدفع الوباء قبل
هذه المرة فإنا نعلم أنه قرأ للعرابيين في واقعة التل الكبير فلم يلبثوا أن فشلوا
ومُزِّقُوا شر ممزق، ونعلم أنه يقرأ في البيوت لتأمن من الحريق والسرقة ولكن بأجر
ليس شيئًا مذكورًا في جانب أجر شركة التأمين المعروفة مع أن الناس يتسابقون
إليها تسابقهم على شراء الدواء إذا نزل الداء ويعدلون عن الوقاية التي نحن بصددها
وهي تكاد تكون بالمجّان ويجدون في نفوسهم اطمئنانًا لتلك دون هذه.
فإن لم يجد العلماء عن هذه المسألة إجابة شافية خشيت كما يخشى العقلاء
حملة أهل الأقلام عليهم حملة تُسْقِطُ الثقة بهم حتى من نفس العامة وحينئذ تقع
الفوضى الدينية المتوقعة من ضعف الثقة واتهام العلماء بالتقصير وكون أعمالهم
حجة على الدين. هذا - وقد لهج الناس بآراء على أثر الاجتماع الهيضي
الأزهري.
فمن قائل: إن العلماء المتأخرين من عادتهم أن يهربوا في مثل هذه النوازل
من الأخذ بالأسباب والاصطبار على تحملها لمشقتها الشديدة ويلجئون إلى ما وراء
الأسباب من خوارق العادات لسهولته ولإيهام العامة أنهم مرتبطون بعالم أرقى من
هذا العالم المعروف النظام فيكسبون الراحة والاحترام معًا فيظهرون على الأمة
ظهور إجلال ويمتلكون قلوبهم ويسيطرون على أرواحهم ولهذا تمكثوا حتى فترت
شرة الوباء فقرأوا تميمتهم ليوهموا أن الخطر إنما زال ببركة تميمتهم وطالع يمنهم.
ومن قائل: إنهم يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأعمال بدليل أن من يصاب منهم
لا يعالج مرضه بقراءة كراسة من ذلك الكتاب بل يعمد إلى المجربات من النعنع
والخل وماء البصل وما شابه أو يلجأ إلى الطبيب ولا تلتفت نفسه إلى الكراسة التي
يعالج بها الأمة فهذا يدل على أن القوم يعملون على خلاف ما في وجدانهم لهذه الأمة
خادعين أنفسهم بتسليم أعمال سلفهم.
ومن قائل: إن عدوًّا من أعداء الدين الإسلامي أراد أن يشكك المسلمين فيه
فدخل عليهم من جهة تعظيمه فأوحى إلى قوم من متعالميه السابقين أن يعظموا من
شأنه ويرفعوا من قدره حتى يجعلوه فوق ما جاءت له الأديان فَيَدَّعوُنَ كشف نوائب
الأيام بتلاوة أحاديث خير الأنام ويروّجون ما يقولون بأنه جُرِّب وأن من شك فيه فقد
طعن في مقام النبوة حتى إذا رسخت هذه العقيدة في الناس وصارت ملكة دينية
راسخة عند العوام وجرّبوها فلم تفلح وقعوا والعياذ بالله في الشك وأصابهم دوار
الحيرة كما حصل ذلك على إثر واقعة التل الكبير من كثير من الذين لم يتذوقوا
الدين من المسلمين حتى كانوا يسألون عن قوة البخاري الحربية ونسبته إلى البوارج
ساخرين منه ومن قارئيه ولولا وقوف أهل الفكر منهم على أن هذا العمل ليس من
الدين وأن القرآن يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ} (الأنفال: 60) إلخ لضلوا وأضلوا، وقد جَرَّأَ هذا الأمرُ غيرَ المسلمين على
الخوض في الدين الإسلامي وإقامة الحجة على المسلمين من عمل علمائهم ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
ويقول قوم: إن التقليد بلغ بالعلماء مبلغًا حرم على العقول النظر في عمل
السلف وإن كذبته العينان، وخالف الحسّ والوجدان، ويقول آخرون ممن لا خبرة
لهم بهمة العلماء في مثل هذه الكوارث: أما كان ينبغي لهم أن يَنْبَثُّوا في المساجد
والأندية والولائم حاثِّين الناس على الوقاية من العدوى معضدين الحكومة في تسكين
صورة الأهليين مفاوضين الصحة في فتح المساجد وتعهدها بالنظافة فإن هذا يرتبط
بهم أكثر مما يرتبط بوفد أيمان أعيان القاهرة جزاه الله خير الجزاء.
فإن أعوزهم البيان وخلب القلوب بذلاقة اللسان فلا أقل من أن يؤلفوا رسالة
في فهم ما ورد متشابهًا في موضوع العدوى حتى يعلم الناس أن الوقاية من الداء
مأمور بها شرعًا وعقلاً وسياسة فيكون كل فرد عارفًا عَضْدًا للحكومة ولو طلبوا
من الصحة طبع ما ألفوا وتوزيعه على المصالح والنواحي لَلَبَّتْ ذلك شاكرة وكان
لهم الأثر النافع، هذا ما يقوله القوم في شأن علمائهم نرفعه إليهم ليكونوا على بينة
منه؛ لأنهم لا يختلطون بالناس غالبًا إلا في الولائم والمآتم وإن اختلطوا فقلما
يناقشونهم في شيء تحرزًا من جدتهم في المناقشة ورميهم مناظرهم لأول وهلة
بالزيغ والزندقة فلذلك يجاملونهم ويوافقونهم خشية الهجر والمعاندة.
أما أنا فإني لا أزال ألحُّ في طلب الجواب الشافي عن أصل دفع الوباء بقراءة
الحديث وعن منح متن البخاري مزية لم يمنحها كتاب الله الذي نعتقد أنه متعبد
بتلاوته دون الحديث ولو كان هذا العمل من غير العلماء الرسميين لضربتُ عنهم وعن
عملهم صَفْحًا ولَمَا خَطَطْتُ كلمة، ولكنه من علماء لهم مراكز رسمية يزاحمون مراكز
الأمراء فيجب أن يُؤْبَه لهم وأن يُنْظَر لعملهم بإزاء مراكزهم من الأمة التي يُسْأَلون
عنها والله ولي التوفيق
(متنصح) .
__________(5/470)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
باب الأخبار والآراء
(الإسلام والنصرانية، مع العلم والمدنية)
قد نشرنا من هذا الكتاب مقالين أحدهما اضطهاد النصرانية للعلم بمقتضى
أصولها، نشر في الجزء الحادي عشر الماضي واقتبسته جريدة المؤيد، وثانيهما
أصول الإسلام القاضية بالتسامح مع العلم أينما وجد وإكرام العلماء من أي ملة كانوا
نشر في هذا الجزء، ويلي هذا مقال آخر في نتائج هذه الأصول الإسلامية المذكورة
في هذا الجزء وآثارها في ترقية العلم والعمران، وإيجاد مدنية فاضلة للإنسان،
وسينشر في الجزء الآتي مؤيدًا بالشواهد التاريخية، وشهادات المؤرخين والفلاسفة
من الأمم الأوربية، ويتبع هذا مقال رابع في شرح حالة المسلمين في هذا العصر,
وما نُكبوا به في كل قطر، ويختم الكلام بمقال خامس في كيفية معالجة الداء،
وبيان النجاة من البلاء، بحسب رأي هذا الطبيب الروحاني، والإمام الرباني، لا
زال ذخرًا للإسلام ومرشدًا للأنام، وسنشر ذلك تباعًا في المنار، وربما وفقنا
للتعجيل ببعض الأجزاء وإصدارها قبل وقتها إكرامًا للقراء، فقد رأينا منهم إقبالا
على ما نُشر وإعجابًا به لم نر ما يشابهه إلا إعجابهم بالرد على موسيو هانتو، ولا
غرو فهذه الحِكم متدفقة من ينبوع واحد، لا ينكره مكابر ولا حاسد.
* * *
(عبرة وتنبيه في موت وجيه)
كتب إلينا من بومباي (الهند) أنه توفي فيها (حسني بك نائب سفير الدولة
العلية) فيها فاحتفل المسلمون بتشييعه احتفالاً عامًّا وغلقوا الدكاكين وتركوا جميع
الأعمال عامة يومهم، وسيرسلون كتابًا يعزون به أهله في الآستانة العلية.
والاعتبار في الخبر من وجوه - أحدها شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العلية؛
لأنها أقوى الدول الإسلامية، وهذا أثر من آثار هداية الإسلام الذي من مقاصده
جعل البشر كلهم إخوة ولو وجد في الهند مثلما يوجد في مصر من أحداث السياسة
وخطباء الفتنة الذين يحثون قومهم على بغض كل ما لم يكن له نسب عريق في
بلادهم ويسمُّون هذا وطنية لما بقي لحب الدولة العلية في قلوبهم عرق ينبض ولا
لحقوق المسلمين حكم يفرض، (ثانيها) أن آمال المسلمين لا تزال معلقة بالسياسة
ورجالها، والحكومات وأعمالها، وليتهم ينظرون أولا إلى أنفسهم وأعمالهم،
ويعتمدوا بعد الله على كفاءتها واستقلالهم، و (ثالثها) حرية الحكومة الإنكليزية فلو
أن أهل جاوه أرادوا أن يعملوا عملا كهذا لتصدت لهم الحكومة الهولندية وصدتهم
عنه، فيا ليت المسلمين الذين هب عليهم نسيم الحرية المنعش للأرواح يعرفون
كيف تكون به الحياة الطيبة ويعملون بما يعلمون ولا يحفلون بما يلغط به الغاشون
الذين يقبحون لهم نعمة الحرية بذم مصدرها.
* * *
(السيد محمد المهدي السنوسي)
نعت إلينا برقيات أوربا في الشهر الماضي هذا الرجل العظيم الذي اشتهر
بالعلم والعمل والدعوة إلى الله تعالى والإرشاد إلى طريق الرشاد فارتبنا في صحة
الخبر وتربصنا به التكذيب، فما كان إلا أن أكدته الجرائد الغربية تأكيدًا وتبعها
غيرها.
وقد اطلعنا اليوم قبل الطبع على كتاب من طرابلس الغرب لأحد التجار جاء
فيه ما نصه:
(وردت مكاتيب مشعرة بوفاة الأستاذ المهدي وبالتحقيق لم يثبت ذلك إلى
الآن أصلا بالكلية بل المتحقق أنه انتقل إلى جهة من الجهات مجهولة.
(محاربة الفرنساويين بالأقطار السودانية لم نحصل على خبر منها إلى الآن،
وقد كان في تلك المحاربة رجل من الجزائر أتى إلى قسطنطينة إحدى الممالك
الجزائرية وأرسل إلينا جوابًا يفيد أنه قادم إلى طرفنا وعند وصوله نفهم منه حقيقة
الواقع تفصيلا وإجمالا وما الذي سيصنعه الفرنساويون بخصوص ما ذكر ونعرفكم
بذلك والسلام) ا. هـ
وسيأتي البحث في ذلك وقول من يكذب خبر المحاربة فيما ننشر من ترجمته.
(الترجمة)
جمع هذا الرجل من الصفات والخلال، ما يندر أن يكون لأحد
من الرجال، - الشرف والعلم والزهد والإرشاد وسيادة العصبية، فهو الرجل
الديني الوحيد الذي كانت تلهج بذكره الجرائد الأوربية وتستقري أعماله وتتبع
حركاته وسكناته، وتبني عليها الآراء السياسية بل كان على زهده وانزوائه في
زاويته أشبه بملك عظيم أو قائد باسل مستعد لكفاح الأقران، وفتوح البلدان، وكان
الناس في أوربا وفي الشرق مختلفين في أمره، وهائمين في أودية الظنون من شأنه،
والأكثرون يعتقدون أن طريقته جامعة بين الدين والسياسة ومن أصولها الاستعداد
للمدافعة والمقارعة عند الحاجة إلى ذلك، واشتهر بين الناس في هذه البلاد وغيرها
أن أتباعه كانوا يعتقدون أنه المهدي المنتظر، وقد عرفت أحد دراويشه الصالحين
في صحراء طرابلس الغرب واستفدت منه فوائد كثيرة عن السنوسيين فكان مما قاله:
أنه يعتقدون أن شيخهم هو المهدي المنتظر، وأنه سيحج ويبايع في حرم مكة أو
في عرفة (الشك مني) وقال: إذا ذهب سيدي المهدي إلى الحجاز فال يتخلف أحد
من المغاربة عن الحج في تلك السنة إلا لعجز مُقعِد، وكان يقول أيضا: إن من
أصول الطريقة إحياء الأرض وغرس الأشجار واقتناء السلاح، ونحن نعلم أن
للسنوسيين أتباعًا في مصر يكتمون كل ما يعرفون من أمرها بل يكتمون في الغالب
كونهم من أهلها.
مثل هذه الأخبار وذلك الاختبار، هو الذي أثار في النفوس عندنا ما أثار،
وأما الأوربيون فمنشأ أوهامهم وأحلامهم في السنوسيين جرائد فرنسا وكلامها.
(راجع صفحة 178 وما بعدها من مجلد المنار الأول تجد فيه النقول التي تؤيد هذا) .
وقد بلغنا أن الحكومة الفرنسوية قد خصصت مئة ألف فرنك في كل سنة
لمقاومة سلطة أصحاب الطريق في الجزائر وما يليها ويتصل بها وأن الذين يأخذون
هذا المال هم الذين كانوا يعظمون أمر التيجانية ثم صاروا يعظمون أمر السنوسية
بما يكتبونه في الجرائد والكتب، والله أعلم بالحقيقية، وإنما غرضنا من هذه الجملة
كلها بيان اختلاف الناس في أمر السنوسية وعذرهم في هذا الاختلاف.
وقد كُتب في جريدة (الحاضرة) التونسية مقال بتوقيع (محمد الحشايشي)
في بيان الطريقة السنوسية وترجمة صاحبها، قال الكاتب: إنه كتب عن علم
وروية؛ لأنه ساح في الصحراء الكبرى وما جاورها من البلاد المجهولة واختبر
السنوسيين الاختبار التام، وكتب في ذلك رحلة سماها الرحلة الصحراوية،
ونلخص من مقالته المفيد؛ لأنها أوسع ما كتبه المسلمون في هذا الرجل الكبير
فنقول:
ساق أولا نسبه إلى سيدي إدريس بن عبد الإله بن الحسن المثنى بن الحسن
السبط ابن علي من فاطمة الزهراء عليهم السلام. ثم قال إن صاحب الترجمة من
مدينة مستغاقم بعمالة وهران (التابعة للجزائر) من قبيلة الخطاطبة، ارتحل والده
إلى مدينة فاس في سنة 1229 بعد أن حفظ القرآن بالروايات السبع وكان ابن ثمان
فاجتمع بالشيخ أحمد التيجاني شيخ الطريقة التيجانية الشيهر وتلقى هناك العلوم حتى
برز فيها ثم ارتحل إلى المشرق سنة 1245 قاصدًا أداء فريضة الحج (وظهرت له
كرامات عديدة في طريقه فأقام بمكة المشرفة سنين عديدة ونشر في أثنائها طريقته
المستمدة من نفس الطريقة المحمدية التي أخذ إجازتها عن سيدي أحمد بن إدريس،
فانتشرت الطريقة في الحجاز واليمن إلى أن بلغت العراق وفي سنة 1259 انتقل
إلى الجبل الأخضر من وطن درنه وبنغازي (من ولاية طرابلس الغرب) وتصدى
للإرشاد، وولد له صاحب الترجمة سنة 1260 بالزاوية البيضاء فرباه التربية
الدينية في مهد العلم والإرشاد وحفظ القرآن في الثامنة ثم حفظ الكثير من المتون
الفقهية وغيرها واشتغل بطلب العلم على الأستاذ الحافظ الشيخ أحمد الريقي بعد ما
قرأ القرآن على مؤدبه الشيخ هاشم الصفاقسي والحافظ الشيخ مدين وأخذ علمي "
التفسير والتصوف عن والده وعلوم الأدب عن الشاعر الأديب الشيخ محمد أبو
سيف وعلمي الحديث والأصول عن الشيخ أحمد الريقي، جميع هؤلاء من علماء
المغرب بعضهم من الأقصى وبعضهم من الأدنى.
(لها بقية)
__________(5/477)
غرة رجب - 1320هـ
3 أكتوبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم
نتائج هذه الأصول وآثارها في المسلمين
إلام أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين؟
فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد
لحاق النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى بست سنوات، في
رواية وتسع سنوات، في رواية أخرى والإسلام في طلوع فجره، وتَفَتُّح نوره، فكان
من بقايا ما تركت الأزمان الأولى: رجلُ مسيحيُ من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي
كان في بدء أمره ملاحًا يعبرُ الناسُ بسفينته، وكان يميل إلى العلم بطبيعته فإذا ركب
معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذاكرتهم.
اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة فبلغ فيه ما
لم يبلغه الناشئون فيه من طفوليتهم وقد أحسن من العلم فنونًا كثيرةً حتى عُدَّ من فلاسفة
وقته وأطبائه ومناطقته.
يقول كثير من مؤرخي الغربييين ومؤرخي المسلمين: إن عمرو بن العاص
سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال
أحد فلاسفة الغربيين: (إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر
ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرّة والرأي
العالي. بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على
غاية من الاستعداد للجوَلان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع) .
خالط المسلمون أهل فارس وسوريا وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم
يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سوريا ولم تغيّر
بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار، وأفضت سماحة الدين
إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع.
* * *
(اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية ثم العقلية)
وبعد عشرين سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي
طالب - كرم الله وجهه - يحضُّ على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها
لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك، وأخذ المسلمون يتحسّسُون نور العلم في ظلام تلك
الفتن استرسالاً مع ما يدعوهم إليه دينهم وتنبّههم لطلبه شريعتهم. وإن كانت
الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد
شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها
بالتدريج على سنة الفطرة. فالبراعة في الآداب من علم بوقائع العرب وتاريخهم
وقول الشعر وإنشاء البليغ من النثر قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغًا لم تبلغه أمة قط
في مثل مدتها، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء
والخطباء والعلماء بالسير، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم وترجمت
جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول.
نقل الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام، ولم يسيروا في الزهد
سيرة الخلفاء الراشدين فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - فلما سأل عنه دُلَّ عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل
البقيع بين الفقراء وجاءت رسل الملوك إلى معاوية - رحمه الله - فإذا هو في قصر
مشيد محلَّى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية، مزين بالجنات والرياض
وينابيع الماء، مفروش بأحسن الفرش يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش. ولم
يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه وإنما تناول مباحًا وتمتع
برخصة آتاه الله إياها ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على
اختلاف ضروبها.
* * *
(اشتغالهم بالعلوم الكونية في أوائل القرن الثاني)
انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني
العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن
الثاني للهجرة (سنة 132) ، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد
ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضًا. وأخذ المنصور ينشئ المدارس للطب والشريعة
وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية، وأكْمَلَ حفيدُه الرشيدُ ما شرع
فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها. وجاء المأمون
فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، ويقال: إنه حمل
إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير، وكان من شروط صلحه مع
ميشيل الثالث أن يعطيَهُ مكتبةً من مكاتب الأستانة. فوجد مما فيها من النفائس كتاب
بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمَوه بالمجسطي
ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني
العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
(إنشاؤهم دور الكتب العامة والخاصة)
وقد أخذت دول الإسلام تعتني بديار الكتب عناية لم يسبقْها مثلها من دول
سواها حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف
مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير. وكان من نظامها أن تعار بعض
الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة. وكان فيها كُرَتَان سماويتان إحداهما من الفضة
يقال: إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار. والثانية من
البرنز، ومكتبة الخلفاء في أسبانيا بلغ ما فيها ست مائة ألف مجلد. وكان فهرستها
أربعة وأربعين مجلدًا. وقد حققوا أنه كان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية.
وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة.
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما
تحتوي عليه. يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبًا أندلسيًّا ليزوره فأجابه أن ذلك لا
يمكنه؛ لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جَمَل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها.
وكان حنين بن إسحق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يَفِدُ إليها
طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه.
* * *
(إنشاؤهم المدارس للعلوم وكيفية التدريس)
غُطي بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس. نقول (على سعتها)
لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير. فكنت تجد المدارس في كل
الأقطار: في المغول، في التتار من جهة المشرق، في مراكش، في فاس، في
أسبانيا من جهة المغرب.
كانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يُعِدُّ درسه ويكتب في
الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون
عنه، ثم تكون هذه الدروس كتبًا وأماليّ تنشر بين الناس في كل علم. وهنا نبادر
إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر
ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب
الكتاب غير أن مؤرخًا واحدًا رأيته ذكر أنه قد وُضِعَ قانونٌ في بعض الممالك
الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه أن لا ينشر منها شيء إلا بإذنٍ، على أني لا
أعلم شيئًا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا.
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية، يقول جبون في كلامه على حماية
المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب: (إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون
الخلفاء، في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت
العلم ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في
تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. أنفق
وزير واحد لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في
بغداد، وجعل لها من الريع يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة.
وكان الذين يُغْذوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في
المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص
للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه. والمعلمون كانوا يُنقدون رواتب
وافرة) . اهـ
انقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع
الخلافة ثلاث شيع. كان العباسيون في آسيا (الشرق) والأمويون في الأندلس من
أوروبا (الغرب) والفاطميون في مصر من أفريقيا (الوسط) ولم يكن تنافس هذه
الدول الثلاث قاصرًا على الملك والسلطان ولكن كان التنافس في العلم والأدب.
وكان مرصد سمرقند قائمًا في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من
العناية برياضة الأفلاك، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا
بأحط منهم في الإدراك.
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية
عن مدرسة الطب في القاهرة وكان من أشد النظامات وأدقها. ولم يكن لطبيب أن
يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على
شدته. وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي
أنشأها العرب في ساليرن من بلاد إيطاليا، وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو
الذي أقامه العرب في أشبيلية من بلاد أسبانيا.
وُلع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها، والفنون الأدبية بجميع أنواعها،
حتى القصص والأساطير الخيالية، في الأحوال الاجتماعية، وابتدأوا بأخذ العلم
عن اليونانية والسريانية، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة
العربية بالترجمة الصحيحة، وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين
وغيرهم، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم
في اللسانين. وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها، وينقلوها إلى لسانهم على
حسب ما يصل إليه علمهم فيها، وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من
المسيحيين واليهود ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة
ودين. كلٌّ يعلّم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه.
* * *
(علوم العرب واكتشافاتهم)
كان علم العرب في أول الأمر يونانيًّا لكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم
صار عربيًّا. ولم يرض العربيّ أن يكون تلميذًا لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو
بطليموس زمنًا طويلاً كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ
المسيحي.
قالوا: إن باكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية
وأقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين وأطلق العلم من رق
التقليد. ذلك حق في أوربا. أما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء
العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة. أول شيء تميز به فلاسفة العرب
عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربيات وأن لا
يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة حتى لقد نقل
جوستاف لوبون عن أحد فلاسفة الأوربيين: أن القاعدة عند العرب هي (جرّب
وشاهد ولاحظ تكن عارفًا) وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ
المسيحي (اقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالمًا) . (فلينظر
المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال، وماذا أعقب من سوء المآل)
قال ديلاَمبْر في تاريخ علم الهيأة: (إذا عددت في اليونان اثنين أو ثلاثة من
الراصدين أمكنك أن تعد من العرب عددًا كبيرًا غير محصور) . أما في الكيمياء
فلا يمكنك أن تعد مُجَرِّبًا واحدًا عند اليونانيين ولكنك تعد من المجرّبين مئين عند
العرب، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم. وقد كانوا
يعدون الهندسة والفنون الرياضية من الآلات المنطقية، يستعملونها في الاستدلال
على القضايا النظرية، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو
معروف.
العرب هم أول من استعمل الساعات الدَّقَّاقة للدلالة على أقسام الزمن وهم
أوّل من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض. وقد اكتشفوا قوانين لثقل
الجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة كما وضعوا
جداول للأرصاد الفلكية وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في
سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف
الجاذبية.
لا يمكنني في مقالي هذا أن أعدّ ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم
على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سِفْر كبير. وقد أحصى ذلك أهل المعرفة
والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم. وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن
ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم [1] ولكني أذكر كلمة قالها
بعض حكماء الغربيين [2] : (تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر في كتب العرب فنجد
آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية
وتدرجها في كمال أنواعها فإن هذا الرأي كان مما يعلّمه العرب في مدارسهم وكانوا
يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا، فكان عندهم عامًّا يشمل الكائنات غير العضوية
والمعادن.
والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها.
قال الخازني: إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء أن الذهب قد تقلب في
الأشكال المختلفة حتى صار ذهبًا ظن من هذا أنه مرَّ في صور معادن أخرى فكان
رصاصًا ثم قصديرًا ثم صُفرًا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبًا. ولا يعلم أن الفلاسفة
إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته
الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور
الأنواع المختلفة كأنْ كان ثورًا ثم حمارًا ثم فرسًا ثم قردًا ثم صار بعد ذلك
إنسانًا) . اهـ، ويقول الفيلسوف كوستاف لوبون: (إن العرب أول من علّم العالم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين) .
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية
الرأي إلى نقض أصل الدين وقال: إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي
يبقى هي أرواح الأنواع. فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان
بقاء الأنواع دون الأشخاص فإنه قال كما قال أرسطو وغيره: إن الأشخاص توجد
وتفنى، وأما الأنواع فهي باقية لا تزول. وهذا باب آخر يغير بالمرة ما استنتجوا
منه (وقد سبق الكلام في بيان رأيه من وجه آخر) [3] كما أخطأوا في قولهم عنه
أنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صورة والكل يرجع إليه بمعنى: أنه يفنى
في ذاته ولا يبقى في العالم باقٍ آخر وهو يقرب من قولهم السابق. فإن ابن رشد
كان مسلمًا وكان يعرف أن الإسلام لا ينافي العلم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم
الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم أو الاسترسال مع الخيال.
وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه. ولكن كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد
بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه [4] ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن
سبعين وهو ممن أخذ عن تلامذة ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك.
ويقول فيلسوف آخر: (إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم
وكانت ميتة بين دفات الدفاتر مقبورة بين جدران المكاتب أو مخزونة في بعض
الرءوس، كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن لا حظَّ للإنسانية منها سوى النظر
إليها - صار عند العرب حياة الآداب، وغذاء الأرواح، وروح الثروة، وقوام
الصنعة، ومهمازًا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعِدَّتْ له. وليس في
الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل - في إخراج أوربا من
ظلمة الجهل إلى ضياء العلم وفي تعليمها. كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن
التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبنى عليهما العلم - إنما هو للمسلمين
وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا
عليهم. وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن
البابا كان غائبًا لأن كرسيه كان انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدبّ
العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك. إن شوارع باريس لم تفرش
بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصّت بالبلاط على نحو ما رصّت به مدن
أسبانيا) . اهـ
ويقول آخر: (لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددًا من الفلكيين
يطول سرد أفراده وإن الكنيسة تسلّطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنًا في
أوربا ولم تمنحنا فلكيًّا واحدًا) .
هذا النماء والزكاء العلمي لم يكن خاصًّا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في
التمكن من تناوله سواء، وإنما كان التفاضل بالجِدِّ والعمل، والفضل في ذلك كله
لحلم الخلفاء وعمّالهم، وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته. قال
بعض فلاسفة الغربيين قولاً يعرفه الحق وتثبته المشاهدة: (إن شعوب الأرض لم
تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحلم هذا المبلغ (يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم) ولا دينًا
بلغ في لينه ولطفه هذا الحد) .
* * *
(أخذ الخلفاء والأمراء بيد العلم والعلماء)
إن الخلفاء الذين يقال عنهم: إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معًا كانوا هم
بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها. كانوا العالمين العاملين. كان خليفة
كالمأمون يضطهد أحيانًا أعداء الفلسفة، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب
الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنًّا
منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده. هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا
يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة؟ لعلك لا تجده أبدًا.
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء
والخاصة ما يليق بهم كيفما كان حالهم. وسأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري
لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة: يذكر عليُ بن يوسف القفطي أن صالح بن
مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها وشرع في
حصارها ورماها بالمنجنيق فلما أحسّ أهلها بالغَلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان
وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال:
ألك حاجة؟ قال: الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسّه وخشن حده،
وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) ، فقال له صالح: قد وهبتها لك. ثم قال له:
أنشدنا شيئًا من شعرك لنرويه فأنشده على البديهة أبياتًا فيه فترحل صالح. فانظر
كيف وهب الأمير بلدًا عصى أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف، ولو
ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال
وفيما سبق كفاية لمكتف.
* * *
(إزالة شبهتين وبيان حقيقة الاضطهاد)
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من
المفتريات على أهل العلم والفكر الحر وهمس بعضهم في آذان بعض وتغامزهم
على أهل الفضل، ولمزهم إياهم بالألقاب بل واحتقارهم في بعض الأحيان وهذا
النوع منه عند المسلمين بلا نكير، وهو خطأ ظاهر؛ لأن هذا النوع مما يكره أهل
العلم لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية ومهما بلغ
ذوق العلم من نفوس أهلها فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض
فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون بمعاداة الكنيسة ويكتبون ما يوهن
قواعدها وقد يخلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه، ويرون أن النظر في كتبهم
لا يجوز في شريعة الدين. ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام
كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء وإنما هي نفرة
الإنسان مما لا يعرف مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء.
يقول آخرون: إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف
لغلوّه في فكره فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به وليس
يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة.
وأقول: إن كثيرًا من الغلوّ إذا انتشر بين العامة أفسد نظامها وأضرّ بأمنها
كما كان من آراء الحلاج وأمثاله [5] فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن
العامة فتأخذ صاحب الفكر لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على
شخصه بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه مع أن غيره في غِنى عمّا يراه
هو حقًّا له، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه لهذا يرى حُفاظ النظام
أن أمثال هؤلاء يجب أن يُنقَّى منهم المجتمع صونًا له عما يزعزع أركانه. ونحن
نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد. ألم تقض الحكومة
الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة
الحكومة وأن لا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة، ومن لم يخضع لذلك تنحل
جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح. وقد ينفى من البلاد كما نفي كثيرون في سنين سابقة؟ ولكن هل يسمَّى هذا اضطهادًا؟ كلا ولكن الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها في أول نشأتهم.
ماذا يقول القائلون؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبًا أمرُه، يكاد يكون خفيًّا والمتكلم والمحدث والنحويّ والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس! ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب. وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام وسقطت قيمة الغلوّ في التعبير وأخذ التسامح بينهم مأخذه. كان عمرو بين عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده حتى قال له يومًا وهو خارج من بين يديه: (رَميتُ لكل الناس حَبًّا فلقطوا إلا أنت يا عمرو بن عبيد) فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسًا.
إذا عدَّ عادٌّ بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة
الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلوّ في الدين فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف
لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين، وأن ليست
الغيرة عليه هي الباعث لهم على الوشاية بهم وطلب تنكيلهم. وإنما تجد الحسد هو
العامل الأول ذلك كله والدين آلة له. ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على
قاضي قضاة (كابن رشد ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على
ذلك) أو وزير أو جليس خليفة أو سلطان أو ذي نفوذ عظيم بين العامة. وهذا كما
يقع من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض لإهلاك بعضهم
بعضًا كما يشهد به العيان ويحكي لنا التاريخ، فليس هذا كذلك معدودًا من معنى
اضطهاد الدين للفلسفة؛ لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة
وإن لبسوا لباسه. وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في
العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع
المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا.
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهمّ عناصرها ومقوّمات مزاجها.
وهذا كان أثرها في العالم الشرقيّ والغربي. وهذه سعة فضل الدين وقوته على
احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلُّوا
بظله، هل في هذا خفاء على ناظر، وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء
الباهر، أفلا يبسم الإسلام عجبًا وهو في أشدّ الكرب لعقوق أبنائه، من أديب لم
يكن يعده من أعدائه إن لم يحسبه في أحبائه، عندما يراه يسدّد سهمه إليه، ويجور
كما يجور الجائرون في حكمه عليه؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قد نشرنا جملة صالحة من ذلك في مقالات (مدنية العرب) في المجلد الثالث.
(2) هو الفيلسوف درابر الأمريكاني.
(3 و 4) قد سبق ذلك في المقالة الأولى التي رد بها الكاتب على الجامعة.
(5) المنار: ذكر إمام الحرمين في كتابه (الشامل) في أصول الدين أنه كان بين الحلاج والجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة وأن ذلك هو السبب في قتل الحلاج.(5/481)
الكاتب: محمد عبده
__________
الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام
المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
ربما يسأل سائل فيقول: سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه
الحقيقي، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم
الكونية، ومقوّمي العقول البشرية، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء
العلوم العقلية، والفنون العصرية، أوَليس الناس تبعًا لهم؟ أفلا يكون للأديب عذره
فيما يراه ويسمعه حوله؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية
كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة،
ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد
يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله،
فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم، وسَكَنَةُ الأثواب
العَباعِب، وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين، ثم رفع أمره إلى
الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن. فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان
أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور،
ومهيمن على الحق لا يحيف، إلخ ما يقال في الشكوى. فأجيب طلبه لكن لم ينفعه
ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم
يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل والشارب.
ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب الجغبوب)
كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في
كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد
يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين. فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية (رحمه
الله تعالى) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب
الشيخ السنوسي ليطعنه بها؛ لأنه خرق حرمة الدين، واتبع سبيلاً غير سبيل
المؤمنين، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه
وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة،
وارتكاب الجريمة باسم الشريعة، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ
المالكي.
هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام
بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في
استهجان إدخال علم تقويم البلدان (الجغرافيا) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع
الأزهر؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين. أم لم تنشر في العام
الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة
التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة؟
ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان والهند والعجم من شدة التمسك
بالقديم، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين، وإقامة الحرب على كل من
حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم، وإن كان في البقاء عليه تلفهم،
وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع
بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون، وإن أجمع
عليها المسلمون الآخرون.
ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء
وجَلَبَةً، وهَيْعاتٍ مضطربة، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من
مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي؟ ألا تقوم قيامة المتقين، ألا
يصيحون أكتعين أبتعين: هذا عدوان على الدين، هذا توهين لعقده المتين، هذا
تغرير بأهله المساكين، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له
اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم.
هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال: إنها عارض عرض عليهم،
أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين
تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة
الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات، والشمول في جميع الاعتبارات،
فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة
واحدة تخرج من أفواههما وهي: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن
نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار. اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار
التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون
الأحاديث لتفهم أحكام الله منها. ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من
المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس
منه. فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد، والتقيد به بدون التفات إلى ما
تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة،
فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدينة السليمة أحبّاء.
هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على
تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم
يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن
حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم
من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع
الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف؟ فقال
قائل لشيخ الرواق: إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف
فقال: إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه
(ممن مات) قال: إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله.
وإذا قيل لأحدهم: إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً
لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها، وإن أصول ديننا تسمح لنا
بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون (وهم منا) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك
من البديهيات قال: إنما أريد نصًّا فقهيًّا، لا دليلاً عقليًّا.
وإذا قيل لهم: اختلت الشئون، وفسدت الملكات والظنون، وساءت أعمال
الناس، وضلت عقائدهم، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم
على بعض بالشر، وغالت أكثرهم أغوال الفقر، فتضعضعت القوة، واخترق
السياج، وضاعت البيضة، وانقلبت العزة ذلة، والهداية ضلة، وساكنتكم الحاجة،
وألفتكم الضرورة، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس، فهلا نبهكم ذلك إلى
البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا:
ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا، وإنما هو للحكام ينظرون فيه، ويبحثون عن
وسائل تلافيه، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في
الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا
تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع. واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث
وآثار تقطع الأمل، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل.
رأي رنان في الإسلام: هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من
طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان
الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية
مع العلم نقلته عنه الجامعة: (على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في
وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال
المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد
الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة. إلا أنني أخشى
أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين
الإسلامي. ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة
الأديان بالمرة؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه. والثاني: أنه لا يطيق أن تكون
الأديان عثرة في سبيله. فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة
لازب) . اهـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل.
فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام
بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم، أو نجاحًا
في أعمالهم، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين؟ ومن أين يكون
ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين؟ فإن لم تسلم بأن هذا
اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه،
أو استهجان له أو احتقار لشأنه، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن
ينفر بهم عن كل مجد، وأن يحرمهم كل نفع، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان
وغيره فما قولك في هذا؟ ؟ (له بقية)
(المنار) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود
وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب.
((يتبع بمقال تال))
__________(5/496)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع السادس لجمعية أم القرى
يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة 1316
في الضحى الأول من اليوم المذكور تألفت الجمعية حسب معتادها وقرئ
الضبط السابق واستعدت الأذهان لتلقي ما يفيضه الله على ألسنة أهل الإيمان من
الإخوان.
قال (الأستاذ الرئيس) مخاطبًا (الشيخ السندي) : إنك يا مولانا لم تشاركنا
في البحث إلى الآن، فنرجوك أن تتكرم على إخوانك بنبذة من عرفانك تنور بها
أفكارنا، ونرجوك أن لا تحتشم من التلعثم في بعض التعبيرات اللغوية لغلبة العجمة
عليك فإن لك أسوة بالفيروزابادي والسعد والفخر وغيرهم.
فقال (الشيخ السندي) : إنكم أيها السادة الإخوان، سراة أفاضل الزمان،
وسباق فرسان كل ميدان، قد أفدتم وأجدتم ولم تتركوا لقائل من مجال، ولا لمثلي
غير الإصغاء والامتثال، وإني أحب أن أذكر لكم حالتي وفكرتي قبل هذه
الاجتماعات وما أثرته فيّ هذه المفاوضات فأقول: إنني من خلفاء الطريقة
النقشبندية، وإذ كان والدي المرحوم هو ناقل هذه الطريقة للأقاليم الشرقية
والجنوبية في الهند فقد صرت بعد والدي مرجعًا لعامة خلفائها ثم جرت لي سياحات
مكررة في تلك الأرجاء وفي أيالات كاشغر وقازان حتى سبيريا وتلك الأنحاء
وبسبب حرصنا على تعميم طريقتنا صار لها شيوع مهم وانتشار عظيم بين مسلمي
هاتيك الديار.
ومن المعلوم أن طريقتنا من أقرب الطرائق للإخلاص وأقلها انحرافًا عن
ظاهر الشرع وهي مؤسسة على الذكر القلبي وقراءة ورد خواجكان ومراقبة المرشد
والاستمداد من الروحانيات، وإني لم أكن أفكر قَطّ في أن الذكر وقراءة الورد على
وجه راتب فيه مظنة البدعة أو الزيادة في الدين ولا أن المراقبة والاستفاضة
والاستمداد من أرواح الأنبياء والصالحين فيها مظنة الشرك إلى أن حضرت هذه
الاجتماعات المباركة فسمعت وقنعت وأقلعت والحمد لله.
على أني عزمت أيضًا على أن أتلطف في الأمر بالنصيحة والموعظة الحسنة
عسى أن أوفق لهداية جماهير النقشبندية في تلك البلاد وإلى تصحيح وجهتهم بأن
يذكروا الله قلبًا ولسانًا بدون عدد مخصوص معين قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم بدون
هيئة أو كيفية معينة متى شاءوا وأرادوا بدون وقت مرتب فرادى ومجتمعين بدون
تداعٍ. وأن يتركوا المراقبة ويستعيضوا عنها بالدعاء بالغفران والرحمة لكل من
الشيخ بهاء الدين النقشي مرشدهم الأعلى ولخليفته مرشدهم الأدنى الذي
هم مبايعوه.
وقد فتح الله عليّ ببركة جمعيتنا هذه فهم أسباب ميل المسلمين في هاتيك البلاد
صالحهم وفاسقهم للانتساب إلى إحدى الطرائق الصوفية وكنت قبلُ أحمل ذلك على
مجرد إخلاص المرشدين، والآن اتضح لي أن السبب هو أن السادة الفقهاء عندنا
من الحنفية والشافعية قد ضيقوا على المسلمين العبادات تضييقًا لا يعلم أن الله
تعالى يطلبه من عباده وكثروا الأحكام في المعاملات تكثيرًا ضيع الناس وشوش
الإفتاء والقضاء حتى صار المسلم لا يكاد يمكنه أن يصحح عبادته أو معاملته ما لم
يكن فقيهًا.
فتوسيع الفقهاء دائرة الأحكام أنتج تضييق الدين على المسلمين تضييقًا أوقع
الأمة في ارتباك عظيم ارتباكًا جعل المسلم لا يكاد يمكنه أن يعتبر نفسه مسلمًا ناجيًا
لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته على ما يتطلبه منه الفقهاء المتشددون الآخذون
بالعزائم، فبذلك أصبح الجمهور الأكبر من المسلمين يعتقدون في أنفسهم التهاون
اضطرارًا فيهون عليهم التهاون اختيارًا كالغريق لا يحذر البلل؛ لأنه كيف يطمئن
الحنفي العامي حق الاطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته، وكيف يحسن مخارج
الحروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صلاته. وكذلك كيف يصحح
الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه في الصلاة أو يعرف شدات الفاتحة الثلاث
عشرة ويتنبه لإظهارها كلها ليكون أدَّى فريضته؟
بل أيُّ عامّيٍّ يعرف وصف الكلام ومعنى الاستواء وتأويل الوجه واليد
واليدين وتعيين الجزء الاختياري وإضافة الأعمال له أو لله إلى غير ذلك ليكون عند
الحنفية الماتريدية والشافعية الأشاعرة مسلمًا مقلدًا يرجى له قبول الإيمان؟ ومَنْ مِن
العامّة يحيط علمًا بكل ما ثبت بالنص القاطع حتى صفرة بقرة بني إسرائيل مثلاً
لكيلا يعتقد خلافه فيكفر فيحبط عمله ومن جملته انفساخ نكاحه؟ وكم من مسلم يحكم
عليه الفقيه الشافعي بأنه نسل سِفَاحٍ ومقيم على السِّفَاحِ وراضٍ لمحارمه بالسِّفَاح إلى
غير ذلك مما ينافي سماحة الدين ومزية التدين به في الدنيا قبل الآخرة.
فبهذا التضييق صار المسلم لا يرى لنفسه فرجًا إلا بالالتجاء إلى صوفية
الزمان الذين يهونون عليه الدين كل التهوين. (مرحى) وهم القائلون: إن العلم
حجاب و: بلمحة تقع الصلحة. و: بنظرة من المرشد الكامل يصير الشقي وليًّا،
وبنفخة في وجه المريد أو تفلة في فمه تطيعه الأفعى وتحترمه العقرب التي لدغت
صاحب الغار عليه الرضوان [1] وتدخل تحت أمره قوانين الطبيعة. وهم المقررون
بأن الولاية لا ينافيها ارتكاب الكبائر كلها إلاّ الكذب، وأن الاعتقاد أولى من الانتقاد
وأن الاعتراض وجب الحرمان؛ أي: أن تحسين الظن بالفسَّاق والفجَّار أولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من الأقوال المهونة للدين والأعمال
التي تجعله نوعًا من اللهو الذي تستأنس به نفوس الجاهلين.
على أن الناس لو وجدوا الصوفية الحقيقيين - وأين هم؟ - لفروا منهم فرارهم
من الأسد؛ لأن ليس عند هؤلاء إلا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النفوس
من أمراض الإفراط في الشهوات وتصفية القلوب من شوائب الشره في حب الدنيا
وحمل الطبائع بوسائل القهر والتمرين على الاستئناس بالله وبعبادته عوضًا عن
الملاهي المضرة، وذلك طلبًا للراحة الفكرية والعيشة الهنية في الحياة الدنيا والسعادة
الأبدية في الآخرة. وأين التهوين السالف البيان لصوفية الزمان من هذه المطالب
التهذيبية الشَّاقَّة، ومن حقائق العرفان المعنوية التي لا يعرفها وتلمس بها إلاّ من
وفقه الله وكشف عن بصيرته. وذلك نحو العرفان عن يقين وإيمان أن من أعز
كلمة الله أعزه الله، ومن نصر الله نصره الله، ومن توقع الخير أو الشر جازمًا نال
ما توقع، ومن تَصْفُو نفسُه يُلْهمُ رشده ومن اتكل على الله حقًّا كفاه الله ما أهمه،
ومن دعا الله مضطرًا أجاب دعاءه إلى غير ذلك من الحقائق المقتبسة من القرآن
وأسرار حكمة سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم (مرحى) .
قال (الأستاذ الرئيس) : قد أحسن أخونا الشيخ السندي توصيفه المتفقهة
المتشددة والمتصوفة المخففة وإني ملحق تقريره بما يناسب أن يكون مقدمة تاريخية
لبحث التصوف فأقول:
قد كان التنسك في المسلمين شيمة لأكثر الصحابة والتابعين ثم إن التوسع في
الدنيا قلل عدد المتنسكين فصار لأهله حرمة مخصصة بين الناس، وصار بعض
المتفرغين يقصدون نيل هذه الحرمة بالتلبس بالتنسك وإلزام النفس بالتمرن عليه
وإذا كان من لوازم استحصال تلك الحرمة إظهار التقشف؛ اتخذوا الصوف دِثارًا
واسم الفقر شعارًا فغلب عليهم اسم الصوفية واسم الفقراء أن بعض العلماء من
هؤلاء المعتزين بالتنسك أحبوا التميز بالرياسة أيضًا فصاروا يدعون الناس إلى
التنسك ويرشدونهم إلى طرائق التمرن عليه ومن هنا جاء اسم الإرشاد واسم
الطريق.
وإذ كانت إرادة الاعتزاز بالدين إرادة حسنة؛ لأن فيها إعزازًا لكلمة الله فلا
يؤخذ بشيء على المرشدين الأولين ولا على البعض النادر من المتأخرين ولو من
أهل عهدنا هذا كالسادات السنوسية في صحراء أفريقيا.
أما دخول الفساد على التصوف وإضراره بالدين وبالمسلمين مما ذكره أخونا
الشيخ السندي وغيره من الإخوان الكرام فقد نشأ من أن بعض المرشدين من أهل
القرن الرابع لما رأوا توسع الفقهاء في الشرع وتفنن المتكلمين في العقائد فهم كذلك
اقتبسوا من فلسفة فيثاغورس وتلامذته في الإلهيات قواعد وانتزعوا من لاهوتيات
الكتابيين والوثنيين جملاً وألبسوها لباسًا إسلاميًّا فجعلوه علمًا مخصوصًا ميزوه باسم
علم التصوف أو الحقيقة أو الباطن. وهكذا بعد أن كان التصوف عملاً تعبديًّا
محضًا جعلوه فنًّا نظريًّا اعتقاديًّا بحتًا.
ثم جاء منهم في القرن الخامس وما بعده بعض غلاة دهاة رأوا مجالاً في جهل
أكثر الأمة لأن يحوزوا بينهم مقامًا كمقام النبوة بل الألوهية باسم الولاية والقطبانية
أو الغوثية وذلك بما يدّعون من القوة القدسية والتصرف في الملكوت فوسعوا فلسفة
التصوّف بأحكام تشبه الحكم بَنَوْها على زخرف التأويلات والكشف والتحكمات
والمثال والخيال والأحلام والأوهام وأَلفوا في ذلك الكتب الكثيرة والمجلدات الكبيرة
محشوة بحكايات مكذوبة وتقريرات مخترعة وقضايا وتركيبات لا مفهوم لها ألبتة
حتى ولا في مخيلة قائليها كما أن قارئيها أو سامعيها لا يتصورون لها معنًى مطلقًا
وإن كان بعضهم يتظاهر بحالة الفهم ويتلمظ بأن للقوم اصطلاحات لا تُدْرَكُ إلا
بالذوق الذي لا يعرفه إلا من شرب مشربهم.
وبعض هؤلاء الغلاة قُتِلُوا كفرًا، ومع ذلك شاعت كتبهم ومقالاتهم وحازوا
المقام الذي ادعوه بعد مماتهم؛ لأن في تعظيم شأنهم ترويج مقاصد المقتفين لآثارهم
كالإباحيين. وبعضهم لم يكن من الغلاة ولكن أخلافه إعظامًا لأنفسهم في نظر حمقى
ذلك حتى في عهدنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله. (له بقية)
(المنار) لقد بالغ الرجل رحمه الله في النقد وأن للقوم في مجموعهم حسنات لم
يذكرها كما أن لهم سيئات وقد بينا ما لهم وعليهم من قبل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار - المنقول أن الصديق لسعته حية لا عقرب ولم يصح.(5/501)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
(س1) الاستمطار بالكهربائية ومفاتح الغيب - محمد أفندي كامل الكاتب
بمحكمة أسيوط: رأيت في بعض المجلات أن علماء الطبيعة في اليابان أمكنهم أن
يستحدثوا سحبًا ويستمطروها حسب أهوائهم. ورأيت في مجلة أخرى أنهم في
بلاد الإنكليز يستمطرون السحب الطبيعية. وقد ورد في القرآن الشريف للإعجاز
أن الخالق جلّت قدرته هو الذي ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام إلخ. وورد أيضًا
أن الغيث ينزل بقدر معلوم، وأن الله تعالى هو الذي يرسل السحاب حيث يشاء.
فهل ما ذكر عن الإنكليز واليابان ينافي الإعجاز الوارد في القرآن وما حدده من علم
الإنسان بالكائنات؟ نرجو البيانات وتفسير الآية (نفعنا الله والمسلمين بغزارة علمكم)
اهـ باختصار.
(ج) إن الأمة الأميركية هي السابقة إلى ادعاء إمكان الاستمطار بالعمل
وذلك بإرسال مقدار عظيم من الكهربائية في الجوّ تنتشر في السحاب فتجتمع بها
دقائق البخار فتكون ماء فينزل مطرًا. ويقال إنهم جربوا ذلك فنجح بعض النجاح
ولكنه لم يأت على حسب المراد، ويصير خاضعًا لكسب الإنسان يفعله متى أراد،
والذي نبههم إلى هذا ملاحظة حدوث المطر عَقيب الحرب حيث تطلق المدافع
فتحدث في الجوّ تغيرًا عظيمًا.
وليس من المحال عقلاً ولا شرعًا أن يصل علم الإنسان بسنن الله في الخلق
إلى حد يستمطر به السحاب متى شاء فإن الله تعالى لم يجعل لعلم الإنسان بالكائنات
حدَّا معينًا، بل تشير آيات القرآن بإطلاقها إلى أنه لا حدَّ له كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ
لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) ولا ينافي ذلك - إن حصل
- كون الله تعالى هو الذي ينزل الغيث وكونه ينزله بقدر معلوم فإن ما يناله الإنسان
بسعيه وكسبه لا يخرج عن قدرة الله تعالى وعلمه، ولم يرد ذلك للإعجاز. أرأيت
هذه الينابيع التي تفجّرها. والآبار التي تحتفرها، أهي تخرج بكسبنا عن سلطة
القدرة الإلهية. وتحتجب بسعينا عن علمه المحيط بالبريّة؟ كلا.
أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34)
فليس نصًّا في كون علم الإنسان يصل إلى معرفة شيء من هذه الأمور. ولكن
يشتبه على الناس تفسير قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) بهذه الخمس المذكورة في الآية كما في حديث أحمد والبخاري. وقد قال الإمام الرازي وغيره: إن المراد مفاتح خزائن الغيب، أي: فلا يعلم جميع ما
في خزائن الغيب إلا من بيده مفاتحها وهو الله تعالى. وقد ظهر لي في أيام طلب
العلم وقراءة التفسير وجه دقيق لجعل هذه الخمس مفاتح للغيب ولم أر أحدًا من
المفسرين تعرض لذلك. وقد عرضت هذا الوجه يومئذ على أستاذنا الشيخ
محمود نشابة وعلى شيخنا القاوقجي (رحمهما الله تعالى) فاستحسناه وكتبته في
كتابي (الحكمة الشرعية) وهو: إن المفاتح جمع مَفتح بفتح الميم أو كسرها
بمعنى الخزائن أو المفاتيح، والغيب ما غاب عن الناس وهو عالم الآخرة وعاَلم البرزخ
بين الدنيا والآخرة وبعض عالم الدنيا وهو النبات الذي لم ينبت والحيوان الذي لم يولد وما تكسبه الأنفس في المستقبل. فالساعة مفتح عالم الآخرة، والغيث مفتح عالم
النبات، وما في الأرحام مفتح عالم الحيوان، وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا
تَكْسِبُ غَدًا} (لقمان: 34) ظاهر في مفتح الكسب والأعمال التي ستحدث.
وكذلك الموت مفتح عالم البرزخ ظاهر في باقي الآية. اهـ. وفي الكتاب تصوير
لمعنى الآية بصورة أخرى. ولك أن لا تسمي الموت برزخًا ولا تجعل
البرزخ عالمًا.
***
(س2) الأعطار الإفرنجية - أ. ز. غ. في السويس: أرجو الإفادة عن
العطر المسمّى (باللوندا) ونحوه أطاهر أم نجس إلخ.
(ج) هو طاهر كما بيناه بالأدلة في الصفحة 500 من المجلد الرابع
فليراجعه السائل.
***
(س3) الخطباء والموضوعات - أ. على. بالأزهر: صلينا آخر جمعة
من جمادى الثانية في الأزهر الشريف فسمعنا الخطيب ذكر في الخطبة الحديث
الذي كنتم ذكرتموه في المنار أنه موضوع وهو: من صام يومًا من رجب فله كذا إلخ
فإذا كان ما نقلتم عن المحدثين من وضعه هو الصحيح الثابت فكيف يتجرأ خطيب
الأزهر على إسناد الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب
على رءوس أشهر علماء الدين في المسلمين. وهل يجب منع أمثال هؤلاء الخطباء
من ذلك أم لا؟
(ج) جاء في فتاوى ابن حجر المكي الحديثية أنه سئل عن خطيب يَرْقَى
المنبر في كل جمعة ويروي أحاديث كثيرة ولم يبين مُخَرِّجِيها ولا رواتها. فَذَكَر في
الجواب اشتراط معرفة الحديث في جواز ذلك أي: أن يكون الخطيب محدثا يروي ما
صح عنده أو ينقله من كتب الحديث المعتبرة. قال: (وأما الاعتماد في رواية
الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب
ليس مؤلفها كذلك فلا يحلّ ذلك) من فعله عزّر عليه التعزير الشديد.
وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها
وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلاً أم لا، فيجب على حكام كل
بلد أن يزجروا الخطباء عن ذلك ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن
ارتكبه) . اهـ ولا يخفى أنه ليس عندنا في هذا العصر حفاظ ولا محدثون فيا ليت
مدير الأوقاف يلزم الخطباء بتخريج الأحاديث من الكتب الصحيحة وعزوها في
الخطبة إلى مخرجيها كالبخاري ومسلم وغيرهما من الحفاظ.
والذي ساق الخطباء إلى اختيار الأحاديث الموضوعة والواهية هو التزامهم
إنشاء الخطب في مدح الشهور والمواسم المبتدعة. وإذا لم يجدوا حديثًا صحيحًا ولا
حسنًا في صوم رجب ذكروا المكذوب والواهي. أكثر المشتغلين بالعلم جهلاء
بالحديث، ومن كان منهم عالمًا به في الجملة فهو غير عامل، فلا ينهى عن المنكر
ولا يأمر بالمعروف ولذلك استمرت هذه المنكرات حتى كاد يعدها العامة من
ضروريات الدين، ألا تراهم يحتفلون بصلاة الرغائب في دار السلطنة وغيرها
وهى كما نص الفقهاء والمحدثون بدعة مذمومة (راجع بدع رجب في المجلدين
الثاني والثالث) .
***
(س4) القراءة على القبر - الشيخ أحمد حامد بدوي بالأزهر: قرأت في
رواية (عذراء قريش) لحضرة جرجي أفندي زيدان (أنه لما اشتد الخلاف على
عثمان رضي الله عنه دخل علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - عند قبر رسول الله
عليه الصلاة والسلام شكا إليه حال الأمة ودعا لها ثم قرأ الفاتحة) ونحن نعتقد أن
قراءة القرآن لا تجوز على القبور مطلقًا فجئنا بهذه السطور لنسأل المنار هل ما
نعتقده صحيح أو يجوز قراءة القرآن كما فعل الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله
عنه (كما قاله صاحب الرواية) وللإسلام منكم مزيد الفضل والشكر.
(ج) إن الأخبار والآثار التي يحتج بها شرعًا لا تؤخذ من القصص ولا من
كتب التاريخ وإنما تؤخذ عن المحدثين الذين يبينون أسانيدها ليُعلم: أيحتجُّ بها أم لا،
فالأثر المنقول في الرواية غير صحيح، ولو صح لجاء فيه الخلاف في الاحتجاج
بعمل الصحابي، ثم يقال بعد هذا: إن العلماء مختلفون في جواز القراءة عند القبر
ولا بد أن يكون اعتقاد السائل بالمنع مبنيًّا على عدم الاعتداد بما ذكر المجيزون من
الدليل فكيف يعتد بعد هذا برواية في قصة لمن ليس من أهل الحديث؟ وقد ذكرنا
رأينا في المسألة من قبل؛ فلا نعيده. فليراجع السائل الجزء الرابع من هذه السنة
والمجلدات السابقة.
__________(5/505)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(أرجأنا تتمة ترجمة السنوسي إلى الآتي)
الإسلام والدولة البريطانية
لهج بعض الجرائد في هذه الأيام بمقالة لكاتب إنكليزي اسمه (مسترد. ج.
كوربت) نشرت في الجزء الخامس من كتاب إنكليزي كبير في الدولة الإنكليزية
ومستعمراتها. عنوان هذه المقالة (الإسلام والدولة البريطانية) وقد أرسلها كاتبها
إلى بعض الجرائد الإسلامية ومنها جريدة المؤيد وطلب منها رأيها فيها، وقد
عربتها جريدة المؤيد ونشرت التعريب في ستة أجزاء فكان له وقع عظيم عند
المسلمين. ونحن نلخص عيون المقالة في أربع مسائل:
(1) إنكلترا أكبر دولة إسلامية، يقول الكاتب في إثبات هذه المسألة: إن
المسلمين الذين تحكمهم الدولة العثمانية ستة عشر مليونًا ونيفًا بحسب الإحصاء
الرسمي، والذين تحكمهم دولة الصين 32 مليونًا، والذين تحكمهم روسيا ستة
ملايين. وهذه الدول الثلاث أكثر الدول تابعًا من المسلمين بعد إنكلترا التي تحكم
107076804 مسلمين. وقد بين الكاتب ذلك بالتفصيل في ثلاثة جداول إحصائية.
واستدركت عليه جريدة المؤيد قائلة: إن هذه الجداول مأخوذة من إحصاء 1891
وقد زاد عدد المسلمين في المستعمرات الإنكليزية في العشر الأخير زيادة عظيمة فقد
كان عدد مسلمي الهند في العشر الماضي 57 مليونًا وصار عددهم بحسب الإحصاء
الأخير 87 مليونًا بل 89 مليونًا و125 ألفًا. وبالجملة فإن المؤيد قدر عدد
المسلمين الخاضعين للإنكليز 138. 706. 740 وقال: إن هذا المجموع أقل من
الحقيقة بكثير.
(2) معاملة الإنكليز للمسلمين: يقول الكاتب: (إن المسلمين في
المستعمرات الإنكليزية يتمتعون بالحرية الدينية ويرتقون في معارج الحياة
الاجتماعية، ويزدادون بالتدريج ثروة وعلمًا وأدبًا وستكون الهند مصدرًا لمدنية آسيا،
ومصر منبعًا لحياة ما يجاورها من آسيا وأفريقيا، ثم إنه مع هذا ينسب إلى قومه
الإنكليز التقصير في القيام بمصالح المسلمين ويثبت لهم أن مستقبل بريطانيا
العظمى مرتبط بمستقبل المسلمين، ومصالحهم مقرونة بمصالحهم. ويقول: إن
الإنكليز ارتكبوا هفوات مع المسلمين جهلاً وغرورًا ونقل عن الدكتور ليتنر الذي
وصفه بأنه حجة ثقة جملة جاء فيها أن الصلة انقطعت بين الإنكليز والمسلمين في
الهند بإبطال محكمتي الصدر الديواني ونظام عدالت.
قال الدكتور: (وإن أحكام محاكمنا (أي الإنكليزية) صارت بعيدة عن
الغرض المقصود لجهل قضاتنا باللغة العربية التي لا يمكن أن يكون لأحد مع
المسلمين نفوذ بدون معرفتها لارتباطها بالشريعة المحمدية ارتباطًا لا انفكاك له) .
وينقل الكاتب عن هذا الدكتور أيضًا القول بوجوب ردّ الإنكليز المرتبات والهبات
التي منعت عن المسلمين بغير حق ليستعينوا بها على (التربية الدينية والأدبية
اللازمة للأمة المحمدية) . ويقول: إذا اتبعنا نصيحة الدكتور فإننا نكفّر عن سيئاتنا
الإدارية وغلطاتنا السياسية التي وقعت من بعض حكام الهند قديمًا خصوصًا إقفال
أبواب المدارس العليا في وجوه الناشئة الإسلامية وما تبع ذلك من التضييق عليهم
في وظائف الحكومة، ويعترف الكاتب للسيد أحمد خان بأنه كان هو السبب في تقرب
الإنكليز من المسلمين وأنهم خطوا بسعيه خطوات واسعة ويمدح مدرسته التي كانت
مساعدة على هذا التقرب وإزالة سوء التفاهم بين الفريقين. ويوجب على الإنكليز
مساعدة المدارس التي تربي الناشئة على الاستقلال ومحاسن الأخلاق وصفات
الرجولية كمدرسة أحمد خان.
(3) ارتباط مصلحة الإنكليز بالمسلمين، قال: يجب علينا - وراء التكفير
عن سيئاتنا ومساعدة إخواننا المسلمين على الترقي - أن نزيل ما علق بأذهان بعضنا
من سوء فهم الدين الإسلامي فإن نتيجة هذا الجهل جعلهم أعداء لنا. ثم نقل أن
المسلمين دعوا الله تعالى في مساجد الهند بأن ينصر الإنكليز على البربر واستدل
بهذا على إخلاصهم لحكومتهم وعلى وجوب جذبهم إليها لكيلا تصيبهم السموم التي
ينفثها أعداؤها. وذكرالأفغان وما يكون لهم من الشأن إذا حاربت روسيا الإنكليز في
الهند. وانتقل إلى أفريقيا وذكر قوة السنوسيين فيها وازدياد نفوذهم وأنها ستكون
وبالاً على الإنكليز إذا هم لم يجذبوا المسلمين إليهم فإنهم لا يلومون في المستقبل إلا
أنفسهم.
قال: (الواسطة الوحيدة لتمكين سلطتنا في آسيا وأفريقيا هي أن نبذل جهدنا
في إفهام المسلمين أن مصالحها الدينية والسياسية مرتبطة بمصالحنا وأنهم بخدمة
مصالحهم يخدمون مصالحنا ونحن كذلك. ويلزم المسلمين لذلك أن يعلموا أن كثيرًا
من معتقداتهم التي يحسبونها من الدين ليست منه ولا جاء بها كتابه) . يقول
القاضي سيد أمير علي أحد نبهاء المسلمين: (إن سبب تأخر المسلمين وبقائهم على
ما هم عليه من التأخر يرجع في الغالب إلى ما رسخ في أذهانهم من أن لا حَقََّ لهم
في استعمال عقولهم في فهم دينهم؛ لأن ذلك قد انتهى بانقراض المجتهدين الأولين
فصار الاجتهاد بعدهم محرمًا، وأن المسلم لا يكون مسلمًا صادقًا إلا إذا كان مقلدًا
لمذهب من المذاهب المعروفة. فيترك المسلم ما يعتقد وما يفهم ويتمسك بآراء أهل
القرن التاسع من المفسرين والفقهاء غير ملتفت إلى الآراء والأفكار التي وصل إليها
العالم في القرن التاسع عشر) .
وقد ختم الكاتب كلامه بذكر حركة العالم الإسلامي الآن للترقي وحتم على
الإنكيز مساعدة هذه الحركة والاستفادة منها، وعلق الأمل في ربط الألفة بين
الفريقين بمسلمي ليفربول.
(4) دين الإسلام دين مدنية: أثنى الكاتب على الإسلام ثناء من فهمه ورد
على المعترضين عليه بفهم وعقل ونقل أقوال ثقات الحكماء والعلماء الغربيين في
مدحه وأجاب عن الاعتراضات المشهورة بأجوبة حسنة. وربما نلخص تلك الأقوال
والمدائح بعد. وإن لنا كلامًا في الوفاق الإسلامي الإنكليزي نذكره في الجزء
الآتي.
__________(5/508)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مثال من أمثلة طفولية الأمة
جمعية مكارم الأخلاق
يعرف قراء المنار أن جمعية وجدت في القاهرة سميت (جمعية مكارم
الأخلاق الإسلامية) ثم وجد لها فروع في الزقازيق والإسكندرية وغيرهما. وقد
أقبل الناس في القاهرة على الجمعية حتى صار أعضاؤها يعدون بالمئين أو
تجاوزوها وأنشأت الجمعية مجلة سمتها باسمها بلغ عدد المشتركين فيها بعد أشهر
من ظهورها زهاء أربعة آلاف مشترك. وكان الفرع الذي تفرع منها في الزقازيق
أكبر الفروع نفعًا وأعزها نفرًا فإنه أنشأ مدرسة وعالَ بعض الفقراء.
ولكن الجمعية الكبرى لم تلبث أن انحلت وأبطلت مجلتها بعد مرض عرض على إدارتها وغول غال ماليتها، وظلت جمعية الزقازيق بعد سقوط أمها
قائمة على طريقها حتى جاءنا في هذه الأيام خبر سقوطها وإبطال مدرستها وبيع
أدواتها وأثاثها واقتسام الأعضاء له.
يعلم الله أننا نكتب هذا بمداد الأسف والامتعاض. ويعلم أهل الفضل والمروءة
من أفراد الجمعية بعض ذلك منّا بحثنا إياهم على إحياء الجمعية في القاهرة وتعيين
رئيس لها صالح للإدارة يخدم الجمعية للجمعية. وإننا لم نيأس من همة هؤلاء
الفضلاء، فإن كان النهوض بعد السقوط عسرًا فهو إذا حصل أجدر بالثبات وأحرى
بالدوام ويسرنا بقاء فرع الجمعية في الإسكندرية ثابتًا، وقد أحدث للمجلة مطبعة
وأعاد نشرها.ولا شك أن أهل الإسكندرية أرقى في الحياة الاجتماعية من أهل
الزقازيق ولكنهم ليسوا في مجموعهم بأرقى من أهل القاهرة فلعل هؤلاء سيحققون
رجاءنا فيهم ولا يقنطهم سقوط الطفل قبل فطامه من نهوضه وقيامه.
__________(5/510)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محادثة بين
صاحب جريدة الحاضرة ورئيس تحرير جريدة فرنسوية
اجتمع صاحب جريدة الحاضرة العربية الوحيدة في تونس بموسيو ترديون
رئيس تحرير جريدة الدبيش تونزيان، وتكلما في موضوع التعليم الذي تبغيه فرنسا
بتونس. فرأينا أن نلخص ما دار بينهما لما فيه من العبرة للمسلمين الذين استعمر
بلادهم الأوربيون، أو احتلوها باسم الحماية أو غير ذلك.
(الصحافي الفرنسي) : ما قولك أيها الرصيف في المقالة التي نشرت اليوم
في جريدتنا تحت عنوان (ما هي النسبة التي علينا أن نعلمهم - أي التونسيين -
عليها؟) جوابًا على مقالة في هذا الشأن نشرت في التونزي فرانسيز تحث على
حرمان التونسيين من نعمة التعليم العالي الموصل إلى النتائج الفكرية النافعة من
طب وهندسة وخصام (كذا ولعله يريد الحقوق) وتحرير إذ رأى محرر هذه
الجريدة أن نظام الحماية قاض بإبقاء التونسي دائمًا في دياجير الجهل حتى لا يهتدي
إلى الصواب والترقي الفكري سبيلاً، وبمعاملته كما تعامل البهائم حتى لا يطمح إلى
الاستقلال ولا يتوصل إلى إنكار ما يلحقه من الأذى والظلم.
(الصحافي التونسي) بعد جملة في مدح العلم: هل تنكرون أن فرنسا
اختلت هذا القطر لبثِّ أنوار العرفان ونشر راية المدنية بين أهالي المملكة فكيف
يمكن الجمع بين هذه الدعوى وبين قضية حرمان شبان التونسيين من التعليم.
(الفرنسي) : نحن لم نقل بحرمان التونسي من كل تعليم بل زدنا على
السماح له بالتعليم الابتدائي أن أجزنا أن يتعلم بعض الأفراد العلوم العالية بصفة
استثنائية خاصة لا عامة؛ لأن انتشار العلوم العالية يثقف العقول ويفتح البصائر
ويولد الطمع بالاستقلال في نفوس المسلمين لما هم عليه من صفات الرجولية
والشجاعة وحب الجلاد والمحافظة على شعائرهم بخلاف اليهود فإنهم لا وطن لهم
ولا مطامع، سياسية وهم بكثرة تقليدهم وميلهم لمجانسة الأوربي كادوا أن يكونوا على
صبغته فنحن على خلاف رأي التونزي فرانسيس ترى تقييد نشر العلوم العالية
وتخصيصه ببعض الشبان لا حرمان جميع الأفراد منه بالمرة.
(التونسي) : لعلكم سلكتم هذا المسلك مصانعة لأصحاب الأسهم من
التونسيين (وفي الأصل مراعاة لخاطر أصحاب الأسهم) .
(الفرنسي) : ربما كان ذلك من جملة الأسباب ولكن هذا هو رأينا الخاص.
(التونسي) كيف يسوغ ذلك التقييد، والعلم نور ساطع لا يمكن إخماده
وفي محاولة حجبه عن الناس خصوصًا القادرين منهم على اقتباسه بأنفسهم من
إيغار الصدور وجلب البغضاء ما لا يليق بدولة حرة هي قدوة الأمم في ترقي
الفكر.
(الفرنسي) : لقد ضيق الإنكليز من قبل دائرة تلقي الشبان المصريين للعلوم
العالية في مدارس الحكومة.
(التونسي) : لكنهم لم يتمكنوا من منع النهضة المصرية التي أغنت الأمة
عن مدارس الحكومة بما أقامه أفراد نبهائها ونبلائها من المدارس في كل علم وفن
وعدلوا عن هذه السياسة في ممالك الهند حيث أقام أشراف القوم وسراتهم المدارس
الكثيرة للعلوم العالية من قديمة وحديثة وذلك؛ لأنهم رأوا هذه السياسة أكفل للولاء
وتعلق رعاياهم بحكمهم.
(الفرنسي) : نحن نود أن لا تثقف أذهان التونسيين عامة بالعلوم العالية
وأن لا يتخرجوا فيكونوا أساتذة قادرين على النفع والانتفاع بتحصيلهم حتى نأمن
مقاصدهم فلا يسلكوا مسلك المكي كمون في التحامل على الحكومة والنظامات
التونسية.
(التونسي) : هذا كلام فيه نظر فإن كمال التعليم يقي الكامل من الجنوح إلى
الباطل ويسلك به طرق الجد والعمل النافع له ولقومه وإن تطرف المكي كمون من
ثمرات التعليم الابتدائي الناقص الذي تجيزه.
(الفرنسي) : لو تجنس كل نابغ في العلوم العالية بالجنسية الفرنسية لما
أوحينا منه خيفة؛ لأنه حينئذ يكون عضوًا فرنسيًّا يؤدي واجب الخدمة العسكرية
من عهد الشبيبة.
(التونسي) : هل يتساوى بهذه الجنسية التونسي والفرنسي في جميع
الحقوق والمصالح؟ إننا رأينا من خواص الفرنسيين من لا يرى هذه المساواة مطلقًا
ويعيب مجانسه بحداثة التجنس.
(الفرنسي) : ذلك لأنهم مع التجنس وبعد أداء الخدمة العسكرية في الجيش
يعودون إلى عوائدهم كلبس الطربوش، وربما لبسوه عثمانيًّا وارتداء لباس البادية
والإقبال على الصلوات والأذكار! ! !
(التونسي) : لعلكم تقصدون بالتجنس ترك شعائر الدين وتغيير الأزياء ولو
شاطركم المتجنس في أعز الامتيازات الوطنية كمشاطرة اليهود لكم في الحقوق
والمصالح الحيوية بتغييراتهم الصورية، فهل المخلص لكم من يَتَزَيَّا بأزيائكم مع العلم
بأن لبس الزُّنار لا يقتضي الترهب وهل تنطبق هذه الأفكار على حرية (التدين)
إن لم نقل ترك التدين؟ ألا يُعد هذا لو صدر من مسلم من التعصب الذميم والتغالي
الممقوت في عرف مدنية هذا العصر الذي ضيقت الحكومة فيه على مدارس الرهبان؟
(الفرنسي) : إنما نقصد نحن امتلاك القلوب، ولذلك نود أن يتنازل لنا
المسلم عن أحكام دينه الذاتية كالأنكحة والمواريث مما هو مصداق الحالة الشخصية.
(التونسي) : إذا كان القصد من التجنس هو تغيير الدين وأصوله الأساسية
بما يخرج عن دائرة دينه وملته فهو مما لا يرغب فيه مسلم ذو مروءة؛ لأن المارق
من دينه ممقوت عند الله وعند الناس ولو كان دخيلاً فيهم. ثم إن في التجنس بهذه
الصفة قلب الهيئة الإسلامية بتغيير الأنساب والنسب في المواريث وحقوق الزوجية
في التصرف؛ إذ المرأة عندنا حرة لا يتوقف تصرفها على إذن زوجها إلى غير
ذلك من مسائل الأرحام والأنساب التي جاءت بها أحكام الشريعة الإسلامية المنزلة.
فلماذا لا تتغير أحكام القانون الفرنسي إلى الأحكام الإسلامية؟
(الفرنسي) : الحق لكم في هذا المبحث فإن نسبة المواريث مقصودة لأجل
إبقاء الميراث بيد الذكور أعمدة البيوت وهو ما قصده الإنكليز من أحكامهم في هذا
الباب. على أنه لا مانع من البحث عن طريقة للتوفيق بين مصالح الهيأتين الأهلية
والفرنسية لدوام الألفة وحسن المعاشرة في هذه الأوطان.
(التونسي) : ذلك أحسن مرغوب تتجه إليه القلوب وترتاح له النفوس ويا
حبذا لو سعت الجرائد المحلية في تحقيقه. غير أني أقول بالإجمال: إن أكفل
وسيلة لبلوغ هذه الأمنية هي توزيع الفوائد والمغانم وتقسيم المنافع المادية بصورة
عادلة توفر للأهالي حظًّا من فوائد القطر ومغانمه حسية كانت أو معنوية كالوظائف
والمساعدات المادية والأدبية والحث على الترقي الفكري الذي هو ثمرة المدنية.
(قال) ثم وادعنا رصيفنا المومى إليه قانعًا بما وضحنا له من
الخطاب. اهـ
... ... ... ... * * *
(المنار) نقلنا هذا الخطاب بتصرف لفظي قليل لا يغير شيئًا عن المعنى
ولا نستنبط منه شيئًا بل ندعه للقارئ يفهم منه ما يفهم. ونعرف رصيفنا الفاضل
صاحب الحاضرة بأن الإنكليز لم يحاولوا مقاومة التعليم الأهلي فيقال: (إنهم لم
يتمكنوا من منع النهضة المصرية) إلخ وأن المدارس التي حدث عنها لم تغن عن
مدارس الحكومة ولا قاربتها في حسن التعليم، ولو أن المصريين عرفوا قيمة حرية
الإنكليز في العلم والدين وكل ما يحتاجه من يتولون أمورهم لكانت لهم مدارس كما
وصف الرصيف ولكنهم رزئوا بأحداث يبغضون إليهم الإنكليز وأعمالهم ويمنونهم
بأن فرنسا ستخرجهم من وادي النيل بهذيان أولئك الأحداث ولغطهم فاشتغلوا بهذا
عن كل شيء حتى علمهم الزمان بحوادثه حقيقة غرور الأحداث وتغريرهم والآن
صار يُرجى منهم النهوض الحقيقي والتعليم النافع فإن فعلوا فإن الإنكليز يساعدونهم
كما يساعدون إخوانهم في الهند، والله الموفق.
__________(5/511)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مثال من أمثلة تعصب النصرانية على العلم
صاحب مجلة الجامعة - الذي يدعي أن النصرانية أكثر تسامحًا مع العلم من
الإسلام - أرثوذكسي المذهب. وفي القاهرة جريدة لأرثوذكسي آخر تصدت للانتصار
له والتنويه بخدمته وفلسفته، وهذه الجريدة دينية إخبارية وإن لم يكتب عليها
(دينية) وقد نشرت في العدد الذي انتصرت فيه لصاحب الجامعة المحترم مقالة
عنوانها (المدارس والإكليرس) يصح أن تكون مثالاً أو أن يؤخذ منها مثل متعددة
لتعصب النصرانية على العلم حتى اليوم (من فمك أدينك) .
جاء في المقالة أن عاملين يتنازعان النجاح وعدمه في تعليم الأولاد (الأول
التعصب الديني الذي يحمل الآباء على إرسال أولادهم إلى مدارسهم الطائفية سواء
كانت مفيدة أو غير مفيدة) إلخ. (والثاني النظر إلى المستقبل) وذكر أن الناس
يتراوحون بين هذين العاملين ثم قال ما نصه بحروفه:
(وما زلنا نرى الناس في هذا التضعضع نرى رؤساء الأديان مع الفئة
الأولى المتعصبة يسعون إلى الضغط على الأفكار وإرغام الأهالي التابعين لهم على
إرسال أولادهم إلى مدارسهم كأن يقولون لهم: اتركوا مستقبل أولادكم وحافظوا على
صحة اعتقادهم؛ لأن هاته المدارس ما فتحت في بلادكم إلا لتسلب منكم أولادكم
وتضطرهم إلى ترك معتقدات آبائهم وأجدادهم.
(وهذا ما قاله أيضًا غبطة البطريرك المسكوني ونقله إلينا البريد الأوربي
فقد جاء في جريدة (التان) لمكاتبها في الآستانة: (أصدر غبطة البطريرك
المسكونى للروم الأرثوذكس في الآستانة منشورًا شديد اللهجة إلى جميع المطارنة
ضد المدارس الدينية الفرنساوية حرض به أبناء الطائفة الأرثوذكسية أن لا يرسلوا
أولادهم إليها) . اهـ
فهل سمع مثل هذا عن شيخ الإسلام في الآستانة أو شيخ الأزهر في مصر؟
أليست المدارس الفرنسية ملأى بأولاد المسلمين المخالفين لهم في أصل الدين لا في
مذهب من مذاهبه كالخلاف بين الكاثوليك والأرثوذكس. نعم إن الإسلام ليس فيه
سلطة دينية تجعل الملقب بشيخ الإسلام أو شيخ الأزهر مسيطرًا على الناس ولكن
فيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجدر الناس بالقيام بهذا الواجب هم
الذين يرتقون إلى مثل هذه المنصب، ولكن تسامح الإسلام قد غلب حتى خرج عن
كونه تسامحًا وتساهلاً وصار إهمالاً وتفريطًا.
نسب صاحب هذه الجريدة ما نكتبه في الرد على صاحب مجلة الجامعة إلى
رجل صاحب منصب سامٍ في المسلمين وما كان له أن يصرح بظنه؛ لأن الحق
يعرف بذاته لا بقائله والباطل كذلك؛ ولأن آداب الصحافة تقضي بذلك فليس لي إذا
رأيت مقالة منتقدة في جريدة منسوبة لكاتب غير معين أن أنسبها لعظيم أحب
غميزته والنيل منه، أو أحب أن أجعل نفسي مناظرًا له ليتوهم الجاهلون بي وبه
أنني من نظرائه.
ولم يكتف صاحب الجريدة المشار إليها بالنسبة المذكورة والمقارنة بين شاب
من المبتدئين في الكتابة من أهل مذهبه وبين هذا الشيخ الجليل الذي ذكره بل خرج
عن الموضوع في عدد آخر (وهو العدد الأخير) وأتى بجانب أسمه بما لا يليق أن
يصدر من السوقة،هذا وكل من قرأ الرد على الجامعة أعجب بنزاهة الكلام وأدبه؛
لأنه لا يشم منه رائحة تحقير أحد فليس فيه أن صاحب الجامعة (أساء الفهم
وتجاهل) ولا (أنه حقر المسلمين) بل كل ما فيه سرد النقول من كتب الدين وكتب
التاريخ وما يتبادر إلى الفهم منها مع الاعتذار عن المعترض على الإسلام والمسلمين
والثناء عليه بما عده الناس فوق ما ينبغي. فما كان لمن عومل هذه المعاملة أن يعامل
بضدها من عدهم من الأصدقاء، وهو مأمور بمحبة الأعداء، ولا أن يستنجد ابن
مذهبه ليقول في الانتصار له ما لا يقوله هو أو يرضى منه ذلك ليحقق التهويل الذي
أشار إليه وأرجف به وتبرّأ من تبعته ألقاها على من رد عليه.
تلك آداب دين التعصب والغلظة وهذه آداب صاحب الجريدة المنتصرة لدين
المسامحة والمسالمة ومحبة الأعداء. أقام الله منهم أدلة على دعاويهم، وأيد كلمة
الحق بما تقذفه أفواه متأدبيهم.
وبقي أن نقول: إن فضلاء المسيحيين وأدباءهم قد قدروا الرد الذي ننشره
قدره وعرفوا قيمته؛ إذ فهموا أنه أبلغ ما كتب في إقناع المسلمين بوجوب حسن
المعاملة مع المخالف في الدين، ووجوب الأخذ بأسباب الارتقاء الذي هو الوسيلة
الوحيدة لسعادة الشرق والشرقيين، ولو تأنى الرصيف المحترم صاحب الجامعة
الغراء وصبر حتى قرأ الرد كله (ولم يحكم بأنه 35 صفحة فقط.. .) لجاز أن
يظهر له منه ما ظهر لعلماء المسيحيين وكبار كتابهم من أنه أكبر خدمة خدم بها
الشرق، والله الهادي إلى سبيل الحق.
__________(5/515)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سخافة بشائر السلام في الجاهلية والإسلام
نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في جزئها التاسع نبذة في الجاهلية
والإسلام زعمت فيها أن الإسلام في عقائده وأعماله دون الجاهلية، وقد توسعت في
الكلام على الركن الأعظم في الإيمان وهو توحيد الله تعالى فزعمت أن الإسلام زاد
الجاهلية وثنية على وثنيتها! ! ! واحتجت على ذلك بستة أمور:
(1) كون الإيمان بمحمد محتمًا بعد الإيمان بالله تعالى فجعلت هذا شركًا بالله
وما هذا الإيمان بالوحي والرسل فإن من ينكر نبوة موسى أو عيسى كافر عند
المسلمين كمن ينكر نبوة محمد عليهم الصلاة والسلام. فيظهر أن الإيمان بالوحي
شرك ووثنية عند الكاتب الإنجيلي. وتعبيره بمقارنة الاسمين في الشهادتين لا يزيد
الشبهة قوة فإن صيغة الشهادة المروية في الصحيحين هي (أشهد أن لا اله إلا الله
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) فهل يكون العبد ربًّا وإلهًا؟ ! وأما المقارنة في
الذكر قولاً وكتابة فهي لا تمتنع إلا إذا حرم ذكر الله تعالى ومنع بالمرة! ألا يقول
الكاتب: رحم الله فلانًا ونحو هذا؟ وقد كبرت على الكاتب كلمة توجد في بعض
كتب المسلمين وهي أن كلمتي الشهادة مكتوبتان على العرش قبل خلق السماوات
والأرض.
القول بهذه الكتابة ليس من عقائد الإسلام فمن عاش ومات ولم يسمع بها، أو
سمع ولم يصدق بأنها وردت في الحديث بالمرة فلا يعدّ هذا ولا ذاك نقضًا لإيمانه
ولا نقصًا منه. وإذا قلنا إن هذه الكتابة ثبتت وصحت فأيّ وثنية فيها والإله إله
والعبد عبد؟ نعم إن ذلك يدل على التشريف. وهل يقول الكاتب أن جميع عباد الله
سواء في معرفته وعبادته ونفع خلقه وأن تشريف بعضهم وتفضيله على الآخر
شرك بالله؟ وأن التوحيد الخالص هو أن يعتقد الإنجيلي بأن موسى كفرعون
وإبراهيم كنمرود بلا فرق؟ هذا هو فهم دعاة النصرانية في الدين، وهذا ما ينقمون
من المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
(2) زعم الكاتب أن المسلمين أنزلوا حديث النبي منزلة القرآن وجعلوهما
سواءً في أخذ الأحكام مع اعتقادهم بأن القرآن كلام الله والحديث كلام محمد. وزعم
أن الشيعة تركوا الحديث فأسخطوا أهل السنة. وكل من الزَّعْمَين باطل فأهل السنة
لا يقولون بأن القرآن والأحاديث سواء، والشيعة لم يرفضوا الأحاديث.
القرآن أصل الدين، والسنة مبينة له قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وللقرآن خصائص ومزايا
ليست للسنة كوجوب الإيمان بجميع ما فيه وكالتعبد بتلاوته. وأما الأحاديث فلا يضر
في الإيمان إنكار أي حديث منها (ومن ثبت عنده شيء بالتواتر لا يستطيع إنكاره وإن
لم يكن حديثًا فلا يجيء الحديث المتواتر هنا) ، وهي على أقسام فيما كان منها
متعلقًا بأمور الدنيا لا يجب الأخذ به، ويجوز أن يكون خطأً كما في حديث تأبير
النخل الصحيح وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وما كان
متعلقًا بأمر الدين فإما أن يكون عن اجتهادٍ، وإما أن يكون عن وحي. أما اجتهاد
الأنبياء فقد جوّز علماء أهل السنة أن يقع فيه الخطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه، بل يأتيهم
الوحي بيان الحق إليه كما في واقعة أسرى بدر. وأما ما يقولونه عن وحي من الله
فيجب الأخذ به، ويفرق المسلمون بين القرآن وبين الوحي الذي يعبر عنه النبي
بعبارة من عنده، ويسمى عند المسلمين خبرًا وحديثًا بما تقدم، وبأنه إذا وقع تعارض
بينهما ولم يمكن الجمع بعمل بالقرآن دون الحديث. فالحديث الصحيح في المرتبة
الثانية لا يمكن أن يساوي القرآن ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا عندما
أرسله إلى اليمن بماذا يحكم، فقال: بكتاب الله وأنه إذا لم يجد يحكم بالسنة، فأجازه
على ذلك. وهذا هو المروي عن أبي بكر وعمر وغيرهم من أئمة الدين أي: إنهم
ينظرون في القرآن أولاً فإن رأوا فيه حكم ما يطلبون قضوا به وإلا بحثوا في السنة
وعملوا بها. فلينظر المسلمون كيف يخترع المسيحيون لهم أصولاً للدين، ويبنون
عليها رميهم بالشرك المبين، فهذا هو تعصيبهم وهذا تساهلنا والحمد لله رب
العالمين.
قال: (الثالث ذكرُ اسم محمد مع اسم الله في مواضع جمة من القرآن نظير
شريك له في الأمر والنهي والحل والربط ووجوب الطاعة له والمحبة) إلخ، وقال
الكاتب إنه لا يذكر الشواهد إلا من سورة التوبة وحدها ولكنه ذكر ثلاث آيات: اثنتان
منهما من التوبة والثالثة من الأحزاب. وقد حرف الآيتين مع وضعهما بين علامات
تدل على أنه نقلهما بنصهما فكتب (إن الله بريء مما يشركون ورسوله) والله
تعالى يقول: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 3) وكتب (وما
كان لمؤمن أو مؤمنة) إلخ، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} (الأحزاب: 36) الآية. أما الجواب عن الشبهة فهو
واضح وهو أن أحكام الله تعالى إنما تؤخذ عن رسوله، فكل ما يقضي به الرسول من
أمر الدين فهو مبلغ له عن الله تعالى ويصح إسناده إليه كما يصح إسناد الحوادث
الطبيعية إلى أسبابها؛ لأن الله تعالى جعلها مرتبطة بها ولا يسمى شيء من هذا
شِركًا. وكأني بالكاتب يقول: إن دينه يحكم بشرك من يقول: (ينبغي للإنسان أن
يستحي من الله ومن الناس) ونحو هذا؛ لأنه قرن اسم الناس باسم الله في حكم
واحد.
فلينظر المسلمون إلى ثقة دعاة النصرانية في النقل وليقابلوا بين ما ذكر من
التحريف في الآيات والخطأ في العزو إلى السورة وبين ما وقع لنا مع أحد كبار
العلماء وهو أنه نبهنا إلى وجوب التنبيه على غلطة وقعت في المنار نقلاً عن
الإنجيل وهي (لم تجربونني) وقد حذف نون الوقاية من الفعل بالطبع فطبعت
(تجربوني) . وليتأمل المنصفون في نقلنا عن القوم ونقلهم عنا للتمييز بين
الصادقين والكاذبين، والتزييل بين المتساهلين والمتعصبين، والحمد لله رب
العالمين.
قال: (الرابع اتخاذ المسلمين محمدًا سيدًا لهم) ثم استنبط من هذا أن
المسلمين يعتقدون بأنهم عبيد لمحمد وقال: إن هذا هو الشرك الذي عناه. وجوابه
أن المسلمين لم يوجبوا أن يقول أحد عند ذكر النبي كلمة (سيدنا) ولم يرد الأمر
بوصفه عليه الصلاة بذلك في الكتاب ولا في السنة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن
إضافة لفظ (سيدنا) على صيغ الصلاة الملحقة بالتشهد مكروهة، وقال بعضهم
إنها مستحبة؛ لأن هذا اللقب من ألقاب التكريم التي اعتادها الناس مع الكبراء ومع
الأقران.
وأما استدلال الكاتب على هذه السيادة التي تستتبع الشرك عنده بآية {إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} (الأحزاب: 56) فهو غريب؛ لأن الصلاة من الله
الرحمة، ومن غير الله الدعاء كما صرح بذلك العلماء. فلو كان كل من تطلب له
الرحمة إلهًا لنا وكل من نخاطبه بلقب السيادة إلهًا لنا؛ لكان لنا وللكاتب آلهة لا
تحصى! ! ! نعم إن المسلمين يعتقدون أن محمدًا أفضل بني آدم وسيدهم ولكنهم
ليسوا عبيدًا له. أما وجه تفضيله فهو ظاهر بأثره وقد كتبنا فيه وسنكتب أيضًا إن
شاء الله. فليتأمل المتأملون في تمحّل هؤلاء الدعاة المسيحيين، واستنباطهم الذي
يضحك المحزونين، والحمد لله رب العالمين.
قال: (الخامس مغالاة المسلمين في قِدمية محمد إلى أن قالوا: إنه نور كائن
قبل البشر) إلخ. ونقول إن هذه المغالاة ليست من الدين في شيء فلا توجد في
القرآن ولا في كتب السنة الصحيحة ولا في كتب العقائد، وإنما توجد في كتب
القصص والموالد التي لا اعتبار لها، والدين ينهى عن القول بغير علم. على أن
العامة الذين يروج عندهم هذا الغلو لا يختلفون في حدوث نبيهم وغيره من الأنبياء
فلا يصح أن يسمّى القائل بذلك مشركًا بوجه ما. ولينظر الناظرون مبلغ علم هؤلاء
الناس بالأديان التي يحكمون ببطلانها ويدعون أهلها إلى تركها وليدلونا على مسلم
يتكلم مثلهم بغير علم، ويعتدي عليهم في الدعوى ثم في الحكم، وحسبنا أننا من
المسلمين، والحمد الله رب العالمين.
قال: (السادس والأخير اتخاذ المسلمين محمدًا شفيعًا) ثم قال: (واتخاذ
المخلوق شفيعًا عند الله هو عين الشرك الذي كان عليه العرب في الجاهلية لا أكثر
ولا أقل) ، ثم ذكر أن اتخاذ الجاهلية شفعاء كثيرين أخف شركًا من حصر المسلمين
الشفاعة في شفيع واحد. على أن المسلمين لم يحصروا، والجواب أن الشفاعة عند
المسلمين هي الدعاء، ولذلك يقولون في الصلاة على الميت: (وقد أتيناك راغبين
إليك شُفَعَاءَ له، اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه) إلخ. فكل مسلم شفيع، بل كل
مؤمن بالله يدعو الله تعالى لنفسه ولغيره والدعاء للغير يسمّى شفاعة. كأن الكاتب
الإنجيلي يقول: إن دينه يحكم بشرك كل من يذكر ميتًا كوالده أو غيره ويقول رحمه
الله تعالى. فهكذا يفعل (دين التساهل) بفتات أهله على المخالفين، وإذا أجابوهم
بالحق يدعونهم متعصبين، ولكن هذا لا يخرجنا عن تساهل المسلمين. والحمد لله
رب العالمين.
وإن تَعْجَبْ فعجبٌ قول من اتخذوا نبيّهم إلهًا: إن الذين يقولون إن نبيهم عبد
لله ولكنه أفضل عباده؛ لأنه نفع خلقه أفضل منفعة وهداهم بإذنه أكمل هداية هم
مشركون بالله لأنهم يعرفون فضل نبيهم ويسألون له رحمة الله تعالى ويطيعونه فيما
يبلغه عن الله تعالى. قال الكاتب بعد إيراد ما يقدم: (ويردّ على ذلك اتخاذنا نحن
النصارى السيد المسيح شفيعًا وحيدًا بين الله والناس على ما جاء في الإنجيل.
فأجيب إذا كنا معتقدين أن المسيح مخلوقًا (كذا واتخذناه) شفيعًا وحيدًا أو معه غيره
نكون بلا شك مشركين ولكن إذا كان المسيح بالحقيقة كلمة الله الأزلي وهو الخالق
وغير المخلوق الذي كان به كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان، فلسنا مشركين
بل نعبد إلها واحدًا تبارك اسمه) ! ! ! يعني أن الشرك هو اعتقاد أن نبيهم عبد لله
وأن شفاعته دعاء لله وأن التوحيد الخالص هو اعتقاد الناس أن نبيهم الذي ولد منذ
1902 هو الله القديم الأزلي الخالق لكل شيء مما كان قبله وما يكون بعده. وأنه
شفيع بمعنى أنه وساطة بين الناس وبين نفسه؛ يصلبها ويلعنها لإنجائهم! ! بخ بخ
ما أحسن هذا التوحيد. هذه شبهات المسيحيين المصلحين. فلله الشكر والمنة أن
جعلنا مسلمين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
__________(5/517)
16 رجب - 1320هـ
18 أكتوبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
تتمة المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
(الجواب)
أقول هذا كلام فيه شِيَة من الحق، ولمعة من الصدق، أما ما نسمعة حولنا
من سَجن مَن قال بقول السلف فليس الحامل عليه التمسك بالدين فإنَّ حملة العمائم
إنما حركهم الحسد لا الغَيْرة. وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة
والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد فتنتشر عدواه فينتبه غافل آخر
ويتبعه ثالث، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين - إلى آخر ما يكون
من حرّية الفكر يعوذون بالله منها. فإن شئت أن تقول: إن السياسة تضطهد الفكر
أو الدين أو العلم فإنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة،
ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال
يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص
يتكلم أو يتعلم أو يُجَنُّ أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس،
يدلك على أن العقوبة سياسة أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين. لا
تقل: إن هذه السياسة من الدين، فإني أُشْهِدُ الله ورسله وملائكته وسلفنا أجمعين،
أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل
الجحيم، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ
إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَلَى الْجَحِيمِ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ
ضَالَّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: 65 - 70) .
* * *
(جمود المسلمين وأسبابه)
وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام
وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون
أصلاً يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته (رينان) وغيره. وإنما
هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة
الإسلام في أفئدتهم. وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من
عقولهم هو السياسة، كذلك هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى واتباع
خُطُوات الشيطان هو السياسة.
لم أرَ كالإسلام دينًا حفظ أصله، وخلط فيه أهله، ولا مثله سلطانًا تفرق عنه
جنده، وخُفِر عهده، وكُفِر وعيده ووعده؛ وخَفِيَِ على الغافلين قصده، وإن وضح
للناظرين رشده، أكل الزمان أهله الأولين، وأدال منهم خُشَارة من الآخرين، لا هم
فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية من الناس اتصلوا به، ووصلوا
نسبهم بسببه، وقالوا نحن أهله وعشيرته، وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه في
شيء إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأفَنُ الرأي من صحة
الحكم.
انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله. كان
الإسلام دينًا عربيٍّا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيٍّا بعد أن كان يونانيًّا، ثم أخطأ
خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له. ظن أن
الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم. فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم
وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد
الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك. وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما
يبيح له ذلك. هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا.
خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه وبئس ما صنع بأمته ودينه: أكثَرَ من
ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى
تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم
ولم يكن لهم ذلك العقل الذي يرضاه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين. بل جاءوا إلى
الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم. لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه
شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع
الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم. ومنهم من
تولى أمره، أيّ عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرّف الناس منزلتهم ويكشف لهم
قبح سيرهم؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم. أما العلم فلم يحفلوا بأهله،
وقبضوا عنه يد المعونة وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن
يتسربلوا بسرابيله ليُعدُّوا من قبيلة، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم
العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه. ودخُلوا عليهم وهم أَغرار من باب التقوى وحماية
الدين. زعموا الدين ناقصًا ليكملوه، أو مريضًا ليعلِِّلوه، أو متداعيًا ليدعموه؛ أو يكاد
أن ينفضّ ليقيموه.
نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من
الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو بَرَاءٌ منه لكنهم نجحوا في إقناع
العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد
الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات وتلك الاجتماعات، وَسَنّوا لنا من عبادة الأولياء
والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة وأركس الناس في الضلالة، وقرروا أن
المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر
وتجمد العقول. ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص
والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو
من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم
ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعينه، وأن ما يظهر
من فساد الأعمال واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد
في الأخبار من أحوال آخر الزمان. وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن
الأسلم تفويض ذلك لله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه. ووجدوا
في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك وفي الموضوعات
والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من
هؤلاء المضلين وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من
عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلاًّ للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل
النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين
وموافقة الهوى. أمور إذا اجتمعت أهلكت؛ فاستتر الحق تحت ظلام الباطل ورسخ
في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما
يقال.
هذه السياسة سياسة الظلمة وأهل الأثرة هي التي روجت ما أدخل على الدين
مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات، وأخلدت به إلى
يأس يجاور به العجماوات، فجلُّ ما تراه الآن مما تسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام
وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج وقليل من الأقوال
التي حرفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات
إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا. نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه.
فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه
إسلامًا. والقرآن شاهد صادق {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) يشهد بأنهم كاذبون، وأَنهم عنه لاهون، وعما
جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود نثبت أنه علة لا بد أن
تزول.
* * *
(مفاسد هذا الجمود ونتائجه)
طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه، وولوع
شهواتهم بالدفاع عنه، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها وإنما يحسن إجمال القول
فيها. كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم ويسيح به في الأرض ويصعد
به إلى أطباق السماء ليقف به على أثر من آثار الله أو يكشف به سرًّا من أسراره
في خليقته، أو يستنبط حكمًا من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح
للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء وتبلغ من التَّمَتُّع بها ما تريد، فلما وقف الدين،
وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار
سير التدريج.
إفساد الجمود للغة: أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها
وآدابها فإن القوم كانوا يُعنون بها لحاجة دينهم إليها - أريد حاجتهم في فهم كتابهم
إلى معرفة دقائق أساليبها - وما تشير إليه هيئة تركيبها، وكانوا يجدون أنهم لن
يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربًا بملكاتهم، يساوون من كانوا عربًا بسلائقهم، فلما لم
يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام مَنْ
قبلهم واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله، ولو نظروا في الدليل
فرأوه غير دالّ له بل دالاًّ لخصمه بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر
الذين لم يقرر الدين عصمتهم لَخَطَّأُُوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا: نعوذ بالله
أن تذهب عقولنا إلى غيب ما ذهب إليه متقدمنا وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه
الشلل من تلك الناحية. فأي حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها وقد يكفيه
منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر
الأولون في كلامهم.
وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال
بسلفه الأول، بل ولا بما كان يحفّ بالقول من أحوال الزمان فهو لا ينظر إلا اللفظ
وما يعطيه فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال
الناس إلى ما نراهم عليه اليوم. جعلوا دروس اللغة لفهم عبارة بعض المؤلفين في
النحو وفنون البلاغة - وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها - فَدَرَسَتْ علوم
الأولين وبادت صناعاتهم، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم، وأصبح
الباحث عن كتاب المدونة لمالك - رحمه الله تعالى - أو كتاب الأم للشافعي - رحمه
الله تعالى - أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت
الزنديق. تجد جزءًا من الكتاب في قُطْر، وجزءه الآخر في قُطْر آخر فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلاً بينك وبين الاستفادة
منها.
هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت
في وجوه المتأخرين، ليرفع بذلك منازل المتقدمين، وعدم الاعتبار بما ورد في
الأخبار من أن المبلَّغ ربما كان أوعى من السامع [1] وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى
أوله خير أم آخره [2] وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة ثم يكفيه من ذلك
أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول، وأي ضرر أعظم
من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول.
إفساد النظام والاجتماع: وأعظم من هذه الجناية جناية التفريق وتمزيق نظام
الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في
الدين. كان اختلاف السلف في الفُتْيَا يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد، والكل يرجع
إلى أصل واحد لا يختلفون فيه وهو كتاب الله وما صح من السنة فلا مذهب ولا
شيعة ولا عصبية. ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما
صرح به جميعهم. ثم جاء أنصار الجمود فقالوا: يولد مولود في بيت رجل من
مذهب إمام فلا يجوز له أن ينتقل من مذهب أبيه إلى مذهب إمام آخر. وإذا سألتهم
قالوا: (وكلهم من رسول الله ملتمس) ولكنه قول باللسان، لا أصل له في الجنان،
ثم كانت حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين
أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة لَكُنَّا اليوم في شأن غير ما
نحن فيه.
يجد المطَّلع على كتب المختلفين من مطاعن بعضهم في بعض ما لا يسمح به
أصل من أصول الدين الذي ينتسبون إليه. يضلل بعضهم بعضًا ويرمي بعضهم بعضًا
بالبعد عن الدين وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن ولكنه الجمود، قد يؤدي
إلى الجحود.
كان الاختلاف في العقائد على نحو الاختلاف في الفُتْيَا تخالف أشخاص في
النظر والرأي. وكان كل فريق يأخذ عن الآخر ولا يبالي بمخالفته له في رأيه.
مسجدهم واحد وإمامهم واحد وخطيبهم واحد. فلما جاء دور الجمود - دور السياسة
- أخذ المتخالفون في التنطع، وأخذت الصلات تتقطع، وامتازت فِرَقٌ وتألفت
شيع. كل ذلك على خلاف ما يدعو إليه الدين. وقد بذل قوم وسعهم في
تمييز الفرق تمييزًا حقيقيًّا فما استطاعوا وإنما هو تمييز وهميّ، وخلف في أكثر
المسائل لفظي، وإنما هي الشهوات وضرب السياسات أشعلت نيران الحرب بين
المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذه الفُرقة التي يظن الناظر فيها أنها لا
دواء لها.
قال قائل من عدة سنين: إنه ينبغي أن يعين القضاة في مصر من أهل
المذاهب الأربعة؛ لأن أصول هذه المذاهب متقاربة وعبارات كتبها مما يسهل على
الناظر فيها أن يفهمها. وقال: إن الضرورة قاضية بأن يؤخذ في الأحكام ببعض
أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعي تيسيرًا على الناس ودفعًا للضرر والفساد.
فقام كثير من المتورعين يحوقلون ويندبون حظ الدين، كأن الطالب يطلب شيئًا
ليس من الدين، مع أنه لم يطلب إلا الدين، ولم يأت إلا بما يوافق الدين، وبما
كان عليه العمل في أقطار العالم إلى ما قبل عدة سنين. فأين قول هؤلاء (وكلهم
من رسول الله ملتمس) ؟ لكن هو جمود المتأخر على رأي من سبقه مباشرة وقصر
نظره عليه دون التطلع إلى ما وراءه، أو هي السياسة تحلّ ما تشاء، وتحرم ما
تشاء وتصحح ما تشاء، وتبطل ما تشاء، والناس منقادون إليها بأزمة الأهواء.
جناية الجمود على الشريعة: هذا الجمود في أحكام الشريعة جرّ إلى عسر
حمل الناس على إهمالها. كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا سمحة
تسع العالم بأسره وهي اليوم تضيق عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها
وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها. وأصبح الأتقياء من حملتها
يتخاصمون إلى سواها.
صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزًا عن الوصول إلى
علمها فلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلاً لا يعدّ شيئًا إذا نسب إلى من لا يعرفها.
وهل يتصوَّر من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها؟ فوقع أغلب العامة في مخالفة
شريعتهم بل سقط احترامها من أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم على
مقتضى نصوصها. وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة
الاختلاف. سألت يومًا أحد المدرسين في بعض المذاهب: هل تبيع وتشتري
وتصرف النقود على مقتضى ما تجد في كتب مذهبك؟ فأجاب أن تلك الأحكام قلما
تخطر بباله عند المعاملة بالفعل وإنما يفعل ما يفعل الناس. هكذا فعل الجمود بأهله
ولو أرادوا أن تكون للشريعة حياة تحيي بها الناس لفعلوا ولسهل عليهم وعلى الناس أن
يكونوا بها أحياء.
تعلم ما وصل إليه الناس من فساد الأخلاق والانحراف عن الشريعة. لو
سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين: إما فقد العارف
بالشريعة والدين، وسقوط القرية أو المدينة في جاهلية جهلاء يرجع بعض أهلها
إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسئول بأعلم من السائل والكل
جاهلون. وإما عجز العارف عن تفهيم من يسأله لاعتقال لسانه عن حسن التعبير
بطريقة تفهمها العامة وعلى المتكلم إفهامها. وذلك للحرج الذي وضع فيه نفسه فلا
يستطيع التصرف فيما يسمع ولا فيما يعلم. فإذا قلت للعارف تعلّمْ من وسائل
التعبير ما يقدرك على مخاطبة الطبقات المختلفة من الناس حتى تنفع بعلمك واعلُ
بنفسك إلى أن تفهم الغرض من قول إمامك فتجد لأصله انطباقًا على هذه الحادثة
مثلاً وإن لم يأت ذكرها بنفسها في قوله أو قول من جاء بعده من أتباعه. قال:
سبحان الله: هل فعل ذلك أحد من المشايخ؟ يرى أن لا يأتي شيئًا إلا ما أتى به
شيخه الذي أخذ عنه يدًا بيد ولو أبعد بنظره لوجد قدماء المشايخ قد فعلوه وبالغوا فيه
حتى خالفوا من أخذوا عنه في بعض رأيه. ثم إذا حاججته في ذلك لم يبعد من رأيه
أن يعدك زنديقًا وأنك تدعوه إلى الخروج من دينه ولا يدري المسكين أنه بذلك
يخالف نصوص دينه، وأنه يتهيأ للخروج منه نعوذ بالله تعالى.
كان كلام بيني وبين أحد المدرسين في أخذ الطلبة بالنصيحة وتذكيرهم
بفضائل الأخلاق وصالح الأعمال خصوصًا عند إلقاء الدروس الفقهية ودروس
الحديث والتوحيد. فقال لي: إنه لا فائدة في ذلك قطعًا وهو تعب في غير طائل.
فقلت له: ذلك حق عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وليس عليك أن
يأتمر المأمور ولا أن ينتهي المنهيّ. فقال: إذا تحققت استحالة المنفعة كان الأمر
والنهي لغوًا. فانظر كيف اعتقد استحالة الانتفاع بنصحه لبلوغ الفساد من النفوس
غايته كما يزعم. ولم ينظر في الوسيلة لاقتلاع هذا الفساد مع أن الدين يدعوه إلى
ذلك وهو يعمل كل يوم عمله لتعليم من لا سبيل إلى إصلاحه. هذا كله لأنه لم ير
نفسه أهلاً لأن يتخذ وسيلة لم يتخذها من أخذ عنه، أو لم يرشده إليها من تعلم هو بين
يديه ولم يتذكر عند ذلك شيئًا من الأوامر الإلهية التي وردت في النصيحة والتآمر
بالمعروف والتناهي عن المنكر، وأن اليأس من روح الله إنما يكون من القوم
الكافرين أو الضالين.
لا بل إذا قلت له: إن هذا الضرب من ضروب التعليم عقيم لا ينتج المطلوب
منه، أو إن هذا الكتاب الذي تعوّد الطلاب قراءته قد يضر بقارئيه وغيرُه أفضل
منه. كاد يظن أن قولك هذا مخالفٌ للدين ورأى العدول عمّا تعوّده نوعًا من
الإخلال بالدين. وقد يقيم عليك حربًا يعتقد نفسه فيها مجاهدًا في سبيل الله إذا قلت
له: إن دروس السلف كانت تقريرًا للمسائل وإملاءً للحقائق على الطلاب ولم يكن
لأحد منهم كتاب يأخذه بيده ويقرئه تلامذته ولم يكن بأيدي الطلبة إلا الأقلام
والقراطيس يكتبون ما يسمعونه من أفواه أساتذتهم. وقد يعترف لك بصحة ما تقول
ولكنه يستمر في عمله اعتمادًا على أنه وجد الناس هكذا يعملون. فهل يخطر ببال
عاقل أن هذا الجمود من الدين؟ وهل يرتاب من له أدنى إدراك في سوء عقباه على
الدين وأهل الدين؟
جناية الجمود على العقيدة: ذلك جمودهم في العمل وأشد ضررًا منه الجمود
في العقيدة. نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين ولا
يجوز الأخذ فيه بالظن، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته
والتصديق بالرسالة، وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة
وفروض العبادات وهيآتها، وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لا بد فيه من
النقل فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله وبأنه يجوز أن يرسل الرسل
فتأتينا عنه بالمنقول. نسوا ذلك كله وقالوا: لا بد من اتباع مذهب خاص في العقيدة
وافترقوا فِرقًا وتمزقوا شيعًا كما قلنا، ولم يكفهم الإلزام باتباع مذهب خاص في
نفس المعتقد بل ذهب بعضهم إلى أنه لا بد من الأخذ بدلائل خاصة للوصول إلى
ذلك المعتقد فيكون التقليد في الدليل كالتقليد في المدلول.
وكأنهم لذلك جعلوا النقل عمادًا لكل اعتقاد ويا ليته النقل عن المعصوم بل النقل
ولو عن غير المعروف، فتقررت لديهم قاعدة أن عقيدة كذا صحيحة؛ لأن كتاب كذا
للمصنف فلان يقول ذلك. ولما كانت الكتب قد تختلف أقوالها صار من الصعب أن
يجد الواحد منهم لنفسه عقيدة قارة صافية غير كدرة ولا متزعزعة. وقد سرى ذلك
من قراء المقلدين إلى أمييهم فتراهم يعتقدون بكل ما يقال وينقل عن معروف الاسم
وإن لم يكن في حق الأمر من أهل العلم وتتناقض عقائدهم على حسب تناقض
مسموعاتهم.
انجرَّ التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه لنا السلف
- رضي الله عنهم - فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه ويمتحنون قوله
حتى يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة. ولكن جمود المتأخر على ما يصل
إليه من المتقدم صير النقل فوضى فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه وظن أنه أهل
للأخذ عنه بدون بحث ولا تنقيب حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات
الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية منه من حين إلى حين. وكل ما نراه من
البدع المتجددة فمنشأه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد والجمود عند حد ما
قال الولي بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله وإهمال العقل في العقائد
على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة. دخلت على الناس لذلك عقائد
يحتاج صاحب الغيرة على الدين في اقتلاعها من أنفسهم إلى عناء طويل وجهاد شديد،
وسلاحه الكتاب وسلاح أعدائه أقوال بعض من تقدم ممن يعرف ومن لا يعرف. وما
أكثر عدد من ينصر أعداءه اليوم، وما أقلهم غدًا إن شاء الله.
سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حكم عمل من الأعمال الجارية
في المساجد يوم الجمعة - ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته -
فأفتى بما ينطبق على السنة وما يعرفه العارفون بالدين، وقال: إن العمل بدعة من
البدع يجب التنزه عنها. أتظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفتيا؟ كلا.
حدث قيل وقال وكثرة تسآل، ودخلت السياسة ثم قيل: إن الزمان ناصر الحقيقة
وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا وسكت السائل وماذا يصنع المجيب. نعم هذا من
شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيهم تقويم ما اعوجّ منها ووكلها
إلى أناس منها لا علم لهم بالدين ولا بالأدب وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر
الغرس ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر. فلو قام العالم بالدين وأراد أن يبيّن
حكم الله المصرح به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند
السلف قاطبة انتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 24) ويريد من آبائه الأولين من رآهم بعد ولادته أو ذكرت
له أسماؤهم بلسان مضلّيِه حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشقها
على طالبه.
ماذا يمكن أن أقول؟ أصبح الرجل يرتكب في وسائل العبادة أقبح المنكرات
في الدين وإذا دعي إلى ترك المنكر نفر وزمجر، وأبى واستكبر، انظر ماذا يصنع
الموسوسون ومن يقرب منهم في الاستبراء من البول على مرأى من المارَّة وفيهم
النساء والأطفال وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الله بما يفعلون.
هذا هو شأن العامة يرون ما ليس بدين دينًا ويصعب على حفاظ الدين
إرشادهم بفضل جمودهم على ما ورثوا من ملقنيهم بدون تعقل. فهذا معظم الأمة
تراه قد تملص من أيدي منذريه ولو شاءوا لأقبل كل منهم على صاحبه وهو أيسر
شيء على حمله الشريعة وما هو إلا أن يرجعوا إلى ما كان النبيّ صلى الله عليه
وسلم وأصحابه من سعة الدين وسماحته، ثم العمل على حفظه وحياطته.
* * *
(الجمود ومتعلمو المدارس النظامية)
ثم إن الجمود قد أحدث لنا فريقًا آخر وهو فريق المتعلمين على الطرق
الجديدة، إما في مدارس الحكومات الإسلامية وإما في المدارس الأجنبية داخل بلادهن
أو خارجا عنها. لا أتكلم عن هذا الفريق في بلاد القرم أو القوقاس أو سمرقند
وبخارى أو الهند فإني لا أعرف كثيرًا من أحوالهم، ومن رأيته منهم رأيت فيه خيرًا
وأرجو أن يكون منهم لقومهم ما ينتظره الإسلام من العارفين به فقد رأيت أفرادًا
قليلين من هؤلاء تعلموا في البلاد الأوربية ودرسوا العلوم فيها درسًا دقيقًا وهم أشد
تمسكًا بلُب الدين الإسلامي وروحه من كثير ممن يدعي الورع والتقوى ولا
يسمحون لأنفسهم بترك عادة صحيحة من العادات التي أورثها دينهم لقومهم، فنعم
المتعلمون هؤلاء، أكثر الله منهم.
وإنما أتكلم عن هذا الفريق من المتعلمين في مصر وسوريا وسائر بلاد الدولة
العثمانية. سماحة الإسلام وسعة حلمه للعلم أباحت للمسلمين أن يرسلوا أولادهم
ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير
المسلم، أو عن أساتذة كلهم غير مسلمين بل في مدارس لم تُبنَ إلا لترويج دين غير
الدين الإسلامي. وأباحت لغير آباء هؤلاء التلامذة أن يسكتوا وأن لا ينكروا عليهم
عملهم ما دامت العقيدة سالمة من الهدم والضعضعة.
جمود تلامذة المدارس الأجنبية: هؤلاء التلامذة إن كانوا في مدارس أجنبية
لا أثر لتعليم الدين الإسلامي فيها بل ربما يتعلم فيها دين آخر فقد يسري إلى
عقائدهم شيء من الضعف، وقد تذهب عقائدهم بالمرة وتحتلُّ مكانها عقائد أخرى
تناقضها كما شوهد ذلك مرارًا. ولو كان آباؤهم على علم بطرق الاستدلال الإقناعية
لعقائد دينهم لدعموا من عقائد أبنائهم وحفظوها من التزلزل أو الزوال. وكيف يكون
لأولئك الآباء شيء من هذا العلم مع الجمود على طرق قديمة لا يصل إلى فهمها من
ينقطع لتعلمها فضلاً عن أولئك المساكين. بل لو كان هناك مرشدون على طريقة
يسهل فهمها لتيسر لهؤلاء التلامذة أن يهتدوا بهديهم ولكن الجمود صير كل شيء
صعبًا وكل أمر غير مستطاع.
فهذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس
أجنبية يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون. ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعًا
آخر من الأدب والحكمة كما يرجو بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه
الأمم أو كما يروّجه بعض من لا يريد الخير بها، ولكنه ترك أفئدتهم هواء خالية من
كل زاجر أو دافع اللهم إلا زاجرًا عن خير أو دافعًا إلى شر فاتخذوا إلههم هواهم
وإمامهم شهوتهم فهلكوا وأهلكوا. ومن هؤلاء ورثة الأغنياء الذين تصيح من شرور
أعمالهم الجرائد كل يوم. فالجهل خير مما يتعلم هؤلاء بدون ريبة وليت الإسلام لم
يرحب صدره لمثل هذا الضر من التعليم والتعلم.
* * *
(جمود تلامذة المدارس الرسمية والأهلية)
أما المتعلمون في مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الديني فيها شيء من
البقية. فهؤلاء يُنَشًّأُون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة وتقرر لهم
حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني ومن عرف شيئًا
انطلق لسانه بالخوض فيه وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين وهو جامد
على ألفاظ سمعها، فلو سمع غيرها أنكره وظنه مخالفًا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم
المتعلم ويوبخه ويرميه بالمروق من الدين. هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله
ولجهله بالدين يعتقد أن ما يقوله خصمه منه فينفر من دينه نفرته من الجهل. ولو
قال له قائل: ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينصرك على نفسك
وخصمك. حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات
التي ورثها القوم على ما فيها من تشتيت وتعقيد وأبقوها ما ورثوها. فيعود إلى
النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه.
لهذا يعتقد أكثر هؤلاء أن الدين شيء غير مفهوم بل قد يعده بعضهم خرافة
(نعوذ بالله) فيأخذون عنه جانبًا ويتركون عقائده وفضائله وآدابه ويلتمسون لهم
آدابًا في غيره وقلما يجدونها فتراهم وقد فترت قلوبهم وقصرت هممهم فلا يطلبون
إلا ما تطلبه العامة من كسب معيشة أو علوّ جاه ويسلكون إلى ذلك أي طريق ولو
أضروا بالعامة أو الخاصة (ما دام الشرف محفوظًا) فإذا وجد بينهم من يدعي
الوطنية أو الغيرة الملية أو نحو ذلك فإنما ينثر الألفاظ نثرًا لا يرجع فيها إلى أصل
ثابت، ولا إلى علم صحيح ولهذا يطلب المصلحة لبلاده من الوجه الذي يؤدي إلى
المفسدة وهو يشعر أو لا يشعر على حسب حاله. ومنهم من يصيح باسم الدين ولا
تتحرك نفسه لمعرفة حكم من أحكامه، أو درس عقيدة من عقائده فشأنهم كلام في كلام
ولبئس ما يصنعون. ولولا هذا الجمود لوجدوا في كتب دينهم وفي أقوال حَمَلَتهِ ما
تبتهج به قلوبهم؛ وتطمئن إليه نفوسهم؛ ولذاقوا طعم العلم مأدومًا بالدين وتمكنوا
من نفع أنفسهم وقومهم ولوجدت منهم طبقة معروفة يرجع إليها في سير الأمة
وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية.
***
(الجمود علة تزول)
(المقال الخامس لذلك الإمام الحكيم وفيه بيان علاج الداء)
تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما
أوجزناه في الصفحات السابقة. ولكن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن
شاء الله تعالى.
قد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو
عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث - مرض الجمود على الموجود - وكم في
الكتاب من آية تُنَفِّر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا
عليه ولا حاجة إلى إعادة ذلك. ثم إننا أشرنا أيضًا إلى بعض الأسباب التي جلبت
هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام، وأن محدثها إما عدوُّ للمسلمين طالب
لخفض شأنهم أو لاستعبادهم ولاستغلال أيديهم لخاصة نفسه. وإما محب جاهل
يظن خيرًا ويعمل شرًا وهذا الثاني كان أشد نكاية، وأعون على الغواية، وهل
تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته الأولى وكرمه الفياض وينهض بأهله إلى
ما ذخر لهم فيه؟ ؟
جاء في الكتاب المبين {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) ذلك الذكر هو الذكر الحكيم وهو القرآن الذي أحكمت آياته ثم
فصلت من لدن حكيم خبير. وهو كما قال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 3) وعد الله بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده فلم تطل
إليه يد عدو مقاتل ولا يد محب فبقي كما نزل، ولا يضره عمل الفريقين في تفسيره
وتأويله، فذلك مما لا يلتصق به فهو لا يزال بين دَفَّات المصاحف طاهرًا نقيًّا
بريئًا من الاختلاف والاضطراب. وهو إمام المتقين، ومستودع الدين، وإليه
المرجع إذا اشتد الأمر وعظم الخطب وسلمت النفوس من التخبط في الضلالات.
ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولا بد أن تتمزق كلها
بأيدي أنصاره فيتبلج ضياؤه لأعيُن أوليائه إن شاء الله تعالى.
هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصهم الله
بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم، بما عرفوا من نجاح مسعاهم،
ولكن الذين أطبقت عليهم ظُلَمُ البدع، وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزب
للشيع، وطَمَسَتْ بصائرهم، وفسدت عقولهم، بما حشوها من الأباطيل، وبما
عطلوها عن النظر في الدليل، هؤلاء في عمى عن نوره وقلوبهم في أكنَّة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقر. يصيحون بأنهم عُمْيُ صمُّ فلا يرون له سناء، ولا يسمعون
له نداء، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه
وطيش الحلم وهم يعلمون. هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون
ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه، ويقوُّون حجج أعدائه في حربه
بزعمهم الاجتماع تحت لوائه، وما هم منه في شيء كما قدمنا.
هؤلاء لا بد أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فقد اتبعوا سننهم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع وضيقوا على أنفسهم بدخولهم في جحر الضب الذي دخلوه [3] ومن
اتبع سنن قوم استحق الوقوع تحت أحكام سُنن الله فيهم فلن يخلص مما قضى الله
في عذابهم. فقد قص عليهم سير الأولين وبَيَّنَ لهم ما نزل بهم عندما انحرفوا عن
سننه وحادوا عن شرعه ونبذوا كتابه وراءهم ظِهريًّا. أَحَلَّ بهم الذلَّ، وَضَرَبَ
عليهم المسكنةَ، وأَوْرَثَ غَيْرَهم أَرْضَهم وديارهم. فهل ينتظر المتبعون سننهم،
السائرون على أثرهم أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم وقد قضى بأن تلك
سنته لن تجد لسنته تبديلاً.
لا تزال الشدائد تنزل بهولاء المنتسبين إلى الإسلام، ولا تزال القوارع تحل
بديارهم حتى يفيقوا (وقد بدأوا يفيقون من سكراتهم) ويفزعوا إلى طلب النجاة
ويغسلوا قَذَى المُحْدَثات عن بصائرهم، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في
انتظارهم يُعِدُّ لَهُمْ وسائل الخلاص ويؤيدهم في سبيله بروح القدس ويسير بهم إلى
منابع العلم، فيغترفون منها ما يشاءون فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كان قد كمن فيها
من قوة فيأخذ بعضهم بيد بعض ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين.
ولهذا أقول: إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدًا ولكنه سيهذبها وينقيها
من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله. وهما
الجمود سيزول وأقوى دليل على زواله بقاء الكتاب شاهدًا عليه بسوء حاله ولطف
الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه، ويدعون إليه ويؤيدونه، والحوادث تساعدهم،
وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم، هذا الكتاب المجيد الذي كان يتبعه
العلم حيثما سار شرقًا وغربًا لا بد أن يعود نوره إلى الظهور ويمزق حجب هذه
الضلالات، ويرجع إلى موطنه الأول من قلوب المسلمين ويأوي إليها. العلم يتبعه
وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه ولا يعتمد إلا عليه.
يقول أولئك الجامدون الخامدون كما يقول بعض أعداء القرآن: إن الزمان قد
أقبل على آخره، وإن الساعة أوشكت أن تقوم، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد،
وما مُنِيَ به الدين من الكساد، وما عرض عليه من العلل، وما نراه فيه من الخلل،
إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم، فلا فائدة في السعي ولا ثمرة للعمل، فلا
حركة إلا إلى العدم، ولا يصح أن يمتد بصرنا إلى العدم، ولا أن ننتظر من
غاية لأعمالنا سوى العدم (نعوذ بالله) ، هؤلاء حَفدة الجهل وأعوان اليأس يهرفون
بما لا يعرفون. ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته؟ إن
الذي مضى بيننا وبين مبدأ الإسلام ألف وثلاثمائة وعشرون عامًا، وإنما هي يوم
وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى. وأن آيات الله في الكون - وإن
كانت تدل على ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير، - تشهد بأن ما بقي
لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر
ستة وعشرين رجلاً كل رجل يعيش خمسين سنة. فهل يعد مثل ذلك دهرًا طويلاً
بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام؟ إن زمنًا كهذا لا يكفي - وقد تبين أنه لم
يكف - لاهتداء الناس كافة بهديه. ولِمَ تقوم القيامة على الدين ولم تقم على شرهم وطمعهم؟
قد وعد الله بأن يتم نوره وبأن يظهره على الدين كله فسار في سبيل التمام
والظهور على العقائد الباطلة أعوامًا، ثم انحرف به أهله عن سبيله وصاروا به إلى
ما يرون ونرى. ولن ينقضي العالم حتى يتم ذلك الوعد ويأخذ الدين بيد العلم
ويتعاونا معًا على تقويم العقل والوجدان فيدرك العقل مبلغ قوته، ويعرف حدود
سلطنته، فيتصرَّف فيما آتاه الله تصرُّف الراشدين، ويكشف ما مكنه فيه من أسرار
العاملين، حتى إذا غشيته سبحات الجلال وقف خاشعًا، وقفل راجعًا، وأخذ أَخْذَ
الراسخين في العلم الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (كرم الله
وجهه) فيما روي عنه: (هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون
الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم
بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علمًا، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث
عن كنهه رسوخًا واعتبر بعد ذلك بقوله: (فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله
سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين. هو القادر الذي إذا ارتمت الوهام
لتدرك منقطع [4] قدرته، وحاول الفكر المبرَّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في
عميقات غيوب ملكوته، وتولهت [5] القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته،
وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي
لحوب مهاوي سدف [6] الغيوب متخلصة إليه سبحانه، فرجعت إذ جبهت [7] معترفة
بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرَّويَات خاطرة
من تقدير جلال عزته) .
هنالك يلتقي (أي العقل) مع الوجدان الصادق (القلب) ولم يكن الوجدان
ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته متى كان الوجدان سليمًا، وكان ما
استضاء به من نبراس الدين صحيحًا، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن
فرقًا بين العقل والوجدان (القلب) في الوجهة بمقتضى الفطرة والغريزة. فإنما يقع
التخالف بينهما عرضًا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس. وقد
أجمع العقلاء على أَنَّ المشاهدات بالحس الباطني (الوجدان أو القلب) من مبادي
البرهان العقلي كوجدانك أنك موجود ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك
وألمك ونحو ذلك.
مُنحنا العقل للنظر في الغايات والأسباب المسببات، والفرق بين البسائط
والمركبات، والوجدانَ لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام، وهلع
واطمئنان، وشماس وإذعان، ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان ولا يحصيه البيان؛ فهما
عينان للنفس تنظر بهما - عين تقع على القريب وأخرى تمتد إلى البعيد، وهى في
حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى. فالعلم
الصحيح مقوم الوجدان، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم، والدين الكامل علم
وذوق، عقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان، فإذا اقتصر دين على أحد
الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه وهيهات أن يقوم على الأخرى. ولن يتخالف
العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانيين، والوجود الفرد وجودين.
قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنه تعمله طوعًا لوجدانك، وربما أيقنت
المنفعة في أمر وأعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك، فتقول: إن هذا يدل على
تخالف العقل والوجدان. ولكني أقول: إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره.
عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين - إما أن يقينك ليس بيقين وأنه
صورة عرضت عليك من قول غيرك فأنت تظنها علمًا وما هى به. وإما أن
وجدانك وَهْم تمكن فيك، وعادة رسخت في مكان القوة منك، وليس بالوجدان
الصحيح وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظنتها شعورًا مَنْبَعُه الغريزة وما هي
منه في شيء.
(نتيجة) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين؛ على سنة
القرآن والذكر الحكيم، ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه [8] (تفكروا
في خلق الله ولا تَفَكَّروا في ذات الله) وعندها يكون الله قد أتم نوره ولو كره
الكافرون [9] وتبعهم الجامدون القانطون، وليس بينك وبين ما أَعِدكَ به إلا الزمان
الذي لا بد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل وتوضيح المنهج، وتقويم الأعوج،
وهو ما تقتضيه السنةِّ الإلهية في التدريج {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) . {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج: 6-7) . {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)
وهو خير الناصرين.
... ... ... ... (للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: يشير إلى حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه وهو: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (نضّر الله امرءًا سمع مني شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلَّغ أوعى له من سامع) ورواه غيرهما عن غيره.
(2) يشير إلى حديث أنس عند الترمذي وهو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) ورواه غيره.
(3) المنار: في الكلام إشارة إلى حديث: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) الحديث رواه الشيخان وغيرهما.
(4) المنقطع: ما ينقطع عند الشيء وهو آخره.
(5) تولهت: اشتد عشقها.
(6) السدف: جمع سدفه كظلمة لفظًا ومعنى.
(7) جبه: ضربت جبهته ورُدَّ.
(8) المنار - قال العراقي: رواه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشُّعب من حديث ابن عمر وقال: هذا إسناد فيه نظر. قلت فيه الوازع بن نافع متروك وقال الزبيدي في شرح الإحياء: قلت حديث ابن عمر لفظه (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر وأبو الشيخ في العظمة والطبراني في الأوسط وابن عدي وابن مردويه والبيهقي وضعفه والأصبهاني وأبو نصر في الإبانة وقال غريب ورواه أبو الشيخ من حديث ابن عباس: (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) ورواه ابن النجار والرافعي من حديث أبي هريرة (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) إلخ وتعدد هذه الروايات واجتماعها يكسبها قوة والمعنى صحيح كما قال الحافظ السخاوي في المقاصد.
(9) الكافر: من يرى الدليل فيصد عنه ولا ينظر فيه أو ينظر فيعرف الحق ثم يماري فيه وينكره عنادًا اهـ من هامش الأصل.(5/521)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوفاق الإسلامي الإنكليزي
لقد أذن الله المسلمين أن يهبُّوا من رُقادهم، ويسترجعوا مجد أجدادهم، وقد
سبق لنا أن قلنا في مقالة نشرت في الجزء الرابع من المجلد الثالث: إن مجد الإسلام
قام على أساسين وإنه هدم بهدمهما وإنما يعود بإقامتهما وهما: استقلال الفكر
واستقلال الإرادة، أما الأول فإقامته بالاجتهاد في علوم الدين والدنيا، وأما الثاني
فإقامته بالقوة إلخ ما هناك، وقد لاحظ من قرأ مقالة (مستر. ج. كوربت)
الإنكليزي الذي عربتها جريدة المؤيد ونشرتها في ستة أعداد وذكرنا أقطاب مسائلها
في نحو صفحتين من الجزء الماضي أن هذا الكاتب السياسي بَنَى دعوة قومه إلى
الاتفاق مع المسلمين على أمرين: (أحدهما) أن دين الإسلام دين مدنية يمكن
لمتبعيه أن يتفقوا مع أمة راقية كالأمة الإنكليزية، ويسيروا معها في كل طريق من
طرق العمران فتنتفع بهم وينتفعوا بها. وهو يشترط في ارتقائهم، ما يشترطه
أشهر فضلائهم، وهو إطلاق العقل من القيود والأغلال، وتمتعه بنعمة الاستقلال،
والتربية الدينية. التي تعيد إليهم صفات الرجولية.
و (ثانيهما) أن للمسلمين قوتين واحدة في آسيا وهي الأمة الأفغانية وأخرى
في أفريقيا وهي الفرقة السنوسية. وقال الكاتب: إن الواجب على الإنكليز أن
يستعينوا بمسالمة القوتين على تمكين سلطتهم في القارتين. وذلك يجعل
مصالحهم متفقة مع مصالح الأمة الإسلامية. ومساعدتها على العروج في معارج
المدنية، فإنها أمة واحدة لا جنسية فيها ولا وطنية. (فليعتبر بالأحداث الذين
يفرقون بين المصري والشامي، والمغربي والحجازي) .
هل نحن في حاجة إلى مساعدة دولة قوية حرة كالدولة الإنكليزية؟ وهل
الدولة الإنكليزية في حاجة إلينا؟ نعم ولكن فرقًا بين الحاجتين. نحن نحتاج إلى مثل
الإنكليز الذين لهم السلطان الرسمي وغير الرسمي على نحو نصفنا لأجل النهوض
والقيام، وهم يحتاجون إلينا لأجل الثبات والدوام، أو نحن نحتاج إليهم في الحال،
وهم يحتاجونك إلينا لأجل الاستقبال. وهل يصدق الإنكليز في مساعدتنا على التقدم
والرقي إذا نحن صدقناهم؟ نعم إذا قالوا صدقوا، ولن يقولوا حتى يعتقدوا بأن
المصلحة في ذلك وحتى يثقوا بنا. وقد رأينا هذا الكاتب منهم يحاول إقناعهم
بالمصلحة وبكوننا أهلاً للثقة وقد سبقه إلى ذلك غيره من كتابهم وعلمائهم، فهل
وجد فينا من حاول إقناعنا بذلك مع أننا أحوج إلى الوفاق منهم إذ من البديهي أن
المحكوم الجاهل الضعيف أحوج إلى مرضاة حاكمه العالم القوي. ولكن الجاهل
يمنعه الجهل أن يعلم المصلحة وإذا علمها يمنعه الضعف أن يدعو قومه إليها؛ لأن
الجاهلين إنما يتخاطبون بما يهوون لا بما ينتفعون. أرأيت كيف كان السيد أحمد
خان ظَنيناً في قومه متَّهمًا في بلاده عندما قام يدعو إلى الوفاق بين مسلمي الهند
وحكامهم من الإنكليز؟ لا جرم أن هذا هو شأن الجهل ولكن المسلمين أنشأوا
يتسللون منه لواذا، ولذلك لا يلاقي من يجهر في مصر بمثل دعوة المرحوم السيد
أحمد خان عشر معشار ما لقي من الظِنة وما عانى من مرارة التهمة وإن كانت
مصر ليست من الإمبراطورية البريطانية كالهند.
المسلمون في مصر عرفوا ما كان عليه إخوانهم مسلمو الهند أيام الجفاء بينهم
وبين الإنكليز وعرفوا ثمرة دعوة أحمد خان وثمرة مدرسته في حفظ حقوقهم
ومصالحهم بالوفاق مع الإنكليز واسترجاع ما كان سلب منها بالتدريج. وظهر لهم
خذلان أحداث السياسة الذين جعلوا النعاق بالتنفير من الإنكليز منبعاً للمال ومنبراً
للجاه وعلموا أنهم غاشون خادعون ضالون مضلّون فتغيرت الأحوال وصار شيخ
الجامع الأزهر يزور عميد الإنكليز في مصر وشاعر الخديو يمدح ملك الإنكليز
وينشر ذلك في الجرائد التي تنتمي إلى الإنكليز وليس هذا ولا ذاك ممن تضطرهم
وظيفتهم أو تقضي سياستهم بأن يفعلوا ما فعلوا.
إننا نعلم مع هذا أن أكثر المسلمين يرتابون في تحقيق هذا الوفاق ولو عرفوا
مصلحتهم ومصلحة القوم بالبرهان لما كان لهم أن يرتابوا. إن من مصلحتنا التي لا
نشك فيها أن تكون تربيتنا إسلامية دينية ونرى الإنكليز الداعين إلى الوفاق يرون
رأينا في هذا. إن من مصلحتنا أن نكون رجالاً مستقلين في علومنا وأعمالنا ونرى
الإنكليز يدعوننا إلى ذلك ويقولون: إنه يساعد على الوفاق بيننا وبينهم. إن من
مصلحتنا إحياء اللغة العربية لغة الكِتاب والسنة واللغة الجامعة للأمة ونرى الإنكليز
يدعوننا إلى ذلك. فهل ترتاب في أن شيئًا من هذه الأمور هو من أهم مصالحنا؟
كلا، يقول قائل: إن كاتب المقالة وطائفة من الكتاب والسياسيين الإنكليز قالوا بهذا
القول ولكن الدولة لم تقل به ولم ينتشر بعد فيصر رأيًا للأمة البريطانية فنقول: إن
الحكومة ستضطر إلى مجاراة الأمة. فهل نخدع لقول بعض الكاتبين، ونثق بمن لا
يتفق معنا في لغة ولا جنس ولا دين؟ ونقول في الجواب: قد قال مثل ما قال هؤلاء
حاكم الهند العام الذي يحكم مائتي مليون من النفوس منهم نحو تسعين مليوناً من
المسلمين أو زهاء خمسة أضعاف ما تحكمه الدولة العلية من المسلمين. وهب أنه
لم يقل بذلك أحد من الحاكمين البريطانيين فأنا سائلك: أي خدمة تقدمها أنت وقومك
للإنكليز جزاءً على اعتقادك بإخلاصهم في حب الوفاق معكم فتخاف أن تضيع هذه
الخدمة مع من لا يستحقها؟ لو أن هذه الدولة محتاجة إلينا اليوم في عمل اختياري
وهي تخطب ودادنا لنخدمها به لكان لنا أن نقول: إنه يجب علينا أن نأخذ بالاحتياط
ولا نخسر عملنا حتى نثق بصدق مجاملنا.
يقولون لنا بلسان حالهم أو بلسان مقالهم: تربوا التربية الدينية. واتصفوا
بصفات الاستقلال والرجولية. وتعلموا العلوم والفنون. وحصلوا المال والثروة
ونحن نساعدكم على ذلك. فهل معنى الاحتياط أن لا نشتغل بشيء من ذلك؛ لأن
هذا ثقة بالقوم ولا ينبغي لنا أن نثق بهم إلا بعد قيام البرهان على صدقهم. كيف
يكون هذا وأن ما يصدر عنهم هو عين البرهان على صدقهم.
يقول القائل: إنهم يخادعون بمثل هذه الأقوال أمير الأفغان والسنوسي ليكون
الأول معهم على روسيا وليأمنوا من إغارة الثاني على السودان. ونقول: إن هؤلاء
الكتاب يخاطبون دولتهم وإنَّ حاكم الهند كان يخاطب رعيته المسلمين ومثله حاكم
سيراليون (راجع صفحة 707 من المجلد الرابع) فهل اتفق هذا وهو في غربي
أفريقيا مع ذلك في شرقي آسيا على مخادعة السنوسي الذي لا يسمع خطبهما ولا
يقرأ الجرائد فيعرف خبرهما؟ .
نعم إن أمير الأفغان يعرف أحوال الهند وما يقول حاكمها. ولكن حاكم
الهند العام لا يقول للمسلمين: (إنني لو كنت مسلماً لما أضعت من وقتي خمس دقائق
من غير فكر في ترقية شأن الإسلام) ولا ينصح للمسلمين بأن يقيموا التربية
الدينية ويعدهم بمساعدة الحكومة لهم لمجرد المخادعة فإنه إنما كان يخاطب قوماً
عاملين يخاطب رجال التربية الإسلامية في احتفالهم العام بمدرسة عليكدة. فقوله
هذا أكبر منشط لهم بالفعل. ثم ما كان لأمير الأفغان أن ينخدع بالأقوال. التي لا
تنطبق على الأعمال.
يقول هذا القائل: إن هؤلاء الحكام يقولون هذا ليطمئن المسلمون إلى حكومتهم
وهم يعلمون أن المسلمين لا يعملون. ونقول: إذا كنت أيها المسلم أسوأ
ظنًّا بقومك منك بالإنكليز فلا تجعل الذنب على خير الفريقين ولكن اجعله على
شرهما وهو من يقال له اعمل لنفسك فلا يعمل ثم يعتذر بأن من يقول له اعمل غير
مخلص في قوله. واعلم أن عقلاء المسلمين لا يرضون لأنفسهم ما وصفتهم به وأن
الإنكليز لم يقولوا ولن يقولوا للمسلمين اقعدوا ونحن نسعى لكم. وأنهم إن قالوا
لرعاياهم: اعملوا ونحن لا نعارضكم فلهم الشكر. فإن زادوا وقالوا ونحن نساعدكم
فلهم الفضل العظيم فإن سائر المستعمرين من الإفرنج يمنعون رعاياهم ومن في
حمايتهم من غير أهل دينهم من التعلم، وكل وسائل التقدم.
هذا الوفاق يراه المصريون رأيًا جديدًا ويراه سائر العثمانيين قديماً فهو رأي
أكثر وزراء الدولة وساستها ولكنه كان وفاقًا إنكليزيًّا تركيًّا. وكان عليه العمل بين
الدولتين ولا ننسى مساعدة بريطانيا العظمى للدولة العلية في الحروب الروسية
حرب القريم وما بعدها. ثم تراخت عرى الصلة بينهما بعد احتلال إنكلترا مصر
وكادت سياسة المستر غلادستون التحمسية تقطع تلك العرى تقطيعًا بما ظهر من
تعصبه على الدولة وعلى الإسلام في إبان الفتنة الأرمنية. وكان من أثر ذلك توثيق
عرى الصلة بين السلطان وعاهل الألمان وضعف نفوذ الإنكليز وكسدت تجارتهم
في البلاد العثمانية حتى قال البرنس بسمرك ما معناه: إنَّ المعلم غلادستون قد هدم
بشقشقته الحمقى ما بنته دولته في نحو قرن. ولا يزال أكثر نبهاء العثمانيين
يفضلون الإنكليز على كل دولة أوربية، وهذا كله مبني على قاعدة مسلّمة عندهم
وهي أنه لا بد للدولة من الاعتماد على دولة أوربية في سياستها الخارجية.
إنكلترا قصرت مع الدولة العلية وإنَّ مجاملتها لها تزيد جميع مسلمي
مستعمراتها ثقة بها فهي تنفعها في الوفاق الإسلامي الإنكليزي أكثر مما تنفع
المسلمين الذين تحكمهم فيما نظن، فإن تعلق آمال أولئك المسلمين بالدولة العلية يثبط
هممهم عن السعي في الاستقلال الذاتي الذي هو روح الحياة الاجتماعية كما بيناه من
قبل ويزيد عليهم ضغط حكامهم؛ لأنهم يرونهم ميالين إلى حكومة أخرى. ومن
شأن الضغط أن يفيد ولكنه لا يفيد ههنا؛ لأن المضغوط عليه لا يحاول الخلاص
من الضغط لاعتماده على غيره وقد ثبت هذا بالتجربة المؤيدة للنظر.
كان الوفاق إنكليزيًّا تركيًّا فأصبحنا نتحدث بوفاق إسلامي إنكليزي وهو وفاق
أشرف وأعلى وأعم وأنفع. كانت سياسة إنكلترا في ذلك الوفاق مبنية علي قاعدة:
يجب أن لا تسقط تركيا ولا تقوم يجب ألا تموت ولا تحيا. وأما قاعدة هذا الوفاق
فهي: يجب أن يعود للمسلمين استقلالهم الذاتي وأن ينفخ فيهم روح الدين
الإسلامي بفضائله وآدابة ليبعثهم إلى المدنية الحقيقية ولكن يشترط أن يكونوا هم
العاملين والإنكليز من المساعدين. فإذا صح هذا فهو أكبر أمنية يتمناها كل عاقل
من المسلمين. ويرضى هؤلاء العقلاء من إنكلترا بأن لا تكون على الدولة العلية
إذا لم تكن معها وبأن لا تدخل جزيرة العرب ولا تمكن دولة غير مسلمة من دخولها
كيفما كان حال الدولة العلية؛ لأن الجزيرة عند المسلمين معهد ديني كالمسجد، ومن
أركان الوفاق إقامة دين الإسلام، لا هدم مناره وتعطيل شعاره.
الواثقون بدينهم من هؤلاء العقلاء يعتقدون بأن الأمة الإنكليزية الحرة إذا
عملت بنصيحة مستر كربت وأضرابه (ومنهم إسحاق طيلر الذي نشرنا كثيراً من
مقالاته في أجزاء من السنة الماضية والسنة الحاضرة) ودرست الإسلام درسًا
صحيحًا فإنها تدخل فيه أفواجًا. وقد سبق لنا القول بأن أمة أوربية كهذه إذا
دخلت في الإسلام فإنها تملك بالمسلمين الشرق كله ولا يبعد أن تملك بهم الغرب
أيضاً فإن أكبر قواد الحرب في أوربا قالوا: إنه يسهل عليهم أن يفتحوا أوربا كلها
بمائة ألف من جيوش المسلمين.
أنَّى لنا بصوت نديٍّ من ذي برهان قوي. يبلغ قومنا مبلغ انتفاعهم من هذا
الوفاق ويعلمهم كيف يقنعون الإنكليز به ويمثّلون له مصلحتهم فيه مشدودة مع
مصحلتنا في قرن. إن هذا من وظيفة الجرائد ووظيفة أهل الرأي في الأمة. وقد
علمنا ممن ذكرناهم من عقلاء المصريين الارتياح لهذا الوفاق إذا وثقوا من
رضاء الدولة الإنكليزية به، ورأينا الجريدة السياسية الكبرى للمسلمين في مصر
(المؤيد) موافقة عليه، ولا يوجد في مصر جريدة سياسية غيرها يعتد المسلمون
برأيها في مصلحة المسلمين. إلا أن هؤلاء يرتابون في إنكليز مصر إن لم
يرتابوا في إنكليز الهند وحجتهم في الارتياب ما ذكره المؤيد ويذكره جميع الناس من
تصرف المستر دنلوب في المعارف تصرف من يريد إضعاف اللغة العربية والدين
الإسلامي في مدارس الحكومة. وانتقاد عمل المستر دنلوب مجموع عليه في
مصر لا يختلف فيه مع المسلمين القبط ولا السوريون فهو منتقدٌ في غير ما ذكرنا
من أمر اللغة والدين، ولا ينسب عمله إلا إلى سياسة دولته، وإن كان يجوز
أنه خطأ في إدارته.
والذي يكشف عن وجه الحق في هذه المسألة وأشباهها هو أن يرجع بعض
الوجهاء العقلاء إلى من بيده أزمة سياسة هذه البلاد وهو اللورد كرومر، وبينوا له
الضرر فيما يعتقدونه ضارَّا للبلاد أو للمسلمين في لغتهم أو دينهم فإن أشكاهم وأزال
الضر فعليهم أن يعتقدوا أن الإنكليز لا يريدون بالمسلمين سوءًا وإنما يحبون أن
ينتفعوا من بلادهم وينفعوهم جزاء على ذلك. وإن تبين له الضرر وأصر على
إبقائه فلهم أن يسيئوا الظن بدولته، وأن يعتقدوا أن هذه الأقوال التي تقال في الخطب
والكتب والجرائد تغرير وتمويه. أما نحن فنظن أنه لا يقتنع منهم بمضرة إلا
ويزيلها قياسًا على من كلمه في شأن إبطال النيابة من المحاكم وبين له أن ذلك ضارّ
بالبلاد فنكث فتل الاتفاق على ذلك بعد توكيده وعلى من كلمه في مسألة بيع الدائرة
السنية وبين له مضرة الفلاحين فيه فنقض الاتفاق بعد إبرامه. ومثل ذلك كثير.
ونختم البحث بقول ينبغي أن نكرره دائماً وهو أن من لا يعمل لنفسه فلا
يصح أن يطالب غيره بأن يعمل له. ومن كان مقصراً في حفظ حقوقه فلا يلومن
غيره إذا قصّر فيه. ومن عرف نفسه وعرف مكانه ممن يعيش معهم لا يُظلم ولا
يهضم. ومن أعطيَ الحرية في العلم والعمل، فليس له عذر في التقصير والكسل
ومن عرف قوة الرابطة الإسلامية لا يقطعها بمُدية الوطنية، فلولا أن المسلمين
كالجسد الواحد كما ورد في الحديث لما طلب الإنكليز الوفاق معهم. ومن ظلم نفسه
كان جديراً بأن يظلمه غيره.
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
والسلام على من تدبر القول فحكم عليه لا على القائل، وكان همه منه التمييز
بين الضار والنافع والحق والباطل.
__________(5/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(تاريخ التمدن الإسلامي)
كتاب جديد يشتغل بتأليفه صديقنا المؤرخ المنصف جرجي أفندي زيدان
صاحب مجلة الهلال الشهيرة (وهو يبحث في نشوء الدولة الإسلامية وتاريخ
مصالحها الإدارية والسياسية والمالية والجندية وسعة مملكتها وبيان ثروتها
وحضارتها وأبهتها وأحوال خلفائها ومجالسهم وقصورهم، وكل ما يتعلق بهم
وتاريخ العلم والصناعة والأدب والشعر والآداب الاجتماعية والعادات والأخلاق
في إبّان ذلك التمدن وعلاقته بالتمدن الحديث) وقد صدر الجزء الأول منه في هذه
السنة وفيه من المباحث المهمة:
(1) بحث (العرب والتمدن) وفيه إثبات أن العرب عريقون في التمدن
وأولو استعداد له راسخ فيهم. (2) عصر الجاهلية في الحجاز. و (3)
حكومة العرب في الجاهلية. و (4) النهضة العربية قبل الإسلام أي: استعداد
العرب لظهور الإسلام فيهم بارتقاء عقولهم وآدابهم وإحساس بعض خواصهم
بالحاجة إلى الاجتماع. و (5) الدعوة الإسلامية. و (6) الروم والفرس عند
ظهور الإسلام، وما كانوا عليه من الفساد والانفصام. و (7) انتشار الإسلام
وأسبابه. ومثل هذه المباحث يراها الجاهل طعنًا في الإسلام؛ لأنها تبين أنه قام على
سنن الكون المعقولة، والمسلم العالم يراها مؤيدة للإسلام ومبينة لبعض حقائقه؛
لأن من مقاصد هذا الدين ترقية العقل وهدايته إلى سنن الله في الخلق ليسير عليها
حتى يبلغ كماله وما هو بدين الغرائب والعجائب.
ومن مباحثه: الكلام في الخلفاء الراشدين والفتوحات الإسلامية والدول
العربية في الشرق والغرب. والكلام في الخلافة والولاية والوزارة والجند والسلاح
ونظام الحرب والأساطيل أو بيت المال وموارده ومصادره والقضاء والحسبة،
والكتاب مزين بالرسوم وصفحاته 203.
يرى القارئ أن هذا وضع في العربية جديد بهذا الترتيب والتبويب ويحكم
بالإجمال قبل أن يراه بأنه وضع مفيد، وأن الأمة في افتقار إليه شديد، وقد قدره
الباحثون في التاريخ من المسلمين قدره إذ تصدى غير واحد منهم لانتقاده فكتبوا في
المؤيد مقالات يظهرون فيها ما عدوه عليه من الخطأ في بعض المسائل وقد رد
المصنف على بعض من كتب واعترف ببعض الخطأ وأشار إلى سببه وأنه غير
مهم. وقد كنا شرعنا في قراءة الكتاب بالتدقيق لننتقده بما يظهر لنا، ولما رأينا
شواغلنا الكثيرة لا تسمح لنا بإتمامه إلا بعد عدة أشهر ورأينا المناقشة في أمره
كثرت رأينا من حقه علينا أن نبادر إلى التنويه به والاعتراف بأنه مثال مفيد لقراء
العربية، ولكن مسائله لا تؤخذ قضايا مسلّمة فعلى من اطلع على النقد والردّ أن يُحَكِّمَ
الإنصاف وقواعد العلم مع النقل وعلى من لم يطَّلع على ذلك أن يراجع الكتب فيما
يراه محلاًّ للتوقف. أقول هذا وأنا واثق بأن مؤلف الكتاب لم يكتب إلا ما اعتقده مع
حسن النية وصحة القصد. وأوضح دليل على ذلك أحجُّ به من أساء به الظن من
المسلمين؛ لأنه غير مسلَّم هو أنه أثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
قام بالدعوة وهو موقن بأنه مرسل من الله تعالى وأنه لم يكن طالب ملك ولا مال ولا
جاه بل طالب إصلاح ألهمه الله تعالى القيام به ولعلنا نعود إلى انتقاد الكتاب بعد إتمام
مطالعته. أما ثمنه فعشرون قرشًا وهو يطلب من مكتبه الهلال بالفجالة.
* * *
(المروءة والوفاء)
أو الفرج بعد الضيق، قصة عربية جاهلية حدثت في الحيرة من العراق
العربي بين الغَرِيَّيْن قرب الخورنق والسدير على ضفة الفرات قبل الإسلام في يوم
بؤس النعمان بن المنذر. وقد نظمها ومدّ فيها ما شاء فقيد بيت الأدب الشيخ خليل
اليازجي بن الشيخ ناصيف اليازجي الشهير ومثلت في بيروت على عهد الناظم.
وقد طبعت في هذه السنة بمطبعة المعارف الشهيرة بإتقان الطبع. وقد قرأنا منها جملة
فإذا شعر محرر، وهو على صاحبه لا ينكر، وثمن النسخة خمسة قروش وهو
ثمن لا يذكر.
* * *
(التهذيب)
(جريدة تهذيبية أدبية علمية تاريخية دينية لطائفة الإسرائيليين القرايين
بمصر) يحررها الأديب الأصولي مراد أفندي فرج المحامي. وهي تصدر في شكل
كراسة، وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش تدفع إلى (الحاخامخانة) أنشئت
الجريدة في العام الماضي، وقد أهدانا جناب الحاخام الفاضل ورئيس اللجنة الملية
المجلد الأول منها فألفيناه طافحًا بالمباحث التاريخية والأدبية والدينية. وقد كنا
نعجب قبل العلم بهذه الجريدة للشعب الإسرائيلي كيف لا تكون له جريدة علمية
أدبية أو مِلية في مصر مع ارتقاء الإسرائيليين في العلم والأدب والثروة
والرابطة المالية. وقد سَرَّنَا من هذه الجريدة عدم تعريضها بما يسوء أحد
الطوائف. ولا غرو فآداب الإسرائيليين العالية تقضي بذلك.
* * *
(السعادة)
مجلة نسائية علمية تهذيبية تاريخية فكاهية تصدر في الشهر مرتين
صاحبتها ومنشئتها روجينا عواد وقد تصفحنا العدد الثامن منها الصادر في (15
أكتوبر) فإذا هو مفتتح بمقالة في (الدفاع عن النساء) تناقش فيها الرجال
الجاهلين الذين يرون حرمان الأنثى من التعليم من الدين. ويليها وصية من والدة
لابنتها وهي وصية تدور على وجوب قيام المرأة بتدبير بيتها بنفسها وإن كانت
غنية، ووجوب تحببها إلى زوجها حتى يرى سعادته مرتبطة بها. ويتلوهما مقالة في
المرأة لصاحب المطبعة التجارية بعد بضعة أسطر غريبة في خبر غريب عنوانه
(دير في سفينة) وهو أن رهبان جبل أثوس اتخذوا لهم سفينة في البحر ديرًا.
ولعلهم يتمرنون فيها على الأعمال البحرية كما يتمرنون في أديار الجبل المقدس
على الأعمال الحربية. لأنهم كما يقال: رهبان مرابطون بإرشاد روسيا. وسيكون
لهم شأن في مستقبلها مع تركيا.
هذا وإن المجلة مؤلفة من ثلاث كراسات وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا
مصريًّا في مصر و 16 فرنكًا في خارجها فعسى أن تلقى رواجًا ونجاحًا.
* * *
(أسرار القصور)
قصة وضعية (تبحث عن ماهية الروح ومحالها من الجسد وعن التنويم
المغناطيسي الشائع بأوربا، وعن الزار والمندل بالأقطار الشرقية) مؤلفها محمد
أفندي حسين محرر جريدة البوسته وقد كتب في مقدمتها أنه نشر فيها رأيًا له منذ
ست سنين. وكان سنة ثلاث وعشرين، وهو اليوم لهذا الرأي من المنتقدين.
* * *
(المصري)
(جريدة أسبوعية علمية مدرسية تصدرها جمعية التلامذة الإسلامية)
ويحررها مدير الجمعية علي أفندي عبد الكريم. يطفو في مصر كثير من هذه
الجرائد الصغيرة ثم يرسب بل يبدو ثم يخفى، ولا نذكر منها شيئًا لعلمنا بأنها في حكم
العدم. ولكن للتلامذة عندنا شأنًا كبيرًا ويا ليت شأنهم عند أنفسهم كذلك. لهذا نقول:
إنه يسرنا أن تتوجه نفوسهم إلى الأعمال الاجتماعية فيتكلموا بألسنتهم وأقلامهم
عنها في وقت التعليم ليقوى استعدادهم ويكمل رشادهم، حتى إذا صاروا في سن
العمل كانوا من العاملين (ويسوءنا جدًّا أن ترضى جمعية التلامذة الإسلامية لنفسها
إصدار جريدة تطبع على أردأ الورق، وتخوض في الموضوعات الخسيسة
والهزلية. والأشعار الخمرية والغرامية، فإن المرء المهذب يحفظ أحسن ما يسمع،
ويقول أحسن ما يحفظ، وهو مع هذا يتساهل في القول ما لا يتساهل في الكتابة
التي يعرض فيها عقله وأدبه وأخلاقه على الناس أجمعين. فعسى أن يلتفت من
يصدر هذه الجريدة إلى قبول نصيحتنا باختيار الحسن من الكلام والورق حفظًا
لكرامة التلامذة وفائدتهم، والله الموفق.
__________(5/551)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بافتتاح مدرسة بني مزار
أنشئت في هذه السنة مدرسة خيرية إسلامية في بني مزار من مديرية المنيا
بتعاون أهل الخير والبر، وقد أنيطت إدارتها بالجمعية الخيرية الإسلامية التي
أنشأتها بمساعدة الأهلين فهي ليست كسائر مدارس الجمعية خاصة بأولاد الفقراء
وخالية من اللغات الأجنبية، بل هي كالمدارس الابتدائية الأميرية إلا ما يرجى من
زيادة العناية فيها بأمر الدين ويتعلم فيها أولاد الأغنياء بأجرة قليلة، وقد كان افتتاحها
في يوم السبت الماضي باحتفال رَأَسَهُ الأستاذ الشيخ محمد عبده رئيس الجمعية
الخيرية، وحضره الوجهاء والفضلاء في مقدمتهم سعادة مدير المنيا وقاضي
المديرية رئيس لجنة المدرسة حسن بك عبد الرازق العضو في مجلس شورى
القوانين عن مديرية المنيا، وقد كتب إلينا المحامي الفاضل حسن أفندي عبد الرازق
تفصيلاً عن هذا الاحتفال لخَّصْناه بما يأتي:
لمَّا كمل نظام المحفل قام الأستاذ الرئيس خطيبًا فبدأ بالبسملة وفاتحة الكتاب
والصلاة والتسليم على النبي الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأعلن افتتاح
المدرسة ثم شكر للمتبرعين بإنشاء المدرسة غيرتهم وفضلهم ومما قاله لهم: إنكم
أنفقتم في خير سبيل. وتاجرتم أربح متاجرة. فإن هذه المدرسة ملككم لو أن العلم
يُملك، وما الجمعية الخيرية إلا نصيرتكم في عملكم وهي لأنني في معاونتكم بإذن الله
وتُؤمل أن تكونوا سواعدها وأعضادها. ثم قال: إن ما فرض على التلامذة
الموسرين من أجر التعليم (وهو ثلاث مائة قرش سنويًّا) ليس مما يضيق به صدر
الكريم وتعلمون أن نفقة التلميذ في المدارس الأخرى تبلغ ثمانية جنيهات في السنة
أو تزيد، ولو أنكم دفعتم في مدرسة هي لكم ضعف ما تدفعون في مدارس غيركم
لكنتم الرابحين؛ لأن فرقًا بين من ينفق في بناء دار هي له ومن ينفق على دار
مستأجرة.
ثم قال ما ملخصه: لا نريد أن نخاطب الموسرين الذين أغوتهم شرة الغنى
وأسكرتهم خمرة الشباب فقذفوا بأموالهم في هوّة الضياع وصرفوا الطارف والتليد،
فيما يضر وما لا يفيد، فأولئك كالأنعام بل هم أضلّ. وإنما نخاطب العقلاء من
الأغنياء فنقول: إذا كنتم تقتصدون لتوفروا من مالكم ما تتركون لأولادكم حتى لا
يكونوا فقراء تعساء فقد سعيتم في طريق محمود مهَّده الإسلام، ودعا إليه النبي
عليه الصلاة والسلام، وإن ما تَصرفونه في سبيل العلم والتربية هو من هذا القبيل
أيضًا؛ لأنه توفير لسعادة الأبناء، بل لا سعاده بالمال إذا لم تصحبه تربية نافعة وعلم
صحيح يَهتدي بهما المتمول إلى كيفية الانتفاع.
ولا يكون الإنسان سعيدًا إلا إذا كان عائشًا مع مهذبين سعداء، هب أنك
تركت لولدك ما تبتغي من الثروة وهو في موطن خيمت عليه الجهالة، واستحوذت
على أهله الضلالة، أتراه يعيش سعيدًا بين الأشقياء، ويحيا غنيًّا بين الفقراء،
ولا تمتد إليه يد الغواية وتغلب عليه طبائع السفهاء وتستهويه شياطين الأهواء؟ كلا،
إن المرأ بقرينه، ورجل الخير بين أبناء الشرور على خطر، فمن أنفق من ماله
للعلم والتربية فهو الذي يوطئ لذريته أكناف السعادة، ويوطد لهم دعائم المعيشة
الراضية؛ لأنه يصلح لهم مباءة يعيشون في ظلالها آمنين.
ثم بين الأستاذ أسباب اقتصار المدرسة في هذه السنة على تعاليم السنة الأولى
للتلامذة وعدم إنشاء فرق من تلامذة السنة الثانية وما بعدها مع أن في طلاب التعليم
من هم أهل لذلك. وتلك الأسباب هي ضيق المحل الذي استؤجر للمدرسة إلى أن
يتم بناؤها ولم يوجد غيره. وكون الوقت بين قبول الجمعية الخيرية إدارة المدرسة
وافتتاحها لم يكن كافيًا لاختيار المعلمين الأكفاء والظفر بهم لقلة عددهم في مصر.
وثَمَّ سبب ثالث عام وهو أن السُّنة الإلهية في الترقي أن يبدأ الشيء صغيرًا ثم
يترقى بالتدريج، وأن الأمور التي تنشأ كبيرة فالغالب أن ينحل عقد نظامها في
القريب العاجل، والعياذ بالله تعالى.
ثم تكلم الأستاذ الرئيس في مسألة سن التلميذ فقال: إن الجمعية الخيرية
الإسلامية لم تحدّد سن التلميذ في نظامها عبثًا ولا تقليدًا ولكن حددته لفوائد سامية،
تعلمون بالضرورة أن ليس كل من دخل هذه المدرسة يكون تحت لواء الوظائف بل
سيكون منهم التاجر والزارع والصانع فإذا دخل التلميذ المدرسة في الثامنة وأتم
التعليم في أربع سنين أو خمس، يخرج منها غضًّا طريًا مهيئًا للدخول في أي
عمل شاء. وإذا تقدم في السن ودخل المدرسة بعد العاشرة عاقه يبس عوده عن أن
يلين للأعمال الصناعية أو الزراعية وربما عجز أبوه عن إتمام تعليمه وهو عاجز
عن الاشتغال بأعمال المعاش فيضيع بين عجزين.
ثم ختم القول بشكر سعادة المدير لحضور الاحتفال واستنهض همته لتعميم
المدارس في المديرية، وشكر لعبد الرحمن بيك فهمي مأمور مركز بني مزار سعيه
في الاكتتاب لهذه المدرسة. ثم دعا للمدرسة الدعاء الصالح ولسمو الخديو المعظم
فأمّن الحاضرون. وقام في أثر المدير فشكر للرئيس فضله وسعيه ووجه أنظار
الوجهاء الحاضرين لتدبر نصائحه، ثم تلاه حسن أفندي عبد الرازق فبدأ قوله بخطاب
الرئيس مثنيًّا عليه بما هو أهله مبينًا تحويم القلوب عليه. وتوجه نفوس طلاب
الترقي إليه. ثم أثنى على المتبرعين للمدرسة وخصَّ بالذكر كرام المسيحيين الذين
عرفوا قيمة الوطنية. فتبرعوا للمدرسة مع علمهم بأنها إسلامية، ثم تلاه المأمور
فأظهر السرور والابتهاج بالاحتفال وأثنى على فضيلة الرئيس وسعادة المدير.
ثم خطب حسن بك عبد الرازق رئيس لجنة المدرسة فتكلم بمعنى ما تقدم
فأحسن وكان الختام مِسكًا، فجزى الله هؤلاء المحسنين خير الجزاء ووفق سائر
الناس إلى حسن الأسوة والاقتداء.
__________(5/554)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة سيرة السنوسي
(المنشورة في الجزء 12)
وكان اعتناؤه منصرفًا إلى علوم القرآن والتفسير والحديث، ولم يذكر كاتب
المقالة السبب في هذا وما هو إلا النزعة الاجتهادية التي كان عليها والده وربّاه
عليها، ولذلك تولى تعليمه التفسير والحديث بنفسه. وكأن الاجتهاد في الدين وفهم
الحكام من الكتاب والسنة صار معيبًا عند المسلمين، ولذلك حاول كاتب المقالة
تكذيب ما أشيع من أن المهدي غير مالكي المذهب وزعم أن كل السنوسيين على
مذهب الإمام مالك (رضي الله عنه) قال: (ويُبَسْمِلُونَ في الصلاة ويقبضون
أيديهم) لعله يريد أنهم لا يتركون المشهور من مذهب مالك إلا في بعض المندوبات. والصواب أن السيد محمدًا المهدي السنوسي لا يعمل إلا بما صح عنده في الكتاب والسنة كما كان والده من قبله.
ثم يتكلم الكاتب عن سياسته فقال: إن السنوسيين لا يخوضون فيما لا يعنيهم
كالسياسات، فذلك عندهم كالمحرمات وما أشيع عن السنوسي من أنه مستعد للحرب
ويدخر الأسلحة المتقنة المجلوبة من أوربا، وأنه يشيّد الحصون بالصحراء ويصنع
البارود، وله عسكر وخيول مسوّمة ويبغض الإفرنج فهاته كلها خرافات وأراجيف
لا أصل لها وسيعرف الناس ذلك عندما تسمح الحال بالمواصلات بين أفريقيا
الشمالية والجهات الصحراوية. وكتب مستشهدًا: ولا ينبّئك مثل خبير. ثم أطنب
الكاتب في تكذيب هذه الإشاعات ونسبها إلى ذوي الأغراس حتى كاد إطنابه يوقع في
الظنّة. واحتج على صدق قوله بأن الرحّالة (مونتاي) وصف السنوسي وإخوان
طريقته بما يقرب مما قاله.
قال الكاتب: وفي هاته المدة ظهر داعٍ بنواحي بحيرة تشاد لِشَنِّ الغارة وإثارة
الفتن اسمه محمد السنوسي وهو من أتباع رابح سلطان برنو الذي قتل في السنة
الفارطة، وكانت له أخت اسمها فاطمة في عاصمة رابح. ثم وصف من ظلم هذا
السنوسي الجديد وعتوّه، وذكر أن بعض الكتاب الفرنسيين لما سمعوا بخبره طفقوا
ينددون بالسنوسي صاحب الطريقة ظانين أنه جاهرهم بالعدوان - وسرى هذا الغلط
الفاحش إلى الطبقات العالية من أهل الصحف كالطان وغيره، وقال: إنه لا لوم
على تلك الصحف في غلطها (لأن هذا الإيهام سرى أيضًا لبعض الصحف
الإسلامية نفسها مثل مجلة المنار فقد ذكرت أن السنوسي المهدي له حرب مع
الفرنسويين.
ثم قال: إن الشيخ المهدي السنوسي رحل سنة 1312 من بلد جغبوب على
حين غفلة مع أهله وولده وبعض الإخوان قاصدًا بلد الكفرة بالصحراء الشرقية في
عرض 25 درجة وطول 20 درجة (من باريس) فوصل إليها بعد مسير أربعين
يومًا وسماها بغدامس الجديدة، ولم يعلم السبب في ارتحاله والذي أظن هو مَيَلانه
للانزواء وابتعاده عن الوساوس والمطامع الإنكليزية إذ كان قدم عليه بعض سياح
الإنكليز في جغبوب. وفي سنة 1317 ارتحل من الكفرة فتوجه إلى نواحي كانم
ولا زال في تلك الأماكن على عادته المألوفة من عبادة ربه وعدم اشتغاله بما لا
يعنيه هو وطائفة من إخوانه إلى أن بلغنا انتقاله إلى الدار الآخرة في شهر جمادى
الأولى سنة 1320 على طريق الصحف الإخبارية رحمه الله تعالى وجعل الجنة
متقلبه ومثواه.
(المنار) : قد انتهى تلخيص ما كتب في جريدة الحاضرة. ونحن نقول:
إن أمر موته لا يزال مشكوكًا فيه، فإن السنوسيين الواردين من زوايا الصحراء
على مصر يكذبون ذلك، ولا يبعد أن يكون تكذيبهم مبنيًّا على اعتقادهم بأنه المهدي
المنتظر، فإن اختفى أيامًا فلا بد أن يظهر، ولذلك نرى أنه يقتضي الشك في موته
لا ترجيح عدمه.
وأما خبر مناوشة الفرنسيين للسنوسيين فإنما اعتمدنا على مكاتبات السنوسيين
أنفسهم لا على الإشاعة والاستنباط، وليس حديث هذه المناوشة بالحديث وإنما كان
في العام الماضي، فقد راجعنا بعد نشر مكتوب ذلك الطرابلسي مكتوبًا آخر من أحد
بطانة السنوسيّ مؤرخًا في رمضان سنة 1319 وفيه ما نصه:
(الأخبار الواردة من جهة كانم أن الفرنسيين لما سمعوا أن سيدي البراني
توجه للزيارة قصدوا الزاوية مرادهم في هتك حرمها فوجدوا بها بعضًا من الإخوان
وبعضًا من العربان وبعضًا من التوارق، والتقوا عند طلوع الشمس 26 رجب، ثم
انتشب بينهم الحرب من الصباح إلى الزوال، وقتل منهم جماعة وافرة وثلاثة من
كبارهم، والمقاتلون الذين بأيديهم السلاح ثمانية عشر رجلاً لأن الناس متفرقة والكفار
أتوهم على حين غفلة لكن نصر الله المسلمين وهزم المشركين واستشهد فيها من
الإخوان أخونا سليمان ابن أخ سيدي البراني وأخونا عبد الرزاق فقيه الزاوية
وأخونا حسين بن الفضل. ومن المجابرة ثلاثة: أخونا أبو علي النمر وأخونا عبد
الله بن موسى وأخونا مهدي بن شعيب، واستشهد أيضًا الشيخ غيث بن الشيخ عبد
الجليل وابن عمر المضبوه المغربي وبعض التوارق واثنان من جماعة السلطان
قورن كانا عند الأستاذ زائرين، وواحد قطروني وباعوا نفوسهم لله كما قال عز وجل:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة} (التوبة:
111) ولما أتى الخبر إلى الأستاذ رضي الله عنه وجه سيدي البراني والحاج محمد
الثنيّ ومعهم جيشًا من المجابرة وذويه لقتال أعداء الله، ربنا ينصر المسلمين على
أعداء الدين. اهـ باختصار قليل جدًّا.
ومنه ومن أمثاله من الكتب (ومنها ما نشرناه في الجزء الثامن) يعلم القراء
أنه حصل شيء بين الفرنسيين والسنوسيين استمر قريبًا من سنة ولا نعلم كيف
انتهى؛ لأن الأخبار الخصوصية انقطعت عنا من مدة طويلة وإننا نتوقع الخبر
اليقين عن قريب. ومما ذكرناه يعرف القراء أن السنوسيين مستعدون للدفاع عن
أنفسهم ولكنهم ليسوا أهل اعتداء فهم يمتثلون قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وستكون
هذه الآية الكريمة هي منتهى المدنية في الحرب فإن بقي صاحب المقالة المنشورة
في الحاضرة في ريب بعد هذا فإننا نذكر له في جزء آخر شيئًا من نفوذ السنوسيين
في واداي ونواحيها وتوليتهم للملوك وحلهم للمشكلات بينهم بذكر وقائع معينة
بالأسماء والجهات ليعلم أننا نتكلم عن بصيرة. وقد كنا قد ذكرنا ذلك الخبر لغرابته
بالنسبة إلى المصريين وليس من موضوع المنار التوسع في هذه المسائل؛ لأنها
أقرب إلى السياسة منها إلى التاريخ ولا غرض لنا بالسياسة.
أما العبرة التاريخية في ترجمة السنوسي فهي في شيئين: (أحدهما) اجتهاده
في الدين وعدم تقيده بمذهب من المذاهب، وقد مهد له والده رحمه الله تعالى السبيل
إلى ذلك بكيفية تعليمه وبما ترك له من مؤلفاته التي بين بها الحجج على وجوب
العمل بالكتاب والسنة، وعدم الرغبة عنهما إلى قول أي عالم أو إمام. وقد اطلعنا
على كتابه (بقية المقاصد. في خلاصة المراصد) وهو مختصر كتاب (المراصد)
وفيه القدر الكافي من الاحتجاج على وجوب العمل بالكتاب والسنة. و (ثانيهما)
تأليف عصبية كبيرة بسلطة الطريقة. ومما ننتقده على أصحاب هذه الطريقة أنهم
غلوا في شيخهم كسائر أهل الطريق مع شدة تمسكهم بالدين الذي ينهى عن الغلو
وأنهم يعتقدون أن شيخهم المترجم هو المهدي المنتظر، وهذا الاعتقاد يضر في
المستقبل عندما يتبين لهم كما تبين لغيرهم عقمه وإننا نرى عقلاءهم لا يعتقدون هذا
الاعتقاد ويقولون: إن شيخهم لا يرضاه، والله أعلم بمصير الأمور.
__________(5/556)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع مجلة الجامعة الاقتصادي
كانت مجلة الجامعة تصدر في الشهر مرتين، ثم جعلت في السنة الثالثة
(الحاضرة) شهرية وجعلت عشر كراسات (ملازم) أو إحدى عشرة ويضاف
إليها كراستان من القصة المعربة الملحقة بها. فتعذر على منشئها إصدارها في
مواقيتها على نشاطه واجتهاده حتى كان بين الجزء وما يليه أكثر من شهرين. ثم
إنه شرع الآن في جعل المجلة خمس كراسات مع بقائها شهرية وجعل القصة التي
يضيفها إليها كذلك فتوفر عليه تعريب ثلاث كراسات في كل شهر. ثم إنه يطبع من
القصة الملحقة بالمجلة نسخًا زائدة يربح منها مثل ربح المجلة أو أكثر. ونرجو أن
يتمكن بذلك من إصدار المجلة في كل شهر مرة.
وما كان له أن يسمِّي هذا العمل مشروعًا؛ لأن الناس اصطلحوا على إطلاق
لفظ المشروع على الأعمال الكبيرة العمومية الجديدة التي تعدها الحكومات أو
الشركات والجمعيات ثم تشرع في تنفيذها. وتعريب القصص ونحوها من الكتب لا
يستحق هذا الاسم لا سيما إذا كانت منفعة الناس به تكون أقل مما كانت، كما هو
الشأن في هذا العمل، فإن مجلة الجامعة كانت صفحات مجموعتها السنوية تزيد على ألف صفحة بعد تجريد القصص الملحقة فصارت الآن تنقص عن خمسمائة.
وانتقدنا على الرصيف أيضًا اختياره قصة بولس وفرجينى للتلخيص، وإلحاقها
بالجزء الأخير الذي ابتدأ به مشروعه وبنينا عليه ملاحظتنا. وذلك أن حسن هذه القصة في لغتها الفرنسية هو الإطناب في وصف العيشة البدوية فباختصارها
زال هذا الحسن وليس في الموضوع فائدة أخرى تستحق العناية. ثم إن القصة
عربت بتمامها من قبل وطبعت. ثم أعاد تعريبها بعض الأدباء. وهو ينشرها تباعًا
في جريدة التمدن الغراء. فعسى يكون اختيار الرصيف للأجزاء التالية أنفع من هذا
الاختيار. هذا ما كتب للجزء الماضي من المنار، وقد تبين أن العجز مستمر؛
لأن المجلة لمَّا تصدر. فعسى أن يزول قريبًا بزوال الضنك المالي..
(البراعة في الإعلان) كان صاحب مجلة الجامعة يرسل لكل جزء يصدر
من مجلته إعلانًا إلى جريدة المؤيد يثني فيه على الجزء ما شاء، ويشترط أن يكتب
في الأخبار المحلية بصفة تقريظ وكانت سماحة الإسلام تحمل المؤيد على القبول.
ثم إنه تحرش بصاحب الهلال ليناقشه فيشوق قراءه إلى الاطلاع على ما يجيب به
ولكن صاحب الهلال لم يرد عليه مطاعنه فيه حبًّا بالمسالمة التي هي
طبع له. ولما ضاق ذرعه تحرش بالإسلام وطعن فيه وفي أئمته فتصدينا للردّ عليه؛
لأننا كنا نعتقد فيه حسن القصد ولا نكره التنويه بمجلته وانتشارها. ثم إنه خيّب ظننا
فيه وأظهر أنه متعمد للطعن، فعجبنا لذلك حتى زال العجب لَمَّا علمنا أنه أرسل كتابًا
إلى صديق له يقول فيه عن الطعن بالإسلام: قد عرفت أنه اكتشاف مهم للإعلان عن
الجامعة وتكثير مشتركيها، وسترى قريبًا في الجامعة بحثًا آخر عن الغزالي سيكون
بصفة إعلان أشهر وبمثل ذلك تزول (عني العسرات وينمحي الضنك) بفضل
إقبال المشتركين من المسلمين حتى لم يبق جزء واحد في الإدارة من هذه السنة. هذا
ما كتبه فعلمنا أن خدمة (الحقيقة والضمير) هي خدمة المجلة لإزالة (الضنك
والعسرات) وإننا نعلم على اليقين أن المسلمين لا يقبلون على تعضيد من يطعن في
دينهم وأئمتهم، وأنه لم يكتب إلى بعض أصحابه ما كتب إلا ليشيعوا ذلك فيكون تتمة
للإعلان. ونذكر الرصيف المحترم بجريدة كبيرة منتشرة في القطر المصري
انتشارًا لا تطمع فيه الجامعة نقلت طعنًا في الإسلام مرة فكادت تسقط لشدة إعراض
المسلمين عنها مع قوتها وترثها فكيف تثبت الجامعة أمام هذه العاصفة على ضعفها.
ونبشره بأن للمسلمين شعورًا يميزون به بين ما يسيء وما يسر، ولا يمكن أن
يعضدوا لمن يطعن بدينهم. مهما كانوا مقصرين في خدمته. فعدم الشهرة خير من
الشهرة السيئة فليترك الغزالي وغيره وليتكلم بما يعلم، فهو أنفع وأسلم. وهذا آخر
نصائحنا له أو إعلاننا له.
(النقل أمانة) نرى بعض الجرائد في هذه الديار وغيرها تنقل عن المنار
ولا تعزو إليه. ومن ذلك أن جريدة المأمون الغراء تنقل المقالات الطويلة من
مجلدات المنار السابقة تغير عناوينها أو تقسم المقالة إلى مقالات تجعل لكلٍّ عنوانًا
وكثيرًا ما تسند المقالة إلى عالم مجهول فتكتب (قال بعض علمائنا) فنذكرها
بوجوب إسناد الشيء إلى مأخذه؛ لأن النقل أمانة.
__________(5/559)
غرة شعبان - 1320هـ
1 نوفمبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال السادس لذلك الإمام الحكيم
(حرية العلم في أوربا الآن، ونسبتها إلى الماضي والحاضر في الإسلام)
لم يبق علينا من الكلام إلا ما يتعلق بالأمر الرابع مما ذكرته الجامعة [1] وهو
(أن يتمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوربا، وعدم
تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت
أكثر تسامحًا مع الفلسفة) .
ليس من السهل عليَّ أن أعتقد أن أديبًا كصاحب الجامعة يقول هذا القول وهو
ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في
هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية. وإنما هي عين الرضا تناولت من
حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت ثم أملت على قلبه ما جرى به
قلمه.
هل يصح أن تُسمَّى الاستكانة للغالب تسامحًا؟ وهل يُسمَّى العجز مع التطلع
للنزاع عند القدرة حلمًا، أم يُسمَّى غلّ الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرمًا؟ هل
تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين
كرسي المملكة الإيطالية والمملكة البابوية في عاصمة واحدة تسامحًا من قداسة البابا
مع الملك؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يسمي ذلك تسامحًا من الملك مع البابا؛ لأنه
صاحب القوة والجيش والسلطنة، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من
السلطة الملكية؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم
من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين تساهلاً من العلم مع الدين لا تسامحًا من الدين
مع العلم بعد ما كان بينهما من الحوادث ما كان وبعد غلبة العلم واستيلائه على
عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعًا له في أغلبها.
***
(اقتباس مدنية أوربا من الإسلام، وأسباب ظهورها التام)
السبب الأول الجمعيات: كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة
العلم جمعيات وأحزاب منها ما اتخذ السرَّ حجابًا له حتى يقوى ومنها ما ابتدأ
بالمجاهرة. وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه لكثرة أعوانه وضعف أعوان
العلم حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس وتبع إشراق
تلك الآداب واشتعال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما
ذكرنا. وقد وجد هذان النوران استعدادًا من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل
التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها. هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما
ضايقها من غلوّ رؤساء الدين في استعمال سلطانهم واشتدادهم في استعباد العقل
والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال، فأخذ الشعور الإنساني يتلمّس
السبيل إلى الخلاص وإذ لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية واستقبلهما بوجهه،
وكان بعد ذلك ما كان من تأثُّر الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران، ونفيهم من
الأوطان، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة في أدنى الأشياء
وأعلاها حتى إنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش شوارع باريس بالبلاط على
الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك
الشوارع أغضب ذلك قسوس القديس أنطوان ونادوا بأن خنازير القديس لا بد أن
تمر في الشوارع على حريتها الأولى. وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة
أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس. وقالوا إن الملك
فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير
وصلصلة الجرس في عنقه.
لقائل أن يقول: إن القسوس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع
الأجراس في أعناق الخنازير، فرضاهم بذلك يعد تسامحًا عظيمًا مع العلم (أو
الصناعة) ويسهل عليٍّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس
الخنازير كان يظهر من حين إلى حين إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه
المدنية التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا ننجسها قدرها كذلك.
السبب الثاني الضغط الديني: شدة الحاجة وغلوُّ الرؤساء كانا يوقدان الغيرة
في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم همة فعظم أمرهم واكتشفوا كثيرًا من الحقائق
التي نفعت العامة، وتنبهت العقول للأخذ بما يهدون عليه وصارت الحرب بينهم وبين
رؤساء الدين سجالاً إلى أَنْ ظهر دعاة الإصلاح الديني (البروتستانت) فانضم دعاة
العلم إليهم ظنًّا منهم أن سيكونون معهم من المجاهدين في سبيل العلم. وكان منهم
إيراسم الشهير فلما انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت
على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدم، فانفصل إيراسم ومن معه من
حماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية، وترك المصلحين يتفرقون شيعًا ويقتل
بعضهم بعضًا وقال: ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم.
هذه الطوائف التي تفرقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن عدوها
العامَّ وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فلما أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض
واشتعلت نيران الحروب بينهم. قال أحد أفاضل مؤرخيهم:
(وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة لوثت يديها بالجرائم وفي العمل
لإفناء البقية حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال، ووجدت من توالي حوادث
الانتقام وظهور مضارّه في كل طائفة أن الفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من
الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منها. والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق
وترقية الآداب وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على
حرية الأشخاص من أي طائفة كانت. من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم أصل
التسامح والرضى بمجاورة المخالف في الرأي. نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل
طائفة تعامل بها الأخرى) انتهى كلام المؤرخ بالمعنى.
السبب الثالث: الثورة: ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية
وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم. وإنما أنبه القارئ إلى
الاعتبار بما تقدم من القول، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم، ليعلم أن
الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلاً وكرمًا وإنما قويت عليه أحزاب العلم
فساموه استكانة وخضوعًا، ولو شاء أن يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلاً.
السبب الرابع: ترك المسيحية: رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة
وإقدام قلما يدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان. وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم
في استعمال سلطانهم على النفوس كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييد دينهم.
وهم أشد الناس حرصًا على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه ولم يزدهر العلم الجديد
إلا وسائل وسبلاً لترويج عقائده وآدابه، ولم تفتر لهم همة في نشره وتزيينه للقلوب.
ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحماة المدنية يتسللون منه، والعامة من الشعوب
في تخاذل عنه، والأمة الفرنسية التي كانت تدعى بنت الكنيسة أصبحت من أشد
الناس عليه، ورأت فلسفتها أن تحدّد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم. كل
ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة وطلاب اللاهوت يعدّون بالألوف. كل ذلك
وكثير من الدول ترى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض. قال
أحد رؤساء البروتستانت في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية
سنة 1901 بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانية فقدت خاصتها
الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية ما نصه مترجمًا: إذا كان الدين المسيحي ليس
شيئًا سوى الكثلكة المحتاجة إلى الإصلاح (المذهب الروماني) أو الكثلكة التي
دخلها الإصلاح بالفعل (المذهب البروتستانتي) فالقرن الموفي للعشرين (القرن
الحاضر) لا يكون مسيحيًّا أبدًا.
وقد جاء في كلام هذا الخطيب بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنًى آخر ينطبق
كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها، فإن وفّق للنجاح في سعيه زال الخلاف - إن
شاء الله - بين الدين والعلم، بل بين المسيحية والإسلام.
عَوْدٌ إلى سماحة الإسلام: آخذ بيد القارئ الآن، وأرجع به إلى ما مضى من
الزمان، وأقف به وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباس ووزرائهم
والفقهاء والمتكلمين والمحدثين والأئمة المجتهدين من حولهم؛ والأدباء والمؤرخين
والأطباء والفلكيين والرياضيين والجغرافيين والطبيعيين وسائر أهل النظر من كل
قبيل مطيفون بهم؛ وكلُّ مقبل على عمله فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه
ووضع يده في يده يصافح الفقيهُ المتكلمَ والمحدثُ الطبيبَ والمجتهدُ الرياضيَّ
والحَكيم، وكلُّ يرى في صاحبه عونًا على ما يشتغل هو به، وهكذا أدخل به بيتًا من
بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك طبيب يتحادثون ويتباحثون، والإمام
البخاريُّ حافظ السنة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث وعمرو
ابن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى
عنه وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل: (لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدّبته
وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان
ألزم الناس له وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن
منه ولا باطنًا أشبه بظاهر منه بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام
زيد بن علي (صاحب مذهب الزيدية من الشيعة) يتعلم منه أصول العقائد والفقه
ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه
اجتهادًا في بيان المصلحة وهما من أهل بيت واحد - أمُرُّ به بين تلك الصفوف
التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم وعقيدة كل واحد
منهم أنَّ فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث [2] .
الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش.
والفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن
جند الخلفاء. الدين في قوته، والعقيدة في أوج سلطانها، وسائر العلماء ممن ذكرنا
بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر لا فرق في
ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى
أولئك المسلمين، وأنصار ذلك الدين، ويقول: ههنا يطلق اسم التسامح مع العلم
في حقيقته، ههنا يوصف الدين بالكرم والحلم، ههنا يعرف كيف يتفق الدين مع
المدنية، عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر، ومنهم تهبط
روح المسالمة بين العقل والوجدان (أو بين العقل والقلب) كما يقولون.
يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين وإنما بين أهل العلم أو بين أهل
الدين شيء من التخالف في الآراء شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل
التقييد، وعرفوا من علة التقليد، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز بالألقاب فلا يقول
أحد منهم لآخر: إنه زنديق أو كافر أو مبتدع أو ما يشبه ذلك. ولا تتناول أحدًا
منهم يد بأذًى إلا إذا خرج عن نظام الجماعة وطلب الإخلال بأمن العامة فكان
كالعضو المجذَّم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله.
* * *
(ملازمة العلم للدين، وعدوى
التعصب في المسلمين)
متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق، ورُمِيَ زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه
زنديق؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض ونقول الآن: إن ذلك بدأ فيهم عندما
بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله (تلك الفتن
التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه، وتوهين
أركانه، وتصدَّر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين، وأخذ
المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه تقليدًا لمن كان
بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها. وأنشأوا ينسون ماضي الدين ومقالات
سلفهم فيه ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالمين، وتولى شئون
المسلمين جُهدًا لهم، وقام بإرشادهم في الأغلب ضُلاَّلهم، في أثناء ذلك حدث الغلوُّ
في الدين واستعرت نيران العداوات بين النظَّار فيه، وسهل على كل منهم لجهله
بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب. وكلما ازدادوا جهلاً بدينهم ازدادوا
غلوًّا فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر (وهي لوازم الدين الإسلامي) في
جملة ما كرهوه، وانقلب عندهم ما كان واجبًا من الدين محظورًا فيه.
لا أكاد أخطّئ القارئ إذا زعم أن المسلم إنما استفاد اسم زندقة وتزندق
ومتزندق وزنديق من فضل ما علّمه جيرانه إذ كانوا يقولون: هرتقة وتهرتق وهو
هرتوقي أو ما يماثل ذلك. أو زعم أن قد فشت في المسلمين سرعة التكفير بطريق
العدوى من أهل الملل المتشدِّدة وأن الذي سهّل سريان العدوى بتلك السرعة الشديدة
هو ضعف المزاج الديني عند المسلمين بجهلهم بأصوله ومقوماته ومتى ضعف
المزاج استعد لقبول المرض كما هو معلوم.
إن المسلمين لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم.
أصيبوا بمرض الجهل بدينهم فانهزموا من الوجود وأصبحوا أُكلة الآكل وطُعمة
الطاعم، هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو
يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك؟ لا. بل عدا بهم الجهل على أئمة
الدين وخَدَمَةِ السنة والكتاب، فقد حُملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة وبعدما انتفع
بها المسلمون أزمانًا هاج الجهل بأهل تلك المدينة، وانطلقت ألسنة المتعالمين من
البربر بتفسيقه وتضليله فجمعت تلك الكتب خصوصًا نسخَ (إحياء علوم الدين)
ووضعت في الشارع العامّ في المدينة وأحرقت. قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في
ابن تيمية - وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين -: إنه ضالُّ مضل.
وجاء على إثر هؤلاء مقلدون يملأون أفواههم بهذه الشتائم، وعليهم إثمها وإثم من
يقفوهم بها إلى يوم القيامة.
* * *
إهمال آثار السلف وحال
علوم الدين وطلابها
أهمل المسلمون علوم دينهم والنظر في أقوال سلفهم حتى إنك لا تجد اليوم في
أيديهم كتابًا من كتب أبي الحسن الأشعري ولا أبي منصور الماتريدي، ولا تكاد ترى
مؤلفًا من مؤلفات أبي بكر الباقلاني أو أبي إسحاق الإسفرايني. وإذا بحثت عن كتب
هؤلاء الأئمة في مكاتب المسلمين أعياك البحث ولا تكاد تجد نسخة صحيحة من
كتاب.
كُتبت على القرآن تفاسير كثيرة في القرن الثالث من الهجرة وما بعده إلى
السادس منها تفسير الطبري وتفسير أبي مسلم الأصفهاني وتفسير القرطبي وتفسير
الجصاص وتفسير الغزالي وتفسير أبى بكر بن العربي وكثير غيرها، وفيها من آراء
أولئك الأئمة ووجوه استنباط الحكم والأحكام ما لا غنى لطالب علم الدين عنه. فهل
يجد الباحث المجدّ نسخة من هذه الكتب الجليلة يمكن الوثوق بصحتها إلا بطريق
المصادفة وحسن الاتفاق؟ وهل يليق بأمة تدعي أنها على دين وأن لها فيه سلفًا
صالحًا أن تهجر آثار سلفها وتدع ما كتبوا طعمة للعبث وفراشًا للتراب؟ هل وقع
مثل ذلك من المشتغلين باللاهوت المسيحي في زمن من الأزمان؟
إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثى له في أكثر بلاد
المسلمين فهم لا يقرأون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون يتعلم
أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها، ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها وتصحيح
مقدماتها وتمييز صحيحها من باطلها وإنما يتلقاها كأنها كتاب الله أو كلام نبيه صلى
الله عليه وآله وسلم يأخذ ما فيها بالتسليم. فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياها
وعجز عن تصحيحه قطع الجدال بقوله: هكذا قالوا، وإن لم يكن القول متفقًا عليه
بل قد يكون القول مما لم يقل به سوى صاحب الكتاب الذي اشتغل به وربما كان
صاحب الكتاب ممن لو رآه أحد من السلف لم يرضه تلميذًا يعي عنه ما يقول.
كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سوريا والحجاز وتونس والجزائر وقلَّ
جدًّا في المغرب الأقصى، ولم يبقَ الاهتمام به إلا في بعض الصحاري وذلك إما
لصعوبة طرق التعليم واقتضائها الزمن الطويل، وحاجات الناس مانعة لهم من
إفناء أعمارهم في عمل لا يسد في حاجتهم. وإما لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على
الطرق الحديثة في أوربا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء وإن
كان فيها شيء منه فهو مما لا يُعد تعليمًا دينيًّا ينظر إليه. وإما للفتور والخمود،
الذي نشأ عن التقليد والجمود؛ وبذلك تجد المسلمين قد تولاهم الجهل بدينهم؛
وأخذتهم البدع من جميع جوانبهم؛ وانقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين سلفهم؛
حتى لو عرض على الجمهور الأعظم منهم ما اتفق عليه السلف من الحكام لأنكروه
واستغربوه وعدُّوه بدعة في الدين وصح فيهم ما قال عمر الخيام في بعض أشعاره
الفارسية مخاطبًا للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن الذين جاءوا بعدك زيّنوا لك
دينك ووشّوه وزركشوه حتى لو رأيته أنت لأنكرته) . فهذا الصنف من المسلمين
وهو معظمهم قد أنكر دينه الحق وعاداه ونقم على أهله القائمين بخدمته، وإنما
اصطفى لاعتقاده بعض أفراد لم يعرف عن السلف اختصاصهم بالثقة ولم يسمح
الدين باختصاصهم بالتقليد. فإذا وقع عن هذا الصنف ما فيه أذًى للعلم وأهله فهل
يعدّ ذلك واقعًا من دين الإسلام دين محمد صلى الله عليه وسلم، دين القرآن، دين
السنة الثابتة، دين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من السلف الأولين؟
متابعة العلم للإسلام ومباينته لسواه: الحق أقول والحس يؤيدني: ما عادوا
العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم وأخذهم في الصد عن علمه
فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العقل وكانوا كلما
توسعوا في العلوم الدينية، توسعوا في العلوم الكونية، وضربوا الزمان بسوط من
العزّة، أما غيرهم فكلما اتصلوا بالدين وجدّوا في المحافظة عليه أنكرهم العلم
وتجهّمهم واكفهرّ وجهه لِلِقائهم. وكلما بعدوا من الدين سالمهم العلم وبش في وجوههم
ولذلك يصرحون بأن العلم من ثمار العقل والعقل لا يصح أن يكون له في الدين
عمل، ولا أن يظهر منه فيه أثر، والدين من وجدانات القلب ولا علاقة بين ما يجد
القلب وما يكسب العقل فالفصل تامُّ بين العقل والدين، ولا سبيل إلى الجمع بينهما.
سامحهم الله فيما يسمونه تسامحًا مع العلم، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل
أن يكون بينه وبينه سلم.
هل عرفت السبب في اضطهاد المسلمين للعلم؟ أقول اضطهاد ولا أريد به ما
كان عند الأمم المسيحية من الاشتداد في إبادة أهله، والتنكيل بهم واختراع ضروب
التعذيب والتفنن في صنع آلات الهلاك مع الأخذ بالشبهة، والاكتفاء في الإعدام
بمجرد التهمة، فإن ذلك لم يقع عند المسلمين لا أيام علمهم، ولا في أزمنة جهلهم،
ولكن أريد من الاضطهاد الإعراض عن العلم ورمي الألفاظ السخيفة في وجوه أهله
وقذفهم بشيء من الشتائم مع الابتعاد عنهم. لا ريب أنك قد أيقنت بأن السبب في
هذا الذي يسميه الأديب اضطهادًا إنما هو جهلهم بدينهم. فالدواء الذي ينجح في
شفائهم من الداء لا يكون إلا ردّهم إلى العلم بدينهم والتبصر فيه للوقوف على
أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه. كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين
العلم فلما ذهبت الواسطة تناكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة.
الدعاة إلى الإسلام: فهل قام بينهم دعاة للعلم حقيقيون، أو دعاة لأصل الدين
عارفون، ثم استعصت قلوب المسلمين عليهم، وجمحت نفوسهم عن الانقياد لهم؟
وهل كثر أولئك الدعاة في أطراف بلاد المسلمين كثرتهم في أوربا من أواسط القرن
السابع عشر من التاريخ المسيحي إلى أن ظهرت قوة العلم في أوائل القرن السابع
عشر وفيما بعد ذلك؟ لا. إنما رأينا من الصادقين أفرادًا يظهرون متفرقين في
عصور مختلفة ربما لا يجتمع ربعه منهم فما يزيد في قرن واحد ويأخذون في العمل
ولما وجّهوا إليه، ثم لا يكادون ينطقون ببعض الكلم فيحس الناس بهم فيأخذ المستعد
أهبته لمفارقة ما كان عليه واتباعهم حتى تشعر السياسة (نعوذ بالله منها) بما عسى
يكون من أمرهم فتخمد أنفاسهم، قبل أن يبلغوا من قلب واحد ما أرادوا من غرس
أفكارهم، فينطفئ النور، ويَدْلَهمِ الدَّيْجُور، فهل يعدّ الأديب هذه الضربات من أيدي
أرباب السياسة اضطّهادًا للعلم لأجل حماية الدين؟ أنزّه كل أديب عن أن يظن ذلك
وإنما هي صدمات تقع على الدين لا تختلف عن أمثالها مما يصيبه منهم مباشرة فلا
تعدّ حجة على الدين في نظر المنصف.
المقلِّد دون المقلَّد: ربما يقول القائل: إن كان المسلمون قد أخذوا الجمود في
التقليد والنفرة من العلم والاعتقاد بالعداوة بين الدنيا والآخرة وبين العقل والدين وما
أشبه ذلك مما هم فيه وورثوه عن الأمم السابقة عليهم خصوصًا أقرب الملل إليهم،
فما بالهم لم يقلدوا المسيحيين في الحرص على نشر دينهم والتوسع في علومه مذيلاً
بما أخذوه عنهم، ولم يقسموا أنفسهم قسمين كما قسم المسيحيون إخوانهم قسمين:
قسمًا ينقطع إلى الآخرة في الأديار والصوامع، وقسمًا يشتغل بالدنيا ليقيت نفسه
ويقيت أهل القسم الأول ويحمي نفسه ويحميهم من العدوان؟ وما لك ترى المسلمين
خملوا وارتخت أعصابهم وسئموا النظر في علوم دينهم كما ذكرت، ثم صاروا أبعد
الناس عن معرفة الطرق لتحصيل الغنى والثروة، والقبض على ناصية القوة
وصولجان العزة، وطرحوا أنفسهم في تيار من القدر كما يقولون، يجري بهم إلى
حيث لا يعلمون؟ ثم هم مع ذلك أحرص الناس على حياة؛ وأشدهم لهفًا على
الحطام، فلا ترى الجمهور منهم في شيء للدين ولا للدنيا فما هذا التناقض؟ فأقول
له: إنك قد نسيت أن المقلّد إنما ينظر من عَمل المقلَّد إلى ظاهره ولا يدري سره
ولا ما بني عليه. فهو يعمل على غير نظام، ويأخذ الأمر لا على قاعدة، ولذلك
سقط المسلمون في شرٍّ مما كان عليه مقلّدوهم لا سيما أنهم قد خلطوا في التقليد
وأضافوا إلى دينهم ما لا يمكن أن يتفق معه، فصاروا في مثل حال المتخبط الذي
تَنَاَزَعُه عدة قوى يذهب مع كل منها آنًا ثم ينتهي أمره بعد الخيبة بالتعب الشديد
فيستلقي إلى أن يستريح فينهض إلى العمل على هدًى أو يموت.
لما كان المسلمون علماء كانت لهم عينان: عين تنظر إلى الدنيا، والأخرى
تنظر إلى الآخرة. فلما طفقوا يقلدون أغمضوا إحدى العينين، وأقذوا الأخرى بما
هو أجنبي عنهم ففقدوا المطلبين ولن يجدوهما إلا بفتح ما أغمضوا وتطهير ما أقذوا.
الإصلاح والمصلحون: للقائل أن يقول: كيف تدعي أن دعاة العلم والدين
قليل بين المسلمين مع أننا نسمع أصواتهم تتلاقى في جوّ مصر وسوريا وغيرهما
من البلاد في هذه الأيام. كلُّ يقول: ديني ملتي: إسلام مسلمون: قرآن سنة:
مجد الإسلام القديم سلفه والصالحون: تعلم تعليم: كتب قديمة كتب جديدة. وما
يشاكل ذلك مما يظهر منه أن الداعين إلى العلم أو المنبهين إلى الأخذ بأصول الدين
الإسلامي كثيرون ولا ترى مع ذلك من أغلب المسلمين إلا آذانًا صُمًّا وأعينًا عُميًا
وصدًّا عما يدعو إليه هؤلاء، ويمكنني أن أقول له: إن الصادق في هؤلاء ليس
بكثير عُدة، والجمهور منهم قَلّما يخلص قصده، وما تجد أكثرهم إلا متجرين بهذه
الكلمات لكسب بعض دريهمات: ويظهر لك ذلك من أنهم يلفظون هذه الأسماء وقلما
يدرسون شيئًا من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه، وإنما يلقف بعضهم عن بعض
ظواهر كالزَّبد لا تمكث في الأرض. أما الصادقون على قلتهم فقد بدأ بعض الناس
يسمعون ما يقولون، ويطلبون الرشاد مما يعلمون، خصوصًا في أمر الدين والجمع
بينه وبين مصالح الدنيا لا سيما في بلاد الهند وبين مسلمي روسيا. ولكن الإصلاح
ليس ريحًا تهب فتمسح الأرض من الشرق إلى الغرب في وقت قريب فانتظر قد
يقول القائل: لِمَ لَمْ يكثر هؤلاء كثرتهم بين الأوربيين فيما مضى حتى يغلبوا
الظالمين من أهل السياسة ويستميلوا العادلين منهم إليهم. وينهضوا بالمسلمين من
هذه الرقدة التي طال أمدها عليهم؟ ، ولمَ لا يزال أهل البصيرة منهم قليلين متفرقين
يهمسون بالقول ولا يجهرون، وليس للعلم فيهم دعاة مليُّون؟ أليس ذلك سبيلاً
لمؤاخذة الإسلام، وحجة عليه؟ ؟ وأقول له: إن حظ المسلمين لا يصح أن يكون
أسعد من حظ مقلديهم، بل المنتظر أن يكون أتعس وقد أقامت المسيحية ما يزيد
على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم أو تنشأ الحرية الشخصية؛ أو تسري فيها
الحركة العلمية؛ إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية، مع توالي المنبهات؛
وتواصل الصدمات إثر الصدمات، ولم يمضِ على المسلمين من يوم استحكمت
فيهم البدعة وأطبقت عليهم ظلم المحدثات ودخلوا جحر الضب الذي دخله من كان
قبلهم إلا أقل من ثمانمائة سنة، فلم يمض عليهم وهم في بدعهم الجديد ذلك الزمن
الذي قد يكون عُمرًا لمثل هذه الحالة، ثم تقضي نحبها في آخره. وما أظن أن يمر
على المسلمين مثل تلك المدة قبل أن يبلغوا من صلاح الدين والدنيا ما هم أهل له.
الفرق بين التعصبين: وعلى كل حال لا يجوز في شريعة الإنصاف أن يذكر
المسلمون في جانب جمهور المسيحيين إذا ذكر الغلو في التعصب الديني فضلاً عن
أن يقال: إن المسلمين أشد إفراطًا فيه. والشاهد يدلنا على أنه قد يكون للمسلمين
في التعصب ألفاظ وكلمات، ولكن الذي يكون من جمهور المسيحيين إنما هو أعمال
وضربات في المعاملات؛ وما على طالب الحقيقة إلا أن يسيح بفكره في
المستعمرات الهولاندية في الشرق ومثل مملكة الترنسفال قبل سقوطها وبلاد الناتال
في الجنوب، ثم يرجع إلى الجزائر وما يليها في جهة الغرب ليعلم كيف تكون الشدة
في المعاملة مع غير أهل المذاهب المسيحية وكيف يبلغ التعصب من أهله حدًّا
تنظر إليهم فيه الإنسانية شزرًا ولا تقبل لهم فيه المدنية عُذرًا.
ما على الباحث إلا أن ينظر فيما يكتبه الكتاب الفرنسيون ليعلم أنهم في حيرة
من أمرهم مع المسلمين. يريدون أن تكون لحكومتهم طمأنينة فيما ملكت من بلاد
المسلمين ولكن حكومتهم لا تجد السبيل إليها مع ما اتخذته قاعدة لعملها وهو الشدة
والإفراط في القسوة على المسلمين خاصة وحدهم دون سواهم. وأرباب الأقلام
يبحثون عن؛ تلك الطمأنينة مع المحافظة على تلك القسوة ويأبى الله أن يعثرهم على
ما يبحثون عنه، لأنهم يطلبون الجمع بين الضدين في موضوع واحد وهو محال كما
يقرره فلاسفتهم.
* * *
(رأي هانوتو الأخير في
معاملة المسلمين)
موسيو هانوتو أطلق لقلمه من سنوات أن يجري في البحث عن طريقة حكم
للمسلمين وقاعدة لمعاملتهم في البلاد التي يحكمها الفرنسيون وجاء في فصول مقاله
بما لا يزال يذكره القراء. ثم بعد أن قتل المسألة علمًا ثلاث سنين رجع إلى
موضوع البحث هذه السنة بلسان غير الذي كان ينطق به ورأي غير الذي كان
يصدر عنه. وإني ذاكر ملخص ما نقلته الجرائد من خطابه الذي ألقاه في المجمع
الجغرافي في شهر مارس من هذه السنة متعلقًا بأفريقيا، واقتصر منه على ما يتعلق
بما نحن فيه وهو بالمعنى: (إن القواعد الجديدة التي يجب أن يكون عليها العمل
في أفريقيا هي مخالفة للقواعد القديمة التي كانت تجري عليها السياسة الاستعمارية
فيما مضى من الزمان، أي: قبل ساعة وقوف الخطيب لإلقاء خطابه) ثم بين هذه
القواعد الجديدة التي يعامل بها المحكومون فقال: إنها الأمن والسلم ثم قال: (إننا
مدينون لهم بالعدل والسلم كما أننا مدينون لهم بالتساهل الديني، ولست أشير إلى
هذا الموضوع الخطير الذي له علاقة بكل ما يثير النفس البشرية إلا إشارة خفيفة
فأقول: إن التمدن الأوربي يجد في طريقه في أفريقيا لا سيما في شمالها ذلك الدين
القديم العظيم الذي هو دين الإسلام، والذي هو في هذه الجهات (شمال أفريقيا) أكثر
نشاطًا منه في غيرها. وهذا الدين يدعو إلى إله واحد ويجعل الإيمان بالتوحيد
مصدرًا لكل الفضائل الذاتية والاجتماعية ويستولي على المؤمن به استيلاءً شديدًا
فلا يعود بقدر على التفلت منه، فمن المفروض علينا التساهل في هذا الشأن بل
ليس التساهل بكافٍ وحده، فمن الواجب أن ندرس هذا الدين ونبذل جهدنا في فهمه.
وعلينا أن نتخذ الكلمة الإسلامية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) شعارًا
لنا لا نخرج عن حدود معناها. وأن نحترم الدين الإسلامي ونحميه من كل طارئ
سوء. ولا بأس بذكر كلمة للأمير عبد القادر الجزائري في هذا المقام وهي: (إن
أصحاب الأديان الثلاثة يشبهون ثلاثة إخوة من ثلاث أمهات) انتهى محصل كلام
هانوتو. قبل الكلام عليه أسأل القارئ: هل سمع مثل هذه الكلمة ممن يماثل الأمير
عبد القادر في نسبه إلى صاحب الرسالة ومقامه في أهل دينه ومكانته من سلامة
العقيدة في مذهبه؟ أو سمع ما يقرب منها ممن لا يدانيه من أهل الملل الأخرى؟
ترى هانوتو يرشد أهله إلى اتخاذ سبيل جديد في سياسة المسلمين، وهذا الجديد
هو السلم والأمن والتساهل مع المسلمين في أن يستمرُّوا مسلمين واحترام حقوقهم
وتركهم يعملون بدينهم. وعَدَّ هذا مبدأً جديدًا لم يسبق الجري على مثله. وهل
تجنب الحكومة الفرنسية طلبه؟ مسألة فيها نظر. فهل يليق بمنصف أن يذكر
المسلم إذا ذكر التعصب ما دام في هذا الكون مثل هذه الدرجة منه؟
* * *
(سياسة الإنكليز في التسامح)
نعم نحن لا ننكر أن بين الأمم الأوربية أمة تعرف كيف تحكم من ليس على
دينها، وتعرف كيف تحترم عقائد من تسوسهم وعوائدهم، وهي الأمة الإنكليزية فهي
وحدها الأمة المسيحية التي تقدر التسامح حق قدره. لا يصعب علينا أن نقول: إن
منشأ ذلك أن أمراءها في الحروب الصليبية وقوّاد جيشها كانوا من أشد الصليبيين
علاقة بسلطان المسلمين وأمراء جيشه. وقد امتاز الإنكليز في ذلك الزمن المظلم
بدرس عقائد المسلمين وعاداتهم فحملوا من ذلك شيئًا كثيرًا إلى بلادهم ولم تحجبهم
غشاوة التعصب عن إبصار ضوء الحق، وظهر أثر ذلك في أقلام كثير من كتابهم
مثل ولترسكوت وشيل وغيرهما قبل أن يظهر في أقلام الكاتبين من غير الإنكليز
بأزمان طويلة. فلنا أن نقول: ولا نخشى لائمًا: إن هذه الخصلة الشريفة - خصلة
إطلاق الحرية لأهل الدين يتمتعون بأداء فرائضه مع احترام ما يحترمون - هي من
أجلّ الخصال ورثها غير المسلمين عن المسلمين. وهل أجد من يأبى عليّ القول
بأن الإسلام السليم من البدع هو أستاذ الإنكليز وعنه أخذوا هذه الخلة؟ ألا ترى أن
نظامهم في ذلك يقرب من نظام المسلمين في يوم كانوا مسلمين: يكتفون من الناس
بالخضوع للقوانين وأداء ما يفرض عليهم من الضرائب ثم يحفظون نظام العدل
بينهم بقدر ما تسمح به السياسة لا يفرقون بين دين ودين. وهكذا كان حال
المسلمين، وإن كان ذلك على قاعدة أبر وأرحم.
خاتمة: فإن قال قائل: أليس لهذا المقال من آخر؟ أليس في طول الكلام
مجلبة الملل، وترويج الكسل، قلت: إني أوجِّه كلامي هذا إلى أهل النَّهَم إلى الفهم،
وأرباب الشره إلى المعرفة، ولا أظن هؤلاء إلا طالبين ما هو أوسع من هذا
المقال وأطول منه أضعافًا مضاعفة؛ لأن الموضوع جليل، والكلام فيه مهما كثر
قليل، وأما القارئ الملول، فعقله مدخول، وعزمه مفلول، وفكره مغلول، وهو
قصير الهمة فيما يقصر وفيما يطول، فلا ينظر إليه في الخطاب، ولا يعتد به عند
الحساب، ومع ذلك فأنا واقف عند هذا الحد. وأنتظر بتفصيل القول في مسألة
أمراض الإسلام وآثار البدع والمحدثات فيه، والعلل التي نشبت بالمسلمين بسببها
فرصة أخرى، وقبل أن أترك القارئ أنبهه إلى ما أجمل في هذه الفصول لم يقصد
به الطعن في حال أحد من الناس ولا طائفة من الطوائف كما يعرفه القارئ نفسه من
لباس المعاني، وما يكسوها من الأدب والتنزه عن كل كلمة تشم منها رائحة العيب
على آخر. وقد يعلم من هذه النزاهة أن هذا رأي طبخناه لنَطْعَمَه بأنفسنا، وننفق
منه على من تلزمنا نفقته من أهلنا، ولم يكن يخطر ببالنا عندما أَجَدنَا طَبخه أن
نُفيض منه على غيرنا، لكن إذا عَشَا الساري إلى ضوء نارنا، وطلب القرى مِنَّا
قاسمناه ما لدينا، وعرضنا عليه أَحَرَّ من نَفَسِ الحياة، وأهنأ من خُلق الأناة إن شاء
الله. اهـ
(المنار)
من عجيب الاتفاق أنه بعدما كتب هذا المقالات ونشر بعضها ظهرت تلك
المقالة للمستر كوربت الإنكليزي وسنلحق قوله في الإسلام بالمقالات إذا طبعت على
حدتها في كتاب، ونبشر القراء بأن هذا الإمام وَعَدَ بأن يكتب مقالاً آخر ملحقًا بهذا
في بيان أن ما طرأ على الإسلام من البدع وما لحقها من الجمود سيكون هو السبب
في الرجوع إلى الأصل وإعادة مجد الإسلام ولعلها تنشر في الجزء الآتي.
وقد بلغ كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) نحو مائتي صفحة
وسنزيده شهادة الكاتب الإنكليزي، ثم مقال الإمام الموعود به. وقد طُبع على ورق
جيد، وجعلنا ثمنه مع هذا خمسة قروش صحيحة فقط رغبةً في سعة انتشاره.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يذكر القراء أن كلام الجامعة في الطعن بالإسلام كان مبنيًّا على أربعة أمور تقدم الرد على ثلاثة منها وفي هذا المقال الرد على الرابع.
(2) المنار: رواه أبو الشيخ ابن حبان في العظمة عن أبي هريرة بسند ضعيف ورواه من طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ولكن له روايات أخرى منها رواية الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بلفظ (ثمانين سنة) وفي رواية موقوفة على ابن عباس (خير من قيام ليله) ولشهرة هذا المعنى قال الغزالي: وردت السنة بكذا.(5/561)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
حدوث العالم في نظر الإسلام والفلسفة
(س1) المولى رضاء الدين أفندي قاضي القضاة وعضو الجمعية الإسلامية
العامل في أوفا (الروسيا) : قد طال النزاع وقوي الجدال وكثر في هذه الأيام القيل
والقال بين الناس في هذا القطر في مسألة حدوث العالم من جهتها الشرعية. فبعضهم
يقول: إن الاعتقاد بالحدوث الزماني حسب ما قرره علماء الكلام من متأخري
المسلمين فرض على العباد مثل الاعتقاد بوحدة الله تعالى وصدق رسوله وسائر
الاعتقادات الواردة في القرآن الشريف. وبعضهم يخالفه ويقول: إن الاعتقاد
بحدوث العالم حدوثًا زمنيًّا لا يكلف به الشرع ولا أخبر به النبي ولا نطق به القرآن
الكريم بل هو من آراء أهل الكلام وبدعهم، أخذوه من فلاسفة اليونان ولقنوه العوام
باسم الدين وما هو من الدين أصلاً. بل هو من باب التدين بالرأي. وإنما الواجب
على المسلمين هو اعتقاد أن العالم مخلوق له تعالى من غير تعرض إلى حدوثه
بالزمان أو بالذات.
وهو الذي نطق القرآن به في عدة مواضع. وبالجملة، إن القول بالحدوث
الذاتي أو الزماني إنما هو من مسائل الفلسفة لا تعلق له بالشريعة. ولما كانت
جريدة المنار هي الجريدة الدينية الوحيدة، جئنا إلى حضرتكم نستسفر رَأْيَكُم في
هذه المسألة ونَشْرَه أيضًا في أحد أعدادها ويكون هو - إن شاء الله تعالى - الفاصل
بين الحق والباطل.
(ج) إن الصواب في الرأي الثاني. وما كان لدين الفطرة مقرر الحنيفية
السمحة الذي ظهر في الأميين ودعا إليه المتوحشين والممدنيين - أن يكلف كل
فرد في تصحيح الإيمان بنظريات فلاسفة اليونان، والتمييز بين تلك الخلافات في
الحدوث بالزمان والحدوث بالذات. ثم خلافات الفلاسفة مع أهل الكلام في أصل
وجود الزمان. فالمتكلم يقول: إنه أمر اعتباري، والفيلسوف اليوناني يقول: إنه
وجودي، وإنها لمعارك يحارب الباحث فيها غير عدوّ حتى إذا أعيا من مقارعة
الدليل بالدليل، ونفض عنه عثير القال والقيل، رجع إلى أحد الأمرين: وقوف
الحيرة أو دين الفطرة، المقصد الأول من مقاصد القرآن المبين، تقرير عقائد الدين،
ثم هو لم ينطق بكلمة من مادة الحدوث للأعيان، لا بحسب الذات ولا بحسب
الزمان، فللناظر أن يقول: إن اطّراد السنن الإلهية في العوالم العلوية والسفلية،
ووحدة النظام مع الإتقان في جميع هذه الأكوان: يدلاّن على أن لها خالقًا عليمًا،
قادرًا حكيمًا حيًّا قيومًا، لا رادّ لإرادته، ولا معقب لحكمه وحكمته، وأنه واحد
لوحدة النظام المشهود في جميع الوجود، وبهذا يكون مؤمنًا بالبرهان، متبعًا طريق
القرآن وإن لم يخطر بباله حدوث الذات وحدوث الزمان.
أما مسألة حدوث العالم في نظر الفلسفة فالمتفق عليه عند فلاسفة العصر أن
كل ما نراه ونحس به من هذه العوالم الأرضية والسماوية فهو حادث بمعنى أنه لم
يكن كما هو الآن ثم كان، ولكن عضلة العقد عند المتقدمين والمتأخرين هي مسألة
منشأ التكوين. وهم متفقون على أن الوجود المطلق قديم وأنَّ العدم المطلق لا حقيقة
له ولا يتصوره العقل وأنه لا يحدث شيء من لا شيء. فالفلاسفة والمتفلسفون
يحسبون أن هذه المسائل القطعية لا تنطبق على الأديان وإن سماوية، ونحن نقول:
إنها هي التي جرى عليها القرآن وقررها الإسلام فليس في كتاب الله تعالى آية تدل
على أن الوجود الحقيقي صدر عن العدم الخيالي، بل قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً} (الفرقان: 2) والخلق لغة: الترتيب وهو لا يكون في العدم، بل قال:
{أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء:
30) وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) وحلُّ المسألة بطريقة إسلامية أن هذا
الوجود الذي نشاهده كله ممكن حادث، وأنه صدر عن وجود واجب قديم لا تعرف
حقيقته ولا كيفية صدوره عنه، وإنما قام البرهان بأنه صدر بإرادة وقدرة وعلم
وحكمة. وذلك ما ذكرناه من وحدة النظام والإحكام وإطراد النواميس والسنن.
***
دعوى كتابة النبي بالتركية
(س2) ومنه: قال الفاضل المرجاني القزاني صاحب (ناظورة الحق) في
رسالته (مستفاد الأخبار) : إن حديث أبي هريرة المذكور في أسد الغابة المطبوع
بمصر القاهرة (ج4 ص140) وقع فيه عدة أغلاط وقت طبعه، والصواب ما في
النسخة الخطية في زمان قريب من عصر المؤلف ابن الأثير رضي الله عنه. وهو
هكذا: (وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعمير ومن معه كتابًا تركيًّا ذكره.
فإن رواته نقلوه بألفاظ عربية، وبدلوها وصحفوها تركناها لذلك) . ولما لم يكن
لدينا نسخة أخرى سوى المطبوعة المذكورة لنقابلها رجونا من حضرتكم مقابلة
النسخة المطبوعة مع الأصول المصححة خدمة للعلم والدين، ثم بيانه إلينا لنكون
على بصيرة من ذلك وأجركم على الله.
ج ـ لم يكن التحريف والتبديل في النسخة المطبوعة وإنما كانا في رسالة
الفاضل القزاني (مستفاد الأخبار) فإن ما كتبه عن النسخة الخطية هو عين ما في
النسخة المطبوعة إلا أنه صَحَّفَ لفظ (تركنا ذكره) بقوله: (تركيًّا ذكره) ولفظ
(غريبة) بلفظ (عربية) فكان التبديل والتحريف من هذا التصحيف، وسببه أن
النسخة الخطية التي رآها غير منقوطة فأوقعت الفاضل فيما رأيت. وما كان لمثله
أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يكتب لقوم من العرب كتابًا تُركيًّا، فإن جاز
أن يعرف هو التركية من طريق المعجزة فمن أين لعمير وقومه بني أسلم علْم ذلك؟
وما هو الداعي إلى مخاطبة العرب بلسان العجم؟ ثم ما كان لمثله أن يخفى عليه أن
كلمة (ذكره) بعد كلمة (تركيا) لا معنى لها، ولكن معناها ظاهر إذا كانت
الكلمة (تركنا) وهو أن المصنف ترك ذكر الحديث لوقوع التحريف فيه،
وسبب التحريف وجود الألفاظ الغريبة التي لم يفهمهما رواته.
أما عبارة الكتاب فهي كما في ترجمة عمير بن أقصى الأسلمي: روى أبو
هريرة قال: قدم عمير بن أقصى في عصابة من أسلم فقالوا: يا رسول الله إنا من
أرومة العرب نكافئ العدو بأسنة حداد، وأذرع شداد، ومن ناوأنا أوردناه السامة،
وذكر حديثًا طويلاً في فضل الأنصار، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب
لعمير ومن معه كتابًا تركنا ذكره، فإن رواته نقلوه بألفاظ غريبة وبدلوها وصحفوها
تركناها لذلك أخرجه أبو موسى. اهـ
وقد قابلنا النسخة المطبوعة بنسخة خطية في مكتبة الحكومة
المصرية كتبت في سنة 722 أي بعد وفاة ابن الأثير بأقل من قرن فألفيناها
مطابقة لها.
***
السلام على غير المسلم
(س3) الشيخ بسطويسي بركات بالمحلة الكبرى: قال الله تعالى: {وَإِذَا
حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) وقال تعالى: {وَلاَ
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور:27)
الآية. فهل هذا الإطلاق في الآيات الكريمة يشمل المسلمين وغيرهم من أهل
الكتاب وغيرهم من بني آدم أم هو خاصّ بالمسلمين قيدت إطلاقه عليهم أحاديث
صحيحة صريحة؟ وهل قوله صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (إن من حق المسلم
على المسلم إفشاء السلام) يعتبر من قيود الإطلاق لفهم البعض سقوط حق غير
المسلم أم لا؟ وإذا قيل: إنه عام فهل ينبغي شيوعه بين الطوائف حتى يصير عادة
مألوفة أم لا؟
(ج) إن الإسلام دين عامٌّ ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو
بالتدريج وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي
كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين؛ لأن من سلّم على أحد
فقد أمّنه، فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنًا ناكثًا للعهد. وكان اليهود يسلمون على
النبي صلى الله عليه وسلم فيردّ عليهم السلام حتى كان من بعض سفهائهم تحريف
السلام بلفظ (السَّام) أي: الموت فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحييهم بقوله:
(وعليكم) وسمعت عائشة واحدًا منهم يقول له: السَّام عليك. فقالت له: وعليك
السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبينًا لها أن المسلم لا يكون فاحشًا ولا
سبّابًا، وأن الموت علينا وعليهم وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا
يقولون للذمّيّ: السلام عليك. وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصرانيّ سلم
عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى، فقيل له في ذلك فقال: (أليس في رحمة
الله يعيش) وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف،
وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (النساء: 86)
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا للمسلمين، {أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) لأهل الكتاب.
وعليه يقال للكتابيّ في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة.
هذه لمعة مما روي عن السلف، ثم جاء الخلف فاختلفوا في السلام على غير
المسلم فقال كثيرون: إنهم لا يُبدأون بالسلام لحديث ورد في ذلك وحملوا ما روي
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحاجة، أي: لا يسلم عليهم ابتداءً إلا
لحاجة. وأما الرّد فقال بعض الفقهاء: إنه واجب كردّ سلام المسلم وقال بعضهم:
إنه سنة وفي الخانية من كتب الحنفية: ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا
بأس بالردّ، وهذا يدل على أنه مباح عند هذا القائل لا واجب ولا مسنون مع أن
السنة وردت به في الصحيح، أما ما ورد من حق المسلم على المسلم فلا ينفي حق
غيره، فالسلام حق عام ويراد به أمران: مطلق التحية وتأمين من تسلّم عليه من
الغدر والإيذاء وكل ما يسيء. وقد روى الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة:
(أن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا وأمنًا لأهل ذمتنا) . وأكثر الأحاديث التي
وردت في السلام عامة وذكر في بعضها المسلم كما ذكر في بعضها غيره كحديث
الطبراني المذكور آنفًا.
أما جعل تحية الإسلام عامّة فعندي أن ذلك مطلوب وقد ورد في الأحاديث
الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم فكان من تحريفهم
ما كان سببًا لأمر النبي صلى الله تعالى عليه والسلام بأمر المسلمين أن يردوا عليهم
بلفظ (وعليكم) حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين ومن مقتضى القواعد أن الشيء
يزول بزوال سببه. ولم يرد أن أحدًا من الصحابة نهى اليهود عن السلام؛ لأنهم لم
يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام ولكن خلف من بعدهم خَلْفُ أرادوا أن
يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة
الكتب المشتملة على آياته، وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصَونٌ له عن المخالفين،
وكلما زادوا بُعدًا عن حقيقية الإسلام زادوا إيغالاً في هذا الضرب من التعظيم،
وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم ويوزعون كثيرًا من
كتبه على الناس مجانًا، ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من
دينهم، ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم حتى
إن الأوربيين فرحوا فرحًا شديدًا عندما وافقهم خديو مصر الأسبق على استبدال
التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري، وعدُّوا هذا من آيات الفتح. ونرى القوم الآن
يسعون في جعل يوم الأحد عيدًا أسبوعيًّا للمسلمين يشاركون فيه النصارى بالبطالة.
ومع هذا كله نرى المسلمين لا يزالون يحبون منع غيرهم من الأخذ بآدابهم
وعاداتهم ويزعمون أن هذا تعظيم للدين، وكأن هذا التعظيم لا نهاية له إلا حجب
هذا الدين عن العالمين، إن هذا لهو البلاء المبين، وسيرجعون عنه بعد حين.
__________(5/581)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأزهر والأزهريون، وفاضل هندي
(الرسالة الثانية مما وعد به الشيخ عبد العزيز العريشي الأزهري
والأولى نشرت في الجزء 10)
من القاهرة إلى حيدر أباد
إليك أيها الأخ، سلام صديق طبع قلبه على الإخلاص لك، وارتبط بأسباب
محبتك، وشكوى شوق قد برح بي برحًا، لا أستطيع له شرحًا. وبعد فقد ذكرت لك
في رسالتي السابقة طرقًا من نظام مدرسة الأزهر وطرق التعليم بها على وجه
الجملة، والآن أريد أن آتي لك بعبارة أوسع وتفصيل أشفى على كل ما رأيته من
نظام طلبتها وسلوكهم مناهج التحصيل مقتفيًا أثر الطالب في كل دور من أدوار
طلبه من إبان دخوله فيها حتى يترشح لنيل شهادتها مُبينًا لك قوته وما حصل عليه
في كل دور منها.
زرت أيها الأخ تلك المدرسة من تاريخ الرسالة الأولى حتى اليوم زورات
متعددة في أوقات مختلفة وقفت فيها على تلك الدروس وقفة العاشق الدنف على
الربع المحيل وهو يبكي لأناس عاهدوا الرحيل على أن لا يملُّوا الذميل.
فكانت نتيجة ذلك البحث الدقيق والتنقير المتواصل أن ظهر لي ما عليه تلك
المدرسة الواسعة الكثيرة العدد، ووقوفي على مواضع خللها وسوء نظامها على ما أنا
عليه من الغربة وبعد الدار. ورأيت أن أجعل كل موضوع رأسًا مستقلاً بنفسه أذكر
فيه كل ما استبان لي من النقد كما سيمر بك إن شاء الله.
انتظام الطلبة: وأول أمر رغبت في كشف سره وبيان سببه من أمور هذه
المدرسة هو سبب كثرة طلابها حتى بلغوا التسعة آلاف أو يزيدون، وأغلبهم من
المصريين كما قدمت لك في رسالتي السابقة فكان غاية ما وقفت عليه من ذلك ما
سمعته هناك من أخ ثقة خبير قال: لا يكاد يمر الإنسان ببلدة من البلدان المصرية
أو قرية من قراها حتى يرى مئات من شبان المصريين حلفاء المتربة وضيق ذات
اليد وهم يطاردون الجوع بالفأس والمحراث، وتمضية يومهم الطويل في الحقول
والمزارع والتعب والنصب تحت شمس تذيب بوهجها رأس الضب. ومن بينهم
أفراد لا يكاد يخلو منهم بلد من البلدان أو قرية من القرى معطلون عن كل عمل
يطلقون عليهم تارة لقب الفقهاء أو الوعاظ وطورًا اسم المأذونين، ترى الواحد منهم
في جبة وقباء وعمامة عجراء يأكل جميع ساعات نهاره إما متربعًا في بيته خاليًا من
كل عمل أو قاعدًا في إحدى الزوايا ينثر من فيه على بُسطاء أهل الفلاحة ما يسمونه
وعظًا وإرشادًا، وما هو إلا أقاصيص أو لغو في حكمها يدعو الناس به إلى حب
التواكل والبطالة حتى إذا أتى على آخر الدرس لبث مكانه منتظرًا ما تدر به أيدي
أولئك العملة المساكين الذين لم يحصلوا على الدرهم إلا طرادًا، ولم ينالوا اللقمة إلا
جهادًا، ومن ذلك يتألف لهؤلاء المعطلين عيشة لا تعب فيها ولا نصب فإذا رزق
الله أحد الفلاحين الفقراء ولدًا وقع بين نارين إما أن يدعه يشتغل بما يشتغل هو به
فيعيش عيشة البؤس والخصاصة، وإما أن يدفع به إلى الأزهر ويثابر على أن
يقسم له ما يناله من الأجر على أعماله حتى يمضي عليه عدد من السنين فيخرج
منه وقد ترشح لأنْ يأكل من أوساخ الناس ويعيش عالة على العباد متوسدًا الراحة
من عناء كل عمل.
فإذا ترجح عنده الأمر الثاني دفع به إلى الأزهر، وأخذ يجري
عليه من النفقة ما يقطعه من قوت يومه الضروري. لذلك لا تكاد تجد في المائة
واحدًا من الطلبة من البيوتات الشريفة التي يعمل أهلوها لمستقبل شريف كالقضاء
والإفتاء. فأنت إذا سرت في ساحة تلك المدرسة فإنما تشق أجسامًا تنبو عن
رؤيتها النفس وهم مختلفون متبعثرون ليس لهم نظام ولا ترتيب، ويغلب أن يكون
سن الطالب عند اندراجه في سلك الأزهريين ما بين الخامسة عشرة إلى الثلاثين،
وقد كان امتحان الدخول في هذه المدرسة بسيطًا قاصرًا على معرفة القراءة والكتابة،
أما اليوم فهم يشترطون مع ذلك حفظ جميع القرآن للكفيف ونصفه لغيره.
ولأجل أن أتمكن من أن أبين لك أدوار الطالب هناك وأوقفك على قوته في
كل دور منها أقسمها إلى ثلاثة أدوار؛ كل دور ثلاث سنوات فيكون المجموع اثنتي
عشرة سنة، وهي أقل مدة أمكن بعض الطلبة نيل الشهادة فيها.
الدور الأول: يتقدم الطالب للانتظام في الأزهر وهو في السن الذي قدمت لك
فإن كان من الفلاحين (وهو الأغلب) رأى نفسه قد انتقل طفرة من بين رعاء
الشاء، إلى حلقات المدرسين ومجالس العلماء، وإن كان من البيوتات الكبيرة والأسر
الخاصة (وقليل ما هم) انتقل المسكين وثبة في يوم واحد من نعيم العيش وحسن
الحال إلى عيش الشظف والخشونة، وبُدّل في ساعة واحدة برؤية أهله وهم على ما
عهد من النظافة وجمال الهندام رؤية أولئك الذين ذكرت لك. وسواء كان الطالب
من العامة أو من الخاصة فإنه يتساوى مع غيره في الطلب وطرق التحصيل.
يدخل الطالب تلك المدرسة وهو لا يدري كيف يحضر، ولا ماذا يقرأ، ولا على
من يتلقى دروسه، ولا على أي وجه يسير فيها، ولا ما هي الكتب تُشرى لذلك
الغرض من حيث لا ناظر له هناك ولا رقيب عليه يأمره بشراء كتاب معلوم
والاختلاف إلى درس مخصوص، بل يمكث هناك المسكين أيامًا يجول في أركان
الأزهر وهو على ما ذكرت من البساطة والسذاجة ويأخذ كل يوم في التطواف
بحلقات الدروس يتساءل من الطلبة المتقدمين عن كتاب يشتريه، ودرس ينتظم في
سلك طالبيه، حتى إذا تيسر له ذلك بعد الذي تقدم من الحيرة والتعب وضياع الوقت
وحضر أحد الدروس أخذ يقلب طرفه فيما بين يديه، ويحدد أذنيه لسماع ما يلقى
عليه، فلا ينظر إلا نقوشًا لا مَقْدِرَة له إلا على النطق بها دون أن يعقل لها أقل
معنى. ولا تقع في أذنه إلا ألفاظ هي أشبه بالرطانة منها بما يتكلم به الناس، فيظل
سنته الأولى وهو يروح إلى الدروس كما يغدو إليها خاليًا من الفائدة مجردًا من فهم
أي شيء مما يتلوه عليه معلمه، اللهم إلا أن يحفظ بعض كلمات مثل: ضرب زيد،
وقتل بَكر عَمرًا، وتأبَّط شرًّا، وقال رحمه الله تعالى، إلخ.. هذا مبلغ ما يصل
إليه الطالب من اختلافه إلى دروس النحو في سنته الأولى - وأريد قبل أن أسلك
بالكلام إلى دروس الفقه أن أقول: كنت أود أن أطلعك على جميع ما يشتغل به
الطالب من الكتب على المذاهب الأربعة إلا أني لا أرى في استقصائها كبير فائدة
بل الأحسن أن أفصل كتب مذهب واحد، واخترت أن يكون الحنفي لأنه الأشهر،
وإن لم يكن الأكثر، ثم أنت تقيس ما بقي من الكتب في المذاهب الأخرى عليه لما
بينهما من المشاكلة التامة في صناعة التأليف وأسلوب التحرير.
وما حصل عليه في سنته الأولى من النحو يحصل على ما يشاكله في الفقه،
وأول كتاب في النحو يسمونه الكفراوي وما يقابله من الفقه يُسَمَّى مراقي الفلاح.
أما الكفراوي فقد وضعه صاحبه شرحًا لمتن صغير اسمه الآجُرُّومِيَّة، مشوش
العبارة مختصرًا جدًّا.
وأما مراقي الفلاح فهو كتاب يقتصر من الفقه على العبادات فقط وهو على
ذلك مجلد ضخم سلك به مؤلفه مسلك الإسهاب والإطناب. على أنه على ما به من
التطويل يعد أحسن كتاب في الفقه هناك. وقصارى القول أن الطالب يقطع شهور
سنته الأولى كلها ولا يعلق بذهنه ما يستحق أن أذكره لك. وإنما هي كُليمات
يسمعها فتمر عليه مر الخيال الساري - ثم يدخل في سنته الثانية وهو على هذه
الحال فيأكل أيامها وهو بالحيرة والذهول لقصور ذهنه عن إدراك أيّ شيء مما
يسمع أو يقرأ. وكثيرًا ما يلحق الطالب أو أهله القنوط من النجاح فيخرج من هناك
ليحترف. ولا كتب يحضرها في سنته الثانية على الغالب إلا ما أمضى فيها سنته
الأولى وسيره فيها لا يتميز عن السنة الفائتة إلا بكونه وصل إلى أن يعرب جملاً
بسيطة معلومة حفظ إعرابها حفظًا على غير فهم ولا تفكر. ويعرف بعض أسماء
الأئمة وشيء من الاصطلاحات الفقهية في الفقه.
ثم يتدرج من هاتين السنتين إلى السنة الثالثة، وفي أولها يكون قد أثر في ذهنه
كثرة ما يرد عليه من تعقيد الجمل وتشويش العبارات تأثيرًا يحمله على الجلد والتصبر
على تلك الأساليب، وربما فهم إذ ذاك بعض الجمل بعد أن ينصب نفسه ويتعب فكره
كل التعب وينتقل حينئذ من الكفراوي إلى كتاب يسمونه (الشيخ خالد) وهو كتاب
أصغر في الحجم من الكفراوي وأسهل منه عبارة، ولكن يظهر أن سهولته لم ترُق
للأشياخ هناك فانبرى له بعضهم وعلق عليه حواشي من المفروض على الطالب
الأزهري أن يكد ذهنه في فهمها ولم أر - علم الله - كتابًا يكد الفكر ويتعب القارئ في
فهم عباراته المشوشة المضطربة مثل ذلك الكتاب. ويقابل هذا بكتاب من الفقه في
هذه السنة كتاب (الطائي) أخو تلك الحاشية في فساد العبارة وسماجتها وقبح
تحريرها ركب به مؤلفه أسلوبًا لم أر ما يشاكله في كل ما وقع لي من مؤلفات العرب
فهو يحذف ما يلزم إثباته ويكتب ما من حقه الحذف ويؤخر ما له التقديم، ويقدم ما
من شأنه التأخير.
وأعجل إليك قبل أن أرتقي إلى ذكر الكتب الفقهية الكبيرة ببيان أن هذا
الطالب الضعيف يفاجأ في هذه المدة بتلك الأبواب الطويلة المحشوة بالخلاف
وتضارب آراء الأئمة فيما لا يعود بأقل فائدة على التلميذ، ولا ينتظر أن تكون منه
فائدة لغيره مثل أبواب العتق والرق، إلخ. وهناك أبواب أخرى فتحها نافع ولكن
توسعتها ضارة؛ لأن مؤلفي تلك الكتب خرجوا بها عن دائرة التشريع إلى بيداء
واسعة من الخيال المحض فلا تكاد تنظر في باب من أبواب الطلاق مثلاً حتى ترى
الكثير من الصور الغريبة النائية عما يقصد الشرع في كتاب الله الحكيم وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم وما جرى عليه أصحابه وأئمة السلف في الصدر الأول من
الإسلام.
على ما قدمت ينتهي التلميذ من دوره الأول، ولو أتي بغلام سليم الفطرة إلى
معلم حكيم في التعليم وأخذ يملي عليه كل يوم قليلاً من النحو والفقه ويفهمه إياه حق
التفهيم لبلغ في ثلاثة شهور من التحصيل إلى أضعاف ما يبلغه طالب الأزهر في
ثلاث سنوات.
الدورالثاني: إذا خرج الطالب من هذا الدور وهو على ما مر بك وأخذ
يدخل في الدور الثاني كان أول شيء يبدأ به أن يضم إلى درسي النحو والفقه درسًا
أو درسين في التوحيد أو المنطق أو البلاغة أو العَرُوض، واختيار الطالب أي فن
من هذه الفنون أمر موكول إلى المصادفات التي تسوقه إلى أي فن منها، وكثير من
الطلبة لا يمد عينيه إلى تلك العلوم إلا بعد مضي ست سنوات، ولا أريد أن أذكر لك
الآن ما هي هذه الكتب وما يستفيده الطالب منها، بل أدع ذلك لفرصة أخرى وآتي
لك قبل ذلك على وصف ما يشغل به من الكتب في العلمين الأصليين عندهم الفقه
والنحو.
وأول كتاب يفتحون به السنة الرابعة في الفقه كتاب يقال له: (منلا مسكين)
يقضي فيه الطالب على الغالب سنتين، ومنلا مسكين هذا كسائر ما تقدم من
الكتب محشوّ بالخلافات على غير جدوى والتعمق في فروع تنقضي الأعمار، ولا
تقع، ولا يُحتاج إليها، غير أنه يمتاز عن تلك الكتب بالخطأ فيما يورده من تَقول
أئمة المذاهب الأخرى في معترض الرد عليهم وتزييف أقوالهم، وهو ما لا يكاد
يخلو منه كتاب أو باب من الأبواب. بعد أن يُتمم المسكين (منلا مسكين) يأخذ في
تلقي كتاب بعده يقال له: (العيني) ، وهو كتاب بلغ به صاحبه حد النهاية من
الخطأ والغلط والتمحل في تزييف مذهب الإمام الشافعي واختراع الصورة الفقهية،
ولا يكاد يأتي الطالب على آخره وفي صدره شيء من جوهر العلم، اللهم إلا تلك
الصور الذهنية والمسائل الخيالية والمماحكات اللفظية، وحفظ أسماء أغلب من
اشتغلوا بهذا الفن لكثرة ما يرد من أسمائهم في صدد الخلاف. وإن تعجب فعجب
بل ألف عجب اتفاق أكثر جماعة الأزهر وجل مشايخه على استحسان هذا الكتاب
وامتداح كل من حذا حذوه في صناعة التأليف. وعندي أن ذلك كافٍ لبيان ما هم
عليه من الذكاء والنيل، وما وصلوا إليه من العلم والفضل. ويشتغل الطالب فيما
يقابل ذلك من النحو في الدور الثاني بثلاثة كتب: الأزهرية والقطر والشذور، أما
الأزهرية فكتاب سهل العبارة اقتصر من النحو على المبادئ إلا أنه مبتلى كإخوانه
بحاشية شط فيها مؤلفها في أغلب المواضع عما هو بصدده. وأما كتابا القطر
والشذور فكلاهما درة متلألئة بين أطمار بالية ألفهما ابن هشام رحمه الله، غاية في
حسن العبارة وانسجام الأسلوب، لم يترك قاعدة يحتاج إليها الطالب إلا أتى عليها
في هذين الكتابين. ولو اقتصر الأزهريون على قراءتهما متنًا مجردًا من الحواشي
والتقارير لحصل الطالب منهما على الغرض المقصود من النحو. ولكن الأمر على
عكس ذلك فقد وضع بعض الأشياخ على كل كتاب حاشية لم يقع طرفي حتى اليوم
على عبارة أبرد ولا أسمج من عبارتها، وقد سلك بها طريق التعسف والتعقيد حتى
صارت سجفًا يحول بين الطالب وما توخى بيانه المؤلف رحمه الله. ومن غرائب
الاتفاق أن وقعت في يدي اليوم حاشية القطر فكانت أول جملة وقع طرفي عليها من
غير قصد ما كتبه صاحبها تعليقًا على بيت أورده المؤلف وهو:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البِلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
(قال المحشي) أَلا: حَرْفُ استفتاح، واسلمي: فعل أمر، وميّ: اسم امرأة،
والبلى مقصور مكسور، المراد به الاندراس والفناء. أي: اسلمي وإن كنت قد
بليت. ثم قال بعد كلام واعتراض على الشاعر: إنه لم يحترس لأن دوام المطر
يخرب الدار. وأجيب بأنه قدم الاحتراس في قوله اسلمي وبأن ما زال تقتضي
ملازمة الصفة للموصوف مذ كان قابلاً لها على حسب قابليتها، ثم قال وقد ضمن
بعضهم هذا البيت حيث قال:
إليك اشتياقي يا كنافة زائد ... فما لي غناء عنك كلا ولا صبر
فلا زلت أكلي كل يوم وليلة ... ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر
(والكنافة) أشهى الحلوى للمصريين. هذا ما يشتغل به الطالب هناك في
مدة ست سنوات من النحو والفقه، وأقسم أيها الأخ أني لم أر حتى ساعتي هذه ممن
بلغ السنة السادسة وحضر تلك الكتب في النحو من يحسن أن يكتب سطرًا واحدًا أو
يقرأ جملتين بغير لحن وغلط، وأريد أن أختم هذه الرسالة الآن مقتصرًا على ما
ذكرت، وفي الرسالة الآتية ترى البقية الباقية. والسلام عليكم ورحمة الله.
__________(5/585)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة الكسائي في لحن العوام
ظفر بها الباحث الألماني (بركلمن) وطبعها في ألمانيا، وأهدى نسخة منها إلى
صديقنا أحمد زكي بك الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، فرأينا أن ننشرها في
المنار لما فيها من الفائدة للكتاب والطلاب وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. اللهم صلّ على محمد وآله الطاهرين،
هذا كتاب ما تلحن فيه العوام مما وضعه عليّ بن حمزة الكسائي للرشيد هارون
ولا بد لأهل الفصاحة من معرفته.
تقول: حَرَصت بفلان فتح الراء. قال الله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ
حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) . ولا تقول: تحرَص بفتح الراء. قال الله
تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ} (النحل: 37) .
وتقول: ما نقَمت منه إلا عجلته بفتح القاف، لا يقال غيره. قال الله عز وجل:
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} (البروج: 8) . وتقول: دعه حتى يَسْكُت
من غضبه بالتاء ولا يقال بالنون يَسْكُن [1] قال الله عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن
مُّوسَى الغَضَبُ} (الأعراف: 154) . وتقول: قد نَفِدَ المالُ والطعامُ بكسر الفاء
قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْر} (الكهف: 109) .
وتقول: عجزت عن الشيء بفتح الجيم ومنه قوله تعالى ذِكْرُه: {أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ} (المائدة: 31) وتقول: كسرت ظفُر زيد بضم الفاء
والظاء جميعا [2] قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (الأنعام: 146) . وتقول: قد صرفت فلانًا وقد صرف وجهه بغير ألف. ولا يقال
أصرفت، قال الله عز وجل: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} (التوبة:
127) وتقول: قد أَصْرَفَت الكلبةُ: إذا طَلَبَت المُعاظَلَةَ. وتقول: قد استدّت البِطانة
بكسر الباء [3] قال الله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: 118) وتقول لنا على المضيّ إلى فلان [4] بتشديد الياء قال الله
تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًا وَلاَ يَرْجِعُونَ} (يس: 67) وتقول: شكرت لك
ونصحت لك ولا يقال: شكرتك ونصحتك. وقد نصح فلان لفلان وشكر له. هذا
كلام العرب قال الله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة: 152) .
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} (هود: 34) . وتقول عَسَيْتُ أن
أكلّم زيدًا بفتح السين قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي
الأَرْض} (محمد: 22) . وتقول: قد أريتُ فلانًا موضع زيد، ولا يقال أوريته
فإنه خطأ. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} (طه: 56) وقال أيضًا:
{رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف: 143) وتقول: قد أوريت النار إذا
أشعلتها بالواو. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ} (الواقعة: 71)
وقال عديّ بن زيد في شاهد ذلك:
وطُفَُّ حديثَ السُّوء بالصمت ... إنه متى تور نارًا للعتاب تَأجَّجَا [5]
ويقال: وقع القوم في صَعُودٍ وهبوط وحَدُورٍ مفتوحات الأوائل وكذلك السَّحُور
سحور الصائم [6] والفَطور أيضًا على مثال فَعُول قال الله عز وجل:
{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} (المدثر: 17) وكذلك الرَّكوب. قال الله تعالى: {فَمِنْهَا
رَكُوبُهُم} (يس: 72) . وتقول شُدَّ ثوبَك وشُدَّ عليه بضم الشين قال تعالى:
{فَشُدُّوا الوَثَاقَ} (محمد: 4) وتقول: ذَرْهُ ودَعْه وذَرِ الأَمْر ولا يقال: وَذرْتُه ولا
ودَعْته قال الله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} (الحجر: 3) ولا يقال منه فعلته ولكن
تركته. وتقول: جَهدت به كل الجُهد، والجيم الأولى مفتوحة والثانية مضمومة.
قال الله: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} (التوبة: 79) وتقول: دمَعت عيني
بفتح الميم، وبخصت عينه بالصاد، ولا يقال: بخست بالسين [7] إنما البخس
والنقص أن تنقص الرجل حقه. وتقول: وَدِدْتُ أني في منزلي بكسر الدال.
الأولى قال بعض الأعراب:
أُحبُّ بُنَيَّتي وودِدت أني ... حفرت لها برابية قَبيرا [8]
__________
(*) وطف بكسر الطاء وضمها، وكسر الفاء وضمها وفتحها مع تشديدها.
(1) لم نر من عدّي سكت الغضب بمن ولم يستشهد له وإنما الشاهد في الآية معدَّى بعن وقد فسر (سكت) الزَّجَّاج وغيره بسكن وقيل إن الكلام على القلب أي سكت موسى عن الغضب وذكر الزمخشري الحرف في مجاز الأساس فقال: (وسكت عنه الغضب والحزن وكل ما له أثر ناطق) ففهم وجه الجوّز وقال السكاكي إنه استعارة تبعية وقرأ معاوية بن قرة في الشواذ (سكن) بالنون فهو ليس خطأ.
(2) هذه هي اللغة الفصحى ويقال ظفر بضم الظاء وكسرها مع سكون الفاء.
(3) في اللسان السّدد القصد في القول والوَفق والإصابة وقد تسدّدله واستدّ وبطانة الإنسان خاصته الذين يفضي اليهم بأسراره مأخوذ من بطانة الثوب.
(4) الجملة غير ظاهرة ولعلها في الأصل استفهام.
(5) كذا ضبط (طف) في الأصل والمعنى يقتضي أنه من المهموز والمعروف أطفأ النار ثم رأيت اللسان والتاج روياء (وأطف) وتأججا أصله تتأجج مجزوم وحذف التاء قياس.
(6) السحور ما يؤكل، وبالضم فعل الأكل وقت السحر ومثله الفطور.
(7) أنكر البخس بمعنى الفقء الأزهري والمصنف وأثبته الأصمعي وقال: إنه لغة كالبخز.
(8) كذا ضبطها الطابع ولا يصح ولعلها تصغير قبر وفي هامش النسخة المطبوعة لفظ (حَفِيرًا) وهو بمعنى القبر.(5/591)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(الصراط المستقيم)
كثرت شكوى الباحثين في الإصلاح - ورأسه إصلاح التربية والتعليم - من
كتب القرون المتوسطة وما بعدها وَوُعُوَرة مسالكها وصعوبة أسلوبها وعدم موافقتها
للتعليم فقيّض الله تعالى لهم من أنفسهم من يسعى في إحياء كتب السلف ليستعان بها
على إحياء اللغة والدين. ومن يشتغل بتأليف كتب جديدة يستعان بها على التربية
والتعليم. فبينا جمعية إحياء العلوم العربية تشتغل بطبع (المخصص) وتسعى
باستنساخ مدونة الإمام مالك وكتاب الأم للإمام الشافعي لتطبعهما، ومنشئ هذه المجلة
يشتغل بطبع (دلائل الإعجاز) بعد طبع (أسرار البلاغة) إذا بالشيخ أحمد زناتي
ناظر مدرسة القبة الخديوية وأستاذ العربية والدين فيها يؤلف الكتب القريبة التناول
في التعليم، القوية التأثير في علم الدين.
وأكبر مؤلفاته نفعًا، وأحسنها صنعًا، كتاب في علم الدين سماه الصراط
المستقيم، وقد جعله ثلاثة أقسام: قسم في العقائد وقسم في العبادات وقسم في الآداب
وفي كل قسم فصول في الواجبات الاعتقادية والعملية والأدبية. يبتدئ الفصلَ
بالآيات الكريمة الواردة في الواجب الذي يتكلم عنه فيه ثم يأخذ الحكم مما تهدي إليه
مع بيان معناها. فهكذا يجب أن تكون كتب الدين لتطمئن بها القلوب، وتؤثر في
النفوس. وقد التزم في الكتاب بيان أسرار العبادات والآداب الدينية، ومنافعها
الدنيوية والأخروية، وبعد فراغ المؤلف من كتابه عرضه على الأمير العباس - أيده
الله تعالى - فسُرّ به وأمر بأن يطبع على نفقة الخاصة الخديوية، فطبع في المطبعة
الأميرية طبعًا متقنًا على ورق جيد، وجعل في جانب كل صفحة منه جدولين يذكر
في أحدهما بإزاء الآيات القرآنية التي افتتحت بها الفصولُ اسم السورة وفي الثاني
عدد الآية، ولو كان هذا البيان عامَّا لجميع الآيات القرآنية في الكتاب لكان النفع أتم.
وصفحات الكتاب 400 وثمنه 12 قرشًا صحيحًا.
* * *
(الهداية إلى الصراط المستقيم)
اختصر المؤلف كتاب الصراط المستقيم بكتاب سماه بهذا الاسم، وهو مثل
الأول في ترتيبه وأسلوبه إلا أن حجمه نصف حجمه، والغرض من الاختصار أن
يكون المختصر كتاب تعليم يرتقي منه التلميذ إلى المطول، ويهتدي بتلقي هذا دراسةً
إلى فهم ذاك بنفسه. وقد طبع الكتاب الثاني على نفقته الخاصة أيضًا وفق الله مولانا
الأمير إلى ما فيه إحياء العلم والدين. وثمنه ثمانية قروش صحيحة، فَنَحُثُّ كل
من يطلب فهم الدين على مطالعة الكتابين.
* * *
(حجج القرآن)
كتاب من أجل ما كتب علماء الإسلام في خدمة الدين للإمام أبي الفضائل أحمد
ابن محمد بن المظفر بن المختار الرازي جمع فيه الآيات القرآنية التي تحتج بها
الفرق المفترقة من الإسلام في المسائل المختلف فيها بينهم ليعلم الناظر في
الحجج مجتمعة لديه. ممثلة أمام عينيه، أيها أحق بالقبول. وأدل على المدلول،
وقد ذكر في فاتحته أن أصل الفِرَقِ ثمانٍ: الجبرية وفي مقابلتها القدرية، والمرجئة
وفي مقابلتها الوعيدية، والصفاتية وفي مقابلتها الجهمية، والشيعة وفي
مقابلتها الخوارج. قال: (ومن هذه الفرق الثمان تشعبت الفرق الثلاث
والسبعون) أي التي ورد بشأنها الحديث المشهور. وأبواب الكتاب ثلاثون بابًا في
كل باب فصول كثيرة جمعت المسائل بدون أن يطلع على هذه الآيات التي يحتج
بها كل فريق على رأيه، ولا نعرفها مجموعة في غير هذا الكتاب. لهذا نقول: إن
إحياء هذا الكتاب خدمة جليلة للإسلام؛ فجزى الله الشيخ أحمد عمر المحمصاني
الأزهري خير الجزاء أن طبعه ونشره بين الناس بثمن بخس وهو قرشان صحيحان.
ومن طلبه من الخارج فليرسل مع الثمن قرشًا لأجرة البريد، وهو يوجد في إدارة
المنار بمصر وفي مكتبة هندية ومكتبة المليجي ومكتبة الرافعي ومكتبة المؤيد
ومكتبة الهلال.
* * *
(حياتنا التناسلية) أو (دليل العازب وطبيب المتزوج)
كتاب يدل اسمه على موضوعه، مؤلفه الطبيب سعيد أبو جمرة الذي تلقى
الطب في المدرسة الكلية ببيروت وأتمه في (كلية ماريون سمس) في الولايات
المتحدة، وهو ببحث عن أعضاء التناسل في الذكور والإناث وما يعرض لها
من العلل والأمراض قبل الزواج وبعده. وعبارته سهلة يفهمها كل قارئ ولا
غنى لقارئ عنها، فإن أكثر الناس عرضة للأمراض والأدواء التي تتولد في هذه
الأعضاء أو في البدن كله من استعمالها فيما يحرّمه الدين والطب (وكل ما ثبت
ضرره طبًّا فهو محرم شرعًا) ومن ذلك العادات الضارّة التي تكون من الشبان في
حال الانفراد ويحسبونها هينة وما هي بهينة، وإنما هي علة العلل والأدواء
والأمراض القاتلة. ولو علم الناس ما وراءها لأعانهم العلم على مغالبة الشهوة،
ومحاربة اللذة؛ لأنه هو الركن الركين، بعد تربية الدين، وأين التربية الدينية من
قوم يذكر أطباؤهم ومرشدوهم عجائب صنع الله تعالى وحكمه وآياته في الآفاق
وفي أنفسهم فيسندونها إلى شيء مجهول يسمونه: الطبيعة، ولا يسندونها إليه
جلّت قدرته كما فعل صاحب كتابنا هذا.
وإننا لا نرى في هذا الكتاب غير هذا العيب. ونقول على كل حال: إنه ينبغي
لأهل كل بيت اقتناء هذا الكتاب ومطالعته والاستعانة به على تربية الأولاد. وهو
مطبوع في مطبعة الهلال وعدد صفحاته مئتان ونيف وثمنه 12 قرشًا مصريًّا،
ويطلب من مكتبة الهلال بمصر.
* * *
(نيل الأرب في موسيقى الإفرنج والعرب)
الموسيقى فن من الفنون التحسينية يرتقي في الأمم بارتقاء المدنية
والحضارة ويتدلّى بتدليهما. والميل إليه طبيعي في الإنسان بل الميل إلى حسن
توقيع النغم معهود في الحيوان الأعجم. ولقد كان للعرب حظ منه أيام مدنيتهم
فذهب بذهابها. ولما دالت الحضارة إلى الأمم الغربية ارتقى عندهم هذا الفن حتى
صار ركنًا من أركان الفنون الحربية، كما أنه ركن من أركان التربية النفسية،
وكان من موضع العجب أن المصريين اشتغلوا بتقليد الإفرنج من زمن طويل،
وأخذوا عنهم كثيرًا من علومهم، ولكنهم لم يضعوا لنا كتابًا مصنفًا أو مترجمًا في فن
الموسيقى حتى ظهر هذا الكتاب في هذه السنة لمؤلفه أحمد أفندي أمين الديك. ومن
عرف المؤلف يحكم بأنه إنما ألف هذا الكتاب بباعث طبيعي، وشعور بأن قومه في
حاجة إلى هذا الفن، وأنه أراد أن يكون البادئ بسدّ هذه الحاجة. وإنما قلنا هذا؛ لأنه
شاب بعيد من التفرنج ومذاهبه متمسك بالدين عملاً وآدابًا على أن الشائع في قومه
أن الموسيقى من الفنون المذمومة في الدين، وما المذموم في الدين إلا هذا التخنث
الشائع عندهم في الغناء، أما الموسيقى فهي نافعة في الحرب والآداب والأخلاق،
هذا وإننا لا نحكم على الكتاب من الجهة الفنية لأننا نعترف مع الخجل بأننا لا
نعرف الفن. والكتاب مطبوع بالرسوم وأشكال (النوتة) بالمطبعة الأميرية
وثمنه خمسة قروش.
* * *
(الاتجار بالنساء)
هي القصة العاشرة من (روايات مسامرات الشعب) معربة بقلم حسن
أفندي توفيق الدجوي من ضباط البوليس ومعرِّب كتاب (التربية الحديثة) وقد صدّر
القصة صاحب مطبعة الشعب بكلمة للصحافة المصرية يطالبها فيها بانتقاد هذه
القصص التي يقصد بنشرها خدمة الأمة، وينتقد تقريظ الجرائد بمدح كل كتاب أو
قصة تنشر وتمني الرواج لها.
الانتقاد واجب وإن كان يسيء ناشري الكتب كما جربنا. وإذا لم يسمح وقت
أصحاب الجرائد وكتابها بقراءة الكتاب كله أو بعضه، فلا يجوز لهم تقريظه؛ لأن
التقريظ حكم لا بدّ فيه من العلم بالمحكوم عليه. ولقد طالعنا قصة الاتجار بالنساء
هذه ظنًّا منا أن الذي حمل ناشرها على تعريضها للنقد هو ثقته بأنها تعلو عليه لما
فيها من الإرشاد النافع فألفيناها مشحونة بأخبار الفسق والفحش والكيد وسفك الدم
والانتقام. ومثل هذه الحوادث التي تشرحها القصة يؤثر الكلام عنها في النفس أسوأ
تأثير ويكون غذاء رديئًا للنفوس المستعدة للشرور؛ لأنها لم تتربَّ تربية صالحة.
وأين التربية الصالحة في هذه البلاد؟
يحتج ناشرو أمثال هذه القصة بأنها لا تخلو من بيان سوء عاقبة المجرمين.
ونحتج عليهم بأن الكتابة في تمثيل عواقب الجرائم والمآثم يشترط فيها أن يكون ما
يكتبون فيه شائعًا فيمن يكتبون لهم بحيث تفيدهم الكتابة عظة وعبرة، ولا تزيدهم
علمًا بوجوه المنكرات وطرق السيّئات؛ لأن ما لا شبهة فيه أن كل قارئ يوجه فكره
إلى ما يناسب طباعه ورغائبه من الكلام ويغفل عن غيره. والجرائم المشروحة في
هذه القصة لم تأت على الشرط بخلاف قصة (الحال والمآل) التي قرظناها من قبل
فإنها جاءت على الشرط؛ لأنها ذكرت منكرًا معروفًا فاشيًا في مصر وبينت سوء
عاقبته لذلك أثنينا عليها وأنكرنا على هذه ولعل كلامنا في الموضعين يكون حاملاً على
الرغبة عن الضارّ إلى الرغبة في النافع والله الموفق.
* * *
(روايات الحدّاد)
أحسن القصص التي تنشر في مصر لهذا العهد عبارة ما عربه فقيد التحرير
نجيب أفندي الحداد وقد أُهديت إلينا قصتان منها منذ أشهر أضعناإحداهما واستعار
الأخرى أحد أصدقائنا ولم يُعدها فكتبنا هذه الكلمة لئلا يتوهم المُهدي أننا أغفلنا
تقريظهما إجحافًا بحقه.
__________(5/593)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(ألقاب التعظيم)
سَرَتْ إلى الكتابة العربية وإلى أهل العربية عادةٌ من عادات الأعاجم
المفضولة، وهي إضافة ألقاب التعظيم والتبجيل إلى أسماء الأشخاص عند ذكرهم
في القول والكتابة. ولقد أسرف الناس في هذه الألقاب حتى ألحقوا بها المفضول
بالفاضل، وساووا العالم بالجاهل، وإننا كنا نألم لاتباع عادة الجرائد في ذلك على
تحرّينا القصد فيها، ونرى النفس تنزع إلى اتباع سلفنا فيه، ولكننا نرجئ ذلك حتى
كان في هذا الجزء أن كتبنا نبذة من رسالة الكسائي، وذكرنا في ترجمتها اسم طابعها
واسم المهداة إليه مقرونين بألقاب التعظيم المألوفة، ثم لم نلبث أن نقلنا اسم الكسائي
وهو من أئمة العلم وهارون الرشيد وهو من أعظم الخلفاء بعد الراشدين ولم
نرهما مقرونين بلقب. فتنبهت النفس إلى ما كانت تنزع إليه وأمرت بترميج تلك
الألقاب التي كانت كتبت فرُمِّجَتْ. ونحن بعد اليوم لا نذكر مع اسم أحد إلا اللقب الذي
يميزه في نفسه أو صنفه، كالشيخ والبك والأفندي.
ومن كان غير معروف للقراء نعرّفه بجملة خبرية لا بألقاب مفردة ينعت به نعتًا
وتنظم مع اسمه عقدًا. ويدخل في هذه القاعدة أساتذتنا وأمراؤنا. فإذا نقلنا قولاً عن
أستاذنا الأكبر (ولفظ الأكبر هنا بيان للواقع) نقول: قال الشيخ محمد عبده أو
مفتي الديار المصرية. وإذا كان الكلام عن الجمعية الخيرية نقول: قال رئيس
الجمعية. ولكننا إذا أسندنا إليه قولاً من غير ذكر اسمه فإننا نشير إليه بلقبه الذي
اشتهر وهو (الأستاذ الإمام) ، وإنما سبق لنا تعريفه بلقبين لأن لفظ (الأستاذ)
وحده ينصرف في كتب الكلام والأصول إلى الشيخ أبي إسحق الإسفرايني ولفظ
(الإمام) وحده ينصرف إلى فخر الدين الرازي، ولفظ (الشيخ الإمام) أطلقه تاج الدين السبكي في كتبه على والده الشيخ تقي الدين. فعندما استقر رَأْيُنَا على
أن نجعل لأستاذنا الذي يكثر نقلنا عنه لقبًا مختصرًا يغني عن ذكر اسمه
ووظيفته اخترنا هاتين الكلمتين لأنه لم يشتهر بهما أحد. وقد عرف ذلك قراء
المنار في جميع الأقطار لذلك نقره بشرطه.
***
(كلمة في المنار) قد كتبنا مرات متعددة على غلاف المنار بأنه لا حقّ
للمشترك أن يطلب جزءًا من المنار لم يصل إليه بعد صدور ما بعده. ثم رأينا
بعضهم يحتج بأنه إذا تأخر جزء يتوهم أنه لم يصدر فلا يعرف أنه قد صدر إلا بعد
وصول ما بعده إليه. لذلك رأينا أن نمدّ في الوقت فنجعله عشرين يومًا في القطر
المصري. فمن طلب الجزء الذي يصدر في أول الشهر مثلاً في الحادي والعشرين
منه فما بعده فعليه أن يرسل ثمنه 25 مليمًا سواء كان قد صدر الجزء الذي بعده أم
لا. ومن وصل إليه الجزء فأضاعه أو وهبه فلا يجوز له أن يطلب بدله إلا بالثمن.
وربما يعدّ بعض القراء هذا تشديدًا في موضع التساهل، ولكنه إذا علم أن الطالبين
للأجزاء المفقودة كثيرون جدًّا، وأن كل جزء نرسله يُضيّع علينا مجموعة سنة كاملة
فإنه يعذرنا لا محالة.
***
(سكة الحديد الحجازية) أخبرنا من شاهد العمل في هذه السكة واختبره
بنفسه أن الهمة المبذولة فيه عظيمة، وأن الآلات والأدوات الحديدية والخشبية التي
في بيروت والشام كافية لإيصال الخط إلى مكة المكرمة، وأن مهندسًا ألمانيًّا هناك
قال: إن هذا الخط أمتن وأحسن من خطوط الحديد في إنكلترا، ومع هذا كله، لا
بد لإتمام العمل من أربعة ملايين جنيه. وهو مبلغ لا يرجى له إلا سخاء صاحب
المشروع الذي يخلّد له بتمامه على يديه أشرف الذكر وهو مولانا السلطان، وفقه
الله تعالى لما فيه خير الأمة والدولة. ومما ينتقده جميع الذين شاهدوا العمل أمر
التضييق على العسكر المشتغلين به، فإنهم لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء والدواء
وهم يعملون بجلد وثبات حيّر المهندسين الأوربيين والوافدين المتفرجين، وقد علمنا
أن الرئيس الذي يدير العمل من خير الناس فعسى أن يوفق للمحافظة على صحة
أولئك الجنود المساكين.
***
(الأذان السلطاني) بلغنا أن شيخ الجامع الأزهر أنكر في جامع القلعة هذا الأذان في الليلة السابعة والعشرين من رجب التي احتفل فيها بقراءة
قصة المعراج، وكاشف بإنكاره مفتي الديار واتفقا على النهي عنه فَنَهَيَا فعسى
أن يؤثر إرشادهما في محو هذه البدعة السيئة.
***
(نصيحة للقارئات ومن يسمع من الأميات)
إن من خلائق الأنثى وسجاياها ما هو عون للسفهاء على إغوائها وهو أنها
تحب دائمًا أن تكون موضع الإعجاب والاستحسان. ولذلك يتملق إليها
المبصبصون ويخادعونها بالمدح (والغواني يغرهن الثناء) حتى يستميلوها إليهم
ويهينوا شرفها بالمغازلة على الأقل. ومن الضعف في الأنثى أن تعتقد أن كل من
رمى ببصره إليها يكون مستحسنًا لها. ناهيك بصاحب التحديق ونظر الترنيق وهو
نظر العاشق المستهترعادة والمبصبص المتعلق اختلابًا وخداعًا فإنه يغر الفتاة الغرَّ
ويقع من قلبها موقع السهم الذي سقي بالسم، وقد ورد في الحديث: (النظرة
سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفًا من الله آتاه الله إيمانًا يجد حلاوته في
قلبه) رواه الحاكم وصحح إسناده.
بلغ النساء عندنا من الغرور بتطلّع السفهاء إليهن أنك تجد نساءنا يتلفتن في
الأسواق ماشيات. وينحنين وهن في المركبات، وقد يكنّ مع هذا من المحصنات
النزيهات، وإن هو إلا حب توجيه الأنظار، وإعجاب النظار، وترى نساء الإفرنج
يمشين قاصرات الطرف، مستقيمات العطف، تحسبهن في أدبهن الظاهر من
الملائكة المقربين، وإن كان فيهن من هن أغوى من الشياطين، وما ذلك إلا لأنهن
تربين على أدب الاجتماع، وتعلمن ما يبعد بهن عن سرعة الانخداع، وإن الظهور
في المنكر ليزيد في ضرره لما فيه من إغواء الناس وتسهيل سبله على من لا
يعرفه، ولذلك ورد في الشرع أن المعصية الصغيرة تكون كبيرة بالمجاهرة،
وترى القوانين الوضعية عند الأمم كلها تحظر الجهر بما ينافي الآداب حتى ما
تبيحه منه في السر.
السبب في هذا التبرّج والتغنج، والتشوف والتقصف، والانثناء والانحناء،
الذي يزيد في فساد السفهاء، هو حبُّ الأنثى لأن تكون زينة في الأعين وشغلاً
للقلوب، وإنها لتكون كذلك في جميع الأعين وجميع القلوب إذا ظهرت بمظهر
الكمال والصيانة ولم تلتفت لكلاب المبصبصين ولم تكلمهن إذا تعرضوا لمكالمتها
فإن هذه الأماديح التي تسمعها منهم تنقلب إلى ضدها بعد أن تبعد عنهم فلا تسمع ما
يقولون، فإن سفهاء الناس وغوغاءهم لا يزالون يعرفون قيمة الفضيلة ويحترمون
أهلها.
هذا اللين في العطف والخضوع في القول قد أطمعا أصحاب القلوب المريضة
في كل امرأة تمر في الطريق فلا تكاد تسلم من سفههم أو عبثهم امرأة، ولا يعهد مثل
هذا المنكر في مدينة ولا قرية مثلما يوجد في هذه البلدة الظالم أهلها. وإنا لنعجب
من ضعف غيرة الرجال التي أباحت لهم التساهل مع نسائهم حتى أباحوا لهن كل
هذا، إننا ليسوءنا جدًّا أن نرى البنات ينشأن على مثال أمهاتهن وعماتهن في هذا
اللين المذموم، لا فرق بين المتعلمات منهن والجاهلات. وإننا ليحزننا أن نرى
التلامذة الذين هم محل الرجاء، مستنين بسنة أولئك السفهاء، حتى إنك لا تكاد تجد
فرقًا بين من نشأ في المدارس ومن نشأ في الطرق والشوارع. رأيت من أيامٍ تلميذًا
يمشي مع إخوانه في السوق خارجين من المدرسة فمر بامرأة فوضع يده على
وجهها وعبث ببرقعها ولم أر مثل هذه الوقاحة من غوغاء الحشاشين، فهل يغر
البناتَ تَطَلُّعُ أمثال هذا التلميذ إليهن وتصديه لإغوائهن؟ وهل كان مغرمًا بتلك
المرأة التي عبث ببرقعها؟ أفكان الغرام هو الحامل له على إهانتها في السوق؟
وهل مثل هذا الغرام - إذا فُرِضَ - مما يرغب فيه.
إنَّ ما تقدم من القول هو مقدمات النصيحة التي أقدمها للقارئات؛ والنتيجة
المقصودة هي أن الإنسان يؤخذ دائمًا من جهة ضعفه، ومن الضعف في الأنثى
الانخداعُ لمن يظهر لها الحب والاستحسان. وأن الرجال دائمًا يخادعون النساء
حتى إن أحدهم ليثبت على التظاهر بالحب زمنًا طويلاً ليُصدّق. فيجب على الفتاة
المتعلمة أن لا تصدق أحدًا من هؤلاء الشبان الذين يظهرون لها الحب والغرام فإن
أحدهم ليخاتل كل فتاة يراها يمثل هذه المخاتلة. ولو كان صادقًا فيما يظهر من
الإعجاب بمحاسنها والرغبة في الاقتران بها، وكان أهلاً لذلك لكان
يغار عليها من نفسه ومن غيره، فلا يعاملها بهذه المعاملة من البصبصة والمغازلة،
ولكنه يزيد على هذه الإهانة التي تكون منه في كل طريق، بأن يحدّث بها كل
صديق ورفيق.
***
(الحسود المعمّم) كتب ذو عمامة إلى صاحب الجامعة يغريه بالطعن في
صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) لأن صاحب العمامة
حسد صاحب هذه المقالات على ما أوتيه من سعة العلم وقوة التأثير وعلوّ المكانة
فحاول أن يطفئ نار حسده بذَنُوب من ذنوب ذلك الطعن الذي أمر به ولكن صاحب
الجامعة أعقل من صاحب العمامة، وأعلم منه بقيمة تلك المقالات. وإن أنكر من
فاتحتها ما عرف حكمته في أثنائها وخاتمتها، وإنه ليعلم أن مثل صاحب العمامة
معه كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، إلخ. فهو لا يراه إلا بعين النقص ولا
يعتقد فيه إلا ما يليق به في رقة عقله ودينه، ولا يرضى لنفسه أن يكون مع
صاحب العمامة كما كان صاحب الحمارة، على أن الطعن في مثل هذه الحال على
مثل ذلك المقال، لا يزيد المطعون فيه إلا احترامًا وإجلالاً. ولكنه يسلّي الحسود
لأن عقله صغير، وفكره قصير.
***
(مفكرة مطبعة الموسوعات) اخترع الإفرنج هذه الدفاتر التي يسمونها
المفكرة أو المذكرة لأصحاب الأشغال الكثيرة من الحكام والتجار والمحامين. ولما
رأت مطبعة الموسوعات أن المصريين يشترون هذه الدفاتر الإفرنجية ويتعبون في
كتابة التاريخ في كل صفحة منها بالعربية أصدرت في هذه الأيام (مفكرة) عربية
لسنة 1903 وضمّت التاريخ الهجري في كل صفحة منها إلى التاريخ المسيحي،
رجعت في آخرها جداول لتحويل النقود فجاءت خيرًا من المفكرات الإفرنجية.
وجعلت ثمن النسخة 12 قرشًا ونصفًا صحيحًا فهي أرخص من المفكرات الإفرنجية
وتطلب من المطبعة، والمنتظر أن تصادف رواجًا عظيمًا.
__________(5/597)
16 شعبان - 1320هـ
17 نوفمبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد توفيق البكري
__________
المستقبل للإسلام
بقلم صاحب السماحة السيد الشيخ محمد توفيق البكري
شيخ مشايخ الصوفية [1]
(الفصل الأول في رأس مال الإسلام)
(المكان والسكان)
إن مستقبل الأمم يتوقف في الحقيقة على أمرين طبيعيين هما كثرة السكان
وخصب المكان، فإذا استوفت الأمة حظها من هذين الأمرين عظم مستقبلها بقدر ذلك
مهما حرمت في الحال من الأسباب الأخرى الكسبية كالعلم والأخلاق والقوانين
والحكومة وغير ذلك، فإن هذه جميعها يأتي بها دور الزمان وإن أخرتها آونة طوارق
الحدثان، ولذلك قال (مونتورو) و (تين) وغيرهما: إن مستقبل الصين أكبر
من مستقبل أية دولة أخرى، ومَن شَاهد رُقِيَّ اليابان وما كانت عليه الروسيا منذ ثلاثة
قرون، وما هي عليه الآن من ضخامة السلطان لا يشك في صواب ذلك القول
المتقدم. وقد أشار ابن خلدون إلى شيء من هذا حيث قال: إن اتساع نطاق الدولة
يكون بقدر اتساع عصبيتها في الأصل. وقال الشاعر: (وإنما العزة للكاثر) . فإذا
تقرر ذلك علمنا أن مستقبل الإسلام كبير، وشأنه خطير. فإن حظه من هذين
الأمرين وافر، وقسطه متكاثر، وإليك البيان.
إذا تأمل المسلم في مصوّر الجغرافية يجد ثلاثة عوالم قد تقسمت الأرض وهي:
العالم الإسلامي في الوسط، والعالم المسيحي عن يساره، والعالم الوثني عن يمينه
على هيئة قلب وجناحين. ويرى أن قسط العالم الإسلامي من هذا الاقتسام عظيم،
ونصيبه جسيم، فهو يمتد في فسحة من الأرض بدؤها بحر الأطلنطيق، ونهايتها
رسيف الباسيفيك آخذة من حواشي سيبريا شمالاً إلى جزر المحيط جنوبًا، أقاليم
متصلة، وأقطار غير منفصلة، وأمصار متتاخمة، وأخياف متلاحمة، وبين ذلك
قصور وخيام، ودور وآطام، ووبر ومدر، وبدو وحضر، بقاعٌ هي أطيب
المعمور رقعة، وأمرعه نجعة، فيها النيل والفرات، وسيحون وجيحون، فيها
أوداء مصر، وسهول الهند وميطان الصين وسواد العراقين، وبطاح الأناضول
وجبالها، وريف فارس ورمالها، فيها مرقد النبي العربي الهاشمي، ووطن المسيح
ابن مريم، ومبعث موسى الكليم، ومهبط الوحي على جميع الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، إلى غير ذلك من هواء طلق، وماء عذب، وجوٍّ صحو، حسنات وراء
حسنات، تقصر دونها الأمصار، وتموت حسرة عليها الأقطار، ذهب بعض
مجوس الهند إلى لوندرة فقال له بعض أهلها: كيف أنتم تعبدون الشمس. فقال
المجوس: وأنتم لو رأيتموها لعبدتموها.
ثم إن هذه السعة في الأرض والبسطة في الخصب التي رزقها العالم الإٍسلامي
أصل كبير في نموّ أفراده وحسن حالهم إذ ارتباط المكان بالمكين في السعادة والشقاء
والقلة والكثرة أمر مقرَّرٌ في علم الاجتماع الإنساني.
قال (لوبون) : ما دامت الأرض القابلة للزراعة كافية للسكان يتأتّى لهؤلاء أن
يزيدوا عدًّا فيكثرون وينمون بالفعل فإن تعادلت موارد الأرض وعدد السكان بقي
هؤلاء على حالتهم لا يزيدون ولا ينقصون، فإن زاد عديدهم عن موارد الأرض وقعوا
في إفرة الشدائد والضيق وتواترت عليهم المصائب والأزمات إلى أن تأتي حروب
جارفة أو أوبئة قاشرة فتعدل الكفتين. هذه حقائق بسيطة ومع ذلك قد تغيب من أفهام
كبار الخواص وأشهر الكتاب فلا يفتأون يطلبون كل يوم زيادة السكان بأية وسيلة كانت
بلا مراعاة لما تقدم وقد وقع في مثل هذا الخطأ (جول سيمون) وزير معارف فرنسا
السابق على سعة علمه حيث قال في خطاب ألقاه على مجمع المعارف سنة 1868:
(إن من يمكنه أن يزيد سكان) فرنسا مليونًا من النفوس يفيدها أكثر مّمن يزيد
حدودها بعض فراسخ من الأرض بواسطة الحرب والدم بألف ضعف، وهذا كلام
يخلو من الصواب؛ لأن من يزيد مساحة فرنسا يكثر مواردها فيجعل الزيادة في
السكان محتمة. ومن شك في هذه الحقيقة أحلناه على قول أستاذ لا يشق له غبار في
هذا المضمار وهو (يبليج) الشهير قال: (قد اقتضت الحال زيادة السكان في بلدان
أوربا زيادة كثيرة غير طبيعية حتى اختلت النسبة بين عديدهم وبين غلاّت تلك
البلاد، فلا يمضي غير حقبة من الزمن حتى تعجز الأرض عما يفي بحاجاتهم مهما
أنهكوا قواها يختلف الأسمدة، وعندها لا يحتاج إلى نظريات علمية أو قياسات فنية
لإيضَاح الناموس الطبيعي الذي يأمر الإنسان بأن لا يغفل عن المحافظة على أبواب
رزقه ويعاقبه العقاب الأليم عند مخالفة ذلك. ولا يكون ثمة للأمم الأوربية من حيلة
ولا مخلص إلا أن تتفانى لتبقى فترى إذن أمثال مجاعات سنة 1316 وسنة 1317
وحروب بعد ذلك تليها حتى يحمل الأمهات جيف القتلى لإطعام أطفالهم كما وقع ذلك
في (حروب الثلاثين سنة) المعروفة، فكل ذي دُرية ورويّة دَقَّقَ النظر في أمر
ممالك أوربا ومستقبلها يجدها غير قائمة على أسس متينة بل على أسنة الإبر) .
اهـ
هذا، وربما ذهب بعض العرافين إلى أن طبيعة أرض الشرق مفسدة للهمم،
مقعدة للأمم، في تكون إذن هذه الأرضون من النعم بل من النقم، وهذا رأي تفنده
الأقيسة الصحيحة، والآراء النافذة، قال (فوليتر) في دحضه ما نصه: (نسأل
من يذهب إلى أن طبيعة الأجواء يتوقف عليها حالة الأمة وأخلاقها لما قال
الإمبراطور (جوليان) : إن الذي أعجبه من أهل باريس هو متانة أخلاقهم وأخذهم
بالجد والصلابة والسكون في طباعهم. وها هي أجواء باريس كما هي وأهلها فيها
الآن أخف أحلامًا وطباعًا من فراشة. أطفال في زيّ رجال، وصغار وإن كانوا
كبارًا، وهؤلاء المصريون الذين يصفهم لنا المؤرخون بقوة العزائم ومتانة الطباع
وعظم الفتوح أصبحوا الآن أمة رخوة ضعيفة العزائم، طعمة لكل آكل، ولِمَ لا
يوجد الآن في أثينا مثل (أناقريون) و (أرستطاليس) و (زوقسيس) ، ولِمَ
استعاضت روما عن (شيشيرون) وعن (قاطون) وعن (تتليف) قومًا بها لا
يحسنون أن يقولوا ولا أن يعملوا. أعظم أمانيهم ينحصر في أن يكون الزيت
رخيص الثمن لديهم. وقد كان من عادة (شيشيرون) الخطيب الروماني أن يهزأ
بالإنكليز ويتنادر عليهم حتى إنه كتب مرة في رسالة لأخيه (أقانتوس) الذي كان
ضابطًا مع قيصر في غزوته التي غزاها بإنكلترا يسأله مستهزءًا إن كان وجد ثمة
فلاسفة كبارًا أو رياضيين عظامًا. فهلا علم (شيشيرون) أنه نشأ بعده فيها أعظم
فلاسفة العالم ورياضيه تحت تلك السماء المظلمة بعينها. هذه كلها أمثلة تدل أن
ليس للإقليم أثر يذكر في ارتفاع الأمم وانخفاضها، بل العوامل الأخرى مثل الحكومة
أو الدين تفعل في ذلك أكثر منها بمائة ضعف.
كأن الله سبحانه وسعدانه، أراد أن لا تنزع هذه البلاد الجميلة من أيدي
المسلمين إذا أعجزهم الضعف يومًا ما عن صونها حتى يئوبوا إلى القدرة على
حفظها فجعلها شبه وقف عليهم، وذلك أن جعل وسطها الطبيعي غير صالح؛ لأن
تعيش فيه الأمم المتغلبة الآن وهي الأمم الأوربية، ولبيان هذا نقول:
قد تقرر في الطبيعيات أن الحيوان أو النبات أو الإنسان إذا نشأ في وسط
طبيعي لا يعيش في وسط آخر غير مماثل له، وأقيم على ذلك هناك البرهان.
وعندهم أنه كما لا يمكن للسمك أن يعيش في البيداء، ولا للناقة أن تدوم في الماء،
ولا للنخلة أن تنبت بين صخور الجليد، لا يمكن للإنكليزي أن يستوطن الهند، ولا
لابن للألمان، أن ينبت في السودان، قال (لوبون) في كتاب الفسيولوجي: (ذكر
بعض المؤلفين أن الإنسان يمتاز عن الحيوان بكونه يعيش في كل جوّ وعلى كل
أرض. وهذا خطأ عظيم، ووهم كبير، فقد أثبت التاريخ مرارًا أن أهل الشمال لا
يمكنهم العيش في أرض الجنوب. انظر إلى البربر من أهل الشمال وبلاد الجليد
الذين فتحوا أرض الرومان وسكنوا أقاليمها الحارة كيف لم يمضِ قرن واحد حتى
أفناهم الموت وأتى عليهم الفناء فلم يبق من الغوطيين واحد في إيطاليا، وهذه مصر
حكمتها عشرون أمة فأكلتهم وبقي الفلاح المصري كما هو على أرضه. وكذلك
عجز الرومان عن أن يستوطنوا أفريقية مع أنهم استوطنوا أسبانيا وأرض الجول
حتى جعلوهما بلادًا لاتينية بحتة. ولا ريب أننا سنلاقي في الجزائر ما لاقاه فيها
الرومان في سابق الزمان، فتهلك هذه الأرض ذراري فاتحيها ما لم يفعلوا كما يفعل
الإنكليز في الهند من إرسال أبنائهم ليتربوا في أوربا. وبالجملة: إن الإنسان إذا
اختلف وسطه الطبيعي هلك وخصوصًا إذا جاء من الشمال إلى الجنوب) . اهـ
جميع ما تقدم متعلق بالمكان أي مواطن الإسلام وبلاده. أما السكان وهم الأمم
المسلمة فحدث ولله الحمد عن حصى البطحاء، ورمال الدهناء، أو نجوم السماء،
كثرة آحاد، ووفرة أعداد، فَمِن هؤلاء في أفريقية ما ترى:
9000000 في مُراكش
4500000 في الجزائر
1500000 في تونس
1400000 في طرابلس
10000000 في مصر
6000000 في السودان المصري
4000000 في الصحراء الكبرى
13000000 في السودان الذي تحت حماية فرنسا
9000000 في السودان الذي تحت حماية إنكلترا وفي النيجر
5000000 في السودان الأوسط كواداي وباجرمي ونحوهما
1500000 في الكونغو
4000000 في توبو وقامرون
3000000 في الأوغندة
3500000 في الأريطرا والحبشة
30000000 في موزمبيق ومدغشقر والكاب والزنجبار وأوبوك وأفريقيا الوسطى
105400000 مجموع ما في أفريقيا
وفي أوربا ما ترى:
2500000 في تركية أوربا
700000 في البوسنة والهرسك
1000000 في البلغار والرومللي الشرقي
60000 في رومانيا
__________
4260000 المجموع
20000 في الصرب
10000 في الجبل الأسود
30000 في اليونان
2500000 في روسيا أوربا والقفقاس
__________
6820000 مجموع ما في أوربا
وفي آسيا ما ترى:
7000000 في الأناطول
4000000 في أرمينية
2500000 في العراق
2000000 في الشام
12000000 في جزيرة العرب
12000000 في العجم
10000000 في روسية آسيا
9000000 في أفغانستان
5000000 في بلوجستان
90000000 في الهند
1000000 في سيام
2000000 في الهند الصيني
45000000 في الصين
__________
197000000 مجموع ما في آسيا
وفي الأقيانوس ما ترى:
5000000 في فيلبين
40000000 في سوماطرا
370000000 في الجاوا
5000000 في بورنيو
90000000 في ماليزيا وغيرها من الجزائر.
__________
510000000 مجموع ما في الأقيانوس
فهذه ثلاثمائة وستون مليونًا من النفوس خلف لذلك السلف الذين يقول الله
سبحانه فيهم: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 29) .
وهذه الأمة الكريمة إن حُرمت الآن كثيرًا من أسباب العلم والعمل فإنه لم يزل
في أمزجتها آثار شريفة وصفات قويمة من أثر دينها وإرث سلفها تمتاز به على
كثير من الأمم. قال القسيس (إسحاق طيلر) : (إن الإسلام يمتد في أفريقيا
وتسير الفضائل معه حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة
والإقدام من أنصاره، ومن الأسف أن السكر والفحش والقمار تنشر بين السكان
بانتشار دعوة المبشرين) وقال (كونتنسن) : (يمتاز المسلمون في الصين على
مواطنيهم من الوثنيين برفعة في السجايا وشرف في الأخلاق قد طبعته في نفوسهم
ونفوس آبائهم وصايا القرآن بخلاف الوثنيين فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك) .
ومن أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة النفس فهو سواء في حال بؤسه
ونعيمه لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله. وهذه الصفة التي غرسها الدين في
نفوسها إذا توفرت معها الوسائل كانت أعظم دافع لها إلى التسابق إلى غايات المدنية
ورقيات الكمال. وإن أردت فَالمحْ بعقلك حال قوم فقدوا هذا اليقين، ماذا تجد من
فتور في حركاتهم وقصور في هممهم وخصوصًا إذا بغى عليهم الجهل فظنوا أنهم
أدنى الملل كطائفة الدّهير ومانك.
ثم إن هذه الأمم الإسلامية وإن اختلفت بهم البلدان وتباينت البقاع والميطان،
وتنوعت الأجناس وافترقت الألسنة فقد وحدتهم وحدة الإسلام وجمعتهم جامعة الدين
وهي جامعة كبرى تتلاشى أمامها الجامعات الصغرى وتُلْغَى الفروق فيكون جميع
المسلمين بها إخوانًا. قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية) فوطن المسلمين هو
مجموع الأمة الإسلامية في الدين وهو الذي قيل فيه: حب الوطن من الإيمان [2]
وليس المراد به حب التربة والمسكن والأهل والعشيرة، ولو كان كذلك لما كانت
الهجرة في الإسلام. ولما نطق الكتاب بالحث عليها والأمر بها. قال الله تعالى:
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (النساء:
100) فمن قال من المسلمين في أية بقعة من الأرض (وطني) فقد قال (ديني) .
وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) وقال سبحانه:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ولهذا ترى
المسلمين مهما تباعدوا أو تباغضوا لا تزال تعمل هاته إلى الجامعة عملها فيهم
يسرون لسرور بعضهم، ويحزنون كذلك، وإن افترقت بهم البلدان ما بين
المشرق والمغرب. وقد عظمت الصلابة في هذه الجامعة الدينية والرابطة الإسلامية
حتى سماها غيرهم الآن (تعصبًا) [3] .
على أن التعريف بالوطن على هذا النحو هو غاية ما ترقى إليه الأمم،
وتنبعث نحوه الهمم، قال أدمون ديمولان: والمهاجر من الإنكليز السكسونيين يشعر
دائمًا بأنه إنما يرحل عن بلده مستصحبًا لوطنه إذ هو يرى الوطن حيث يعيش
المرء حر ثم قال: (والنصر كل النصر للأمم التي وطدت أركان نظامها على
دعائم هذه الوطنية.
والتعريف بالجامعة أيضًا على مثال ما تقدم سيرٌ مع سُنة العمران، وذلك أن
أول اجتماع للإنسان كان على شكل جمعيات صغيرة جامعتها النسب كبني دار وبني
أسد وبني شيبان إلخ. ثم ارتقى إلى جمعيات أكبر من الأولى جامعتها الجنسية وهي
التي عليها الأمم الآن، ويقول العلماء: إنه سيرتقي على جنسيات كبرى واحدة
جامعتها الإنسانية، وترى الأمم تقرب من تلك الغاية النهائية بتأليف الأجناس
المتقاربة إلى جنس أعم كسعي الجرمان والسكسون والسيلاف واللاتين في ذلك الآن.
فإذا تبين هذا كانت الجامعة الإسلامية التي أضعفت بل لاشت جامعات الأجناس
ونقلتها إلى جامعة عظمى يكون فيها كل مسلم اليوم عبارة عن 360 مليونًا خطوة
كبرى في السير نحو تلك الجامعة التي ستضم أفراد الإنسان، والتي يسعى وراءها
الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا [4] فشأن الجامعة الإسلامية أشبه بحال الجامعة الأمريكية
التي تضم الأجناس المختلفة فيها شرقًا وغربًا لتأييد مبدأ (مونرويه) .
ولا يقول بعض جيراننا من المسيحيين: إن التشبث بالجامعة الإسلامية يفقد
المسلمين الارتباط بهم فإنهم لو صدقوا في هذا القول لفقد المسلمون بذلك عشرة
ملايين نفس هم كل المسيحيين الذين في بلاد الإسلام وكسبوا 360 مليونًا من
إخوانهم على أن الأمر ليس كذلك، فإن رابطة الذمة تقوم مع هؤلاء المسيحيين مقام
الدين فلا يحرم الفريقان من التعاون والتعاضد للعمل وقد أمر القرآن بمزيد الحسنى
معهم قال تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) .
هذا وإن الإسلام آخذ في الازدياد والنموّ في أكناف الأرض بكيفية تستوقف
البصر، وتحير الفكر، بل هو كلما حزبته الأعداء، وضايقته اللأواء، أربى في
النماء، كالشجر إذا شذب منه زاد أو الأتيّ إذا سُد طريقه غرق البلاد. وقد جزم
العارفون وفي أولهم علماء الإفرنج أنه لا يمضي حرسٌ من الدهر حتى يربو على
جاريه المسيحي والوثني، وعدد الأول الآن (420) مليونًا والثاني (500) مليونًا.
وذلك لأن نسبة الزيادة فيه والزيادة فيهما مختلفة جدًّا حتى تكاد تكون كالفرق ما
بين الماشي وراكب الهملاج. كان سكان مصر سنة 1881ستة ملايين فأصبحوا سنة
1891 نحو عشرة ملايين وكان مسلمو الهند سنة 1892 (57) مليونًا فصاروا سنة
1901 (90) مليونًا وعلى هذا فقس مسلمي الصين والسودان وغيرهم. وهذا
شيء لا يوجد مثله في الأمم الأخرى. قال ديمولان: يتضاعف عدد سكان فرنسا في
334 عامًا، وسكان ألمانيا في 98 عامًا، وإنكلترا في 63 عامًا وأستريا في 62
عامًا.
والأسباب في انتشار الإسلام وازدياده في كل صقع وقطر من أحشاء أفريقية
إلى ميطان الصين إلى جزر المحيط كثيرة نذكر بعضها فنقول:
(السبب الأول) سلامة العقيدة الإسلامية وسهولتها، قلت مرة للسيد جمال
الدين الأفغاني ما هو دين المستقبل؟ فقال لي هذه الآية من كتاب الله: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) قال دي
كاستري في مؤلفه عن الإسلام:
(هكذا جذب الإسلام قسمًا عظيمًا من العالم بما أودع فيه من إعلاء شأن النفس بتصوُّر الذات الإلهية على صفات فوق صفات البشر نذكرها خمس صلوات في كل يوم، وبما اشتمل عليه من التَّرَفُّقِ بطبيعة البشر حيث أباح للناس شيئًا مما يشتهون. وأعظم عامل في انتشار الإسلام خصوصًا عند الأمم الزنجية
(السود) بساطة مذهبه وسذاجة تعاليمه، وهو سبب موجود في القرآن نفسه، فهو
بذلك يلائم الطباع. دين لا أسرار فيه وكلمته (أي كلمة الشهادة) يعتاض عنها عند
الاحتضار بإشارة تدل عليها كرفع السبابة إلى السماء إشارة إلى وحدانية الله تعالى
فكلما وجد الرجل الجاهلي أمامه دينين متحدين في حقيقتين: وحدانية الله، وخلود
الروح - وهما الإسلام ودين عيسى - تراه يختار الدين الذي لا يزيد شيئًا على
تينك الحقيقتين ويعتنق الإسلام بلا محالة، وهي قوة يفضل بها القرآن الديانة
المسيحية في الانتشار وكانت معروفة عند أهل القرن السابع عشر؛ لذلك تقرأ في
كتاب القس (ماراشي) الذي سماه (الرد على القرآن) : (ولا يغيبنّ عن ذهن
القارئ أن تلك الطائفة ... لا تزال حافظة لكل ما في الدين المسيحي من الأمور
الظاهرة الوضوح القريبة التصديق مضافًا إليه ما يوافق نظام الكون وقانون
النشأة الدنيوية فقد أبعد عنه أحاجي الإنجيل التي نخالها في أول الأمر غير
صحيحة لا تدركها العقول كما أنه جرّد تعاليمه من كل قاعدة يشدُّ بها الخناق على
البشر مما جاء في ذلك الكتاب، وبهذه الواسطة تمكن من رفع العقبتين اللتين يحسّ
كل واحد منا بأنهما الحاجز بينة وبين الدين الحق الصحيح وهما عقبة الروح وعقبة
الجسم، وهذا هو السبب في أن الوثنيين الذين يريدون ترك دينهم في أيامنا هذه
يعتاضون عنه بالإسلام دون الديانة المسيحية) . اهـ
وقال (إسحق طيلر) : (ليس أمر المسيحية واقفًا عند العجز عن إحداث
مواطئ جديدة لأقدامها فقط ولكن المقام الذي هي فيه قد تعجز عن حفظه أيضًا. إنَّ
دين الإسلام قد انتشر آنفًا من مراكش إلى جاوا ومن زنجبار إلى الصين، وهو
الآن ينتشر في أفريقية بسرعة لا يأتي عليها الوصف، وإننا لنرى الإسلام أوفق ما
يكون لتهذيب الأمم المتوحشة وترقيتها. أما الديانة المسيحية فلا تنالها عقولهم،
وبذا قد نفع الإسلام المدنية أكثر مما نفعتها المسيحية. إذا دخلت الديانة المحمدية في
قبيلة زنجية محت عبادة الأوثان وأبطلت أكل لحوم البشر ووأد الأطفال، وأنشأت
فيهم النظافة وعزة النفس والوقار وكرم السجايا فيصير قرى الضيف بمنزلة
الفريضة الشرعية، ويندر السكر والقمار والمراقص الخزية، وتعد العفة في الإناث
من خلائق التقوى ويفشو التناصح بالإحسان والأخوة بالوجدان) [5]
(السبب الثاني لانتشار الإسلام) موافقة أحكامه للفطر الإنسانية وابتنائها
على الحكمة العقلية. قال (لوشاتلييه) في كتابه المسمى (الإسلام في القرن
التاسع عشر) : (إن نمو الإسلام في الهند أمر لا ينكر وسببه في الغالب حكم
المساواة بين الناس الذي سنته الشريعة الإسلامية، وذلك أن أهل الهند بحسب مذاهبهم
القديمة ينقسمون إلى طوائف لا ينبغي لطائفة منها أن ترقى إلى الطائفة التي
فوقها، فمن ولد منهم في طائفة دنيا لا يجد له مخلصًا للارتقاء إلى العلاء
والخلوص من قيد الطائفة إلا اعتناق الإسلام) وقال (لودوفيق دوقنتاسون)
في كتابه المسمى (النصارى والإسلام) : (لا يصل أهل الهند إلى أن تكون لهم
حكومة وطنية مستقلة إلا إذا ذهب من بينهم التخالف في المذاهب والطوائف
والأجناس، ولا يكون ذلك إلاَّ إذا ساد فيهم الإسلام الذي يبيد جميع هذه الفروق
ويقيم أركان المساواة والإخاء والحرية التي هي من قواعد الديانة الإسلامية [6] .
(السبب الثالث) وهو أهم الأسباب، حذق دعاة الإسلام وهم الصوفية.
الصوفية جمعية في الأمة مرتبة النظام، منظمة الهندام، يبلغ عددها مائة مليون من
النفوس فهي أكبر جمعية في الدنيا لا يضارعها البوكسر في الصين ولا الطوائف
الدينية في أوربا وغيرها، وقد قامت هذه الجمعية بالدعوة الإسلامية مقامًا عجيبًا [7] .
قال بعضهم: (إن العالم الإسلامي وقف عن التقدم والغلب أمام الدول الأوربية من
مدة مديدة فاستطالت هذه الدول على الممالك الإسلامية وغلب الكثير منها بالقوة
العقلية والمادية ولكن الذي أعجزها وضاعت معه قوتها وحياتها هم الصوفية،
فالصوفية هم في الحقيقة القوّة الدالة على الحيوية والنماء في العالم الإسلامي فتراهم
في أفريقية وفي الصين والهند وأواسط آسيا، بل في جزائر المحيط يدعون إلى
الإسلام ويدخلون الأفواج فيه كل يوم حتى إن الخطوط التي ترسم في أفريقية لبيان
حدود الإسلام وراء خط الاستواء تنقل متقدمة إلى الجنوب في كل عام من أثر
فتوحات مشايخ الطرق في مجاهل أفريقية. وما دخل الفرنسيس قرية في الكنغو إلا
وجدوا الصوفية قد سبقوهم إليها، وزرعوا بغض الناس لهم فيها. ومن اطلع على
المؤلفات الكثيرة الأوربية التي تؤلف في هذه السنين في أوربا عن أحوال الصوفية
وتاريخ الطرق وكيفية سير أهلها في الدعوة علم أن مسألة الصوفية هي المسألة
الشاغلة للباحثين عن حالة الإسلام الماضي والمستقبلة.
وقد بلغ من العناية بهم أَنَّ وَالِيَ الجزائرِ كَلَّفَ جمعية برئاسة (أوكتاف
دويون) عن البحث في أحوال الصوفية ففعلت وطبعت أعمالها في مؤلف ضخم
ورسمت خريطة عامة يتبين منها ما يوجد من الطرق والطوائف في كل بلد من بلاد
الإسلام بعلامات مخصصة حتى تستقصي منها حركاتها وتنقلاتها في الأقاليم. اهـ
وقال دي كاستري: (قد فطن المسلمون إلى ما أحدق بهم من الأخطار
وأرادوا تمكين الجامعة، وتوحيد الروابط بينهم، وهى عند المسلمين أشد قوَّة منها لدى
غيرهم من الأمم التي تدين بدين واحد؛ لأن القرآن شريعة دينية وقانون مدني
وسياسي، ومن ذلك وجدت حركة في النفوس غايتها مقاومة النصرانية بجميع
الوسائل الممكنة وعلى الخصوص مغالبة التمدن الجديد باسم الإيمان. قال القائد
(رين) وتأتي قوَّة هذه الحركة الإسلامية من تعدد الطرق الصوفية التي وجدت من
أول هذا القرن، وعظم شأنها في جميع الأنحاء وصار لها تأثير شديد في قلوب
الناس ولهم رسل ومريدون يطوفون البلاد الإسلامية التي لا حد لها وغير
الإسلام كمبشرين أو مستعطين أو قاصدين للحج، ويصلون بهذه الكيفية بين الأقطار من مكة إلى جغبوب إلى القسطنطينية، وبغداد إلى فاس، وتنبكتو إلى القاهرة إلى
الخرطوم إلى زنجبار، ثم كلكتا وجاوه ومنهم التاجر والمنجم وطالب العلم والشحاذ
والمجذوب وكلهم يلاقون صدورًا رحبة ومنزلة كريمة بين المؤمنين. اهـ
وقال (كونتانسون) : نرى حركات كثيرة وأعمالاً كبيرة يقوم بها المهديون أو
الأمراء في العالم الإسلامي، ثم تزول كأن لم تكن. أما العمل الثابت الدائم فيه فهو
عمل الصوفية، فالفضل لهم في انتشار الإسلام شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا. وقال
(شاتلييه) بعد أن أطال في وصف انتشار الإسلام في الدنيا وعزاه لمساعي مشايخ
الطريق: (والخلاصة أن الإسلام مدين بكل فتوحاته السلمية وانتشاره في الأقطار
لجماعة الصوفية، فمشائخ الطريق هم في الحقيقة الذين يديرون حركة الإسلام
الحية. ولا يخفى ما في عملهم هذا من الخطر على المصالح الأوربية) .
(السبب الرابع) تعدد الزوجات وهو الأمر الذي به يتفق للمسلم الواحد أن
ينسل خمسمائة نسمة وفي الحديث (تناكحوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم
القيامة) [8] وقال تعالى في حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: 128) .
قال دي كاستري أيضًا: (ومن الوسائل الناجحة في المسلمين لانتشار الإسلام
الزواج. فإن سلاطين السودان يتزوّجون من العائلات الوثنية لهذه الغاية، ولا تمكث
النساء وأولادهن حتى يصير الكل من أقوى الأسباب لانتشار الدين الإسلامي، وقد
أشار موسيو (رونان) إلى ذلك في بعض كتبه حيث يقول: (من الصعب أن
يُصم المرء أذنه إذا تقدمت إليه النساء والأطفال ومد كلٌ يديه إليه وطلب منه أن
اعتقد بمن نعتقد) على أن الزواج هو السبب في وجود أنصار الإسلام الأولين) .
(السبب الخامس) بغض الأمم الوثنية للمسيحيين وميلهم إلى المسلمين
بالفطرة قال (كونتانسون) : إن مما أعلى كعب الإسلامية على النصرانية في
الصين عناية ملوك الصين بالمسلمين من قديم، فهم يمنحونهم على الدوام من المراتب
والألقاب والمنح ما يمنعونه النصارى. وقال بعض الكتّاب: (قد ملأ الأوربيون
بلاد الصين بجماهير المرسلين من كل ملة ونحلة، وسهلوا لهم سبل التملك ووعدوهم
بالمساعدة فأدخل هؤلاء المرسلون بعضًا من أهل الصين في دينهم بعدما وعدوهم
بالحماية الأجنبية من كل سلطة للقانون فجرأهم ذلك على ارتكاب ما تحرمه القوانين
والاعتداء على أهل البلاد فنجم عن هذا معظم الأسباب التي وجبت كره أهل الصين
للمسيحيين كرها يشبه التعصب، وبالجملة إن الأوروبيين القائلين بالمساواة يعاملون
اللون الأبيض من بني الإنسان معاملة الأخ لأخيه، واللون الأصفر معاملة الرجل
لخادمه واللون الأسمر معاملة السيد لعبده، ويطلقون الرصاصة على ذي اللون الأسود
كما يطلقونها على الوحش الضاري، فالإنسان كلما مال لونه إلى السواد كان نصيبه
من هؤلاء الخذلان وفاحش الامتهان. ولهذا كان كره الأمم الشرقية لهم متكاثرًا
وحقدهم عليهم عظيمًا.
وقال (فيلكس مارتان) في كتابه عن اليابان ما نصه: (وقد استأصل أهل
اليابان جميع النصارى فلم يبقوا مبشرًا إلا شردوه، ولا قسيسًا إلا قتلوه، وكان قد
تنصر من أهل اليابان 37 ألف نفس فأعدموهم قاطبة. وقال أيضًا: إن
الصبغة التي تغطي كل مشكلة أو ثورة في اليابان الآن لتجعلها مقبولة من الناس
هي الحركة ضد الإفرنج، وقال أيضًا: (كل من زار اليابان من الأوربيين يعلمون
بأن الحالة اليوم كما كانت في الأزمنة السابقة، وأن الإفرنج في اليابان كأنهم في دار
الحرب أو بلد عدو وأنه لو كشف الغطاء عن الياباني الحالي وزخرفه لوجد أنه ذلك
(الساموري) القديم الذي يغلي دمه بعداوة الإفرنج عداوة وراثية فيهم لا فرق فيها
بين الكبير والصغير والأمير والحقير) .
وقال هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا في مقالته عن الإسلام:
(وقد انبعثت شعبة منه في بلاد الصين فانتشر فيها انتشارًا هائلاً حتى ذهب البعض
إلى القول بأن العشرين مليونًا من المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن
يصيروا مائة مليون [9] فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء (لساكياموني) وليس هذا بالأمر
الغريب، فإنه لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده
منتشرًا في الآفاق. فهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرًا وأفواجًا
وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه.
ففي البقاع الأفريقية ترى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل
البيضاء يحملون على الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار قواعد الحياة
ومبادئ السلوك في هذه الدنيا كما أن أمثالهم في القارة الأسيوية ينشرون بين
الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي ثم هو - أي: هذا الدين - قائم
الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها - أعني: في الآستانة - حيث عجزت
الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع الذي يحكم على
البحار الشرقية ويفصل الدول الغربية عن بعضها شطرين) وقال آخر: إن
للإسلام في الصين أربعين مليونًا من النفوس، وإن للمسلمين عند أهل الصين منزلة
عليه. قال موسيو (وازيليف) وهو من الذين اشتغلوا بالإسلام في تلك النواحي:
إن مصيره القيام مقام مذهب (ساكياموني) [10] وإن لمسلمي المملكة السماوية
اعتقادًا جازمًا بأن الإسلام لا بد أن يسود حتى تزول به تلك الديانة القديمة وهى مسألة
من أهم المسائل إذ الصين آهلة بثلث العالم أو تزيد فلو صاروا كلهم مسلمين
لأوْجب ذلك تغييرًا عظيمًا في حالة تلك البلاد بأجمعها فيمتد شرع محمد من جبل
طارق إلى المحيط الأكبر الهادي ويخشى على الدين المسيحي مرة أخرى، ومعلوم أَنَّ
أمة الصين أمة عاملة وإن هدأت أخلاقها وجميع الأمم تستفيد الآن من عملها فلو
جاءها التعصب الإسلامي ذو البأس القوي لخشيت بقية الأمم من السقوط تحت
سلطانها [11] وقال موسيو (مونطيط) : لقد صار من المحقق أن الإسلام ظافر لا
محالة على غيره من الأديان التي تتنازع البلاد الصينية) .
وقال شاتلييه: (إن من تأمل حال الإسلام في القطرين اللذين هما أَأْهَلُ أقطار
آسيا بل أقطار العالم - الهند والصين - يجد أن الإسلام وحده يتقدم وينمو على
حين يرى غيره من الديانات القديمة تتداعى وتضعف، والمسيحية لا تكاد تثبت) .
وقال آخر بعد أن وصف فتوح الإسلام في الديانات الأخرى وعجز الآخرين
عن الفتوح فيه: (ولم ير المبشرون في طريقهم بلدًا قامت في وجههم سدوده
وأقفلت دونهم أبوابه مثل بلاد الإسلام، ومن الصعب أن يكيف الإنسان حالة مسلم
يريد أحد المسيحيين أن ينصره حتى لو شبهناه بمسيحي مستنير يريد وثني أن يميل
به إلى عبادة الأصنام لكان التشبيه ناقصًا) .
وقد ملأت هذه الفتوحات الإسلامية قلوب الأمم الأخرى وبلبلت بلبالهم حتى
عدوها من الخوارق وبنوا أسبابها على ما وراء الطبيعة.
قال دي كاستري: (هذه هي أهمّ الأسباب في انتشار الإسلام ولست أدري إن
كانت تكفي لإدراك سر هذا الدين في انتشاره أو أنه يجب البحث معها عن أسباب
سماوية، غير أن الإسلام خرج من ذرية إسماعيل وسرى في الأرض كما خرجت
المسيحية من ذرية إسحاق، وقد بارك الله في أبناء الخادمة كما بارك في أبناء السيدة.
(ونحن نعلم أن يهوذا قال لإبراهيم عن إسماعيل: إنه سيبارك فيه ويكثر من
نسله كثيرًا وكرّر له ذلك بقوله: إنه سيبارك له في ابن الخادمة فتخرج من صلبه أمة
كبرى لكونه من أولادك وأعاد يهوذا هذه البشرى مرة ثالثة لوالدة ذلك الطفل الذي
نجا في الصحراء حيث رمي ليموت عطشًا. وقصة ظهور الملَك إلى هاجر من
أجمل الروايات ووصف بادية الظماء ولهف الأم على ولدها من ألطف ما يقال
(نضب الماء في الزق ورمت هاجر الطفل تحت شجرة وابتعدت قليلاً ثم جلست
أمامه على مسافة مرمى النيل وقالت: لست أصبر أن أرى ابني يموت ثم رفعت
صوتها بالبكاء، وقد كان بكاء الطفل سبقها إلى السماء فناجاها الملَك من قبل الله:
م الك يا هاجر، لا تخافي فقد سمع الرب صوت الطفل من المكان الذي وضعتيه فيه
فقومي وساعديه على القيام وليشتد ساعدك على حمله فسيكون من ذريته أمة
كبرى) .
(ولقد ارتعشت يدي عندما مددتها لأزيل الغطاء عن الكتاب المقدس كي أنقل
الآيات التي سطّرتها ولولا ما قاله الأب بروغلي من أن تقدم الإسلام أمر مندرج
تحت ما بشر به أبو المؤمنين لما تجرأت أن أطبق تلك الآيات على الإسلام، ولا
ذهبت إلى أن في انتشار هذا الدين سرًّا من الأسرار الربانية) .اهـ
هذا ما أردنا بيانه في هذا الفصل ومنه يعلم أن حظ الإسلام من الأرض أوفر
حظًّا، وأن أرضه له لا يمكن أن ينتزعها منه غيره، وأن عدد المسلمين كثير،
وأن صفاتهم الفطرية قويمة. وجامعتهم الدينية عظمية، وأنهم يزيدون زيادة تستوقف
الأبصار، وتحير الأفكار، وأنه لا يتسنّى لغيرهم أن يجاريهم في هذا المضمار. وإذا
كان الأمر كذلك كان رأس مال الإسلام من الأصليين الطبيعيين الضروريين لمستقبل
الأمم كبيرًا في الحال. أكبر من غيره في الاستقبال، ولا ينقصه إلا الأمور الكسبية
والأسباب الوضعية التي لا بد أن تدفعه طبيعة العمران لتحصيلها شاء أو أبي.
فيصل إلى ما قدره له الله من السعادة والعلاء والمجادة ولله در القائل:
لي في ضمير الدهر سر كامن ... لا بد أن تستلّه الأقدار
* * *
(الفصل الثاني)
في أسباب الانحطاط
(الجهل)
اختلف العلماء وافترق العقلاء في أسباب انحطاط الأمم وارتقائها وانقسموا في
ذلك إلى فريقين وهما:
(الفريق الأول) يرى هذا الفريق أن الأمم في ارتفاعها وانخفاضها أشبه
بالإنسان في أدوار عمره، لا تكبره الإرادة، ولا تضره الصنعة فهو إذا جاء
زمن المشي مشى وحده وإذا جاء زمن النطق نطق كذلك، وأن الجمعيات الإنسانية
مُسيرة بناموس طبيعي كالناموس الذي يسير الكواكب في أفلاكها. وأن الجمعية
الحالية هي نتيجة ضرورية لماضي طويل الأمد، وإنها حاملة معها جميع بذور
التحولات والأطوار التي لا بد لها من المرور عليها في رقيّها وانحطاطها. وأنه بذلك
تكون الجمعية كالشخص لا يبلغ سنًّا ما لم يَمُرّ بالأدوار التي تفصله عنه وأن تأثير
الإنسان في هذا السير هو كتأثير الطبيب في سير المرض أي: ضعيف لا
يذكر.
(الفريق الثاني) يرى هذا الفريق أن الأمم مثل الشمعة المذابة تضعها في
أي شكل أرادت. وتجعلها في أية صورة صورت، وأن الإرادة تفعل في كيانها
فعل الإكسير الذي يُحوّل الترب تبرًا. ورجال هذا الفريق هم أساطين الحكمة مثل
(أفلاطون) و (أرسطو) و (ليبنيز) و (ليكورغ) ، ولا حاجة في إطالة الكلام
لترجيح الفريق الثاني في هذا المقام فإن اليابان هي البرهان الذي لا يختلف فيه
اثنان.
ثبت عند كبار الحكماء أن الأمم يمكن رفعها وخفضها بالإرادة. أما الآلة
الرافعة أو الخافضة لها فقد اتفقوا على أنها العلم أو الجهل. قال ليبنيز الحكيم:
(لو كان أمر التعليم موكولاً إليّ؛ لغيّرت وجه أوربا في أقل من قرن) وقال أيضًا:
لو أجلنا النظر لألفينا أن تسعين في المائة من الناس هم فضلاء أو أرذلون نافعون
أو مضرون بالتعليم الذي تعلموه وأن كل ما يوجد من فرق بينهم فسببه ذلك التعليم.
وقال (ديدرو) : علة العلل في ارتقاء أو انحطاط الأمم هو العلم أو الجهل وما عدا
ذلك فأسباب ثانوية وعلل جزئية ترجع إلى تلك العلة الأصلية.
هذا وقد بدلنا النظر في حالة العمران أن العلم هو العلة التي تقوى بها أمة
على أمة، والجهل هو سبب انحطاط فريق عن فريق، وبيانه أن هذه الأرض وإن
تنوعت أسماء أجزائها في المواضعة واختلفت ألوان بقاعها في الخرائط فهي بسيط
واحد فيه العامر والغامر والأمم فيه كأمة واحدة فيها القوي والضعيف. وقد أوجدت
المصادفة بعض هؤلاء في حيز عامر مفعم بالنعم، والبعض في حيز غامر مملوء
بالنقم. وجبل الإنسان على حب الأثرة لنفسه ولو هلك في ذلك أهل الأرض جميعًا.
قال سهل بن هارون البخيل: (ليس لي من مالي إلا ما منعته الناس ولو أمكنهم
لنقضوا بيتي حجرًا حجرًا) . فوقع بين القوم بسبب ذلك ما يسمى بتنازع الحياة
وهو في الواقع قتال بلا سيوف ورماح، كل يطلب الطيبات لنفسه ويحرص على
نزع ذلك من الآخر بقوة بأسه، معمعة يعيش فيها الجليد ويهلك الرعديد ويحيا
القوي ويموت الضعيف؛ فلهذا احتاج كل واحد أن يكون أقوى من قرنه فتراجعوا
في الأزمان الأولى إلى القوة الجسمية حتى إذا سما العقل واستنبط من الأساليب ما
طمس به قوة فكان له الغلب والفلج على خصمه، وقد يكون هذا التنازع جهريًّا وهو
معروف في تغلب الأمم بعضها على بعض بقوة الآلات المستنبطة والعدد المبتدعة
وقد يكون خفيًّا وهو التناظر في سائر وسائل الحياة، فالأمم الحقيقية جيوش
متلاحمة، ومقاتلة متحاملة، قال المتنبي:
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرةً واغتيالاً
فالجنود تقاتل الجنود، والتجار التجار، والصناع الصناع، والزراع الزراع وهكذا.
وكما أن الجندي إذا غالب الجندي وكان سلاح أحدهما المكسيم وسلاح الآخر
الرمح غلب الأوّل لا محالة فكذلك الحال في سائر الأنواع الأخرى. وبقدر ما يكون
في جميع طبقات الأمة من سعة العلم يكون غلب مجموعها على غيرها، ولا يمكن أن
ينحط فرد واحد منها إلا أثّر ذلك في كونها كما إذا وقفت بعوضة على طرف سفينة
عظمية أثقلتها وأمالتها حقيقة، وإن لم تدرك ذلك مشاعرنا.
ومن هذا يعلم أن جميع أحوال الأمة متوقفة على حالة أشخاصها من الجهل
والعلم، فإن صلحت الأشخاص صلحت الأحوال والعكس بالعكس. وبهذا جاء القرآن
الكريم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:
11) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود
: 117) وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى:
30) وقال جلّ شأنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) وقال صلى الله عليه وسلم: (كمَا تَكُونوا يُوَلَّى عليْكُمْ)
[12] . وفي معناه قول الحكيم (الأمة تعطى الحكومة التى تستحقها) . وقال فولتير:
(الظلم الواقع على الأمة عقاب لها على جهلها) .
ويعلم مما تقدم أيضًا أن الذين يعددون الأسباب الكثيرة في انحطاط الأمم أو
ارتفاعها إنما يذكرون أسبابًا ثانوية لعلة أولى: هي علة العلل وهى الجهل أو العلم.
فمن جعل السبب محصورًا في الحكومة مثلاً قلنا له: إن الحكومة لا تكون إلا على
نسبة استعداد الأمة فلا تلبث أن تتبدل بموت القائم بها أو نحوه فأخرى تفسد كل ما
أتت به الحكومة الأولى. وهكذا من جعل السبب في فشوّ العقائد الفاسدة في الأمة أو
المبادئ التي تزعم أنها من الدين وليست منه نقول له: إن السبب هو الجهل بالدين
وهَلُمَّ جَرّا.
ثم إن العلم له تبعان في الوجود وهما الأنبياء والحكماء أي: الدين والحكمة
فنأخذه من الدين أولاً ثم إن أردنا التفصيل في الفروع أخذناه من الحكمة. قال ابن
مسكويه: (إن تحصيل السعادة على الإطلاق يكون بالحكمة، وللحكمة جزآن
نظري وعملي، فبالنظري يمكن تحصيل الآراء الصحيحة، وبالعملي يمكن
تحصيل الهيئة الفاضلة التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، وبهذين الأمرين بعث الله
الأنبياء صلوات الله عليهم ليحملوا الناس عليها، وهم أطباء النفوس يعالجونها من
أسقام الجهالة بالأدب الحق لما يأخذونهم به من الآداب الصحيحة والأعمال النافعة
ويطالبونهم بالاستسلام لهم بعد إقامه الحجة عليهم بالمعجزات فمن تبعهم ولزم
محجّتهم وقف على الصراط المستقيم. ومن خالفهم تردى في سواء الجحيم. فأما من
أحب أن يعلم صحة ما دعوا إليه بالنظر الصحيح فإنه يجد ذلك من جهة الحكماء) .
ولا يقول قائل: إنه يوجد تباين بين الدين والعلم يتنافيان به، فإن ذلك غير صحيح
وإنما جاء لهم من أنهم حصلوا من الدين ما ليس منه أو أخطأوه مقاصده ومعناه،
قال شيخ الفلاسفة في هذا الزمان هربرت سبنسر في كتابه (التربية والتعليم) ما
نصه: (العلم عدو الأوهام المتداولة بين الناس باسم الدين ولكنه ليس بعدو للدين
الحق الذي كثيرًا ما تحاول هذه الأوهام ستره عن الأبصار. نعم إنه يوجد شيء من
العلم المتداول يظهر عليه مناقضة الدين ومعاداته. ولكن هذا أيضًا من قبيل العلم
الذي أكثره وهم، إذ العلم الحقيقي الذي يغوص وراء حقائق الأشياء لا يناقض الدين
كما قدمنا) .
وقال (باقون) إمام الفلسفة الحديثة: (القليل من العلم يبعد من الله، والكثير
منه يقرب منه) وقال (هكسلي) الحكيم الكبير: (الدين والعلم كتوأمين متلاصقين
فصلهما يؤدي إلى موتهما. فإن العلم ينمو متى كان دينيًّا، والدين يثبت متى كان
علميًّا. وأهم آثار الفلاسفة أنتجتها أفكارهم بسائق دينيٍّ في الحقيقة) .
ولو تتبعنا جميع رؤساء الحكماء وأساطين الفلسفة العقلاء من سقراط وأرسطو
وأفلاطون إلى كانت وديكارت وليبنز وأمثالهم لوجدناهم من أهل الدين إن لم
يتسموا بهذا لأنهم يعتقدون بما جاء به الدين ويتخلفون بالحكمة التي أمر بها أن
تكون. قال (كارليل) الفيلسوف في كتابه (الهيرو) : (قال (جوتي) أكبر
شعراء الجرمان وقد وصف له الإسلام: إن كان هذا هو الإسلام أفلا نكون جميعًا
عائشين فيه؟
(ثم قال كارليل) : نعم إن كل واحد منا عنده حظ من الفضيلة والكمال في
الحياة عائش فيه) . اهـ
ولا فرق مثلاً بين قول سقراط: (يجب أن تعرفوا أن إلهكم واحد) وقول
المسيح في الإنجيل: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوا أنك أنت وحدك الإله
الحق) وقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1)
وكل ما أدخل على الدين من تحريف الأصول الحقيقية والقواعد العامة التي
فيه فإنما جاء من فساد عرض أو عرام طرأ وهو منه براء. وهذه الأصول العامة
التي هي عمد السعادة كما لا يختلف فيها الدين عن الحكمة لا يتباين فيها دين ودين
بل الأديان فيها سواء. قال الله تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136) وقال
تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} (الحج: 78)
إذا توضح ذلك وأنه لا خلاق بين العلم والدين فلنبين هنا ماهية كل منهما ليس
العلم هو هذه الأبواب المحفوظة فقط التي يتسمى محصولها بالعلماء عند المسلمين
الآن بل هو أوسع من ذلك رحابًا وأفسح مجالاً، هو معرفة حقائق الوجود جميعًا.
وينقسم إلى حكمة نظرية وحكمة عملية. وتنقسم الحكمة النظرية إلى ثلاثة أقسام
وهي (قسم العلم الإلهي) وهو ما لا يفتقر في الوجود الخارجي والتعقل إلى المادة،
و (القسم الرياضي) وهو علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون
التعقل، و (القسم الطبيعي) وهو علم ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والتعقل.
وتنقسم الحكمة العملية إلى ثلاثة أقسام أيضًا: (قسم السياسة) ، وهو علم بمصالح
الأمة ويدخل تحت كل قسم من هذه الأقسام جملة علوم كالرياضي يدخل تحته علم
الحساب والهندسة والجبر والهيئة، وكالطبيعي يدخل تحته الكيمياء والطب والنبات
والحيوان والجغرافية والفلاحة إلى غير ذلك، بل كل واحد من هذه العلوم يدخل تحته
علوم أخرى كالطب يدخل تحته التشريح والجراحة والكحالة وهكذا إلى ما شاء الله.
ولو أحصيت العلوم التي تقوم بها أعمال المجتمع الإنساني الآن لأربت على ألف
علم.
وكل علم من هذه العلوم له وظيفة لا يقوم بها غيره فمثلها في جسم الاجتماع
كمثل الأعضاء في الجسم لا تغني فيه العين عن الأذن ولا اليد عن القدم وهكذا.
فالعلم الإلهي أو الفلسفة الأولى هو أس العلوم في الحقيقة. سأل (رينان) السيد
جمال الدين عن سبب عقم المدارس في الشرق سواء فيها القديمة والحديثة فقال له
السيد: إن سببه فقد الفلسفة الأولى منها إذ هي للعلوم كالسلك للعقد أو القاعدة
للمسائل فإن فقد السلك تبدّد العقد، أو عدمت القاعدة تناثرت المسائل.
وأما العلم الطبيعي والرياضي فهما باب الارتزاق وسلم المدنية وعنهما يصدر
كل ما نراه في الأمم المرتقية الآن من الحركة والعمران.
وأما علم الأخلاق فهو طب النفس، ومن العجيب أننا نرى الإنسان إذا أصابه
دمل في جسمه أسرع إلى العلاج والطبيب وفي نفسه عشرون دمّلاً لا يلتفت إليها
وإن أنهكته في الحقيقة آلامها، ولا سبب لهذا إلا فقدان هذا الطب من بين المسلمين
الآن مع نموه عند غيرهم من الأمم وحسبك أنه أُلّف في مرض الإرادة وحده عندهم
كتب ذات أسفار.
ويجب أن يكون هذا العلم ملكة في النفس كملكة النحو في اللسان حتى تنطبق
أحوال المرء على قواعده بلا تكلف فتصير الفضائل - كالوقوف عند الاعتدال في
الأعمال والحق في الأقوال والاعتماد على النفس ونحو ذلك جميعه - خلقًا له
وسجية طبيعية، وأما تدبير المنزل فهو من أهم الأمور الضرورية لسعادة الأمة وذلك
أن المنزل هو المدرسة الأولى، وبعده مدرسة التعليم، ثم مدرسة الدنيا فإن كان عمل
الأولى مضادَّا للثانية ضاعت النفس بينهما ضياع لب المأمور لآمِرِينَ مختلفين.
وأما علم السياسة فهو طب الاجتماع الإنساني وطالما أدّى الجهل به إلى شقاء
البشر قال لوبون: إنك لا ترى أحدًا لم يقرأ الفلك أو الجبر، ثم يحاول حل مسائل
فلكية أو معضلات جبرية، ولا نرى أحدًا كذلك لم يتعلم التشريح ثم يحاول أن
يخيط عرقًا مقطوعًا مثلاً، ولكن نرى كل يوم رجالاً لا يفقهون شيئًا من علم
السياسة يسوسون الأمم، ويضعون القوانين، ويسنون النواميس غافلين عن الأخطار
والأزمات التي تنجم من عملهم هذا مع أن خطأ الجاهل بالطب يُودي بشخص واحد
وهذا الخطأ يودي بأمة. وعلى هذا النحو فقس سائر العلوم والفنون.
أما الدين فليس هو أيضًا ما يفهم الناس من أنه مجموع حركات بدنية فقط، أو
لفيف أحاجي لا يصل إليها العقل بل هو العلم بأقسامه إلا أنه أبعد غاية. ومقصده
هو عين المقصد الذي وجد لأجله العلم؛ أي: إرشاد الخلق إلى الحق ثم
هدايتهم بقواعده إلى كل ما فيه السعادة لهم إلا أن الدين يمتاز على العلم بأنه يجمع
السعادتين: سعادة الدنيا والآخرة، وأن العلم يُرغّب في الفضيلة فقط وهو يقهر
عليها قهرًا ويُرتب على ذلك ثوابًا وعقابًا.
ولتقريب فهم المقصود من الدين والانتفاع بما جاء به نفرض على وجه التمثيل
أن الكتاب السماوي الكريم هو كتاب علم وحكمة ونقسمه في ذهننا إلى الأقسام
السابق ذكرها في تقسيم العلم؛ فنجد تحته قسم الإلهيات مفعمًا بما لا يصل البشر
إلى الإتيان بمثله ولا الوصول إلى مثل تعبيره وتمثيله. قال سبنسر الحكيم في كتاب
المبادئ الأولى: (لنعرف للدين الفضيلة الكبرى بأنه أول ما دل على الله، وأنه لم
يفتأ يعلن ذلك في كل زمان ومكان) . ثم إننا نجد الدين وإن لم يتعرض لقسم
الرياضيات والطبيعات فقد حث عليها في جملة ما حث فيه من النظر في الأكوان،
وكذلك وضع العبادات التي تحيي التوحيد في النفوس.
أما الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية، وما يتبع ذلك من الأحكام فقد بلغ
فيها غاية ليس وراءها مطلع لناظر وكانت عمومياته هي الأصل الذي فرع عليه
الحكماء جميع ما أتوا به في هذه الأبواب. وأما ما يقوله السفهاء من عدم موافقة
بعض أحكام الدين لسير العمران فهو خطأ ووهم إذ نراهم قد قهروا إلى الرجوع إلى
كثير منها بعد أن أنكروها قرونًا عديدة.
وإذ قد تبين أن الجهل هو سبب الانحطاط، وأن العلم هو سبب الارتفاع على
الإطلاق فيهما، فلم يبق خلاف في أن سبب انحطاط الأمم الإسلامية هو الجهل.
ولو نظرنا نظرة واحدة في أحوال المسلمين لتبّين لنا مقدار ذلك الجهل وآثاره
السيئة فيهم.
قلنا: إن بابي العلم هما الدين والحكمة؛ أما الدين فلو حكمناه في نفوس أكثر
المسلمين الآن وطبقناه على عقائدهم وأخلاقهم وأحكامهم لوجدنا لدى أكثرهم في
محل كل عقيدة قرآنية أو خلق ديني عقيدة أخرى، أو خلقًا آخر يكاد يضاد الأول
على خط مستقيم. وإذا كان الأول آلة للعلاء كان الثاني علة للانحطاط، ليس الغاية
من الدين مجرد الانتساب إليه، فإن ذلك لا يهدي إلى خير ولا يدفع عن شر وإنما
العمل والانتفاع بكل ما جاء فيه هو الذي يُرقي صاحبه إلى ذرى الكمال
وذلك كالطب، فإنه لا يكفي أن يعتقد الإنسان أنه نافع فيبرأ من مَرَضِهِ وأَوْصَابِهِ،
وإنما يحصل على ذلك باستعماله والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه. ولذلك
حرصت جميع الأديان على تبيان هذه الحقيقة للناس قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) وجاء في الإنجيل: (وإنه ليس
الذين يقولون للمسيح يا سيدي يا سَيِّدي يدخلون ملكوت الله، بل الذين يعملون إرادة
الله) ومهما قلبت بصرك لا تجد الدين في الغالب مستعملاً فيما وضع له، فهو
عند الخاصة موضوع مناقشات لفظية وصناعة فصاحة كلامية ومجال براعة في
اختراع وجوه، وتأويل مناحي وبُعد عن مقاصد. وعند العامة دفتر تعاويذ ورقى
وكتاب ترتيل وكلام يقال لكي لا يفهم حتى قال بعض الأدباء: (فات هؤلاء أن
يُفهموه الأحياء فهم يُسمعونه الموتى في القبور؛ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) .
وأما العلم فحالهم فيه كحالهم في الدين. فهم كل يوم يبعدون عنه ويقربون من
نقيضه، ولهذا تجد الكتاب عندهم كلما كان أقدم كان أنفس وأجود، بخلاف الأمم
الحية فإنه لا يُقرأ الكتاب فيها إذا مضى عليه عشرون عامًا.
منذ كسرت أقلام المسلمين الأولين نرى العلم واقفًا بيننا لا يتحرك، أين
الجماعات المشتغلة بالعلوم الإلهية؟ أين منشئو المذاهب والآراء؟ أين المحامون
عن العقائد؟ أين المؤلفون في الرياضيات؟ أين المخترعون لعلوم لم تكن كالجبر
والكيمياء؟ أين من نقل فلسفة أوربا كما نقل أولئك فلسفة اليونان؟ أين من شرح
كُتب كَانتْ ودِيكارت مِثلما شرح ابن رشد كتب أرسطو وابن كمونة كتب أفلاطون؟
أين من جمع علوم الأوائل في سفر شامل كما فعل الفارابي في كتاب التعليم الثاني؟
أين من ألف فوق مائة مؤلف في الطب كابن سينا والرازي؟ أين من سافر لجمع
غريب النبات وتدوينه كما سافر ابن البيطار إلى بلاد الأغارقة؟ أين من جرّب في
الحراثة ودَوّن كأبي زكريا الإشبيلي الذي رقَّت تجاربه زراعة الأندلس؟ أين من
ساح آسيا وأفريقية والجزر واكتشف البقاع ووصف المواطن كالحسن بن محمد
القرطبي المعروف بالأسد الأفريقي، والبيروني، والشريف الإدريسي؟ أين أنواع
العلوم الكثيرة التي يتداولها المسلمون ويؤلفون فيها والتي حسرها صاحب كشف
الظنون في زهاء مائتي علم؟ أين من دوَّن حوادث زمانه يومًا يومًا، وأخبار قومه
خبرًا خبرًا باختلاف الروايات وتنوع الأسانيد. أين من وقف على حدود العلوم
وزاد فيها على ما كان عند الأمم؟ أين من طلب العلم للعلم وأراد به أن يعرف
حقيقة يجهلها ولذة عقلية يحصلها؟ أكثر ما عند المسلمين الآن اختلاف في إعراب
البسملة وبيان وجوه الصفة المشبهة وأمثالها وشيء من الفقه يعلمونه ولا يعملون به،
وما عدا ذلك فقشور من العلم في المدارس الحديثة المقصود منها صنع موظفين
للحكومات، أو أُجراء لبعض المهن كالطب والحقوق ونحوهما.
هذه مصر وهي في مقدمة بلدان الإسلام عمرانًا وحضارة ورفاهية وشارة؛
تسعون في المائة من أهلها أميون ولا يوجد إلا واحدة في المائتين من نسائها تقرأ
الخط. فيكف حال المغرب والتركمان والعجم والسودان؟ حيثما سرت وأين اتجهت
وقعت عينك على أناسيّ لو جردتهم في الخيال من ألقابهم وأموالهم وحُليهم لم يبق في
يدك شيء. قال المعري:
لو يعرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبده
لولا سجاياه وأخلاقه ... لكان كالمعدوم في وجده
الناس أجمع في حركة وعمل، والمسلمون في سكون وسكوت كما قال تعالى:
{َحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ} (النور: 58) ولله در أبو تمّام حيث يقول:
أفكر في أحلامكم أين عُزّبت ... فيصرعني طورًا وأصرعه الفكر
إذا الوحي فيكم لم يضركم فإنني ... زعيم لكم أن لا يضوركم الشعر
* * *
(الفصل الثالث)
في وسائل الارتفاع
(العلم)
إذا كان الجهل سبب الانحطاط كان العلم سبب الارتفاع، فلا تصلح أحوال
المسلمين حتى تصلح نفوسهم، توقف لمعاول على العلة.
ولكن ربما رأى الإنسان الفساد الحال بالمسلمين في أنفسهم في أهلهم، في أمتهم
، في دينهم، في دنياهم، وقد سكن في كل عضو منهم علة، وفي كل جارحة ألم،
وأزمنت الأدواء واستطرقت إلى بعضها حتى أصبحت كل علة تسوق عللاً وكل
مرض يهيج أمراضًا، وغدا بينهما شبه الدور والتسلسل فيتيه في هذا التيه ولا
يدري كيف يسري وماذا يصلح وماذا يترك، وأيّ دواء يستعمل وقد اختلفت
الأمراض وتباينت الآلام فيقف حائرًا بائرًا يائسًا يرى أن خَلْقَ خَلْقٍ جديد أهون من
إصلاح هذا. فلمثل هذا الحائر المشتبه أضرب المثل الذي ضربه (فكتور هوجو)
الشاعر الكبير قال: مثل سلطان الاستبداد مثل مصرٍ بُنِيَ على بطائح (النيفا) في
الروسيا وقد جمد الثلج ماءها، فشيدت القرى والمنازل على الجليد وسارت العجلات
ودارت حركة المعاش في الأسواق كأكثر ما يكون، وضرب الرجل برجله الأرض
فوجد أصلب من الصخر لا تعمل فيه المعاول ولا يقطعه الدينامت فقيل له: إن هذا
كله ظل زائل لا يلبث إلا عشية أو ضحاها حتى يُمحى فلا يكون له أثر، فكذب
وأنكر وهاله الأمر وبينما هو كذلك وإذا بشعاعة من الشمس سالت على هذه الدنيا
الصغيرة فإذا هي حلم حالم. قال هوجو: (هذه الشعاعة هي الحرية) .
وأقول أنا: (هي (العلم) . وقد بينا آنفًا ماهيّة هذا العلم الذي ترقى به الأمة إذا
أخذ كل منها بنصيبه منه. فنذكر الآن الوسائل اللازمة لإدخاله في أرض المسلمين.
وهي تنحصر في (كيفية نقله) و (كيفية تعليمه) و (المال اللازم لذلك)
و (من يقوم بهذا العمل) .
أما نقل العلم وإيجاده بين المسلمين فله طريقان وهما: ترجمته إلى لغات
المسلمين أو تعليم المسلمين لغة من لغات العلم (وهي الآن الفرنسية والإنكليزية
والألمانية) لتكون هي لغتهم العلمية، ومن يقول بالوجه الأول يذكر أنه هو السبيل
الذي سلكته كل الأمم السالفة في نقل العلم إليها كما فعل العرب في نقل علوم
اليونان والسريان والكلدان، وكما فعل الإفرنج في نقل علوم العرب حتى إنك لتجد
الآن كثيرًا من مؤلفاتهم المهمة مترجمة إلى اللاتينية مطبوعة بها من قرون عدة مع
فقدها من بلاد الإسلام ويقول هؤلاء: إننا إذا ترجمنا العلم فقد نقلناه إلينا، وإن تعلمنا
اللغات فقط فقد نقلنا أفرادًا منا إلى العلم. وأما من يقول بالوجه الثاني فيرى أن سير
النقلة وسير العلم في حركته كفرق ما بين راكب الناقة وراكب البخار فإن بَدَءَا من
نقطة واحدة الآن فلا يلبثان أن يتفارقا فيسبق العلم الناقل أبد الأبيد ذنبًا له. وإن
أريد نقل ما عند القوم من أول الدهر إلى اليوم لزم لذلك خمسمائة عام يكونون فيها
قد تقدمونا بمثل هذا القدر من السنين. ويقول هؤلاء: (لهذا رأينا الأمم الآن
غيرت الطريق الأول في نقل العلم إلى هذا الطريق كما فعلت اليابان) .
وعندي أنه يجب التوفيق بين هذين القولين فنجعل تعليم اللغة العلمية إجباريًّا
وبهذا نعطي لكل واحد (مفتاح الجفر) ونرفع الستار عن عالم العلم. ثم نجعل
التعليم والتأليف بلسان الأمة التي هو فيها. ومتى فعلنا ذلك أمكننا أن نسير مع العلم
إذ كتبه وحدوده التي هو عليها تصبح كتبنا وحدودنا، وأمكننا أن ننقل منه ما شاء الله
أن ننقل منه.
ولا يلزم أن نتعلم اللغة العلمية بحيث نحسن الكتابة والتكلم بها بل
يكفينا القدرة على فهمها جيدًا والنقل منها كما كان ذلك شأن النقلة الكبار مثل ابن
ماسوية وحنين بن إسحق ورفاعة بك والرشيدي صاحب المادة وأمثالهم. ولو
حفظ الإنسان في كل يوم خمسة مصادر بمشتقاتها لكان رأسه في ختام السنة قاموسًا.
وإنما يجب إذن أن نجعل اللغات الإسلامية في حالة يمكنها بها أن تكون لغة علمية
وذلك بنقل ما جَدَّ من الألفاظ والاصطلاحات إليها وللوصول إلى هذا نتخذ أحد
المعاجم الموجودة بين أيدينا أصلاً، ونذيله بما استجد من ذلك ناقلين ألفاظ العلوم
واصطلاحات الفنون كما هي بعد تحوير قليل تنتظم به في صيغ اللغة الأصلية. أما
الجهد في سد هذا النقص بإيجاد ألفاظ من متن اللغة القديمة تؤدي المعاني الجديدة أو
استدراك ذلك بواسطة النحت أو الاشتقاق من الجوامد أو نحو ذلك فعبث ولا لزوم
له.
وأما كيفية تعليم العلم وترتيب ذلك فأهم ما يجب أن يعمل فيه أن يكون التعليم
عامَّا إجباريًّا على ثلاث طبقات (ابتدائي وثانوي وعال) وأن يكون التلامذة بقدر
عشرين في المائة من عدد السكان. منهم واحد في المائة للمدارس العالية وسبعة في
المائة للثانوية وما بقي فللمدارس الابتدائية. وأن يكون الأساتذة على نسبة واحد
لكل خمسة عشر تلميذًا في المدارس العالية، وواحد لكل ثلاثين في المدارس
الثانوية. ولكل خمسين في المدارس الابتدائية.
وعلى هذا يجب أن تكون المدارس الابتدائية منتشرة في كل قرية
انتشار المساجد والزوايا. والمدارس الثانوية في كل مركز. والمدارس العليا (أي
الجامعة) في أمهات المدن، وينبغي أن تكون الغاية عند الكافة من طلب العلم أن
يكون المرء سعيدًا في رزقه سعيدًا في نفسه وفي فكره وفي بيته وفي أمته، لا أن
تكون أداء امتحان وأخذ شهادة، ثم إن جدول التعليم في المدارس (البروجرام)
هو بمثابة الجوهر، وكل ما عداه في مقام العرض. فعليه يتوقف الفَلَاح في الحياة أو
الخيبة فيها. وطالما حرص الفلاسفة على تبيان أهمية هذا الأمر واهتمت به
الحكومات. قال جان جاك روسو: (إن أكثر ما نتعلمه في المدارس كأنما نتعلمه
للننساه لا غير ذلك إذ معظمه مما لا نستفيد منه في حياتنا مرة واحدة) . وقال آخر:
الفساد في التعليم يفسد أمة بأسرها) . وقال هربت سبنسر الفيلسوف الإنكليزي:
(لو لم يكن عندنا من العلم إلا ما نعلّمه في المدارس لكانت إنكلترا اليوم على ما كانت
عليه في القرون الوسطى. فجميع ما عندنا من المعارف الكبرى التي صرنا بها أمة
عظيمة في الدنيا لم تنشأ من المدارس المعدة لذلك، بل من أكواخ حقيرة وزوايا
مهجورة) . وقال (كوريون) عن مدارس الصنائع في فرنسا: إن ثلاثة أرباع الوقت
يضيع فيها سُدًى. وقال (هنري دوفيل) في جلسة عامة بأكاديمية العلوم في فرنسا:
إني عضو في المدرسة الجامعة (كلية باريس) من مدة، وإني اليوم على
وشك الاعتزال من الأعمال فأقول لكم قولاً يجب أن يملأ كل أذن وهو: إِنَّه ما دامت
هذه المدرسة على هذه الحال فلا تسوق إلا إلى الجهالة. وإذا كان الأمر من الأهمية
بحيث استدعى إيراد هذه الأقوال عن مدارس أوربا وجب أن نجعله في المنزلة
القصوى من الاهتمام به، ولا نقلد تلك الأمم بنقل بروجراماتها كما هي، وقد سمعنا
أقوال الفضلاء في قيمة تلك البروجرامات وقلة جدواها في التربية العامة.
وليس لي أن أجزم هنا في مسألة هي الآن مشكلة الأمم ومختلف العقلاء وإنما
رأيي أن يكون التعليم الابتدائي محصورًا في الأمور التي يجب عل كل امرئ أن
يعلمها وهو علم (ما يحفظ الجسم) كمبادئ قواعد الصحة والفسيولوجيا وعلم
(ما يحفظ النفس) كالأخلاق وما (يحفظ العائلة) كتدبير المنزل وما (يحفظ الأمة)
كمبادئ السياسة والتاريخ ونحوه وما (يحفظ العقيدة) وهو مبادئ الإلهيات، والحكمة
الأولى التي هى سلك العلوم الحافظ لها من الضياع كما قدمنا، ثم لا بد له من علم (ما
يحفظ الرزق) وهو الزراعة أو الصناعة أو التجارة ومبادئ علم الاقتصاد والحساب
الضابط للعمل.
وأما المدارس الثانوية فيتعلم فيها العلم الذي اختاره المرء لنفسه وما يلزمه
من الفنون ولغة أجنبية من لغات العلم.
ويتعلم التلميذ في المدرسة العليا تفصيل ما أجمله في المدرسة الثانوية. وتقسم
حينئذ المدارس العليا (الكلية) إلى أقسام، كل يختص بعلم مخصوص.
والاختصاص بالفن الواحد من أهم الأمور في بلوغ الغايات في العلوم، إذ العلم
يعطيك من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسك، ومما يجب تعويد الطلبة عليه السير مع
العلم كل يوم وعدم الوقوف طول العمر عند ما يتلقونه في المدارس، وذلك بالاطلاع
على فهارس (دور الكتب) والوراقين والوقوف على كل ما يجد في الفن. قال
برتلو الكيماوي المشهور: (كنت أقرأ في كل عام فوق مائتي مصنف تنشر في
الكيمياء، وأحلل ما أجده منها في نفسي تحليلاً كمياويًّا فيتيسر لي بذلك توسيع دائرة
هذا العلم واكتشاف أمور كثيرة فيه.
وأما المال اللازم لذلك فهو لا يتجاوز ريالاً واحدًا عن كل شخص من الأمة
وهو ثلث ما تنفقه أمة كالأمة المصرية على الخمر والدخان في كل سنة.
والحصول على هذا المال يكون إما من طريق الحكومة بالطلب منها أو
الإلحاح عليها والاستماتة في ذلك. أو من طريق الأمة بالاكتتاب العام الدائم والحث
عليه بالخطب على المنابر والجرائد وغيرها. وقد كان السيد جمال الدين رأى في
ذلك رأيًا وهو أن يُنشأ صندوق يسمى (صندوق المسلمين) يوضع في كل قرية وعلى
كل طريق ومسجد ويجمع فيه المال لإصلاح أحوال المسلمين: ولا بأس من جعله
تحت مراقبة إدارة رسمية لتزداد ثقة الناس به كما جعلوا صندوق التوفير تحت
إدارة مصلحة البوسطة مثلاً. على أنه لا يعدم الإسلام رجالاً في هذا الزمان يقومون
على قدم أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في سالف العصر من بذل كل أموالهم
في تأييد العقيدة التي أخذوا بها والدين الذي انتسبوا إليه. روى مسلم في صحيحه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مِن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبا
بكر) .
أما البحث عمن يقوم بهذا الأمر فهو أهم الأبحاث وأس المسائل. الذي يقوم
بهذا الأمر إما الأمة وإما الحكومة. أما الأمة فما دامت في الطفولية فلا يمكنها أن
تميز خيرًا من شر أو أن تترك اللعبة وتشتري الكتاب. وأما الحكومة فهي إما حكومة
وطنية وهي في الغالب الآن مع الأمم الإسلامية في مقام السيد مع العبد فإن تعلمت
الأمة وارتقت أصبحت معها في مكان الوكيل مع موكله، وهيهات هيهات أن تساعد
على ذلك. وأما الحكومة الأجنبية فهي بمثابة الوصيّ الطماع مع القاصر الغني
فمصلحتها أن تحول بينه وبين الرشد دائمًا [13] وإذ قد نفضنا أيدينا من هؤلاء جميعًا
فلم يبق أمل يرجى وأمنية تُنْتَظَرُ إلا من فئة قليلة بلغت الرشد فعرفت الحال والمآل
أعني بها (عقلاء المسلمين) هذه الفئة هي المسئولة وحدها ولا مسئولية على عامة
الأمة (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)
وهؤلاء العقلاء بالنسبة إلى بقية الأمة القاصرة في مقام الأولياء فهم المسئولون
عن خيرها وشرها ونفعها وضرها.
لا سبيل إلى نجاة المسلمين وإعلاء كلمة الإسلام إلا أن يؤلف هؤلاء العقلاء
في كل قطر جمعية يسمونها جمعية (مستقبل الإسلام) وأن يؤلفوا جمعية أخرى
عامة تضم هذه الجمعيات تسمى (المؤتمر الإسلامي) ينعقد في مكة أو في أي
مكان يتفق عليه كل سنتين مرة ويكون أعضاؤه مندوبي جمعيات الأقطار المختلفة
ووجهته إصلاح أحوال المسلمين ونشر التعليم الذي هو وسيلة ذاك.
أي دولة قامت أو راية نصبت أو أمة خلصت أو وحدة تألفت، إلا
بالجمعيات؟ الجمعية عامل لا يموت وأمة في واحد. هل اجتمعت الوحدة الإيطالية
أو تهيأت الجامعة السلافية والجنسية السكسونية إلا بالجمعيات السرية أو الجهرية.
هذه الأمة الأرمنية والطائفة المقدونية والفئة الكريتية على صغرها في الوجود،
وكونها لا تكاد تذكر بين كل موجود، تعمل أعمال الجبابرة في الخلاص من
حضيض الأسر، إلى أوج النسر. والأمة الإسلامية التي ملأت المشرقين
والمغربين تنتفض انتفاض الطائر في شباك الصائد ولا تعمل للنجاة عملاً. وكيف
ترجو الوصول إلى الغاية وهي لا تنقل إليها قدمًا. ولا تحرك شفة ولا قلمًا، ومن
طلب شيئًا وجده، ومن تركه فقده.
ولا يعتذر الجبان المفقود القلب بأن عقد هذه الجمعيات مما يتعذر حصوله في
البلاد الإسلامية الآن إذ أي جمعية أنشئت لمثل هذا الغرض فلم تقابل بالكفران،
وتُحَط بالنيران، ولكنها العزيمة التي ترى أن الموت في حياة الأمة خير من الحياة
في موتهم وأنه لا محيص من الصدر أو القبر. على أن كثيرًا من بلدان الإسلام الآن
مفتوحة الأبواب لمثل هذا العمل وأخصها الممالك التي احتلها الإنكليز، ويقرب
سكانها من نصف المسلمين [14] على أن الممالك الأخرى متى علمت أن المقصد
من العمل هو التعليم والتربية، لا يكون لها مجال في منعه، فإن منعته في الجهر فهل
يمكنها أن تمنعه في السر؟ وإن أمسكت الأفواه فهل يمكنها أن تضبط
القلوب؟
أما أولئك الآخرون الذين نراهم ينذرون بفناء الإسلام وانتهاء أمده ويستدلون
على ذلك بالأحاديث الموضوعة والأقوال التي لفقها أعداء الدين قديمًا لإدخال اليأس
على قلوب المسلمين فيجب أن نسد أفواههم ونوجع أقفاءهم ونتلو على أسماعهم قول
الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32) .
أيها المسلمون جدُّوا في هذا أمر لتجِدوا. وموتوا فيه لتحيوا. واعرفوا قومكم
قبل أن ينكروكم، واحفظوا بلادكم قبل أن تضيعكم. قد حدثت فيك حركة عامة
فأيدوها وتحملوا فيها الأذى. هذا صوت القرآن يناديكم وداعي الله يستدعيكم {يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف: 31) .
__________
(1) من قراء المنار في الأقطار النائية من لا يعرف البكري؛ هو من بيوتات الحسب والمجد وقد انفرد في صنفه بتلقي العلوم في مدارس أوربا العالية وبنيل رتبة قاضى عسكر من الدولة العلية، وهو في العربية خزانة الأدب، ولسان العرب يشهد له بذلك شعر فحل ونثر جزل.
(2) المنار - اشتهر أن هذه الكلمة حديث وقد نبهنا غير مرة على أنه موضوع.
(3) إن في مصر من أحداث السياسة من يكتب ويخطب لينسخ هذه الآيات الكريمة ويفرق هذه الجامعة بكلمات سخيفة مثل (الوطنية الحقة) و (الدخلاء) فهذه الوطنية الباطلة لا ترضي الإسلام والمسلمين ولا غيرهم من وطنيين ومهاجرين لأنها هضمت كل حق أما الجامعة الإسلامية فإنها تعطي كل ذي حق حقه (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ولئن وجد شيء من التعصب في بلاد المسلمين فإنما وجد بتراخي عرى هذه الجامعة العادلة كما بيناه مرارًا.
(4) المنار: يراجع القراء مقالة (الجنسية والدين الإسلامي) في المجلد الثاني من المنار ض 321 ومنها يعلم أن الإسلام هو الذي جاء لجميع البشر كلهم فهم يسعون إليه ولا يعلمون.
(5) تراجع مقالات إسحق طيلر وخطبه في المنار.
(6) إن من أحداث السياسة في مصر من يحاول إبطال هذه المزايا الإسلامية بفمه وقلمه لغوًا بالوطنية ويزعم مع ذلك أنه يخدم مصر والإسلام!!! .
(7) للصوفية علم وعمل؛ أما العلم فهو العقائد والقواعد والأحكام المعروفة في كتب التصوف كالفتوحات والفصوص ونحوهما وأما العمل فهو إرشاد المسلمين ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام وإنا نرى في هذه الأيام من بعض متهوري الكُتّاب إنكارًا وتثريبًا على عقائد الصوفية وطلبًا لتلاشي هذه الجمعية من بين المسلمين بسبب ذلك قال بعضهم (إن هذا المذهب دخل إلى الإسلام من القرن الثاني مع ما دخله من المذاهب إذ ذاك وإنما نقل إليه من الفرس بدليل أن مشائخة الأولين كلهم أعاجم كالجنيد النهاوندي وأبو يزيد البسطامي وإبراهيم بن أدهم البلخي وبشر الحافي المروزي وسهل التستري إلخ وبدليل أنهم جعلوا سند الطريق إلى علي رضي الله عنه دون غيره ولا يفعل ذلك إلا الفرس الذين هم شيعته وبدليل أنه كان مدونًا في كتب الفرس وأشعارها قبل الإسلام وقد نقله الفرس عن اليونان إذ كان عندهم مذهبًا للحكماء الإشراقيين وأخذه اليونان من الهنود الأقدمين إما بواسطة فتوح الإسكندر أو قبلها قال أبو الريحان البيروني في كتاب الهند عند ذكر اعتقاد الهنود في الموجودات العقلية والحسية ما نصه: (إن قدماء اليونانيين قبل ظهور الحكمة فيهم بالسبعة المسمين أساطين الحكمة وتهذب الفلسفة عندهم كانوا على مثل مقالة الهند وكان فيهم من يرى أن الأشياء كلها شيء واحد (وحدة الوجود) ثم من قائل في ذلك بالكمون ومن قائل بالقوة وأن الإنسان مثلاً لم ينفصل عن الحجر والجماد إلا بالقرب من العلة الأولى بالتربة وإلا فهو هو ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط لاستغنائها بذاتها فيه وصاحبة غيرها إليها وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره فوجوده كالخيال غير حق والحق هو الواجد الأول فقط وكانت هذه الآراء آراء (السوفية) أي الحكماء فإن سوف باليونانية معناها الحكمة وبها سمي الفيلسوف أي محبي الحكمة ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب مِنْ رأيهم سُمُّوا باسمهم ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم بالتوكل إلى الصُّفَّة وأنهم أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه ولسم وصيره بعضهم من الصوف وعدل أبو الفتح البستي عن ذلك عدول في قوله:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا قدما وظنوه مشتقًا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى ... صافي فصوفي حتى لُقِّب الصوفي
وكذلك ذهبوا إلى أن الموجود شيء واحد وأن العلة الأولى تتراءى فيه بصور مختلفة وتحل قوتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع الاتحاد (الحلول والاتحاد) وكان فيهم من يقول: إن المنصرف بكليته إلى العلة الأولى متشبهًا بها على غاية إمكانه يتحد بها عند ترك الوسائط وخلف العلائق والعوائق (الرياضة والتجرد) .
وكانوا يرون في الأنفس والأرواح أنها قائمة بذواتها قبل التجسد بالأبدان معدودة مجندة تتعارف وتتناكر وأنها تكتسب في الأجساد بالخيرورة ما يحصل لها به بعد مفارقة الأبدان الاقتدار على تصاريف العالم ولذلك سموها آلهة وبنوا آلهة وبنوا الهياكل بأسمائها وقرّبوا القرابين لها كما يقول جالينوس في كتاب الحث على تعلم الصناعات (أصحاب الكرامات) اهـ كلام البيروني قالوا: والوصول إلى المعرفة عند الصوفية ليس من طريق النظر والتجربة بل من طريق الرياضة، وكل ما يفعله الصوفية الآن من الاهتزاز الشديد في الذكر ونحوه هو لتخليص النفس من الحس حتى تتجلى لها المعرفة بقدر ذلك ولا شك أن هذه جميعها عقائد وقواعد يجب إلغاؤها؛ لأنه لم يجئ بها كتاب ولا سنة اهـ أقول: هذا تهور وخطل وبعد عن الصواب إذ كيف يجوز لمسلم أن يطالب إيقاف الحركة التي يعترف الإفرنج أنفسهم بأنها الحركة الحية الوحيدة الباقية الآن في الإسلام والتي فتحت للإسلام الآن قدر ما فتحته سيوف الفاتحين الأولين أما الطريقة لإصلاح حال الصوفي ونفي الضار عنها وإبقاء النافع فيها فهي أن نجعل (العلم) عندهم هو علم الشرع الإسلامي بلا زيادة ولا نقص و (العمل) يبقى موضوعه على ما هو عليه فيكون عبارة عن إرشاد المسلمين إلى الشريعة المطهرة ودعوة غير المسلم إلى الإسلام وبهذا يكون التصوف عبارة عن (علم بالشرع وعمل به) ويقوم مشايخ الصوفية إذن بركني التعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين حث عليما الكتاب الكريم قال تعالى: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) وقال تعالى: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: 122) وتكون جمعية الصوفية في الدنيا أشبه بمدرسة عظمى فيها المشايخ والخلفاء الأساتذة والمريدون من الكافة تلامذة قد وضعوا أنفسهم تحت التعلم ومراقبة العمل به مدى العمر اهـ مؤلف الرسالة.
(8) المنار: رواه عبد الرزاق في مصنفه من حديث سعيد بن أبي هلال مرسلاً بسند ضعيف ولكن ورد بمعناه في مكاثرة النبي الأمم والأنبياء بأمته ما يقويه.
(9) المنار: جاء القاهرة في هذه الأيام تاجر بلوجي مسلم ذهب إلى الصين مرارًا فأكد القول بأن مسلمي الصين يبلغون 80 مليونًا وأن علماءهم يهزأون بقول الأوربيين إنهم 40 مليونًا.
(10) هو أحد ملوك الصين تخلى عن الناس في التاسعة والعشرين من عمره وعكف على العلوم حتى برع فيها وسمى نفسه (بودا) ومعناه العالم أو المتنور ووضع المذهب الذي اتخذته الصين والهند دينًا وكان ظهوره في القرن الحادي عشر قبل المسيح وقيل في القرن السابع وهو الأرجح.
(11) راجع كتاب موسيو دابري المسمى الديانة المحمدية في الصين وتركستان الشرقية المطبوع في باريس سنة 1878 اهـ من هامش كتاب الإسلام لدى كاستري.
(12) المنار: رواه الديلمي عن أبي بكرة والبيهقى عن أبي إسحق السبيعي مرسلاً.
(13) يقول بعض السذج من البسطاء: لا حاجة لاهتمام المسلمين بأحوالهم؛ إذ الإفرنج لا بد أن يسوقهم دافع المدنية وروابط الإنسانية إلى أن يحتلوا بلادهم فيصلحوا أحوالها وينظموا أعمالها كما ذكر ذلك (روسفلت) رئيس جمهورية الولايات المتحدة في خطبة له قال فيها: (إن داعي الإنسانية يضطرنا إلى احتلال البلاد الضعيفة والتغلب على الأمم المنحطة لنرتب أحوالهم ونصلح أعمالهم ونرقيهم حتى يصبحوا مثلنا تمامًا وما نأخذه في أثناء ذلك من المنافع هو أجر ذلك العمل) ، أقول: إن هذا تغرير للأبصار، وتضليل للأفكار، إذ الإفرنج قد يصلحون الأشياء لا الأشخاص، ومثل هذا الإصلاح لا يفيد المسلمين وهم في حالة الانحطاط، بل هو أشبه بالثياب المهندمة التي يضعها الباعة على تماثيل الخشب زخرف على تربة ونقش على خربة، فإن الأمة لا يمكنها أن تنازع غيرها سبل الحياة إلا بنفسها، فإذا فقدت نفسها فهي فاقدة لكل شيء، ولا ترجع فائدة هذه الاصلاحات إلا على الإفرنج أنفسهم فمثلهم فيه مثل من يعمر البيت بأجرته ثم يسكنه مدة طويلة حتى إذا خرج منه يوماً كان البيت قد عاد إلى حالته الأولى أما إصلاح الأشخاص الذي هو أس كل إصلاح حقيقي فهو ما لا يفعله الإفرنج بل ما يدأبون في الغالب لصده ورده، قال بعض نبهاء التونسيين، وقد سئل عن حال بلاده (تقدمت البلاد وتأخر أهلها) ولا عجب في ذلك كله ما دامت سنة الاجتماع قد قضت بأن تكون حياة القوي في موت الضعيف، اهـ لمؤلف الرسالة.
(14) أوجه كثيرة كانت تحملني دائمًا أن أجزم بأنه من الضروري للمسلمين أن يتفقوا مع الإنكليز في السياسة العامة سواء في ذلك الذين تحت سلطتهم والذين تحت سلطة الدول الأجنبية الأخرى والمستقلون أما الذين تحت سلطتهم فيجب عليهم ذلك لأسباب كثيرة منها أن الإنكليز يطلقون في مستعمراتهم حرية الدين والتعليم والقول والتجارة ويكتفون من الفائدة بأن تكون البلاد سوقًا لتجارتهم ومجالاً لارتفاقاتهم المالية ولا شيء أنفع وأجدى على الإسلام من هذه الحرية التي لا توقف نموه الطبيعي ولا يخشى عليه أكثر من وقوف القوة أمام ذلك النمو ومنها أنه يمكن للأمة الإسلامية إذا ارتقت أن تخلص من نيِّر الإنكليز بالاتفاق أو بالقوة؛ إذ قوة الإنكليز البرية ضعيفة وقد صعب عليهم أن يخضعوا ثلاثمائة ألف من البوبر أخيرًا فكيف يخضعون ثلاثمائة مليون إذا أصبحوا مثل البوير ومنها أنه إذا لم يكن الإنكليز بين ظهرانيهم فلا بد أن يكون غيرهم من الأمم الأجنبية إذ الضعف الذي هو علة تسلط أولئك لم يفارقهم فإن تسلطت عليهم دول أخرى كالروسيا في آسيا أو ألمانيا وفرنسا في أفريقيا ودهمتهم بما عندها من الجند الذين لا يقلون عن خمسة عشر مليونًا فقل على المسلمين السلام على أنها إذا لم تنكل بهم فإنها تسد أبواب الحرية الدينية والسياسية في أوجههم هذه تونس أبطل منها الحج والجزائر لا تدخلها جريدة إسلامية حرة كالمؤيد وتركستان لا يقرأ في مدارسها آي الجهاد من كتاب الله، وجاوه أصبح المسلمون فيها من الضغط والإهانة في مرتبة الحيوان الأعجم وأما المسلمون الذين تحت سلطة الدول الأخرى - فللأسباب المتقدمة جميعها؛ ولأن مصلحة الإنكليز في خلاصهم من يد تلك الدول وهي أقدر الناس على هذا في الحقيقة إذ هذه الدول (ما عدا الروسيا) لا تصل إلى ممالك الإسلام إلا من طريق البحر ومفاتح البحر في أيدي الإنكليز وأما المسلمون المستقلون فيجب عليهم الاتفاق مع الإنكليز أيضًا لأوجه منها أن مصلحة الإنكليز تفضل بقاء هذه الممالك مستقلة غير محكومة بدولة أجنبية وذلك؛ لأن روح هذه الأمة التجارة ومادامت الممالك الإسلامية مستقلة فأبواب التجارة مفتوحة وطريقها مأمونة فإن احتلتها دولة أجنبية فهناك المخافة والخطر، ولهذا السب كان الإنكليز أحرص الناس على مساعدة هذه الممالك على التقدم والنجاح والبقاء، ومن رأى مخاطبات السير ليارد سفير إنكلترا للباب العالي بعد الحرب الروسية وجد غيرة كبيرة على مستقبل الدولة أما استيلاء الإنكليز أنفسهم على بعض الممالك الإسلامية فهو في الغالب لتحققهم وشك وقوعها في أيدي غيرهم إن لم يسبقوا إليها، على أنه لولا دماء الإنكليز وأموالهم لاستولى الروس على القسطنطينية وعلى العجم والأفغان، وملكت فرنسا مراكش والطليان طرابلس وهكذا، ومن هذه الأسباب يعلم أن الممالك الإسلامية محتاجة في كل وقت إلى عضد قوي تنقي به أوربا والإنكليز هم أولى الناس بهذا إذ تجمعهم مع الأمة الإسلامية كراهية أوربا للفريقين وكراهتهما لها هذه هي أفكاري في هذا الموضوع ولولا أن هذه المسألة جوهرية بالنسبة إلى مستقبل الإسلام لما احتجت للتعرض لها في هذا المقام، اهـ لمؤلف الرسالة.(5/601)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
من
باب الآثار الأدبية
(اللؤلؤ النظيم في رَوْم التعلم والتعليم)
كتيّب لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926 ذكر فيه شروط
الاشتغال بالعلم وآفاته. ثم ذكر العلوم المعروفة في العربية وتعريفاتها. أما ما ذكره
من الشروط والآفات فهو حسن جدًّا. ويا ليت أهل الأزهر يتدبرون قوله ويسيرون
على منهجه كما يقرأون منهجه في الفقه وغيره من كتبه. فقد ذكر من الشروط أن
يقصد كل طالب بالعلم الذي يميل إليه طبعه؛ لأن كلاًّ ميسَّرٌ لما خلق له، وهم لا
يراعون هذا. وذكر منها اختيار الكتب الجيّدة، وهم قد التزموا كتبًا مفضولة لا حجة
لهم على اختيارها إلا تقليد الآخر لمن سبقه في ذلك. وذكر منها أن لا يدخل علمًا
في آخر، وهذه الحواشي التي التزموها قد امتزجت فيها العلوم امتزاجًا، فصارت
أخلاطًا وأمشاجًا.
وأما ما ذكره في تعريفات العلوم وفوائدها فقد جرى فيه على المعروف عند
أهل عصره في الغالب وفيه خطأ وقصور من أغرب ذلك قوله في الكيمياء: (علم
بأصول يعرف بها معدن الذهب والفضة) وقوله: (علم الهيئة علم يعرف به
الأجرام البسيطة من حيث كمياتها وكيفياتها وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها) .
* * *
(تعريف اصطلاحات علم الأصول)
رسالة أو مقدمة للشيخ زكريا الأنصاري أيضًا ينبغي لمن يبتدئ بتعلم الأصول
الاطلاع عليها، فإنها تؤنسه بتلك الاصطلاحات على ما فيها من خطأ وقصور، ومن
غريب ذلك قوله في تعريف المعدوم: (ضد الموجود) مع قوله عقيبه: (الضدان
أمران وجوديان يستحيل اجتماعهما في محل واحد) وهذا يفيد أن المعدوم من الأمور
الوجودية! ! ومنه قوله: (الذاتي ما يستحيل فهم ذاته قبل فهمه) ومنه تعريفه العدل
والعدالة بالاعتدال والثبات على الحق. وإنما نبهت على هذه الأغلاط لألفت طلاب
الأزهر إلى عدم التسليم بكل ما قال الشيوخ المؤلفون؛ لأنهم ألفوا وماتوا. هذا وقد
طبع الرسالتان أو المقالتان أو الكتيبان الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري وجعل
لهما مقدمة وخاتمة فكان جميع ذلك 36 صفحة صغيرة ولكن الثمن أصغر من ذلك فهو
نصف قرش صحيح.
* * *
(المعلقات السبع)
هي أشهر من أن ينوَّه بها، فما من مشتغل بالعلم إلا وهو يعلم أنها أبلغ ما يؤثر
عن العرب في الجاهلية، وأنها يحتاج إليها في اكتساب ملكة فصاحة اللسان وذوق
اللغة، ولكن نسخها التي في الأيدي غير موثوق بضبطها وصحتها؛ لذلك
انبرى الشيخ أحمد عمر المحمصاني إلى تصحيحها وضبطها على الشيخ محمد
محمود الشنقيطي، وهو كما يعلم القراء إمام اللغة في هذا العصر وقد طبع
النسخة المصححة مضبوطة بالشكل، وذكر في هامشها اختلاف الروايات
وأضاف إليها القصيدة المعروفة بلامية العرب مضبوطة مثلها، وجعل ثمن
النسخة من الورق الأبيض الناعم قرشين صحيحين والنسخة من الورق النباتي قرشًا
ونصفًا، فَنَحُثُّ كل مشتغل بالعربية على حفظها بهذا الضبط والتصحيح. ويا حبذا لو
كان أضيف إلى ذكر الروايات تفسير الغريب.
* * *
(سفينة النجاة في قواعد النحاة)
اسم لكتاب تعليمي مؤلف من أجزاء طبع الثالث منها أخيرًا طبعًا حسنًا مضبوطًا
بالشكل على ورق حسن، وهو أوسع من كتاب النحو الرابع الذي يقرأ في المدارس
الأميرية أو مثله لكنه أكثر تمرينًا فهو خير كتاب رأيت في تسهيل تعليم النحو.
ومما رأيته منتقدًا فيه ذكر جمل فاسدة في التمرينات لأجل إصلاح التلامذة لها
وعندي أن هذا مما يترك للمعلمين ولا يكتب في الكتب. والخطب سهل، ومنه ذكر
بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم المأثورة مع تصرف فيها بالزيادة
والنقصان، أو التبديل والتغيير والمعنى صحيح، ولعل المؤلف يعتذر بأن هذا من
قبيل الاقتباس الذي اعتادوا التصرف فيه بالمأثور، وهو عذر يقال وإنما انتقدت؛
لأن القارئ يقع في الوهم من ذلك السرد الذي ليس مظنة للاقتباس إذ لم يعتد في
مثل هذا المقام، أما مؤلف الكتاب فهو أحد (الفرير) وقد أشار إلى اسمه بهذه
الإشارة (ح. ط.) وأتبعها بهذه العبارة (مفتش اللغة العربية في أحد المدارس
الكبرى بالقاهرة) .
* * *
(المنار وجريدة (تربيت) الفارسية)
جاء في جريدة تربيت الفارسية التي تصدر في طهران تحت عنوان (مجلة
المنار) ما ترجمته: إنَّ العلوم والمعارف في هذا العصر قد بنيت في عمدة أقسام
الدنيا كما ينبغي أن تبنى، وأحكمت كما يجب أن تحكم، ولم يبق إلا القليل من
الأمكنة التي يعيش أهلها بالأوهام الباطلة، والخيالات الواهية، جاعلين عنان
اختيارهم بأيدي أهواءٍ مختلفة ورياح متناوحة، يسلكون المناهج المظلمة عميًا لا
يبصرون.
إن معارف الفلاسفة الأقدمين وأفكار العلماء العرفاء من أهل الفروق المتوسطة
قد أصبحت مفاتح لحكماء هذا العصر الجديد حتى سهل لهم بها تذليل الأقفال
الصعبة، وفتح الأبواب الموصدة، وأصبح عمر الإنسان القصير من جراء هذه
الاكتشافات يعد بالألوف من السنين. والعالم يفهم أن بمعنى العيش وحقيقة الحياة
هو العلم، ومن فوائد العلم القدرة على العمل، ومن لا علم له لا قدرة له.
والأشياء التي يرومها الجاهل في عمره ويرجو أن يدفع بها آلامه وأوجاعه
هي التي تولد الأمراض وتضاعف الأوجاع. فحكمها حكم الخمرة التي يشربها
الشارب في جنح الليل لصدع همومه فيحدث في صباحه ما يكثر همومه من الصداع
والكسل، قال أحد عبدة الخمر: إني لم أشرب في عمري غير جام واحد لترويح
النفس، وكل ما شربته بعده فإنما كان لدفع ما أورثته تلك الكأس من الخمول
والخمود.
لا نبعد، فالغرض هو العلم إذ به أصبحت أكثر الممالك في هذا العصر جنات
دانية الجنى، وقد تسلسلت أنهار الفضل ببعضها، وصيرت السراب بحرًا متدفق
الجوانب بالأمواه العذبة. وأحد تلك البحور الزاخرة التي ليس لها ساحل هو وادي
النيل وكرسي الفراعنة الذي صار حقيقًا بأن يدعى في عصرنا هذا بعرش الحكمة،
وأي دليل على ما نقوله أقوى من وجود منبع الفضل العلامة الأوحد مولانا الأستاذ
الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية _ متعنا الله بطول حياته - في الجامع
الأزهر في القاهرة.
(الجامع الأزهر هو مدرسة تحتوي على آلاف من الطلبة مشغولين فيه
بتحصيل العلوم) ، وقبل هذا كثيرًا ما تكلمنا عن الجرائد والمجلات المصرية،
وإننا نكرر الحديث فيها حتى لا نكون مدينين بشيء لشرح هذا المطلب المهم، ولا
يفوتنا مستحب مؤكد بل فريضة لازمة.
في هذا الأسبوع وردت على إداره التربية (مجلة المنار) ففاز رواد المعارف
الذين هم في حوزتنا الصغيرة من مطالعة تلك المجلة بأكبر المنافع، وبها عرفنا منزلة
صاحبها سيد الفضلاء الأستاذ الألمعي السيد محمد رشيد رضا ومقدار ما عليه
حضرته من الفضل والأدب.
أقول: لم يبق في هذا العصر للأمة المصرية شيء يمنعها من بلوغ مقاصدها
السامية فإن أسباب الكمال مجموعة لديها فكاتبها مثل السيد ومحررو أخبارها من
ذكرنا قبلُ ومرشدها فيلسوف مثل فضيلة الشيخ الأجل محمد عبده (شكر الله
مساعيه) ، ودار كتبها الشهيرة (الكتبخانه الخديوية) لا يحيط بها الوصف. فإذا لم
يصل أولئك القوم إلى أقصى درجات العلم والحكمة فلا أدري من أي جهة يكون
التقصير، وما هو السبب فيه؟
المنار مجلة علمية أدبية تهذيبية ملية وفيها أخبار متنوعة تصدر في غرة كل شهر وفي السادس عشر منه هي جنس يجب أن يُشْرى بالروح. ومن زينة الحياة
الدنيا أن هذه المجلة الواحدة تكفي وتغني. إن ما يسطر فيها يمزج بماء الحياة
ويشرب فهو ينقذ من مخالب الاستسقاء المهلك، ويحي الروح وينجي من الموت ولم
يؤلف كتابًا ولا رسالة أحسن من مجلة المنار؛ لأجل الوصول إلى الحقيقة ومزايا
الإسلام، ولو أن ابن خلدون الحضرمي كان حيًّا لعلم ما أقوله وأثبته.
في كل مقالة من هذه المجلة الغراء أثر من طيب ريحانة الفاضل الخبير،
والنحرير الذي ليس له نظير، رئيس معلمي قاموس كل علم، علم الأعلام، سند
الإسلام، فضيلة الشيخ محمد عبده - دام علاه - الذي هو كمال المشرق والمغرب
وجمالهما. وإذا راقت الآراء المعدودة من حكمائنا في أعين العرفاء من الإفرنج
فأول تلك الآراء هي تصورات ذاك المولى الكبير - أعني الشيخ محمد عبده جعل
الله إلى أعلى المقامات منتهاه، وإلى أعظم البحور طريقه.
ومن هذه الجملة استنبط حسن حظ المصريين الذين هم إخواننا المسلمون،
واعلم أن شكر هذه النعمة من الواجب، وبعد الأسف الكثير على حال المسجونين
في ظلام الجهل أقول: بخ بخ لمصر التي منحت فوق دار الكتب ودار الآثار
والعاديات والمدارس كنوز معارف من المجلات المضيئة المفيدة، وما أطيب زمن
طلاب جامع الأزهر إذ يحكمون مباني عقولهم وأفهامهم، وينورون ساحات قلوبهم
وأبصارهم بسماع حكمة تلك الكلمات والآيات وجواهر أحاديث الفيلسوف الأعلم،
الجناب المستطاب المعظم، الشيخ محمد عبده سلمه الله تعالى. يحسن من أهل
بلادنا أيضًا أن يطلبوا مقدارًا من هذه المجلة، ويسرحوا النظر فيها، وإذا نشأ عن
ذلك خطايا فخطاياه في عنقي.
طالت حياة شيخنا الأجلّ الشيخ محمد عبده إذ فيها خير المسلمين، وإن شاء
الله سنزين أوراق التربية بشرح ذاك مع الفوائد العظيمة من مجلة المنار.
***
(المنار)
لقد سبق أن قرظ المنار من علماء الأقطار وفي خير الجرائد والمجلات
العلمية في مصر وغيرها، ولم نقل من ذلك شيئًا لأننا نرى أن ناقل مدحه كمادح نفسه
بنفسه، ولكننا عنينا بتعريب ما كتب في هذه الجريدة (تربيت) ونشرناه لا لأن
صاحب الجريدة من أكابر العلماء والفضلاء، وخيرة الكتاب البلغاء. ولا
لأن الجريدة لها المكانة العالية في نفوس كبراء الفرس وفضلائهم كما أخبرنا بذلك
صديقنا مِيرزا مهدي بك صاحب جريدة (حكمت) الغراء بل لأن صاحبها على
مذهب الشيعة، فأحببنا أن يعرف قراء المنار من أهل السنة أن من فضل الله تعالى
على الإسلام والمسلمين أن نزع من قلوبهم في هذا العصر تلك العصبات والتحزبات
التي خضدت بها من قبل شوكتهم، وفرقت كلمتهم، فذهبت ريحهم، وخبت
مصابيحهم، تقشعت الظلمات وانجلت الغياهب عن فضلاء الأمة فأبصروا أن
مصلحتهم واحدة لأن جامعتهم واحدة وهي جامعة الدين الحق الذي جعلهم إخوانًا.
صار المسلم في فارس يفرح لأخيه المسلم في مصر إذا أحسن عملاً ويحزن لأخيه
في مُرّاكش إذا أساء صنعًا، وكذلك حال المصري يبتهج بما يسمع من حسن حال
إخوانه في إيران. ويستاء إذا هضمت حقوقهم في بلوجستان، إلا ما يلغط به بعض
الأحداث، وإن لم يصادف أقل اكتراث، فلا وطنية ولا عصبية في هذه الديانة
الإسلامية، وعلى كل حال يجب أن نشكر لأخينا صاحب جريدة (تربيت) حسن
ظنه بنا وبالمنار على ضعفنا وتقصيرنا. أما ما قاله في الأستاذ الإمام، فهو الذي
اتفق عليه ذوو الأفهام، ولكن الشرط في حصول المراد، هو كمال الاستعداد.
__________(5/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مدرسة الشوربجي في كفر الزيات)
الناس معادن والاستعداد للخير يظهر أحيانًا في أفراد لا يهتدي أحد من الناس
إلى السر في ظهوره فيهم؛ لأنهم لم يمتازوا في تربيتهم امتيازًا يرفعهم عن قومهم
فيسند إلى تلك التربية ما يندفعون إلى القيام به في الأعمال النافعة والمشروعات
العامة. وإنما بتعلل علماء النفس والأخلاق في التعليل بأن ذلك الاستعداد جاء من
الوراثة لأحد الأجداد السابقين وَفَاتَهُم أن لله في بعض البشر عناية أزلية، وفي
بعض القلوب إلهامات خفية، وليس هذا وذاك من الشذوذ عن النواميس الفطرية
ولكنه غير معروف بالتحقيق والتعليل الصحيح عند علماء النفس.
مصطفى بك الشوربجي تربى في الحقول والمزارع لا في المكاتب
والمدارس، وهو لا يقرأ الكتب والجرائد التي تُرغّب في إنشاء المدارس
والمستشفيات، وقد وفق من سنين إلى إنشاء مستشفى ومدرسة للبنين والبنات في
بلده (بمديرية البحيرة) وأوقف عليهما من الأرض ما يفي ريعه بنفقتهما ثم إنه لما
صار يتردد إلى بلدة كفر الزيات (بمديرية الغربية) لمعاهدة أراض اشتراها فيها
ورأى أنه ليس فيها مدرسة للمسلمين شرع في بناء مدرسة للبنين والبنات فيها وبناء
بيوت بجانبها توقف عليها. وكان يوم الجمعة الماضي يوم الاحتفال بالتأسيس،
وكان رئيس الاحتفال عدلي باشا يَكَن مدير الغربية حضره كثير من الوجهاء
والفضلاء.
وبعد أن وضع المدير الحجر الأول الأساس على الطريقة الأوربية الجديدة
دعي كاتب هذه السطور إلى الخطابة فقام وقال ما فتح الله به من بيان حسنات
العلم ومنافعه في الزراعة والصناعة والتجارة وكل أعمال الحياة الاجتماعية لا سيما
جمع كلمة الأمة وتوحيد مصالحها ومنافعها الذي يتحقق به معنى الإنسانية، ثم بيان أن
نشر العلم الذي له هذا الشأن في الحياة هو أفضل الفضائل على الإطلاق حتى إن
إنشاء المدارس وبيان أن جميع طبقات البشر متقاربون في اللذات الحسية وإن
أوهمت المظاهر الصورة خلاف ذلك فلم يبق من فائدة للاستزادة من جمع المال إلا
الشرف، وكان في أيام الجهل محصورًا في الاتفاق على احتفالات الأعراض والمآثم
ونحوه ولكن أهل هذا العصر لا يرون الشرف إلا في العلم والسعي في
نشره والقيام بثمراته فينفع الناس، فعلى من يريد أن يكون شريفًا عزيزًا في الدنيا أن
يسعى في إنشاء المدارس، وعلى من يريد أن يكون سعيدًا في الآخرة أن يسعى في
ذلك أيضًا.
ثم نبهتُ بعد هذا على إقبال القبط على تعميم التعليم وسَبْقهِمُ المسلمين فيه
مبينًا أن العلم هو القوة الكبرى فإذا وجدت في فريق من الأمة دون آخر يرى الفريق
العالم أنه الأحق بالسيادة والرفعة وينشأ عن ذلك التنازع والتغابن بينه وبين الفريق
الجاهل فإذا كان هذا على نسبة قريبة منه في العدد والثروة يسرع إليه الغلب
والتلاشي ويسود العلم على الجهل سريعًا كما يرشد إليه قوله تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) أي: الذين يصلحون لعمارتها،
والعمل بسنن الله في ترقيتها. وإذا كان للفريق الجاهل قوة من العدد والمال يكون
النازع شديدًا، وخراب البلاد وشيكًا، والنتيجة أن خير البلاد في أن يكون أهلها
متفقين على غمرانها ولينفقوا في العمل حتى ينفقوا في العلم بالمصلحة. وذكرت
أيضًا العلم النافع وأنه ما يصلح العمل للدنيا أو الدين أو ما يصلح الاعتقاد ويقوّم
الفكر. ثم ختمتُ القول بحث وجهاء الغربية الحاضرين على مجاراة وجهاء
المنوفية في إنشاء المدارس وعلقت الرجاء بسعادة مدير الغربية وسعيه وبالله
التوفيق، ثم قام إبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير فألقى خطابًا مفيدًا بيّن فيه أن
العلم كان حلية وزينة في الزمن الماضي وصار ضروريًّا للحياة في هذا الزمن.
وإن كانوا يمتازون بالسجايا الفطرية فصاروا يمتازون بالمعارف الكسبية، ولذلك
صار العلم حياة حقيقية والجهل موتًا حقيقيًّا وضرب المثل بهنود أمريكا الذين
انقرضوا؛ لأنهم لم يقدروا أن يعيشوا بجهلهم مع المستعمرين العالمين إلى غير ذلك
من الفوائد التي اشتهرت بتنويه المؤيد بها. وقد ضم الخطيب صوته إلى صوتي
في تعليق الرجاء بالمدير.
ثم قام جندي أفندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن الغراء فألقى خطابًا قال فيه:
إن الذي حمله عليه هو ما قاله الخطيب الأول (صاحب المنار) في النسبة بين
المسلمين والقبط، وقال: إنه موافق في القول وشاكر عليه. ثم ذكر بمآثر
المصريين مشيدي الأهرام وذكر أن السبب في سبق القبط المسلمين في التعليم هو
العناية بتعليم البنات وأطال في بيان فائدة تعليمهن فجعله أهم من تعليم الذكور.
وكان من محاسن الاحتفال حضور بعض التلامذة والتلميذات من مدرسة
الشوربجي في البحيرة فخطبوا وأنشدوا الأناشيد في مدح العلم ومؤسس المدرسة،
ثم انصرف الناس داعين شاكرين.
***
(المستقبل للإسلام) شغلنا معظم هذا الجزء بهذه الرسالة الجليلة ليحيط
القراء بفوائدها مرة واحدة. وإذا كان هذا رأي شيخ عامة المسلمين في القطر وهم
الصوفية وما تقدم في مقالات (الإسلام والنصرانية) هو رأي شيخ خواصهم من
العلماء والكتاب. وقد اتفقا وبرهنا على أن المستقبل للإسلام والعاقبة للمتقين فلم
يبق عذر للمسلمين في تقدير القول قدره، والعمل في تحقيق حسن العاقبة.
__________(5/638)
غرة رمضان - 1320هـ
1 ديسمبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أيصومون ولا يصلون وهم مؤمنون؟
إذا كان الله تعالى قد منحنا الدين ليهدينا به إلى سعادة الدارين ومنافع الحياتين
فلا غرو أن يكون لكل عبادة فيه وجهان: أحدهما روحاني ينظر إلى توثيق عقدة
الإيمان وتهذيب الأخلاق، والآخر اجتماعي دنيوي ينظر في إحكام عُرى الارتباط
بين المؤمنين العابدين لتتأكد أخوّتهم. وتُبرم جامعتهم، وتتحقق وحدتهم، وقد
اهتدى علماء الاجتماع في هذه العصور إلى وجوب توحيد عادات الأمة؛ لأن
الوفاق كلما كثر وتعدد ما به يكون اشتدت الأواخي وأمنت التراخي حتى يكون
مجموع الأفراد كالشخص الواحد. فتراهم قد اتفقوا في أنواع العادات فهم يلبسون
زيًّا واحدًا ويأكلون في وقت واحد ويتنزهون في وقت واحد كما يتعلمون على طريقة
واحدة ويتربون على مثال واحد، وبهذا صاروا كأنهم أهلُ بيت واحد يتعاطفون
ويتعاضدون؛ بل صاروا في مجموعهم كالجسد الواحد كما ورد الحديث في وصف
المؤمنين.
الصوم والصلاة عبادتان علَّمَتَا المسلمين الأولين مراقبة الله تعالى والتوجه إليه
وطلب مرضاته فصلحت نفوسهم وسمت هممهم وتهذبت أخلاقهم وعَلَّمَتَاهُمُ الاجتماعَ
في أوقات معينة والأكل في أوقات متفقة فأرشدتهم إلى النظام وطرق الوحدة
فصلحت أحوالهم باطنًا وظاهرًا فكانوا كما قال الله تعالى في خطابهم:
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) أو كالبنيان يشدُّ
بعضه بعضًا كما ورد في الحديث.
مضت سُنّة الأولين من أهل الملل أن الدين يضعف فيهم ويَضْمَحِلّ على هذا
النحو؛ تزول حقيقته المعنوية أولاً ثم تزول بعدها صورته الظاهرة بالتدريج.
الجسد الحيّ بقاؤه ببقاء روحه فإذا أُزْهِقَتِ الروحُ منه أسرع إليه الفساد ثم التلاشي
والاضمحلال. وإنما تَزْهَقُ روح الدين بأمراض تُعُرِّضَ لها بعد فَقْدِ الأطباء
الروحانيين أو إهمال خواص الأمة لهم وتركهم طبَّهم لأرواحهم عند مرضها.
والسبب في رغبة هؤلاء عن مداواة نفوسهم هو أن الأمراض التي تلّم بهم مستلذة؛
بل هي لا تعدو الإفراط في اللذة مع الجهل بالعافية وما وظيفة الدين إلا هداية
الإنسان إلى موقف الاعتدال في استعمال قواه الفكرية والنفسية لتبقى فطرته سليمة
معتدلة.
الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن سلطانها على الروح أعلى، وجذبها إياه إلى
عالم القدس أقوى، ولأن تأثيرها في جمع القلوب والتأليف بين الأفراد أبلغ،
وإشعارها نفوس الطبقات المختلفة معنى المساواة أشد.
الصيام يُذكّر النفس بالسلطان الإلهي عندما تُعْرَضُ لها الطيبات في النهار
فترى أنها ممنوعة منها بأمر الله تعالى شأنه وعند الفطر والسَّحُور إذا تذكّرت أن
تغيير مواقيت الأكل إنما كان لتحقيق هذه العبادة التي فرضها البارئ جل جلاله على
عباده ترويضًا لأرواحهم وجسومهم وتعويدًا لهم على حكم قواهم النفسية كيلا تَفْرُطَ
عليهم وتطغى ليستعدوا بذلك كله لتقواه جلّ وعَلا. وأما الصلاة فكل قول من أقوالها
وكل عمل من أعمالها فهو ينفخ هذا الروح الحي فيمن يُقيم الصلاة لا في كل مَن
يُصلي؛ لأن فصلاً بعيدًا بين إقامة الشيء على وجهه وبين الإتيان بصورته
كالفصل بين خَلْق الإنسان وبين رَسم صورته على لوح أو جدار.
إذا قال مقيم الصلاة: الله أكبر، أعطته هذه الكلمة من تجريد التفضيل في
التكبير أن الله تعالى أكبر مِن كل ما يوجد ويُتصور فيطمئن قلبه بالتنزيه وتستولي
عليه هيبة الكبرياء والعظمة، ثم إذا قال: وجهت وجهيَ للذي فطر السموات
والأرض (وهو مستحضرٌ أنه يعبر عن توجه قلبه، إلى حضرة معرفة ربه)
فإن نفسه تسمو عن الالتفات إلى الدنايا، وتسمو عن الاشتغال بالخسائس، حسبك
من الصلاة ما تعطيه هاتان الكلمتان، فكيف بك إذا تدبرت سائر الأذكار والتلاوة
وفقهت أثر ذلك القيام والقعود، والركوع والسجود؟ كأني ببعض المكابرين الذين
يحكمون على الدين وتأثيره بما يجدون في أنفسهم وما يعرفون من حال معاشريهم
والعائشين معهم يقولون: إنْ هذه إلا معاني مخترعة، وأسرار مبتدعة، وخواطر
سانحة، وموازين غير راجحة. وعذرهم في ذلك: الحرمانُ، وعدم تدبر سيرة
الذين سبقونا بالإيمان، ومن ذاق عرف، ومن عرف وصف، ولست واقفًا هنا
موقف المناظر، ولم أقصد بهذا القول إقناع المكابر، وقد سبق للمنار القول في
بيان فوائد الصوم النفسيّة والبدنية والاجتماعية (فليراجع في المجلدين الثاني
والرابع) وكذلك القول في فوائد الصلاة، إنما نريد الآن أنْ نذكُر أمرًا غريبًا في
التصور ولكنه واقع شائع وهو أن كثيرًا من الناس يصومون رمضان ولا يصلون
إلا في رمضان أو لا يصلون مطلقًا.
الصوم من آيات الإيمان فلا يجامع الكفر والجحود، ولكن كيف يكون المرء
مؤمنًا بدين ثم هو يستبيح ترْك أفضل عباداته وآكد فرائضه وأعظم شعائره، وما
هي علة هذا الترك المطلق، والإهمال المستغرق إذا كان الإيمان هو الذي بعث ذلك
الصائم على الصوم، فلماذا لم يَدُعُّهُ دَعًّا إلى الصلاة التي تلي الإيمان في المرتبة؟
أيتصور أن يكون لعلة واحدة معلولات فتوجد ويتخلّف عنها أول تلك المعلولات
وأَوْلاها، ثم يوجد أضعفها وأقصاها، هذا موطن مِن مواطن العجب، ولا بد من
بيان السبب، قد يقال: إذا كان ترك الصلاة لا يجامع الإيمان وترك الصيام لا
يجامع الكفر فلا بد أن يكون مَن يصوم ولا يصلي في مرتبة بين المؤمن الصادق
والكافر المارق، وهو ما كانوا يدعونه المنافق، فهو مرتاب يصوم لاحتمال صحة
الدين، ولا يصلي لفقد اليقين، ويمكن أن يقال: إن صوم مثل هذا ليس من ثمرات
الإيمان، وإنما هو مجاراة للأهل والجيران، فهو عادة لا عبادة. ولو تركه
المعاشرون والأقران، لما بعث عليه القرآن، ولذلك ترى الذين لا يبالون بالعادات
لقوة عزائمهم في العمل بما يعتقدون قد تركوا الصوم فهم يحاربون الدين جهرًا ولا
يحترمون أهله ولا يجاملونهم مِن حيث هم به مستمسكون. ويصحّ أن يقال: إن مِن
تاركي الصلاة المارق، ومنهم المنافق، ومنهم مَن يتركها لمرض الجهل والكسل لا
لمرض الارتياب أو الجحود. ولذلك يصوم هذا صومًا حقيقيًّا يفيده تقوى الله تعالى
في أمور كثيرة فهو يظمأ ويَصْدَى ولا يشرب في خلوته لعلمه بأن الله تعالى يراه
ولا يرضى له أن يكون ضعيف النفس مغلوبًا لشهوة الماء يعصي الله لأجلها. فإن
لم يلاحظ مثل هذا بالتفصيل فلا أقل مِن الإجمال.
أما الجهل الذي يساعد الكسل على ترك الصلاة فهو ذو شعب كثيرة يوجد
بعضها عند أبناء العصر العتيق. يقول أبناء العصر الجديد: إن الله تعالى لا يُعَذِّبُ
الناس إذا قصّروا في عبادته؛ لأن الدين لا يصح أن يكون عقوبة للبشر وإنما
فرضت الصلاة لتعين على تهذيب النفس ونحن قد تهذبت نفوسنا فلا نرضى لأنفسنا
أخلاق هؤلاء المصلين الذين فشا فيهم الكذب والغش والزور والطمع والدناءة. إلخ.
قول اشتبه حقه بباطله ومسلك الجهل فيه دقيق، ولنا أن نقول لهم صدقتم في
قولكم: إن الدين لا يصح أن يكون عقوبة بل هو رحمة من الله تعالى، قال تعالى
لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقال في خطاب
المتكلفين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220) ولكنه لم يشأ فله الحمد
والشكر. وقال جل ثناؤه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وفي معناه قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ولكن العقوبة على ترك الصلاة ليست من الحرج وإنما هي من
الرحمة، فإن الصلاة منفعة وترك المنفعة ضارّ؛ لأنه وقوع في الضد وهي واقعة
في الدنيا ومعقولة فمن الجهل الارتياب فيها، ألا ينظر هؤلاء القائلون في
صنفهم والذين تعلموا وتربوا مثلهم كيف تفتك فيهم الفواحش المنكرات فتذهب بمالهم
وبصحتهم وتُكَبِّلُ بلادهم بالسلاسل والأغلال وتسلمها إلى الأجانب. وإذا
وجد فيهم أفراد ساعدهم الاستعداد الفطري وما يسمونه (الظروف) والوراثة
الطبيعية لسلفهم المصلّين على تهذيب نفوسهم فهل استغنوا بهذا التهذيب الذي
امتازوا به على العدد الكثير مِن أمتهم المريضة عن تكميل نفوسهم بمناجاة الله
تعالى؟ أليس لكل واحد منهم أمراض نفسية لو أقام الصلاة لوجد فيها شفاءها؟ منهم
الهَلُوعُ الذي يَجْزَعُ لكلّ شر يصيبه حتى كأنه امرأة ضعيفة أو طفل صغير، والذي
إذا أصابه الخير أمسكه عن إعانة الضعيف وإغاثة للهيف، بل الذي لا يخرج منه
الحق الثابت عليه إلا نكدًا. وإذا فرضنا أن جهله بحقيقة نفسه وحقيقة الصلاة زيّن
له عدم حاجته إليها ولو لِشُكْرِ اللهِ تعالى وحِفْظِ شعارِ الدين الذي ينتمي إليه فهل
يُزينُ له أيضًا أنّ أهله مِن زوجة وبنينَ وبناتٍ في غنى عن هذه الصلاة؟ وإذا لم
يكونوا في غنًى عنها، فهل يرى أن إقامتهم إيّاها من الأمور السهلة إذا كان هو
لا يصلي، أما صلاة فاسدي الأخلاق الذين يتمثل بهم هؤلاء فهي شبيهة بصيامهم
أي إنها محاكاة وتمثيل لهيأة الصلاة الظاهرة.
وجملة القول في جواب هؤلاء أن اعتذارهم بعدم العقوبة على ترك الصلاة
غير سديد وأنهم لم يفهموا معنى العقوبة على تركها، ولو فقهوا تأثيرها في النهي
عن الفحشاء والمنكر لفقهوا معنى كونها رحمة تزكي النفس فتفلح في الدنيا والآخرة.
وكونِ تركها نقمة تُدَسِّي النفس وتسهل لها سبل الفواحش والمنكرات فتسلكها
فتخسر في الدنيا والآخرة. لو تأمل المتأمل المؤمن بالله معناها وما وصفها به
الكتاب العزيز لفقه ذلك ولو علم أنها الآية الكبرى في انقلاب أحوال مسلمي الصدر
الأول وتبدل أخلاقهم وسجاياهم لَفَقِهَ ذلك، ولو كان عندنا اليوم عدد من مقيمي
الصلاة لاستغنينا عن هذا وذاك في تعليم الجاهل وتنبيه الغافل وإقناع المجادل. هذا
ما يقول لنا أبناء العصر الجديد وما نقول لهم الآن بالإيجاز وإنَّ لنا لعودة نفصِّل
فيها القول تفصيلاً إن شاء الله.
وأما أبناء العصر العتيق فإنّ لهم مِن الضلال في فهم الشفاعات والمكفرات
والانتساب إلى أصحاب الأضرحة والمقامات ما يصرفهم عن إقامة الصلاة، ويغلّ
أيديهم عن أداء الزكاة، فكيف إذا أضافوا إلى ذلك الغرور بالله والتشدق بذكر الرحمة
والمغفرة. وقد كشفنا من قبل جميع هذه الشبهات وأنَّ أكبرَ آية على ضلالهم في
فهمهما سوء تأثير هذا الفهم فيهم حتى انتهى بهَدْمِ أركان الإسلام وتَرْكِ شعائرِهِ فكاد
ينطمسُ مَبناه بعدما جهل معناه؛ ولكن خطباء الفتنة وعلماء السوء هم الذين
يروّجون هذه الأضاليل فهم قادة المقلدين، وعونهم على إضاعة الدنيا والدين، وكأنك
بغربانهم تنعق على أعواد المنابر بهذه المكفرات ومنها المكذوب على الله ورسوله
كقولهم: (إن الله يعتق في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق مِن النار، فإذا كان
آخر ليلة منه أعتق بقدر ما مضى) . وأمثال ذلك، وفي أقوالهم ما تصح روايته ولكن
الفساد في جهل معناه، لذلك نرى أكثر العامة يصومون ولا يصلون ولا يزكّون،
ومنهم الذين لا يحلّون ولا يُحرمون.
الصوم أسهل على النفس مِن المحافظة على الصلاة ومِن إيتاء الزكاة فهو
الرسم الباقي عند أكثر المسلمين فإذا دَرَسَ (والعياذُ بالله تعالى) كان دروسه خطرًا
كبيرًا على الرابطة الإسلامية؛ لهذا نرى أن الذين يجاهرون بالإفطار في رمضان
مِن المسلمين الجغرافيين أشد فتكًا بالإسلام والمسلمين مِن كل مخالف يطعن بعقائدهم
أو يستأثر بسياستهم؛ ومن العجيب أن يوجد فيهم من يتشدّق بكلمة الوطن أو الأمة،
وأعجب العجب أن بعضهم يذكر الإسلام ويُظهر أنه يتمنى عزته ويحاول خدمته.
إذا كان تارك الصلاة إنما يتركها تثاقلاً من مقدماتها وشروطها وتكرارها فأنا
أدلّه على ما يذهب بثقل هذه الأمور كلها ويُسهِّل عليه ما عَسَّره اختلاف الفقهاء،
وإنما يكون ذلك بالرجوع إلى أصل الدين، والعمل بما اتفق عليه جميع المسلمين،
فأما الطهارة فالغرض منها النظافة وهي مما يرغب فيه كل كريم النفس ويتحراه
بحسب استطاعته، وأما كون التنزه عن القليل مِن النجاسة والكثير شرطًا لصحة
الصلاة فما اختلف فيه السلف الصالح والائمة المجتهدون فليتحرَ الإنسانُ التنزه
احتياطًا إلا إذا عسر عليه، ولهذا يحتاط لقول بعض الفقهاء حتى يترك الصلاة
احتياطًا ولا يعمل بقول مَن لا يرى الشرطية ويقيم ركن الدين الركين احتياطًا؛ بل
إن الذين اشترطوا طهارة الثوب والبدن للصلاة قالوا: إن المشقة تجلب التيسير ولا
حرج في الدين فمن صعب عليه الاحتراز من شيء فله رخصة فيه.
وأما الوضوء فهو أسهل شيء إذا روعيت السنة ونبذت الوسوسة فقد ورد أن
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم توضأ ولم يقع شيء من ماء وضوئه على
الأرض فيسهل على العارف بالسنة أن يتوضأ من كوب ماء (كوباية) وهو واقف
أو قاعد لا سيما إذا كان يمسح على ما يستر رجله ولو جَوْربًا مِن قطن أو صوف
فإن ذلك جائز عند كثير من الصحابة والتابعين وعليه الإمام أحمد.
وأما تعدّد الصلاة فخير لصاحب الشغل الكثير من الترك أنْ يأخذ بالحديث
الذي رواه مسلم في صحيحه والشافعي في سننه وغيرهما وهو أن النبي صلّى
بالصحابة الظهر والعصر في وقت واحد والمغرب والعشاء في وقت واحد من غير
مرض ولا سفر. وقد أوَّل أكثر الفقهاء الحديث فحمله الشافعية على وقت المطر
والمالكية على تأخير الأولى والتعجيل بالثانية ولكن في بعض رواياته عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما تعليل ذلك بقوله (لئلا يحرج أمته) . فدل هذا على أن هذا
الجمع رخصة والعزيمة في أداء الصلاة في وقتها أفضل ولكن الرخصة أولى من
الترك كما هو واقع.
كل واحد مِن هؤلاء المترفين الذين يتثاقلون عن أداء الصلاة يغسل أطرافه عند
القيام من النوم، فإذا جعل ذلك الغسل موافقًا للوضوء الشرعي وصلى ركعتين شكرًا
لله تعالى وحفظًا لأفضل شعار يربطه بأمته وتعليمًا لمن يعيش معهم للدين بالعلم أو
حملاً لهم على التأسي به فأي ثقل عليه؟ ثم إذا فعل مثل ذلك في وقت الظهيرة؛ إذ
يسكن إلى الراحة أو وقت الأصيل إذا شغل وقت الظهيرة، فأي تعب في ذلك وهو
عمل لا يستغرق ربع ساعة؟ وكذلك وقت العشيّ عندما يستريح مِن عمل النهار.
أختم القول بتذكير أبناء العصر الجديد بمسألة هم أعرف بتفصيلها من سواهم.
وهي أن الأمم الحية تحافظ على عاداتها القومية وشعائرها المِلّية وإن كانت تعتقد
أنها وضعية فلا يرضى أهل الرأي منهم بترك شيء من ذلك إلا إذا تبين لهم أنه
ضارٌّ ضررًا كبيرًا لا يشفع فيه حفظ الرابطة العامة بالثبات عليه، ثم إنهم يتروّوْن
في ذلك التروّي الواجب، فما بالكم وأنتم تقلدونهم في الزي والحركة في الطريق
(لا في العمل) وفي الماعون والأثاث لا تقلدونهم في الثبات على شعائركم
والمحافظة على روابط جامعتكم؟ تعلمون أنهم ما تركوا شيئًا إلا بعد أن استبدلوا به
ما رأوه خيرًا منه، فماذا استبدلتم بهذه الشعائر الإسلامية النافعة، والروابط المِلّية
الجامعة، التي تتركونها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؟ ألا إنكم تستبدلون
الذي هو أدنى بالذي هو خير، تحلون عُرى جامعتكم التي فيها عزكم وشرفكم في
الدنيا وسعادتكم في الآخرة وأنتم لا تشعرون، فتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون.
__________(5/641)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الاجتماع السادس لجمعية أم القرى
(تابع لما في الجزء 13)
ثُم قال (الأستاذ الرئيس) للخطيب القازاني: إن الإخوان يترقبون منه أيضًا
أن يفيدهم بما يلهمه الله مما يناسب موضوع مباحث الجمعية.
قال (الخطيب القازاني) : إن الإخوان الأفاضل لم يتركوا قولاً لقائل، ولذلك
لا أجد ما أتكلم فيه وإِنَّما أقصّ عليهم مساجلة جَرَت في الاستهداء بين مفتي قازان
وإفرنجيٍّ روسيٍّ من العلماء المستشرقين العارفين باللغة العربية المُولعين باكتشاف
وتتبع العلوم الشرقية ولا سيما الإسلامية، وقد هداه الله إلى الدين المبين فاجتمع
بمفتي قازان وقال له: إنه أسلم جديدًا وهو بالغ من معرفة لغة القرآن والسُّنة مبلغًا
كافيًا وعالم بموارد ومواقع الخطاب عِلمًا وافيًا، فيريد أن يتتبع القرآن وما يمكنه أن
يتحقق وروده عن رسول الله فيعمل بما يفهمه ويمكنه تحقيقه على حسب طاقته؛
لأنه لا يرى وجهًا معقولاً للوثوق بزيد أو عمرو أو بكر أصحاب الأقوال المتضاربة
المتناقضة لأن حكم العقل في الدليلين المتعارضين التساقط وفي البرهانين المتباينين
التهاتر فهل من مانع في الإسلامية يمنعه من ذلك؟
فأجابه (المفتي) : إن أكثر الأمة مطبق منذ قرون كثيرة على لزوم اعتماد ما
حرره أحد المجتهدين الأربعة المنقولة مذاهبهم، فإطباق الأكثرية دليل على الصحة فلا يجوز الشذوذ.
فقال (المستشرق) : لو كان الصواب قائمًا بالكثرة والقدم وإن خالف
المعقول لاقتضى ذلك صوابية الوثنية ورجحان النصرانية ولاقتضى كذلك عكس
حكم ما صح وروده على النبي صلى الله عليه وسلم من أن أمته تفترق إلى ثلاث
وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي التي كان هو وأصحابه عليها وقد وقع ما
أخبر به وكل فرقة تدعي أنها هي تلك الواحدة الناجية ولا شك أن الاثنتين والسبعين
فرقة أكثر من أي واحدة كانت منها فأين يبقى حكم الأكثرية؟.
فأجابه (المفتي) أنه قد سبقنا من أهل التحقيق والتدقيق الذين تشهد آثارهم
بمزيد علمهم ألوف من الفضلاء، وكلهم اعتمدوا لزوم اتباع أحد تلك المذاهب
القديمة حتى بدون مطالبة أهلها بدلائلهم؛ لأن مداركنا قاصرة عن أن توازن الدلائل
وتميز الصحيح والراجح من غيرهما، ومثلنا في تلك كالطبيب لا يلزمه أن يجرب
طبائع المفردات كلها ليعتمد عليها بل يأخذ علمه بطبائعها عما دونه أئمة الطب.
فقال (المستشرق) : نعم إن الطبيب يعتمد على ما حققه الأوّلون ولكن فيما
اتفقوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه على طرفي نقيض بين نافع أو سامٍّ فلا يعتمد فيه
على أحد القولين بل يهملهما ويجدد التجربة بمزيد الدقة والتحقيق؛ لأن اعتماده
على أحدهما يكون ترجيحًا بلا مرجح. هذا وإننا لنرى ببادئ النظر أن هؤلاء
الأئمة الأقدمين لم يقدروا أن يطلعوا على ما لا يقدر المتأخرون أن يطلعوا عليه
ويكفينا برهانًا على ذلك:
(أولاً) تخالفهم في كل الأحكام إلا فيما قلّ وندر تخالفًا مهمًّا ما بين موجب
وسالب ومحلل ومحرم حتى لم يمكنهم الاتفاق في نحو مسائل الطهارة وستر العورة
وما يحل أكله وما لا يحلّ.
(ثانيًا) ترددهم في الأحكام وتقلبهم في الآراء وذلك كحكم أحدهم في المسألة
ثم عدوله عنه إلى غيره كما يقول أصحاب الشافعي أنه كان له مذهبان رجع بالثاني
منهما عن الأول.
(ثالثًا) اختلاف أتباعهم في الرواية عنهم كأصحاب أبي حنيفة الذين قلّما
يتّفقون على روايةٍ عنه ويؤوّل ذلك لهم بعض المتأخرين بتعدد مذاهبه في المسألة
الواحدة والحاصل أنّ الإنسان الذي يتقيّد بتقاليد أحد أولئك الأئمة ولا سيما الإمام
الأعظم منهم لا يتخلص من قلق الضمير أو يكون كحاطب ليل وعلى ذلك لا بد
للمتحري في دينه من أن يهتدي بنفسه لنفسه أو يأخذ عمن يثق بعلمه ودينه
وصوابية رأيه ولو من معاصريه؛ لأن الدين أمر عظيم لا يجوز العقل ولا النقل
فيه المماشاة واتباع التقليد.
أجابه (المفتي) : نحنُ لا نحتّم بأن الصواب مقطوع فيه في جانب أحد تلك
المذاهب بل المقلد منّا، إما أن يقول بإصابة الكل أو يرجح الخطأ في جانب من
تَرَكَ مع احتمال الصواب.
فقال (المستشرق) : هذا القول يستلزم تعدد الحق عند الله أو القول بالترجيح
بلا مرجح؛ لأنكم تتحامون المفاضلة بين الأئمة، واعترافكم باحتمال المذاهب للخطأ
يقتضي جواز تركها كلها مع أنكم توجبون اتباع أحدها أفليست هذه قضايا لا تتطابق
ولا تعقل، فلماذا لا تجوزون وأنتم على هذا الارتباك أن يستهدي المبتلى لنفسه،
فإذا تحقق عنده شيء عن يقين أو غلبه ظن اتبعه وإلا كان مختارًا ولا يكلف الله
نفسًا إلا وسعها.
أجابه (المفتي) : إننا لِبُعْدِ العهد لم يبق في إمكاننا التحقيق فما لنا من سبيل
غير اتباع أحد المتقدمين ولو كان تحقيقه يحتمل الخطأ.
قال (المستشرق) : ما الموجب لتكليف النفس ما لم يكلفها به الله؟ أليس من
الحكمة أن يحفظ الإنسان حريّته واختياره فيستهدي بنفسه لنفسه حسب وسعه فإن
أصاب كان مأجورًا وإن أخطأ كان معذورًا ويكون ذلك أولى من أنْ يَأْسِرِ نفسه
للخطإ المحتمل من غيره.
أجابه (المفتي) : إن هذا الغير أعرف مِنّا بالصواب وأقل منا خطأ؛ فتقليده
أقرب للحق.
قال (المستشرق) : هذا مسلَّم فيما اتفق عليه الأقدمون، أما في الخلافيات
فالعقل يقف عند الترجيح بلا مرجح ولا سيما إذا كنتم لا تجوزون أيضًا البحث عن
الدليل ليُحكّم المبتلى عقله في الترجيح، بل تقولون نحن أسراء النقل وإن خالف
ظاهر النص.
أجابه (المفتي) : إننا إذا أردنا أن لا نعدّ من شرعنا إلا ما نتحقق بأنفسنا دليله
من الكتاب أو السنة أو الإجماع تضيق حينئذ علينا أحكام الشرع، فلا تفي بحل
إشكالاتنا في العبادات ولا لتعيين أحكام حاجاتنا في المعاملات فيحتاج كل منا أن يعمل
برأيه في غالب دقائق العبادات والمعاملات ويسير القضاء غير مقيد بإيجابات
شرعية، وهل من شك في أن اطراد الآراء وانتظام المعاملات أليق بالحكمة من عدم
الاطراد والنظام.
قال (المستشرق) : لا شك في ذلك ولكن أين الاطراد والانتظام منكم ولا
يكاد يوجد عندكم مسألة في العبادات أو المعاملات غير خلافية إن لم تكن في
المذهب الواحد فبين مذهبين أو ثلاث. هذا وربما يقال: إن توفيق العمل على قول
من اثنين أو أكثر أقرب للاطراد من الفوضى المحضة في تفويض الأمر لرأي
المبتلى أو تفويض الحكم لحرية القاضي فيجاب عن ذلك بأن الأمر أمر ديني ليس
لنا أن نتصرف فيه برأينا ونعزوه إلى الله ورسوله كذبًا وافتراءً وإفسادًا لدين الله
على عباده، ولو أن الأمر نظام وضعيُّ لما كان أيضًا من الحكمة أن يلتزم أهل
زماننا آراء مَن سلفوا من عشرة قرون ولا أن يلتزم أهل الغرب قانون أهل الشرق
وعندي أن هذا التضييق قد استلزم ما هو مُشاهد عندكم من ضعف حرمة الشرع
المقدس.
ثم قال (المستشرق) : وأعيد قولي، إنكم تحبون أن تكلفوا أنفسكم بما لم
يكلفكم به الله، ولو أن في الزيادات خيرًا لاختارها الله لكم ولم يمنعكم منها بقوله
تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) أي مما يتعلق بالدين [1]
وقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِينًا} (المائدة: 3) وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) ولكن علم الله الخير في القدر الذي
هداكم إليه وترك لكم الخيار على وجه الإباحة في باقي شئونكم لتوفقوها على
مقتضيات الزمان أبي الغير وموجبات الأحوال التي لا تستقر فبناء عليه إذا أتيتم
أكثر أعمالكم الحيوية باطمئنان قلب بإباحتها يكون خيرًا من أن تأتوها وأنتم حيارى
لا تدرون هل أصبتم فيها أم خالفتم أمر الله فتعيشون وأفئدتكم مضطربة
تحاذرون في الدين شؤم المخالفة وفي الآخرة عذابًا عظيمًا.
وليس هذا من مخافة الله التي هي رأس الحكمة ولا من مراقبة الوازع التي هي
مزية الدين بل هذا من الارتباك في الرأي والاضطراب في الحكم ونتيجة ذلك فقد
الحزم والعزم في الأمور.
ثم قال: اعلم أيها المفتي المحترم أن هذه الحالة التي أنتم عليها من التشديد
والتشويش في أمر الدين هي أكبر أسباب انحطاط المسلمين بعد القرون الأولى في
شئون الحياة كما انحط قبلهم الإسرائيليون بما شدّده وشوّشه عليهم أهل التلّمود وكما
انحطت الأمم النصرانية لما كانت (أرثوذكسية) مغلظة أو (كاثوليكية) متشددة
يتحكم فيها البطارقة والقسيسون بما يشاءون تحت اسم الدين فكانوا يكلفون الناس أن
0يتبعوا ما يُلَقِّنُونُهم مِن الأحكام بدون نظر ولا تدقيق حتى كانوا يحظرون عليهم أن
يقرأوا الإنجيل أو يستفهموا عن معنى التثليث الذي هو أساس النصرانية كما أن
التوحيد أساس الإسلامية. وبقي ذلك كذلك إلى أن ظهرت (البروتستان) أي
الطائفة الإنجيلية التي رجعت بالنصرانية إلى بساطتها الأصلية وأبطلت المزيدات
والتشديدات التي لا صراحة فيها في الأناجيل وإلى أن اتسع من جهة أخرى عند
الأمم النصرانية نطاق العلوم والفنون رغمًا عن معارضة رجال الكهنوت لها
فتلطفت أيضًا الكاثوليكية والأرثوذكسية عند العوام واضمحلتا بالكلية عند الخواص؛
لأن العلم والنصرانية لا يجتمعان أبدًا كما أن الإسلامية المشوبة بحشو المتفننين
تضلل العقول وتشوش الأفكار.
أما الإسلامية السمحة الخالصة من شوائب الزوائد والتشديد فإن صاحبها يزداد
إيمانًا كلما ازداد علمًا ودق نظرًا؛ لأنه باعتبار كون الإسلامية هي أحكام القرآن
الكريم وما ثبت من السنة وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول لا يوجد فيها ما
يأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي.
وكفى القرآن العزيز شرفًا أنه على اختلاف مواضيعه من توحيد وتعليم وإنذار
وتبشير وأوامر ونواهٍ وقصص وآيات آلاء، قد مضى عليه ثلاثة عشر قرنًا
تمخضه أفكار النقادين المعادين ولم يظفروا فيه ولو بتناقض واحد كما قال الله تعالى
فيه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82) بل
الأمر كما تنبه إليه المدققون المتأخرون أنه كلما اكتشف العلم حقيقة وجدها
الباحثون مسبوقة التلميح أو التصريح في القرآن. أودع الله ذلك فيه ليتجدد إعجاز
ويتقوى الإيمان بأنه من عند الله؛ لأنه ليس من شأن مخلوق أن يقطع برأي لا
يبطله الزمان.
فهذه القضايا التي قررها حكماء اليونان وغيرهم على أنها حقائق ولم تتردّد
فيها عقول عامة البشر ألوفًا من السنين أصبحت محكومًا على أكثرها بأنها
خرافات.
وكذا يقال كفى السنة النبوية شرفًا أنه لم يوجد في أعاظم الحكماء المتقدمين
والمتأخرين من يربو عدد ما يعزي إليه من الحكم التي قررها غير مسبوق بها على
عدد الأصابع مع أن في السنة المحمدية على صاحبها أفضل التحية من الحكم
والحقائق الأخلاقية والتشريعية والسياسية والتعليمية ألوفًا من المقررات المبتكرة
يتجلى عِظم قدرها مع تجدد الزمان وترقي العلم والعرفان.
وكفى بذلك ملزمًا لأهل الإنصاف بالإقرار والاعتراف لصاحبها عليه السلام
بالنبوة والأفضلية على العالمين عقلاً وعلمًا وحكمة وحزمًا وأخلاقًا وزهدًا واقتدارًا
وعزمًا وكفى أيضًا بهذه المزايا العظمى ملزمًا بتصديقه في كل ما جاء به واتباعه
في كل ما أمر أو نهى؛ لأن الدهر لم يأتِ بمرشد للبشر أكمل وأفضل منه. (مرحى)
ثم قال (المستشرق) للمفتي: وهذا ما دعاني إلى الإسلام فلبيت، والحمد لله
وعندي أن لو قام في الإسلام سراة حكماء دعاة مقدّمون لما بقي على وجه الأرض
عاقل يكفر بالله. ثم قال: وإني أرى أنه لا يمضي قرن إلا ويكثر المهتدون من
المستشرقين ويرسخون في الدين فيتولون تحرير شريعة الإسلام، ويفيضون بها
على الأنام، حتى على أهل الركن والمقام، ولا يبعد أن تأتي الأيام بالبرنس محمد
المهتدي الروسي أو الإنكليزي مثلا قائمًا مقام الإمام، معيدًا عزّ الإسلام بأكمل نظام.
أجاب (المفتي) : لا مانع مما ذكرت، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ودين
الله دين عام لا يختص بقوم من الأقوام.
ثم قال (المستشرق) : أيها المفتي المحترم لا يطاوعني لساني أن أدعي
الغيرة على الملة البيضاء الأحمدية أكثر منك إنما أناشدك بالله وبحبك لدينك أن
تترك هذه الأوهام التقليدية القائمة في فكرك وتعينني على تأليف كتاب يصور حكمة
دين الإسلام وسماحته ليكون سعينا هذا ذُخرًا عظيمًا ننال به فخر وثواب هداية
عشرات الملايين بل مئات الملايين من الناس إلى هذا الدين المبين. ولا يَكْبرن ما
أقول على فكرك، فإنّ أهل هذا الزمان المستنيرين الأحرار لا يقاسون بأهل الأزمنة
المظلمة الغابرة. نعم، وننال أيضًا ثواب حفظ الملايين الكثيرة من أبناء المسلمين
العريقين تلامذة المدارس العصرية من هجر الإسلامية على صورتها الحاضرة
المشوهة باختلاط الحكم بالخرافات المعطَّلة بثقل التشديدات المبتدعة فالبدار البدار؛
لأنْ تفوزَ بهذه الخدمة التي يكاد يعادل أجرها أجر نبي مرسل والله المعين
الموفق.
أجابه (المفتي) أصبت فيما تفكرت ولنعم ما أشرت به، ولكن هذا عمل
مهم يحتاج القيام به لعناية جمعية يتكوّن من تضلّع أعضائها في فروع العلوم الدينية
علم كافٍ للإحاطة وحصول الثقة، ولسوء الحظ لا يوجد من فيهم الكفاءة في هذه
البلاد ولذلك يتحتم علينا أن نترك هذه الفكرة آسفين وندعو الله تعالى أن يلهم علماء
مكّة أو صنعاء أو مصر أو الشام القيام بأداء هذا الواجب.
ولما انتهى (الخطيب الفازاني) إلى هنا قال هذه هي المساجلة، وقد سمعت
المفتي يقول: إنه اجتمع بكثير من المستشرقين فوجدهم كلهم يحسنون العربية أكثر
من علماء الإسلام غير العرب مع أنهم يشتغلون في علوم اللغة عمرهم كله وما ذلك
إلا من ظفر مدارس اللغات الشرقية الإفرنجية بأصول التعليم العربية أسهل من
الأصول المعروفة عندنا.
قال (المجتهد التبريزي) : إني أرى أن الإسلام أصابه فتنتان عظيمتان ولولا
قوة أساسه البالغة فوق ما يتصوره العقل لما ثبت الدين إلى الآن.
أما الفتنة (الأولى) فقد قدرها الله ومضت على وجهها وهى حين تشاجروا
في الخلافة والملك وانقسموا على أنفسهم بأسهم بينهم يقتل بعضهم بعضًا وتفرقوا في
الدين لتفرقهم في السياسة.
وأما الفتنة (الثانية) فلم تزل وهى أن الخلفاء العباسيين مالوا إلى تعميق
النظر في العقائد فخدمهم من خدمهم من علماء الأعاجم تقربًا إليهم في علم الكلام
وأكثروا من القيل والقال، ثم سرت العدوى إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من
المذاهب فأقبلوا على التدقيق والجدل في الخلافيات بين أبي حنيفة والشافعي وأثاروا
بينهما فتنة عمياء وحربًا صماء وتركوا بقية المذاهب فاندرست ولم يبق منها سوى
مذهب زيد وأحمد في جزيرة العرب ومذهب مالك في الغرب ومذهب جعفر في
بلاد الخزر وفارس فأكثروا التأليف والتصنيف في هذه المذاهب كل مؤلف يحبُّ
أن يبدي ما عنده ليشتهر فضله وينال حظَّه من دنياه زاعمًا أن غرضه استنباط
دقائق الشرع. وتقرير علل المذاهب فتزاحموا وتجادلوا وناقض بعضُهم بعضًا،
وكان من العلماء بعض الصلحاء الغافلين شاركوهم الفتنة وهم لا يشعرون كما قال
الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ
إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) وقوله تعالى: {قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103-104) .
وهكذا اتسعت دائرةُ الأحكام في الشرع فصار الخلف عاجزين عن التقاط
الفروع فضلاً عن الرجوع إلى الأصول فاطمأنت الأمة للتقليد وأقبل العلماء على
التعمقات في الدين يغرب المفسر ولو بحكايات قاضي الجن؛ لأنه غير مطالب
بدليل وبتفحص المحدّث عن نوادر الأخبار والآثار ولو موضوعة؛ لأنه غير
مسئول عن سنده ويستنبط الفقيه الحكم ولو بالشبه من وجه اللازم اللازم للعلة؛ لأن
مجال التحاكم واسع، وهذه الفتنة لم تزل مستمرة إلى أن أوقفها قصور الهمم عند
الأكثرين.
على أن هؤلاء المتأخرين أخلدوا إلى التقليد الصرف حتى في مسألة التوحيد
التى هي أساس الدين ومبدأ الإيمان واليقين والفارق بين الكفر والإسلام وجعلوا
أنفسهم كالعميان لا يميزون الظلمة من النور، ولا الحق من الزور، وصاروا
يحسنون الظن في كل ما يجدونه مدوّنًا بين دفتي كتاب؛ لأنهم رأوا التسليم أهون
من التبصَّر. والتقليد أستر للجهل، وصار أهل كل إقليم أو بلد يتعصبون لمؤلفات
شيوخهم الأقدمين ويتخذون الخلافيات مدارًا لتطبيق الأحكام على الهوى لا يبالون
بحمل أثقال الناس في الدين على عواتقهم يزعمون أن التسليم أسلم وأنهم أسراء
النقل وإن خالف ظاهر النص ويتوهمون أن اختلاف الأئمة رحمة للأمة.
نعم إن اختلاف الأئمة يكون رحمة إذا حسن استعماله ويكون نقمة إذا صار
سببًا للتفرقة الدينية والتباغض كما هو الواقع بين أهل الجزيرة السفليين وبين أهل
مصر والغرب والشام والترك وغيرهم من المستسلمين وبين أهل عراق العجم
وفارس والصنف الممتاز من أهل الهند الشيعيين وبين أهل زنجبار ومن حولهم من
الإباضيين فهذه الفرق الكبرى يعتقد كل منهم أنهم وحدهم أهل السنة والجماعة وأن
سواهم مبتدعون أو زائغون فهل - والحالة هذه - يتوهم عاقل أن هذا التفرق
والانشقاق رحمة لا نقمة وسَبَبُه وهو التوسع في الأحكام سَبَبُ خير لا سبب شر.
وكذلك اختلاف المجتهدين في كل فرقة من تلك الفرق لا يتصور العقل أن
يكون رحمة إلا بقيد حسن استعماله، وإلا فيكون نقمة حيث يوجب تفرقة ثانية بين
مالكي وحنفي وشافعي مثلاً.
والمراد من حسن استعمال الخلاف هو أن كل قوم من المسلمين قد اتبعوا
مذهبًا من المذاهب ترجيحًا أو وراثة أو تعصبًا ولا بد أن يكون في المذهب الآخذ به
كل قوم بعض الأحكام الاجتهادية التي لا تناسب أخلاق أولئك القوم أو لا تلائم
أحوالهم المعاشية أو طبائع بلادهم فيضطرون إلى الإقدام على أحد أمرين إما
التمسك بتلك الأحكام وإن أضرت بهم أو الجنوح إلى تقليد مذهب اجتهادي آخر في
تلك الأحكام فقط، وقد كان أكثر علماء وفقهاء المسلمين إلى القرن الثامن بل التاسع
يختارون الشق الثاني فيقلدّون في هذه الحالة المذاهب الأخرى ولكن بعد النظر
والتدقيق في الأدلة كما كان شأنهم في نفس مذاهبهم الأصلية مثلاً يكونوا مقلدين
تقليدًا أعمى لا يجوزه الدين أساسًا إلا للجاهل بالكلية.
وهذه الطريقة هي الطريقة المتبعة إلى اليوم في بلاد فارس، والعلماء
المتصدرون لذلك هم أفراد من توابع العلماء المتضامين في علوم مآخذ الدين
وأكثرهم ولا سيما الإيرانيون منهم متفقهون، متخرجون من مذهب الإمام جعفر
الصادق - رضي الله عنه - المدوّن عندهم، ويُطْلِق أهلُ فارس على هؤلاء العلماء
اسم (مجتهدين) تجوزًا واتباعًا لعادة الأعاجم في التغالي في التبجيل ونعوت
الاحترام، ومن ذلك يعلم أن ما يظنه فيهم إخوانهم المسلمون البعيدون عنهم غير
المواقفين على أحوالهم إلا من تفوهات السياسيين غير صحيح فما هم كما يقولون
عنهم مجتهدون في أصول الدين مجوّزون الرأي في الإجماعيَّات مخرجون الأحكام
أخذًا من الدلائل الظنية ولو لم يقل به أحد من علماء الصحابة والتابعين وأعاظم
أئمة الهداية الأولين فما أحرى مجتهدي فارس بأن يلقبوا بمرجحين أو مخرجين أو
فقهاء مدققين.
ثم إن بعض الناس دعوا المقلد لأحد المذاهب إذا أخذ في بعض الأحكام
بمذهب آخر ملفقًا، وسموا أخذه تلفيقًا واستعملوا لفظة تلفيق في مقام التلاعب في
الدين أو الترقيع القبيح والحال أن ما سموه بالتلفيق ليس إلا عين التقليد من كل
الوجوه ولا بد لكل من أجاز التقليد أن يجيزه؛ لأنه إذا تأمل في القضية يجد القياس
هكذا: يجب على كل مسلم عاجز عن الاستهداء في مسألة دينية بنفسه أن يسأل عنها
من أهل الذكر أي يقلد فيها مجتهدًا وكل مقلد عاجز طبعًا عن الترجيح بين مراتب
المجتهدين فبناءً عليه يجوز له أن يقلد في كل مسألة دينية مجتهدًا ما.
وما المانع - على هذا الاعتبار - للمسلم المقلد أن يتعلم كل مسألة من الطهارة
والغسل والوضوء والصلاة من مجتهد أو فقط تابع لمجتهد، فإذا اغتسل بماء دون
قُلَّتيْنِ لَحِقَتْهُ قطرة خمر واعتبره طاهرًا كما علمه عالم مالكيّ- غسلاً بدون دَلْكٍ كما
علّمه عالم حنفي وبعد حَدَث مُوجِبٍ توضأ ومسح شعرات من الرأس كما علّمه عالم
شافعي وصلى بعد خروج دم قليل منه كما علّمه عالم حنبلي صلاة الصبح بعد طلوع
الشمس كما علّمه عالم زيدي ووصل الفرض بصلاة أخرى بدون خروج من الأولى
كما علّمه عالم جعفري، أفلا يكون هكذا المقلّد صلّى صلاة تُجزئه عند الله؟ بلى،
ثم بلى تجزئه بالضرورة حتى لا يقوم دليل على أن ذلك خلاف الأَوْلى كما يقال في
حق الخروج من الخلافات؛ لأنه لا يُعقل أن يكلَّف هذا المقلد بأخذ دينه كله من عالم
واحد؛ لأن الصحابةَ - رضي الله عنهم - مع اجتهادهم وتخالفهم في الأحكام كان
يصلى بعضهم خلف بعض مع حكم المؤتم منهم على حسب اجتهاده بعدم صحة صلاة
إمامه واشتراطه صحة صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام، وهل يتوهم مسلم أن أبا
حنيفة كان يمتنع أن يأتم بمالك أو يأبى أن يأكل ذبيحة جعفر كلا، بل كانوا أجهل قدرًا
من أن يخطر لهم هذا التعصب على بال وما كان تخالفهم إلا من احتياط كل منهم
لنفسه.
ويوجد في كل مذهب من المذاهب جماعة من تلاميذ الإمام أو الفقهاء
المعروفين بالمرجِّحين كل منهم كان مجتهدًا لم يتقيّد بمذهب أمامه تمامًا وخالفه في
كثير أو قليل من الأحكام مخالفة اجتهاد بسب اطّلاعه على أدلة مجتهد آخر أو الفتح
عليه بما لم يفتح به على إمامه ولأن الدين يلزم المسلم بأن يتبع في كل مسألة منه
الشارع لا الإمام وأنْ يعمل في مواقع الاجتهاد باجتهاده لا باجتهاد غيره وإن كان
أفضل منه.
وهذا أبو حنيفة وأمثاله رحمهم الله تعالى كانوا أفضل من أن يعتقدوا في
أنفسهم الأفضلية على أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ومع ذلك خالفوهما في كثير
من الأحكام الاجتهادية وفقهاء كل مذهب من المذاهب لم يزالوا إلى الآن يجوِّزون
الأخذ تارة بقول الإمام وتارة بقول أحد أصحابه مع أن ذلك هو عين التلفيق، فلماذا
لا يجوز الحنفية مثلاً التلفيق بين أقوال أبي حنيفة والشافعي أو غيره وليس فيهم من
يقول: إن أصحاب إمامهم أفضل من الشافعي ومالك وابن عباس فما هذا إلا تفريق
بلا فارق وحكم يعكس الدليل. وقد نتج من التفريق بين المسلمين والتشديد عليهم
في دينهم ومصالحهم - بدون موجب غير التعصب - المخالفة لأمره تعالى {أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) . (مرحى) .
ثم ختم (المجتهد التبريزي) مقاله بقوله: (وليس مقامنا الآن مقام استيفاء
لهذا البحث وإنما أوردت هذا المقدار منه بقصد بيان جواز التلفيق إذا كان عن
غرض صحيح كما جوَّزه كثير من فقهاء كل المذاهب. ولا شك أن ضرورة التلفيق
أهم من الضرورة التي لأجلها جوَّز الفقهاء الحِيَلَ الشرعية مع أنها وصمة عارٍ على
الشرع حيث لا يُعقل أنْ يقالَ مثلاً: إن الشفعة مشروعة دفعًا للضرر عن الشريك
أو الجار، ولكن يجوز هذا الإضرار للمُحتال، أو إنّ الربا حرام ولكن إذا أضيف
للقرض ثمن مبيع خسيس بنفيس جاز استباحة مقصد الربا، وإن إيتاء الزكاة فرض
ولكن إذا أخرج رب المال ماله قبل الحَوْل ثم استعاده سَقَطَتْ عنه - إلى غير ذلك
من إبطال الشرع وجعل التكليف تخييرًا والتقييد إطلاقًا. ولا حجّة لهم في هذا غير
ما رخص الله به لأيوب عليه السلام من التوصل للبر باليمين في قوله تعالى:
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَث} (ص: 44) وما أبعد القياس
بين الحنث وبين إبطال الشرع. ولا شكَّ أن المسلمين بذلك صاروا كأنهم لا شرع
لهم، وقد غضب الله على اليهود لتحيُّلهم على صيد السبت فقط، ونحن نُجوّز ألف
حيلة مثلها بضرورة وبلا ضرورة.
بناءً عليه من الحكمة أن نلتمس للضرورات أحكامًا اجتهادية فيَأمر بها الإمام
إن وجد وإلا فالسلطان؛ ليرتفع الخلاف فتعمل بها الأمة ما دام المقتضي باقيًا فإذا
ألجأ الزمان إلى تبديلها بقول اجتهاديّ آخر، فكذلك يأمُر به الإمام أو السلطان رفعًا
للخلاف، وبمثل هذا التدبير الذي لا يأباه شرعنا ولا تنافيه الحكمة نستبدل بتلك
الحيل المعطلة للشرع المسلمة لترقيعات كل فقيه ومتفقه أحكامًا شرعية إيجابية لا
زيغ فيها، وبنحو ذلك يَسْلَمُ شرعُنا من التلاعب والتضارب ويتخلص القضاء
والإفتاء من التوفيق على الأهواء وحينئذ يتحقق أن الخلاف في الفروع رحمة،
والحاصل أنه يقتضي على علماء الهداية أن يقاوموا فكر التعصب لمذهب دون آخر
فيكون سعيهم هذا منتجًا للتأليف وجمع الكلمة في الأمة.
قال (الأستاذ الرئيس) : إنا نشكر أخانا المجتهد التبريزي على بيانه لنا حالة
إخواننا أهل فارس وعلى غيرته للدين وقصده التأليف بَيْنَ المسلمين، أما تقريره
بخصوص أنَّ حُكْمَ الإمامِ إنْ وُجِدَ وإلا فالسلطان يَرْفَعُ الخلافُ، وبخصوص أنَّ
التلفيق هو عين التقليد، فتقرير يحتاج إلى نظر وتدقيق وسَتَقُومُ بمثل هذه التدقيقات
في المسائل الدينية التي بَحَثَ فيها الإخوانُ الكرام الجمعيةُ الدائمة التي ستتشكل
إن شاء الله. واليوم قد قرب وقت الظهر وآن أوان الانصراف.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يريد أن القرآن محيط بأحكام الدين وما يناسبه لا بكل علم الله كما يتوهم الكثيرون.(5/668)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(رمضان - المنكرات فيه)
هو شهر الصيام، والتلاوة والقيام، والإقبال على الله، والإعراض بقدر
الإمكان عن سواه، وإن تأثيره ليظهر في جميع بلاد المسلمين بترك معاهد اللهو
والعكوف في المساجد وتغيير العادات، إلا أن هذا التأثير في هذه المدينة (القاهرة)
أضعف منه في سائر بلاد الإسلام فيما أعلم وأظن إلا ما تمتاز به من كثرة المرتلين
للقرآن في البيوت ترى أكابر العلماء في غير القطر المصري قد انتدبوا فيه لقراءة
الدروس الدينية وإلقاء المواعظ المؤثرة منتشرين في المساجد وترى مساجد القاهرة
التي عدد علمائها يزيد على عدد العلماء في كل مدينة سواها خالية منهم إلا قليلاً
كالمسجد الحسيني والمسجد الزَّينبي، وأكثر من يتصدى للوعظ الجاهلون الذين
يغرون الناس بالأماني ويقصون عليهم القصص الخرافية والأساطير الوضعية،
وفي كل سنة نذكر الشيخ عليًّا الببلاوي شيخ المسجد الحسيني بوجوب منع هؤلاء
القصاصين منه، ولعله يفعل في هذا العام كما يفعل شيخ الأزهر في المسجد
الزينبي لا يأذن لأحد بالوعظ فيه إلا إذا وثق بعلمه.
إذا كانت معاهد العلم والإرشاد ليست عامرة في القاهرة فلا عجب إذا عمرت
معاهد اللهو والفسق حتى في رمضان فقد اطلعنا منذ أيام على (إعلان) ينشر في
الطرق والشوارع فإذا فيه أن زعيمًا من زعماء الملاهي قد استحضر مغنية شهيرة
وراقصة بارعة لأجل إحياء ليالي رمضان الشريف! ! ! ولو بقي عند هؤلاء
المسلمين الجغرافيين الذين يخربون بيوتهم بأيديهم ليعمروا بيوت أعدائهم بقيةٌ من
الغيرة الملية والشهامة الإسلامية لكافأوا هذا المستهين بهم والمستهزئ بدينهم
بالإعراض عن قينته وراقصته وإن لم يتوبوا عن الفسق توبة نصوحًا.
***
(الجرائد ورمضان - أو - المنار والمنارات)
سمعنا من بعض أصحاب الجرائد المنتشرة الشكوى من بخل رمضان عليهم
وهو أبسط الشهور في الإنفاق يدًا وأكثرهم في التوسع مددًا، ولكن هذا البَسْطُ هو
السبب في ذلك القبض أعني قبض الأيدي عن دفع اشتراك الجرائد؛ لأن الناس
يحبون الإنفاق في رمضان على المآدب لا على الآداب وفي القربات الدينية، لا في
الكربات السياسية، ولهذا لم يكن المنار من الشاكين وإنما هو من الشاكرين؛ لأن
حظَّه في رمضان كحظ أخواته منارات المساجد كما أن وظيفته كوظيفتهن، كل
منهما وضع لدعوة المسلمين إلى الصلاة والصيام، وكل يزيد مدده في هذه الأيام،
أما المنارة فمددها الزيت والقناديل، وأما المنار فمدده الدراهم والدنانير، وحق
المنار آكد وأثبت من حق المنارة؛ لأن دعوته عامة تشمل العقائد والأخلاق،
ودعوتها خاصة بالصلاة والصوم، ودعوته يسمعها الألوف، ودعوتها يسمعها نفر
قليل، ودعوته مؤيدة بالبرهان، ودعوتها تذكير مجرد لأهل الإذعان، ودعوته
متوقفة على مدد القراء. ودعوتها لا تتوقف على الزيت ولا الكهرباء. ولهذا كان
إمدادها هذا منتقداً عند المتورعين، وترك إمداده منتقدًا عند المتدينين، وقد سبق
إلى العمل بهذا الحكم أهل المنصورة والسنبلاوين، وستتلوهم الفيوم وشبين،
اللهم آمين.
***
(بدعة جديدة في مسجد جديد)
جدد ديوان الأوقاف مسجدًا من المساجد المدعثرة في الفيوم وقد احتفلوا
بافتتاحه في يوم الجمعة الماضية بالصلاة فيه، وكان الاحتفال بعد الصلاة وسماع
خطبة الخطيب الخرافية التى مدح واضعها فيها المسجد مدحًا استنبطه من حروفه.
ويا لله كيف يرضى المسلمون بأن يقول خطباؤهم مثل هذا الكلام اللغو الذي أمر الله
تعالى بالإعراض عنه كما أمر بالاستماع للخطبة حتى إن حاضر مثل هذه الخطبة
لا يدري أهو مطالب بأن يكون ممّن قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3) وقال فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْه} (القصص: 55) ؟ أم هو مطالب بامتثال قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} (الأعراف: 204) على قول المفسرين أنها نزلت في
الخطبة؟ أما كون ذلك من اللغو فيعرفه العاميّ إذا لاحظ أن كل حرف يكون مبدأ
كلمات تدل على معاني شريفة وكلمات تدل على معاني خسيسة؛ فالدال أول
حرف من كلمة الدين والدعاء والدراية، وكذلك هو أول حرف من كلمة الدنس
والدناءة والدعارة.
ثم قام خطيب الاحتفال بعد الصلاة وقال: (أفتتح المسجد باسم الخديو) إلخ
ثم مضى في كلامه والناس تصفّق له لا سيّما عند ذكر الأمير حتى كأنهم انقلبوا عن
الإسلام إلى عبادة الجاهلية التي نزل فيها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ
البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنفال: 35)
والتصدية هي التصفيق، فليعلم الغافلون أن بيوت الله تفتتح بسم الله والخشوع له
وتجتنب فيها عبادات الجاهلية، وبدع المدنية، فمن كان مخلصًا لسلطانه وأميره
فليدع الله تعالى فيها بأن يصلح شئونهما ويوفقهما لما فيه خير المِلّة والأمة، وليعلم
أنها بيوت يستوي فيها المأمور والأمير في الخضوع لله العليّ الكبير.
***
(استشارة في أمرٍ ذي بالٍ)
رأى القراء فيما قرأوه من مباحث جمعية أم القرى في الاجتماعات الستة
أن كل ما ذكره أعضاؤها من أسباب فتور المسلمين وضعفهم يرجع إلى الدين
والشئون الاجتماعية والسياسية العامة، وفي الاجتماع السابع الآتي تفصيل أسباب
الفتور في سياسة الدولة العثمانية وإدارتها وهي عشرون سببًا.
وقد كنا ذكرنا عند التنويه بسجل الجمعية وذِكْرِ العزم على نشره في المنار أن
ما فيه من القول بسيئات الدولة العلية يؤلم أكثر القارئين، وإننا نختار حذفه عند
الوصول إليه. ولكنا رأينا كثيراً من الناس يُفَنِّدُ هذا الرأي ويقول إن قراء المنار
كلهم أو جلهم من خواص الناس وأهل الفضل الذين يزيدهم العلم بعيوب دولتهم
حرصًا على بقائها وسعيًا في إصلاح حالها إن استطاعوا فيجب أن لا يحرموا من
الاطلاع على الآراء والمباحث التي دُوِّنَتْ في سجل الجمعية. فلم يقنعنا هذا القول
تمام الإقناع وأحببنا أن نستشير قراء المنار الآخرين فمَنْ كان يرى نشر السجل
بُرمته وذِكْر كل ما فيه عن الدولة والترك فحسبه سكوته دليلاً على رأيه. ومن كان
يرى وجوب حذف ما ينتقد على الدولة فعليه أن يذكر لنا رأيه قولاً أو كتابة وإننا
لنرجح هذا الرأي إذا كان عليه عُشر المشتركين ولا يصح لمن يسكت قبل النشر أن
يلوم بعده.
* * *
(أشهر مشاهير الإسلام)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب في سيرة سيدنا عمر بن الخطاب
- رضي الله تعالى عنه - وفيه أبواب من العبرة واسعة، ومباحث في التاريخ
والسياسية الإسلامية نافعة، منها بحث (حكم الإسلام في المسيحيين وحكم
الأوربيين في المسلمين - ومنه يعلم أي الفريقين أعدل - وبحث الردة وحقيقتها.
وبحث كون دمشق كانت قاعدة الغسانيين أوكون سوريا كانت وطنهم. وبحث
شجاعة المسلمات ومساعدتهن للرجال في الفتوح، وبحث الحكم النيابي
والشورى في الإسلام، وبحث الاستعمار، وأبحاث تدوين الدواوين وترتيب العمال
وضرب النقود ووضع البريد والحكومة العسكرية والحكومة القانونية وبيت المال،
وغير ذلك مما يؤخذ من سياسة سيدنا عمر وسيرته العادلة التي تضرب الأمم بها
الأمثال، ناهيك بذكر الوقائع والفتوح والقضاء. وإننا نشكو من كثرة أغلاط
الطبع فيه ولكننا واقفون على سببه وهو أن معظم الكتاب طبع ومؤلفه (رفيق بك
العظم) غائب في الشام ولما علم منع إصداره حتى استخرج له جدولاً أحصى فيه
الأغلاط وألحقه به، ولولا ذلك لصدر من بضعة أشهر. وصفحاته تزيد على
300 وثمنه 10 قروش صحيحة، وأجرة البريد قرشان، وهو يُطلب من إدارة
مجلة المنار بمصر ومن المكاتب المشهورة.
__________(5/678)
الكاتب: محمد فريد وجدي
__________
(كيف يكون المستقبل للمسلمين)
قرأت في (المنار) الزاهر مقال سماحة السيد البكري فأيقظ في نفسي آمالاً
كبارًا، وهاج من قلبي مرامي بعادًا، ورأيته يتفق معي في الغاية، ويلاقي قلمه
قلمي في النهاية، إلا أنه سار إليها مِن طرق المعارف التشريحية، وانتحى إليها
وجهة علم الظواهر الجوية، وناط ذلك المستقبل بالفواعل الطبيعية، والأحوال
الوسطية مِن كثرة السكان وخصوبة المكان وعدم إمكان الإنسان المعيشة في كل
مكان، وهي قضايا يتناولها النقد، ويمكن فيها الأخذ والرد والإقبال والصد، إن
رضيها (جوستاف لوبون) رفضها (لينيه) و (كاترفاج) و (داروين)
و (وروسل ولاس) و (هكسلي) و (لامارك) و (كوفييه) و (بوفون)
وغيرهم من إخوانه الفسيلوجيين، على أن تعليق حياة الإسلام على مؤثرات الوسط
وعوامل المكان لا يناسب مجده وعلو شأنه، وأهميته أكبر مِن أن تدفع الكاتب إلى
تحري أفكار الأفراد لتسكين الخواطر على نجاة بلدانه، وسلامة أوطانه، فإن كان
الإسلام له المستقبل الباهر والآتي الزاهر، فليس ذلك إلا لكونه الحق الصميم،
والنور الصريح، والكلمة العليا، والمحجة البيضاء، أنشودة الإنسان وضالة العرفان
ونظام العلم والدين؛ وسلك الفلسفة الحسية واليقين، إن كان ينشره الصوفية اليوم بين
الشعوب الشرقية المنحطة في درجات المدنية والعلوم الكونية، فسينشره غدًا
لَهَامِيم الفلسفة الحسية، ويَآفِيخ المعارف الطبيعية، ليس لكونه كما اعتدنا أن نقول
دينًا جمع بين المصالح الروحية والجسدية ويربط بين الأمور الدنيوية والأخروية
فقط، هذه بعض مزايا الإسلام تابع بسيط لتعاليم نسردها سردًا لبعض العقول البسيطة
التي لا تدرك غيرها، ولا تتمسك بالدين إلا مِن أجلها؛ أما غدًا وليس ببعيد يوم
تجيء دولة الروح ويخرج الإنسان مِن قهر المادة العمياء وسلطة الطين الأصم
وينتهي دور الزخارف الحيوانية، وتزول سلطنة البطن والأميال البهيمية، وينقلب
شأن الإنسان مِن حال مادي إلى حال روحاني كما انقلب مِن حال فطري إلى حال
فكري عقلي؛ فتشرق الروح في عالمها وتزعج الإنسان إلى أداء مطالبها، وتصيح
به لأنْ يَعرُجَ بها إلى محتدها، ويصعد معها إلى أوجها، كما كانت تزعجه المادة
إلى القيام برغائبها، وتميل به إلى عالمها، وتطالبه بالركون إلى طينها، ذلك اليوم
تطلب الروح بابًا لعروجها، وترتاد طريقًا لصعودها، تلتفت إلى جثمانها فتراه عبئًا
ثقيلاً ومانعًا كثيفًا، وأنّى له اختراق طبقات اللطافة الملكوتية بها؟ وكيف له السبح
في العوالم النوارنية معها؟ هنالك يكون التنازع بين الروح والجسد لا كما هو الآن
تنازع بين مطالب غذائية. وزخارف مادية، وأغذية دهنية وشحمية وألبسة قطنية
أو حريرية، بل تنازع في كيفية اعتمادهما معًا على السبح في سبحات النور
الأقدس، والجري يدًا بيد في باحات الكمال الأقدم.
هنالك سيدور الإنسان على نفسه دورة أخرى على محور لا يتخيله الآن إلا
كبار الأفئدة كبار العقول، هنالك سيكون الإسلام قائد تلك الحركة وسلطان تلك
الدولة والداعي إلى الكمال بلسان العدالة المطلقة والمؤاسي بمراهمهه الشافية القلوب
اليائسة، هنالك سيحوم الناس حول الإسلام كما يحول الفراش حول النور يطلبون
نجاة أرواحهم وأجسادهم معًا لا أرواحهم فقط. هذه حقائق لا خيالات إلا أن تجليها
للأذهان يحتاج إلى كلام كثير بل سَفَرٍ كبير.
فمستقبل الإسلام فيما أعلم وأرى مِن هذا الباب دون غيره وهو أليق بعلو شأنه
وأنسب لرفعة مكانه وأولى به دينًا إلهيًّا ووحيًا عُلويًّا؛ ولكن متى نصل إليه، وأيّ
نوع من أنواع الوسائل نُعوِّلُ عليه؟ هذه جهة الخلاف بيني وبين سماحة السيد.
يرى أنّ أَنْجَعَ الوسائلِ لذلك فتحُ المدارس وترتيبها؛ وترجمة الكتب العلمية ونشرها،
ومشاطرة الأجانب في لغاتهم والتعمق فيها؟ ويرجو لذلك أن تعقد جمعيات وتشكل
هيئات، وتنضم أصوات وتتحد وجهات وتتفانى هِمم أبيّة، وتتكاتف عزائم إسلامية،
وتبذل أنْفس عزيزة وأرواح، وتباع في سبيل الوحدة بيع السماح، وكلها مطالب
سامية ورغائب عالية، ولكن هل تتحقق؟ لِنُجِلْ في إمكانها نظرًا ونعمل في
احتمالها فكرًا، فإن لاح لنا برق أمل ضممنا صوتنا إلى صوته وإلا أبدينا فيها
رأينا، وعززناه بأسلوبنا.
حكم السيد بأن لا وطن للإسلام ولا جنسية، وأن رابطتنا الوحيدة هي جامعة
العقيدة وآصرة الإيمان ووشيجة اليقين، فلينظر هل تلك الرابطة اليوم صالحة لأن
تضم أجزاءنا وتلمّ شعثنا وتوجّه عواطفنا إلى تيار واحد لنحقق بذلك آمالاً
عظامًا، ونرأب بها مِن جسم هيئتنا صدوعًا جسامًا؟ يضربُ لنا السيد مثلاً
بالجمعيات الأجنبية التي تألّفت للوحدة الإيطالية؛ والجامعة السلافية، والجنسية
السكسونية، وعاج مِن ذلك على ذِكر الثورات الأرمنية والمقدونية والكريدية، ثم
قال إنها: (تعمل أعمال الجبابرة في الخلاص مِن حضيضِ الأسر، إلى أوج النسر،
والأمة الإسلامية التي ملأت المشرقين والمغربين تنتفض انتفاض الطائر في شباك
الصائد، ولا تعمل للنجاة عملاً، وكيف ترجو الوصول إلى الغاية وهي لا تنقل إليه
قدمًا، ولا تحرك شفة ولا قلمًا، ومَن طَلَبَ شيئًا وَجَدَهُ، ومَن تَرَكَهُ فقده) ثم أَرْدَفَ
ذلك لقوله: (ولا يعتذر الجبان المفقود القلب بأنّ عَقْدَ هذه الجمعيات مما يتعذّر
حصوله في البلاد الإسلامية الآن؛ إذ أي جمعية أنشئت قبل هذه فلم تقابل بالكفران
وتُحط بالنيران، لكنها العزيمة التي ترى أن الموت في حياة الأمة خيرًا من الحياة
في موتها وأن لا محيص من الصَدْرِ أو القبر) .
نقول ولسنا بجُبَناء ولا مفقودي القلب ولا يائسين ولا مفتونين: لقد سلك
السيد في مقاله مسلك الكاتب الحماسي، ولكنه لم يَسِرْ سَيْرَ العالم ولا الفيلسوف
العمراني. ولو كان قبل أن كتب مقالته تدبّر في ألوف المقالات التي كتبت قبل
مقالته بعشرين سنة وكان فيها مِن ضُرُوب الحَضِّ والحَثِّ والتحميس ما لا يمكن
المزيد عليه، ومع ذلك لم تنتج أثرًا، ولم تحقق لكاتبها ولا لخلافه أملاً، لكان رجع
إلى نفسه وعلم أن المانع للأمة مِن سماع تلك الصيحات، والإصاخة لتلك الهيعات
أمر جَلَلٌ وخطب كبير. ولتراءت له أدواء يجب فحصها وعلل لا ينجع دعاء
بوجودها.
قررت العلوم النفسية، وحكمت المشاهدات الوجودية أن الإنسان لا يعمل
عملاً بل ولا يتحرك حركة إلا وهو معتقد صلاحية ما يعمله أو يتحرك مِن أجله
ومتيقن مِن الوصول إلى غايته فهل لدى فُضلائنا الذين يُطلب منهم تأليف تلك
الجمعيات مِن العقيدة الراسخة واليقين الثابت ونحن في القرن العشرين ما يحملهم
على تشكيل الجمعيات وبذل نفوسهم ونفائسهم دفاعًا عن حقيقتهم وقراعًا دون
حريمها؟
أنا أول مَن يقول بأنّ المستقبل للإسلام وكُتبي ومُؤلفاتي تشهدُ لي بذلك؛ ولكني
لا أحب أنْ أجعلَ للخيال سلطانًا على قلمي، ولا للحماسة التي تنطفئ بمجرد الكتابة
نفوذًا على إحساسي؛ بل أعلم أني عائش في عصب الفلسفة الحسية والمدنية
المادية، والمعارف الطبيعية. وصَرَفْتُ زمنًا ليس بالصغير في فَحْصِ وَسَطِي الذي
أعيشُ فيه وأمّتي التي أنا بين ظهرانيها، ورأيت بالحسّ أننا إن لم نسع لمداواة عللنا
من أصولها تُهنا في تطبيبها، وضللنا في علاجها وذهبت كل صيحاتنا أدراج الرياح
كما ذهبت خاصتنا لأداء وظيفتها الصحيحة فوهن العقيدة وضعف الإيمان، وما دامت
على هذه الصفة فلا يرجى منها اجتماع على أمر ألبتة.
مجرد اعتقاد أن الإسلام دين يدعو إلى الفضائل ويحضّ على الأخذ بالماديات
والمعنويات معًا، وأنه آخذ في الانتشار بين القبائل الشرقية، أو أنه مَهِيبُ الجانب
في بعض البلاد الأجنبية، وكما اعتاد كثير من خاصتنا التفكه به في المجالس
إظهارًا لِغَيْرَتِهم على الإسلام وتحمّسًا لكثرة براهينه لا يفيدُهم في اليقين شيئًا؛ لأن
كلهم تقريبًا ممّن تعلّموا اللغات الأجنبيّة، ودرسوا العلوم الطبيعية، والمعارف
التشريعية، ووقفوا على تعاليم (داروين) و (جوستاف لوبون) الذي استَشهد به
السيد وعرفوا منهما ومن أمثالهما أنّ أصل الإنسان قِرْدٌ وأنه لا آدم ولا حواء ولا
كتابًا سماويًّا ولا روح ولا نفس ولا حَشْر ولا نشر ومَن يرد أن نعطيه صورة
موجزة مِن فلسفة هذه المدنية التي يقرأها خاصتُنا مِن عَرفة اللغات الأجنبية
ويعتقدون حقيتَها فإليه غير مضنون عليه.
يقولون: يا معشر المتدينين، إنكم لو جرّدتم نفوسكم عن الهوى، ووجّهتم
وجوهكم شَطْرَ الهدى، لرأيتم أنه ليس دينكم إلا أثرًا مِن آثار الماضين، وبقية من
بقايا أوهام السالفين، ليس لها مِن القِيمةِ والقَدْرِ إلا كما لسائرِ آثارهم الأخرى مِن
العلوم الطبيعية، والصناعات اليدوية، فقد حكم العلم - معاذ الله - بأن نواميس
الكون كافية في تعليل ظواهره، وقوانينه قد فسّرت أكثر غوامضه، فلا داعي
لفرض وجود قوىً وراء الطبيعة، ولا موجب لتوهُّمِ عالم علوي بعد هذه المرئيات
المحسوسة، أما الوجود فقديم إن لم يكن بصورته فبمادته الأولى. وأما القوى التي
تصرفه فلا استقلال لها في ذاتها بل هي صفة لهيولاه الأصلية فلا مادة بلا قوة ولا
قوة بلا مادة بل المادة في نفسها مَظْهر مِن مظاهر القوّة المتحركة في الأثير مِن
الأزل.
أما الإنسان وما نسبتموه إليه مِن نفس مستقلّة عن الجسد وما منحتموها مِن
مزية الخلود بعد فنائه، وتبعثر ذراته فما تبطله الشواهد العلمية، وتحيله البدائية
التشريحية، فقد قرّر العلم - معاذ الله - أنه لا فرق بينه وبين غيره مِن الكائنات
السفلية ولا ميزة له على سواه مِن الأنواع الحيوانية، بل ليس هو في ذاته إلا حيوانًا
فاق في قوة التعقل والإدراك غيرَه مِن أبناء نوعه، على أن أبناء نوعه - الحيوانات-
غير محرومة مِن قِسْطٍ مناسب مِن التعقّل والإدراك. وإذا أردت الدليل فدونك كتب
حياة الحيوان ترى مِن آثار الفِكْرِ ونتائج التعقّل ما يدلّك تمام الدلالة على أنّ العقل ليس
بوقف على الإنسان ولا هو وصفه المميز، فإذا نسبت للإنسان روحًا مستقلة عن
الجسد ومنحتها مزية الخلود والبقاء اعتمادًا على القوة العقلية فلِمَ لا تحكم هذا الحكم
نفسه بالنسبة إلى الحيوانات أيضًا؟ أليس هذه من آثار المعلومات السابقة النافعة
حينما كان الناس لا يميزون بين ما يؤيده الحس والعيان. وبين ما هو من قبيل
الخيالات التي تنشأ في الوجدان بلا روية ولا إمعان؟ أما الفضائل التي تقرعون
الآذان بها، وتضربون وجوه مناظريكم بسلاحها مُدّعين أنكم قادتها وزعماؤها،
وأنّ لكم حق السيطرة على الناس بها، فليست في الحقيقة تبعًا لتعليم من التعاليم
القديمة لكتب خاصة يقوم بها رجال ذوو صفات خاصة؛ بل هي تابعة لنواميس
طبيعية تظهر في الأمم الحية ظهور سائر آثار النواميس الأخرى فلا علاقة لها
بدين ألبتة.
ألا ترون أنّ كثيرًا مِن المتدينين بُعداء عن الفضيلة، مغمورين في غمرات
الرذيلة، ودونك الإحصائيات المدققة التي يعتني بجمعها علماء الإنسان؛ ترى أن
أكثر أصحاب الجرائم من المتدينين المتشددين في الدين، وإليك كتب علماء الجرائم
مثل (لومبروزو) و (فريرو) و (سيرجي) ترى العجب العجاب، بل انظر
بعينيك إلى الأمم التى تزعم أن لها ارتباطًا بالدين وغيرة على اليقين، ألا تراها في
حالة مِن الإجرام والتسفّل تفضل عليها معها الأمم التي تركت الأديان، وجعلتها
خبرًا لكان، والتفتت للمدنية والعلوم الطبيعية، فأصلحت شئونها ودبرت أمورها،
فقامت على قطب الاستقامة والاستقلال، ونحت منحى الكرامة والجلال، فكشفت لها
المدنية عن وجهها الباسم، وتجلّت لها الحضارة في شكلها الفاتن، فسيطرت على
الأمم الأخرى بعلومها وصنائعها، وقهرتهم بقوتها وسطوتها، كما صارت بالنسبة
إليهم عَلَمًا في فضائلها وآدابها؟ إذا كان لا فضيلة بغير الدين وأنها لا تخرج
عما حددتم لها مِن القيود في كتبكم، فما سبب هذه الآثار المدهشة للعقول المضللة
للمدارك؟ إذا كان الإنسان كما تقولون خلق مستقلاً بذاته مِن طبيعة علوية، وأنه
مستعد لأنْ يسمو بروحه أسمى منصّة للحياة الملكيّة، فماذا هبطتم وعلا عليكم أولئك
الذين يزعمون أنّ الإنسان مِن سلالة القردة، وأن بينه وبين الحيوانات أواصر من
القربى ووشائج مِن الرّحم؟ إذا كانت الفضيلة كما تقولون لا تثبت للإنسان بغير
دين ولا تطبع بضميره إلا بطابعه، فلماذا حرمتم من أصغر أنواعها
وسبقكم في باحتها من يقول: إن الفضيلة صفة من صفات الحياة الإنسانية والرذيلة
كذلك تنشأ الأولى عندما تكون شئون تلك الحياة جارية على سمت منتظم ملائمة
لقوانين الخلقة وتبرز الثانية في ضد تلك الحالة.
أمّا ما تزعمون مِن أن لا قوام للأمم بغير الدين، ولا نظام لهم سوى حبله
المتين، فمما لا نحتاج معكم فيه إلى كبير جدال، ولا كثير قيل وقال، فدونكم الأمم
الغربية الكبرى قد بنت عظمتها بملاشاته وأقامت وحدتها بمنابذة أشياعه، ومع ذلك
نرى لها كل يوم في سجل المعالي أثرًا جديدًا، وفي حدائق الفخار والمجد صرحًا
مشيدًا، فإن كان الحال كما تزعمون فما هذا الأثر المنعكس؟ وما تفسير هذا الأمر
الملتبس؟ أليست كل هذه البراهين المحسوسة دالّةً على أنكم متمسكون بأقوال لا
يقوم عليها مِن عالم الشهود شاهد، ولا ينهضَ لها من وقائع الحوادث مدافع، لا
جَرَمَ أنكم تتأخرون ونتقدم، وتخضعون ونتحكّم، ولا غَرْوَ أنْ عَلونا وسَفلتم،
وتعزّزنا وذللتم، كما لا عجب أن استخدمنا نواميس الكون وأسرتكم، واستغللنا
خيرات الطبيعة وحرمتم.
كل هذه الشبه المتعاصية قد نشأت في وسط العلم الأوروبي ونبع سمها من
بين ذرات دسم هذه المدنية العجيبة، فالتاثت بأكثر العقول أقذارها، وتسممت الفطر
بسمومها، وقد سَرَتْ هذه السموم إلى شبيبتنا الإسلامية التي نهلت مِن العلوم
الأجنبية فخلعتها عن مجموعها، وذهبت بها مذهبًا لا تجعلها مع هؤلاء ولا هؤلاء.
وكفى أمة عجزًا وضعفًا وقصورًا وتأخرًا أنْ لا يكون لشببتها وجهة تسير عليها،
ولا غاية تعتقدها وتتوق إليها، وتدأب للحصول عليها، حلت هذه الشكوك والشبه
من قادة النشأة وزعماء التقدم في البلاد الأجنبية محلاًّ علميًّا، وجعلتهم ينبذون
معتقداتهم ظهريًّا، ولكن قام مقامها لديهم موقتًا غيرة قومية، وحمية جنسية أو لغوية،
لمت شعثهم وضمت أجزاءهم حينًا ظنوا فيه إمكان قيامهم بدون الدين بل خالوا أن
مصدر رفعهم ومنبع نظامهم والتئامهم، ومنشأ ألفتهم ووئامهم، هدم تعاليمه وتذريتها
في الهواء مع الهباء، ثم لما استقاموا على هذه المفازة الخطرة حينًا من الزمن
ورأى قادتهم ورؤساء معارفهم أن هذه خطة عوجاء، وسراب ليس وراءه ماء،
وأن بالإدمان على متابعة السير في خطتهم هذه الهلاك المستأصل والجائحة الكبرى
التي تطفئ نور مدنيتهم، وتهدم صروح عظمتهم، وساعد هذا الأثر في نفوسهم
الإحساس بالفراغ الذي ألم بصميم معناهم الإنساني وجوهرهم البشري من جراء فَقْدِ
العقيدة التى هى لازم لوازم هذه النفس الناطقة تعطشت قلوبهم إلى الدين الصحيح
وحنت فطرهم إليه حنين البائس ينتظر فرجه، ويتنسم مِن شطر الخلاص نسمة.
ولكن أين الدين؟ كانت الفلسفة الحسية فلسفة (أجوست كونت) وأشياعه القائلين
بأن المعقول إذا لم يؤيده شاهد مِن الحس جاز أن يكون ضلالاً -آخذًا مِن الأفكار
مكانة لا يمكن قلعه منها، وما دامت أسس الدين مِن عقيدة وجود الروح وخلودها في
دار بعد هذه الدار مما لا يمكن الاستدلال عليها بمحسوس جاز أن تكون وهمًا لا
حقيقة له في الواقع. فهي على حسب أسلوب هذا المذهب الكثير الأشياع من قبيل
ما لا يمكن إثباته، وما لا بد مِن عدم الخوض فيه، وما معنى دين بدون روح
وخلود وآخرة فيها نعيم مقيم أو شقاء مستديم؟
كيف الوصول إلى الاعتقاد بدين مهما كانت تعاليمه في عصرٍ هذه فلسفة بنيه
وتلك مبادئها؟ ولكنّ الله سبحانه أكرم من أن يُخيب سائلاً وأرحم مِن أن يطرد طارقًا؛
فأرسل عليهم مِن جهة فلسفتهم هذه آياتٍ تأخذُ بالأعناق خضوعًا، وبالأبصار
والبصائر دهشة وخشوعًا، فنشأت أبحاث سموها (أبنوتزم) و (مانيتزم)
التنويم المغناطيسي و (إسبرتزم) استحضار الأرواح، وغير ذلك استدل منها
عِليتُهم على أن للإنسان روحًا وخلودًا فأنشأوا مئاتِ المجلات والمجامع، وعقدوا لها
المؤتمرات والمحافل، وألفوا فيها الكتب والرسائل، وبلغ عددهم مِن العلماء
الأعلام، وقادة المعارف العظام والمحامين البارعين والكتاب المتفننين، ما يزيد
عن عشرين مليونًا - كما سنوضحه بعد إن شاء الله -. فهم على هذا لم يقعوا حتى
نهضوا ولم يضلوا حتى أوشكوا يهتدون. ولكن شبيبتنا التي جرّعت مِن حوض
علومهم، وشحنت في أذهانها صور معارفهم لم يشاءوا أن يوسعوا دائرة معارفهم،
وكأنهم لم يعلموا أن ما يدرس في المدارس مِن العلوم الطبيعية والرياضية ليس إلا
قطرة مِن بحرٍ لا تنقع صدًى ولا تروي غلة؛ بل كأنهم يعتقدون أن العلم واقف حيث
هو مِن عهد (لفوازيير) و (توسيلي) و (ماريوط) و (قولطا) وأن باب الرحمة
الإلهية أغلق في وجه بني آدم - معاذ الله - فلا مَرْمى بعد مرماهم ولا مذهب بعد
مذهبهم، ثم نسوا ما تعلموه أيضًا ولم تحفظ ذاكرتهم منه إلا شكلاً مشوّهًا مِن
استنتاجات عرجاء ليس لها أصل ترتكن إليه ولا أساس تعتمد عليه، فهم على مذهب
(أجوست كونت) و (داروين) بدون أن يكلفوا أنفسهم معرفة ماهية مذهبهما ولا
أصول نظرياتهما، وكأنهم كفاهم في أن يكونوا (أوجوستيين) و (داروينيين) أن
يروا في بعض المجلات نبأ مِن فلسفتهما لم يرد على أسلوب صحيح ولا سَلَكَ فيه
كاتبُه مسلك الاستقراء والتحليل.
ثم إنهم على فرض تعمقهم في فلسفة علماء هذا العصر وتغلغلهم في مناحيها
تدقيقًا وتمحيصًا لم يكلفوا أنفسهم النظر في ماهية الإسلام وأصوله ليروا إن كانت
مبانيه مما تهدمها هذه الأبحاث أو هي بالعكس تقوّيها وتؤيدُها.
أقول هذا ولا أنكر أن لدينا أفرادًا من رجال هذه النشأة صاروا لهامة علوم
العصر تاجًا وفي ذروة العلا الإسلامي عَلَمًا. ولكنهم - وياللأسف - قليلو العدد
مبعثرون في الجهات مشغولون بالوظائف يتألمون لهذه الحالة مثل ما نتألم ويرون
أدواءنا مثل ما نرى.
هذه صورة مصغرة من الشّبه والشكوك التي جرفتها إلينا مدينة أوربا،
وألصقتها بأذهان كثير مِن رجال نشأتنا التي اتسقت منها معلوماتها، وأخذت عنها
لغاتها، فهل بعد هذا يطوف بفكر عمرانيّ باحث أو تحليليّ مدقق أنه يمكن جمع
جمعية عصبيتها الدين وجامعتها العقيدة وسلاحها اليقين ويكون مِن أثرهم تشييد
معالي الإسلام وإرجاع مجده إليه ولو ببذل الأرواح، وبيع المهج بيع السماح؟ اللهم
لا. إذن فلنختر أحد أمرين: إما أن نقلب شكل هيئتنا الاجتماعية من شكلها الحالي
إلى شكل آخر، وروابطها الوطنية أو الجنسية أو أي أمر غيرهما، وهيهات أن يتم
لنا ذلك في ألفي سنة. وإما أن نتعهد رابطتنا الأصلية وهو الدين ونجليه لتلك الأذهان
في شكل يُذهب شكوكهم وشبههم، ويُرجع إلى تلك الفطر الإسلامية التائهة نورها
الصافي؛ حتى تدور على نفس القطب الذي كانت تدور عليه تلك الأرواح الطاهرة
والنفوس الكريمة روح سيد ولد آدم وأصحابه الذين كانوا حجة الحق الدامغة،
وأنوار الفضائل الساطعة، وخلفاء الله في أرضه وجيرانه في عالم قدسه، صلِّ اللهم
عليه وعليهم وتابعيهم آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد وجدي
(المنار) : ما دخل هذا القرن الميلادي إلا وكان شغل طائفة من كبار كتاب
أوربا البحث عن مستقبل الإسلام فيه فكتبوا في ذلك المقالات الطويلة كلٌّ يظهر
رأيه، فمنهم مَن بَشّر ومنهم مَن أنذر. وقد كنّا شَرَعْنا مِن عدة أشهر بكتابه مقالة
في ذلك عنوانها (مصير الأنام، ومستقبل الإسلام) ولكن شغلتنا عنها مقالات
(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ثم مقالة السيد البكري في الموضوع ثم
هذه المقالة. السيد البكري أحسن في بيان الأغراض التي رمى إليها ونتائجه
صحيحة وإن كان بعض البحث في المقدمات لا يسلم مِنَ النقد كما قال صاحب هذه
المقالة؛ ولكن لم يكن للتخيلات في كلامه ذلك السلطان الذي نُسب إليه؛ بل التخيلات
الخطابية والشعرية في هذه المقالة أكثر ولا بأس بذلك إذا أريد به التأثر فيما يحمد
وإنما يذم إذا كان خلابة وخداعًا.
وأما قوله: إن الجامعة الإسلامية لا ترجي لما رجاه السيد منها، وإن عقلاء
المسلمين الذين طالبهم السيد بالعمل لا يمكن أن يعملوا، أو استدلاله بعدم تأثير المقالات
الطويلة التي كتبت منذ عشر من السنين - فهو غير سديد فإن كل ما كتب بحق
وإخلاص قد أثّر حتّى أحدث حركة عظيمة في العالم الإسلامي وإنّ عقلاء المسلمين
يشتغلون الآن بما طالبهم به السيد، وإنما مطالبته لزيادة البيان والتنشيط والكمال
وإنما لم يظهر أثر كبير لسعيهم لضعف الاستعداد {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)
وفي هذه المقالة موافقة على هذا فإن الكاتب طالب المسلمين في آخرها بأحد أمرين
وهم قائمون بالثاني منهما، وهو السديد {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .
التنويم واستحضار الأرواح لم يزل أمرهما مُبهمًا، ومستقبل أثرها مجهولاً
وتعليق مستقبل الإسلام عليهما لا يحث المسلمين على عمل، ولا يحيي في نفوسهم
ميّت الأمل، نعم؛ إننا نرجو من كل ما يكشفه العلم مِن أسرار الخليقة تأييدًا للإسلام
سواء كان السر روحانيًّا أو ماديًّا والقول الذي لا ريب فيه هو أن المستقبل للإسلام؛
لأنه دين الفطرة والاجتماع المرشد إلى مصالح الروح والجسد والهادي إلى الوفاق
بين وظائف العقل ووظائف القلب. فلا بد أن يكون الإسلامُ هو الحاكم الأعلى في
المدنية العليا عندما تكمل هي ويظهر هو خاليًا مِنَ التقاليد التي أضيفت إليه كما قلناه
مِرارًا. وسنزيدهُ بيانًا. أما ما كَرِهَ الكاتبُ مِن شبهاتِ أوربا على الدين فهو لا يمس
الإسلام؛ لأن عقائده مؤيَّدة بالعقل، وسيرة المسلمين أطهر سير البشر عندما كانوا
على الإسلام السليم مِن البدع، وعلى كل حال نشكر للكاتب الأول وللكاتب الثاني
إعمال قلميهما في هذا الموضوع الشريف وكل منهما أحسن في الوجه الذي كتب فيه
لا تنافي بينهما ولا تناقض في الحقيقة وكلّ ما كتبا لا يمنعنا مِن نشر ما كنا شَرَعْنا فيه
ولكنّه كفانا مؤنة التطويل {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب:4) .
__________(5/656)
16 رمضان - 1320هـ
16 ديسمبر - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسير الأنام.. ومصير الإسلام
كتب الباحثون من أهل أوربا مقالات كثيرة في مستقبل الإسلام في القرن
العشرين فخاضوا فيه من الجهة الدينية والاجتماعية والجهة السياسية حتى ضربوا في
كل فج، وهاموا في كل وادٍ، فمن زعم أن المسلمين سائرون إلى العدم والانقراض؛
لأنهم أعداء المدنية الحديثة القائم بناؤها على سنن الكون ونواميسه التي لا تتبدل
ولا تتحول فهم بذلك أعداء الوجود ومن عادى الوجود فالعدم أولى به ومن قائل إن
هذه الأمة الكبيرة لا تنقرض كما انقرض هنود أمريكا لأنهم أرقى منهم بما سبق لهم
من المدنية، ولكن يزول سلطانهم فلا تبقى لهم حكومة فتخطفهم الأمم القوية
ويعيشون أذلاء مستضعفين، إلى أبد الآبدين، ومن ذاهب إلى أنهم سينهضون ومن
بعد غلبهم سيغلبون، واختلف هذا الفريق في هذه النهضة كيف تكون وأين توجد؟ .
فظن بعضهم أن ستكون بالأخذ بمدنية أوربا وتنشأ في الهند وفارس والأستانة
ومصر ورجح بعض أنها تكون بالعصبية الدينية والقوة الحربية وتنشأ في أفريقيا أو
الصين. وغفل كل من المختلفين عن منبتين آخرين لمجد الإسلام المستقبل وهما
أوربا وأمريكا إذا أسرع بهما العلم ونظام الاجتماع إلى الإسلام، الذي لا بد أن
تنتهي تلك الأمم إليه في يوم من الأيام، أو جزيرة العرب إذا أبطأ بهما سير العرفان
وسنن العمران، فظلت أوربا تطارد المسلمين وتضطهدهم حتى يأرز الإسلام
برجالاته المحنكين إلى جزيرة العرب كما تأرز الحية إلى جحرها، ومن ثَمَّ ينفثون
سموم التعصب في الشرق كله فما ينظر الأوربيون فيه إلا صيحة واحدة فإذا هم
خامدون.
أراني عجلت برأي قبل التمهيد له وذكرت نتيجة لمقدمات مطوية ودلائل
خفية، فلا غَرْوَ أن ينكرها عليّ المسلمون قبل أن يعرفها الأوربيون إلا مَنْ بَعُدَ
نظره، وغاص في أعماق المسألة فكره، فلنترك المُنْكِر في إنكاره، ولنساير
المتفكر في أفكاره باحثين معه في مسير الأنام ومستقبل الإسلام.
أين تذهب الأمم المتقدمة دائمًا إلى الأمام، وإلى أي غاية ينتهي سير هؤلاء
الأقوام، وهل تزداد الشعوب المتقدمة تقدمًا، وتزداد الشعوب المتخلفة تخلفًا،
وتزداد الأمم الحية حياة والمائتة موتًا، حتى تكون الثانية غذاء للأولى كما قال
اللورد سالسبوري سياسي إنكلترا الكبير.
هل تبقى هذه المدنية الأوربية مادية حيوانية تبيح الفحشاء والمنكر، وهل
يجرف سيلها ما في بلاد الإسلام من بقايا العفة والصيانة والتراحم والتواصل حتى
لا يبقى للمسلمين - وقد أخلقت فيهم أخلاق العمران - من الصفات ما يستحقون به
رحمة الله تعالى فيكونوا من الهالكين؟
هل تظل أوربا تواثب الدين كلما قلت حاجة السياسة إليه، وعَدَت العلوم
الكونية عليه، وهل يكون حظ الإسلام عند المتعلمين الآتين كحظ النصرانية عند
المتعلمين الحاضرين والغابرين، يتسللون منه لواذًا، ويمرقون منه زرافات
وأفذاذًا؟
هل تنبت المدنية العصرية في أرض الإسلام كما نبتت في المغرب وتنمو كما
نمت وتثمر كما أثمرت سواء بسواء فيرجع المسلم القهقرى إلى القرن السادس
عشر الميلادي فيبتدئ منه؟ أم يكون أول سَيْره من نهاية القرن التاسع عشر
فتكون مدنيته أسرع وأعجل، ومعارفه أتم وأكمل؟
إذا أراد الناظر أن يستنبط الجواب من سيرة المسلمين الذين ولَّوْا وجوههم
شَطْر المدنية، ولقفوا هذا اللَّماج من العلوم الأوربية، لا يسعه إلا أن يقول: إن
حال هذه المدنية ستكون - أو هي كائنة منذ اليوم - دون حال الأوربيين وأنهم
سينبذون الإسلام بأسرع مما نبذ أولئك النصرانية؛ لأن لرؤساء الدين في النصرانية
دولة لها في كل فرقة رئيس عام، وموظفون يسيرون بقانون ونظام، وهم مستقلون
في ذلك عن الحكام، ولذلك تيسر لهم محاربة العلم زمنًا طويلاً ولما دالت للعلم
الدولة، وفاز بالنصر سالموه واستعانوا به على حفظ الدين حتى إن أزمة المدارس
أصبحت في أيديهم فلم يتركوا مدرسة بدون كنيسة، ومن عجزوا عن إقناعه بقضايا
الدين وإلزامه بالعمل به والدعوة إليه لا يعجزون عن إقناعه باحترامه والدفاع عنه
باعتبار أنه رابطة للجنسية ولا يزال لهم من السلطان في الأمم المسيحية حتى
أكفرها بالدين كفرنسا ما يُخيف الحكام منهم فيضطهدونهم. وليس للمسلمين مثل هذه
الرياسة المنتظمة في فرقة من الفرق ولا في قُطْر من الأقطار وما عند الشيعة من
المجتهدين ليس لهم من النظام والثروة ما للإكليروس عند النصارى ولا يرجى منهم
مثلما كان من أولئك.
ترى رئيس علماء الدين في مصر - وإن لقبوه بشيخ الإسلام - لا يرجع إليه
بشيء من أمور المسلمين ولا يستشار في كيفية تعليمهم وتربيتهم وليس له سلطان ما
على أوقافهم الخيرية، ولا إشراف على أعمالهم الاجتماعية، وكذلك شيخ الإسلام
الرسمي في دار السلطنة العثمانية لا وظيفة له إلا تعيين القضاة والمفتين وعزلهم
فهو موظف تحكم عليه السياسة ويعزله السلطان متى شاء وليس له من الاستقلال
في علمه مثلما لرؤساء الديانة النصرانية على أن عمله للحكومة لا للأمة. وأكبر
من هذا كله أن رجال الدين الإسلامي لا يعهد إليهم بشيء يستقلون به دون الحكومة
ولا خدمة المساجد، فالحاكم السياسي هو الذي يجعل إمام الصلاة إمامًا وخطيب
الجمعة أو الحج خطيبًا فهو عند المسلمين رئيس ديني مستقل وإن شرع لحكومته
غير ما شرع الله، وصار يحكم بين المسلمين باسمه دون اسم الله ! ! !
يقول الناظر: إذا كان حال الحكام المسلمين ما نرى من البعد عن الدين
وصاروا كما قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) . إذا كان المسلمون على هذا راضين عنهم وخاضعين لهم
مع علمهم بأنهم خاضعين للأجانب إما ظاهرًا وباطنًا وإما باطنًا فقط. وإذا
كان علماء الدين لا يرجع إليهم بشيء من سير الأمة الاجتماعيّ والأدبيّ ولا هم
ينتدبون لذلك من أنفسهم ويجعلون الأمة مضطرة إلى الرجوع إليهم، والاعتماد في
تربيتها عليهم. وإذا كان المتعلمون على الطريقة الأوربية من المصريين والأتراك
كثيرًا ما ينبذون الدين ظِهريًّا، ويحسبونه شيئًا فريًّا، ويستحلون الخمور،
ويستمرعون مرعى الفجور، ويفضلون الظلمة على النور.
وإذا كان هؤلاء المتعلمون هم الذين يتولون الأحكام، ويأخذون من الأمة بكل
زمام، وإذا كان الناس على دين ملوكهم، والرعايا تبعًا لحكامهم، وناموس الاجتماع
قاضٍ بتقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم - أفلا يحق لنا أن نحكم بأن المسلمين سيكونون
أسرع في ترك دينهم ممن سبقهم، فإن كان الجهاد بين العلم والدين في أوربا مدة
خمسة قرون قد أنجم ببقاء الدين في نمو وسلطانه في نفوذ وعلو، فلا يمضي على
المسلمين قرن أو قرنان إلا وهم في خبر كان، وإذا لاحظنا أنه ليس للمسلمين جنسية
ولا وطنية تقوم مقام الرابطة الدينية، وأن الذين أحبوا الامتياز فيهم والانتفاع منهم
بدعوتهم إلى الوطنية لم ينجحوا؛ لآن تأثير الدين لم يجعل لهم تأثيرًا بل عدّهم الذين
يفهمون حكم الإسلام وأسراره أعداء للإسلام، وإن كانت أسماؤهم أسماء المسلمين -
فلنا إن نحكم بأن المسلمين سيفقدون بانحلال الرابطة الدينية كل استقلال، ويكون
مصيرهم إلى الزوال، فلا تفيدهم سعة البلاد، ولا كثرة التعداد؛ إذ لا كثرة مع فقد
الرابط العام، كما لا يكون العقد بغير نظام.
هذا ما يقول الناظر بإحدى عينيه، إلى ما بين يديه، وأعني بإحدى العينين
العين التي تنظر إلى السوءى دون الحسنى وإلى منافذ الخوف دون أبواب الرجاء
وأعني بما بين اليدين الظاهر الشائع من حال الأمم دون الخفي الذي لا يرى إلا
بالتحديق، وبنفوذ أشعة البصر من الحجاب الصفيق، ذلك أن كل إنسان يدرك مما
يشاهده ويمر به ما هو مستعد لإدراكه وينبو طرفه عما سواه وإن كان واضحًا جليًّا.
فما بالك إذا كان ما يعلو استعداد الناظر الحسير خفيًّا سرُّه، مجهولاً عنده
أمره.
إنّ سير الأمم يشبه سَيْرَ الظل لا نعد له الخطوات، وانتقالها يحاكي انتقال
النجوم السيارة لا تدركه لا وقد فات، والوليد يُعذر إذا أنكر سير الظل وجزم بأنه
واقف؛ لأنه لا يرى حركته، والجاهل بعلم الفلك يُعذر إذا أنكر بديئًا أن السيارات
تسير من الغرب إلى الشرق؛ لأنه يراها تغيب في جانب الغرب فهو يرى أثر
حركة الأرض؛ لأنه قريب يكون كل يوم ولا يلاحظ سبب تأخر طلوع القمر كل
ليلة فضلاً عن غيره من السيارات، كذلك يُعذر الماجن إذا جاء باريس فعكف فيها
على الحانات والمواخير وإذا قال إن غاية مدنية أوربا إباحة الفواحش والفجور ولا
غاية وراءها ويُعذر كَلِيلُ النظر إذا جاء مصر فرأى فيها كل شيء دون ما كان
يسمع إذا حكم على مستقبلها بضد ما كان يحكم به وهو بعيد عنها ويئس من مستقبل
الإسلام بالنسبة إليها.
يعذر باليأس إذا دخل الأزهر فرآه كعالم الخيال لا أثر لحال الناس في علمه
ولا أثر لعمله فيما عليه الناس في سيرهم ورأى أن الآثار القلمية التي تصدر عن
مصر ليست منه في شيء ولا هي مرضية في الغالب عند أهله وإنما جل علمهم
مناقشة في أساليب المؤلفين وتدقيق في تحليل عبارات كتب مخصوصة اختاروا
تدريسها، ثم رأى أن أهله غير محترمين عند طبقة من طبقات الأمة حتى إن
الحوذي (سائق المركبة) ليسخر من المجاور في الأزهر ومن العالم أيضًا إلا
بعض الوجهاء الذين يحترمون لمناصبهم التي بقيت لهم أو لثروتهم وقليل ما هم.
ويُعذر به إذا غادر الأزهر إلى المدارس فرأى فيها العناية باللغة الإنكليزية
أضعاف العناية باللغة العربية، ورأى التلامذة يتلقون تاريخ الدين عن المدرسين
الأوربيين، ورأى علم الدين كالرسم الدارس، لا يحفل به المدرس ولا الدارس،
وظن لذلك أن الإنكليزية سوف تستبدل بالعربية، ويُعذر به إذا شاهد الجريدة الهزلية
البذيئة تطبع منها ألوف من النسخ فتباع بالنقد يدًا بيد ويتهافت عليها القارئون
والقارئات من جميع الطبقات، يلغون بها مقهقهين ولا مثار للقهقهة والكركرة، ولا
للإهلاس والهرنفة، ثم يرى قراء المجلات العلمية والتهذيبية على قلتهم يلوون
ويمطلون ولا يخرج منهم حقها إلا نكدًا. ويعذر به إذا لاحظ حال تلامذة لمدارس
وبلا أخبارهم، واكتشف ضمائرهم وأسرارهم، فرأى أكثرهم مشغولين بالسفاسف
فاسدى التربية قصيري الآمال لا همَّ لأحدهم إلا أن يكون موظفًا في الحكومة لا
ليرفع شأن أمته ولا ليخدم مصلحة بلاده ولكن ليكون رزقه مضمونًا فلا يتكلف عناء
الأعمال، وإن كان وراءها نعيم الاستقلال - ويعذر به إذا رأى الأغنياء والوجهاء
لا همَّ لهم إلا التمتع باللذات تنبسط أيديهم في الإسراف والمخيلة، وتنقبض عن
الأعمال الجليلة ويكون أعذر باليأس والقنوط إذا رفع بصره إلى الحكام والأمراء
ورآهم ألعوبة في أيدي الأجانب. وقد أخذتهم الفتن من كل جانب.
هذا ما يراه الطرف القصير والبصر الحسير، ويبني عليه حكمه الجائر ولكن
الإسلام يسير من وراء مدى طرفه سيرًا طبيعيًّا، ويتقدم تقدمًا تدريجيًّا، يسير بلغته
وعلومه سير الظل الوارف وينتقل انتقال الكواكب من الغرب إلى الشرق في الباطن
ومن الشرق إلى الغرب في الظاهر بل كل واحد من الخافقين يسير نحو الآخر كلما
خطا المسلم إلى المدنية الأوربية المسرفة خطوة، خطا مثلها الأوربي إلى الإسلام
أو أبعد منها أو أقرب ولا ندري وهما في مبدإ السير أيّهما يكون الأسبق إلى تحكيم
الإسلام في هذه المدينة المسرفة المائلة ليرجعها إلى الاعتدال الذي هو غاية الكمال
الممكن؟ ولكننا نعلم أن التلاقي هو نتيجة هذا التقرب المستمر وإن ذلك لواقع ما له
مِن دافع.
ندع الكلام الآن في الحركة الإسلامية العامة إلى التقدم في كل قطر من
الأقطار وتقرب الشعوب المسلمة بعضها إلى بعض ونداء الشيعي والسني السلفي
والمتمذهب إلى الإصلاح، وفي امتداد هذا النداء تأثيره، وفي الجمعيات الإسلامية
وفي ترقي لغة الدين (العربية) وتقدمها السريع من غير نصير من الحكومات
الإسلامية أو الجمعيات الإسلامية بطبيعة العلم والعمران فيها؛ لأن هذا أغرب عند
أكثر القارئين من الأول.
كانت أوربا في القرون الماضية تعتقد أن الإسلام دين وثني نشأ بالسلب
والنهب والاعتداء وإباحة الفواحش والمنكرات وأنّ أهله قومٌ متوحشون يتقربون إلى
أصنامهم وأوثانهم بسفك الدماء وكانوا يبنون على هذا الاعتقاد أنه يجب على أوربا
السعي باستعبادهم أو محوهم من بلادهم ليسلم سائر الناس من شرورهم. والشواهد
على هذا كثيرة في كتبهم فعندهم كتب كثيرة مؤلفة في سوء حال الإسلام والمسلمين
ألفها القسيسون والسياسيون لتنفير الشعوب الأوربية من العالم الإسلامي حتى إنهم
ترجموا القرآن الحكيم ترجمة مبدلة محرفة، بل ألفوا كتبًا وضعية منها ترجمة
للقرآن، لو قرأ المسلم منها ما سموه سورة الفاتحة (وهي التي لا يجهلها مسلم)
ولم يذكر له أن هذا ترجمة القرآن لما خطر في باله القرآن عند قراءتها مطلقًا؛
لأنه ليس فيها معنى جملة واحدة من جمل الفاتحة الشريفة. ولو شئتَ أنْ أسردَ
الشواهد من كلام الأوربيين في ذمّ الإسلام ونبيّه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام
لاحتجت إلى تأليف مستقلّ. وأهون وصف وصفه به الفيلسوف رينان الفرنسي [1]
في كتابه (ابن رشد) قوله فيه: (دين الخنازير أو القوم المنهمكين في الشهوات) .
ومن التحريض عليه؛ تلك الكلمة الخبيثة التي جاءت في مقال للموسيو هانوتو
وهي الاقتراح على فرنسا بأن تهدم الكعبة المشرفة، وتنقل قبر النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إلى قصر اللوفر في باريس. ومَن أراد الزيادة على ذلك فليقرأ
كتاب (الإسلام) للكونت هنري دي كاستري الذي عرّبه أحمد فتحي بك زغلول
وطبع بمصر سنة 1315.
هذه إشارة إلى اعتقاد أوربا في الإسلام وقولها فيه، وأما العمل فما زال
الأوربيون يسومون المسلمين الخسف في كل بلاد لهم استولت عليها دول أوربا
حتى خافت إنكلترا ثم روسيا وطأتهما عنهم من عهد قريب فأذنت روسيا لهم بطبع
المصاحف وكتب الدين وأعطتهم شيئًا من الحرية يتمتّعون به الآن وكان ممن سعى
بذلك لدى القيصر السيد جمال الدين الأفغاني - رحمه الله تعالى - وهذه إنكلترا
التي كانت ولا تزال أبعد أمم أوربا وحكوماتها عن التعصب وأقربهن إلى التسامح كانت قاعدة الوظائف عندها في الهند أن تكون للإنكليز، فالأوربي فالوثني فالمسلم،
فما كان يوظف مسلم إلا إذا لم يقبل الوظيفة التي يتولاها أحد من هؤلاء.
انقلبت الحال بعد هذا في الاعتقاد وفي القول والعمل وفي السياسة فقد أقبل
العدد الكثير من الأوربيين على دراسة لغة القرآن وعلوم الإسلام فظهر لهم فضل
هذا الدين في الجملة وألَّفوا كتبًا كثيرة في فضله وصار أكثر الباحثين فيه يعتقدون
بأن نَبيَّه كان يدعو إلى هذا الدين معتقدًا بأنه مُلْهُمٌ من الله ومؤيد من لدنه سبحانه
وتعالى، وأنّ ما جاء به إصلاح عظيم للبشر عقائده نافعة وأخلاقه محمودة وشريعته
عادلة. ثم إن منهم من اجتهد في كشف الشبهات التي يوردها علماؤهم على الإسلام
وهي منه حقيقة كإباحة تعدد الزوجات بشرطها والرخصة في الطلاق والجهاد.
وإن لبعضهم من الأجوبة عن هذه الأمور المنتقدة في نظر قومهم أشد الانتقاد ما لا تجد
مثله لعالم من علماء المسلمين. وقد قام بعض بعض القسيسين منهم يحاول الجمع بين
الديانتين كإسحق طيلر الذي نشرنا بعض خطبه ومقالاته من قبل.
لم يقف التحول عند حد اعتقاد بعض الباحثين وأقوال بعض المؤلفين بل
قضت طبيعة الاجتماع بالعمل ببعض ذلك ومخالفة دينهم إليه؛ لأنه ظهر لهم أنه
ضرورة لا بد منها وذلك كالطلاق الذي صار مشروعًا عندهم وشائعًا فيهم. وكذلك
ظهرت فيهم بوادر الحاجة إلى تعدد الزوجات حتى قام مِن الكاتبات مَن يدعو إليه
في الجرائد - راجع مقاله (الرجال والنساء) ص 481 م 4 - وكأنك بهم وقد عادوا
إلى ذلك بعد حين وسيجدون في الإسلام الطريقة المثلى لحل المشكلة الاجتماعية
الكبرى التي من آثارها الفوضوية والاشتراكية وتعصب العمال الذي تفاقم خطبه في
هذه الأيام.
إن ما كشفه العلم في الخلق والتكوين يوافق ما ينطق به القرآن. إن الآيات
الكونية التي يفصلها القرآن في إثبات الألوهية هي أقرب إلى العلم الحاضر والفلسفة
الحاضرة منها إلى فلسفة اليونان؛ إن الوحي الذي يطالب القرآن بالإيمان يمكن أن
يقبله حتى العالم الماديّ من غير حاجة إلى إبطال مسألة ثابتة من مسائل علمه أو
فلسفته. إنّ الأخلاق التي يدعو إليها القرآن هي أخلاق الاجتماع والعمران والعزة
والسلطان، إن أصول الأحكام والشرائع السياسية والمدنية والقضائية والحربية في
الإسلام منطقية على ما ثبتت فائدته للأمم الغربية وفيها ما لم يَصِلُوا إليه، ولو
عرفوه لعوّلوا عليه. إن لكل داء من أدواء العمران وكل مرض من أمراض الاجتماع
البشري دواء شافيًا في القرآن يعرف ذلك الراسخون في فقه القرآن من علماء
الاجتماع، وإن من هذه الأدوية ما ينفع بدون الإيمان ومنها ما لا يتم إلا به كدواء
الزكاة لأدواء المسألة الاجتماعية الكبرى كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء: 82) ، وإن المدينة الكاملة التي تسير إليها
الأمم الراقية لا تكون إلا بدين يجمع هذه الأصول الإنِّية التي أجملناها الآن، وقد
جاء في المنار بعض التفصيل لها وسنزيدها تفصيلاً إذا أمهلنا الزمان.
إن المسلمين الأولين أخذوا هذه الأصول بالإيمان والتسليم فأسرعت إليهم
بالسيادة والسعادة ولكن لم يلبث العلم بها أن ذهب وحل محله التقليد الأعشى فتركوا
الأخذ بحكمة القرآن إلى أقوال مقلَّديهم ولا غناء فيها عن كتاب الله تعالى فجهلوا في
مجموعهم فقه هذه الأصول وزادوا عليها لإيضاحها ما أخفاها فساروا إلى الوراء،
يخبطون خبط العشواء، ولمّا تكمل مدينتهم، ألا ترى مقلّديهم في العقائد كيف
تركوا في العلم الإلهيّ طريق القرآن، إلى نظريات اليونان تأثرًا بذلك الزمان، ألا
ترى مقلّديهم في السياسة والأحكام كيف تركوا أصول القرآن وما يوضحها من السنة
واستبدوا بالعمل. ألا ترى الأمة بين هؤلاء الرؤساء، من الملوك والعلماء، فقدت
الاستقلال الاجتماعي وعوملت معاملة السوائم من الأنعام؟ هذا هو سبب ضياع أثر تلك الأصول في سبيل الوصول إلى المدنية الكاملة.
الأوربيون يسيرون الآن إلى الإسلام من طريقه، فقد بدأوا بالبحث في
الآفاق فعرفوا من آيات الله فيها ما لم تعرفه الأمم من قبلهم وثنّوا بالبحث في
أنفسهم فاهتدوا إلى كثير من سنن الله تعالى في قواها وفي عملها الحيويّ والاجتماعيّ،
ثم إنهم يقرنون العلم دائمًا بالعمل، بل لا علم عندهم إلا أنْ يفهموه وقد أنشأوا في هذه
السنين يدربون لغته ويدرسون بقوة واجتهاد وقام فيهم من أنفسهم دعاة إليه وقد كاد
يأتي فيهم تأويل قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) .
أما نحن المسلمين فإننا نعترف بالتقليد أنه الحق ولكننا تركنا من عدة قرون
البحث في الآفاق وفي أنفسنا الذي علق عليه كتابنا تبين الحق! والآن توجه
الكثيرون منا إلى علم الآفاق وعلم النفس تقليدًا للذين سبقونا، فإذا ضللنا في هذا السير
الجديد فإننا نقلدهم من بدايتهم فنترك الدين وآدابه وليس عندنا شيء يقوم مقامه كما
كان عندهم فنكون من الهالكين ويكونوا هم السابقين إلى الإسلام فلا يزالون يُقْبلون
عليه ونحن مُدْبرون عنه إلى أنْ يصلوا ببحثهم واجتهادهم إلى الحق ونحن عَْرة
في طريقهم وعند ذلك نرجع إلى تقليدهم في الدين كما قلدناهم في مبادئ العلم وما
تبعها من التعطيل وما تقليدهم إلا اجتهاد فنتعلم منهم كيف نَفْهَمُ ديننا برؤية آيات الله
في الآفاق وفي أنفسنا لا بِقَوْلِ فلان ورأي عِلاّن.
وأما إذا اهتدينا في هذا السير واندفعنا إلى هذا العلم بإحساس الحاجة إليه إلا
بالتقليد وأخذناه كاليابان من حيث انتهى إليه لا من حيث بدأ منه وسبقناهم إلى ما
نحن أجدر به من إحياء لغة القرآن وفهم الدين من القرآن، وما يبينه من السنة النبوية
فيجب أن نسبقهم إليه، ونساعدهم عليه، ونسير بعد أن يفهم بعضنا بعضًا
متعاضدين متساندين، حتى نصل جميعًا إلى الحق اليقين، ونكون السابقين وسائر
الأمم من اللاحقين، ويظهر فينا معنى حديث أنس عند الترمذي وغيره (أمتي
كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره) ويأتي فينا جميعًا تأويل قوله عز وجل: {هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) .
__________
(1) هذا هو رنان وهذا كتابه الذي اعتمدت عليه مجلة الجامعة في ترجمة ابن رشد فيلسوف الإسلام العظيم فهل يوثق بقول متعصب على الإسلام هذا التعصب المشوه في أمرٍ ما بالإسلام أو تاريخ رجاله العظام؟ .(5/681)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
(س1) مصطفى أفندي رشدي المورلي بالزقازيق: ما هي الحكمة في تعدد
زوجات النبي أكثر مما أباحه القرآن الشريف لسائر المؤمنين وهو التزوج بأربع فما
دونها وتعين الواحدة عند خوف الخروج عن العدل؟
ج: إن الحكمة العامة في الزيادة على الواحدة في سن الكهولة والقيام بأعباء
الرسالة والاشتعال بسياسة البشر ومدافعة المعتدين دون سنِّ الشباب ومساعدة
البالغين على السياسة الرشيدة. فأما السيدة خديجة وهي الزوجة الأولى، فالحكمة
في اختيارها وراء سُنة الفطرة معروفة وليست من موضوع السؤال. وقد عَقَدَ بعد
وفاتها على سودة بنت زَمْعَة وكان توفي زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة
الثانية , والحكمة في اختيارها أنها كانت من المؤمنات الهاجرات لأهليهن خوفَ
الفتنة، ولو عادت إلى أهلها بعد وفاة زوجها - وكان ابن عمها - لعذبوها وفتنوها
فكفلها عليه الصلاة والسلام وكافأها بهذه المنة العظمى، ثم بعد شهر عقد على عائشة
بنت الصديق والحكمة في ذلك كالحكمة في التزوج بحفصة بنت عمر بعد وفاة زوجها
خنيس بن حذافة ببدر وهي إكرام صاحبيه ووزيريه أبي بكر الصديق وعمر -
رضي الله عنهما - وإقرار عينهما بهذا الشرف العظيم.
وأما التزوج بزينب بنت جحش فالحكمة فيه تعلو كل حكمة وهي إبطال تلك
البدع الجاهلية التي كانت لاحقة ببدعة التبني كتحريم التزوج بزوجة المتبنى بعده
وغير ذلك، وقد نشر في المجلد الثالث من المنار مقالتان في هذه المسألة إحداهما
للأستاذ الإمام فليراجعهما السائل هناك , ويقرب من هذه الحكمة الحكمة في التزوج
بجويرية وهي برة بنت الحارث سيد قومه بني المصطلق فقد كان المسلمون أسروا من
قومها مئتي بيت بالنساء والذراري فأراد عليه الصلاة والسلام أن يعتق المسلمون هؤلاء الأسرى فتزوج بسيدتهم فقال الصحابة عليهم الرضوان أصهار رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم فأسلم بنو المصطلق لذلك
أجمعون وصاروا عونًا للمسلمين بعد أن كانوا محاربين لهم وعونًا عليهم وكان لذلك أثر حسن في سائر العرب.
وقَبْل ذلك تزوّج عليه السلام بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن
جحش بأُحُد وحكمته في ذلك أن هذه المرأة كانت مِن فُضليات النساء في الجاهلية
حتى كانوا يدعونها أم المساكين لبرها بهم وعنايتها بشأنهم فكافأها عليه التحية
والسلام على فضائلها بعد مصابها بزوجها بذلك فلم يدعها أرملة تقاسي الذلّ الذي
كانت تُجير منه الناس وقد ماتت في حياته وتزوج بعدها أم سلمة واسمها هند وكانت
هي وزوجها - عبد الله أبو سلمة بن أسد ابن عمة الرسول برة بنت عبد المطلب
وأخوه من الرَّضاعة - أول من هاجر إلى الحبشة وكانت تحب زوجها وتجله حتى إن
أبا بكر وعمر خطباها بعد وفاته فلم تَقْبل , ولمَّا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم
(سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا) . قالت: ومَنْ يَكُنْ خيرًا من
أبي سلمة؛ فمن هنا يعلم السائل وغيره مقدار مصاب هذه المرأة الفاضلة بزوجها،
وقد رأى عليه الصلاة السلام أنه لا عزاء لها عنه إلا به فخطبها فاعتذرت بأنها
مُسِنّة وأُمّ أيتام فأحسن علية السلام الجواب - وما كان إلا محسنًا - وتزوج بها،
وظاهرٌ أنّ ذلك الزواج ليس لأجل التمتع المباح له وإنما كان لفضلها الذي يعرفه
المتأمل بجودة رأيها يوم الحديبية ولتعزيتها كما تقدم.
وأما زواجه بأمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب فلعلّ حكمتُه لا تخفى
على إنسان عرف سيرتها الشخصية وعرف عداوة قومها في الجاهلية والإسلام لبني
هاشم ورغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تأليف قلوبهم.
كانت رملة عند عبيد الله بن جحش، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرة الثانية
فتنصّر هناك وثبتت هي على الإسلام فانظر إلى إسلام امرأة يكافح أبوها بقومه النبيَّ
ويتنصر زوجها وهي معه في هجرة معروف سببها. أمن الحكمة أن تضيع هذه
المؤمنة الموقنة بين فتنتين؟ أم من الحكمة أن يكفلها من تصلح له وهو أصلح لها؟
كذلك تظهر الحكمة في زواج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير
وقد قتل أبوها مع بني قريظة وقتل زوجها يوم خيبر. وكان أخذها دحية الكلبي من
سيد خيبر فقال الصحابة: (يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح
إلا لك) ، فاستحسن رأيهم وأبى أن تذل هذه السيدة بأن تكون أسيرة عند من تراه
دونها فاصطفاها وأعتقها وتزوّج بها ووصل سببه ببني إسرائيل وهو الذي كان
يُنْزِلُ النَّاس منازلَهم وآخر أزواجه ميمونة بنت الحارث الهلالية (وكان اسمها برة
فسماها ميمونة) والذي زوجها منه هو عمّه العباس - رضي الله عنه - وكانت
جعلت أمرها إليه بعد وفاة زوجها الثاني أبي رَهم بن عبد العزّى وهي خالة عبد الله
ابن عباس وخالد بن الوليد فلا أدري هل كانت الحكمة في تزوجه بها تشعب قرابتها
في بني هاشم وبني مخزوم أم غير ذلك.
وجملة الحكمة في الجواب أنه صلى الله عليه وسلم راعى المصلحة في اختيار
كل زوج من أزواجه - عليهن الرضوان - في التشريع والتأديب فجذب إليه كبار
القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء دون الرجال، ولو ترك واحدة فقط لما
كانت تغني في الأمة غناء التسع، ولو كان عليه السلام أراد بتعدد الزوجات ما يريده
الملوك والأمراء من التمتع بالحلال فقط؛ لاختار حسان الأبكار على أولئك الثيبات
المكتهلات كما قال لمن استشاره في التزوج بأرملة: (هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك)
هذا ما ظهر لنا في حكمة التعدد، وإن أسرار سيرته صلى الله عليه وسلم أعلى من أن
تحيط بها كلها أفكار مثلنا.
* * *
تَرْكُ الملوك والأمراء فريضة الحج
(س2) 1-ع بالأزهر: (من المعلوم أن الحج لبيت الله الحرام فريضة
عينية على كل مسلم استطاع إليه سبيلاً وبديهي أن أمراء المسلمين وحكامهم هم
أَقْدَر على الاستطاعة، فلم لا يحجّون، وهل هناك مانع شرعي أو ما يوجب
سقوطَهُ عنهم سيّما وقد مضى نحو الثلاثة قرون ولم نسمع بملك منهم حج أو
اعتمر. أفيدونا الجواب ولكم الأجر والثواب) .
(ج) لا نعلم لأحد منهم عذرًا في تَرْكِ هذا الركن الديني العظيم، وقد كنّا
شددنا النكير في هذه المسألة في الصفحة 386 من منار السنة الأولى. وإننا نرى
العقلاء من صاروا يلهجون بهذه المسألة، ويقولون ما بال بعض ملوكنا وأمرائنا
كشاه العجم وخديو مصر يذهبون إلى أوربا المرّة بعد المرّة ولا يذهبون إلى مكّة
المكرمة فإذا كان السلطان عبد الحميد يخاف على نفسه من قومه الترك أو من
الأرمن - دون سواهم من رعيته - إذا خرج حاجًّا؛ لأنه لا يتيسر له من الاحتياط في السفر ما يتيسر له في قصره. وإذا كان سلطان المغرب الأقصى وأمير الأفغان
يخافان على بلادهما من الفتن أو إقامة غيرهما في مكانهما إذا خرجا من بلادهما فما بال غيرهم ممن لا يخشى علي نفسه ولا على بلاده لا يحج. نعم إن الحج
مفروض على التراخي فلا يعترض على شخص بعينه أنه لم يحج لجواز أن يكون لم يؤخر الحج إلا وهو عازم عليه، ولكن يظهر من حال ملوكنا وأمرائنا الحاضرين
أن سيكونون كمَنْ سبقهم من عدّة قرون، ويعتقد المشتغلون بالسياسة أن السلطان عبد الحميد لا يرضيه أن يحج شاه العجم ولا أمير مصر وأنه يمنعهما إذا أرادا ذلك
ما استطاع، وكذلك سلطان مراكش لأنه يخاف أن يعملوا في البلاد المقدسة عملاً سياسيًّا كتحويل الخلافة إلى أنفسهم فهذا كل ما نعلمه في اعتذار المعتذرين والله أعلم
بالسرائر.
أما الفوائد التي تكون من حج الأمراء والسلاطين لأنفسهم وللمسلمين فهي كبيرة جدًّا فإن الاجتماع في تلك البقاع المقدسة هو خير سبيل في تعارفهم وتحالفهم على ما فيه مصلحة الملة والأمة مع بقاء كل منهم في إمارته أو سلطنته. ونعيد ما قلناه في المنار من خمس سنين وهو أنه لو كان لعواهل أوربا وقياصرتهم وملوكهم مثل
هذا المجتمع العظيم لما تركوا الاختلاف إليه.
* * *
اختلاف الشريعة باختلاف الزمان والمكان
(س3) م. ر. بمدرسة الحقوق بمصر: يقول أرباب الشرائع والقوانين
إنه يجب في تحقيق عدالتها أن تكون موافقة لأخلاق الأمم وعاداتهم وطبائعهم
ودرجة تربيتهم وأقاليمهم وأحوالهم المعاشية والاقتصادية. فإذا كان الأمر كذلك فلم
لم نشاهد سوى قانون واحد لدى الأمم الإسلامية - الشريعة الغراء - مع أنه يوجد
اختلاف عظيم بين تلك البلاد في العادات والأخلاق والأقاليم؟
(ج) إن علماء الحقوق والقوانين الوضعية إنما يضعون قوانينهم لأهل
السياسة وهم إنما يهمهم من رعاياهم جباية الأموال والأمن من الخروج عليهم لا
سيما إذا كانوا من غير جنسهم، وما يساعد على ذلك من منع التعدي فواضع
القانون يحترم عادات كل قوم وإن كانت ضارة كالسُّكر والزنا ويخص أحكامه بحفظ
النظام فيها ومنع التعدي وأما الشريعة الإلهية فإصلاح الأخلاق والعادات فيها مقصود
بذاته، وأساس هذه الشريعة دَرْءُ المفاسد وحفظ المصالح سواء كان ذلك في الأفراد أو
الجماعات وما بينهم من الروابط والصلات، وقد وضع الإسلام على هذا الأساس
أصولاً عامّة للأحكام لا تختلف باختلاف الزمان والمكان كالمساواة في الحقوق وإقامة
القسط ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، وكون درء المفاسد مقدَّمًا على جَلْب
المصالح، وارتكاب أخف الضررين، وجعل البينة على المدّعي، وهي كل ما
يتبين به الحق وجعل الحاكم مستقلاً مجتهدًا يستنبط الأحكام مع فرض الاستشارة عليه
إلى غير ذلك من الأصول العادلة وبَعْدَ هذا كله جعلت العرف محكمًا كوضع الشرع
ليراعي فيما يختلف من أحوال البلاد والعباد التي لا تخل بمقاصد الشريعة والدين
في التهذيب وتقريب الشعوب بعضها من بعض لتكون الأمم كلها أمة واحدة.
لهذا الذي أجملناه لم تلزم الشريعة الإسلامية أتباعها بالتزام جزئيات الأحكام
التي صدرت في عهد التشريع كما هي بدون مراعاة أساس درء المفاسد وحفظ
المصالح، وقد تقدمت الأدلة على هذا في مقالات (محاورات المصلح والمقلد)
فليراجعها السائل في أواخر المجلد الثالث وأوائل الرابع من المنار، ومنها يعلم أن
هذا الوضع من أسباب جعل الشريعة خاتمة الشرائع ونبيها صلى الله عليه وآله وسلم
خاتم النبيين كما بيناه مرارًا بالتوضيح.
* * *
طهارة السبيرتو أو الكحول
(س4) علي أفندي حسني بكمرك السويس: قد ألجأت حالة الوقت إلى
(السبيرتو) في إزالة ما على الملابس والطرابيش من الوسخ والدهن، وقد تردد
الناس في طهارته ونجاسته للشكِّ في أصله، فإنْ كان نجسًا فهل تطهر الطرابيش
المنظفة به بحرارة النار عند كيها أو بكونه سريع الطيران كما يقال؟
(ج) قد أثبتنا من قبل طهارة الكحول بأنواعه في المنار بالأدلة بل هو
أقوى المطهرات على أنه سريع الطيران ولو لم يعرض الثوب على حرارة النار.
والقول بنجاسته وتنجيسه تشديد مبني على فلسفة غير صحيحة.
[راجع ص 500 م 4] .
__________(5/699)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع السابع لجمعية أم القرى
(في مكة المكرمة يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة1316)
في صباح اليوم المذكور انتظمت الجمعية، وقرئ الضَّبْطُ السابق حسب
القاعدة المرعية، قال (الأستاذ الرئيس) مخاطبًا السيد الفراتي: إن الجمعية
لتنتظر منك فوق همتك في عقدها وقيامك بمهمتها التحريرية أن تفيدها أيضًا رأيك
الذاتي في سبب الفتور المبحوث فيه؛ وذلك بعد أن تقرر لها مجمل الآراء التي
أوردها الإخوان الكرام إذ أحطْت بها علمًا مكررًا بالسمع والكتابة والقراءة
والمراجعة فأنت أجمعنا لها فكرًا. هذا والجمعية ترجو الفاضل الشامي والبليغ
الإسكندري أن يشتركا في ضبط خطابك بأن يتعاقبا في تلقي الجمل الكلامية
وكتابتها؛ لأنهما كباقي الإخوان لا يعرفان طريقة الاختصار المستعمل في هذا
المقام.
نظر (الفاضل الشامي) إلى رفيقه واستملح منه القول ثم قال: إننا مستعدان
للتشرف بهذه الخدمة.
قال (السيد الفراتي) : حبًّا وطاعة، وإن كنت قصير الطَّوْل كليل القول
قليل البضاعة. ثم انحرف عن المكتبة فقام مقامه عليها الفاضل الشامي والبليغ
الإسكندري، وما لبث أن شرع في كلامه فقال: يستفاد من مذكرات جمعيتنا
المباركة أن هذا الفتور المبحوث فيه ناشئ عن مجموع أسباب كثيره مشتركة فيه لا
عن سبب واحد أو أسباب قلائل تمكن من مقاومتها بسهولة، وهذه الأسباب منها
أصول ومنها فروع لها حكم الأصول وكلها ترجع إلى ثلاثة أنواع وهي أسباب
دينية وأسباب سياسية وأسباب أخلاقية، وإني أقرأ عليكم خلاصتها من جدول
الفهرست الذي استخرجته من مباحث الجمعية رامزًا للأصول منها بحرف (الألف)
وللفروع منها بحرف (الفاء) ، وهي:
(النوع الأول: الأسباب الدينية)
(1) تأثير عقيدة الجبر في أفكار الأمة (أ) (2) تأثير المزهدات في
السعي والعمل وزينة الحياة (ف) (3) تأثير فتن الجدل في عقائد الدين (أ)
(4) الاسترسال في التخالف والتفرق في الدين (أ) (5) الذهول عن سماحة
الدين وسهولة التدين به (أ) (6) تشديد الفقهاء المتأخرين في الدين خلافًا للسلف
(أ) (7) تشويش أفكار الأمة بكثرة تخالف الآراء في فروع أحكام الدين (ف)
(8) فقد أمكن مطابقة القوة للعمل في الدين بسبب التخليط والتشديد (ف) (9)
إدخال العلماء المدلّسين على الدين مقتبسات كتابية وخرافات وبدعًا مضرّة (أ)
(10) تهوين غلاة الصوفية الدين وجعلهم إياه لهوًا ولعبًا (ف) (11) إفساد
الدين بتفنن المداحين بمزايدات ومتروكات وتأويلات (ف) (12) إدخال
المدلسين والمقابرية على العامة كثيرًا من الأوهام (أ) (13) خلع المنجمين
والرّمالين والسحرة والمشعوذين قلوب المسلمين بالمرهبات (ف) (14) إيهام
الدجالين والمداحين أن في الدين أمورًا سرية وأن العلم حجاب (أ) (15) اعتقاد
منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين (أ) (16) تطرق الشرك الصريح أو
الخفي إلى عقائد العامة (ف) (17) تهاون العلماء العاملين في تأييد التوحيد
(ف) (18) الاستسلام للتقليد وترك التبصر والاستهداء (ف) (19) التعصب
للمذاهب ولآراء المتأخرين وهجر النصوص ومسلك السلف (ف) (20) الغفلة عن
حكمة الجماعة والجمعة وجمعية الحج (1) (21) العناد على نبذ الحرية الدينية
جهلاً بميزتها (ف) (22) التزام ما لا يلزم لأجل الاستهداء بالكتاب والسنة
(ف) (23) تكليف المسلم نفسه ما لا يكلفه به الله وتهاونه فيما هو مأمور
به (ف) .
(النوع الثاني الأسباب السياسية)
(24) السياسية المطلقة من السيطرة والمسئولية (أ) (25) تفرق الأمة
إلى عصبيات وأحزاب سياسية (ف) (26) حرمان الأمة من حرية القول والعمل
وفقدانها الأمن والأمل (ف) (27) فقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات
الأمة (ف) (28) ميل الأمراء للعلماء المدلسين وجهلة المتصوفين (ف)
(29) حرمان العلماء العاملين وطلاب العلم من الرزق والتكريم (أ) (30) اعتبار
العلم عطية يحسن بها الأمراء على الأخصاء وتفويض خَدْم الدين للجهلاء (أ)
(31) قلب موضوع أخذ الأموال من الأغنياء وإعطائها للفقراء (أ) (32)
تكليف الأمراء القضاة والمفتين أمورًا تهدم دينهم (ف) (33) إٍبعاد الأمراءِ
النبلاءَ والأحرار وتقريبهم المتملقين والأشرار (أ) (34) مراغمة الأمراء
السراة والهداة والتنكيل بهم (ف) (35) فقد قوة الرأي العام بالحجر والتفريق
(ف) (36) حماقة أكثر الأمراء وتمسكهم بالسياسات الخرقاء (ف) (37)
إٍصرار أكثر الأمراء على الاستبداد عنادًا واستكبارًا (ف) (38) انغماس الأمراء
في دواعي الشهوات وبُعدهم عن المفاخرة بغير الفخفخة والمال (ف) (39)
حَصْر الاهتمام السياسي بالجباية والجندية فقط (أ) .
(النوع الثالث الأسباب الأخلاقية)
(40) الاستغراق في الجهل والارتياح إليه (أ) (41) استيلاء اليأس
من اللحاق بالفائزين في الدين والدنيا (ف) (42) الإخلاد إلى الخمول ترويحًا
للنفس (ف) (43) فقد التناصح وترك البغض في الله (أ) (44) انحلال
الروابط الدينية الاحتسابية (أ) (45) فساد التعليم والوعظ والخطابة والإرشاد
(ف) (46) فقد التربية الدينية والأخلاقية (أ) (47) فقد قوة الجمعيات
وثمرة دوام قيامها (أ) (48) فقد القوة المالية الاشتراكية بسبب التهاون في
الزكاة (أ) (49) ترك الأعمال بسبب ضعف الآمال (ف) (50) إهمال
طلب الحقوق العامة جبنًا وخوفًا من التخاذل (ف) (51) غلبة التخلق بالتملق
تزلقًا وصغارًا (ف) (52) تفضيل الارتزاق بالجندية والخدم الأميرية على
الصنائع (53) توهم أن علم الدين قائم في العمائم وفي كل ما سطر في الكتاب
(ف) (54) معاداة العلوم المالية ارتياحًا للجهالة والسفالة (أ) (55) التباعد
عن المكاشفات والمفاوضات في الشئون العامة (أ) (56) الذهول عن تطرق
الشرك وشؤمه (أ) .
ثم قال (السيد الفراتي) : هذه هي خلاصات أسباب الفتور التي أوردها
إخوان الجمعية وليس فيها مكررات كما يظن , وإذ كان للخلل الموجود في أصول
إدارة الحكومات الإسلامية دخل مهم في توليد الفتور العام؛ فإني أضيف إلى
الأسباب التي سبق البحث فيها من قبل الإخوان الكرام الأسباب الآتية، أعددها من
قبيل رءوس مسائل فقط إٍذ لو أردت تفصيلها وتشريحها لطال الأمر ولخرجنا عن
صدد محفلنا هذا.
والأسباب التي سأذكرها هي أصول موارد الخلل في السياسة والإدارة
الجاريتين في المملكة العثمانية التي هي أعظم دولة يهم شأنها عامة المسلمين.
وقد جاءها أكثر هذا الخلل في الستين سنة الأخيرة أي بعد أن اندفعت
لتنظيم أمورها فعطلت أصولها القديمة ولم تُحسن التقليد ولا الإبداع فتشتت حالها
ولا سيما في العشرين سنة الأخيرة التي ضاع فيها ثلثا المملكة وخرب الثلث الباقي
وأشرف على الضياع لفقد الرجال وصرف السلطان قوة سلطته كلها في سبيل حفظ
ذاته الشريفة وسبيل الإصرار على سياسة الانفراد، وأما سائر الممالك والإمارات
الإسلامية فلا تخلو أيضًا من بعض هذه الأصول كما أن فيها أحوالاً أخرى أضر
وأمر بطول بيانها واستقصائها والأسباب المراد إلحاقها ملخصة هي:
(الأسباب السياسية والإدارية العثمانيتين)
(57) توحيد قوانين الإدارة والعقوبات مع اختلاف طبائع أطراف المملكة
واختلاف الأهالي في الأجناس والعادات [1] (أ) (58) تنويع القوانين الحقوقية
وتشويش القضاء في الأحوال المتماثلة (أ) (59) التمسك بأصول الإدارة
المركزية مع بعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز
على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها (ف) (60) التزام أصول
عدم توجيه المسئولية على رؤساء الإدارة والولاة عن أعمالهم مطلقًا [2] (ف)
(61) تشويش الإدارة بعدم الالتفات لتوحيد الأخلاق والمسالك في الوزاء والولاة
والقواد مع اضطرار الدولة لاتخاذهم من جميع الأجناس والأقوام الموجودين في
المملكة بقصد استرضاء الكل (ف) (62) التزام المخالفة الجنسية في استخدام
العمل بقصد تعسر التفاهم بين العمل والأهالي وتعذر الامتزاج بينهم لتأمن الإدارة
غائلة الإنفاق عليها (ف) (63) التزام تفويض الإمارات المختصة عادة ببعض
البيوت كإمارة مكة وإمارات العشائر الضخمة في الحجاز والعراق والفرات لمن لا
يحسن إدارتها لأجل أن يكون الأمير منفورًا منه ممن ولي عليهم مكروهًا عندهم فلا
يتفقون معه ضد الدولة (أ) (64) التزام تولية بعض المناصب المختصة ببعض
الأصناف كالمشيخة الإسلامية والسر عسكرية لمن يكون منفورًا منه في صنفه
العلماء أو الجند لأجل أن لا يتفق الرئيس والمرءوس على أمر مهم [3] (ف)
(65) التمييز الفاحش بين أجناس الرعية في الغُنْم والغُرْم [4] (66) التساهل في
انتخاب العمال والمأمورين والإكثار منهم بغير لزوم وإنما يقصد به إعالة العشيرة
والمحاسيب والمتملقين الملحين.
(67) التسامح في المكافأة والمجازاة تهاونًا بشئون الإدارة حسنت أم ساءت
كأن ليس للملك صاحب (68) عدم الالتفات لرعاية الشئون الدينية كوضع نظامات
مصادمة للشرع بدون لزوم سياسي مهم أو مع اللزوم ولكن بدون اعتناء بتفهيمه
للأمة والاعتذار لها جلبًا للقناعة والرضا [5] (69) تضييع حرمة الشرع وقوة
القوانين بالتزام عدم اتباعها وتنفيذها والإصرار على أن تكون الإدارة نظامية اسمًا
إدارية فعلاً [6] (70) التهاون في مجاراة عادات الأهالي وأخلاقهم ومصالحهم
استجلابًا لمحبتهم القلبية فوق طاعتهم الظاهرية. (71) الغفلة أو التغافل عن
مقتضيات الزمان ومباراة الجيران وترقية السكان بسبب عدم الاهتمام بالمستقبل
(72) الضغط على الأفكار المتنبهة بقصد منع نموها وسموها واطلاعها على
مجاري الإدارة، محاسنها ومعايبها، وإن كان الضغط على النمو الطبيعي عبثًا
محضًا ويتأتى منه الإغراء والتحفز وينتج عنه الحقد على الإدارة (73) تمييز
الأسافل أصلاً وأخلاقًا وعلمًا وتحكيمهم في الرقاب الحرّة وتسليطهم على أصحاب
المزايا، وهذا التهاون بشأن ذوي الشئون يستلزم تسفل الإدارة (74) إدارة بيت
المال إدارة إطلاق بدون مراقبة، وجزاف بدون موازنة وإسراف بدون عتاب،
وإتلاف بدون حساب حتى صارت المملكة مديونة للأجانب بديون ثقيلة توفي بلادًا
ورقابًا ودماءً وحقوقًا. (75) إدارة المصالح المهمة السياسية والملكية بدون
استشارة الرعية ولا قبول مناقشة فيها وإن كانت إدارة مشهودة المضرة في كل
حركة وسكون.
(76) إدارة المُلك إدارة مداراة وإسكات للمُطَّلعين على معايبها حذرًا من أن
ينفثوا ما في الصدور فتعلم العامة حقائق الأمور والعامة مَن إذا علموا قالوا، وإذا
قالوا فعلوا وهناك الطامة الكبرى. (77) إدارة السياسة الخارجية بالتزلف
والإرضاء والمحاباة بالحقوق والرشوة والامتيازات والنقود. فتبذل الإدارة ذلك
للجيران بمقابلة تعاميهم عن المشاهد المؤلمة التخريبية وصبرهم على الروائح المنتنة
الإدارية، ولولا تلك المشاهد والروائح لما وجد الجيران وسيلة للضغط مع ما ألقاه
الله بينهم من العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
ثم قال (السيد الفراتي) إن بعض هذه الأسباب التي ذكرتها هي أمراض
قديمة ملازمة لإدارة الحكومة العثمانية منذ نشأتها أو منذ قرون وبعضها أعراض
وقتية تزول بزوال محدثها وربما كان يمكن الصبر عليها لولا أن الخطر قرب،
والعياذ بالله من القلب كما أشار إليه الأستاذ الرئيس في خطابه الأول [7] .
ثم قال: ويلتحق بهذه الأسباب بعض أسباب شتى لفصلها بعد تعدادها إلحاقًا
بالخلاصات. وهي:
أسباب شتى
(78) عدم تطابق الأخلاق بين الرعية والرعاة (79) الغرارة أي الغفلة
عن ترتيب شئون الحياة (80) الغرارة عن لزوم توزيع الأعمال والأوقات
(81) الغرارة عن الإِذعان للإتقان (72) الغرارة عن موازنة القوه والاستعداد
(83) ترك الاعتناء بتعليم النساء (84) عدم الالتفات للكفاءة في الزوجات
(85) الخور في الطبيعة أي سقوط الهمة (86) الاعتزال في الحياة والتواكل.
أما عدم التطابق في الأخلاق بين الرّعاة والرعية فله شأن عظيم كما يظهر للمتأمل
المدقق في تواريخ الأمم من أن أعاظم الملوك الموفَّقين والقواد الفاتحين كالإسكندرين
وعمر وصلاح الدين - رضي الله عنهما - وجنكيز والفاتح وشرلكان الألماني
وبطرس الكبير وبونابرت لم يفوزوا في تلك العظائم إلا بالعزائم الصادقة مع
مصادقة تطابقهم مع رعاياهم وجيوشهم في الأخلاق والمشارب تطابقًا تامًا بحيث
كانوا رؤساء حقًّا لتلك الأجسام لا كرأس جمل على جسم ثور أو بالعكس. وهذا
التطابق وحده يجعل الأمة تعتبر رئيسها رأسًا فتتفانى دون حفظه ودون حكم نفسها
بنفسها حيث لا يكون لها في غير ذلك فلاح أبدًا كما قال الحكيم المتنبي:
إنما الناس بالملوك وهل ... يفلح عرب ملوكها عجم
ومما لا خلاف فيه أن من أهم حكمة الحكومات أن تتخلق بأخلاق الرعية
وتتخذ معها في عوائدها ومشاربها ولو في العوائد غير المستحسنة في ذاتها. ولا
أقل من أن تجاري الحكومة الأجنبية أخلاق الرعية ولو تكلفًا وقتيًّا إلى أن تتوفق
لاجتذابهم إلى لغتها فأخلاقها فجنسيتها كما فعل الأمويون والعباسيون والموحدون
وكما تهتم به الدول المستعمرة الإفرنجية في هذا العهد وكما فعل جميع الأعاجم
الذين قامت لهم دول في الإسلامية كآل بويه والسلجوقيين والأيوبيين والغوريين
والأمراء الجراكسة وآل محمد علي فإنهم ما لبثوا أن استعربوا وتخلَّقوا بأخلاق
العرب وامتزجوا بهم وصاروا جزءًا منهم، وكذلك المغول التتار صاروا فُرسًا
وهنودًا فلم يشذ في هذا الباب غير المغول الأتراك أي العثمانيين فإنهم بالعكس
يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لهم فلم يسعوا باشتراكهم كما أنهم لم يقبلوا
أن يستعربوا، والمتأخرون منهم قبلوا أن يتفرنسوا أو يتألمنوا. ولا يعقل لذلك
سبب غير شديد بغضهم للعرب كما يستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم
مجرى الأمثال في حق العرب.
ذلك كإطلاقهم على عرب الحجاز (ديلنجي عرب) أي العرب الشحاذين
وإطلاقهم على المصريين (كور فلاح) أي الفلاحين الأجلاف و (عرب جنكنه
سى) أي نَوَر العرب و (قبطي عرب) أي النَّوَر المصريين , وقولهم عن عرب
سوريا (نه شامك شكرى ونه عربك يوزى) أي (دع الشام وسكرياتها ولا تر
وجوه العرب) وتعبيرهم بلفظة (عرب) عن الرقيق وعن كل حيوان أسود،
وقولهم (بيس عرب) أي عربي قذر، و (عرب عقلي) أي عقل عربي أي صغير
و (عرب طبيعتي) أي ذوق عربي فاسد، و (عرب جكة سي) أي حنك عربي أي
كثير الهزر، وقولهم (بونى بيارسه م عرب أوله يم) أي إن فعلت هذا أكون من
العرب، وقولهم: (نرده عرب نرده طنبوره) أي: أين العرب من الطنبور.
هذا والعرب لا يقابلونهم على كل ذلك سوى بكلمتين؛ الأولى هي قول العرب
فيهم: (ثلاث خلقن للجور والفساد: القمل والترك والجراد) . والكلمة الثانية
تسميتهم بالأورام كناية عن الريبة في إسلامهم وسبب الريبة أن الأتراك لم يخدموا
الإسلام بغير إقامة بعض جوامع، لولا حظ نفوس ملوكهم بذكر أسماءهم على منابرها
لم تقم , وأنهم أتوا الإسلام بالطاعة العمياء للكبراء وبخشية الفلك أبي المصائب
وباحترام مواقد النيران (أوحاقات) فزادوا بذلك بلات في طين الخرافات.
ثم قال (السيد الفراتي) أرجو المعذرة من المولى الرومي؛ لأنه يعلم أني ما
أفرطت ولولا الضرورة الدينية التي يعلمها لما صرحت، والناصح الغيور من
يبكيك لا من يضحكك. قال (الأستاذ الرئيس) إن أخانا السيد الفراتي خطيب قوال
وفارس جوال، والأبحاث التي أشار إليها ذات ذيول طوال واليوم قد قرب وقت
الزوال فموعدنا غدًا إن شاء المولى المتعال.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) من أهم الضروريات أن يحصل كل قوم من أهالي تركيا على استقلال نوعي إداري يناسب عاداتهم وطبائع بلادهم كما هي الحالة في إمارات ألمانيا وولايات أمريكا الشمالية وكما يفعله الإنكليز في مستعمراتهم والروس في أملاكهم اهـ من هامش الأصل.
(2) ولذلك كانت الحالة في الدولة قبل التنظيمات الخيرية خيرًا منها بعدها حيث كان العمال مسؤلين لدى حضرة السلطان ثم أطلق سراحهم في عهدنا من كل مسؤلية إلا في الأفعال بل الأقوال بل الخواطر التي تتعلق بحقوق السلطنة اهـ من هامش الأصل.
(3) هكذا تكون احتياطات الحكومات العاجرة.
(4) كهضم الدولة العثمانية حقوق العرب في المناصب والارتزاق من بيت المال هضمًا لا نسبة فيه لأنها مميزة عليهم حال كونهم ثلثي رعيتها كلها من الجركس والبشناق والأكراد والأرناؤط والروم والأرمن والخروات والبلغار والعربكير وكاستثناء أهل العاصمة والحجاز وغيرهم حتى بعض البيوت من الخدمة العسكرية والتكاليف الشرعية والعرفية، وكاستثناء غير المسلمين من الخدمة العسكرية لمجرد كونهم لا يتحملون حالة الضنك التي عليها جيشها.
(5) كاستخدام اليهود قابضي مال أي أمناء صناديق وقابضي أعشار السوائم وفي ذلك عدم رعاية المذاهب التي تستوجب أن لا تسقط الزكاة عن الدافعين وكاستخدام قضاة بالرسوم وبرواتب جزئية
جدًّا.
(6) تعطيل بعض أحكام الشرع كاف لخرق حرمته وأما الأحكام النظامية فمع كثرتها البالغة عشرات ألوف قضايا لم يتفق إلى الآن إجراء شيء منها أو بعض ما يتعلق بسلب الأموال.
(7) أشار حضرة الرئيس وهو الأستاذ المكي في خطابه الأول للحالة السيئة في الحجاز من فقد الأمن في بلد الله الأمين والجور الفظيع الذي يقع على أهل الحرمين وزوارهما من تنازع السلطات الثلاث الإمارة والولاية والعسكرية وغير ذلك من الأحوال التي لا تطاق وصار يتشتكي منها عامة الحجاج لاسيما الداخلين تحت سلطة الأجانب وهو السواد الأعظم من المسلمين ولا غرو أن هذه الحال تستدعيهم لأن يدعوا حكوماتهم للمداخلة في شئون إدارة الحجاز لأجل حصولهم على الأمن والراحة وحينئذ لا قدر الله يتفانى العرب دون حفظ بيضة الإسلام كما تفانوا قبلاً وحدهم في دفع الصليبيين عن المسجد الأقصى اهـ من هامش الأصل.(5/703)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الشذرة التاسعة من جريدة الدكتور أراسم [1]
تعليم الأطفال اليونانية واللاتينية وإقراؤهم كتبهما
تناظرت مع هيلانة غير مرة في ضرورة تعليم (أميل) تينك اللغتين وإقرائه
ما ألف فيهما من الكتب ولست ذاكرًا لك من هذه المناظرات إلا ملخصها فأقول:
الواجب أن يربى كل طفل تربية من ينبغي أن يكون من كيان الرجال فذلك
هو الوسيلة التي يفضل بها عامة الناس ويمتاز عنهم في مستقبله، ولهذا كان حقًّا
على المربي أن يعرف طبعه ويبحث في دروب ميله ويَخْبُر أنواع استعداده العقلي,
ولما كان الفضل والامتياز يحصلان في هذه الدنيا بكيفيات مختلفة وينالان بطرق
شتى كان أول فرض عليه أن يبحث في هذه الطرق عما يلائم طبعه ويناسب
استعداده.
فالذي أعيبه في طريقة المربين عندنا هو إغفال ما للناشئين من القوى
وضروب الاستعداد الذاتية وعدم اعتبارها في شيء من التربية، ذلك أنك ترى بعض
الناشئين مثلاً قد ولد رحالة ليضرب في الأرض ويجوب آفاقها أخص حاجة له
فيما خلق لأجله هي معرفة اللغات الحية ليتفاهم بها مع الأجانب في بلادهم فيبدأ
المربون بتعليمه لغتين مهملتين انقطع التخاطب بهما من على وجه الأرض ,
وترى آخر خلق ميالاً إلى معرفة علم القوى المحركة وقوانين التوازن (الميخانيقا)
يلقون به في بحر من الكتب ما له من قرار, وتجد ثالثًا أعد للتجارة، ورابعًا سُخّر
للزراعة لا يراعي ما لكل منهما من الميل إلى ما أعد له، بل يتبع في حقهما ما
قضت به العادة وجرى عليه العرف وهو أنه لا بد من يريد الاشتهار في هذه الدنيا
من سجنه في المدرسة ثمانِ سنين.
كم رأينا من متعلمي اللاتينية واليونانية من يقضي عليهم بأن لا يستعلموهما
في حياتهم؛ لأنهم متى تخرجوا من المدارس واشتغلوا بمصالحهم قلَّ وايم الحق أن
يخطر ببالهم تصفح كتب فرجيل [2] أو ديوان عمير [3] والنظر في صحفهما البالية التي
قضوا في مطالعتها كثيرًا من ساعات التعب والسآمة ولست أقصد بقولي هذا تجريد
أي معرفة من معارف العقل كائنة ما كانت من الفائدة مطلقًا ولكن لا حرج علي أن
تربيت في أن ما يخسره كثير من التلامذة من زمنهم في تعلم تينك اللغتين لا
يساويه ما يعود عليهم من الفوائد بتعلمها.
أنا أعلم كل ما للمنتصر لهما من وجود الاحتجاج على ضرورة تعليمهما فله
أن يقول: إن معرفتهما حاسة سادسة لنا ندرك بواستطها دقائق آداب لغتنا وأنه لا
يسع لأحد من الناس إنكار ما كان لمطالعة الكتب القديمة المؤلفة بهما من التأثير
الماثل في عقول الناشئين الذين تغذوا بلبان معارف الأقدمين حق التغذية وأن مطالعة
هذه الكتب تخلصنا من شواغل وقتنا المادية وتعارض عصرنا الذي صارت فيه
الناس تمحو درجات التفاضل بينهم واشتغل أهلهم بالحقائق الثابتة دون غيرها
كعصور الأبطال، وأفاد من مخترعات الخيال وتستر مواضع الضعف فينا بحجاب
الجمال الظاهر بدون أن تغير من طبيعتنا شيئًا، ثم إن بُعْدَ أهل تلك العصور عنا
ومباينتهم لنا في الأخلاق مما يساعدنا أيضًا على أن نبصر من خلال كتبهم الشعرية
ضياء منتهى الكمال المطلوب.
وفوق ذلك فإن هذه الكتب حافلة بالأناشيد الوطنية التي كان من آثارها ما كان
في عهد الجمهورية الجميل من احتقار الملوك وجر ذيل الخيلاء عليهم فلقد كفت
صحة هبت من رومة أو من أثينا في إثارة بغض السلطان المطلق بقلوبنا في
القرن الثامن عشر فإن حكماء هذا القرن وزعماء الفتنة الفرنسية فيه قد استمدوا مما
دعوه من الكتب المدرسية أصلح الصور لإيقاظ العقول وبث روح الحياة السياسية
في النفوس، وكان لخيالات الغابرين في ذلك الجهاد الذي قام في سبيل الحق من
البلاء ما كان للأحياء أنفسهم فلا تقل لابني غرافوس [4] وبروتوس [5] وقالون
أوتيفا [6] أنهم قد ماتوا بل هم أحياء يعينوننا على كفاحنا ويعاضدوننا في جهادنا
ويسمعوننا من أصواتهم ويشهدوننا من أساهم ما يقوي عزيمتنا على السعي وراء
الحرية التي هي غاية النفوس الأبية.
لا أنازع في أن معرفة اليونانية واللاتينية قد تكون من الرياضيات النفسية
المفيدة ولكني أقول: إن لرياضة النفس وتربية العقل طُرقًا شتّى وإنّ من الظلم
الفاحش قصر معنى التعليم على فرع واحد من العلوم فقد يكون الإنسان عالمًا يشار
إليه بالبَنان، وخطيبًا باهر البيان وسياسيًّا حصيف الجنان (وفي أمريكا ما يشهد
لصحة ذلك) وهو لم يقرأ في حياته كتب أرسطو [7] ولا ديموستين [8] ولا سيسرون [9]
باللغة التي ألفت بها , ذلك أن مراقبته بنفسه للأمور ومعاملته للناس واختلاطه
بهم ودراسته لآداب لغته واستعداده الفطري كثيرًا ما تغنيه عن الزخارف المدرسية
فرأْيي هو أنّ الأحوال التي تَحْتَفُّ بالطفل وما يكون فيه من القوى والملكات الذاتية
هي الواجب التعويل عليها في تحديد الطريقة التي ينبغي سلوكها في تربيته، فإنّ
طرق التعليم إنما أُجِدَتْ للأحداث ولم توجد الأحداث لها.
لمَّا أعلمْ حق العلم ضروب استعداد (أميل) ولا حالة عقله حتى أحكم على
أليق أنواع التعليم به وأشدها ملائمة لطبعه والذي أتمناه له هو أن لا يكون بعيدًا عن
العلوم ولا عن آداب اللغة ولست أرى من وجوه الاعتراض على الجمع بين هذين
النوعين من المعارف سوى ما يقتضيه تعلم اليونانية واللاتينية من الزمن، فإن
إنفاق سبع سنين أو ثمانٍ من العمر في تحصيل لغتين مهملتين تحصيلاً في غاية
النقص غالبًا هو إسراف كبير في عصر لا يحصل الإنسان فيه متوسط المعارف
الضرورية إلا بإنفاق معظم حياته، وإني باحث الآن فيما إذا كانت إضاعة ذلك
الزمن الطويل في تحصيلها لازمة لطبيعة الصعوبات التي يصادفها المتعلم فيه أو أنها
ليست من لوازمها وإن من الميسور التغيير فيها والتقليل منها.
أول سبب فيما أرى لطول مدة تعلم هاتين اللغتين هو إفراط المعلمين في
تعجيل تعليمهما للأطفال؛ لأنهم يبدأونهم به قبل أن يكونوا تعلموا أو راقبوا شيئًا
بأنفسهم فتراهم لجهلهم كيفية صوغ الألفاظ وتركيب الأساليب التي هي قوالب
المعاني لا يكادون يتمتمون بلغتهم نفسها مضبوطة ولحبسهم بين جدران المدرسة من
نعومة أظافرهم اعتادوا اعتبارها سجنًا تتعاقب عليه الأجيال الناشئة تكفيرًا لسيئة
جهل آبائهم الأولين فهم لا يعرفون شيئًا من الكون، وقد حالت المدرسة بينه وبين
المحابّ البيتية والجواذب الأهلية وهي التي كانت تحبب العمل إليهم وتشعر قلوبهم
قدره فأصبحوا لا تصلهم حرارتها إلا من بعيد جدًّا ففي أول عمل لهم يمرنون به
قواهم الناشئة تفاجئهم ألفاظ وحشية وصيغ نحوية وتراكيب مجهولة فيتصيدون اتفاقًا
بأيديهم العسراء من محابرهم الكدراء ضروبًا من مخالفة القياس وأنواعًا من ضعف
التأليف تجري بها أقلامهم , ولا تدركها أفهامهم , فَرُحْمَى لهم من حيارى ذاهلين لا
ينفعهم تعاقب التمارين ولا تتابع الأمثال فليس تكرار الأغلاط والخطئآت الواحدة في
تعلم لغة مجهولة هو الوسيلة إلى إصلاحها.
أنا أحب أن يرى ولدي قبل تعلم اللاتينية شيئًا من العالم وأن ينفتق ذهنه
باحتكاكه بالصناعة ودراسته تاريخ الموجودات، فإن كل واقعة روقبت تولِّدُ في
نفس مراقبها لذة وتنمي فيه الحاجة إلى المعرفة فإذا حصل له بكسبه بعض معانٍ
بينة صار بهذه الواسطة أحسن استعدادًا لفهم ما يتلقاه عن غيره من المعاني ولو ظهرت
في صيغ مهمّة من الألفاظ، ثم إن من أسباب طول المدة التي تقضى في تعلم
اليونانية واللاتينية على ما أرى أن المربين يعلمونهما للأطفال قبل أن يطَّلعوا على
شيء من أحوال الرومان واليونان والإنسان لا يحسن تعلم لغة قوم إلا في بلادهم،
ومن أجل ذلك سأَهْتَمَّ عند تعليمهما (أميل) بأن أجعل له من آثار أهلهما بلادًا
يتعلمهما فيها , وفي هذا المقام تظهر فائدة إنشاء معاهد التعليم التي من قبيل القصر
البلوري، نعم إني على يقين من أن مشاهدة ما يكون في مثل هذه المعاهد من
التماثيل والصور، ومثل المعابد والمباني الأثرية العامة لا تعين التلميذ على فهم
شعر عمير وفرجيل، ولكن اليونانية واللاتينية إذا اقترن تعليمهما بتعليم تاريخ
قومهما وما يشهد لهم من دلائل التقدم القديم لا تبقيان لغتين مندثرتين اندثارًا تامًّا كما
لو عُلِّمَتا مجردتين.
ذلك أن لفنون الرسم من التأثير في نفوس الناشئين ما هو فوق المظنون بها
كثيرًا بسبب إجالتها للعقل في آثار الغابرين وسموها بالنفس في أعمال الماضيين
ولأن سن الإيقاع هو السن الذي يسهل فيه اندماج اليافع في شخص غيره لسبب
سهل الإدراك وهو أن معنى الاستقلال الذاتي لا يظهر في هذا الطور من الحياة
فبكثرة هذا النوع من المعيشة مع اليونان والرومان فيما بقي من آثارهم ينتهي
التلميذ بأن يهتم بأخلاقهم وعاداتهم وشئونهم قبل أن يعرف لغتهم فتراه يتابع بعقله
الأسطول اللاتيني في سلامين [10] ويشهد خلف بومباي [11] واقعة فرسالا [12] , ولا
يسبقن إلى خاطرك أن هذا الوجود الفكري فيما غير من الزمن ليس هو إلا وهمًا محضًا فإنه لا شيء مما كان في الماضي قد مات موتًا تامًا.
لم تجد طريقتنا في تعليم اللغتين اللَّتين نحن بصدد الكلام عنهما فإنها لا تزال
عليها مسحة من تعليم القرون الوسطى وهي التي طبعها عليها القسيسون والرهبان؛ إذ
لا تزال العقبات تقوم في سبيل دراسة آثار الأقدمين دراسة صادقة وأولها ما للدين
المسيحي من الأوهام والوساوس في آلهتهم التي تراه على قهره إياها لا يزال يعتقدانها
مضرة حتى في انهزامها أمامه فإن رجال هذا الدين مع استئثارهم على توالي القرون
باللغات القديمة واحتكارهم معرفتها كانوا يعنون في تعليمهم بإزهاق ذلك الروح الذي
ألهم الصناع ما ظهر على أيديهم من تحف الصنائع وطرفها وكانت فنون الوثنيين
وآداب لغاتهم من الغنائم التي اهتم أولئك الرجال بحفظها غير أنهم كانوا يحترسون
كل الاحتراس من إظهار آخر ما اكتشفوه من أسرارها للأحداث وكان من مصلحتهم
أن لا يزيلوا عن تلك الأسرار إلا طرفًا من حجابها؛ لأنه كان لا بد لما يعيه الخلف
من آثار السلف أن يردهم يومًا ما إلى عبادة الطبيعة وجمالها ومن أجل ذلك كان
رؤساء الدين لا يفتأون يذكرون الناشئين بأن آلهة الوثنيين آلهة باطلة لا أصل لها إلا
الكبرياء والكذب وأنه لا ينبغي النظر إليها إلا من بعيد مع الاسترشاد في ذلك بهدي
الدين المسيحي.
أنا لا أحترس كل هذا الاحتراس في تعليم (أميل) تينك اللغتين وإقراءه
كتبهما؛ إنه لا بد لمن يزاول دراسة أمر من الأمور أن يكون له فيه شيء من الاعتقاد
فما ضره لو أنه أخلص في الاشتغال بهرقل [13] وأعماله ومن ذا الذي ينقم منه إن قدم
قربانًًا للآلهات العفيفة [14] ولمنروة [15] الحكيمة الأبية فإن في كشف حقيقة
الأشخاص الخرافيين الذين وجدوا في خيال الأقدمين وكانت حياتهم ملائمة كل
الملائمة لخيال اليافعين وإزالة الوهم من عقول هؤلاء في شأنهم في ذلك تعجيلاً
بزعزعة عقيدتهم في النوع الإنساني , ولا يظن ظانٌّ أني أقصد بما أقول أنْ
أوقف (أميل) عند الوثنية فإني إنما أريد بهذا القول أنه لا بد لمن يريد النفوذ إلى
أسرار لغة قوم من اختلاس آلهتهم. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(2) فرجيل هو شاعر لاتيني شهير ولد سنة 70 ومات سنة 19 قبل المسيح.
(3) عمير هو أشعر شعراء اليونان الأقدمين لا يعلم مكان ولادته ولا تاريخه كذا كتب المعرب والمعربون لسريونة يعربون (هومير) ويكتب بالقلم الإفرنجي hommer-ere.
(4) قراقوش حاكم روماني اشتهر في أسبانيا ورزق بولدين سميا بالعراقيين وكانا من قضاة الشام.
(5) برونوس أحد قتلة القيصر الروماني، وأما قانون أتيقا فهو حفيد قانون القديم وهو ضابط روماني شهير كان من حزب بومباي، وبعد أن شهد معه واقعة فرسالا انطلق إلى أفريقيا وقتل نفسه.
(6) أرسطو حكيم يوناني مشهور.
(7) ديموستين أشهر خطيب يوناني أثار مقدونيا على فليبوس وألب أثينا على الإسكندر.
(8) شيشيرون أشهر خطيب روماني.
(9) سلامين وتسمى الآن كولورى هي جزيرة في خليج أثينا.
(10) بومباي قائد روماني شهير له غزوات كثيرة كان فيها ظافرًا.
(11) فرسالا مدينة قديمة بإقليم تسمانيا القديمة من بلاد اليونانية هزم فيها قيصر الروم القائد بومباي.
(12) هرقل بطل خرافي مشهور بأعماله العجيبة.
(13) الإلاهات العفيفة في أساطير اليونان هي إلاهة الفنون التسعة بنات المشترى.
(14) منروه هي في الأساطير المذكورة إلاهة الحكمة والفنون والحرب.(5/711)
الكاتب: محمد عبده
__________
مقدمة كتاب الإسلام والنصرانية
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) .
ظهرت في العالم مَدنيّات ثم خفيت , ودُرِسَتْ فيها العلوم والفنون ثم دَرَست ,
وصَلحت أحوال الأناسي ثم فسدت وطلعت فيهم أقمار الهداية الدينية ثم خسفت ولم
يزل الناس في قيام وقعود , وهبوط وصعود , والأمم في تلاشٍ وفناء، ونشوء
وارتقاء حتى استعد المجموع في حملته للرقيّ العام , فمنحه الله تعالى دين الإسلام.
جاء الإسلام والعالم كله في تأخر من جميع الوجوه من جهة الدين، من جهة
العلم، من جهة المدنية، من جهة السياسة، فلم يمر قرن واحد حتى جدَّد للعالم كلِّه
دينًا قيمًا، وعِلمًا محكمًا، ومدنية سعيدة وسياسة رشيدة، ونشر ذلك في مشارق
الأرض ومغاربها بقوة الحق، وسرعة البرق فتغير وجه الأرض ونفخ في الإنسان
روحًا جديدًا أعطاه من جراثيم الحياة ما لا يقبل الفناء، ما دامت الأرض والسماء [1] .
ينبوعٌ تَفَجَّرَ في أرض وفاض ماؤه على غيرها فأحيا الأرض بعد موتها
ولكن القائمين على حراسته وتعاهده وضعوا فوقه أنقاضًا من خرائب جيرانهم
فغيض الماء وما بقي منه صار مستنقعات تُجْتَوى، لم يلبث بعدما غاض أن فاض
منه شيء في مواضع أخرى فانتفع أهلها به وحافظوا عليه ولكن الأكثرين منهم لا
يعرفون من أين جاءهم كما أن أكثر أهل الينبوع المنتسبين إليه بالاسم لا يعرفون أن
ذلك الماء الذي تفجر في تلك المواضع فأنشأ أهلها به حدائق ذات بهجة هو من ماء
ينبوعهم، وإنهم لو أزالوا عنه تلك الأنقاض لفاض ورجع إليهم خصبهم ونماؤهم
كأحسن ما كان؛ لأنهم تعلموا من غيرهم كيف يستخدم الماء للأحياء.
ذلك مثل المسلمين اليوم مع الأمم الغربية الحية الراقية، أخذ الغربيون من
الإسلام كل أصول الإصلاح الذين هم فيه وهم يقولون: الإسلام عقبة في طريق كل
إصلاح، يقولون للمسلمين: إن ماءنا صافٍ نقي يحيي البلاد والعباد وماؤكم آسن
أُجاج، أحدث مستنقعات أهلكت الحرث والنسل، فكيف يستوي الماءان وقد اختلف
الأثران؟ منهم من يقول هذا معتقدًا، ومنهم من يقوله منتقدًا، ونحن ساكتون؛ لأننا
جاهلون بأنفسنا وبهم.
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب،
ويظهر الحق من الباطل، فتقوم الحجة على الجاهل بدينه ونفسه، والمكابر لوجدانه
وحِسّه، لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذِكْرًا فيرجعوا إلى أصول دينهم وهو الأولى
بهم والأحرى، فقد أعدهم بنوائب الزمان، وصروف الحدثان، لأن يعترفوا بذنبهم
وليتوبوا بالتدريج إلى ربهم، إذا ظهر فيهم علماء ربانيون وأطباء روحانيون،
يعرفونهم بحقيقة الداء ويصفون لهم الدواء، وما طلب الإنسان بلسان استعداده شيئًا
من مولاه إلا تفضل عليه به وأعطاه إياه [1] .
لهذا سخر الله للمسلمين حكيمًا من الأعلام، وإمامًا من أئمة الإسلام، يطلب
لديهم، ويجمع ما تفرق من آرائهم، وقد كتب في هذه الأيام كتابة جليلة في العلم
والمدنية - بالنسبة إلي الديانتين النصرانية والإسلامية - رد فيها على أحد كتاب
المسيحيين قوله: إن المسيحية كانت أكثر تسامحًا مع العلم من الإسلام، وأن
الإسلام أكثر اضطهادًا للعلم والفلسفة من النصرانية وبيَّن في آخر ما كتبه حال
المسلمين السوءى وعدم موافقتها لما تقضتيه طبيعة ديانتهم، فبرأ الإسلام وسلفُهُ من
الملام ولكنه لم يبرئ المسلمين المتأخرين بل دلهم على حقيقة دائهم وهداهم إلى
طريقة معالجته والخروج منه بإذن الله تعالى، ولعمري إنه أنذر فأعذر، وبرئ من
وعيد الكتمان، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (يونس: 108) .
ويلي هذا في المقدمة، إلماع لشبهات ذلك الكاتب وقد عرفها القراء من قبل
كما عرفوا الردّ عليها فلا حاجة لذكرها، وقد تم طبع الكتاب وإصداره وثمنه 5
قروش صحيحة وأجرة البريد في مصر ستة أعشار القرش (6 مليمات) ويطلب من
إدارة المنار بمصر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) راجع مقالة الإصلاح والإسعاد، علي قدر الاستعداد (ص 681م4) .(5/716)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(سعي في الوفاق الإسلامي الإنكليزي)
عَلِمَ القراء من المقالة الافتتاحية في هذا الجزء، أنّ من الفائدة الكبرى للإسلام
والمسلمين أن يعرف أهل أوربا حقيقة الإسلام؛ لأنهم متى عرفوا حقيقته يعرفون
حقيته وفضله فيكونون نصراء له وتقل مقاومة حكامهم لأهله، ولا ريب أن من
عرف منهم هذه الحقيقة يكون أقدر منا على تعريفهم إيّاها بصورة يقبلونها، كما لا
يرتاب عاقل في أن معرفة الإنكليزية بالإسلام تكون أنفع للمسلمين من معرفة
غيرهم من الأوروبيين؛ لأن للإنكليز سلطانًا على الشعوب الإسلامية ليس لغيرهم
مثله أو ما يقاربه؛ ولأنهم أقرب الأمم الأوروبية إلى أخلاق الإسلام وفضائله
وأرجاهم لفائدة أهله.
بعد التذكير بهذا نقول: إن الحاج عبد الله براون الإنكليزي الذي اهتدى إلى
الإسلام من عدة سنين وثبت عليه ومازج أهله توجهت نفسه إلى القيام بخدمة صالحة
لأهل دينه الذي اهتدى إليه لأبناء جنسه الذين نبت فيهم وذلك بأن ينشئ جريدة
إنكليزية في مصر غرضها الأول التوفيق بين مصلحة الإنكليز ومصلحة المسلمين في
مصر وفي المستعمرات الإنكليزية كالهند وغيرها، وقد سافر إلى الهند بمساعدة أهل
الغيرة والنجدة من المسلمين الذين يعرفون قيمة هذا السعي ليعرض رأيه على كبراء
المسلمين هناك ويستمدهم في الإسعاد عليه، وقد بلغنا أن اللورد كرومر مرتاح إلى
هذا العمل ومساعد عليه ويرجى من كبراء عقلاء المسلمين في الهند أكثر مما
يرجى من عقلائهم في مصر إسعادًا وإرفادًا.
ومما يدلنا على أن هذا العمل يرجى نجاحه أننا رأينا الحوادث قد أعدّت
النفوس من الفريقين له كما علم من الكتابات الكثيرة التي دلت على توجه حكام
الإنكليز وكتابهم إلى مساعدة المسلمين على التربية المِلّية الاستقلالية والتعلم النافع
وقد عرب المؤيد كثيرًا منها فعرفه المصريون كما عرفوا بالاختيار سوء مغبة ما
جرى عليه أحداث السياسة عندهم من اللغط بسبِّ الإنكليز وشتمهم وجعل حسناتهم
سيئات فرجع المصريون إلى رأي إخوانهم مسلمي الهند الذين جربوا قبلهم معاداة
القوة، ثم رجعوا فعرفوا فائدة المسالمة وهو أنه لا أنفع للمسلمين من التوفيق بين
مصالحهم ومصالح الإنكليز والعمل معهم بالصدق والإخلاص، وكل هذا من
مقدمات مجد الإسلام المستقبل {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) .
***
(ما بعد الاستشارة)
استشرنا قراء المنار في نشر ما جاء في سجل جمعية أم القرى من معايب
السياسة والإدارة في دولتنا - أيدها الله تعالى - فكتب إلينا بعضهم يجزم بوجوب
نشر السجل كله ليعرف محبو الاطِّلاع أسباب الفتور السياسية كما عرفوا غيرها،
ولم يكتب إلينا أحد قط باستحسان عدم النشر لئلا ينفر المحب الجاهل الراغب في
بقائه على جهله من المنار ويظن أنه ينفر عن الدولة العلية التي هي أعظم دولة
إسلامية، ولكننا رأينا أن انتفاع الجمهور بعلم كل ما يقال عن الدولة أولى بأن يُرجّح
على انتفاع إدارة المنار من رضاء محبي الجهل عنها، أما الانتفاع بما نشر فهو أن
مثل هذه الأفكار هو الذي يقنع الترك والعرب والمسلمين بأنه لا شيء أضر عليهم من
حل الرابطة الإسلامية استغناء بالروابط الجنسية، ويظهر أن مولانا السلطان عبد
الحميد - وفقه الله تعالى - مقتنع بهذا المعنى كما اقتنع به من قبل أعظم سلفه
السلطان سليم ياوز ولذلك تراه يعتمد في مهماته على أبناء العرب أكثر من غيرهم،
ولو كان قادرًا على إزالة الجنسية التركية لأزالها فيما يظهر، وقد رأينا
كثيرين من عقلاء الأتراك مقتنعين بهذا الرأي، أعظمهم المشير مختار باشا الغازي،
ولولا أنهم عرفوا مضرة الجنسية وعرفوا أن عقلاء العرب عرفوها لما
اقتنعوا بها، ولا يجوز أن يحملنا ما ورد في سجل الجمعية على بغض الترك
فنزيد في ضرر الجنسية، وإنما يجب أن نسعى في إزالة الجنسية والرجوع إلى
الرابطة الإسلامية وحدها، على أن ما ذكر من بغض الترك واحتقارهم للعرب ليس
عامًّا فيهم، وإنما هو شنشنة مَن أفسدتهم السياسة الفاسدة، وأكثرهم أخلاط في
الأصل من الأجانب والعناصر الغريبة، وقد بلغنا أن الترك العريقين في الأناضول
يتبركون بالعربي إذا رأوه ويجلونه؛ لأنه من بلاد النبي صلى الله عليه وسلم،
وإن كان في شخصه وضيعًا سافلاً، ويكادون يعبدون من ينتسب إلى آل
البيت عليهم السلام.
***
(الجرائد والمجلات والمشتركون)
يكتب إلينا كثيرون طالبين الاشتراك بالمجلة دون الِقيمة المعروفة؛ لأنهم
تلامذة أو لأنهم فقراء،ومنهم من يصف حاجته إلى المنار وضيق ذات يده المانع من
دفع جميع الاشتراك وصفًا غريبًا، ولا شك أن منهم من يستحق أن يسمح له بما
يطلب؛ لأنه صادق في استثقال دفع خمسين قرشًا مرة واحدة؛ لأنه فقير اليد،
ومنهم من يجزم أن يساعد على إطاعة شحه؛ لأنه فقير النفس غنيّ اليد، وقد
يشتبه هذا بذاك فإن لم يشتبه فإن الثاني يجني على الأول.
كنا جعلنا قِيمة الاشتراك لطلاب العلوم 40 قرشًا، فرأينا العلماء وأساتذة
المدارس ونُظّارها لا يدفعون إلا 40 قياسًا على التلامذة والطلاب بجامع الاشتغال
بالعلم، ورأينا القضاة الشرعيين وجميع من تَخرّج من المدارس إلى الوظائف
بأنواعها لا يدفعون إلا 40 عملاً بقاعدة الاستصحاب الفقهية أو جريًا مع حركة
الاستمرار الطبيعية، وبهذا يضيع حق المنار بين القاعدة الفقهية والناموس
الطبيعي بسوء التطبيق، وإذا جعلنا الفقر سببًا للرضا بنصف الاشتراك، وكان
كل إنسان هو المعرف للفقر، وإذا كان أكثر الأغنياء الحَقيقيين مع هذا لا يحفلون
بالعلم والدين، ولا يعضِّدون من يخدمهما فلا شكّ أنه لا يسلم لصاحب الجريدة خمسة
في المئة من المشتركين يدفعون قِيمة الاشتراك كاملةً، وإذا عُلِمَ بعد هذا أن الغني
والفقير، والمُعلم والتلميذ سواء في المطل أو الإرجاء في دفع قِيمة الاشتراك ولو إلى
آخر السَّنة، وأن بعضهم يستحلّ أكل ثمن الجرائد والمجلات، وأن بعض المحصِّلين
للجرائد منهم من يقتدي ببعض المشتركين باستحلال أكل ما يُحصّله كما
وقع لهم مِرارًا، ومنهم من يشارك صاحب الجريدة بالخمس حتى كأن المال غنيمة
والمُحصّل هو السلطان أو بيت المال، فإن العالم بذلك يخجل أن يطلب الاشتراك
بنصف القِيمة في مجلة يبلغ صفحات مجلدها في السنة نحو ألف صفحة ويصرف
صاحبها في تأليفه سنة كاملة.
(المنار) أقل مجلات القطر الشهيرة ثمنًا، فمنها ما ثمنه في السنة جنيه
ومنها ما ثمنه 80، وما ثمنه 70، وما ثمنه 60، وبعض هذه المجلات أصغر من
المنار حجمًا، وربما كان التعب فيها أقل، فإننا ربما نشتغل عدة ساعات في البحث
عن حديث واحد لنعرف جميع مخرجيه وما قيل فيه؛ فلهذا ولمجموع ما تقدم يعذرنا
الذين طلبوا الاشتراك بنصف القيمة على مجاوبتهم، والاعتذار لكل واحد منهم،
وقد كتبنا هذه النبذة ليعلم الجميع، وليعلم المطلعون على المنار أو يسمعوا ممن
يطلع أننا لا نقبل من أحد الاشتراك بأقل من خمسين قرشًا في السنة فيستريحوا
ويُريحونا، ومن نعلم باليقين أنه يَعْسُرُ عليه أن يوفر من نفقته في السنة خمسين
قرشًا يجعلها ثمنًا لمجلة يحب أن يقرأها ويُرجى أن يقنع بها فإننا نرسل إليه المنار
بلا ثمن.
__________(5/718)
16 شوال - 1320هـ
15 يناير - 1903م(5/)
الكاتب: عالم عامل وكاتب فاضل
__________
رأيٌ في علم الكلام، وطريقةٌ في إثبات الوحي
لعالم عامل وكاتب فاضل
سلام عليكم أيها القارئون ورحمة الله وبركاته، وإنعامه وإكرامه، هذه كلمات
قليلة قدمتها لكم على صفحات هذه المجلة النافعة، أشير فيها لبيان شيء من حال
علم الكلام وأختمها بذكر طريقة سهله للسالك قريبة للآخذ في إثبات الوحي.
الذي دعاني لتحرير هذا
كيفما التفت الإنسان بحسه أو فكره لا يجد شيئًا إلا وشيء آخر يقابله هو ضدٌّ
له، وكيفما تقلب لا يلقى نفسه إلا بين شيئين يُسمَّى أحدهما (المحبة) والآخر
(النُّفرة) . وكيفما تحرك فهو إما طالب لما يحب، وإما هارب مما ينفر، يا ويح
الإنسان الذي يشتغل مدة حياته بالطلب والهرب، ثم يا ويحه حين يرى لما يطلبه
طلابًا كثيرين يزاحمونه وينازعونه، ثم حين يجد نفسه غير مستقل فيما يحب وينفر
يحب شيئًا فيعاتب ويكره شيئًا فيعاقب، ثم يا ويحه حين يعلم أفراد نوعه متاضدين
ومتجادلين من أجل التضاد.
هذا الجدال قد يحتدم بين الإخوة بني النوع من أجل الاحتياج الذي فطروا
عليه، وقد يكون الاحتياج دواء مسكنًا من هذا الغليان، وطالما شوهدت أشياء
مثل الاحتياج تكون داءً ودواءً.
من أجل الاحتياج يتفرق النوع ويتخاذل، ومن أجله يلتئم ويتعاون، وليس
كل احتياج منشأه الضرر بل كثير منه حب التميز، ومن فضل الخالق أن جعل كلاً
محتاجًا ومُحتاجًا إليه؛ المطعمون محتاجون للكاسين، والكاسون محتاجون
للمطعمين، والفريقان محتاجان للبانين، والثلاثة محتاجون للبائعين، والأربعة
محتاجون للحافظين، وفحول الكل محتاجون للإناث، وإناث الكل محتاجون للفحول،
والكل حريصون على تحصيل الأولاد وأمهاتهم، والكل محتاجون مع العمل إلى
العلم والمعلمين، وفي هذا كله حِكم عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
ما أحوجنا مع هذا الاحتياج والتعاون في لوازم الحس إلى التحابّ والتعاون
في لوازم العقل، فيا للأسف لم نر أنفسنا إلا على هذه الحالة متفرقين وما نحن
ابتدعنا التفرق، بل كان قبل أن كانت أشخاصًا وسيبقى إلى من بعدنا ليس علينا رفع
الخلاف ولا نقوى نحن عليه، ولكن علينا أن لا نزيده كما زاده المتعالمون
المطاعون في حياتهم والمُتَّبَعُون بعد موتهم، أولئك الذين يكدرون على الناس صفاء
فطرتهم، ويفسدون عليهم سلامة تصورهم، بل علينا أن نجتهد في تحقيقه وذلك لا
يكون إلا بصقل العقول من صدأ الأوهام، فعلينا مجاهدة الأوهام وأهلها مبلغ جهدنا،
وما أجمل هذه من وظيفة نشكر عليها المحيط المقسِم الممِد الذي جعل لنا منها
نصيبًا، وآتانا عليها عونًا.
وأحسن جلاء للعقول هو إزالة سيطرة المتعالمين عنها فهو الصدأ العظيم
واستعمالها في فهم أسرار الكائنات وحكم الشرائع، وأفضل عون لها في بلوغها في
هذا السبيل هو الدين الخالص من شوب الناس، ذلك؛ لأن البشر منذ القديم كدروا
العقل بتصورات سقيمة في شأن الموجد الأول فالدين يرشد لأسلم، وحملوا النفوس
على عادات قبيحة ضارة سموها عبادات، فالدين يهدي لأجمل وأنفع، وحمّلوها
أثقالاً من القوانين الجائرة، فالدين يوصي بأعدل، وزيّنوا لها أخلاقًا فاسدة، فالدين
يدل على أصلح.
لكن الناس أصناف مصنفة، أكثرهم يميلون لما هو ضد الخير وتَحِنّ نفوسهم
إلى الرذائل الخارجة عن حد الاعتدال في كل شيء كما هو دأب الذين خلوا من قبل،
فمن لم يتمسك بالدين ألبتة فلا كلام فيه هنا، ومن تمسك فيه تراهم في مغايرته
على نوعين: نوع يغايرونه بالفعل ويتمسكون منه بالاسم وهم كثيرون. ونوع
يغايرونه بعلوم يحدثونها يُبصّرون الناس فيها أنهم أولياؤه. فأما الذين يغايرونه
بالفعل؛ فالوظيفة معهم وظيفة العاقل مع العاقل في الدعاوى والبينات، وتحق
الحقيقة ويبطل الغلط.
ولما عرفت أن الدين كلام يفهمه العاقلون، ولا يحتمل ما يعزوه إليه
المتفرقون، حرصت نفسي على كشف حال كثير من العلوم المحدثة فأقول ما لها
وما عليها، ليعلم طلابها ما يضرهم وما ينفعهم، ذلك منذ علمت أن سعادتي في أن
أكون مخلص القلب للمجتمع الإنساني القائم على ناموس ربانيّ، وأن أكون شاكرًا
لنعم العاملين بما ينفع الناس ملتئمًا مع من عرفوا النعم فشكروها، أو جهلوها
فاستعرفوها، نافرًا عمن كفروا بها واستيقنتها أنفسهم.
فهذا ما دعاني اليوم لتحرير هذه الكلمات الشارحة رأيًا في علم الكلام،
وطريقة في إثبات الوحي.
تمهيد وتقسيم
هذا الإدراك الذي أوتيه الإنسان لم يقف به عند استعراف ما يطعمه ويكتسيه
ويأوي إليه بل ساح به من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من عالم الحس إلى عالم
الحدس.
يسأل الإنسان نفسه بنفسه ما هو المُوجِد الأول أو ما هو الموجود الأول، من
صنع هذه الكواكب الزاهرة، مَن أوجد هذه البحار الزاخرة، مَن أنشأ هذه الأرواح
العاقلة، من خلق هذه الأسباب الظاهرة والباطنة، مَن سَوَّى هذه الروابط الثابتة،
من صور هذه الصور المتغيرة، من يُدبر هذه الكائنات المتنوعة.
ثم ينتقل من هذا السؤال إلى سؤال آخر فيقول، ما هي نفسنا ما هو إدراكنا،
لماذا أفرادنا متفاوتون فيه، ما هي هذه الحياة التي نحياها، ما الفائدة لنا منها، ما
الحكمة للذي سوّى فيها، ما الذي يجب أن نعمله معها، أين تذهب أرواحنا عند
اضمحلال هذه الحياة، لماذا نحبها وهي مع قصرها مُرّة المذاق، كدرة الموارد،
لماذا نتزاحم، لماذا نتجادل، ما السبيل لسلامتنا بعضنا من بعض؟
هذه الأسئلة وأمثالها شغلت فكر هذا النوع من زمن قديم ليس لنا ولا لغيرنا
علمه، وما زال الناس ولا يزالون يتساءلون ويتجاوبون في هذا إلى ما شاء الله،
وليس البحث في هذه الأمم المتفرقة، وقد يعقب البحث والتفكر تصور ويعقب
التصور عقد، ويحمل العاقد بشيء غيره أن يعتقد كما أعتقد، فهكذا تكونت نحل
الناس ومِلَلهم.
والذين اشتغلوا بتدوين العلوم قد تقيدوا باصطلاحات خاصة زَعْمَ أن بها
يمكنهم تعميم فائدتها، وأما الذين عرفوا كيف يُقَّرب العلم من أفهام الطبقات المختلفة
فيحبون أن تتجافى عباراتهم عن الاصطلاحات مهما أمكنهم.
ذكَّرني بذكر هذه القضية أني رأيت مدوني هذه المباحث في لغتنا قد تباعدوا
بها عن أفهام الأكثرين بكثرة ما جاءوا فيها من الاصطلاحات وهم ما قصدوا إلا
التفهيم بل زعم بعضهم أن الناس أجمعين مكلفون أن يعلموا علمهم ذلك، ولا بد أن
يزعم هذا أن اصطلاحاتهم يفهمها كل أحد من أهل اللغات المختلفة، ولعل عذرهم
أنهم دونوها كما وجدوها على اصطلاح الباحثين من أمم أخرى، وهو عذر مقبول
في الجملة.
هذه المباحث يقال لمجموعها في اصطلاح المدونين (فلسفة) وهي كلمة
منحوتة من اليونانية قالوا معناها (حب الحكمة) ، ومن أجل شيوع هذه الكلمة بهذا
المعنى ظن البعض أن الفلسفة اليونانية هي أول فلسفة ومن أجل أن علم الكلام
- الآتي ذكره - يَرُدُّ كثيرًا من أراء فلاسفة اليونان كما يَرُدُّ الفلاسفة بعضهم على
بعض ظن أن علم الكلام إنما جعل لنقض الفلسفة، والظن الأول يُزهقه التدقيق في
التاريخ العام للأزمنة القديمة التي يجهل منها أكثر مما يعرف، والثاني يزهقه
معرفة أن علم الكلام فلسفة يعرف بها صحة الدين، وليست كل الفلسفة مناقضة
للدين حتى يحتاج الدين إلى علم به تنقض الفلسفة كما أنه ليس كل كلام أهل الكلام
مقبولاً عند الدين بل كثير منه مردود بشهادة بعضهم على بعض، والمدقق يعلم أن
ليس علم الكلام إلا قسمين قسمًا يجمعون فيه نظريات على طريقة الفلاسفة القدماء
يوافقونهم في أشياء ويخالفونهم في أشياء، وقسمًا يجمعون فيه خلافات ومنازعات بينهم أنفسهم.
ويعلم أيضًا أن الدين انتصر بروحه الذكية السالمة من الشوائب قبل أن يجيء
علم الكلام ناصرًا له وناقضًا للفلسفة، ولكي يعلم الناظر ههنا آراء الناس في
الإلهيات قبل الإسلام وقبل علم الكلام أذكر نموذجًا يسيرًا منها في فصل، ومنه
أنتقل لعلم الكلام في فصل آخر.
(الفصل الأول)
الفلسفة الإلهية عند الأمم السالفة
كان الصابئة (وهم طائفة منبتها بلاد فارس منها انفصل إبراهيم النبي الذي
هاجر إلى فلسطين وتسلسلت النبوة في عقبه) يقولون: إن للعالم صانعًا فاطرًا
حكيمًا مقدسًا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى
جلاله وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه وهم الروحانيون المطهرون
المقدسون جوهرًا وفعلاً وحالة وهم ينكرون نبوة البشر ولكنهم يعترفون بمعلمهم
الأول هرمس (قيل هو إدريس) ويثبتون عالمًا روحانيًّا على نحو ما يسميه
الكتابيون الملائكة وقسموا هذا العالم الروحانيّ إلى طوائف منها مدبرات الكواكب
التي هي هياكلها؛ إذ لكل روحانيّ هيكل ولكل هيكل فلك ونسبة الروحانيّ إلى ذلك
الهيكل نسبة الروح إلى الجسد فهو ربه ومدبره ومديره، وربما يسمون الهياكل
أربابًا وربما يسمونها آباءً والعناصر أمهات، فوظيفة هذه المدبرات تحريك الكواكب
على قدر مخصوص ويحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر فيحصل
من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها
نفوس روحانيّة مثل أنواع النبات والحيوان، ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن
روحانيّ كليّ وقد تكون جزئية صادرة عن روحانيّ جزئيّ، فمع جنس المطر ملك
ومع كل قطرة ملك.
واتخذ هؤلاء صورًا وتماثيل على صور الكواكب وأمثلتها وبنوا لها البيوت
وأقاموا لها الهياكل واحتفلوا من أجلها بفروض ومراسم شرحها يناسب كتب الجدل
والتاريخ، وليس غرضنا إلا النموذج اليسير.
وكان (الزروانية) (وهم طائفة من الفرس) يقولون: إن النور أبدع أشخاصًا
من نور كلها روحانية نورانية ربانية لكن الشخص الذي اسمه (زوران) شك في
شيء من الأشياء فحدث (أهرمن) (الشيطان) من ذلك الشك ولهم في ذلك أساطير
لم نجوز سردها لقلة فائدتها.
وكان (الزرادشتية) (وهم طائفة فارسية أخرى زعيمهم زرادشت) يقولون
إن النور والظلمة أصلان متضادان وكذلك (يزدان) و (أهرمن) وهما مبدأ
موجودات العالم وحصلت التراكيب من امتزاجهما وحدثت الصور المختلفة، والبارئ
تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما وهو واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند
ويدعي أصحاب (زردا شت) معجزات كثيرة له.
وكان (طاليس) اليوناني-الذي تعلّم الإلهيات والهندسة والهيئة في مصر وهو
أعظم مؤلفي الفلسفة المسماة يونانية، يقول: إن جميع ما في الكون لا يخلو عن
إحساس ما، وإنه مملوء بما لا يدركه الطرف من المخلوقات وكلها متحركة ذات
أرواح.
وكان (فيثاغورث) يقول: إن العالم له روح وإدراك وإن روح هذا الدولاب
العظيم هو الأثير فمنه جميع الأرواح الجزئية وكان يقول: إن الأرواح لا تفنى فهي
تسيح في الهواء إلى أن تصادف جسمًا فتدخل فيه، ولذلك كان يشدد في منع أكل
الحيوانات، وادعى فيثاغورث معجزات كثيرة جلها لتأييد مذهبه في تناسخ الأرواح
ومما فعل أنه بنى له تحت الأرض حجرة صغيرة وعاهد أمه أن تكتب له كل ما
يكون ويحدث فغاب فيها سنة ثم خرج نحيفًا أشعث أغبر وجمع الناس وأخبرهم أنه
كان في جهنم ولا حل أن يصدقوه، شرع يخبرهم بما حصل في غيبته فظنوا أنه فوق
جميع البشر (تأمّلْْ) .
وكان (هيرقليس) يقول: إن الكون ممتلئ مِن الجن والعقول وإن الإله لما
قضى أزلاً بوجود الأشياء تركها لتدبير خلقه (تأمّلْ) .
وكان (إنكسغوراس) يقول بالعقل الذي يفيض على كل مادة ما يليق بها من
الصورة وكان يقول لا فراغ في الجو بل هو مملوء وإنّ جميع الأجسام تقبل
القسمة إلى ما لا نهاية له، ولو كان الجسم صغيرًا جدًّا بحيث لو وجد قاسم ماهر
وآلة تقسيم لأمكن أن يستخرج من رِجْلِ البعوضة أجزاءً لو وضعت على ألف ألف
سماء لسترتها من غير تنهاهيا في نفسها بل لا تزال قابلة للقسمة (تأمل) .
وكان (أفلاطون) يقول إن الأصول ثلاثة: الإله والمادة والإدراك؛ فالإله
يشبه عقل العقول والمادة تشبه السبب الأول للتولد والفساد، والإدراك كجوهر
روحانيّ قائم بذات الإله، كان الناس يلقبون أفلاطون بالإلهيّ وكانوا يقولون: إن
أفلاطون يعرف الإله الحقيقيّ معرفة جيدة وهذا إما من جودة ذهنه أو مما اطلع عليه
من كتب العبرانيين (تأمل) .
ووقع من أفلاطون أنه نوَّع الآلهة مراتب ثلاثًا: عُلويين مسكنهم السماء،
ومتوسطين يُسَمَّوْنَ جنًّا كوزراء للعلويين مسكنهم الهواء، وسفليين مسكنهم الماء
سماهم أنصاف آلهة (تأمل) .
وقال: إن جميع عناصر العالم وسائر أجزائه ممتلئة بهذا النوع الثالث، وقد
يظهرون في بعض الأحيان لأبصارنا ويختفون أحيانًا، وتبع أفلاطون فيثاغورث
في تناسخ الأرواح وكان (أرسطاطاليس) يقول: الأصول ثلاثة: العدم، والمادة،
والصورة. وعرَّف المادة بتعريفين مختلفين سلبًا وإيجابًا فقال في الأول: المادة هي
ما ليست جوهر ذلك الشيء ولا امتداده ولا عرضه ولا نوعًا آخر من الأمور
الوجودية العارضة له، وقال في الثاني: المادة هي مبدأ تركيب الأشياء ومنتهى
تغييراتها، وليس في الاثنين ما يفيد حقيقتها (تأمل) .
وكان (أبيقور) يقول بأن الروح جسمانية مُعلِّلاً ذلك بأنها محركة لأجسامنا
مشاركة لها ألمًا ولذة وأننا في حالة ثقل النوم نتيقظ بها بغتة وبها تتغير ألواننا على
حسب ما يعرض لها من الحركات والأعراض.
هؤلاء من مشاهير اليونان الذين تكلموا في الإلهيات، وهذه مشهورات من
آرائهم فيها (وأما علومهم الرياضية والمنطقية فليست من صدد موضوعنا ولا
تنقضها الإلهيات والعلوم الخادمة لها ولا تأمر بنقضها بل بإبرامها؛ لأنها لازمة
نافعة، وأما علومهم الطبيعية فلا ننكرها عليهم أيضًا إلا ما أنكروا فيها الصانع
وصنعه) .
وكان (اليهود) يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه ويقولون إن عيسى ابن مريم
الذي خلق من غير أب زنت به أمه وأتى من الزنا وخالف بعمله النواميس الشرعية
فقتلناه وصلبناه، وكان النصارى يقولون: لا، بل عيسى هو ابن الله بعثه ليخلص
الناس من خطيئة آدم التي لحقت بأولاده وجعله فداءً لهم من الخطيئة التي لم يسكن
غضب الرب من أجلها ثم اختار أن يكون سكون غضبة وتخليص الناس منه
بواسطة إراقة دم ابنه، ولا تنس أن النصارى يقولون: أيضًا بأصول ثلاثة الأب
والابن وروح القدس، وكان العرب أصنافًا منهم من أنكروا الخالق والبعث وقالوا
بالطبع المحيي والدهر المفني كما حكى ذلك القرآن عنهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 24) إشارة إلى الطبائع
المحسوسة وقصر الحياة على تركيبها وتحللها , فالجامع هو الطبع والمهلك هو
الدهر.
ومنهم صنف أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل
وعبدوا الأصنام وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة وهم الدهماء من العرب
إلا شراذم منهم.
ومن العرب من كان يعتقد التناسخ فيقول: إذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم
الدماغ وأجزاء بنيته فانتصب طيرًا هامة.
ومنهم من كان على ملة إبراهيم كزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من تهود،
ومنهم من تنصر، ومنهم من تفلسف وأدرك بعقله الحشر والجزاء. قال قسُّ بنُ
ساعدَه (وهو أحد حكماء العرب) : كلا ورب الكعبة ليعودن ما باد، وقال أيضًا: كلا
بل هو الله إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا. وقال
(عامر بن الظرب العدوي) وهو من حكماء العرب أيضًا: إني ما رأيت شيئًا قط
خلق نفسه، ولا رأيت موضوعًا إلا مصنوعًا، ولا جائيًا إلا ذاهبًا، ولو كان يميت
الناس الداء لأحياهم الدواء. ثم قال: إني أرى أمورًا شتّى وحتّى. قيل له ماذا؟
قال: يرجع الميّت حيًّا، ويعود اللاشيء شيئًا؛ ولذلك خلقت السموات والأرض.
وقال علاف بن شهاب التميمي:
وعلمت أن الله جازٍ عبده ... يوم الحساب بأحسن الأبدال
ظهور محمد عليه السلام
فبينا حال الناس عامة والعرب خاصة على ما قصصناه ظهر (محمد) من
العرب بين أظهرهم بهدى عظيم، ودعا إلى صراط مستقيم، صدَّقه بدعوته الواحد
والاثنان، وكذبه الشعب الكبير المتشعب إلى جماجم وبطون وأفخاذ، صدّقه مَن
صدّقه لنور قذف في قلبه رأى به وجهه وجه صادق وخطته خطة مرشد ودعوته
دعوة مؤيد من عالم الغيب، وكذّبه مَن كذّبه لشبهة عنت له، وحجاب أسدل على
بصيرته، ثم صدَّقه آخراً من كذبه أولاً، ولم يفارق هذه الدار وفي جزيرة العرب
جماعة مكذبون، كيف آمن جمهور العرب به من بعد أن أورد متعاقلوهم كل شبهة
عنت لهم، من بعد أن قالوا: ساحرٌ كذاب، من بعد أن قالوا: شاعرٌ مجنون؟ هل
آمنوا رهبةً من سيفه؟ فكيف أرهب سيف الواحد قلوب تلك القبائل الكثيرة؟ هل
آمنوا رغبة في الغنائم؟ فكيف سرى هذا الخاطر الواحد في أفكار الكل بعد أن صدوا
أعظم الصدود وحارب بعضهم بعضًا من أجل أن ينصره قوم ويكيده قوم.
إنما آمن العرب بعد حين من دعوته تربصوا فيه أن تظهر لهم أعلام صدقه
فظهرت - كما سيظهر لك - ويومئذ دخلوا في دينه أفواجًا، ووفدوا على حضرته
زمرًا، يبايعونه على التصديق والاتباع، ويستعلمون منه الوظائف والواجبات،
ويرجعون عنه بأفئدة مسرورة، وعزائم مشتدة.
أما العقيدة التي كان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بها فهي أن
يشهد الرجل أن (لا إله إلا الله) وأن (محمدًا رسول الله) .
كلمة (الله) عند العرب علم على الخالق كانوا يقولون به ولكنهم لا يعرفون كماله كما يجب فكان منهم من يظن أن الملائكة بناته وأن الأصنام شركاؤه في بعض ملكه فعرَّفهم أن الله لا يشبه المخلوقات فلا يلد ولا يولد وليس له شريك في الملك ولا إله غيره ولا معبود سواه ولا ينبغي أن يرجى ويخاف من غيره، فكل هذه المعاني مجموعة في كلمة (لا إله إلا الله) وأما الكلمة الثانية فالمقصود منها التسليم بما جاء به في الكتاب والخضوع لما يحكم به ويمضيه واعتقاد أن هذا الكتاب كلام الله أوحاه إليه بواسطة ملك من الملائكة الذين هم خلق مدركون لا يعصون الله تعالى ويندرج في هذه العقيدة الإيمان باليوم الآخر.
هذه هي العقيدة التي يصير بها المصدق مُحمديًّا، وقد ورد تفصيلها في القرآن
كصفات الله تعالى والاحتجاج على المكذبين والوعد والوعيد في الدار الآخرة ويعلم
القارئ أن العرب المدعوين لما آمنوا ما كانوا يعلمون القرآن كله؛ لأنه لم يكن قد
تم نزولاً، بل أكثرهم ما كانوا يعلمون غير الآيات القليلة وكان أعلمهم به
(أي الذين يعلمون كثيرًا من الآيات) لا يجد في هذه الألفاظ شيئًا غريبًا في مدلوله
ليتساءلوا عنه ويتباحثوا فيه (إلا ما روي نادرًا) بل كان هذا التباحث من قسمة
الذين أتوا بعيدهم.
أتى بُعَيْدَ عصره أناس قرأوا القرآن فعلموا شيئًا وجهلوا شيئًا، وأناس استمعوا
لآراء الناس في الإلهيات من نحو ما قصصناه عليكم وانقسموا فيه فرقتين: محبة
وكارهة، ثم انقسمت المصوبة طائفتين: مؤولة للدين على مقتضاها، وتاركة له
على حاله. ثم انقسمت المؤولة زمرتين: معتدلة وغالية، فهذا الشكل كان تفرق
أهل هذه الفلسفة.
(الفصل الثاني)
الفلسفة الإلهية عند المسلمين، أو علم الكلام
لا يصح أن نقول: إن العصر الأول للإسلام كان خاليًا من بذور البدع التي
حدثت بعده في الأصول والفروع، ونحن لا نقول هذا القول؛ لأن أقوال
المعاصرين للرسول كثير منها محكي في القرآن ونرى في بعضها ما يدل على أنه
كمذهب الجبرية وفي بعضها ما يدل على أنه كمذهب القدرية وغير ذلك، ولكننا
نقول لم تنبت تلك البذور إلا في آواخر أيام الصحابة حين أظهر معبد الجهني
وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري القول بإنكار إضافة الخير والشر إلى الخالق
سبحانه، ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزال وكان هذا تلميذًا للحسن
البصري، ويحكى أنه دخل واحد على الحسن فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في
زماننا جماعة يُكفّرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج بها صاحبها عن
الِملّة، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان فكيف
تحكم لنا بذلك اعتقادًا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب، قال واصل:
أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة
بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة في المسجد وأخذ يقرر
ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل
فسُمِّي هو وأصحابه (معتزلة) .
وقال (واصل) هذا بقول معبد وغيلان في مسألة أفعال العباد وأنكر مثلهما
قضاء الله وقدره، فسمُّوا (قدرية) (سماهم بهذا خصومهم) ، قال: إن البارئ تعالى
حكيم عادل لا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرهم به، وأن يحكم عليهم حكمًا
يجازيهم عليه، وقال (واصل) وأصحابه: يستحيل وجود إلهين قديمين أزليين
ولذلك نفوا صفة العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام عن الباري أي
لم يقولوا هذه صفات للباري قديمة أزلية بل إن الله حيّ قادر وليس علمه ولا حياته ولا
قدرته إلا لذاته.
هذا رأس الطائفة (المعتزلة) وطالع بعده الشيوخ الذين اتبعوه كتب
الفلاسفة فخلطت مناهجها بمناهج الكلام وأفردتها فنًّا من فنون العلم وسمتها باسم
(الكلام) إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها هي مسألة الكلام فسمي الفن باسمها، وإما
لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنًّا من فنون علمهم بالمنطق والمنطق والكلام مترادفان
(كذا قيل) وتفنن (المعتزلة) في هذه المباحث وزاد الآخر على الأول وترونق
كلامهم في أيام المأمون والواثق والمعتصم.
أما مسألة الكلام المشار إليها فهي القول بأن القرآن مخلوق، وممن اشتهر بهذا
القول جهم بن صفوان وكان هذا جبريًّا، أي يقول: إن العبد مجبور في أفعاله، وهذا
المذهب ضد مذهب المعتزلة الذي معناه أن العبد حرٌّ في أفعاله أي ليس مسلوب
الاختيار بإرادة الله وحكمه.
وكان بين (المعتزلة) العلماء العقليين وبين أهل الرواية في كل زمان
اختلافات ومنازعات في مسألة الصفات، وكان العلماء النقليون يناظرون الآخرين لا
على قانون منطقيٍّ بل على طريقة المفتين في الدين، وكان من أحسنهم إتقانًا
أبو العباس القلانسي والحارث المحاسبي، وجرت مناظرة بين أبي الحسن الأشعري
وبين أستاذه أبي عليّ الجُبّائيّ في بعض مسائل وألزمه أمورًا لم يتخلص عنها
بجواب فأعرض عنه وانحاز إلى النقليين السالكين طريقة السلف ونصر مذهبهم
على قواعد منطقية وأساسات نظرية ذلك مذهبًا منفردًا وهو المشهور اليوم بأنه
مذهب أهل السنة والجماعة، ويظن البعض بأنه بقي في مذهبه بقايا من مقالات
أساتذته قبل أن يتركهم وهم من شيوخ الاعتزال، وقرر طريقته جماعة من الأذكياء
كالقاضي أبي بكر الباقلاني والأستاذ أبي إسحق الإسفرائيني والأستاذ أبي بكر بن
فورك على اختلاف بينهم قليل، ومن يطالع مقالات المعتزلة بإمعان يتبين له أن
مقاصدهم التوفيق بين الدين والفلسفة ولم يتيسر لهم ذلك لأمرين الأول أن الفلسفة
التي طالعوها أكثرها غير صحيحة؛ فلذلك لم تلتئم مع الدين، الثاني: أن المقصد
الأصليّ من الدين هو العمل وهؤلاء أفرطوا في الجدل فشطّوا عن مقصد الدين كما
شطّ مجادلوهم من الجبرية الخالصة والجبرية المتوسطة والمرجئة، لكن
القوم بما صنعوه في احتجاجاتهم وبما اضطروا مناظريهم أن يقلدوهم في النظر
والاستدلال قد رفعوا شأن العقل كما يجب له ووسعوا ميدان نظره، وقرروا آدابًا مهمة
وقوانين محكمة في المناظرة من حيث هي وفي المناظرة في موضوعهم هذا
بخصوصه، من أهم تلك الآداب معرفة كل منهم أن مناظرهم نظيرهم، وعدم تكفير
بعضهم بعضًا لمجرد المباينة بالفهم، ولا يلفتنك عن تسليم هذا شذوذ البعض عن هذا
الأدب المَرعيّ المعتمد على أصل شرعي.
ومن أهم تلك القوانين تقريرهم جميعًا أن الدليل العقليّ يقدم على الدليل النقليّ
عند التعارض ويستعان له بالمجاز والتأويل لئلا يذهب سُدًى كذا قال بعض الأذكياء، وأقول يا ليتنا استفدنا هذه الفائدة التي أشار إليها من غير باب الجدل في الدين،
والتجربة ترينا أن هذه الفائدة لم تتم إلا في أعقل الباحثين وأكملهم قصدًا وأوفرهم
حكمة وليس هؤلاء بكثيرين حتى نقول إن مخالفهم قد شذّ، نعم ليس بمنكور عندي
أن صنيعهم ذلك رفع شأن العقل، وكاد أن يبلغه أشده في هذا الباب ويسير به إلى
أبواب أخرى من استعراف أسرار الكائنات وحكم الشرائع عامة والشريعة المحمدية
خاصة ويومئذ كان يرجى للدين دوام سيره وانتشاره على السيرة الأولى، ولكن هو
الخطأ في الدين يقف به ويمنع سيره إن كان قويًّا ويزهقه إن كان ضعيفًا.
نرجو أن تكون قد عرفت مما تقدم أن مدار الفلسفة الإلهية الإسلامية
على آراء (المعتزلة) ومناظريهم، أما مناظروهم فالمتكلمون من أهل السنة
(وأشهرهم الأشاعرة) والنقليون من أهل السنة والغلاة من الفريقين كالجبرية
والحشوية والمشبهة والمرجئة والغلو في كل شيء مذموم.
وقد أجللنا هذه الفلسفة عن أن نعد في أهلها أولئك الذين يتشيعون لرجل بعينه
ويتعصبون عليه وإنْ عدّهم الناس الباحثون في فرق المحمديين إذ الشرط أن نحكي ما
له علاقة بالفلسفة دون ما لا علاقة له إلا بالهوى والسياسة.
وهذه أول كلمه نوجهها لعلم الكلام وعلمائه متأسفين على اشتغال أفاضل
أهل هذه الصناعة من المعتزلة ومناظريهم في هذه المسألة التي أومأنا إليها، ولئن
كان للمتقدمين منهم عذر؛ لأن الزمان زمانها فليس للمتوسطين فضلاً عن المتأخرين
وجه من الوجوه المزينة أو سبب من الأسباب الحاملة اللهم إلا هوى البعض
وتقليد البعض ولا يؤلم قلبي إلا المتبعون على عمه الذين نزلوا أنفسهم منزلة
القاصرين.
والكلمة الثانية أوجهها لجمهورهم أيضًا على عدم تروي كل منهم في كلام
الآخر؛ لأننا حين التأمل والتروي نجد اختلافهم إنما هو على الاصطلاحات دائر،
وقلما نجد بينهم اختلافًا عظيمًا في حقيقة من الحقائق بل اختلافاتهم مع الفلاسفة
يمكن القول فيها هكذا أيضًا، ولتوضيح هذا نورد ههنا أمثلة:
(1) هل بين العقول السليمة اختلاف في أن الموجودات ترجع إلى مبدأ،
هل بينها اختلاف في أن مبدأها يجب أن لا يكون قبله شيء، هل بينها اختلاف في
أن النفوس مستشرفة دائمًا أن تعرف ما هو ذلك المبدأ.
(2) ما هو ذلك الشيء؟ ههنا الاختلاف إذا لم يتروَّ الناس مع بعضهم وإذا
تَرَوُّوا فلا خلاف، نحلل هذا السؤال إلى أربعة: 1- ما هي ذاته؟ 2- ما هي
صفاته؟ 3- ما هي أفعاله4؟ - ما هو اسمه؟ أما السؤال الأول فجواب كل عاقل
فيه لا نعلمها، لا يخالف في ذلك عقلاً مليٌّ ولا فليسوف على اختلاف فرق المليين
والفلاسفة اللهم إلا من لا يتدبرون، وأما الثاني فالجواب فيه لا يحدّ؛ لأنه لم يحس،
ولا يوصف لأنه لم يعرف، لا يخالف في هذا أيضًا أحد، ومن يصفونه من
المليين لا يصفونه من الفلاسفة فإنما يصفونه بما هو مقتضى وجوده كقولهم:
واجب الوجود: بل جعلوا ذلك علمًا عليه، وأنت خبير أن هذا ليس وصفًا، وأما
الثالث فالجواب فيه أن فعله البدء والتصوير، وهذا لا يخالف فيه أحد أيضًا اللهم
إلا الجاهلون جهلاً مركبًا، ولا يعد خلافهم خلافًا ولا يجدر بعاقل أن يتصدى للرد
على من يقول وجدت الأشياء بنفسها، وقامت منتسقة لحالها.
جهلنا فلم نعلم حقيقة نفسنا ... وقلنا بأن الكون قام بنفسه! ! !
وأما الرابع فالجواب فيه بالاتفاق أن هذا يختلف باختلاف اللغات ولا يعرض
هذا الاختلاف للتصور تبعًا للاختلاف في اللفظ كما لا تختلف النفوس في معرفة
الأبيض لكون الدالّ عليه مختلفًا، ولا أرى العقلاء إلا متفقين على أن اختلاف
الاصطلاح كاختلاف اللغة فلا يجب تجافي الِملّيّ عن اصطلاح الفيلسوف ولا تجافي
هذا عن اصطلاح ذاك، هذه الكلمة تغنيك عن أكثر ما في علم الكلام الذي ولع أهله
بتشعيب الاختلافات التي منشأها اللفظ لا التصور وكما سترى في الأمثلة الآتية
وأنت قسْ عليها.
(2) كيف بدأ ذلك الشيء غيره؟ أي عاقل يتجاسر على ادعاء معرفة هذا
من طريق العقل على وجه اليقين، هل ثمة من يتجاسر على هذه الدعوى، وهل
من يتجاسر عليها عاقل؟ مع صعوبة هذه المسألة لا تجد الناس سكتوا في جوابها،
أما المِلّييون فحلها لهم الوحي فقالوا: أراد أن يوجد فأوجد، وقال ناس من الفلاسفة
نشأ عنه غيره وجوبًا (أو عبارة هذا مآلها) وللفريقين كلام كثير، ولئن سألت
المِلّي هل تعرف إرادته؟ وهل يمكنك أن تشبهها بإرادتك التي تعرفها؟ ليكونن
جوابه لا، ولئن سألت الفيلسوف ما الذي أوجب أن ينشأ عنه غيره وهل تعرفه؟
ليقولن لا أعلم أو يخترع اسمًا يجوز أن يكون بمعنى الإرادة التي يقول بها المِلّيّ،
فكلاهما بالعجز عن الإدراك مشتركان، وعلى وجود غيره بتأثيره (المجهول
عندهما) متفقان على أن المتكلمين صرّحوا بأن الإرادة القديمة (تلك التي لا
يعرفونها) توجب المراد.
(3) متى أوجد ذلك الشيء غيره؟ لم يجب عن هذه المسألة المتفلسفون ولا
اللاهوتيون المحمديون، ولكن قال اللاهوتيون (المتكلمون) : إن ذلك الموجد قديم
وفسروه بأنه غير مسبوق بعدم وأن الموجودات حادثة أي مسبوقة بعدم، وقال
المتفلسفون هو قديم وهي قديمة، وللفريقين كلام كثير، وهذه المسألة لا خلاف فيها
أيضًا؛ لأنهم متفقون على أنه أوجدها وعلى أنهم يجهلون متى أوجدها، وما كان
للمِلّيّ أن يقفو ما ليس له به عِلْم من العقل، ولم يسمع فيه كلامًا من الوحي، فليس
في الدين ما يحمله على الخوض في هذه المَزالّ، وما كان للفيلسوف أن يجزم
بشيء لم يقم عليه دليل يقينيّ، فهما متفقان على العجز هنا إن تقاربا للحق، كما
اتفقا على العجز عن معرفة كيف أوجدها.
هذا والمِلّيّون (نَقْلِيُّوهم وعَقْلِيُّوهم) قد يسألون عن أشياء لا يسأل عنها
الفيلسوف الذي لم يتبع ملة، يسأل هؤلاء عن معنى نصوص لا يستطيعون إبقاءها
على ظاهرها كالنصوص القائلة أن السموات والأرض خلقت في ستة أيام، يقال
لهم: هل هي أيام مثل التي تعرفونها أم أيام أخرى لا تعرفونها؟ إن قلتم بالأول
فالأيام هذه إنما عرفت بعد خلق السموات والأرض، وإن كان المقصود مقدار مدتها
دل ذلك على أن هناك مدة وزمنًا، وإن قلتم بالثاني (وهو ما نقوله) فقولوا نعرف
أنه خلقها، ولكن لا نعرف كيف خلقها، ومتى خلقها، ومم خلقها، ونؤمن بقول الله
تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11)
(4) لِمَ أوجد ذلك الشيء غيره؟ وهذه محارة أيضًا للعقل وينبغي أن
يجتمعا هنا أيضًا على العجز عن المعرفة، على أن المِلّيّ يقول لحكمة خفية فيصح
أن يقول الفيلسوف مثله {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
(5) ما هي صفات ذلك الشيء؟ قلنا: ثمة الجواب مختصرًا ولكن هذه
المسألة جديرة بزيادة البيان؛ لأن الخلاف العظيم فيها بين المليين أنفسهم، بين
النقليين منهم والعقلين أولاً، وبين المعتزلة من العقليين والأشاعرة ثانيًا، وأحب أن
أنفي الخلاف الحقيقيّ هنا كما نفيته بينهم وبين الفلاسفة في الأمثلة المارة.
قال النقليون ومتبعوهم من المتكلمين: إن الله قديم وعلمه قديم وحياته قديمة
وسمعه قديم وبصره قديم وكلامه قديم وإرادته قديمة وقدرته قديمة وفعله قديم، وقال
المعتزلة: هذا يوجب تعدد القدماء، فالله ذات مستجمعة لصفات، فهو عالم مريد
قادر حيّ سميع بصير متكلم، وهو قديم، وصفاته عينه. وقال الأشاعرة: هي
أمور زائدة على ذاته لا هي عينه ولا هي غيره، ولكلٍّ كلمات سموها أدلة معروفة
في محلها. ونحن نقول إذا تَرَوَّوْا فلا خلاف، وتوضيحه أنَّ الكل قائلون هو حيٌّ عالم
مريد قادر سميع بصير متكلم والكل قائلون: إن معنى الحيّ ذو حياة، والعالم ذو علم
إلى آخره، والكل قائلون هو واحد بلا تعدد، فإذا لم يبق إلا أن هذه الصفات زائدة أو
غير زائدة؟ بقي الخلاف لفظيًا عند المدققين ولا يلزم من القول بها تعدد القدماء كما
توهم البعض، ولا من عدم القول بها نفيها كما توهم البعض، وليس للحس هنا مبلغ
من العلم، ولا للعقل سند في الحكم، ولا في الدين قول يحمل على الجزم.
أما الخلاف بين النقليين والعقليين فهو في فهم بعض الأشياء التي وصف بها
الباري وبعض الأعضاء التي نسبت إليه وهو في الظاهر خلاف مهم جدًّا، وقد
ظهرت آثاره من القول إلى الفعل، وخلاصته أن كل طائفة من هذين الفريقين
تنقسم طائفتين: معتدلة وغالية، فنحن لا ننكر وجود الخلاف حقيقةً بين الغاليتين
منهما ولكن الخلاف بين المعتدلتين نُرْجِعُهُ لا إلى شيء، توضيحه أن المعتدلين من
النقليين قالوا: ورد الوحي بصفات للباري فنحن نقف مع عبارة الوحي وقفة
المتأدب الحكيم ونصفه بما وصفه لا ننفي معانيها ولا نعتقد أنها كالمعاني
المخصوصة بالمحدثات وهذه هي طريقة الصحابة ومن تابعهم عليها (قلت: وليس
على هذه من غبار) ثم المعتدلون من العقليين. قالوا: إننا قد علمنا أنه ليس كمثله
شيء فعلمنا من هذا العلم أن الكلمات الموهمة تشبيهًا لا يصح اعتقاد معانيها كما
يُعتقد في المعاني المخصوصة بالمحدثات فاستفدنا لها معاني قريبة راعينا فيها قرائن
اللغة وقرائن كلام الوحي (قلت: وهذه أيضًا ليس عليها من غبار) ولقد لاح من
هذا أن لا خلاف بين الفريقين، غاية الأمر أن أولئك أحجموا عن ادعاء التفسير
وهؤلاء أقدموا ولم يأتوا في تفسيرهم مُنْكَرًا من القول ولا تباعدوا عن القرائن ولا
تعدوا حدود ما ورد من الكلمات، فهذا لا يعد خلافًا.
أما الغالية من النقليين فاعتقدت الكلمات على ظاهرها وربما تعدتها إلى غيرها،
وأما الغالية من العقليين فلم تعتقد شيئًا على ظاهره فلا هم منكرون للنصوص
ولاهم واقفون معها قط، وقد اشتبه على الناس الذين لم يعرفوا هذا التقسيم فاعتقدوا
بالسلف ومعتدلي الخلف ما لا يجوز لهم اعتقاده، هذا هو تحقيق الأمر في المسألة
ونحن من الغاليتين برآء، ومع المعتدلين سواء.
(6) ما هي أفعال ذلك الشيء؟ مر الجواب عن هذا آنفًا مختصرًا والكلام
هنالك مع الفلاسفة من غير الملّيين وأعدناه ههنا لخلاف في الظاهر بين المليين
الفلاسفة ومناظريهم، قال النقليون ومتابعوهم من المتكلمين: إن الله تعالى يفعل كل
شيء يقع في هذه الدنيا، وقال العقليون: إن الله تعالى خلق خواصَّ وأسبابًا وأسند
إليها الفعل، قلت: هذا أصل لمسألة مهمة، وهي أن الإنسان من جملة الأشياء
وفعله من جملة الأشياء، فعلى رأي الأولين أن الله يفعل الإنسان وفعله، وعلى رأي
الآخرين أن الإنسان يفعله الخاصة التي خلقها الله، وفعله يفعله هو بالخاصة التي آتاه
الله إيّاها.
وأقول: هل ثمة من لا يعجب من عدم تروي الفريقين في هذه المسألة التي
كل كلام فيها يرجع إلى نقطة واحدة، ألم يأن للذين آمنوا أن يعلموا أن الله خلق
الإنسان عاقلاً متصرفًا في هذه الدار بغيره من جماد ونبات وحيوان، ومحاسبًا على
عقله وتصرفه، ومهانًا أو مكرمًا بعمله فليقولوا كيفما شاءوا أن يقولوا، أفما هم
بمؤمنين بأن الإنسان محاسب على عمله ومَجْزِيّ عليه؟ أراد المعتزلة أن ينفوا
الشرور والقبائح عن الباري، فقالوا: الإنسان هو يفعل فعله، وأراد أهل السنة أن لا
يثبتوا في الوجود معه فاعلاً، فقالوا: الله هو الذي يفعل كل شيء. اطوِ المراتب في
أعين الأولين، وابسطها في أعين الآخرين، تجدهم متفقين كاتفاقهم على أن المرء
مأخوذ بعمله وهي المرتبة الأخيرة.
في هذه المسألة تولد من البحث غلاة من الفريقين غالية قالوا بالجبر المحض
وأفرطوا في تقريره ابتغاء تقريره وابتغاء تعطيل الشريعة، وعليه قالوا
بالاستقلال المحض وأفرطوا في تقريره ابتغاء التوصل لفصل الكون عن المُكَّوِن في
كل الشئون، ويومئذ لا يُتقى ولا يُرجى ولا يُدعى، وفي هذا مصادمة لنصوص
الدين وأسراره، على ما فيه من الرجم بالغيب واتباع الظن المحض الذي لا يليق
بالعقلاء؛ لأنه يضرهم ولا ينفعهم.
في هذه الأمثلة الستة قد أوضحنا تصديهم للمجادلة فيما لا خلاف فيه، وفيما
التبس عليهم من الأمر ولا أريد أن أتكلم على اختلافهم في خلود أصحاب الكبائر
وعدم خلودهم، بل ولا في اختلافهم في خلود الكفار وعدم خلودهم، وأكتفي في هذا
المحل بكلمة خرجت من بيت النبوة قالها أحد أئمة أهل البيت وهي: (إن الله أراد
مِنّا أمورًا، وأراد بنا أشياءً تحجب عنّا ما أراده بنا، وبيّن لنا ما أراده منّا،
فالأجدر بنا أن نشتغل ونتعاون فيما أراده منّا، ولا نتجادل فيما حجبه عنّا ممّا أراده
بنا) .
هذا والكلمة الثانية من اللاتي أردنا أن نقولهن أوجهها للناس من أهل عصري
لا يزالون يحرصون على دراسة الكتب المدونة في علم الكلام ويجتهدون في حلها
وتفسيرها، ولا يسمحون لأنفسهم أن ينظروا في غيرها من كتب الفلسفة العصرية،
ولا أن يتعدوا حدود ما كتب لهم الأولون من اصطلاحات وتعريفات، وما قرروا
لهم وكتبوا عليهم من مذهب واعتقاد، أقول لهؤلاء:
(1) إن تلك الكتب كتبت على أسلوب الفلسفة القديمة، والآن قد تغيرت
الرسوم، ودرست الرقوم، وحدثت بعد تلك العلوم علوم، فاقرأوا ما تيسر فما
وجدتموه مباينًا فاسعوا في معرفة أسباب التباين.
(2) علم الكلام فائدته على ما قالوا الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة
الإيقان وأنتم في هذه الكتب تلتزمون مذهب رجل معين وتحفظون حدودًا وتعاريف
ما أنزل الله بها من سلطان، ولا شهد لجملتها العقل بتبيان، فالذي تزعمون
الخلاص منه هو الذي أنتم فيه.
(3) إن الشُّبه التي تقرأونها في كتبكم هذه قد تسمعون خلافها فينبغي أن
تكونوا مستعدين للاحتجاج على كل شبهة كما هو مطلوبكم من هذه الكتب وهي لا
تفي بمطلوبكم هذا، والكلمة الرابعة أُوَجِّهُهَا لناس آخرين من أهل عصري دأبهم
الاستهداء بالذين ماتوا. أقول لهؤلاء:
(1) إن الذين ماتوا لم تختبروهم، ولم تعلموا السبب في كثير من مقالاتهم.
(2) إن الناس قد يحدثون مقالات بحسب زمانهم ومكانهم وغرض نفسهم أو
حاكمهم.
(3) إن الحي شخصه محسوس، وحاله محدود، يقتدر المرء أن يعرف أن
الحكمة في مقالاته، والناس منهم مخلصون لا حكمة في مقالهم ولا سر ولا غرض
إلا قول الحق وبذل النصح ومنهم ضد ذلك.
(4) إن أخذ الأدلة عن الأحياء المخلصين والاستهداء بهم في دفع الشبه
أولى من الاستهداء بالذين لا نعلم من أمرهم شيئًا، وأعني بهذا أن يعالج العصريون
أنفسهم من بعض الجمود.
والكلمة الخامسة أوجهها لناس آخرين من أهل عصري قد قرأوا شيئًا من الفلسفة وما قرأوا شيئًا من الدين فإمّا هم حيارى في الأمر وإمّا هم مارقون من الملة،
أقول لهؤلاء: إن طريقة الدين حنيفة سمحة، أركان اعتقاده معرفة أن لهذه
الموجودات موجدًا هو (الله) ، وأنه لا يشبه شيئًا من الموجودات، وأنه متصرف
فيها مدبرًا لها، وأن الإنسان الذي ميزه في عوالم الأرض بالعقل مسئول عنده عن
عقله وعمّا عمل بعقله وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم النبي العربي أرسله ليتم مكارم
الأخلاق، ويرشد الناس على الإطلاق.
وأركان عباداته ذكر الله تعالى بصلوات خمس في اليوم لتخف الغفلة المهلكة،
وصوم شهر في السنة لتغلب النهمة المتعبة، وحج في العمر إلى حيث يتلاقى الإخوان
في البيت الحرام والمشاعر المعلومة لتتأكد الوحدة الملية وتزداد الألفة، وإيتاء الزكاة
في الحول للفقراء والضعفاء لتجبر الحاجة المضطرة، وبناء أحكامه على العدل في
الحقوق، وبناء آدابه على الإحسان للمخلوق.
هذه جملة الدين ولا والله لا تند فروعه عن قيود هذه الجملة، فيجدر بكم أيها
الأذكياء أن تتعرفوا بالدين وأسراره لتجمعوا بين فائدة الفلسفة التي تنور عقولكم،
وبين فائدة الدين التي تزكي نفوسكم، وإن سألتموني ما الدليل على صحة الوحي
الذي هو أساس الأديان، وما الدليل على صحة دعوى النبي العربي صلى الله عليه
وسلم، فأقول: إني لست بأعلم منكم فتفكروا يظهر لكم هذا الأمر العظيم على أنني
لا أضن عليكم بمبلغي مما عرفت.
(طريقة في إثبات الوحي)
إني تفكرت أولاً (والإنسان خُلِقَ متفكرًا) في: ما هو العقل الإنساني الذي
ميزه على الحيوانات المدركة بحواسها فقط بل ما هو الإدراك؟ فلم أستطع علم هذا.
سألت أعالم الناس الذين اجتمعت بهم من عرب وترك وفرس وهنود وإفرنج فلم
أُهْدَ لعلم هذا.
رجعت إلى آثار الموتى قلبت في الكتب أوراقًا تعد بالآلاف فلم ألفِ المطلوب،
فسكنت إعياءً عن طلبه سكونًا حاليًا، واكتفيت بمعرفة أنه قوة عظيمة قد رفعت
الإنسان إلى طبقات الكواكب، وهو لم يتحرك لجهتها فأرته بغير عينه بدائع
صنعها، وإتقان نظامها، وصورة دورانها، وشكل تقابلها بعضها مع بعض،
وهبطت به إلى طبقات هذا الكوكب الذي هو فيه (الأرض) فأرته بعينه وبغير
عينه بدائع كونها، وخزائن أسرارها، وانتظام سيرتها، وبصرته أنه (أي الإنسان)
هو سلطان عوالمها، تنقاد كلها لتصرفه، وتصير تحت أمره، فهو المنفرد في
الأرض بحياة جامعة للعلم (بالشاهد والغائب) والقدرة (على التصوير والتشكيل)
والإرادة (لما يلزم البدن وما يلزم العقل) والكلام (الذي يبلغ به إرادته للحاضر
معه بواسطة الآلة البدنية الطبيعية، وللغائب عنه بواسطة الآلات الجمادية الصناعية،
منها هذه الكتابة التي تبلغنا كلام من قبلنا من أهل الأدوار، وتبلغ كلامنا للنائي..
والآتي بعدنا في الأجيال.. هذا التلغراف الذي يسمع به المشرقي ما يريد المغربي
في لحظة من الزمان) والسمع (الذي نفهم به إرادة غيرنا) والبصر (الذي يطبع
في فكره صور الأشياء) فبمجموع مزايا هذه الحياة كان له السلطة والتصرف في
عوالم هذه الأرض تصرفًا تابعًا لنواميس هي فوق إرادته، وفوق سمعه وبصره
وفوق علمه وقدرته، وفوق أمره ونهيه.
هذا القدر عرفت بادئ بدء من آثار تلك القوة العظيمة التي هي العقل، وبهذا
القدر تم لي معرفة أن هذه القوة هي أكمل وأعظم قوة في العوالم الأرضية،
وإن تلك النواميس التي هي فوقها وحاكمة عليها يجب أن تكون من عالم آخر.
ما هو ذلك العالم؟ هذه نقطة ثانية عرج إليها فكري وفي هذه الدرجة وقف
عقلي زمانًا كثيرًا يلتمس الدليل في معراجه هذا، ثم أتاه الدليل من نفسه، فقال:
إن ذلك العالم هو المحجوب عن حسِّنَا المعروف المألوف عند تصوُّرنا، هو عالم
الحقائق والقوى والطبائع التي نعرفها بآثارها ونجهل كنهها وذواتها، هو عالم
الغيب وهو بحر عظيم لا ساحل له، والذي ظهر لنا منه نقط قليلة بعد ظهور
أمثلتها في عالم الشهادة.
قال بعض الأذكياء: (كنا لا نُدْرِكُ السر في قيام هذه الكرة في الفضاء، ثم
علمنا من أمثلة ظهرت للحس أن هنالك قوه تمسكها، لا نرى تلك القوه بأبصارنا، ولا
نسمعها بآذاننا، ولا نحسها بأيدينا، ولا نشمها بأنوفنا، ولا نذوقها بفمنا، ولم تبلغها
عقول الأكثرين منا من المتقدمين والمتأخرين، واليوم أدركها بعض أقطاب العلم
الباحثين في أسرار الوجود وقرب إدراكها لعقولنا فصرنا نقول بها، ونلهج بالاسم الذي
وضع لها (الجاذبية) وكذلك كنا لا ندرك السر في حركتها ثم ظهر، وكنا لا نعلم
متى تكونت ومتى تحركت، ويدّعي البعض اليوم أنهم يعلمون ذلك، وكذلك كنا لا
ندرك طبائع الأجسام البسيطة والناس اليوم إنما يعرفونها بآثارها وبخواصها في
البساطة وبعد التركيب كل ذلك يرشدنا إلى أنَّ عالَم الغيب (أي الأسرار التي حجبت
عنا) واسع، وقلة ما انكشف لا ترشدنا إلى انحصاره فيها وإحاطتنا بمجموعها، بل
ترشدنا إلى أنَّ ما جَهِلْناه كثير بالنسبة إلى ما عرفناه وتأمرّنا أن نقف عن تعيين طرف
لهذا الميدان الذي خولت البصيرة أن تجول فيه وحُرم البصر.
قلت: في فكري إن الإنسان محكوم في خلقته لنواميس تحدث خواطره
وخواطره متضادة متنازعة كمال التضاد والتنازع، فإما أن هنالك قانونين متضادين
(من جنس القوه التي هي العقل) مسلطتين عليه وتصرفه تابع لنفوذهما على
النسبة، وإما أن الأثرين المتضادين منفعلان عن المزاج الإنسانيّ المركب من
متضادات، وعلى الرأي الأول فالقوتان إما لهما وجود خارج الجسد أو لا وجود
لهما إلا في الجسد، وإن وجدا خارج الجسد، فالمادة التي تقومان بها إما بسيطة
وإما مركبة، هذه أسئلة تخطر في بال الذين يريدون أن يتوصلوا للحقائق من
طريق كونيتها لا من طريق اسميتها، والعقل السليم يعلم أن هذه الاحتمالات كلها
جائزة، والقول بكل واحد ينفع في الدلالة على أن النواميس التي لها نفوذ على
الإنسان هي أمور وجودية لها العلاقة العظمى في تفاوت أفراد النوع العاقل هذا
التفاوت العظيم الذي يرينا رجلاً يعلم أفضل شرع وأكمل آداب، ورجلاً يكشف سر
البخار والكهرباء وما يفعلان من سحر الألباب بروائع آثارهما وبدائعهما، ورجلاً
يستحوذ على قلوب الألوف المؤلفة ببيان يبديه ويستنزل النفوس عن محبة الحياة
بين القواصف والقواذف، ورجالاً لا يعرفون من الأمر إلا حيوانية ومَوتانًا.
ولنا أن نقول: إن النسبة بين الإنسان وبين من هو دونه محفوظة بواسطة
قريبة منه ومن التي هي دونها (كالنبات مثلاً هو قريب من الحيوان لنموه مثله من
الجماد لعدم تحركه بالإرادة مثله) ، ونعلم قطعًا أن الإنسان على عظمته في الأرض
غير كامل، إمَّا من حيث الصورة فلفنائها، وأما من حيث الخاصة فلتردده في
تحصيل ما يعتبره سعادة (ولذلك يعيش الإنسان في هذه الدار شقيًّا على كل حال إما
بالآلام والأتعاب الجسدية، وإما بالآلام والأتعاب الفكرية، وإما بهما معًا) فيجب أن
تكون النسبة المحفوظة بالتسلسل مع من دونه محفوظة أيضًا مع من فوقه، وليس
في عالم الحس فوقه شيء.
ففي عالم الغيب متضادان (تضاد المليح والقبيح) لهما علاقة بالإنسان كعلاقة
الإنسان بمن دونه، وعلاقة الإنسان بمن دونه هي احتياجه إليها لتكميل خاصته
واحتياجها إليه لظهور خواصهما فعلاقة هذين هكذا: يحتاجان إليه (بسنة الله في
الخلق) لتكميل خواصهما ويحتاج إليهما لظهور خاصته، هذا القدر يكفيني ويكفيك
ولا تسلني عن اسميهما وكنههما فإني أكره جدًّا أن يختلف العقلاء بسبب الأسماء
وأحب أن يتقاربوا من صوب المعاني ويعتبروا الدلالات عرضًا تابعًا ويتساهلوا مع
بعضهم في الاصطلاحات كيلا يكون سبب اختلافهم.
أما خاصة الإنسان التي يطلب تكميلها ما دام حيًّا فهي التصرف بعوالم هذه
الأرض، فأما الذين تغلب فيهم فهو محبة الخير فيلهمون تصفية العقل الغريزي
(القابل للصفاء والكدورة) فتظهر في مرائي أفكارهم صور المعقولات، وتشرق
عليهم من عالم الغيب أسرار معارف يحسن بها تصرفهم وتحمد آثارهم ويبقى
ذكرهم حيًّا إذا اضمحلت صورهم يومًا من الأيام، وأما الذين تغلب فيهم القوة
الأخرى المضادة فتكدر عقولهم وتتشوش بكثرة الوساوس والتردد ويكثر شقاؤهم في
طلب المشهيات المادية ولن تنتهي وحرمانها أكثر من حصولها وألم التزاحم عليها
والتذابح لا توازيه ولا تسكنه لذتها، فبسوء تصرفهم تذم عقباهم ويموت ذكرهم كما
يموت ذكر الأنعام التي تحيي زمانها ثم تهلك.
ولما كان الإنسان على هذه الصورة من التضاد المحسوس الذي يبتدئ في
النفس على وجه التردد ثم ينفرج وتتمادى به الخطوط المتباينة وكان بحكم هذا
التضاد منقسمًا إلى أبرارهم أقل وأشرارهم أكثر لم يستغن عن قانون عام عادل
وآداب جميلة مهذبة للنفوس ومعينة للقانون وعند قراءتنا في ماضي الإنسان نجد أن
الله جبر نقصه هذا فاصطفى من البشر ناسًا هداهم، أوحى إليهم، علمهم شرائع
وآدابًا كما اقتضته حاجة الناس، وما وجدنا قط أمة مرتقية ليست على أساس واحد
من أسس الدين الذي جاء به المصطفون.
وهذا التضاد كما هو دليل (أول) على ما ذكرناه هو دليل (ثان) على أن
الباري تعالى هو المدبر للموجودات، لأن تصرف الإنسان الذي نوهنا به تصرف
ناقص كما هو محسوس، وتصرف إحدى القوتين ناقص أيضًا كما هو معقول ولا
بد لنا من تصرف أكمل؛ لأنه ظهر لنا شيء شاهد أن هنالك فوقه ما هو أكمل
فالتصرف الأكمل هو لأكمل شيء فيجب أن يكون هو الباري تعالى رب العالمين،
فكان الله تعالى خلق الإنسان خلقًا خاصًا مدركًا ليعرفه بنفسه وخلق فيه أمثلة من
الكمال ليعلم كمال الله ويعرف أن يمجده -وهو الغني- بعبارات يستعيرها، وأوصاف
يستعين بها مما عرف من الكمال المتجلي بنفسه المصنوعة على أبدع مثال في
المحسوس، وأقرب مثال في المعقول، ثم ليدل بنقصه على كماله لم يجعله جازمًا
مستقلاً في إرادته ولا دائمًا مستمرًا في حياته، ولا متحدًا منتظمًا في كلامه، ولا
مجيدًا في كل تصرفه، ولا كاشفًا لكل شيء في علمه، بل لم يجعل أفراده وهم
واحد في النوع على نسق واحد في الإرادة والحياة والكلام والقدرة والعلم، فكأنه
أراد أن يبين بهذا التفاوت في الأحوال والدرجات ناقصًا منهم وأنقص وكاملاً وأكمل
لتجلي برهانه أن له السلطان والملك وبيده الأمر كله والحكم.
وهو دليل (ثالث) على أن الشرائع والآداب التي جاء بها المصطفون إنما
هي وحي منه؛ لأنها معرفة به بادئ بدء نصًا على وفق ما تعرف به خِلْقة الإنسان
حالاً وإشارة، وهذا أكمل تعريف وهيهات أن يستقل به عقل الإنسان الناقص
المتردد والتعريف الحق به هو أول ركن من أركان الشرائع التي يراد بها زجر
النفوس، و (محمد) ذلك الرسول العربي قد لبث في الأميين زمنًا طويلاً من عمره،
ثم ظهر عليهم وهو الأميّ بمعارف من عالم الغيب يملأ شرحها على أسلوب الفلسفة
دفاتر، وأتى من القواعد العامة التي تصلح شرعًا لكل زمان ومكان بما يملأ التفريع
عليه أسفارًا، ومن الآداب الجميلة بكلمات يسيرة، بما يعجز أساطين علم الأخلاق
عن ترتيب مثلها بدواوين، قام بالأمر وحيدًا وصدع بالهدى على رؤوس الملأ فقوبل
الرد والدَّعِّ، فصبرت نفسه ولم تجزع همته ولم تصغر، واشتد عزمه ولم يضعف،
وما زال يخطب ويدعو، ويؤنب طورًا ويترفق مرة، حتى انتصر وأُمر أمْرُهُ،
وتهذب على يديه جماعة منهم يقوون أن يتسلطوا بسلطاني العدل والإحسان على
الأرواح والأشباح وما زال اسمه يسمو، ودينه ينمو، حتى طاف المشارق
والمغارب، واستقر في نفوس الأعاجم والأعارب، فما في دينه من الأدب الرافع،
والنظام النافع، وما في قومه الذين رباهم وأرشدهم من علو الهمة، ومضاء
العزيمة، وما في سيرته الخصوصية من الكمال الإنساني البديع، وما في بقاء قرآنه
على الحفظ من التبديل، وما في وعوده التي وعد بها المؤمنين (كتمكنهم
في الأرض وصيرورتهم خلفاء في الأرض) من الصحة، كل هذه تكفي مَن
سلمت فطرته، وصحت فطنته أن يعلم صحة دعواه، وفضيلة هداه، ولا ينكر
هذا إلا مقلد أو معاند، اللهم صلِّ وسلم عليه ما شكرك الشاكرون، وذكره
الذاكرون.
(اليوم الآخر)
بين الفلاسفة والمتكلمين اختلافات كثيرة في إمكان الحشر وعدمه وفي وقوعه
وعدمه، وفي لزومه وعدمه، وفي كيفيته، ونحن نختم هذه الرسالة بهذه الكلمة:
العقل حين يرى أن الإنسان لم يبلغ في هذه الحياة غايته من سبيل الارتقاء لا
من حيث الصورة؛ لأنه يموت، ولا من حيث الحال؛ لأنه في شقاء الطلب
والهرب، وفي شقاء التردد بين الحصول والحرمان والتوفيق والخذلان، ولا من
حيث العقل؛ لأنه محجوب عن عالم الغيب، يجنح إلى أنه لا بد من يوم آخر ليبلغ
فيه الإنسان غايته من حيث عدم الفناء، ومن حيث عدم الحجاب، ومن حيث
التخلص من الأضداد، فينقسم فيه الناس إلى نصفين متباينين قسم في جنة نعيم
البال وسعادة الرضاء بما كسبوه في حسن تصرفهم ونعم المصير، وقسم في سعير
شقاء الحال وشقاء الندم على ما اجترحوه بسوء تصرفهم وبئس المصير.
لتعي هذا أوجه حسك وعقلك إلى انتهاء الأجسام المركبة الفانية إلى أجسام
بسيطة باقية سواء رجعت بها إلى المبدأ أو ذهبت بها إلى المصير بتصيير ما، فهذا
يرشدك إلى إمكان أن يرجع الشيء الباقي لأصله مهما امتزج بغيره،
والروحيون من الفلاسفة لا يقولون بفناء الروح كما لا يقول الماديون منهم بفناء
البسائط، فالروحيُّ أن يلزمه أن لا يستبعد رجوع هذه الروح يومًا من الأيام كما
جاءت أولاً للماهية التي عرفت بها لتبلغ تلك الماهية بهذه الروح في ذلك اليوم
غايتها التي أعدت لها، والماديُّ يلزمه أن لا يستبعد امتزاج تلك البسائط امتزاجا تامًا
في يوم آخر كالامتزاج الأول الذي حصلت منه ماهية حي من الأحياء ليبلغ هذا الحي
بهذا الامتزاج الثاني (الذي يحصل على كيفية ثانية) في هذا اليوم الآخر غايته
التي أعدت له، وعارٌ على من يعلم أن الماس (هذا الجوهر الكريم عندنا) قد
استخلص من جنسه الفحم حتى صار كما يرى أن يستبعد أن يستخلص الإنسان (هذا
المخلوق المدرك الكريم عند فاطره تعالى) من جنسه الحيوان. وفريق منه
من نوعه الإنسان بأعظم من هذا المثال، أما إذا لم نقل باليوم الآخر فأين تمييز
الإنسان على الحيوان إذا ماتا ميتة واحدة، وأين تمييز الأبرار على الأشرار إذا
كان الأمر مقصورًا على هذه الحياة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله وأنيب إليه وأسأله لي ولكم الهداية والتوفيق إلى
سبل السلام. اهـ في رمضان سنة 1320
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز)
__________(5/726)