الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
التربية والتعليم
بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض [1]
(المكتوب 29) من هيلانة إلى أراسم في 3 فبراير سنة 185
لقد وهمت أيها العزيز في دعوى أن ذلك الهيكل الذي تمنيت إقامته للعلم لا
يوجد ولن يوجد؛ فإنه موجود بالفعل في سايدنهام [2] على غاية القرب من لوندرة،
واسمه القصر البلوري، وفي نيتي أن أزوره أنا وأميل متى أمكنتني الفرص،
وصار في سن يؤهله لإدراك ما فيه من مواد التعليم، نعم إني لست على يقين من
مطابقة طريقة بنائه لآرائك تمام المطابقة؛ ولكن أقل ما فيه على ما سمعته عنه أن
القصد من إنشائه موافق لقصدك، وقد يدهشك أن تعلم أن ليس للحكومة يد في بناء
هذا القصر العامي - وإنما أصفه بذلك؛ لأن المقصود الأصلي من إقامته إنما هو
تربي طبقات العامة - فإن كل ما فيه من البساتين الواسعة، والبناء البلوري،
والآثار القديمة، والتماثيل وجمل الأشياء المفيدة ملك لجماعة من المتساهمين، وقد
عهد برفعه إلى مشاهير العلماء والصناع والأثريين، فكانوا يباشرون بأنفسهم إفراغ
المواد في القواليب، وتحصيل مُثل الأشياء؛ ذلك لأن الإنكليز إذا قصدوا تحقيق
غرض مفيد أو إنشاء معهد جديد لمنفعة عامة اعتمدوا على أنفسهم بسبب ما آتتهم
ضروب الحرية، ووسائل العمل الذاتية من قوة العزيمة وشدة البأس غير راجين
من الحكومة مساعدة مالية ولا قولية، لعلمهم أن العمر ينقضي دون الوصول إلى ما
يرجون، فهم متى أرادوا أقاموا تماثيل لعظمائهم، ورفعوا هياكل لفكرة يبديها
الواحد منهم.
أراك تشكو من عدم وجود معاهد للتمثيل عندنا خالصة للأطفال، فاعلم أن
لأطفال الإنكليز واحدًا منها؛ ذلك أنك في صبيحة عيد الميلاد تجد معظم تلك المعاهد
كأنها قد انفكت عن الاختصاص بالروايات الجدية والهزلية، ولا يقبل فيها من
الكبار إلا من كان مولعًا بسماع الأساطير، كأسطورة إهاب الحمار [3] وأسطورة
الأصيبع، فكل واحد منها يصح أن يعنون بمعهد الرؤوس الشقر؛ لأن الأطفال في
شهرين أو ثلاثة من السنة يكونون هم المتصرفين في اختيار نوع الآلاهي العامة،
والمتمتعين بكل ما في المعاهد من المقاعد المخملة والموسيقى وضروب الغرور
والفتنة، ويؤكد لي الناس هنا أن كثيرًا من تلك المشاهد يحصل فيه التمثيل مرتين
في اليوم، إحداهما بعد الظهر لمن يتعجل في النوم من الأطفال الذين لا يقوون على
السهر، والثانية في العشي لليافعين والآباء والأمهات وللشيوخ الذين حفظوا للشباب
في ناحية من أذهانهم شعاعًا من ضيائه، ولمعة من بهائه، وينبغي على ذلك أن
أول شرط يلزم تحقيقه في النظارة أن يكونوا صبيانًا أو مستصبين، وإلا فكيف
يروقهم سماع ما يروى هنالك من أقاصيص الجن، وما يتمثل من الأضاحيك؟ نعم
إن مواضيع تلك الألاهي البهجة هي في الجملة غاية في الابتذال، وإنك لتأسف
على ما يضيع في سبيل تربية الإدراك بهذه الأماكن من نفقات الزينة والثياب،
وغيرها من عتار التمثيل؛ لأن ما يحصل فيها من تغيير المناظر قلما يفيد إلا إثارة
وجدان الإعجاب والدهشة؛ ولكن ما أشد ما يبديه الأطفال عندها من دلائل الفرح
المنبعث عن السذاجة، وما أبلغ ما يظهر من تشوفهم إليها، وأعظم ما يكون من
بريق أبصارهم وحملقتها بسبب استغرابها والافتتان بها، خصوصًا إذا جاء دور
ذلك المنظر المعروف المسمى منظر الانقلاب والتحول، فلشد ما تخفق القلوب
هنالك خفة ومرحًا.
ومهما كان في تلك المرائي من الابتذال فلا ينبغي أن يستخف بما يتجلى للأطفال
فيها من تلك القصور المسحورة، وأمطار العسجد والشرر والأنوار المشتملة على
جميع ما يرى في الفجر القطبي من الألوان المتباينة، والجزر السعيدة (الجزائر
الخالدات) والنساء العائشة في السحب، وفي الأشجار والأزهار؛ وبالجملة لا تصح
الاستهانة بتلك المخترعات الخيالية العامية التي تمثل في أضاحيك المناظر، فأينما
طار بنا الخيال وإن على أجنحة من الورق المقوى ولم يرفعنا إلا قليلاً؛ فإنه يفكنا
ساعات مما يبهظنا من أغلال العوائد والحاجات، تلك المناظر الغرارة لن تنفك أن
تكون محبوبة للعامة والأطفال؛ لأنها تفتح جزءًا من أبواب الكمال المطلق البالغ
أقصى غاياته.
لما رأيتني لا أملك الآن الذهاب بأميل إلى القصر البلوري، ولا إلى معهد
التمثيل عولت على الاستعانة بآلة يطاف بها هنا في المدن والقرى، وهي الفانوس
السحري وكأني بك تضحك من ذلك؛ ولكن أي مانع يمنع من أن تكون تلك الآلة
المستعملة لتحصيل اللذة والإعجاب من وسائل التعليم أيضًا، فليس ذنبًا للفانوس
السحري أنه قلما استعمل إلا لتمثيل الصور المضحكة الغريبة في دارة مضيئة، بل
إنه لا يكون إلا مفيدًا إذا قصد به الجد، ولو أن العلماء تفضلوا على المصورين
بإرشادهم إلى ما يختارون من مواضيع العمل، وإلى طريقة التصوير على الزجاج
لأدى الفريقان للأطفال فيما أرى فوائد، وقد سمعت أن المتولين أمر التربية في
إنكلترا سبقوا إلى اتخاذ هذه الطريقة في بعض المدارس لتأدية شيء من معاني علم
الفلك وتقويم البلدان والتاريخ إلى عقول الناشئين.
أنت تعلم أن علماء الفلك قد رسموا صور الأجرام السماوية الكبرى،
وخططوا آثار ذوات الذنب والشهب والخسوف والكسوف، أو انتزعوا صورها بآلة
التصوير (الفتوغراف) فلو أننا أردنا أن نجعل الفانوس السحري الذي هو الآن
مشهد الأوهام والمغالطات مشهدًا للحقائق أيضًا، كفانا في ذلك أن ننسخ على زجاجة
رسوم السماء وما فيها مصورة على الحالة القطرية تصويرًا مضبوطًا.
إذا كان المراد تمثيل الأرض في هذه الآلة، فلست على يقين من صلاحيتها
لتحصيل صور جميع ما فيها من سلاسل الجبال الكبرى، ومجاري الأنهار العظمى
ومجاهل الصحاري المريعة، وشكل السواحل الوعرة المغمورة بالمحيط، ولا حيلة
لنا في ذلك، فعلينا أن نكتفي بمبلغ طاقتنا من تصويرها فيها، على أن الطفل
يروقه نظر الأشياء تفصيلاً أكثر من النظر إليها جملة، فهو إذا نظر إلى صور
الأقاليم وهيئاتها؛ فإنما يلتمس أثرًا يريعه ويدهشه كصخرة غريبة الشكل، أو نبات
أجنبي، أو حيوان عجيب، أو إنسان مغاير لنا بلون جسمه.
وأما التاريخ؛ فلا شك في صلاحية الفانوس السحري لتعليمه؛ فإنه يتأتى به
إحضار خيالات من يتحدث عنهم من الماضين، فلا مانع من أن ترسم على صفحته
صور الشجعان الغابرين بزيهم وبزتهم، وصنوف ما وجد من الصور الغريبة كأبي
الهول، والثيران ذات الأجنحة وذات الرؤوس الإنسانية واللحى السوداء،
والجنيات، والآلهة، وغيرها من الصور الخرافية؛ لأنها إذا خرجت من الليل فلا
عجب أن تعود إليه.
أنا لسوء حظي لست عالمة ولا مصورة؛ ولكني أرسم رسمًا مناسبًا لحالتي،
وكنت أرى منك أحيانًا استحسان رسومي الكثيرة الألوان، نعم إني لا أحسن طريقة
التصوير على الزجاج؛ فإنها حرفة تُتعلم وكمال سأفتخر بأن يكون (أميل) هو
صاحب الفضل علي في كسبه وأصعب عليَّ في ذلك فيما أرى؛ إنما هو الحصول
على مُثُل متقنة؛ لأني إخال أن الواجب على المربي أن يكون دقيقًا فيما يعلمه الطفل
وأكره أن لا أبرز الأشياء لولدي في صورها الصحيحة، وقد وعدني الدكتور
وارنجتون - وهو موافق لي في كثير من أفكاري - أن ينتقي لي من لندره صورًا
منتزعة بآلة التصوير (الفتوغراف) أو رسومًا أُخذت من علماء الطبيعة وعلماء
الآثار والسياح، وأنا بفضل معونته على أمل من إنشاء مشهدي الصغير عما قليل
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معرب من كتاب (أميل القرن التاسع عشر) .
(2) سايدنهام: قرية من قرى إنكلترا واقعة على بعد ثمان كليومترات من لوندرة بني فيها القصر البلوري للمعرض العام الذي أقيم في سنة 1851.
(3) أسطورة إهاب الحمار هي من أساطير شار برولت الذي سبق التنويه بذكره في المكتوب (25) وملخصها أن ملكًا كانت له زوجة يحبها جدًّا، ورزقت منه ببنت فائقة الجمال، ثم مرضت وعند احتضارها استحلفته أن لا يتزوج إلا بمن تكون أجمل منها، فلم يجد في عقائل مملكته من تحقق فيها الشرط إلا بنته، فأفضى إليها بميله إلى تزوجها، فأنكرت عليه الأمر، فصمم فاشتكت إلى جنيتها، فأرشدتها إلى أن تطلب منه حلة كالزمن في لونه، فاستصنعها لها، فأوعزت إليها بطلب آخر كلون القمر، فما كان أقرب من تقديمها لها، ثم بثالثة كلون الشمس فكان ما طلبت، وكان لأبيها حمار يحبه كثيرًا؛ لأنه كان يجد تحته كل يوم مقدارًا وافرًا من النقود، فلما أعيت الحيلة تلك الأميرة، وظنت أن لا خلاص لها امتلأ قلبها حزنًا، فأوحت إليها الجنية بأن تطلب إهاب الحمار (جلده) ، فقُدِّم لها بعد استغراب، فزادها ذلك جزعًا، فقالت لها الجنية: كفي فهذا وقت خلاصك، فالبسي إهاب الحمار وأخرجي فإنه لا يشعر بك أحد، وسأتبعك بحليك وحللك أينما قصدت، فخرجت في ذلك الإهاب، وساحت في الأرض فدخلت مملكة أخرى، فاستخدمتها زوجة مزارع في رعاية الديكة وكنس معلف الخنازير لرفاهة حالتها وقذارتها، فرآها ابن ملك تلك الجهة من خصاص كوخها وقد تعرت من إهاب الحمار ولبست حلة من حللها، ففتن بها وذهب إلى أهله مدنفًا سقيمًا وحار الأطباء في أمره،
وقالوا: إنه لا مرض به إلا الفكر، وبعد إلحاح من والديه طلب أن الخادمة التي تلبس إهاب الحمار تصنع له قرصًا، ففعلت ودست فيه خاتمها؛ لأنها قد فهمت حقيقة الأمر، فلما تناول الخاتم في فمه قال لوالديه: إني أريد أن أتزوج بصاحبة هذا الخاتم، فنودي في المدينة بأن أية فتاة يوافقها الخاتم الذي في بيت الملك تكون زوجةً لولي عهده، وكانت نتيجة ذلك أن تزوجت به وعاشا في نعيم ورغد، وأسطورة الأصيبع تقدم تلخيصها في هامش مكتوب 25 (راجع ص 814 مجلد 3) .(4/261)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعليم العربية في المدارس
تأخره في تقدمه
أحسب الناس أن تقدم اللغة العربية بلغ من النجاح أن يُمتحن في فنونها مائتان
وخمسون طالبًا وأربعة نفر، فلا يخيب منهم إلا الأربعة والباقون نجحوا في
امتحانها؛ وأنها قد بلغت نصابها واسترجعت شبابها؟ كلا إن الناس متعجبون من
نتيجة الامتحان في هذا العام لا معجبون، وإنهم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم
فيه مختلفون، وإننا نشير إلى الحقيقة بمجمل من القول.
من المعلوم لأكثر الناس أن التلامذة لم يسألوا في هذه السنة إلا ثلاث مسائل
سهلة جدًّا، وكانوا يسألون في كل عام عشرة مسائل دقيقة كالألغاز ربما لا تخطر
في بال عالم؛ ولذلك كان الناس يشكون مع التلامذة من الإفراط في التشديد
بالامتحان، وكأن سكرتير المعارف المستر دنلوب أراد أن يزيل شكواهم، فأفرط
في التساهل حتى جعل الشكوى أعم وأكثر، ورجال لجنة الامتحان مستسلمون
لأمره، وإرادتهم فانية في إرادته.
والمتبادر أن المنوط بهم أمر الامتحان كانوا عازمين على جعل الامتحان في
هذا العام كما كان في العام الماضي لولا السكرتير، وإن أول من خضع للأمر مع
علمه بعدم كفاية المسائل الثلاث هو الشيخ ذو المكانة الأولى في اللجنة، والذي كان
يرجى أن يكون أعز أنصار اللغة العربية، ويقال: إن شابًّا من اللجنة تربى تربية
إنكليزية عارض في ذلك، ودافع عن اللغة العربية، أما حجة الشيخ في امتثال
الأمر فهي أن صيغة الأمر عند علماء الأصول حقيقة في الوجوب مجاز في غيره،
وأما حجة الشاب فهي أن هذا اجتهاد من السكرتير في المصلحة، وأن تقرير مسائل
الامتحان موكول إلى اجتهاد اللجنة؛ لأنها أعرف بالمصلحة، والمجتهد لا يقلد
مجتهدًا، وللشيخ في دفع هذا أنه لا بد من تنفيذ الأمر على ظاهره؛ لأن الاجتهاد لا
يصح أن يعارض النص كما هو مبيَّن في علم الأصول، وللشاب أن يقول في دفع
الدفع أنه يمكننا التوفيق بين أمر السكرتير وبين المصلحة بأن نضع ثلاث مسائل
جديدة تتضمن العشر، وبذلك نسلم من المخالفة ومن الغش في العمل، وينطبق قوله
هذا على قواعد الأصول، لقولهم بتأويل نصوص الكتاب والسنة إذا خالفت المعقول،
إلا أن يعود الشيخ فيدعي أن اجتهاده موافق لاجتهاد السكرتير في الاكتفاء بثلاث
مسائل بديهية عن عشرة عويصة؛ ولكن للشاب الحجة عليه بأنه كان مقررًا للعشر في
كل عام، فليس الانقلاب الآن عن اجتهاد؛ وإنما هو عن استسلام.
ويظهر أن سائر الأعضاء كانوا منقادين مع ذلك الشيخ الكبير إلى العمل
بظاهر الأمر من غير بحث في موافقته للمصلحة التي أنيطت بهم، كأنه أمر منزل
ونص قاطع لا يحتمل التأويل، ولولا ذلك لم يُنَفَّذْ ولكنه نُفِّذ كما يعلم من جميع
التلامذة، وهذا الاستسلام مبني على أنهم يعتقدون أن السكرتير أمر بما أمر وهو
عالم بأنه خلاف المصلحة فهم في الحقيقة خاضعون لما يظنون أنه يهواه ويميل إليه،
ولو كانوا يعتقدون أنه يقصد من الأمر بتيسير الامتحان المصلحة؛ ولكنه بالغ في
التيسير حتى صار مفسدة لراجعوه وبيَّنوا له الحد الوسط، ولو فعلوا ذلك بالاتفاق
لما خالفهم، وإن كان يُقصد إماتة اللغة العربية كما يقول الناس.
التربية الإنكليزية
سيقول الذين يسيئون الظن بالإنكليز عامة، وبالمستر دنلوب خاصة،
ويتهمونهم بالسعي في إماتة اللغة العربية؛ لأنها لغة الدين الإسلامي: ما بال هذا
الشاب هو الذي تصدى للمدافعة عن اللغة العربية، مع أنه لا يتميز على الأستاذ إلا
بكونه تربى وتعلم في البلاد الإنكليزية، والإنكليز لا يُعَلِّمون المصريين في بلادهم
إلا ليستعينوا بهم على تنفيذ مقاصدهم في مصر؟ وللإنكليز أن يجيبوا هؤلاء بقولهم:
إن الذي نعلمه ونربيه لا يخلو من أحد حالين: إما أن يتعلم منا كيف يخدم بلاده
ويعلي شأن أمته؛ لأننا نحب ذلك، أو لا نعارض فيه، وإما أن يأخذ عنا من
الاستقلال في الفكر وفي الإرادة ما يمكنه أن يجاهدنا به في ميدان الحياة، فإذن لا
نجاح لكم إلا بالتربية الإنكليزية، لا سيما إذا ترشح لها الخيار منكم.
كلمتا اللورد كرومر
وحكمدار الهند
أما الدليل على ترجيح الشطر الأول فهو ما قاله الفيكونت كرومر وكيل دولتنا
عندكم في تقريره عن مصر، وما قاله حكمدار الهند في خطبته في كلية عليكدة،
أما الأول فقد قال بعد الحث على التعليم الصناعي، وتعليم البنات، وموافقة شورى
القوانين على توسيع نطاق المدارس الأهلية ما ترجمته:
(من الشواذ الكثيرة في هذا القطر، بل من أغربها أن الشبان المصريين
يهتمون الآن بتعلم اللغة الإنكليزية أكثر مما يهتم الإنكليز بتعليمهم إياها؛ وسبب ذلك
واضح، وهو أن المصريين عمومًا يحسبون أن حصولهم على وظائف الحكومة
يكون أسهل عليهم وهم يعرفون الإنكليزية منه وهم يجهلونها، والمرجح أنهم
مصيبون في ذلك إلى حد محدود، أما الإنكليز الذين يعرفون أحوال المصريين وما
يحتاجون إليه، فينظرون إلى هذه المسألة من وجه تعليمي ولا رغبة لهم في جعل
البلاد إنكليزية، بل يودون الاقتصار من تعليم الإنكليزية والفرنساوية على ما تمس
إليه الحاجة ويفيد المصريين أنفسهم، ولا يضلهم الرأي السطحي وهو أن درس
الفرنساوية والإنكليزية يتضمن إيجاد الأميال السياسية؛ لأن هذا الرأي خطأ في
الغالب على ما أرى) .
إلى أن قال:
(ويظهر من آخر إحصاء أن الذين يتعلمون لغات أجنبية في المدارس التي
تحت إدارة نظارة المعارف العمومية هم 5835 ذكورًا وإناثًا، ومن هؤلاء 4984؛
أي: 85 في المائة يتعلمون اللغة الإنكليزية، ولا بد من تعليم هؤلاء بلغة أجنبية،
ومن أسباب ذلك أنه ليس في العربية كتب للتعليم في العلوم التي يتعلمها التلامذة؛
ولكن التوسع فيه وراء هذا الحد غير محمود العاقبة؛ ولذلك أحذر بكل جهدي من
جعل اللغات الأجنبية مما يعلم في الكتاتيب، ويجب أن يبقى التعليم الآن باللغة
العربية وحدها، وخلاصة القول في هذا الموضوع أن اجتهاد الذين يهمهم أمر
التعليم في هذا القطر يجب أن يكون مصروفًا بنوع خاص إلى إصلاح التعليم
الصناعي وتوسيع نطاقه، وإلى تعليم البنات وترقية التعليم الابتدائي بواسطة
الكتاتيب حتى يرتفع مقياس المعرفة في البلاد كلها؛ إذ لا يخفى أن الإحصاء
الأخير دل على 89.5 في المائة من ذكور المصريين، و 99.7 في المائة من
إناثهم لا يعرفون القراءة والكتابة) اهـ.
وأما الثاني فقد قال في خطابه: وها نحن أولاء قد فتحنا باب القرن العشرين
وكيفما تكون النتائج والتقلبات التي تظهر في هذا القرن، فلا خلاف في أنه سيكون
مملوءًا بالحركة العلمية، مفعمًا بأنوار العلوم والمعارف، ومثل الذي يوجد في هذا
القرن بغير تربية مثل الفارس الأعزل في القرون الوسطى التي لم يكن للإنسان فيها
أنفع من سلاحه مدافعًا عن حقوقه، أو حافظًا لكيان وجوده؛ ولذلك أرى أن أحسن
سياسة ترقى بالأمة المحكومة إلى طريق الفلاح هي سياسة تساعدها على حفظ
كيانها بين تيارات المنافسات، وازدحام الأقدام في عالم المباراة، ولهذا ينشرح
صدر كل حاكم في الهند حينما يرى المسلمين فيها من سنيين وشيعيين على حد
سواء آخذين بأهداب العلم في سبيل التعليم والتربية، وأنهم جاوزوا نقطة الابتداء
في وقت تقدمهم به منافسوهم في حلبة هذا السباق، نعم يمكن للمسلمين أن يسابقوا
غيرهم إذا هم تعلموا كيف يسابقون، وهو ما عرفوه مرة قبل هذا الوقت في أيام
كان فيها للمسلمين السطوة والسلطان، وكان قضاتهم يحكمون بالعدل بين الناس،
وفلاسفتهم وأئمتهم يؤلفون الكتب النفيسة، إلا أن طريقة السباق القديمة أصبحت
اليوم متأخرة، ويحتاج الإنسان إلى حركة أخف وأنشط من الأولى، فيلزمكم أن
تذهبوا إلى المدارس، فتُلقنوا عن الأساتذة الماهرين في الصناعة الحديثة كيف
تكون خفة الأقدام، ودقة السيقان اللازمة للمسابقة في مستقبل الأيام، وإنني أعتقد
بناءً على ذلك أن المرحوم السير سيد أحمد خان ومن ساعدوه في هذه النهضة لم
يبرهنا على صدق وطنيتهم وحميتهم فقط، بل برهنوا أيضًا على أنهم نظروا نظرة
سياسية دقيقة، وعرفوا أن الواسطة الوحيدة والعلاج الناجع الذي يعيد للمسلمين
شيئًا من سابق مجدهم هو العلم والتربية، ولو كنت أميرًا من أمراء المسلمين، أو
غنيًّا من أغنيائهم لما أضعت خمس دقائق تمر علي لا أفكر بها في أية وسيلة أفيد
بها أبناء ملتي، وأرقي بواسطتها إخواني المسلمين في هذه الديار، وكنت أحصر
مساعيَّ في التعليم والتربية، أجل في التعليم والتربية لا سواهما.
وكون هذه خطتكم هو مما لا مُشَاحَّةَ فيه كما سمعت اليوم من الخطبة التي
تليت أمامي، فأنتم تقولون فيها أنه لا أمل لكم في إعادة شيء من ماضي مجدكم
وعزكم إلا بضم العلوم العصرية إلى علومكم، حقًّا لقد أصبتم كبد الحقيقة، تمسكوا
بدينكم الذي اجتمعت فيه أصول الرفعة والشرف ومنابع الحقيقة، واجعلوا ذلك
أساسًا لتربيتكم وتعليمكم؛ لأن التربية بغير أساس ديني كبنيان القصور على الهواء،
وإن كان أولاد المدارس الابتدائية والعالية صغار السن لا يدركون معنى هذه
الحقيقة، هكذا تمسكوا بهذا المبدأ وهذه القواعد حتى تجنوا ثمرة شجرة التربية التي
كانت نامية أحسن نمو في الحدائق الشرقية، والآن صارت تنمو في الغربية اهـ
المراد منه، ومما تقدم يعلم أن جُلّ بلاء المسلمين من أنفسهم.
__________(4/266)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هدايا وتقاريظ
(الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية)
كان شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى مجدد علم الدين،
ومحيي السُّنة في أول القرن الثامن للهجرة الشريفة، وكان قد بعد عهد المسلمين
بأخذ أحكام دينهم من الكتاب والسنة، كما كان سلفهم في القرون الثلاثة، فأراد
الرجوع بهم إلى ذلك فألَّف في أهم المسائل كتبًا ورسائل يستمد فيها من ذلك الينبوع
الأعظم، ويذكر أحيانًا خلاف الأئمة المشهورين، ومن أعظم تصانيفه فائدة رسالة
الحسبة، أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي رسالة تبلغ زهاء 100
صفحة، وقد طُبعت في مطبعة المؤيد على أجود ورق، فينبغي أن يطَّلع على هذه
الرسالة كل مسلم؛ لأن ركن الحسبة هو الركن الذي يحفظ سائر الأركان الإسلامية،
وإهمال الأمر والنهي هو الذي أضاع الدين، ولو أقيم لقام عليه بناؤه إلى يوم الدين.
***
(معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول)
وهذه الرسالة للإمام ابن تيمية أيضًا، وهي من أحسن ما كتبه، ومن أحسن ما
خدم به الإسلام، وقد تعرض فيها للرد على الذين حكَّموا أهواءهم في الدين من
الفلاسفة وبعض المتصوفة وغيرهم من الفرق الذين لم يرضهم أخذ الدين ببساطته
التي كان عليها في عهد السلف الصالح رضي الله عنهم، كما أقام الحجة على من لم
يرض الإسلام دينًا بالمرة، فنحث كل مسلم قارئ على مطالعتها.
***
(المظالم المشتركة)
طُبعت رسالة المعارج المنوَّه بها آنفًا في مطبعة المؤيد، وطُبع معها في الذيل
رسالة المظالم المشتركة، أي: التي تُطلب من الشركاء، وقد بين حكمها وكيفية
مراعاة العدل فيها بالنسبة للطالب والمطلوب، ولا يستغني المتدين المبتلى بهذه
المظالم من الاطلاع على هذه الرسالة، والمشتغلون بالعلم الإسلامي أحوج الناس
إلى الوقوف عليها، جزى الله مؤلف هذه الرسائل وناشرها خيرًا.
***
(كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض من رديها
وغشوش المدلسين فيها)
من يطلع على اسم الكتاب أو يسمع به، يظن قبل العلم بمؤلفه أنه من وضع
المتأخرين؛ لأن جهل الأكثرين منا بتاريخ سلفنا يوهمهم أنه لم يكن للتجارة عند
السلف من الشأن ما يحملهم على التأليف فيها؛ ولكن الكتاب من تأليف الشيخ أبي
الفضل جعفر بن علي الدمشقي من علماء القرون المتوسطة، وقد وجد في أحد نسخ
الكتاب أنه تم في سنة 570، والظاهر أن هذا تاريخ تأليفه لا نسخه، وفي الكتاب
فوائد اقتصادية نافعة، ويُعْرَف منه تاريخ التجارة وحالها في تلك الأيام، فنحث
القراء على مطالعته.
***
(السياسة الشرعية في حقوق الراعي وسعادة الرعية)
كتاب وجيز ألفه بالتركية العلامة الشهير جمال الدين أفندي قاضي مصر
السابق تغمده الله برحمته، ونشره بالعربية بإذن الورثة الأديب الملقب بأصمعي،
والكتاب مشتمل على مسائل نافعة، ومباحث مفيدة في مشروعية السياسة، وأداء
الأمانة، واختيار العمال، والاستشارة، والقضاء، والإمارات والمصالح المرسلة،
ويتلو هذا فصل في الحقوق العمومية، يتكلم فيه عن الحبس والعقوبات والعمل
بالقرائن وبالفراسة، وأقسام المتهمين وعن الرشوة والسعاية، ويتكلم في فصل آخر
عن شروط الإمامة، وفي فصل آخر عن المشورة وتنظيمات أوربا، وفي فصل
آخر عن العدل والظلم، وفي فصل آخر عن الولايات والوزارات والحرب، وفي
فصل آخر عن الفضائل والرذائل، وفي فصل آخر عن تأثير الدين في الأخلاق،
ويلي ذلك فصول في الوعظ، وفي الإنسان، وفي السياسة، وفي طبائع البشر،
وفي أسباب ضعف الحكومات الإسلامية وانحطاطها، وفي الخلفاء الأمويين
والعباسيين والفاطميين، وفصل فيما أنتج اختلاف العلماء على الأمة وعدم
اجتماعهم على مصلحتها وما فيه نجاحها.
ومما نذكره مع الشكر لله تعالى، ثم للمؤلف أن في الكتاب اقتباسًا كثيرًا من
مجلتنا المنار، لا سيما في هذه الفصول الأخيرة؛ فإن معظمها مأخوذ بحذافيره من
مجلد السنة الأولى، وحسبنا حجة على المقلدين والموسوسين أن مثل هذا العالم
الكبير موافق لنا في رأينا، لا سيما في العلماء واختلافهم وعدم تكاتفهم على ما ينفع
الملة والدين، والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا في مطبة دار الترقي العامرة، وثمنه
خمسة قروش أميرية، وهو ثمن بخس، ويباع في مكتبة الترقي ومكتبة الشعب في
شارع محمد علي وغيرهما.
***
(فصل الخطاب في المرأة والحجاب)
مصنف جديد ظهر في هذه الأيام لحضرة الفاضل محمد طلعت بك حرب،
وضعه للرد على كتاب (المرأة الجديدة) كما ألَّف كتاب (تربية المرأة والحجاب)
للرد على كتاب (تحرير المرأة) ، وقد سلك في هذا المصنف مسلك الإلزام،
فعرَّب بعض ما كان كتبه الفاضل قاسم بك أمين في المدافعة عن الحجاب ردًّا على
الدوق داركور الفرنسوي، واحتج من جهة الدين برسالة الاحتجاب التي ألفها قاضي
مصر السابق، ثم بجملة من شرح نهج البلاغة لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية، ثم بنبذ من ثلاثة أجزاء من المنار.
وبعد أن ذكر حكم المنار بغلو قاسم بك أمين في مسألة الحجاب واعتذاره عنه
بأنه إفراط في مقابلة التفريط في التشدد بالحجاب، حتى جعل مانعًا من العلم، وأن
غرضه الرجوع إلى الاعتدال وقوله - أي المنار -: فإذا انتهت هذه المناقشات
بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، قال:
(هذا ما قاله حضرة صاحب المنار، وهو أحسن اعتذار يقدم من صديق لصديقه بما
ربما لم يكن في الحسبان، أو يخطر له على بال، فما داعية التحير والاختباط إذن
والمسألة بسيطة قد حلها أئمة الدين، والمغترفون من بحرهم - حتى الذين يقدِّس
رأيهم محرر المرأة - أعظم حل وأسهله) .
ثم أورد من مؤلف قاسم بك في الرد على الدوق داركور نبذًا في فضائل
الحجاب ومحاسنه وضرر التبرج والتهتك لم يأت بمثلها أحد ممن رد على كتابيه،
وفيها من التأثير في التنفير عما عليه نساء الإفرنج، والترغيب في الصيانة والعفاف
المقرونين بالحجاب، ما لم يوجد ما يقاربه في كلام مناقشيه، فدلنا هذا على أن
قاسمًا من أعلم الناس بمنافع الحجاب الشرعي، وبمضار الغلو فيه، وأنه يخاطب
كل قوم غلوا في طرف بالمبالغة في الطرف الآخر، فلما رأى الإفرنج يذمون
الإسلام والمسلمين لأجل الحجاب ألف كتابًا في منافعه بلغتهم ألقمهم فيه الحجر، ولم
يشرح فيه ما يعتقده من مبالغة المسلمين فيه، وجعلهم الجهل ضربة لازب على
النساء لأجله؛ ولكنه بيَّن هذا وبالغ فيه، بل تغالى للمسلمين ولم يذكر لهم شيئًا من
منافع الحجاب التي يعلمها ليرجعهم إلى الحد الوسط وهو الحجاب الشرعي الذي
يقطع السبيل على الفساق الذين يجنون على العفة في الخلوات، ويهتكون حرمة
الصيانة من وراء الأستار، ولا يقطع على النساء طريق التربية والتعليم اللذين
يصلن بهما إلى الكمال الممكن لهن، والاستقلال في شؤون الحياة، وبهذا تبين أن
اعتذارنا، بل بياننا قد أصاب كبد الحقيقة.
والقول الفصل: إنه يجب العناية بتربية النساء وتعليمهن، وإننا في التربية
النفسية أحوج، وإن أفضل سجايا النفس - لا سيما في النساء - العفة والصيانة،
وإنه لا يتم ذلك إلا بالتربية الدينية، وإن التربية قوامها وملاكها القدوة بالمعاشرة،
فإذا كان من يُراد تربيته يعاشر فاسدي الآداب والأخلاق يتربى على مثل ما هم عليه،
وإن أكثر بلادنا مبتلون بهذا الفساد نساءً ورجالاً، والنتيجة الصحيحة أنه يجب
حجب البنات اللائي يُراد تربيتهن عن النساء بقدر الإمكان، فما بالك بالرجال،
ومتى عمت التربية الصحيحة، أو غُلِّبت يكون لها حكم آخر، فليعمل لكل وقت ما
يصلح له العاملون {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 3) .
***
(رحلة الصيف)
تشرف بالسفر مع حاشية الجناب العالي الخديوي إلى أوروبا في العام الماضي
صديقنا الأديب الفاضل عزتلو لبيب بك البتنوني، وقد زار كثيرًا من العواصم
الشهيرة، وطاف كثيرًا من المعاهد، وشاهد أبدع المشاهد، وكتب فيما رآه واختبره
بنفسه رحلة مطولة أودعها من فنون الفوائد وصنوف الاعتبارات ولطائف الفكاهات
ما تصبو إليه كل نفس، ويود الاطلاع عليه السياسي والاجتماعي والعالم والأديب
والمؤرخ، وطبعها طبعًا متقنًا على ورق جيد، وأهدى نسخها إلى فقراء المسلمين
بتقديمها إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، فنحث أهل الفضل على مطالعتها لما فيها
من الفوائد التي يحن إليها كل ذي فضل، ونحث أهل الغيرة الإسلامية على اقتنائها
لما في ذلك من المساعدة على البر والإحسان، وهي تُباع في مكتبة الجمعية في قبة
الغوري، وفي جميع المكاتب الشهيرة، وسنتحف القراء ببعض فوائدها في جزء
آخر.
__________(4/272)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نوادر البخلاء
ذكَّرتنا مقالة السخاء والبخل بأن نورد بعض نوادر البخلاء على سبيل الفكاهة
والعبرة فنقول:
كان بالبصرة رجل موسر، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة ببيض [1] ،
فأكل منه فأكثر، وجعل يشرب الماء، فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل
يتلوَّى، فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب، فقال: لا بأس عليك تقيأ ما أكلت.
فقال: هَاهْ، أتقيأ طباهجة ببيض؟ الموت ولا ذلك.
وأقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس
الأعرابي، فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئًا؟ قال: نعم. فقرأ (والزيتون
وطور سنين) فقال: وأين التين؟ قال: هو تحت كسائك.
ودعا بعضهم أخًا له ولم يُطْعِمَه شيئًا، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه،
وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود، وقال: بحياتي أي صوت تشتهي أن
أسمعك؟ قال: صوت المِقْلَى [2] .
ويُحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل
نسيب له كان يعرفه عنه وقال له قائل: صف مائدته. فقال: هي فِتْر في فتر،
وصحافه منقورة من حب الخشخاش. قيل فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون.
قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب. فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به
وثوبك مخرق. قال: أنا والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها، ولو ملك محمد بيتًا من
بغداد إلى النوبة مملوءًا إبرًا، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه
السلام يطلبون منه إبرة، ويسألونه إعارتهم إياها ليخيطوا بها قميص يوسف الذي
قُدَّ من دبر ما فعل.
ويقال: كان مروان بن أبي حفصة [3] لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم إليه [4] ،
فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأسًا فأكله، فقيل له: نراك لا تأكل إلا
الرؤوس في الصيف والشتاء، فلم تختار ذلك؟ قال: نعم الرأس أعرف سعره فآمن
خيانة الغلام، ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل
منه إن مس عينًا أو أذنًا أو خدًّا وقفت على ذلك، وآكل منه ألوانًا؛ عينه لونًا، وأذنه
لونًا ولسانه لونًا، وغلصمته [5] لونًا، ودماغه لونًا، وأكفى مؤنة طبخه، فقد
اجتمعت لي فيه مرافق.
وخرج يومًا يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن
رجعت بالجائزة؟ فقال: إن أُعطيت مائة ألف أعطيتك درهمًا، فأُعطي ستين ألفًا،
فأعطاها أربعة دوانق.
واشترى مرة لحمًا بدرهم، فدعاه صديق له فرَدَّ اللحم إلى القصَّاب بنقصان
دانق، وقال: أكره الإسراف.
وكان للأعمش جار، وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت
فأكلت كسرة وملحًا [6] ، فيأبى عليه الأعمش، فعرض عليه ذات يوم، فوافق جوع
الأعمش، فقال: سر بنا. فدخل منزله، فقرب إليه كسرة وملحًا، فجاء سائل فقال
له رب المنزل: بورك فيك. فأعاد عليه المسألة، فقال له: بورك فيك. فلما سأل
الثالثة قال له: اذهب وإلا والله خرجت إليك بالعصا، قال: فناداه الأعمش، فقال:
اذهب ويحك، فلا والله ما رأيت أحدًا أصدق مواعيد منه، هو منذ مدة يدعوني على
كسرة وملح، فلا والله ما زادني عليهما.
__________
(1) الطباهجة: اللحم يجعل قطعًا، ويشوى في الطنجير بأي دهن، فإذا طُبخ في الماء، ثم قلي سمي (قلية) .
(2) المِقْلَى: معروفة ويريد بصوتها قلي اللحم لإطعامه.
(3) هو الذي ذكرناه في مقالة السخاء والبخل، وسيأتي ذكر رده اللحم قريبًا.
(4) قرم: اشتدت شهوته إلى أكل اللحم.
(5) الغلصمة: رأس الحلقوم.
(6) كانت هذه الكلمة تقال في الدعوة إلى الطعام ويذكر بدلها الآن (الشوربا) أو القهوة.(4/277)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية ندوة العلماء في الهند
حيَّا الله تعالى علماء الهند أحسن تحية، وأيد بسعيهم هذه الملة الإسلامية،
ووفق سائر علماء المسلمين لمثل ما وفَّقهم إليه من تأليف الجمعيات للبحث في
شؤون المسلمين، وتلافي ما نزل بهم من البلاء المبين، فقد سبقوا للدخول في
كثير من الجمعيات الإسلامية، ثم ألَّفوا جمعية خاصة بهم سموها ندوة العلماء، وقد
احتفلت في شهر رجب الماضي احتفالها السنوي في مدينة لاهور، ومن أهم ما بحثت
فيه تعيين جمعية مخصوصة لتأليف كتب نافعة في علم الموجودات على الطريقة
الحديثة، وفي الرد على فلاسفة هذا العصر فيما يخالفون فيه الإسلام، وقد أرسل
إلينا أحد العلماء الفضلاء كراسة مطبوعة باللغة الأوردية في شؤون الاحتفال
لم نظفر بمن يترجمها لنا.
وسنذكر في الجزء الآتي خطبة لأحد أصدقائنا من علماء بمبي تُليت في
الاحتفال.
__________(4/279)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الطاعون في الكاب والمسلمون
كُتب إلينا من الكاب أن الطاعون قد فتك بالناس فتكًا ذريعًا، لا سيما في
الجهة الجنوبية، وأن رجال الصحة من الإنكليز قد أساءوا معاملة المسلمين،
وصاروا يدمرون على بيوتهم لأخذ المرضى بالقوة، ويأخذون عن كل مريض 30
أو 40 جنيهًا، ويحرقون جميع متاع البيت حتى الكراسي، ويمنعونهم من تجهيز
الموتى ودفنهم على الطريقة الإسلامية، وقد أُرسل إلينا قطعة من جريدة إنكليزية
ملخص ما فيها أنه اجتمعت لجنة من المسلمين والإنكليز للبحث في ذلك رئيسها
المسلم الحاج محمد طالب، وأن اللجنة أقرت الحكومة الإنكليزية على عملها بأنه
غير مخالف للدين؛ ولكن المسلمين هناك ناقمون على محمد طالب هذا، وكتب
إلينا أنه احتج على جواز شق بطون المسلمين بأن جبريل شق بطن النبي صلى الله
عليه وسلم، فإن كان هذا صحيحًا فالرجل مجنون لا يعول على قوله، والظاهر أن
سبب الشكوى هو سوء معاملة صغار المأمورين للمسلمين، فعسى أن يلتفت كبارهم
إلى تلافي ذلك.
سكتنا عن (شبهات المسيحيين) ؛ لأن السائل جاءنا وأقنعناه بالقول.
__________(4/280)
غرة ربيع الأول - 1319هـ
18 يونيو - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد
الاجتهاد والوحدة الإسلامية
علمنا من آخر المحاورة السابعة أن الشيخ المقلد ذهب قبل إتمام الحديث
لموعد كان بينه وبين آخر، وقال إنه يعود في الغد؛ ولكنه أبطأ وجاء بعد أيام
يصحبه شيخ آخر فاعتذر عن الإبطاء وقال:
المقلد: إن هذا الأستاذ - وذكر اسمه - صديقي منذ أيام المجاورة في الأزهر
وهو قاضي بلدنا الشرعي الآن، ولما جئت البلد في فرصة العيد ذكرت له ما دار
بيننا، فتمنى لو كان في القاهرة وشاركنا في المناظرة والبحث، وقد حضر في هذه
الأيام بإجازة، فجئت به عالمًا أن سَتُسَرُّ بمعرفته، ولا أقصد أن يساعدني عليك
لاحتمال أن يوافقك؛ فإنه حرّ في فكره ورأيته موافقًا لك في بعض ما نقلته له عنك
في مباحث الجمل والاستدلال بالحروف والإشارات.
المصلح: أهلاً وسهلا لقد شرفنا الأستاذ - وصافحه ثانيًا - وإنني أحب أن
يساعدنا في هذه المذاكرة على تحقيق الحق الذي هو ضالتنا المنشودة، وليس لأحد
منا حظ دنيوي في رأيه يخاف فواته إذا ظهر له بطلان الرأي، على أن المجتهد الذي
يتبع الدليل أينما ظهر ويأخذ الحكمة حيث وجدها لا يزداد بالمباحثة ومراجعة
المراجعين إلا نورًا على نور، وأما المقلد الذي يجني دائمًا على نور الفطرة الإلهية
التي من مقتضاها النظر والفكر والاستدلال ويحاول إطفاءه بما يلقيه عليه من رماد
التقليد تعظيمًا لأسماء من ينسب إليهم ذلك الرماد، فهو الذي يخاف المناظرين
وَيَفْرَقُ من المباحثين؛ لأنهم يمدون نور الفطرة بنور البرهان، فتتضاعف الأنوار
حتى يعشيه تألقها ويكاد يخطف بصره شعاعها، ويرى نفسه في عجز عن إطفائها،
وتتولاه الحيرة وتحيط به الغمة، وكيف حال من فقد السكينة والاطمئنان وجعل
خصمه السنة والقرآن.
المقلد: دعنا من التعريض والتلويح، بل من هذا التشنيع الصريح، فها أنا
ذا أناظرك بالدليل، لا بالقال والقيل، قررت أن الواجب على المسلمين بالنسبة
للأحكام العملية هو الأخذ بما أجمع عليه أهل الإسلام، وأنهم على التخيير فما
اختلف فيه يعمل كل أحد بما يرجح عنده ... إلخ، فما تقول فيمن عرض له شيء
من ذلك وهو عامي لا يعرف الأقوال فيتخير فيها، ألا يجب عليه أن يسأل العلماء
ويأخذ بأقوالهم؟ سكتَّ عن هذه المسألة؛ لأنها حجة عليك في جواز التقليد.
المصلح: يمكن لهذا العامي أن يتبع سبيل عامة أهل الصدر الأول، فقد كان
من تعرض له مسألة لا يعرف حكم الله فيها يسأل من يظن أن عنده فيها شيئًا من
كتاب أو سنة، لا أنه يسأله عن رأيه الشخصي ويأخذ به من غير معرفة دليله
فيكون مقلدًا، ومثل هذا السؤال كان يقع من الخاصة أيضًا والمسئول فيه راوٍ، أو
منبه على مأخذ الحكم ووجه استنباطه، ولو كان كل سائل مقلدًا، وكل مسئول إمامًا
متبعًا لذاته لكان كل مجتهد مقلدًا، وكثير من الجاهلين أئمة ولا يقول بهذا أحد.
الزائر أو المقلد الثاني أو المناظر الثالث: على هذا يكون استدلال الأصوليين
بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) على
وجوب التقليد على العاجز عن الاجتهاد غير سديد.
المصلح: لا شك أنه استدلال عقيم لوجوه، منها أن السبب الخاص الذي
نزلت فيه الآية الكريمة لا يصح فيه التقليد، فتكون أمرًا به وإنما هي إزالة شبهة
بالتنبيه إلى أمر مقرر عندهم، وذلك أن مشركي العرب كانوا يقولون ما قص الله
عنهم بقوله: {إِنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ
لَغَافِلِينَ} (الأنعام: 156) وقوله:] لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [
أي لأننا أزكى فطرة، وأذكى فهمًا، وأقوى عزيمة، فلما نزل عليهم الكتاب كان من
شبههم على من نزل عليه صلى الله عليه وسلم أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في
الأسواق، وأنه رجل مثلهم والآيات الحاكية هذا عنهم معروفة، فأجابهم عن هذه
الشبهة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن
كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7) يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب هل كان الأنبياء
ملائكة أم رجالاً من البشر، وكون الأنبياء رجالاً أمر مجمع عليه عند أهل الكتاب،
ومنقول بالتواتر حتى عند غيرهم، فالسؤال عنه ليس أخذًا برأي من غير دليل فيكون
تقليدًا، ومنها: أن هذه المسألة اعتقادية لا عملية، وأنتم لا تقولون بوجوب التقليد في
أصول الإيمان؛ لأن المقلد لا يكون موقنًا ومن لا يقين له لا إيمان له؛ لأن الظن لا
يغني من الحق شيئًا في هذا المقام، ولو كان الآخذ بقول غيره في عقائد دينه وأصوله
معذورًا عند الله تعالى لكان جميع أهل الأديان معذورين وناجين، ولما وجب النظر في
دعوة نبي من الأنبياء إلا على المجتهدين، فإذا ظهر النبي في طور لجأت فيه الأمة
كلها إلى التقليد كما تحكمون أنتم وفقهاؤكم على هذه الأمة الإسلامية، تكون الأمة كلها
معذورة عند الله تعالى في رفض دعوته وعدم النظر فيها وهل يقول بهذا إلا مجنون.
المقلد: إنني سلَّمت لك من قبل أن التقليد في العقائد غير جائز.
المصلح: وأنا بينت لك أن فهم الأحكام أسهل من فهم العقائد.
الثالث: إن فرقًا بين المقلد في الكفر، وبين المقلد في الحق، فالثاني يعذره
الله تعالى؛ لأنه وافق الحق دون الأول.
المصلح: إن الله تعالى هو الحكم العدل القائم بالقسط، فإذا أمر بمقلدي
الوثنيين مثلاً إلى النار، وبمقلدي المسلمين إلى الجنة، وسأل الوثنيون مساواتهم
بأمثالهم من مقلدي المسلمين؛ لأن كلاًّ منهم غير مكلف بالنظر لمعرفة الحق، ألا
يكون طلبهم هذا عادلاً يتنزه الله تعالى عن منعهم إياه؟
الثالث: إنه تعالى {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .
المصلح: معنى الآية الكريمة أنه ليس لأحد سلطان على الله تعالى، فيحاسبه
على أفعاله، بل هو صاحب السلطان الأكبر القائم على كل نفس بما كسبت، وليس
معناها أنه لا يعدل بين عباده فيما هم فيه سواء، وما أنبأنا الله تعالى بتبرؤ الأتباع
من المتبوعين والمرءوسين من الرؤساء في يوم القيامة، إلا ليكون ذلك عبرة لنا
وآية على أنه لا يعذر أحدًا باتِّباع من لم يأمره باتِّباعه، والآيات في هذا كثيرة
كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ
اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 166-167)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
الثالث: أتقول إن هذه الملايين من المسلمين المقلدين خالدون في النار، وأنهم
كالوثنيين سواء؟
المصلح: لا أقول هذا؛ ولكنني أقول: إن دعوة الإسلام لم تبلغهم كاملة،
فيجب تبليغهم إياها بالقرآن الكريم الذي بَلَّغ به النبي صلى الله عليه وسلم من قبلهم
من أولئك السلف الكرام، ومن اهتدى بهديهم الذين شادوا لنا ذلك المجد الكبير
بإرشاد القرآن وأضعناه بالإعراض عن القرآن احتجاجًا بتقليد فلان وفلان الذين
يتبرءون منا يوم القيامة قائلاً كل منهم كما يقول عيسى بن مريم عليه السلام: {مَا
قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: 117) وسأورد بعض ما يؤثر عنهم في
النهي عن الأخذ بقولهم حتى في الفروع من غير معرفة دليلهم والاقتناع به، وعن
تقديم كلامهم على الحديث النبوي - بله القرآن العظيم - وما يؤثر أيضًا عن أكابر
العلماء الأعلام من بعدهم، وأرجو أن يكون في ذلك مقنع لكم فإنكم ألفتم الأخذ بكلام
الناس دون كلام الله ورسوله.
الثالث: ونحن يمكننا أن نورد لك من كلامهم، بل ما نقل فيه الإجماع ما
يقتضي القول بالتقليد، وهو منع التلفيق؛ فإن التلفيق لازم للتقليد، وقد نقل في
الدر المختار الإجماع على بطلانه، فأورد لنا قولاً بالإجماع على منع التقليد في
الفروع.
المقلد للثالث: إنه لم يتم كلامه الأول فيما يجب الأخذ به لأجل الوحدة
الإسلامية، فقد بقي عليه الكلام في قسم المعاملات الدنيوية والأحكام القضائية؛
وإنما مناقشتنا معه الآن في العبادات، وإن في كلامه قوة والحق يقال؛ ولكنه
يحتمل النقض والمعارضة، والمصيبة فينا أننا لم يسبق لنا بحث كثير في هذه
المواضيع لنستحضر النصوص فيها، وما كنت أظن أن مثله يشتغل بهذه المسائل،
فقد حضرت مجلسًا ضم جماعة من أكابر مشايخنا، وذكر فيه الذين يتكلمون في
الإصلاح، فرأيتهم متفقين على أن الذين يتكلمون في الإصلاح كلهم جاهلون بالدين
وغير مطلعين على علومه ولا متمسكين بأعماله، ولولا أنني اختبرت هذا الشاب
وألفيته متمسكًا بالدين أشد التمسك، محافظًا على الصلوات أتم المحافظة - لما
جاريته وقصدت سبر غوره، ولما احتملت منه ما احتملت من التهكم بالمقلدين
والإزراء بهم تلويحًا وتصريحًا مع أنني أعلم أنه يعتدني منهم؛ ولكنني أستغرب
كيف لم يهتد أحد من علماء الملة إلى هذا الرأي - إزالة الخلاف بالأخذ بالقرآن
والسنة العملية المتفق عليها - في كل هذه القرون، فهل علم صاحبنا ما جهله العلماء
بعد حدوث المذاهب، وهو زمن يزيد على ألف سنة؟
المصلح: أستحيي أن أعود إلى التشنيع على التقليد بعد الذي ذكرت من
التبرم من ذلك، وإن كنت أشاهد مصائبه تترشح من كل كلمة يقولها المقلد الذي
بطلت ثقته بفهمه وعقله، وما أحب أن أعتدك مقلدًا بحتًا بعدما عاهدتني على الأخذ
بالدليل، كيف صح لك الحكم بأنه لم يقل أحد من علماء الأمة بوجوب إزالة الخلاف
من المسلمين وإرجاعهم إلى ما يرشد إليه القرآن من الوحدة، والأخذ بالمتفق عليه،
وهل استقريت كل ما قاله العلماء الأعلام في كل فن من الفنون؟ إن هذا إلا كحكم
شيوخك بأن جميع المتكلمين بُعَداء عن الدين علمًا وعملاً.
هذا حجة الإسلام وعلم الأعلام الإمام الغزالي كان أعلم علماء التقليد وأقواهم
عارضة في الدفاع عن مذهب الشافعي وله في الخلاف مصنفات، وبعد أن بلغ
الكمال في الفروع والأصول والمعقول والمنقول، اهتدى إلى هذا الرأي فمهَّد له
بالإنحاء على العلماء المختلفين باللوم والتعنيف في كتابه (إحياء علوم الدين)
وسماهم علماء السوء، ثم صرح برأيه في كتابه (القسطاس المستقيم) وقد وقع
في يدي أمس فكان أول ما قرأته فيه هذا الموضوع، والكتاب موضوع في مناظرة
جرت بين الإمام وبين رجل من الباطنية الذين يقولون لا بد من إمام معصوم يتبع
في كل عصر.
المقلد الأول والثالث معًا: هل يوجد عندك هذا الكتاب هنا فتُسمعنا ذلك؟
المصلح: نعم، وأخذ كتابًا صغيرًا، وقرأ من أواخره ما يأتي:
القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات
فقال - أي مناظر الإمام الغزالي - كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟
قلت: إن أصغوا إليَّ رفعت الاختلاف بينهم بكتاب الله تعالى؛ ولكن لا حيلة في
إصغائهم؛ فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي
وكيف يجتمعون على الإصغاء وقد حُكم عليهم في الأزل بأنهم {لاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) وكون الخلاف
بينهم ضروريًّا تعرفه من كتاب (جواب مفصل الخلاف) وهو الفصول الاثنى
عشر، فقال: فلو أصغوا إليك كيف كنت تفعل؟
قلت: كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب الله تعالى إذ قال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: 25) الآية، وإنما
أنزل هذه الثلاث لأن الناس ثلاثة أصناف: عوام وهم أهل السلامة البله وهم
أهل الجنة، وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة، ويتولد بينهم طائفة هم أهل الجدل
والشغب، فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة.
أما الخواصّ فإني أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها،
فيرتفع الخلاف بينهم على قرب، وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال (إحداها)
القريحة النافذة والفطنة القوية، وهذه عطية فطرية وغريزة جِبِلية لا يمكن كسبها،
و (الثانية) خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث مسموع - والتفت إلى
المقلدين قائلاً: انظرا كيف حكم حكمًا مطلقًا بأن خواص الناس لا يقلدون أحدًا - ثم
قرأ: فإن المقلد لا يصغي، والبليد وإن أصغى فلا يفهم (الثالثة) : أن يعتقد أني من
أهل البصيرة بالميزان، ومن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب لا يمكنه أن يتعلمه منك.
(والصنف الثاني البله وهم جميع العوام) وهؤلاء هم الذين لهم فطنة لفهم
الحقائق وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب، بل شغلتهم الصناعات
والحِرَف، وليس فيهم أيضًا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور
الفهم عنه، فهؤلاء لا يختلفون ولا يتخيرون بين الأئمة المختلفين، فأدعو هؤلاء
إلى الله بالموعظة، كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة، وأدعو أهل الشغب بالمجادلة
وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك أولاً، فأقول
لهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي جاءه فقال علمني من غرائب
العلم، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس أهلاً لذلك فقال: (وماذا عملت
في رأس العلم) أي الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة (اذهب فأَحكِم رأس العلم،
ثم ارجع لأعلمك من غرائبه) فأقول للعامي: ليس الخوض في الاختلافات من عشك
فادرج فإياك أن تخوض فيه , أو تصغي إليه فتهلك، فإنك إذا صرفت عمرك في
صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة، وقد صرفت عمرك في غير العلم , فكيف
تكون من أهل العلم، ومن أهل الخوض فيه؟! فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك فكل
كبيرة تجري على العامي أهون عليه من الخوض في العلم، فيكفر من حيث لا
يدري [1] .
(فإن قال: لا بد من دين أعتقده وأعمل به لأصل إلى المغفرة والناس
مختلفون في الأديان فبأي دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له: للدين
أصول وفروع والاختلاف إنما يقع فيهما، أما الأصول فليس عليك أن تعتقد فيها إلا
ما في القرآن؛ فإن الله لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه، فعليك أن تعتقد أن لا
إله إلى الله، وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله
شيء.. إلى جميع ما ورد في القرآن واتفق عليه الأئمة، فذلك كافٍ في صحة الدين
وإن تشابه عليك شيء فقل {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) واعتقد
كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة،
واعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال؛ فإنك غير
مأمور به ولا هو على حد طاقتك، فإن أخذ يتحذلق ويقول: قد علمت أنه عالم من
القرآن؛ ولكني لا أعلم أنه عالم بالذات أو بعلم زائد عليه، وقد اختلف فيه
الأشعرية والمعتزلة - فقد خرج بهذا عن حد العوام، إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل
هذا ما لم يحركه شيطان الجدل؛ فإن الله لا يهلك قومًا إلا يؤتيهم الجدل، كذلك ورد
الخبر [2] ، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم.
(هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله (قال المصلح:
ولا تنسيا أن كلامه في العوام) فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد وهؤلاء أهل
الحوالة على الكتاب، وأما الفروع فأقول: لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ
من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع،
وأن الكسب الحرام والمال الحرام والنميمة والزنا والسرقة والخيانة وغير ذلك من
المحظورات حرام والفرائض كلها واجبة، فإن فرغت من جميعها علمتك طريق
الخلاص من الخلاف، فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا فهو جدلي وليس
بعامي، ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف؟ أفرأيت رفقاءك قد
فرغوا من جميع هذه ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم؟ هيهات ما أُشبِّه ضعف
عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف به على الموت وله علاج
متفق عليه بين الأطباء وهو يقول: قد اختلف الأطباء في بعض الأدوية أنها حارة
أو باردة، وربما افتقرت إليه يومًا فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع
الخلاف فيه.
نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها، وقال ها أنذا تشكل عليَّ
مسائل: فإني لا أدري أتوضأ من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم بالليل
في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك - فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق
الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط، وخذ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ من كل ما فيه
خلاف وانو الصوم بالليل في رمضان؛ فإن من لا يوجبه يستحبه، فإن قال: هو
ذا يثقل علي الاحتياط ويعرض لي مسائل تدور بين النفي والإثبات، وقال: لا
أدري أأقنت في الصبح أم لا، وأجهر بالتسمية أم لا؟ فأقول له: الآن اجتهد مع
نفسك، وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل عندك وصوابه أغلب على قلبك، كما لو كنت
مريضًا وفي البلد أطباء؛ فإنك تختار بعض الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك،
فيكفيك مثل ذلك الاجتهاد في أمر دينك فمن غلب على ظنك أنه الأفضل، فاتبعه
فإن أصاب فيما قال عند الله فله في ذلك أجران، وإن أخطأ فله عند الله أجر واحد،
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من اجتهد فأصاب فله أجران
ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) ورد الله الأمر إلى أهل الاجتهاد فقال تعالى:
{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وارتضى الاجتهاد لأهله إذ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم
تجد، قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد
رأيي) قال ذلك قبل أن أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فيه.
وهنا التفت المصلح إلى المقلد وقال: أرأيت كيف وافق فهمي في الحديث فهم
الإمام الغزالي، إلا أنني خصصته بالأحكام القضائية دون الأمور التعبدية كما هو
ظاهر اللفظ، والغزالي عممه وسنعود إلى ذلك.
ثم مضى في القراءة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي وفق
رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله) ففهم من ذلك أنه مرضي من رسول الله
صلى الله عليه وسلم لمعاذ وغيره، كما قال الأعرابي: إني هلكت وأهلكت: واقعت
أهلي في رمضان، فقال: (أعتق رقبة) ففهم أن التركي والهندي لو جامع أيضًا
لزمه الإعتاق.
وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله؛ فإن ذلك غير مقدور عليه ولا
تكليف بما لا يطاق، بل كلفوا بما يظنونه صوابًا، كما لم يُكلَّفوا الصلاة بثوب طاهر
بل بثوب يظنون أنه طاهر، فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم القضاء إذ نزع رسول
الله صلى الله عليه وسلم نعله في أثناء الصلاة لما أنبأه جبريل أن عليه قذرًا ولم يُعِدْ
الصلاة ولم يستأنف، وكذلك لم يكلف أن يصلي إلى القبلة، بل إلى جهة يظن أنها
القبلة بالاستدلال بالجبال والكواكب والشمس، فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر
واحد، ولم يُكلَّفوا أداء الزكاة إلى الفقير، بل إلى من ظنوا فقره؛ لأن ذلك لا
يعرف باطنه، ولم يكلف القضاة في سفك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون
صدقهم بل من يظنون صدقه، وإذا جاز سفك دم بظن يحتمل الخطأ، وهو ظن
صدق الشهود، فلم لا تجوز الصلاة بظن شهادة الأدلة عند الاجتهاد.
وليت شعري ماذا يقول رفقاؤك في هذا؟ يقولون: إذا اشتبهت عليه القبلة
يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله، أو يكلفه الإصابة التي لا يطيقها أو
يقول اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد، إذ لا يعرف أدلة القبلة وكيفية الاستدلال
بالكواكب والجبال والرياح، قال: لا أشك في أنه يأذن له في الاجتهاد، ثم لا
يؤثمه إذ بذل كنه مجهوده وإن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة، قلت: فإذا كان من
جعل القبلة خلفه معذورًا مأجورًا فلا يبعد أن يكون من أخطأ في سائر الاجتهادات
معذورًا، فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون: بعضهم مصيبون ما عند الله،
وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين، فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن
يتعاندوا وأن يتعصب بعضهم مع بعض، لا سيما والمصيب لا يتعين وكل واحد
منهم يظن أنه مصيب كما لو كان اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في الاجتهاد
فحقهما أن يصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي غلبت على ظنه، وأن يكف إنكاره
وإعراضه واعتراضه على صاحبه؛ لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه، أما
استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه، وكذلك كان معاذ في اليمن يجتهد لا على
اعتقاد أنه لا يُتَصَور منه الخطأ؛ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذورًا، وهذا
لأن الأمور الوضعية الشرعية التي يُتَصَور أن تختلف بها الشرائع يقرب فيها
الشيء من نقيضه بعد كونه مظنونًا في سر الاستبصار، وأما ما لا تتغير فيه
الشرائع فليس فيه اختلاف. وحقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتِّباع السنة، وقد
ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر القرآن.
وأما الصنف الثالث، وهم أهل الجدل فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحق،
وأعني بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم، لكن أرفق وأجادل بالتي هي
أحسن، وكذلك أمر الله تعالى رسوله، ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول
التي يسلمها الجدلي واستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته في
كتاب الاقتصاد في الاعتقاد [3] وإلى ذلك الحد، فإن لم يقنعه ذلك لتشوفه بفطنته إلى
مزيد كشف، رقيته إلى تعليم الموازين، فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه
ولجاجه وعناده عالجته بالحديد؛ فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني
الكتاب ليُفهم منه أن جميع الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث، فالكتاب
للعوام، والميزان للخواص، والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من
الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم، وأنه لا
يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم دون أهل الجدل، وأعني بأهل الجدل طائفة
فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام؛ ولكن قياساتهم ناقصة إذ كانت الفطرة كاملة؛ لكن
في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد، فذلك يمنعهم عن إدراك الحق، وتكون هذه
الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا؛ لكن لم تهلكهم إلا كياستهم
الناقصة؛ فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلاهة بكثير، وفي الخبر
(إن أكثر أهل الجنة البُلْهُ وإن عليين لذوي الألباب) .
ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون في آيات الله، وأولئك أصحاب النار
ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الجدال
بالسيف والسنان كما فعل عمر رضي الله عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين
في كتاب الله تعالى فعلاه بالدرة، وكما قال مالك رضي الله عنه لما سئل عن
الاستواء على العرش، فقال: (الاستواء حق والإيمان به واجب والكيفية مجهولة
والسؤال عنه بدعة) وحسم بذلك باب الجدال، وكذلك فعل السلف كلهم، وفي
فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله تعالى، فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى
الحق، وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور الحق، وذلك بأن أدعو الخواص
إلى الحكمة بتعليم الميزان، حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد
بل على علوم كثيرة؛ فإن من معه ميزان فإنه يعرف به مقادير أعيان لا نهاية لها
كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا
لا نهاية له، ولولا اشتمال القرآن على الموازين لما صح تسمية القرآن نورًا؛ لأن
النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره وهو نعت الميزان، ولَمَا صدق قوله: {وَلاَ
رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59) فإن جميع العلوم غير
موجودة في القرآن بالتصريح، ولكن موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط
التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها، فبهذا أدعو الخواص ودعوت العوام
بالموعظة الحسنة بالإحالة على الكتاب، والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة
لله تعالى، ودعوت أهل الجدل بالمجادلة التي هي أحسن، فمن أبى أعرضت عن
مخاطبته، وكففت شره ببأس السلطان والحديد المُنَزَّل مع الميزان.
فليت شعري الآن يا رفيقي بم يعالج أمامك هؤلاء الأصناف الثلاثة، أيعلم
العوامُ غريبَ العلم فيكلفهم ما لا يفهمون ويخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالمحاجة ولم يقدر على ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع كثرة محاجة الله تعالى في القرآن مع الكفار، فما أعظم قدرة
إمامك إذ صار أقدر من الله تعالى ومن رسوله، أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده،
وهم لا يقبلون قول الرسول صلى الله عيه وسلم بالتقليد، ولا يقنعون بقلب العصا
ثعبانًا، بل يقولون: هو فعل غريب ولكن من أين يلزم منه صدق فاعله، وفي
العالم من غرائب السحر والطلسمات ما تتحير فيه العقول، ولا يقوى على تمييز
المعجزة عن السحر والطلسم إلا من عرف جميعها وجملة أنواعها؛ ليعلم أن المعجز
خارج عنها، كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام إذ كانوا من أئمة
السحرة، ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل إن أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن
يعلموا صدقه من قوله، كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في
قوله: إني حاسب، فهذه هي المعرفة اليقينية التي بها يقنع أولو الألباب وأهل
البصائر ولا يقنعون بغيرها ألبتة، وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول
صلى الله عليه وسلم، وصدق القرآن، وفهموا موازين القرآن كما ذكرت لك،
وأخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب (جواهر القرآن) فمن
أين يحتاجون إلى إمامك المعصوم، وما الذي حل من إشكالات الدين، وعن ماذا
كشف من غوامضه؟ قال الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن
دُونِهِ} (لقمان: 11) وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم، فأرني ماذا
اقتبسته من غوامض العلوم من إمامك إلى الآن، وما الذي يتعلمون منه، وليت شعري
ما الذي تعلمت من إمامك المعصوم أرني ما رأيتها:
ما يسدي بي رتسدي أوف ... خرابن وقلب يارفوت
فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها،
وإني أراكم تدعون الناس إلى الإمام، ثم أرى المستجيب إمامك بعد الاستجابة على
جهله الذي كان قبله لم يحل له الإمام عقدًا، بل ربما عقد له حلاًّ ولم تفده استجابته
له علمًا، بل ربما زاد به طغيانًا وجهلاً، فقال: قد طالت صحبتي مع رفقائي؛
ولكن ما تعلمت منهم شيئًا إلا أنهم يقولون: عليك بمذهب التعليم، وإياك والرأي
والقياس فإنه متعارض مختلف، فقلت: فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم، ثم لا
يشتغلوا بالتعليم، فقل لهم: قد دعوتموني إلى التعليم، فاستجبت فعلموني ما عندكم،
فقال: ما أراهم يزيدونني على هذا شيئًا، فقلت: فإني قائل أيضًا بالتعليم وبالإمام
ويبطلان الرأي والقياس، وأنا أزيدك على هذا - لو أطقت ترك التقليد - تعليم
غرائب العلوم وأسرار القرآن، فأستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها، كما استخرجت
منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى انشعاب العلوم كلها منه في كتاب (جواهر
القرآن) لكني لست أدعو إلى إمام سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى كتاب
سوى القرآن فمنه أستخراج جميع أسرار العلوم وبرهاني على ذلك لساني وبياني،
وعليك إن شككت تجريبي وامتحاني، أفتراني أولى بأن يتعلم مني من رفقائك،
أم لا؟ اهـ.
المقلد والثالث: إن الإمام الغزالي أثبت التقليد، بل أوجبه على العوام، وفي
كلامه بعض إشكالات لم يبق في الوقت سعة للبحث فيها.
المصلح: سنبحث في هذا في مجلس آخر - إن شاء الله تعالى - وافترقوا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) من المصائب أن تفلسف المتكلمين في علم الكلام أخرجهم عن طريق القرآن في تقرير العقائد، وفسد التعليم بذلك حتى صار كل عامي يجادل في الله بغير علم ولا كتاب منير، ويخوض في القدر ويذهب مذهب الجبر ويكون في هذا أكثر جدلاً كلما كان أقرب من الشيوخ في العلم والطريق، فلا هو مجتهد يفهم ولا مقلد يسلم.
(2) وكذلك وقع لهذه الأمة، ما زال يفتك فيها الجدل الذي أثاره الاختلاف حتى جعلها حرضًا.
(3) المنار: كنت أتعجب من وضع كتاب الاقتصاد المذكور على طريقة المتكلمين بعدما وصل
الغزالي إلى الطريقة المثلى حتى رأيت سببه هنا، وهو مجادلة المتكلمين بما ألفوا.(4/281)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة الدينية
(1) مجاور في الأزهر: ما معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ
إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فقد استشكل المفسرون في لام (ليعبدون) إذ لا
يصح أن تكون للتعليل؛ لأن أفعاله تعالى لا تُعلل ولا للغاية لأن أكثرهم لا يعبده،
وذهب بعضهم إلى أنها لام العاقبة والصيرورة وقال: إنه لا يلزم وقوع ما بعدها،
ومثّل لها بأنك إذا قلت بريت القلم لأكتب به ولم تكتب تكون صادقًا، وهذا إذا ظهر
بالنسبة إلى الناس، فليس بظاهر بالنسبة إلى الباري سبحانه وتعالى، وقال
البيضاوي: لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها جعل خلقهم مغيًّا بها
مغالبة في ذلك ولو حُمِلَ على ظاهره، مع أن الدليل يمنعه لنا في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: 179) وقيل معناه
لنأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عبادًا اهـ. ولا تطمئن إليه النفس، فهل عندكم ما
أوضح من ذلك؟ اهـ بتصرف.
(ج) : اللام للغاية حتمًا، والآية حاكية عن طبيعة النوع الإنساني،
وشارحة لترقيه في الشعور الديني الذي أُلهمه بالفطرة، وتاريخ الإنسان يؤيد معناها
ويقاس به النوع الذي سماه الله بالجن؛ لأنه مجتن ومستتر عنا.
الشعور الفطري الذي أودعه الإنسان هو أن في الوجود سلطة وراء الطبيعة
يخضع لها ويعظمها وينيط بها كل حادث لم يقف على سببه، وهذا الخضوع
والتعظيم هو العبادة، وقد كان في أطوار الجهالة يضيف ما لا يعرف سببه إلى
مظهره، ويخضع لذلك المظهر، هذا النوع من الخضوع الذي قلنا إنه يسمى عبادة،
فعبد السحاب لأنه مظهر البرق والرعد والمطر، وعبد الثعابين لأن لها قوة في
الإعدام لم يكن يعرفها، وعبد بعض البشر لأنه ظهر على أيديهم أعمال غريبة لم
يقف على عللها وأسبابها، وكان يرتقي في مجموعه في هذه الاعتقادات تدريجًا،
وغاية ما ينتهي إليه بعد كمال العلم والمعرفة أن يعتقد أن مظاهر الأفعال الخارقة في
نظره أو بالنسبة له ولغيره هي كمظاهر الأفعال العادية مسخرة لقوة غيبية مطلقة
عرفت بآثارها لا بذاتها، وأن صاحب تلك القوة هو الله تعالى الذي لا يستحق
العبادة غيره فيعبده حينئذ وحده.
***
(2) السيد عمر بن مبروك من تونس: عندنا ماجِل [1] في دارنا يجتمع فيه
ماء المطر من السطوح، فنستعمله في العادة والعبادة، وقد وقع فيه فرخ حمام ميت
وكان الوقت صيفًا، والماء فيه قليلاً، فتغير لونه وريحه وتعذر علينا إخراج
الفرخ منه، فتركنا استعماله حتى جاء الشتاء وامتلأ الماجل بالماء وزال التغير من
لونه ورائحته، وعاد زلالاً نقيًّا، فسألنا سادتنا الحنفية عنه فقالوا: لا بد من نزع
ماء الماجل كله، وسألنا سادتنا المالكية فقالوا: لا بد من إخراج الطير أو ما بقي
منه في الماء ليجوز استعماله في العادة والعبادة، وفي ذلك مشقة علينا كبيرة،
ونحن مضطرون لاستعمال هذا الماء، وقد قصدنا مذهب سادتنا الشافعية لعلنا نجد
فيه رحمة فأفيدونا يرحمكم الله.
(ج) : مذهب الشافعية أن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس إلا بتغير طعمه أو
لونه أو ريحه من النجاسة، فلو كان الماء متنجسًا لوقوع نجاسة فيه وهو قليل، ثم
زاد حتى بلغ قلتين يطهر، ولو كان الماء المتجدد متنجسًا أيضًا، بل ولو كان مائعًا
نجس العين، والقلتان خمسمائة رطل بغدادي، وتبلغ بالمساحة نحو ذراعًا وربعًا
مربعًا طولاً وعرضًا وعمقًا، ولا شك أن ماجلكم أوسع من ذلك فهو طاهر حتمًا،
هذا وإن الله تعالى أمرنا بإزالة النجاسة ليطهرنا لا ليعنتنا، وهو يريد بنا اليسر ولا
يريد بنا العسر، وما جعل علينا في الدين من حرج، والنجاسة التي نهينا عنها هي
القاذورات التي تنفر منها الطباع السليمة، فهل يعقل أن ماجلاً عظيمًا وحوضًا
كبيرًا فيه ماء صافٍ نقي لا تغير فيه يحكم عليه بالنجاسة لتدقيق بعض الفقهاء في
الحدود التي وضعوها للاصطلاحات الشرعة، ويلزم لهذا التدقيق إعنات أهل بيت
من المسلمين وإيقاعهم في الحرج والعسر اللذين نفاهما الله تعالى؟
***
(3) الشيخ أحمد محمد الألفي من طوخ القراموص: ما الفرق بين العهد
الذي لقنه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات، وبين العهد الذي تناقله
أهل الطريق بالأسانيد الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أليسوا من
المؤمنين والمؤمنات حتى يفرق بينهم وبين غيرهم؟ وما هو دليل الخصوصية في
عمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ وهل لا تُعتبر هذه الأسانيد الصحيحة حجة
في النقل؟ اهـ بنصه.
(ج) : إن مبايعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات
التي ذكرناها في جواب سؤالكم الرابع من الأسئلة المنشورة في الجزء الثالث ليست
تلقين عهد كالعهد المعروف الآن بين أهل الطريق، أما مبايعة المؤمنين المشار إليها
في سورة الفتح، فهي أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لعمرة
الحديبية وصدَّه المشركون، وأرسل إليهم عثمان بن عفان إلى مكة يخبرهم أنهم
جاءوا عُمَّارًا لا مقاتلين، وشاع أنهم قتلوه عزم النبي عليه الصلاة والسلام على
مقاتلة القوم، وبايع أصحابه رضي الله تعالى عنهم على عدم الفرار وعلى الموت
(روايتان) وبلغ ذلك المشركين فخافوا، وانتهى الأمر بالصلح المشهور، وفي ذلك
نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) وقوله
عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: 18) .
وأما مبايعة المؤمنات فهي المشار إليها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ} (الممتحنة: 12) الآية، ورد أنه عليه الصلاة والسلام بايع المؤمنين مثل هذه
المبايعة على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمَنْشَط والمَكْرَه وأُثرته عليهم،
وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقولوا الحق حيث كانوا لا يخافون الحق في أن
هذه البيعة لازمة في عنق كل من يدخل الإسلام، وهي السمع والطاعة لله ولرسوله
وعدم عصيان أولي الأمر في معروف؛ ولكن هل لأحد من الناس أن يبايع الناس
على طاعته غير خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو إمام
المسلمين؟ كلا ومن يدعيه فعليه البيان.
ومشايخ الصوفية يُعَبِّرون عن الدخول في الطريق بلبس الخرقة، ويذكرون
لذلك في إجازاتهم سندًا ينتهي إلى الحسن البصري وأن عليًّا كرم الله وجهه ألبسه
الخرقة؛ ولذلك ترى الطرائق كلها تنتهي إلى سيدنا علي عليه الرضوان والسلام؛
ولكن أئمة علم الحديث قالوا: حديث إن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة
على الصورة المتعارفة باطل لا أصل له، قال الحافظ ابن حجر: لم يرد في خبر
صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألبس الخرقة
على الصورة المتعارفة بين الصوفية أحدًا من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه
بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحًا فهو باطل، وقال: من المفترى أن عليًّا
ألبس الخرقة الحسن البصري؛ فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا
فضلاً عن أن يلبسه الخرقة، قال في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة:
وقد صرح بمثل ما ذكره ابن حجر جماعة من الحفاظ كالدمياطي والذهبي وابن
حبان والعلائي والعراقي وابن ناصر.
ويا ليت السائل يذكر لنا العهد الذي قال إن أهل الطريق تناقلوه بالأسانيد
الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر لنا الحفَّاظ الذين خرَّجوه.
***
(4) هل تقولون في الروح الناطقة الإنسانية والكشف وكرامات الأولياء
في الحياة وبعد الموت بقول جمهور أهل السنة والجماعة؟ أم ما هو مذهبكم في
ذلك؟
(ج) أما الكرامات فليراجع السائل فيها كتبناه في المجلد الثاني من المنار
(صفحة 145 و401 و417 و449 و481 و545 و657) فقد أثبتنا ما يقوم عليه
الدليل من الكرامات، وأما الروح فنقول فيها ما أمر الله تعالى رسولَه صلى الله
عليه وسلم أن يقول وهو {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) وأما الأسئلة التي تتعلق بالاجتهاد والتقليد فمحاورات المصلح
والمقلد تبين ذلك مفصلاً تفصيلاً.
__________
(1) الماجل في اللغة: كل ماء في أصل جبل أو وادٍ، ولعل أهل تونس يطلقونه على الصهريج.(4/302)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مكتوب في حق مسلوب
يظن الذين لا فضيلة لهم بأن العفة والشهامة والشمم والإباء وعزة النفس
والنجدة، وما أشبهها من السجايا الفاضلة - ألفاظ لا توجد إلا في القاموس، وهي من
لغو الكلام الذي لا يصدق على شيء، وقد جاءنا من مدة مكتوب من صديق نعرفه
من أفضل الفضلاء، وأئمة محاريب الإنشاء يحكي فيه عن شيء اتفق له وهو
صادق في جميع ما قال، وهاك مكتوبه معرفًا بقلم يحاكي قلمه:
سيدي رب الكمال
مذ أفكر في فتور المراسلة بيننا طول هذه المدة يعروني الخجل، ويؤثر في
نفسي أثرًا يذهب بالراحة والطمأنينة، ولا شيء أشد نكاية على الإنسان من مؤاخذة
نفسه له وعتاب ضميره الذي لا يعذر ولا يحابي.
ترى ما هو الحكم الذي تسجلونه عليّ، أو ما هي التهم التي توجهونها إلي
عندما تفكرون في انقطاع رسائلي عنكم كل هذه المدة؟ أما أنا فالله يعلم أنني بريء.
بينا أنا متألم من الجراح التي فتحتها في قلبي مصائب الوطن، إذ رأيتني الآن
مشغولاً بمحنة نفسي مضطربًا من النازلة الفادحة التي ألمَّت بي رأيتني أصارع
الظلمة وأواثب المعتدين، فلقد حُرمتُ من حقوقي، وهي بمثابة الشمس في الظهور
والنهار في الجلاء والوضوح، الحق أقول: لو كنت أدوس تحت قدمي الناموس
والحمية وسائر المزايا الإنسانية الشريفة في سبيل نيل المطالب الخسيسة، وتناول
الحظوظ الفانية، وأهين النفس في التزلف إلى أولئك الأسافل النازين على مراتب
العُلِّية [1] وذوي السبق والفضل، فألثم أرجلهم القذرة وأذيالهم النتنة وأيديهم الدنسة
وأضعها على الرأس تبجيلاً لهم وتفخيمًا، بل لو كنت أسلك في طلب حاجتي مسلك
التسول مبالغًا في الملق والتبصبص [2] محركًا بضراعتي عاطفة الحنان والشفقة
علي كما هو شأن أصحاب الدناءة الذين يحسبون أن هذا العمل هو مناط المجد،
وأقرب وسيلة لنيل الفخر والشرف، أو لو كنت أظهر الخضوع والتخشع إلى درجة
تحاكي العبادة لقوم هم أخبث من الشياطين لأجل جلب توجههم إليّ، وأُغرق في
مدح الفراعنة والملاعين حتى أصعد بهم من أرض البشرية إلى سماء الألوهية تقليدًا
لأولئك المداهنين المخذولين، ولا أربأ بنفسي عن عرض العبودية لهم بمثل قول
الشاعر:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
لو كنت آتي بشيء من ذلك لما رجعت بخيبة، ولما صادفت حرمانًا؛ لكنني
بحمد الله لم أدع عملاً كهذا يخلص إلى خاطري أو يحوك في نفسي، نعم أحببت أن
أعرض شيئًا من الآثار الأدبية التي تناسب عجزي وقصوري مؤملاً أن تكون خير
وسيلة للرقي، وأمثل طريق للسعادة، وكنت لا أظهر من كلمات التحسين والتحبيذ
المستخرجة من خزينة (آفرين) التي لا نفاد لها والتي شكا منها الشاعر نابي [3] .
لكن بعيشك قل لي هل استفدت من سعيي بطائل؟ وهل أثمر سوى الخيبة
والحرمان؟ وهل كانت بشاشتهم في وجهي سوى ضحك يدل على الاستهزاء
والسخرية بأوضح تعبير، إن أولئك الخَسَرة الذين سميتهم ظلمة قد غمطوا حقي
بغير مساغ مع أنهم - واحنقاه - يعترفون بذلك، يقولون لي: هكذا جرى فلا تتألم،
كما إذا ضربت أحدًا بلا ذنب ولا سبب وقلت له: لا تأس ولا تتكدر.
يا للعجب، هل أنا من قوم رزئوا بالعجز، وأصيبوا بكل ضروب المهانة
فأتحمل هذه الإهانة؟ هل أنا أسير الذلة أو ذليل المنة حتى أحني ظهري للاستخذاء؟
هل شأني شأن أولئك الأذلاء الذين رئموا للدناءة وألفوا المهانة حتى أراني أُوطأ
بأقدام المذلة ثم أعتد ذلك حسنًا جميلاً؟ ما هو السبب للإغضاء والتحمل؟ لست
عاجزًا ولا وضيعًا فأهضم الظلم وأغمض على القذى، لست خاليًا من العزة وعلو
الهمة فأحمل نفسي على الرضا وعدم المبالاة، لست من فاقدي العزيمة الذين
يستحوذ عليهم اليأس فيفرِّطوا في حقوقهم حتى أزج نفسي في زاوية الضعة
والخمول، فطرتي ليست ملوثة بالجبن والخور حتى أتهيب من ادعاء الحق،
طينتي لا يشوبها شيء من الخساسة والسفالة حتى أطأطئ عنقي لصفعة الإهانة، لا
يليق بالجريء الذي لا يهاب أن يعمل عمل الجبان العاجز حتى أسلك سبيل الدهان
والنفاق، فأسمي الباطل حقًّا والمنكر معروفًا، لا يحسن بذي الغيرة والحمية أن
تتحول حرارة غيرته وغليان حميته إلى برودة وخمول حتى أرى بعيني من يبتز
حقي، وينتهك حقيقتي، ثم أسكت كظيمًا، وأنكس مهضومًا، لا أرضى أن أكون
فاقد الشعور كالأموات، عديم التأثر كمن إيفت حواسه، أنا حي أشعر بحقوق
الأحياء، فأتألم من كل ما يصادم الحق ويمس الشرف، إنسان أنفر وأضطرب لكل
معاملة تنابذ الإنسانية وتحط من كرامتها.
واعجبًا! تسعى البهائم جهدها في صيانة فرائسها وحفظها من مخالب أعدائها
وأتقاعس أنا عن انتياش حقي من أيدي الظلمة المتغلبين، هل الإنسانية أحط شأنًا
من البهيمية أم الحق المقدس في نظري من محقرات الأمور والسفاسف التي لا يؤبه
لها؟
قسمًا بالقهار المنتقم لأجتهدن ولأثبتن في الدفاع عن الحق حتى آخر نفس من
حياتي، ولو اعترضت دوني شوامخ الجبال، وقام في وجهي سد من حديد
لأقتحمنها بعزم المتجلد وصبر المستميت، ما دمت أجد في لساني ذرابة، وأحس
من قلمي بمضاء، فلست بممسك لساني عن القول، ولا بوازعٍ قلمي عن العمل،
ما دام في قلبي صبر وفي عزمي قوة، فلا أحبس نفسي عن الكفاح، ولا أمنع
قدمي عن الإقدام، بل لو تمثلت في سبيل عزيمتي الأهوال، وكشرت لي عن
أنياب غوائلها الأغوال، وكل ما يسمونه خطرًا وهلكة - لَمَا صدني ذلك عن بلوغ
غايتي، ولما غشيني لأجله ونى ولا فتور.
قد كنت قلت قولاً وأقول الآن: (إن لدي من السآمة للحياة بقدر ما عند الناس
من الكراهة للموت) لتنغمس تلك الحياة المرة في بحار ظلمات العدم التي لا يدرك
قعرها، لتهْوِ في آخر دركات الجحيم، نعم ماذا يضر لو عجنت قبضة من تراب
الأرض بدم مظلوم أريق في سبيل نصرة الحق؛ لكن ليعلم الظالمون وليكونوا في
أمن من رؤية انتقالي من دار الدنيا قبل أن أعمل في تشهير قبائحهم، والإشادة
بمخازيهم وفضائحهم في أقطار العالم، وأصب على رؤوسهم - وسحقًا لها - سياط
المصائب، وأقذف عليهم صواعق البلاء، وأدعهم يئنون تحت أعبائها ويتململون
من مس آلامها.
لا جرم أن موقد نار الظلم، والعامل على تخريب البيوت لا تنام عنه العيون
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
يا سبحان الله! بينا أنا في صدد الاعتذار عن عدم كتابة رقيم إليك، وإذ
بالتأثر والامتعاض حفزني من حيث لا أشعر فَهِمْتُ في كل وادٍ، وتفننت في
أساليب الكلام، على أنه لا ينبغي العجب؛ فإن من كان مثل مخاطَبي في الاطلاع
على الخفايا والوقوف على الأسرار يجب أن لا أكتمه حديثًا، ولا أخفي عنه ما
يحوك في ثنيات النفس.
فهاك يا سيدي قصتي عرضتها على النظر الكريم، ويغلب على ظني أن
معذرتي عن تراخي مكاتبتي تتكفل بعفوكم؛ لأن قبول المعذرة من شأن الكرام،
وأرى أن أختم كلامي بعرض افتقاري إلى فوائدكم العلمية، وأود أن أكون ذا
نصيب منها مولاي.
__________
(1) العلية: بالضم والكسر مع تشديد اللام المكسورة والياء: الأشراف والأعلياء.
(2) التبصبص والبصبصة: تحريك الكلب ذنبه تقربًا للإنسان، ويطلق على التملق مطلقًا، وعند عامة المصريين النظر إلى النساء بشهوة والتعرض لمغازلتهن، وهو تجوُّز يليق بأولئك الأدنياء الذين هم أحقر من الكلاب.
(3) نابي: أحد مشاهير شعراء الترك وحكمائهم والمقصود من شكايته قوله:
ارزان متاع نضل وهند باق نه رتبه كيم ... بيك معرفت رمانه ده سر آفرينه در
أرباب دهر هر هنره آفرين ويرر ... يارب لو آفرين نه توكنمز خزينه در
والمعنى: تأمل فيما آلت إليه أثمان المعارف والفضائل في هذا العصر، ترى الأديب يظهر ألف أثر فلا ينتقد عليه سوى (آفرين) واحدة، وهكذا أرباب العصر جميعهم يعطون في مقابل كل أثر أدبي آفرين آفرين، فيا عجبًا لخزينة آفرين كيف لا ينفذ مددها، ولا يفنى عددها، وآفرين كلمة استحسان تركية كمرحى في العربية.(4/307)
الكاتب: أبو العلاء المعري
__________
للفيلسوف الإسلامي
أبي العلاء المعري
إذا مدحوا آدميًّا مدحـ ... ـت مولى الموالي ورب الأمم
وذاك الغني عن المادحين ... ولكن لنفسي عقدت الذمم
له سجد الشامخ المشمخر ... على ما بعرنينه من شمم
ومغفرة الله مرجوة ... إذا حُبست أعظمي في الرِّمَم
مجاور قوم تمشَّى الفنا ... ء ما بين أقدامهم والقِمم
فيا ليتني هامدًا لا أقوم ... إذا نهضوا ينفضون اللِّمَم
ونادى المنادي على غفلة ... فلم يبق في أذن من صمم
وجاءت صحائف قد ضُمّنت ... كبائر آثامهم واللَّمم
فليت العقوبة تحريقة ... فصاروا رمادًا بها أو حُمم [1]
رأيت بني الدهر في غفلة ... وليست جهالتهم بالأَمم [2]
فنسك أناس لضعف العقول ... ونسك أناس لبعد الهمم
__________
(1) أي ياليتهم يُحرقون فيكونوا رمادًا أو فحمًا، ولا يكون عذابهم دائمًا.
(2) الأمم - بالتحريك - القريب، أي أنهم عريقون في الجهالة، وبعيدو العهد بها.(4/312)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
للشاعر العصري المجيد
حافظ أفندي إبراهيم
هجعتَ يا طيرُ ولم أهجع ... ما أنت إلا عاشق مُدَّعي
لو كنتَ ممن يعرفون الجوى ... قضيت هذا الليل سهدًا معي
يا من تحاميتم سبيل الهوى ... أعيذكم من قلق المضجع
وحسرة في النفس لو قسمت ... على ذوات الطوق لم تسجع
ويا بني الشوق وأهل الأسى ... ومن قضوا في هذه الأربع
عليكم من واجد مغرم ... تحية الموجع للموجع
لله ما أقسى فؤاد الدجى ... على فؤاد العاشق المولع
هذا غليظ لم يَرُضه الهوى ... ما بين جَنْبَيْ أسود أسفع
وذاك في جنبي فتى مدنف ... على سوى الرقة لم يطبع
وأغيدٍ أسكنته في الحشا ... وقلت يا نفس به فاقنعي
نفاره أسرع من خاطري ... وصده أقرب من مدمعي
وخده لا تنطفئ ناره ... كأنما يقبس من أضلعي
تساءلتْ عني نجومُ الدجى ... لما رأتني داني المصرع
قالت نرى في الأرض ذا لوعة ... قد بات بين اليأس والمطمع
يئن كالمكبود أو كالذي ... أصابه سهم ولم ينزع
إن كان في بدر الدجى هائمًا ... أما لهذا البدر من مطلع
أو كان في ظبي الحمى مغرمًا ... أما لهذا الظبي من مرتع
هيهات يا أنجم أن تعلمي ... من ذا الذي أهواه أو تطمعي
__________(4/313)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(القسطاس المستقيم)
بحق لقّبت الأمة الإسلامية الإمام أبا حامد الغزالي بحجة الإسلام، فقد كان في
بدايته حجة المتكلمين والفقهاء المقلدين، وفي نهايته حجة الأئمة المجتهدين، بل
حجة العلم والدين , ومن أجل ما كتبه في نهايته وأنفعه كتاب (القسطاس المستقيم)
وهو مصنف مختصر يشرح فيه مناظرة جرت بينه وبين رجل من أهل مذهب
التعليم الباطني الداعين إلى القول بالإمام المعصوم في كل عصر.
وقد جاء في رسالة المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد فصل من فصول هذا
الكتاب فكانت نموذجًا أغنانا عن التطويل في تقريظه، وفيه أن الموازين التي
تُعرف بها الحقائق ثلاثة في الجملة، وخمسة في التفصيل، وقد استخرجها كلها من
القرآن. وقد طبع هذا الكتاب من عهد قريب الفاضل المهذب الشيخ مصطفى
القباني الدمشقي بمطبعة الترقي الشهيرة، وأضاف إليه هوامش لإيضاح بعض
العبارات وتفسير بعض الكلمات، وذكر في أول الكتاب ترجمة الإمام الغزالي
رضي الله تعالى عنه ونفعنا به والمسلمين، وثمن الكتاب ثلاثة غروش أميرية،
وهو ثمن بخس بالنسبة إلى ورقه الحسن وطبعه الجيد، وأما بالنسبة إلى فوائده فلا
يوفيه حقه إلا من عمل بهديه القويم، ووزن بقسطاسه المستقيم، وهو يطلب من
مكتبة الترقي ومكتبة هندية ومكتبة جمالي وخانجي بالقرب من الأزهر.
***
(المرأة المسلمة)
كتاب جديد يقارب كتاب (المرأة الجديدة) في حجمه، ويخالفه في مباحثه غالبًا
لحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد وجدي، وأكثر مباحثه في المرأة اجتماعية
نظرية يحتج عليها بما كتبه بعض علماء الغرب وفلاسفتهم في انتقاد تربية النساء،
وطرق تعليمهن والإفراط في حريتهن، ومعلوم أن طريقة العلماء والسياسيين
الأوربيين في الانتقاد أن يغلو كل فريق منهم في طرف يخالف فيه الآخر؛ لتظهر
خفايا الأمور للجمهور لأجل العمل بها عند ظهور بارقة الحقيقة بين تصادم الأفكار
وقدح زناد الأنظار، ومن أراد معرفة المرجح عندهم فلينظر إلى ما عليه العمل لا
إلى جمل في جريدة أو كتاب، وكذلك الحال عند كل أمة. فالحالة التي عليها نساؤنا
هي المرجحة عند مجموع أمتنا، وإن ذمها بعض العقلاء والفضلاء، ولن تتغير
حتى تتغير شؤون التربية وأحوال المعيشة والعلم بالمصلحة، وهذه الكتابات في
شأن النساء المهمل عندنا التي دفع الناس إلى الخوض فيها تأثير كتابي الفاضل قاسم
بك أمين ستكون من أسباب التغيير ولو بعد حين.
وكتاب (المرأة المسلمة) مؤلف من مقدمة وثلاثة عشر فصلاً وخاتمة،
لخص فيها جميع الفصول في تسع نظريات، وقد صدق وأنصف بتسميتها نظريات
وهي:
(1) المرأة أضعف من الرجل جسمًا، وأقل منه قبولاً للعلم؛ لأن وظيفتها
الطبيعية تقتضي ذلك لا لأن تكون خاضعة للرجل.
(2) كمال المرأة في موهبة روحانية مُتعت بها أكثر من الرجل، وهي
الشعور الدقيق والعواطف الرقيقة واستعدادها لتضحية نفسها في سبيل الخير، وهذه
المواهب إذا نمت فيها تكون لها مكانة تُحنى لها الرؤوس إجلالاً؛ ولكنها لا تنمو إلا
تحت قيادة الرجل ولو فاقته فيها واستطاعت أن تأسره بها؛ ولكنها لا تأسره بها لأنها
لو فعلت بطل مضاء سلاحها وزايلتها بهجة موهبتها، فتقع فيما لا ترضاه لنفسها.
(3) إن هذا الكمال لا تناله المرأة إلا إذا كانت زوجة لرجل، وأمًّا لأطفال
تربيهم تربية صحيحة.
(4) إن اشتغال المرأة بأشغال الرجال قتل لمواهبها، وإذهاب لبهجتها،
ومدعاة إلى هبوطها، ومفسدة لتركيبها، ومجلبة للخلل في أمتها، وإن عمل المرأة
الغربية خارج بيتها يعده علماء بلادها جرحًا داميًا في فؤاد الأمة، وأثر من آثار
أسر الرجال للمرأة ويعملون بكليتهم على تضييق دائرته.
(5) إن الحجاب ضروري للنساء لصلاح النوع الإنساني كله على العموم،
وصلاحها على الخصوص؛ لأنه ضمانة استقلالها وكفالة حريتها لا علامة ذلها
وعنوان أسرها، وقلنا إنه لا يمنع كمالها بل يهيئه، وإنه وإن كان له شيء من
المضارّ كما هي طبيعة كل شيء؛ فإن مزاياه وفوائده لا تُقَدَّر، ومن أظهرها أن
يجبر المرأة إلى عدم تخطي دائرة وظيفتها الطبيعية التي فيها كل سعادتها ويوجهها
لتنمية خصيصتها السامية التي هي سلاحها الوحيد في هذه الحرب الحيوية.
(6) المرأة في المدنية المادية ليست كاملة، ولا سائرة إلى الكمال.
(7) إن طرق التعليم في كل ممالك أوروبا وأمريكا غير صالحة للنساء
بشهادة أصحابها أنفسهم.
(8) إن تعاليم الديانة الإسلامية بالنسبة للمرأة موافقة لفطرتها تمام الموافقة
فهي كالقالب التام التركيب لجميع خصائصها وملكاتها، بمعنى أن تلك الخصائص
لو نمت على حسب تلك التعاليم لبلغت المرأة المسلمة أعلى شأو يمكنها أن تبلغه
بدون أن تتعدى حدودها الطبيعية.
(9) لا ينقص المرأة المسلمة لكي تبلغ أكمل نقطة يمكن أن يناله جنسها إلا
تعلم مبادئ العلوم الضرورية ليس إلا.
هذا مجمل مسائل الكتاب، ويُطلب من مؤلفه ومن مطبعة الترقي
__________(4/314)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب الصحافة
وفاة بشارة باشا تقلا
في ليلة السبت الماضي (15 يونيو سنة 1901 - 28 صفر سنة 1391)
تقوَّض ركن الصحافة الركين، وَفَتَّ في عضدها المتين، حيث حل القضاء المبرم
ونزل القدر المحتم، فاختطف بشارة باشا تقلا صاحب جريدة الأهرام العربية،
وجريدة البراميد الفرنسوية، وهو في مستوى طور الكهولة ناهز الخمسين ولم
يبلغها، وقد تقدم هذا القضاء السماوي بعشرين يومًا إنذار مرضي حار نطس
الأطباء في معرفة حقيقته، ولم يهتدوا إلى طريقة معالجته، والأرجح أنه كان في
ذلك الدماغ الجوَّال، الذي كان كصاحبه لا يعرف الإعياء والكلال.
ورد الفقيد وادي النيل من لبنان مع أخيه الكاتب الشهير سليم بك تقلا منشئ
جريدة الأهرام، واشتغلا بالصحافة، وكانت أرضها مواتا فأحيتها همتهما، وغرسا
واستثمرا بجدهما وعزيمتهما، وقد كان سليم وبشارة يقتسمان التحرير والإدارة،
فلما اغتالت المنون أحد الفرقدين، نهض الآخر بالأمرين، وتقدمت الأهرام به
وتقدم بها فأصاب ثروة طائلة وجاهًا عريضًا، وما زال يرتقي في رتب الدولة
العلية ويتمتع برواتبها ويتحلى بوسامات الشرف منها حتى بلغ رتبة (روم إيلي
بكاربكي) التي لا يعلوها في الرتب الملكية إلا رتبة الوزارة، وتحلى بالوسام
المجيدي الأول، وكان محلًّى بوسامات دول أخرى، كوسام ليجون دونور
الفرنساوي من الدرجة الثالثة، ووسام سان استانس لاسي الروسي، ووسام
المخلص اليوناني من الدرجة الثانية، ووسام الافتخار التونسي وغير ذلك.
نجحت الأهرام في أول عهدها بمساعدة الحكومة المصرية لا سيما في أيام
وزارة دولتلو رياض باشا الذي لم تنجح جريدة من الجرائد الشهيرة الغنية بمصر إلا
بسعيه، حتى قيل إن الحكومة كانت تلزم الموظفين والوجهاء بالاشتراك، وتكلف
جباتها بتحصيل قيمة الاشتراك منهم، ثم لمَّا انقضى هذا الدور، وصار الناس
مختارين في الاشتراك استمر النجاح بسعي الفقيد الموافق لحالة البلاد الاجتماعية
والأدبية، وقلما ينجح عمل مخالف لاستعداد الناس إلا أن يكون بعد تأسيسه بزمن
طويل.
وقد احتُفل في مساء يوم السبت بجنازة الفقيد احتفالاً لائقًا بمقامه، مشى فيه
كثيرون من الوجهاء والفضلاء، ومنهم أصحاب الجرائد المصرية كلهم، وصُلِّي
عليه في كنيسة الروم الكاثوليك، ودفن في قرافتهم بمصر العتيقة وأبَّنه على القبر
كل من الأديب يوسف أفندي البستاني، والأصولي الفاضل نقولا بك توما، ورجع
المشيعون وهم يستمطرون له الرحمة، ويدعون لقرينته الفاضلة ولولده النجيب
بالعزاء والسلوة.
__________(4/317)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الواسطة والزيارة
أو ابن تيمية والسبكي
من المؤلفين مَنْ حظه كثرة النقول، وإن خالفت المعقول، وإرضاء العوام
ولو بما يضر الأنام، ومن الناس من يتحرى الهداية والإرشاد، وإن استُهدف لسهام
الانتقاد، وما تفرد أحد بالإمامة في عصر، وبرز على العلماء في قرية أو مصر،
إلا سلَّط عليه الحاسدون، وطعن فيه المعاصرون، ولقد كان الإمام أحمد بن تيمية
في عصره ناصر السُّنة، وخاذل البدعة، والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد
المجتهدين، وكان جرَّد حسام قلمه لمحاربة البدع والدعوة إلى مذهب السلف، لا
سيما فيما يتعلق بالعقائد وأصول الدين، فحمل عليه بعض علماء التقليد الذين يرون
معاشهم وجاههم بإرضاء العامة، فخاضوا فيه كما خاضوا في الأئمة من قبله،
ومضى الزمان على ذلك.
وقد انتدب بعض الفضلاء في هذه الأيام لإحياء مؤلفات هذا الإمام، فبدأ
بطبع رسالة (الواسطة) التي تحمي حقيقة التوحيد وتدعو الناس لأن يوجهوا وجوههم
في طلب حاجاتهم للذي فطر السموات والأرض، وأن لا يعبدوا غيره ولا يستعينوا
فيما وراء الأسباب التي سنها لهم إلا به، وأن لا يتخذوا غير دينه واسطة بينهم
وبينه؛ لأنه تعالى - كما قال - أقرب إليهم من حبل الوريد.
فرأى بعض المشايخ الذين يحبون الشهرة عند العوام، ويرون لهم في ذلك
منفعة وجاهًا أن ينتصر لهم فيما يأتونه في الأضرحة من البدع والمنكرات وطلب
الحاجات من غير الله تعالى بالرد على الإمام ابن تيمية، فسعى بنشر عدة رسائل
إحداها منسوبة للقاضي تقي الدين السبكي الشافعي الشهير، وكتب مقدمة لهذه
الرسائل جاء فيها بالتناقض، وأقام الحجة على نفسه فكان قاضيًا حكم على كلامه
وكلام السبكي بالإبطال، من حيث لم يفهم إلا أن يكون أراد أن يدلس على الناس
بالتمويه، وافتتح المقدمة بتشبيه مشهور انتحله لنفسه والأرجح أنه لم يفهمه؛ لأنه
استعمله في غير موضعه.
أما تناقضه وتهافته فهو أنه ذكر أولاً أنه لا شفاء لأحد من الأمراض الروحية
ولا سعادة له إلا باستعمال أدوية الدين، وهي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان
عليه السلف الصالح، وهذا ما يدعو إليه الإمام ابن تيمية ومن على شاكلته من أهل
الهدى، ثم أنشأ بعد هذا التمهيد يثبت لأجل الرد على ابن تيمية أن بين العباد وبين
ربهم واسطة تحجبهم عنه، ولا يمكن الوصول إلى مرضاته إلا بها وهي غير دينه
الذي شرعه لهداية الناس، ولما لم يجد لهذا دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا هدي
الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين حاول أن يثبته بالاحتمالات الخيالية، كاحتمال
أن لأرواح الأموات تأثيرًا وإمدادًا كما يقول بعض الفلاسفة، وذكر بعض كلمات من
شرح قصيدة ابن سينا الفيلسوف ومن غيرها، وحسب صاحب هذه المقدمة أنه
يدعو إلى كتاب مملوء بالموضوعات، أي بالكذب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإن كان لم يقرأه فهو شاهد زور، وإلا فهو لا يميز بين الصحيح والموضوع.
قال في الاستدلال على انتفاع العامة بالقبور والأضرحة: إن الإنسان يتأثر
بتصوراته. وهذا صحيح ولكن هذا التأثر وهمي يحصل للمعتقد بالشيء ولو كان
صنمًا، وينقل مثله عن عوام سائر الملل فهل يكون قوله هذا حجة على أن دين
الإسلام بنى عقائده وعباداته على أسس الأوهام؟ وزعم أن العامي لا يعتقد أن الولي
يؤثر أو ينفع؛ وإنما يعتقد أنه يدعو إلى الله تعالى معه فيكون الدعاء أرجى للقبول
وهذا الزعم منقوض بما يشاهد من العوام من طلب الحوائج من الجمادات، كباب
المتولي ونعل الكلشني وشجرة الحنفي وشجرات الست المنضورة التي تحبل العاقر
وغير ذلك، وجعلوا لكل ولي وظيفة: فبعضهم يشفي الأمراض المزمنة، وبعضهم
يشفي الرمد الحاد، وبعضهم يرد الأطفال التائهين إلى غير ذلك، على أن رسائله التي
نشرها لإرشاد المسلمين تصرِّح بأن الله وكل بقبور الأولياء ملائكة تقضي حاجات
زائريها، وأن بعضهم يخرج من قبره فيقضي الحاجة بنفسه، وهذا شيء لا يُعلم إلا
من الوحي، ولم يرد به كتاب منير ولا سنة صحيحة، وسنعود إلى تتمة الانتقاد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/318)
16 ربيع الأول - 1319هـ
3 يوليو - 1901م(4/)
الكاتب: عبد الرحمن شهبندر
__________
التقليد
خطاب ألقاه في المدرسة الكلية الأميركانية في بيروت
الفاضل الأديب عبد الرحمن أفندي شهبندر
من تأمل هذا الوجود بعين الحكمة يعجب وتأخذه الحيرة لما يظهر له مما يطرأ
على الأمم من التغيرات والتقلبات: فبينما هو ينظر في باب من أبواب التاريخ إلى
ما وصلت إليه الأمة المصرية مثلاً أيام الفراعنة من العظمة والمجد المؤثل - يرى في
باب آخر أن هذه العظمة قد انتقلت، وهذا المجد قد زال وأصبحت تلك الأمة في
قبضة أمة أخرى تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء الهوى، وما قيل عن المصريين
يقال عن الكلدانيين والآشوريين والبابليين واليونان والرومان، أمم زالت وآثارها
تشهد لها بأن ذكرها لن يزول، ولعمري لو نظر أحدنا إلى (ممفس) أيام مجدها، أو
إلى (نينوه) أيام عزها، أو إلى (أثينا) أيام حكمتها، أو إلى (رومية) أيام
سطوتها - لكذَّب التاريخ فيما يدعيه من زوال تلك المدنية، ولظن أنها لا تزال مخيمة
بتلك الربوع لا تؤثر فيها عوامل الزمان، ولا تزعزعها طوارق الحدثان. ولو قال
أحد اليوم أن مدنية الإنكليز مثلاً ستزول يومًا ما، حتى لو ذهب أحدنا إلى لندن لرآها
أثرًا بعد عين، ولرأى (وستمنسترها) كهيكل عظمي في مدينة أموات لكذَّبناه ونسبناه
للجنون. لكن من تدبر نواميس الكون وقاس الحال بالماضي وحكم الماضي بالحال
عرف أن ذلك من الممكنات، وما أرانا إياه التاريخ إثباتًا لهذه الحقيقة يكفي لمن ألقى
السمع وهو شهيد.
لكن ما هي تلك النواميس وما الذي يحفظ المدنية وما الذي يذهبها؟ هذه أسئلة
صعبة جدًّا لا يمكننا أن نجيب عنها كلها في هذه المدة القصيرة، بل يكفي أن نقول:
إن حكمة التاريخ وعلم العمران أفادانا أن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة استخرج
الغربيون أكثرها واستعملوها في حفظ حياتهم، ونحن عن ذلك لاهون مع إننا
باستخراجها واستعمالها أولى لما يتلى كل يوم فوق رؤوسنا {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ
سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
فمن هذه السنن أن الأمة متى فسدت آدابها وأخلاقها فسد عمرانها؛ لأن الآداب
والأخلاق هي الرابطة في الاجتماع البشري، ومتى انحلت هذه الرابطة انحلت
عراه، ولنا في المصريين والرومان أعظم شاهد، فقد أجمع علماء التاريخ على أن
من أعظم الأسباب في زوال دولتيهما فساد العائلة، وسوء التربية وانتشار الفجور
والعياذ بالله تعالى.
ومنها - وهو قريب من الأول - أن ظلم الدولة مؤذن بخرابها لما له من تثبيط
الهمم عن الأعمال ومتى توقف عمل الأمة وحركتها تأخر عمرانها.
قال العلامة ابن خلدون: (إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم
في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم
وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك،
والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال) .
ومنها أيضًا أن الأمة التي تنزوي عن الأمم الأخرى لاعتقادها أنها أعظم منها
علمًا وأدبًا وفضيلة ونسبًا تصبح وراء تلك الأمم؛ إذ تقدُّم العمران يتوقف على
المباراة والمسابقة ولا نجاح بدونهما، فالصينيون لما اعتقدوا أنهم أفضل الأمم نسبًا
لاتصالهم بالآلهة واتصال غيرهم بالشياطين، وأن بلادهم أخصب البلاد وأجملها،
وأن عوائدهم أفضل العوائد، وأن لا علم إلا عندهم وأن الحكمة لم تتخطَّ سدهم
وشطوطهم وأن.. . وأن.. . قطعوا علائقهم مع غيرهم احتقارًا لهم، فكانت
النتيجة أن بقي عمرانهم تقريبًا على ما كان عليه منذ ألفي سنة، إن لم نقل قد تأخر
فأخنى عليهم الدهر بأن أرسل عليهم من اليابان وأوربا صرصرًا قوضت أركان
مجدهم، واقتلعت جذور عزمهم، وما سيصيبهم أعظم وكل آتٍ قريب.
هذا قليل من كثير أوردناه برهانًا لقولنا إن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة،
وأهم منه بالنسبة للمشرق موضوعنا (التقليد) وقبل الخوض فيه نقول: إن بعض
العلماء أطلق هذه الكلمة على بعض الأعمال الخارجة عن الإرادة يعملها المرء بعد
أن يحركه بمثلها محرك آخر، كما إذا نظرنا إلى أحد يتثاءب أو يتلجلج في كلامه،
فربما نقلده بلا شعور منا، إلا أن هذا النوع غير داخل في بحثنا؛ فإننا إنما نبحث في
التقليد الإرادي وتأثيره في العمران، وهو غريزي في الإنسان وعليه بني الاجتماع
البشري، فمن الحقائق التي لا مشاحة في حقيقتها أن الطفل مطبوع على تقليد غيره
فحركاته تكون في أول الأمر غير مضبوطة ولا متناسبة؛ ولكن كلما تقدم في
السن نراه يجتهد أن يأتي بحركات مرضعته ووالديه، فيظهر أول الضبط والتناسب
في عمله، والأمم المتوحشة والتي حظها من المدنية قليل تشبه الطفل بذلك، قال
ماسون: (بينا نرى الكاريين لا يأتون بجديد نراهم ميالين إلى التقليد أكثر من
الصينيين) وذكر (موات) أن الأندمانيزيين إذا سُئلوا سؤالاً أعادوا لفظه كالببغاء
من غير جواب، والأعجب أن الفارانيين مع إحكامهم التقليد، إذا ترك لهم عمل
ولو كان بسيطًا جدًّا خبطوا فيه خبط عشواء، والجامدون في هذه البلاد يشبهون
هؤلاء المتوحشين بميلهم إلى التقليد الأعمى؛ فإنهم إذا رأوا أحدًا يجتهد بجديد من
الأعمال النافعة أو استخراج معنى من كتب الدين هزءوا به قائلين: من أين لنا أن
نأتي بأعمال كهذه ومن منا قادر على فهم تلك الكتب، دع عنك ذلك للمتقدمين فزمان
الاجتهاد قد زال وما علينا إلا التقليد؟
هذا يدلنا على أن التقليد من طبيعة الإنسان ويدلنا أيضًا على أن ما يشغل
العقول القاصرة من الصور العقلية للحركات الخارجة أو لغيرها يسوق أصحاب هذه
العقول صاغرين للإتيان بمثلها، وربما يصير ذلك بعد قليل شبيهًا بالحركات
الطبيعية البدنية الخارجة عن الإرادة كحركات المعدة في الهضم والرئتين في التنفس
والقلب في الدورة الدموية، والسبب في ذلك أن قليل التصور ساقط النتيجة لا
يستطيع الاجتهاد بأكثر المسائل، فيستنتج أنه غير قادر على الاجتهاد مطلقًا والجامد
يتجنبه لما فيه من الاشتغال العقلي فهو عدو كل حركة ولو قيل (الحركة بركة) .
التقليد من حيث هو أنواع متعددة، والذي يهمنا منها هنا نوعان: التقليد في
العوائد، والتقليد في العلم، وهما يشبهان السلطة الشرعية، فكما أن هذه ضرورية
للعمران كذلك ذانك، إذ هما قانونه المعنوي وكما أن هذه السلطة الشرعية كثيرًا ما
يُساء استعمالها فبدلاً من أن تكون مدبرة عادلة تكون مستبدة ظالمة، كذلك ذانك
والمقصود من سوء استعمالهما أن يصبحا عبئًا ثقيلاً على عاتق الأمة، وحاجزًا
منيعًا دون بلوغها ما أصبح لها لازمًا ضروريًّا، وعلى هذا الأخير بنيت موضوعي
وإليه وجهت خاطري لما له من التأثير السيئ في البلاد. والتقليد الأعمى في
العوائد يظهر عندنا كثيرًا أيام الأعراس أيام يعرض جهاز العروس في الأسواق
محمولاً في العربات، أو موضوعًا على رؤوس الرجال - أيام يفتح العروس أبوابه
ويمد الموائد ويحشد الجموع التي يكاد ضجيجها يصل إلى السماء - أيام يصرف
الألوف على الأزياء المضرة بالصحة! يفعل ذلك كله لئلا يقال: إنه لم يقم
بالفروض، ولو كان كما يقول المثل (يبيع الماعون قيامًا بالقانون) (استحسان) .
أما مجالسنا فهي مظهر التكلف، وإذا نظرنا إلى أكثرها ماذا نرى؟ تالله لا
نرى إلا أناسًا جالسين وعلائم السآمة تلوح على وجوههم، إذا تكلم أحدهم فإنما
يتكلم ليقال عنه إنه مسرور وغالبًا يكونون صامتين كالأصنام، لا لبكم بل لأن
أفكارهم مصروفة إلى الخزعبلات، هذا يفكر في قلة أدب الحاضرين؛ لأنه لما خرج
من المجلس لغرض له وعاد لم يقوموا له وذاك يبحث في سوء معاملتهم له؛ لأنهم لم
يضعوه في صدر المجلس، هذا يقول في نفسه: إن صاحب البيت لم يستقبلني
استقبالاً لائقًا بي، فياليتني لم أدخل بيته، وذاك ينتقده أنه لم يسرع بتقديم الأركيلة
(الشيشة) والسيكارات، هذا يشتم الخادم في نفسه؛ لأنه أعطى فلانًا القهوة قبله،
وذاك يتألم من سيده لأنه لم يقل له: شرفتم، بعد أن شربها، هذا وهذا.. . كل منهم
يفكر في هذه الترهات ويخوض في هذه الجهالات؛ حتى إننا كثيرًا ما كنا نسمع من
يخرج من مجالس كهذه يقسم الأيمان المغلظة أنه لن يحضر اجتماعًا بعدها أبدًا
(تصفيق) .
أي مقابلة بين مجلس كهذا، ومجلس لا يدخله إلا من صفت قلوبهم وراق
ودهم: يعرفون معنى الصحبة، ويقدرون فائدة الاجتماع حق قدرها، هذا يأتي بنكتة
فيقابله الحاضرون بالسرور، وذاك يلقي فائدة فيتلقونها بالحبور، حدائق أفكارهم لا
تأتي إلا بيانع الثمر، وبحار أبحاثهم لا تجود إلا بأثمن الدُّرر، يعلمون أن المقصود
من الاجتماع التعارف ومبادلة الأفكار، لا تناول القهوة واستعمال السيكار
(استحسان) .
كل منا ذاق لذة ما نسميه (ساعات الصُّدَف) وود لو تكون كل أيامه مثلها،
وأحس بمجالس (الكُلف) وما لها من الأضرار، فطنطنة عود يسمعها المرء وهو مار
في الشارع ربما تفوق لذتها لذة ما كان يحضره من المجالس الموسيقية، ويصرف
دراهمه لسماعها؛ والسبب في ذلك ما قال المستر هربرت سبنسر وهو أنه كلما
ازداد التكلف المحيط بالاجتماعات نقص السرور الحاصل منها؛ لأنه لا يمكن القيام
بواجباتها الأساسية كلها، فكيف بالتكلفات الزائدة المضرة؟
وما قيل عن المجالس يقال عن الولائم، ويزيد في الفتق هنا أمر المأكول.
أعرف رجلاً كان يحب أن يدعو صديقًا له؛ ولكن منعه من ذلك أنه لا يقدر أن يقدم
له أربعة وعشرين نوعًا من المأكول، والأعجب أننا صرنا بالتكلف المضر والتقليد
الأعمى إذا أردنا أن ندعو صديقًا لنا دعونا كل من نريد أن نوفيه ما له من يدٍ
كدعوة ماضية، أو قضاء مصلحة، ولو لم يكن بينهما مودة، وهذا نتيجة حالتنا
الحاضرة؛ لأن الكلفة توجب علينا أن يكون المدعوون جمعًا كي يخف المصرف،
ولو لم يحصل المقصود (استحسان) .
ولو أردنا أن نعدِّد ما يجري على المائدة، وكيف أن أحد المدعوين إذا شبع لا
يقدر أن يقوم حتى يشبع البقية لئلا يقوموا معه وهم جياع - لطال بنا الكلام وأدى إلى
غير ما كنا نتوخاه من الاختصار، ولهذه المجالس والدعوات أضرار كثيرة لا
ينبغي أن نتركها كلها:
منها الإسراف الذي يؤدي إلى الخراب، فالرجل المتوسط الحال إذا أراد أن
يقوم بواجبات الاجتماعات فلم يأخذ بيتًا إلا في أحسن بقعة من البلد، ولم يضع فيه
إلا أثمن الأثاث، ولم يلبس إلا آخر زي ولم.. . ولم.. . يصبح وبساطه الثرى
فتحزُّ الدموع في جلباب خده ولكن لا ينفعه البكاء.
ومنها تخفيف المعاشرة الصحيحة التي هي ضرورية للعمران؛ لأن من أراد
أن يمدَّ رجليه على قدر لحافه ينبغي له أن يقل من الاجتماعات ما أمكن، وإلا
يصبح معدمًا كما قدمنا، ومنها أن هذه الحالة توجب للذين لا يتحملون تكاليفها أن
يميلوا إلى بعض العوائد المضرة كالجلوس في القهاوي، وصرف الأوقات في لعب
الورق والبلياردو؛ لأن المرء إذا فقد شيئًا يسُرُّه لا بد له من شيء يقوم مقامه.
وما قيل عن الأعراس والمجالس والولائم يقال عن الأزياء، إلا أن الوقت لا
يساعدنا أن نبحث فيها؛ لأن عندنا ما هو أهم منها وهو التقليد في العلم.
الباحث في علم الاستقراء يرى أن من أعظم الأسباب التي تمنع من تصحيح
الأفكار: التقليد في العلم، قام أرسطو في القرن الرابع قبل المسيح وأسس فلسفة بناها
على ما بلغ إليه من العلم، ثم مضت بعد ذلك مئات من السنين والناس تحذو أثره
حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، فلم يأتوا بجديد، بل ربما تأخروا عنه حتى
ظهرت الأمة العربية للوجود، وقام أساطينها ينتقدون هذه الحالة وفي مقدمتهم
الحكيم الفارابي يبين لنا أن كون أرسطو شيخ الفلسفة لا يوجب علينا أن نسلم كلامه
تسليمًا أعمى، بل ينبغي أن نبحث فيه: فما وافق منه العقل قبلناه، وما خالفه نبذناه.
وما كادت تنتشر أمثال هذه الأفكار في الأمة حتى كشفت الحكمة الشرقية جلبابها،
وبرزت الآيات العربية من حجابها، ثم أصابنا ما أصابنا مما يطول شرحه،
فانتقضت الأحوال، وأصبح سوق العلم عندنا كاسدًا وما لنا اليوم إلا أن نقول:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
وكان الغربيون رأوا فضل العلم عند الشرقيين، فأخذوا يجدون السير في
طلبه؛ لكنهم لمَّا حصلوا على بعض العلوم وأكثرها لأرسطو لم يخرجوا عن نطاقها
بل ربما كانوا يمسخون أكثرها وظهور (السكولمن) ومباحثهم العقيمة كقولهم: كم
عدد الملائكة الذين يمكن أن يُرفعوا على رأس إبرة واحدة؟ تشهد لما قدمناه، وهكذا
بقي الحال عندهم تقليدًا أعمى لرجل لا يفهمون جل كلامه، حتى قام فرانسيز
بيكون في أواخر القرن الساس عشر للميلاد وبيَّن في طريقته الجديدة - كمن سبقه
من حكماء العرب - أنه ينبغي لنا أن لا نأخذ قولاً إلا بعد البحث فيه، فكانت نتيجة
أعماله أن أظهر الغربيون في ثلاثة قرون من آثار العمران ما لم يسبقهم إليه أحد،
نعم لا ننكر أنه حصل بعد ذلك شيء من التقليد المضر كرفض الإنكليز تطعيم
الجدري لما اخترعه (جِنَّر) لاعتقادهم أنه يخالف إرادة الباري تعالى، إلا أننا نرى
حكومتهم بُعيد ذلك كافأته بمقدار ثلاثين ألف ليرة.
أما نحن الآن فكأننا خُلقنا للتقليد، فإنه يظهر في عوائدنا كما قدمنا، في
زراعتنا، في صناعتنا، في تجارتنا، في كل شيء حتى في أمور الاعتقاد.
أذكر قصة أخبرني إياها أحد محترمي الفرنجة مثلاً للتقليد في المشرق، وهي
أن أحد فلاحي هذه البلاد كان إذا أراد أن يحمل البطيخ يضعه في أحد جانبي
الشريجة [1] ويضع في الجانب الآخر حجرًا للموازنة، فقيل له يومًا أن يُقَسِّم البطيح
إلى قسمين، ويضعهما في الجانبين بدلاً من حمل الحجر؛ لأنه يتعب الدابة بلا
فائدة، فشكر النصيحة للناصح؛ ولكنه لم يقم بواجبها؛ لأن التقليد احتوى عليه
فصده عن الطاعة، والجهالة استحوذت عليه فصرفته عن الرشد، ومر في اليوم
الثاني وقد أعاد ما تعود عليه فقيل له ما قيل أولاً، فقال: هيك عيش أبي وجدي
(تصفيق) .
لو بعثر من في القبور من أجدادنا لما رأوا في زراعتنا جديدًا، ولو عرضت
عليهم صناعتنا لرأونا أضعناها، وأسقطنا جاهها، ولو قام اليوم أحد ليبدي رأيًا،
أو يصلح فاسدًا لقال له المتعصبون: القديم على قدمه ذاك الزمان قد تصرم، وقد
كفانا عناء البحث الأولون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) (استحسان) .
والذي يزيد في الوهن أن شبان بلادنا الذين يتخرجون في مدارس الأجانب،
أو يتعلمون لغاتهم يخرجون من تقليد ويدخلون في تقليد، يصبحون وأوقاتهم
تصرف في (البالوات والتياترات) وأموالهم تضاع في المقامرة وعقولهم في
المسكرات، لا مقصد لهم من اللغات الأجنبية إلا أن يعتاضوا بسلامها عن السلام
العربي بقولهم مثلاً (بونجور) (استحسان) .
في صدورهم تلتهب نار البغضاء للآباء لأنهم آباء، وفي قلوبهم تغلي مراجل
العداوة للقديم لأنه قديم، قد هزءوا بالجديد لا لأنهم يبغضون التقليد، بل لأنهم
مقلدون، والأعجب أنني أعرف رجلاً قرأ ترجمة دارون فما فهم منها إلا أنه ينكر
الباري تعالى، فتمسك بهذا الرأي وصُمَّت أذنه عن سماع ما يخالفه، يا سبحان الله
كيف يجوز أن يُسمى هؤلاء بشرًا والبشرية منهم في نفور؟ ! {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ
وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) (تصفيق) .
تالله هذه حال تترقرق لها العبرات، وتُقَضّ لها المضاجع [2] وما من أحد
ينظر إليها إلا ويستوبل عاقبتها [3] ، غيرنا يجتهد كل يوم بتحسين حاله، ونحن
بالترهات مستمسكون، وقد ضربت لنا الأمثال (فما لنا عن التذكرة معرضين) .
__________
(1) الشريجة: جوالق كالخرج يُنسج من سعف النخل يُحمل فيه البطيخ.
(2) أقض المضجع: خشُن، والمراد لازمه، وهو عدم استطابة النوم، ويقال: أقض الله فراشه، وأصل أقض: كان فيه القضض، وهو الحصى، وأقضه: جعله فيه.
(3) استوبل المكان: استوخمه ولم يوافق صحته، ولم أرهم استعملوه في المعاني.(4/321)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
تعليم معاهد الأرض للأطفال
وتمرين أيديهم على الأعمال [1]
(المكتوب 30) من هيلانة إلى أراسم في 12 فبراير 185
أحب أن أصف لك أميل، فأما صورته فقد عرفتها في الرسم الذي أرسلته
إليك منتزعًا بآلة داجير التصويرية (الفوتغرافية) وأما سيرته وأحواله فهي التي
أريد أن أحدثك عنها فأقول:
أرى له جراءةً على السير والتجوال لا توجد في أترابه، ففيه ما أظنك تسميه
بغريزة خرت الأرض [2] ، وقد بلغ تمكُّن هذه الغريزة من نفسه مبلغًا ما أراني فيه
قادرة على إضلاله، ولا هو يحتاج في الاهتداء إذا أنا أضللته إلى إلقاء الحصى
وفتات الخبز في الطرق لتكون كالصوى والأعلام [3] ؛ لأنه يهتدي بنفسه ولا يلبث
أن يميز بمهب الريح وحركة السحاب الجهة التي ينبغي أن يؤمها، وأرى أن الذي
أظهر هذا الاستعداد فيه هو ما استفاده بالعمل من صحبة (قوبيدون) فأنت تعلم أن
في عيني هذا الزنجي ورأسه بيت إبرة مغناطيسية.
لا أنكر أن مثل هذه العلوم من الأوليات، وذلك يؤكد وجوب أن يتعلمها
الأطفال، وكلامي في ذلك عن خبرة وتجربة فإنني تربيت في مدرسة داخلية كان
التلميذات فيها غافلات عما وراء المدرسة من شؤون الحياة ومتاعبها، وكنت بعد
ذلك إذا خرجت إلى المزارع والرياض لا أعرف الشمال من الجنوب، ولا أميز
بين الشرق والغرب، وأخجل ذلك الخجل الضار أن أسألك عنها خشية ظهورك
على جهلي، ولو كان هذا الجهل خاصًّا بمثلي لكان الخطب سهلاً، وأراني صادقة
إذا قلت إن كثيرًا من أهل النهاية في العلم ليسوا بأوسع علمًا مني ببعض مواضيع
مساحة الكرة الأرضية العملية، لا أدري هل كتب على أميل أن يكون سائحًا
وجوَّاب آفاق؛ ولكني أرى أن الناس محتاجون في جميع أطوار الحياة إلى معرفة
الجهات والأمكنة احتياجًا تختلف درجاته، فبعضهم أحوج إلى التوسع فيها من
بعض، وإن صدق النظر إذا تعزز بالتجارب كان الإنسان ركنًا من أركان الحرية.
يأكل أميل على المائدة كالإنكليز، أعني أنه يأخذ السكين بيده اليمنى،
والشوكة باليسرى يأكل بها، وقد أنكرت هذه العادة أولاً، ثم تبين لي أنها أسهل؛
فإن استعمال كلتا اليدين معًا يمكِّن من القطع والتناول أفضل تمكين، فالإنكليز عُسر
(جمع أعسر) في الأكل دون الأعمال الصناعية، ولست أدري ما هو عذرنا في
تمرين عضو من أعضائنا على العمل، فهل كانت أعضاؤنا زائدة عما نحتاج إليه
في استعمار الأرض ومقاومة ما يعترضنا من العقبات المادية في سبيل الحياة
فنستغني عن بعضها ونغفله؟
قرأت في ترجمة حياة جيمس وات المهندس الإنكليزي الشهير أنه كان يستعمل
في طفوليته أدوات والده النجار في اختراع لعب لنفسه، أو تحويلها من شكل إلى
شكل، ويقال إن هذا التمرن ساعده كثيرًا في تدريب يده على الصناعة، وقوّى ما
كان في نفسه من الاستعداد لعلم الميكانيكا حتى صار ملكة راسخة فيه، ولا أطمع
أن يكون أميل مخترعًا لآلات جديدة؛ ولكني أرغب أن يكون ماهرًا في تحريك
أصابعه، ولهذا لا أمنعه من تكسير لعبه ليرى ما في جوفها - كما يقول - إذا تعهد
لي بإرجاعها إلى أصلها.
على أنني لاحظت أمرًا أحب أن أعرضه عليك، وهو أن لعب الأطفال تكون
مناسبة لطبيعة البلاد التي ينشأون فيها، فأهل السواحل يلعب أطفالهم بما تحدثه في
نفوسهم صناعة الملاحة، وقد أجاب قوبيدون الذي هو كالقرد في الخفة والمهارة
رغبة أميل ورفيقيه فصنع لهم بسكينه مركبًا شراعيًّا صغيرًا أنزلوه في خليج الجبل
باحتفال حافل، فكان بذلك قدوة لهم في هذه الصناعة البحرية حتى أنهم أنشأوا لهم
أسطولاً مؤلفًا من طرادات وسفن من ذوات السارية، ومن ذوات الساريتين
وقوراب وزوارق، وبعض هذه السفن مسلح بمدفع من الخشب، فكأن لسان حالهم
يقول: ها نحن أولاء مستعدون، فليهاجمنا المهاجمون، وكنت إذا سُئلت عن قيمة
هذه الأشياء السابحة على وجه الماء أظهر ترجيح ما يصنعه الأطفال من سفن
اللعب على ما يبتاع من التجار من نوعها، وإن كان أحسن منها صنعًا.
القصص والأساطير وتربية
خيال الصغير
يحب أميل العمل ويميل إلى سماع القصص كما هو المعهود من مثله.
إنني موافقة لك في انتقاد توسع الناس بمخاطبة الأطفال بما يعلو إدراكهم
وأفهامهم، وهذا من آفات التربية التي يجب تجنبها وما أعظم الفوائد والمزايا التي
يستفيدها الأطفال من تعليم أمهاتهم الشفاهي إذا تجنبنها، أحدث عندي هذا الفكر
النظر في ما يُؤثر عن جميع الأمم قبل اختراع الكتابة والتصنيف مما كان الاعتماد
في حفظه على الذاكرة، قرأت في كتاب لا أذكر اسمه الآن أن بعض اليونانيين
كانوا يعارضون قدموس [4] في وضع الحروف الهجائية لهم محتجين بأن اعتياد
الناس على إثبات حوادث التاريخ في الألواح يضعف الذاكرة بالتدريج، وكان لهذه
المعارضة وجه، وهي تشبه المعارضات التي توجه حتى الآن إلى كل ضرب من
ضروب الارتقاء حيث ينتقل الإنسان من شيء إلى آخر.
نرى الأطفال قبل تعلم القراءة والكتابة ينتحلون كثيرًا من الأفكار والآراء،
فأهم شيء يبتدئ به المربي هو النظر في اختيار أمثل ما يودعه في نفوسهم من
المعارف، ثم في اختيار أمثل الطرق لإيصال ذلك إلى أذهانهم الخالية ونقشه في
ألواح نفوسهم الصقيلة، وكثيرًا ما خرجت مع أميل عن أساليب لغتي وقواعدها
لأجل ذلك، وما كان أشد اغتباطي وسروري عندما كنت أراه يلتفت إليّ لتكلمي
بلغته، والنجاح في هذا يتوقف على إخلاص القلب ونسيان النفس وهذان الأمران
إنما يحصلان بالرياضة والمزاولة على ما أرى.
من الثابت المقرر أن للأطفال شعرًا خاصًّا تعرفه الأمهات حق المعرفة؛
ولكننا نحكِّم فيه شعرنا وخيالنا، فكيف السبيل إلى حفظ هذه القوة الشعرية وبقاء
غضاضتها بحيث لا يسقط عبثنا بها زهرها، ولا يذويها ويذهب بنضرتها لإحلال
شعرنا محلها.
الدنيا مملوءة بالحكايات التي يُدَّعى أنها وضعت للأطفال، وأمثلها حكايات
(برولت) وأرى أن ما فيها من الصنعة والحذلقة يخرج بها عن مهد الطفولية إلى
مستوى الكهول ومرتبة الشيوخ، وأفعل الحكايات في استمالة أميل وتحريك رغبته
وميله ليس مما يعهد في الشعور العام والحسن المشترك، أعني مما يجول في أذهان
البالغين دون الولدان الذين في السادسة أو السابعة، فالحكايات الخرافية القديمة جدًّا
التي لم يجفف الدرس والصنعة ما فيها من معاني الشعر الفطرية هي التي تقع من
نفسه موقع القبول في مثل هذا السن.
فمن الحكايات المتداولة في البلد الذي نسكنه ما فيه ذكر المردة والأغوال
والجنيات والتنابيل (القصار جدًّا) وهو ما يذهب بنوم الأطفال في ليالي الشتاء،
ويجذبهم إلى السُّمَّار لسماع تلك القصص محدقين بأبصارهم إلى السامر، ولي أن
أعتقد أن هذه الحكايات هي مختزلة من أشعار وقصائد قديمة ضاع أصلها، وتناقلت
الناس ما بقي من معانيها مرضع عن مرضع، وأم عن أم، حتى انتهت إلينا في
شكل يخالف شكلها الأول قليلاً أو كثيرًا.
زعم عالم من كرنواي ألاقيه أحيانًا في منزل صديقنا الدكتور أن لديه وسيلة
يثق بأن تُوصل إلى معرفة أصل هذه الخرافات، ومناشئ تلك الحكايات، وما
فهمته عنه من هذه الوسيلة هو أنه يستعين على تلك المعرفة من حيث هو عالم
أثري بلحن تلك الحكايات وفحواها من حيث مشابهتها لما نخترعه من الحكايات
وعدم ذلك، فهو يرى أنه كلما كان معنى الحكاية بعيدا عن تصورنا واختراعنا
تكون أوغل في القدم، فإذا بحثنا في شأن الجنيات في هذه الحكايات نرى أن
الجنيات في الأعصر القديمة تُوصف بأنها مجردات منزوية عن الناس، شرسة
صعبة المراس، وقوى طبيعية رُفعت إلى مرتبة الآلهة وأُلبست شعار الدين، ثم ما
زالت تقرب من الناس وتتشكل بشكل الإنسان قرنًا بعد قرن وتأنس به حتى صارت
إناثًا يتزوج بها الرجال، ومما يروونه في هذا أن رجلاً تزوج بجنية وعاشا معًا
عمرًا طويلاً في كوخ، وقد كان من طول أنسه بها أن نسي كونها جنية، إلا أنها
فرت ذات ليلة متعلقة ببعض أشعة القمر. كذلك شأن المردة فإن هذه الكائنات
الوحشية المشوهة كانت تُعرف في الزمن القديم بأنها مثار الوساوس المخيفة،
والهواجس المفزعة، وبكرور الزمان ومرور الأيام اقتربت من الإنسان في أحوال
معيشته، وضعف سلطانها في نفسه، وتأثيرها في وهمه وخياله، وتحول الرعب
الذي كان مقرونًا بذكرها وتصورها إلى الضحك والسخرية، وهكذا تنتهي دولة
الخرافات وتزول.
لا ريب أنك واقف على قصة يعقوب مواثب المردة وقاتلهم الذي كان يعيش
في كورنواي على ما يروى في الأساطير، فأميل يحب سماع حديثي عن غزوات
هذا الشاب الشجاع ابن أحد الزارعين، وأشهر وقائعه التي سار بخبرها الركبان ما
يُروى أنها وقعت في جبل ميخائيل قديس إنكلترا، وهو صخرة تكاد تكون بإزاء
منزلنا، وكان المارد الذي يخطف الناس والبهائم قد تبوأها منزلاً، واتخذها مثوى
له، وقد كان أعظم خدمة قام بها حماة في عصور الهمجية - إن لم أكن واهمة -
هي مقاتلتهم وفتكهم بالسلبة والوحوش الضارية؛ فإنهم بذلك قد طهَّروا الأرض من
العتاة والبغاة الذين كانوا يعيثون فيها فسادًا، وبهذا الاعتبار نرى اليونانيين قد
أنصفوا برفع مكانة هرقل وتيزيه [5] وجعلهم من أنصاف الآلهة، وكذلك فعل
يعقوب بالمارد؛ فإنه هاجم المارد في مغارته وانتصر على تلك القوة الوحشية
الفاتكة بالحيلة، فكان جديرًا بأن يكون خلفًا لأولئك الشجعان الأقدمين.
إن لهذه الخرافات لفضلاً ولو ألغيت من التعليم الشفاهي لأسفت كثيرًا؛ فإن
أمام الطفل في هذا العصر الذي كله حقائق زمنًا طويلاً يتسنى فيه التحقق بأخلاقنا
وعوائدنا الحقيرة، فلنغتنم فرصة فجر حياة الطفل القصير الأمد الذي ترتاح فيه
نفسه للأحاديث الخرافية، وتتأثر بغرائب الأساطير لنودع فيها أنواع الوجدان
الأعلى، ونبعثها على حب الأعمال الجليلة والسجايا الفضلى؛ فإن طبع الطفل
يتكون وينشأ في قوالب المُثُل التي تكون لها مكانة في نفسه عندما يُلقى إليه خبرها
وتمثل له صورها، نعم إن أميل لن يكون قاتل مردة وأين المردة اليوم، ولكن
قصارى ما في قص هذه القصص عليه من الفائدة أنها تهز نفسه وتحرك أريحيته
بما فيها من ذكر غزوات عصر الأبطال، ولو كنت أجد منه انقباضًا وشكًّا عندما
أقص عليه تلك الوقائع التي أبالغ عن قصد وتعمد في إخلاص أبطالها، وعلو
نفوسهم وأمانتهم لساءني ذلك وأحزنني.
نحن في شؤون الحياة لا نزال دون غايات الكمال المبتغاة فيجب علينا - إن
لم أكن واهمة - أن نعجب بما يروى عن أولئك الأبطال من فضيلة الشجاعة، وإن
بعُد احتمال وقوعها حتى لا نكون في أسفل دركات الجبن.
في نفسي أمر أنا في أشد الحذر من الإفضاء به إلى أميل لسببين: أحدهما أنه
لا يفهمه، والثاني أنه يذهب بما لهذه الخرافات من الشأن الرفيع عنده، وهو أن
تلك المردة التي هو موضوع تلك الأساطير ليست سوى أشخاص هذه الصخور
الكثيرة في كورنواي، الحق أقول إن هذه الأجرام الصوانية الهائلة تحتمل في كل
يوم أقصى ما قدر في هذا العالم على كل قوة ذات مقاومة وحشية أن تحتمله، ذلك
أن تنبالاً كان يتسلق تلك الصخور العظيمة المحيطة بذلك المكان الذي يسمونه نهاية
الأرض End Land's وينقر بأداة من الحديد نقرة يضع فيها قرطاسًا من البارود ذا
فتيلة، ويشعل الفتيلة ويكر راجعًا، فيكون الانفجار ويتصدع الصخر وتتزلزل
الأرض ويضطرب البحر، وينيطون في الأساطير مثل هذا التزلزل والاضطراب
بسقوط المارد.
يتراءى لي أن محو الخيالات من أذهان الأطفال لا يفيد المربين شيئًا، فأين
تلك الحكايات والقصص الغريبة التي كان يفتن بها الأطفال لما فيها من السذاجة
والغرابة، لقد ضاعت ونُسيت وصار عصرنا هذا وهو عصر القصص والروايات
الخيالية أبعد الأعصر عن القصص والأساطير المذكورة؛ فإن القصص التي ندونها
في هذا العصر لا تمثل إلا الوقائع المعهود للناس نظيرها؛ لأننا لما كنا من أهل
الحقائق المعتمدين على الوقائع الثابتة، ومن سكان المدن الآهلة والحواضر البعيدة
عن الوهم والتخيل، كانت عنايتنا في التربية محصورة في إيداع جميع أذواقنا
ورغائبنا في نفوس أولادنا، أقول ما قلت لا لأنني أدَّعي الحكمة والفلسفة وأعوذ
بالله من دعوى الإشراف على الغيب والحكم على الاستقبال؛ ولكنني أسائل نفسي
عن حال هؤلاء الأطفال الذين صاروا شيوخًا وهم في سن اللبان، وقد قطعنا عليهم
طريق الوهم والخيال، فنحن نعلمهم قيمة الفضة وهم في طور يجهلون فيه الحسن
المطلق والجمال الذاتي، ومن العبث أن يقال إن ما تصفه لنا الأساطير من الأخلاق
الفاضلة والمزايا العظيمة لا أثر له في الوجود؛ فإن عدم وجود أولئك الرجال
والنساء الموصوفين بما ذكر من الأخلاق والمزايا في أنديتنا وسمَّارنا وعدم تجوالهم
في أسواقنا وشوارعنا يجب أن يكون من الأسباب التي تحملنا على عدم إخراجهم
وطردهم من جنة الطفولية حيث يتمتع الأطفال في عالم التصور والخيال،
فأستحلف القائمين بأمر التربية بالله تعالى أن يدعوا لهم متبوأ في البيوت.
وأما أنت يا عوالم الخيال، من الجنيات والأبطال التي هززت قلوبنا في
طور الطفولية، وحركت نفوسنا للخيرات والفضائل النفسية، بما كشفت من النقاب
عن وجه الكمال، وأبرزت من مظاهر الجمال والجلال، لا تزولي ولا تحتجبي عنا
في جو هذا العصر الوخيم، المثقل بضروب الحسبان والهموم، الذي شغلت أهله
الأغراض المادية، وطلب المنافع الجسمانية؛ فإننا نصغر ونحقر إذا صرفنا أولادنا
عن الاعتقاد بعظمتك الخيالية، التي علمتنا الحسن الذاتي، والعظمة الحقيقية.
أرى أن من الخطا أن تعاب هذه الخرافات ببعدها عن الحقيقة فإن هذا وإن
كان مذمومًا بالنسبة إلينا، إلا أنه يحمد بالنسبة إلى طور آخر من أطوال العمر،
فما يظهر لنا بعيدًا عن الحقيقة حقيقي في نظر الطفل، أخذت هذا الحكم من طبع
أميل الذي أتبجح بأني سبرته واختبرته، فهو على عدم سماعه شيئًا من الدين متدين
بطريقة خاصة به، وله قوة عجيبة في ابتداع الصور الخيالية التي يمتاز بها
الإنسان في طور الطفولية، وتضعف في سائر أطواره بالتدريج؛ فإنه يرى وراء
كل حادثة كونية كالمطر والريح وغروب الشمس قوة حية، بل ذاتًا مشخصة، فقد
فر منذ أيام من البستان مذعورًا؛ لأنه رأى سحابًا مركومًا ظهر في السماء بأشكال
غريبة، وقال لي إنه رأى فيه رأس شيخ ذي لحية بيضاء، أليس لمثل هذا التأثر
الناشئ من الخوف - خوف الإجلال والإعظام - الفضل في إدراك معنى الألوهية
الأول الذي فهمه الإنسان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معرب من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(2) خرت الأرض: (كنصر) عرفها ولم تخْفَ عليه طرقها، ولعل لفظ (الخارطة) أو الخريطة مأخوذ منها.
(3) تشير إلى أسطورة الأصيبع التي تقدمت في المكتوب 25 راجع (جزء 31 مجلد 3) .
(4) قدموس: هو الرجل الفينيقي الذي أنشأ مدينة طيبة، ونقل الحروف الهجائية من مصر إلى بلاد اليونان.
(5) هرقل أو هرقول اليوناني: هو كما في أساطير اليونان الخرافية (ميثولوجيا) ابن جوبتيتر (المشتري) كبير الآلهة من زوجه ألكمين، وأعظم الشجعان الذين كانوا يقتلون التنانين والضواري والأفاعي العظيمة، وتيزيه من شجعان اليونان المشهورين وهو ابن (أجيه) ملك أثينا قتل مينوتور، وهو - بحسب خرافاتهم - وحش نصفه آدمي ونصفه ثور، واشتهر في وقائع عصر الشجعان.(4/338)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر
اُحتفل بامتحان تلامذة مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية في مصر في مساء
يوم الجمعة الماضي احتفالاً شائقًا رأسه فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية، وحضره كثيرون من العلماء والوجهاء،
وافتتح الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة آيات من القرآن الكريم بالتجويد والترتيل، ثم
أنشد طائفة من التلامذة أنشودة نوَّهوا فيها بفضل رجال الجمعية، ورحبوا
بالحاضرين وختموها بالدعاء لمولانا السلطان وللجناب العالي الخديوي، ثم وقف
تلميذ وتلا خطبة وجيزة بيَّن فيها الغرض من التربية والتعليم في مدارس هذه
الجمعية، وهو تكميل النفس والاستعداد للدخول في أبواب المعيشة وتفضيل
الصناعة والحِرف على غيرها، وتوجيه النفس لترقية كل تلميذ صناعة والده
وحرفته بما يكتسبه من العلم الذي كان والده محرومًا منه، ومعلوم أن جميع هؤلاء
التلامذة من أولاد الفقراء المحترفين تعلمهم الجمعية وتربيهم على نفقتها، ثم وقف
تلميذ آخر فأُعطي كتاب (الدروس الحكمية) ففتحه وقرأ منه نبذة جاءت أمامه
بالعرض من الدرس الذي يبين حاجة البشر إلى الدين، فأحسن القراءة وبيَّن معانيها
على وجه الصواب، فناقشه الأستاذ الرئيس في الفهم وسأله عن معنى الآية التي
افتتح بها الدرس، فأحسن في الإجابة والتفسير حتى أنه فسر ما لم يُذْكَر في الكتاب
من تتمة الآية الكريمة، ثم تكلم تلميذ آخر في حكم فريضة الزكاة وفوائدها للمزكي
وللفقراء وللهيئة الاجتماعية، ومن ذلك أنها العلاج الواقي من داء الفوضى
والاشتراك، وختم كلامه بقوله: (لا فوضوية في الإسلام) فصفق له الحاضرون
كما صفقوا لمن قبله ولمن بعده، ثم امتحن تلميذ آخر بإعراب جملة فيها تقدير دقيق
فأجاد في الإعراب، وأنبا عن فهم يحالف الصواب، وامتحن آخرون في الحساب
وفي الجغرافيا والرسم حيث رسم أحدهم خارطة أوربا وبين ممالكها وعواصمها،
وسأله الأستاذ الرئيس هل خطر لك أن تسافر إلى عاصمة من هذه العواصم، فقال:
نعم تمنيت أن أزور باريس، فسأله أن يبيِّن خطة السفر من القاهرة إلى باريس،
فبيَّنها أحسن بيان، وعرض بعض التلامذة على الحاضرين نموذجات من خطوطهم
ورسومهم في غاية الإتقان والجودة، وخطب آخرون من التلامذة في بيان فوائد
التربية والتعليم وفوائد الجمعيات الخيرية، ثم خُتم الامتحان كما بُدئ بترتيل أحد
التلامذة آيات من الكتاب العزيز.
وبعد هذا وقف مولانا الأستاذ رئيس الجمعية، وشكر للحاضرين عنايتهم
بحضور الاحتفال بامتحان أولاد الفقراء، ومشاهدة أثر تربيتهم، ثم تكلم في بيان
غرض الجمعية من تربية هؤلاء الأطفال الفقراء، وهو تهذيب نفوسهم ومساعدتهم
كل واحد منهم على إحياء صناعة والده وترقيتها، إلا أن يرى نفسه مستعدًّا لصناعة
أعلى منها وأرقى، وذكر أن الجمعية تساعد بالمال من يتخرج من مدارسها ويشتغل
بصناعة والده مدة سنة، وأنها تُعلِّم التلامذة بأنهم لوالديهم أولاً، ثم للأقربين، ثم
للأمة، وتُعلِّمهم احترام آباءهم وأمهاتهم، وتنزع من نفوسهم الميل إلى وظائف
الحكومة، وههنا انتقل الأستاذ لبيان مفاسد التربية في سائر المدارس وحال الذين
يتعلمون فيها وفي أوربا، وكيف يكون الإنسان بعد التعليم مشغولاً بالأماني الباطلة
التي لا تُدرك، محتقِرًا لوالديه وأهله وللناس، يقضي معظم أوقاته في الملاهي ومعاهد
البطالة واللغو في الغالب، ثم بيَّن وجه حاجة الأمة إلى تربية الطبقات الدنيا، وأنها
لا ترتقي ولا تسعد إلا بذلك؛ لأنهم هم الذين يقومون بمعظم الشؤون، وأكثر
الحرف التي لا يستغني عنها الخواص ولا يهنأ لهم عيش ما دام أصحابها فاسدي
التربية فاقدي الآداب، وقال إن جراثيم الخير التي تلقيها مدارس الجمعية في نفوس
التلامذة لا بد أن تنمو وتغلب على جراثيم الشر التي أصيبوا بها من البيئة (الوسط)
التي يعيشون فيها؛ لأن الحق دائمًا يغلب الباطل، والخير يصرع الشر، إلا إذا
اضمحل أنصار الحق ودعاة الخير، وضاعوا في كثرة الأشرار، قال: وربما
ينازعني بعض السامعين في هذه القاعدة مستدلاًّ باستحواذ الشرور على الناس،
وأكتفي بأن أجيب هؤلاء بكلمة واحدة وهي ائتوني بعشرة من دعاة الخير في القوم
الذين تحكمون بفسادهم، وتغلب جراثيم الشر فيهم على جراثيم الخير.
ثم ختم خطابه بتوزيع الجوائز على نجباء التلاميذ مبينًا أن لها مصدرين:
أحدهما أن اللجنة التي تألفت لإيجاد أثر يُخَلِّد ذكر المرحوم علي باشا مبارك لخدمته
المعارف كانت ارتأت أن تقيم له تمثالاً في نظارة المعارف، ثم رجعت عن هذا
الرأي؛ لأن معظم الأمة المصرية يُعِدُّ التماثيل إهانة لا تكريمًا، ويسمون التمثال
(الصورة المسخوطة) أي الممسوخة، وترجح للجنة أن تعطي هذه الدراهم للجمعية
الخيرية تستغلها وتجعل غلتها في كل سنة جوائز للنابغين من تلامذة مدارس
الجمعية الخيرية بشرط أن يؤلف أحد أعضاء الجمعية كتابًا في تاريخ علي باشا
ومآثره، ويُوزع مع الجوائز أيضًا، ويكون هذا أحسن ذكرى وأثر، قال: وقد
تأخر تأليف هذا الكتاب في هذه السنة، فرأينا من التعجيل بالبر أن توزع الجوائز،
وفي العام القابل يُوزع الكتاب - إن شاء الله تعالى - وهذا ما أصاب مدرسة القاهرة
من هذه الجائزة يعطى لأنبغ التلامذة في العربية، وأما المصدر الثاني فهو أن
الأستاذ الشيخ عبد الرحيم الدمرداش تبرع بعشرة جنيهات للجمعية شكرًا لله تعالى
على شفائه من مرض ألمَّ به، وجعلها دائمة في كل سنة.
ثم انفض الجمع وخرج القوم مسرورين بما شاهدوه من النجابة والنجاح الذي
كان فوق ما يؤملون.
__________(4/347)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عفو سمو الخديو
منذ ثلاثة أشهر ونيف عفا سمو الخديو المعظم عن حضرة الفاضل الشيخ
إبراهيم حرب الطرابلسي ورفيقيه الذين حكم عليهم في حادثة الأزهر المشهورة وفرُّوا.
__________(4/350)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(سكة الحديد الحجازية)
قد شُرع في مد قضبان الحديد بعد تسوية الأرض في القسم الأول من هذه السكة
التي هي أعظم مآثر مولانا الخليفة والسلطان الأعظم أيده الله تعالى وسدده، ويبتدئ
هذا القسم من (المزيريب) حيث منتهى السكة الحديدية بين بيروت والشام، وطوله
عشرون كيلو متر، وقد احتفل بذلك في المزيريب بحضور صاحب الدولة ناظم باشا
والي سوريا، وصاحب السعادة محمد فوزي باشا مدير إدارة لجنة السكة الحديدية في
ولاية سوريا وأحد أعضائها، ورائف باشا رئيس أركان الحرب في الفيلق السلطاني
الخامس، وذلك في يوم الاثنين ثامن ربيع الأول الأنور، وهو اليوم الذي وُلد فيه
النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على القول الصحيح، فياله من فأل حسن يبشر
بالإتمام بالخير إن شاء الله تعالى.
***
(رزء علمي ديني)
في يوم الخميس ثالث ربيع الأول توفي إلى رحمة الله - تعالى - أحد أكابر
علماء الأزهر الشريف الأستاذ الشيخ محمد راضي الكبير مفتي ديوان الأوقاف،
وشيخ رواق البحاروة في الأزهر عن نحو خمسين سنة قضاها في التعلم، ثم التعليم
وخدمة الحكومة.
كان الفقيد مالكي المذهب، ثم تمذهب بمذهب الحنفية، وأتقن فقههم حتى عين
مفتيًا لمديرية الدقهلية، ثم مفتيًا لديوان الأوقاف، ومن مزاياه التي لا يشاركه فيها
إلا القليل أنه كان لا يخاف في الحق لومة لائم، فيصرح باعتقاده وإن خالف العامة
وأنكرته الجماهير، وله واقعة مشهورة في ذلك وهو أنه صرح بإنكار ما يأتيه
العامة من المنكرات عند قبور الصالحين مما هو مشهور، وأفضنا فيه مرارًا،
فاتخذ ذلك بعض الحسدة والجهال وسيلة للخوض فيه والسعاية للحكومة وسموه
وهابيًّا، وهم لا يدرون ما هو الوهابي؛ وإنما هي ألفاظ يرمونها من غير فهم ولا
عقل، فعزلته الحكومة بناء على هذه السعاية، ثم تبين أنه ما قال إلا الحق الذي هو
مذهب السلف ولباب الدين، فرقَّاه الجناب الخديوي - أعزه الله تعالى - وجعله مفتيًا
للأوقاف، وما زال مواظبًا على التدريس وإفادة الطلاب في الجامع الأزهر حتى
أصيب بالمرض الذي انتهى بوفاته، وقد شيعت جنازته بالاحتفال اللائق بفضله
تغمده الله برحمته وعزَّى آله وذويه بمصيبته.
__________(4/351)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الواسطة والزيارة
أو ابن تيمية والسبكي
ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المشايخ المغرمين بحب الشهرة سعى بنشر
رسائل في الواسطة الشخصية بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، وكتب لذلك
مقدمة جاء فيها بالتهافت والتناقض كأنه لا يفهم ما يكتب، أو يتوهم أن الناس لا
يفهمون.
إذا كان يعتقد ما قاله في أول المقدمة من أن نجاة الأرواح إنما هي في اتباع
الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح من غير أدنى ملاحظة أو اعتراض واسترسال
مع العقل، فلماذا أَلصق بالدين ما لم يرد في كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من
الصحابة، ولا أئمة التابعين وتابعيهم من المجتهدين؛ وإنما هي نزغات عقلية
نُسبت إلى بعض العلماء لأجل ترويجها، على أن من نُسبت إليهم ليسوا بمعصومين
ولا هم ممن يجب اتباعهم لذاتهم؛ وإنما توزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع فما
رجح منها قُبل وما كان مرجوحًا تُرك ورُفض. هل جاء في كتاب الله أو سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم أمر ببناء القبور وتشريفها واتخاذ القباب عليها، وجعلها في
المساجد والصلاة إليها، وطواف الناس بها كما يطوفون بالكعبة، أم ورد النهي
الصريح عن ذلك بما لا يحتمل التأويل؟ هل نُقل في حديث صحيح أو حسن أن أحدًا
من الصحابة رضي الله تعالى عنهم طلب من قبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام
شيئًا مما يطلبه عامتنا اليوم من قبور المشايخ المشهورين بالولاية والصلاح، أو
طلبوا منه الدعاء بقضاء حاجاتهم كما يزعم صاحب المقدمة، أم قال أحد السلف
الصالح بذلك؟ كلا إن صاحب المقدمة لا يقدر على هذه الدعوى؛ ولكنه يزعم أن
بعض علماء القرون المتوسطة قال بذلك، والنجاة إنما هي في اتباع الكتاب والسنة
على ما كان عليه السلف الصالح، لا في اتباع هؤلاء الذين تدل رسائلهم التي نشرها
على أنهم قالوا ما قالوه بآرائهم؛ لأنهم لم يستدلوا عليه بما لا يصح الاستدلال به؛
ولأنهم لا يميزون بين الحديث الصحيح والموضوع؛ لأن رسائلهم هذه مملوءة - كما
قلنا - بالأحاديث الموضوعة والمنكرة.
والذي استقر عليه اجتهاد الإمام الغزالي بعدما خاض في الفلسفة والتصوف،
وتوسع في الفقه والجدل والكلام - أن السعادة في اتباع القرآن الكريم في العقائد، وما
أجمع عليه الأئمة في الأعمال والأخذ بالاحتياط فيما اختلفوا فيه، ودعوى أن بعض
الأموات يكونون واسطة بين الله وبين الناس يقضون حوائجهم بإذنه مما يتعلق
بالعقائد أولاً وبالذات، ثم بالعبادة، ولم تَرِد في كتاب ولا سنة ولا قول إمام مجتهد،
فالغزالي يحكم برفضها وإنكارها حتمًا، وإن صحت عنه تلك العبارة الفلسفية في
احتمال تأثير أرواح الموتى في عالم الشهادة، فهي ليست من الدين؛ وإنما هي من
النظريات الفلسفية، ولا بد أن يكون رجع عنها كما يفهم من كتابه (القسطاس
المستقيم) وغيره.
والذي روَّج غش أمثال هذه الرسائل من المصنفات في سوق العامة، وكثير
ممن يلبسون لباس الخاصة - هو التسليم لكل ما يُعَدُّ تعظيمًا للأنبياء والأولياء، وأخذه
بالقبول توهمًا منهم أن البحث فيه أو التوقف في قبوله يخل بالتعظيم، فما جاء في
المقدمة لهذا الشيخ الأزهري المقلد ما نصه نقلاً (لو وضع شَعْر رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاصٍ أو مذنب لنجا ذلك المذنب
ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها
بلاء، وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله
عليه وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره
والعقوبات مفوض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما
حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه من غيره، كما كان في حال حياته، فإن
تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته) اهـ النقل.
ولكن هل يجوز لنا في تعظيم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أن نقول عليه
وعلى ملائكة الله تعالى ما لا نعلم؟ كلا إن في هذه العبارة مسائل:
(1) من أين علم قائلها أن اهتمام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في
جوار الله تعالى مصروف إلى آثاره التي في الدنيا، أليس الأقرب أن يكون
مصروفًا إلى مناجاة الله تعالى والأنس بلقائه؟ .
(2) إن النجاة في الآخرة منوطة بحسب ما جاء في الكتاب والسنة بالإيمان
الصحيح والعمل الصالح، وأمر العصاة مفوض إلى الله تعالى {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (آل عمران: 129) ولم يَرِد عنه صلى الله عليه وسلم أن
وضع السوط أو الشعر على القبر من أسباب النجاة، فهل يجوز لأحد أن يزيد في
دينه ما ليس منه بحجة التعظيم، أم يجب الوقوف عند حدود الشريعة في الأحكام،
وفي التعظيم نفسه أيضًا؟
(3) لو كان وضع السوط أو الشعر على القبر منجيًا من العذاب لكان
الأجدر بذلك الاتصال به صلى الله عليه وسلم في دار الدنيا، وقد ورد في الصحيح
أن سعد بن معاذ الشهيد أحد أكابر الصحابة مات بين سَحر النبي ونَحره متكئًا على
صدره، ومع ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم بأن ضغط القبر كان عليه شديدًا.
(4) أن البلاد التي فيها من شعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالآستانة
ومصر وغيرهما أُصيبت بأنواع من البلاء، بل إن المدينة المنورة التي فيها جسده
الشريف كله قد أصيبت بألوان من البلاء حتى إن الحرم الشريف نُهب وربطت فيه
الخيول.
وحسبنا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم ما علمنا الله ورسوله ككونه رحمة
للعالمين، وكونه على خلق عظيم إلى غير ذلك مما لا يحصى، ولكن أمثال هؤلاء
المؤلفين يقولون بألسنتهم ما ليس لهم به علم ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم،
فعلينا أن نعتمد في نجاتنا على تعليم الوحي من غير أن نزيد فيه بعقولنا وأهوائنا،
أو ننتقص منه بالتأويل والتحريف، ولو صح في معاني تلك العبارة شيء لا ينافيه
الواقع، ولا يصادمه الوجود لقبلناه على ظاهره وإلا وفقنا بينه وبين الواقع كما هي
القاعدة الشرعية، وعدم ورود ذلك لا ينافي كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في
أعلى مقام.
ومن أغرب مزاعم صاحب المقدمة وأفسد قياساته المساواة بين طلب المعونة
من الأحياء وطلبها من الأموات، فإذا كان لا يفرق بين الحي والميت، وقد فرق
بينهما الوجود والشرع والعقل، أفلا يجب عليه التفريق بين ما يطلب من الأحياء
من التعاون، وبين ما يطلب من الأموات: يطلب الأحياء بعضهم من بعض
التعاون على الأمور الكسبية بأسبابها التي قرنها الله تعالى بها وأمرهم بالتعاون
عليها في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ويطلبون
من الأموات ما لا تناله يد الكاسب كجلب المصالح، أو درء المفاسد من غير أسبابها
التي قرنها الله تعالى بها، وهذا النوع مختص بالله تعالى لا يُستعان بغيره فيه كما لا
يُعبد غيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) يطلبون من
الأموات شفاء المرضى من غير معالجة، ودفع البلاء من غير سببه، يطلبون منهم
الانتقام من الأعداء الذين يعجزون عن الانتقام منهم، كتلك المرأة التي كانت تدعو
المتبولي بأن يُهْلِك الطبيب الذي عالج ابنها فمات عقيب معالجته، يطلبون منهم أن
يردوا عليهم من ضَلَّ وتاه من أولادهم، وما فَرّ أو سرق من مواشيهم، ويقدمون
لهم النذور لإرضائهم، يطلبون منهم، بل ومن قديسي النصارى (كمارجرجس)
أن يحبلوا العاقر ... إلخ إلخ.
مثل هذه المطالب يعرفها الشيخ المقلد، صاحب المقدمة وكان يعدها وأمثالها
من الشرك كما سمعت ذلك منه بأذني، وقد كان في مجلس ثابت باشا في بعض
ليالي شهر رمضان، فذكروا الوهابية فانتصر لهم وشنَّع على الذين يُعَظِّمون القبور
ويطلبون منها ما يطلبون أقبح تشنيع رد عليه في المبالغة فيه الأستاذ الشيخ حمزة
فتح الله والناس يسمعون (فما عدا مما بدا) ؟
اعتذر هذا الشيخ المقلد في آخر مقدمته عن أكثر علماء هذا العصر فيما ينتقد
عليهم من ترك إرشاد العامة وإهمال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
بأنهم بإلقاء الدروس الشرعية في أكثر المساجد قائمون بذلك حق القيام، وهذا
اعتذار غير صحيح كان يجب أن يخجل من كتابته؛ فإن أكثر المساجد خالية من
الوعاظ والمرشدين، وقراءة بعض الكتب الصعبة للمجاورين في الأزهر وما قرب
منه كمسجد سيدنا الحسين ومسجد محمد بك وجامع المؤيد - لا تغني عن العامة شيئًا
لأنهم لا يقدرون على ترك أعمالهم في النهار والهجرة إلى هذه المساجد لأجل
سماعها، ولو قدروا لما فهموها، فإذا أراد العلماء إرشاد العامة وتعليمهم دينهم
فلينتشروا في جميع المساجد، وليعلموهم ما تمس إليه حاجتهم في وقت يتسنى لهم
الاجتماع فيه كما بين المغرب والعشاء.
ثم عقَّب اعتذاره عن أولئك العلماء، واستدل على طعنه وقدحه فيهم بدليلين،
بل بشبهتين سخيفتين (إحداهما) : أنهم لو كانوا مخلصين لكسيت أقوالهم جلباب
القبول، وهذا الدليل مردود عليه لوجوه، أحدها أن جهله بقبول إرشادهم لا يدل
على نفيه فمن المقرر عند العلماء أن عدم العلم بالشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء
في نفسه، ثانيها: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لم يتبعه أحد، ومنهم من
اتبعه النفر القليل كسيدنا نوح عليه السلام، ثالثها: أن سنة الله تعالى في قبول
الإرشاد أن يكون بالتدريج، وتعريضه بهم بأنهم أُذِلُّوا وأُهِينُوا، حجة عليه، فهل
جهل ما قاساه سيد المصلحين عليه الصلاة والسلام من النفي والطرد والسب
والضرب، وأن الناس لم يؤمنوا به بمجرد دعوته إلى الإيمان، ولو لقي دعاة
الإصلاح الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر عشر معشار ما لقيه المصلح
الأعظم صلى الله عليه وسلم لكان هذا الشيخ المقلد يستدل بذلك على كفرهم ويطفئ
نار حسده بالتشفي منهم؛ ولكن الله بفضله ورحمته أراد أن يؤيدهم ويؤيد بهم الدين
ولذلك يزيدهم رفعة وعزة على ممر الأيام والسنين، وذلك من رحمته وفضله
على المسلمين، وإذا أُنظر هذا الشيخ ومُدَّ في أجله فسيشاهد أثر أولئك المصلحين،
والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين.
(الشبهة الثانية) : قوله: (ولو صدق هؤلاء فيما يزعمون لقاموا بالنهي
عما أجمعت الأمة على إنكاره كالزنا وشرب الخمر والمجاهرة بها وترك الصلاة
والصوم) ... إلخ، والجواب عنها أنهم ينهون عن هذه المحرمات العملية؛ ولكنهم
جعلوا جل عنايتهم في النهي عن المنكرات في العقائد والأخلاق؛ لأنها الأصل الذي
تبنى عليه الأعمال وإلى هذه الإشارة بحديث (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت
صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وكيف ينفع النهي
عن الأعمال مع وجود مثل هذه الرسائل التي نشرها، والمقدمة التي حبرها وفيها
السم الذي يميت خشية الله تعالى من القلوب، ويُغري الناس بالمعاصي اعتمادًا على
الوسطاء الذين ينجونهم في الآخرة، وإن أساءوا بترك الفرائض وارتكاب
المحرمات كما يقضون مصالحهم في الدنيا، وإن تركوا السعي والأسباب، نعم إن
العامة إذا رأوا كتابًا كتب عليه إنه للإمام فلان ومقدمته للإمام فلان يغترون بهذه
الألقاب الضخمة، ويأخذون ما فيها بالتسليم، فإذا رأوا فيها ما نصه: (الحديث
التاسع: من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة وصلَّى عليّ في بيت
المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه) يتوهمون أن هؤلاء الأئمة لا
ينسبون إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم يقله ويجيزونه وينصحون الناس
به، وبناء على هذا يعتقدون أن عمل فريضة عينية كالحج على المستطيع،
وواجب كفائي كالجهاد، وفعل آخر لم ترد به بخصوصه سنة - تسقط سائر الفرائض
عن الإنسان، بحيث لا يُسأل عنها، فإذا تسنى لأحد منهم ذلك، وأُمر بالصلاة
وبالصوم لا يبالي لأنه يعتقد أن الله تعالى لا يسأله عنهما، إذن فإن النهي عن هذه
الكتب، وعن الالتفات لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم أئمة مقدم على النهي عن الزنا
والخمر، وعلى الأمر بالصلاة والصوم، والحديث موضوع كما بيَّنه صاحب كتاب
(الصارم المنكى) وغيره، وفي هذه الكتب غير ذلك من الكذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وإثمها على مؤلفيها وناشريها، وعلينا النهي عن الاغترار بها
والله الموفق.
__________(4/353)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قسم الموالد والمواسم
منعت الحكومة المصرية الناس في هذا العام من كثرة الاجتماع في الموالد،
حيث لم ترخص للبغايا وللراقصات ولباعة الحشيش وأضرابهم من نصب خيامهم
في معاهد الاحتفال بالموالد، والاحتراف بحرفهم الخسيسة الضارة خوفًا من انتشار
الوباء وسريان الطاعون، وكانت تصرِّح في الإجازات بإقامة هذه الموالد بوجوب
الاقتصار على إقامة الشعائر الدينية، وعجيب من حكومة إسلامية أن تسمي البدع
شعائر إسلامية سواء كان ذلك عن علم أو عن جهل فهي كما قال الشاعر:
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
نعم زعم بعض العلماء أن هذه البدعة حسنة إذا خلت من المحرمات
والمنكرات؛ ولكن لم يقل أحد بأنها من شعائر الدين، كيف وكلها من أوضاع
المتأخرين، وهي تزيد وتتجدد حينًا بعد حين، ولم يُعرف شيء منها عن السلف
الصالحين، وقد أعجبنا من رقعة الدعوة التي أرسلها إلينا صاحب السماحة السيد
توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق لحضور الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه
وسلم تصديرها بتسمية ذلك (عادةً) فحيَّا الله العلم والفهم.
__________(4/360)
غرة ربيع الثاني - 1319هـ
17 يوليو - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورة التاسعة بين المصلح والمقلد
التقليد والتلفيق والإجماع
لمَّا ضم الشابَّ المصلح والشيخ المقلد المجلسُ التاسع ومعهما المقلد الثاني، أو
المناظر الثالث - ابتدأ المقلد الكلام فقال للمصلح: لم يبق إلا أن تبين لنا رأيك في
الوحدة الإسلامية بالنسبة للمعاملات والأحكام السياسية والقضائية، ونحن نجمع ما
عندنا من الانتقاد عليك، ثم نسرده سردًا.
الثالث: إنني لست على ثقة من حضور مجالسكم كلها، فلا بد من البحث في
كلام الإمام الغزالي السابق قبل أن يطول عليه الأمد؛ فإن هذا الإمام لم يحرِّم التقليد
كما حرمه صاحبنا؛ وإنما أباحه بالنسبة لمن عمل بالمُجْمَع عليه وعرضت له
مسائل مما اختلف فيه، فذهب إلى أن له الأخذ في ذلك بقول من يغلب على ظنه
أنه الأفضل، وهو قول لعلماء الأصول القائلين بالتقليد، وبعضهم يخالف فيه
ويقول بعدم اشتراطه لأن المقلد لا رأي له فيختار الأفضل.
المصلح: قد علمتم أنني أبديت رأيي في الوحدة الإسلامية وإنقاذ المسلمين من
ظلمات الاختلافات التي كانت أصل مرضهم وجرثومة دائهم قبل أن أطلع على كلام
الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - فلست مقلدًا له فيه؛ ولكنني أحمد الله تعالى من
صميم قلبي على موافقة فهمي في الدين لفهم حجة الإسلام وعلم الأعلام، وقد علمتم
أنه اكتفى في جمع كلمة المسلمين بأن يأخذوا عقيدتهم من القرآن الكريم، وأن
يعملوا بما أجمعت عليه الأئمة وتلقته بالقبول الأمة، ولم يكلِّف العامة بأكثر من هذا
الذي جزم بأنه هو الدواء الذي لا يحتاجون سواه، ثم إنه فرض وجود رجل صالح
فرغ من حدود التقوى كلها بترك كل ما اتفقوا على وجوب تركه، وفعل كل ما
أجمعوا على طلب فعله عند الاستطاعة، وتحير في مسائل الخلاف التي تدور بين
النفي والإثبات، فحكم على هذا بأن ينظر في أقوال الأئمة وفي سيرهم، فمن عُلم
من سيرته أنه أعلم وأحكم، ومن دليله ومدلوله أنه أقوم وأسلم، يأخذ بقوله، وقد
سُمِّي هذا النظر اجتهادًا وهو كذلك، وإنما يسمى صاحبه - كما قال ولي الله
الدهلوي - المجتهد المنتسب لأنه سار في اجتهاده على طريقة غيره بعد العلم بها،
وكذلك كان أصحاب الأئمة المجتهدين كأبي يوسف ومحمد اجتهدوا على طريقة أبي
حنيفة ومنهاجه في الاستنباط ولم يقلدوه، على أن هذه المسائل الفرعية الخلافية التي
يُعذر الإنسان بجهلها، ويُعذر بالخطأ إذا هو اجتهد فيها فأخطأ على ما هو معروف
عند الجميع - لا يضر بالوحدة الإسلامية تقليد مثل ذلك الرجل الصالح فيها أي إمام
وإن لم ينظر في حاله ودليله؛ وإنما المضر هو تفريق المسلمين شيعًا وأحزابًا، يلتزم
كل حزب الأخذ بقول عالم يسميه إمامه ويقلده هو والمنتمين إليه في كل أقوالهم
وآرائهم، ويتعصب على الحزب الذي يأخذ بأقوال العالم الآخر وآرائه حتى يؤدي ذلك
إلى إهمال الكتاب والسنة، وما يثبت بالاختبار أن فيه مصلحة الأمة في سياستها
وأحكامها إلى آخر ما أطلنا القول فيه من قبل، وقد يسرت الأمر في هذه المسائل
الفرعية الخلافية فجعلت العامي فيها مخيرًا بشرط الاحتياط بقدر الإمكان وعدم اتباع
الهوى، والإمام الغزالي وإن قال بجواز تركها أيضًا؛ فإنه ضيَّق على من أراد العمل
بها وألزمه بضرب من الاجتهاد إن لم يكن ما يسمون صاحبه المجتهد المنتسب، فليكن
ما يسمونه (الاجتهاد في المذهب) نعم إنه فرض وجود مثل هذا فرضًا بكلمة (لو)
وأشار قبل ذلك إلى أنه لا يكاد يوجد حيث قال: (ومتى تفرَّغ العامي من هذا إلى
مواضع الخلاف؟)
الثالث: بقي في نفسي قول (الدر المختار) : إن الحكم الملفق باطل
بالإجماع، ومعلوم أنه لولا قول هؤلاء المجمعين بالتقليد لما كان لنفي التلفيق فيه
معنى، فهم إذن مجمعون على التقليد، فما وجه هذه المناقشة في شيء صح فيه
الإجماع؟
المصلح: يصح أن يكون منعهم التلفيق لمنع التقليد أي لا يصح التلفيق لأنه
تقليد، والتقليد باطل ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والجواب التحقيقي أن
دعوى الإجماع ممنوعة، وتجد ذكر الخلاف في أشهر كتبكم الأزهرية كحواشي
الأمير وحواشي الباجوري على جوهرة التوحيد للقاني، ومن العجيب أن ينقل
صاحب الدر هذا القول الذي لم يقل به أحد من أئمة مذهبه، وكيف يقولونه
والمذهب كله تلفيق لأنه مذهب ثلاثة أئمة، ومن آية عدم قول أئمة الحنفية بمنع
التلفيق أن مجتهدهم في القرون المتوسطة الكمال بن الهمام نسبه في تحريره إلى
متأخر وعنى به - كما قاله شارحه - القرافي المالكي، فلو كان في المسألة نص عن
أئمتهم وهو أعلم الناس بذلك لما اقتصر على نسبتها إلى رجل واحد من متأخري
المالكية إذ قال (وقَيَّدَه متأخر) ... إلخ.
أما فتاواهم في التلفيق الصريح فهي كثيرة، ومن أشهرها وقف المنقول على
النفس الملفق من قول أبي يوسف بجواز الوقف على النفس دون المنقول، وقول
محمد بجواز وقف المنقول دون الوقف على النفس، وممن صرح بأن هذا تلفيق
الطرسوسي، وذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب كذا في تنقيح
الحامدية لابن عابدين عمدتهم في المتأخرين، وفيه أيضًا بعد أن ذكر عن الشلبي أن
وقف الدراهم على النفس ملفق من قول أبي يوسف وزفر وأن الطرسوسي حشى
على جوازه ما نصه: ورأيت بخط شيخ مشايخنا ملا علي التركماني في مجموعته
الكبيرة عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن الشلبي ما
نصه: وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه، وأن الحكم ينفذ وعليه
العمل اهـ. أما الذي في المنية فهو أن الحكم بشهادة الفساق على الغائب ينفذ وإن
كان القائل بجواز الحكم على الغائب يمنع شهادة الفساق، وذكر ابن نجيم في رسالته
في بيع الوقف بغبن فاحش مثل ما في المنية عن البزازية وجزم بأن المذهب جواز
التلفيق حيث لم يكن فيه رجوع عما عمل فيه تقليدًا أو لازمه الإجماعي، أخذ من
إطلاقهم جواز تقليد غير من قلده في غير ما عمل به، فانظر أين تضع زعم
صاحب الدر المختار الإجماع على منع التلفيق.
الثالث: إن العلامة ابن عابدين قد رفع الإشكال عن شبهة التلفيق في مذهب
الحنفية بأن التلفيق الممنوع إنما هو ما كان من مذاهب متباينة، وأما إذا كان من
أقوال أهل المذهب الواحد فلا لأن أقوالهم مبنية على قواعد إمامهم أو مروية عنه.
المصلح: هذا تحكم لا يقبله عاقل؛ فإن القاعدة الواحدة لا يمكن أن تفيد
النقيضين، ولا يمكن أن يقول عاقل ولو مقلدًا بقولين متناقضين كما في مسألتنا التي
مثلنا بها - وقف المنقول على النفس - فإذا وجدنا روايتين متناقضتين عن إمام
نحكم بأنه رجع عن إحداهما إن كانت الرواية صحيحة فيهما، كما نحكم في
الحديثين المتناقضين بأن أحدهما منسوخ إذا لم يمكن الجمع، ولا جمع بين النقيضين،
وإنما يمكن الجمع بين المتخالفين بغير التناقض، قل لي أيها القاضي الفاضل أليس
اتفاق مثل أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله تعالى - في أصول الدين عقائده وأحكامه
أقرب من اتفاق أبي حنيفة مع صاحبيه أو أحد صاحبيه مع الآخر في هذه الفروع
الاجتهادية؟ فلماذا لا تجعلون أهل الدين الواحد كأهل المذهب الواحد، إن كان أهل
المذاهب يجتمعون في بعض القواعد، فأهل الدين يجتمعون في جميع الأصول
والعقائد.
المقلد: هل يمكن أن يكون صاحب الدر مخترعًا لدعوى الإجماع، أم لا بد
له من نقل؟
الثالث: حاش لله أن يقول هذا الفقيه العلامة من عند نفسه شيئًا، فلا بد أن
يكون ناقلاً.
المصلح: صدقت ليس لمثله أن يقول شيئًا؛ لأنه ملقد والمقلد لا علم له فيقول
وإنما ينقل قول غيره وفاقًا لحضرة القاضي، وقد نقل هذه المسألة عن العلامة قاسم
وهو نقلها عن توفيق الحكام، وسواء كان هو الذي قالها أم صاحب توفيق الحكام فهي
منقوضة، والخلاف في المسألة محكي والقائلون بالتلفيق كثيرون، وقد سمعتم ما نقله
الكمال عن القرافي المالكي، وإليكما ما في حاشية ابن عرفة المالكي على الشرح
الكبير عند قول المتن مبينًا ما به الفتوى وهو: وفيه أيضًا - أي في الشبرخيتي -
امتناع التلفيق، والذي سمعناه من شيخنا نقلاً عن شيخه الصغير وغيره الصحيح
جوازه وفيه فسحة.
المقلد: إنني والله لفي حيرة من الجراءة على دعوى الإجماع في مسائل فيها
مثل هذا الخلاف والترجيح.
المصلح: لو راجعت كتب الأصول وكتب السنة والخلاف وشروحها ورأيت
خلاف العلماء في الإجماع نفسه لفهمت حق الفهم قولي السابق: (وأما العبادات فما
بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق حتى صار معلومًا من
الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم) فإنني لم أذكر السُّنة العملية
عبثًا، وكيف وإنني أعرف كثيرًا من المسائل الخلافية ادَّعوا فيها الإجماع، وذلك
أن أحدهم يطلق هذا اللفظ على ما لا يُعلم فيه خلافًا، وهل يحيط أحد غير الله تعالى
بآراء الناس وأقوالهم في عصر من الأعصار.
وإنني أذكر لكم مجمل أقوال العلماء في الإجماع، وإذا اقتضت المناظرة
تفصيلاً فإنني أذكره في وقته، قال بعضهم: إن الإجماع غير ممكن، وقال آخرون:
إنه ممكن لكنه لا يقع، وقال غيرهم: إنه يقع ولكن لا سبيل إلى العلم به فنقله متعذر
وغير ممكن، وذهب آخرون إلى أن النقل ممكن؛ ولكنه لم يقع، وحسبكم من دعوى
القائلين بالوقوع مسألتنا، ثم اختلف العلماء في طريق نقل الإجماع ومتى يكون حجة
يجب العمل، فقال بعضهم لأنه تقبل فيه أخبار الآحاد، أي بل لا بد من التواتر،
ونسب هذا القول إلى الجمهور القاضي في التقريب والغزالي في كتبه، وقال بعضهم:
إنه ليس حجة بالمرة ولا دليل على حجيته من النقل ولا من العقل، وقال قوم منهم
الإمام الرازي والآمدي إنه حجة ظنية وذهب الأكثرون إلى أنه حجة قطعية على
خلاف لهم في الإجماع السكوتي والإجماع المسبوق بخلاف، وتسمية ما يقول به بعض
المجتهدين ويسكت عنه الآخرون، فلم يُنقل عنهم فيه خلاف ولا وفاق إجماعًا -
تساهل كبير، والكلام في هذا طويل ولا غرض لنا في الخلاف؛ وإنما غرضنا في
الوفاق. والذي اتفقوا عليه شيء واحد وهو أن الذي ينكر المُجْمَع عليه المعلوم من
الدين بالضرورة كافر خارج من جماعة المسلمين، ومن عداه مؤمن سواء وافق الأكثر
أو الأقل؛ فإن الحق ليس مع الأكثر دائمًا {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) .
المقلد: دعنا من بحث الإجماع الآن وعد بنا إلى الكلام في دعواك أن أمر
الإمام الغزالي للمتحير في الخلاف بتقليد من يرى أنه أفضل وصوابه أغلب يستلزم
الاجتهاد في المذهب على الأقل، وكيف يأمر العامي بهذا النوع من الاجتهاد وهو
يحظر عليه النظر في غريب العلم كما تكرر في قوله.
المصلح: إنه لم يأمر كل عامي بالاجتهاد في المذاهب، ولا بتقليد أربابها؛
وإنما أمر بذلك شخصًا مخصوصًا فرض أنه عرف أمور الدين المتفق عليها وعمل
بها، وعرض له بعض الفروع المختلف فيها، ومثل هذا إن وجد يسهل عليه ما
ذكرناه من معرفة أحوال الأئمة ودلائلهم في الفرع أو الفروع التي تعرض له.
الثالث: إن الإمام قال: (فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم
مصيبون ما عند الله، وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين) ... إلخ،
وهو قول جازم بالتقليد على إطلاقه.
المصلح: المسائل المُجْمَع عليها المنقولة بالعمل - ومنه عمل اللسان كقراءة
الفاتحة في الصلاة - لا اجتهاد فيها ولا تقليد؛ لأن التقليد فرع الاجتهاد، والمسائل
الاجتهادية في العبادات قد علمنا حكمها عنده، وهو أن الناس ليسوا ملزمين بالبحث
عنها، ولا بالعمل بها إلا مثل ذلك الصالح المفروض، وقد علمنا أنه يأمره بنوع
من الاجتهاد ليعرف الراجح والمرجوح، وقد قلت لك من عهد قريب أنه لا ضرر
في تقليده أي إمام بها إذ لا ضرر في ترك العمل بها بالمرة؛ ولكن الدين الإسلامي
يأمر أصحابه بأن يكونوا على بصيرة في دينهم، ومن يأخذ برأي إنسان وهو لا
يعرف من سيرته شيئًا ولا يدري من أين أخذ ذلك الرأي بالمرة فلا بصيرة له بالمرة
وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر
الناس، ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم، ويُلْزِم
الإمام أو السلطان سائل الناس بالعمل باجتهادهم على ما سنبينه تبيينًا، فإن أصاب
هؤلاء الحق والعدل فلهم أجران، وإن أخطأوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة
فلهم أجر واحد، ويُعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم.
الثالث: إن قولك في العبادات مبني على القول بتجزؤ الاجتهاد إذا اعتبرنا أن
الأخذ بقول الإمام بعد معرفة حاله والوقوف على دليله تقليد له.
المصلح: أنت تعلم أن القائلين بهذا كثيرون، ومنهم ابن الصلاح والنووي من
الشافعية.
المقلد: ادَّعى بعض علماء الأصول الإجماع على أنه لا يُشترط في التقليد
اعتقاد أفضلية إمامه على سائر الأئمة.
المصلح: دعوى الإجماع مجازفة كما علمت من سابق القول؛ وإنما غرَّ
صاحب هذه الدعوى أخذ الصحابة بعضهم عن بعض، مع وجود الأفضل كالخلفاء
الأربعة وقد قدمنا أن هذا الأخذ من باب الرواية لا من باب التقليد، على أن
المفاضلة بين الأئمة والعلماء لأجل الأخذ عنهم بمسألة من المسائل هي ليست بمعنى
المفاضلة بين الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة عليهم الرضوان، أي اعتقاد أن هذا
أفضل عند الله من ذاك؛ وإنما هي بمعنى أن هذا استوفى النظر في أدلة المسألة
بتحرٍّ واجتهاد أتم مما عند الآخر الذي ربما كان أفضل عند الله منه، وقد قالوا:
يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وإنني أعتقد أن أشد الأئمة الأربعة
اجتهادًا وأكثرهم صوابًا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأعتقد مع ذلك أن كل
واحد من الأئمة الثلاثة أصاب الحق في مسائل كثيرة مما خالفه فيه، فإذا عرضت
لي مسألة لم أهتد لطريق الاستدلال عليها من نفسي أنظر في أدلتهم وأعمل بما أراه
أرجح منها، فأكون من جهة مجتهدًا وعلى بصيرة من ديني؛ لأنني عملت كل ما
في إمكاني، ومن جهة أخرى مقلدًا لمن اهتديت بهديه في النظر، وسرت على
طريقه في الاستدلال، وليس هذا هو التقليد المذموم والضار.
المقلد: إن صدري يضيق من سماع الأدلة والحجج على ترك تقليد الأئمة
الذين سارت الأمة على اتَّباعهم لما أتوقعه من الفوضى في الدين بالنسبة لعامة
المسلمين، وأما العلماء فيسهل عليهم العمل بما تقول إذا أنصفوا وجدُّوا واجتهدوا.
المصلح: هل تظن أو تتوهم أن عامة المسلمين مقلدون للأئمة ومهتدون
بهديهم؟ إن كان يختلج هذا في نفسك فعاشرهم واختبرهم يتبين لك بطلانه، هؤلاء
العوام يقلد بعضهم بعضًا وأكثر ما بقي عندهم من معرفة أحكام الدين مجمع عليه،
والنادر من يعرف بعض الأحكام الخلافية معرفة ناقصة كالوسواس في النية، أي
عامي يعرف عقيدة أبي الحسن الأشعري أو أبي منصور الماتريدي ويعرف أحكام
مذهب أحد الأئمة الأربعة؟ ومن أين يعرفه وأنت لا تكاد ترى لهم معلمًا، ولا منهم
متعلمًا لا سيما النساء الذين هم نصف الأمة، أكثرهن لا يعرفن من العقائد إلا أن
الله تعالى واحد، وأنه في السماء، وأن النبي صعد إليه ورآه، وأن العَدويَّ يرد
الأطفال التائهين، إذا دُعِي واستغيث به، وأن أبا السعود الجارحي يشفي الأمراض
المعضلة التي تعجز عنها الأطباء، وأن السيدة نفيسة تشفي الرمد، وأن مغطس
الطشطوشي يشفي من الحميات، وأن المتبولي ينتقم بسرعة من عدو من يستغيث
به إلى غير ذلك مما تعرفه، وأما الأعمال فأكثرهن يصمن حتى في زمن الحيض،
وإذا وجد فيهن مصلية فإنما تحاكي بصلاتها صلاة أمها، وقد رأيت بعيني
وأخبرتني والدتي وعمتي عن بعض نساء العلماء أنهن يصلين مكشوفات الصدور
والرؤوس كلها، أو بعضها، وحاسرات عن السواعد! وهذا لا يصح في مذهب من
المذاهب.
إن العامة خلو من المذاهب ومن أسهل الأمور تلقينهم دين الحنيفية الذي ظهر
على كماله في الأمة الأمية، ولا يوجد مقلد للمذاهب الأربعة إلا المشتغلون بالعلم،
وقد أتعبوا أنفسهم وجعلوا الدين متعسرًا على العامة فتركوه، وعلى الحكام فأخذوا
بالقوانين، والذنب عليهم في الجميع.
المقلد: طال المجلس، وستبين لنا رأيك في المعاملات في المجلس الآتي إن
شاء الله تعالى، وانصرفوا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/361)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدرس 29
الآيات البينات على صدق الوحي والنبوات
(المسألة 63) الآية أو المعجزة:
عبَّر القرآن الكريم عما أيَّد الله تعالى به الأنبياء لأجل إذعان الناس لهم
وقبولهم دعوتهم بالآيات، واصطلح المتكلمون على تسميتها معجزات، واختلفوا في
وجه دلالة المعجزة على صدق النبي الذي ظهرت على يديه هل هي عقلية أو عادية
أو وضعية؛ لأنها بمعنى قوله تعالى: صدق عبدي فيما يبلِّغ عني، ولا نبحث في
مثل هذه الخلافات النظرية؛ وإنما نقول: إن القصد منها الحمل على قبول الدعوة
والإذعان للرسالة عند استعداد الأمة لذلك، وإقامة الحجة البالغة على المعاندين
بحيث ينقطع لسان الاعتذار من أهل الجحود والإنكار.
وقد كان ما جاء به كل نبي كافيًا في هذا المقصد، فاهتدى بهديهم كثيرون من
المستعدين، وحقت الكلمة على المكابرين {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) فالآية أو المعجزة أمر يؤيد الله تعالى به نبيه،
ويخضع له به النفوس، وكان يختلف باختلاف الأمم ومعارفها ودرجات ارتقائها،
ومهما اختلفت الآيات وكثرت أفرادها؛ فإنها ترجع إلى نوعين آيات كونية آفاقية
وآيات علمية نفسية.
م (64) الآيات الكونية الآفاقية:
أودع الله في فطرة الإنسان الاعتقاد بقوة غيبية تعلو جميع القوى، وقدرة
علوية تفوق جميع القُدَر، وأودع في غريزته ميلاً لمعرفة الأشياء بعللها وأسبابها
والوقوف على مناشئها وآثارها، فإذا رأى شيئًا لا يعرف له سببًا طبيعيًّا، ولا منشأ
كسبيًّا، يحيله على تلك القوة الغيبية، والسلطة السماوية، ويعبد المظهر الذي قام
به ويخضع ويستخذي للرجل الذي برز على يده، وذلك الاعتقاد كان أصلاً للوثنية
ثم به جذب الإنسان إلى الإيمان عندما ارتقى إلى درجة يميز فيها بين مظاهر
الآيات والغرائب ومجاليها، وبين موجدها الحقيقي ومنشيها، ارتقى في الوثنية من
الخضوع والعبادة لأبسط المظاهر الطبيعية إلى عبادة أعظمها وأبدعها كالكواكب
والإنسان، ثم ارتقى من الوثنية إلى التوحيد عندما استعد في ارتقائه إلى فهمه كما
قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213) وهذا الارتقاء الذي غايته التوحيد هو الذي نطقت به
الآية الشريفة {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)
(راجع المنار ج 8 م4) .
لكن الذين يخضعون لمن تظهر على يديه أمور خارقة للعوائد المألوفة ومخالفة
للسنن المعروفة، لمجرد الجهل بمناشئها، وعدم نفوذ عقولهم إلى حقيقتها - يكونون
دائمًا عرضة للانخداع بشعوذة المشعوذين وحيل السحرة والدجالين، ومستعدين
للرجوع إلى الوثنية، وعبادة من ظهرت على يديه الخارقة الكونية، ألم تر إلى بني
إسرائيل حين أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم كيف قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل
لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: 138) ثم كيف اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه،
ثم إلى النصارى كيف عبدوا السيد المسيح عليه السلام، ولكن لا مَنْدُوحة عن هذا؛
لأن نظام الارتقاء الذي أقام الله فيه نوع الإنسان يقتضيه فإن الإنسان في تلك الأمم
لم يكن مرتقيًا إلى فهم البراهين على مسائل الاعتقاد، وفهم الحكمة من الشرائع
والأحكام الأدبية والعملية، والآيات الكونية التي أوتيها موسى وعيسى عليهما
الصلاة والسلام ليست براهين على ما يجب اعتقاده من تنزيه الله وتوحيده ومعنى
النبوة، وما يجب اعتقاده في النبي، ولا على منفعة الآداب والأحكام التي جاء بها
وموافقتها لمصلحة البشر؛ وإنما هي شيء تخضع له النفس وتستخذي أمام صاحبه
أو تحمله على ما يشابهه مما يسمع ويرى من السحرة والمشعوذين، أما الذي يصلح
برهانًا قاطعًا على صدق النبي لا يمكن لمن آمن بسببه أن يرجع عن الإيمان، فهو
النوع الثاني وهو الآيات النفسية والعلمية التي منحها الله تعالى للإنسان عندما ارتقى
ارتقاء يمكنه به فهمها.
م (65) الآيات النفسية العلمية:
هي ما تدل على صدق النبي دلالة حقيقية بالبرهان الذي يجزم العقل بأن
صاحبها مؤيد من الله تعالى، وموحى إليه ما بلَّغه ودعا إليه؛ لأنها عبارة عن كون
حال النبي وما جاء به يشهدان بأنهما لا يمكن أن يكونا إلا بإمداد إلهي ووحي
سماوي؛ لأنها كحجة من يدعي الطب ويستدل على دعواه بمعالجة المرضى
وشفائهم على يده، وبالإتيان بكتاب في الطب إذا عمل به الناس تذهب أمراضهم
وتحفظ صحتهم؛ ولكن مدعي الطب إذا استدل على صدقه بأنه يقلب العصا حية،
ويكشف حيلة مشعوذ يُري الناس الحبال والعصي حيَّات وثعابين، وفعل ذلك لم يكن
بين الدليل والمدلول اتصال يربط أحدهم بالآخر؛ وإنما خضع من خضع من الناس
لسيدنا موسى بما ظهر على يديه من الآيات الكونية لما رسخ في طباعهم من
الخضوع لكل ذي مظهر غريب يفوق إدراكهم؛ لأنها براهين أقنعت عقولهم بصدق
الدعوى التي قام بها ألا تراهم كيف حنُّوا إلى عبادة الأصنام، وطلبوا من موسى أن
يجعل لهم إلهًا مثلها، على أنهم لم يميزوا بينها وبين السحر إلا أن صاحبها غلب
السحرة، اللهم إلا السحرة أنفسهم فإنهم عرفوا الفرق بينها وبين ما جاءوا به من
التمويهات الصناعية والشعوذة التخييلية؛ ولذلك اختاروا القتل والصلب على
الرجوع عن الإيمان.
م (66) آية خاتم الأنبياء والمرسلين:
لما استعد النوع الإنساني إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان والتمييز بين
الخير والشر بالدليل والحجة، وكان لا بد له في هذا الطور من معلم ومرشد كما في
الأطوار الأخرى أرسل الله تعالى إليه رسولاً يهديه إلى طرق النظر والاستدلال،
ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى، وأن لا يأخذ شيئًا إلا بدليل
وبرهان يوصل إلى العلم القطعي فيما لا بد فيه من القطع، وإلى الظن الغالب فيما
تقوم المصلحة فيه بالاكتفاء بغلبة الظن، وكانت عمدة هذا الرسول عليه الصلاة
والسلام في الاستدلال على نبوته ورسالته نفسه وما جاء فيه من النور والهدى
كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب بما يبديه من العلم والعمل الناجح
فيها.
قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) فتحداهم في الآية بالإتيان بسورة هادية للناس كسور القرآن من
أميٍّ لم يتربَّ، ولم يتعلم شيئًا مثل النبي الذي جاء به، وقال تعالى: {يس *
وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يس: 1-4)
استدل بالقرآن الناطق بالحكمة، وبقيام من جاء به على صراط الاستقامة على أنه
مرسل من ربه لبيان الحق وهداية الخلق، وقال جل ذكره: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ
مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) احتج ههنا بنوع
من أنواع علوم القرآن وهو بيان سيرة المرسلين وما في صحفهم من النور والفرقان
وهذا شيء لم يكن يعرفه هو ولا قومه من العرب كما قال سبحانه بعد ذكر قصة
نوح {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا
فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يُؤْمِنُونُ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا
إِلاَّ الكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ
المُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ
الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا
نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 47-52) .
سبق هذه الآيات الأمر بالإيمان بما أنزل على الأنبياء السابقين وأشار بقوله:
(وكذلك) إلى أن إنزال الكتاب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من جنس
الإنزال على من قبله، وفي هذا حجة على أهل الكتاب، وبيَّن أنه لا يجحد بآيات
الله التي نصبها على صدق الرسالة إلا الذين صار الكفر صفة من صفاتهم الراسخة
وقفَّى هذا ببينات آية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنها كتاب العلم والهدى
من الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، وكون الكتاب بيِّن الصدق قاطع البرهان ناصع
البيان بالنسبة لمن أوتي العلم، ورزق الفهم فصار يميز بين الحق والباطل، ويزيل
بين النافع والضار، وإذا كان كذلك فلا ريب أنه لا يجحد به إلا المتوغلون في ظلم
النفس، العريقون في مكابرة العقل والحس، ثم ذكر طلب هؤلاء الكافرين بالنعم،
الخافرين للذمم، آية كونية آفاقية كالآيات التي خوفت بها الأمم من قبلهم حتى
انقادت واستسلمت، أو أُخذت وأُهلكت، وأمر نبيه بأن يجيب هؤلاء الأغبياء بأن
الآيات عند الله لا في أيدي الأنبياء، وأن حكمته تعالى في تربية الإنسان، اقتضت
بأن يكون هذا الطور طور البيان، وأنه صلى الله عليه وسلم ليس إلا نذيرًا مبينًا،
وهاديًا أمينًا، ثم نبههم تعالى على أن آيته - وهو النبي الأمي - كتاب يشتمل على
الرحمة التي تصلح بها قلوب العالمين، والذكرى التي تُزع النفوس عن الشر
وتحملها على الخير، بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على
الجاحدين المعاندين، ثم أمره الله تعالى أن يكتفي بشهادة الله في كتابه بينه وبينهم،
حيث أقام الحجج البالغة على حقية ما جاء به وبطلان ما هم فيه، وبيَّن وهو عالم
الغيب والشهادة أن العاقبة الصالحة للذين يتقون {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ
أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 52) وكذلك كان، والحمد لله على نعمة
القرآن، وسيأتي تفصيل كون الإسلام برهان على نفسه وصدق من جاء به في
الكلام على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
م (67) تعزيز الكلام بقول أحد الأئمة الأعلام:
لما ترك المسلمون أخذ الدين بالبرهان، كما يرشدهم إليه القرآن، وتركوا
النظر واطمأنوا لتقليد مَن غبر، صاروا يرتابون بكلام الأحياء، إذا لم يسند لبعض
الأموات من العلماء، وما ذكرناه من التفرقة بين الآية الكونية، والآية النفسية
العلمية، لا يوجد مثله في كتب العقائد المتداولة التي لم تنشر إلا والعلم قد طُوي
بساطه، والفهم قد انطمس صراطه، وصار الحق يُعرف بالرجال، والرجال
تُعرف بالموت والزوال، فرأينا أن نعززه بكلمة من كلام بعض المتقدمين، رحمة
بالمقلدين المساكين.
عقد حجة الإسلام الغزالي في كتاب (القسطاس المستقيم) فصلاً بيَّن فيه
الاستغناء بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أمته عن إمام معصوم آخر،
ومعرفة صدقه بطريق أوضح من النظر في المعجزات وأوثق منه وسماه (طريق
العارفين) ومما جاء فيه أن مُنَاظِر الإمام الغزالي وهو رجل من الباطنية القائلين
بأن الحق لا يُعرف إلا بوجود إمام معصوم، قال له بعد ما أوضح له الموازين التي
جاء بها القرآن للتمييز بين الحق والباطل والخير والشر ما يأتي مع جوابه وهو:
لقد ساعدتني على أن التعليم حق، وأن الإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم،
واعترفت أن كل واحد لا يمكنه أن يأخذ العلم من النبي صلى الله عليه وسلم دون
معرفة الميزان، وأنه لا يمكنه معرفة تمام الميزان إلا منك فكأنك ادعيت الإمامة
لنفسك خاصة فما برهانك ومعجزتك؛ فإن إمامي إما أن يقيم معجزة، وإما أن يحتج
بالنص المتعاقب من آبائه إليه، فأين نصك وأين معجزتك؟ فقلت: أما قولك:
(إنك تدعي الإمامة لنفسك خاصة) فليس كذلك فإني أرجو أن يشاركني غيري في
هذه المعرفة فيمكن أن يُتعلم منه كما يُتعلم مني فلا أجعل التعليم وقفًا على نفسي،
وأما قولك: تدعي الإمامة لنفسك، فاعلم أن الإمام قد نعني به الذي يتعلم من الله
تعالى بواسطة جبريل، وهذا لا أدعيه لنفسي، وقد نعني به الذي يتعلم من الله بغير
جبريل، ومن جبريل بواسطة الرسول، ولهذا سُمي علي رضي الله عنه إمامًا؛
فإنه تعلم من الرسول لا من جبريل، وأنا بهذا المعنى أدعي الإمامة لنفسي، أما
برهاني عليه فأوضح من النص ومما تعتقده معجزة؛ فإن ثلاثة أنفس لو ادعوا
عندك أنهم يحفظون القرآن فقلت: ما برهانكم؟ فقال أحدهم: برهاني أنه نص
عليَّ الكسائي أستاذ المقرئين إذ نص على أستاذي وأستاذي نصَّ عليَّ، فكأن
الكسائي نص عليَّ، وقال الثاني: إني أقلب العصا حية، وقلب العصا حية، وقال
الثالث: برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من غير مصحف، فليت شعري
أي هذه البراهين أوضح عندك وقلبك بأيها أشد تصديقًا؟ فقال: بالذي قرأ القرآن
فهو غاية البراهين إذ لا يخالجني فيه ريب، أما نص أستاذه عليه ونص الكسائي
على أستاذه فيتصور أن تقع فيه أغاليط، لا سيما عند طول الأسفار، وأما قلب
العصا حية، فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس، وإن لم يكن تلبيسًا فغايته أنه فعل
عجيب، ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظًا للقرآن؟
قلت: فبرهاني إذن أيضًا أني كما عرفت هذه الموازين فقد عرّفت وأفهمت
وأزلت الشك عن قلبك في صحته، فيلزمك الإيمان بإمامتي كما أنك إذا تعلمت
الحساب من أستاذ حصل لك علم بالحساب، وعلم آخر ضروري بأن أستاذك
حاسب وعالم بالحساب كذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أيضًا في أنه
حاسب، وكذلك آمنت أنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق موسى عليه
السلام لا بشق القمر ولا بقلب العصا حية بمجردهما؛ فإن ذلك يتطرق إليه حينئذ
التباس كثير لا يوثق به، بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل؛ فإن
التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جدًا؛ لكني تعلمت الموازين من القرآن، ثم
وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل
الفجور وثواب أهل الطاعة كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن، فوجدت جميعها
موافقة لها في القرآن، ولما في الأخبار فتيقنت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم
صادق، وأن القرآن حق وفعلت كما قال علي رضي الله عنه إذ قال: لا تعرف
الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله، فكانت معرفتي بصدق النبي ضرورية
كمعرفتك إذا رأيت رجلاً عربيًّا يناظر في مسألة من مسائل الفقه ويحسن فيها ويأتي
بالفقه الصحيح الصريح؛ فإنك لا تتمارى في أنه فقيه، ويقينك الحاصل به أوضح
من اليقين بقلب ألف عصا ثعابين؛ لأن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس
والطلسم وغيرها. انتهى المراد منه، وقد حكم الإمام بعد ذلك بأن إيمان العوام
والمتكلمين ضعيف لأنهم لم يسلكوا هذه الطريقة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/371)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين على الإسلام
وشبهات التاريخ على اليهودية والنصرانية
كتبنا نبذة معنونة بهذا العنوان في الجزء الخامس ذكرنا في فاتحتها أننا طلاب
مودة والتئام، لا عوامل نزاع وخصام، وأننا لا نود أن يطعن أحد من المسلمين
والنصارى في دين الآخر؛ لأن إظهار كل فريق محاسن دينه كافية في الدعوة إليه
من غير حاجة إلى الطعن، فقد قام الإسلام بهذه الآداب ونما نموًّا وانتشر انتشارًا
سريعًا لم يُعرف له نظير في التاريخ، وذكرنا أيضًا أن إخواننا المسلمين إذا وافقونا
على استعذاب هذا المشرب؛ فإن المسيحيين لا يوافقوننا عليه؛ لأنهم يؤلفون الكتب
والرسائل، وينشرون الجرائد للطعن في ديننا ويرسلونها إلينا للرد عليها.
وقد ألَّف بعض أدبائهم وعلماء دينهم (نقولا أفندي غبريل) كتابًا جديدًا في
الدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام يتميز على الكتب الأخرى بالنزاهة والخلو
من الألفاظ التي تدعى شتمًا، وقد أهدانا هذا الكتاب لنتكلم عنه في المنار، ثم لقينا
وطالبنا بأن نكتب رأينا فيه وإن كان إبطالاً لدعاويه، ولقينا أيضًا بعض المبشرين
رفقاء المؤلف، وألح علينا بالكتابة إلحاحًا، وأكد القول بوجوبها تأكيدًا.
لا جرم أن المجادلة هي وظيفة هؤلاء التي يعيشون بها، فالبائع يطلب مشتريًا،
والمجادل يطلب مجادلاً؛ ولكن طلب الرد على الكتاب لم يقتصر على هؤلاء حتى قام
يطلبه منا بعض أصحاب الجرائد من المسيحيين كرصيفنا الفاضل صاحب السعادة
سليم باشا الحموي طلب ذلك منا قولاً وكتابة في جريدة الفلاح الغراء، ولا شك أننا إذا
كلنا لهؤلاء المؤلفين الصاع بالصاع بأن تجاوزنا حدود المدافعة إلى المهاجمة، يرون
شبرنا ذراعًا وذراعنا باعًا؛ فإنه إذا لم يثبت دين الفطرة لا يمكن أن يثبت دين، ولولا
أن الإسلام محجوب عن الأنظار بالمسلمين لأخذ به جميع عقلاء الأوربيين.
يتبين ذلك لمن نظر في الأديان الثلاثة من كتبها المقدسة، مع معرفة تواريخ
الذين جاءوا بتلك الكتب وسيرهم، وقد جرت لنا في هذا الموضوع محادثة مع أحد
علماء التاريخ المسيحيين الجغرافيين الذين لا يتعصبون في الحقيقة لدين، وكان
موضوع الكلام (من هو أعظم رجال التاريخ) وفرضنا أنفسنا غير معتقدين بدين،
فذكرت محمدًا وذكر موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام متفقين على أنهم أعاظم
الرجال، مختلفين في أعظمهم وأفضلهم بحسب حاله وأثره التاريخي.
فقلت إن موسى تربى في بيت أعظم ملك في العالم لذلك العهد على أنه ابنه،
فنشأ في مهد المُلك والسلطان، وأُشرب حب السيادة والحكم، وشاهد سير المدنية
والعلوم الكونية والسحرية، وأبصر فنون الصنائع، وتقلب في ظل القوانين
والشرائع، وأظهرت عزة المُلك ما اقتضاه مزاجه من الشجاعة والإقدام، ثم لما بلغ
أشده وصار لفرعون وآله عدوًّا وحزنًا علم أن له أمة مضطهدة مهانة على ما منحته
من ذكاء الفطرة والجد في العمل وكثرة النسل، فاتخذهم عصبية له، وحاول
تأسيس مُلك نزعت إليه نفسه لما أعطته التربية الملوكية، وظاهر فرعون وجالده
أولاً بالقوة التي كان يُستولى بها على النفوس، ويُستعبد بسلطانها الشعوب، وهي
قوة الأعمال الغريبة التي نشأ في حجرها، ثم خرج عليه بقوة العصبية كما عهد من
كثيرين في ممالك متعددة، وقد أعطانا التاريخ أن من الخارجين من يؤسس إمارة أو
مملكة في داخل المملكة التي يخرج على سلطانها، وموسى قد خرج من مصر
هاربًا بقومه من فرعون، أما عبور البحر وهي الغريبة التي لا يمكن أن تكون حيلة
ولا شعوذة ولا سحرًا ولا صناعة، فقد بيَّن بعض المؤرخين أن بني إسرائيل عبروا
البحر في نهاية الجَزْر من مكان قليل العمق، ولما عبر فرعون بالمصريين كانت
ثوائب المد قد أخذت بالزيادة والفيضان فغرقوا فيها، وقد جرى مثل هذا لنابليون
بونابرت فإنه عبر بعسكره البحر الأحمر في وقت الجزر إلى الشاطئ الثاني، ولمَّا
أراد الرجوع إلى شاطئ مصر كان المد قد ابتدأ، ولولا أنه أمر العسكر بأن يمسك
بعضهم ببعض حتى تغلب قوة المجموع قوة المد لغرقوا أجمعين، وما عدا هذا من
غرائب موسى ففي نقله إشكالات، وفي فهمه شبهات، وفي دلالته على نبوته
وكونه يتكلم عن الله تعالى نظر، فإذا اقتنع به بعض من مضى لا يمكن أن يقتنع به
من حضر، والشريعة التي جاء بها يشهد التاريخ بأن أكثرها موافق لشرائع
المصريين، وما بقي منها فلا يكثر على من تربى مثل تربيته، وأُعطي مثل ذكاء
قريحته.
وأما عيسى فهو رجل يهودي تربى على الشريعة الموسوية، وحكم بالقوانين
الرومانية، واطلع على الفلسفة اليونانية، فعرف مدنية ثلاث أمم كانوا أعظم أمم
الأرض مدنية، وأوسعها علمًا وحكمًا ولم يحمله شيء من ذلك على أن يشرع
شريعة جديدة، ولا أن ينشئ أمة، وإنما كان خطيبًا فصيحًا، وعلق بذهنه شيء
من إفراط بعض فلاسفة اليونان في الزهادة وترك الدنيا بالمرة، وإذلال النفس لأجل
نجاة الروح والدخول في ملكوت السماء، فطفق يخطب بذلك وتبعه بعض الفقراء
الذين وجدوا لهم بكلامه تعزية وسلوى، وطفقوا ينقلون عنه بعض الغرائب كما هو
المعهود من عامة الناس، وأن ما ينقل عنه من ذلك لا يبلغ عشر معشار ما ينقل
عن أحد أولياء المسلمين كالجيلي والبدوي، وأما كونه ولد من غير أب فهي دعوى
لا يمكن إثباتها إلا بثبوت دين الإسلام بالبرهان العقلي، لا بالغرائب وليس ذلك من
موضوعنا الآن، فالمؤرخ إذا أحسن الظن يقول: إن عيسى هو ابن يوسف النجار
زوج مريم، وهذه الزوجية لا ينكرها النصارى. فموسى كان له أثر عظيم؛ ولكن
عيسى لا يعرف له التاريخ أثر يذكر لا في العلم والإصلاح، ولا في المدنية، بل
إن تعاليمه ومواعظه تؤدي إلى فساد المدنية وخراب العمران والهبوط بالنوع
الإنساني من أُفُقه الأعلى إلى حضيض الحيوانية السفلى، لما فيها من تربية النفوس
على الذل والمهانة، والرضا بالخسف والهضيمة، والأمر بترك عمران الدنيا
وترقيتها لاعتقاد أن الجمل يدخل في سم الخياط ولا يدخل الغني ملكوت السموات،
ثم هي من جهة ثانية تعاليم إباحة؛ لأنها تُعَلِّم أن الذي يؤمن بصلب المسيسح لأجل
خلاصه هو الذي يختص بملكوت السماء، وتمحى جميع خطاياه، ومن اعتقد ذلك
يستبيح كل محظور ويتبع هواه، ومن جهة ثالثة نرى هذه التعاليم وثنية؛ لأنها
تأمر بعبادة البشر، وتطفئ نور العقل؛ لأنها تكلفه بأن يعتقد بثبوت ما يجزم بأنه
محال ككون الثلاثة واحدًا، والواحد ثلاثة، وتذهب باستقلال الفكر والإرادة إذ
تجعلها مقيدة بسلطة الرؤساء بمقتضى قاعدة أن ما يحلونه في الأرض يكون محلولاً
في السماء، وما يعقدونه في الأرض يكون معقودًا في السماء.
وأما زعم أن المدنية الأوربية مدنية مسيحية، فهو زعم منقوض بالبداهة؛
لأن هذه المدنية مادية مبنية على حب المال والسلطة والتغلب والعزة والكبرياء
والعظمة والتمتع بالشهوات، والتعاليم المسيحية تناقض هذا كله بإفراط بعيد، وما
وصل الأوربيون إلى ما وصلوا إليه إلا بعد ما نبذوا التعاليم المسيحية ظهريًّا، ولو
أن هذه المدنية من أثر التعليم المسيحي لنشأت عنه بقرب نشأته؛ ولكنها لم تظهر
إلا بعد بضع قرون من ظهوره، والنتيجة أن التاريخ لا يعرف للمسيح أثرًا في
الكون يجعله في رتبة الشارعين والمصلحين في الأمم.
وأما محمد عليه الصلاة والسلام فقد تربى يتيمًا في أمة وثنية أمية جاهلية،
ليس لها شرائع ولا قوانين ولا مدنية ولا وحدة قومية ولا معارف ولا صنائع،
وكان أعظم ارتقاء بلغته في عهده أن وجد بضعة نفر تعلموا الكتابة بسبب اختلاطهم
بالأمم الأخرى، ولم يكن هو منهم ولا السابقون إلى الإيمان به، ومع هذا أوجد أمة
ودينًا وشريعة وملكًا ومدنية في مدة قريبة لم يعهد مثلها في التاريخ.
علَّم الناس أن يبنوا عقائدهم على قواعد البراهين العقلية، وأن تكون آدابهم
وأخلاقهم على صراط الاعتدال، وأن يقوموا بحقوق الروح والجسد، وأن يراعوا
سنن الله في الخلق والأمم، وبيَّن لهم العبادات بآثارها في تزكية الروح وتطهيرها
ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما اشتُرط فيها من الخشوع ... إلخ،
وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وجعل المعاملات الدنيوية دائرة على درء
المصالح وجلب المنافع، وأطلق لهم حرية العقل والفكر، وساوى بينهم في الحقوق
لا فرق بين الملك الكبير والصعلوك الفقير ولا بين الرجل والمرأة، وأعطى المرأة
حرية التصرف في أملاكها، ووضع حدودًا عادلة لتحكم الرجال في النساء، وللرق،
ونقَّح نظام الحروب فمنع البغي والتمثيل بالقتلى وقتل من لا يقاتل كالنساء والشيوخ
والأطفال ورجال الدين ... إلخ ما ذكرته لذلك المؤرخ المحقق، وسأفصل القول فيه
في دروس التوحيد الآتية إن شاء الله.
وقد أذعن لي ذلك الفاضل بأن محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم رجال
التاريخ، إلا أنه احتج عليّ بسوء حال المسلمين، وكونهم على خلاف ما ذكرت في
وصف الدين الإسلامي، فقلت له: إن بين الإسلام والمسلمين فرقًا كالفرق بين
المسيحية والمسيحيين أو أبعد، وحسبك أن المدنية الإسلامية ما وجدت إلا بالدين
الإسلامي - راجع مقالات مدنية العرب في مجلد المنار الثالث - وكانت تتقلص
عنهم كلما ابتدعوا في الدين، وانحرفوا عن صراطه حتى وصلوا إلى ما هم فيه
الآن، وأما المدنية الأوربية التي يسميها بعض الناس مسيحية فلم توجد إلا بعد ما
اتصل أهل أوربا بالمسلمين، وأخذوا كتبهم وترجموها وهم يزدادون ارتقاء في
مدنيتهم كلما ازدادوا بعدًا عن المسيحية، فقال: هذا مبالغة في الجانبين. وانفض
المجلس.
بقي أن ما تقدم من الشبه على نبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما الصلاة
والسلام يتناول أيضًا نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لا لأنه يرد على
دينه مثلما يرد على المعروف من دينهما، بل لأنه شهد لهما بالنبوة والهداية الإلهية
وقد ذكرنا الجواب عن ذلك في نبذة (شبهات المسيحيين على الإسلام) التي
نُشرت في الجزء الخامس من هذه السنة، ولو أنصف رجال الدين من اليهود
والنصارى لتمسكوا بذلك الجواب واتفقوا عليه؛ لأنه لا يدفع عنهم اعتراضات
علماء التاريخ والآثار العادية والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والفلسفة وعلم الاجتماع
وعلم النفس إلا هو، وأما الجواب عن آية انفلاق البحر لسيدنا موسى فهو أن ما
ذكره بعض المؤرخين من حديث المد والجزر فهو احتمال يرجح عليه أخبار الوحي
الثابت بالبرهان الحقيقي الذي بيَّناه في درس التوحيد قبل هذه المقالة، وكذلك يقال
في سائر الآيات وما يرد عليها من الشبهات، وسنجيب عما ذكرناه من اعتراض
التاريخ على التعاليم المنسوبة إلى المسيح.
وحاصل ما نقوله الآن: إن إثبات الدين إما أن يكون بنقل الآيات الكونية
الخارقة للعادات المعروفة للناس، وفيه النظر الذي تقدم في درس التوحيد، وهو
أيضًا مشترك بين الجميع؛ لأن كل أمة تنقل عن شارعها مثل ذلك، فما يقال في نقل
هؤلاء يقال في نقل الآخرين، على أن نقل المسلمين أقرب إلى الصحة من نقل
غيرهم لوجوه كثيرة، منها أن العلم والتأليف والرواية اللسانية معروفة فيهم من
القرن الأول إلى الآن، ومنها أنه لم يغلب عليهم عدو حرَّق كتبهم وطمس معالم
الثقة بدينهم وتاريخهم، ومنها أنهم لم يُضطهدوا ويضطروا لكتم دينهم، فيقال إن
التلاعب حصل في إبان الكتمان، ومنها أنهم هم الذين اخترعوا وضع التاريخ
للرجال لأجل معرفة صحة الرواية من عدمها، ولم يكن لليهود ولا للنصارى مثل
هذه المزايا، وإما أن يكون بالآيات النفسية والعلمية وهذا لا يظهر في نبي كظهوره
بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كما بيناه في درس التوحيد المنشور في هذا
الجزء، وسنزيده بيانًا فيما سيأتي كما وعدنا، وحينئذ يكون البرهان الصحيح في
هذا الوقت على نبوة موسى وعيسى عليهما السلام شهادة نبينا لهما، وإن كان الله
تعالى أعطاهما في زمنيهما آيات تناسب حال الأمم فيهما، ولا يمكن أن تثبت الآن
بنفسها، ولذلك نرى كل من يتعلم ويعقل من المنتسبين إليهما ينبذها ظهريًّا،
ويحسبها شيئًا فريًّا، ولو عرف الإسلام حق المعرفة لقبله وقبلها على وجه معقول.
إذن: إن أفضل خدمة للدين المطلق أن يُعرف الإسلام حق المعرفة؛ لتعرف
اليهودية والنصرانية أيضًا على الوجه المقبول، وذلك بالتوفيق بين التوراة
والإنجيل والقرآن، كما وفقنا في الجزء الخامس لا بالاستدلال بالقرآن على صدق
التوراة والإنجيل، ثم الاستدلال بما يسمونه توراة من تلك الكتب الكثيرة التي أُلِّف
أكثرها بعد صاحب التوراة وبالكتب والرسائل الكثيرة التي يسمون مجموعها إنجيلاً
على تكذيب القرآن؛ لأن هذا الصنيع يعود على الموضوع بالنقض فيبطل الدليل
نفسه، وأقل ما يقال فيه (تعارَضا تساقَطا) وتكون النتيجة إبطال الجميع، أي أن
القرآن هو الدليل على صحة التوراة والإنجيل، والقرآن ليس من الله - بزعمهم -
فشهادته غير حق، ودلالته غير صحيحة، وسنعود إلى الكلام على كتاب (أبحاث
المجتهدين) وعلى جريدة بشائر السلام بما يؤلف بين الأديان، ويدعو إلى إزالة
الأضغان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/379)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم
جاء في جريدة (الحاضرة) التونسية الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:
أخبرنا في العدد قبل هذا بوقوع الامتحان السنوي للمترشحين من طلبة الجامع
الأعظم لشهادة التطويع في العلوم التي حواها برنامجه، ووعدنا بإفاضة القول
والبيان في هذا المبحث العظيم الشأن، والآن وفاء بالوعد نقول:
إن ما للجامع الأعظم أم المدارس ودار العلوم الإسلامية، وكعبة الطالبين
بالمملكة التونسية وسائر الأقطار الشمالية الأفريقية من الأهمية يجعل كل فرد من
أفراد الجامعة الإسلامية دبت فيه بقية من الغيرة والحمية لا يفتر عن تحويل أنظاره
إلى ما فيه تعزيز شأنه، والاهتمام برفع مناره وتدعيم أركانه؛ ولذلك كانت دار
العلوم تلك محط رحال الأمة، ومتجه عناية الحكومات المتداولة على هذه الديار
حرصًا على ما يجتنيه شبان الطلبة من رياضها من الثمار المهمة، ولما أن الجامع
الأعظم أصبح من عهد قديم مستودع أسرار العلوم، وينبوع التحصيل في المنطوق
والمفهوم، فلا غرو أن اتجهت لعمرانه الأنظار، وأحله عقلاء الأمة وفطاحل
الرجال محلاًّ قصيًّا من الإجلال والاعتبار.
إذا تمهد ذلك نقول: لا مراء في أن المرء إنما يسعى جهده ويكابد الليالي
ويوالي الجد لغاية في النفس تنطبع في مرآة العقل، فتبقى به مدى الكد ثابتة
مرسومة يكرس لنيلها أوقاته، ويبذل في سبيل تحصيلها أنفس أنفاس حياته، فما
هي الغاية لطلبة العلم بجامع الزيتونة من يوم ولوجهم بابه وتراميهم على موارده
وأعتابه.
الغاية من ذلك ما جرت به سنن السلف من الجمع بين المنافع الدنيوية
والمثوبة الأخروية التي اقتضتها صبغة العلوم الدينية، ولهذه المميزات المتعارفة في
كل مدرسة خاصة بعلوم الدين كان أمراء هذا القطر يمدون الجامع برعاية من
صنوف العلماء القابضين على أزمة التدريس، ويفيضون عليهم من صنوف الإكرام
والعناية ما هو حقيق بهم وبأمثالهم، وما هو متعارف في سائر الممالك المنتظمة،
ولتلك الصبغة أيضًا يقتحم الشبان مشاق السفر وضروب التكاليف؛ ليكرعوا عن
مناهل التحصيل ما يعزز جانب العلم ويؤيده تأييدًا، ويوفرهم أجر الأخذ بناصره
وإعلاء مناره، ومن هذه الحيثية كان المنظور فيه في هذا التعليم الوجهة العلمية
بمعناها الأخص، أما المنافع الذاتية التي هي الشطر الثاني من تلك الغاية، فيراها
الطالب المنقطع لقراءة العلم من لوازم التحصيل والتهذيب، ومن الفوائد المنبعثة
طبعًا عن أشعة نور العرفان حتى أنه كان الفقيه البارع في علوم الشرع ليأبى أحيانًا
أن يقبل الخطة الشرعية - وأن كان من أهلها - حبًّا بتوسيع نطاق الاستكمال الذي
كان يراه غاية الآمال، ولكي لا يشغله عن ذلك شاغل الوظيفة، وهو الذي ينبغي أن
تتوجه إليه همم الرجال، وبذلك شعشعت أنوار العلوم، واستنارت بمشكاتها عقول
الطلبة لانحصارهم بين قراءة وإقراء، وإفادة واستفادة، فشيوخ الطلبة العليا من
أساتذتنا ما كانوا يأنفون من استكمال التحصيل في العلوم العليا كالفلسفة ومصطلح
الحديث والتفسير بالحضور لحلقات دروس جهابذة العلماء الأعلام، علمًا منهم أن
التقاعس عن الاستكمال نقيصة، والاعتماد على ما في الجراب خراب.
وهؤلاء طلبة الجامع الأعظم قد نقضوا بيومنا هذا تلك العهود، وخالفوا تلك
السنن حتى اضمحلت، أو كادت تضمحل آثار بعض العلوم، وأصبحت دروسها
دارسة كالتفسير والمعاني والبيان والأصول فما هو السبب؟ وإذا اتضحت الأسباب
والعلل فما هو الدواء لملاقاة هذه الحالة يا ترى؟
مَن أمعن النظر في أحوال الجامع الأعظم، وفي الأدوار التي تقلب فيها من
منذ عشرين سنة رآها منحدرة مع تيار التدلي المُشْعِر بتقويض أركان الهيئة العلمية
لأسباب، منها العدول عن ما جاء به نظام الجامع سنة 1291 القاضي بإقراء بعض
علوم استكمالية نافعة كالحساب والهندسة والتاريخ، وعدم التفات نظارة الجامع
لاستبقائها وإحيائها عملاً بنص القانون، الذي اقتضى إلحاقها بالترتيب العام لتحقق
النفع بها، فَعُدَّ ذلك التغافل قصورًا أو تقصيرًا من المنوط بهم إجراؤه، وعيبًا
وخللاً في مجموعة التعاليم والدروس، فكان ذلك من أسباب تغيير وتنقيح القانون
على معنى الإحياء لفنون اقتضت خطة الترقي مزاولتها، فلا يعقل في عصرنا هذا
أن تكون مدرسة كلية جامعة كالجامع الأعظم خلوًا من علم الحساب الذي يحتاجه
القاضي والفرضي والعدل حتى السوقة في معاملاتهم اليومية، فضلاً عن المناصب
الشرعية، فإذا فقد تدريسه بالجامع الأعظم الذي به يبتدئ الطالب دروسه غالبًا
وينتهي ضاعت عليه الفرصة لتحصيله، وربما تعطلت من أجل ذلك أو ضاعت
حقوق على أربابها كالماسح الذي لا يحسن المساحة إذا قسم أرضًا بين شركاء كانت
قسمته ضيزى غير عادلة، وعليه فنعت الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ
بالاستكمالية فيه تساهل يضيق المقام عن توضيحه؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، وأنت على علم من أن الحساب والجغرافية والتاريخ من متممات تربية
الطالب وتفقهه في أمور جامعته، ولولا ذلك لما اندرجت بمعلفة العلوم (كذا) فهي
بضاعتنا ردت إلينا.
ومن تلك الأسباب اغترار الطلبة بالإجازات والألقاب، وظنهم أن مَن حصل
على إجازة التطويع على مقتضى القانون انخرط لا محالة في سلك العلماء، ولو
كانت بضاعته من العلم مزجاة، أو كان لا يبلغ العشرين من عمره، فإذا زُجَّ به في
حلقة الامتحان، وفاز بتلك الشهادة بين الأقران، نبذ القراءة ظهريًّا، فتأهب لأخذ
مركزه من الهيئة التدريسية بتغيير سيره: يمشي في الأرض مرحًا مع تقيف وبطر
وتعبس وتقطب وتكهن وترهب، كأنما خُلعت عليه من العلوم خلعة الوحي الإلهية،
فيأنف من إلحاقه بالطلبة؛ ولذلك لا يحمل نفسه الأمَّارة بالسوء على استكمال
التحصيل، الذي هو بمعنى الكمال كفيل، فإذا انتصب للتدريس كان يخبط خبط
عشواء فلا يفيد الجليس، ولا يذكرنا بما عُهد في أمثاله من نثر الدر النفيس.
والذي يتراءى لنا من التمعن في هذه الأحوال، هو أن الداعي لهذه الحالة
(أولاً) عدم كفاءة القرار الصادر في شروط التطويع والتدريس، فقد اقتضى أن لا
يحصل على رتبة التطويع إلا من حصل على 45 عددًا في العلوم التي تُقْرَأ بالجامع
الأعظم، منها 24 عددًا وهو ما يقارب النصف تعتبر للعلوم التكميلية، بحيث كانت
هذه الموازنة راجحة على العلوم المقصودة بالذات من نظام التدريس مانعة من النبغ
فيها، و (ثانيًا) ما اعتاده المترشحون من تلخيص - إن لم نقل حفظ - أبواب الفقه
والنحو بحيث تعلق أمهات المسائل بأذهانهم، حتى إذا ما صادفهم بعضها في القرعة
فازوا وشعشعوا كشعلة من النار تهب عليها ريح فتثوى بحيث كان ذلك النجاح
الكاذب من باب التغرير بالنفس مانعًا من الترقي إلى درجات الكمال التي هي غاية
الآمال.
أما المبحث الأول فبيانه أن نصاب الأعداد المطلوبة لقبول التلميذ في رتبة
التطويع صورته والحالة هاته:
8 المقالة الفقهية إنشاء ... ... ... 6 سؤال الحساب
8 الدرس الشفاهي إلقاء ... ... ... 6 سؤال الهندسة
2 سؤال في الفقه ... ... ... ... 6 سؤال الجغرافية
3 سؤال في النحو ... ... ... 6 سؤال التاريخ
3 سؤال في الصرف ... ... ... ــ
3 سؤال في البلاغة ... ... ... 24
3 سؤال في المنطق ... ... ... ــ
ــ ... ... ... ... ... ... 54 جملة الأعداد
30 ... ... ... ... ... ...
وأما المبحث الثاني فقد أنكر جمهور المشايخ المدرسين الواقفين على حقائق
التعليم تلك الطريقة التي لا تخول الطالب ملكة حقيقية في العلوم المطلوبة منه،
فالملكة عبارة عن مقدرة التلميذ على إدراك وفهم أو حل المسائل الفقهية أو غيرها
بكمال باعه، ومزيد اطِّلاعه ولا يخفى أن هذه الدرجة والنتيجة لا تُنال بالبراعة في
مجموعة العلوم وسائل كانت أو مقاصد، لا بحصر الجهد في دائرة معلومة من
المواد والآداب إذا صادفها الطالب قبل عالمًا متطوعًا، وإن أخطئ المرمى أجل
لفرصة أخرى فهو كراكب لجة إما وإما، ولا يخفى ما في هذه المخاطرة من
المخاتلة والتحيل لحمل النفس على غرورها والهيئة العلمية على التأخر، فالذي
ينبغي في ملاقاة هذه الحالة تنقيح القرار المشار إليه بأمور، (أولها) : أن لا يُقبل
في الامتحان من حصل على أقل من نصف الأعداد المشترطة للمقالة الفقهية،
ونصف العدد الذي جُعل للتدريس حيث كان عليهما مدار تحصيل الطالب (ثانيًا) :
أن ينقص من الأعداد المشترطة في الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ نصفها
واعتبار ذلك في سؤالات تقع في علم الأصول وعلم التوحيد، حيث كانت هذه
العلوم أعلق بموضوع التدريس، وأكثر مساسًا بالمقصود منه حتى لا تؤدي الإجازة
التي يحصل عليها التلميذ إلى جهله بما هو المقصود الأصلي من مساعيه، (ثالثًا) :
أن لا يُقبل في الامتحان من الطلبة إلا من أتى على كتب المرتبة الوسطى جميعًا
وهي الكتب المبينة بترتيب الجامع الأعظم الواقع سنة 1891: (رابعًا) : أن يناط
ترشيح الطلبة لهذا الامتحان بلجنة مؤلفة من المشايخ المدرسين العارفين بأحوال
التلامذة العلمية، وما تقتضيه الإجازة من شروط الأهلية والاستحقاق بحسب نظر
أولئك المشايخ وأمانتهم وديانتهم، وما تستدعيه من التحري الباعث للهمم على طلب
الكمال حتى يأمن ناموس التحصيل من آفات الصدف (خامسًا) أن يحجر على
من قبل في درجة التطويع الإقراء والانتصاب للتدريس ثلاثة أعوام في الأقل يتمكن
فيها من استكمال نصاب التدريس بالإقبال على علوم ربما لم يكن له إلمام بها، أو
من التطلع في العلوم التي لم يحصل منها إلا على معارف طفيفة، فيقوى ساعده
وتتوفر فائدة العلم ويتحقق النفع به حسًّا ومعنى.
هذا ما اقتضى المقام إيضاحه في هذا المبحث الدقيق والموضوع الجليل،
نعرضه على أنظار أرباب الحل والعقد، وأفهام السادة العلماء الأعلام، وأذواق
طلبة العلم على معنى خدمة ركاب العلم، وتعزيز جانب التحصيل الذي هو بكل
سعادة كفيل حرصًا على ناموس العلم وعمران الجامع الأعظم حتى يتخرج منه
رجال نهجوا على سنة السلف في اكتساب الكمال، ورفع منار المعارف في
الاستقبال، ونرجو من عنايتهم أن يرمقوه بعين الاعتبار، إعلاء لشأن الخدمة
العلمية في هذه الديار، وتخليدًا لجميل الذكر وحميد الآثار، انتهى.
(المنار)
إن ما يشكو منه عقلاء القطر التونسي بشأن جامع الزيتونة هو عين ما يشكو
منه علماء القطر المصري وغيرهم بشأن الجامع الأزهر، فَداء المسلمين واحد في
كل البلاد، أصلح الله الجميع، والتطويع هو الشهادة الابتدائية في عرفهم.
__________(4/387)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة خليل أغا
احتفالها السنوي
خليل أغا الحبشي يُعَدُّ في هذه البلاد من أشهر الرجال، وهو مولى أمين
بك التركي، ثم صار باش أغا والدة الخديوي إسماعيل باشا، والذي جعله من
أشهر الرجال - بل ومن أعظمهم - المدرسة التي أنشأها ووقف عليها أملاكه الواسعة
التي يمكن بريعها الكثير أن ترقى المدرسة عن الابتدائية، فتكون كلية جامعة تنبع
منها حياة العلوم كلها، والمدرسة الكلية أكبر حاجات المسلمين في هذا القطر، ولم
يبلغوا في الارتقاء مبلغًا يفي بهذه الحاجة، فقد تقاصرت عنها همم أفراد أمرائهم
ومجموع أغنيائهم. وإن الأمراء لينفقون على اللذات البهيمية، ويخسرون في
المضاربات وسائر أنواع الميسر ما يكفي لإنشاء عدة مدارس كلية، ولا يبعد أن
تكون حياة ذلك العبد من خدم نسائهم خيرًا للقطر وأهله من حياتهم أجمعين، وأما
الأغنياء فينفقون في كل عام على الأفراح والمآتم، وعلى تقليد الأمراء في الشهوات
والمآثم ما يسد بعضه مثل هذه الخلة أيضًا؛ ولكن مجموعهم يُفَضِّل الحياة
البهيمية على الحياة الإنسانية.
احتفل ديوان الأوقاف بمدرسة خليل أغا هذه الاحتفال السنوي المعتاد (في
يوم السبت 19 ربيع الأول الماضي) بحضور جمهور عظيم من العلماء والوجهاء
في مقدمتهم أصحاب الفضيلة قاضي مصر ومفتيها، وشيخ الجامع الأزهر، وصاحب
السعادة عبد الحليم باشا عاصم مدير الأوقاف العمومية، واُفتتح الاحتفال بترتيل أحد
التلامذة آيات من أول سورة الفتح ترتيلاً أخذ بمجامع القلوب، وتلاه طائفة من
التلامذة بإلقاء أنشودة في مدح العلم والثناء على مؤسس المدرسة رحمه الله تعالى،
والدعاء لمولانا السلطان الأعظم ومولانا الخديوي المعظم، وكان الإنشاد بالتوقيع
الموسيقي فأثر سماعه مع مشاهدة النظام العسكري في التلامذة تأثيرًا حسنًا وقام بعد
ذلك الفاضل الهمام حسن بك صبري مفتش المدرسة، فذكر ملخص تاريخ المدرسة
وما زاده فيها ديوان الأوقاف من الترقية، ومنه أنها أُسست سنة 1290هـ واشترط
أن يكون التعليم فيها مجانًا، وأن يعطى مئة يتيم من تلامذتها كسوتين في السنة،
وعشرة قروش في كل شهر وأدوات الدراسة، ويعطى مئتان من غير الأيتام كسوة
واحدة في السنة وأدوات التعليم، وأن صافي دخلها الآن يزيد على ثلاثة آلاف جنيه،
ثم طفق التلامذة يتحاورون مثنى وثلاث ورباع وخماس في فوائد التعليم ومهمات
مسائل الدين، ابتدأ أحدهم بتلاوة آيات تشتمل على النهي عن الشرك وموبقات
المعاصي، وتأمر بالعدل والقسط في الموازين وغير ذلك من الفضائل، وتلاه آخر
بآيات تناسبها، فتأثره آخر بآيات تنطق بإجابة الدعوة والدعاء بالرحمة، ثم عاد
الأول وتكلم بلسان التلامذة الصغار فأبان أن أمرهم ليس بأيديهم، وأنهم قذف بهم إلى
المدارس التي قُطع منها حبل الشرع، فتلاه الثاني بتلاوة آيات تبشر من آمن وعمل
الصالحات بسعادة الدنيا والآخرة، وتنذر من أعرض عن هدى القرآن بضنك العيش
في الدنيا، وعدم الاهتداء لطريق النجاة في الآخرة، فتعقبه الثالث يأمر بتسكين
الروع، والأخذ بأسباب التفقه في الدين والتعاون عليه ... إلخ.
ثم نزل هؤلاء عن موقف التلامذة في الاحتفال، وتلاهم أربع فرق من
التلامذة، كل فرقة وقفت بترتيب ونظام تحت أَمرة من أمرات أربع مكتوب على
إحداها الصلاة، وعلى الأخريات الصوم والزكاة والحج، وتحاورت كل فرقة في
أسرار ركن من هذه الأركان الإسلامية بأحسن كلام، أعطى العِبْرَة وأخذ العَبْرَة إلا
أصحاب القلوب القاسية من ذكر الله (أولئك في ضلال مبين) وإذا وجدنا سعة في
بعض الأجزاء التالية؛ فإننا ننشر فيها ما قالوه ليكون نموذجًا لسائر المدارس
ومعلمي الدين، وبعد ذلك أُعيد النشيد الأول وخُتم الاحتفال بترتيل آي القرآن
العظيم، وكانت الموسيقى تعزف بأنغامها في كل فرصة بين قول وآخر، وكان
النظام كاملاً، والفضل في هذا لصاحب العزة حسن بك صبري، كما أن الفضل في
تلك المعارف الدينية للأستاذ الفاضل الشيخ حسن منصور الذي خسرته مدارس
الحكومة بقبول استقالته؛ ولكن لم تخسره مدارس الأمة ولله الحمد.
وقد انصرف المدعوون بعد أن تناولوا طعام الغداء النفيس، الذي عَدَّه لهم
ديوان المعارف عملاً بشرط الواقف رحمه الله تعالى.
__________(4/393)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي
جرت العادة بأن أصحاب الجرائد يزيدون في تحسينها كلما تسنى لهم سبب
من أسباب الترقي، ويزيدون مع ذلك قيمة الاشتراك فيها، ومنهم من يزيد في قيمة
الاشتراك من غير أن يزيد في التحسين، إذا علم بالاختبار بأن كسبه لا يفي بتعبه
وقد خالفنا نحن سنة القوم فزدنا في السنة الثالثة المنار تحسينًا في الورق والطبع
والتجليد، كما زدنا في مادته ولم نزد مع ذلك شيئًا في قيمة الاشتراك، وقد زدنا
مادته في هذه السنة الرابعة أيضًا، وأبقينا قيمة الاشتراك على حالها، على أن
بعض أنصار العلم رَغَّبوا إلينا أن نزيد فيها، وفي مقدمة هؤلاء الخطيب المحامي
الشهير عزتلو إسماعيل بك عاصم؛ ولكن من الناس من يصعب عليه أن يدفع قيمة
الاشتراك الأصلية وإن تحسنت المجلة وزادت نفقاتها، فيطلب الموظف والتاجر
والأستاذ وناظر المدرسة أن يعاملوا معاملة طلاب العلم الفقراء الذين لا كسب لهم،
فيدفعوا أربعين قرشًا، وقد علم بهذا بعض فضلاء أساتذة المدارس، فأشاروا علينا
بأن نساوي بين الناس كلهم في الاشتراك، إلا من نعلم فقره من طلاب العلم
بالاختبار؛ فإننا ننقص له من القيمة ما تسمح به النفس، فرأينا هذا من الصواب،
وأبطلنا امتياز التلامذة والطلاب، فمن شاء فليقبل ومن شاء فليرفض، وللمشتركين
القدماء من هؤلاء أن يدفعوا اشتراك السنة الحاضرة 40 غرشًا.
ثم إننا كنا أعلننا أننا نوزع مئات من الأعداد على الفقراء من طلاب العلم
الذين يروجون المنار، بعضها مجانًا وبعضها بنصف القيمة، وأن ذلك بمساعدة
أحد الفضلاء؛ ولكن هذه المساعدة قد بطلت من أول هذه السنة للمنار لعذر اقتضى
ذلك، ولم نر أحدًا ممن أُعطي المنار مجانًا سعى بترويجه، فاضطررنا لمنعه عنهم
إلا نفرًا من الفقراء الأذكياء الذين ينشرون مسائله، ويدعون إلى ما يدعو إليه.
ثم نُعْلِم القراء الكرام أن الجزء الحادي عشر سيصدر - إن شاء الله تعالى -
في غرة جمادى الأولى، والغرض الأول من هذا الإرجاء أننا نقصد أن يكون أول
سنة المنار شهر محرم الحرام، وهذا لا يكون إلا بتأخير عددين آخرين عن
موعدهما أيضًا، وسيكون ذلك بالتدريج لئلا يغيب المنار عن القراء زمنًا طويلاً.
ونرجو من غيرة المشتركين الكرام، لا سيما الذين عليهم بقايا من السنة
الثالثة، أو ما قبلها أن يتكرموا بإرسال القيمة حوالة على إدارة البريد، ونخص
بالذكر أهل الأرياف، وأهل تونس والجزائر ومراكش، ونحمد الله أن أكثر
المشتركين من كرام الناس وفضلائهم، وما كان يخطر بالبال أن بعضًا من الناس
الذين لا ذمة لهم ولا أمانة يشتركون بمجلة المنار، ثم يأكلون حقها؛ ولكن ذلك قد
كان وربما تضطرنا إلى ذكر بعضهم حوادث الزمان.
__________(4/396)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية ندوة العلماء في الهند
وعَدْنا في الجزء السابع بأن ننشر فيما يليه خطبة وجيزة لأحد أصدقائنا من
علماء بمبي، ولم تسمح لنا الفرصة إلا في هذا العدد، قال حفظه الله بعد البسملة
والحمدلة والصلاة:
(وبعدُ فلا يخفى على أخيار الأعلام من قادة الإسلام، وسادة دين خير
الأنام عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أن النداء الذي تنادي به ندوة العلماء - أنجح
الله مساعيها، وأصلح مراعيها - هو نفس النداء الذي يهتف به الإسلام منذ
قرون في جميع أقطار الأرض حيثما تتلى مثاني القرآن، وتُعلى شعائر الإيمان،
وأينما تولوا فثم وجه الله، وليس لندوة العلماء، أو لأية جمعية تشاركها في رابطة
الإسلام والغيرة والحمية الدينية إلا مقام مبلغ نداه، وحاكي صداه، اقرءوا الجرائد
والمجلات الإسلامية، وأصغوا إلى الأندية القومية، هل تسمعون صوتًا غير ما هو
بمنزلة القول الشارح لدعاء الإسلام وإن اختلفت العبارات، وتنوعت الاعتبارات،
فإن هي إلا تفاسير كلمة واحدة (الإصلاح الإصلاح يا أهل الصلاح والرشاد، لما
ظهر في البر والبحر من الفساد) ولم يزل الإسلام يدعو أهله بهذا الدعاء من يوم
زالت شمس دولته عن خط نصف نهارها، وأخذت هجمات الدوائر تنقص أرض
شوكته من أطرافها، وهبت دبائر الأدبار، فذهبت بمعظم الآثار، والبقية على
جرف هارٍ، فإنا لله.
كأن لم نكن فاتحي مصر قهرًا ... وأسبانيا ثم ملك الهنود
ولم تك راياتنا خافقات ... على كل بر وبحر مديد
ولم نملأ الأرض علمًا ونورًا ... بإعلاء دين الرسول الأحيد
زرعنا الثرا إذ أسلنا ... بها نفس كل كميٍّ شهيد
فواخيبتا حين حان الحصاد ... غفلنا وراح العدى بالحصيد
وما زاد ما زاد في عدّنا ... سوى نكسنا في انتقاص مزيد
ولا خير في عِدة لم يكن ... لها عُدَّة ترتمي عن حدود
وحيث اشتد صياح الإسلام، بدعائه من سنين وأعوام، فربما أيقظ النُّوَّام،
ومنع السِّنة عن أعين النبهاء الأعلام، وحنَّت به قلوب الأحياء، لإحياء الربوع
والأحياء.
فيا رجال الأعيان وأعيان الرجال جُمع شملكم، وشمل الجمعَ فضلُكم أجيبوا
داعي الله، وشمِّروا عن سوق الجد لامتثال منطوق دعاء الإسلام ومفهومه،
وانتصبوا بصميم العزائم لمقاومة طوارق الأحداث، وأقيموا الوزن بالقسط لتثقيف
الأحداث، واتركوا مشاجراتكم التي أذهبت الأصول وأفسدت الفروع، وأذهبت
ريحنا وإلى الله المشتكى، أفلم يأن لكم أن تنتبهوا فَتُنَبِّهُوا، وتستريحوا فتريحوا من
رمضاء الفتنة الشعواء، التي تلعب بالبصر فيخبط خبط عشواء، وتستظلوا تحت
شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ألا وهو (الوفاق الوفاق) فعضوا
عليه بالنواجذ، وأحيوا به السنن والعلوم، وشقوا به عصا الشقاق المشوم؛ فإنه
أس كل بدعة وفساد، ورأس كل البلايا والأنكاد، ومادة كل شنيعة موخمة الأرواح
والأجساد، هيهات هيهات، لات حين اختلافات، فإلام التقاعد عن تدارك ما فات،
وحتام التناعس عن إعداد أسباب التحرز عما هو آت، ألا فخذوا حذركم،
وأصلحوا ذات بينكم، ووثقوا عرى الإخاء، واستووا على سفينة الولاء، فقد فار
تنور الشقاء، وأمسيتم لتفرق كلمتكم على شفا، فلا حول ولا.
إخواني! ليس هذا أوان القيل والقال، وتوسيع دائرة البحث والجدال،
فاتعظوا وعِظوا، وانشروا لبث النصائح، وحث القرائح، جرائد ومجلات،
فلعمري إنها من أسنى الوسائل لإضاءة النفوس بطرائف المعلومات، وأمضى
الذرائع لإنهاض الهمم القاعدة عن الترقيات، وظني أن بها ترقى من ترقى إلى
أعلى مدارج المدنية والتعليم في ذا العصر المدهش المعقول تجدد علومه وفنونه من
أقوام كانت في زوايا الخمول، ففاقت أقرانها حتى دان لها كل دانٍ وقاصٍ، وهان
لها كل عزيز وقَّاص {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ
عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} (البقرة: 48) فرحم الله عبدًا تبصَّر فبصر، وتذكر فذكر،
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) وارض اللهم عن المؤمنين، وأنزل
السكينة عليهم وأثبهم فتحًا قريبًا، إن الله قريب من المحسنين، هذا والسلام على
من اتبع الهدى، والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
أجمعين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ش. ا. ج
__________(4/398)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(امتحان التدريس في الأزهر)
بلغنا أن لجنة الامتحان قد غيَّرت منذ أيام طريقة المساواة السابقة، وطفقت تميز
بعض الممتحنين، فعزم بعضهم على ترك الامتحان، والمستقبل يكشف الحقيقة.
***
(شجرة الدر)
مجلة نسائية علمية أدبية فنية فكاهية تصدر في كل أول شهر إفرنجي باللغتين
التركية والعربية في ثغر الإسكندرية لمنشئتها الأديبة البارعة سعدية سعد الدين،
وقيمة الاشتراك فيها ستون غرشًا أميريًّا في القطر المصري، وعشرون فرنكًا في
خارجه وفي المجلة مباحث لطيفة ومراسلات نسائية، إذا تتابعت تكون باعثة
للرغبات في زيادة انتشارها الذي نرجوه لها.
__________(4/400)
غرة جمادى الأول - 1319هـ
16 أغسطس - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلة
شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية
] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم
مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ [[*] .
الدين كما قالوا: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى ما فيه
صلاحهم ونجاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل، فثمرته سعادة الدنيا والآخرة،
ولا تحصل هذه الثمرة إلا بالعمل به والاهتداء بهديه، ولا يكون العمل إلا عن علم
ولا الهُدى إلا بهَدي] فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى *
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [أي في الدنيا {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
أَعْمَى} (طه: 123-124) عن طريق النجاة، والدنيا مزرعة الآخرة ففقد الثمرة
الأولى عنوان على فقد الثمرة الأخرى؛ لأنهما معلولان لعلة واحدة، أو مسببان عن
سبب واحد، وهو الدين.
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تلقوا الدين من العليم الحكيم، وتصدَّوا لتعليمه
للناس بما عهد الله إليهم، فأقاموا البرهان وحاجوا أهل الزيغ والطغيان، حتى أوذوا
في الله فصبروا وسعد الناس بهديهم وإرشادهم في دنياهم، وسيسعدون به في
أخراهم، وعلماء الدين ورثة الأنبياء ونوابهم الذين يقومون بوظيفتهم؛ لأن الله أخذ
الميثاق على الذين أوتوا الكتاب من بعدهم كما أخذه عليهم (لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا
يكتمونه) فمنهم من وفَّى بالميثاق، ومنهم الذين نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به
ثمنًا قليلاً، ومنهم ما هو بين ذلك.
قد كان علماء سلفنا الصالح خيرًا من سلف سائر الأنبياء، حيث كنا بهم خير
أمة أخرجت للناس؛ لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرشدون إلى
مصالح الدنيا والآخرة، ثم حصل الفتور في العلم الذي هو روح الدين، وهو ما
يودع القلوب خشية الله تعالى، ويزع النفوس عن الشر، ويوجهها إلى الخير الذي
فيه سعادة الأمة في أفرادها ومجموعها، حتى قام بعض الأئمة كالإمام الغزالي يرمي
العلماء بالتقصير في علوم الدين، ويعذلهم على التوسع في علم الفقه الذي سمَّاه من
علوم الدنيا، ولقَّب العلماء المنصرفين في ذلك بعلماء السوء، وذكر أنهم يزعمون
بذلك إحياء فرض الكفاية ولو صدقوا لانصرف بعضهم لإحياء سائر العلوم التي
تنفع الأمة في الدنيا ولا بد منها، وهي من فروض الكفايات كعلم الطب، وقد أطال
في كتابه (إحياء علوم الدين) النعي عليهم والتنديد بهم حتى حملهم ذلك على
الطعن فيه بأنه أدخل الفلسفة في الدين وأحرقوا كتابه الإحياء في أسواق القاهرة
وغيرها، ثم كتبوه بماء الذهب وقالوا إنه أحسن كتاب أُلِّف في الإسلام وجرى على
خطة الغزالي في الانتقاد آخرون.
هذا ما كان في القرون المتوسطة إذ العلماء علماء، والمسلمون في عزهم
وسؤددهم يفوقون جميع الناس في العلوم والأعمال والقوة والثروة، وعلماؤنا اليوم
يعترفون بأن العلم والدين كانا في عصر الغزالي خيرًا مما صار إليه في القرن الذي
بعده، وأن التدلي فيهما سار بالتدريج إلى عصرنا هذا، فكل قرن دون ما قبله؛
ولكنهم إذا رُموا بالتقصير في الإرشاد إلى الدين والقيام بحقوقه كما رمى الغزالي
علماء عصره يكبر عليهم ذلك، وإن كانوا يفضلون أولئك العلماء على أنفسهم
ويرون غاية العلم فهم كلامهم.
ولا يطلق لقب علماء الدين على الذين عرفوا من دينهم ما يجب عليهم فقط؛
وإنما يُطلق على الذين عرفوا الفروض العينية والكفائية، وأحيوا سنة الرسل
بالتعليم والإرشاد والتبشير والإنذار لجميع الناس، ولا يكفي في هذا أن ينقطعوا عن
الناس في مكان واحد من البلد أو القطر يتدارسون فيه اصطلاحات بعض الفنون
وقواعدها مع من يحضرهم، ويَدَعُون سائر الأمة وشؤونها.
يُعرف الشيء بنتائجه وآثاره، كما يُعرف بمقدماته ومبادئه، وكما يُعرف
بذاته وكنهه، وقد تقدم أن نتيجة الدين وثمرته سعادة الدنيا والآخرة، فلو أن علماءه
قائمون بوظائفهم حق القيام بحسب ما تعطيهم وراثة النبوة لما سُلبت سعادة المسلمين
من أيديهم، ولما صاروا أعداء متخاذلين بعد أن كانوا إخوانًا في الدين، ولما تجرأ
المبتدعة والكفار على الطعن بدينهم ولم يجدوا منهم مدافعًا ولا معارضًا، ولا يحسن
أن نذكر أخبار بعض المرتدين مع بعض علماء الأزهر فما كل ما يُعْلَم يُقال، ولما
أصبح الجهل بالدين عامًّا في جميع طبقات الأمة من الحكام والأمراء إلى الصعاليك
والفقراء.
أصبحت شكوى المسلمين من سوء حالهم عامة؛ لأن سلطان الأجنبي أصبح
فيهم عامًّا، ولا خلاف بين عقلاء الباحثين في أن سبب ذلك هو الانحراف عن
صراط الدين ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} (النساء: 141) وقوله عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) وغير ذلك من الآيات فهل نكابر الحس ونقول إننا منصورون،
وأنه ليس للكافرين علينا سبيل ما بوجه من الوجوه كما يفيده وقوع النكرة في سياق
النفي؟ أم نقول إن الله تعالى يخلف وعده ولا يصدق كتابه؟ معاذ الله وحاش لله،
أم نقول إننا لسنا بمؤمنين؟ أم ماذا نقول؟
أهون هذه الأقوال صعب شديد، وليس لنا مندوحة عن القول الأخير مع
التأويل بأن نقول: إننا لسنا بمؤمنين الإيمان الكامل الذي يستولي على الأرواح
والنفوس، ويُثقف الأذهان والعقول، ويحمل على الأعمال النافعة التي تُثمر السعادة
والسيادة، ولكن لماذا تركنا الإيمان على هذا الوجه النافع المرضي لله تعالى.
هل تلقَّى أحد الإيمان على هذا الوجه ثم تركه؟ كلا إنما فُقِد منا هذا الإيمان
بفقد العلماء الذين يثبتونه في النفوس، ويودعونه في القلوب، فقد ورد في الحديث
(إن الله لا ينزع العلم من القلوب انتزاعًا؛ وإنما يذهب العلم بموت العلماء) .
يعتقد المسلمون كافة أن هذا البلاء الذي هم فيه لا ينكشف عنهم إلا بالرجوع
إلى دينهم على الوجه الذي يهدي إلى سعادة الدارين بالقيام بمصالح الروح والجسد،
والباحثون منهم في حيرة لا يدرون كيف يكون هذا الرجوع؟ وبماذا يكون؟ ولذلك
توجهت أنظارهم إلى العلماء؛ لأن هذا الذي يطلبونه لا يكون إلا بالهدي النبوي
الذي هو وظيفتهم ولكنهم أهملوها، ومطالبتهم بها تعظيم لشأنهم ورفع لمقامهم وثقة
كبرى بفضلهم، تحدث بهذا المحاورون والسامرون، وكتب في موضوعه الكاتبون
؛ ولكن أكثر العلماء عنه غافلون؛ لأنهم لا يبحثون في شؤون المسلمين الاجتماعية
ولا ينظرون في مصالحهم الملية، ولما ملأت الشكوى كل مكان، وكادت تصخ
منهم الآذان اعترف بحقيقتها منهم العقلاء المنصفون، وأنكرها المكابرون
المغرورون، فطفق علماء البلاد الهندية يؤلفون الجمعيات العلمية الدينية: للبحث
في هذه الشكوى، وتلافي هذه البلوى، ولم يتنبه في سائر البلاد إلا بعض أفراد لم
يظهر لهم عمل، يتعلق به الأمل.
أما هذه البلاد المصرية فقد اشتهر فيها مفتيها الأستاذ الشيخ محمد عبده بالغيرة
على الإسلام، والسعي في الإصلاح العلمي الديني في الأزهر الشريف وغيره
والدنيوي الملي في الحكومة والجمعية الخيرية الإسلامية التي هو رئيسها، وأكثر
العلماء لا يزالوا وادعين ساكنين، غارّين آمنين، محافظين على طريقتهم العتيقة
في مزاولة بعض الفنون العربية والشرعية؛ وإنما قلت بعضها لأن بعض المقاصد
مفقودة من الأزهر كالإنشاء والخطابة وعلم الأخلاق الدينية والتاريخ الإسلامي
بفروعه الكثيرة، ولهذا الجامع الشريف الفضل في حفظ ما حفظه من تلك الفنون
بالجملة، وإن لم يكن بالطريقة العلمية المقصودة إذ لولاه لتلاشى العلم الإسلامي من
هذه البلاد بالمرة؛ ولكنه لم يحفظها على كمالها كما كانت في القرون المتوسطة؛
وإنما حفظ رسومها وأنقاضها وله الفضل على كل حال، ونرجو له الرجوع إلى
أحسن مما كان.
نعلم مما تقدم أن عقلاء المسلمين يرون أن سعادته بعلمائهم إذا أصلحوا؛ لأنهم
كالقلب الذي يصلح بصلاحه الجسد كله كما ورد في الحديث، فلا يسرُّون بشيء
كسرورهم من توجه كبار العلماء إلى شؤون المسلمين العامة، ولهذا وقع الحديث
الذي دار بين صاحبي السماحة والفضيلة الشيخ جمال الدين أفندي شيخ الإسلام،
والشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية في دار السعادة أحسن موقع عند
جميع العقلاء والفضلاء؛ لأن اتفاق هذين الشيخين وهما أكبر علماء المسلمين على
أن صلاح حال المسلمين إنما يكون بسعي العلماء الموافق لحال الزمان، وبتطبيق
العلم على العمل ينهض من همتهم، ويُعَرِّفهم قيمة وظيفتهم العالية، ويحثهم على
القيام بها.
حديث شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية
في العلم والعلماء
قال (المفتي بمناسبة كلام مع الشيخ) : إن كان للمسلمين شكوى مما يرونه
ماسًّا بشريعتهم، فأجدر بهم أن يشتكوا من أنفسهم لا ممن يعتدي عليهم.
الشيخ: لا ريب في ذلك فإن حياة كل أمة تقوم باستعدادها لكل زمان بما
يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمان؛ ولكنا نؤمل أن تتغير الحال ويتنبه
المسلمون لما فاتهم فيحصلوه، وذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم وحملة شريعتهم.
المفتي: نعم ذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم؛ ولكن العلماء في انصراف تام
عن شؤون العامة، وقد تركوا هم تلك الشؤون إلى الحكام، ووكلوا بعضها إلى
العامة أنفسهم، وجعلوا نصح العامة والخاصة أو الاشتغال بما يهيئ لذلك من العمل
مما لا يعني ولم تبق لأحد منهم علاقات مع العامة اللهم إلا أولئك القصاص الذين
يسمونهم وعاظًا أو مدرسي مساجد، وما هم من علم الدين وشؤون العامة على شيء
وهم يفسدون أكثر مما يصلحون.
الشيخ: لا شك أن أغلب المشتغلين بعلوم الدين تنقصهم الخبرة بأحوال الناس
ويفوتهم العلم بما عليه أهل العصر، ولو خبروا الزمان وأهله لأمكنهم أن يحموا
شرعهم ويعلوا شأن أهل ملتهم، مع أن العالم لا يكون عالمًا حتى يكون مع علمه
عارفًا، والعارف هو الذي يمكنه أن يوفق بين الشرع وبين ما ينفع الناس في كل
زمان بحسبه، ومن كان بارعًا في العلوم الدينية ولكن لا يعرف حال أهل عصره،
ولا يراقب أحكام زمانه فلا يسمى عالمًا؛ ولكنه يسمى متفننًا أعني أنه يعرف فن
النحو أو فن الفقه أو ما أشبه ذلك، ولا يسمى عالمًا على الحقيقة حتى يظهر أثر
علمه في قومه، ولا يظهر ذلك الأثر إلا بعد علمه بأحوالهم وإدراكه لحاجاتهم.
المفتي: ما تقوله سماحتكم هو المعروف عند الأولين من علمائنا، وقد جاء
في كثير من كتب السادة المالكية تعريف العالم بأنه العاكف على شأنه البصير بأهل
زمانه، وهو تعريف للعالم بالغاية من علمه، والعكوف على الشأن أن لا يضيع
العالم زمنه إلا فيما يفيده ويفيد العالم؛ لأن هذا هو شأن العالم الذي ينبغي أن يعكف
عليه؛ ولذلك اتبعه بالوصف الآخر، وهو البصر بأهل الزمان؛ لأن البصر بأهل
الزمان إنما يدخل في الغاية من العلم؛ لأنه وسيلة للتمكن من العمل به في أهل ذلك
الزمان، وكأن صاحب هذا التعريف يقول مَن فرَّط في شيء من زمنه، ولم
يستعمله فيما من شأنه أن يستعمله فيه، أو أساء استعماله بسبب جهله بأحوال هذا
الزمان، فهو ينثر المقال نثرًا لا يبالي كيف يقع، ولا يعرف هل يصفع عليه أو
يخضع له ويخشع، من كان كذلك فهو خارج عن مفهوم العالم لا ينطبق عليه
تعريفه، وغاية ما يمكن أن يصل إليه إن عرف شيئًا من العلم أن يسمى حافظًا.
الشيخ: نعم إن مما يؤسف عليه الأسف العظيم أن من كان من علماء
المسلمين على شيء من العلم؛ فإنما يُعَدُّ في الحقيقة متفننًا، ولا يصح أن يطلق
عليه اسم العالم، وبذلك بقيت الشريعة مدفونة في الكتب، وحرمت أرواح أهليها
من التمتع بآدابها، ثم تبسم قائلاً: ولعل الذي مال بحملة الشريعة إلى البعد عن
شؤون العامة هو أنهم أرادوا أن يخدموا أنفسهم خاصة دون الناس عامةً.
المفتي: وهل تُعِدُّ سماحتكم ذلك خدمة لأنفسهم مع ما تراهم فيه من الضعة
والخمول وحرمان أعاليهم من الحقوق التي يتمتع بها أسافل غيرهم، وفرار الدنيا
من وجوههم وهم أتعب الناس في طلبها، وبغضها لهم وهم أحرص الناس على
حبها، وإذا قنع أحدهم بشيء منها فهي وقفة العاجز لا قناعة العزيز، أفما كانوا
أعز وأكرم ومقامهم أسمى وأعلى لو كانوا علماء على النحو الذي عرفه أسلافنا.
الشيخ: صدقت فإن من أراد أن يخدم نفسه وجب عليه أن يخدم العامة
لاندراج المصلحة الخاصة في المصلحة العامة، فإذا ضاعت المصلحة العامة
ضاعت الخاصة أيضًا، وإذا حُفظت الأولى حُفظت الثانية.
المفتي: نعم يا مولاي هذه هي القاعدة الحقيقية؛ ولكن مدرسي كتب الفقه لا
يعتنون بتقريرها لطلبتهم، فهؤلاء الذين سمتهم سماحتكم متفننين لم يروا هذه
القضية فيما درسوا فلعل ذلك عذرهم فيما نسوا) اهـ بحروفه عن المؤيد.
الفائدة في هذا الحديث هي الإرشاد إلى العمل بالعلم ونفع الناس به، فمن كان
يصدق عليه من العلماء يُسرُّ به، ومن كان حجة عليه يستاء في نفسه؛ ولكنه لا
يُظهر الاستياء لئلا يكون مسجلاً على نفسه ذلك اللهم إلا أن يُغلب على أمره باعتقاد
أن الكلام ظاهر الانطباق عليه عند الناس لعلمهم بأنه لم يُحَصِّل من العلم إلا حفظ
بعض الاصطلاحات التي لا أثر لها في علمه، ولا يمكن أن ينفع بها الناس، أو
لحسد شديد لمن ظهر الحق على لسانه فهو يكابر الحق ويجادل فيه بعد ما تبين
وعلم أنه الحق وأن ما بعده هو الضلال.
نُشر الحديث في المؤيد، فذكر المقطم في العدد الذي صدر منه في اليوم
التالي لنشره أن العلماء في مصر عمومًا وعلماء الأزهر خصوصًا قد استاءوا منه،
ووقع عليهم كالصاعقة، فنشر المؤيد في اليوم الثالث مقالة لبعض العلماء يقيم
الحجة فيها على المقطم بأنه ليس من المعقول أن يعلم باستياء العلماء كلهم في مصر
صبيحة يوم واحد، فلم يجد المقطم جوابًا إلا أنه استنجد ببعض العلماء المتفننين
الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فكتب له نبذة بعد يومين يزعم
أنه بيَّن فيها استياء العلماء من حديث الشيخين كأنه حقيقة واقعة، أما السبب الذي
كتبه فهو مما يضحك الناس على حماقته، وقد خدم المقطم الإسلام بإظهار سخافته،
كأنه يقول هذه أفكار الذين يعارضون كلام الأئمة الراسخين، ولا ندري هل قصد
المقطم هذا أم لا؟
زعم ذلك المتفنن أن السبب في استياء العلماء المزعوم أنه يوجد فئة ذات عُدَّة
عظيمة يريدون إبطال مذهب أهل السنة، ورأوا أن يسقطوا العلماء من نظر العامة
ليتمكنوا من ذلك؛ لأن العلماء هم حراس السُّنة فهم دائمًا يذمون العلماء، وجاء كلام
الشيخين في ذم العلماء مؤيدًا لكلامهم! ! !
لعمري لا يقول هذا القول من بلغ أن يكون متفننًا أو حافظًا؛ وإنما هو كلام
غبي لم يفهم معنى الكلام، وإن كان لم يعزب عن أفهام العوام، الشيخان يحثان
العلماء على العمل بعلمهم، وأن لا يقتصروا على حفظ الاصطلاحات الفنية وهل
يمكن أن يحرسوا السنة إلا بهذا؟ هؤلاء البابية قد ألَّفوا كتابًا يريدون به إبطال
مذهب السنة، بل والإسلام كله، وقد نشروه حتى في الجامع الأزهر، فهل قام من
العلماء الذين سماهم أنصار السنة من حامى عن السنة إلا الأستاذ مفتي الديار
المصرية، الذي اتفق مع الأستاذ شيخ الجامع على تأديب ناشره، وغير هذا الفقير
الذي رد على كتابهم في المنار، وهؤلاء دعاة المسيحية ينشرون الكتب والجرائد
في الرد على الإسلام، وقد اشتغلت بشبههم الأذهان فهل تصدى هو أو غيره من
أهل الأزهر للرد عليهم؟ وهذه البدع والمنكرات فاشية فهل أنكرها منهم أحد.
يتخذ صاحب المقالة المقطمية اسم العلماء ترسًا يدافع به الحق الذي يكلفه
بالعمل، ويَعُدَّ هذا التكليف طعنًا بالعلماء جميعًا كأنه يحكم عليهم بأنه لا يوجد فيهم
عامل بعلمه خادم لدينه، ويسمي الذي يعلق آمال المسلمين بهم طاعنًا فيهم، ويزعم
أن الأولى تعليق الآمال بالحكام والأمراء وهو يعلم سلطة الأجانب عليهم، فنعوذ
بالله من الجهل ونعوذ بالله من الغش.
جعل الله علماء الدين الذين أورثهم الكتاب ليكونوا نوابًا عن الرسل في الهدى
والإرشاد على ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه لا يعمل به، ومقتصد يشتغل في إصلاح
نفسه والعمل بما وجب عليه، وسابق بالخيرات يعمل ويعلِّم الناس ويرشدهم إلى
الاهتداء به، هذا التفسير الذي اختاره العلامة البيضاوي وغيره، وهذا القسم الثالث
هو الذي تحيا به الملة وتُحفظ السنة وقد ضعف الإسلام والمسلمون بضعفه وكادوا
يتلاشون بتلاشيه، وكلام الشيخ والمفتي ينفخ روح الغيرة في القسم الأول والثاني؛
ليرتقوا إلى القسم الثالث، وكلام صاحب المقالة المقطمية يُسجل عليهم بأنهم من
القسم الأول أو الثاني ويسمي هذا نصرًا للسنة، وما هو إلا نصر للمقطم وتصديق
له بأن العلماء قد استاءوا من كلام الشيخين، ولعله هو الذي غشه أولاً وصدَّقه ثانيًا.
عهدنا بهذا المغرور أن يحرِّم نشر الآيات القرآنية في الجرائد، فلماذا ملأ
مقالته بالآيات التي حرَّفها عن مواضعها، ووضعها حيث شاء الهوى {يُحِلُّونَهُ
عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: 37) وعهدنا به يحرِّم الكتابة في الجرائد
الإسلامية، ولو لخدمة الملة الحنيفية والدولة العلية فكيف استحل أن يكتب في
جريدة يعتقد هو وأكثر قومه - إن لم نقل كلهم - بأنها ضد الدولة وغير خادمة للملة
ألم يجد جريدة يدافع فيها عن السنة والإسلام وعلمائه الأعلام إلا هذه الجريدة التي
لم تنشأ لهذا القصد، ولولا إرادة تأييد كلامها لما نشرت مقالته، لا نريد بهذا طعنًا
بالمقطم؛ وإنما نريد تفنيد هذا المغرور بما هو مسلَّم عنده، وسنبين وظائف العلماء
في الجزء الآتي وإلى الله تصير الأمور.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) (فاطر: 32) .(4/401)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين على الإسلام
وحجج الإسلام على المسيحيين
نبذة ثالثة تابعة لما في الجزء الخامس والجزء العاشر
بيَّنا في الجزئين الخامس والعاشر المراد بالتوراة والإنجيل عند المسلمين،
وهما اللذان يشهد لهما القرآن الكريم، وبيَّنا أنه لا تنهض للمسيحيين حجة على
إثبات دينهم وكتابيهما، ونبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، إلا من
القرآن ولا يكون القرآن حجة إلا إذا كان من عند الله تعالى، فعليهم أن يؤمنوا به
ويأخذوا بإصلاحه ليكونوا معنا موحدين لله تعالى، نعبده وحده من دون البشر
كالمسيح وغيره، وندعو سائر الوثنيين إلى هذا الإيمان الذي هو غاية ارتقاء العقل
البشري، وفيه السعادة والنجاة في الآخرة مع العمل الصالح الذي يستلزمه، وقد
بيَّنا بالدليل المعقول نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكون ما جاء به وحيًا في
درس التوحيد الذي نشر في الجزء الماضي وسنزيده بيانًا في الدروس الآتية إن
شاء الله تعالى، هؤلاء المبشرون يدعوننا إلى البحث في الدين، أو يدعوننا أن
نؤمن بأن بعض الأنبياء إله كامل وإنسان كامل، وأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة
حقيقة، وإن كان العقل ينكر ذلك ويحيله وهو محل الإيمان، وأن ننكر بعض
الأنبياء ونجحد نبوته بالمرة وإن قام عليها أقوى البراهين، فإن كانوا يبحثون
لإظهار الحق لأجل اتباعه فليجعلوا العقل أصلاً ويحكِّموه في الدلائل، وإلا فبماذا
يميز بين الحق والباطل؟
إن قالوا: كتب الدين، نقول (أولاً) : بماذا تثبت هذه الكتب؟ فإن قالوا:
بالعقل، نقول: لزمكم أن العقل هو الأصل، ولا يتأتى أن يحكم بصحة كتاب يشتمل
على ما هو مستحيل عنده، و (ثانيًا) : إذا كانت كتب الأديان التي تناظرون فيها
متفقة فالدين واحد، وإلا فبماذا يرجح بعضها على بعض؟ أليس بالعقل الذي يبين
أيها أهدى وأنهض بما يحتاج إليه البشر من الدين.
للدين ثلاثة مقاصد: تصحيح العقائد التي بها كمال العقل، وتهذيب الأخلاق
التي بها كمال النفس، وحسن الأعمال التي تُناط بها المصالح والمنافع وبها كمال
الجسد، فإذا حكَّمنا عاقلاً لم يسبق له تقليد المسلمين ولا تقليد النصارى في الدين،
وكلَّفناه أن ينظر أي الدينين وفَّى هذه المقاصد الثلاثة حقها بحسب العقل السليم
فبماذا يحكم؟
يرى المسلمين مجمعين على أن العقائد لا بد أن تكون أدلتها يقينية؛ لأن
كتابهم يقول في الظن الذي هو دون مرتبة اليقين في العلم {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ
الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) ويقول في الذين احتجوا على شركهم بمشيئة الله
تعالى {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) ويقول {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:
111) ويقول عند ذكر الآيات التي يقيمها على العقائد إن {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه: 54)
أي العقول، ويرى المسيحيين مجمعين على أن أصل اعتقادهم فوق العقل، وأنه
يحكم باستحالته وعدم إمكان ثبوته، ولا شك أنه هذا العاقل يحكم بأن عقائد
المسلمين هي الحقة الصحيحة، ولا يلتفت إلى قول صاحب أبحاث المجتهدين
وغيره: إن ذلك بحث في كنه ذات الله تعالى، ولا يعرف كنه الله باتفاق المسلمين
وغيرهم؛ لأن فرقًا عظيمًا بين ما يثبته العقل بالدليل؛ ولكنه لا يعرف كنهه، وبين
ما ينفيه ويجزم بعدم إمكان تحققه، ومثال ذلك أننا نثبت المادة بصفاتها وخواصها
وآثارها، ولا نشك في وجودها؛ ولكننا لا نعرف كنه حقيقتها، بل لم يصل العقل
إلى معرفة كنه شيء من هذه المخلوقات؛ وإنما عرف الظواهر والصفات، كذلك
التوراة تصف الله تعالى بصفات يرفضها العقل كقوله في الباب السادس من سفر
التكوين (فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال: امحوا
عن وجه الأرض الإنسان الذي عملته) وهذا يدل على أنه كان جاهلاً وعاجزًا
تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ثم ينظر هذا العاقل والحكم العادل في المقصد الثاني، وهو تهذيب الأخلاق،
فيرى التعاليم الإسلامية فيه قائمة على أساس العدل والاعتدال من غير تفريط ولا
إفراط، مع استحباب العفو والصفح والإحسان لقول كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) فسَّر البيضاوي الفحشاء بالإفراط في قوة الشهوة
البهيمية، والمنكر بالإفراط في قوة الغضب الوحشية، وقوله: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (البقرة: 237) وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة عامة وخاصة، ويرى التعاليم المسيحية مبنية على التفريط والإفراط
يقول كتابهم: (أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم) كما في إنجيل متَّى (5: 44)
وهذا إفراط في الحب لا يقدر عليه البشر؛ لأن قلوبهم ليست في أيديهم، ويقول في
إنجيل لوقا (19-27) : أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أحكم عليهم فائتوا بهم
إلى هنا واذبحوهم تحت أقدامي) وفي الباب 14 من إنجيل لوقا 25: (وقال لهم إن
كان أحد يأتي إليَّ، ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضًا،
فلا يصلح أن يكون لي تلميذًا) وهذا تفريط في الحب إفراط وغلو في البغض ومثل
هذا كثير، ولا شك أن هذا العاقل يحكم لدين الاعتدال على دين التفريط والإفراط؛
لأن الأول يرقي البشرية ويعزها كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) والآخر يدليها ويذلها كما قال: (من ضربك على خدك الأيمن
فأدر له الأيسر) وغير ذلك مما في معناه.
وأما المقصد الثالث، وهو الأعمال الحسنة التي ترقي النوع الإنساني في
روحه وجسده، فيرى أن في الإسلام كل عبادة منها مقرونة بفائدتها، ككون الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكون الصيام يفيد التقوى وكون العبادة في الجملة
ترضي الله تعالى لقوله: {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} (الممتحنة: 1) إلى غير ذلك مما
يزكي النفس ويرقي الروح، ولا يرى مثل هذا في كتب الآخرين، وإنما يرى في
التوراة - التي هي كتاب الأحكام المسيحية؛ ولكن المسيحيين يؤمنون بها قولاً لا
فعلاً - أن أحكام العبادات معللة بالحظوظ الدنيوية كقولها في الباب الرابع من سفر
التثنية (40: واحفظ فرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك
من بعدك) وكتعليل مشروعية الأعياد في الباب 23 من سفر الخروج من العدد 14-
16 بالحصاد والزراعة، وبالخروج من مصر، فأين هذا من بيان حكمة عيد الفطر
في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) .
يرى أحكام المعاملات الإسلامية مبنية على أساس قاعدة درء المفاسد وجلب
المنافع باتفاق المسلمين، وأن كليات هذه الأحكام خمس يسمونها الكليات الخمس،
وهي حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، ويرى أن الشريعة الإسلامية
ساوت في الحقوق بين من يدين بها وغير من يدين بها ويراها تأمر بكشف أسرار
الكون واستخراج منافعه بمثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) ويرى التوراة والإنجيل لم يجمعا هذه
المنافع في أحكامها، بل يخالفانها كثيرًا، فالوصية التاسعة: (لا تشهد على قريبك
بالزور) فأين هذا التقييد بالقريب من أمر القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) وغير ذلك من الآيات، وفي الباب الرابع
عشر من سفر تثنية الاشتراع إباحة المسكر وسائر الشهوات على الإطلاق ونصه:
(وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والمسكر، وكل ما تطلب
منك نفسك وكُلْ هناك أمام الرب وافرح أنت وبيتك) وفي الباب السادس من
إنجيل متى (25: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون)
وفي موضع آخر: (لا تشتغلوا من أجل الخبز الذي يفنى) يأمرهم بهذا مع أن
الخبز أهم المهمات عندهم حتى أمروا أن يطلبوه في صلاتهم بقوله: (خبزنا
بأكفافنا أعطنا اليوم) فما هذا التناقض.
لا تأمر هذه الكتب بترك الأعمال للدنيا فقط، بل ليس للأعمال الصالحة فيها
قيمة ولا منفعة مطلقًا قال بولس في رسالته إلى أهل رومية (14 - 4: أما الذي
يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين (5) وأما الذي لا
يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرِّر الفاجر فإيمانه يحسب له برًّا) هذا والله يقول في القرآن:
{لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ} (البقرة: 177)
الآية، فهل تنجح الأمم بهذه الأعمال أم بإيمان لا قيمة للعمل معه؟
وأثبت هذا المعنى بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية حيث
ذكر أن أعمال الناموس تحت لعنة، وأنه لا يتبرر أحد عند الله بالناموس، وأن
الناموس لا لزوم له بعد مجيء المسيح، والمسيح نفسه يقول: (ما جئت لأنقض
الناموس وإنما جئت لأتمم) ؛ ولكن المسيحيين عملوا بقول بولس فتركوا التوراة
وأحكامها بالمرة، وقد أباح لهم الرسل جميع المحرمات ما عدا الزنا والدم المسفوح
والمخنوق والمذبوح للأصنام (أعمال 15: 28 و29) وكأنهم رأوا أن شريعة
التوراة لا تصلح للبشر كما قال حزقيال في الباب العشرين عن الرب أنه لما غضب
على بني إسرائيل قال: (23 ورفعت أيضًا يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم
وأذريهم في الأراضي 24 لأنهم لم يصنعوا أحكامي، بل رفضوا فرائضي ونجسوا
سبوتي، وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم 25 وأعطيتهم أيضًا فرائض غير
صالحة وأحكامًا لا يحيون بها) وصرح حزقيال قبل هذا بأن بني إسرائيل عبدوا
الأصنام بعد ما أنجاهم الله من مصر، فليعتبر بهذا ذلك المبشر المسيحي، وذلك
اليهودي اللذان أنكرا عليَّ ما كتبته في العدد العاشر من طلب بني إسرائيل عبادة
الأصنام، وزعما أنه لم يقل بذلك إلا القرآن.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/411)
الكاتب: ع. ز
__________
لائحة الفقه الإسلامي [*]
لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع
برح الخفاء وآن للحقائق أن يتبلج نورها، فقد مزَّقت عزائمُ المصلحين حجبَ
الأوهام، وأزالت غشاوة الأبصار، وللأطوار أدوار، وللأدوار أسرار، فسبحان
الظاهر الباطن.
إن لم يكن في كلماتي هذه براعة استهلال لمقصدي وفاتني منها النصيب
الذي يحرص عليه كتابنا القدماء ومقلدوهم في محامد خطبهم؛ فإن فيها من قوة
العزم في المقصد الإجمالي ما يعرب عنه بأجمع عبارة وأجمل إشارة.
كلامي الآن في الفقه الإسلامي حملني عليه سبب شريف ذلك أنني كتبت إلى
صديق لي فاضل مشرف على مطالع أنوار المعارف مكتوبًا مطولاً، عرضت له
فيه خلاصة نبذة من أفكاري بأننا إخوان سعي في سبيل إصلاح يهتم له الشاعرون
بالأحوال، وينكره الواقفون الذين تتجاذبهم الأهواء، ويتجاذبون الأدواء،
والمكتوب جاء فيه إنكار لكثير من العلوم التي يعتبرها المسلمون من العلوم النافعة
لهم في دينهم ودنياهم، وأعتبرها أنا بالعكس بما قام عندي من البرهان فأختار أن
يحاورني في قسم من أقسام المكتوب، فكتب إليّ جوابًا أفاض فيه من معارفه
الغزيرة ما تروى به الصدور، ونشر المنار الزاهر هذا الجواب لما احتوى من
حقائق العلم، وآيات الإشراف والإشراق، وإذ كان لي من الكلام في هذا الموضوع
ما لم يسعه مكتوبي الأول، ومن الجواب على رده ما يزيد المسألة وضوحًا أحببت
أن أكتب هذه الرسالة لصديقي نفع الله الأمة بفضله وعلو همته، على أن يكتفي إن
شاء بمطالعتها أو ينشرها في المنار - أدام الله إشراقه - إن شاء صاحبه العلامة.
كلامي في الفقه الإسلامي
الفقه الإسلامي يشتمل على قسمي العبادات والمعاملات كما يقولون، أما
العبادات فليس يخفى على أحد أنها أعمال خاصة أُمرنا أن نفعلها كما كان يفعلها
النبي وأصحابه الذين تعلموا منه، فهل التعاليم مختلفة بقدر ما اختلف هؤلاء الفقهاء
أم أراد هؤلاء أن يوهموا الملأ بما وسعته صدورهم من العلوم فتوسعوا
بالتفصيلات القولية والاصطلاحات المذهبية حتى كتبوا ألوفًا من الأوراق على
الصلاة مثلاً، ولئن سألتهم ليقولن إنها عماد الدين، وأن الاهتمام بتحرير علومها
ضروري، قل إن القرآن المجيد الذي فرضها لم يجئ فيه بشأنها أكثر من قوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: 43) {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43)
{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} (فصلت: 37) ولم يجئ فيه بشأن الطهارة التي هي من
أجلها أكثر من الأمر بغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس إذا أخرج الإنسان
فضلاته، وبالتيمم إذا لم يجد الماء وبالتطهر من الجنابة، وأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يُعَلِّم الصلاة للواحد من أصحابه في ساعة واحدة؛ لأنها أعمال محدودة
كالوقوف إلى جهة معينة، وقراءة كلمات سهلة وحني الظهر ووضع الجبهة على
الأرض! أعمال يتعلمها الصبي في ساعة، ويا عجبي للذين اختلفوا واستشهد كل
منهم بالأقوال، ألم يروا أنها حركات بدنية واستحضارات قلبية، شوهدت من النبي
صلى الله عليه وسلم يفعلها خمس مرات كل يوم نحو عشرين عامًا، ثم شاهدها من
أصحابه من لم يشاهدها منه وهلم جرا، ألم يكن في مشاهدة الفعل يتكرر آلافًا من
المرات غنية عن الأقوال؟ أم أراد بهم ربك اختلافًا فلم يزد الناس بيانهم إلا
إغماضًا وإعضالاً، اتلُ من أمثلة اختلافاتهم هذا المثال:
(في فتح القدير (1) ص (154) وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس
وآخر وقتها ما لم يغب الشفق وقال الشافعي رحمه الله: مقدار ما يصلي فيه ثلاث
ركعات لأن جبريل عليه السلام أمَّ في اليومين في وقت واحد، ولنا قوله عليه السلام:
(أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق) وما رواه كان
للتحرز عن الكراهة، ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة
رحمه الله وقالا هو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي رحمه الله
لقوله عليه السلام: (الشفق الحمرة) ولأبي حنيفة قوله عليه السلام: (وآخر وقت
المغرب إذا اسود الأفق) وما رواه موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما ذكره مالك
رحمه الله في الموطأ، وفيه اختلاف الصحابة اهـ) .
تراهم اختلفوا في تعيين الشفق، ورووا عن أبي حنيفة روايتين متباينتين
وأنت خبير أن هذا التفريق بين البياض والحمرة دقيق جدًّا إذا كان الجو صافيًا ولا
يمكن ألبتة إذا كان داجنًا، ثم ماذا جوابهم إذا سألهم أهل أرض تحجب فيها الغيوم
الشمس أكثر من نصف السنة عن أول وقت المغرب الذي عينوه بغروبها، وعن
آخره الذي عينوه بذلك البياض وتلك الحمرة، أفيقولون يقدر الوقت تقديرًا؟ فكيف
يقدر الوقت وبماذا؟ أبعدد الركعات كما قال الشافعي فكم معدل الركعات في النهار
والليلة، حتى نقدِّر أجزاءهما بعدد الركعات، ومن ذلك الذي يعمل هذا المعدل؟
وإليكم هذا أيضًا: يقولون في باب الصوم:
(لا عبرة باختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب وعليه
الفتوى) انظر معي في هذا القول الذي اتفقوا عليه وأفتوا به إلا أصحاب الشافعي،
فاسأل الذين يقرءونه فيعتبرونه دينًا: من ذلكم الذي يوصل خبر المغرب إلى
المشرق في أقل من ليلة حتى يلزمهم الصوم بيوم واحد؟ ثم كيف يصوم أهل
المغرب مثلاً برؤية أهل المشرق وبينهما اختلاف عظيم، فقد يكون ليل ناس نهار
آخرين؟
سامحني أيها الصديق بما تصديت له من حال أقوالهم في قسم العبادات فقد
دعت إلى هذه الإشارة ضرورة الكلام على كل ما سموه فقهًا، وسامحني أيضًا أن
أذكر شيئًا عما كتبوه في المناكحات التي عدوها في المعاملات، تلك المناكحات التي
يتعجب الإنسان من الأبواب التي فُتحت فيها، كحلف الإنسان بأنه يحرِّم فرج
امرأته على فرجه إذا كان الأمر كذا مما لا علاقة للزوجة به، وكإفتائهم وقضائهم
بأن هذا الفرج المحلوف عليه يُحرَّم إذا حنث الحالف، وإن لم يكن ثمة إرادة الفراق
وإليكم من عباراتهم في هذا الباب شيئًا من أشياء:
(لو قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثًا؛ لأن
نصف التطليقتين تطليقة، فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تكون ثلاث تطليقات
ضرورة، ولو قال أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة، قيل يقع تطليقتان؛ لأنها طلقة
ونصف فيتكامل، وقيل يقع ثلاث تطليقات؛ لأن كل نصف يتكامل في نفسه
فتصير ثلاثًا)
هذا وأما ما كتبوه في الحقوق، وسموا مجموعه بالمعاملات فلا أنكر أنهم
أجادوا في بعضه بحسب أزمنتهم وأمكنتهم؛ وإنما الذي أنكره هو: (1) أنه يكفي
لزماننا ويغنينا عن غيره (2) وأنهم استفادوا كل ما كتبوه من الدين، ولا دخل
لعقولهم فيه (3) وأنه لا يغني عن غيره (4) وأنه لم يكن آلة بيد القضاة
والمفتين ومن في حكمهم يعبثون فيه كما شاءوا (5) وأنه ليس من المضر تقديسه
الذي جعلنا ينابذ بعضنا بعضًا من أجله، وتقديس المحاكم المنسوبة إليه التي كانت
ولا تزال بقاياها ميدانًا تتجلى فيه الغرائب.
هذا كله هو الذي أنكره إنكارًا مقرونًا بالدليل القاطع لمن شاء أن أذكره،
وليس بخافٍ (1) أن أزمنتهم غير زماننا الذي تغيرت فيه التجارة وأبوابها
وفروعها تغيرًا مهمًا (2) وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بتصريحه لمعاذ بن
جبل وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يعملا برأيهما إذا لم يجدا نصًّا - كفانا
مؤنة السلاسل التي ربط الناس بها أقوام كتبوا الكتب بأيديهم، ثم قالوا هذه من عند
الله (3) وأن هذه الأمم التي ليس عندها هذه الكتب قد أغناها الله بفضل عقولها في
تدبير التجارة والبيوع وعقد الشركات وإمضاء المعاهدات وإدارة المنافع العامة
وترتيب العقوبات وجباية الأموال وتنظيم الجيوش وإعداد ما يحفظ المجد ويعلي
الشأن في السلم والحروب (4) وأن هذه الأقوال المتضاربة المتعارضة ليس
لأكثرها من سبب إلا منافع القضاة ومن في حكمهم (5) وأن اعتناء كل طائفة
بمذهب واحد على ما فيه من تعدد المرجحين قد فرَّق كلمة المسلمين منذ زمن بعيد
حتى أوصلهم إلى هذه الحالة - وهل منكر لها؟ - بمقتضى السنة الإلهية. هذا ما
قلت زبدته وأعدته اليوم مع شيء من التفصيل، وأن الأخ حفظه الله ليعلم أن هذا
الموضوع لا يوفيه حقه من البيان إلا مئات من الأوراق وفي ذكائه وإمعانه وإمعان
الأذكياء غنية وكفاية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز
(المنار)
للمقالة بقية، ومَن عنده جواب من الفقهاء فليرسله إلينا لننشره بعد إتمامها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) يراجع ما كُتب في الجزء الرابع تحت عنوان (الفقه الإسلامي) فهذا جوابه.(4/417)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة ديوان حافظ
أو الشعر وفنونه وتأثيره وفحوله
يعرف قراء المنار مكانة محمد حافظ أفندي إبراهيم في الشعر، وأنه يضرب
مع فحوله بكل سهم، ويسابق جياده في كل فج، ويمتاز على السابقين الأولين
بالمعاني التي جلتها الحضارة والمدنية، ويتقدم صفوف المتأخرين بالجزالة البدوية
ويودون لو تُخدم اللغة والآداب بطبع ديوانه، ونحن نبشرهم بأن الديوان كاد يتم
طبعه، ونتحفهم بمقدمته التي تشهد له بأنه ممن اتفقت لهم الإجادة في المنظوم
والمنثور، وهي - كما قال ابن خلدون - لا تتفق إلا للأقل، قال حافظ وأحسن ما
شاء هو وشاء الإحسان:
الشعر - وهو أحد توأمي اللغة العربية - علم وجد مع الشمس، لا تعرف الإنس
له واضعًا، قد كمن في نفوس البشر كمون الكهرباء في الأجسام، فلا يهتدي إلى
مكمنه الخاطر، ولا يعثر به الخيال إلا إذا أثارته حركة النفس، وهو من الكلام
بمنزلة الروح من الجسد، فلا بدع إذا عجز لسان الكون عن تعريف كنهه عجزه
عن إدراك كنه الروح.
ولقد عرَّفه بعضهم فقال: إنه نفثة روحانية تمتزج بأجزاء النفوس، ولا تحس
به منها غير النفوس الزكية. وقال آخر: إنه قول يصل إلى القلب بلا أذن.
ولم أعثر حتى اليوم على تعريف له شافٍ في كتب العرب والإفرنج، ومبلغ
القول فيه أنه ظرف الحكمة ومسرح الخيال ومغنى البلاغة وخدر الفصاحة ووعاء
الحقيقة، فلو أنهم سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تشرف منه على الكون لما
اختارت غير بيت من الشعر [1] ، ولو لم تكن آيات الكتاب العزيز كلها ظروفًا
وأوعية للحقيقة لما وجد الملحدون السبيل إلى القول بأنه جاء على طريقة الشعر
وإن كان منثورًا.
وخير الشعر ما سبق دبيبه في النفس دبيب الغناء، ثم سبح بها في عالم
الخيال، فإن كان غزلاً مر بها على مسارح الظباء وكنس الآرام، وطاف بها على
أودية العشق والغرام، فأراها أسراب الأرواح ترفرف على نواحيها غاديات
رائحات في مروج الهوى، سائحات سارحات في رياض المنى، طائرات سابحات
في أجواء الهيام، حافات بأرواح أولئك الذين قضوا صرعى العيون، وشهداء
الجفون، وأراها جميلاً وهو يرنو إلى بثينته، والمجنون وهو يضرع ليلاه، ثم
ردها بعد ذلك وقد أذابها رقة وأسالها شوقًا، وإن كان حماسًا طار بها إلى مكامن
البلاء، ومساقط القضاء، يشق بها صفوف الحوادث، وكتائب الكوارث، حتى إذا
راضها على مصافحة الحمام، ومكافحة الأيام، انتقل بها إلى المعامع، فحبب إليها
لثم البتار، ومعانقة الخطَّار، وأراها عبد بني عبس وهو يسابق المنية إلى اختطاف
الأرواح وينادي:
لي النفوس وللطير اللحوم وللـ ... ـوحش العظام وللخيالة السَّلَب
ثم ردها بعد ذلك، وهي تنظر إلى فرند القصاب، نظر المحب إلى لمي
الرُّضاب.
وإن كان فخرًا سما بها إلى عرش الجلال فأراها الشريف متربعًا في ناديه
يطالع في صحيفة أنسابه، وجريدة أحسابه، وهو يشتَمُّ من لحيته ريح الخلافة
ويخاطب بها صاحبها بقوله:
مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق
وإن كان حكمة خرج بها عن ذلك العالم المجبول بالأذى، وآسى عندها بين
الوجود والعدم فروَّح عنها وهون عليها، ثم سرى بها من بيت العظة والاعتبار
وأراها شيخ المعرة وأبو الطيب بجانبه، يستصبح كل منهما بنوره صاحبه،
وأسمعها الأول وهو يقول:
ويدلني أن الممات فضيلة ... كون الطريق إليه غير ميسر
والثاني وهو ينشد:
ألف هذا الهواء أوقع في الأنـ ... ـفس إن الحِمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق
ثم ردها وهي تنظر إلى هذا الدهر وأبنائه نظر الممعود إلى غذائه.
وإن كان زاهدًا طرح عن منكبيها رداء الطمع، واستل من جنبيها خيوط
الجشع، وأراها الشيخ أبا العتاهية مضطجعًا في بيته، يتغنى ببيته:
الناس في غفلاتهم ... ورحى المنية تطحن
ثم غادرها وهي تكتفي من دنياها بإحراز مسكة الحوباء، وتجتزئ منها بشربة
من الماء.
وإن كان مادحًا مثَّل لها الممدوح يسحب مطارف الحمد، ويجرَّ ذيول الثناء،
وقد كساه مادحه حلة لا تبلى وأحلّه المحلّ الذي لا ترقى إليه همة الزمان، وأراها
صاحب مسلم بن الوليد الذي يقول فيه:
موحِّد الرأي تنشق الظنون له ... عن كل ملتبس فيها ومعقود
يلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود
وقد شفَّت له الآراء عن مواطن الصواب، وانشقَّت له حجب الظنون عن
مكامن الغيب ومثله لها في البيت الأول، وهو يسري ورأيه يضيء إضاءة الكهرباء
وفي البيت الثاني وهو يدفع الموت بالموت، ويدرأ الحتوف بالحتوف إذا شمر له
الموت عن ساعديه شمر، وإذا تنمر له الحِمام تنمر.
وإن كان استعطافًا مثّل لها النفس الموتورة، وهو يحلل من حقدها، ويقلم من
أظفار ضِغنها، وقد مال بها إلى جانب العفو والتجاوز، وأراها سيف الدولة في
ديوان إمرته، وأبو الطيب جالس بحضرته، ينشده قوله:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
ولم تجهل أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وقد سكت عنه الغضب، وهبَّت من شمائله نسائم الرفق، وجال في محياه
ماء الصفح.
وإن كان وصفًا جسَّم لها الشيء الموصوف، حتى إنها لتكاد تهمُّ بلمسه،
وأثبت لها أن الشعر تصوير ناطق وأراها ذلك السيف الذي يقول فيه أبو الطيب:
سلَّه الركض بعد وهن بنجد ... فتصدى للغيث أهل الحجاز
وهو يخطف البصر قبل اختطاف الهمام، ويلمع لمعان شقة البرق طارت في
الغمام، أو ذلك السيف الذي يقول فيه ابن دريد:
يُري المنايا حين تقفو إثره ... في ظلم الأحشاء سبلاً لا تُرى
وهو كأنه سراج يضيء لعزريل فيهتدي به إلى مكامن الأرواح.
وإن كان تشبيهًا جلَّى لها وجه الشبه في مرآة الخيال، فأشكل عليها الأمر،
ولم تدر أيهما المشبه بالآخر، وأراها بزاة ابن المعتز التي يقول فيها:
وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح متهم الطلوع
كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع
وهي كأنها أولئك الأمراء، وأولئك الأمراء وهم كأنهم تلك البزاة.
ذلكم تأثير الشعر السري في النفوس، ولقد بلغ من تأثيره أن بيتًا منه أذكى
نار الحروب بين العرب والفرس، وهو قول ليلى بنت لكيز من قصيدة:
غَلَّلُوني قيَّدُوني ضربوا ... ملمس العفة مني بالعصا
وإن بيتين منه أتيا على أمة بأسرها وهما قوله:
لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع الصوت ... حتى لا ترى فوق ظهرها أمويّا
وقد ترجل لبيت منه جيش بالأندلس وهو قول ابن هانئ:
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تُبَّع في حِمْير
وبرز أحد ملوك الأندلس من خلف الستار حين سمع قول مادحه:
انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذه الجملة الأخيرة مقتبسة من كلام الأستاذ الشيخ محمد عبده.(4/422)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عفة نساء العرب وبلاغتهن
ذكَّرني بيت ليلى بنت لكيز الذي أورده محمد حافظ أفندي في مقدمة ديوانه أن
أُطرف القراء بخبر عفة هذه الفتاة، وقوة عزيمتها، وبلاغة قولها، وسحر بيانها،
وطالما كنت أحدِّث الإخوان بأن أبلغ بيت قالته العرب هو قول هذه الفتاة (غَلَّلُوني)
البيت، على أن البلاغة هي كما قال أستاذنا مفتي الديار المصرية هي أن يبلغ
المتكلم بكلامه ما يريد من التأثير في النفوس وإصابة موقع الوجدان منها.
ومجمل خبر الفتاة أن أباها وهو من بني وائل نزل في بعض منازل إياد
بالقرب من بلاد فارس، وكانت ليلى هذه بارعة الجمال، فتزلف بخبرها إلى ملك
الفرس رجل من تحوت إياد، على أن إيادًا كانوا مرذولين عند العرب لمجاورة
الأعاجم ومخالطتهم، فأخذها الملك من أبيها غصبًا، فبخلت عليه حتى برؤية
وجهها، فبذل لها في سبيل رؤيته ألوان المشتهيات، وروَّعها بضروب العقوبات،
فأبت عليه أن يراها، ثم خيَّرته بين أن يقتلها أو يعيدها لأبيها، فارتأى بعد ذلك أن
يفسد عفتها بالترف والنعيم، فكف عن مراودتها وأمر بأن ترفَّه وتغمر بالنعيم، وما
كان نعيم الأجنبي إلا بؤسًا عليها لعزة نفسها وأنفتها، ومن كلامها في تحريض
قومها على قتال الفرس وحماية عرضهم بإنقاذها:
ليت للبرّاق عينًا فترى ... ما أُلاقي من بلاء وعنا
يا كليبًا وعقيلاً إخوتي ... يا جنيدا أسعدوني بالبكا
عذبت أختكم يا ويلكم ... بعذاب النُّكر صبحًا ومسا
غَلَّلُوني قَيَّدوني ضربوا ... (ملمس العفة) مني بالعصا
يكذب الأعجم ما يقربني ... ومعي بعض حشاشات الحيا
قَيِّدُوني غَلِّلُوني وافعلوا ... كل ما شئتم جميعًا من بلا
فأنا كارهة بغيكم ويقين ... الموت شيء يرتجى
يا بني كهلان يا أهل العلى ... أتدلون علي الأعجما
يا إيادًا خسرت أيديكم ... خالط المنظر من برد عمى
فاصطبار وعزاء حسنًا ... كل نصر بعد ضر يرتجى
أصبحت ليلى يغلي كفها ... مثل تغليل الملوك العظما
قل لعدنان هديتم شمروا ... لبني مبغوض تشمير الوفا
واعقدوا الرايات في أقطارها ... وأشهروا البيض وسيروا إلى الضحى
يا بني تغلب سيروا وانصروا ... وذروا الغفلة عنكم والكرى
احذروا العار على أعقابكم ... وعليكم ما بقيتم في الدُّنا
وقد كان لهذا ما كان من الحروب بين العرب والفرس، وانتهى الأمر بقتل
ملك الفرس وتخليص الفتاة، فليعتبر بهذه العفة والشهامة نساؤنا، بل وشبان
المصريين المتبجحون بأنهم أبناء عصر المدنية، وما بلغوا في الفضيلة بعض ما
بلغت تلك البدوية، قد أفسدت الشهوات بأسهم فمسنوا ومجنوا وتهتكوا حتى بلغنا
عن شاب من أذكيائهم أنه قال في بَغِيّ إنكليزية إنها حببت إليه بجمالها ودلالها
الاحتلال، وتلك نهاية التلاشي والانحلال.
__________(4/427)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة الدينية
(1) من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل المحاورة بين
المصلح والمقلد حقيقية أم خيالية؟ فإن كانت خيالية هل يوضع الخيال موضع
اليقين في أمر من أمور الدين؟ وإن كانت حقيقية فمن المقلد ومن المجتهد ولما
يخفيان أنفسهما؟ وهل جُمِعَتْ في هذا المجتهد شروط الاجتهاد من الإسلام والعدالة
... إلخ؟
(ج) ليراجع السائل جواب السؤال في الصفحة 68 من الجزء الثاني من
منار هذه السنة، فقد بيَّنا فيه أن من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد
كأساتذة المدارس، ومنهم من يخفي اسمه إذا كتب ليعلم الناس الحكم على القول
بذاته، ومعرفة الحق بنفسه دون قائله كما هو الواجب، ومنهم من يكتم اسمه لغير
ذلك ولا يتوقف عن قبول مثل هذا إلا من لا يستطيع فهم الحق بنفسه؛ وإنما هو
مفطور على التقليد بغير بصيرة، وليس المقصود من المحاورة حمل الناس على
العمل بقول أحد المتناظرين؛ وإنما المقصود بها فتح باب معرفة الحق بدليله لمن
هو أهل لذلك، هذا ما نجيب به على فرض أن المحاورة واقعة فعلاً، وإذا كانت
المحاورة غير واقعة، بل مفروضة، فأي حرج في بسط المسائل الدينية والعلمية
وشرحها بأسلوب السؤال والجواب والرد والاعتراض وهو أسهل الأساليب وأنفعها؟
ومن يتوهم أن هذا يحوِّل المسائل اليقينية إلى تصورات خيالية والبرهان هو
العمدة فيها؟ مثل هذا الوضع معهود من أكابر العلماء الذين يقلدهم السائل، ويقلد
من دونهم؛ ولكنه ذهل عن ذلك فكتاب (القسطاس المستقيم) للإمام الغزالي هو
بهذا الأسلوب، وكذلك مقامات الحريري وفيها ما لا يُحصى من أحكام الدين في
الفقه والآداب والمواعظ، وقد علم رحمه الله تعالى أن سيعترض عليه فقال في
خطبة المقامات:
(على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي،
لا أكاد أخلص من غُمْرٍ جاهل، أو ذي غِمر متجاهل، يضع مني لهذا الوضع،
ويندد بأنه من مناهي الشرع، إلى أن قال: فأيُّ حرج على من أنشأ ملحًا للتنبيه،
لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من
انتدب لتعليم، وهدى إلى صراط مستقيم) ... إلخ.
وأما ما ذكره من شروط الاجتهاد التي وضعها المقلدون، فسيرى البحث فيها
في المحاورات إن شاء الله تعالى، وحسبه أن يعلم هنا أن إيراد المسائل بصورة
المناظرة لا يجعل اليقين خيالاً، وأنه لا حرج فيه، بل فيه أجر إحسان العمل
وتقريب العلم من الأفهام وهذه هي شبهته من تصوره أن المحاورة غير واقعة.
***
(2) ومنه: هل يجوز لغير المجتهد أن يقلد المجتهد في معرفة الأحكام
الشرعية العملية من مذهبه؟ ... إلخ.
(ج) ذكرنا من قبل أن التقليد هو الأخذ برأي أحد من غير معرفة دليله،
فلا معنى للتقليد في المعرفة إلا أن يريد بالتقليد السير على طريقة المجتهد التي بنى
عليها مذهبه في الاستدلال والاستنباط، كما فعل أصحاب الإمام أبي حنيفة مثلاً،
ولا شك أن هذا جائز؛ لأنه تعلُّم وليس هو بتقليد، فسقط قوله في تتمة السؤال أن
الإمام أبا يوسف لم يدَّع مرتبة الاجتهاد المطلق، ولو لم يدعها لم يكن إمامًا يقتدى
به، إذ لا يقول أحد بتقليد المقلد، وقوله إن الوقت خلا عن المجتهد المطلق دعوى
لا دليل عليها، فهل عرف هو جميع المسلمين، وهم يعدون بمئات الملايين وتحقق
أن كل واحد منهم مقلد، وترون أجوبة بقية الأسئلة التي في ضمن هذا السؤال في
المحاورات؛ لأنها وفَّت هذا الموضوع حقه، والمعهود في الأسئلة والأجوبة التي
تنشر في الجرائد الاختصار، والملل والسآمة يتولدان من التكرار.
***
(3) ما هي طريق الصوفية؟ ومن أهلها؟ وما أصولها وأركانها وشروطها
وآدابها وما حجتها على بحثها؟ وإذا جوَّزنا أن العهد الذي يتناقله أهل هذه الطريق
سلفًا وخلفًا لم يثبت بدليل صحيح، وأن حديث شداد بن أوس عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن أصحابه جماعة
وفرادى العهد الذي يتناقله القوم - لم يثبت عند حضرته، فكيف انخدع به أمثال
رجال الرسالة القشيرية، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده كما ذكر المنار
نفسه في العدد الثامن من المجلد الثالث.
(ج) يراجع السائل العدد السابع والثلاثين من مجلد المنار الأول فإن فيه
مقالة طويلة في التصوف والصوفية، وكيف كانوا وكيف صاروا وفيها نقل عن
الرسالة القشيرية، وأما حديث شداد بن أوس فهو في تلقين كلمة التوحيد
وليست مختصة بالصوفية؛ وإنما هي عامة لكل مؤمن بالله ورسوله ولا حاجة في
إثبات تلقين كلمة التوحيد إلى تصحيح خبر شداد، أليس من التدليس - ولا أزيد
على هذا - أن يستدل على ما يتناقله أهل الطريق مما هو مختص بهم بحديث تلقين
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلمة لا إله إلا الله لأصحابه؟ إن كانت هذه الكلمة
هي التصوف كله فكل المسلمين صوفية، وإن كان كل معناها كما يفهم الكثيرون أن
الذي خلق الخلق واحد لا شريك له في الإيجاد، فالناس كلهم صوفية أيضًا إلا أفراد
لا اعتداد بهم لقلتهم، كلا إن هذا اللقب كان يُطلق في عهد رجال الرسالة القشيرية
على الذين أخذوا بالعزائم، واتبعوا سيرة السلف الصالح في الدين، وتجنبوا البدع
التي حدثت بعدهم.
ثم ظهرت في الملة طوائف تفننت في البدع ما شاءت، وانحرفت عن صراط
السلف، وانتحلت كل طائفة منها اسم التصوف، وانتسبوا إلى أولئك الأئمة
المهديين بالقول، وخالفوهم في العلم والعمل والأخلاق والآداب، وإن أردت أن
تعرف بدعهم وضلالاتهم فعليك بكتاب المدخل لابن الحاج لا سيما أواخر الجزء
الثاني منه، وكذلك الإحياء والاعتصام، وقد بيَّن المنار بعضها وسيبين باقيها
بالتدريج إن شاء الله تعالى (راجع باب البدع والخرافات) .
أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فلم يسلك طريق التصوف انخداعًا بحديث شداد
ولا اهتداء به؛ وإنما قيض الله تعالى له رجلاً من أكابر الصالحين في أوائل توجهه
إلى طلب العلم، فكلَّفه في أوقات الفراغ أن يقرأ له رسائل كانت عنده من شيخه
ومربيه، فلما قرأ له عدة رسائل تأثر من هذه الرسائل لما فيها من تشديد النكير
على المعرضين عن هدي الدين، فانشرح صدره لأن يكون ممن تسميهم هذه
الرسائل (الإخوان) وسأل ذلك الصالح عن طريقهم فقال له هو الإسلام، فقال له
أليس سائر هؤلاء الناس على الإسلام أيضًا فما هو امتياز إخوانكم إذن؟ فأجابه
الصالح أن الإسلام ينهى عن الكذب وهؤلاء الناس يكذبون وإخواننا لا يكذبون،
والإسلام يأمر بالأمانة وهؤلاء الناس قد فشت فيهم الخيانة وإخواننا لا يخونون،
وهكذا صار يذكر له ما ينهى الإسلام عنه وما يأمر به ويذكر أدلة ذلك وأن إخوانهم
ممتثلين له، فقال له ماذا أعمل لأكون مثل إخوانكم فأمره بثلاثة أشياء: (أحدها)
أن يقرأ كل يوم جملة من القرآن مطالبًا نفسه بفهمها، وأن يراجعه فيما لا يفهمه
و (ثانيها) أن يذكر الله تعالى في أوقات الفراغ مع حضور القلب بغير تقييد بعدد
و (ثالثها) أن يتعلم كل علم أمكنه أن يتعلمه، وهكذا كان هذا هو التصوف الذي
يعنيه السائل، فهذا ما ندعو إليه ونسأل الله تعالى أن يوفق جميع المسلمين له.
وسيأتي الجواب عن بقية الأسئلة إن شاء الله تعالى، ونعتذر إلى السائلين
الآخرين بتقديم هذه الأسئلة على أسئلتهم التي طال عليها الزمن بإلحاح هذا السائل،
حتى أنه لم يكتف بما كتبه إلينا حتى نشر بعضه في مجلة الموسوعات الغراء، نعم
إنه عهد إلينا بعد ذلك بأن لا نجيب عن أسئلته التي نراها في الجرائد؛ ولكن ما
يُنشر لا بد أن يجاب عنه؛ لأنه تعلق به حق سائر القارئين.
__________(4/429)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(سياحة في غربي أوربا)
سافر في العام الماضي إلى أوربا صديقنا الفاضل الوجيه العاقل عزتلو نسيم
بك خلاط من أعيان طرابلس الشام، وكتب رحلة في ذلك سماها (سياحة في غربي
أوربا) طُبعت في مطبعة المقتطف، وأهديت إلينا نسخة منها، وقد قرأنا منها جملة
صالحة فألفيناها من أنفع ما كُتب في بابها، وأجلَّه فائدة.
ذلك أن من الناس من لا يكتب إلا في وصف الظواهر التي يشاهدها، فإذا
أحسن الوصف فهو كالمصور الذي لا يستطيع أن ينفخ الروح في الصورة التي
يصورها، ومنهم من همه ذكر المعايب، وانتقاد المثالب، ومنهم المغرم بالإغراب،
والإتيان بما يثير الدهشة والإعجاب، ومنهم المؤرخون الكاذبون الذين يفتنون
الناس بالتحيز إلى قوم وجعل سيئاتهم حسنات، والتحامل على آخرين بإبراز
حسناتهم في صور السيئات، وأفضل الكلام في التاريخ ما كان صدقًا لا كذب فيه ولا
مبالغة، وكان مقرونًا بالتنبيه إلى وجوه العبرة باستحسان الحسن، واستقباح القبيح
لذاتهما ومقارنة الحوادث بذكر الأسباب والنتائج، وهذه هي الخطة التي اختارها
صديقنا في الكلام عن سياحته، فنحث على مطالعتها والاستفادة منها.
***
(الجامعة)
أتمت هذه المجلة الغراء السنة الثانية، وصدر الجزء الأول من السنة الثالثة
طافحًا بالمقالات التاريخية والأدبية والمباحث العلمية والتهذيبية، وقد استقل بها
محررها الفاضل فرح أفندي أنطون وجعلها شهرية، ورفع قيمة الاشتراك، فجعلها
خمسين غرشًا أميريًّا في السنة، وكان أربعين غرشًا؛ لكنه زاد في مادة المجلة
فجعلها تسع كراسات، ويليها كراسة القصص (الروايات) فصفحاتها بذلك بعدد
صفحات المنار، فما جاء فيها من أنها (أرخص المجلات العربية) يصح بتأويل
أنها من أرخصها، وذلك معهود مستعمل.
وإننا نتمنى لصديقنا منشئها كمال التوفيق والنجاح، ولمجلته الرواج الذي
تستحقه؛ لينتفع الناس بها، ويستمر هو على الكتابة والتأليف الذي خُلِق له؛ فإن من
أعظم أسباب تأخرنا أن الذين استعدوا لأن تنتفع البلاد بأقلامهم لم تستعد البلاد لأن
تنفعهم بها، وتغنيهم عن الاشتغال بغيرها؛ ولذلك ترك أكثرهم المحابر والأقلام
واشتغلوا بتحصيل الرزق، وتركوا التأليف والتحرير للجاهلين الذين يفسدون بما
يكتبون ولا يصلحون {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .
***
(المرأة)
مجلة نسائية علمية فكاهية لحضرة منشئتها البارعة أنيسة عطا الله فعسى أن
تصادف رواجًا؛ لتكون عونًا على انتشار العلم والأدب في النساء، فالعلم خير كله.
__________(4/433)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فضيلة مفتي الديار المصرية
في الآستانة العلية
سافر صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية
في هذا الصيف إلى دار السعادة العلية، ولما ألقى مراسيه فيها بادر حالاً إلى قصر
يلدز العامر، حيث مقام مولانا وسيدنا السلطان الأعظم أيده الله تعالى، وحينما أذن
مولانا بحضوره أمر بتبليغه السلام، ثم انصرف الأستاذ من القصر بعد أن أقام مع
عطوفة الباشكاتب السلطاني نحو ساعة، وبعد ذلك صدرت الإرادة السنية بأن يُعَدّ
لفضيلته دار مخصوصة من أحسن دور الضيافة السلطانية على ما جاء في بعض
الأجوبة من الآستانة ونشره المقطم الأغر، وورد في بعض الأخبار الخصوصية
الموثوق بها أن صاحبة الدولة والعصمة والدة الجناب العالي أمرت بأن يُدْعَى أيضًا
للنزول في قصر ببك، ثم أكد الخبرين معًا بعض الوجهاء الذين حضروا من عهد
غير بعيد من هناك، وقال: إن الأستاذ أقام في قصر ببك يومين أو ثلاثة أيام، ثم
عاد إلى دار الضيافة السلطانية؛ ولكن المكاتيب التي وردت من الأستاذ نفسه لم
تذكر أمر الضيافة بالمرة.
ومما ينبغي ذكره من غرائب ما في مصر من فساد الأخلاق والجراءة على مقام
السلطنة فما دونه من المقامات الرفيعة - أن الذين لا عمل لهم إلا السعاية والتجسس
والكذب على خليفتهم وسلطانهم أرسلوا إلى المابين الهمايوني، وإلى بعض الكبراء
في الآستانة تقارير خلقوا فيها ما شاءوا من الإفك وقول الزور، يريدون بذلك أن
يتوسلوا ليتوصلوا إلى التباعد بين الآستانة العلية ومصر؛ لأنهم يعلمون أن قول
الأستاذ في مصر هو القول الفصل الذي يؤثر ويُعوِّل عليه جميع أهل الفضل من
العلماء والوجهاء والموظفين، بل الذي لا يشك في صدقه أحد يعرفه.
كتبوا ما كتبوا وليس لهم شيء يتوكؤون عليه، وقد اتفق أن سافر في السفينة
التي سافر فيها الأستاذ المفتي صاحب المؤيد الفاضل، فكان رفيقًا له، وكان لهم في
هذه المرافقة الاتفاقية القال والقيل لعلمهم بأن جريدة المؤيد أعظم الجرائد تأثيرًا في
القطر المصري، وهي عمدة جميع مسلمي مصر في السياسة والأخبار، وقد خدمت
الدولة العلية والحضرة الحميدية خدمة لها في القطر أعظم تأثير.
ومما لا يعزب عن الذهن أن مفتي الديار المصرية وكبير العلماء فيها لا بد أن
يزور صاحب أكبر منصب علمي إسلامي وهو شيخ الإسلام، وقد كان معه في
زيارته له رفيقه، وأرسل هذا إلى جريدته ما دار بينهما من الحديث، ولا يتحدث
هذان الإمامان الجليلان إلا في العلم والعلماء ووظائفهم، وقد نشرنا جواهر الحديث
في المقالة الافتتاحية، ونقول هنا إن الجواسيس أعداء الدولة قد كتبوا بمناسبة ما
ذكره المقطم من استياء العلماء من الحديث تقارير برقية وبريدية مزورة على
العلماء في ذلك، ومن الناس من يقول إن بعض المتعممين المغرورين وافقهم على
ذلك، وأنه هو الذي غش المقطم حتى كتب ما كتب، ولو أن العلماء استاءوا حقيقة
لراجعوا في ذلك شيخهم الأكبر شيخ الأزهر وهو كان يكتب إلى الأستاذ المفتي بذلك،
ويقال إن أجرة التقرير الذي أرسله فلان بك بلغت أجرته ثلاثة جنيهات، وقد
اختلف من سمع ذلك في موضوع التقارير، ويقال إن في بعضها طلب أن يكذب
صاحب الدولة والسماحة شيخ الإسلام الحديث الذي نُشر في المؤيد أو يرجع عنه! ! !
وعندنا أن بعض الجرائد هي التي هوَّلت الأمر، وأن شيخ الإسلام إذا علم أن
بعض من ينتسب إلى العلم ينكر قوله وقول مفتي الديار المصرية، أو يستاء منه؛
فإنه لا يرجع إلا عن كلمة واحدة منه، وهي تسمية هؤلاء المستائين متفننين،
ويستبدل بها لقب معتوهين، ومثل هؤلاء لا تلتفت الدولة إلى كلامهم، ولا تنفذ لهم
رأيًا، ولا تجيب لهم طلبًا؛ لأنها بذلك تفتح على نفسها باب امتثال كلام من يجهل
الزمان وما يستلزمه ويناسبه، وربما يُجرّئهم السماع لهم إلى طلب ما فيه خراب
الدولة، وقد ذكرنا هذا ليتعجب العقلاء في سائر الأقطار من الخلل والخطل
الموجود في مصر أصلحها الله تعالى وأصلح أهلها آمين.
__________(4/435)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيه
جاءنا من تونس أن السيد عمر بن مبروك الذي سأل عن المؤجل، ونشر سؤاله
مع جواب المنار في الجزء الثامن (صفحة 304) ليس من أهل تونس نفسها؛ وإنما
هو من أهل قرية من قرى الغرب، ولعله اغتر ببعض أصحاب العمائم المتطفلين
على موائد العلم، فلم يجد عندهم ما يروي غليله، ولو كان من أهل تونس لسأل
علماء جامع الزيتونة الأعظم الذين لا يعجز تلامذتهم عن إجابته بما يرفع
عنه الحرج، ورأينا أن لا بد من هذا التنبيه حفظًا لكرامة أولئك العلماء الكرام.
__________(4/437)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح الطرق وأهلها
حضرنا في هذه الأيام مجلسين من مجالس أهل الجدّ والبحث في الشؤون
الاجتماعية الإسلامية والإصلاح، وكان من أهم ما أطلنا البحث فيه عدة ساعات
إصلاح طرق المتصوفة والانتفاع بها، فذهب فريق إلى أن لهذه الطرق مقامًا عليًّا
في نفوس العامة، وتأثيرًا كبيرًا إذ تولى تدبيره رجال من أهل الاستقامة والفضل
يمكنه أن يحدثوا انقلابًا عظيمًا في العالم الإسلامي، ومما استدل به على ذلك اهتمام
الأوربيين بهذه الطرق ووضع المؤلفات الطويلة فيها، واستخدام فرنسا الطريقة
التيجانية، وكونه لم يبق بين المسلمين في الأقطار البعيدة من الاتصال والارتباط
إلا هذه الطرق، وقالوا: إن أمثل طريق للإصلاح أن تؤلف جمعية من أهل الفضل
تُعِدّ الرجال المصلحين، وتسعى في جعلهم شيوخًا مسلكين.
وذهب الفريق الآخر إلى أن جميع ما ينفرد به هؤلاء الناس عن سائر
المسلمين في هذه الأزمنة فهو من البدع والخرافات، فإذا كان عمل المصلحين
إبطال هذه البدع وإرجاعهم إلى أصل الدين فذلك إبطال للطرق بالمرة، وهو
الإصلاح الحقيقي، وإن أقروهم عليها فلا إصلاح.
ومما قاله كاتب هذه السطور: إن الخلاف في إمكان إصلاح الطرق وعدمه
يرجع إلى أصلين عظيمين: أحدهما: كون الإنسان لا يعمل عملاً إلا إذا اعتقد عن
بصيرة أنه حق وحسن ونافع ليكون عاملاً بإرادته المنبعثة عن علمه، وهذا أساس
من الأسس التي قام عليها بناء الإسلام ولا يرتقي البشر إلا به. وثانيهما: الطاعة
العمياء وكون الإنسان يعمل بإرادة غيره، وهذا هو الأساس الذي بُني عليه
التصوف؛ لأنهم يشترطون أن لا تكون للمريد إرادة مع شيخه، وأن يكون معه
كالميت بين يدي الغاسل، وأذكر من دليل الأول أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم
كانوا يراجعون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض القول الذي يخالف رأيهم
فيقولون: أوحي يا رسول الله أم هو رأي لك - أو ما معناه - فإن أخبرهم أنه من
عنده ذكروا ما عندهم من الرأي، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم
أحيانًا إذا ظهر أنه الصواب، وربما أيد الوحي رأي بعضهم على رأيه، كما في
مسألة أسرى بدر، ومن حكمة ذلك أن يفرق الناس بين العبد والرب والمخلوق
والخالق الذي لا يحيط علمًا بوجوه المنافع والمصالح غيره تعالى، فلا يعبدوا نبيهم
ويعطوه بعض خصائص الألوهية.
وقلت: إن الإصلاح الحقيقي هو البناء على الأساس الأول الذي ترتقي به
الأمة، وإذا وُجد شيوخ عارفون بالدين وحكمه وأسراره، وتولوا مشيخة الطرق
يمكنهم أن يرشدوا العوام، وإن اعتادوا على أن لا يخضعوا الخضوع التام إلا لمن
يدَّعي الكرامات، ويموه عليهم بالأوهام والخزعبلات، وأما استخدام الطاعة العمياء
والتسلط على إرادة العامة بدعوى الولاية والتصرف في الكون ونحو ذلك، فيمكن
لمن يستخدم ذلك بعقل ودهاء أن يُحْدِث انقلابًا عظيمًا، ويؤثر تأثيرًا كبيرًا باسم
الإسلام، كما فعلت جمعية الجزويت اليسوعية في النصرانية، وكما فعل كثيرون
من المسلمين لكن بغير سياسة وحكمة، وآخر هؤلاء مهدي السودان ولكن هذا لا
يكون إصلاحًا إسلاميًّا مبنيًّا على أساس الإسلام، وإن أمكن أن ينتفع به المسلمون
من بعض الوجوه.
ثم قال بعض العقلاء الاجتماعيين: إنكم لم تبينوا أيَّ إصلاح تريدون إن كنتم
تريدون الإصلاح السياسي، فالبحث في محله، وإن كنتم تريدون الإصلاح الديني فلا
سبيل إليه إلا بمحو هذه الطرق كلها؛ لأنها هي التي أدخلت الوثنية في الإسلام من
عدة قرون، فهي لا تتفق معه مطلقًا على أن الروابط بين أهلها قد تقطعت، ولم
يبق فيها طريقة يتصل بها بعض أهلها ببعض في كل بلد توجد فيه إلا اثنتان،
الطريقة المولوية وهي محصورة في بلاد الدولة العلية وأهلها أبعد الناس عن السنة
وسيرة السلف الصالح، والطريقة التيجانية في الغرب وهي التي صار زمامها في
أيدي الفرنساويين حتى أنهم صاروا فيها شيوخًا مرشدين.
وذكرنا السنوسيين أيضًا. وهذا بعض ما جرى في مجلس واحد، وقد جاءتنا
في هذه الأيام رسالة من السودان في الطرق هناك، وفيها تفصيل خرافات شيخ
الطريقة الإسماعيلية التي هي فرع من الطريقة المرغنية الختمية، ومنها أن
صاحبها يدَّعي أن الله يكلمه ويعده، وكذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
وسننشرها في المنار لتكون عبرة لمثل الشيخ أحمد الألفي الذي يُسَلِّم بكل ما عليه
المنتسبون إلى الطريق، ويحتج على ذلك بتلقين النبي صلى الله عليه وسلم
الصحابة كلمة لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________(4/438)
16 جمادى الأولى - 1319هـ
31 أغسطس - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وظائف علماء الدين
إذا طالب عقلاء المسلمين وفضلاؤهم العلماء بالعمل وخدمة الأمة التي أشرفت
على الانحلال بتوانيهم وإهمالهم، وعكوفهم على ما يرون أن فيه منفعتهم الشخصية -
ينبري علماء السوء الذين سماهم الله تعالى ظالمي أنفسهم للطعن في المطالب
قائلين: إنه أهان العلماء، وحاول إزالة سلطانهم ونفوذهم من نفوس العامة، كأنهم
يرون أن غاية العلم وفائدته تعظيم العامة لهم وإكرامهم بالمال وغيره؛ ولكن الله
ورسوله يشهدان على أن من يطلب العلم لهذه الغاية عدو لله مستحق لمقته وعقوبته.
آيات القرآن التي تأمر بالإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى وحده في كل أمر
ديني كثيرة، وكذلك الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أحمد ومسلم والنسائي أن
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (إن أول الناس يُقْضَى عليه يوم القيامة
رجل استشهد فأُتِي به فعرَّفه نعمته فعرفها [1] ، قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك
حتى استشهدت، قال كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل ثم أُمر به فسحب
على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأُتِي به
فعرَّفه نعمته فعرفها، قال فماذا عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلمته، وقرأت
فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو
قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وَسَّعَ
الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي فعرفه نعمته، فقال ماذا عملت فيها؟
قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت؛ ولكنك
فعلته ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار) رواه
غير هؤلاء الثلاثة بألفاظ أخرى، وفي حديث للحاكم مختصر أن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم قال: (ثلاثة مهلكون عند الحساب جواد وشجاع وعالم) .
فعلمنا من هذا أن العالم الذي غرضه من العلم السمعة، وأن يحترمه العوام
ويكرموه هو من أهل النار، وإن كان عاملاً بعلمه ومفيدًا للناس؛ لأن الله لا يقبل
من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، فما بالك إذا كان غير عامل ولا معلِّم،
وكان يتخذ العلم أحبولة لصيد المال بالباطل، وحيلة لإضاعة الحقوق كبعض متفقهة
الحنفية وقضاتهم الذين يتفقون مع المحامين الذين لا ذمة لهم ولا أمانة على إضاعة
الحقوق، واقتسام الجعل على ذلك، هل يُعد هؤلاء الفجار من علماء الدين الذين
يجب احترامهم وإكرامهم؟ كلا بل أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان
هم الخاسرون.
لو كانوا من حزب الله وعلماء دينه لخافوه وخشوا منه، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ولا شك أن من يعرف الله يخافه
تعظيمًا وإجلالاً، ويخافه حذرًا من عقوبته، ولو كان هؤلاء يخافون الله تعالى لما
تمادوا في الظلم، وهو كما ورد ظلمات يوم القيامة وهو من الذنوب التي لا يغفرها
الله تعالى، إلا أن يغفر المظلوم وأكثر المظلومين لا يغفرون لمن ظلمهم، وقد ورد
في الصحيحين أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين أرسله إلى
اليمن (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فثبت بهذا أنهم لا
يعرفون الله تعالى، ومن لا يعرف الله تعالى فهو أجهل الجاهلين، وإن حفظ
الشرنبلالية والتتارخانية والولواجلجية وابن عابدين.
علماء الدين هم الذين يقومون بحقوق الدين، ويؤدون وظائف العلم به
فيكونون كالمطر حياة للبلاد وللعباد. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي
موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال (مثل ما بعثني الله به من
الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت
الكلأ والعشب الكثير [2] ، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس
فشربوا منها وسقوا ورعوا [3] ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء
ولا تنبت كلأ [4] ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلَّم
ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) وهذا الحديث
الصحيح بمعنى الآية الشريفة التي افتتحنا بها مقالة (علماء الدين) في الجزء
الماضي، فالظالم لنفسه هناك هو المضروب له مثل الأرض القيعان التي لا ينتفع
بها، وأما الذي يؤذي الناس بتعليمهم الحيل الفقهية التي يأكلون بها السحت
ويهضمون الحقوق، فهو شر الأشرار ولم يذكر هنا ولا هناك؛ لأنه ليس من علماء
الدين بالمرة، وقانا الله والناس من شره.
ما هي وظائف علماء الدين؟ يقولون: هي حفظ علوم الدين مقاصدها ووسائلها
وتعليمها للناس، وما الغرض من هذه العلوم إلا حفظ الدين ولغته العربية،
وانتشارهما، فهل هما في هذه العصور محفوظان ومنتشران بسعي العلماء فنبرئهم
من التقصير؟ بيَّنا في الجزء الماضي أن أكثر المسلمين غير عاملين بالدين على
وجهه، وأقمنا على ذلك البرهان الذي لا ينقض، ونقول الآن في اللغة: إن الأزهر
وهو أكبر مدرسة دينية في العالم لا يوجد بين هؤلاء الألوف من المدرسين
والمتعلمين فيه عشرة نفر يفهمون كلام العرب، ويقدرون على الكلام العربي البليغ
قولاً وكتابة، وإذا زعم المكابرون أن هذا القول غير صحيح فليعدوا لنا عشرة منهم
يفهمون اللغة وينطقون بها ويكتبون وليبرزوهم للامتحان.
يخرج في كل عام من المدارس الأميرية وغيرها مئات يحسنون التكلم بلغة
أجنبية، ولا يخرج من الأزهر مجاور واحد يحسن اللغة العربية، فهل صار تحصيل
لغة القرآن وهي أفصح اللغات وأعذبها متعذرًا، وتحصيل تلك اللغات التي سمتها
العرب أعجمية تشبيهًا لأهلها بالعجماوات - كما قال بعض الأذكياء - سهلاً متيسرًا؟
كلا إن العربية ضاعت بفساد التعليم، بل بفقده فإن الاشتغال ببعض الكتب الفنية لذاتها
والمحاورة في أساليبها الضعيفة الركيكة لا يوصل إلى اللغة؛ وإنما يعين على
تحصيلها فهم القواعد مع الأمثلة والشواهد، إذا جيء إليها من طريقها، ودخل عليها
من بابها، وهو مدارسة كلام أهلها وحفظ جملة صالحة منه مع الفهم كما بيَّناه في
المنار مرارًا.
وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا
لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له
فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار
المصرية الشيخ محمد عبده وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب
وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل
للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة،
ولا يحيا الدين إلا بحياة لغته؛ ولذلك أوجب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه
على كل مسلم أن يتعلمها كما في كتاب الأم، وأكثر علماء الأزهر شافعية.
هذا كلام إجمالي في وظائف علماء الإسلام التي يُسَلِّم جميعهم بأنها مطلوبة
منهم، ولو بسطناها بالتفصيل لاحتجنا إلى إعادة كثير مما كتبناه في مقالات سابقة،
من ذلك أن الدعوة إلى الدين من أهم وظائف العلماء به، وقد كتبنا فيها مقالتين
مسهبتين في الجزئين 20 و 21 من المجلد الثالث، ومنها المدافعة عن الدين وردّ
الشبهات التي ترد عليه من المشتغلين بالعلوم الكونية، ومن أهل الأديان الأخرى،
وهذه الوظيفة تستلزم أن يعرف علماء الدين جميع العلوم الكونية، لا سيما التي
ساقت المسلمين طبيعة العمران إلى تعلمها كالرياضيات والطبيعيات والتاريخ
بأنواعه والفلسفة، وإننا نرى الذين يتلقون هذه العلوم يقعون في شبهات تزلزل
عقائدهم، ومنهم من يمرق من الدين مروق السهم من الرمية، وقد ابتلينا بمناظرة
كثيرين منهم ووفقنا الله تعالى لإقناع بعضهم وإلزام بعض، ورأينا بعضهم يتألم
ويتململ من الشبهات ويقولون إنهم طلبوا كشفها ممن يعرفون من علماء الدين،
فمنهم من لم يفهم الشبهة؛ لأن فهمها يتوقف على معرفته بالعلم الذي تولدت منه،
ومنهم من كان يكذِّب بها وينكرها بالمرة، بدعوى أن الذين قالوها أو اكتشفوها كفار
فكان مثلهم كمثل ذلك القاضي الشرعي الذي استحل شرب نوع من الخمرة بناء على
أن الذي اشتراها له روى عمن اشترى منه، وهذا روى عن صانعيها وكلهم كفار لا
تُقْبَل روايتهم، ومنهم من كان يكتفي من الجواب بقوله: إن هذا كفر وإن كلام الدين
وعلماء الدين أصدق من كلام الفلاسفة والكافرين، ونحن نقول: يستحيل الخلاف
والتناقض بين الدين الإسلامي وما ثبت من العلوم الكونية، وقد بيَّنا هذا في مقالة
الشريعة والطبيعة والحق والباطل، فلتراجع في المجلد الثاني (صفحة 641) .
يبحث كُتَّابنا وكتاب أوربا في مستقبل الإسلام، وليس أمام المسلمين إلا أحد
أمرين (1) الأخذ بأسباب القوة والثروة من طريق العلوم الكونية بباعث الدين،
وعلى الوجه الذي يحفظ مجده، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان زمام التعليم في
أيدي علماء الدين، ولا يكون زمامه في أيديهم حتى يكونوا عارفين بهذه العلوم حق
المعرفة مع الحكمة والسياسة وحسن التوسل للتوصل، و (2) الوقوع في أسر
أوربا واستعبادها.
البلاد الإسلامية على قسمين: بلاد فاض عليها سيل أوربا، وبلاد لمّا يأتيها
السيل الجارف؛ وإنما أصاب بعضها رشاش منه ينذرهم بالطوفان العظيم (والسيل
حرب للمكان العالي) ولذلك جرف الحكام قبل المحكومين وهم له كارهون،
والناس تبع لرؤسائهم في الدين والدنيا، فإذا ذهب التيار برؤساء الدنيا، فالمطلوب
من رؤساء الدين السعي في إنقاذهم وإنقاذ سائر الأمة؛ فإن أمراء المسلمين وحكامهم
لم يبلغوا مبلغ حكام أوربا في نبذ الدين وراء ظهورهم، فهم في الغالب يعتقدون
بحقيته ولا يرون سبيلاً لإقامة أحكامه؛ لأن العلماء لم يجلوها لهم على الوجه الذي
ينطبق على مصالح البشر في هذا العصر، بل ظهر لهم عجز علماء المسلمين عن
إقامة العدل وحفظ مصالح الناس في الأحكام الشخصية التي عُهدت إليهم في المحاكم
الشرعية.
فإذا استطاع العلماء في هذه البلاد أن يحولوا سيل العلوم والمدنية إلى
المجاري الإسلامية، يتسنى لهم بعد ذلك أن يفيضوا منه على البلاد الأخرى، وهي
تقبله سريعًا؛ لأنه جاء من قِبَل إخوانهم في الدين فيعم الإصلاح بوقت قريب، ألا
ترى أن مسلمي الهند كانوا يخافون من هذه العلوم التي يستنشقون اليوم منها نسيم
الحياة؛ لأنها جاءتهم على أيدي الإنكليز.
ونقول في الختام: من وظائف علماء الدين نشر لغة الدين بجعلها لغة
التخاطب، ولغة العلوم لتستغني الأمة بها عن اللغات الأجنبية إلا نفرًا يترجمون
وينقلون، ومن وظائفهم الاستعداد للمدافعة عن الدين ومقاومة البدع ورد الشبه التي
ترد عليه، ومن وظائفهم نشره والدعوة إليه، ومن وظائفهم تعميم تعليمه على
الوجه الذي يرقي العقول والأرواح، ويرشد إلى سعادة الدارين، ومن وظائفهم
التربية الدينية العملية التي تطبع ملكات الفضائل في النفوس، والأعمال تابعة
للعقائد والملكات، فمتى صلحا بالتعليم الصحيح والتربية النافعة حسنت الأعمال
وسعدت الأمة، ومن وظائفهم إزالة الخلاف في الدين وجمع كلمة المسلمين، ومن
وظائفهم الاجتهاد في جعل جميع كتب التعليم من تأليفهم، كيلا يدخل فيها ما يزعزع
الاعتقاد، أو يفسد الآداب، بل لتكون مزيد كمال في الإيمان، ومن وظائفهم القيام
بجميع مصالح الأمة حتى السياسية والحربية؛ لأن الإسلام دين جامع لكل ما
يحتاجه البشر، فإذا كانوا قد سُلبوا هذه الرياسة لتقصيرهم، فينبغي لهم أن يستعدوا
لها حتى إذا أعطوها أقاموا بها حق الإسلام، ونصروا الدين ... إلخ إلخ.
فهل أدوا وظيفة من هذه الوظائف حقها، وقاموا بها كما ينبغي؟ ولا ينتفي
عنهم التقصير الذي نسبه إليهم شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية، إلا إذا قاموا
بها كلها وظهر أثرها في إسعاد الأمة وترقيها، وعند ذلك يعظّمون بحق، وإذا
تمادوا في هذا الإهمال، فلا يمضي زمن يسير حتى يزول ما بقي لهم من الكرامة
والإجلال، ويُحْرَمون الجاه والمال، ويكون مآلهم شر مآل، وبعد ذلك يقيض الله
لدينه من شاء من الأمم ليظهره على الدين كله، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلى
على الظالمين.
__________
(1) قوله (فأتي به إلخ) ، تعبير بالماضي عن المستقبل باعتبار أنَّ ما سيقع قطعًا في تحققه كأنه
قد وقع فعلاً، وقوله (فعرَّفه) أي يُعَرِّفه الله تعالى نعمه، وهكذا يقال في الباقي.
(2) النقية: الخصيبة.
(3) أجادب: جمع جدب بالتحريك على غير قياس، كذا قال شارحه، وفي القاموس أنه جمع أجدُب الذي هو جمع جدْب، قال ابن الأثير: هي صلاب الأرض تمسك الماء ولا تشربه سريعًا، وهذا المثل لرواة العلم وحملته، والأول للمستنبطين وهما القسمان المنتفعان.
(4) هذا مثل من لم ينتفع ولم ينفع.(4/441)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحية
وحجج الإسلام على المسيحيين
نبذة رابعة
ذكرنا في النبذ الماضية أن عقائد المسيحيين التي هم عليها من عهد بعيد
مأخوذة من عقائد الوثنيين، وقلنا: إن الكتب التي يُسمَّى مجموعها عند اليهود
والنصارى التوراة، ليست هي التوراة التي شهد لها القرآن الشريف؛ وإنما توراة
القرآن هي الأحكام التي جاء بها موسى عليه السلام وتوجد فيما عدا سفر التكوين
من الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى، وفيها تاريخه وذكر وفاته، وبيَّنا أنه لا
سبيل إلى هروب أهل الكتاب من اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتبهم
إلا بالاتفاق مع المسلمين على هذا الاعتقاد.
ونذكر الآن كلام بعض فلاسفة فرنسا في الطعن بالديانتين اليهودية
والنصرانية، وكتبهما نقلاً عن كتاب (علم الدين) الذي ألَّفَه الخالد الذكر علي باشا
مبارك ناظر المعارف سابقًا، قال في المسامرة الرابعة والتسعين حكاية عن
الإنكليزي الناقل كلام الفيلسوف الفرنساوي بعد كلام، ما نصه:
(ويقول: إن التوراة كتاب مؤلَّف وليس من الكتب السماوية متكئًا في ذلك
على قول ماري أغسطس: إنه لا يصح بقاء الإصحاحات الثلاثة الأولى على ما
هي عليه، وعلى قول أويجين بأن ما في التوراة مما يتعلق بخلق العالم أمور
خرافية بدليل أن كلمة (بَرَّاه) العبرانية وهي بفتح الباء وتشديد الراء وسكون الهاء
معناه رتب ونظم، ولا يرتب أحد شيئًا وينظمه إلا إذا كان موجودًا من قبل،
فاستعمال هذه الكلمة في خلق العالم يقتضي أن مادة العالم كانت موجودة من قبل،
فتكون أزلية ويكون ملازمها وهو الزمان والمكان أزليين، وحيث إنهم قالوا: إن
المادة ذات حياة، فتكون الروح أيضًا أزلية؛ لأنها هي التي بها الحياة، وبما أن
المادة هي النور والحرارة والقوة والحركة والجذب والقوانين والتوازن، فتكون
الحياة والمادة كالشيء الواحد لا يمكن انفصالهما وجميع ذلك يخالف ما في التوراة.
ويقول أيضًا: إن الستة الأيام التي ذكرها موسى لخلق العالم هي الأزمان الستة
التي ذكرها الهنود، والجنبهارات الستة التي ذكرها زروطشت للمجوس، وأن
الفردوس الذي كان فيه آدم إنما هو بستان الهيسبرويو الذي كان يخفره التنين، وأن
آدم هو آديمو المذكور في أزورويدام، وأن نوحًا وأهله هو الملك دوقاليون وزوجته
بيرا وهكذا.
ويبالغ في القدح في التوراة، ويقول: إنها مبتدأة بقتل الأخ أخاه، واغتصاب
الفروج وتزوج ذوي الأرحام - بل البهائم - وذكر النهب والسلب والقتل والزناء ونحو
ذلك من الأمور التي لا يليق أن تنسب لمن اصطفاه الله تعالى وجعله أمينًا على
أسراره الإلهية، فانظر إلى اجتراء هذا الرجل على نبي الله موسى عليه السلام،
وعلى كتاب الله التوراة، مع أن التوراة هي أساس الإنجيل، فما يقال فيها يقال في
الإنجيل [1] ؛ ولذلك يقولون: إن رسالة عيسى قد نبَّهت عليها اليهود من قبل بقولهم إنه
سيجيء إليهم مسيح، وكلمة مسيح ككلمة مسايس، ومسايس لقب شريف باللغة
العبرانية، وقد لُقِّب به إشعيا كيروس ملك الفرس كما في الإصحاح الخامس
والخمسين، ولُقِّب به حزقيال النبي ملك مدينة صور، ومع ذلك فلم يلتفت هذا
الرجل إلى شيء من ذلك فقال ما قال.
ومن اعتقادات النصارى أيضًا أن الله تجسد في صورة عيسى، وأنه هو الإله
وليسوا أول قائل بهذا التجسد، بل قيل قبلهم في جزاكا وبرهمة بقدس الهند وقيل
في ويشنو أنه تجسد خمسمائة مرة، وقال سكان البيرو من أمريكا أن الإله الحق
تجسد في إلههم أودين، وإن ولادة عيسى من بكر بتول فتح روح القدس يشبه قول
أهل الصين أن إلههم فُوَيْه ولدته بنت بكر حملت به من أشعة الشمس، وكان
المصريون يعتقدون أن أوزوريس ولد من غير مباشرة أحد لأمه.
وقول النصارى: إن عيسى مات ودفن، ثم بُعِثَ ورُفِعَ إلى السماء حيًّا، قال
بمثله قبلهم المصريون في أوزوريس المصري، وفي أورنيس من أهالي فينكيه
وفي أوتيس من أهالي فريجيه، إلا أنهم لم يقولوا برفعه إلى السماء، وكما قيل إن
أودين كان قد بذل نفسه وقتلها باختياره بأن رمى نفسه في نار عظيمة حتى احترق،
وفعل ذلك لأجل نجاة عباده وأحزابه، فكذلك النصارى يعتقدون أن حلول الإله في
عيسى وإرساله وموته إنما كان لأجل فداء الجنس البشري وتخليصه من ذنب
الخطيئة الأولى، خطيئة آدم وحواء، وأما إدريس النبي قد رفع إلى السماء بدون
أن تكفر عنه الخطيئة، ولا شك أن هذا خرافة، ولهم كلام كثير من هذا القبيل
يطول شرحه، ولا فائدة في ذكره) اهـ.
(المنار)
لهذه الشبهات بل الحجج على عقائد المسيحيين واليهود ترك علماء أوربا الدين
المسيحي، فبعضهم صرح بتركه، بل وبعض حكوماتهم؛ فإن الحكومة الفرنسوية
أعلنت إعلانًا رسميًّا بأنه لا دين لها، وطاردت رجال الدين واضطهدتهم، ومن بقي
يتظاهر بالدين من عظمائهم فإنما هو لأجل السياسة، ولذلك ترى الفلاسفة والعلماء
الذين يعبأون بالسياسة يصرِّحون بعدم الاعتقاد بالوحي مع اعتقادهم بأن الدين
ضروري للبشر؛ ولكنهم لم يجدوا في الدين الذي عندهم غناء، ودين الفطرة محجوب
عنهم؛ فإنهم ترجموا القرآن الكريم ترجمة فاسدة لم يفهموا منها حقيقة الإسلام، أذكر
من ترجمة إنكليزية قول المترجم لسورة العصر (إن الإنسان يكون بعد الظهر بثلاث
ساعات رديئًا أو قبيحًا) ولو فهم فلاسفة أوربا هذه السورة لجزموا بأنها على
اختصارها تغني عن جميع ما يعرفون من كتب سائر الأديان، وهو مفهوم في الجملة
لمن له أدنى إلمام باللغة العربية وهي {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر:
1-3) .
إذ يعلم أن المراد بصيغة القسم التأكيد، ويعلم أن المراد بالإنسان الجنس،
وأن الصالحات ما يصلح بها حال الإنسان في روحه وجسده في أفراده ومجموعه،
وأن التواصي بالحق هو من التعاون على الأخذ به والثبات عليه، وأن الحق هو
الشيء الثابت المتحقق، وثبوت كل شيء بحسبه، وأن الصبر يشمل الصبر عن
الشيء القبيح كالمعاصي والشهوات الضارة، والصبر في الشيء الذي يشق احتماله
كالمدافعة عن الحق والمصائب.
كان أهل روسيا وأهل أسبانيا أشد أهل أوربا تمسكًا بالمسيحية، ثم ظهر
أخيرًا من اضطهاد الإسبانيين لرجال الدين ما طيَّر خبره البرق إلى جميع الأقطار،
واشتغلت به الجرائد في جميع البلاد، ولما قام الفيلسوف تولستوي الروسي يفند
تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية، ويبين بطلان الديانة المسيحية - انتصر له المتعلمون
للعلوم والفنون حتى تلامذة المدارس وتلميذاتها، فهذا هو شأن الديانة المسيحية كلما
ازداد المرء علمًا ازداد عنها بعدًا؛ وإنما كانت أوربا مسيحية أيام كانت في ظلمات
الجهل والغباوة، وبعكسها الديانة الإسلامية هي حليفة العلوم، وقد كانت أمتها في
عصور المدنية والعلم أشد تمسكًا بالدين، وصارت تبعد عن الدين كلما بعدت عن
العلم.
أما الآن فإننا لا ننكر أن بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية قد وقعوا في
بعض الشبهات، وبعضهم أنكر الدين تبعًا للأوربيين الذين أخذ عنهم؛ ولكن السبب
في هذا أنه لم يعرف الإسلام ولم يتعلمه قبل العلم الأوربي ولا بعده، ولهذا نطالب
علماء ديننا بأن يجتهدوا في جعل زمام تعليم العلوم الكونية بأيديهم؛ لأننا نثق أتم
الثقة بأنه لا يمكن أن يرجع عن الإسلام من عرفه، وكيف يختار الظلمة من عاش
في النور، وإن لنا لَعودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار - هذه الجملة وما بعدها من كلام الإنكليزي، ولا شك أن إبطال التوارة يستلزم إبطال الإنجيل كما قال، ولا يمكن التخلص من ذلك إلا بالإسلام.(4/448)
الكاتب: ع. ز
__________
لائحة الفقه الإسلامي
لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع
(تابع ما قبله)
كلام صديقي
يحتاج الجواب عن كلام صديقي إلى إفراد مندرجاته فهو ينحصر في هذه
المسائل: (1) لا بد لكل أمة متمدنة من قانون جامع لجزئيات الحوادث. (2)
الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية إلا أن ما جاء به قواعد كلية. (3)
الإحاطة بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك
القواعد. (4) علماؤنا فعلوا ما يجب عليهم من هذا القبيل، وأحاطوا بكثير من
الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم من تحديد بعض العقوبات،
وترتيب المحاكمات والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق الشخصية تفريقًا
يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة فيها خصمًا وحكمًا في
آن واحد. (5) علماؤنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين
يكاد لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها إلا أنه مشوش بكثرة ما
اختلفوا فيه حتى في المسألة الواحدة. (6) سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد
بالتشريع - أي التفريع - بحيث يجوِّز الواحد منهم ما يمنعه الآخر وبالعكس. (7)
سبب هذا الانفراد التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى يتناولها من
شاء ومن ليس بمعصوم من الأفراد؛ وذلك لم تفعله أمة متمدنة من قبل. (8) لو فهم
المسلمون منذ استفحل أمرهم واشتدت للقوانين الجامعة حاجتهم معنى ما يسمى عند
علمائهم الإجماع لاستفادوا منه إلى الآن فوائد كثيرة، ولما تركوا أمر القوانين فوضى
لا يعتمد فيه إلا على قال فلان، وأفتى أهل الفضل ولكانوا عهدوا بتفريع الأحكام
واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس الحاجة
في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان. (9) لما لم يفهموا هذه
القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين كان وضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع
الذي قلت عنه إنه مجموع قوانين لازمًا. (10) تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد
ليس فيه من حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما
شاء من الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك وهو الأحوط أيضًا في
الدين والدنيا. (11) اعترف حفظه الله بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام المعاملات
بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت. (12) وأنكر قولي إنه
ليس من علوم الدين؛ وإنما هو مجموع قوانين وضعها المتقدمون، قال بل رأيي أنه
من علوم الدين باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه
داخل تحت حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث
حدثت بعدُ للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين. (13) مسوغ الاجتهاد
ميسر لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من
العصور. (14) العلماء بين أمرين، إما أن يعتبروا أن كل ما حرره الأئمة وقرروه
من الدين، فيلزمهم في هذه الحال التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من
هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب
خاص ليس فيه أدنى شائبة من مثارات الخلاف؛ ليكون شبه بقانون عام شامل لسائر
حاجات الاجتماع يعمل به المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما
حرره الأئمة من الدين، بل يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة
اختلافهم في الأحكام منعًا وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال
يجوز لهم الاجتهاد كما جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا
في هذا العصر مراعى فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع في
مناحي أخرى أصبح التوسع فيها الآن من ضروريات الحياة الاجتماعية.
جوابي
الذي يراني متصديًا للجواب يظن أنني أقصد ردًّا على صديقي الفاضل وليس
كذلك، بل ليس في مقدماته ما يرد غير أن النتيجة الحسنة التي أشار إليها لا
نحصل عليها، وعلم الفروع الحاضر هذا حاله من التشويش الذي اعترف به،
وهذا حال كل فريق منا من تقديس ما ينتسب إليه، واعتبار كل ما جاء تحت اسمه
من عند الله عز وجل، على أن الجواب على الإفراد يزيد المسألة وضوحًا، وإن لم
يقصد به رد وهذا هو:
ج (1 - 2 - 3) ما جاء في هذه الأرقام مسلَّم ما أنكرته ولا أنكره، أما
كون كل أمة متمدنة لا بد لها من قانون جامع لجزئيات الحوادث، فيكاد أن يكون
من العلوم الضرورية، بل الأمم البدوية أيضًا لا تستغني عن قانون يجمع لها
جزئيات الحوادث بحسب حاجاتها، وإنا لنعلم بالاختبار أن هؤلاء الأعراب
الضاربين في مهامه الشام والعراق لهم قضاة يدعون واحدهم بالعارفة [*] يقضي
بينهم بأحكام يتداولونها، ويسمُّون معلوماتهم في الأقضية بشرع العرب ولم يفتهم
النصيب من عقولهم وذواكرهم لمَّا عدموا النصيب من الكتابة والتدوين، وجزئيات
الحوادث في كل أمة تكون بحسبها من المعيشة والعادة والعقيدة، ومهما كانت الأمم
من الجاهلية لا تلبث متى رمت بالقدم الأولى في ميدان المدنية أن تصطلح على
قانون يوحدها مَثِّل لهذا بأمة الرومان، ثم أصول الأمم الأوربية الموجودة، ثم مَثِّل
بالعرب بعد أن كثرت فتوحاتهم واشتدت لوسائل العمران حاجاتهم ودخل في
حوزتهم أمم شتى، كانت ذوي صناعات وزراعات وتجارات ولهم قوانين قديمة
وعادات راسخة، وبالجملة إن التشريع في الأمم ضروري؛ ولكن الناس يتفاضلون
فيه فمنه الصالح والأصلح وضدهما.
وأما كون الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية، فهو من أجزاء
معتقدنا ومتممات إيماننا، ما جاء به الإسلام قواعد كلية، والإحاطة بالجزئيات
موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك القواعد، والاختلافات
إنما نشأت من الأفهام وهي اختلافات عظيمة، فإذا فرضنا مائة قول في مسألة ما -
وهو فرض له تحقق - فالمصيب منها واحد والمخطئ 99 حُرِمُوا من العقائد الكلية
التي يرجع إليها كل واحد بما قال، كما حُرم أصحاب المذاهب في العقائد الإسلامية
من القواعد التي هي أصول، ثم هل نستطيع أن نبرهن أمام مناظر أجنبي على أن
العقل الإنساني السليم لا يمكن أن يحيط خبرًا بتلك القواعد المعدودة إلا أن يسمعها؟
ج (4، 5) مما تقدم يُعلم الجواب عما جاء في (4، 5) فإنا قبلنا أن
التشريع الضروري للأمم، وكل أمة قد خلت لها حديث في الآخرين يتلونه
مستبصرين، وعلماؤنا الذين أشار إليهم إنما هم كالذين خلوا، فلئن قلنا إنهم سدوا
حاجة زمانهم فما نحن بملومين إذا قلنا إن ما نقدسه اليوم هي مجموع كتاباتهم التي
اقتضتها عصورهم، وطابقت عقول معاصريهم من الحكومات والرعايا كيف كان
الحال، أما كونهم برعوا بذكر الجزئيات فلاتخاذ الكثيرين هذه الصناعة ديدنًا في
كل عصر ومصر، ووقع مثل هذا لكل أمة متحضرة، وإن أدري هل أغنتهم
براعتهم تلك عن ذلك الاختلاف المشوش، أم كان نصيبهم منها نصيب من كان
قبلهم ممن أوتوا الجدل، وحرموا العمل، نصيب أولئك الذين كانوا يتجادلون
بالمذهب في القسطنطينية والفاتح على أسوارها؟
ج (6 - 7 - 8) قال حفظه الله: إن سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد
بالتشريع وسبب هذا الانفراد تساهل المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى
يتناولها من شاء، وأقول: إن القوم لا يزعمون أن كل ما كتبوه هو من عند الله يجب
التسليم به والاعتماد عليه، وأن هؤلاء الكتاب لم يحدثوا شيئًا من عند أنفسهم،
والمسلمون الذين عزي إليهم التساهل لم يكن لهم شيء من الأمر في العلم حتى
يكون لهم صوت في التشريع، وها أنا ذا أذكر للصديق أعزه الله سبب ذلك الانفراد
أو سبب تساهل المسلمين:
المسلمون ليسوا شعبًا واحدًا، وليسوا على سنن واحد في النحلة والعادات،
المسلمون بما تحيزوا للدول صاروا شيعًا في الآراء السياسية، ثم بما تحيزوا
للرؤساء في الدين صاروا شيعًا في الآراء العلمية والمذاهب الدينية، ثم بما تحيزوا
للجنس صاروا شيعًا في المشارب والمعايش.
لم يمض الثلث من القرن الأول على المسلمين حتى كفَّر بعضهم بعضًا،
فتحاربوا وتحازبوا وتخاذلوا إلى أن انقسموا إلى ثلاثٍ: فئتان تشايع كل منهما رئيسًا
كبيرًا، وأخرى خارجة عن دائرتهما ناقمة عليهما حاليهما، ولم يمض الثلث الثاني
حتى انقلبت دعوتهم إلى الدين وتهذيب النفوس دعوة إلى الملك والاستئثار وتوسيع
أبهة الملك وجعله منحصرًا في أسرة يُحْدِث أفرادها ما شاءوا أن يُحْدِثوا، ولم يمض
الثلث الثالث حتى تكاملت أصول الشيع وتلاحقت فروعها وأينعت ثمراتها، وأَحدَث
في الدين من أَحدَث، واخترع مَن اخترع، فاختلفوا في القراءات، فتعددت أشكالها
وتعارضوا في الروايات، فتناقضت أحكامها، وتباينوا بالفهم من النصوص،
فضاعت ثمراتها وتجادلوا في الفهوم فذهبت غاياتها، عقائد متباينة وعبادات مختلفة
وأقضية مضطربة وضمائر متباغضة، فأين الإجماع؟
أي أخي، أفليس هذا هو أمرنا في ذلك القرن الأول الذي عليه مدار فخرنا
وإليه يُرَدُّ أصل مجدنا، وفيه اتسع سلطان حكمنا، وعلا منار ديننا، دع عنك زمن
الخليفتين، وقل لي متى كان الإجماع وكيف يجمع قوم حالهم ما ذكرناه آنفًا، وأي
المسلمين مطالبون أن يفهموا معنى ذلك الإجماع، أأعرابهم الضاربون في بطون
الأودية وظهور الجبال، أم أمصارهم المؤلفة من أبناء الروم والفرس والقبط،
وقليل من أبناء الأجناد؟ من المطالب منهم بالتشريع؟ أولاة أمورهم وهم من علمت
بين لاهٍ فرح بالنعمة الجديدة التي ورثوها، وبين نشيط حازم مشتغل بتسكين تلك
الفتن المعهودة، أم الرواة الذين لم يكن أكثرهم يعلم أكثر من النقل والحكاية؟
هذا ما ترك أمر التشريع فوضى، فبدؤوا في ابتداء القرن الثاني يكتب كل
واحد ما ألقى إليه أستاذه، وكثرت فنون الاختلاف وضروب التعارض، واستُعملت
التَّقية فجاءت المذاهب على كثرتها وتعارضها مضاهية لأديان مختلفة؛ حتى ألغى
أكثرها الزمان الذي جاء فيه حكومات أخذت بما دوَّنه قوم، وأعرضت عن الآخرين
فالحكومات هي بالفعل حصرت الميدان وغلَّقت الأبواب، والمتمذهبون اتبعوا فعل
الحكومات بالقول بأن باب الاجتهاد مسدود، على أنهم نزعوا إلى نقب السدود التي
أقيمت، فاستعملوا معاول الاصطلاحات والفرض والتقديم، كفرضهم إذا تترس قوم
بنبي - مع اعتقادهم واعتقادنا أن لا نبي بعد محمد عليه السلام - فنقلوا بالمذهب
الواحد روايات متعددة عن أئمته في المسألة الواحدة حتى أعادوا المذهب الواحد
مذاهب، فأوصلوها إلينا كما هي أمام عين الناقد البصير.
هذا هو الحال إجمالاً وكل مطالع في تاريخ الإسلام يعلم أن كل طائفة من
بلادهم شاع فيها المذهب الذي هويته نفوس حكامهم الأول، فهل يرجى بعد تحكم
تلك المذاهب في كل ناحية لفت الناس عنها، وإن كان لا يرجى فهل يقال إن بقاء
هذا الحال غير مخل بالفائدة ومضر؟
ج (9) يُعلم الجواب عما جاء في (9) من الجواب على (4 و5)
ج (10، 11، 12، 13، 14) أوافق في كل ما جاء في هذه الأرقام
صديقي الفاضل، وأضم صوتي إلى صوته؛ ولكن هل يساعدنا علم الفروع المدون
الحاضر على القول بهذه الأقوال، وإن لم يساعد فمن المخاطب أن يقوم للمسلمين
بهذه الخدمة الجليلة، وإلى متى نقول بلا عمل؟ ها نحن أولاء بهذه المناسبة نقترح
على المنار الأنور أن يفتح بابًا لهذا الموضوع الجليل يقبل فيه اللوائح التي ترد إليه
في كل باب من أبواب الفروع بعد عرضها على جمعية علمية تنعقد في القاهرة لهذه
الغاية بهمة الأساتذة، ومتى انعقدت هذه الجمعية التي يكون لتصديقها على اللوائح
المنشورة وقع في قلوب الأمة؛ لأنه شبيه بالإجماع - يكثر بيننا النبهاء الذين يوجهون
أنظارهم نحو هذه الغاية.
وبعد فقد طالت الرسالة، ووجب الاكتفاء، والله المسئول أن يلهم المسلمين
الصواب، ويحرك منهم دواعي الجد في حفظ بقايا المجد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز ...
(المنار) : نكرر الاقتراح على الفقهاء والعلماء ليكتبوا إلينا رأيهم في
الموضوع، ولدينا رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في أسباب الخلاف ربما تُنشر بعد.
__________
(*) التاء فيه كالتاء في علامة وفهامة.(4/453)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة الدينية وأجوبتها
تتمة أسئلة الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ
(3) ومنه: ما حكم من يستغيث ويستمد من النبي صلى الله عليه وسلم
وأولياء أمته شيئًا مما يجوز سؤاله شرعًا من أمور الدنيا والآخرة معتقدًا أن نسبة
ذلك إليهم إنما هو على سبيل المجاز وهو سبب عادي لهم، فإن شاء الله أجاز
شفاعتهم وإلا ردها، وليس لهم سلطة غيبية فيما وراء الأسباب، وأنه لا يعبد غير
الله تعالى ولا تأثير لمخلوق في أثر ما لكن لما كان من الجائز وقوع الكرامات
للأولياء الكرام، فلا مانع من أن يطلعهم الله بالكشف على حاجة من يستمدهم
فيقضونها بالذات، أو بواسطة ملك من الملائكة إن أذن الله لهم بذلك، ولا يعظّم
وليًّا أو نبيًّا يخرجه عن العبودية مطلقًا، هل يعد هذا الاعتقاد شركًا بالله تعالى
ومروقًا من الإسلام؟ أم حرامًا؟ أم مكروهًا؟ أم جائزًا كما نعتقده اهـ بحروفه.
(ج) السؤال ظاهر التناقض والتعارض، والمفهوم منه بقرينة ما هو
معروف من أعمال العامة، واعتقاداتهم أنه يريد السؤال عن مشروعية طلب قضاء
الحاجات الدنيوية والأخروية من الأنبياء والأولياء بعد موتهم، وقال: إن هذا سبب
عادي لهم، ثم ذكر أنه رأي مبني على جواز وقوع الكرامات، والمعروف في علم
الكلام أن الكرامات من خوارق العادات، أي ليست من الأسباب العادية وهذا هو
التناقض.
أما هذا الطلب فهو من البدع التي لم تُعرف في عهد النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمر عليه الصلاة والسلام
باتِّباع سنته وسنتهم وحذر مما يحدث بعد ذلك، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بأنه
أكمل الدين، ونحن نعتقد أنه لم يعمل به على كماله أحد مثل الصحابة الكرام، فلو
لم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على أن لا ندعو مع الله أحدًا ولا نطلب ما نعجز
عنه من حاجاتنا إلا من الله تعالى وحده لكان الأخذ بسنة الخلفاء الراشدين والصحابة
الكرام كافيًا في أن لا نزيد في الدين شيئًا، فيسعنا ما وسعهم، ومن يزعم أنه ورد
عنهم شيء يحتج به في طلب قضاء الحاجات من الأموات أو من النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم بعد موته، فليبينه لنا لنهتدي به، أما أدلة المنع فسنشير إليها في
جواب السؤال (5) .
هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، وهي فرع مسألة الواسطة الآتية،
والخطأ في العقائد كفر في الغالب بخلاف الخطأ في الفقه فإنه خطأ يغفر؛ ولذلك
كان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ينهى عن الخوض في علم الكلام ويقول:
لأن يقال أخطأت خير من أن يقال كفرت، وأقول على فرض أن هذا الطلب جائز
كما يعتقد السائل: أليس من الاحتياط في الدين ترك هذا الجائز خوفًا من خطر الخطأ
في الاعتقاد على ما يعتقده غيره؟
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
***
(5) ومنه ما هو الفرق بين مذهب الوهابية، ومذهب ابن تيمية وحضرة
صاحب المنار وغيرهما سلفًا وخلفًا في الواسطة؟ وهل قام صاحب نحلة أو مذهب
جديد من الخوارج أو الوهابية أو البابية لا يتخذ الكتاب والسنة عمدته في الاحتجاج
سترًا لمبادئه التي يدعيها؟ وما قول حضرته في كتاب إعجاز المسيح في التفسير
الصحيح الذي ظهر اليوم لمن يدَّعي المهدوية بالهند في تفسير فاتحة الكتاب،
وجعله الدليل على صحة دعواه عجز الإنس والجن عن عمل تفسير كتفسيره في
مدى قصير كالمدى الذي عمل فيه هذا التفسير هل مصيب؟ أم مخطئ فيما يدَّعيه
اهـ. بحروفه.
(ج) مذهب السلف والخلف في الإسلام أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
هم الواسطة بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ دينه لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ
المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) وقوله عز وجل: {إِنْ عَلَيْكَ
إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وغير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة بصيغة النفي
والإثبات ككلمة التوحيد، وأنه لا واسطة بين الله تعالى وعباده في غير تبليغ دينه
من نحو قضاء حاجة سلبية كالشفاء من مرض، أو وقوعية كسعة الرزق أو هداية،
والدليل على هذا الآيات الواردة بصيغة الحصر وهي كثيرة جدًّا - كما قلنا -
والبراهين العقلية القاطعة بأن الله تعالى غني عن المساعدة والوزير والمعين؛ لأنه
على كل شيء قدير لا يحتاج إلى من يعطفه على عباده لأنه أرحم الراحمين،
فرحمته ورأفته لا تقبل الزيادة لأنها في نهاية الكمال، وقد سبق علمه بكل شيء فلا
يمكن أن يغيره أو يزيد فيه أحد، ولا نطيل في سرد الأدلة؛ لأننا كتبنا فيها مرارًا
وأوردنا الآيات والأحاديث الصحيحة فيها وأوَّل سؤال ورد علينا فيها نشر في العدد
الرابع من المجلد الأول، وأوضح ما كتبناه فيها هو الدرس الثامن من الأمالي
الدينية فليراجع في الصفحة 630 من المجلد الثاني.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فكان من أنصار السنة وأكابر
حفاظها والداعين إليها، والآمرين بما عرَّفته والناهين عما أنكرته في زمن ترك
المسلمون فيه الدعوة إلى دينهم بالمرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
الغالب، وقد ألف في البدع والضلالات التي رآها فاشية رسائل نفيسة يؤيد فيها
السنة ومذهب السلف، ويدحض شبه أهل البدع، ومنها رسالة مخصوصة في
الواسطة طُبعت من عهد قريب في مطبعة المؤيد، فعلى السائل أن يطالعها، وأما
الوهابية، فالذي علمناه عنهم أنهم يعتقدون في هذه المسألة اعتقاد السلف أيضًا،
وسنذكر في فرصة أخرى شيئًا من تاريخهم وما قيل فيهم.
ومن عجيب القول قول هذا السائل: وهل قام صاحب نحلة ... إلخ؛ فإننا لا
نجد له وجهًا صحيحًا فهل يقول صاحبه أن المبتدعة هم الذين اتخذوا الكتاب والسنة
عمدتهم دون أهل الحق، فيجب أن نخالفهم بترك الاعتماد على الكتاب والسنة؟ هذا
هو ظاهر العبارة وهو أمر بترك الإسلام واتباع الأوهام لا يرضاه السائل ولا يريده
ولعل مراده أننا لا ينبغي لنا أن نأخذ بقول كل من يدعي الاعتماد على الكتاب
والسنة؛ لأن المبتدعة يشاركون أهل الحق في هذه الدعوى.
ويرد عليه ههنا سؤال وهو: أن المذاهب في الأصول والفروع كثيرة، وكل
أهل مذهب يدعون الاعتماد على الكتاب والسنة، فبم نعرف المحق من المبطل؟
وكيف نميز بين الحق والباطل؟ إن قال نعرف ذلك بتمحيص الأدلة والتمييز بين
الحجة والشبهة، فهذا هو الاجتهاد الذي يفر منه وينكر على من يقول به، وإن قال
نقلد من كان أكثر تابعًا، نقول (أولاً) إن كثرة المتبعين لا تدل على أن الحق في
جانب من اتبعوه لا سيما إذا كانوا مقلدين يأخذون بقول صاحب المذهب من غير
معرفة دليله، وكيف يقوى الحق بمن لا يعرف الحق؟ هذا وإن أكثر الناس كافرون
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116) وإن
كانوا من المؤمنين بالله لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) و (ثانيًا) أن الأئمة الذين يذكرهم في السؤال الآتي لم يكن لهم
في عصرهم إلا القليل من المتبعين فإذا كان الحق يُعرف بكثرتهم فكيف عُرف
يومئذ فإن كان عند السائل جواب على هذا فليكتب به إلينا، وإلا فليرجع إلى
مقالات المصلح والمقلد ففيها البيان الكافي لقوم يعقلون.
وليعلم أن البابية ليسوا أصحاب مذهب جديد في الإسلام كما يتوهم، بل هم
أصحاب دين جديد وشريعة جديدة، ويحتجون على المسلمين بتأويل بعض الآيات
والأحاديث على طريق تأويل الصوفية كما يحتجون على اليهود والنصارى من
كتبهم، ودينهم أقرب إلى دين النصرانية منه إلى غيره؛ فإنهم يعتقدون أن البهاء
المدفون في عكا هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام ... إلخ {سُبْحَانَ
رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
وأما كتاب إعجاز المسيح فقد تصفحته بعد الابتداء بكتابة هذا الجواب، فإذا
هو قد سلك فيه مسلك الباطنية والمتصوفة في التأويل، وليس فيه وهو 200
صفحة ورقة واحدة في حقيقة التفسير، وليس خلطه وهذيانه فيه بأكبر من الخلط
والهذيان في التفسير المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية،
ولو لم يدَّع هذا الرجل أنه هو المسيح، ويحرف كلمات الفاتحة، فيجعلها دليلاً على
دعواه ويجعل تفسيره معجزة يتحدى بها - لتلقَّى هذا التفسير بالقبول أكثر المسلمين
ومنهم السائل المحترم؛ ولأقاموا النكير على مثلي إذا هو انتقد عليه، كما ينكرون
عليّ الانتقاد على من دونه في العلم والتأليف، وقد كان هذا الرجل شيخ طريق
يفوق أكثر المشايخ بالعلم والفصاحة والصلاح فغرَّه كثرة أتباعه، وتفننه في
أسجاعه، على ما في ألفاظها من الغلط، وفي معانيها من الشطط، وقام عنده أن
اعتقاد المسلمين بالمهدي والمسيح، قد انتشر على وجه غير صحيح، وأنه يجب
أن يصلحه بذاته، ويؤيد دعواه بما يعتقد متبعوه من آياته.
وأما تحديه بالكتاب فهو - إذا لم يعارَض - شبهة على المعجزة بالمعنى
المعروف عند المتكلمين لا بالمعنى الذي حققناه في الجزء العاشر من المنار، وقال إنه
كتبه في سبعين يومًا، ونقول: إن كثيرًا من أهل العلم ليستطيعون أن يكتبوا خيرًا منه
في سبعة أيام، ولو على طريق الشقاشق والأوهام؛ ولكن أين الحَكَم الذي يرضاه
تلامذته والمغترون به؟ إننا نفند كثيرًا من البدع الشائعة بين المنتسبين إلى الطريق
ولكن أكثرهم لا يقرءون ومن قرأ لا ينتفع إذا كان يخضع لشيخه ويقلده تقليدًا أعمى؛
لأنك إذا قلت له قال الله كذا، يقول إن شيخي أعلم بقول الله منك، وهكذا إذا احتججت
بالسنة، وحجتنا الكبرى في مسألة الواسطة وفروعها على هؤلاء المقلدين سيرة
الصحابة الكرام في العمل، فإذا قال أحدهم إن الشيخ فلان قال كذا أو فعل كذا نقول له
كيف عرف شيخك ما لم يعرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان
أهدى منهم؟ كما قال أحد أكابر التابعين لقوم اجتمعوا على ذكر بصفة لم تعهد فقال
لهم: إما أن تكونوا أهدى وأفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما
أن تكونوا قد ابتدعتم في الدين وزدتم فيه ما ليس منه، أو كما روي.
هذا وليس دخول مسيح الهند في هذه الدعوى من باب التصوف الواسع
بأعجب من دخول الشيخ محمد أبي الخليل المقيم في الزقازيق منه إلى دعوى تفسير
القرآن؛ فإن ذلك عالم مطلع وهذا جاهل وهو يزعم أن من بات عنده يصبح حافظًا
للقرآن، وقادرًا على تفسيره، وأنه يملي كتبًا في تفسير آية واحدة، أو كلمة من
آية، وقد اغتر به كثيرون، ومن أنكر عليه يقول السفهاء فيه أنه ينكر الكرامات
ويبغض الأولياء، هذا سلاحهم الذين يحاربوننا به؛ وإنما يحاربون الحق {وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) .
***
(6) ومنه: المعروف عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن أهل
السُّنة والجماعة هم أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي ومن تابعهما في
الاعتقاد، والإمام الجنيد ومن تابعه في التصوف، والأئمة الأربعة المجتهدون ومن
تابعهم في الفروع، وسائر الأئمة غير المبتدعة خلاف هؤلاء على هدى من ربهم
بحكم مذاهبهم، وقد دخل بعض البدع على كتب أهل السنة والجماعة، وليس من
مذاهبهم ولا من لوازمها، وحيث دُوِّنت الأحكام، وضُبطت الأصول هل من طريق
سوى العمل بهذه الأحكام ثَم لنا؟ اهـ بحروفه.
(ج) نحن نوافق السائل في أن هؤلاء الذين ذكرهم من أئمة المسلمين
المجتهدين في أصول الدين وفروعه، وحكم المجتهد أنه إن أصاب فله أجران،
وإن أخطأ فله أجر واحد، ونوافقه أن هناك أئمة غيرهم على هدى من ربهم،
ونوافقه في أن بعض البدع دخل على كتب أهل السنة والجماعة، وأنها ليست من
مذاهب الأئمة؛ فإن مذاهبهم متفقة على الأخذ بالكتاب العزيز والسنة الصحيحة،
فمن ألحق بالدين شيئًا زعم أنه منهم، أو مستنبط من كلامهم وهو يخالف الكتاب
والسنة فهو مردود عليه وهم براء منه، ونقول: إنه ينبغي لنا أن نهتدي بهديهم في
ذلك، ونبحث عن دليل كل ما يعزى إليهم لنميز بين ما صح عندهم، ووافق
أصولهم وبين ما دخل من البدع في كتب المنتسبين إليهم، وقد نقل عنهم العلماء
أنهم كانوا يقولون: لا يصح لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف دليلنا، وقال الإمام
الشافعي رضي الله عنه كما في كتاب الأم بعد كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد
دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) أي فالرسول وحده
هو الذي يُقبل كلامه في الدين من غير مطالبة بدليل؛ لأنه دليل نفسه.
ولا نطيل في هذا المقام فسيأتي تفصيله في محاورات المصلح والمقلد والله
الهادي إلى سواء السبيل.
__________(4/460)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة ديوان حافظ - تتمة
أما قول أصحاب العَرُوض أن الشعر هو الكلام المقفَّى الموزون، فليس هذا
من بيان الشعر في شيء، فكم رأينا على تلك القاعدة التي رسموها كلامًا ولم نر فيه
شيئًا من الشعر.
ولقد وُفقت جماعة المنطق بعض التوفيق حيث قالوا: إن الشعر هو كل ما
أحدث أثرًا في النفس، وخيره ما كان موزونًا. فلم يحبسوه في تلك الأوزان وتلك
القوافي، بل وسَّعوا له المجال فجعل يتنزه بالتنقل من رياض المنظوم إلى جنان
المنثور، فإذا عثر به خيال الشعر نظمه تارة ونثره أخرى، وحسبكم دليلاً على
ذلك ما جاء في قول بشار بن برد وهو خير ما يُضرب به المثل هنا حيث قال
ناظمًا:
هززتك لا أني وجدتك ناسيًا ... لأمري ولا أني أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجًا وإن كان ماضيا
وحيث قال ناثرًا: (والله لقد عشت حتى أدركت أناسًا لو أخلقت الدنيا لما
تجملت إلا بهم،واليوم أعيش في قوم لا أرى بينهم عاقلاً حصيفًا، ولا كريمًا
شريفًا، ولا من يساوي مع الخبرة رغيفًا) ألا ترون أن في منظومه ومنثوره هذين
روحًا من الشعر لم تكن في الثاني بأقل أثرًا في نفس السامع منها في الأول،
ويدخل في ذلك ما كتب به أبو الطيب المتنبي إلى صديق له كان يعوده وهو مريض
فلما أبَلَّ انقطع عنه: (لقد وصلتني معتلاًّ، وقطعتني مُبِلاًّ، فإن رأيت أن لا
تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله) أليس في هذه الجملة
النثرية تلك الروح التي تجدونها في نظم الشاعر الكبير؟ ومن اطلع على شعر
المعري ورسائله علم أنه شاعر في نظمه ونثره.
هذا هو الشعر وتلك حقيقته، أما طريقة عمله فخيره ما جاء عن غير كد ولا
تعمُّل، وخير الشعراء من توخى في شعره السهولة، وتحامى طريق التعسف
والتكلف، وتَنكَّب عن المعاظلة في الكلام والتماس الألفاظ النافرة والقوافي القلقة،
ولقد كان همُّ الشعراء في الجاهلية مصروفًا إلى التقاط الألفاظ الغريبة، فإذا ظفروا
بها أودعوا فيها المعاني النفيسة، فكانت معانيهم تحت ألفاظهم كالحسناء تحت
الأطمار، وأما شعراء الحضارة فطفقوا يلتمسون الألفاظ فيسكنون فيها المعاني
الدقيقة فكانت معانيهم كالعروس في معرضها يوم جلائها.
وأفضل الشعراء من كان عالمًا بمواضع الإسهاب والإيجاز فهو إذا أسهب أجاد
وإذا أوجز أفاد، ولا أعرف شاعرًا استطرد به جواد الإسهاب وسلِم من العثار مثل ابن
الرومي ذلك الذي كان أطول الشعراء نفسًا وأكثرهم غوصًا على المعاني، ولقد
أدمنت النظر في شعر بشار بن برد، فألفيت الرصانة والتجويد وبناء القافية على
الأساس المتين، والجمع بين متانة البدو وسلاسة الحضر، وأكثرت من مطالعة
شعر مسلم بن الوليد فعلمت أنه يجري مع ابن برد في ميدان واحد، وسرحت
الطرف في شعر أبي نواس فرأيته حلو الفكاهة إذا هزل، مُرَّ المراس إذا جَدّ،
وهو إذا صحا كان أكثر الشعراء تفننًا في ضروب الكلام، ورجعت البصر في شعر
أبي تمام فألفيت فيه التفاوت والصنعة مع كثرة الابتداع والقدرة على الابتكار،
ورأيت في جيده ما لم أره في جيد غيره من حسن الصياغة وبعد الغاية، وأنعمت
النظر في شعر البحتري فلمحت فيه حسن الديباجة وطلاوة الانسجام، وأكثرت
التأمل في شعر أبي الطيب فإذا شعره حي يتفزر، ولم أر في الشعراء نفسًا أعلى
من نفسه، ولا طريقًا إلى المعالي أخصر من طريقه، وخير شعره ما كان في الحكم
والأمثال، ولو سلمت أقواله من ذلك التفاوت ولم يكن أسلوبه عاقًّا لأساليب اللغة
العربية لكان أشعر شاعر في الإسلام، ولقد ذهب الشريف الرضي بحسن اختيار
اللفظ وصقله وسلامة الذوق في انتقاء المفردات والأساليب، وجمع متنبي الغرب
ابن هانئ الأندلسي في شعره بين جزالة العرب ورقة الأندلس، وانفرد ابن المعتز
بحسن التشبيه، واختص العباس برقة الشعور وحلاوة التركيب، ولم أر فيمن
ذكرنا من يداني شيخ المعرة في صفاء الذهن وقوة الذاكرة وسعة الاطلاع وغزارة
المادة.
ولا يقوم بنفس أحدكم أن الشعر كان للعرب دون غيرهم؛ فإن لكل أمة قسمتها
منه، وأن لها نصيبها من الشعراء، تلكم أمة الفرس وهذا (قاآنها) صاحب الشاه نامة
أي ديوان الملوك قد بلغ في أمته مكانًا عظيمًا، واشتمل ديوانه على سبعين ألف
بيت من الشعر، وهذا عمر الخيام الذي تفتح اليوم الأندية باسمه في إنجلترا
وأميركا وتتهافت شعراء المغرب على مطالعة منظوماته، وقد نُقش اسمه في ذلك
العهد على أكثر من اثني عشر ناديًا.
أسلفنا أن الشعر قديم وُجد مع الشمس، وأن لكل أمة حظًّا منه، فما بلغ بنا
التاريخ إلى أمة، ولا وقف بنا عند جيل إلا ورأينا لواء الشعر عليه معقودًا، ولقد
حمله بنتاور في الفراعنة، وهومير في اليونان وفرجيل في الرومان، وقد كثر
نبوغ الشعراء في هذه الأمة، ولا تزال دواوين أكثرهم محفوظة في مكتبة مولانا
السلطان وسائر مكاتب الآستانة العلية إلى اليوم، ولو شئنا أن نذكر كل أمة
وشاعرها لضاق بنا المقام.
أما الشعر العربي وما كان من أمره في الجاهلية والإسلام فأخباره
طويلة مودعة في بطون الكتب فلا حاجة إلى ذكرها.
__________(4/468)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقاريظ
لما علم الأدباء بأن ديوان محمد حافظ أفندي يطبع وكلهم يعرفون في الشعر
مكانته العالية، ومرتبته السامية، كتبوا إليه التقاريظ التي تشهد بفضلهم بمعرفة
الفضل لأهله، ورأينا أن نتحف قراء المنار ببعضها.
قال واحد العصر، ويتيمة الدهر، ومالك أعنة النظم والنثر صاحب السعادة
محمود باشا البارودي حفظه الله:
هيهات ليس لحافظ من مشبه ... في القول غير سميه الشيرازي
جاراه في حسن البيان وفاته ... في المنطق العربي بالإعجاز
لَبِق بتصريف الكلام يسوقه ... ما شاء بين سهولة وحجاز
فإذا تغزل فالنفوس نوازع ... وإذا تحمس فالقلوب نوازي
كالصارم الفولاذ في (إفرنده) ... وصقاله والمارن الهزاز
حاك القريض بلهجة عربية ... أغنت عن الإسهاب والإيجاز
ألفاظها نَمَّت على ما تحتها ... وصدورها دلت على الأعجاز
فإذا تلاها قارئ لم يشتبه ... في القول بين حقيقة ومجاز
عبقت كأنفاس النسيم تعلقت ... بالروض غِبَّ العارض المجتاز
قد كان جيد القول عُطْلاً قبله ... فحباه أحسن حلية وطراز
ملكتْ مودتُه القلوبَ فأصبحت ... تلقاه بالتوقير والإعزاز
لا زال يبلغ شأو كل فضيلة ... بمضاء صمصام وصولة باز
وقال القاضي الفاضل والأديب الكامل، الشاعر المطبوع حفني بك ناصف:
شعر على قلته جيد ... والشعر لا يمتاز بالطول
والدر بالقيراط مقياسه ... والأرض بالفرسخ والميل
تستعذب الألسن ترتيله ... كأنه محكم تنزيل
يظل من يقرأ آياته ... ما بين تكبير وتهليل
فُصِّلت الألفاظ فيه على ... قدر المعاني خير تفصيل
فلا يرى ناقده كلمة ... محتاجة فيه لتبديل
جُعلت يا (حافظ) كيد الذي ... يشناك في خسر وتضليل
كأن ديوانك في عينه ... رسالة من عند عزريل
وكل بيت حجر قد هوى ... عليه من أحجار سجيل
فاهنأ بما أوتيت من حكمة ... مصوغة في حسن تخييل
ومن يكن ديوانه هكذا ... يُدْعَى بحق شاعر النيل
وقال الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد عمر الإسكندري المدرس بالمدارس
الأميرية:
إن يكن السالفون من عرب ... بادوا وأخنى عليهم الدهر
فقد أرانا كأنما بعثت ... أزمانهم من يراعك الشعر
من كل معنى كأنه ملك ... في كل بيت كأنه قصر
من ينكر السحر بعدما اتفق الـ ... ـناس على أن شعرك السحر
أما يرى منه أن سامعه ... يهتز سكرًا به ولا خمر
ما الشعر لفظ يأتي على قدر ... يعذب منه الروي والبحر
الشعر ما أدَّب النفوس وما ... حنَّ إليه الفؤاد والفكر
فالبحر وهو الأجاج لجته ... يجتمع الدر فيه والصخر
فاهنأ بشعر قلنا نؤرخه ... ديوان حافظ كله در
... ... سنة 1319 ... 70 ... 989 55 204
***
(كتاب السودان)
وُضع هذا الكتاب لبيان تاريخ حوادث بلاد السودان المصري منذ عينت
الحكومة المصرية الكولونيل غردون باشا الإنكليزي حاكمًا على خط الاستواء في
عهد إسماعيل باشا الخديوي إلى انقضاء دولة الدراويش التي أسسها محمد أحمد
الذي قام بدعوى المهدوية، واستيلاء الحكومة المصرية على السودان، ومؤلف
الكتاب هو صاحب السعادة إبراهيم فوزي باشا الذي رافق غردون باشا منذ تولى
إلى أن قتله الدراويش ووقع هو أسيرًا، فبذلك كان أعلم الناس بالحوادث المتعلقة
بذلك، وقد طُبع الجزء الأول من هذا الكتاب في مطبعة جريدة المؤيد على نفقة
صاحبه ونفقة إدارة الجريدة ويُطلب منها ومن المكاتب الشهيرة، وعدد صفحاته
403، وفيه من غرائب الحوادث وشرح ضروب الكوارث العجب العجاب الذي
يُشوق القراء، فنحثهم على مطالعته والاعتبار بما فيه من عواقب الجهل.
***
(علم الفراسة الحديث)
أهدتنا إدارة الهلال المنير نسخة من هذا الكتاب، الذي جعلته في هذه السنة
عوضًا عن الأجزاء الأربعة التي تصدر منه في شهرين عملا بالقاعدة التي سنتها،
وهي جعل سنة الهلال عشرة أشهر، وتهدي المشتركين في آخر السنة كتابًا بدلاً من
أجزاء الشهرين، والكتاب تبحث مقدماته في تاريخ الفراسة وصحة هذا العلم
وعدمها، وناموسي التشابه والتناسب، وفي المقاصد بيان فراسة الأعضاء
بالتفصيل، ثم فراسة الأمم، ثم فراسة الرأس مخصوصة، ثم فراسة المهن
والصناعات، ثم فراسة الحيوان، وهو كثير الرسوم وصفحاته توازي صفحات
أربعة أجزاء من الهلال.
***
(مقامات الحريري بفهرس المفردات)
هذه المقامات في عالم الأدب عَلَم في رأسه نار لا تحتاج إلى التعريف
والوصف، وقد طُبعت طبعات متعددة؛ ولكنها قبيحة في الشكل والورق وغير ذلك
إلا الطبعات الأميرية، وقد نفدت هذه حتى لا تكاد توجد بالثمن الكثير، فانبرى
أخيرًا الفاضل الهمام صاحب الإتقان الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة
الأزهرية، فطبعها في المطبعة الأميرية طبعة تمتاز على ما طُبع فيها من قبل
بثلاثة أمور، أحدها الشكل فإنه جعلها من الحجم الوسط وهو ألطف، وثانيها جعل
الشرح في أسفل الصفحات بحرف صغير مشار إليه بالأرقام العددية، وثالثها
فهرس في آخرها لمفردات الكلم مرتب على حروف المعجم كالمصباح، ويعرف
أهل الأدب أن في هذه المقامات من فرائد اللغة المختارة، ولطائف المجاز
والاستعارة، ما ينفع طالب الانتفاع، والوقوف عليه بدون ممارسة تلك الأساليب
والأسجاع، لا يتيسر إلا بهذا الفهرس الذي يوقف غير الواقف، ويسهِّل المراجعة
على العارف، وقد جعل ثمنها أقل من ثمن الطبعات الرديئة، ولا شك أن طلاب
هذه المقامات يفضلون هذه الطبعة على سائر الطبعات.
***
(شهيدة الأمانة)
أسطورة مختصرة غرامية دينية مسيحية هندية، تحكي بعض أحوال هنود
أميركا الدينية، وتبين فضل المسيحية عليها، ومثل هذا يؤثر في إشراب قلوب
العامة حب الدين، ما لا يؤثر كلام اللاهوتيين، وطالما تمنيت أن توضع قصص
إسلامية في هذه الأساليب لأجل عامة المسلمين، وكم منيت نفسي بالتأليف في ذلك،
وحثثت عليه إخواني ولم يسمح لي الزمان بالوقت، وهذه القصة فرنسوية الأصل،
وعرَّبها الشاب النشيط فرج أفندي عبده، وطبعها وجعل ثمنها أربعة غروش
مصرية.
__________(4/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عيد الجلوس السلطاني
في يوم الأحد الآتي يُحتفل بتذكار جلوس مولانا السلطان الأعظم أيَّده الله
تعالى بالنصر والتوفيق على عرش السلطنة العثمانية، ويشارك العثمانيين في هذا
الاحتفال كثير من البلاد الإسلامية التي تحكمها الأجانب، لا سيما الإنكليز كالهند
وسنغافورة وغيرها، وقد أبنَّا الفائدة والحكمة من هذا الاحتفال في منار السنين
الماضية فلا نعيده، وقد رأس لجنة الاحتفال العمومي في مصر هذه السنة صاحب
السعادة الشهير عبد السلام باشا المويلحي رئيس التجار؛ ولكن إقبال الناس لم يكن
كما يعهد في السنين الماضية، ومن أسباب ذلك عدم وجود صاحب المؤيد الذي كان
لكتابته وسعيه أكبر تأثير، وقد نظم الشعراء قصائد في التهنئة والاحتفال ننشر منها
قصيدة صاحبنا محمد حافظ أفندي إبراهيم لما امتاز به كلامه من الجزالة والسلاسة
التي ترقي اللغة عند القارئين وهي:
لمحت جلال العيد والقوم هُيَّب ... فعلَّمني آي العُلى كيف تكتب
ومثَّل لي عرش الخلافة خاطري ... فأرهب قلبي والجلالة ترهب
سلوا الفلك الدوَّار هل لاح كوكب ... على مثل هذا العرش أو غاب كوكب
وهل أشرقت شمس على رحب ساحة ... إلى مثل ذاك البيت تُعْزَى وتنسب
وهل قر في (برج السعود) متوج ... كما قرَّ في (يلديز) ذاك المعصَّب
تجلى على عرش الجلال وتاجه ... يهش وأعواد السرير ترحِّب
سما فوقه والشرق جذلان شيق ... لطلعته والغرب خذلان يرقب
فقام بأمر المُلك حتى ترعرعت ... به دوحة الإسلام والشرك مجدب
وقرب بين المسجدين تقرُّبًا ... إلى الملك الأعلى فنعم المقرَّب
وكم حاولوا في الأرض إطفاء نوره ... وإطفاء نور الشمس من ذاك أقرب
فراعهمو منه بجيش مُدَجَّج ... له في سبيل الله والحق مذهب
إذا ثار في يوم الوغى مال منكب ... من الأرض والأطواد وانهال منكب
له من رؤوس الشم في الأرض مركب ... ومن ثائر الأمواج في البحر مركب
فدى لك يا (عبد الحميد) عصابة ... عصت أمر باريها وحزب مذبذب
ملكتَ عليهم كل فجٍّ ولجَّة ... فليس لهم في البر والبحر مهرب
تقاذفهم أيدي الليالي كأنهم ... بها مَثَل في القول للناس يضرب
وكم سألوها لثم أذيالها التي ... لها فوق أجرام السموات مَسْحَب
فما بلغوا قصدًا ولا أدركوا مُنى ... كذلك يشقى الخائن المتقلّب
فيا صاحب العيدين لا زلت سالمًا ... يهنيك بالعيدين شرق ومغرب
ففي كل روض منك طيب ونضرة ... وفي كل أرض منك عيد وموكب
أرى مصر والأنوار منها مورَّد ... ومنها لُجَينيٌّ ومنها مذهَّب
وأشكالها شتى فهذا منظم ... وذلك منثور وذاك مقبَّب
وبعض تجلَّى في مصابيح زيتها ... يضيء ولا نار وبعض (مكهرب)
وأنظر في بستانها النجم مشرقًا ... فهل أنت يا بستان أفق مكوكب
وأسمع في الدنيا دعاء بنصره ... يردِّده البيت العتيق ويثرب
__________(4/475)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا
في الآستانة أرصفة أنشأتها شركة فرنسوية بامتياز مخصوص، ولبعض
التجار الفرنساويين دين على الدولة العلية كانوا من زمن طويل قدَّموا فيه أشياء
للعسكرية بربًا فاحش، وقد طال الزمان وهم عنه ساكتون لينمو بضم الربا في كل
عام إلى الأصل، وقد حصل الخلاف بين شركة الأرصفة وبين الحكومة العثمانية
في هذه الأرصفة، وطلب التجار أموالهم المتراكمة، فسلك الموسيو كونستيان سفير
فرنسا في حل الإشكال مسلك الخشونة والتهديد بقطع العلائق، فما زال مولانا
السلطان يمده بسياسته اللينة اللطيفة وهو يزداد عنفًا ونفورًا، حتى آذن الدولة بقطع
العلائق رسميًّا وخرج من الآستانة العلية، وآذنت نظارة خارجية فرنسا الدولة
العلية بأن لا يعود سفيرها منير بك إلى باريس، وكان مولانا السلطان لان لمطالب
السفير، وأمر بأن تظل شركة الأرصفة متمتعة بامتيازاتها بناء على غض النظر
عن ابتياعها، ولمَّا رأى هذه الخشونة أعرض بجانبه ولم يبال بقطع العلائق؛ ولكن
ورد أنه طلب من فرنسا إرسال سفير آخر للاتفاق معه، ويخاف الناس أن يُفضي
هذا الجفاء السياسي إلى الحرب بين الدولة العلية وفرنسا، وما كل جفاء سياسي
يستلزم الحرب وليست فرنسا كسائر الدول يثير الحرب فيها رجل متهور، فهي
جمهورية لا يمكن أن تعلن حربًا إلا بعد رضا الأمة بواسطة الأحزاب والنواب،
وإذا احتلت فرنسا بعض الثغور غير المحصنة كثغور سوريا تقوم قيامة الدول
وتكون الطامة الكبرى، لا خوف من هذا الجفاء إذا كان كما هو الظاهر قد جاء من
طبيعته؛ ولكن إذا كان هناك مواطأة بين روسيا وفرنسا على فتح باب الفتنة لمقاومة
نفوذ ألمانيا في الأناضول والعراق فهناك البلاء الأكبر، وهذا بعيد أيضًا؛ فإن
روسيا صارت أدهى وأحكم من أن تعرض أوربا كلها للدمار لأجل أطماعها، وقد
تعلمت أن الاستفادة بالسياسة أكبر ربحًا من الاستفادة بالقوة، والله أعلم.
__________(4/477)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعازٍ ووفيات
السيدة أم عاصم
أعزي عمي التقي الفاضل، والعالم العامل السيد الشيخ محمد كامل عن وفاة
قرينته العاقلة التقية المهذبة السيدة زلفى أم عاصم، كانت رحمها الله قارئة كاتبة
مربية مقتصدة قرة عين لعمي ولأسرته فرحمها الله تعالى، وأطال حياة أنجالها في
حجر والدهم الكامل آمين.
توفيق بك الحموي
وأعزي الرصيف الكبير صاحب السعادة سليم باشا الحموي صاحب جريدة
الفلاح الغراء، عن وفاة ولده البار النجيب توفيق بك، اختطفته المنية في ريعان
الشباب من مهد المدارس ومعهد العلوم والمعارف، وكان في هذا العام من السابقين
في أخذ شهادة الدراسة الثانوية، ووجه همته بعد ذلك لتعلم علم الحقوق، قَضَى في
19 من الشهر الإفرنجي الحاضر عن عشرين ربيعًا لم يعرف فيها غير الدفاتر
والمحابر، فنسأل الله تعالى أن لا يفجع هذا الشيخ الكبير بمثل هذا المصاب،
ويحفظ له أهله وولده ويحسن عزاءه على من فقد، آمين.
خريستفورس جباره
وأعزي الثبات والصبر والهمة والاستقامة عن وفاة خريستوفورس جبارة
الشهير الذي قام في نفسه منذ سنين أن سعادة العالم الإنساني لا تتم إلا باتفاق أهل
الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام، كان هذا خاطرًا وفكرًا، ثم
صار وجدانًا ملك عليه أمره، وحمله على الدعوة إليه بالقول والكتابة، أنشأ أولاً
جريدة نشرة سماها شهادة الحق، وبث دعوته في أمريكا في معرض شيكاغو وغيره
وكان يكتب الرسائل الطويلة فيه إلى علماء الدين المشهورين في بلاد الشرق وهو
في أمريكا أقصى الغرب، ثم جاء إلى مصر وألف فيها كتبًا ورسائل كثيرة يوفق
فيها بين التوراة والإنجيل والقرآن، فحرمته الكنيسة الأرثوذكسية، وكان قد وصل
من رتبها الكهنوتية إلى رتبة الأرشمندريت، وكذلك قابله المسلمون بالهزء
والسخرية فاحتمل من الإيذاء ما هو معهود في كل من يدعو الناس إلى خلاف ما هم
عليه.
كان الفقيد موحدًا يقيم الحجة على أنه ليس في الإنجيل ولا في رسائل الرسل ما
يدل على التثليث، ويؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقرآن
وبرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومما كان يخالف فيه المسلمين مسألة
صلب المسيح وكان يؤول قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) وبالجملة إن ما كان يدعو إليه هو من مقاصد الإسلام؛ ولكن لم يكن
عنده من العلم بالإسلام وبعلوم الاجتماع والأخلاق ما يقدر معه على إقامة الحجة على
كل مناظر له، وكان استفتى مفتي الديار المصرية عن عقيدته بكلام مجمل صريح
بالإيمان بنبوة محمد وصدقه في كل ما جاء به، فأجابه المفتي جوابًا قيَّد فيه اعتبار
إسلامه بعدم إنكار شيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فجاءني وقال لي
إنني لم أفهم معنى هذه الكلمة.... .
أصاب الفقيد مرض ونقه منه، ثم انتكس وعند إحساسه بشدة وطأة المرض
جاءني وقال لي: إنني منذ سكنت مصر لم أعرف فيها رجلاً رحيمًا يفعل الخير لغير
علة إلا فضيلة المفتي، وقد اشتدت حاجتي إلى مبلغ كذا لأجل دخول المستشفى،
أو السفر ونفسي عليَّ عزيزة، فأرجو أن تأخذ لي من فضيلة الأستاذ المبلغ المذكور
فأجبته سمعًا وطاعة، ثم واساه الأستاذ حفظه الله تعالى بضِعْف ما طلب، ودخل
أولاً مستشفى قصر العيني بمساعدة أحد الوجهاء، ثم المستشفى النمساوي بمساعدة
وجيه آخر، وتوفي فيه بمرض القلب، ولما كان الرجل غير معدود في النصارى؛
لأنه محروم من بطريقهم الأكبر، ولا في المسلمين؛ لأنه لم يُعْرَف عندهم بموافقتهم
في عقائدهم، كان أمر دفنه مشكلاً، فحلَّ هذا الإشكال بعض أذكياء النصارى،
فشهد عند غبطة البطريق أن الفقيد اعترف قبل موته بالكنيسة الأرثوذكسية، ورجع
إليها فدُفن أرثوذكسيًّا، وأخذوا كتبه وفيها رد عليهم متين، أما حقيقة أمره وما
يصير إليه في الآخرة فذلك مفوض إلى العليم الرحيم.
__________(4/478)
غرة جمادى الآخر - 1319هـ
15 سبتمبر - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرجال والنساء
من أغوى الآخر في الشرق وأوربا - إصلاح الإسلام للنساء - تمني
الأوربيات تعدد الزوجات - الاختلاط ومضرته - عاقبة الأمر في أوربا والمسلمين.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) .
هذا ما قاله فاطر السموات والأرض وما فيهن، وشارع دين الفطرة ليبلغ به
عباده الكمال، من النساء والرجال، وقد دل العلم وشهد التاريخ على أن ما أرشد
إليه الكتاب العزيز من قيام الرجال وسيادتهم على النساء هو الحق الواقع والفطرة
الصحيحة؛ ولكن الرجال ظلموا وأساءوا في هذه الكفالة والسيادة فاستعبدوا النساء
ووأدوا البنات (دفنوهن أحياء) ولولا حاجتهم إليهن لأفنوا النوع الإنساني بإفنائهن
وما وجدت شريعة ولا ديانة أنصفت النساء وأعطت كلاًّ من الرجل والمرأة حقه
إلا ديانة الإسلام الحقة وشريعته العادلة؛ ولكن المسلمين ما رعوها حق رعايتها
فمنهم من وفَّى فَوُفِّي أجره وكثير منهم فاسقون.
بيَّن الله تعالى أن للمرأة على الرجل من الحقوق مثل الذي له عليها بالمعروف
وأنه لا يمتاز إلا بالولاية ورياسة المنزل؛ لأن البيوت نموذج الأمة، فكما أن الأمة
لا ينتظم أمرها إلا برئيس عادل، كذلك البيت (العائلة) لا بد له من رئيس له
السيطرة والقيام بالشؤون العامة.
ولما كان الإسلام مبنيًّا على قاعدتي الاستقلال بالفكر، والاستقلال بالإرادة،
وشريعته مبنية على المساواة والعدل، ومن مقتضى القاعدة الأولى أن يعرف
الإنسان الحق بدليله لتنبعث إليه إرادته بنفسها؛ لأنه الحق النافع في علم صاحبها،
بيَّن الله تعالى لنا بفضله المرجِّح لكون الرجل هو القيم على المرأة، وهو تفضيله
بنحو القوة والقدرة على الحماية والكسب، وهذا مرجِّح فطري طبيعي، وإنفاقه
المال في المهر وغيره وهذا مرجِّح اجتماعي عقلي، والشريعة الإسلامية موافقة
دائمًا للفطرة الإلهية، ومطابقة للمصالح الاجتماعية ومؤيدة بالدلائل العقلية.
عُرف في سيرة البشر أن القوة تعتدي دائمًا على الحق وتهضمه، وقد كان
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعرف الناس بسنن الله تعالى في الناس
ولهذا كان يكرر الوصية بالنساء والأرقاء وهو في حالة النزع وسكرات الموت،
كما كان ينهى عن تعظيم قبره وقبور الأنبياء والصلحاء؛ لأن ما يوصي به في هذه
الحالة لا بد أن يعتني به متبعوه أشد الاعتناء لما للكلام حينئذ من التأثير؛ ولأنه من
المعلوم بالبداهة أن الإنسان لا يهتم عند الموت إلا بأهم الأمور، ولا شك أنه عليه
الصلاة والسلام كان عالمًا بأن أعظم فتنة تستقبل أمته من طريق الاعتقاد والعبادة
تعظيم القبور والتماس المنافع ودفع المضار بواسطة أضرحة الأنبياء والصلحاء،
وأعظم فتنة تعرض لهم في شؤونهم الاجتماعية النساء، بل ورد التصريح بهذه
الفتنة وكذلك كان في الأمرين.
إنما كان النساء فتنة بترك الرجال مساواتهم بأنفسهم في الحقوق الاجتماعية
والأدبية، وإهمال فريضة القيام عليهن، فقد جعلت الشريعة لكل امرأة قيمًا فأبوها
وهو القيم الأول يتركها سدى تلعب بها الخرافات والأوهام، ويغويها السفهاء
والطغام، ثم تصير إلى القيم الثاني وهو الزوج فيأكل مالها إن كان لها مال، ولا
يساويها بنفسه في حال من الأحوال، ولقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
يقول: إنني لأتزين لزوجي كما تتزين لي لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) ثم إذا مات زوجها وصارت إلى قيم ثالث في آخر
حياتها يكون مآلها شر مآل، ولو كان هذا القيم ابنها الذي لم تحسن تربيته؛ لأنها هي
وأباه لم يكونا متربين ولا مهذبين.
هذا القيام للرجال على النساء قد خصته الشريعة بالأمور الاجتماعية، فليس
للمرأة حق أن تسافر إلا مع ذي محرم، وإذا كانت متزوجة فلا بد من إذن الزوج
ورضاه ولو إلى الحج، وأعطت للمرأة الحق في التصرف في مالها، وليس للزوج
ولا لغيره من القوَّام أن يأخذ من مالها دانقًا بغير رضاها، فتصرف المسلمون
بأموال النساء وأكلوها إسرافًا بغير حق، وتركوا حبالهن على غواربهن فيما هو
موكول إليهم، فطفقن يسرحن ويمرحن ويتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وتركن
الصلاة ومنعن الزكاة وعصين الله ورسوله، ثم عصين الأزواج والذنب في هذا كله
على الرجال.
يشكو بعض الرجال في هذه البلاد من تهتك النساء وفساد أخلاقهن، وما
أفسدهن إلا الرجال، فالمرأة بمقتضى الفطرة والطبيعة أقرب إلى الحياء والعفة،
وأبعد من المجون والخضوع للشهوة؛ ولكن هؤلاء الرجال الظالمين الضالين
المضلين هم الذين يغوونهم، ثم يشكون منهن وينسبون إليهن كل غواية وفساد محتجين
بقول المثل الفرنساوي: (ابحثوا عن المرأة) .
بحثنا وسألنا الباحثين فألفينا الرجال في الأسواق والشوارع يتعرضون لمغازلة
النساء، ولإيذائهن بالقول والفعل، ووجدنا أكثرهن لا يلتفتن لأكثرهم، رأينا هذا
ونحن نعلم أن الرجال أكثر علمًا بأمور الدين وأمور الدنيا، وأكثر شغلاً وعملاً فما
أغنى عنهم علمهم ولا أعمالهم، فكيف يكون الحال لو كانت أفئدتهم هواء كأفئدة
النساء؛ فإن المرأة عندنا لا تتعلم شيئًا يشغل فكرها عن تدبير الحيل لإجابة داعي
الطبيعة، ولا تتربى على ملكات فاضلة تقف بالقوى الحيوانية عند حدود الاعتدال،
وليس لها أعمال شاقة تصرف النفس عن هذه الدواعي وهي مع هذا كله أقرب من
الرجل إلى العفة والنزاهة.
لما تنبه أهل أوربا إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية وترقية معيشتهم المدنية
اعتنوا بتربية النساء وتعليمهن، فكان لذلك أثر عظيم في ترقيتهم وتقدمهم؛ ولكن
المرأة لا تبلغ كمالها إلا بالتربية الإسلامية، وأعني بالإسلامية ما جاء به الإسلام لا
ما عليه المسلمون اليوم ولا قبل اليوم بقرون، فقد قلت آنفًا إنهم ما رعوا تعاليم
دينهم حق رعايتها، ولهذا وجدت مع التربية الأوربية للنساء جراثيم الفساد، ونمت
هذه الجراثيم فتولدت منها الأدواء الاجتماعية والأمراض المدنية، وقد ظهر بشدة
في الدولة السابقة إليها وهي فرنسا فضعف نسلها، وقلت مواليدها قلة تهددها
بالانقراض، والذنب في ذلك على الرجال.
حَذِرَ من مغبة هذه الأمراض العقلاء، وحذَّر من عواقبها الكتاب الأذكياء،
وصرَّح من يعرف شيئًا من الديانة الإسلامية، بتمني الرجوع إلى تعاليمها المُرضية
وفضائلها الحقيقية، وصرَّحوا بأن الرجل هو الذي أضلَّ المرأة وأفسد تربيتها،
وأن بعض فضليات نساء الإفرنج صرحت بتمني تعدد الزوجات للرجل الواحد
ليكون لكل امرأة قيم وكفيل من الرجال.
جاء في جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) في العدد الصادر في 20 أبريل
(نيسان) سنة 1901 نقلاً عن جريدة (لندن تروت) بقلم كاتبة فاضلة ما ترجمته
ملخصًا:
(لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء وقل الباحثون عن أسباب ذلك
وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا،
وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وتوجعي وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا؟
لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ولله در العالم الفاضل (تومس)
فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل الشفاء، وهو الإباحة للرجل التزوج بأكثر
من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت،
فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد
هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من
تفاقم الشر إذا لم يُبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، أي ظن وخرص يحيط بعدد
الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاًّ وعالة وعارًا على
المجتمع الإنساني، فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم
ما هم فيه من العذاب الهُون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن؛ فإن مزاحمة
المرأة للرجل ستُحِل بنا الدمار، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس
على الرجل، وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة
بيت، وأم أولاد شرعيين) .
ونشرت الكاتبة الشهيرة (مس أني رود) مقالة مفيدة في جريدة (الإسترن
ميل) في العدد الصادر منها في 10 مايو (آيار) سنة 1901 نقتطف منها ما يأتي
(لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من
اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملونة بأدران تذهب برونق حياتها إلى
الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة ردأ الخادمة
والرقيق يتنعمان بأرغد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس
الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل
بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق
فطرتها الطبيعية، من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها)
وقالت الكاتبة الشهيرة (اللادي كوك) بجريدة ألايكو ما ترجمته:
(إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى
قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وههنا البلاء العظيم على المرأة فالرجل
الذي علقت منه يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء وتذوق مرارة الذل
والمهانة والاضطهاد، بل والموت أيضًا، أما الفاقة فلأن الحمل وثقله والوحم
ودواره من موانع الكسب الذي تحصل به قوتها، وأما العناء فهو أنها تصبح شريدة
حائرة لا تدري ماذا تصنع بنفسها، وأما الذل والعار فأي عار بعد هذا، وأما الموت
فكثيرًا ما تبخع المرأة نفسها بالانتحار وغيره.
هذا والرجل لا يلم به شيء من ذلك، وفوق هذا كله تكون المرأة هي
المسئولة وعليها التبعة مع أن عوامل الاختلاط كانت من الرجل.
أما آن لنا أن نبحث عما يخفف - إن لم نقل عما يزيل - هذه المصائب
العائدة بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقًا تمنع قتل ألوف الألوف
من الأطفال الذين لا ذنب لهم، بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة
على رقة القلب المقتضي تصديق ما يوسوس به الرجل من الوعود، ويمني به من
الأماني، حتى إذا قضى منها وطرًا تركها وشأنها تقاسي العذاب
الأليم.
يا أيها الوالدان لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في
المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال،
أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد، لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج
من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر
أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت وكثير من
السيدات المعرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا
أضعاف ما نرى الآن، لقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في
الإمكان، حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلن البنت زوجة ما لم تكن
مجربة، أي عندها أولاد من الزنا ينتفع بشغلهم! ! ! وهذا غاية الهبوط بالمدنية، فكم
قاست هذه المرأة من مرارة هذه الحياة حتى قدرت على كفالتهم، والذي علقت منه لا
ينظر إلى أولئك الأطفال ولا يتعهدهم بشيء، ويلاه من هذه الحالة التعيسة، تُرَى من
كان معينًا لها في الوحم ودواره، والحمل وأثقاله، والوضع وآلامه، والفصال
ومرارته) اهـ.
وحاصل القول: إن الرجال هم الذين أغووا النساء وأفسدوهن في جميع البلاد؛
لأنهم القوَّامون عليهن بمقتضى الفطرة، فأما أهل أوربا فهم أحياء يشعر أفرادهم
بأمراض شعوبهم وأممهم، فيصيحون ويتألمون وستفتك بهم أدواء المدنية حتى
تضطرهم إلى معرفة سائر أصول الدين الإسلامي وفروعه، وهم الآن على كثير
منها وهنالك الكمال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) وهو الآن غير متبين لهم لما عليه من الحجب الكثيفة، وأكثفها
المنتسبون إلى هذا الدين وما هم عليه من التقاليد التي ليست منه، بل هي مناقضة
له، وأما المسلمون فقد أصابهم خدر بطل معه ذلك الإحساس والشعور الكلي والنعرة
الملية؛ حتى كاد اليأس منهم يغلب على الرجاء فيهم، لولا أننا نرى بعض الأفراد
ينقهون فيصيحون ويتألمون ويتوجعون ويتململون، فإذا كثروا وقوي حزبهم فهم
الذين يربُّون الأمة ذكرانًا وإناثًا، يربُّون النفوس بآداب دين الفطرة القويم،
ويأخذون من نتائج علوم المدنية الغربية وفنونها ما ثبتت منفعته وأمنت مضرته،
وكل ما أخذ به المسلمون في مدارسهم من تعليم البنات فهو ناقص وفيه مضرات
كثيرة؛ لأن زمامه ليس في أيدي علماء الدين، ولن يكون في أيديهم إلا إذا أتقنوا
جميع ما يُعَلَّم في المدارس؛ ولكن العلم خير من الجهل على كل حال، وكل هذا
ممهد لما أُعِدَّ لهذه الأمة في الاستقبال، ونسأل الله التوفيق لحسن الخاتمة والمآل.
__________(4/481)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة الدينية
عموم البعثة وعموم اللغة
(1) من أحمد أفندي الألفي في أبي كبير: معلوم أن رسالة نبينا صلى الله
عليه وسلم عامة للناس كافة، فهل من مقتضى ذلك أن يكون عليه الصلاة والسلام
عالمًا بكل لغات واعتقادات وآداب وعوائد من أُرسل إليهم؟ إن قيل لا فبماذا
نجاوب من لا يسلِّم بذلك وقد يجد من العقل معينًا، وإن قيل نعم فما الدليل؟ وإذا
كان القرآن داعيًا الناس كلهم لعبادة الله تعالى ولدينه القويم الذي ارتضاه لهم لئلا
يكون للناس على الله حجة فلماذا نزل باللسان العربي فقط؟ ولماذا حُرِّمت ترجمته؟
وكيف يُطلب من الناس كلهم أن يكونوا مسلمين مع أنهم لم تبلغهم الدعوة إليه؛ إذ لا
مبشرين ولا داعين إليه من أهله؟ ألا يكون هذا عذرًا لمن لم يسلم؟ إن قيل لا فما
هي حجة الله عليهم؟ أرجو الإجابة عن ذلك في المنار بما يزيح الشبهة ويضيء
معه نور الحقيقة لا زلتم حامين حمى الحقائق الإسلامية بقوة البرهان.
(ج) قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وقد اختلف المفسرون في المراد بقوم النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم، فقيل: قريش وقيل: مضر وقيل: العرب، وبنوا على هذا أنه كان
يعرف لغات القبائل، ويخاطب أهل كل قبيلة بلسانهم، وزعم بعض من يستحل أن
ينسب إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كل ما يعتقده تعظيمًا، وإن كان لا
دليل عليه أنه عليه السلام كان يعرف جميع اللغات؛ لأنه أُرسل إلى جميع الأمم، وأن
ذلك من معجزاته ليُحَدِّث الناس بما يعلمون، واستدلوا على ذلك بما ذُكر في بعض
الكتب من أنه كلم بعض الفرس وبعض الحبشة بلغتهم، ولو صح ذلك لكتب الدعوة
إلى الملوك بلغاتهم؛ ولكن المنقول أنه كتبها بالعربية بلا خلاف.
معرفة اعتقادات المرسل إليهم وآدابهم وعوائدهم ليست من محل الشبهة؛
وإنما محلها اللغة على أن الله تعالى علَّم نبيه ما اقتضت الحكمة أن يعلِّمه من عقائد
أهل الكتاب المجاورين للبلاد التي بُعث فيها {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) وكان يعرف ما عليه قومه
بالاختبار، ومتى قامت الحجة على قوم الداعي وعلى الذين يلونهم واهتدوا إلى
الحق، فإقامتها على غيرهم تكون أسهل وقبول هؤلاء لها يكون أقرب لوجهين،
أحدهما أن الناس أميل إلى اتباع ذي القوة والعصبية وقبول الدعوة التي أخذ بها
كثيرون من نوعهم منهم إلى اتباع رجل مفرد يقول إنه مصيب وحده وسائر الناس
مخطئون، وثانيهما أن أهل الكتاب كانوا أشد من سائر الأمم تمسكًا بدينهم وإعجابًا
به. وقد دخل في دينهم كثير من المشركين والوثنيين، فمتى أسلموا فالآخرون أقرب
إلى الإسلام.
الأمور العامة إنما تكون بالتدريج، فلو فرضنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام
كان عالمًا بجميع اللغات فهل من الممكن أن يخاطب العرب والروم والفرس والقبط
والبربر والإفرنج والهنود والصينيين وغيرهم من الأمم ويدعوهم ويعلِّمهم الدين في
وقت واحد، كلا وإنما الممكن هو ما فعله النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
ومعاذ الله أن يقصِّر في أداء وظيفته العظمى (التبليغ) أو يدخر وسعًا.
والذي فعله هو أنه بلَّغ الأقرب فالأقرب، أنذر عشيرته الأقربين وأقام الحجة
على قومه أجمعين، وكتب إلى الملوك والأمراء المجاورين؛ لأنه ما من ملك إلا
وعنده من يترجم له جميع ما يكتب إليه؛ ولأن دعوة الملك دعوة لأمته ورعيته؛
ولذلك كتب إلى ملك الروم (فإن توليت فعليك إثم الإريسيين) وكتب إلى ملك مصر
(فإن توليت فعليك إثم القبط) وهكذا.
وههنا يقال: لو أجاب هؤلاء الملوك الدعوة وآمنوا مع أقوامهم، فهل كان
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمهم الدين بلغاتهم أم بلغته العربية؟ فإن كان
يرضى ببقائهم على لغاتهم فهل يأمر بترجمة القرآن، وهل يرجى أن يفهموا الدين
بذلك حق الفهم؟ وإن كان يُلزمهم بتعلم العربية فلماذا لم يعهد هذا الإلزام من
الصحابة ولا من غيرهم من الخلفاء والملوك، وقد كان الأعاجم يدخلون في دين الله
أفواجًا، ولم يُنقل إلينا أن أحدًا من أصحاب السلطة ألزمهم بتعلم العربية، ولم
يشتهر عن الفقهاء القول بوجوب ذلك، والمعروف أن الجميع كانوا يكتفون بإيمانهم
ويتركونهم وشأنهم.
والجواب عن هذا كله يُعْرَف من سير الإسلام مع اللغة في القرون الأولى،
ومن كلمة قالها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في كتاب (الأم) فقد بحث في
المسألة ورجَّح وجوب تعميم العربية ووجوب تعلمها على كل مسلم ليفهم القرآن
الكريم الذي هو أصل الدين، أما سير الإسلام مع اللغة فقد كان من العجائب التي لم
يعهد لها نظير في التاريخ، لم يمض على انتشار الإسلام في بلاد الروم والفرس
وبلاد أفريقيا وغربي أوربا إلا زمن يسير حتى علت اللغة العربية على لغات هذه
الأمم، بل نسختها كما تنسخ آية النهار آية الليل من غير مدارس ولا معلمين
ينصرفون إلى تعليم اللغة، فهذا دليل على أن الصحابة الكرام ومن اهتدى بهديهم
من الفاتحين كانوا يلقِّنون الناس الدين على وجه يبعثهم على تعلم العربية من أنفسهم
وما كان ذلك الانتشار السريع إلا بهذا الوازع النفسي الذي يفعل ما لا تفعل
السياسة ولا المدارس، وما أوقف هذا السير إلا ضعف الدول العربية ووثوب
الأعاجم على عروشها، وإفتاء علماء الأعاجم بجواز العبادة وقراءة القرآن والذكر
في الصلاة باللغات الأعجمية.
ومن المسائل المفيدة في هذا المقام أن ما يكون به الإنسان مسلمًا في الجملة
شيء سهل بسيط يمكن إيصاله إلى كل عربي وعجمي في وقت قصير؛ ولكن نمو
الإسلام وفهم ما جاء به من الحكم والمعارف التي ترقي النوع البشري يتوقف على
معرفة العربية حق المعرفة، وفهم المسلمين للقرآن وكونهم أمة واحدة يتحدون في
مقومات الأمم التي يمكن الاتحاد فيها وأهمها الدين واللغة، وهذا الإصلاح
الاجتماعي الذي جاء به الإسلام وهو السعي في وحدة أمم الأرض باتفاقهم في اللغة
والدين، هو الذي توجهت إليه أخيرًا أنظار فلاسفة أوربا ودولها القوية وكل واحدة
منها تبذل الملايين لأجل تعميم لغتها، ولم يكن المسلمون في عصر من الأعصار
متنبهين إلى أنه من واجبات دينهم؛ لأنهم لم يتوسعوا في علم الاجتماع البشري
الذي هو علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودين الإسلام فيه أكمل الأديان؛ وإنما
كانت تأتي المسائل الجزئية منه في تضاعيف كلام بعض الأئمة عندما يتكلمون في
الفقه ونحوه، فلا ينتبه لها الآخرون؛ لأن الناس في كل عصر لا يأخذون من الدين
ولا من كتب العلم إلا ما يناسب استعدادهم وأحوالهم الاجتماعية، ولو قال قبل اليوم
أحد إنه يجب السعي في تعميم اللغة العربية وينبغي للعلماء مطالبة حكوماتهم بذلك
لقال الأكثرون إن هذا من الحرج الشديد الذي لا يجب في الدين.
وقد كنت صرحت في مقالات الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة
الإسلامية التي نُشرت في أعداد المجلد الأول من المنار، بأنه لا بد في الإصلاح
الذي يعيد مجد الإسلام من تعميم اللغة، واحتججت على هذا ولم أتجرأ على
التصريح بأنه واجب ديني؛ لأنني لم أكن اطلعت على نص الإمام الشافعي في ذلك
وهؤلاء المقلدون لا يقتنعون بالأدلة والبراهين؛ وإنما يقتنعون بكلام الميتين وإن
لم يكونوا مجتهدين.
أما الدعوة إلى الإسلام فتختلف في هذا العصر عن العصر الذي ظهر فيه
الإسلام من وجوه كثيرة يفهمها اللبيب ويطول شرحها الآن، وعليه فلا بد للمسلمين
وليس لهم دول إسلامية تحمي الدعاة وتنصرهم أن يعتبروا بسير الدول القوية التي
تنصر الدعاة إلى دينها في الدعوة إلى الإسلام فهم أولى بذلك منهم، وقد شرحنا
شروط الدعوة وآدابها في مقالات سابقة، فليرجع إليها السائل ومن شاء في المجلد
الثالث.
وأما من لم تبلغه دعوة الإسلام على وجه صحيح يحرِّك إلى النظر، فليس
بمؤاخذ عند الله تعالى، كما صرح به المتكلمون والله أعلم وأحكم.
***
الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية
(2) من محمد أفندي الصعيدي ماهر في فوه - غربية.
قال بعد إطراء علينا وعلى المنار وتعريض بأدعياء العلم:
أجمعت الأمة على أن القرآن الشريف هو كلام الله تعالى، وكذا الأحاديث
القدسية التي رواها نبينا عليه الصلاة والسلام عن ربه جل وعلا؛ ولكن من يقارن
بين القولين - القرآن والأحاديث القدسية - يرى أن بينهما فرقًا عظيمًا بينًا من
حيث الفصاحة والبلاغة في العبارة والمتانة في التركيب، فقد أجمع الكل على أن
القرآن استوفى شروط البلاغة حتى صار معجزًا يقف بإزاء آياته المعجزات كل
إمام في البلاغة، سواء كان مسلمًا أم غير مسلم خاضعًا عاجزًا ناظرًا إليها بعين
المهابة والإجلال، مقرًّا بأن ليس له في لجَّة هذا البحر الزاخر مسبح، ولا في
ساحله مسرح، بخلاف الأحاديث القدسية فإنه وإن كانت في أعلى درجات البلاغة إلا
أنها ثانوية بالنسبة للقرآن، فإذا كان قائلهما واحدًا وهو الحق جلت قدرته فلماذا لم
يكونا في منزلة واحدة وعلى نمط واحد؟ فإذا جاءنا من أنكر أن تلك الأحاديث من
كلامه تعالى، وادَّعى أنها ليست مروية عنه سبحانه بدليل عدم مماثلتها للقرآن
فبماذا نجاوبه وبأي دليل نقنعه؟
هذه مسألة جالت في خاطرنا فلم نجد بابًا لحلها غير عرضها على غزير
علمكم، وواسع اطلاعكم، فأرجو نشرها في مناركم الزاهر مع الإجابة عليها كما
عودتمونا في مثل هذه الأحوال، والله نسأل أن يديمكم ملجأ للعلم، وعضدًا قويًّا
للدين والملة الحنيفية بمنه وكرمه.
(ج) إنما يفهم هذه المسألة من يفهم معنى الوحي كما ينبغي، وقد تقدم
الكلام عنه في درس الأمالي المدرج في الجزء الخامس بقدر ما يسمح به الزمان
والمكان، ونقول الآن: إن الوحي - وهو كما مر: إعلام لله تعالى نبيه شيئًا بطريق
خفي غير الطرق التي يستفيد بها العلم سائر البشر - له طرق وكيفيات منها أن
يلقي الله في قلب النبي بواسطة مَلَك أو بغير واسطة، معنى من المعاني فيعلم أنه
من الله تعالى لا من الخواطر العادية، فيعبر عنه بلفظ من عنده ويسنده إلى الله
تعالى؛ لأنه هو الذي أوحاه إليه بلا ريب عنده ولا شك، ومن هذا القبيل الأحاديث
القدسية، وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يقوله النبي في الدين منه، أي أنه
وحي وإن لم يسند إلى الله تعالى، وجعلوا هذا مفهومًا من قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ
عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وذهب آخرون إلى أن
بعض قوله اجتهاد واستنباط من الكتاب، واختلفوا هل يخطئ في اجتهاده أم لا،
فعلمنا أن للنبي في هذا النوع من الوحي العبارة عنه؛ ولذلك تجوز روايته بالمعنى
بشرطه؛ لأن لفظه ليس منزلاً.
وأما القرآن العظيم فقد نزل على قلبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظه
ومعناه ونظمه وأسلوبه، فليس له ولا لغيره أن يغير كلمة بكلمة ترادفها، أو يؤديه
بالمعنى، ولهذا كان يعجل بتلاوته ويأمر بكتابته؛ لأنه كان يخاف أن ينسى كلمة
منه أو يذهل عن ترتيبه الذي ألقي في قلبه حتى أمنه الله تعالى بقوله: {سَنُقْرِئُكَ
فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6-7) أي فلا تنسى أبدًا؛ لأن هذا
الاستثناء من مؤكدات النفي كقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا
شَاءَ اللَّهُ} (الأعراف: 188) وقوله عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107) وبقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) فتأمل كيف سمَّى الله تعالى إيحاءه إليه قراءة منه
سبحانه وتعالى، وإلقاء المعنى وحده لا يسمى قراءة، ويظهر لك الفرق بين وحي
المعنى وحده، ووحي اللفظ مع المعنى بالرؤى؛ فإن الرؤيا الصالحة للأنبياء من
الوحي، وقد يتمثل المعنى للرائي بصورة محسوسة فيعبر عنه بلفظ يناسبه، كما
عبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن اللبن الذي رآه في المنام بالعلم، وقد
يرى الرائي شخصًا يقول له كلامًا يحفظه ويعيه بلفظه أو بمعناه فقط، وما دام
الوحي خطابًا للروح فلا فرق في حقيقته بين يقظة ومنام.
ولما خصَّ الله تعالى هذا النوع من الوحي الذي سماه قرآنًا بهذه الخصوصية،
ولم يجعل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيه عملاً ولا كسبًا إلا بتبليغه والعمل به
كما أنزل ليكون آية بينة على صدقه ومعجزًا للبشر - والنبي منهم - ومحفوظًا
إلى الأبد جعل له أحكامًا خاصة به، منها حرمة مسِّه للمُحْدِث وحرمة قراءته على
الجنب وحرمة روايته بالمعنى، وعدم جواز الصلاة بغيره، والأجر على تلاوته
لأنها عبادة، حتى ورد أن للقارئ بكل حرف عشر حسنات، وذهب بعض العلماء
إلى حرمة بيعه وبعضهم إلى كراهتها، وهذا القدر كافٍ في الفرق بين القرآن
الكريم، والأحاديث القدسية في الكنه والحكم، والله تعالى أعلم.
***
حكم الأعطار الفرنجية
(3) من محمد أفندي عباس السمرة ببولاق: هل التطيب بالأعطار الإفرنكية
مع علمنا بأنها ممزوجة بالكحول مبطل للصلاة أم لا؟ نرجوكم إفادتنا بلسان منار
الإسلام ونشكر لكم سلفًا.
(ج) النجاسة هي ما تستقذره الطباع السليمة، وهو قسمان: قسم قذارته
خفيفة كالبصاق، وقسم قذارته شديدة كالبول والغائط وهو النجس، وقد أمرت
شريعتنا الغراء بالنظافة والتطهر من النجاسة، وأكثر أئمتنا وعلمائنا على أن
الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب أو المصلَّى، وقد اختلفوا في تعداد
النجاسات التي يجب اجتنابها في الصلاة؛ لأنه لم يرد نص من الشارع بتحديدها
بالعدد للذين كانوا يدخلون في الإسلام ويتعلمون العبادة الواجبة، ثم ينقلبون إلى
باديتهم التي ليس فيها علماء كحديث الأعرابي المشهور، ولم يكن في زمن التشريع
ولا في أزمنة الأئمة المجتهدين شيء يسمى الكحول فينص فيه شيء؛ لأن علم
الكيمياء لم يكن له وجود، ونسمع عن كثير من الناس القول بنجاسة الكحول
ونجاسة كل ما فيه شيء منه، ويحتجون على هذا بأنه هو سبب الإسكار في الخمر
وهي نجسة عند أكثر أئمة المسلمين وعلمائهم، وهذا الاستنباط والاجتهاد معارض
بوجوه:
(أولها) : أنه لا دليل على نجاسة الخمر نفسها في اللغة، ولا في الكتاب
والسنة وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ
رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90) لا يدل على نجاستها؛ لأن الرجس مع
كونه ليس نصًّا في النجاسة محمول عليها وعلى الميسر والأنصاب والأزلام، وهذه
الأشياء غير نجسة بالإجماع، هذا ما يقال لمن يسلك في القول بالنجاسة مسلك
الاجتهاد والاستنباط.
(2) سلَّمنا أن الخمر نجسة تقليدًا للقائلين بذلك من غير أن نعرف لهم دليلاً
مقنعًا؛ لكننا لا نسلِّم أن العلة في نجاستها وجود هذه المادة الكيماوية فيها؛ لأن هذه
المادة ليست قذرة تعافها النفوس السليمة، فتكون هي الجزء النجس، بل هي من
المطهرات التي تزيل ما لا يزيله الماء مع الصابون من الأقذار والنجاسات؛ ولأن
هذه المادة لم تكن معروفة للمجتهدين الذين قالوا بنجاسة الخمر؛ ولأن أحكام دين
الفطرة مبنية على الأمور الظاهرة لجميع أصناف الناس الذين دعوا إليه لا على
دقائق العلوم الطبيعية المختصة بصنف من الناس.
(3) إذا كانت رجسية الخمرة ونجاستها معنوية، كما هو الظاهر على حد
{إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: 28) لتأكيد اجتنابها والبعد عنها، فلا تعلق
لهذه المسألة بالصلاة إلا من حيث اجتناب قرب الصلاة للسكران، وإن كانت
نجاستها حسية كما هو المعروف عن الفقهاء القائلين بذلك بمعنى أنه يجب تطهير
الثوب والبدن إذا أصابه شيء منها فالأمر لا شك تعبدي، والتعبدي لا يبحث في
علته ولا يقاس عليه وإنما يمتثل فيه ظاهر النص.
(4) إن هذا الكحول يوجد في غير الخمرة من الأشربة والأدوية والأعطار
القديمة غير الإفرنجية وغير ذلك، فإذا كان قولهم إن كل ما فيه مادة الكحول نجس
فعلينا أن نحكِّم الكيماويين في معرفة نوع النجاسة المحرَّمة شرعًا، ونأخذ بأقوالهم
وإن كان لا يسلم لنا شيء من النجاسة.
(5) إذا قالوا: إن الخمر نجسة العين، فاللازم في اتباعهم اجتناب هذا
الشراب المسكر الذي يسمى خمرًا والتطهر منه، وليس علينا أن نحلل بسائطه
ونقول إن كل عنصر منه يوجد في شيء آخر نحكم على ذلك الشيء بحكمه؛ لأن
جزء نجس العين نجس؛ فإن هذه فلسفة لا تليق بالحنيفية السمحة؛ ولأن الأحكام
إنما هي على هذه المركبات، وهذا العطر ليس خمرًا.
(6) إن النجاسات المجمع عليها كبول الإنسان وغائطه مركبة من عناصر
كيماوية توجد في كل طعام وشراب؛ وإنما القذارة من التركيب المخصوص على
النسب المخصوصة.
(7) المعروف في محاسن أصول الشريعة أن الأحكام تدور مع العلل
وجودًا وعدمًا، فإذا حُرِّمت الأشربة المسكرة التي كانت في زمن التشريع وسميت
خمرًا، فلا شك أن الأشربة التي اختُرعت بعد ذلك كالكنياك لها حكمها، وجاء
النص بحِلِّ الخل الذي كان خمرًا، وحكم الأئمة القائلون بنجاسة الخمر بطهارتها إذا
تخللت؛ لأن المفسدة التي كانت في هذا المائع واقتضت اجتنابه قد زالت، فأي
معنى للتضييق على المسلمين بمنعهم من الانتفاع به، وكذلك جلود الميتة إذا دُبِغَت
تطهر للأمن من نتنها وفسادها. وانقلاب العين ودخول النار من المطهرات في
مذهب الحنفية فإذا طُبخ الصابون بالزيت النجس يكون طاهرًا، فكيف لا يكون
العطر الذي فيه الكحول طاهرًا.
(8) أن الطيب ضد القذر، والنجاسة هي القذارة الشديدة، ومن البلاء أن
نغلو في الدين ونتعمق بالتفلسف فيه؛ حتى نعطي الضد حكم ضده، بل نجعله منه
فهذه الأعطار والطيوب الإفرنجية ليست خمرًا ولا قذرًا، ولا نعرف أيضًا عن أئمة
الدين قولاً بتحريم شيء لعلل فلسفية وتحليلات كيماوية.
(9) قد ثبت في الكيمياء أن هذا الكحول يوجد في غير هذه الأعطار من
الأكل والشرب والدواء، لا سيما المتخمر منها كالعجين وغيره كما تقدم، فإذا
حكمنا بنجاسة كل ذلك نوقع الأمة في أشد الحرج، والحرج كله منفي بالنص ولا
مرجح للقول بنجاسة هذه الأعطار دون غيرها، هذا وإننا نرى كثيرًا من أهل العلم
يتعطرون بهذه الطيوب بعلة أنها مجهولة الأصل، وأن قول الكيماويين غير معتبر
شرعًا، وعندنا أن قول الكيماويين يقيني؛ لأنه مبني على المشاهدة ومتواتر عنهم
بالنسبة إلى غيرهم.
لا شك أن السائل سألني عن بيان رأيي في هذه الأعطار، وعن مدركي فيه،
وقد بينته له بحسب فهمي في الدين ومعرفتي بأحكامه، فإن أصبت الحق فبتوفيق
الله تعالى وفضله، وإن أخطأت فلا بدع أن يخطئ غير المعصوم، وقد بذلت
طاقتي وجهدي في معرفة الحق، والله غفور رحيم.
__________(4/493)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
ننشر في هذا الباب نبذًا وجيزة من الفنون الطبيعية بعبارة سهلة التناول على
طلاب الأزهر وأضرابهم الذين لا يتعلمون شيئًا من هذه العلوم، ونبدأ بهذه النبذة
لأحد إخواننا الفضلاء وهي:
(الثلج المصنوع)
تمهيد: أحوال الأجسام:
أجزاء الأجسام الصغيرة جدًّا التي لا تقبل الانقسام بينها تجاذب وتنافر، فإذا
تغلب الجذب على النفور كان الجسم صلبًا، وإذا تساويا كان سائلاً، وإذا قوي
النفور على الجذب كان الجسم غازيًّا في قوام الهواء، وأكثر الأجسام تنتقل من حالة
الصلابة إلى السيولة، ومن السيولة إلى الغازيّة بالحرارة، وتنتقل من الغازيّة إلى
السيولة، ومنها إلى الصلابة بالضغط والتبريد، فالكبريت الذي هو جسم صلب في
الدرجة المعتادة يذوب ثم يتحول بخارًا بالحرارة، والماء الذي هو سائل في الدرجة
المعتادة يجمد بالتبريد ويصير بخارًا بالحرارة، ومتى تَمدّد الجسم بالحرارة يخف
ويتصاعد، فإذا سخن الماء على النار فالدقائق التي تسخن تصعد إلى أعلى الإناء،
ولهذه السُّنة الإلهية فروع منها حركة الهواء واختلاف الرياح.
موازنة الحرارة:
إذا تَلامس جسمان درجة حرارتهما مختلفة سرى جزء من حرارة أشدهما
حرارة إلى الثاني حتى تكون حرارتهما في حالة الموازنة، والشواهد على هذا
كثيرة منها: إذا جلس الإنسان على كرسي مثلاً أو نام في فراش؛ فإن شيئًا من
حرارة جسمه ينتقل إلى الكرسي أو الفراش فيسخن ويحس به الإنسان، ومنها أن
الداخل في حمام حار يحس بحرارة شديدة، فإذا طال مكثه فيه ضعف إحساسه
بالحرارة، وإذا انتقل من مكانه إلى آخر دونه في الحرارة؛ فإنه يحس ببرودة،
ومنها الإحساس ببرودة ماء الآبار في الصيف، وسخونتها في الشتاء مع أن
حرارته واحدة دائمًا.
الموضوع:
إذا انخفضت حرارة الماء إلى درجة الصفر؛ فإنه يجمد ويصير ثلجًا، فكل
واسطة تخفض بها حرارة الماء إلى درجة الصفر فما دونها يمكن أن تستخدم في
عمل الثلج المصنوع، وأسهل الوسائط وأيسرها وأقلها نفقة طريقة تحضير الثلج
بواسطة غاز النوشادر، ذلك أن هذا الغاز يسيل بالضغط وتنخفض درجة حرارته
إلى (40 تحت الصفر) فإذا رفع عنه الضغط عاد غازًا كما كان بعد أن يأخذ من
حرارة الأجسام الملامسة له ما يحتاجه، وعلى هذه الخاصة أسس المُعلم (كاريه)
جهازه لعمل الثلج، وهو مؤلف من قِدر يُملأ إلى ثلاثة أرباعه بمحلول النوشادر
ويوضع على النار، ويوضع بإزائه إناء فيه ماء، وفي داخله إناء آخر على شكله
في وسط الماء مغلق من جميع جهاته، وفي أعلاه أنبوبة متصلة بالقِدر الذي فيه
محلول النشادر، فإذا أوقدت النار تحت القدر أخذ غاز النوشادر في الانفصال من
محلوله وصعد فلا يجد طريقًا يمر منه إلا الأنبوبة الموصلة إلى الإناء، فيجتازها
ويصل إلى الإناء الداخل المغلق، ومتى تراكم استحال إلى سائل قابل للتطاير
بالدرجة المعتادة، فإذا نُزع القِدر من التنور الذي فيه النار، وغمر في ماء بارد
استحال النوشادر السائل الذي في الإناء المغلق المحيط به الماء إلى غاز، ويرجع
إلى القِدر ويذوب في الماء الذي كان فيه أولاً، فيتكون محلول النشادر ثانيًا، وأما
الماء المحيط بالإناء الداخل؛ فإنه يجمد في الحال ويصير ثلجًا لامتصاص النوشادر
حرارته، فيؤخذ الثلج ويوضع بدله ماء ويعاد العمل هكذا بقدر الحاجة.
***
(الانتقاد على مقدمة ديوان حافظ)
يخطئ المتطفلون على موائد العلم والأدب والكتابة في المنظوم والمنثور، فلا
يلتفت أحد إلى خطئهم، ولا يرون كلامهم أهلاً للعناية بالانتقاد، وأما فرسان الكلام
والسابقون في حلبة الفضل؛ فإن الناس يَعْدُون على جيادهم الكبو والعثار، ويعنون
بانتقادهم ويرون في ذلك فائدة وفخرًا، وسمعة وذكرًا، ومن الناس من يغلو في
النقد، فيتجرم ويتذقح ولا يرضى بجعل الهفوات من الموبقات، حتى يُعِدَّ الحسنات
من السيئات، ويغلو آخرون في نقد النقد، ورد الرد، فيجعلون الخطأ صوابًا،
والصدق كذبًا.
وإن مقدمة ديوان حافظ في علو أسلوبها وانسجام تركيبها، جديرة بعناية الناقد،
وموضع لحسد الحاسد، وقد انتقدها أحد الكتبة في بعض الجرائد الإخبارية فأبعد في
القول، ومال كل الميل، انتقد كلامه في وصف الشعر، وقوله إنه يوجد في المنظوم
والمنثور، وظاهر السياق يشهد بأن حافظًا يتكلم في روح الشعر وسره والغرض منه
بوجه عام على طريق المبالغة الشعرية، ولعمري ما الشعر إلا تخيل وتصوير،
يقصد به الوجدان بالتأثير، ليكون الكلام مقبولاً، وما يأمر به مفعولاً، وهذا هو الذي
عناه سيدنا حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال له
ولده: لسعني طائر، وكان لسعه زنبور، قال صفه لي، فوصفه بقوله: (كأنه ملتف
في بُرْديْ حِبَرَة َفقال حسان: (قال ابني الشعر ورب الكعبة) والذي عناه سيدنا عمر
رضي الله عنه بقوله: (الشعر جزل من كلام العرب تسكن به النائرة، ويبلغ له القوم
في ناديهم) وهذا ما يعنيه حافظ أفندي في مقدمته.
أصاب المنتقد في تخطئة قول المقدمة (ولقد ترجل لبيت منه جيش بالأندلس)
والصواب أن الجيش كان في أفريقيا وهو جيش المعز العبيدي صاحب مصر،
وكأن السهو جاء صاحب المقدمة من كون الشاعر أندلسيًّا - وهو ابن هانئ - فسبق
قلمه ونسب الجيش إلى الأندلس بدلاً من نسبة الشاعر إليها، وقد علمت أنه تنبه إلى
هذا قبل طبع المقدمة في الديوان فأصلحه.
وقد نبهته على خطأ تاريخي أقوى من هذا كله لم يذكره المنتقد؛ لأنه لا
يعرفه وهو نسبة الشاهنامة إلى القاآني وقوله إن أبياتها سبعون ألفًا، والصواب أن
الشاهنامة للفردوسي شاعر السلطان محمود الغزنوي وأبياتها ستون ألفًا، وهي
بمكان من البلاغة يعز الارتقاء إليه، وأما القاآني فهو شاعر متأخر مجيد.
ولم يبعد المنتقد كثيرًا في مؤاخذته صاحب المقدمة على قوله: (ولقد كان هم
الشعراء في الجاهلية مصروفًا إلى التقاط الألفاظ الغريبة) إلى آخره وغرض حافظ
أفندي أن الشعر بعد حضارة الإسلام كان أحسن ديباجة، وأسلس عبارة، وأعلى
معنى، وهذا صحيح؛ ولكنه بالغ في نسبة شعراء الجاهلية إلى العناية والتعمد في
التقاط الغريب؛ حتى جعل معانيهم في مبانيهم كالحسناء تحت الأطمار، وأقول إن
الألفاظ العربية التي كثر استعمالها بعد ظهور الإسلام أكثرها من لغة قريش؛ لأن
السبب في حفظ العربية وضبطها هو الاستعانة على فهم القرآن والأحاديث، وقد
صرنا نعد من الغريب كل ما لم نألفه في الاستعمال، وليس هذا بصواب.
هذا ما رأيناه جديرًا بالتنبيه عليه، والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فحسب حافظ
أفندي فخرًا أن ما عُدَّ عليه أقل القليل، وعلى الله قصد السبيل.
***
السينوغراف
ألعوبة الصور المتحركة
مصطفى صادق الرافعي
كيف فؤادي والهوى شاغل ... يهيجه المنزل والنازل
ما زلت أخفيه وأخفى به ... في الناس حتى فضح العاذل
فعادنا المطل وعدنا له ... رحماك فينا أيها الماطل
كل امرئ أيامه تنقضي ... لا أمل يبقى ولا آمل
وما (السنوغراف) وما مثلت ... إلا صدى ينقله الناقل
تبعث فيها أمة قد خلت ... وتجتلي في (لندن) (بابل)
كم مثلت من طلل ماثل ... فكاد يحيى الطلل الماثل
تريك من ينأى كان قد دنا ... ومن دنا كأنه راحل
كأن فيها للهوى منزلاً ... فكل قلب عندنا نازل
تلهو به عطبولة خاذل ... وقد بكت عطبولة خاذل
وعانق العاشق معشوقه ... فاجتمع المقتول والقاتل
يا ليت شعري هل رؤى نائم ... أم خطرات ظنها غافل
لا تضحك الجاهل في نفسه ... إلا بكى في نفسه العاقل
مواعظ مثلها هازل ... ورب جد جره الهازل
كالنفس إن تنس الردى مرة ... فليس ينسى الأجل العاجل
يزول ما فيها إلى عبرة ... وكل شيء غيره زائل
وهكذا الدنيا انتقاص وما ... يكون فيها فرح كامل
__________(4/504)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(انتقاد جريدة الحاضرة على الجناب العالي الخديوي)
نقلت جريدة المؤيد نبذة عن بعض الجرائد الأوربية في وصف معيشة مولانا
الخديو في مصيفه بأوربا، ومنه أنه يلبس في وقت كذا قبعة صفتها كذا، فانتقدت
لبس القبعة جريدة الحاضرة التونسية، وذكرت حظر فقهاء الإسلام لبسها بناء على
تفسيرها لها بما يلبسه الإفرنج وتسميه العامة (برنيطة) ونجيب بأنه يحتمل أن
تكون القبعة المذكورة كُمَّةً مما يعتاد المسلمون وغيرهم لبسه في بيوتهم وقت الراحة
والحظر الذي ذكروه مخصوص فيما جرت العادة بأن لا يلبسه إلا غير المسلمين،
بحيث لو لبسه المسلم لاشتبه بهم، على أنه ربما لبسها متنكرًا لغرض صحيح،
وتفصيل القول في التشبه المذموم وغير المذموم مفصل في مقالة نُشرت في المجلد
الأول من المنار فلتراجع.
***
(مفتي الديار المصرية في أوربا)
وقف هذا الرجل حياته على خدمة الإسلام في الحِلِّ والترحال، والسفر
والإقامة، فقد كان في السياحة الصيفية التي يظن أنه يصرفها في الراحة من عناء
أعماله الكثيرة مجتهدًا في هذه الخدمة التي لا يرى لنفسه راحة بدونها، كان في
الآستانة العلية يذاكر عظماء رجال الدولة كشيخ الإسلام وغيره في مصلحة
المسلمين، وإحياء علوم اللغة والدين، ويبحث في بيوت الكتب عن أحسن مؤلفات
السلف لأجل إحيائها، وكذلك كان في أوربا يزور مكتبات الملوك والأمراء
ومتاحفهم، ويطَّلع على آثار المسلمين القديمة ومفاخرهم العظيمة، ومؤلفاتهم النافعة
ويقتبس منها ما شاء الله أن يقتبس، وقد اطَّلع في مكتبة عاهل (إمبراطور)
النمسا والمجر على بعض آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كبعض كتب
عمرو بن العاص أمير مصر وغير ذلك.
وقضى في بلاد سويسرة زمنًا ينظر فيما كتبه الإفرنج على الإسلام، وما
وقفوا عليه من خط المسند، وما ظهر لهم في لغة سبأ وحمير، وإنها لخدمة إسلامية
حقيق بها من حبس نفسه على خدمة الإسلام والدفاع عنه، وقد انتهى إلينا أنه سافر
قاصدًا مصر، ويُنْتَظر أن يصل في يوم الاثنين (غدًا) منحه الله السلامة، ونفعنا
به والمسلمين.
(صدى حديث مفتي الديار المصرية مع شيخ الإسلام في الآستانة)
طار خبر هذا الحديث في المؤيد، ثم في المنار إلى جميع البلاد الإسلامية،
فتلقاه العقلاء والفضلاء بالقبول، ونشرته برمته الجرائد الإسلامية في الشرق
والمغرب ليعم نفعه، ويعرف عامة المسلمين كما يعرف خاصتهم بأن أكابر علمائهم
معترفون بأن معظم بلاء المسلمين قد جاءهم من تقصير علمائهم في خدمة الأمة
والملة.
***
(قول صاحب جريدة اللواء في الحديث)
عُرف صاحب هذه الجريدة عند الخواص وأهل الرأي بالتجاوز والشذوذ
والأفن والخطل، ومع هذا لم يشذ عن الجرائد الإسلامية المعتبرة في الاعتراف
بصدق الحديث وإصابته المرمى وقرطسته في الهدف؛ ولكنه لم يترك شذوذه
وتجاوزه الحدود عند الكلام عليه، فجعل الحديث برأيه الأفين حجة على المتحدثين
وسأل من لا ينظر في جريدته من شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية عن
خدمتهما للإسلام.
أما شيخ الإسلام فصاحب اللواء يعرف أن مولانا السلطان أيَّده الله بتوفيقه لم
يترك له ولا للوزراء استقلالاً بعمل يتعلق بالأمة، بل وضع جميع أعباء الدولة
والأمة على كاهله، فإن كان هناك تقصير فليسأل عنه صاحب الإدارة والنفوذ
المطلق، ويا ليت شعري ماذا يقول صاحب اللواء إذا سأله شيخ الإسلام عن رأيه
في الإصلاح الإسلامي الذي ينبغي أن يعمله؟ هل يشير عليه بمثل ما أشار على
مفتي الديار المصرية بأن يترك وظيفته، وينشئ مدرسة كمدرسة مصطفى كامل،
أو مدرسة الوطن، أو مدرسة باب الخلق.
وأما مفتي الديار المصرية فقد سمع الصُّم نداءه بالإرشاد إلى الإصلاح، وما
العلماء إلا مرشدون، وأبصر العمي سعيه في خدمة الأزهر الشريف والجمعية
الخيرية الإسلامية التي لها عدة مدارس كل واحدة منها خير من جميع المدارس
الأهلية، وجمعية إحياء العلوم العربية، واعترف المكابرون مع المنصفين بمروءته
وبذل جاهه وماله في خدمة المسلمين في الحكومة وغير الحكومة، ومن أعماله
القريبة تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية الذي أجمع على استحسانه العلماء
والفضلاء، وجزموا بأنه لم يحاب الحكومة في إظهار خطأها، وأنه شخَّص الداء،
وبيَّن الدواء، ووصف طريق العلاج؛ ولكن صاحب اللواء في مصر لا يسمع ولا
يبصر، ولا يحس بهذا كله ولا يشعر.
عرَّض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة
الفتنة العرابية، ويعرف المتهورين فيها والناصحين لهم بالاعتدال، هو لا يعرف
ولا يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكاتبين، وعند
ذلك تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل
الكبير العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية
في القسم الأدبي منها، على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين
يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا،
ويسمع من أتباعه ما يكره، وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم
في زعماء الثورة العربية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم، وأن يقوم فيهم خطيبًا،
ماذا كان موضوع خطبته؟
كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن
القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطانها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين
الرعية إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح
والتربية النافعة وصار لهم رأي عام، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن
الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواتهم بسائر الناس، وإزالة
امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك، فكيف
حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) : فهل تغيرت سنة الله في
الخلق، وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ له أحد من
العالمين؛ حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في
جاهكم ومجدكم، وتساوون الصعاليك حبًّا بالعدالة والإنسانية؟ أم تسيرون إلى حيث
لا تدرون وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا
ينغضون رؤوسهم، وعلا على أفهام الآخرين.
هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين، ولو كانوا
يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم؛ ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم
في ذلك الوقت، ولما تستعد إلى الآن اللهم إلا نفرًا من فضلاء النابغين هم محل
الرجاء لنهضة المسلمين، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض رحمه الله
تعالى:
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ... ولكنها الأهواء عمّت فأعمت
ومما أضحك الناس من كلام صاحب اللواء نصحه لمفتي الديار المصرية بأن
يترك وظائفه ويشتغل بتأسيس مدرسة وطنية، وقالوا إن هذا القول حجة لأصحاب
المقطم فيما يلقبونه به، سبحان الله: هل كان يخطر في بال عاقل أن صاحب
جريدة يطيع وسواسه في كتابة مثل هذه الكلمة، ويقول لرجل يخدم الأزهر وهو
أكبر مدرسة في العالم، ويرأس جمعية لها عدة مدارس بأن يترك وظائفه وهي
الإفتاء والأزهر والأوقاف والجمعية الخيرية وجمعية إحياء العلوم العربية والشورى
وإصلاح المحاكم ويبني مدرسة أهلية كمدرسة مصطفى كامل ينفق عليها من
الاستجداء والنصب؛ فإنه إذا ترك وظائفه لا يبقى له مال يكفي لنفقات بيته ونفقات
المدرسة.
***
(إصلاح عظيم في مدرسة خليل أغا)
اجتمع مجلس الأوقاف الأعلى في يوم الثلاثاء الماضي برئاسة صاحب السعادة
الفاضل عبد الحليم باشا عاصم واتفق على إنشاء قسم في مدرسة خليل أغا يسمى
القسم الخاص، يعلم فيه التفسير والأخلاق والخطابة ولوازمها، ويكون منه خطباء
وأئمة المساجد في القطر المصري، ويؤخذ بعض تلامذته من نجباء المجاورين في
الأزهر الشريف، وهذا أعظم إصلاح تقوم به هذه المدرسة بدلاً من الأزهر، واتفق
على إنشاء قسم تجهيزي فيها من ابتداء سنة الدراسة وهو شهر أكتوبر الآتي،
وعلى إنشاء قسم صناعي تعلم فيه الصنائع النافعة يستعد له في هذا العام استعدادًا،
ويرجى أن ينشأ فعلاً في العام الآتي حقق الله ذلك، وعلى قبول مائة تلميذ في القسم
الابتدائي من المدرسة بنفقات قليلة زيادة على تلامذتها الذين يُعَلَّمون كلهم مجانًا،
وعلى إعطاء جميع أدوات التعليم وكتبه لفقراء اليتامى من التلامذة، وعلى زيادة
مرتب النبيه الفاضل عزتلو حسن بك صبري مفتش المدرسة ومدير نظامها،
والأستاذ الفاضل الشيخ حسن منصور معلم الدين والعربية فيها وبعض المستخدمين،
جعل الله هذه المدرسة ينبوعًا من ينابيع السعادة لهذه البلاد بهمة القائمين بشؤونها
وعنايتهم، وجزاهم الله تعالى على سعيهم أفضل الجزاء.
***
(إسلام بيت من الفرس في الهند)
كتب إلينا أحد أصدقائنا من علماء الهند الفضلاء بأن بيتًا من بيوت الفرس فيه
ستة نفر تركوا الملة الزرادشتية، وتشرفوا بالدخول في الملة الحنيفية، وقد سبقهم
إلى ذلك أهل بيت آخر من أقاربهم المثرين منذ عامين، وأن بيوتًا أخرى منهم
عازمة على الدخول في الإسلام، ومنها من أسلم ولكنه يكتم إسلامه لأسباب
دنيوية، كل هذا بدون دعوة ولا ترغيب ولا ترهيب؛ وإنما هو محض الاقتناع
بحقية الإسلام، وههنا يشدد صاحبنا النكير على علماء المسلمين لإهمالهم الدعوة
إلى الإسلام، وتربية أمة من طلاب علوم الدين على ذلك، وتعليمهم ما يُحتاج إليه
ولا نذكر ما كتبه لأننا وفينا هذا الموضوع حقه من قبل؛ ولكننا نذكر كلمة قالها
في أغنياء المسلمين المقصرين في خدمة الإسلام وهي:
(ومن أشد ما يتأسف عليه أن الأغنياء منا مع أنهم يبذلون ألوفًا، بل مئات
الألوف في استيفاء اللذات الحيوانية، والمشتهيات الشيطانية، والمغالاة في
الأعراس والوليمات، ويعطون أموالاً كثيرة للقِحاب والغانيات، لا يتحرك فيهم
عرق الحمية، والغيرة الإسلامية، إذا رأوا إنسانًا كان معززًا في قومه مرفه الحال
يُسْلِم، فيموت جوعًا، أو يضطر إلى الشحاذة رغم أنفه، فيجلب رزءًا فوق رزء،
ويجعل الدين منه عرضة التهم، هذا حال المسلمين، والمسيحيون قد يبذلون
لإشاعة دينهم في كل سنة ألوفًا وملايين، ويرسلون الوفود والدعاة إلى أقطار
الأرض من الغرب إلى الشرق، ومن القطب إلى القطب ويتحملون النفقات التي لا
تحصى والمشاق الشديدة على أنهم قلما يحصلون على طائل في ترويج بضاعتهم،
فليت المسلمين ينتبهون للقيام بهذا الواجب الأهم، والتعاون عليه بفضل قلم أو قدم،
وبذل دينار أو درهم، اتقوا النار ولو بشق تمرة و {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) .
***
(وفاة الطبيب عبد المجيد خان حاذق الملك الدهلوي)
نعت إلينا المكاتب الخصوصية من الهند وفاة هذا الطبيب النطاسي الشهير،
والعلامة الكبير، وعلمنا أن تأثير فقده كان عظيمًا في الممالك الهندية، ورث الفقيد
هذه الصناعة عن أبيه وجده، وبرز فيها على الأقران علمًا وعملاً، ولقَّبته الدولة
البريطانية بحاذق الملك، وكان صدر الجمعية الطبية في دهلي، وكان يعلم الطب
والتشريح ويعطي الطلاب الفائزين في الامتحان ما استحقوه من الإسناد، وممن
رثاه صديقنا العالم الأديب الشيخ أحمد الجيتكر رحمه الله تعالى.
***
(حيل الإفرنج وخيانتهم)
جاءني في العام الماضي رجل فرنسوي، وألح علي بالاشتراك في كتاب
(الدليل المصري) الذي يؤلفونه بالفرنسوية، فأبيت عليه أولاً لعدم حاجتي إلى الدليل
في مصر، وعدم انتفاعي بذكر إدارة المنار فيه، إذ لا غرض لي في معرفة
الإفرنج بها، فألح كثيرًا حتى أجبته فأخذ مني نصف ريال مصري سلفًا، وأعطاني
وصلاً، ثم جاءني بالكتاب بعد طبعه وأخذ نصف ريال آخر تتمة ثمنه، ثم جاءني
بعد مدة وقال إنه اختلف مع بعض المحامين في ذكر اسمه في الكتاب، ويحب أن
يستعيره مدة خمس دقائق ليطلعه على اسمه، فصدقته وأعطيته الكتاب فأخذه ومر
شهر في إثر شهر ولم تنقض الخمس الدقائق؛ لأن دقائق المحتالين لا نهاية لها،
فتعسًا لمصري يثق بهؤلاء الإفرنج ويأتمنهم.
***
(كلمة جريدة مع فضيلة شيخ الأزهر)
كتبت جريدة أسبوعية مقالة تخاطب بها شيخ الأزهر، وتنذره بأنها (تعرف
أن تُسْمِع كلامها في محلات أخرى إذا كان ثمت مشاغل عند فضيلته) وتذكر له أن
وظيفته لا تنحصر في إدارة الأزهر، بل تعطيه حق النظر العام على كل ما يخالف
الشرع من الأمور التي ابتعد عنها القانون، وعلى هذا لا بد لمشايخ الأزهر من
الاطلاع على القوانين ليعرفوا اختصاص وظيفتهم، ثم تذكر إهانة قراء القرآن
الكريم له بالتغني به والاستجداء بقراءته حتى في الطرق، وتقول في إثر ذلك
(فإغضاء فضيلتكم على عدم منع هاتيك المخازي المشوشة لوجه الدين مما تقوي
ححة خصومكم، ولا تمكن جريدة مثل هذه من الدفاع الواجب عليها بالنسبة لعالم
عظيم مثل فضيلتكم) وما كنا نعلم قبل هذا أن لشيخ الأزهر خصومًا، وأنه اتخذ
هذه الجريدة مدافعة عنه بسببهم أو يحتاج إليها لذلك؛ ولكننا علمنا أن بعض المشايخ
القضاة الشرعيين نشر فيها نبذة بتوقيع أحد تلامذته يرد فيها على مجلة انتقدت عليه
ويعظِّم نفسه حتى حلاها بلقب الإمام، وانتقص سائر علماء الأزهر الكرام.
ثم قالت الجريدة (يلزم فضيلة الأستاذ أن يعترف معنا جهارًا بأن سيرة
الأزهريين ليست مقبولة ولا ممدوحة) وذكر أن طلاب الأزهر الذين يمثلون أحكام
الشرع الإسلامي، ويكونون علماء الغد (يراهم الإنسان في الجهات المسترذلة
الممقوتة يتعاطون المسكرات، ويصبون على المسلمين بأزيائهم قبيح اللعنات) إلى
غير ذلك من الطعن الفاحش، ثم ذكرت أنه طالما دافعت عن مركز الشيخ وقالت
لكنها لا يمكنها الصبر على ما تشاهد من طلبة الأزهر وعلمائه ومستخدميه، وقد
صبرت مدة طويلة أملاً في أن فضيلتكم تأمرون بإزالة المنكرات الحائمة حول الدين
الإسلامي؛ ولكنها لما لم تجد انتباهًا انتهزت فرصة) ... إلخ.
(المنار)
هذا بعض ما جاء في تلك الجريدة وقالت إنه بعض من كل، والناظر فيه
يتوهم أن حانات الخمر ومواخير الفحش أمست محشوة بعلماء الأزهر
وطلابه ومستخدميه، وحاش لله أن يكون هذا صحيحًا، نعم إن صاحب تلك
الجريدة أعلم منا بذلك؛ لأن عبارته تدل على أنه رأى بعينه، ونحن لا نعرف تلك
المواضع النجسة ولا نراها؛ ولكننا سمعنا أن شيخًا واحدًا من علماء الأزهر يختلف
إليها، وأنه مع ذلك لا يأتي فاحشة إلا بتأويل وتحليل، ومن ذلك أن يعقد نكاحه
على بعض البغايا بشهادة بعض القوَّادين، وهذا الشذوذ من رجل واحد لا يصح أن
يحمل إطلاق القول في الطعن بالعلماء، ورميهم بما رمتهم به تلك الجريدة، وأما
المجاورون فلا شك أن من لم يترب في بيته تربية إسلامية؛ فإن الأزهر لا يفيده
في التربية شيئًا، لا سيما في أول الأمر؛ لأنه ليس في الجامع إلا قراءة هذه الكتب
المعروفة في النحو والفقه وغيرهما، وليس فيه ملاحظة الأخلاق والآداب، ولا
الحمل على العمل بالعلم، ومع هذا نرى طلاب الأزهر أبعد أصناف الناس الذين
يقيمون في هذه المدينة الفاسقة عن السكر والفحش؛ ولذلك أسباب منها كثرة عنائهم
بالاشتغال لصعوبة طريقة التعليم وكثرة الدروس ومنها الفقر المدقع، وأكثر ما ينتقد
عليهم الوساخة ومهانة النفس وجفاء الطبع في الكثيرين أو الأكثرين، فإذا شذ من
هؤلاء الألوف من المجاورين نفر قليل فلا يُوجِب شذوذهم هذا التشهير، وقد
صدقت تلك الجريدة في لومها شيخ الجامع على التغاضي عن البحث عن أخلاق
الطلبة وقولها مخاطبة له: (وتزيد غرابتنا عندما نرى بعض العلماء يشاركون
الطلبة في كثير من الأمور المخلة بشرف العلم، كترددهم على بيوت الذوات،
وتملقهم البارد لكل من يظنون فيه الغنى، فهل ترى فضيلتكم أن سكوتكم عن القيام
بما يُطلب منكم دينًا وعقلاً ممدوح من الناس) .
وكنا نود أن هذه النصيحة أُرسلت إلى فضيلة الأستاذ في كتاب مخصوص،
أو ألقيت إليه شفاهًا، وإذا مر زمن ولم ير لها أثر فلصاحب الجريدة أن ينشر ذلك
من غير مبالغة ولا إغراق، وليعلم صاحب هذه الجريدة أن ذلك الأستاذ الذي كان
يطريه بالمدح أولاً، ثم صار يخوض فيه بإغراء المغرورين هو الذي لا ينفكّ
ساعيًا في حفظ كرامة أهل الأزهر، ومنعهم من كل ما يَشين؛ ولكن بعض المشايخ
يعارض الإصلاح بحجة أن هذا تحكم بالناس وسيطرة عليهم، أي أن التربية
تعارض الحرية فلا حاجة إليها.
وقد كتبنا ما كتبنا آسفين؛ ولكن لم نر مَنْدُوحة عن المُدافَعة عن هذا المكان
الشريف الذي نود أن يكون في أعلى الدرجات، وكون الطعن مبالغًا فيه لا يمنع
مولانا شيخ الجامع أن يجتهد في أن لا يجعل لأحد مجالاً للكلام، وتفويق السهام،
بل ذلك مقتضٍ للاجتهاد، والله بصير بالعباد.
***
(كلمة أخرى عن فضيلة شيخ الأزهر)
ينشر المؤيد مقالات في الناشئة الإسلامية، وكان منها مقالة للشيخ عبد المجيد
صالح العدوي من نبهاء مجاوري الأزهر، ذكر فيها خلاصة أقوال كثير من الكتاب،
وكانت في لفظها ومعناها من أحسن ما كتب في هذا الباب، وكان يظن أنه يكافأ
عليها من شيوخه بالتحبيذ؛ لأنه مما ينشِّط التلميذ؛ ولكن أخبرنا غير واحد أن
مولانا شيخ الجامع أمر بإحضاره، فجاء والشيخ في ملأ من الشيوخ فأمره بأن يقرأ
المقالة فقرأها، وطفق الشيخ بنفسه يناقشه فيها، وأول ما أنكره عليه وصفه الأمة
الإسلامية بالتأخر والانحطاط أي بالنسبة إلى ما كانت عليه وما عليه الأمم الأوربية
الآن، وقالوا إن مولانا الشيخ احتج على تفنيده بقوله: كيف يكون الإسلام متأخرًا
وهؤلاء المؤذّنون يؤذنون على المنارات جهرًا ولا يرميهم أحد بالحجارة، وها نحن
نصلي ونصوم ولا يعارضنا أحد، وإذا صح هذا القول فلا بد لنا أن نحمله على
قصد الاختبار ليعلم هل يستطيع ذلك المجاور أن يبين حقيقة ضعف الأمة الإسلامية،
وهذا هو اللائق بمقام الأستاذ ومنصبه.
قالوا: وأنكر عليه أيضًا الكلام في السياسة، ونقول: إنه لم يذكر في السياسة
شيئًا ينتقد إلا مسألة عقد المؤتمر الإسلامي في الآستانة الذي أكثر الكلام فيه بعض
الكتاب عن غير بصيرة، وأما حثه دولة مراكش على الاستعانة بالدولة العلية على
تحسين شؤونها، وإصلاح أحوالها، فلا نخال الأستاذ ينكره، وكنا كتبنا هذا الرأي
في بعض أعداد السنة الأولى من المنار فصادف استحسانًا، إلا أن بعض كبار
الموظفين من الأتراك كتب إلينا من أزمير بأننا غششنا حكومة مراكش بذلك، ولا
نخال الأستاذ على هذا الرأي، وقالوا إنه أنكر غير ذلك ما لا حاجة إلى ذكره
وتأويله، وقالوا إنه أمر بقطع جراية الشيخ عبد المجيد، ثم لم يرض بردها إليه إلا
بعد أن أخذ العهد عليه كتابة بأن لا يعود إلى مثل هذه الكتابة في الجرائد، وغاية
هذا التضييق أن لا يخرج من الأزهر من يحسن الكتابة والإنشاء ولا يستقيم مع هذا
تأويل.
__________(4/509)
16 جمادى الآخرة - 1319هـ
29 سبتمبر - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورة العاشرة بين المصلح والمقلد
الأخذ بالدليل، ونهي الأئمة عن التقليد
هذا آخر مجلس حضره المقلد الثاني أو المناظر الثالث مع المصلح والمقلد
وهو الذي بدأ بالسؤال فقال:
الثالث: قلت إن وقتي قصير هنا وإنني مسافر غدًا أو بعد غد، وأحب أن
أبدي بقية ما عندي من الدلائل على جواز التقليد، بل وجوبه على العاجز عن
الاجتهاد، وأحب أن أعرف بعد ذلك ما يدور بينكما من المباحث، وأن أقف على
رأي حضرة الفاضل - وأشار إلى المصلح - في الوحدة الإسلامية فيما عدا العبادات
من أحكام الشرع، وأرى أن من أقوى الأدلة على التقليد في العبادات قول العلماء من
أهل الصدر الأول أن العامي لا مذهب له؛ وإنما مذهبه مذهب مفتيه وفتوى المفتي في
حقه بمنزلة الدليل، وأما قولك السابق في الجواب عن عوام أهل الصدر الأول إنهم
كانوا يأخذون بقول المفتي من باب الرواية؛ لأنهم كانوا يسألون عن حكم الله تعالى
فيجابون إما بالكتاب وإما بالسنة، فيعملون بذلك وهو غير تقليد - فهو غير مسلَّم
لوجهين: (أحدهما) أن المجيب إذا ذكر الآية أو الحديث في الجواب فإن السائل لا
يفهم إلا إذا كان عربي الأصل، ولم يكن كل مسلم كذلك، و (ثانيهما) : أن المجيب
إذا لم يجد في المسألة آية ولا حديثًا فلا مندوحة له عن القياس، وهو رأي، وعمل
المستفتي به تقليد.
المصلح: ثبت عن الأئمة المجتهدين القول بمنع الفتوى بغير دليل، وقد
علمت أنني لا أسمي من يأخذ الحكم بدليله مقلدًا؛ وإنما أسميه راويًا أو متعلمًا أو
مسترشدًا، وليس هذا بممنوع ولا يُعَدُّ صاحبه مقصرًا في فهم دينه والبصيرة فيه،
بل تركه هو التقصير؛ إذ المرء لا يولد عالمًا وقد ورد: (العلم بالتعلم والحلم
بالتحلم) ولا فرق في هذا بين أن يسمع الآية أو الحديث فيفهم المعنى بنفسه، وبين
أن يستعين على الفهم بالراوي أو غيره فكله من الاجتهاد في فهم الدين والبصيرة
المطلوبة فيه، وأما القياس فقد علمت أنني أمنعه في العبادات المحضة ولا تستطيع أن
تثبت لي أن أحد الأئمة المجتهدين حمل الناس على الأخذ بقول له مبني على قياس في
العبادات المحضة من غير أن يفهموا ذلك القياس ويقتنعوا به، على أن المجتهد يخطئ
كما هو معلوم من الاختلاف، ولمتبع الدليل أن يَرُدَّ بعض ما نقل عن المجتهدين إذا
قام الدليل على بطلان ذلك؛ لأنه مجتهد مثل الذي رد قوله، بل نقل عن العلماء
المنتسبين للمذاهب أنهم خالفوا أئمتهم في بعض المسائل؛ لأن الدليل قام عندهم على
خطأهم أو ضعف دليلهم، وعلماء الشافعية أكثر العلماء استدراكًا على إمامهم لعلمهم
بأنه كان يأمر باتباع الدليل؛ ولأنهم أعلم المسلمين بالكتاب والسنة.
قال العلامة البغوي الشافعي في فاتحة شرح السنة: وإني في أكثر ما أوردته
بل في عامته متبع إلا القليل الذي لاح لي بنوع من الدليل في تأويل كلام محتمل
أو إيضاح مشكل أو ترجيح قول على آخر. وهذا يدل على أنه ما سلم فيما اتَّبَع فيه
إلا لرضاه بدليله، وقال في (باب المرأة لا تخرج إلا مع محرم) : وهذا الحديث
يدل على أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلاً ذا محرم يخرج معها وهو قول
النخعي والحسن البصري وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وذهب
قوم إلى أنه يلزمها الخروج مع جماعة النساء وهو قول مالك والشافعي، والأول أولى
بظاهر الحديث.
واستدرك البيهقي وهو شافعي على إمامه في لبس المعصفر إذ صح عنده حديث
ابن عمر فيه.
واستدرك الغزالي على إمامه الشافعي في مسألة الماء إذا كان دون القُلّتين ووقع
فيه نجاسة لم تغيره، وأطال في الإحياء القول في ترجيح عدم النجاسة والميل إلى
موافقة مالك مع أنه يلتزم في أحكام الإحياء مذهب الشافعي.
ورجح النووي جواز بيع المعاطاة، وكون نجاسة الخنزير كسائر النجاسات لا
يجب غسلها سبع مرات إحداهن بالتراب.
ومن طالع الكشَّاف يرى الزمخشري يخالف مذهبه الحنفي في مسائل اتباعًا
لما فهمه من القرآن منها مسألة الصعيد الذي يتيمم فيمسح منه. مذهب أبي حنيفة
أنه وجه الأرض وإن صخرًا. قال الزمخشري: فإن قلتَ: فما تصنع بقوله تعالى في
سورة المائدة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (النساء: 43) أي بعضه، وهذا
لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلتُ: قالوا: إن (من) لابتداء الغاية،
فإن قلتَ: قولهم: إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم من قول العرب: مسحت
برأسي من الدهن أو من التراب أو من الماء، إلا معنى التبعيض، قلتُ: هو كما
تقول والإذعان للحق أحق من المراء.
ومثل هذه المخالفات والاستدراكات كثير عن أكابر العلماء ولو جرى جميعهم
على هذه الطريقة القويمة لتحررت المذاهب وزال الخلاف الضار وتحققت الوحدة
الإسلامية؛ ولكن الآراء والأهواء لا يمكن أن تتفق بنفسها فلا بد من الوازع،
والوازع في مثل هذا المقام هو خليفة المسلمين؛ ولكن الخلافة ضعفت في آخر
زمن الراشدين وزالت بزوالهم، بل صارت ملكًا عضوضًا كما ورد في الحديث
فأصبحت علوم الدين في فوضوية أدت إلى هذا الهلاك والبوار الذي نشكو منه،
ولا يتأتى للخليفة أن يجمع الكلمة ويزيل الخلاف إذا كان إمامًا مجتهدًا، ولنقف عند
هذا الحد فقد جمح اللسان حتى كدنا نخرج عن المقصود.
الثالث: نُقل عن الإمام أبي يوسف أنه ليس للعامي العمل بالحديث، بل عليه
الاقتداء بالفقهاء، وأنت تقول: إن أبا يوسف مجتهد مطلق، نعم إنهم قالوا: إنه أراد
الجاهل الصرف الذي لا يفهم معنى النصوص ولا يعرف الناسخ والمنسوخ وغير
ذلك، ولا أحتج بهذا على أصل التقليد فقد علمت أنك لا تأخذ فيه ولا بقول المجتهد
وإنما أعارض قولك: إن المأثور عن الأئمة هو النهي عن اتباعهم وترك الأخذ
بالكتاب والسنة، وقد علمنا عنك أنك تلوم علماء العصر لأخذهم بالتقليد والتزام كل
طائفة منهم إمامًا واحدًا وتقول: إنهم اتبعوا في هذا الصنيع أقوال المقلدين من الفقهاء
وأنهم لو اتبعوا الأئمة لعذرتهم، وقد بيَّنت لك الآن أنهم اتبعوا في ذلك إمامًا مجتهدًا.
المصلح: المعروف عن العلماء المتقدمين أن الناس صنفان: علماء باحثون
ويجب عليهم اتباع الدليل، وعوامّ لا يفقهون ويجب عليهم اتباع الفقهاء من غير
التزام واحد بعينه، وهذا هو معنى قولهم: مذهب العامّيّ مذهب مفتيه، والمشهور
عنهم أنه لا يجب عليه التزام مفتٍ واحد، بل يسأل من يعنُّ له، وقالوا إنه يعمل
بظاهر الحديث والقرآن بالأولى، ولم ينقل عن الأئمة خلاف في هذا إلا عن أبي
يوسف من أئمتكم.
جاء في مبحث صوم المحتجم من كتاب الهداية: ولو احتجم فظن أن ذلك
يفطر ثم أكل متعمدًا، عليه القضاء والكفارة لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا
إذا أفتاه فقيه بالفساد؛ لأن الفتوى دليل شرعي في حقه. ولو بلغه الحديث واعتمده
فكذلك عند محمد، بل وأبي حنيفة؛ لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
ينزل عن قول المفتي، وفي الكافي والحميدي: ولا يكون أدنى درجة من قول المفتي
وقول المفتي يصلح دليلاً، فقول الرسول أولى وقول أبي يوسف خلاف ذلك،
وقد أجابوا عن أبي يوسف بأنه أراد العامي الصرف الجاهل الذي لا يفهم معنى
الحديث كما في الكافي والحميدي، أي كعامة الفلاحين في زماننا إذا سمع الحديث
من الناس ولم يسمع تفسيره، وأما الأئمة الأربعة فقد نُقل عن كل واحد منهم الأمر
بتقديم الحديث على قوله، وما أهان الكتاب والسنة إلا بعض المتفقهة المتأخرين
حتى تجرأ بعض من يسمون اليوم علماء على القول بأن من يقول: اعمل بكتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو زنديق! وما الزنديق إلا من يختار على كلام
الله ورسوله كلام غيرهما بعد أن يعرفهما.
المقلد: كنت اقترحت عليك في المجلس الماضي أن تبين رأيك في الوحدة
الإسلامية في المعاملات والأحكام الدنيوية، ثم نعود إلى المناقشة في الاجتهاد
والتقليد، وذكر ما عندنا وما عندك في ذلك. والآن أوافق صديقي في مطالبتك
بنصوص الأئمة في النهي عن التقليد لعلنا نسلم لك بعد ذلك ما تقول تسليمًا.
المصلح: إنني أستحضر الآن بعض هذه النصوص ويسهل عليَّ أن
أستقصيها بالمراجعة في الكتب إن شئتم.
المقلد والثالث معًا: اذكر لنا ما تستحضره الآن فلعل فيه غناء.
المصلح: أما أبو حنيفة فقد نُقل عنه أنه كان يقول: (لا ينبغي لمن لم يعرف
دليلي أن يفتي بكلامي) وممن نقل عنه هذا العلامة ولي الله الدهلوي المتوفى سنة
800 في (عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد) والشعراني في (اليواقيت
والميزان) .
وقال الفقيه أبو الليث السمرقندي: حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة
أنه قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا) وروى عن عاصم
ابن يوسف أنه قيل له: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة، فقال: إن أبا حنيفة قد أوتي
ما لم نؤت فأدرك فهمه ما لم ندركه ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا ولا يسعنا أن
نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال: كنت في
مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة زفر بن الهذيل وأبو يوسف وعافية ابن
يزيد وآخر، فكلهم أجمعوا على أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين
قلناه اهـ. وقد أورد هذا الشيخ صالح بن محمد العمري المحدث الشهير بالفلاني
أستاذ الشيخ محمد عابد السندي المحدث الشهير، وقال: إن هؤلاء الأئمة لا يبيحون
لغيرهم أن يقلدوهم فيما يقولون بغير أن يعلموا دليل قولهم، وهذا الذي ذكره أبو الليث
نقل في خزانة الروايات مثله عن السراجية وغيرها اهـ.
وفي روضة العلماء الرندويسية في فضل الصحابة قيل لأبي حنيفة: إذا قلت
قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول
صلى الله عليه وسلم يخالفه، فقال: اتركوا قولي لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال: اتركوا قولي لقول الصحابة.
وقال ابن الشحنة في نهاية النهاية: وإن كان - أي ترك الإمام الحديث -
لضعف في طريقه، فينظر إن كان له طريق غير الطريق الذي ضعفه به، فينبغي
أن تعتبر فإن صح عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا
بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) .
ونقل الشعراني عنه أنه كان يقول إذا أفتى بقول: هذا رأي النعمان بن ثابت-
يعني نفسه - وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب.
هذا ما كان يقوله هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى ولم يبحث ويستنبط
ليصرف المسلمين عن الكتاب والسنة إلى أقواله؛ وإنما بحث واستنبط ليعلمهم
طرق الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، فهل يصح لمدعي اتباعه أن يحظر
النظر في الكتاب والسنة لأجل العمل بهما اتباعًا لبعض المقلدين المتأخرين كابن
عابدين وأضرابه، وهل يكون بهذا مهتديًا بهدي أبي حنيفة ومتبعًا له؟ نعم إن
هؤلاء المتأخرين نقلوا عن أمثالهم أن العمل بالفقه لا بالحديث {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} (النجم: 23) ومن البلاء
أن لا يقتنع المسلم بأنه يجوز له أو يجب عليه العمل بكتاب الله وسنة رسوله، إذا
هو فهمهما، وأنه يجب عليه أن يفهم ما يفترض عليه فهمه منهما إلا إذا جئناه بنقل
عن العلماء بأن ذلك جائز أو واجب.
ويعجبني قول الظهيرية من كتبكم في الرد على من يقول إن العمل بالفقه لا
بالحديث فقد بينت فساد هذا القول، وما أُوِّل به من كونه مخصوصًا بالعوام الذين
هم كالهوام لا يميزون بين صحيحه وضعيفه وموضوعه ونسبته إلى سوء الأدب
ووسمته بالشناعة والبشاعة وقالت: (إنه لا يصدر عن عاقل، فضلاً عن فاضل،
ولو قيل بالتوجيه الذي ذكرناه أن العمل بالفقه لا على الحديث لقال قائل بعين ذلك
التوجيه أن العمل على الفقه لا على الكتاب؛ فإن العامي لا يفهم شيئًا من الكتاب
ولا يميز بين محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ومفسره ومجمله، وعامه
وخاصه وغير ذلك من أقسامه فصح أن يقال: إن العمل على الفقه لا على الكتاب
والحديث وفساده أظهر من أن يُظهر، وشناعته أجلى من أن تُستر، بل لا يليق
بحال المسلم المميز أن يصدر عنه أمثال هذه الكلمات على ما لا يخفى على ذوي
الفطانة والدراية، وإذا تحققت ما تلوناه عليك عرفت أنه إن لم يكن نص من الإمام
على المرام [1] لكان من المتعين على أتباعه من العلماء الكرام، فضلاً عن العوام،
أن يعملوا بما صح عن سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ومن
أنصف ولم يتعسف، عرف أن هذا سبيل أهل التدين من السلف والخلف، ومن
عدل عن ذلك، فهو هالك، يوصف بالجاهل المعاند المكابر، ولو كان عند الناس
من الأكابر) اهـ.
وقال ملا علي القارئ في رسالته في إشارة المسبحة: وقد أغرب الكيداني
حيث قال: (العاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة كأهل الحديث) أي جماعة
يجمعهم العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا منه خطأ عظيم، وجرم
جسيم، منشأه الجهل بقواعد الأصول، ومراتب الفروع من المنقول، ولولا حسن
الظن به، وتأويل كلام سببه، لكان كفره صريحًا، وارتداده صحيحًا، فهل لمؤمن
أن يحرِّم ما ثبت فعله عنه صلى الله عليه وسلم مما كاد نقله أن يكون متواترًا،
ويمنع جواز ما عليه عامة العلماء كابرًا عن كابر مكابرًا، والحال أن الإمام الأعظم
والهمام الأقدم قال: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب
والسنة وإجماع الأمة والقياس الجلي في المسألة، فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو لم
يكن نص للإمام على المرام) وساق ما تقدم آنفًا على سبيل التضمين فلا نعيده.
الثالث: حسبي هذا فقد اقتنعت بأن من صح عنده حديث يجب عليه أن يعمل
به وإن خالف المذهب؛ ولكن يحتمل أن يكون الحديث منسوخًا.
المصلح: هذا الاحتمال لا تأثير له، فمعرفة الأحاديث المنسوخة أيسر من
معرفة الأقوال التي رجع عنها الإمام؛ لأنها أقل والعناية ببيانها كانت أكثر كما أن
معرفة الرواية الصحيحة من غيرها في الحديث أسهل منها في أقوال الإمام، ولو
صح أن يكون الاحتمال مانعًا لما كان لنا أن نعمل إلا بالمتواتر المجمع عليه،
والصواب ما قلناه سابقًا من أن هذا هو الذي لا مندوحة عن العمل به وهو ضابط
الوحدة الإسلامية في الدين والأمر في غيره سهل، والاحتياط الأخذ بما صح في
السنة، ثم انصرفوا على موعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يريد أنه لو لم يأمر الإمام بترك قوله للحديث لوجب تركه، فيكف وقد أمر.(4/521)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين على الإسلام
وحجج الإسلام على المسيحيين
النبذة السادسة
لو أراد الإنسان أن يناقش هؤلاء المسيحيين الذين يؤلفون الكتب في دعوة
المسلمين إلى النصرانية، ويحكم العلم في مصنفاتهم، فيرد على كل خطأ يجب رده
لاحتاج أن يكتب على كل صحيفة من صحائفهم السوداء كتابًا مستقلاًّ؛ لأنهم يرمون
الكلام على عَوَاهنه فيخطئون من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، ويتعمدون
الإيهام والتغرير لأنهم يكتبون للعامة الذين لا يدققون.
يقول صاحب كتاب (أبحاث) الجدليين لا (المجتهدين) في الفصل الأول
من البحث الأول إنه يثبت صحة التوراة والإنجيل (بالحجة الدامغة والبرهان
المنطقي) ثم يورد الآيات القرآنية وهي عنده جدلية لا منطقية ويحرفها عن معناها
كما حرَّف هو وسلفه التوراة والإنجيل، وقد بيَّنا من قبل معنى التوراة والإنجيل
وإثبات القرآن لهما، وكون هذا الإثبات لا ينافي إرسال نبي آخر بشريعة جديدة
أكمل منها، وبيَّنا أيضًا وجه كون الديانة الإسلامية أصلح لحال البشر وأهدى
لسعادتهم، بل وبيَّنا كيف أبطل بولس شريعة التوراة والإنجيل وجعل المسيحية
إباحية لا قيمة فيها للعمل الصالح؛ وإنما العمدة فيها على الإيمان بأن المسيح جاء
ليخلص العالم.
فكيف جاز عند محبينا من دعاة المسيحيين أن يبطل هذا الرجل اليهودي
بذلاقة لسانه وخلابته شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ولا يجوز في
نظرهم أن يرسل الله محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام بالبراهين العقلية فيصدق
المرسلين، ويقضي على المارقين، ويؤنب المحرِّفين، ويبين الحق في اختلاف
المختلفين، ويخاطب اليهود والمسيحيين، بمثل ما خاطب عيسى الكتبة والفريسيين
بأنهم لم يقيموا الكتاب، بل أخذوا بالقشر وتركوا اللباب، وأنهم لو أقاموه لما ساءت
حالهم، ولما وجب خزيهم ونكالهم؛ ولكن اليهود والنصارى كانوا في زمن البعثة
في أشد الخزي والنكال، وعند آخر طرف من الغواية والضلال؛ ولذلك تقلص
بشمس الإسلام ظل سلطانهم بعد حين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
أورد صاحب الأبحاث سبع آيات من القرآن المجيد، وقال إن الآية الأولى
تفيد أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس، نعم وقد اهتدى بهما من قبل
أقوام فسعدوا، ثم حرَّفوا وفسقوا، وانحرفوا فشقوا، حتى جاء الإسلام بالهداية
الكبرى، والحجة العظمى، فاهتدى به بعضهم فسعدوا وسادوا على الآخرين،
وكانوا مع أهله الأعلين ما كانوا به مهتدين.
وقال إن الآية الثانية وهي: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68) تبين صحتهما، وهو كذلك ولكن للآية تتمة لم
يذكرها المصنف؛ لأنه غير منصف وهي قوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة: 68) فكأنه يأمرنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض كما فعل هو ومن
على شاكلته بالتوراة، والمراد بما أُنزل إليهم من ربهم القرآن؛ فإنه لم ينزل بعد
التوراة والإنجيل غيره، فالله تعالى يأمر أهل الكتاب بأن يكونوا مسلمين يؤمنون
بالكتب كلها، ويبين أن تعللهم واحتجاجهم على عدم اتِّباع القرآن بأنهم أصحاب
كتاب سماوي لا حاجة لهم بغيره احتجاج باطل وتعلل كاذب؛ لأنهم لم يقيموا
التوراة والإنجيل وأوضح هذا بالآيات الأخرى الناطقة بأنهم حرَّفوا، وبأنهم نسوا
حظًّا مما ذُكِّروا به، وأنهم لو أقاموهما لما حل بهم الخزي والنكال {وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة: 66) وكذلك وقع لإخوانهم الذين أسلموا فقد فازوا ببركات السماء
والأرض، وتتمة الآية التي نحن بصددها {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} (المائدة: 68) وهذه الحجة
قائمة عليهم إلى يوم القيامة؛ فإن هؤلاء الدعاة يخدعون عوام المسلمين بوجوب
اتِّباع التوراة ويوهمونهم أنهم متبعون لها، ويقول صاحب الأبحاث أن محمدًا يطلب
إقامة حدودها، ولا يوجد في الدنيا نصراني يقيم حدًّا من حدود التوراة أو يعمل
بأحكامها في العبادات والمعاملات، فما لهم يشفقون على المسلمين وينصحون لهم
بإقامة هذه الحدود ولا ينصحون لأنفسهم ولا يشفقون عليها؟
وقال: والثالثة تبين أن الإنجيل مُنَزَّل من عند الله، وأن محمدًا راضخ
لأحكامه، والآية الثالثة هي قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (المائدة: 47) وليس فيها إخبار بأن محمدًا عليه الصلاة والسلام راضخ
لأحكامه؛ ولكن هؤلاء الناس يستبيحون أن يُحَمِّلوا الآيات ما لا تحمله لتأييد أهوائهم،
وبذلك أفسدوا كتبهم وجاءوا يفسدون علينا كتابنا؛ ولكن الله حفظه من التحريف
والتبديل، في الآية قراءتان إحداهما بكسر لام (وليحكم) وهي متعلقة بقوله تعالى
قبلها: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} (المائدة: 46) أي أعطينا عيسى الإنجيل ليحكم أهله
فيه، وأهله هم بنو إسرائيل لأن القرآن أخبرنا بأنه أرسل إلى بني إسرائيل فعرف
أنهم أهله، وكذلك الإنجيل الذي عندهم الآن يقول إن المسيح قال: (لم أبعث إلا
إلى خراف إسرائيل الضالة) .
والقراءة الثانية بسكون اللام، وهي حكاية للأمر السابق عند الإتيان، أي
آتيناه الإنجيل وأمرنا من أرسل إليهم بالعمل به، ويحتمل اللفظ أن يكون أمرًا مبتدأ
ورد على سبيل الاحتجاج على النصارى بعدم العمل بالإنجيل المُصَدِّق للتوارة
والمقتضي للعمل بها على ما تقدم بيانه آنفًا، وإذا جاز لدعاة المسيحيين اليوم أن
يحتجوا على المسلمين بأن القرآن يأمرهم بالإيمان والعمل بالتوراة والإنجيل ولا
يرون هذا الاحتجاج مقتضيًا لإيمانهم بالقرآن، فكيف يدعون أن أمر محمد صلى الله
عليه وسلم لهم بالحكم بالإنجيل يستلزم أن يكون هو راضخًا لأحكامه.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/536)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تهاني العلماء والأدباء
لفضيلة مفتي الديار المصرية
رُفع إلى الأستاذ قصائد كثيرة جدًّا تهنئه بقدومه من مصيفه في الآستانة
وأوربا، ورغب إلينا كثيرون ممن نعرفهم من ناظميها أن ننشر قصائدهم وليس
نشر المدائح من شأن المنار؛ ولكننا نشير إلى بعض القصائد ببعض أبيات منها
لاعتبارات لنا فيها، ونبدأ بهذه الأبيات التي نظمها الأديب الفاضل الشيخ مصطفى
لطفي المنفلوطي الأزهري الشاعر المجيد وهي:
سار يباري النجم في جده ... وعاد كالسيف إلى غمده
رأى السرى والسهد مهر العلى ... فجد وارتاح إلى سهده
لا يبصر الخطب جليلاً ولا ... تلوي به الأهوال عن قصده
مسَدَّد العزم إذا ما مضى ... يحار صرف الدهر في ردّه
كالسيف يجلوه القراع ولا ... يأخذ ضرب الهام من حدّه
من لا يرى المجد سبيلاً له ... لا يأسف المجد على فقده
فضجعة الراقد في بيته ... كضجعة الميت في لحده
كان لمصر بعد توديعه ... صبابة الصادي إلى ورده
واليوم قد عاد لها كل ما ... ترجو من النعمة في عوده
وافتر عنه ثغرها مثلما ... يفترُّ ثغر الروض عن ورده
بدا وقد حفت به هيبة ... كأنما (عثمان) في برده
ما فيه من عيب سوى أنه ... يحسده الناس على مجده
ما حيلة الحساد في نعمة ... أسبغها الله على (عبده)
ومن قصيدة للأستاذ الشيخ سيد علي المرصفي مدرس الأدب في الأزهر:
هذا هو العلم لا علم بمحفظة ... محدودة من جلود الشاء والغنم
جوفاء معتلة في جوفها ورم ... تشكو لخالقها من علة الورم
ومن قصيدة الفاضل الشيخ مصطفى حسين مشيط المنفلوطي الأزهري:
إن الزمان إذا اعتدى بصروفه ... لم يبق حبلاً في الهوى موصولا
كم ذا يروّعني بكل ملمة ... لا تترك الصبر الجميل جميلا
لولا اعتصامي بالإمام (محمد) ... كهف الورى لم أبلغ المأمولا
ومنها:
شيدتَ أركان الشريعة بعد ما ... لعبت بها أيدي البلاء طويلا
وشَهَرتَ للدين الحنيفي سيفه ... بيد الثبات وكان قبلُ كليلا
ومن قصيدة للشاب اللوذعي مصطفى صادق أفندي الرافعي الكاتب بمحكمة
شبين الكوم:
والصبح ميمون الطليعة قادم ... مثل الإمام بطلعة زهراء
يجلو الظلام كما تجلَّى هديه ... فأضاء كل سريرة ظلماء
تزهو السماء بشمسها و (محمد) ... في الأرض شمس الملة السمحاء
__________(4/540)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(الصارم المنكي في الرد على السبكي)
عرف قراء المنار مما كُتب في آخر الجزء الثامن أنه ينسب للقاضي تقي
الدين السبكي رسالة في الرد على شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وأصل الخلاف
بينهما في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، فابن تيمية أخذ بظاهر
الحديث الصحيح (لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد
الحرام، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من عدة طرق، وذهب
السبكي إلى خلاف ذلك محتجًّا بأشياء كثيرة بيَّنها في رسالة مخصوصة، وأما زيارة
القبور فليس في أصل استحبابها خلاف بين ابن تيمية والسبكي؛ ولكن الأول ينكر
كل بدعة فيها، وكل ما لا تشهد له السنة الصحيحة، والسبكي يبيح بعض ذلك
ولولا ترويج مثله من العلماء المقربين من السلاطين والحكام للمحدثات التي تفشو
بين العوام لما ثبتت بدعة بين المسلمين.
والذي ينظر في كتاب السبكي ينخدع لكثير من أقواله وما يورده من الأحاديث
والأخبار، إلا إذا كان من حفاظ الحديث ورجال النقد الصحيح وقليل ما هم لا سيما
في هذا الزمان، ففي الكتاب كما قلنا من قبل كثير من الأحاديث الموضوعة
والواهية والمنكرة، وإن ترك زيارة القبور بالمرة أهون من الكذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لا يعذب على ترك الزيارة إذ لم يقل أحد
بوجوبها؛ ولكن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر لما ثبت في
الحديث الصحيح، بل المتواتر (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وفي
رواية بحذف لفظ (متعمدًا) ولا يخفى أن الجهل ليس بعذر، إذ لا يصح لأحد أن
ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام شيئًا إلا إذا كان عالمًا أو ظانًّا أنه قاله،
وليس من العلم ولا من الظن أن يراه في كتاب إلا كتب المحدثين الذين يبينون
الصحيح من غيره.
فمن قرأ كتاب السبكي أو رسالته فهو على خطر عظيم، بل على أخطار
متعددة: خطر الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وخطر
الغرور في الدين، وخطر الجراءة على المعاصي، وخطر الزيادة في الدين وغير
ذلك، وليس له في إزاء ذلك أدنى فائدة؛ لأننا إذا فرضنا أن شد الرحال إلى غير
المساجد الثلاثة لغرض ديني - إذ الأغراض الدنيوية المباحة غير مرادة هنا -
مباح فأي حرج على من تركه احتياطًا للخلاف فيه، وعملاً بظاهر الحديث المتفق
على صحته.
ومن أحب أن يطَّلع على جميع ما في كتاب السبكي من الأدلة والحجج مع
الأمن من الخطر فليطالع كتاب الصارم المنكي الذي ألفه العلامة المحقق أبو عبد
الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي، وطُبع في هذه الأيام بالمطبعة
الخيرية؛ فإنه يورد جميع حجج السبكي والأحاديث التي استدل بها سواء كان
المدلول مسلَّمًا عنده وعند ابن تيمية أم غير مسلَّم، ويحكم فيها النقد الصحيح،
ويذكر نقول الحفاظ والمحدثين في أسانيدها التي اغتر بها السبكي؛ لأنه لم يكن من
الحفاظ وإنما كان فقيهًا مشغولاً بالقضاء، ولعلنا نقتبس بعضها عند الكلام في
مواضيعها، وصفحات الكتاب 339، وثمنه خمسة غروش أميرية، وهو يباع في
مكتبة الخشاب بمصر.
***
(حقوق الملل، ومعاهدات الدول)
ولع الناس بقراءة صحف الأخبار ومعرفة السياسة من الجرائد؛ ولكن هذه
الجرائد في بلادنا الشرقية، بل وأكثر جرائد أوربا لا تتكلم في علم السياسة وأصوله
وأحكامه العامة إلا نادرًا، وإنما تذكر المسائل الجزئية التي تقع بين الدول وفي
الحكومات، ومن لا يعرف الأصول والأحكام العامة في العلم فقلما يفهم الجزئيات
فهمًا صحيحًا ويعرف الخطأ والصواب فيها، لهذا كان قراء العربية في حاجة إلى
كتب في علم السياسة وما عندهم إلا قليل منها.
وقد عُني الأمير أمين أرسلان القنصل الجنرال للدولة العلية في مدينة
بروكسل بوضع كتاب جامع في ذلك سماه حقوق الملل.. إلخ، جعله أربعة أقسام
ورأى بمناسبة حرب إنكلترا والترانسفال أن يبدأ بنشر القسم الرابع منه وهو في
الحرب، فطبعه في مطبعة الهلال طبعًا كطبع مجلة الهلال الشهيرة، وقسَّم مباحثه
إلى أربعة أقسام يشتمل كل منها على عدة فصول، القسم الأول في المنازعات
والاختلافات وطرق حلها، والثاني في مشروعية الحرب وحكمها في العمران
وتقسيمها، والثالث الحرب البرية وطرقها وأحكامها، والرابع الحرب البحرية وما
يتعلق بها، وصفحات الكتاب 127، وثمنه خمسة غروش، ويُطلب من مكتبة
الهلال بمصر.
***
(الكوخ الهندي)
قصة فلسفية وجيزة مفيدة للكاتب الفرنسوي الشهير برناردين دي سان بيير
موضوعها البحث عن الحقيقة والطريق إليها، وفيها كلام عن البراهمة وغرور
كهنتهم في دينهم وزعمهم أن الحقيقة لا توجد إلا عندهم، ولا تقال إلا لهم،
ونتيجتها أن التقاليد والديانات والمدنية وعلومها وأعمالها حجاب بين الإنسان وبين
الحقيقة والفضيلة والعيشة الراضية، وأن أقرب الناس من الحقيقة والسعادة من
يعيش عيشة بسيطة فطرية بعيدًا عن شغب الناس وغرورهم بتقاليدهم ومدنيتهم،
كذلك الهندي الطريد المقيم في كوخ بعيد عن العمران، وقد عرَّب هذه القصة منشئ
مجلة الجامعة الغراء، وطبعها وأهداها إلى قراء مجلته، وصفحاتها 78 من الحجم
الصغير، وكم من صغير فيه نفع كبير.
***
(الدنيا في باريس)
صدرت الرسالة الثانية عشرة وهي الأخيرة من هذه الرسائل التي كتبها
صاحب الصيت الطائر بمؤلفاته ومعرباته عزتلو أحمد بك زكي كاتب السر الثاني
لمجلس النظار بمصر، وهذه الرسالة تصف معروضات الأمة الألمانية وتقدمها على
جميع الأمم، وهي أنفع الرسائل، وسنقتبس بعض فوائدها في جزء آخر، ونشكر
لإدارة طبيب العائلة سعيها بطبع هذه الرسائل، ونرجو لها ما ترجوه من النجاح
والنفع بها.
***
المناظر وكتاب (إعجاز المسيح)
هذا الكتاب مسجع من أوله إلى آخره، وفي سجعه التكلف والضعف، وفي
كلامه ركاكة العجمة، وفي مفرداته وتراكيبه الغلط والخطأ، ومع هذا كله تقول
جريدة المناظر الغراء أنه (تقليد للقرآن في نسقه وعبارته) وهذا خطأ ما كنا ننتظر
أن يصدر من صاحب تلك الجريدة البارع، فأين السجع في القرآن؟ وأين عبارة
القرآن العالية ونسقه البديع من تلك الركاكة والعسلطة في كتاب إعجاز المسيح؟
***
(مستقبل فرنسا أو مستقبل العالم)
يهتم الفرنسويون بالبحث في مستقبلهم استنباطًا من أحوال الناشئين وتربيتهم،
وقد اقترحت مجلة المجلات الفرنسوية على الباحثين أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك
فأجاب المسيو دوسوليه بلسان لجنة المدارس الديمقراطية بقوله: (نحن جمهوريون
لأن الجمهورية على ما قال ميشله هي الحق والصواب، ونحن غير متدينين؛ لأن
كل الديانات تستعبد الإنسان، ونحن نريد أن يكون حرًّا يفتكر كما يريد، والدين
يحصر الفكر في سجن مظلم) وأجاب بعض أحزاب الدين بوجوب سقوط
الجمهورية، وقد نشرت هذه المجلة أربعة أجوبة في هذين المعنيين، وقالت إنها لم
تزد الموضوع إلا إشكالاً وغموضًا.
وقد نشرت جريدة المناظر الغراء قولها وعقبته بهذه الجملة (إن حالة الأفكار
الحاضرة تدلك على شيء مما سيكون مستقبلها، إن الأفكار مضطربة الآن في كل
العالم ومتضاربة ولكن لا بد لها من قرار يتغلب عنده الأحق الأقوى، فإذا انقضى
عشر سنوات يُعرف مستقبل فرنسا بالنظر إلى أفكار الشبيبة فيها، ويُعرف بالتالي
مستقبل العالم) اهـ، وهذه الجملة معقولة إلا أن التحديد بعشر سنين لا وجه له ولا
دليل عليه.
وذكرت مجلة الجامعة الغراء أن في العالم الآن حركتين شديدتين إحداهما
مناقضة للأخرى (الأولى) : قيام المسلمين مطالبين بالنهوض والترقي من قِبَل
الدين، و (الثانية) : قيام المسيحيين في الممالك الكثيرة على رجال الدين لحصر
سلطتهم في معابدهم، وقطع الصلة بينهم وبين الأمة اهـ بالمعنى.
ونحن نقول: لا بد لهذا النوع الإنساني أن يبلغ كماله من الارتقاء والعمران ولا
يبلغه إلا بالعلم والدين، وقد سبق المسيحيون المسلمين في طريق العلم فدلهم على
أن دينهم ليس دين عمران وارتقاء، فتركوه وما زالوا يحاربونه إلى الآن، ولولا
أن رجاله الذين لا حياة لهم إلا به قد شاركوا شعوبهم بالعلوم الكونية، وقبضوا على
أَزِمَّة تعليمها ليدسوا الدين فيها لما بقي له من بقية، وأما المسلمون فمن الناس من
يزعم أنهم يسيرون على طريقة من قبلهم في هذا، فإن فعلوا فهنالك هبوط الإنسانية
وفساد العمران، ونحن على يقين بأن الحركتين اللتين ذكرتهما الجامعة سيبلغان
غايتهما فيرتقي المسلمون بدينهم بعدما يطهرونه من البدع والخرافات التي أُلصقت
به، ثم يتبعهم سائر الأمم ومنهم الفرنسويون الذين ظهر أثر ترك الدين السيئ فيهم،
وذلك عندما يتجلى لهم أنه دين الفطرة السليمة الذي بنيت شريعته على الديمقراطية
المعتدلة، ومحا سلطة الأشخاص على الأشخاص، وساوى بين الملوك والصعاليك
في الحق، وجعل الإنسان حرًّا كاملاً في الناس، وعبدًا كاملاً لله تعالى، وأطلق
فكره وإرادته من أسر رؤساء الدين والدنيا، هذا هو مستقبل العالم {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ
بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) لا بعد عشر سنين.
***
وقال العلامة المحدث اللغوي محمد محمود الشنقيطي مهنئًا الأستاذ المفتي وقد
تأخرت لتأخر ورودها، ولتكون مسك الختام وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
للجامع الأزهر المعمور عاد على ... رغم الحسود فتى مصر ومفتيها (محمد) الفحل (عبده) بدر هالته خيراته ديمة هطلاء يؤتيها
ميسر لفعال الخير قاطبة ... تأتيه طلابها تترى فيأتيها
سفائن العلم في ذا الشرق لآن غدت [1] ... أعلامها بيديه وهو نوتيها
لم يَحسُدن على ما الله خوَّلهم ... من فضله الناس من نعمى يؤتيها
لن ينكث العهد إن ينكثه ناكثه ... بل عقدة العهد يُحكيها ويُحتيها
وتعلمون جميعًا ما علمت به ... من ذي المكارم ماضيها وآتيها
هلا نظمتم لكم عقدًا مكارمه ... أم صرتم خرس فرس حول بختيها
وقال أيضًا يخاطب الإمام المفتي:
أيا من قد نأى عنا وغابا ... وبعد قضائه الحاجات آبا
تغنينا بشعر الصدق لما ... عزمت إلى أباطحك الإيابا
وكائن بالأباطح من صديق ... يراه لو أصبت هو المصابا
ومسرور بأوبتنا إليه ... وآخر لا يحب لنا إيابا
وقال أيضًا هذا اليتيم:
إلى (عين شمس) عدت يا شمس عصرنا ... ويا رجل الدنيا ومفتي مصرنا
وحلتي هذه سبيلها سبيل حلة عائشة بنت طلحة رضي الله تعالى عنهما، غير
أن هذا الشعر شعري، وذلكم شعر قيس بن الحدادية.
وشرح ذلك أن أم عمران عائشة بنت طلحة أنشدت عينية قيس بن الحدادية
الخزاعي الجاهلي فاستحسنتها وبحضرتها جماعة من الشعراء، فقالت: من قدر
منكم أن يزيد فيها بيتًا واحدًا يشبهها ويدخل في معناها فله حلتي هذه، فلم يقدر أحد
منهم على ذلك اهـ.
... ... ... وكتبه محمد محمود لخمس خلت من جمادى سنة 1319
__________
(1) قوله (لآن) لغة في الآن.(4/541)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(سمو الخديو المعظم في الآستانة العلية)
لقي مولانا الخديو المعظم من حفاوة مولانا السلطان الأعظم وإقباله في هذه
السنة فوق ما عهد وما عهد الناس من معاملة السلاطين للأمراء والخديويين، من
ذلك أنه كان يجعله عن يمينه والصدر الأعظم عن يساره حتى على الموائد الرسمية
ومنه أنه ركب معه غير مرة للتنزه وللاطلاع على بعض المعامل وعلى الإسطبل
العامر، ومنه أنه حباه ببعض الهدايا، ومنه أنه أهدى مركبتين (عربتين) مع
خيولهما لأنجاله، إلى غير ذلك من الإتحاف والانعطاف الذي ابتهج به المصريون
وقرَّت لأجله العيون.
***
(قدوم مفتي أفندي الديار المصرية وحفاوة المصريين به)
جاء الأستاذ الإسكندرية في الموعد الذي ذكرناه في الجزء الماضي، فاستقبله
في الباخرة علماؤها ووجهاؤها وجاء القاهرة في ناشئة ليلة الثلاثاء، وكان في
انتظاره على رصيف محطة السكة الحديدية الجماهير من العلماء وكبار الموظفين
والقضاة والوجهاء، وفي مقدمتهم أصحاب السعادة عبد الحليم باشا ناظر الأوقاف،
وبليغ باشا ناظر الدائرة السنية، وكانت كثرة عمائم الأزهريين تستوقف الطرف -
كما قال المقطم - وما أشرقت الشمس في اليوم التالي على عين شمس إلا وكانت
مورد جماهير المهنئين من العلماء والوجهاء، واستمر ورود الوفود بضعة أيام،
وكان من مسهلات الزيارة عليهم أن مصلحة السكة الحديدية زادت عدد القطارات
التي بين القاهرة والمرج من يوم قدومه حتى لا تمر ساعة إلا ويسافر فيها قطاران
أو ثلاثة، وجاء كثيرون من البلاد الأخرى إلى مصر لأجل زيارته، واكتفى
كثيرون بإرسال الرسائل البرقية وقليلون بالرسائل البريدية، ولم يُعهد مثل هذا
الاحتفال والحفاوة في مصر لعالم، ولا لأمير دون أمير البلاد الأعظم أيده الله تعالى
وأيد به العلم وأهله.
وقد تبرع السري الفاضل محمد بك أباظة بخمسة جنيهات لإدارة المنار شكرًا
لله تعالى على قدوم الأستاذ، وجعلها عادة مستمرة، وهي قيمة الاشتراك بعشر نسخ
توزعها الإدارة على مستحقيها مجانًا.
***
(كلمة المنار عن شيخ الأزهر)
ذكرنا في الجزء الماضي أن مولانا الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر ناقش
المجاور الشيخ عبد المجيد الحساب على مقالته التي نُشرت بتوقيعه في جريدة
المؤيد، وأنكر عليه وصفه الأمة الإسلامية بالضعف والتأخر محتجًّا بأنهم يؤذنون
ولا يرميهم أحد بالحجارة، وقد أوَّلنا هذه الحجة الداحضة بأنها إذا صح صدورها
من الأستاذ الشيخ الجامع فلا بد أن يكون مراده اختبار الشيخ عبد المجيد صالح
وسبر غوره في فهم ما نسب إليه، ثم تشرفنا بمقابلة شيخ الجامع وأخبرنا بأن الأمر
كما قال المنار، وأنه ظهر للشيخ بالاختبار أن الشيخ عبد المجيد لم يحسن قراءة
المقالة المنسوبة إليه ولم يفهمها، وقد كانت النبذة التي كتبناها في هذا الموضوع
طويلة ذكرنا فيها كل ما بلغنا من قول مولانا الشيخ لذلك المجاور، وأوَّلنا ما ينتقد
منه ثم حذف منه ما لو بقي لما سلَّم المطلعون عليه بالتأويل بإرادة الاختبار، وإذ
تحققنا الآن من الشيخ نفسه ذلك فلا وجه للذين لا يزالون يخوضون في المسألة، لا
سيما إنكار مولانا الشيخ على المجاور نقله عن الفيلسوف أرنست رينان مدح الإسلام
وقوله له: أما وجدت عالمًا مسلمًا تنقل عنه، وهلا نقلت عن الإمام الغزالي.
***
(رمي مؤذن بالحجارة وتهديده بالرصاص)
بعدما نشرنا ما تقدم في الجزء الماضي بأيام اتفق أن مؤذنًا كان يؤذن على
المنارة في جهة تسمى قنطرة الدكة فأطلَّ رجل نمساوي من منظرة في بيته وأمره
بالسكوت، فلم يسمع له المؤذن ومضى في أذانه، فطفق النمساوي يرميه بالحجارة
ويهدده بالقتل بالرصاص إذا هو لم يكف عن إتمام الأذان، فخاف المؤذن ونزل قبل
إتمام الأذان وبلَّغ الشرطة ما وقع.
نشرت الجرائد اليومية الخبر فاستاء الناس وامتعضوا وفزع بعض أهل الغيرة
إلى حضرة شيخ الجامع وقصُّوا عليه القصة، فحوقل واسترجع فرغَّبوا إليه أن
يكتب إلى الحكومة وألحوا عليه حتى وعدهم وكان وعده مفعولاً.
***
(صورة ما كتبه الشيخ إلى نظارة الداخلية)
وكيل الداخلية سعادتلو أفندم
أظن أن سعادتكم اطلعتم على ما جاء في جريدة المقطم بعددها الصادر في يوم
الجمعة الفائت وتناقلته الجرائد عنها، ألا وهو ما وقع من ذلك الرجل النمسوي
لمؤذن مسجد قنطرة الدكة عندما شرع في أذان العشاء من أمره بالكف عن الأذان،
وشتمه له ورميه إياه بالحجارة، ولمَّا لم يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان تهدده بالرمي
بالرصاص فخاف ونزل من غير أن يتمه، وتوجه في الحال إلى البوليس فأبلغه
الحادثة إلى آخر ما جاء في تلك الجريدة، وحيث ما أتاه هذا النمسوي يُعَدُّ إهانة
للدين، وانتهاكًا لحرمته، ولم نسمع قبل اليوم بأن مسلمًا عارض غيره أو منعه من
إقامة شعائر الدين حتى يقال إنه اقتدى به، ولا يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه
مهما كان معتقده فيرتكب صعاب الأمور، وهو عالم بها انتصارًا لدينه خصوصًا
والبلاد إسلامية، ووقوع مثل ذلك فيها يوغر الصدور، فنحوِّل أنظار سعادتكم إلى
تلافي هذا الأمر بمعاقبة المعتدي بواسطة قنصليته بما يكون رادعًا له وزاجرًا لغيره
ومزيلاً لما كمن في الصدور من جراء هذا الحادث المؤلم أولى من الترك
والتغاضي، ووقوع ما لا تحمد عاقبته، ثم تفضلوا بإخطارنا بما يتم أفندم.
(حاشية)
وللتثبت من هذا الأمر استدعينا مؤذن ذلك المسجد المدعو الشيخ خليل إبراهيم
وسألناه عما وقع، فأوضح لنا ذلك مفصلاً من أول الحادثة إلى آخرها في ورقة
مرفقة بهذا، فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة جانب عنايتكم أفندم.
***
(الانتقاد على مكتوب شيخ الجامع)
انتقد العوام والخواص على اختيار شيخ الجامع جريدة المقطم لنشر المكتوب،
وعدم نشره في جريدة المؤيد التي هي أعمُّ انتشارًا، وتوهموا أن لمولانا الشيخ
ضلعًا مع المقطم وموافقة لسياسته، وهو وهم باطل لأننا نعلم حق العلم أنه بعيد من
السياسة ومذاهبها، فلا هو موافق لسياسة المقطم، ولا هو مخالف لسياسة المؤيد،
وقال بعض الأذكياء: إن مولانا الشيخ استاء مما كتبه المؤيد في المسألة بتوقيع
(م. ح) فلم يرسل إليه صورة المكتوب لأجل ذلك.
ولكن مقام الشيخ أجلَّ وأعلى من تحكيم الأمور الشخصية في المصالح
العمومية، وينبغي أن نلتمس له عذرًا على كل حال حتى نقف على العلة الحقيقية.
وانتقد كثير من الخواص على أسلوب المكتوب وعبارته وبعض مفرداته
وتراكيبه التي لا تصح في اللغة، أما أسلوبه فهو أسلوب كتابة الدواوين لا أسلوب
الكتاب البلغاء العارفين بفنون اللغة والمحصلين ملكتها، وقد أجبنا بعض المنتقدين
بأن المتبادر أن المكتوب ليس من كتابة الشيخ وإنشائه، ولا من إملائه، وإنما هو
من إنشاء كاتب مجلس إدارة الأزهر الذي يعد من دواوين الحكومة، فقالوا أولاً: لا
يصح أن يقبل شيخ الجامع مثل هذا الكاتب في إدارته ويجعله ترجمانه، بل قلمه
ولسانه، وثانيًا: إذا جاز أن يجيز ويمضي شيخ الأزهر الذي هو مهد اللغة وينبوع
معارفها مكتوبًا غير بليغ ولا فصيح، فلا يجوز أن يجيز الخطأ والغلط ويقره
ويرضى بأن ينشر منسوبًا إليه.
وإننا نرى من الفائدة ذكر شيء مما انتقدوه ليعرف المنصف والمتحامل، فمن
ذلك قوله: (أظن أن سعادتكم اطلعتم) قالوا: مقتضى المطابقة بين اسم (أن)
وخبرها أن يقال (اطَّلَعَتْ) لأن الإسناد إلى ضمير مؤنث وهو السعادة، ومنه قوله:
(وحيث ما أتاه هذا النمسوي ... إلخ) قالوا: إن (حيث) ظرف مكان، وقد ردَّ
العلماء على من زعم منهم أنها تأتي للتعليل، وظاهر السياق أنها هنا للشرط ولا
يصح، وقالوا إننا لا نرى لهذا القول إعرابًا صحيحًا، ومنه قوله: (مهما كان
معتقده) قالوا: إن استعمال (مهما) ههنا غير صحيح، ومنه قوله (خصوصًا
والبلاد إسلامية) قالوا: إنه استعمال غير عربي وإنه لا يستقيم إعرابه، ومنه قوله:
(ثم تفضلوا بإخطارنا) قالوا: لا يعرف في اللغة أخطره بكذا، بمعنى: أعلمه به،
وأقرب معانيها إلى ما نحن فيه قولهم: أخطر الله الشيء ببالي، أي: جعلني أتذكره
بعد نسيانه ولا يصح هنا، وقالوا: إن فيه أيضًا عطف الإنشاء على الخبر بـ (ثم)
ومنه قوله في الحاشية (وللتثبت من هذا الأمر) قالوا: ورد في اللغة: تثبت في
الأمر: إذا تأنَّى فيه ولم يَرِد: تثبت منه، ومنه قوله (المدعو الشيخ خليل) قالوا:
وكان الصواب أن يقول (خليلاً) بالنصب، ومنه قوله في الحاشية: (ورقة مرفقة
بهذا) قالوا: إن لفظ (مرفقة) لا يصح له معنى هنا، ومنه قوله في الحاشية
(فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة لجانب العناية) وقالوا: إن أهل الأزهر لا يتركون
الحواشي ولا في مخاطبة الحكومة.
هذا، وإن لهم انتقادات أخرى قالوا: إنها دون ما تقدم، منها قوله (ولمَّا لم
يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان) قالوا: كان الصواب أن يقول عن الاسترسال أو
المضي في الأذان لأنه لم يتمه، وقد كُتبت العبارة بعد العلم بعدم الإتمام، ومنها لفظ
البوليس ولفظ القنصلية، قالوا: كان اللائق بمقام المشيخة أن لا يذكر في كتابتها
لفظ أعجمي إلا إذا لم يكن في اللغة ما يردفه ويحل محله، ومنها قوله: (فنحوِّل
أنظار سعادتكم) قالوا: إن للمخاطب نظرًا واحدًا، ومنها قوله: (أولى من الترك
والتغاضي) قالوا إن إعراب هذه العبارة يحتاج إلى تكلف وإن الأولية لا معنى لها،
بل هي مخلة بالمراد، ومنها قوله في التمهيد لتحويل أنظار وكيل الداخلية (ولا
يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه مهما كان معتقده) قالوا: إن الذي يفهمه الناس
من هذه الجملة على ما فيها أن الإنسان يغار على دينه وإن كان باطلاً وليس من
اللائق أن يكون هذا تمهيدًا من مشيخة الأزهر الشريف، بل غلا بعضهم فذكر
الفتيل والنقير كقوله: (وكيل الداخلية سعادتلو أفندم) وقال إن الأولى والأليق بمقام
المشيخة أن يُذْكَر اللقب الرسمي بصيغة عربية تدل عليه كقوله (إلى صاحب
السعادة وكيل الداخلية) فقلنا له: إن هذا لقب رسمي، فقال إن اللفظ الرسمي
التركي هو (داخلية وكيلي سعادتلو أفندم) فالعبارة ليست رسمية ولا عربية.
وقال هذا الفقير: إن الأولى بمقام مشيخة الأزهر أن يتبع الشيخ السُّنة في كل
ما يكتب، لا سيما الأمور ذات البال التي يُهتم بها شرعًا، فكان ينبغي أن يبتدأ
المكتوب بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويعلم الله أنني أوَّلت أمام جماعة من المنتقدين بعض ما انتقدوه حتى بالتمحل
والتكلف، فقالوا: لا نقبل التمحل النحوي البعيد والأقوال الشاذة والضعيفة، وإنما
نقبل أجوبة تثبتها الشواهد العربية؛ فإن هذا الكلام لا يرتقي من يجيزه إلى أن
يكون من المتفننين كما قال شيخ الإسلام في علماء العصر، ولا من الحفاظ كما قال
فيهم مفتي الديار المصرية، ورأيت أن الجواب الذي يبرئ مولانا شيخ الجامع
الأزهر الشريف من هذا كله، هو احتمال أن يكون أمر كاتب إدارته بأن يكتب إلى
سعادة وكيل الداخلية مكتوبًا في موضوع كذا، وأنه أمضاه ووقع عليه ولم يقرأه
لحسن ظنه وسلامة قلبه، والمنار مستعد لنشر ما يَرِد من قِبَل مولانا الشيخ وغيره
من العلماء في الرد على المنتقدين.
***
(التعصب الذميم والتساهل الجميل)
إن آداب إخواننا السوريين في البرازيل لَمما يُفتخر به، وإن جريدة المناظر
لهي مجْلَى ذلك الجمال، ومظهر ما ثم من الكمال، فقد علمنا منها أن أولئك
الفضلاء قد ألقوا أوزار التعصب الذميم عن ظهورهم، ونبذوا التقاليد التي كانت
تحملهم على الغلو في الدين عن غير بصيرة حتى إنه ليتراءى للناظر فيها أنهم
تركوا الدين؛ وإنما تركوا تلك التقاليد الضارة، وأخذوا ما في الدين من الآداب
النافعة، ومن آيات ذلك ما قرأناه في العدد 192 من هذه الجريدة لمكاتبها في
مناوس عاصمة ولاية الأمازون قال:
(في هذه العاصمة بضعة عشر مواطنًا من المسلمين، وفيهم غير واحد ممن
هذَّبه العلم، فلم يفرقوا بعد ارتقائهم بين من دان بالإسلام، ومن دان بسواه من
الأديان - أي لأن الإسلام يحكم بأن الناس في الحقوق سواء، فلا يهضم حق أحد
لأجل الدين ولا يعطى أحد غير حقه لأجل الدين - وفيها أيضًا مئات من المواطنين
النصارى بينهم رعاع لا يزال التعصب الأعمى يقود قلوبهم العمياء، وقد أراد أحد
هؤلاء الآخرين بغير داعٍ سوى التعصب أن يعتدي على إخواننا المسلمين ومالأه
على هذه الإرادة بعض أمثاله، فحدث غير مشاجرة بين الفريقين كان فيها المسلمون
ملتزمين جانب الدفاع، فساء هذا الصنيع أحرار الجالية منا، واتفقوا على أن
يناصروا المواطنين المسلمين على المعتدين، وفعلوا فعلم المتعصبون أن الزمان
ليس زمان انتصار المسلم للمسلم والمسيحي للمسيحي؛ ولكنه عصر اجتماع
المتهذبين المرتقين على مناوأة المتعصب من أي الأديان والطوائف كان، وعادوا
من ثم عن اعتدائهم، ولقد ظن بعض المعتدين أن الحكومة لا تسيء معاملتهم؛
لأنهم نصارى في بلاد نصرانية فعلموا عندما اقتصت منهم أنها لا تعرف المرء
بدينه، وهي كما يعلم القارئ جمهورية منفصلة عن الكنيسة تمام الانفصال) اهـ.
***
(البطريقخانة وأحكامها)
خاضت الجرائد المصرية هذه الأيام في بطريقخانة القبط، وما تصدره من
الأحكام التي يسمونها شخصية؛ وسبب الخوض أن البطريقخانة حكمت بالحَجْر
على قبطي، وجعلت امرأته قيمة عليه، فأبى الخضوع لحكمها وهي عاجزة عن
التنفيذ، ويرى أصحاب الجرائد القبطية أنه يجب على الحكومة تنفيذ أحكام
البطريقخانة القبطية دون غيرها من أمثالها؛ لأن لها امتيازًا وفضلاً على غيرها.
إذا كانوا يقولون: إن هذا الامتياز شرعي إسلامي، فما أحكام الذميين في
الشريعة بمجهولة ولا نعرف إمامًا ولا عالمًا قال بأن لهم أن يحكموا أنفسهم، وعلينا
أن ننفذ أحكامهم؛ وإنما اقتضى تساهل الشريعة الحكم بعدم التعرض لهم إذا تراضوا
فيما بينهم؛ ولكنهم إذا تحاكموا إلينا نحكم بينهم بشريعتنا، فالحكم بطريقهم وغيره
من رؤسائهم كحكم المحكَّم الذي يرتضيه الخصمان، وإذا قالوا: إنه امتياز مدني
فليدلونا على القانون المدني الذي أثبته. إن حكم القانون المدني بأن تكون قضاة
المحاكم المدنية من سكان البلاد على اختلاف أديانهم يقتضي أن لا يكون
للبطريقخانة حكم في شيء مما تحكم به هذه المحاكم، إلا إن كانت طائفة القبط
الأرثوذكس تطلب من الحكومة إخراج الموظفين من أبنائها من جميع المحاكم
والدواوين التي تفتات البطريقخانة الآن عليها بالأحكام والإذن لها بأن تنشئ محاكم
دينية محضة مستقلة بنفسها، فتكون حكومة ثانية؛ لأنهم لا يبيحون للحكومة أن
يكون لها أدنى مراقبة ولا تفتيش، بل ولا اطلاع على أحكام البطريقخانة وإنما
يوجبون عليها تنفيذ الأحكام فقط على ما تنوقل عنهم.
لو أن إجابة هذا الطلب في استطاعة الحكومة المصرية ومن خصائصها لما
كان لها أن تمنحه لهذه الطائفة؛ لأنه ينافي المساواة والعدل بين الرعية ويقيم عليها
قيامة الطوائف الأخرى.
وأقوى شيء يحتج به القبط حسن العهد بينهم وبين المسلمين عند الفتح
الإسلامي، ثم ما منحه السلطان محمد الفاتح للروم الأرثوذكس وجرى عليه السلاطين
من بعده.
ونقول: إن حسن العهد لا يستلزم أن يكون لهم من الحقوق ما يخالف الشريعة،
وحسبهم منه أن يكونوا أحرارًا في شؤونهم الدينية، وأن يبرهم المسلمون ويقسطوا
إليهم، على أن الأحكام في مصر قد صارت مدنية لا شرعية، وشارك القبط فيها
المسلمين كما تقدم، وهذا امتياز لا يعلوه امتياز، وليس من الإنصاف أن يُطلب
معه امتياز آخر، الحكومة إسلامية وقد تركت شريعتها بالنسبة للأحكام المدنية
والحدود والعقوبات الجنائية، واستبدلت بها قوانين أخرى نسبتها إلى دينها كنسبتها
إلى الديانة القبطية، وجعلت الحاكمين بها من أهل دينها ومن غيرهم من غير
التفات إلى الدين، ولم تبق هذه القوانين لشريعة الحكومة صاحبة البلاد إلا أحكامًا
قليلة كالأوقاف والمواريث والحجر وغير ذلك من الأحكام التي يسمونها شخصية،
فهل يليق بهذه الطائفة التي كان سلفها أحسن عهدًا مع المسلمين من سائر الطوائف
أن يحسدوهم على هذه البقية وينازعوهم فيها، ويخترعوا لأنفسهم أحكامًا لا
يقتضيها دينهم؛ لأنه إنما يأمرهم بالخضوع لكل حاكم يحكمهم؟
وأما الفرمانات السلطانية للروم الأرثوذكس، فهو على كونه لا يشمل القبط
غير مقتنَع به منهم، بل يطلبون الزيادة ومنها الحكم بالحجر، فهو ليس مما نطقت
به الامتيازات، وقد علموا أن المحكمة المختلطة لم تعتبر أن القبط في الامتيازات
الشاهانية كالأروام؛ ولكن القوم يطمعون بما هو أعلى مما يطلبون، وما جاء الوقت
ولكنهم قوم يعجلون.
***
(الإنعام السلطاني على صاحب المؤيد)
علمنا من أنباء الآستانة الخصوصية أن مولانا السلطان المعظم أيَّد الله دولته
أنعم على زميلنا الفاضل الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر بالرتبة الأولى من
الصنف الثاني، وبالوسام المجيدي من الدرجة الثانية، وهو إنعام صادف أهله وحل
محله، بل أبطأ عن وقته، والأمور كما يقولون مرهونة بأوقاتها، فقد قلنا في
المنار غير مرة أنه لم يخدم الدولة العلية والسلطان في مصر على الوجه الذي يحبه
السلطان ويرضاه مثل المؤيد، بل هو الذي علَّق الآمال بالدولة، وأنطق الألسن
باللهج بمدح السلطان أيده الله تعالى وسدده.
نخاطب بعد اليوم صديقنا باللقب الرسمي (سعادتلو أفندم) ولكننا لا ننزع
عنه لقب الشيخ فإنه أعذب الألقاب وأحلاها، وحلية العلم أشرف الحلى وأعلاها.
***
(غلام نجيب)
حدَّثنا الأستاذ مفتي الديار المصرية أنه رأى في السفينة التي ركبها من
تريسته إلى الإسكندرية غلامًا روسيًّا لا يزيد سنه على ثماني سنين يتعلم في بعض
مدارس أوربا، وقد ذُكِرَ للأستاذ من ذكائه ونجابته أنه يحسن الكلام بالفرنسوية
والألمانية وليس له في المدرسة إلا سنة واحدة، فكلَّمه الأستاذ بالفرنسوية، فإذا هو
كما قالوا يحسنها، وإننا نذكر بعض الحديث.
الأستاذ: أين تقصد؟ قال الغلام: أقصد مصر لمشاهدة الأهرام.
الأستاذ: إن في مصر آثارًا كثيرة غير الأهرام ينبغي أن تُرى فلماذا خصصت
الأهرام بالذكر؟
الغلام: إنني خصصت الأهرام لأنني قرأت عنها كثيرًا، ولا يستفيد الإنسان
فائدة تامة إلا من مشاهدة ما قرأ عنه؛ لأنه هو الذي يمكن أن يلاحظ دقائقه ويعرف
خصائصه، وإنني أعرف أن للمصريين آثارًا كثيرة غير الأهرام لأنني قرأت شيئًا
من تاريخهم وعرفت ملوكهم وعاداتهم.
الأستاذ: اذكر لي أشهر ملوكهم، وأشهر ما يُؤثر عنهم.
الغلام: ذكر أسماء أشهر الفراعنة، وأن أشهر ما يُؤثر عنهم تحنيط الموتى.
الأستاذ: ما سببه؟
الغلام: سببه الاعتقاد الديني فإنهم كانوا يعتقدون أن للأرواح حياة بعد الموت
ولا بد أن تكون في أجساد، وأن أجسادها الأولى أولى بها.
ثم سأله مصطفى بك كامل وكان حاضرًا: هل تحب فرنسا؟ فلم يلق بالاً لهذا
السؤال، حتى قال له: إن بين فرنسا وبين دولتكم ولاء وحلافًا، فقال: نعم ولكنني لا
أحب الجمهورية، قال البيك: عجبًا لشاب مثلك كيف لا يفضل الجمهورية على
الملكية، وهو يعلم أن الملك يأخذ المُلك بالإرث عن غير استحقاق، وأن حكومتك
لو كانت جمهورية لجاز أن تصير يومًا ما رئيسها، فقال الغلام بحماس: إن
الجمهورية عرضة للثورة دائمًا؛ وإنها تنزع من حياة العلم وتختلس من عمره
شهرين على الأقل من كل سنة يكون فيها الانتخاب؛ لأن الأمة كلها تكون مشغولة
به، أما الملكية فكما ذكرت وأنا أفضلها إذا جروا فيها على رأي بطرس الأكبر فإنه
فرض أن ينتخب الملك من يكون خلفًا له لأنه أدرى بالاختبار.
البيك: إن حكومتكم الآن ليست على ما قال فأنت إذن ضد لها؟
الغلام: لست ضدًّا لها؛ ولكن لو صار الأمر إلي لأرجعتها إلى رأيه.
البيك: هل تحب القيصر؟
الغلام: ما عرفته فأحبه؛ ولكنني أحترمه لأنني أسمع عنه أنه عادل....
__________(4/548)
غرة رجب - 1319هـ
14 أكتوبر - 1901م(4/)
الكاتب: عن مقالات العروة الوثقى الحكيمة
__________
كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [1]
العالم الإنساني كتاب المُعْتَبِر، وسفر المستبصر، وكل قرن من قرونه صفحة
وكل جيل من الناس سطر فيه أو جملة، ولنا في كل ما خطَّه القلم الإلهي عبرة.
أول ما يفيدنا النظر فيه وقوفنا على أحوال الشعوب في أطوارها المختلفة،
وأدوارها المتبدلة، فنرى أممًا علت وسمت وحلَّقت في جو المعالي، وجازت في
الرفعة مسارح النظر، ثم انحدرت بعد هذا وتدهورت وعفت رسومها، ولم يبق لها
أثر إلا في الروايات والأحاديث، ومنها أجيال كانت في ثَنْي العدم، ثم اكتست حلية
الوجود وأخذت من الاجتماع الإنساني مكان الهامة من الجسد، ثم انطوت وأخنت
عليها أمهات قشعم، ومنها ما نراه إلى اليوم يسحب مطارف العزة، ويشرف على
العالم بالأمر والنهي من شواهق القوة.
فمن الناس من تنجلي له هذه الشؤون وتلك الأطوار، كما تعرض عليه
الصور والتماثيل: ينبسط لبعضها إذا أعجبه، وينقبض للآخر إذا أنكره، وهو في
غفلة من منشأ ظهورها وعلل انقلابها، فإن سئل عن السبب قال: سبحان الله هكذا
كان، وهكذا يكون، وما هو إلا بخت يُسعد فيسعد به السعداء، ويُنحس فيتعس به
الأشقياء.
ومنهم من تنفذ بصيرته إلى الحقيقة، فيقف على ما هيأه الله من الأسباب التي
تتبعها أحوال الأمم في صعودها وهبوطها، ويعلم أن ما سيق من الخير لأمة إنما
كان بأيدي آحاد من أماثلها جدوا وجاهدوا وبما بذلوا من نفائسهم وأنفسهم فازوا
بتأصيل المجد لشعوبهم وبني جنسهم، ويرى لأولئك الأعلام ذكرًا يرفع، ومكانة
من القلوب تُحمد، وتميزًا عند الخلف بالكرامة، وهم لم يخالفوا الناس في جسومهم
ودمائهم؛ وإنما تقدموهم بهممهم، وقد يسوقه الاعتبار إلى الاقتداء بهم رغبة في
اقتطاف ثمار الثناء وتخليد الذكر، فإذا أخذ مأخذهم، واستقام على طريقهم فلا يكاد
يخطو بضع خطوات، ومبدأ السير تحت نظره حتى تعثر أقدامه في أياد مقطعة
ورؤوس مجذوذة، وأشلاء مبدَّدة، وشعور منثورة، وصدور مدقوقة، ويشهد
الطريق مضرَّسة بقبور الشهداء من طلاب الحق والناهجين في منهاجه، ولا
محيص له عن سلوكها، وتبدو له غابات وأدغال يرجع إليه منها صدى زئير الآساد
وزمجرة الضراغم، ولا بد له من اختراقها.
هكذا تتكشف لطالب المعالي موحشات مدهشات مصاولة المخاطر أدناها،
والموت الشريف أقصاها وأعلاها، فتارة يخور عزمه، ويضعف همه، فينكص
على عقبيه، ويرتد إلى أسوأ حاليه، ويرتع في مراتع أمثاله، حتى يروح إلى
عطنه الأولى به وهو العدم، وتارة يوحي إليه الإلهام الإلهي أن الشخص في
خاصته والأمم في هيئاتها ونوع الإنسان في مجموعه تطالبها صورة الإبداع بأعمال
شريفة دونها إجهاد الأنفس في السعي، وحملها على ما لا تهوى ومغالبة الأهوال
والغوائل، وفيما أودع الله الإنسان من القوى العالية والخواص السامية أكبر مساعد
على ما تندفع إليه الهمة، وتنبعث له العزيمة.
إن من أحياه الله بالحياة الإنسانية كلما هاجمته المصاعب لا يزداد إلا حرصًا
على قهرها، كما أن صاحب الشمم لا يزيده الخصام إلا حدة في الجدال وإصرارًا
على إقناع المخاصم، وكثير ممن على شكل الإنسان يحيى حياته هذه بروح حيوان
آخر وهو يعاني فيها من الشقاء أشد مما يعانيه الإنسان في إبراز مزايا الإنسان، إن
صاعد الجبل ربما يجد شيئًا من التعب ويخشى مفترسه الكواسر؛ ولكن قد ينجو
منها ويستريح على القنة ويعتصم بمكانة من الرفعة وتقصر عنه يد المتناول، أما
من أخلد إلى السفل فحظه من الحياة خوف لا ينقطع وإشفاق لا يزول، كل لحظة
توعده بالسقوط في صيد الصائد والوقوع بين أنياب الغائل، مات من الناس كثير
في طلب العلا ولم ينالوا، وبلغ كثير من الطالبين غاية ما أملوا؛ ولكن هلك بالفتك
أضعاف هؤلاء وهؤلاء ممن رئموا الخمول ورضوا بالحياة الحيوانية، هذه أحاديث
الحق ونفثات الروح الزكية تبعث من أيَّده الله ووهبه نعمة العقل إلى مداومة السير
واقتفاء أثر الماضين إلى أشرف المقاصد، فإما وصل، وإما مات كما يموت
الكرام.
لم تنل أمة من الأمم مزية من المزايا المحمودة عند بني البشر سواء في العلوم
المعارف، أو الآداب والفضائل، أو القوانين والنواميس العادلة أوالعسكرية وقوة
الحماية حتى خرج آحاد منها إلى ما تخشاه النفوس وتهابه القلوب، وسلكوا تلك
المسالك الوعرة، فبلغوا بأممهم أقصى ما بلغت بهم همهم، مع الاعتماد على العناية
الإلهية في جميع سيرهم.
ماذا يريد العانون في خدمة الأمم أو النوع الإنساني، والمنفقون لحياتهم في
أعمال فادحة يعود نفعها على من تجمعه معهم جامعة الأمة أو الملة أو يشاركهم في
النوع؟ أليس قد جعل الله لكل شيء سببًا؟ أليس من سنة الله في عباده أن لا تتجه
الإرادة البشرية إلى حركة تصدر عن المريد إلا بعد تصور غاية تعود إلى ذاته،
وبعد اليقين أو راجح الظن بأنه يستفيد الغاية من العمل؟ فإن كان الأجل يذهب في
مساورة الآلام الروحية، والعمر ينفد في مناهدة الأوصاب البدنية، فماذا يقصدون
من أعمالهم؟ إن كان يوجد في أبناء جلدتهم، وذوي ملتهم من يساعد حوادث الكون
على إيلامهم، ومما نعتهم في مقاصدهم، وصدهم عن السعي فيما يرجع خيره إلى
أنفس المعارضين، ويثخن فيهم جراح اللوم والتقريع، والشماتة والتشنيع، أو
يدافعهم بالمكافحة والمنازلة، فما الذي يبتغون من جدهم وكدهم؟ لا لذة تُجتنى، ولا
ألم يُتقى، فما هذا الباعث القوي الذي غلب الأهواء، ولم يضعفه جهد البلاء؟
نعم أودع الله في الإنسان ميلاً أقوى من كل ميل، وهو أخص خاصة فيه
يمتاز بها عن غيره من الأنواع، وهو حب المحمدة الحقة، وحسن الذكر من وجوه
الحق، أقول هذا تفاديًا من حب المحمدة من أي وجه حقًا كان أو باطلاً، وطلب
الثناء بالزور والغش والرياء والظهور بمظاهر الأخيار، مع تبطن سرائر الأشرار
فإن هذا من أسوأ الخِلال؛ وإنما يعرض بعد اعتلال الفطرة وفساد الطبيعة.
المحمدة هي الغذاء الروحاني، والمقوِّم النفساني، وكلما قرب شخص من
الكمال الإنساني تهاون بالشهوات، وازدرى اللذائذ الحسية، وقوي فيه الميل إلى
المحمدة الباقية، وبذل الوسع يما يفيدها من جلائل الأعمال (تأمل) إن الفاضل يرى
له في هذا العالم أجلين: أقصاهما الأجل المحدود من يوم ولادته إلى نهاية العمر
المقدَّر والآخر أبعد من هذا نهاية، وبدايته عندما ينجم من عمله الصالح أثر لمنفعة
تشمل أمته أو تعمَّ النوع الإنساني، وغاية هذا الأجل عندما يمحى أثره من ألواح
النفوس وصفحات التاريخ، فللروح الفاضلة وجودان: وجود في بدنها الخاص،
ووجود في جميع الأبدان، وهو ما يكون بحلولها من كل روح محل الكرامة
والتبجيل، ولا ريب أن هذا الأجل الطويل وهذا الوجود العريض خير من ذلك الأجل
القصير والوجود الكز [2] ، وحقيق بالإنسان أن يبيع ما هو أدنى بالذي هو خير.
يطول بي الكلام فأقصر: إن الله الذي وهب كل نوع ما به كماله وضع في
جبلة البشر ميلاً إلى الحمد وألهمهم تأدية حقه لمستحقه، ألم تر انطلاق الألسن في
كل أمة بالثناء على من كان سببًا لها في مجد ورفعة، أو نهوض من سقطة، أو
توحيد كلمة، أو تجديد قوة، أو كمال في فضيلة، أو تقدم في علم أو صنعة،
ويرسمونه في الألواح ويسجلون مدحته في بطون التاريخ، ويرفعون له الهياكل
والتماثيل، ويحفظون له ذكرًا حميدًا يتناقله الأبناء عن الآباء حتى ينقرضوا، أو
ينقرض العالم، إذا جحدت الأمة حق العامل لها، أو قصَّرت في استحسان عمله
ضعفت الهمم، وقل السعي في المصالح العامة، وانقبضت الأيدي عن تعاطيها
فهبطت شؤون الأمة فافترقت وماتت.
إن الله جل شأنه قرن كل حادث بسبب، فإذا استوى لدى الأمة الحسن والقبيح
والطيب والخبيث، والفضيلة والرذيلة، والمصلحة والمفسدة، وفقد منها التمييز،
ولم تُقَدِّر أعمال العاملين حق قدرها، ولم تعرف معروفًا، ولم تنكر منكرًا - سلبت
آحادها الميل إلى المعالي والكمالات، وكان هذا أشد نكاية بها من جور الظالمين،
وتغلب الغالبين، ظلم الظالمين لا يدوم وسطوة الغالب لا تثبت إذا كان جمهور الأمة
يقابل الإحسان بالاعتراف والفضل بالحمد؛ فإنه يوجد منها من يشتري هذه المكافأة
بتخليصها وإنقاذها، أما فقد هذا الإحساس الشريف فهو أشبه علة بالهَرَم لا عقبى له
إلا الموت والهلاك.
كيف لا تكون المحمدة الحقة نعمة على النفوس الإنسانية يسعى لها الأعلون
من بني الإنسان، وقد امتن الله بها على نبيه فيما يقول له: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) وكيف لا تكون حقًّا تطالب به الطبيعة وقد سمح الله لمستحقها
بالتحدث بنعم الأعمال الصالحات، كما سوَّغ ذلك لنبيه في قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: 11) .
قلِّب طرفك في تواريخ الأمم أقصاها وأدناها تجد برهانًا قاطعًا على أن الأمة
متى بخست قيم الأعمال العالية، وازدُري فيها بشأن الفضيلة فقدت ما به قوامها
وانهدم بناؤها وذهبت كما ذهب أمس، ولا جرم أن الكفران مقرون بزوال النعم.
يمكنني أن أختم كلامي هذا بكلمة شكر لهذه العصابة الطاهرة التي أقدمت في
هذه الأوقات النحسة، ووقفت على شفير الخطر، وكتبت على نفسها السعي في
توحيد المسلمين، ويسرنا أن نرى عددها كل يوم في ازدياد نسأل الله نجاح أعمالها
وتأييد مقاصدها إنه نعم المولى نعم النصير.
__________
(1) من مقالات العروة الوثقى الحِكيمة.
(2) الكزّ: اليابس والمنقبض، وكزّ اليدين: بخيل، والمراد هنا ما لا خير فيه.(4/561)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورة الحادية عشرة بين المصلح والمقلد
الأخذ بالدليل ونهي الأئمة عن التقليد
لما ضم الشاب المصلح والشيخ المقلد المجلس الحادي عشر قال الشيخ
المقلد: إن صديقي قد سافر وهو في حيرة لا يدري كيف يجمع بين ما أوردته من
نصوص أئمة الحنفية الصريحة في وجوب اتباع الدليل وعدم الأخذ بكلامهم إلا بعد
معرفة مأخذه من الكتاب والسنة والقياس الجلي، وبين ما ذكره ابن عابدين في رسم
المفتي، وفي حاشيته على الدر المختار من تقسيم العلماء إلى ست طبقات، كل طبقة
تقلد ما فوقها إلى المجتهد المطلق الذي له الحق وحده بأخذ الحكم من الدليل، وقال:
إننا نرى في الكتب أقوالاً مثل هذه الأقوال الدالة على وجوب اتباع الدليل فنحسبها
متروكة لأنا مقيدون بكتب مخصوصة، وأقوال علماء مخصوصين، وحجر علينا
الأخذ بقول غيرهم فضلاً عن اتباع الدليل استقلالاً حتى قالوا: إن أبحاث الكمال بن
الهمام الذي شهد له كثيرون ببلوغ مرتبة الاجتهاد المطلق، لا يجوز العمل بها إذا
صادمت المنقول من نصوص المذهب، وإن كانت أبحاثه مدللة وتلك النصوص لا
دليل عليها، بل هي مصادمة للدليل.
المصلح: أعجب من هذا القول التصريح بعدم جواز العمل بنصوص الكتاب
والسنة - وإن كانت صريحة - إذا هي خالفت نص علماء المذهب الذي لا دليل
عليه، ولكن نيِّر البصيرة لا يحار وإن كان مقلدًا؛ لأنهم إنما أوجبوا عليه تقليد
مجتهد، والذين قالوا هذه الأقوال مقلدون، والأئمة منهم براء منها، فمن عمل بهذه
القواعد في مسائل نطق الكتاب أو مضت السنة فيها بخلاف المنقول في المذهب، فقد
ترك أصل دينه الأصيل وركنه الركين لقول مقلد يتبرأ منه يوم القيامة؛ لأنه يحرم
تقليد المقلد ويصدق عليه قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة: 166) .
المقلد: قال صديقي إنه لا حجة لهم في هذا المقام إلا احتمال النسخ وقد
أعجبه قولك إن هذا الاحتمال يأتي في أقوال الأئمة والفقهاء؛ فإن الأقوال التي
رجعوا عنها أكثر من الأحاديث المنسوخة، وإن معرفة المنسوخ أيسر من معرفة
القول المتروك.
المصلح: الأحاديث التي قالوا بنسخها قليلة جدًّا وحصرها بعضهم في واحد
وعشرين حديثًا، وقد رأيت في كتاب نقلاً عن حاشية الهداية لابن العز في مسألة
المحتجم التي ذكرناها في المجلس الماضي أن أبا حنيفة وصاحبه محمدًا يعذران من
أخذ فيها بالحديث المنسوخ (أفطر الحاجم والمحجوم) خلافًا لأبي يوسف، وإنني
أحب أن أذكره لك، ذكر عند قول أبي يوسف بلزوم الكفارة وتعليله بقوله: (فإن
على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث) ما نصه:
(في تعليله نظر، فإن المسألة إذا كانت مسألة نزاع بين العلماء، وقد بلغ
العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين كيف يقال في هذا أنه غير معذور؟ فإن
قيل هو منسوخ فقد تقدم أن المنسوخ ما يعارضه، ومن سمع الحديث فعمل به وهو
منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا
تعمل به حتى تعرضه على رأي فلان أو فلان؛ وإنما يقال له انظر هل هو منسوخ
أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه كما في هذه المسألة فالعامل به في
غاية العذر؛ فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أولى من تطرق الاحتمال إلى
نسخ ما سمعه من الحديث) ثم ذكر قلة المنسوخ وجمع ابن الجوزي كل ما صح أو
احتمل نسخ، فإذا هو لا يتجاوز أحد وعشرين حديثًا ثم قال: (فإذا كان العامي
يسوغ له الأخذ بقول المفتي، بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي فكيف لا يسوغ
له الأخذ بالحديث، فلو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العمل
بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطًا في العمل، وهذا من
أبطل الباطل ولذا أقام الله تعالى الحجة برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم دون آحاد
الأمة، ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف
أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطأه من صوابه ويجوز عليه التناقض
والاختلاف، ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه عدة أقوال، وهذا كله فيمن له
نوع أهلية، وأما إذا لم يكن له ففرضه ما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن
كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له
المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه
الثقات من كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولى بالجواز، وإذا قدّر له
أنه لم يفهم الحديث فكما لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث)
اهـ.
المقلد: هذا الكلام موافق لما قلته لي من قبل إلا الاستدلال بالآية على التقليد
فقد منعته أنت.
المصلح: هذا كلام حسن جدًّا، وإني وإن كنت بينت أن الآية لا تدل على
جواز التقليد؛ لأنها في سياق آخر فإني لم أمنع الاهتداء بالعلماء والاستعانة بهم
على فهم الدين، وقد قلت غير مرة إن الأئمة رضي الله تعالى عنهم لم يستنبطوا
الأحكام ليصرفوا الناس إليهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم؛ وإنما استنبطوها
ليعلموهم كيف يفهمون وكيف يستنبطون؛ ولذلك حرَّموا الأخذ بقولهم من غير
معرفة دليله لئلا يفتتن الناس بهم ويتخذوهم شارعين، ولم ينسب لأحد منهم شذوذ
في ذلك إلا تلك الكلمة لأبي يوسف، وقد أوَّلها بعضهم كما تقدم وأبطل دليلها بعض
آخر كما سمعت آنفًا، على أن ابن العز هذا قد نقل عن أبي يوسف مثلما نقل عن
أبي حنيفة أنه قال: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه) .
أورد هذا عنه صاحب كتاب (إيقاظ همم أولي الأبصار) ثم أورد عبارة
أخرى فيها تشديد عظيم، وهي قوله بعد ذكر جواز ترك بعض المسائل في مذهب
لرؤية أن دليل المذهب الآخر أقوى:
(فمن يتعصب لواحد معين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى أن
قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة الآخرين فهو ضال جاهل، بل قد
يكون كافرًا يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع
أحد بعينه من هؤلاء الأئمة رضي الله تعالى عنهم فقد جعله بمنزلة النبي صلى الله
عليه وسلم وذلك كفر، بل غاية ما يقال إنه يسوغ أو يجب على العامي أن يقلد
واحدًا من الأئمة من غير تعيين زيد ولا عمرو، أما من كان محبًّا للأئمة مواليًا لهم
يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك، والصحابة
والأئمة بعدهم كانوا مؤتلفين متفقين وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة،
فإجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة
دون التابعين فهو بمنزلة من يتعصب لواحد من الصحابة دون الباقين كالرافضي
والناصبي والخارجي، فهذه طرق أهل البدع والأهواء) ... إلخ، وفيه ذكر أن
التعصب للمذاهب كان من أسباب دخول الإفرنج إلى بعض بلاد المغرب الإسلامية
وامتلاكها يعني الأندلس ومن أسباب زحف التتار على بلاد المشرق وتدويخ
المسلمين فيها وقد ذكرنا هذا من قبل.
وأعجبني قوله: (يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو
محسن) وإن كنت أسمي هذا استرشادًا وتعلمًا لا تقليدًا إذ التسمية لا مُشَاحَّةَ فيها؛
لأن هذا القول موافق لقوله عز وجل: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-
18) ومفهوم الآية أن المقلد الأعمى الذي لا يميز بين الأقوال ولا يعرف من أين
جاءت ليس ممن هداهم الله، ولا من أولي العقول {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) وقد أصيب
المسلمون لهذه المخالفة بفتن كثيرة وأنواع من العذاب ولا تزال الفتن تعبث بهم
والأجانب تستولي عليهم، وأكثرهم غافلون عن أسبابها وعللها ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
المقلد: هل تذكر شيئًا في النهي عن التقليد للإمام مالك بن أنس رضي الله
عنه.
المصلح: نعم روى حافظ المغرب ابن عبد البر عن عبد الله بن محمد ابن
عبد المؤمن قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي حدثنا موسى
ابن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا معن بن عيسى قال سمعت مالك
ابن أنس يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق
الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) ورواه غيره أيضًا،
وروى أيضًا بسنده إلى مطرف قال: سمعت مالكًا يقول: قال لي ابن هرمز: لا
تمسك على شيء مما سمعته مني من هذا الرأي؛ فإنما افتجرته أنا وربيعة فلا
تتمسك به.
المقلد: ما معنى افتجرته فإنني لا أذكر أنني سمعت هذه الكلمة.
المصلح: يقال افتجر الكلام بالجيم إذا اخترقه من نفسه ولم يسمعه، ويتعلمه
من أحد، ويقال: افتحر الكلام والرأي بالحاء المهملة إذا اخترعه ولم يتابعه عليه
أحد، وأجدر بالمفتجر أن يكون مفتحرًا.
المقلد: إن هذا من محاسن لغتنا؛ ولكنه غير مستعمل.
المصلح: إن شأننا في اللغة شبيه بشأننا في الدين، ولات حين كلام في ذلك
فلنمض في طريقنا إلى غايتنا.
وروي عن مزين وعن عيسى عن ابن القاسم عن مالك رحمه الله تعالى أنه
قال: ليس كل ما قال رجل قولاً - وإن كان له فضل - يتبع عليه، يقول الله:
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18) وروى سحنون عن ابن
وهب قال قال له مالك بن أنس وهو ينكر كثرة المسائل: يا عبد الله ما علمته فقل
به ودل عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء، وجاءه
رجل فسأله عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال
الرجل أرأيت.. . فقال مالك {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63)
الآية، وقال لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم: قلت هذا، كانوا يكتفون بالرواية
ويرضون بها.
وهنا التفت المصلح إلى المقلد وقال: ألم أقل لك من قبل: إن عامة أهل العصر
الأول لم يكونوا مقلدين يأخذون بآراء العلماء؛ وإنما كانوا يأخذون بروايتهم؟ ثم قال:
وروي عن عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: (دخلت على مالك أنا ورجل آخر
فوجدناه يبكي، فسلمت عليه فردَّ عليَّ، ثم سكت عني يبكي فقلت له يا أبا عبد الله
ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قَعْنب أبكي لله على ما فرَّط مني ليتني جُلدت بكل
كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي
وهذه المسائل، وقد كان لي سعة فيما سبقت إليه. وفي رواية أخرى: فقلنا له:
ارجع عن ذلك، فقال: كيف لي بذلك وقد سارت به الركبان وأنا على ما ترى، فلم
نخرج من عنده حتى أغمضناه) أي فكان هذا ما لقي الله تعالى عليه، ومن المشهور
عنه رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر،
ويشير إلى الروضة الشريفة، وفي رواية: كل كلام منه مقبول ومردود إلا كلام
صاحب هذا القبر، وسنأتي في المجلس الآخر - إن شاء الله تعالى - عن غير ذلك
مما يؤثر عنه، وعن أكابر أتباعه ثم ما يؤثر عن غيرهم من الأئمة وأكابر العلماء
حتى يتبين لكم أنكم ما قلدتم إلا من تجزمون بعدم جواز تقليده، والله الموفق
للصواب، ثم افترقا على موعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/567)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
النبذة السابعة
ذكرنا في النبذة السادسة أن صاحب كتاب الأبحاث أورد سبع آيات من القرآن
العزيز وحرَّفها عن مواضعها لإثبات كتب اليهود والنصارى، وإلزام المسلمين
باعتقادها والأخذ بها، وبيَّنّا فيها تحريفه وكون الآيات حجة للمسلمين على اليهود
والنصارى لا العكس بالكلام على ثبوت آيات منها، وفي هذه النبذة نتكلم على
باقيها.
قال: (والرابعة تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالتوراة والإنجيل إيمانه
بالقرآن) ونقول: إن الآية الرابعة هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} (النساء: 136) والمسلمون يعتقدون أن نبيهم جاء بالحق وصدَّق المرسلين،
وأمرنا بأن نؤمن برسل الله وكتبه السابقة؛ ولكن لم يكلفنا بالعمل بتلك الكتب لأنه
أغنانا عنها بكتاب أهدى منها لا نحار في روايته، ولا نضل في درايته، مشتمل
على جميع ما فيها من صحيح الاعتقاد، معصوم من التحريف والتبديل، محفوظ
من الضياع والنسيان، حاوٍ لما لا يوجد فيها من المعارف الإلهية كما سنبينه بعد
إن شاء الله تعالى، خالٍ من الإضافات التاريخية والآراء البشرية التي ألحقت
بما بقي من الكتب السماوية.
على أن هذه الآية قد اختلف المفسرون في المخاطبين بها، فقيل هم المنافقون
المؤمنون في الظاهر، المرتابون أو الجاحدون في الباطن، كأنه يقول لهم أيها
المدَّعون الإيمان بالله وكتابه ورسوله وسائر كتبه ورسله بأفواههم وظواهرهم، عليكم
أن تؤمنوا بقلوبكم وتطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب
لما روي من أن ابن سلام وأصحابه قالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك
وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه فنزلت الآية، وقيل: هم المسلمون مطلقًا
ولا يَعْتَدُّ المسلمون بإيمان مسلم إذا أنكر الإيمان بالأنبياء السابقين أو كذَّب كتبهم؛
ولكنهم لا يكلفونه بالبحث عنها والعمل بها؛ لأن الله تعالى أغنانا كما قلنا ولأنه قد
ضاع بعضها ونسي كما قال تعالى: {فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14)
وحرّف بعضها كما قال سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (المائدة: 41) وكيف نأخذ بكتاب نسي حظ عظيم منه، ربما كان مبينًا ومفسرًا للباقي، أو فيه ما ليس فيه مما لا بد منه فيكون أخذنا به على غير وجهه، أو يكون ديننا ناقصًا ويصدق علينا قوله تعالى في أهل الكتاب: {أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) الآية؟ ونكتفي هنا بالاستدلال
على نسيان أهل الكتاب حظًّا منه بالقرآن الكريم؛ لأن كلامنا مع الخصم في دلالة
القرآن على صدق الكتب، وسنثبته بعد بشهادة تلك الكتب وأقوال رؤساء
الديانة النصرانية.
قال: (والخامسة تبيّن أن أهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل كما كانوا
يعرفون القرآن) ونقول إن هذه الآية هي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن
نُّؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ: 31) ولا دلالة فيها على ما ذكر
حتى على تقدير أن المراد بالذي بين يديه الكتب المتقدمة؛ لأن سبب رفضهم
الإيمان هو دعوة القرآن ومن جاء به إلى ذلك الإيمان، أي أنهم قالوا: إننا لا نؤمن
بالكتاب الذي جئت به يا محمد وقلت إنه من عند الله، ولا نؤمن بالكتب التي قلت
إنها جاءت قبلك من عند الله، فأين الدليل في هذا على أن أهل مكة كانوا يعرفون
التوراة والإنجيل بذاتهما ويتدارسونهما وهم أميون لا يوجد فيهم، بل ولا في العرب
كافة من يكتب إلا أفراد لا يبلغون طرف جمع القلة - قيل إنهم كانوا ستة نفر -
والوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ: 31) أنه
يوم القيامة وما يتلوه من الثواب والعقاب وهو الأظهر.
قال: (والسادسة تبين إقرار محمد بصحة الكتاب ومساواته إياه بالقرآن)
ونقول إنه أورد الآية السادسة هكذا: (قل فأتوا بكتاب هو أهدى منهما - القرآن
والإنجيل - أتبعه) فانظروا أيها المنصفون إلى أمانة هؤلاء الناس في النقل، وإلى
تحريفهم في المعنى وهم يخاطبون المسلمين ويعرفون حرصهم على القرآن العظيم
وقد أنزل الله تعالى الآية هكذا: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا
أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (القصص: 49) أي أهدى من القرآن والتوراة لا
الإنجيل كما زعم مصنف كتاب الأبحاث، والدليل على ذلك قوله تعالى قبل هذه
الآية: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا
رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا
أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ
تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} (القصص: 47-48) (وفي قراءة ساحران)
وحكمة إسناد الكفر بموسى إليهم بيان طبائع الأمم وتشابه أطوار البشر حتى كأن
الحاضر عين الماضي، ولذلك قال الحكماء: التاريخ يعيد نفسه، والآيات حجة على
المكابرين وبرهان قاطع لألسنة المعاندين، وليس فيها ما يدل على المساواة بين
القرآن والتوراة في كل شيء فإن تعجيز المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله أهدى
مما جاء به موسى ومما جاء به محمد لا يقتضي أن ما جاء به أحدهما مساوٍ لما جاء
به الآخر، أرأيت لو قيل لجاهل بعلم المنطق ينكر على علمائه وكتبه: ألف لي
كتابًا فيه يكون خيرًا من كتاب إيساغوجي وكتاب (البصائر النصيرية) أتقول: إن
هذا القول يدل على أن الكتابين متساويين من كل وجه؟
قال: (والسابعة تبيّن الإقرار الصريح على أن التوراة صحيحة سالمة فيها
حكم الله، وأن متبعها ليس في حاجة إلى أن يُحكِّم أحدًا سواها) ، ونقول: إن الآية
السابعة هي قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} (المائدة: 43) هذا ما أورده المصنف منها وتتمتها {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43) وهي لا تدل على ما قاله لما نبينه هنا تبيينًا.
الآية واردة في التعجيب من حال اليهود الذين يحكِّمون النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم في بعض أمرهم، وهم غير مؤمنين به كالذين طلبوا حكمه فيمن زنى
من أشرافهم، وقالوا: إن حكم بالجلد أخذنا بحكمه، وإن حكم بالرجم فلا نأخذ به. مع
أن حكم الزاني منصوص عندهم في التوراة؛ ولكنهم يريدون اتباع الأسهل والأخف
ووجه التعجيب أن هؤلاء القوم ليس لهم ثقة بدينهم ولا إذعان لكتابهم، فهم
يحكِّمون صاحب شريعة غير شريعتهم، وشريعتهم التي يقولون إنها من عند الله
وفيها حكمه بين أيديهم، ومن العجيب أنهم لا يقبلون حكمه إذا هو وافق ما عندهم،
وهذا نهاية البعد عن الإيمان الصحيح الخالص بكتابهم، ولذلك قال تعالى بعد
استفهام التعجب من تحكيمهم {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43) أي ليس إيمانهم بكتابهم صحيحًا لأنهم أعرضوا عنه أولاً فتحاكموا
إليك يا محمد، ثم أعرضوا عن حكمك الموافق له ثانيًا، أو النفي لصفة الإيمان
عنهم بالإطلاق، فيدخل فيها ما ذكر ويدخل فيها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم
وما جاء به، أي أنهم فسدت نفوسهم وبطلت ثقتهم بالدين مطلقًا حتى لا يرجى منهم
أبدًا.
وظاهر أن القول بوجود حكم لله أو أحكام متعددة في كتاب الله لا يقتضي أن
يكون ذلك الكتاب كله صحيحًا سالمًا من التحريف، مشتملاً على جميع ما أنزله الله
تعالى، فإنني أقول إن كتاب السيرة الحلبية مثلاً فيه حكم الله، ولا أعتقد أن كل ما
فيه من الله تعالى، وأنه سالم من التحريف ولا حاجة لغيره، بل أعتقد مع هذا أن
فيه أقوالاً اجتهادية وآراء للمؤلف ونقولاً لا تصح، وإننا في حاجة إلى غيره.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/574)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
تعليم القراءة والخط والرسم [1]
(المكتوب 31) من هيلانة إلى أراسم في 15 مارس سنة 185
لما يتعلم (أميل) القراءة ولا يكاد يعرف حروف الهجاء وربما كنت أنا
الملومة على ذلك؛ لأنني لم أحثه على التعلم إلا قليلاً، ذلك أنني لا أنفك أذكر تلك
الغضاضة والكراهة للتعليم الأول، وما سببه على ما أرى إلا الإكراه عليه وهضم
ما يجب لطفلة صغيرة مثلي من حق الحرية والاختيار، وأرى أن حملي أميل على
التعلم؛ لأن غيره يتعلم كما كان يقال لي جناية عليه لأن عاقبة هذه الحجة أن تطبع
الناشئ على التقليد الأعمى والاقتداء بالناس في جميع عاداتهم من غير تفرقة بين
الحسن والقبيح، لمَ نختار ركوب الصعب في هذا السبيل ولدينا المركب الذلول،
وهو حمل الطفل على التعلم بالتشويق والتنويه بما في المطالعة من اللذة، فقد
يستغني الإنسان عن الأشياء التي يجهل فوائدها ومزاياها.
أنا جاهدة في تلمس الوسيلة التي تنبه اشتياق أميل إلى الحروف المطبوعة،
وتبعث فيه الميل إلى معرفتها، وإذا علم أن القصص العجيبة والأساطير الغريبة
التي أفكِّهه بمُلَحها وأفاكيهها كلها مأخوذة من الكتب، فلم لا يجد به الميل وتحمله
الرغبة على أن يأخذ تلك الحكايات من مصادرها ويستخرجها من ينابيعها بنفسه في
يوم من الأيام؟ وإذا تولدت فيه هذه الرغبة يومًا ما فكل ما بعدها يتبعها من نفسه
وإنني لا أفتأ أنظر تولدها وانبعاثها الحسن فيه وقد طال تأخرها.
لقد صارت القراءة لنا حاسة سادسة بما رسخت ملكتها فينا، ومع هذا لم نحط
خبرًا بالعقبات التي تحول دون وصول الطفل إلى معرفة الحروف الهجائية بسهولة
أنا باحثة عما عساه يكون منشأ لهذه العقبات الثابتة الراسخة ويشق علي الوقوف عليه
فليت شعري أليس هو ما به الفرق بين علم القراءة والكتابة وبين سائر العلوم؟
فإننا نرى هذه العلوم يساعد بعضها على معرفة بعض، ويُعِدُّ متعلم أحدها ويؤهله
لفهم الآخر إذا هو انتقل إليه لما بينها من الصلة واتحاد طرق الدلالة، ونرى علم
القراءة والكتابة بخلافها نرى أنه لا صلة بين الأشياء وبين هذه الأشكال والرسوم
الصناعية التي وضعت للدلالة عليها، فإذا انتقل المتعلم من مسميات الأشياء إلى
أسمائها في الورق ينقطع الاتصال به فجأة، لا يصعب على أميل أن يميز فيما يراه
من صور الأشخاص المرسومة وجوه أصحابها إذا كان رآها؛ لأن الشكل في
الصورة والمصوَّر يكاد يكون واحدًا، فأما الاسم المكتوب فإنه لا يمثل له شخص
المسمى بحال من الأحوال، فهل توجد طريقة لربط هذين النوعين من الأشياء في
فكره وأعني بهما الرسم والكتابة؟ هذا أمر يُطلب منك.
أنا أكلم أميل بالفرنسوية، وهو يتكلم مع أهل كورنواي بالإنكليزية، فهو بهذه
الطريقة يتعلم لغتين من اللغات العصرية بلا مشقة، بل لا حرج علي إذا قلت بلا
شعور منه بذلك، إلا أنه يغلط فيهما غلطًا غريبًا فيمزج أحيانًا بعضهما ببعض مزجًا
يكون أشد من الأضاحيك استضحاكًا، مثل لنفسك غلامًا يقول مخبرًا لك بأنه يريد
الخروج (JE VOUDRAIS TO GO OUT ?) ألست تغرب لهذا الخلط ضحكًا؟ لا غرو فما كان تكوُّن اللغات المختلطة فيما سبق إلا في مثل هذه الحالة
وهي تجاور جنسين متمايزين واختلاطهما زمنًا في مكان واحد، أنا أعتقد أنني أعلِّم
أميل، وهو في الحقيقة معلمي؛ لأنه قد فتح عيني وهداني إلى عدة مسائل ذهب
تعبي في البحث عن حلها في الكتب سدى، وليت شعري هل تصدقني إذا قلت لك
إنه يعلمني التاريخ.
يعرف أميل الرسم والتصوير، وإن كان لمَّا يعرف القراءة والكتابة فهل وُلد
مصورًا ورسامًا؟ لا أنكر أن النظر إلى خرابيشه [2] يضعف هذا الاعتقاد أو يذهب
به بعيدًا؛ ولكنها على كل حال صور آدميين وحيوانات ومساكن وغير ذلك، ولا
يكتفي بأن يحاكي بالقلم العادي أو الرصاصي شكل ما يقع عليه بصره بحسب ما
يتفق له، بل أراه يحاول التعبير عما في نفسه من الوجدانات، وما في فكره من
الحكايات بما يرسمه على هذه الأوراق من خرابيش الخطوط والصور، انظر كيف
حاول أن يكتب إليك مكتوبًا، أستغفر الله قد أخطأت في كلمة يكتب وكلمة مكتوب،
وكان ينبغي أن أقول: يرسم لك خطابًا بربائيًّا [3] وإني لأخشى أن يصعب عليك فهم
الرسم الذي يرسله إليك، فأرجو أن أكون أنا في هذه الدفعة شامبليون هذا الرسم [4]
فأقول:
تربية إحساس الشفقة
والرحمة وحادثة غرق
يمثل لك الرسم ريحًا عصوفًا هبت لليلتين من شهر أبريل، وظلت تعصف
إلى الليلة الثالثة منه، وليس هذا مما يحصل هنا نادرًا، ولله بيوتنا؛ فإنا مبنية
بالصوان (وهو الحجر الكثير في الضواحي) ولولا ذلك لتداعت، أو لدكت بقوة
العواصف والأعاصير الشديدة التي تضطرب لها هنا السماء والأرض والماء، على
أن البحر لم يُرَ منذ سنين بمثل هذا الاضطراب الذي أحدثته هذه العاصفة، ولا يجد
الواصف لهذه الحالة وصفًا إلا أن يقول: إن حجاب الروع والفزع قد أُسدل على هذا
الكون الذي لا نهاية له.
لا يسمع من لغط الناس المشئوم في هذه الحال إلا أخبار الغرق والغرقى تتردد
من ساحل إلى ساحل، ولم يكن لخفراء السواحل يومئذ هم منذ طلع الصباح إلا
مراقبة البحر الهائج بمناظيرهم المقرِّبة للبعيد يصوبونها إلى الأفق من على تلك
الصخور الوعرة المحيطة بالخليج، وكانوا لا يكادون يُرَون في ضوء ذلك الصباح
الملون بخضرة البحر الحوَّاء (الضاربة إلى سواد) على أن أشعة أبصارهم قد خرقت
تلك الحجب الجوية، وعلم الناس أنهم ميزوا من وراء تلك الأمواج المتراكبة
المصطخبة سواد سفينة على بعد قد وقعت في شعب مخيف، فانكسر صاريها
الأكبر وتحطمت جوانبها، فسقطت تضطرب كحوت أصيب بجروح عظيمة،
فصار يتقلب على جنبيه، وكان مما يثير ثائر الخوف أن تلك الأمواج التي تهيجها
العواصف فتعلو فجأة كالجبال، كانت تتلاعب بتلك السفينة فتقذفها آنًا بعد آن بتلك
الصخور الصم، وصار يتسنى للإنسان في ذلك الجو المطبق المحزن أن يميز في
ضوئه السنجابي اللون أيدي الناس في السفينة تحرك قطعًا من الشراع.
لم يكن للناس حينئذ من أمنية إلا نجاة هؤلاء الغرقى على أنهم لم يكونوا
يجهلون صعوبة إنقاذهم وتعسره، نعم إن أهل كورنواي أولو شجاعة ونجدة؛ ولكنهم
مع ذلك أصحاب حذر وفطنة، هدأت الريح قليلاً بعد شروق الشمس كامدة شاحبة،
والبحر ما زال متماديًا في طغيانه، مصرًّا على عدوانه، فكان يخيل لرائيه يتحرك
بنفسه أنه أخذته حمَّى نافض من القاصف، فأحدثت فيه هذه القوة العجيبة في
الرعدة والاضطراب، وكان بعض الصيادين المحنكين يرمون بأبصارهم إلى
الأمواج يتتبعون حركاتها بأعينهم المدرَّبة، ثم يُنغضون رؤوسهم وتعلو وجوههم
كآبة اليأس، وكان لسان حالهم يقول: لا حول لنا ولا قوة على إنقاذ هؤلاء المساكين.
أتى على الناس نحو نصف ساعة يتراوحون بين اليأس والرجاء، كان
كنصف قرن، ذلك أنهم كانوا يرون بعض إخوانهم بين مخلب الموت ونابه، وهم
يرجون منهم النجدة؛ ولكنهم لا يجدون لإنجادهم سبيلاً، وبينما هم في هذه الحالة
إذا بزورق النجاة قد أُحضر، فصاح الناس صيحة واحدة كانت منبعثة عن جميع
الصدور، وهذا الزورق يُعِدُّه الملاحون للدواهي الكبيرة، وقد أُحضر بقوة السواعد
والخيول، ووُضع في مكان من الساحل يرجى منه الوصول إلى الغرقى، وما عتم
أن امتلأ بالناس على وهنه وخفته وعظم الخطر في ركوبه، وقد تحمل قوبيدون
الذي تطوع في هذه الخدمة منذ سنتين أو ثلاث، كل مشقة الذود عن مكانه وحفظ
مجدافه، وكان الذين ركبوا الزورق يحسدونه على شرف التعرض لمخاتل المحيط
وفخاخه، وما نجح في ذوده ودفاعه هذا إلا بقوة حقوقه المكتسبة بسابق هذه الخدمة.
أنزل الزورق في البحر، وانحنى المجدِّفون الجريئون على مقاعد تعلو نصفها
الأمواج، وأوغلوا في البحر وكان أميل على ما أرى يأسف أنه لم يكن له من السن
والقوة ما يؤهله لمساهمة رفيقه قوبيدون في هذه السياحة الدالة على جراءة الجنان،
وشرف الوجدان، وأراه قد اكتسب في هذا المشهد من العبرة بإخلاص المخلصين،
والأسوة بإحسان المحسنين، ما لا أبيح لنفسي التعبير عنه بالكلام، ومحاولة شرحه
بفصاحة البيان، لئلا أضعف من قوته، وأشوِّه من صورته؛ فإن حضور المشاهد
العظيمة، ورؤية الأخطار الكبيرة، تعلِّمنا بغير كلام، وتربينا بدون إلزام.
غاب الزورق ساعات والناس في قلق مميت، وإذا بصائح يصيح: ها هو ذا
راجع، وكان يقترب من الشاطئ حقًّا، والناس في ريب من نجاحه، وما كان أشد
شجاعته في مساورة غضب الأمواج الثائرة! ! أنا لا أشك في أنك تعرف ما تأتي
به صناعة الملاحة من هذه العجائب وتلك الزوارق المنشأة من الهواء والبلوط التي
هي في الخفة كالريشة، وفي القوة والمتانة كما يحب الخير ويرضى، كان يخيل
للرائي في كل لحظة أن الفواعل الجوية المصطخبة ستبلع بقوتها هذه الصدفة
الخشبية التي تطاولت بجراءتها إلى منازعة البحر في غنيمته؛ ولكنها تطاولت
فطالت وحاربت فظفرت، فكأن هذا الزورق كان إنسانًا يسبح، وقد أعطته جِنِّية
طلسمها ليتقي به مفزعات النوء، وما كان أبدع منظر رجاله والماء يتدفق من فوق
قلانسهم المشمعة وثيابهم المزيَّنة، وهم راجعون أعزاء ظافرين، وإن كان الموج
نال منهم وترك أجسامهم كأجسام الضفادع ونحوها من حيوان الماء، وقذف بهم
أحيانًا في مهاوي عميقة كبطون الأودية، وطفر بهم أخرى إلى فتن عالية كشعاف
الجبال يظهرون بها للأبصار في ضوء الشمس السقيم، ولو أنه نزع مجاديفهم من
أيديهم لبادروا لاسترجاعها بقوة، كما يأخذ الشجاع سلاحه من عدوه.
صاح قوم من الملاحين كانوا على صخرة قائلين (نجوا) .
فلما سمعت هذا الصياح شخصت ببصري إلى الزورق الذي كان يدنو من
الشاطئ دنوًّا غير محسوس، وأنشأنا نميز بين رجال الزورق: ثلاثة من الغرقى
شاحبي اللون شحوبًا مفزعًا، وفتاة صغيرة ليس فيها أدنى علامة على الحياة.
وصل الزورق بمشقة شديدة، ورسا في مرسى من المراسي المحمية بالخليج
فلم ألبث أن تلقفت بعض التفاصيل عن حادثة الغرقى فعلمت أن إنقاذ الغرقى كان
عسرًا خطرًا، وأنهم لقوا الألاقي الشديدة، ويُظن أنهم باتوا ليلتين على الطَّوى،
وقد وُجدوا معشِّشين كالطير البحري حول بقايا أدوات السفينة التي لم يدمرها البحر
كلها تدميرًا، ولا شك أنهم لما صاروا عرضة لجميع شدائد الجو تسلقوا هذا
الموضع الحرج عند اغتيال الأمواج سطح المركب، وثبتوا فيه بخوارق الشجاعة
وقد تعب منقذوهم في تخليص الحبال من أيديهم التي أيبسها البرد، وكانوا عاجزين
حتى بعد نجاتهم عن مدافعة النعاس الذي اسْرَنْداهم، ودفع النوم الذي أناخ عليهم
بكلاكله.
كان الناس يتساءلون: من هم ومن أين أتوا؟ ومما كان يزيد في سوء حالهم
أنهم ما كانوا يحيرون جوابًا؛ لأنهم لا يفهمون خطابًا، فحسبت أنهم يعرفون غير
الإنجليزية فخاطبتهم بالفرنسوية وبالألمانية، بل استنفدت جميع ما أعرف من
اللغات، فلم أر في وجوههم أمارة على فهم شيء منها، وكان في الميناء بعض
الملاحين الروسيين واليونانيين والزوجيين فلم يكونوا أسعد حظًّا في مخاطبتهم،
تجلت هذه الحادثة بشكل الأمور الغريبة، فكأن هؤلاء الغرقى في نظر الناس
أموات بُعثوا ولم يعرفوا لغات الأحياء.
وأما الفتاة الصغيرة التي يظهر أنها بنت خمس، فكانت نجاتها كمعجزة من
المعجزات، وكانت أبصار الملاحين قد زاغت دونها، ولم تهتد في الضباب الذي
أثارته الأمواج إليها؛ ولكن قوبيدون لمح بعينه التي تحاكي عين الفهد شبه كتلة
معلقة في بقايا أدوات السفينة، وخاطر بنفسه في التسلق لاكتشافها أشد المخاطرة
فألفاها بنتًا قد لفت في نسيج ولبوس، وعلقت على ارتفاع عشرين قدمًا وسط
الحبال المتقطعة، وكانت مغمى عليها من البرد والجوع والخوف، فأخذها وألقاها
في الزورق، فظلت غيبة نعاسها كذلك الطائر البحري الذي يُرى متخدرًا طافيًا على
سطح المحيط.
أُدرك هؤلاء الغرقى في الوقت الذي يجب إنقاذهم فيه، إذ لم يمض على ذلك
بضع ساعات حتى هاج البحر هيجة حطمت بقايا السفينة، وبددت ألواحها تبديدًا،
وكانت القرائن تدل على أنه لم ينج من ركابها إلا هؤلاء.
أُخذ الغرقى إلى ملجأ الملاحين ليساعدوا على ضعفهم، وطلبت أن تضم
البنت إليَّ والفضل كله في هذا البِر لإخلاص قوبيدون، ليت شعري من أي البلاد
هي؟ إن ملامح وجهها وشعورها الحالكة وجلدها الذهبي تدل على أنها من البلاد
الجنوبية، هل هي يتيمة؟ وهل غرق أبواها؟ ومن هو صاحب اليد التي علقتها
في بقايا الصاري، تلك أسرار محجوبة عني، ولكن الظاهر أنها ليست لأحد الذين
نجوا من الغرقى، ولا بد أن نقف قريبًا على خبر السفينة ومن فيها، وسأكتب إليك
بما أعلمه من ذلك، وأستودعك الله قائلة: إن من حبك أن أتأثر بمصائب الناس
وأهتز لها.
(حاشية)
عُرف اسم السفينة وهو (أياكوكو) وغرقاها من البورفيين الذين يتكلمون
بالأسبانية غير الصحيحة، هذا كل ما عُلم إلى الآن عن هذه الحادثة البحرية
المحزنة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معرب من كتاب أميل القرن التاسع عشر في التربية والتعليم.
(2) جمع خرباش أو خربوش: وهي الخطوط الفاسدة غير المنتظمة، ويقال خربش الخط.
(3) البربائي: الخط الذي يوجد على جداران البرابي، وهي هياكل ومعابد معروفة في مصر.
(4) شامبوليون هو أول من حل الخط البربائي والهروغليفي بقراءة حجر رشيد المشهور.(4/578)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ريشة صادق
نذكر هنا بمناسبة كون هذه الرسالة في موضوع تعليم الخط والرسم ما نوهت به
الجرائد اليومية من اختراع خليل بك صادق صاحب مكتبة ومطبعة الشعب ريشة
للكتابة تفضل أمثالها بخصائص، منها أنها تكتب عدة أسطر بغمسة واحدة في الحبر،
وقد أقبل الناس عليها كثيرًا.
__________(4/586)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(ديوان حافظ)
نوَّهنا بهذا الديوان من قبل ونشرنا مقدمته، وقد تم طبعه مشكولاً مفسرًا ما
يحتاج منه إلى الشرح بقلم جامعه الشاعر الأديب محمد بك هلال، ورأينا في باب
شكوى الزمان منه صورة مكتوب للناظم كان أرسله من السودان إلى فضيلة مفتي
الديار المصرية يدل على رسوخ عرقه وطول باعه في الأدب، وكان يومئذ بين
المدافع والقواضب، ومقارعة الجيوش والكتائب، لا بين الدفاتر والمكاتب، فرأينا
أن ننشره لما فيه من الإبداع والدلالة على أن الناظم شاعر في منظومه ومنثوره وفقًا
لمذهبه في المقدمة، قال جامع الديوان:
(وكتب من السودان الكتاب الآتي إلى واحد العلماء في مصر، وإمام فلاسفة
هذا العصر، نادرة الفلك ومعجزة الزمان الأستاذ الأكبر فضيلة الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية، وقد أثبتناه هنا وإن لم يكن ثم محل للنثر (كذا) لاشتماله على
كثير من القريض نضن بضياعه:
كتابي إلى سيدي وأنا من وعده بين الجنة والسلسبيل، ومن تيهي به فوق
النثرة والإكليل، وقد تعجلت السرور، وتسلفت الحبور، وقطعت ما بيني وبين
النوائب:
وبشرت أهلي بالذي قد سمعته ... فما محنتي إلا ليالٍ قلائل
وقلت لهم للشيخ فينا مشيئة ... فليس لنا من دهرنا ما ننازل
وجمعت فيه بين ثقة الزبيدي بالصمصامة [1] والحارث بالنعامة [2] فلم أقل ما
قال الهزلي [3] لصاحبه حين نسي وعده، وحجب رفده:
يا دار عاتكة التي أتغزل
بل أناديه نداء الأخيذة في عمورية، شجاع الدولة العباسية، وأمد صوتي بذكر
إحسانه، مد المؤذن صوته في أذانه، وأعتمد عليه في البعد والقرب، اعتماد الملاح
على نجمه القطب.
وقال أصيحابي وقد هالني النوى ... وهالهم أمري متى أنت قافل
فقلت إذا شاء الإمام فأوبتي ... قريب وربعي بالسعادة آهل
وها أنا ذا متماسك حتى تنحسر هذه الغمرة، وينطوي أجل تلك الفترة،
وينظر إليَّ سيدي نظرة ترفعني من ذات الصدع، إلى ذات الرجع [4] ، وتردني إلى
وكري الذي فيه درجت ردّ الشمس قطرة المزن إلى أصلها [5] ، ورد الوفي الأمانات
إلى أهلها:
فإن شاء فالقرب الذي قد رجوته ... وإن شاء فالعز الذي أنا آمل
وإلا فإني قاف رؤبة لم أزل ... بقيد النوى حتى تغول الغوائل [6]
فلقد حللت السودان حلول الكليم في التابوت، والمغاضب في جوف الحوت،
بين الضيق والشدة، والوحشة والوحدة، لا بل حلول الوزير في تنور العذاب [7] ،
والكافر في موقف يوم الحساب، بين نارين: نار القيظ ونار الغيظ.
فناديت باسم الشيخ والقيظ جمره ... يذيب دماغ الضب والعقل ذاهل
فصرت كأني بين روض ومنهل ... تدب الصبا فيه وتشدو البلابل
واليوم أكتب إليه وقد قعدت همة النجمين [8] ، وقصرت يد الجديدين، عن
إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد، فلقد نما ضب ضِغنه عليّ، وبدرت بوادر
السوء منه إليّ، فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم، وآلامي كأنها جلود أهل
الجحيم، كلما نضج منها أديم تجدد أديم، وأمسيت ملك آمالي إلى الزوال، أسرع
من الشهاب في السماء ودولة صبري إلى الاضمحلال، أحث من حباب الماء [9] ،
فنظرت في وجوه تلك العباد، وإني لفارس العين والفؤاد، فلم تقف فراستي على
غير بابك.
وإني أهديك سلامًا لو امتزج بالسحاب، واختلط منه باللعاب، لأصبحت
تتهادى بقطره الأكاسرة، وأمست تدَّخر منه الرهبان في الأديرة، ولأغنى ذات
الحجاب، عن الغالية والملاب [10] .
ولا بدع إذا جاد السيد بالرد [11] فقد يُرى وجه المليك في المرآة، وخيال القمر
في الأضاة [12] ، وإن حال حائل دون أمنية هذا السائل، فهو لا يذم يومك، ولا
ييأس من غدك، فأنت خير ما تكون حين لا تظن نفس بنفس خيرًا والسلام) اهـ.
هذا وليس الديوان على أسلوب واحد؛ فإن فيه ما جاء على طريقة المعري
فيلسوف الشعراء كبعض الحكم والرثاء والشكوى، وفيه ما يحاكي أسلوب أبي
نواس كبعض الخمريات، ومن هذا الشعر ما لا يود مثلنا من رجال الدين نشره،
وإن كان لا يكاد يخلو كتاب من كتب الأدب ودواوين الشعر العربية عن مثله
كالقصيدة التي نظمها عن لسان الشيخ الصوفي في معشوقه شكيب، وثمن الديوان
عشرة قروش أميرية، فليبادر إليه مريده؛ فإنه لا يلبث أن ينفد.
***
(لغة الجرائد)
كتب العالم اللغوي المشهور الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلة الضياء مقالات
في انتقاد لغة الجرائد، بيَّن فيها ما شاع استعماله بين كتَّابها، بل أكثر كتَّاب العصر
من الأغلاط في مفردات اللغة وتراكيبها، وقد عُني الأديب الفاضل مصطفى أفندي
توفيق بجمع هذه المقالات وطبعها، وقد زاد على ما كُتب في الضياء كثيرًا من
الكلمات والجمل المنتقدة، وجعل ثمن المجموعة ثلاثة غروش أميرية، وهو ثمن
قليل لكتاب نجزم بعظيم فائدته، وإن لم تتيسر لنا مطالعته لما لنا من الثقة بمؤلفه.
__________
(1) الزبيدي: هو عمرو بن معد يكرب الشجاع الشهير في الجاهلية والإسلام، والصمصامة: سيفه المشهور.
(2) الحارث: هو الحارث بن عباد من شيوخ العرب، والنعامة: فرسه، وكان مشهورًا.
(3) الهزلي: هو نديم الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي، وكان لا يكلمه إلا جوابًا هيبة وإجلالاً، واتفق أن وعده بوعد وتثاقل في الوفاء؛ حتى خرج إلى الحج وكان الهزلي في حاشيته فمرا يومًا بدار عاتكة بنت عوف في مكة، فقال الهزلي للمنصور: يا أمير المؤمنين هذه دار عاتكة التي يقول فيها الشاعر: (يا دار عاتكة التي أتغزل) فعجب المنصور كيف بدأه الهزلي بالكلام، وعلم أن في ذلك نكتة فلما عادا إلى بغداد قرأ القصيدة حتى انتهى إلى قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
ففطن لإشارته الخفية، وذكر وعده فقام بوفائه لساعته.
(4) يريد ترفعني من الأرض إلى السماء أخذًا من قوله تعالى: [وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ] (الطارق: 11-12) والرجع: المطر سمي به لأن الله تعالى يرجعه وقتًا فوقتًا، أو لأنه يرجع إليها بالتبخر بعد أن ينزل منها، قال البيضاوي وعلى هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب، والصدع: الشق، تنشق الأرض بالنبات وبالعيون تتفجر منها.
(5) يشير بهذه الجملة إلى التعليل الثاني السابق لتسمية المطر بالرجع.
(6) رؤبة: هو الراجز العربي الشهير، وكان أكثر أراجيزه على روي القاف الساكنة، فضرب بها المثل في السكون قال المعري:
ما لي غدوت كقاف رؤبة قيدت ... في الدهر لم يقدر له إجراؤها.
(7) الوزير: هو محمد بن الزيات وزير مروان الحمار آخر بني أمية، اتخذ الوزير تنور العذاب لتعذيب من يؤمر بإعدامه، فكان هو أول من عُذِّب فيه بأمر مروان وقصته مشهورة.
(8) النجمان: هما المشترى والزهرة كانوا يعتقدون أن لهما تأثيرًا في التأليف بين القلوب، ذكره شارح الديوان.
(9) فسر الشارح (أحث) بأسرع، والمعروف في معاجم اللغة أن حثه على الشيء بمعنى حضه
عليه ولا يصح هنا.
(10) الغالية: أخلاط من الطيب، والملاب - بالفتح - العطر السائل، فارسي الأصل.
(11) يريد رد الجواب وإطلاقه بهذا المعنى من عرف المصريين.
(12) الأضاة - بالفتح - غدير الماء، وضُبط في الأصل بالضم، وجعل على الألف عالمة المد، وهو غلط بالطبع ولم يفسره الشارح.(4/587)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رزء عظيم إسلامي
وفاة أمير الأفغان
نعت البرقيات العمومية في الأسبوع الماضي الأمير عبد الرحمن صاحب
أفغانستان أعقل أمراء المسلمين في هذه العصور الأخيرة وأبصرهم بالسياسة، بل
أعقل أمراء الشرق وملوكه، وأعلاهم حكمة، وأشدهم حزمًا، وأبعدهم رأيًا، ولا
أستثني ميكادو اليابان الذي ضربت أمته مع الأوربيين بكل سهم، وطاولت دولته
دول الغرب في كل أمر؛ فإن أمير الأفغان الذي حفظ استقلال بلاده وهي على ما
نعلم من مشكلاتها الداخلية والخارجية، لا يقاس به ملك كالميكاد يرتقي عند رعيته
إلى مرتبة الألوهية، ويُخضع له الخضوع الأعمى، وليس مطموعًا في بلاده من
أقوى دول الأرض كدولتي روسيا وإنكلترا الطامعتين في الأفغان، وقد نوهنا
بفضل هذا الأمير في أجزاء من المنار وسَنُلمّ بشيء من تاريخه في جزء آخر، وقد
انتقلت الإمارة لنجله الأمير حبيب الله خان الذي نرجو أن يكون استفاد من تربية
والده ودهائه ما يجعله خير خلف له، كما نرجو من إخوته وسائر أمراء الأفغان
ورؤساء قبائلهم أن يكونوا له كما كانوا لأبيه؛ فإن التفرق آلة الدمار، وعامل
الخسار، ونسأل الله تعالى أن يتغمد هذا الأمير برحمته ويعفو عن زلاته الاستبدادية
التي كانت نتيجتها خيرًا للرعية.
__________(4/591)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي
شاع من بضعة أشهر أن مولانا السلطان - أيَّد الله دولته - قد غضب على
صاحب السماحة الشيخ أبي الهدى أفندي غضبًا لم يغضب عليه مثله، وقد حقق مرور
الزمن الطويل ذلك، ويؤكد العارفون بأسرار الآستانة أن ثقة السلطان به قد زالت من
كل وجه؛ حتى أنه لا يفض ختم التقارير التي يرفعها إليه، وإن كُتب على ظرفها
أنها تتعلق بحياة السلطان التي هي أهم الأشياء وأجدرها بالالتفات والعناية، والتي كان
الإيهام فيها هو الوسيلة العظمى لقرب أمثال هذا الشيخ من المقربين الذين باعوا
مصالح الأمة والدولة بالحظوظ التي ينالونها من شغل مولانا السلطان بها، أما سبب
هذا الغضب المباشر فأقرب ما يقوله الناس فيه إلى التصديق أنه ثبت لمولانا السلطان
أن الشيخ كَاتَبَ سمو الخديو المعظم، وخضع له في حادثة (شكيب) المشهورة، مع
أنه كان يحاول دائمًا إقناع السلطان بأن الخديو طامع بالخلافة، أليس هذا الخضوع مع
هذا الزعم أعظم كفران بنعم مولاه؟
__________(4/592)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عودة أحمد عرابي
عاد إلى مصر من سيلان زعيم الثورة العرابية أحمد عرابي باشا بعفو من
سمو الخديو المعظم مبني على شفاعة ولي عهد دولة الإنكليز، ومن عموم الجهل
في القطر المصري أن أكثر أهله لا يزالون في أمر مريج من الاعتقاد بهذا الرجل،
فمنهم من يعتقد أنه كان يقصد نفع الوطن وخدمته بكل إخلاص، وأن السبب الأكبر
في فشله وخيبته إعلان السلطان عصيانه وخروجه، ومن هؤلاء أكثر العامة؛
ولذلك كانوا يتمسحون به تبركًا بعد أن صلى الجمعة في مسجد السيدة زينب رضي
الله عنها وعندما زار الضريح الحسيني، ومنهم من يعتقد أن سبب فشله هو الجهل
بما يحتاج إليه هذا العمل العظيم الذي تصدى له، ومنهم من يعتقد أنه كان بينه
وبين الإنكليز وفاق سري، كان هو السبب في مساعدة قنصل الإنكليز له في كثير
من مطالبه قبيل الثورة وفي أثنائها، ومنهم من يعتقد أن هذا الوفاق كان بينه وبين
الخديو السابق توفيق باشا ودولة الإنكليز لأجل استقلال البلاد المصرية وانفصالها
من الدولة العلية، ويظهر لنا صحة ما قاله البعض من أن أكثر الخواص يمقتونه
على كل حال؛ لأنه سبب ضياع استقلال بلادهم.
__________(4/592)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
من إدارة المنار
نرجو من قراء المنار الأفاضل في تونس أن يرسلوا قيمة الاشتراك حوالة على
إدارة البريد باسمنا، ونخص بالرجاء من لم يدفع عن السنة الماضية، ونرجو من
المشتركين في الدقهلية الاعتماد على توقيع الدكتور النطاسي نصر أفندي فريد طبيب
العيون بالمنصورة والدفع له.
__________(4/593)
الكاتب: أحد الفضلاء
__________
مفاسد لا موالد
لأحد الفضلاء
يصف المولد الكبير الأحمدي وبعض ما كان فيه من البدع والمنكرات
والتقاليد والعادات
إن صح ما يقوله علماء العمران من أن المعارض معيار تقدم الأمم وارتقائها
في الحضارة؛ لأنها السوق الذي تعرض فيه بضائعها وما حصلت عليه من علوم،
وما تحلت به من أخلاق وآداب، والزناد الذي باستيرائه يتجلى كامن القوة، ويتسنى
الانتفاع بما أودع الله فيه من صنعة الحكيم العليم - كان المولد الأحمدي هو أول
معيار يعرف به الحكيم الحاذق ما عليه أمتنا المصرية من الارتقاء في سلم المدنية،
وما أحرزته من مستلزمات الحضارة والسبق في ميدان تنازع البقاء، ويمكنه بعد
أن يجول في أنحاء طنطا في هذه الأيام جولة صغيرة، أو يجلس في محل مشرف
على طريق عام برهة من الزمن أن يستجمع من الأدلة والبراهين التي يشاهدها
بعيني رأسه، ويسمعها بأذنه ما يكفي لاقتناعه بأن يُصْدِر حكمًا قد رسخت قواعده
على أساس العدل على ما وصلت إليه الأمة في آدابها وأخلاقها، وهل هي من ذلك
في الدرك الأسفل أو الدرجة العليا، وإذا كان ممن يعرف شيئًا عن حقيقة الدين
الإسلامي تبين مقدار محافظة الأمة عليه، وقيامها به، واعتبر هذا المولد عظة
وذكرى لقوم يعقلون.
ولكن ما الذي يشاهده يا ترى؟ يشاهد طنطا وقد احتشد فيها أنواع الناس من
كل فج وناحية، وهي تموج بهم موجًا وقد ضاقت بهم أرجاؤها على رحبها، وقد
تخلل عشرات ألوف هذا الجمع المزدحم آلاف من الباعة لأنواع الألاعيب وملهيات
الأطفال والمناديل وأنواع الخردوات وسائر المعروضات، التي لو سألت عن
منشئها، ومن أين جاءت لأجبت لأول وهلة إنها من واردات البلاد الأجنبية، فليس
بين ما يعرضه الباعة من المصنوعات المصرية إلا النزر اليسير من تافه المبيعات
كالزمارات المتخذة من القصب الفارسي ونحو ذلك، وما بقي فمعروضات إفرنكية
في الحقيقة، وقلما تسمح نفس مصري بعرض مصنوع مفيد يكون من ورائه ترقية
حال الأمة في زراعتها، أو تسهيل الأعمال التي تزاولها من المهن الضرورية،
على حين نرى فيه الإفرنج يتسابقون إلى مثل هذه الأحوال فهم يعرضون في هذا
المولد طنبورًا رافعًا للمياه، يذكرون من فوائده أنه يسهل ري الأرض بدرجة لم
يسبقه بها من الآلات الرافعة إلا ما كانت إدارته بقوة الآلات الكهربائية أو البخار.
وقد رأيناهم يعرضون في المولد الذي قبل هذا أنواعًا من النوارج ومكينات
لفرط الذرة، وأخرى لغربلة الحبوب، وثالثة لطحن البن وما شئت من مصنوعات
تضافرت عليها أفكار وأيدي الإنسان، فكانت خير نتيجة أنتجها الجد وممارسة
العلوم {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
إذا صرف العاقل نظره عن التأمل فيما يتبادل الناس بيعه وشراءه، وتأمل في
هذا الجمع المزدحم رأى أصناف الناس كأنما دعاهم داعي النشور، فقاموا مسرعين
إلى موقف فصل القضاء، قد اختلط الرجال بالنساء والكبار بالصغار، كل آخذ في
سبيله منصرف لما يريد، يُرى من بين هذا المزدحم فئات من الشبان قد التفوا حول
غانية هيفاء، وقد خرجت متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، وبذلت أقصى ما تصل
إليه يد إمكانها من الزينة لتغري هؤلاء الأغرار باتباعها حتى يصلوا بها إلى ملهى
من الملاهي، ويكون هناك من انتهاك حرمة الآداب ما تقشعر منه الأمم العريقة في
الهمجية.
يرى الطبول تقرع وكاسات الفقراء ترن، والرايات الملونة خافقة في الهواء
وحاملوها يتمايلون كأنما سرت فيهم كهربائية الولاية.
أنا جالس الآن أشاهد الطريق الذي يمر منه الخليفة، وقد ازدحم الناس على
جانبي الطريق والإفرنج يشرفون من الكوى والشرفات ليشاهدوا ما يعمله المسلمون
من شعائر دينهم، ومن تحتهم تمر الخلفاء والنقباء وأرباب الأشائر وأبناء الطرق
بالأزياء المختلفة، وآحاد الناس قد احتضنوا الأبناء وعلى رؤوسهم الطراطير
المخروطية الشكل المختلفة الألوان، وهؤلاء الخلفاء - ما عدا خليفة السيد طبعًا -
يسير الواحد منهم وهو ممتط فرسًا ذلولاً، وقد أمسك بهذا الشيخ من جوانبه الأربع
فئة من مريديه، وهو يتمايل على أيديهم ذات اليمين وذات الشمال، وإلى الأمام
وإلى الوراء، وآخران قد أمسكا بزمام فرسه وهو على هذه الحال كأنما أُخذ عن
حسه واستغرق في مشاهدة الذات الأقدس، والبعض من هؤلاء المشايخ الأقطاب قد
أسبل على رأسه وجانب من نصفه الأعلى كساء من الصوف الأحمر أو الأصفر أو
الأخضر أو نحو ذلك، فلا يُرى من بدنه شيء، وبعض قد عرى رأسه وجسده إلى
ما تحت السرة، وانحسر اللباس عن رجليه إلى ما فوق الركبتين، فلم يستتر من
جسده غير سوأتيه، وهو في تمايله ذاك يخرج من فيه لعابًا يسيل من أشداقه كأنه
يتخذ هذه الحال عنوانًا على الرقي إلى حظيرة القدس أو التناهي في مقام القرب،
وكونه لم يبق بينه وبين مخالطة الملأ الأعلى وعالم الروحانيات شيء، وأمامه
وخلفه ثلة من الشيب والكهول والشبان بغريب الملابس قد استولى عليهم الجذب،
وشغل حسهم شهود الخالق في زعمهم، فهم يثبون وثبة القرد أمره سيده بمحاكاة
البرابرة يرقصون في ملاهيهم فائتمر، والناس يقرأ بعضهم الفواتح والبعض
يستغيث بهم والنساء تزغرط، وما شئت من هذا الباب واكتلت من هذا الجراب.
وبعد ذلك مرت الموسيقى وعلى جماعتها مظلة واحدة يبلغ قطرها ثلاثة أمتار
ونصف تقريبًا، وقد نُقشت بأنواع الأصباغ، فكانت مرمى نظر الجميع، ثم مر
الطبل التركي وخلفه أرباب الحِرَف وخَدَمَة القهاوي من البلاد المختلفة، وقد امتطوا
الخيول والبغال والإبل على أنحاء شتى وعلى رؤوسهم الطراطير الموصوفة، ولا
تسل عن عربات النقل (الكارو) المقلة للنساء والفتيات، وقد لبسن الطراطير،
وأخذ الحَرُّ مأخذه منهن حتى إن الواحدة ربما لم تجد شيئًا تحرك به النسيم سوى
نعلها، فتنتزعه من رجلها وتمر به أمام وجهها يمينًا وشمالاً تموِّج به الهواء تنفس
عن نفسها، وربما فعلت ذلك لتكون أضحوكة.
ومر بعد ذلك شخص أمامه موسيقى خصوصية، وقد اعتلى فرسًا وجعل على
رأسه كوفية ملونة ولف عليها عقالاً وضرب بفضل أطراف الكوفية على وجهه،
فلم يظهر منه سوى عينيه وشد على وسطه زنارًا ملونًا، واحتذى حذاء مما لا
يلبسه إلا السيدات، وحلَّى ساقه بخلخال لامع من الفضة، فاختلف الناس فيه أهو
مخنث أو امرأة تخفي أمرها، وبعبارة أخرى (هل هو الرجل الجديد أو المرأة
الجديدة) ثم مرت شرذمة من العساكر الفرسان بأيديهم السيوف، تتلوها أخرى من
الرجال بأيديهم البنادق، ثم غوغاء من الناس يذكرون الله لا يتجاوز الذكر حناجرهم
وقد تلجلج بصرهم ذات اليمين وذات الشمال، ثم سبعة من كناسي المسجد
الأحمدي بأيديهم سيوف أنحى عليها الصدأ وكر الغداة ومر العشي، وقد لبسوا
دروعًا وخوذًا أخلقتها الدهور لا قِراع الكتائب، والظاهر أنها كانت ما يُستعمل زمن
الحروب الصليبية، والناس يزعمون أنها كانت لباس الأسرى الذين احتملهم سيدي
أحمد البدوي من بلاد الكفار، وأمامهم حاملو البلط والسيوف الخشبية، ثم الخليفة
وعلى رأسه التاج المنسوب إلى السيد أحمد البدوي، وبجانبه الحراس من فرسان
العساكر والأهالي خيفة أن يختلس التاج أولاد نوح الذين يزعمون أنهم أولى به،
ووراءهم أخلاط المشاة والركبان بالأزياء المختلفة والبعض قد ضم إليه طفلاً ألبسه
خرقة خضراء وطرطورًا رجاء أن يعيش ويطول عمره، تتخللهم زعانف آخرين
كحملة المزمار والطبل البلدي والتركي، ثم الذين يركبون الإبل، وقد وُضعت بينهم
مائدة على ظهر بعير يلعبون عليها بالضمن والكوتشينة والنرد، ثم راكب على
جمل قد لبس حلة من شعر المعز وتاجًا أخضر محلّى بالقصب المخيش وحلة
خضراء، وأمامه ولد كذلك، وأمام الولد سفط مغشى بالنسيج الأخضر وغبيط
الجمل كذلك، وبعد ذلك ثلاثة نفر قد صبغوا وجوههم بألوان من الأسفيذاج
والسليقون واللاذورد وتزيوا بأزياء مختلفة وبيد كل منهم قرص من السرقين يموِّج
به الهواء ليستنشقه باردًا، وبالجملة لا يكاد يمر بالموكب إلا من غيَّر زيه وشكله
وخَلْقَه وخُلقَه.
هذه بعض صفات المولد الأحمدي الذي يعتقد كثير من الناس أنه من
مستثنيات الشريعة الغراء، وأن المبادرة إليه من أفضل القرب، وأن من زنى فيه
لا بد أن يتوب الله عليه، وأن موكب الخليفة الموصوف هو مهبط الأسرار الربانية
وأن ما يقع فيه من الأمور المخالفة للشريعة لا يقع إلا وقد سبقه الغفران، وهكذا
تلبس المساوي لباس الآداب الدينية وتلتصق الوثنية بدين التوحيد، وتعد المخازي
الهادمة للآداب والمروءة من دعائم الحنيفية السمحة، تبرأ الإسلام من ذلك وتعالى
الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
أكتب هذه السطور وأنا مشرف على موكب الخليفة من جهة يميني، وعلى
يساري كتاب فيه تاريخ الفراعنة في وثنيتهم الأولى أطالع وصف مواكبهم وأجيل
طرفي في صورة الموكب، فلم أقرا مثلما يلمح طرفي الآن مما يشوه وجه الآداب،
أو يناقض سمات الفضيلة، فخيل لي أن تلك الوثنية الأصلية أرقى من جميع
الوجوه مما لحق بالإسلام والتصق به من هذه الشعائر الوثنية الطارئة.
مررت على بيت فإذا فيه جماعة قد أخذوا بأيديهم المعازف من الدف والمزمار
البلدي والأرغول والناي، والجميع يعزفون بالأنغام، ومنهم ضارب على صنجة
رنانة من الفولاذ، ومعهم جماعة يتمايلون ويوقعون الذكر على هذه الألحان، ففي
أي دين جاء هذا، وفي أي قرآن شُرِع، وعلى أي رسول نزل؟ هذا القرآن الذي
جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليس في آياته أمر يذكره تعالى في حال تمايل
الذاكر كتمايل الثمل أمام إناء بنت الحان فأمالته، ولا أن يكون ذكر الله على توقيع
ألحان المعازف، ولم يُنقل من أحواله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا الذي يأتيه
أعوان الضلال الذين يتبعون خطوات الشيطان وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وهناك قوم آخرون يذكرون الله بأصوات منكرة مزعجة أذكرتني ما أخبرني
به بعض المدرسين بالجامع الأحمدي وهو أنه شاهد جماعة من هؤلاء في سفره إلى
الحجاز كانوا معه في قافلة وهم من المصريين، فأناخت القافلة في وادٍ بين جبلين،
فقام هؤلاء يذكرون (الذكر البيومي) في جوف الليل، فلما علا صوتهم وتردد
صداه في تلك الصحراء هاجت الجمال، وأخذت في أرجلها أطناب الخيام، وقلَّعت
الأوتاد، وذعر النيام، وساءت حال القافلة، فقام الأعراب ممتشقين السيوف
يتساءلون ما هذا الضجيج، فقال لهم ذلك المدرس هذا ذكر الله، فقال له أعرابي
جلف: ذكر الله به تطمئن القلوب، ولا تهيج منه الجمال.
هذا بعض ما رأيته في هذا المولد، ولو كنت ممن يغشى مواطن اللهو لذكرت
كيف تُراق دماء الآداب بإراقة دم بنت العنقود، وكيف تنحدر جداول الدراهم
والدنانير وتصب في خزائن باعة المسكرات، وكيف يأتون بالبغايا وينصبونهن
حبائل لاقتناص الوارثين من أبناء الموسرين، وكيف يخرب هؤلاء الأغرار بيوتهم
بأيديهم وأيدي الخواجات، ومن وراء ذلك سوء المنقلب وبئس المصير.
وفي الختام أقول إن السيد أحمد البدوي رضي الله عنه لو كان حيًّا يمشي على
رجلين، وينطق بلسان وشفتين، ودعا أهل القطر المصري لعمل من الأعمال
الخيرية يعود عليهم بالخير العاجل والثواب في يوم الجزاء، لما لقي منهم إلا
إعراضًا، بل لو قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى مثل ذلك لما كانوا
له إلا كما كان عبد الله بن أبي بن سلول فإلى متى لا نرى من الحكومة إلا المساعدة
على هذه المنكرات، ولا نبصر من العلماء إلا الإقرار على هذه الموبقات.
... ... ... ... ... ... ... ... ع. ن
__________(4/594)
16 رجب - 1319هـ
29 أكتوبر - 1901م(4/)
الكاتب: محمد أفندي كرد الدمشقي
__________
الاستقلال والاتكال
بقلم الكاتب الفاضل محمد أفندي كرد علي الدمشقي
يطالع المستفيد مئات من كتب الفلسفة والأدب وعلوم العمران، فلا يعتم أن
يستقل منها ما يأخذ مأخذه من العقول، ويُحْدِث أثرًا في النفوس، ولا عجب فقد
تنصرف وجهة الألوف إلى خدمة العلم وبث الملكات الصحيحة، فإذا فوضل بينهم
ووُضعت أعمالهم في ميزان النَّصفة، وعلى محك الاستبصار يكثر الشائل ويقل
الراجح، والمؤثرون في الأفكار في كل الأعصار والأمصار أندر من الغراب
الأعصم والكبريت الأحمر، على أن كل من بذر بذورًا طيبة لا ينفك مثلوجًا فؤاده
مهما تأخر نباتها وإيتاؤها لعلمه بأنها ستؤتي أكلها عاجلاً أو آجلاً إذا لاءمتها طبيعة
المنبت، وأحسنت تعهدها أيدي القائمين عليها.
وقد وقع شيء من هذا - إن صح حدسي - للكتاب الذي ألفه المسيو آدمون
ديمولان الفرنساوي، وعرَّبه أحمد فتحي بك زغلول المصري المسمى (سر تقدم
الإنكليز السكسونيين) فإنه أثَّر في الفرنسيس أثرًا حسنًا، وسرى قول مؤلفه في
بلاد الإفرنج منذ نحو خمس سنين، فترجم إلى لغاتهم وتناولته ألسن الناقدين
والمسلِّمين، وعاد بعض المنشئين يرون رأي صاحبه وينطقون بلسانه ويكتبون
بقلمه، ودل كثير من أهل العلم على مواقع الفساد من تربيتهم، ونقص الاستعداد
من عاداتهم، وأشاروا إلى تخلفهم في حلبة تنازع البقاء عن جيرانهم الألمان
والإنكليز والأميركان تخلفًا يخشى معه أن يبتلعهم الجنس السكسوني فيكون مستقبل
العالم له دون سواه.
هكذا يقولون: وغير منكر أن الفرنسيس نفعوا الإنسانية نفعًا لا ننكره،
وكفاهم مُفاداتهم بأبنائهم مرارًا تخفيفًا من سلطة الملوك، ورفعًا لغشاوة جهالة ظلت
مسدولة على أوربا قرونًا جعلتها وراء شعوب الأرض، فخلعت ربقة الاستعباد
وقررت حقوق الإنسان وقواعد الحرية والإخاء والمساواة، ونشرت المعارف في
الأطراف حتى ابتذلت واشترك في الأخذ من بحرها المحيط عامة الطبقات، فأصبح
الحرَّاث الفرنساوي يقرأ ويكتب ويفهم أكثر من بعض من ندعوهم بالمنوَّرين في
بلادنا، وما يأخذه الآن بعض علماء الفرنسيس على أمتهم إن هو إلا من باب
الاستزادة من الفضيلة، والدعوة إلى الكمال، والسبق في ميدان التغلب والسيادة،
نعم إنه ليُستنشق من غالب المكتوب رائحة الغرض، ويعترض على بعضهم
مبالغتهم في وصف أعراض الضعف حتى أوشكت الفائدة أن تضيع، ويُنسب كل ما
يخطونه إلى التشيع والتحزب، ويؤيد ذلك أن ما يُكتب صادر من بلاد تأصل فيها
الانشقاق الداخلي، وراجت بضاعة الأحزاب وساد فيها تباين الآراء، فلا يكتب
الملكي أو الكهنوتي إلا ويرمي ببصره إلى القديم يمجده، والتليد يبكيه وينشده، ولا
يجهر الجمهوري إلا ويفاخر بما تم على يديه من ارتقاء ونماء، ولا ينبري
الفوضوي أو العدمي أو الاشتراكي إلا ويستدعي الأمثلة ويستجيش البراهين إعلانًا
بدعوته واستتمامًا لرغبته؛ ولكن فرنسا ما زالت بفضل أساسها القديم أم المدنية
وربيبة الحضارة، وإن تقهقرت في سياستها وأخلاقها فلمرتبتها الميزة على سائر
الشعوب الأوربية خلا السكسونيين؛ ولكن صحة الوطنية التي عُرف بها مساعير
أبطالها ومشاهير رجالها جعلتهم اليوم يفرطون في النصح والقدح.
استقلالهم
وبعد فإن الأمم من حيث كيانها قسمان: استقلالية واتكالية، فالأمة الاستقلالية
هي التي طُبعت على حب الانفراد، يعتمد كل فرد منها على نفسه لا على حكومة
ولا جمعية ولا حزب ولا عشيرة ولا أسرة.
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعوِّل في الدنيا على رجل
ومثالها الشعوب الإنكليزية السكسونية.
والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة،
فيتوكأ كل فرد على غيره، وأعظم مثال لها الأمم الشرقية حاشا سيدتها الأمة اليابانية
العظيمة؛ فإن التربية الاستقلالية عندها على ما يبلغنا قائمة على أعظم هياكلها،
وأبناؤها أبعد المشارقة عن النشأة الاتكالية.
وبديهي أن العلم وحده لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يُقرن بالعمل، وفرنسا
وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح
الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون
وأهل الصحافة والأدب بحيث تعذَّر قبول من تخرجهم المدارس العالية باسمها فسدَّت
في وجوه الناشئة أبواب الرزق؛ لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس
ونحوها من المدن الحافلة ليستمتع برفاهها وأنسها، ولو عاش في قل، وزهدوا في
الاشتغال بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة وذلك غير معهود عند من
كان دمه سكسونيًّا، إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أية حرفة كانت مهما كان
علمه واستعداده ليضمن لنفسه وذويه مرتزقًا فسيحًا وعيشًا استقلاليًّا لُبابًا، فإن لم
يجد ما يعمل في بلاده يغادرها ليستعمر مكاننا آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش
بلندن أو برلين والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار، وإن
شئت فقل في أقاصي صحارى أفريقية حيث الوحوش ضارية، والسَّموم لافح
والعيش مرُّ المذاق.
وتأييدًا لذلك أنقل هنا ما صرَّح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيس بهذا
الشأن قال: (يزعمون أن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل،
وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقبًا كبيرًا هجم عليه
أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحِرف الشريفة ووظائف الحكومة
جملة، بحيث وجب على الأمة أن لا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة
قرون حتى صار جرحًا نغَّارا وضربة مبرِّحة، وأعني بذاك الشر داء الاستخدام
والتوظف.
لا جرم أن الحركة التي بدأت طلائعها في فرنسا زمن فيليب الجميل أزعج
أمرها على عهد لويس الرابع عشر فزاد الحال إشكالاً على إثر عودة الملكية إلى
فرنسا، واستيلاء أسرة بوربون على منصة الحكم، وصار على عهد الجمهورية
الثالثة الحالية أدهى وأمر، فإذا نشأ الأبناء على آسال آبائهم ولم يصلح حالهم
يضيعون مجد أسلافهم، ويخربون مملكة قويت على الحوادث على حين تعدهم
عدتها في شدتها وبيدهم إنقاذها وإسقاطها.
فالجيل الفرنساوي الحاضر سيئ حاله ومآله، وهو إلى الكسل والجبن أميل
منه إلى العمل والنصب، حتى يصح أن يقال إن البلاد به أضاعت من فتائها،
وأمست تسير إلى فلاة فنائها، ومن الأسف أن فرنسا التي كانت على مر العصور
في مقدمة من يحسن الأعمال، وأول مثيرة لكل نجاح هي اليوم من حيث تهذيب
أبنائها متقهقرة عدة قرون إلى الوراء، وكأن تعاليمها الآن هي عينها في القرون
المتوسطة التي تركت ألمانيا وشأنها إلى أن علا صوت جهوري من الشاعر كيتي [1]
يبين للألمان مواقع الضعف، ومزالق المقاتل، ومداحض المخاطر، ويقود الأفكار
إلى الحملة على كسر القيود ونزع رِبَق الرق وتجديد جدة الشباب، ينادي يا قوم
هؤلاء الإنكليز أمعنوا في حالهم، وانسجوا على منوالهم، فإنكم وإياهم سواء في
القيم، فما ضركم لو باريتموهم في الهمم؟ عملكم قليل ولا تحسنونه وقلما تنهضون
بأعبائه، وليس لكم نصيب مما أوتوا من مميز الواجب الشخصي والكفاءة
الشخصية، وهما دعامتا القوى التي تشتد بها سواعد الملل، ولما كان كيتي يصرح
بهذه الأفكار كانت ألمانيا بعيدة عن معاناة التجارة مقطورة في مؤخر الشعوب، ولم
تمض على ذلك مئة سنة حتى استولى أنصار ذلك الشاعر الكبير والمتعظون بأقواله
على محور التجارة، فهاج نشاطهم قلق الأمة التي حذوا حذوها، وإن الإنكليز
لينظرون اليوم نظر المرتجف إلى انبساط ظل النفوذ الألماني بهذه السرعة والقوة،
ويزعمون أنه لا بد من أن تخلف طوابع البرد الجرمانية الطوابع الإنكليزية قريبًا.
كل هذا نتيجة تغير التربية وانتشار المعارف بين الأفراد وكثرة الكفاءات في
كل فروع العمل، فمن العقل والحالة هذه أن يتدرع الفرنسيس بسلاح من العمل
مفيد، ويعتاضوا من الركوب على متن عمياء بالجري في طريق جديد من إتقان
المبادئ الصحيحة والأخلاق الفاضلة.
من رقاعة الفرنسيس أن يعتقدوا علو كعبهم في كل منحى ومنزع، ولو ذهب
أحدهم إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أَمم لرأى شعبًا كان يشكو مما نشكو منه داء
أصيب به زمنًا فشفى نفسه من أوصابه، يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها
فيقدس كارلايل [2] ظهيرها ونصيرها، ويقيس حاله بالإنكليز على أنهم سباق غايات
وأصحاب آيات بينات، ثم إذا قضى من تينك المملكتين لبانته، وعرف بالنسبة
إليهما حالته، يركب البحر المحيط الأتلانتيكي ليتبصر فيما تورثه جُدُد الفضائل في
هذا القرن الحديث، وينجلي له الفرق بين رغائبه ورغائب الأميركان.
لفرنسا نظارة للمعارف العمومية، ولأميركا مدرسة للتربية، فالأولى تُعَلِّم
والثانية تُربي، الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها والثانية تعلم مبادئ يسيرون
عليها، تُعِدُّ فرنسا أدمغة لحفظ قانون وتهيئ أميركا أذرعًا للعمل، الأميركان رجال
عمل، والفرنسيس ليسوا كذلك، يغرس الأميركان في نفوس ناشئتهم شهامة الإرادة
التي لا تجدي أجمل الهبات الخلقية بدونها، ولا يكون العلم نفسه إلا عطلاً من النفع
مع فقدها، وهذا هو القانون الذي سنه لهم فيلسوفهم إميرسون [3] تلميذ هيكل [4]
الألماني القائل في فلسفته: إن الحياة ليست شغلاً عقليًّا، ولا مناقشة ومهاوشة، بل
الحياة إنما هي العمل، ولقد عُلق في أعلى باب كل مدرسة بأميركا شعار معناه: إن
تهذيب الخلق أسمى غاية للمدرسة، وعلى الشبان أن يُحسنوا معرفة الحياة بإرادة
ثابتة) .
ثم توسع الكاتب في بيان نقص تربية أبناء وطنه وعاد يقول:
(يلزمنا رجال مهذبون لا رجال متعلمون، وفي فرنسا طبقتان من المدارس
أولاهما للصغار، وثانيتهما للكبار، وبعبارة أجلى: مدارس الصناع ومدارس
المفكرين، أما حسن التربية الإنكليزية السكسونية ورجحانها على التربية الفرنساوية
فهي قائمة فيما أوتيه البعض من الصفات الشخصية مثل المروءة وحسن الخلق
والحصافة والبداهة والجرأة والإقدام على المشروعات والاكتشاف والافتتاح
والمخاطر، فبدلاً من أن تنمي فرنسا في نفوس أبنائها هذه الصفات تغرس فيهم
ملكات حب التآلف والاجتماع، ثبت فيهم التأثر بدل المروءة، وتبث فيهم الخشية
من أقوال الناس، فيشاكل المرء الجمهور بأقواله وأفعاله بدل تنشئتهم على خلق
يبقى فيه الانسان مستقلاًّ بنفسه، وبدل الحصافة التي يتأتى بها للمرء إيجاد الأشياء
بذاته تقوِّي فيه ملكة الذاكرة التي تعيد عليه ذكر الأشياء التي يحفظها مما عثر عليها
غيره بالتجارب، وعوضًا عن البداهة التي يتمكن بها المرء من تطبيق ما أوجده
بنفسه تبث فيه الثقة، فيصبح عرضة لأغراض حكامه، وبدل الجرأة تبث فيه
الحذر وبدل الإقدام على المشروعات والفتوح والاستنفاض - فتح البلاد - تبث فيه
ملكة الاقتصاد والسلم وحب السكن، وبدلاً من اقتحام المخاطر تحسن له الرضا
بالاستخدام)
ثم أَجْمَلَ الكلام هنا على الفلاحين والصناع والتجار والعَمَلة من مجموع الأمة
الفرنساوية، وانتقل إلى الخيار من قومه وعنى بهم العلماء والفلاسفة وأهل البصر
فقال مستندًا إلى أقوال العلماء:
(إن دماغ الجنس السكسونى متمدد ومحدود، وذكاءه تحليلي، وجنسه جنس
العمل والكد، وعلى عكسه دماغ الجنس الفرنساوي فإنه موسع وذكاؤه تأليفي، وهو
خيالي يعشق التصورات، وبالجملة يُعنى الجنس الأول أبدًا بالحقائق على حين
يفضِّل الثاني الأفكار والخواطر، يجيد السكسوني في الغالب القيام على الأعمال
المادية وبعض الفرنسيس يحرزون قصب السبق في ميادين الذكاء المتسعة الأطراف.
ألا وإن قيمة الجنس السكسوني بمجموعه، وقيمة الجنس الفرنساوي بخياره،
فالإفرنسي المتوسط لا يساوي الإنكليزي المتوسط، والإفرنسي العالي يساوي أكثر
من إنكليزي عالٍ؛ ولكن الخيار من الفرنسيس لا يشغلون المكانة التي يستحقونها
لأنهم مغلوبون للأخلاق الحالية غير مستوفيي شروط النفع ولا تامي أدوات التهذيب.
وأنجح طريقة يجب على فرنسا سلوكها تحسين تربية خيارها، وتربية
أفرادها ومزج الخاصتين السكسونية والإفرنسية، وتطبيق تربية جمهور الإنكليز
علي تربية خيار الفرنسيس ليأتي الغد ولفرنسا من وراء هذه التربية شعب صغير
كالشعب الآثيني يَهَبُ لها فاتحين ذوي أفهام، ورجالاً صحاح الأحلام، يساوون
الجيوش ويوازون كل عدد وعدة ويخدمون أمتهم خدمة أرخميدس [5] وينقذون وطنهم
إنقاذ تميستوكلس [6] اهـ
اتكالنا
بمثل هذا اللسان يخاطب الكتاب الفرنساوي أمته ويقرِّعها تقريعًا أمرّ من
الصاب والعلقم؛ لتستفيق من غشية تخشى مغبتها، وتفلت من الوقوع في مخالب
أسود السكسون لئلا يكون حظها في الوجود حظ الأمم البائدة كالرومان واليونان
والفرس والعرب، وما القصد من إيراد كلامه بنصه إلا ليحصل التمثيل بيننا وبين
أمة نشابهها في الأعراض، وإن كانت أعلى منا جوهرًا.
ولعله يخيل لبعض سكان هذه الديار أن الفرنسيس مثلهم في الانحطاط، وأن
لهم بهم قدوة حسنة وأعظم سلوى؛ ولكن شتان بين حالنا وحالهم ورجالنا ورجالهم
وحضارتنا وحضارتهم، أمة تشخِّص الداء وتفكر في وصف الدواء، أو تشعر
بنقصها وتسعى إلى كمالها، وأمة موقنة بأن داءها عين الصحة لا بأس عليها ولا
خشية من ناحية حياتها، يرضيها نقصها فلا تريد استبدال غيره به، وكل من
محضها النصح رمته بانحلال عقدة الوطنية والمروق من عهود الحمية وصدق
التابعية.
لا جرم أن الرجل الفرنساوي الراغب في الاستخدام لا يشبه الرجل المصري
أو السوري أو العراقي مثلاً؛ فإن الأول يستعد ليحسن الاضطلاع بما يوسد إليه من
أمر أمته، ومعظم هؤلاء على نقص في المدارك وانحطاط في الفضيلة يطمحون
إلي السعادة والسيادة بلا سابق معرفة سوى أواصر القربى أو التقرب أو أواخي
المؤاخاة والتزلف أو وشائج الدرهم والدينار.
ولقد أصبح من الرأي المقرر بين الناس أن كل من ليس له علاقة بالحكام
كعضو أصيب بالآكلة لا حيلة فيه إلا بالبتر أو الموت، بيد أنه لا تثريب على
الفقير إذا رشح ابنه لأي خدمة كانت ليرتفع بها من الدنية ما دامت البلاد صفرًا من
أصناف المعاش الذي يزعج صاحبه عن العيش الاتكالى، ويورده موارد الاستقلال
بل اللوم كل اللوم على رجل يُعَدُّ من نواصي أهل وطنه وعليتهم، وله من العقار
والقرى ما يسد عوزه وعوز مئات معه، وهو على ما له من الاعتبار بين جيله
وقبيله يُسِفُّ إلى الاستخدام في وظيفة ليتباهى بها أمام العدو والصديق.
أعرف رجلاً في إحدى مدن سورية الحافلة له عراقة في محتده وأصالة بين
قومه وسعة من دنياه، وتراه مع هذا يصرف نهاره وليله في نيل الزلفى من الأمراء
كبتًا لخصومه، فيبذل كل عام في هذا السبيل من الصفراء والبيضاء ما يكفي لإعالة
ألف نسمة من أصحاب البأساء، وكلما طعن في السن يزداد غلوًّا في مباديه،
وإصرارًا على نكاية أعاديه، وهو دائمًا أجول من قطرب، وأشغل من ذات
النحبين، ومساعيه أبدًا مخفقة وآماله مخيبة، وهكذا حال خصمه اللدود له مال
وبنون ومقام بين أهل حيه كريم؛ ولكن لا يهدأ له بال إلا بالجلوس على أرائك
الحكم ومقاعد التصدر يتلمس لبنيه إذنًا بملازمة الدواوين مزاحمة لأولاد الفقراء
ليستأثروا بعد بالرواتب دونهم، وينالوا المعالي بنفوذ والدهم عفوًا صفوًا.
ولو عقلا لاستعاضا عن التلهي بهذه السفاسف بإدارة شؤون مزارعهما الواسعة
وتحسين طرقها، وتنمية غلاتها وثمراتها؛ ولكن هو حب الرئاسة يستلب الألباب
وفي الأمثال (يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة) .
ولطالما سمعنا أن فلانًا غادر سكنه ومسكنه تاركًا دخلاً يكفيه وعياله لأن
يعيش عيش الاستقلال فيوكل به من يسرق نصفه لينتظم في سلك الموظفين، ويأخذ
من استخدامه ما يوازي النصف الذي فقده بغيابه ويغتذي من دماء الأمة سحتًا بحتًا
وحرامًا محضًا ليقال عنه أنه من الموظفين ويخاطب بالفضيلة والسعادة، ثم إذا كثر
سواد أقرانه يقضي حياته قلق الضمير، وربما أنفق كل ما يملكه من تراث آبائه
ليرتقي إلى وظيفة أعلى من وظيفته ويسبق من سبقوه أو هم لاحقوه، وما
الموظفون في الحكومات الاستبدادية براغبين أن يعدوا من ممثليها ليحموا ما يملكونه
من اعتداء المعتدي وتعسف الظالم كما هي دعواهم، بل ليكونوا جلادين في تلك
الدولة ويسوِّغ لهم إتيان كل منكر أرادوه بلا وازع ولا رادع.
ألا وإن الأمثال لكثيرة على من آثروا العيش الاتكالي ورضوا بالإسفاف إلى
الدنايا كأصحاب الأوقاف ممن يرضون بالكفاف من العيش، ويقنعون بدريهمات
تأتيهم من وراء أجدادهم، أضف إلى زمرتهم من حبسوا أنفسهم في الصوامع
والجوامع مثل المدرس والمؤذن والخطيب ممن يكتفون بالنزر من المشاهرات
يقبضونها ببذل ماء المحيا، ويصرفون لأجلها من الأوقات ما لو صرفوه في بيع
الثرى لأثروا به، ثم يرقبون ما يأتيهم من أجور الطلاق والمناكحات ويتلمظون
بطعام الولائم والوضائم، ويقنعون بتقبيل الأيدي ومصافحة المريدين، وكذلك حال
الرهبان والقسيسين وسائر من يتصرف باسم الدين، وهم فائضون عن الحاجة
فكلهم يتقربون بالفاقة إلى مولاهم، ويستوكفون أكفَّ الصدقات، وينظرون قيم
الصلوات والدعوات، وهذا الخُلُق مستحكم من المسلمين بحكم التربية أكثر منه
بغيرهم من الطوائف.
إليك شرح الاتكال المجسم الذي شكا منه كبار الفرنسيس، وهو عندنا في
أرقى درجاته، ولا نشكو ولا نتبرم، وأما شكواهم من كثرة المرشحين للحرف
الأدبية فيقابله شكوانا من قلتهم إذا لم نقل من فقدهم، يعوزنا الصحفي العلامة
والطابع الماهر، والطبيب النطاسي، والمحامي الحاذق، والاقتصادي المدرَّب،
والرياضي المنجذ، والطبيعي المتعقل، والمهندس الفطن، والسائح الثابت،
والممثل الفاضل ممن تبرم بكثرتهم في فرنسا صاحب سر تقدم الإنكليز السكسونيين
ولكننا نحن في غنية عن هذا العدد الدثر من الحاجب والكاتب والمصاحب
والجاسوس والمسجل والرئيس والمرؤس، بل وألوف مؤلفة من أصحاب الرواتب
بلا عمل الذين يأكلون مال الأمة بالباطل، ويعيشون على عاتقها حملاً ثقيلاً، فلا
هم بوجودهم ينفعونها، ولا هم عن مغرمها غافلون.
أين حال الأغنياء والأعيان المتهافتين على المناصب في بلادنا من أهل تلك
الطبقة في إنكلترا مثلاً حيث الحكومة تخطبهم، والشعب يطلبهم، وشتان بين
خاطب ومخطوب.
كتب أحد سراة بريطانيا إلى صديق له يقول: (دع الناس يطلبون الأرزاق
من الدولة، فأنا لا أنحو منحاهم لأنني أقدر أن أكون غنيًّا بتساميَّ عن الدنايا، ولا
أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية؛ فإني أعمل في بستاني بيدي وأجتزئ
بالقليل من النفقة عن الكثير) .
وهو كما رأيت كلام من يوقن أن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش، بل
كلام من ارتقى وتهذب وعَلِمَ عِلْمَ اليقين أن الحكومات ليست إلا خادمة للأمم، وأن
الشعب في غنية عنها ولا غنى لها عنه، فمتى يكون مثل هذا القول لسان حال
أعيان بلادنا حتى لا يكونوا على أمتهم أضر من العثّ في الصوف والدودة في
الكرمة؛ ولكن المشارقة انغمسوا في مضال الجهالة منذ قرون حتى أصبحوا
يقدِّسون حكامهم ومن انتسب إليهم، وغالوا في تعظيمهم إلى أن بلغوا بهم منازل
الألوهية، وأنشأوا يستحلون لهم المحارم ويطلقون عليهم ألقاب الربوبية.
وما برح الناس يبحثون عن داء المجتمع الإنساني، ويصفون له الأدوية وهو
لا يزداد إلا تفشيًا، وقد أعضل ما يسميه الغربيون بالمسألة الاجتماعية حتى حار
في طبها رجال العلم والسياسة، وأصبحت شغلاً شاغلاً لأهل المدارك السامية،
ولذا قال صاحب سر تقدم الإنكليز السكسون: ليست المسألة الاجتماعية عبارة عن
مساعدة الأفراد، كما أن مسألة الحياة لا تقوم بكثرة تناول الأدوية والعقاقير، إذ
ليست المساعدة أو العقاقير من وسائل الحياة الطبيعية، وليست الحكمة إلا ما أدت
إلى الاستغناء عن تلك الوسائل الصناعية، وليس من حل للمسألة الاجتماعية إلا
جعل الأفراد بحيث يستطيع كل فرد منهم أن يقوم بأمر نفسه، وأن يرتقي بجده
وعمله؛ لأن سلامة الاجتماع كالسلامة الأخروية تقوم بكل واحد على حدته، وعلى
كل واحد أن يسعى إليها، وقولي هذا لا يروق في أعين الذين اتخذوا السياسة حرفة
وغيرهم ممن طلبوا رزقهم من انحطاط الأمة وضعف مدارك الطبقات النازلة،
وكانت منفعتهم في بقاء الناس دائمًا على حالة يُشبهون فيها القاصرين حتى يتيسر
لهم أن يكونوا عليهم أوصياء اهـ.
ونحن لو استشهدنا التاريخ لرأينا أجدادنا كانوا في منازع حياتهم أشبه بالجنس
السكسوني، لا يعرفون مع بسطة الجاه واتساع الثروة والملك إلا النشأة الاستقلالية
بعيدين في كل أطوارهم عن السرف والترف، فقد اشتهر من سيرة الصِّدِّيق
الأكبر رضي الله عنه أنه كان يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع وكانت له
قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها، وربما رعيت له وكان يحلب
للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم الآن لا يحلب لنا منائح [7] دارنا
فسمعها، فقال بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغير بي ما دخلت فيه
فكان يحلب لهم، ثم قال: ما تصلح أمور الناس مع التجارة وما يصلح إلا التفرغ لهم
والنظر في شأنهم، فترك التجارة - وقيل: أراده الصحابة علي تركها - وأنفق من
مال المسلمين ما يصلحه وعياله يومًا بيوم، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة
آلاف درهم، وقيل فرضوا له ما يكفيه، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرض له
ويصرف ثمنها بدلاً مما أخذه من مال المسلمين.
ولما فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء قال للمسلمين: (إني
كنت امرأً تاجرًا، يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون
أنه يحل لي في هذا المال، وعليٌّ ساكت فأكثر القوم، فقال: ما تقول يا علي؟
فقال: ما أصلحك وعيالك بالمعروف ليس لك غيره، فأخذ عمر قوته) وإن لنا في
غير هذين الإمامين من رجال سلفنا الصالح الأسوة الحسنة في فضيلة الاستقلال،
وترك الاتكال، ولنا الأسوة في الأمم الحية لعهدنا التي نرى آثارها باهتين شاخصين،
فالعبر بين أيدينا ومن ورائنا وعن أيماننا وشمائلنا؛ ولكننا لا نعتبر.
__________
(1) كيتي goethe أعظم كاتب وشاعر ألماني مات سنة 1872.
(2) كارلايل carLyle كاتب إسكتلندي شهير مات سنة 1881.
(3) إميرسون Emerson فليسوف أميركي مات سنة 1882.
(4) هيكل Hrgel فليسوف ألماني شهير مات سنة 1835.
(5) أرخميدس Archimede أحد مشاهير المهندسين القدماء، ولد في سيراكون إحدى مدائن صقلية حوالي سنة 287 ق م، ومات سنة 212، وحاصر الرومان وطنه، فدافع عنه ثلاث سنين بقوة بنايات حيلية أو ميكانيكية.
(6) تيمستوكلس themistocle قائد أثيني شهير 535- 410 ق م.
(7) منحه الناقة: جعل له وبرها ولبنها وولدها، وهي المنحة والمنيحة.(4/601)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدرس 30
وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام
(المسألة 68) تمهيد للموضوع:
تعرف وظائف الرسل بالإجمال من وجه الحاجة إليهم، وتعرف بالتفصيل من
النظر في أديانهم والوقوف على شرائعهم وليس بين أيدينا دين إلهي وشريعة سماوية
ضبطت كتبها، واتصل نسبها بمن جاء بها إلا دين الإسلام الذي حُفظ كتابه في
الصدور والسطور، ونُقلت سنة نبيه بالعمل إذ لم يقو على أهله شعب دين آخر
يضطهدهم ويتلاعب بدينهم. وضُبط القولي منها بالقول ضبطًا لم يعهد له مثيل في
تاريخ البشر، فهو الذي يجب أن يتخذه الباحثون في طبائع الملل وأصول الأديان
وتاريخها ميزانًا لمعرفة وظائف الرسل، وبيان الحاجة إليهم فيها، ويزِنوا به سائر
ما نسب إلى الأنبياء والرسل من الكتب المقدسة فما رجح فيه قُبل، وما خف وشال
تُرك وأُهمل، وحُمل على أنه من تحريف المحرِّفين، وإضافات العابثين، فإن لم
يسلكوا هذا المسلك يروا اختلافًا كثيرًا وأمورًا لا تنطبق على وجه الحاجة إلى
الرسل، وتلك الجناية الكبرى على الدين، بل على بني الإنسان أجمعين.
هذا المسلك هو ما جاء به الإسلام، وعمل به النبي عليه الصلاة والسلام،
واتبعه به الراشدون ولم يقصر فيه المسلمون إلا بعد ضعف الإسلام، وفشو الجهل
الذي أغراهم بالخلاف ومناقضة أهل الكتاب حتى شذ بعضهم، فحرَّم طعامهم وهو
حل بنص القرآن، وبهذا وقف سريان الدعوة وقل انتشار الدين في أهل الذمة؛ لأن
كلام المنابذ المخالف يُحمل على الغرض لأول وهلة فينبذ قبل النظر فيه، أو لم
يقرأ أولئك المسلمون قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: 64) الآية، وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) ؟ بلى قد قرأوه
وأوَّلوه، ولم يهتدوا كسلفهم الصالح بالعمل به في الدعوة إلى الإسلام.
وجهل هذا التوفيق دعاة النصرانية الذين يتعرضون لدعوة المسلمين بما لهم
من الجرأة بالاعتزاز بأوربا، فهم يحاولون إقناع الجاهلين من المسلمين بأن الحق
محصور في اليهودية والنصرانية من دون الإسلام، ولا نرى لهم دليلاً على حقيقة
اليهودية والنصرانية إلا قولهم إن الذين جاءوا بهما قد عملوا بعض العجائب، ولا
يوجد جاهل من المسلمين إلا ويحفظ عن آحاد الأولياء من أهل دينه أضعاف ما
ينقلونه عن موسى وعيسى عليهما السلام، ولا أقول عن بولس وبطرس
ويعقوب ويوحنا وهو لا يثق بما ينقلونه إذا لم يؤيده دينه وعلماؤه، ويعتقد أن رواية
قومه عن أوليائهم أولى بالتصديق من دعواهم التي لا ثقة بروايتها، وإذا هو قبل
قولهم ووقع في نفسه صدقهم يقع في الشك بأصل الدين؛ لأن الدليل على الدينين
متفق والمدلول فيهما مختلف، ولا وجه للجمع عنده، بل لا وجه للجمع مطلقًا إلا
بتحكيم الإسلام، وجعل كتابه كالميزان كما قلنا آنفًا، وقد اهتدى بعض فلاسفة
أوربا الباحثون في الدين عن اعتقاد إلى أنه لابد من الاعتقاد بصحة الإسلام والجمع
بينه وبين المسيحية، فكتبوا في ذلك وألَّفوا وجعلوا مدار الجمع على الأصول التي
يدل العقل على الحاجة إلى الرسل فيها، ومدار الاستدلال على كتب الوحي، وهي
التوراة والإنجيل والقرآن.
م (69) الوظيفة الأولى:
هي بيان ما يجب اعتقاده في خالق الكون ومقدره، وحكيمه ومدبِّره، فقد علم
أن هذا الاعتقاد مركوز في فطرة الإنسان بصفة مجملة مبهمة يغلط فيها العقل،
ويضل في بيانها الفكر كما تقدم شرحه في قسم الإلهيات، وهذه الوظيفة يجب أن
تتحد فيها الأديان الصحيحة، ويجب على علمائها تأويل الخلاف.
م (70) الوظيفة الثانية:
بيان ما يجب لهذا الإله العليم، والمبدع الحكيم، من الشكر على آلائه،
والعبادة التي ترضيه وتقرِّب روح العبد منه؛ ليبلغ بذلك كماله الروحاني
ويستعين به على كماله الجثماني، فيرتقي الارتقاء الصوري والمعنوي بحسب
استعداده الذي وُهبه ممن أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقد تقدم في بيان وجه
الحاجة إلى الوحي أن هذا شيء لا يستقل به العقل ولا يهتدي إليه بنفسه، وهذه
الوظيفة تتفق الأديان الإلهية في معانيها دون صورها.
م (71) الوظيفة الثالثة:
ما يجب اعتقاده في الدار الآخرة والحياة في النشأة الثانية، فقد بيَّنا من قبل
أن الناس يشعرون بأن لهم أرواحًا، وأن هذه الأرواح هي التي بها الحياة، ومنهم
من أُلهم أن هذه الأرواح خالدة، ومنهم من عرف ذلك بالاستدلال، وأقربه أن العدم
المحض محال لا يتصوره العقل، فإذا كان الجسم يبقى ببقاء عناصره بعد التحلل،
فالروح الذي به حياة الجسم ونظامه وحفظه ما دام متصلاً به من الانحلال أولى
بالبقاء الأكمل، وهؤلاء المستدلين لا يدرون شيئًا من أمر هذه الحياة وهذا الوجود
الروحاني؛ ولكنهم أكثروا من الخرص والظن فيه، فذهب بعضهم إلى أن للروح
حياة مستقلة لا يتصل فيها بجسم يدبره، ومنهم من قال بالتناسخ ولم تطمئن القلوب
إلى شيء إلا ما جاء به الدين السماوي بالنسبة لمن أخذوا به، ولا يصح أن يكون
بين الأديان الصحيحة خلاف في جوهر هذه الوظيفة وأصولها، فإذا كانت الديانة
الإسلامية التي هي القسطاس المستقيم لسائر الديانات تقطع بأن الحياة الأخرى حياة
إنسانية، أي أن أرواح الناس تكون فيها ذات أجساد أكمل من هذه الأجساد؛ لأن
الإنسان خلق مركب من روح وجسد لا حياة روحانية محضة، لا حظ فيها للمادة
ولا وجود فيها للإنسان، فالواجب إرجاع بعض ما يُؤثر عن السيد المسيح عليه
السلام من كون الحياة الملكوتية روحانية كحياة الملائكة إلى ذلك بأن يقال إن المراد
بكونهم كالملائكة أن الأرواح لها هناك السلطان الأكبر، كما أن للحظوظ الجسدية
السلطان الأكبر في هذه الحياة، وحظوظ الروح مغلوبة لها، وقد جعل المسيحيون
الأصل في دينهم أن الحياة الآخرة ملكية محضة لا إنسانية ملكية، أي حكموا بأن
الإنسان لا يكون له وجود في الملكوت، وأوَّلوا ما نُقل عن المسيح مما يدل على
الحياة المادية في الملكوت، كقوله إنه يشرب الخمر جديدًا في الملكوت، على أن
كل كلامه عن الملكوت ظاهر في أن أهله يكونون أناسي لا ملائكة، فيجب أن
يجعل هذا هو الأصل الذي يؤول غيره ويرجع إليه وما لا يمكن تأويله يقطع بوضع
روايته.
م (72) الوظيفة الرابعة:
تهذيب الأخلاق وتثقيف النفوس بحملها على الأعمال الصالحة بباعث الإيمان
بالله وابتغاء مرضاته، والإيمان باليوم الآخر والخوف مما فيه من العقوبة والرغبة
فيما للمحسن من المثوبة، وبيان ما فيها من المنافع والمصالح، ولا شك أن هذه
الطريقة في التهذيب هي الطريقة المثلى؛ فإن الأعمال هي التي تطبع الملكات
والأخلاق في النفوس، وقد بيَّنا في درس وجه الحاجة إلى الوحي أن الإنسان لا
يستقل بنفسه، ولا يهتدي بعقله المجرد، ويصل بسعيه إلى التهذيب الذي يصلح به
حال الأفراد وحال المجتمع، إلا بتأييد الهدى الإلهي لأن الحظوظ والرغائب
والأهواء تحسن القبيح وتقبح الحسن، وإننا نرى الناس بعد أن وُجد فيهم الإرشاد الديني وأمدَّه العلم الاختباري تفسد أخلاقهم بضعف الاعتقاد بالدين فيهم.
له بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/615)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
النبذة الثامنة
فرغنا في الجزء الماضي من دحض شبهات الفصل الأول من البحث الأول
من كتاب (أبحاث المجتهدين) وهو الذي عقده مؤلف الكتاب لإثبات الكتب التي
يسمونها التوراة والإنجيل بشهادة القرآن، وكنا عازمين على أن نبدأ في هذا الجزء
بإبطال شبهات الفصل الثاني الذي عقده لإثبات تلك الكتب بالعقل، وإذ ورد علينا
الجزء الخامس من المجلة البروتستنتية المسماة بشائر السلام فرأينا فيها طعنًا شديدًا
بالإسلام، وسبحًا طويلاً في بحار الأوهام، أحببنا أن نقذف عليه بالحق، ليدمغه
فيزهق، ونعود - إن شاء الله تعالى - إلى انتقاد ذلك الكتاب في الأجزاء التالية،
وهذا الطعن محصور في ثلاث نبذ:
النبذة الأولى
عنوانها شجرة النسل المبارك
هذه النبذة تابعة لمقالة سابقة يمدح فيها بني إسرائيل ويبين فضلهم، وقد
أعطاهم فوق قدرهم؛ ولكنه ما قدَر الله حق قدره، عظَّمهم وأساء الأدب مع الله
تعالى، مدح الشجرة الإسرائيلية وقدح في مقام الألوهية، وله في ذلك كلام {تَكَادُ
السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ} (مريم: 90) فمنه قوله -
وحاكي الكفر ليس بكافر - أَوَلا تقضي من ذلك العجب أن فاطر السموات
والأرض يختلي مع بني إسرائيل في البرية يخاطبهم ويخاطبونه، ويراهم ويرون
مجده وبينهم موسى الكليم يتجاذب معه أطراف الحديث، ويتبادل فصول الخطاب
كالإلفين المتآلفين والخليلين المتصافيين.
ثم انتقل من هذا إلى غمص سيد المرسلين وخاتم النبيين الذي أكمل الله به الدين
وإلى انتقاص جميع العالمين، فقال: (فاسمع أيها القارئ المسلم، وابهت وادهش
أليس محمد عندك أعظم الخلق، فلم يكن أهلاً لأن يخاطب الله رأسًا، أو يسمع صوته
أو يرى مجده مثل عامة إسرائيل فضلاً عن خاصتهم، بل لم يكن خليقًا أن يخاطب
جبرائيل كما قلتم إلا وتغشاه غيبة وغطيط يبلغان منه الجهد ويتفصد لذلك جبينه عرقًا
في اليوم الشديد البرد) انتهى خلطه وخبطه.
ونقول: إن هؤلاء الناس تأصلت فيهم الوثنية، ورسخت جذورها في أعماق
نفوسهم حتي صار انتزاعها متعذرًا ما داموا لا يقيمون للعقل وزنًا، ولا يرون له
في كتب الدين معنى، وتفصيل القول في بيان بطلانهم يطول ولا تفي به مجلتنا
كلها، ولذلك نكتفي بالإجمال فنقول بلسان العقل المحض لا بلسان الإسلام ليكون
أدعي للقبول.
(1) إن المسلمين ينقلون أن نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم صعد إلى
السماء، ورأى من آيات ربه الكبرى، بل يقول أكثرهم إنه رأى الله سبحانه وتعالى
بلا كيف وكلمه بلا واسطة، وموسى عليه السلام ومن كان معه من بنى إسرائيل
إنما رأوا بروقًا، وسمعوا رعدًا وبوقًا، وغشيهم دخان كدخان الأتون، وارتجف
بهم الجبل فارتعدوا ووقفوا من بعيد (وقالوا لموسى تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم
معنا الله لئلا نموت) بل قال الرب لموسى: اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون
معك، وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم.
كل هذا مصرَّح به في الباب 19 و20 من سفر الخروج، وهو يكذِّب قول
المجلة إن عامة بني إسرائيل كانوا يخاطبون الله رأسًا ويسمعون صوته، فما هذا
التمويه والإيهام؟ وورد في القرآن {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} (الأعراف: 143) وقال
في محمد {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم:
17-18) فهل من الإنصاف أن تقولوا نحن الصادقون لأننا قلنا..
(2) إن بنى إسرائيل الذين خُصوا بهذه العناية، وهارون الذي أذن له
الرب أن يصعد مع موسى وحده من دون الكهنة والشعب - لم يتمسكوا بأعظم
الوصايا التي أوصاهم بها الرب يومئذ، بل تركوا أولها في الذكر والرتبة وهي (لا
يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة ما) ... إلخ؛ فإن
هارون بزعمكم وزعم كتبكم هو الذي اتخذ لهم العجل فعبدوه من دون الله، ألا
يكون هذا الشعب الذي اختُص بتلك العناية والتكريم ثم كفر هذا الكفر الجسيم،
جديرًا بالغضب والمقت من الله وسلب نعمته عنه، وإسباغها على شعب آخر
كالشعب العربي الذي نزع به الوثنية من ملايين من الناس، لم تعد إليهم بفضله
وكمال نعمته.
ومن الأدلة على غضب الرب على شعب إسرائيل ما أوردناه في النبذة الثالثة
(ص 417 ج 11) عن كتاب حزقيال، فهل يصح استدلاله بعد هذا على أن الله
تعالى وتقدس لا يزال عاشقًا - سبحانه سبحانه - لشعب إسرائيل وغاضبًا على سائر
خلقه، وأن عامتهم أفضل من ... ، ومن الغريب أنه يستدل بآيات القرآن العزيز على
إنعام الله تعالى على بني إسرائيل، ولا يستدل بها على كفرهم النعم ورميهم بالنقم! !
(3) إن القاعدة الأساسية عند المسلمين في الإيمان هي تنزيه الله تعالى عن
مشابهة المخلوقين، فإذا ورد في الوحي لفظ ينافي ظاهره التنزيه يصرفونه عن
ظاهره إلى ضرب من التجوز والتأويل، وكأن القاعدة الأساسية عند سواهم هي
التشبيه والوثنية، لا سيما الذين جعلوا من البشر إلهًا، فإذا ورد في كتبهم كلمة
تنافي التنزيه يضيفون إليها أضعافًا، ويتفننون في القياس عليها.
وَرَدَ أن الله تعالى كلم موسى مثلاً، فالمسلمون ينزهون الله تعالى عن الصوت
وعن الجهة والمكان، ويقولون: ما ثم إلا إعلام إلهي بصفة تليق بجلال الله سماها
الله تعالى تكليمًا، وليست كتكليم الناس بعضهم لبعض حتمًا، وإلا لكان تعالى
مشابهًا للمخلوقات، وذلك هدم لأصل الدين والإيمان، وأما النصارى فيقولون مثلما
نقلنا آنفًا عن مجلة بشائر الإسلام) (يتجاذب معه أطراف الأحاديث) وأنهما كالإلفين
ونحو ذلك مما هو صريح في التشبيه، ولا غرو فمن قال: إن المسيح إله، يقول:
إن الإله يخلو بموسى ويتبادل معه فصول الخطاب، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا
(4) إن المجلة خلطت فيما ذكرته عن حالة النبي صلى الله عليه وسلم عند
الوحي؛ لأن ذلك مأخوذ من أحاديث لم يفهمها الكاتب فظن أن كلمة (غطَّني) في
حديث بدء الوحي من الغطيط الذي هو صوت النائم، أو صوت هدر البعير وليس
كذلك؛ وإنما معناها ضمني بشدة وضغط، ثم خلطها بكلمات من حيث وصف
الوحي والتأثر منه، وزعم صاحبها أن عدم التأثر من الوحي أفضل وأكمل وهي
دعوى افتحرها لا يقوم عليها دليل؛ فإننا نقول إنها كانت حالة من حالات الوحي
ربما لم يحصل نظيرها لموسى، فيتأثر تأثر محمد (عليهما السلام) على أنه يوجد
في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلو فرضنا أن موسى امتاز على محمد بهذه
الفضيلة، فلمحمد مزايا كثيرة يفضله بها، ومن التجاوز أن يفاضل مثل هذا الكاتب
الذي لا يقدر الله حق قدره بين أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام بمجرد الهوى وسوء
الفهم.
النبذة الثانية من تلك المجلة في سيدنا إسماعيل
غمط كاتب المجلة سيدنا إسماعيل عليه السلام في مقام المفاضلة بينه وبين
إسحق، وإذا صح قوله ونقله واستدلاله منهما على أن إسحق أفضل وأنه هو الذبيح،
فإن هذا لا يضر بدين الإسلام شيئًا، ولا يستحق قوله في هذا المقام أن يصرف في
نقده شيء من الوقت.
النبذة الثالثة مؤلفو العهد الجديد
والدعوة إلى الدين
جاء في قسم الأسئلة والأجوبة من المجلة سؤالان، أحدهما أن أحد أصحابهم
المسلمين سألهم: (هل بطرس وبولس ويوحنا وغيرهم من كتبة العهد الجديد هم
رسل الله؟ وهل جاء في العهد القديم نبوة عن إرسالهم كما جاء عن المسيح) وكان
جواب المجلة أنهم رسل، ونحن نقول: ما كان لمسلم يعرف عقيدة الإسلام أن يسأل
هذا لأن الرسول في اعتقاد المسلمين هو النبي الذي أوحي إليه بدين مستقل، وأمر
بتبليغه للناس، والنصارى أنفسهم لا يدعون الرسالة بهذا المعنى لبطرس وبولس
وغيرهما من مؤلفي الأناجيل ورسائل العهد الجديد؛ ولأن المسلمين لا يستعملون
لفظ النبوة بمعنى البشارة كما هي مستعملة في السؤال، فإما أن يكون السؤال
منتحَلاً للإيهام وهو الأقرب، وإما أن يكون من مسلم جغرافي ليس له من الإسلام
إلا الاسم واللقب والجنسية والنسب، واستدلوا على رسالة من ذكر بالعجائب، وأنه
ليؤثر عن ولي واحد من أولياء المسلمين أكثر مما يُؤثر عنهم، وعن المسيح عليه
السلام ولم يقولوا إن الأولياء رسل.
والسؤال الثاني من صاحب لهم آخر وهو: (لم انفرد المسيحيون بإرسال
المبشرين، واستمروا على ذلك من عهد ظهورهم إلى الآن) والجواب (إن
المسيحية هدى، ومتى كان الهدى في القلب لا يتمالك صاحبه أن يكاتمه أبناء جنسه
أو يواربهم فيه) ثم قال (إن المسيحيين منفردين بالهدى) ونحن نقول (أولاً)
إنه ما قام دين من الأديان في العالم إلا بالدعوة، وما دَعَا أحد إلى دين إلا ووجد له
تابعين؛ ولكن منها ما انتشر بقوته الذاتية، أي قوة الهداية والسلطان على النفوس
كالإسلام، ومنها ما انتشر بالإكراه والإلزام كالدين المسيحي؛ فإنه بقي ثلاثة قرون
لا يقبله إلا أفراد قليلون، ثم دخل فيه بعض ملوك الوثنيين، فصاروا يُلزمون
الناس به بالإكراه كما سنبينه بعدُ - إن شاء الله تعالى - بشهادة التاريخ، و (ثانيًا)
إن بني إسرائيل شعب الله الخاص الذين نوَّه بهم صاحب المجلة ما كانوا يدْعُون لدينهم
لعهد المسيح الذي هو منهم، فهل كانت ديانتهم في ذلك العهد ضلالة أم هداية؟
و (ثالثًا) إن البهائية الذين يقولون في البهاء المدفون في عكا كما يقول النصارى
في المسيح، يدعون إلى دينهم في كل مكان وجدوا فيه حتي يوشك أن يكون كل
واحد منهم داعيًا، فهل يقول أصحاب هذه المجلة أنهم على الهدى، وأنه يجب
عبادة البهاء وترك عبادة المسيح أو الجمع بينهما، و (رابعًا) إن الجواب
يستلزم أن يكون كل مسيحي داعيًا إلى دينه؛ لأنه على هدى وصاحب الهدى لا
يقدر على كتمانه؛ ولكننا نرى الدعوة محصورة في أفراد منهم يأخذون عليها
الأجر من الجمعيات الدينية، فهم يدعون لأن الدعوة معاش لهم، لا لأنها هدى
في قلوبهم يفيضون منه على أبناء جنسهم، و (خامسًا) إننا نرى المسيحيين
الفضلاء ينتقدون هؤلاء الدعاة المسيحيين المستأجرين، ويقولون إنهم يضرون
المسيحية ولا ينفعونها، ومن أصحاب الجرائد من انتقدهم كتابة، و (سادسًا) إن
كل صاحب دين يعتقد أنه على هدى، والإنسان إنما ينبعث إلى العمل باعتقاد نفسه،
لا بما عليه الأمر في نفسه، ولولا ذلك لم يعمل أحد شرًّا ولم يدع أحد إلى باطل؛
ولكن قد تحول دون الدعوة الحوائل.
أما الدعوة الصحيحة التي اندفع اليها أصحابها بقوة الاعتقاد، فهي دعوة
حواريى المسيح عليه الصلاة والسلام، وما آمن معهم إلا قليل، ودعوة المسلمين
عدة قرون آمن فيها الملايين، فقد كان التاجر المسلم يدخل مملكة من ممالك أفريقيا
أو آسيا فتدخل كلها في الإسلام على يديه، ولم تنقطع هذه الدعوة بالمرة؛ ولكنها
ضعفت بضعف الإسلام وفقد التربية الدينية، وإهمال علومه الحقيقية، وضعف
المدنية والحضارة، وإهمال دول الإسلام أمر الدين، واعتماد المسلمين على ملوكهم
وأمرائهم وحكوماتهم على خلاف ما يفرضه الإسلام عليهم، ولا يزال الشيعة
والبُهر (الإسماعيلية) يدعون بقدر الطاقة، وهؤلاء الملوك والأمراء هم العقبة
الأولى في طريق الإسلام، والعقبة الثانية ملوك أوربا الأقوياء الذين ينصرون
دعاتهم ويحمونهم بعد أن يوجهوهم إلى الدعوة، حتى أنهم ليحاربون مملكة بحجة
الانتصار لقسيس واحد، فالقوة الأوربية هي التي أنطقت لسان هؤلاء الدعاة، وهي
التي أجرت أقلامهم وسددت لرمي مخالفيهم سهامهم، فتبين أن جواب السؤال
الصحيح: أن المسيحيين يبشرون لأن السياسة تدفعهم، والجنيهات تتبعهم، والمدافع
تمنعهم (أي تحميهم) وأما المسلمون فإنهم على ضعفهم العلمي والاجتماعي والسياسي
لا يزالون يدعون إلى الدين مندفعين إليه بدافع الاعتقاد، ولكن على ضعف تؤيده قوة
الحق، فيكون أنجح وأقرب إلى القبول، وطالما شكا دعاة المسيحيين من تقدم الإسلام
في أفريقيا وسبقه للمسيحية مع شدة العناية بنشرها، وكان أقرب تعليل لهم في ذلك أن
الإسلام أقرب إلى الفطرة والعقل وسننشر بعض كلم القسيسين في ذلك، إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/619)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تغزل النساء
يستنكر ذوو الطباع السليمة تغزل الذكور بالذكور؛ لأن عشق الولدان من
فساد الفطرة، ولا يستنكر أحد تغزل امرأة بامرأة، وإن كان عشقها لها منكرًا
وقبيحًا، على أن الغزل ليس ملزومًا للعشق دائمًا، وقد خرجت يومًا حمدة بنت
زياد الأديبة المتصوفة الشهيرة متنزهة بالرملة من وادياش فرأت ذات وجه وسيم
أعجبها فقالت:
أباح الدمع أسراري بوادٍ ... له في الحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يطوف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة رمل ... سبت لبي وقد ملكت قيادي
لها لحظ تُرَدِّده لأمر ... وذاك اللحظ يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليه ... رأيت البدر في جنح السواد
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد
وما أحسن الإبهام في قولها (تردده لأمر) وأما تغزل ذوات الحجال بالرجال
فأراهم يستملحونه على القول بوجوب كثافة الحجاب، ولا أستثني الذين ينفرون من
التغزل المذكر مطلقًا، وكأن الشعور بكون الشعر قد برز من وراء الخدر يؤثر في
حقيقته وماهيته، أو يغير جهة قضيته، فيحول استقباحه استحسانًا ويجعل خسره
رجحانًا، فيغلب هذا الوجدان والشعور، وجدان وجوب استخفاء ربات الخدور،
وأما علة الاستملاح في ذوق من لا يقول بضرب الحجاب على الملاح، فهي
موافقة الفطرة، وإجابة دعوة الطبيعة، ومعظم الاستنكار في ذلك الضرب من
الغزل إنما هو باعتبار مصدره ومجلاه، لا باعتبار حقيقته وفحواه، ومنه قول
حمدة نفسها الذي يوردونه شاهدًا في كتب البديع ويتلقونه بالقبول:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقلّت حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نَفَسي بالسيف والسيل والنار
ومن غزلهن المستملح المستحسن قول علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد:
إني كثرت عليه في زيارته ... فملّ والشيء مملول إذا كثرا
ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قِصَرًا عني إذا نظرا
وهذان البيتان بحيث تراهما من الحسن والبلاغة على أنهما لم يتجاوزا حدود
الحقيقة، ولم يخرجا عن محيط الصدق، بل لم يبالغا في الوصف أيضًا، ويالله ما
أحلى الاعتذار في البيت الأول وما أبلغ حكمته؟ ويالله ما أرق الوصف في البيت
الثاني وما أدق بيان موضع الريبة، وما ألطف مراعاة شمائل الحبيب واستخراج
خبايا نفسه من ظاهر حسه، وناهيك بما تُحَدِّث به العينان عن خفي الشعور
والوجدان، كذلك يجمل بالمحب الإنصاف والاعتذار، كما يجمل من الحبيب الجور
والنفار، وفي هذا قالت علية أيضًا:
بُنِيَ الحب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمج
ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
وقليل الحب صرفًا خالصًا ... هو خير من كثير قد مزج
وأي خير في الحب الممزوج، وما هو إلا مزج السم بالدسم، وما عاقبته إلا
الفناء والعدم.
ومن نظم علية في الحنين إلى الوطن، وكانت خرجت مع الرشيد إلى الري
فلما بلغوا المرج نظمت هذين البيتين، وغنت بهما وكان من أحسن الناس غناء
وصوتًا فسمع الرشيد فردها إلى العراق:
مغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد ضل عنه المسعدون على الحب
إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تَنَشَّقَ يستشفي برائحة الركب
ومن نظمها في طبيعة الحب، وفائدة الهجر والعتب:
تحبَّب فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصَّر فإن حُدِّثت أن أخا الهوى ... نجا سالمًا فارج النجاة من الحب
وأعذب أيام الهوى يومك الذي ... تروّع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
كان الأَولى أن تقول (أخا هوى) ويروى الثالث (وأطيب أيام الفتى يومه
الذي) .
أوردنا هذا تفكهة وتمليحًا لبعض القراء الذين يملون الجد الصرف، كما قالت
علية - والشيء مملول إذا كثر، وليس هذا الغزل بالقول الهزل، والكلام العُطْل؛
فإن به يرق الشعور ويلطف الوجدان وتتهذب النفس، والفقهاء لا يحرِّمون الغزل
إلا إذا كان في أجنبي معيَّن، أو كان فيه فحش، وقد سمع النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم الغزل والنسيب حتى في المسجد، ومن ذلك أوائل قصيدة (بانت سعاد)
الشهيرة.
__________(4/626)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(جُذَيمَة والزَّبَّاء)
قصة تاريخية أدبية تهذيبية تأليف الفاضل محمد أفندي حليم وكيل قلم محاسبة
المكاتب بنظارة المعارف العمومية، والقصة مسجعة، وفي مقدمتها كلام في السجع
وشروط استحسانه ومواضع استقباحه، وكلام في الفصاحة والبلاغة، وفي فصول
القصة مسائل ومباحث مفيدة، أظهر المؤلف فيها رأيه كمسألة تأثير القصص
الغرامية في نفوس الناشئة وإفسادها الأخلاق، وكبحث حجاب النساء وعدمه،
والكسل وعلو الهمة والاعتماد على النفس والسعي في طلب الرزق، والكهانة
والتنجيم والخمرة وتأثيرها السيئ وغير ذلك، وكنا نود لو سمح لنا الوقت بقراءتها
كلها ونقدها لأن موضوعها مفيد، وهي مطبوعة طبعًا حسنًا على ورق جيد،
وثمنها 8 غروش، وصفحاتها 64.
***
(التربية الحديثة)
كتاب جديد للعالم الاجتماعي المربي الشهير الموسيو أدمون ديمولن مؤلف
كتاب (سر تقدم الإنكليز) الذي يعرف القراء مكانته، وقد عُني بتعريبه بعد
استئذان المؤلف وإذن ملتزم الطبع، أحد ضباط الشرطة (البوليس) الفاضل حسن
أفندي توفيق الدجوي، وطبعه في مطبعة الترقي الشهيرة طبعًا حسنًا مزينًا بالرسوم
على ورق جيد، فبلغ نحو مائتي صفحة؛ ولكنه جعل ثمنه عشرة غروش فقط،
وسنطالعه - إن شاء الله تعالى - ونبين للقراء أهم فوائده ونوهنا به الآن؛ لأن
شهرة مؤلفه كافية في الترغيب فيه.
***
(الفرائد الجمانية في شرح القصيدة الطنطرانية)
القصيدة مشهورة وناظمها الشيخ أحمد الطنطراني مدح بها نظام الملك الوزير
الشهير صاحب المدرسة النظامية في بغداد وهي أغرب ما نظم الناظمون في تكلف
السجع، ولزوم ما لا يلزم ومطلعها:
يا خلي البال قد بلبلت بالبلبال بال ... بالنوى زلزلتني والعقل بالزلزال زال
وهي على عدة قوافٍ ومنها:
يا غزالاً قده في المشي كالأرماح ماح ... ريقه راح وما في غير تلك الراح راح
وماح، بمعنى: مال، ومنها:
في عراص الوصل عاني الهجر كالغدَّار دار لا ترحل فالحشا من كثرة الأسفار فار
وهذه القصيدة تدلنا على أن الفساد كان قد دب في اللغة على ذلك العهد وهو
أكمل عهد للعلم في الاسلام، وقد عني بشرح هذه القصيدة بعض الشبان المشتغلين
بالأدب وهو محمد بن الحاج العربي العنابي الملقَّب بأبي الليل (كذا) أحد طلبة
القسم العالي بمدرسة الجزائر، فبيَّن المفردات اللغوية، ثم معاني الأبيات بعبارة
مسجعة، وبيَّن أيضًا أنواع البديع فيها فعلمنا أنه ممن يعدون البلاغة في الاستكثار
من أنواع البديع، ويكلفون بالتسجيع، فنوجه نظره إلى ما هو خير منه من الكلام
المرسل الذي لا كلفة فيه، وإلى اعتبار المعاني تابعة للألفاظ، وعدم الالتفات إلى
هذه المحسنات اللفظية إلا ما جاء منها عفوًا صفوًا ملبيًا دعوة المعنى، والله الموفق.
***
(الشجرة النبوية)
للشيخ جمال الدين يوسف بن حسن بن عبد الهادي الحنبلي وهو كتاب مشجَّر
في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته كأولاده ونسائه اللاتي دخل بهن،
واللاتي عقد عليهن ولم يبن بهن، وأولاد بناته وأعمامه وأكابر أصحابه وأمهاته من
الرضاعة وغيرهم، وفيه ذكر ما كان يملكه وذكر خدمه ووقائعه، وغير ذلك من
الفوائد التي ينبغي لكل مسلم معرفتها، وهذا الكتاب قد قرَّبها جدًّا؛ ولكنه على
حسنه لا يخلو مما يُنتَقَد فقد نظرنا عند ابتداء إجالة الطرف في صفحاته صورة نعل
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي جانبها ذكر منافعها أى منافع الصورة
والمثال المرسوم، ومنها أنه أمان من بغي البغاة وغلب العداة والشياطين والحاسدين
وأنه يسهل الولادة! ولا يصح شيء من هذا وإن زعم المؤلف أنه مجرب؛ ولكن
مثل هذه الجملة الوهمية لا يصح أن يكون مانعًا من الانتفاع بما في الكتاب من
الفوائد، وقد طُبع على نفقة جمعية النهضة الأدبية، وثمنه ثلاثة غروش صاغ عدا
أجرة البريد، وهو قليل بالنسبة لما فيه من المشجرات والجداول التي تحتاج إلى
نفقة كثيرة، ويوجد في جميع المكاتب الشهيرة.
***
(مراقي الترجمة)
كتاب أو كتب يشتغل بوضعها ثلاثة من أمهر مدرسي اللغة الإنجليزية
وعلومها بمدرسة الناصرية الأميرية، ومن أفضل من أنبتت مدرسة المعلمين
الخديوية، وهم أبو زيد أفندي فايد وعبد الحميد أفندي الشربيني ومحمود أفندي
عثمان عطا الله، والغرض من وضع هذه الكتب تعليم الترجمة لتلاميذ المدارس،
وقد صدر الكتاب الأول منها مطبوعًا في مطبعة الترقي، وهو لتلاميذ السنة الأولى
والسنة الثانية من تلامذة المدارس الابتدائية وفيه أربعون درسًا، وثمنه غرشان
أميريان، ومن مزايا الكتاب تحري بيان الترجمة الصحيحة مع الإشارة إلى الترجمة
الحرفية، فعسى أن يُقبل عليه جميع تلامذة المدارس الأهلية مع تلامذة المدارس
الأميرية.
***
(الكنيسة الأرثوذكسية)
مجلة شهرية دينية أدبية إصلاحية، تصدرها جمعية سرية أنشئت حديثًا،
وسميت جمعية النشأة السورية الأرثوذكسية في مصر، وقد صدر العدد الأول من
هذه المجلة في أول تشرين الأول الحاضر، وجاء في مقدمتها ما نصه: (وبعد، فقد
رأينا أن الطائفة الأرثوذكسية السورية متقهقرة تقهقرًا في سبل العمران لا ينكره إلا
كل مكابر مغرور، ورأينا شمل الطائفة متضعضع (كذا) فلا جامعة لنا، ولا ألفة
بين أفرادنا؛ ولذلك كان السبق لغيرنا في سباق الحياة، فخفنا من التلاشي لما في
سنة الكون من تنازع البقاء وبقاء الأنسب؛ ولذلك اجتمعنا على السعي بما في
الوسع بالدعوة إلى الإصلاح، والنظر في مواقع الخلل جميعه (كذا) دعوناها
النشأة السورية؛ لأن ليس الغاية (كذا) إلقاء الضغائن بين أبناء الوطن الواحد،
شأن الجرائد الدينية الأخرى، بل اتباعًا لسنة المسيح في إلقاء السلام؛ لأن إلهنا إله
السلام يُدْعَى) .
ونحن نقول: إن لمؤسسي هذه الجمعية الفضل الأول على طائفتهم وأهل
مذهبهم باعترافهم بتأخرهم عن سائر الطوائف النصرانية، وسعيهم في التقدم
والترقي، وقد أحسنوا في عزمهم على سلوك سبيل المسالمة خلافًا لجرائد الجمعيات
البروتستنتية التي تلقي العداوة والبغضاء بين أهل الأديان والمذاهب؛ حتى
اضطرتنا إلى الرد عليها، ونحن السابقون إلى الدعوة إلى المسالمة والوفاق، ونبذ
أسباب العداء والشقاق، وإننا لنرجو النجاح لهذه الجمعية ولمجلتها؛ لأن الطائفة قد
استعدت برؤية العبر لقبول الإصلاح وإسعاد الداعين إليه وإسعافهم لما فيهم الآن من
كثرة المتعلمين والمهذبين، ويسرنا أن نرى سريان الإصلاح في هذه الطائفة التي
هي أكثر الطوائف عددًا في بلادنا لوجوه، أهمها: حفظ الدين مع العلم؛ فإننا نرى
أكثر الطوائف يتفلتون منه، فيكونون من الملحدين، وبذلك يبعدون عنا؛ فإن
الملحد أبعد من الكتابي بلا شك، ثم نفخ روح المباراة والمسابقة في سائر الطوائف
المتأخرة المتقهقرة؛ حتى إذا ما هبت الطوائف كلها للإصلاح وجارى بعضها بعضًا
ترتقي البلاد ويعلو شأنها، والتفاوت بين الطوائف عقبة كبرى في طريق الارتقاء،
على أن الإصلاح محبوب لذاته عند الصالحين، هذا ويقول بعض أفاضل الطائفة
أنه لا وجود لهذه الجمعية.
***
(فتح المنَّان في تقويم البلدان)
رسالة وجيزة في الفن ألفها الفاضل محمد أفندي ذهني لتلامذة السنتين الأوليين
في المدارس الابتدائية، وهي على طريقة السؤال والجواب، فعسى أن تصادف
رواجًا.
__________(4/629)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(سخاء السلطان على رجال الدولة والمابين)
نرى كثيرًا من الجرائد تُعَرِّض بسوء حال الموظفين في الدولة العلية،
وكونهم لا يصلون إلى بعض رواتبهم إلا بشق الأنفس، وتطلق القول في ذلك
إطلاقًا، والذي نعرفه من حال الموظفين الذين يعرفهم مولانا السلطان كالوكلاء
ورجال المابين وأمراء الجيش أنهم يأخذون رواتبهم، وما يقرب منها أو يزيد عليها
من الإحسانات الحميدية، وله - وفَّقه الله تعالى - تفنن في ضروب الكرم والسخاء ما
كان يخطر مثله في بال حاتم الطائي ولا كعب بن مامة، فكثير ما يهب الهبات
العظيمة بناء على حلم يراه في النوم، ومن ذلك أن ناظر الحربية كان نائمًا ذات
ليلة، فأيقظوه قائلين: إن رسولاً من قبل مولانا السلطان يطلبك، فقام مذعورًا ظانًّا
أن قد وقعت الواقعة، واحتيج إلى أشد القوة الدافعة، وإذا بالرسول يحمل خمسة
آلاف ليرة هدية، فأعطاها للناظر، وقال: إن مولانا يسلم عليك، ويقول: إنه رآك
الليلة في منامه محتاجًا إلى الدراهم فعجل لك هذه الهبة.
وقد تتحرك في نفسه الكريمة أريحية السخاء بعد غضب واستياء، فيجيب
داعيها فيكون سببًا للرضا شبيهًا بالاعتذار، كما وقع من عهد قريب عندما غضب
على الشريف أمير مكة المكرمة ووبَّخه بلسان البرق، ثم لم يلبث أن أرسل إليه
ثلاثة آلاف ليرة هدية.
وقد بنى قصورًا عظيمة لأكثر رجاله وكبار رجال الدولة، نذكر منها ما
عرفنا موقعه ومبلغ نفقته فمنها بقرب يلدز (1) قصر السر عسكر رضا باشا أنفق
عليه ثمانية عشر ألف ليرة و (2) قصر عثمان باشا الغازي (رحمه الله) أنفق عليه
عشرين ألف ليرة. و (3) قصر أحمد عزت بك العابد كاتبه الثاني، وأقرب
الناس منه ولا نعلم ما أنفق عليه؛ ولكننا علمنا أنه أنفق على نقش غرفة واحدة منه
وعلى أثاثها ورياشها خمسة آلاف جنيه، ومنها في نشانطاش (1) قصر الصدر
الأعظم خليل رفعت باشا أنفق على القديم منه 5000 ليرة، وعلى الجديد أربعين
ألف ليرة و (2) قصر زكي باشا مدير الطوبخانة أنفق عليه 15000 ليرة
و (3) قصر شاكر باشا رئيس أركان حرب المعية أنفق عليه ثلاثين ألف ليرة
و (4) قصر جواد باشا الصدر الأسبق نفقته عشرون ألف ليرة و (5) قصر كامل
باشا الصدر الأسبق نفقته 18000 ليرة و (6) قصر الباشكاتب تحسين بك نفقته
عشرة آلاف ليرة و (7) قصر سعيد باشا الصدر الأسبق نفقته 8000 ليرة
و (8) و (9) قصر الحاج علي بك الباش مابينجي، وقصر سعيد باشا رئيس
مجلس الشورى نفقة كل منهما 5000 ليرة، و (10) و (11) و (12)
و (13) قصور لمحمد بك وسعيد بك وأمين بك وعارف بك كلهم من مستخدمي
المابين أنفق على كل منها 3000 ليرة و (14) قصر محمود بك (المتوفى)
ومثله قصر عارف بك في بكماكوي وكلاهما من مستخدمي المابين أنفق على كل
منهما 4000 ليرة و (15) قصر منير بك سفير الدولة في باريس نفقته 5000
ليرة و (16) قصر لطفي أغا الدخاخني نفقته 8000 ليرة و (17) قصر ناظم
باشا والي سورية نفقته 4000 ليرة و (18) قصر ثريا باشا الباشكاتب المتوفى
نفقته 5000 ليرة و (19) قصر عصمت بك الأتوابجي باشى نفقته 2500 ليرة،
فقيمة نفقة ما علمناه من قصور نشانطاش وحدها يبلغ نحو مائتي ألف جنيه.
مع هذا كله ترى هؤلاء الرجال يتدللون على مولاهم، ويطلب بعضهم
الاستقالة المرة بعد المرة، كالصدر الأعظم وناظر المالية الذي لا نعلم مقدار
الإنعامات المغدَقة عليه، أليس هذا السلطان جديرًا بأن يحار في سياسة هذه الدولة
وأخلاق رجالها وطمعهم؟
***
(فضيلة شيخ الأزهر وانتقاد المكتوب)
من فضل الله تعالى علينا أننا لا نكتب شيئًا في المنار إلا لخدمة العلم والدين
ومصلحة الأمة العامة، وما أبرئ نفسي من الخطأ والسهو؛ ولكن أشهد الله على
حسن قصدي وإخلاصي بحسَب مبلغ علمي بالمصالح والمنافع التي أحث عليها،
والمضار والمفاسد التي أنفِّر عنها، وقد توهم بعض الناس أن نشر الانتقاد على
عبارة المكتوب الذي أرسل من قبل الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر الشريف إلى
وكيل الداخلية يمنعني من التشرف بزيارة الشيخ بعدها؛ ولذلك أوَّلت بعض الجرائد
زيارتي الأخيرة له بحسب ما وصل إليه النظر الكليل، أو القصد السيئ، وزعمت
أنني رأيت أكثر الناس غير راضين عن ذلك الانتقاد فحاولت تلافي ذلك، وما لي
ولأهل التأويل والتحويل، زرت مولانا الشيخ لأنني أحترمه منذ عرفته، ولم يتغير
ما في نفسي من سبب احترامه، بل زاد بالمنصب الذي ارتقى إليه، ولا أنكر أنني
ألفيته مستاء من نشر النقد، وغير راضٍ بالتأويل، بل قال إن البلاغة هي مطابقة
الكلام لمقتضى الحال، وأن ما كُتب هو المطابق لحال أهل الدواوين، وأنه إذا
كتب إليهم كلام بليغ لا يفهمونه، ولما قلت له إن صاحب السعادة وكيل الداخلية من
أهل العلم والفهم أجاز ذلك، وقال إن المكتوب قد يقع في يد غيره من الكتبة
والموظفين، فينبغي أن يكون بحيث يفهمه الجميع ... ولا حاجة لذكر ما دار من
الكلام في هذا الموضوع؛ ولكن لابد لي أيضًا أن أبين أن السبب في ترك البسملة
والحمدلة في أول المكتوب وسائر ما يكتب من المشيخة، هو تكريم أسماء الله تعالى
واسم نبيه لما يُتوقع من رمي الأوراق وإهانتها، كذا قال الأستاذ لي وأذن بأن يُنشر
وصرح لي بأنه نهى عن الرد على المنار.
ذكرت لمولانا الشيخ من دليل حسن قصدي في كل ما كتبت وأكتب عن
الأزهر، وفي العلماء والتعليم أنني عرضت عليه مرتين أن أذاكره في كل ما أريد
كتابته في شأن الأزهر، وأكتب ما يجيزه مما أعرضه عليه؛ لأكون أنا والمنار
مشمولين دائمًا برضاه، وأنني كنت فهمت منه أنه لم يحفل بذلك، فأكد لي أنني
فهمت خلاف الواقع، وأنه قبل ما عرضت عليه من قبل ويقبله الآن، فتلقيت كلام
فضيلته بالقبول وسأعرض عليه بعد اليوم ما أعزم على كتابته في شأن الأزهر إن
شاء الله تعالي، وهو الموفق للصواب.
***
(منشورات المفسدين في مصر)
يحاول بعض السفهاء الذين يتلذذون بأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون
أن يفتحوا على الجناب العالي الخديوي الباب الذي فتحه حزب تركيا الفتاة على
مولانا السلطان الأعظم، من تجرئة الناس على الخوض في شخصه المعظم بالقول
والكتابة، وشغل فكره الشريف بمكافحة الأشخاص والبحث عن الأفراد الذين
يكتبون ويتقولون ويمثلون ويصورون، ثم تلافي ما عساه ينجم عن كتاباتهم وسعيهم
وسعايتهم في الآستانة العلية أو الديار المصرية.
وقد توسلوا إلى هذا المقصد الخسيس بالوشايات القولية والمنشورات السرية،
ومن ذلك ما نوَّهت به الجرائد اليومية من المنشور الذين يُرجفون فيه بأن بعض
زعماء المسلمين وأمراءهم قد بايعوا الجناب الخديوي بالخلافة، ومن تصوير مولانا
السلطان ومولانا الأمير يلعبان على البلياردو برأسي ليون فهمي وصالح بدرخان
وغير ذلك مما لا نذكره.
ونحن نعتقد أنه إذا لم يُقفل هذا الباب قبل تمادي السفهاء فيه؛ فإنه يتعذر
إقفاله بعد ذلك أو يتعسر، ولا وسيلة لإقفاله إلا تنزيه سمع مولانا العزيز أيده الله
عن سماع كلمة واحدة من كلام هؤلاء السفهاء، وتكريم نظره العالي عن التصويب
إلى شيء مما يكتبون بَلْهَ أشخاصهم الخسيسة، وذواتهم المنحوسة؛ فإن مولانا
السلطان الأعظم قد أعياه أمرهم، بعد أن راج في سوق السياسة سحرهم، وهو
صاحب السلطة المطلقة والإرادة النافذة والكف الفائضة، ولو أنه أيده الله تعالى
أيأسهم من سماع كلامهم، والنظر في مواقع سهامهم، لاستراح وأراح.
ثم إن لمولانا العباس - حفظه الله - من بُعد النظر وجودة الفكرة ما يمكنه به أن
يقنع مولانا السلطان الأعظم بمصدر هذه الأراجيف إذا فُرض أنها وصلت إلى يلدز
وأما مصر فلا تأثير فيها لشيء من هذا الهذيان، إلا إذا راج في المعية السنية،
وبيد مولانا الأمير إبطال هذا التأثير، وبيده تربية هؤلاء السعاة المفسدين،
والسفهاء الطامعين، ولاشك أن جميع رجال حكومته ووجوه رعيته محبون لمقامه
الكريم، ومخلصون لجنابه الفخيم، ولا يوجد فيهم من تُحَدِّثه نفسه بأن يطالبه بمثل ما
يطالب ذلك الحزب المشئوم مولانا السلطان، أو ينسب إليه تقصيرًا في أعمال
الحكومة، ولا يمكن أن يكون لكلام المرجفين أدنى تأثير في نفس أحد منهم، فكيف
يؤثر في نفسه العلية؟ كلا سوف يخسأون، ثم كلا سوف يخسأون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
***
(إلى الجناب العالي الخديوي)
مولاي: قد كثر في بلادك نسبة الأشياء إلى لقبك الرفيع، فلا نرى إلا
(الأجزاخانة الخديوية، والقهوة الخديوية، والمطبعة الخديوية) وغير ذلك مما لا
بأس بتشرفه بالنسبة إلى هذا اللقب، ومما ينبغي تنزيه اللقب عنه، وهذه جريدة
(بشائر السلام) التي أنشئت للطعن بدين الإسلام الشريف تُطبع بالإسكندرية في
مطبعة تسمى (المطبعة الخديوية) كما هو مكتوب عليها، وربما يتوهم بعض
المطلعين عليها من غير هذه البلاد أن المطبعة منسوبة إلى سمو الخديو فعلاً،
فيعجبون كيف يصدر منها هذا الطعن الفاحش بالإسلام.
فإذا كانت حكومة بلادك التي امتازت بالحرية قد غلت فيها إلى هذا الحد في
إجازة الطعن؛ فإننا نطلب من حكمة سموك تنزيه لقبك الشريف أن ينسب إليه شيء
بغير إرادة رسمية منك، كما يفعل مولانا السلطان الأعظم أيده الله وأيدك بروح منه
بل نطلب بلسان الإخلاص صدور الأمر العالي بإبطال كل ما ينسب إلى هذا
اللقب، أو يستأذن صاحبه فتتعلق الإرادة بالإذن له.
***
(مأتم الأمير عبد الرحمن في الهند)
جاءنا من وكيلنا في بومباي أنه كان لنعي أمير الأفغان تأثير عظيم في جميع
الممالك الهندية، فاضطرب الناس واختلفت الجرائد الإنكليزية والهندية فيه، فكانت
تكذِّبه تارة، وتصدِّقه أخرى، إلى أن صدر الأمر من اللورد كرزون الحكمدار
الإنكليزي العام بالاحتفال بمأتمه العمومي يوم الاثنين غرة رجب، فاحتُفل به في
ذلك اليوم في جميع البلاد الهندية وسواحلها احتفالاً عظيمًا كالاحتفال بمأتم الملكة بلا
فرق، فكان يومًا مشهودًا عُطلت فيه دواوين الحكومة ومحاكمها وجميع المدارس،
وأُغلقت محال التجارة، وصلى المسلمون عليه جميعًا مع اختلافهم في المذاهب كل
فرقة في مسجدها بأمر كبيرها أو مجتهدها، (قال) : (وصلوا عليه بالأمس بعد
صلاة الجمعة في الجامع الكبير، وبعد الصلاة أرسل تلغراف التعزية مع التهنئة إلى
وكلاء الفقيد، ونحن نحمد الله تعالى على أنه فات هذا الخطب الجلل، ولم ينتطح
عنزان على رغم أعداء الإسلام رماهم الله بالخذلان) اهـ، فتأمل في هذا التأثير
العظيم لفقد هذا العظيم في هذه البلاد.
***
(حرب الإنكليز والبوير)
دخلت هذه الحرب في العام الثالث، وهي لا تزال سجالاً، وقد أدهش ثبات
البوير وبلاؤهم جميع الأمم والدول؛ لأنهم لم يعهدوا من شرذمة قليلة مصادمة دولة
عظيمة زمنًا يُعَدُّ بالسنين، وللحياة الاستقلالية في الأمم آيات يعتبر بها الأحياء،
ولا يحس بها الأموات.
__________(4/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
من إدارة المنار
نرجو من المشتركين الكرام في البلاد الهندية اعتبار الفاضل الشيخ عبد الله
نزيل بيت صديقنا الأستاذ الكامل الشيخ أحمد الجيتكر في بومباي وكيلاً للمنار في
الممالك الهندية، وأن يدفعوا إليه قيم الاشتراك، ويأخذوا منه وصولات مطبوعة
مختومة بختم الإدارة، ومذيلة بتوقيعه أو ختمه.
__________(4/640)
غرة شعبان - 1319هـ
13 نوفمبر - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان
ينبعث المرء إلى العمل بشعوره ووجدانه أكثر مما ينبعث بفكره وبرهانه،
وبالعمل يسعد ويشقى، وبالعمل يموت ويحيى [1] .
تأثير الشعور والوجدان أقوى في النفس من تأثير العقل والجنان، بل لا تنفذ
أحكام سلطان العقل في مملكة البدن إلا بواسطة الشعور النفسي بالحاجة إلى ما حكم
به لدفع ألم أو تحصيل لذة، فكأن الشعور وزير التنفيذ لسلطان العقل، وكثيرًا ما
يستبد هذا الوزير على ذلك السلطان إجابة لداعي عُمَّال الحواس والمشاعر، فيزعج
الجوارح إلى العمل بدون استشارته فتخسر الأعمال، وتخيب الآمال، ويسوء
المصير والمآل.
نعني بالشعور أن تحس بألم الحاجة إلى الشيء أو بلذته، وبالوجدان ما تجده
في نفسك من ذلك الألم الذي يدفعك إلى العمل بما يقتضيه، أو اللذة الداعية إلى
المداومة على العمل، فالمراد بهما واحد؛ ولذلك نكتفي بأحد اللفظين أحيانًا، ويعبر
الصوفية عن هذا المعنى بلفظ (الحال) ومن أصول طريقتهم تربية الحال بما
ينفخون من روح التأثير بعقيدة من العقائد، أو فضيلة من الفضائل في المريد،
فينبعث إلى العمل الذي هو أثر العقيدة أو الفضيلة بوجدان صادق ويبالغ فيه ما شاء
الله أن يبالغ حتى يكون ملكة راسخة في النفس، وهي ما يسمونه (المقام) يقولون
حال التوكل ومقام التوكل، وحال السخاء ومقام السخاء، وإذا كان المقام عند
الصوفية عبارة عما يسميه علماء الأخلاق من غيرهم خُلقًا وملكة، فهو إذن ما
تصدر عنه الأعمال بلا روية ولا تكلف.
العمل بمقتضى الحال والوجدان يحتاج إلى الفكر في طريق العمل ومقدماته،
ثم يرتقي الإنسان فيه مع التكلف والتأثر إلى هذه الدرجة التي يصدر فيها العمل بلا
تكلف ولا انفعال ولا ترتيب مقدمات؛ ولكنه مع ذلك يشعر بأنه متمكن من ذلك
المقام، ويتفكر في آثاره الحسنة، فإذا غاب عنه هذا الشعور والفكر فصار لا روية
ولا رؤية؛ وإنما هي أعمال كالأنفاس وحركات الجفون، فتلك نهاية الكمال في
المقام، والشيخ محيي الدين بن عربي يعبر عن هذا بمقام الترك، فيقول مقام
التوكل ومقام ترك التوكل ومقام الصدق ومقام ترك الصدق؛ وإنما يعني ترك شهوده
وتلك غاية الكمال، يصدُق المرء من غير شعور سابق يدفعه إلى الصدق عند كل
فرد من أفراده، وبدون فكر في مقدمات الصدق ونتائجه ولا ملاحظة لتلبسه بهذه
الفضيلة، ولا إعجاب بها وبآثارها، وليس محالاً أن يرتقي الإنسان في التهذيب
إلى أن تكون الأعمال الحسنة منه كحركات الجفون لا يتفكر فيها، ولا يشعر بها إلا
إذا ذكره مذكر أو نبَّهه منبه.
تلك درجات مرتبة، ومراتب متعاقبة، فالشعور والحال، ثم الملكة والمقام،
ثم الرسوخ والاطمئنان حتى لا شهود ولا عيان، إلا ما كان كومضة برق، أو
نبضة عرق.
كيف ينفخ المربي روح الشعور النافع والوجدان الشريف في النفوس؛ ليعرج
بها جنات الفضائل العالية، حيث تعيش العيشة الراضية؟ يقول الإمام الغزالي إن
العلم هو الذي يحدث الحال في النفس، والحال هو الذي يُحْدِث العمل، وعلى
العمل مدار السعادة، ويقول إن الترتيب بين هذه الثلاثة واجب لا يتخلف بمقتضى
اطراد سنة الله تعالى في الملك والملكوت، ونرى أكثر علمائنا، بل أكثر الناس
يقولون إن العلم لا يوجب العمل، وقد نازع حجة الإسلام بلفظ (يوجب) بعض من
يوصف بالإمامة من العلماء الذين لم يفهموا كلامه لتقيدهم بالاصطلاحات الكلامية،
وقد صرح هو بأنه يريد بالعلم اليقين بأن الشيء ضار أو نافع، ولا شك أن اليقين
أو الرجحان عند تعارض اعتقادين في النفس هو الذي يملك على النفس أمرها،
ويبعث فيها وجدانًا يزعجها إلى العمل؛ وإنما نظر القوم إلى العلم التصوري أو
التصديقي الضعيف الذي تتنازعه الشكوك وتعارضه تصورات أو تصديقات أخرى
هي أقوى منه، فلا يصدر عنه أثره وإنما يصدر الأثر عن الراجح القوي كما
أوضحناه في مقالة عنوانها تأثير العلم في العمل (راجع العدد الثاني من المجلد
الثاني) .
ما قاله الإمام الغزالي صحيح؛ ولكن العلم الصحيح اليقيني بالمنافع والمضار
والمصالح والمفاسد عزيز في البشر، لا سيما مصالح الأمم والمِلَل، ثم إن إيداعه
في النفوس بالتعليم على وجه يغلب تأثير التقاليد والعادات، والتأثر بما ينافيه من
المسموعات والمشاهدات، أعز وأعسر، وأقل وأندر، فلابد من تعزيز والتعليم
بالتربية العملية، بل التربية هي الأصل والتعليم يمدها ويغذيها، ويثمرها وينميها،
وهذه الطريقة طريقة الدين فإنه بعد أن أشعر النفوس عظمة الله وسلطانه وفضله
وإحسانه شرع للناس أعمالاً ووضع لهم شعائر، كان لها السلطان الأكبر على
القلوب والضمائر، فكان إحياء وجدان وشعور، وبعث همم ونشور، مقرونًا بتعليم
قويم يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.
شُرِّع الدين لإسعاد الأفراد في أنفسها، وإسعاد الشعوب في مجموعها؛ ولذلك
كان بعض أعماله عبادات تتعلق بتهذيب الأفراد، وبعضها شعائر تتعلق بالاجتماع
كأعمال الحج والعيدين وصلاة الجمعة والجماعة، وقد كان لهذه الشعائر تأثير
عجيب في الحياة الملية والاجتماعية، حيث لم تكن رسمًا صوريًّا يؤدى كما تؤدى
المغارم والديون على ما هي اليوم، وإنني لا أنسى ذلك الشعور الإسلامي الذي
يسوقني وأنا ابن بضع سنين إلى مسجد البلد الجامع لحضور صلاة التراويح وصلاة
الفجر، ولحضور الوعظ بعد العصر في رمضان، ولا أنسى تلك اللذة الروحية في
اجتماع الناس لهذه العبادات وأمثالها، لا سيما ارتفاع أصواتهم بالتكبير قبل صلاة
العيد، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد …
هذا الشعور الذي يجده الصغير في نفسه بمقتضى الفطرة، ويفقده بعد أن
يعتاد هذه الأعمال من غير فهم إلا أن يتعاهد بتربية تجدد عنده في كل وطور من
أطوار العمر، فهما في هذه الشعائر يبعث فيه شعورًا يليق به، ولولا أن مَنَّ الله
تعالى عليَّ منذ تعلمت القراءة والمطالعة بعشق كتاب (إحياء علوم الدين) الذي هو
أعظم كتب علماء الإسلام تأثيرًا في النفوس - لصارت العبادة عندي عادة لا تأثير
لها، وإنما صرحت بهذا ليكون نفعه عامًّا.
ومن البلاء العظيم الذي نزل بالمسلمين التقصير في إقامة شعائر الإسلام على
أصلها، والتوسل بها إلى إحياء الشعور الملي، فقد نزعت روحها أولاً، ثم طرأت
الأمراض على صورها فغيَّرتها حتى عافها المترفون، وأعرض عنها الأكثرون،
وكأن الشعائر التي تبعث الشعور وتحرك ساكن الوجدان أمر طبيعي في الأمم؛
ولذلك لم يلبث المسلمون بعد ضعف شعائرهم أن استبدلوا بها شعائر أخرى سرت
إليهم من الأمم المخالطة؛ ولكنهم صبغوها بصبغة دينهم، ولوَّنوها بلون شرائعهم،
وهي الأعياد والمواسم التي يحتفلون بها عند قبور الصالحين، وفي بعض الأيام
الفاضلة فلهذه المواسم تأثير كبير في نفوس العامة، وهو شعور ديني لا يُنكر؛
ولكنه غير إسلامي وأبعدها من الإسلام أشدها تأثيرًا، وهو ما يسمونه الموالد
(راجع باب البدع) .
اتبع المسلمون في هذا سنن من قبلهم في الابتداع؛ فإن المسيحيين تركوا
أعياد اليهودية وهي ديانة المسيح وانتحلوا لأنفسهم أعيادًا أخذوها عن الوثنيين؛ فإن
عيد الميلاد المسيحي لم يُعرف عندهم إلا في القرن الرابع بعد المسيح، وعيد ميلاد
مريم اختُلف فيه، فقيل ابتُدع في القرن الخامس، وقيل في السابع، وقيل في
التاسع، وقيل في الحادي عشر، وعيد الشهداء لم يُعرف إلا في أواخر القرن
الرابع فكانوا يقرأون قصصهم، وتؤدى عندهم فرائض العبادة، وتذبح الذبائح،
ويولم الأغنياء الولائم، فيأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون، وأما عيد الرسل فلا
ندري متى ابتُدع؛ ولكن له ذكرًا في حوادث القرن الرابع، وكانوا يحتفلون به في
رومية عند قبري بطرس وبولس.
قلنا: إن النصارى أخذوا أعيادهم هذه عن الوثنيين، ولوَّنوها بلون دينهم،
وهذا القول قد صرَّح منهم به كثيرون من رجال التاريخ، ورجال الدين، وصرحوا
بأنهم كانوا يعبدون الشهداء والرسل، وأن ذلك سرى فيهم بالتدريج كما قال
بيوسوبر في تاريخ المانيكيين، وجاء في قصة حياة غريغوريوس توماتورغوس:
أن غريغوريوس لما رأى الجماهير الجهلاء البسطاء متمسكين بأصنامهم لما فيها من
اللذات الحسية، أذن لهم في أعياد الشهداء القديسين أن يتلذذوا ويتنعموا رجاء أن
ينتقلوا بعد ذلك باختيارهم إلى حياة حسنى وطريقة مثلى. وفي (ريحانة النفوس
في الاعتقادات والطقوس) : (إن الذين انحازوا من عبادة الأوثان إلى الديانة
المسيحية إذ وجدوا بعض أمور في أعياد الشهداء تشبه ما كانوا معتادين عليه في
أديانهم الأولى، فقد نقلوا إليهم ذلك الإكرام الذي كانوا يقدمونه لآلهتهم) .
لو لم يوجد في النصارى من يؤول لهم عبادة الشهداء ونحوهم لما انتشرت
فيهم وعمت بلادهم، وإننا نذكر عبارة من تلك التأويلات لأجل تطبيق الحديث
الشريف، قال أغوستينوس: إننا نتعلم أن نكرم الشهداء لا أن نعبدهم، بل إنما
نعبد الله وحده الذي تعبده الشهداء؛ لأنه لا يجب أن نكون مثل الوثنيين الذين نحزن
عليهم لأنهم يعبدون الموتى من الناس، ثم أوضح هذا بقوله: إننا لا نتخذهم آلهة
ولا نعبدهم كآلهة؛ فإننا لا نعطيهم هياكل ولا مذابح ولا ذبائح ولا يقدم لهم الكهنة
القرابين، حاش لله فإن هذه الأمور إنما تعمل لله فقط اهـ. أقول: لكنهم باسم
التعظيم والتكريم الذي أذن فيه وجوَّزه قد قدموا لهم الذبائح وعبدوهم عبادة حقيقية،
وإن لم يسمها بعضهم عبادة، وهذا هو السبب في تشديد النبي صلى الله عليه وسلم
النكير على تعظيم القبور واتخاذها أعيادًا؛ ولكن هي سنة الكون تنتقل العادات
والتقاليد من بعض الملل إلى بعض كما في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من قبلكم
شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)
تقلد الأمم بعضها بعضًا في الشعائر الدنيوية أيضًا؛ فإن أهل الغرب اتخذوا
لملوكهم أعيادًا لإحياء الشعور الوطني الذي يمثله رئيس الدولة في الملكية، وللدول
الجمهورية منهم أعياد باسم الحكومة التي يعتزون بها ويعززونها، وقد قلدهم
الشرقيون في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم لإرضائهم إذ كانوا لا وطن لهم ولا
وطنية، ولا دول عزيزة بملوكها قوية، ولا شك أن هذه الأعياد شعائر تبعث
الشعور بحب السلطان أو الأمير في نفوس الذين يعتقدون فيه النفع للدولة والأمة،
فينتفع بهذا المستبدون، ويغتر به المغترون، حتى يأتيهم العذاب من حيث لا
يشعرون.
يبلغ الشعور في أفراد الأمم العزيزة الحرة مبلغًا يُعَدُّ من الخوارق في نظر
الأمم المريضة المستعبَدة، فقد كثر في هاتين السنتين عدد المجانين في إنكلترا وقال
نطس الأطباء إن سبب ذلك الانفعال الشديد لخذلان الدولة في حرب الترانسفال،
وما دفع البوير إلى الاستبسال في ساحات الوغى إلا الشعور القوي بألم الاستعباد
المتوقع الذي استوى فيه النساء مع الرجال، فكن عونًا لهم في ميادين القتال،
فليعتبر قومنا إن كانوا يشعرون، أو ليموتوا ليحيى الأمراء والحاكمون. نعم قد دب
فيهم شيء من الشعور نفرد له مقالة في جزء آخر.
__________
(1) راجع العدد الرابع من المجلد الأول.(4/641)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
النبذة التاسعة في كتب العهدين
جعل مؤلف الأبحاث الفصل الثاني من البحث الأول في إثبات صحة التوراة
والإنجيل عقليًّا، وتقرير هذا الدليل أن الله قادر حكيم فلا بد أن يضع دستورًا
ويكتب شريعة لمخلوقاته العاقلة، كي تعلم نسبتها إلى خالقها وواجباتها نحوه،
وواجبات بعضها نحو بعض، وتعرف مصير العالمين وقصاص العصاة وثواب
الطائعين المؤمنين لئلا يكونوا فوضى لا وازع لهم ولا مشترع كالأنعام يدوس
بعضهم بعضًا، وكالأسماك يأكل صغيرَها كبيرُها، ويفني الناس بعضهم بعضًا
وتستوي الفضيلة والرذيلة، وهذا ما لا يرضى به القادر الحكيم، ثم قال: (فإذا لم
يكن ذلك الدستور وتلك الشريعة هما التوراة والإنجيل، فقل لي بعيشك ما هما، هل
يوجد كتاب قديم مقدس يفي بالغرض المقصود كالتوراة والانجيل؟ كلا
لعمري) .
(المنار)
إننا لا نؤاخذ المؤلف على تقصيره في تقرير وجه الحاجة إلى الشريعة، إذ
يعرف القراء هذا التقصير بمقابلته بما كتبناه وما سنكتبه في بيان الحاجة إلى الوحي
من دروس الأمالي الدينية؛ ولكننا نذكِّره بأمور إذا تأملها ظهر له أن حجته داحضة.
(1و2) لماذا ترك الله البشر قبل التوراة ألوفًا من السنين لا نعلم عددها من
غير شريعة إذا كان ذلك لا يرضيه؟ ولماذا لم تظهر حكمته هذه إلا في بني
إسرائيل من عهد قريب، وكل الناس عبيده والعلة تقتضي العموم؟ هذان السؤالان
يردان عليه، وعلى جميع اليهود والنصارى القائلين بقوله ولا يردان على المسلمين؛
لأن القرآن حل هذا الإشكال بقوله تعالى في الرسل: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) فنحن نعتقد أن الله أرسل رسلاً في
جميع الأمم التي استعدت بترقيها إلى فهم توحيده لا يعلم عددهم غيره تعالى.
(3) هل كان أهل الصين كالأنعام يدوس بعضهم بعضًا، أو كالسمك يأكل
كبيرهم صغيرهم بلا وازع ولا رادع، أم كانوا أولي مدنية وفضائل قبل وجود بني
إسرائيل وبعدهم؟ والتاريخ يدلنا على أنهم كانوا أرقى من بني إسرائيل في العلوم
والمعارف والمدنية والنظام الذي تُحتاج الشريعة لأجلها، وكانوا أرقى من النصارى
أيام لم يكن عند هؤلاء إلا الديانة التي بثها فيهم مقدسهم بولس، فما زادتهم إلا عداوة
وبغضًا واختلافًا وتنازعًا وحربًا واغتيالاً في تلك العصور التي يسمونها المظلمة،
وكان الصينيون في هدوء وسلام ووفاق ووئام، ما قيل في الصينيين يقال نحوه في
الهنود، ولا يرد مثل هذا الإشكال على المسلمين؛ لأنهم بمقتضى هدى القرآن
يجوزون أن يكون الله تعالى بعث في الصين والهند أنبياء أرشدوهم إلى ما كانوا
فيه من السعادة، ثم طال عليهم الأمد، فمزجوا ديانتهم بالنزغات الوثنية الموروثة
حتى حوَّلوها عن وجهها تحويلاً، كما نعتقد مثل ذلك في النصارى إذ لا شك أن
ديانتهم في الأصل سماوية توحيدية، ثم حوَّلوها إلى عبادة البشر من المسيح وأمه
وغيرهما.
(4) إن الأوروبيين قد استغنوا بالقوانين الوضعية عن شريعة التوراة،
وبالآداب الفلسفية عن آدابها وآداب الإنجيل فطرحوا الزهادة، ونفضوا عن
رؤوسهم غبار الذل، وقد نجحوا بهذا وارتقوا عما كانوا عليه أيام كانوا متمسكين
بهذا الكتاب الذي يسمى (المقدَّس) فكيف تقول إنه لا يوجد غيره لهداية البشرية
وتهذيب أخلاقهم، وهذا الواقع على خلافه، وهذا الإشكال لا يرد أيضًا على
المسلمين؛ لأنهم يعتقدون أن اليهود والنصارى نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به في الوحي
وطرأ على الباقي التحريف والنسخ، فلم يعد صالحًا لهداية البشر، ويعتقدون أن
الأوربيين أقرب الناس إلى دين الإسلام في أخلاقهم الحسنة كعزة النفس، وعلو
الهمة والجد في العمل والصدق والأمانة والاهتداء بسنن الكون والاسترشاد بنواميس
الفطرة، والأخذ بالدليل وغير ذلك، وأنهم كما اهتدوا إلى هذا بالبحث والتوسع في
العلم سيهتدون كذلك إلى سائر ما جاء به الإسلام من العقائد والأخلاق والفضائل
والأعمال.
(5) إن المسلمين قد ظهر فيهم كل ما ذكره في وجه الحاجة إلى الشريعة
على أكمل وجه لم يعرف مثله في الكمال عند اليهود والنصارى، فعرفوا ما يجب
لله تعالى، وما يجب من حقوق العباد وصلح بالدين حالهم، واجتمعت كلمتهم
وتهذبت أخلاقهم، وسمت مدنيتهم في كل عصر بقدر تمسكهم به، والتاريخ شاهد
عدل.
(6) إذا كانت التوراة قد بيَّنت كل ما ذكره من حاجة البشر إلى الشريعة
فلماذا وُجد الإنجيل؟ وإذا كانت ناقصة فلماذا جعلها الله ناقصة لا تفي بالحاجة،
وكيف يتم له الدليل بناء على هذا القول على إثبات التوراة والإنجيل بالعقل؟ وهذا
الإشكال لا يرد على المسلمين المعتقدين بصحة أصل التوراة والإنجيل؛ لأنهم
يقولون: إن كلاًّ منهما كان نافعًا في وقته، ثم عدت عواد اجتماعية ذهبت بالنفع
والفائدة، فساءت حال القوم المنتمين إلى الكتابين، فجدَّد الله الشريعة بالإسلام على
وجه فيه الإصلاح العام، فانقشع بنوره كل ظلام، وحفظ الله كتابه من التحريف
والتبديل ليرجع إليه الذين يضلون السبيل.
(7) إذا كانت التوراة مشتملة على ما ذكره - كما تقدم - فلماذا تركها
المسيحيون فعطلوا شرائعها، وضيَّعوا حدودها كما بيناه في بعض نبذ الرد
السابقة.
(8) إذا كانت كتب العهد العتيق والعهد الجديد إلهية حقيقية، فلماذا وُجد
فيها الاختلاف والتناقض والتهاتر ومصادمة العقل الذي لا يُفهم الدين ولا يُعرف إلا
به، وقد تكلمنا على مصادمتها للعقل قليلاً في بعض النبذ الماضية، وسنبين بعد كل
ما ادعيناه هنا تبيينًا.
(9) إذا كانت هذه الكتب إلهية وافية بما ذكره المصنِّف من حاجة الناس
للشرائع، فلماذا وُجد فيها ما يُخل بذلك أصوله وفروعه، كتشبيه الله بخلقه ونسبة
الفواحش إلى الأنبياء الذين هم أحق الناس وأولاهم بالاهتداء بالدين الذي تلقوه عنه
سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما ينافي الآداب الصحيحة كما ألمعنا من قبل،
وسنزيد ذلك بيانًا، ونكتفي الآن بإشارات من لامية البوصيري رحمه الله تعالى،
قال في شأن العهد العتيق وأهله:
وكفاهم أن مثَّلوا معبودهم ... سبحانه بعباده تمثيلا
وبأنهم دخلوا له في قبة ... إذ أزمعوا نحو الشام رحيلا
وبأن (إسرائيل) صارع ربه ... فرمى به شكرًا لإسرائيلا
وبأنهم سمعوا كلام إلههم ... وسبيلهم أن يسمعوا منقولا
وبأنهم ضربوا ليسمع ربهم ... في الحرب بوقات لهم وطبولا
وبأنه من أجل آدم وابنه ... ضرب اليدين ندامة وذهولا
وبأن رب العالمين بدا له ... في خلق آدم يا له تجهيلا
وبدا له في قوم نوح وانثنى ... أسِفًا يعضُّ بنانه مذهولا [1]
وبأن إبراهيم حاول أكله ... خبزًا ورام لرجله تغسيلا [2]
وبأن أموال الطوائف حُللت ... لهموا ربًا وخيانة وغلولا
وبأنهم لم يخرجوا من أرضهم ... فكأنما حسبوا الخروج دخولا
لم ينتهوا عن قذف داود ولا ... لوط فكيف بقذفهم روبيلا [3]
وعزوا إلى يعقوب من أولاده ... ذكرًا من الفعل القبيح مهولا
وإلى المسيح وأمه وكفى بها ... صدِّيقة حلت به وبتولا
وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا ... لزنى بمحصنة ولا منديلا [4]
لوَّوا بغير الحق ألسنة بما ... قالوه في (ليَّا) وفي راحيلا [5]
ودعوا سليمان النبي بكافر ... واستهونوا إفكًا عليه مقولا [6]
وجنوا على هارون بالعجل الذي ... نسبوا له تصويره تضليلا [7]
إلى أن قال:
الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا
طلعت به شمس الهداية للورى ... وأبى لها وصف الكمال أُفُولا
والحق أبلج في شريعته التي ... جمعت فروعًا للهدى وأصولا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
درست معالمها ألا فاستخبروا ... عنها رسومًا قد عفت وطلولا
ولا يخفى أن هذه المطاعن التي تنافي ما ذكره المصنِّف وغيره من الدليل
على حاجة البشر إلى الشريعة ولا تليق بالوحي السماوي، لا ترد على المسلمين
الذي يقولون بحقية التوراة والإنجيل لما بيَّناه في الجزء الخامس فراجعه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بدا له، في البيت وما قبله، أي: ظهر له فيه رأي جديد، وفي سفر التكوين (6: 6) أن الرب حزن وتأسف؛ لأنه خلق آدم، ويلزمه البداء والجهل، وكذلك في نوح وقومه.
(2) راجع (18 تك) .
(3) يريد رمي داود بالزنا بامرأة أوريا (11 صموئيل 2) ولوط ببناته راجع (19تك) وأما روبيل فيسمونه رؤبين راجع قصة قذفه في (35 تك) .
(4) في (38 تك) أن يهوذا زنى بكنته ظنًّا أنها بغي، ووعدها بجدي وأعطاها خاتمه وعصابته وعصاه رهنًا على ذلك، وجاءت منه بتوأم.
(5) القصة في (29 و30 تك) .
(6) في (11 الملوك الأول) أن النساء أملن سليمان لعبادة الأوثان (برأه الله) .
(7) راجع (32 خروج) .(4/654)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
التدريج الفطري
في تعليم الرسم والخط والقراءة [1]
(32) من الدكتور أراسم إلى زوجته في 18 إبريل سنة 185
تلقيت رسم (أميل) فاغتبطت به، ولله ما تفضلت بإضافته إليه من الشرح
الذي كان كالمفتاح لمغلقه، فلولاه لما نفذ ذهني في سر خطه البربائي، لا شك أن
هذه البقعة الكبيرة السوداء تمثل العاصفة والبحر المضطرب والسماء المظلمة
بالسحب، وهذه يدي رهن لمن شاء على أني أرى فيه السفينة الغريقة، وإن كانت
قوانين علم المرئيات لم تراع في الرسم بالتدقيق، وذلك الشيء الطافي على وجه
الماء لا بد أن يكون زورق النجاة، وأما هذا الوجه المصبوغ بالمداد فلا وجه للخطأ
في معرفته، فهو وجه قوبيدون، وكأني أرى بعين الارتياح في الصورة الصغيرة
الملقاة على الأرض تلك الفتاة المغمى عليها التي نجت من الغرق، أراك تجدينني
قد فهمت ذلك الرسم الذي لا أعرف من آثار ولدي سواه، وقد علقته هو وصورته
على جدار حجرتي.
إن صناعة الأطفال تذكرنا دائمًا بطفولية الصناعة، وإن تصوير بعض أشكال
هذا العالم الخارجي هو ملكة غريزية في نوعنا، وربما كانت هي التي تميزنا عن
غيرنا من سائر الحيوانات أجلى تمييز؛ فإن إنسان (الغاب) الوحشي الذي لا
تُعرف لغته ولا تاريخه قد عُلِم عنه اليوم أنه كان في زمن ما ينقش بالظِّران
(الحجارة المحددة) على الحجر، أو على قرن الأيل القطبي صورًا سمجة لا أثر
للإتقان فيها كصورة الفيل القديم ذي الفروة المسمى بالممُّوث، كما رسم بعض
الحيوانات الأوابد الغريبة التي كان يغالبها في التسلط على الآجام والغاب.
لدينا كذلك برهان على أن مجتمعات الإنسان الأولى مارست فنون التقليد من
قبل أن تضع لنفسها قوانين ثابتة تكفل لها حاجيات معيشتها.
أستنتج مما قدَّمته أن تعليم الأطفال ينبغي أن يبدأ فيه بالرسم، وهذه هي
الطريقة التي تتلمسينها لنقل الطفل من التصوير إلى الكتابة.
لقد أحسنت النظر إذ انتبهت إلى أن حروف كتابتنا لا صلة بينها وبين ما
وضعت للدلالة عليه بشكلها، وأنه ما ثمَّ إلا المواضعة والاصطلاح؛ فإن الطفل ما
رأى في الكون شيئًا هو (أ) أو (ب) ولكن اختراع هذه الحروف هو من أعظم
الآثار وضروب فوز العقل الإنساني المخلدة في صفحات تاريخه، واذكري أن الأمم
القديمة كانت قد استعدت من زمن طويل للحروف الهجائية بممارسة الرسم، ثم
انتقلت منه إليه، فقد استمد الفينيقيون حروفهم من الكهنوتي القديم، وأما أبناء هذا
العهد فإن هذا الاتصال بين الرسم والخط مقطوع في نظر الطفل الذي يتعلم القراءة
والكتابة بخطهم؛ فإنه ينتقل فجأة إلى عالم معنوي لا يجد فيه شيئًا يسترشد به، ولا
رابطة القياس والمماثلة، وبعد هذا يندهش معلمه من استثقاله ما يراه أمامه من
العقبات، ليس هو الذي يحق له المعارضة في مثل هذه الطريقة المضادة للعقل،
بل إن كل ذي ذوق سليم وحكم صحيح يحق له ذلك.
كل ما يتعلق بالخط يحملنا على اعتقاد أن الحروف الهجائية التي اختُرعت
أولاً قلما كانت إلا صورًا لبعض أشياء كانت تنسب إليها أكثر من غيرها، والخط
ابتدئ باختصار في الرسم، وليت شعري هل محيت تلك الآثار البربائية بتمامها من
الحروف الهجائية للغات الحديثة؟ أقول إن هذا الأمر محل للشك، وإنى أعرف
رجلاً كيسًا كان يُرجع أشكال حروف لغتنا المطبوعة إلى بعض الصور الخلقية،
نعم إن مضاهاته كانت أحيانًا تشف عن بعض التكلف؛ ولكني أود عن طيب نفس
اتباع طريقته للتوفيق في ذهن أميل بين طائفتين من الأشكال تظهران لأول نظرة
متباعدتين كأن بينهما بحرًا رهوًا، فإذا رسم مثلاً سطحًا مستديرًا يمثل به الشمس
أكتب في أسفل هذا الرسم اسم هذا الكوكب بالفرنساوية Soleil معتنيًا بإظهار حرف
O مكبرًا، فإذا كان الرسم منزلاً Maison، أو ثعبانًا Serpent، أو طريقًا متعرجًا
Zigzag، أو عينًا باصرة œil بذلت جهدي في بيان وجوه الشبه التي عساها توجد
بين الحرف الأول من هذه الكلمات والأشياء التي تمثلها في الذهن؛ فإن أميل يفهم
بهذه الطريقة أن الخط هو كيفية أخرى للرسم بها يبين الإنسان مراده بأوضح مما
يحاوله بالرسم، وفى زمن أقل.
إن الذي يحيِّر الطفل ويضله هو إلزامه باتباع طريقتنا في النظر بدل أن
نستدرجه من المعلوم إلى المجهول استدرجًا سهلاً، فتريننا نبادر إلى صب المعاني
العقلية في ذهنه صبًا على حين أنه لم يكتسب بعد ملكة تمييز هيئات الأشياء المادية،
نضطره إلى ذلك بفضل ما لنا عليه من الولاية المعنوية على اختلاف درجاتها فينا؛
ولكني أرى أننا بهذه الطريقة نجني على ذهنه جناية تقضي بالأسف؛ فإن إلزامه
بالتعلم وقهره عليه يسلبان معظم ميله إلى الملاحظة والتعلم بنفسه، إن ضرر
الاستبداد في البيوت لم يكن أقل من ضرر استبداد الحكومة.
أرى أن الرسم والكتابة والقراءة هي ثلاثة ضروب من التمرين مرتبط بعضها
ببعض، بحيث لا ينبغي التفريق بينها في التربية الأولى، على أن الرسم هو الذي
تجب البداءة به؛ فإن في ذلك مزايا كثيرة أولها كفاية الطفل مؤنة ما للدرس من
السآمة والملل في أول أمره؛ فإن معظم الأطفال يكرهون الكتب، ومن منهم لا
يميل إلى الصور؟ كلا إن فيهم دافعًا طبيعيًّا يحملهم في الغالب على أن يرسموا
بأيديهم ما يقع تحت أبصارهم، فالرسم عندهم ضرب من اللعب خصوصًا إذا
مارسوه بدعوة الغريزة، واجتهدوا من أنفسهم في أن يمثلوا أشد الأشياء استمالة لهم،
ولا أنكر أن ملكة التمثيل والمحاكاة لا يستوي فيها جميع الأطفال؛ ولكن التأسي
كافٍ في تنبيهها غالبًا.
ليت شعري هل وُلد الإنسان رسامًا؟ هذا ما لا أعلمه؛ وإنما الذي يثبته لنا
التاريخ أن فنون الرسم تقدمت في جميع الأمم تقدم الكتابة والعلوم، وإذا كان الأمر
كذلك فالتاريخ يعيد نفسه في الأطفال كل يوم بأعيننا، ومن مزايا الرسم أيضًا أنه
يربي القوة الحاكمة في نفس الطفل؛ فإن في فتح أبواب الكون له قبل فتح الكتب
أمامه مبادرة لإرشاده له إلى ينبوع العلم، فمحاكاة الجماد أو الحيوان أو النبات توجه
نظره دائمًا إلى الصفات المقومة لماهية ما يحاكيه، وإن جاء الرسم ناقصًا، الرسم
هو تمثيل أشكال الأشياء وحدودها بخطوط، فيجب أن يكون الراسم قد رآها وقام
في نفسه معنى ما يميزها عن غيرها من العلامات والصفات الأصلية، وأما
الكلمات المكتوبة؛ فإنها لا تقتضي هذا العمل في الملاحظة فإنه متى عرف الطفل
التهجية وتركيب الحروف يمكنه أن يسمى عددًا لا نهاية له من الكائنات الحية
والجمادات التي ليس له بها أدنى معرفة، وتوجد له بذلك ملكة غاشة متى قويت
وثبتت بالعادة أضلت معظم العقول البسيطة التي لا هم لها إلا القشور.
لا يوجد الاستقصاء والتعمق في معرفة الأشياء إلا حيث يوجد القياس
والمضاهاة، فإذا لم يَعْتَدْ الطفل التفكر فيما يرى وملاحظته، يكون قليل الاهتمام
جدًّا بتفهم ما يقرأه.
آخر ما أذكره من مزايا الرسم أنه إعداد أولي كبير النفع في تعلم الخط، فإن
أميل بتخطيط صور الأشياء التي يستملحها تخطيطًا حسنًا أو رديئًا يمرن أصابعه
على الحركة، ويكتسب نوعًا من الخفة والدقة لتكوين الخطوط التي منها تتألف
حروفنا الهجائية؛ ولكن الغرض إنما هو إعداد الذهن للانتقال من الرسم الذي هو
كتابة الصور إلى الخط الذي هو رسم المعاني، فلو أننا تيسر لنا أن نربط في حكم
أميل التمثيل الخطي للأشياء المشهورة بالعلامات المعنوية التي تقوم مقامها، نكون
كأننا وضعنا على البحر الفاصل بينهما جسرًا، على أنه لا شيء أيسر من تصغير
الرسم في العمل؛ فإن أميل كلما رسم شجرة أو ثمرة أو حيوانًا أقول له إنك قد
رسمت حروفًا من حيث لا تدري، غير أنه توجد حروف أخرى أصعب من هذه
رسمًا وقراءة يكتبها المتعلمون، فإذا هجت فيه بهذا القول داعية الشوق وحب
الإعجاب هيجًا شديدًا أكتب له الكلمة الموضوعة للشيء الذي رسمه، وأحرضه
على محاكاتها، أفعل ذلك كله وأنا أضحك.
سواء عندي نجح في ذلك أم لم ينجح، ما دام يجتهد في كتابة تلك الكلمة ولا
شك أنه يجتهد في ذلك إذا حُمِلَ عليه بالحذق والمهارة، ولابد من إعادة الكتابة عدة
مرات قبل أن يكتسب شيئًا من ممارستها؛ ولكن الأصل باقٍ على كل حال، وبهذه
الطريقة يعرف أميل من هذا الحين السبب في الكتابة، وكيف أن الناس قد استبدلوا
برسم الأشياء حروفًا اصطلاحية تدل على ما يدل عليه الرسم، وبفضله تكون
مساحتها أصغر ووقت وضعها أقصر، هاتان هما مزيتا الخط على الرسم فقط،
وهما اللتان أطيل له الشرح فيهما؛ لأنهما أقرب إلى فهمه، وأدنى من عمله.
إن الطفل يجري في تعلمه تكوين الحروف عادة كما يجري الدولاب، فما
أحسنها طريقة للدخول في عالم المعقول.
نعم إني عرفت بعضًا من المصورين كانوا لا يستصوبون مطلقًا ترك ملكة
المحاكاة والتقليد مطلقة بلا قيد في الطور الأول من الحياة، ويرون أن الطفل إنما
يرسم في الغالب بالهوى، لا بمقتضى الفطرة كما يعتقد، وهذا الإطلاق يُفسد عليه
عمل يده بما تعتاد من عدم النظام، وإذا صدقناهم يجب في تعليم الفنون الجميلة
الولاية والتأديب، هذه مسألة يمكن اختلاف آراء الناس فيها كغيرها من المسائل؛
ولكنها على كل حال ليست محل نظري، فإني أراهن بألف بإزاء واحد على أن
أميل لن يدَّعي استحقاق جائزة رومة على الرسم، فأي وجه لي في الخوف أو
الرجاء في أن يصير بعد مصورًا، إن جل ما أرغبه أن يكون رجلاً ولا شك في أن
الشعور بما يوجد في الكون يعين على إنماء العقل والطبع، ومهما كانت رداءة
رسومه؛ فإن أقل ما فيها أنها تشهد له ببعض التفات توجه إلى ما يحيط به من
الأشكال، وهذا يكفيني منه الآن، فإذا كان ممن لهم ملكة حقيقية في الفنون، فلا بد
أن تظهر هذه الملكة فيه يومًا ما، أليس من الشواهد التي تُذْكَر في هذا المقام ذلك
الراعي الصغير الذي كان تعلم الرسم بنفسه أثناء رعي نعاجه، ولما تُكَمَّل فيه بعدُ
بواسطة التعلم في المدرسة صار الأستاذ رفاييل.
إني أرى أيضًا أن تعليم الكتابة كان يجب أن يسبق القراءة، أو أن هذين
التمرينين يجب أن يتصل أحدهما بالآخر، إن إندروبل ذلك الرجل المستنير الفكر
جدًا الذي لا بد أن تكوني سمعت شيئًا من سيرته في إنكلترا كان يبحث من سنين
عديدة عن طريقة معقولة لتعليم القراءة والكتابة، ولما كان في الهند اتفق أنه رأى
يومًا من الأيام أمام مدرسة في ضواحي مدراس ثُلَّةً من أحداث الهنود يرسمون
بأصابعهم حروفًا على الرمل، فوقف يلاحظهم ملاحظة المتأمل، وبعد أن عرف
طريقتهم ضرب بيده على جبهته قائلاً: قد وجدت مطلوبي، ليت شعري كيف
كانت هذه الطريقة؟ هي ولا شك طريقة بسيطة جدًّا ذلك أن أطفال الهنود لما كانوا
أقرب منا إلى الفطرة، وكانوا لذلك أعمل بمقتضيات العقل، كانوا يبتدئون برسم
الكلمة التي يرونها مكتوبة، ثم يبحثون عن أسماء حروفها ويتهجون مقاطعها، ثم
ينتهون بقراءتها.
أخص فائدة أراها في هذه الطريقة أنها تشغل اليد والفكر؛ فإن الذي يتعب
الطفل ويسئمه عندما يقف أمام كتاب؛ إنما هو التفاته الذي يُطلب منه بلا بصيرة؛
فإن عمل الإنسان بنفسه وبحثه وتخمينه وسيره من المعلوم إلى المجهول طريقة
فضلى في مخاتلة الضمير وخداعه.
لست والحق أقول معجبًا كثيرًا بطرق التعليم المخترعة؛ فإنها تفوق الحصر،
ومعظمها خيالية لا تنطبق على ما في العالم الخارجي مطلقًا، يحضرني أن هولانديًا
أعرفه خطر بفكره أن يجمع مجموعة من النعال، وأراك تقولين ضاحكة: هذا
خاطر غريب، نعم إنه غريب؛ ولكنه وقع فإن الإنسان لا يكون هولانديًّا بلا شيء،
وقد وجدت في خزائنه المقفلة بالزجاج كثيرًا من الأنموذجات المفيدة ففيها من
جميع الأنواع، ومن جميع البلدان والأعصر من البابوج، ونعل المشخصين إلى
جرموق الصينيين، ومن نعل متوحشي أمريكا الشمالية إلى بابوج كبراء الترك،
ففي هذه المجموعة من النموذجات المتعلقة بطبقات التاريخ المختلفة قد نسي صناع
النعال شيئًا واحدًا، ألا وهو شكل قدم الإنسان، إذا صح ما أقول فربما دعاني إلى
توجيه مثل هذا اللوم إلى واضعي طرق التعليم، ذلك أنهم يتعلقون كما ينبغي
وبعضهم ليس مجردًا من ملكة الاختراع؛ ولكن ينقصهم شيء من التفصيل وهو في
الحقيقة هين، ألا وهو شكل عقل الإنسان في أطوار حياته المختلفة.
الطريقة الفذة التي أراها تلائم حالة التلميذ؛ إنما هي سلامة ذوق معلمه، ولا
أقصد بذلك أنه لا موصل غيرها يمكننا أن نسترشد به في التربية، بل إني أعتقد
أن كثيرًا من الطرق العلمية التي استعملتها الأجيال الفطرية، ولا يزالون
يستعملونها ربما استعملت استعمالاً مفسدًا في تعليم الأطفال، فلا شك أنك سمعت
الحديث عن آلة الحاسب الصناعي، وإنني لم أقف تمام الوقوف على مزية هذه
الآلة التي دخلت في بعض المدارس لتسهيل بعض عمليات الحساب على التلامذة
بواسطة استعمال كرات من العاج؛ ولكني على يقين من أننا أخذناها عن الصينيين
وهي الحاسب الكروي المسمى في مملكة السماء (سوان بان) .
وعلى كل حال أعوذ بالله أن أنتقد مثل هذا الأخذ، بل إني آسف من عدم
رجوعنا كثيرًا إلى الطرق الصناعية والممارسات العملية للأمم المتأخرة لتسهيل
الوصول إلى بعض العلوم الأولية على المبتدئين.
هؤلاء الأقوام المتأخرون هم أطفال التاريخ، وقد عرفت الآن بعض القوانين
التي جرى عليها في جميع جهات الأرض تكوُّن اللغات والكتابة والفنون والديانات
والصناعة، وإننا لم نقف عند حد معرفة منشئ العلوم فقط، بل إن البحث في
العلامات التي تظهر فيها المعاني في أثناء الأطوار الأولى للحضارة قد أدى بنا إلى
معرفة استعداد العقل البشري وطرق الكتاب في الوصول إلى العلوم، فإما أن أكون
مخطئ خطأ فاحشًا، وما إن يكون هذا الترتيب الطبيعي في التقدم هو الذي ينبغي
اتباعه في تربية الأحداث.
إن طرق التعليم عند الأمم التي وقفت فيها حركة الترقي والتقدم عبارة عن
شؤون دائمة، وحالة وجود ومعرفة مستمرة فلا ينبغي أن تكون إلا وسيلة وقتية
للطفل، فإنه وإن كان في الأصل جاهلاً مثل هؤلاء الأمم؛ لكنه يمتاز كل يوم عن
الوحشي والبربري بملكة التحويل، التي كأنها مرسومة في أعضائه، فهو يعرج
بسرعة على معارج حالت بين الأجيال الدنيئة وبينها عقبات كؤود، فلا يقف في
عروجه هذا إلا عند الحد الذي تضعه له استعداداته وملكاته الشخصية ونوع القوم
الذين يعيشون بينهم وتأثير الزمن فيه، إن نسبة طرق التعليم إلى التربية، كنسبة
الأوضاع والقوانين إلى المجتمع، فهي لا تلائم إلا حاجة وقتية من حاجات العقل،
فيجب اعتبارها جميعها وقتية، فيكون من الحمق حصر عقل التلميذ في بعض
الأشكال التعليمية، كما كان من الجور في القرن السادس رغبة إبقاء الأمم على
نظام القرون الوسطى وعقائدها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معرب كتاب أميل القرن التاسع عشر في التربية والتعليم.(4/659)
الكاتب: أحمد جيتيكر
__________
رثاء الأمير عبد الرحمن خان
كنا نتوقع من شعراء العربية المجيدين في مصر والشام المباراة في رثاء فقيد
الإسلام وأعظم أمرائه الذين عزّزه الله بهم في هذا الزمان الذي خربت فيه الممالك
الإسلامية بأيدي أمرائها، فإذا هم لا يزالون مشغولين بمدح من لا خير فيهم عملاً
بقاعدة أحسن الشعر أكذبه التي هدمها الإمام عبد القاهر الجرجاني (راجع المنار ج
31 م 3) فاحتجنا إلى الاقتباس من شعراء بلاد الأعاجم، فقد قرأنا في جريدة
(أمير الأخبار) الهندية قصيدة لصديقنا العالم الأديب الشيخ أحمد جيتيكر يرثي فيها
الأمير عبد الرحمن ضياء الملة والدين رحمه الله تعالى، فنشرناها تنويهًا بذلك
الفضل العظيم وتنبيهًا لفضلاء الأدباء إلى قضاء هذا الحق لمستحقه، وهي:
ببرق شملة نعيٌ يشمل الجللا [1] ... فزلزل السهل في الأقطار والجبلا
أجَلْ أجَلَّ ملوك الأرض أروعهم ... وأرصف الناس أخلاقًا قضي الأجلا
رزء به انهد للإسلام واأسفى ... ركن ركين ونجم للعلا أفلا
يا ويلتاه ضياء الدين عاد عن الـ ... ـعيون مستترًا حتى بكت ثكلاً
ماذا نقول وإنا في سنين بها ... قحط الرجال فقدنا بغتة رجلا
قرمًا همامًا أريبًا حازمًا ندسًا ... سميذعًا ليس هيابًا ولا وكلا [2]
مهذبًا شب في الأخطاب مقتحمًا ... مجربًا ذلَّل الأخطار مكتهلا
لله سيف أقام الملك قائمه ... فقام هندامه المعوَّج معتدلا
وفارس سَبَتْ الآسادَ هيبتُه ... وأنزل الوعل رُعبًا أينما عقلا
بالكافرستان دين الله ضاء به ... فراق أستانه والكفر عنه جلا [3]
الألمعي الذي تُضحي لفطنته ... ما في النفوس من الأسرار مبتذلا
من لم يباه بملك قبل حضرته ... سرير (كابل) مسرورًا ومتكلا
أتى كغيث بها والأرض مجدبة ... حتى أراها خلاها بالثراء ملا
كلتا يديه من الآيات معجزة ... على العجائب كل منهما اشتملا
ففي يد سحب يحيي الأنام بها ... وفي يد شعل يطفي بها شعلا
من لم يزل لترقي القوم مجتهدًا ... حتى غدوا يتقنون العلم والعملا
أكرم بخيل له غُرٍّ يجر بها ... بحر الحديد يغطي موجه القللا
حامي حمى الهند كل الهند يشكره ... لا ينكر الفضل إلا ذو قلًى غفلا
لولا الأمير لأمسى الهند مزرعها الـ ... ـمخضل يرعاه خرس الروسيا هملا
إذن أتتها جنود ما لها قبل ... وكان خشية بلقيس لها مثلاً
عسى الإله يرينا في خليفته ... أسنى مثال فقيد أحسن البدلا
ومن يكن كحبيب الله وارثه ... يرى الممات شبابًا رُد مقتبلا
فتى توارث مجدًا عن أبيه وعن ... جد وكل علا كالبدر مكتملا
أشبال ليث الشرى! إنا نعيذكم ... بقل وقل ثم قل من عين من فشلا
حتى نراكم كنفس وهي واحدة ... فباتحادكم نستكثر الأملا
ثم لتكن غاية الإصلاح همتكم ... لم يكسب الحمد من لم يصلح الخطلا
مجد بجد وجد ظل مجتمعًا ... فلينتظر فرصًا وليغتنم دولا
يا رب وثِّق عرى الإسلام واحم بهم ... حماه من كل جان بدد الثُّللا
واغفر لعبدك يا رحمن زلته ... وارحمه والطف وأكرم روحه نزلا
أمن أديب وأرَّخ عام رحلته ... حان الأمير ضياء الدين واجللا
__________
(1) لعل (شملة) التي أضاف إليها البرق موضع أو جهة من جهات أفغانستان مما لا نعرفه، والجلل: الأمر العظيم.
(2) الندس - بفتح فضم أو كسر - الفهِم الكيس، والسميذع - بفتح الدال المعجمة - السيد الكريم والشجاع.
(3) الأستان - بالضم - الرستاق، وأستانة: ناحية بخراسان، قال ياقوت: أظنها من نواحي
بلخ في حدود الأفغان، وخراسان من جانب أفغانستان الغربي، هذا ما نراه أقرب إلى فهم قوله
(فراق أستانه) .(4/668)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتقاد المقتطف
وكتاب القسطاس المستقيم
عهدنا بالمقتطف الأغر العناية بتقريظ الكتب وانتقادها - لاسيما الكتب
النافعة - بأن لا يقرظ الكتاب إلا بعد قراءته، أو قراءة جملة صالحة منه يعرف بها
موضوعه ومسلكه فيه، ومما رأيناه فيه وراء حدود الغرابة الانتقاد على كتاب
(القسطاس المستقيم) لحجة الإسلام الغزالي عند تقريظه في الجزء الحادي عشر
الأخير حيث قال:
(ومما نراه في حد الغرابة من هذا الكتاب قول مؤلفه أن سائلاً سأله عما إذا
كان يزن حقيقة المعرفة بميزان الرأي والقياس، أو بميزان التعليم، فأجاب متنصلاً
من ميزان الرأي والقياس؛ لأنه ميزان الشيطان، فلا نكاد نُصدِّق أن عالمًا فاضلاً
كالغزالي ينفي ميزان الرأي والقياس، ويعتمد على ميزان التعليم في غير المعرفة
الدينية؛ ولذلك نظن أن في القسم الأول من الكتاب نقصًا، وأنه حُذف منه ما
يحصر المعرفة المقصودة هنا بالمعرفة الدينية، وإلا فإذا أُريد بها سائر المعارف
كالزراعة والصناعة والطب وكل العلوم والفنون، فالاعتماد فيها على الرأي
والقياس كالاعتماد على الحس والمشاهدة) .
(المنار)
لو طالع المنتقد الفاضل الكتاب لعلم أنه في الدين، وأن السائل سأل عن
المعرفة الدينية، فلا حاجة إلى الظن بأن في القسم الأول منه نقصًا، على أنه لا
حاجة في الوقوف على ذلك لمطالعة الكتاب كله؛ فإن وصف السائل بأنه من أهل
التعليم، وأنه يأمر باتباع الإمام المعصوم كافٍ في بيان أن السؤال عن حقيقة
المعرفة الدينية فحسب، فما بالك وقد سأل الغزالي الله فيمن يزعم من أصحابه أن
القياس ميزان المعرفة أن يكفي الدين شره (فإنه للدين صديق جاهل، وهو شر من
عدو عاقل) نعم إن السائل الذي يذكر الغزالي مناظرته في الكتاب من أهل التعليم
الباطنية القائلين بأن القلب لا يطمئن في الدين إلا إذا وُجد في كل عصر إمام
معصوم يُرجع إليه في الخلاف والمشكلات، والإمام الغزالي أنكر ذلك عليه،
وحاجَّه فيه حتى ألزمه وأقنعه، فقوله في صديق الدين الجاهل بعد ما ذكر: ولو
رزق سعادة مذهب أهل التعليم لتعلم أولاً الجدال من القرآن الكريم، حيث قال الله
تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ... إلخ، يوقع المطلع على الكتاب في اشتباه، ويوهم أن
الغزالي من أهل مذهب التعليم؛ وإنما هو خصيمهم، ولكن قوله: (لتعلم أولاً الجدال
من القرآن) ينفي ذلك الاشتباه، ويذهب بهذا الوهم؛ فإن أهل التعليم لا يتعلمون
إلا من إمامهم المعصوم، ويسلِّمون له بكل ما يقول تسليمًا، ولعله سمى مذهب
نفسه مذهب التعليم ووصفه بالسعادة استمالة لخصمه ليُقبل عليه، فيعرف مراده من
التعليم.
الغزالى يقسِّم الناس في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام: (1) الخواص الذين لا
يعتقدون بشيء حتى يثبت عندهم بالدليل والبرهان، وهم الذين يُدْعَون بالحكمة،
وهم الذين يزنون بميزانها وهو القسطاس المستقيم الذي يذكره بعد، و (2) العوام
السُّذَّج، وهم الذين يُدْعَون بالموعظة الحسنة والإقناعيات، و (3) أهل الجدال
والمشاغبة والمراء والعناد، ولهؤلاء أحكام وأطوار، فتارة يحتاج إلى مجادلتهم
ويجب أن تكون بأحسن الطرق وأقربها إلى القبول، وأبعدها من المراء، وتارة
يسفَّهون ويجهلون، فيطلب الإعراض عنهم لقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وتارة يعتدون على الحق بالقوة ويصدون عن سبيل الله
بالسيف، فتستبدل المجالدة بالمجادلة، ويستدل الغزالي على هذا في أثناء الكتاب
بقوله تعالى في شأن الرسل: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: 25) ِ يقول: الدعوة
بالكتاب مجردًا إنما هي للعوام، وبالميزان للخواص، والمقابلة بالحديد إنما تكون
للمُحادين المعاندين، الذين يمارون في البرهان، ويُعرضون عن البيان، فتأمل
مجمل مذهبه هذا، واقرأ ما جاء في المقتطف الأغر بعد تلك الجملة قال:
(فإذا صح ذلك فميزان المعرفة عند أهل كل دين كتبهم التي يعتقدون أنها
منزلة من إلههم، وعلى هذا النحو قال الإمام الغزالي: (إني أعرف واضع هذا
الميزان ومعلمه ومستعمله؛ فإن واضعه هو الله تعالى ومعلمه جبريل ومستعمله
الخليل ومحمد وسائر النبيين) ومتى رسخ اعتقاد الإنسان في نفسه هذا الرسوخ
سهل عليه أن يثق ثقة تامة بكل ما في كتابه، واستغنى عن كل دليل وميزان آخر)
اهـ.
(المنار)
إن المنتقد الفاضل يرى قصارى مذهب الغزالي أن يسلِّم الإنسان بكتابه الديني
تسليمًا مطلقًا، ويستغني به عن كل دليل وميزان آخر، وقد علمت مما ذكرنا عنه
آنفًا من التفصيل والتقسيم والتقييد خلاف ذلك، فكيف لو قرأت كتابه كله وتدبرته،
وإنني أحب أن يطالع الدكتور يعقوب أفندي صروف هذا الكتاب كله بدقته المعهودة،
ويصحح ما كتب عنه في المقتطف، وما أنا بموقن أنه هو الكاتب للنقد، وإن لم
يكن أحد من البشر مبرَّأ من السهو والخطأ، وأذكره بالفرق بين القياس في معرفة
الدين الذي ينفيه الغزالي، والقياس المنطقي الذي يثبته إذ يقول لا ثقة بعلم من لا
يعرف المنطق والقياس في سائر العلوم، وإن كان هذا مما يحيط به علمه الواسع.
__________(4/670)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصحيح
ذكرنا في هامش مكتوب حافظ ص 589 ج 15 أن محمدًا بن الزيات كان
وزير مروان الحمار، وهو غلط سبق القلم إلى نقله من شرح الديوان مع الغفلة،
والصواب أنه كان وزيرًا للمعتصم العباسي، ثم للواثق بالله، ثم للمتوكل وعلى عهد
هذا اتخذ التنور المشهور الذي قضى فيه، ولعلنا نذكر خبره بعد.
جذيمة: كعظيمة، وتقدم في تقريظ قصة (جذيمة والزباء) ضبطه بالتصغير
سهوًا.
__________(4/673)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي
جرت العادة بأن تدعو محافظة مصر الكبراء والوجهاء من أهل العاصمة
لوداع سمو الخديوي المعظم عند سفره للاصطياف في الإسكندرية ولاستقباله عند
قدومه منها فَيُلَبُّوا الدعوة، وقد ارتأى بعض المقربين من جنابه العالي أن يحتفلوا
لقدومه في هذا العام بتزيين الطريق من المحطة إلى قصر عابدين المعمور، فأعلنوا
ذلك في الجرائد وفي مقدمتها جريدة المؤيد الغراء، ودعوا الناس إلى الاكتتاب،
وألَّفوا لجنة برئاسة سعادتلو عبد القادر باشا حلمي، فأقبل طائفة من الأغنياء
والوجهاء على الاكتتاب حتى بلغ ما جمعته اللجنة ألفًا ومائتي جنيه، فأنفقوا على
الزينة ألف جنيه، فكانت أحسن زينة رآها الناس في شوارع القاهرة.
أنشأوا ثلاثة أقواس أحدها عربي في ميدان المحطة، والثاني إفرنجي في
ميدان الأزبكية بالقرب من تمثال إبراهيم باشا، والثالث مصري في ميدان عابدين،
وأنشأوا بالقرب من هذا مسلتين بهيئة المسلات المصرية القديمة، وزيَّنوا المسلة
الكبرى والأقواس بالأنوار الكهربائية الملونة والنقوش الجميلة، ونصبوا على
جانبي الطريق سلاسل من أغصان الأشجار، علَّقوا فيها قناديل (فوانيس) من
الورق، وزاد الزينة بهاء وكمالاً أصحاب الدكاكين والفنادق والحانات الذين زينوا
أبوابهم بالأنوار الكهربائية والأعلام، وأكثرهم من الأجانب كما هو معلوم.
وقد أقام المحتفلون سرادقين عظيمين أمام قصر عابدين أحدهما لاستقبال
سموه، والآخر للعزف والغناء، فشرَّف الأمير - أعزه الله - ليلاً ما أُعِدَّ له إجابة
لدعوة المحتفلين، وأظهر لهم البشر والارتياح، وأثنى على عملهم وأريحيتهم،
وكانوا قرروا أن ما زاد عن نفقة الزينة من المال الذي يُجمع لها يكون إعانة لمدرسة
محمد علي الصناعية التي أنشأتها جمعية العروة الوثقي في هذا العام، فشكر لهم
الأمير وضع هذه المساعدة في محلها، وتلك عادته الممدوحة يثني على العاملين
ويذكرهم بخير.
ثم مر سموه في شارع الزينة ليلاً ذاهبًا إلى قصر القبة المعمور، وقد حُشر
الناس إلى هذا الشارع من كل صوب وناحية، فكان مزدحمًا بالألوف من الرجال
والنساء والولدان إلى ما بعد نصف الليل، وكانت تلك ليلة الجمعة التي يستريح
الأكثرون في يومها، وكان فرح الناس بالزينة مختصًّا بالأجانب وأبناء الطبقة الدنيا
من المصريين، إذ كانوا يمزقون قناديل الورق ويأخذون الشمع منها، حيث لم
يجدوا أحدًا من الشرطة يمنعهم، وبهذا قلَّ بهاء الزينة بعد الساعة التاسعة حيث كثر
هؤلاء الرعاع المعتدون، وأما الخواص فقد كانوا في همٍّ وغَمٍّ؛ لأن يوم الزينة هو
اليوم الذي تحقق فيه احتلال فرنسا بقسم من أسطولها وعسكرها في جزيرة مدللي
(متلين) بالقرب من زقاق الدردنيل، أما حكم مثل هذه الزينة شرعًا فلا يخفى على
مسلم، وربما نكتب عنه بالتفصيل في جزء آخر.
استدراك على المقالة الأولى من هذا الجزء
ذكرنا في المقالة الافتتاحية أن الشرقيين اقتدوا بالغربيين في الاحتفال بأعياد
ملوكهم وأمرائهم، وأن هذه الاحتفالات لأجل إحياء الشعور بعظمة وعزة الدولة
التي يمثلها الملك والأمير، فأما خبر الاقتداء فقد سبق به القلم على غير بينة ولا
دليل، والصواب أن الشرقيين أشد الناس تعظيمًا لملوكهم منذ القدم، وحسبك أنهم
عبدوهم من دون الله، وأنهم لا يزالون يقدسونهم بقدر ما لهم من السلطة والاستبداد،
وأما مسألة إحياء الشعور فنرى بعض الجرائد تنوِّه بضدها ذاهبة إلى أن هذه
الاحتفالات منبعثة عن الشعور بعظمة من احتُفل لأجله وحبه، وربما يصح هذا من
بعض المحتفلين الذين لهم فيه منافع تولِّد هذا الشعور؛ ولكن الظلم في إسناده إلى
الأمة مع أن القائمين به أفراد معدودون معروفون، وقد علمت من بعض كبار
الموظفين من الإنكليز بمناسبة ذكر عيد مولد ملكهم أن هذا العيد لا يكاد يعرفه
الإنكليز، ولا في لوندرة، ولا يُحتفل به، ولا بعيد الجلوس أحد إلا السفراء
والوكلاء عن الدولة في البلاد الأجنية؛ فإنهم يرفعون الأعلام ويقبلون التهاني من
سفراء سائر الدول ووكلائها، وقال إن الملك إذا قدم من سفر إلى لوندرة لا يستقبله
الكبراء والوجهاء في المحطة كما يستقبل المصريون الجناب الخديوي، ولا يزينون
له المحطة ولا الشارع الذي يمر منه، فهل كان الإنكليز فاقدي الشعور والإحساس
وغير مخلصين لملكهم؟ كلا إن الفرق بيننا وبينهم عظيم.
ولا يخفى أن الكلام عام في الاحتفالات والشعور الباعث عليها أو المنبعث
عنها لا في سمو الخديوي وحب المصريين لمقامه الكريم؛ فإن هذا مما لا نزاع
فيه.
سفر الجناب العالي إلى السودان
يسافر سمو الخديوي المعظم في هذا الشهر إلى السودان بصفة رسمية، وإننا
نرى آراء الناس مختلفة في هذا السفر، ومنهم أصحاب الجرائد، وسنذكر ذلك
مفصلاً بعد السفر إن شاء الله تعالى.
__________(4/674)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات
كان شهر رجب المنصرم شهر الموالد التي يُحتفل بها في القاهرة وضواحيها
بأسماء بعض الأولياء والأصفياء، كمولد الرفاعي والبيومي والسيدة زينب والإمام
الشافعي، فكنت ترى شوارع المدينة وأسواقها مزدحمة بالوفود القادمين من الأرياف
لحضور هذه الموالد بنسائهم وأولادهم مشاة وركبانًا، وتسمع النساء يزغردن
ويغنين راكبات على الإبل والحمير وعربات النقل، وأما مشايخ الطرق فكنت
تراهم في مُلك كبير: طبول ومزامير، وأعلام مرفوعة، وكلمة مسموعة، وأزياء
رائعة، ورعية طائعة.
رأيت شيخًا كبيرًا منهم يقود زعنفة في الطريق، وعلى رأسه عمامة حمراء
كبيرة عجراء، وهو يصيح ويتغنى، ويتمايل ويتثنى، وبيده قضيب يهش به على
الزعنفة ويشير إليهم بالأمر والنهي وهم له خاضعون ولأمره ممتثلون، بفرح
وسرور، ووجدان وشعور؛ لأن السلطة روحية دينية، لا قهرية سياسية، كسلطة
الحكام، أرباب الاستبداد والإلزام.
نعرف بالاختبار أن أمثال هؤلاء الناس لا يجدون في صلاة الجمعة والجماعة
ولا في العيدين بعضًا من هذا الشعور الديني، والفرح بالإسلام، وما فيه من سوابغ
الآلاء والإنعام، ولا تتحرك قلوبهم للوعظ والتذكير، كما تتحرك لسماع الدفوف
والمزامير، ولا يتلذذون في يوم العيد بالتكبير، كما يتلذذون في (الحضرة)
بالمكاء والصفير، والشهيق والزفير، وهذا الشعور الذي يُنسب إلى الدين هو أكبر
ما بقي في نفوس هؤلاء من سلطان الدين وتأثيره، وقد ارتفع قدر الموالد بسببه
وصار الناس ينفقون فيها النفقات العظيمة، ويعتقدون أن من اعتاد على حضورها
أو إنفاق شيء فيها، ثم ترك عادته فلا بد أن ينكب وتحل به المصائب والدواهي،
وقد نقل إلينا الثقات الخبيرون أن كثيرًا من الناس حاولوا في بعض السنين القعود
عن المولد الذي يعتادون حضوره، فكانت امرأة الواحد منهم تنذره بسوء العاقبة،
فإذا لم يبال بإنذارها تسعى في إيقاع الضرر أو الهلاك بشيء مما له من حرث أو
نسل؛ ليعتقد أن الولي تصرَّف فيه لعدم حضور مولده، ومنهن من توقع بولدها
منه - والعياذ بالله تعالى - فإذا هي لم تسع بشيء واتفق أن نزلت بهم مصيبة ?
ولا يسلم أحد من المصائب في نفسه وأهله وماله - فلا يشك هو ولا هي بأن
سبب المصيبة عدم حضور المولد.
كأن أولياء الله في اعتقاد هؤلاء الجهلاء ما وُجدوا إلا لإيذاء الناس وإرهاقهم
العسر، والفتك بهم عند أدنى تقصير في تعظيمهم؛ ولكنهم لا يغارون على دين الله
تعالى إذ لا ينتقمون من الكافرين بالله عز وجل، ولا يتصرفون بتاركي الصلاة ولا
بمانعي الزكاة، ولا يؤذون الزناة والسكارى وشهود الزور والمعتدين على حقوق
الناس! !
هذا الشعور الذي يرى أثره من العامة هو الذي يرضي الكثيرين من العقلاء
والفضلاء ببقاء العامة على هذه البدع، ولوم من ينكرها وعذله والاحتجاج عليه بأن
إنكارها يفضي إلى الشك في الدين؛ ولكن هذه السياسة باطلة فإن الحق لا يُعزز ولا
يُنصر بالباطل، وإن السكوت على هذه الأباطيل مصانعة للعوام يجعل الدين هزوًا
ولعبًا في نظر الخواص، ويطلق ألسنة أعدائه بالطعن فيه على أنه وقوع في مثل
ما أرادوا الهروب منه؛ فإن ما عليه الناس من البدع والخرافات مضاد للدين، ولا
شك أن الزيادة فيه والنقص منه سيان، ولو تنبهوا إلى مقدار فتك الخرافات في
عقول المعتقدين بها، وعلموا أنها أضعفت استعدادها، وأضلتها عن رشادها، حتى
كادت تفقد قابلية الفهم، وتُحْرَم من قبول أي علم، لا فرق بين الظن واليقين، في
أمر الدنيا وأمر الدين، لحكموا معنا بأن جناية البدع والخرافات، هي أعظم
الجنايات، وإن طلبت التذكير بالدليل، فدونك ما يأتي في التمثيل:
ولي الجيزة أو دجالها
في الجيزة شيخ من الذين يعتقد الناس فيهم الولاية، وينسبون لهم الكرامات،
وهذا الشيخ متهتك مدمن خمر يجلس في الحانات التي في الشوارع العمومية،
ويشرب في مجلس واحد أكثر من ثلاثين كأسًا، ونُقل إلينا أن بعض الأغنياء
الموصوفين بالصلاح يتقربون إلى الله - تعالى وتنزه عن تقربهم -بدفع ثمن الخمرة
التي يشربها، ويزعمون أن سؤره من الخمر فيه بركة وشفاء، فيشربون بهذه النية
وربما يتفل الخمر من فيه عليهم لأجل المباركة عليهم، ويؤكد الناقلون أن هؤلاء
الأغنياء الأغبياء معتقدون في الشيخ حقيقة لا محتالون على السُّكر باسم الدين.
ومن الناس من يعتقد أن الولي إذا تناول خمرًا للشرب يتحول الخمر في يده،
أو فيه إلى مائع آخر، وقد كان بعض الدجالين المدَّعين الولاية كالشيخ الطشطوشي
في مصر يشعوذ ويموه على الجاهلين - وأكثر الناس عندنا جاهلون - بسبب
اعتقادهم هذا، فيأتي بكأس من الخمر الصافي المسمى بالعرقى الذي يبيضُّ بالمزج،
ويجعل فيه ماء من حيث لا يشعر الحاضرون، حتى إذا وضع الكأس على فيه
مجَّ الماء فيه، فيصير أبيض اللون، ويقول الأغمار استحالت الخمرة لبنًا. وحزب
ولي الجيزة يعتقدون أنه يشرب الخمر فتنزل في جوفه خمرًا؛ ولكنه من أحباب الله-
حاش لله - الذين لا يؤاخذهم ولا يؤاخذ من ينتمي إليهم ويتصل بهم، وهذا
الاعتقاد كفر وخروج من الاسلام بلا خلاف بين الأئمة، وما أوقع الناس فيه إلا
الغلو في اعتقادهم الكرامات، وجعلها كصناعة من الصناعات، وزعمهم أن
السكوت على الخرافات إنما هو للخوف من إنكار الكرامات، على أن إنكارها ليس
بكفر، ولم يقل إمام بوجوب اعتقاد كرامة ولي مخصوص.
وهناك فتنة أكبر، وهي أن الدجال يفسر القرآن برأيه الفاسد وجهله الكاسد،
أستغفر الله، إنه رائج في سوق المعتقدين به، فهو في هذا كولي الزقازيق الشيخ
محمد أبي خليل وقد ورد في الحديث الصحيح (من فسر القرآن برأيه، فليتبوأ
مقعده من النار) وكل من ليس له دراية صحيحة بالعلوم والفنون التي يتوقف عليها
التفسير (راجع ص 207 م 3) فإنما يُفسر بالرأي والهوى، ونرى هؤلاء الجهلاء
يزعمون أن من الكرامة أن تفاض على الولي جميع العلوم فيضًا؛ ولكن العلماء
متفقون على أن علوم اللغة والشرع لا تُعرف إلا بالتلقي والتعلم، كما في فتاوى ابن
حجر الحديثية، وفي الحديث (العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم) وسنعود إلى هذا
البحث إن شاء الله.
__________(4/677)
16 شعبان - 1319هـ
28 نوفمبر - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد
يرى الباحثون في العمران والمشتغلون بعلم الاجتماع بعد النظر في تاريخ
الأمم أن كل إصلاح وجد في العالم؛ فإنما كان بواسطة رجال فاقوا شعوبهم ببعد
النظر، وصحة الفكر، وعلو الهمة، وقوة العزيمة والإرادة، فتقدموهم ثم قَدَّمُوهم
وارتقوا بهم إلى المكانة العالية، والمنزلة السامية، ولا فصل في هذا بين الإصلاح
الديني والعلمي، والإصلاح المادي والسياسي.
ويقول هؤلاء الناظرون: ما بال بعض الممالك والأقطار تمر عليها القرون
والأعصار، وهي تضعف وتذل، وتذوب وتضمحل، ولا ينبت في أرضها رجل
عظيم، ينقذها من هذا الرجز الأليم، ما بال الشعوب الإسلامية قد تحوَّل عزها إلى
ذل، وكثرها في كل خير إلى قل، وعلمها إلى جهل، ولم يظهر فيها ملك حكيم،
ولا إمام عليم، يجدد لها مجدها، ويرجع إليها عزها، وأين مصداق ما يروونه عن
نبيهم صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من
يجدد لهذه الأمة أمر دينها؟) .
إنما يقول هذا الباحثون في الظواهر، والناظرون في الصور السطحية،
والذين يكتنهون الحقائق ويغصون في الأعماق ويفقهون الأسرار، وتنفذ أشعة
بصائرهم إلى ما وراء الأستار، يعلمون أنه ما قام مصلح في أمة من الأمم بعمل
من الأعمال تغيرت له حالة الأمة، وارتقت بهم من الحضيض إلى القمة، إلا بعد
أن استعدت تلك الأمة لقبول ذلك الإصلاح بتأثير الزمان، وتقلب الحدثان، أو
انتشار العلم والعرفان، فللإصلاح شرطان: أولهما استعداد الأمة لقبوله، والثاني
الزعيم الداعي إليه من طريقه الطبيعي مع الكفاءة والاضطلاع، فإذا ظهر مثل هذا
الكفؤ للقيام بالإصلاح في قوم ورآهم غير مستعدين لقبول إصلاحه فإنما يشتغل
بالسعي في إعدادهم وتهيئتهم للأخذ بأركان ذلك الإصلاح، ولا يدعوهم إليها في
أول الأمر، وربما يقضي عمره في إيجاد الوسائل غير بائح بسر من أسرار
المقاصد، إلا ما يودعه في أطواء الكلام، من الإجمال والإبهام، كالكناية والتورية،
وما يشبه الإلغاز والتعمية، فإذا هو صرح للقوم بالمراد، ودعاهم إلى خلاف ما
هم عليه من التقاليد والعاد، تقوم عليه القيامة، وتتوجه إليه سهام الملامة، بل
تنصب عليه قذائف القاذفين، ولعنات اللاعنين، وينزل به البلاء المبين، ويكون
في عمله من الخاسرين.
المصلح إما داعٍ ذو بيان، يستصرخ الشعور والوجدان، ويستنفر العقل
والجنان، دالاًّ على طريق الإسعاد، هاديًا إلى سبيل الرشاد، وإما ملك مستبد،
حكيم مستعد، على أمة خاملة، ورعية جاهلة، يحملها بالقهر والإلزام، على ما
يطلب ويرام، وكل منها مطالب بمراعاة استعداد الأمة ودرجة قابليتها؛ ولكن الأول
يحتاج من ذلك أكثر مما يحتاج إليه الثاني؛ لأنه يدعو النفوس إلى العمل باختيارها،
وإنما العمل الاختياري ما توجهت إليه الإرادة بباعث العلم والإذعان بأن فيه
اجتناب مفسدة، أو اجتلاب مصلحة، وليس لأحد سلطان على النفوس يفهمها ما لم
تستعد لفهمه، ويقنعها بما لا تحيط بعلمه، وإذا عجز المستبد عن التسلط على
الضمائر، والسيطرة على السرائر، فلا يعجز عن التصرف بالظواهر، بأن يلزم
الناس بالأعمال النافعة، وإن لم يعتقدوا نفعها حتى إذا جاء وقت الجني والقطوف،
عرفوا ما لم يكن معروف، فكانوا كمن يقاد للجنة بالسلاسل.
إن كون الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، قاعدة عامة شاملة للإصلاح
الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى لم يبعثهم إلا مُعِدِّين،
ومصلحين للمستعدين، وقد {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) في
الجهالة والهمجية، والوقوع في شَرَك الشِّرك والوثنية،] فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين [، بعدما استعد بعض الناس لفهم التوحيد وقبول الدين، ورجي أن يُعدوا
بإيمانهم الآخرين، ولنقص الاستعداد وضعف العقول أيد الله تعالى الأنبياء بالآيات
البينات، التي اعتاد الأكثرون على الخضوع لمثلها مما يخالف المألوفات، ولا
ينطبق على سائر العادات، ومع هذا كله كانوا يضربونهم ويطردونهم، وفي بعض
الأحيان يقتلونهم، ومنهم من لم يؤمن به أحد أو إلا الرجل والرجلان، ومنهم من
آمن به العدد الكثير، ثم ارتدوا وفسقوا بعد زمن قليل أو كثير، وقد بينا من قبل
استعداد العرب لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما امتازوا به على الأمم لقبول
إصلاحه (راجع ج 4 م 3) .
إنما مثل النوع الإنساني في مجموعه كمثل الفرد الواحد من أفراده، فالشعب
الجاهل من شعوبه كالطفل لا يمكن أن تجعله رجلاً كاملاً إلا بتربيته على أخلاق
الرجولية بالتدريج الطبيعي، فإذا كلَّفته بما يُكَلَّف به الرجال من عويص المسائل،
وحل عقد المشاكل، فأمرك لا يطاع؛ لأنه بما لا يستطاع، كذلك حال من يُكَلِّف
شعبًا من الشعوب أو أمة من الأمم بأن تجاري في طور ضعفها الأمم القوية،
وتباري في إبان جهلها من سبقها في جميع الطرق العلمية، من غير أن يربيها على
ذلك بالتدريج الذي عُرف من سنن الله تعالى في الأولين، كالابتداء بإزالة الموانع،
والتثنية بإدالة المنافع، أو بتقديم التخلية على التحلية كما يقول السادة الصوفية،
وإنما نعني التقديم والتأخير في المرتبة لا في الزمن.
تربية الأمم ليست بالمركب الذلول، وطريقها ليس بالطريق المعبَّد؛ وإنما
هي الحَرون في الخُزُون يتوقع راكبها الهلكة في كل حركة، وما كان بسمرك هو
المربي لألمانيا والمبدع للوحدة الجرمانية ولا بيكنسفليد هو المربي لإنكلترا ولا
غامبتا هو المربي لفرنسا ولا غورجيقوف هو المربي لروسيا ولا أمثال هؤلاء
السياسيين من الفلاسفة والعلماء، وإنما ربى أوربا كلها أولئك الذين اُضطهدوا
وأُذلوا وأُبعدوا وصُلِّبوا وقُتِّلوا تقتيلاً أن دعوا الناس لإصلاح عقائدهم وعوائدهم
وتغذية عقولهم بلبان العلم والعرفان، فأعدوا أقوامهم لكل ما هم فيه الآن من العزة
والشمم، والسيادة على الأمم، أولئك الذين كانوا يُرمون بالكفر والزندقة وإفساد
الاعتقاد والجناية على البلاد والعباد، فصاروا الآن يُوصفون بالإمامة، ويحلهم
التاريخ محل الكرامة، ويُذكرون بالتعظيم والتبجيل، وتُرفع لهم الهياكل وتُنصب
التماثيل، وأعظمهم عندي لوتر مصلح الدين، ومزيل العقبة الكبرى من طريق
جميع الأوربيين.
من أسباب الاستعداد لقبول إصلاح ما معاشرة من صلح حالهم به من قبل
ومشاهدة أطوارهم، والوقوف على أخبارهم، عندما وقفوا ببابه، وأنشأوا يأخذون
بأسبابه، ومن أسبابه أن يتسلط على الأمة من يسلبها ثوب مجدها، وينزع عنها
تاج كرامتها ويستأثر بمنافعها، ويستولي على مرافقها، ومن أسبابه أن يمر عليها
حين من الدهر مهدَّدة بقلب كيانها، وتقويض أركانها، وإزالة سلطانها، ممن يقدر
على ذلك، من الدول والممالك، ومن أسبابه أن يرى أحد شعبين متجاورين أو
متمازجين الشعب الآخر قد انسلخ من تقاليده السخيفة، وعاداته الضارة، واستبدل
بها ما عزَّ به جانبه، واتسعت في هذه الحياة مذاهبه، فصلح حاله، وكبرت في
السعادة آماله، وماذا عسانا نستفيد من تعداد الأسباب إذا كنا نجهل الموانع التي
تزاحمها فتحول دون تأثيرها، أو لم يكن لنا سبيل للخوض فيها؟
إنما عدَّدنا ما عدَّدناه تمهيدًا لذكر مثال من أمثلة الاستعداد في الشعوب
الإسلامية التي يضرب بها المثل في التأخر بعد التقدم، والانخفاض بعد الارتفاع
وهو ما كان من مسلمي الهند:
دخل الإنكليز بلاد الهند فكان أقرب الناس إلى الاستفادة منهم الوثنيون الذين
كانوا من قبل دون المسلمين في كل علم وعمل، فطفق الوثني يتعلم، والمسلم يتحسر
ويتألم، أو يشكو في نفسه ويتظلم، حتى مر الزمن الطويل، الذي انقرض به جيل
وتجدد جيل، والمسلم يعادي اللغة الإنكليزية، ويُكَفِّر متعلم العلوم الأوربية.
فلما رأى المسلمون نتائج ذلك باتساع ثروة الوثنيين وكثرة الموظفين فيهم،
واجتماع شملهم ونفوذ كلمتهم، استعد أفراد منهم إلى معرفة الحقيقة، ووجوب
سلوك الطريقة، ومن فضل الله على الناس أنهم كلما استعدوا لشيء يسَّر لهم أسبابه،
وأفاضه عليهم بها، فكان أعلاهم همة وأقواهم عزيمة هو الساعي الأول والداعي
إلى العمل، وهو السيد أحمد خان فأسس مدرسته الشهيرة في مدينة عليكره ودعا
قومه إلى التربية الصحيحة والتعليم القويم، ونبذ ما كانوا عليه من أسباب الخمول
القديم، فأجابه النزر اليسير، وكافأه الجماهير بالتفسيق والتكفير، ولولا حماية
الحكومة الإنكليزية له ومساعدتها إياه لأخرجوه أو قتلوه، حتى إذا ما ظهرت في
هذه السنين آثاره وتبين لمسلمي الهند أن الخير إنما يرجى لهم من تلامذته، وأن
السعادة إنما تفيض عليهم من ينبوع مدرسته، أشادوا بذكره، وعظَّموا من أمره،
واعترف العلماء والجهلاء والأذكياء والأغبياء بأنه المصلح العظيم، والمجدد
الحكيم، والإمام العليم، ولو قام فيهم بهذه الدعوة منذ خمسين سنة لما وجد
منهم ملبيًا، ولا صادف مصغيًا.
هذا هو السيد أحمد خان الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني ممن يتهمه
بالمروق من الدين، والتصدي بإغراء الإنكليز لإفساد عقائد المسلمين، والسيد
جمال الدين هو من أعظم المصلحين والحكماء الراسخين، وقد كان يُتهم من بعض
الناس في مصر بمثل ما يُتهم به السيد أحمد خان من بعض الوجوه، ألا يدلنا هذا
على أن مصر أبعد من الهند عن الاستعداد؟ بلى وإنني أذكر في هذا المقام كلمتين
إحداهما قالها مؤرخ مسيحي وهي:
أن السيد جمال الدين جاء قبل وقته بخمسين سنة، فالمسلمون لما يستعدوا
لفهمه والاسترشاد بعلمه. والثانية قالها صاحب أكبر جريدة إسلامية في الهند وهي:
أن المصريين لا يزالون مغترين بمثل ما كان عليه الهنديون منذ خمسين سنة،
مغترين بما بقي لهم من الحكام وفضلات الأيام، فلا ينتبهون حتى يفقدوا كل
شيء حتى الأسماء الإسلامية في كراسي الإمارة والحكم كما وقع لإخوانهم
الهنديين.
أقول وإن لم يصح حديث التجديد في كل مئة سنة: لا يكاد يمر على أمة
كأمتنا قرن من القرون يخلو من إمام عليم يصلح لتولي زعامة الإصلاح، وإنما
تظهر آثار الرجال باستعداد أقوامهم، ولذلك كان فيهم من يكتم علمه؛ لأنه لا يجد
له حملة كما نقل عن بعض الأئمة، ومنهم كان يغلبه لسانه أو قلمه على الإفصاح
بشيء من الحق فيقابله الناس بالإعراض، ويحسبونه من معضلات الأمراض، أو
يترك سدى، ويُرمى كالشيء اللَّقَا، فالإمام الغزالي صرَّح برأيه في إصلاح
المسلمين، بعدما بلغ رتبة الإمامة في جميع علوم الدين، ولكن لم يوجد من يعمل
برأيه القويم، ولا من يزن بما وضعه من (القسطاس المستقيم) ، وكذلك الإمام
أحمد بن تيمية لم يترك بدعة إلا وفنَّدها، ولا سنة إلا ودعا إليها وأيَّدها؛ ولكنه لم
يؤخذ بإرشاده إلا بعد قرون حيث جُددت الدعوة إليه من قوم مستعدين له من بعض
الوجوه، على أن إظهار الحق خير من كتمه وإخفائه، فإن لم يُفد في الإصلاح
والإسعاد، فلا بد أن يفيد في التهيئة والإعداد، ولا شك أنه يوجد في كثير من البلاد
التي استحوذ عليها الجهل من يصلح للإمامة وللقيام بالزعامة، فإن لم يقدروا على
الإصلاح فلا بد أن يهيئوا الأمة له، ويُعِدُّوها لقبوله، وربما كان السنوسي السابق
وخليفته الحاضر من المُعِدِّين لا من المصلحين، وربما كان أتباعه قد استعدوا
لنهضة عملية، أما المصريون فقد ظهر فيهم شيء قليل من بوادر الاستعداد
للإصلاح المعنوي والمادي ويرجى نموه ببقاء الحرية ودوامها.
كما مضت سنة الله تعالى في جعل الإصلاح البشري والإسعاد الكسبي على
قدر الاستعداد، جرت سنته كذلك في التكوين والإيجاد؛ فإنه قدَّر لكل مكوَّن من
المكونات أجلاً محدودًا يستعد فيه للظهور بشكل من الأشكال، أو صورة من الصور
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) فإذا جاء الأجل الموعود، ظهر بذلك
الشكل في الوجود، وذلك من كمال النظام والحكمة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: 2) نعم إنه قدَّره بالتدريج في أزمنة متعاقبة عبَّر عنها بالأيام {الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ
فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59) .
__________(4/681)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الدرس (30)
من وظائف الرسل عليهم السلام
المسألة (73) الوظيفة الخامسة - حدود العقوبات وأحكام المعاملات:
خُلق الإنسان ضعيفًا، وارتقى بالتدريج، ولما تألفت المجتمعات من البيوت
والشعوب والقبائل احتاجت للوازع والمسيطر الذي يمنع ما يولده التنازع في
المصالح والمنافع الاجتماعية من البغي والعدوان، ويؤدب الذين تطغى بهم
الشهوات، فيجنون على أنفسهم وعلى الناس. ولذلك اتخذ الناس القضاة والحكام من
رؤساء الدين والدنيا؛ ولكن الحاكم والأمير إذا لجأ إلى رأيه واتبع هواه في حكمه
يضل عن سبيل الحق والعدل فلا تقوم مصلحة الناس بحكمه، وهذه قاعدة طبيعية
ثابتة، وأقوى أدلتها ظلم رؤساء البيوت لنسائهم على ما بينهم من المودة والرحمة،
وظلمهم لأولادهم على ما فُطروا عليه من الشفقة والحنان عليهم، فمن ثم كان الناس
محتاجين إلى من يضع لهم أحكامًا عادلة، ويحد لهم حدودًا مؤدِّبة يستوي فيها الناس،
وتوزن حقوقهم منها بالقسطاس، فكان كل نبي يرشد أمته بالوحي إلى ما يراها
محتاجة إليه من ذلك، ويقرها على ما يراها محسنة فيه، وأكثر اختلاف الشرائع
والأديان في هذه الوظيفة.
م (74) :
ليس من وظائف النبيين بيان طرق الكسب وأسباب المعايش، ولا تعليم
الفنون التي يتوسل بها إلى السعة والثروة كالرياضيات والطبيعيات والزراعة
والصناعة؛ لأن هذه الأمور مما يصل إليها البشر بسعيهم وكسبهم بحسب السنن
الإلهية التي أقام الله بها نظام هذا النوع، وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
إلى ذلك في مسألة تأبير النخل بقوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) .
إذا جاء في كتب الوحي ذكر السموات وكواكبها والأرض وعوالمها؛ فإنما
يجيء على سبيل الاستدلال على قدرة خالقها ومبدعها وحكمته، والتذكير بفضله
ونعمته، لا على سبيل بيان حقائقها في أنفسها وشرح وجوه الانتفاع بها، على أن
هذا الاستدلال والتذكير مما ينبه الناس إلى التوسع في العلم بهذه المخلوقات،
وطرق الانتفاع بها، وإن لم يكن مقصودًا لذاته.
***
الدرس (31)
في شبهات على الوظائف وأجوبتها
م (75) شبهة على الوظيفة الأولى:
يقول قوم: إن الأديان التي تنتسب إلى الوحي السماوي ثلاثة، ونراها لم تتفق
فيما يجب اعتقاده في الله تعالى، فبعضها يصفه بصفات البشر حتى نقائصها
كالتعب والندم والجهل والبداء والخوف والتأسف ومصارعة البشر وتسلط الشيطان
عليه بالإغراء والتهييج، كتهييجه إياه على أيوب لابتلاعه، وكالحلول في البشر
واحتمال اللعن والقتل باختياره، ونحو ذلك مما لا يرضى به المرتقون في الوثنية
فضلاً عن الموحدين، وبعضها يوجب له التنزيه المطلق والوحدة الحقيقية والمباينة
للممكنات، ثم يثبت له مع ذلك وجهًا وعينًا وسمعًا وبصرًا ويدًا وجهة مما يحتمل
التأويل، ويشهد لتلك الكتب التي وصفته بما لا يحتمل التأويل مما أشير إليه آنفًا،
ولما كان الدليل على صحة كتب هذه الأديان واحدًا، وهو وقوع الآيات الكونية
وخوارق العادات على أيدي الذين جاءوا بها، يصح لنا أن نقول: إنها تعارضت ولا
شيء يرجح أحدها على الآخر، فوجب تركها وإهمالها كلها.
وإننا نجيب عن هذه الشبهة بعد تمهيد في إثبات الدين بخوارق العادات، وهو
أنه تقدم في الدرس 29 (ص 371 م 4) أن الآيات الكونية التي يسميها المسلمون
معجزات، ويسميها النصارى عجائب لا تدل على صحة ما جاء به الوحي دلالة
برهانية؛ وإنما تؤثر في بعض النفوس فتجذبها إلى تصديق من ظهرت على أيديهم
في كل ما يقولون؛ ولكن المسلمين والنصارى متفقون على أن الآيات لا تُعتبر
تأييدًا من الله تعالى لمن ظهرت على يديه، إلا إذا كان يدعو إلى الحق ويأمر
بالخير، فالاعتراف بأنها تأييد إلهي يتوقف إذن على معرفة حقيقة الدعوة ووزنها
بميزان العقل الذي به التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.
ففي الباب الثالث عشر من التثنية: (1 إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا
وأعطاك آية أو أعجوبة 2 ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً
لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها 3 فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم
ذلك لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن
كل أنفسكم) وهذا عن لسان موسى كما لا يخفى، وفي الباب السابع من إنجيل متى:
(كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب أليس باسمك تنبأنا وباسمك
أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة 23 فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم
قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) وفي الباب 24 منه: (لأنه سيقوم مسحاء كذَبة
وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا)
وهذا عن لسان المسيح.
إذًا لا بد من معرفة الحق بذاته، فإذا وجدنا نصوص الوحي متعارضة أو
وجدنا فيها ما يحكم العقل ببطلانه، فعلينا أولاً أن ننظر في طريق نقلها، فإن كان
المخالف منها للعقل أو سائر النصوص غير متواتر نحكم ببطلانه وعدم صلاحيته
لمعارضة العقل أو النص المتواتر ونسلم بالقطعي الذي يخالفه، وإن كان النصان
اللذان يخالف أحدهما الآخر أو العقل، متواترين، فلا بد من الجمع بينهما بالتأويل،
فإن لم يمكن التأويل فرضًا، فالعقل يُعذر إذا هو رفضهما معًا؛ ولكن هذا الفرض
لم يقع إذ لم يوجد نص في القرآن يخالف العقل خلافًا لا يحتمل التأويل، ولا يثبت
الآن كتاب سماوي بالتواتر اللفظي الحقيقي غير القرآن، وما يُعَدُّ متواترًا من سائر
الكتب؛ فإنما تواتره معنوي، أي أنه متواتر في جملته لا في تفصيله، فلا يحتج
بكل كلمة وكل عبارة منه.
يوجد فيما حُفظ من التوراة والإنجيل، وأودع في أطواء هذه الكتب المعروفة
ما يدل على تنزيه الله تعالى على نحو ما يوجد في القرآن، فإذا وُجد فيها أيضًا ما
ينافي التنزيه يجب تأويله إذا كان منقولاً عن لسان نبي كموسى وعيسى عليهما
السلام وعدم الاعتداد به إن لم يكن كذلك، فإن لم يمكن تأويله يحكم بعدم صحة
إسناده إلى النبي الذي نسب إليه، وبهذا تتفق الكتب في أصل الاعتقاد بالله تعالى،
أما بيان الآيات القرآنية التي تثبت لله تعالى وجهًا وعينًا ويدًا فقد تقدم في الدرس
السابع عدم منافاتها للآيات المحكمة الناطقة بالتنزيه (راجع ص 603 م 2)
ويتعذر تأويل كثير مما نُسب إلى الله تعالى في كتب العهدين وتقدمت الإشارة إلى
شيء منه آنفًا.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/688)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورة الثانية عشرة بين المصلح والمقلد
نهي الإمام الشافعي وأصحابه عن التقليد
لما ضم الشاب المصلح والشيخ المقلد المجلس (12) ابتدأ الثاني فقال:
المقلد: قد قلت لي مرة إنك مطَّلع على نُقُول كثيرة عن الشافعي وأتباعه، فأرجو أن
تكتفي بالمهم منها.
المصلح: نعم إن ما ورد عن الإمام الشافعي والأئمة المنتسبين إليه في العلم
والاجتهاد في اتباع الدليل، وعدم جواز الأخذ بقول أحد من غير معرفة دليله - كثير
جدًّا، فمنه ما في كتاب (الأم) وهو موجود بين أيديكم في دار الكتب الخديوية
وهو قول الإمام بمناسبة كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) وروى الحافظ البيهقي بسنده إلى
الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي وقد سأله رجل عن مسألة فقال: يُروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول
بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك! وأي أرض تقلني وأي سماء
تظلني إذا رويت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئًا، ولم أقل نعم على
الرأس والعين.
(قال المصلح) فهذا السؤال ومثله كثير يدلنا على شدة استعداد الناس لتقليد من
يشتهر من العلماء إلى حد أن يتركوا قول الرسول المعصوم لأقوالهم والأئمة رضي الله
تعالى عنهم كانوا يصدون الناس عن ذلك، ويفتحون لهم باجتهادهم أبواب البحث؛
ولكن الغلبة للاستعداد العام على قول كل عالم وإمام.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سُنة
لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول وأصَّلت
من أصل فيه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما
قاله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو قولي) وجعل يردد هذا الكلام،
وروى البيهقي أيضًا بسنده إلى الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: (إذا وجدتم في
كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم ودعوا ما قلت) فهذا مذهبه في اتباع السنة. وبه إليه قال: (إذا
كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له عنه، وكان يروى
عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يوافقه لم يزده قوة، وحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغن بنفسه وأن كان يروى عمن دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم حديث يخالفه لم يلتفت إلى ما خالفه) .. . إلخ.
وقال الشافعي أيضًا: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد (وصح عنه أيضًا قال:) لا
قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل هذا من رواية البيهقي في
المدخل، وفي أعلام الموقعين لابن القيم نحوه، ومن أحسن تلك الروايات قول
أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول:
(كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل
بخلاف ما قلت فأنا راجع إليها في حياتي وبعد مماتي) .
المقلد: حسبي هذا عن الإمام نفسه، وأحب أن أسمع شيئًا عن أصحابه
وأتباعه.
المصلح: روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: كان أحسن أمر
الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله، وقال أيضًا:
قال لنا الشافعي (إذا صح عندكم الحديث فقولوا لي كي أذهب إليه) والإمام أحمد
من أصحاب الشافعي أي أنه جرى على طريقته في الاجتهاد وإن استقل بمذهب.
وقال الحافظ ابن حجر في (توالي التأسيس في معالي ابن إدريس) : قد
اشتهر عن الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) قرأت بخط تقي الدين السبكي
في مصنف له في هذه المسألة ما ملخصه: إذا وجد الشافعي حديثًا صحيحًا يخالفه
مذهبه إن كملت فيه آلة الاجتهاد في تلك المسألة فليعمل بالحديث بشرط أن لا يكون
الإمام اطَّلع عليه وأجاب عليه، وإن لم يكمل ووجد إمامًا من أصحاب المذاهب
عمل به، فله أن يقلده فيه، وإن لم يجد وكانت المسألة حيث لا إجماع، قال السبكي:
فالعمل بالحديث أولى اهـ.
ونحن نقول: إن العمل بالحديث متعين حيث لا إجماع ولا حديث يعارضه مما
يرجح عليه.
وقال ابن القيم في قول الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) هذا صريح
في مدلوله، وإن مذهبه ما دل عليه الحديث لا قول له غيره، ولا يجوز أن ينسب
إليه ما خالف الحديث، فيقال: هذا مذهب الشافعي ولا يحل الإفتاء بما يخالف
الحديث على أنه مذهب الشافعي ولا الحكم به، صرح بذلك جماعة من أئمة أتباعه
حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه قد صح الحديث
بخلافها: اضرب هذه المسألة فليست مذهبه، وهذا هو الصواب قطعًا لو لم ينص
عليه، فكيف إذا نص عليه وأبدى فيه وأعاد، وصرح به بألفاظ كلها صريحة في
مدلولها، فنحن نشهد بالله أن مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث
دون ما خالفه، ومن نسب إليه خلافه فقد نسب إليه خلاف مذهبه، ولا سيما إذا
ذكر هو ذلك الحديث، وأخبر أنه إنما خالفه لضعف في سنده أو لعدم بلوغه له من
وجه يثق به، ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه أئمة الحديث من
وجوه لم تبلغه، فهذا لا يشك عالم ولا يماري أنه مذهبه قطعًا، وهذا كمسألة
الجوائح [1] ... إلخ.
المقلد: قد تقدم مثل هذا عن أصحاب أبي حنيفة أيضًا، ولك الحق في لوم
العلماء على عدم العمل بهذا الإرشاد، وعلى إهمال العمل بالحديث وقراءته للتبرك
فقط؛ ولكنني أعجب كيف اتفق الأكثرون على هذا.
المصلح: قد عجب من هذا كل عالم منصف حتى من يقول بالتقليد، قال
العز بن عبد السلام الذي كان يلقَّب بسلطان العلماء: (ومن العجب العجيب أن
الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مذهب إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا،
وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه؛
جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها
بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا
ذُكر لأحدهم خلاف ما وطَّن نفسه عليه تعجب منه غاية التعجب من غير استرواح
إلى دليل لما ألفه من تقليد إمامه؛ حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه،
ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب الإمام أولى من تعجبه من مذهب غيره، والبحث
مع هؤلاء ضائع مفضٍ إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة تجذبها، وما رأيت أحدًا
رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع علمه بضعفه
وبُعده، والأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه،
قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن
هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح،
فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته، وفقنا الله
تعالى لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف
ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر دليل على لسان الخصم
وقد نقل عن الشافعي أنه قال: (ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أجر الحق على
قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان معه اتبعته) اهـ.
المقلد: كلام هذا الإمام معقول، ولكن تحكيم الأدلة في المذاهب يفضي إلى
تلاشيها، أو استخلاص مذهب واحد ملفق منها، ولعل هذا هو ما تريده من توحيد
المذاهب الذي سميته الوحدة الإسلامية؛ ولكن نفوس أكثر الفقهاء لا ترضى به؛
لأنهم كما قال العز بن عبد السلام جمدوا عليها جمودًا غريبًا أعمى كل متبع مذهب
عن غيره، ولا أعرف سر ذلك وحكمته، ولعل لله تعالى حكمة في حفظ الإسلام
بحفظ هذه المذاهب.
المصلح: الأسباب في جمودهم ظاهرة، وقد أوضحها الإمام الغزالي والعز
ابن عبد السلام وغيرهما من الأئمة الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فمنها
بالنسبة إلى بعضهم المباراة والمماراة وحب الظهور وما يتعلق بذلك، ومنها المنافع
والمرافق في القضاء والإفتاء والأوقاف والجرايات بالنسبة إلى آخرين، ومنها الثقة
والاطمئنان بالتربية العلمية على المذهب والاقتصار عليه في التعلم، ثم في التعليم
والإفتاء، ومن طبع الإنسان أن ما يعتاد عليه زمنًا طويلاً يملك عليه أمره، ويؤثر
في نفسه تأثيرًا يصرفها عن كل ما عداه إلا أصحاب العقول الكبيرة والنفوس العالية
الذين تكون الحقيقة ضالتهم، والصواب وجهتهم وقليل ما هم، وأما الحكمة في ذلك
فهي ما نشاهد من تفرق المسلمين شيعًا وحرجهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا، ودينهم
واحد ينهى عن الخلاف والاختلاف كما قلنا مرارًا، ولو اجتمع العلماء في كل
عصر وحكَّموا الكتاب والسنة في كل ما استنبطه الأئمة والعلماء وأرشدوا إلى العمل
بالأرجح ما خرج بذلك أولئك الأئمة عن كونهم هداة الأمة ولصح ما يروى من أن
اختلافهم رحمة؛ لأن الحقيقة تظهر من تصادم الأفكار، والصواب يؤخذ من اختلاف
الأنظار، وبذلك يكون كل مسلم مهتديًا بكل إمام من أولئك الأئمة من غير توزيع، ولا
قول بعصمة أحد أو استقلاله بالتشريع.
المقلد: إن العز بن عبد السلام من أئمة الشافعية ويظهر من كلامه هذا أنه
كان يدَّعي الاجتهاد؛ ولكن لم يدوِّن مذهبًا، ولم يتبعه أحد.
المصلح: إنه كان شافعيًّا ثم صار مجتهدًا عن أهلية واستحقاق، وهو ممن
اتفق الناس على قوة دينه وغزارة علمه، حتى قال الإمام ابن عرفة المالكي: لا
ينعقد للمسلمين إجماع بدون عز الدين بن عبد السلام يعني في عصره؛ لأن
الإجماع إنما هو إجماع المجتهدين كما قالوه في الأصول، وما كل مجتهد يدوِّن
مذهبًا يحمل الناس على اتِّباعه، وقد قلت غير مرة أن الأئمة المشهورين لم
يستنبطوا الأحكام ليحملوا الناس على تقليدهم فيها؛ ولكن ليفتحوا لهم باب العلم،
والذين ارتقوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق بعد تدوين المذاهب وانتشارها أداهم
اجتهادهم إلى إرجاع الأقوال الكثيرة في كل مسألة إلى قول واحد، وهو ما كان
دليله أقوى، ولو ألَّفوا في ذلك لكان لهم مذهب يزيد به الخلاف، إذ لا يمكن أن
يأخذ به كل الناس؛ ولذلك كانوا يحاولون إقناع العلماء بذلك، ولو تسنى لهم هذا
الإقناع لجمعوا كلمة المسلمين، وهذا مطلب عزيز لا يصل إليه المسلمون إلا بعد
أن يشتغلوا بالعلم الصحيح مع استقلال الفكر أربعين سنة، ومتى نبتدئ بهذا؟
وللجلال السيوطي رسالة في ثلاث مسائل متعلقة بالاجتهاد، إحداها: هل
الاجتهاد موجود الآن أم لا؟ والثانية: هل الاجتهاد المطلق مرادف للاجتهاد
المستقل أو بينهما فرق؟ والثالثة: هل للمجتهد أن يتولى المدارس الموقوفة على
الشافعية مثلاً؟ قال (وكل من المسائل الثلاث جوابها منقول ومنصوص للعلماء،
بل ومجمع عليه لا خلاف فيه صادر من عالم؛ وإنما فيه نزاع ومكابرة من غير
العلماء الموثوق بهم) .
قال: أما المسألة الأولى فالجواب عنها من وجهين: أحدهما أن العلماء من
جميع المذاهب متفقون على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر،
واجب على أهل كل زمان أن يقوم به بعضهم، وأنه متى قصَّر فيه أهل عصر
بحيث خلا العصر عن مجتهد أثموا كلهم وعصوا بأسرهم، وممن أشار إلى ما
ذكرناه الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم صاحبه المزني وصنف - أعني المزني -
كتابًا في ذلك سماه (إفساد التقليد) وممن نص على ما ذكرناه من الفرضية وتأثيم
أهل العصر بأسرهم عند خلو العصر عن مجتهد نصًّا صريحًا الماوردي في أول
كتابه (الحاوي) والروياني في أول (البحر) والقاضي حسين في تعليقه،والزبيري
في كتاب (المسكت) وابن سراقة في كتاب (الأعداد) وإمام الحرمين في باب السيف
من النهاية، والشهرستاني في (الملل والنحل) والبغوي في أول (التهذيب)
والغزالي في (البسيط والوسيط) وابن الصلاح في (آداب الفتيا) والنووي في
(شرح المهذب) وفي (شرح مسلم) والشيخ عز الدين بن عبد السلام في (مختصر
النهاية) ، وابن الرفعة في (المطلب) والزركشي في كتاب (القواعد والبحر) وذكر
ابن الصلاح أن ظاهر كلام الأصحاب أن المجتهد المطلق هو الذي يتأدى به فرض
الكفاية، وأما المجتهد المقيد فلا يتأدى به الفرض.
فهؤلاء أئمة أصحابنا نصوا صريحًا على أن الاجتهاد في كل عصر فرض
كفاية، وأن أهل العصر إذا قصروا فيه أثموا كلهم.
وممن نص على ذلك من أئمة المالكية القاضي عبد الوهاب في (المقدمات)
وابن القصار في كتابه (في أصول الفقه) ونقله عن مذهب مالك وجمهور العلماء
والقرافي في (التنقيح) وابن عبد السلام المالكي في شرح مختصر ابن الحاجب وأبو
محمد بن ستناري في (المسائل المنثورة) وابن عرفة في كتابه (المبسوط في الفقه)
وقد سقنا عبارات هؤلاء بحروفها في كتاب (الرد على من أخلد إلى الأرض)
فليراجعه من أراد الوقوف عليه.
(الوجه الثاني) : أن جمهور العلماء نصوا على أنه يستحيل عقلاً خلو
الزمان عن مجتهد إلى أن تأتي أشراط الساعة الكبرى، وأنه متى خلا الزمان عن
مجتهد تعطلت الشريعة وزال التكليف عن العباد، وسقطت الحجة وصار الأمر
كزمن الفترة، وممن نص على ذلك صريحًا الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني
والزبيري، وإمام الحرمين في (البرهان) والغزالي في (المنخول) ونقله ابن
برهان في (الوجيز) عن طائفة من الأصولييين ورجحه ابن دقيق العيد وابن عبد
السلام من المالكية في (شرح المختصر) وجزم به القاضي عبد الوهاب في
(الملخص) وأشار إليه الشيخ أبو إسحق الشيرازي في (اللمع) وهو مذهب الحنابلة
بأسرهم نقله عنهم ابن الحاجب في مختصره، وابن الساعاتي من الحنفية في
(البديع) وابن السبكي في (جمع الجوامع) وقال ابن عرفة المالكي في كتابه في
الفقه: قد قال الفخر الرازي في (المحصول) وتبعه السراج في تحصيله والتاج
في حاصله ما نصه (ولو بقي من المجتهدين - والعياذ بالله - واحد كان قوله حجَّةً)
قال فاستعاذتهم تدل على بقاء الاجتهاد في عصرهم، قال والفخر الرازي توفي سنة
606 هذا كلام ابن عرفة.
وقد وجدت ما هو أبلغ من ذلك، فذكر التبريزي في تنقيح المحصول ما نصه:
لا يعتبر في المجمعين عدد التواتر، فلو انتهوا - والعياذ بالله - إلى ثلاثة كان
إجماعهم حجة، ولو لم يبق منهم إلا واحد كان قوله حجة؛ لأنه كل الأمة وإن كان
ينبو عنه لفظ الإجماع، وقال الزركشي في (البحر) : قال الأستاذ أبو إسحاق يجوز
أن لا يبقى في الدهر إلا مجتهد واحد، ولو اتفق فقوله حجة كالإجماع، ويجوز أن
يقال للواحد أمة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً} (النحل:
120) ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين، وبه جزم ابن شريح في كتاب (الودائع)
فقال: وحقيقة الإجماع هو القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق من واحد فهو
إجماع، وقال إلكيا الهراسي: (اختلف هل يتصور قلة المجتهدين بحيث لا يبقى في
العصر إلا مجتهد واحد والصحيح تصوره) .
ثم أجاب عن المسألة الثانية بأن ابن الصلاح والنووي وغيرهما قالوا إن
المجتهدين أصناف، مجتهد مستقل، ومجتهد مطلق منتسب إلى إمام من الأئمة
الأربعة، ومجتهد مقيَّد، وأن الصنف الأول فُقِد من القرن الرابع، ولم يبق
الصنفان الآخران، وأجاب عن المسألة الثالثة بأن المجتهد المطلق المنتسب
والمجتهد المقيد كلاهما يستحقان ولاية وظائف الشافعية مثلاً (بلا خلاف بين
المسلمين) اهـ ملخصًا.
المقلد: أراك مطلعًا على أن أكابر العلماء حكموا بأن باب الاجتهاد المطلق
المستقل قد أُقفل من القرن الرابع، فما بالك تطلب فتحه في هذا الزمان.
المصلح: إنهم لم يقولوا بأن الباب أُقفل؛ وإنما قالوا إن المجتهد المستقل فُقِدَ
وذلك أن العلماء الذين صاروا مجتهدين قد حصَّلوا الفقه على طريق الأئمة الأربعة
إذ لم يوجد غيرها ومنها ارتقوا إلى درجة الاجتهاد المطلق، فظلوا منتسبين إلى
الأئمة الذين اشتغلوا في أول الأمر بمذاهبهم، وقد كشفت لك آنفًا عن السبب في
عدم إنشاء مذاهب جديدة لهم، ومن أراد أن يسلك سبل الاجتهاد المستقل من غير
التزام طريقة واحد من الأربعة بعينه فعل، ومن هؤلاء الإمام محمد الشوكاني
المتوفى سنة 1250 للهجرة، ومذهبه أقوى المذاهب المعروفة دليلاً، وأقوم قيلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الجوائح: جمع جائحة، وهي الآفة السماوية يهلك بها الزرع، فمن اشترى ثمرة وأخذتها الجوائح قبل قطعها يوضع عنه الثمن، وقد علل الشافعي حديث سفيان بن عيينة في وضع الجوائح بأنه كان ربما ترك ذكر الجوائح فلم يعول عليه ولكن الحديث صح من غير طريق سفيان، وأظهر الروايات في الباب حديث مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق) فابن القيم يقول إن مذهب الشافعي وضع الجوائح، وإن علل ما رواه فيها؛ لأنه صح من طرق أخرى.(4/692)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
معجزات الأنبياء والاختراعات الجديدة
(س) من محمد أفندي علي في القاهرة: لماذا انحصرت معجزات الرسل
فيما لا فائدة فيه للإنسانية؟ ولماذا لم يُجر الله على أيديهم المكتشفات والمخترعات
الحديثة والتي ستحدث حتى ينتفع بها النوع الإنساني، ولا يُحْرَم منها أصحابهم
والتابعون؟
(ج) الفائدة المقصودة من تأييد الرسل بالمعجزات هي إخضاع النفوس
وجذبها للإيمان بهم، وفي الإيمان بهم سعادتا الدنيا والآخرة، وقد كانت المعجزات
عقوبة لقوم معاندين كبعض آيات موسى عليه السلام في مصر، ورحمة لقوم آخرين
كشفاء المرضى، وإحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام، وكلا النوعين كان
لحكمة لا بد منها في سياسة البشر، وأما المعجزة العلمية الأدبية كالمعجزة الكبرى
لنبينا عليه السلام فمنفعتها أجلّ المنافع، وفائدتها أكبر الفوائد وهي باقية إلى ما شاء
الله تعالى (راجع الدرس 29) .
وأما عدم إجراء الاكتشافات والاختراعات العلمية والصناعية على أيديهم؛
فإنها من الأمور الكسبية التي يتوصل إليها البشر بجدهم واجتهادهم في عمران
الأرض، وليس هذا من وظائف الأنبياء كما عُلم من درس الأمالي السابق، على
أن كل اكتشاف واختراع لا بد أن يكون مسبوقًا بمسائل علمية وعملية لا تحصل إلا
بالتدريج كما هي سنة الله تعالى في الخلق، فلو أن نبيًّا من الأنبياء أخبر قومه
بالتلغراف وشرح لهم كيفية إنشائه لما عقلوه، ولا تيسر لهم أن يصنعوه؛ لأنه
يتوقف على ما لا يخفى من العلوم والأعمال الطبيعية والرياضية والميكانيكية، وإن
قلتم كان ينبغي أن يدعوهم إلى مبادئ هذه العلوم لينتهوا إلى غاياتها، ثم يظهر لهم
الاختراع، أقول كلا إن الواجب أن لا تضيع أوقات الأنبياء في تعليم الناس ما
يمكن أن يصلوا إليه بأنفسهم، بل الواجب هو ما قاموا به من إرشاد الناس إلى ما
بُعثوا لأجله من ترقية الأرواح وإيداعها معرفة الله تعالى، وحملها على عبادته وما
يتبع ذلك من تهذيب الأخلاق، فبذلك ترتقي عقولهم ويجتمع شملهم، فيهتدون
بالتدريج إلى العلوم والمعارف، التي يرتقي بها البشر في الدنيا ولو بعد حين.
***
الجهر بالذكر والنوبة عند المتصوفة
(س) محمد أفندي محمود الرافعي في القاهرة: قال بعد ثناء طويل على
المنار في خدمة الإسلام وتنبيه المسلمين: إن مما أخطأ القوم فيه مسألة التصوف
وأهله، قرأت أخيرًا جوابًا في ذلك للخير الرملي أردت أن يطير به المنار ويمدني
بما يراه من الصواب، وهو:
(سئل عما اعتاده السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم من اجتماعهم
بمواطن الذكر، وجهرهم بأنواعه، وضربهم النوبة ونحوها بقصد التنبيه، فأجاب
الخير الرملي ناقلاً بما حاصله: إن الأمور بمقاصدها، والشيء الواحد يتصف
بالحِلِّ والحُرْمَة باعتبار ما قصد له، وقد ورد من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير
منه، كما في البخاري، والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر ولا يعارضه حديث
(خير الذكر الخفي) لأنه حيث خيف الرياء والأذية وطلب الإسرار والإجهار
يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} (الأعراف: 205) فآيته مكية كآية {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} (الإسراء: 110) .
(ج) إن الذي يتصف بالحِلِّ تارة، والحرمة أخرى لاختلاف القصد؛ إنما
هو المباح في نفسه، فالعبادات المشروعة لا تكون حرامًا، والمعاصي المحظورة
لا تكون حلالاً، فإن ساءت النية في العبادة، كأن راءى بها الإنسان، فالرياء هو
الحرام لا العبادة نفسها، وإن قصد الإنسان بالمعصية فائدة له أو للناس فقصده لا
يبيح له المعصية، إلا إذا تعارض ضرران لا بد منهما، فيجب ارتكاب أخفهما،
وقد أكمل الله تعالى لنا الدين، فليس لنا أن نزيد في عبادته، ولا أن ننقص منها لا
كمًّا ولا كيفًا، فالاجتماع لذكر الله تعالى ومزجه بالعزف بآلات الطرب كالدفوف
والمزمار والشبابة ونحوها بدعة في الدين، وزيادة عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فلا
تباح بحسن القصد، كما لا يباح لنا أن نخترع كيفية لصلاة التطوع بأن نسجد في
كل ركعة ثلاث مرات لأجل زيادة الخشوع مثلاً، ولقد عمل الرسول صلى الله عليه
وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بالدين على أكمل وجوهه، فحسبنا ما صح
نقله عنهم، وأما ما ذكره من الجهر بذكر الله تعالى ودليله فهو حسن، والله أعلم.
***
زيادة عدد النصارى على عدد المسلمين
(س) من أحمد أفندي الألفي في أبو كبير (شرقية) : لماذا كانت أمتنا
الإسلامية أقل عددًا من الأمة المسيحية، مع كفالة نظام تعدد الزوجات والطلاق
عندنا بكثرة النسل، وأظن أن انتشار المسيحية قبلها لا يكون سببًا في قلتها عنها،
فاليهودية قبلهما وعددها لا يُذكر في جانب عددهما.
(ج) لا ريب في أن السبب في زيادة عدد النصارى هو انتشار دينهم قبل
الإسلام وليست بالتوالد وحده، فعندما كان المسلمون يُعَدُّون على الأنامل كان
النصارى يُعَدُّون بالملايين، ولا شك أن الإسلام نما نموًّا لم يُعهد مثله في أمة أخرى
وذلك بكثرة من دخل فيه وبكثرة النسل فقارب عدد النصارى على اتصال الدعوة
عندهم، وانقطاعها عند المسلمين منذ قرون، وأما اليهود فإنهم لا يَدْعُون إلى دينهم؛
لأنه خاص بشعب إسرائيل، ولا يكاثر شعب واحد شعوبًا كثيرة.
__________(4/702)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
تربية قوة الخيال
والتلطف في مخاطبة الأطفال [1]
(33) من أراسم إلى هيلانة في 22 إبريل سنة 185
أرى (أميل) على ما وصفته لي قد حُبِّبت إليه بدائع الخيال وغرائبه، وأنا
مسرور بذلك مهما بلغت درجته في نفسه؛ لأني لا أحب من الأطفال من كان مشككًا
مرتابًا؛ فإن الارتياب فيهم من دلائل نضوب قوتهم الخيالية وعقمها، ولست أدري
إن كان حنين الإنسان إلى ما وراء هذا العالم المشهود من أسباب شرفه، أو من
أمارات خسته، وكلا الأمرين في نظري سِيّانِ إذا كان هذا الحنين يرفع نفسه من
حضيض هذا الكون المادي، ويسمو بها إلى ما يتمثل في الخيال من معارج الكمال
الروحي، وإني لأقاسمك الأسف على ما يضيعه القائمون على الأطفال من قوة
الخيال التي كانوا يجوبون بها مفاوز عالم الغيب، وهم متعلقون بشعور جِنيَّاته،
ذلك لأن لله سبحانه حكمة في قسمة المواهب بين الناس حتى فيما هو أشدها خطرًا
وهو المواهب الخيالية فلم يهبها لنا عبثًا، فليس لنا أن نسعى في إماتة قوة من
قوانا لمجرد حكمنا عليها بأنها وهمية، أو خلو من الفائدة، بل الأجدر بنا في شأنها
أن نطلب لها ما يقابلها ويوازنها، فقوة الخيال مثلاً سيأتيها الزمن بما يعارضها من
قوة ملاحظة الحوادث الكونية وملكة التعقل والاستدلال، فأستحلف المربين بحق
الحياة وقدرها في نفوسهم أن لا يقسروا قوى الأطفال، وأن لا يمحوا منها شيئًا؛
فإن الإنسان لم يبلغ من الغنى بها حدًّا تزيد فيه عن حاجته.
إن لنا في الكون لعبرة، فلننظر إلى حوادثه؛ فإننا نرى جميع الموجودات في
حركة واضطراب وتغالب وجلاد ونمو وازدياد، ونشاهد أن القوى المتعاندة تزدوج
فتولد نظامًا، والفواعل المتباينة تأتلف فتُوجِد ملاءمة ووئامًا، فأي ضرر يلحق
الإنسان إذا جرى في تربية نفسه على هذا المثال اهـ.
(34) من أراسم إلى هيلانة في 23 إبريل سنة 185
إليك مكتوبًا (لأميل) في طي مكتوبي لك وهو:
ولدي العزيز:
لقد أبهجني مكتوبك الذي أرسلته إليّ، وانشرح به صدري كثيرًا غير أني
أنبهك إلى أن هناك طريقة أخرى للكتابة هي إلى الكلام أقرب من طريقتك إليه،
وأحثك على المبادرة إلى تعلمها، فاسأل والدتك أن تعلمك طريقتها في قراءة
رسومي القلمية التي تغاير رسومك بعض المغايرة، في نفسي أمور كثيرة أروم
الإفضاء إليك بها، فهل لديك ما تحب أن تكاشفني به؛ فإني على عدم تمتعي حتى
الآن برؤيتك مشغول الفكر بك، عامر الفؤاد بحبك، فإذا وافتني كلمة منك
استبشرت بها، وهشت لها نفسي، ولست أدري كيف أصف ما أجده من الفرح،
لو منَّ الله عليّ بلقائك فضممتك إلى صدري اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معرب كتاب أميل القرن التاسع عشر من باب الولد.(4/705)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم في بلاد سيرالون
مدرسة إسلامية في فوله
لا توجد بلاد إسلامية أُعطي أهلها حرية في التعليم كالبلاد التي استعمرها
الإنكليز، وقد عرَّب المؤيد عن بعض الجرائد مقالة عن مسلمي (فوله) من بلاد
سيراليون الإنكليزية على سواحل القاموس الأطلاطنيقي من غربي أفريقيا جاء فيها
أنهم مجتهدون في التربية والتعليم، وأنهم كانوا منذ عامين أنشأوا مدرسة صغيرة
فنجحت نجاحًا دعاهم إلى إنشاء مدرسة كبيرة، وقد احتفلوا بوضع الحجر الأساسي
لهذه المدرسة احتفالاً أجاب الدعوة إليه الحاكم الإنكليزي العام وأركان حربه،
وعدد كثير من المسلمين وغيرهم، فقابل مدير المدرسة ووكيلها الحاكم العام
بالحفاوة، وقدَّم إليه الأساتذة، وأنشد التلامذة أمامه النشيد الوطني ووضع الحاكم
الحجر الأول بيده.
ثم خطب (الفاسنوسي) وكيل المدرسة خطبة شكر فيها للحاكم عنايته
بحضور الاحتفال، وذكر أن لهذا تأثيرًا في تعظيم شأن المدرسة، ثم ذكر أن مبدأ
النشأة العلمية هو إرشاد الدكتور بليدن الذي جاءهم في سنة 1871، وحثهم على
نشر العلم، وهو اليوم مدير المدارس الإسلامية، ثم خطب الحاكم وشكر للخطيب
حسن ظنه به، وذكر أن تلك الساعة أحسن الساعات عنده لرؤيته مبدأ تقدم أهل
المستعمرة المسلمين، ومما قاله:
(وأقول لكم: إنني أعتبر المسلمين في هذه البلاد من أكبر العناصر المهمة
التي يجب الاعتناء بها؛ لأنهم أذكياء ذوو حمية ونشاط، ولهم صفات خاصة بهم،
وأخلاق مستحسنة، وسجايا مرتقية عن سجايا غيرهم) .
ثم صرح لهم بأن الحكومة مستعدة لمساعدتهم في كل وقت على التعليم وإعداد
أولادهم لخدمة البلاد تحت نظرها، ونصح لهم بأن يجتهدوا في ذلك قائلاً (إن
الزمن الذي كان يرتقي فيه الإنسان بالقوة والسلاح والحسب والنسب قد مضى،
وجاء الزمن الذي لا يفلح فيه إلا المتعلم على حسب ما يقتضيه ويناسب الأمم
المرتقية فيه) .
ثم وعد بأنه سيكتب للماجور (ناثان) الذي ساعدهم على تأسيس المدرسة
الصغرى مبشرًا له بنجاحها؛ لأنه يُسَرُّ بذلك، وقد أوصاه بهم عندما لاقاه في
إنكلترا، وقال إن الدكتور (بليدن) سيقوم بالواجب عليه من المساعدة (ولكن أنتم
المسئولون عن النجاح الحقيقي؛ فإنه منكم يطلع، وإليكم يرجع، وعليكم يسطع،
فيجب عليكم أن لا تتوانوا ولا تكسلوا فالوقت قصير، والعمل كثير، واعتمدوا
دائمًا على مساعدتي واهتمامي بكم، ورغبتي في خيركم ومصلحتكم) .
قال: ولا بد لي قبل ختام القول من الإشارة إلى شيء مهم أنبهكم عليه وهو
أنني رأيت المسلمين منقسمين إلى أحزاب مختلفة يدابر بعضهم بعضًا، ويسوءني أن
أرى هذا ولا أرى لي وسيلة لإزالته والتوفيق بينكم؛ لأنه ليس من شأن الحكومة
فيجب عليكم التدبر في حل عقد الخلاف بأقرب الوسائل لجمع كلمتكم، وما أردت
بهذا أن أشعركم بما يؤلمكم لأكدر صفوكم؛ وإنما هي فرصة سنحت لأنصح لكم،
وأنتم تعلمون أن المسلمين هنا يجب أن يكونوا جسمًا واحدًا، ولا ينبغي أن يكون
بين أعضاء الجسم الواحد اختلاف؛ لأن كل واحد يؤدي وظيفته لمنفعة الجسم كله،
واعلموا أنكم إذا اختلفتم وتنازعتم فشلتم وضعفتم، وإذا اتحدتم واجتهدتم تنجحون
ويرتفع شأنكم وتتحقق آمالكم وآمال الحكومة فيكم، ثم ختم خطابه بالشكر لهم على
حسن استقباله، فهتفوا جميعًا بالدعاء له.
__________(4/707)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(تهنئة الأمير حبيب الله خان بإمارة الأفغان)
لحضرة العالم الأديب الشيخ أحمد جيتيكر من فضلاء بمباي (الهند)
سرى عنك الأسى يا نفس طيبي ... فقد جاء البشير بنشر طيب
وعادت نضرة الأيام حتى الـ ... ـقفار اليوم كالروض الخصيب
وغنَّت كل روض بالتغني ... بتشبيب المهنئ والنسيب
وتغريد الفواخت مطربات ... يجاوبها غناء العندليب
نعم عمَّ المراح فراح غمٌّ ... طرا بكوارث اليوم العصيب
ومد يد النشاط بساط بسط ... ونزهت الصدور من الكروب
فيا بشرى بها الآمال تحيا ... أتت تشفي القلوب من الوجيب
وطوبى إذ بدا نجم المعالي ... عقيب خفاء نجم في مغيب
وما نجم له مثل ولكن ... يعبر عن بعيد بالقريب
زها عرش الخلافة إذ علاه ... (حبيب) الله محبوب القلوب
فهللت العساكر من رجال ... وخيل قد ملأن فضا الجيوب
وكبرت المدافع مطلقات ... تدندن وهي تغني عن نقيب
وحيَّا كل حي بالتهاني ... وجمع الشمل ألحان الخطيب
علا فعلا به العرش الثريا ... بأسنى من سناها والثقوب
فتى جم المحاسن ليس تحصى ... ومن يحصي النجوم سوى الحسيب
أغر الوجه ذو صدر رحيب ... طويل الباع ذو الكف الوهوب
ذكي الخلق مرضي السجايا ... نقي الجيب عن كل العيوب
محبته سرت في كل قلب ... ففاح شذاه كالمسك الرطيب
فتى قد وجه الآمال حتى ... حدقن حوال ناديه الرحيب
ودان له الأداني والأقاصي ... وهان له الصعاب من الشعوب
نشا في معشر خُشُن فلانوا ... لأخشن منهم كفًّا أريب
وأعلم بالعواقب والمبادي ... وأبصر بالشواهد والغيوب
وأسخى من أخي طي عطاءً ... وأرسخ من همالي [1] في الخطوب
(أرسطو) حكمة (جمشيد) جاهًا ... و (رستم) حين يُدْعَى للحروب
تجلى والعفاف له شعار ... فآثره على البُرد القشيب
تقلد بالإمارة وهو سيف ... يضيء فرند جوهره العجيب
به شبَّت ذوائبها فأعجب ... بعود شبابها بعد المشيب
أتاها وهي من عهد قديم ... أبت إلا مواصلة الحبيب
فواصلها وأيدها وزيرًا ... (بنصر الله) ذي الرأي المصيب
هما كالفرقدين بغير فرق ... وصنوا المجد من أصل نجيب
وكالعينين في شخص بصير ... وإنسانين في عيني طبيب
وكالدرين من عقد ثمين ... وكالزهرين من غصن رطيب
وكالشجرين بالوادي استنارا ... بنور قد علا نور الخضوب
فبورك فيهما أصلاً وفرعًا ... ومَن مِن مغرس ذاك الخصيب
وزاد ضياء (كابل) بالأميرالـ ... ـحبيب وبالوزير له اللبيب
وعمَّ ممالك الأفغان طرًّا ... سعادة نائب [2] وسنا المنيب
ليهنكما أيا قمران ذا الملـ ... ـك والتدبير خالدَي الرتوب
وزادكما إله العرش أيدا ... بنصر منه والفتح القريب
وجدد في ظلالكما ارتقاء الـ ... ـعلوم وسائر الفن الغريب
ولا عدم اعتناءكما مديحي ... أتيت به بإخلاص المنيب
وليس الشعر من أدبي ولكن ... لأمر ما وسمت به نصيبي
به الإسلام أخدمه عسى أن ... يصادف دعوتي نظر المجيب
رجائي منكما حث اعتزامي ... وسنى لي إلى العليا ركوبي
فدام علاكما بالعز والجا ... هـ ما كرَّ الطلوع على الغروب
وإذ فاق الإمارة فليؤرخ ... تفوقت الإمارة بالحبيب
سنة 1319 ... 986 278 55
وقلنا حين زاد الملك حسنًا ... أضاء الملك نصر بالحبيب
سنة ... 1319 ... 803 121 340 55
وقل بالفارسية مستطيبًا ... زهي شاه وخوشا ماه جيبي (كذا)
سنة ... ... ... 1319 22 312 907 46 32
أديب وآخرا أرخ دعاء ... وفاق الملك ضوعف بالحبيب
سنة ... 1319 ... 187 121 956 55
***
(رثاء أمير أفغانستان)
من نظم الشاعر الناثر مصطفى أفندي صادق الرافعي
يافاجع الموت ماذا ينفع الحذر ... وقد عهدناك لا تبقي ولا تذر
جنت يداك أزاهير الورى فهوت ... كما تناثر من أوراقه الزهر
وما بمانعهم ما قدروا وقضوا ... فإن كل قضاء فوقه قدر
ليس الجبان بمغنيه تذلله ولا أُسود الشرى ناب ولا ظفر
وفي الجديدين للأحياء موعظة ... وما مواعظ دهر كله عبر
يا لهف (كابل) إذ فاجأتَ كافلَها ... وقد تركتَ قلوب القوم تنفطر
فَجَعتَها وفَجَعتَ العالمين بها ... حتى النجوم وحتى الشمس والقمر
وجئتَ ضيغمها الضاري بمخلبه ... فلم يواثبك ذاك الضيغم الهصر
كم كان يزجي المنايا للعدا زمرًا ... حتى بُعثن له من ربه الزمر
وكان يأتيه ريب الدهر معتذرًا ... فاليوم عنه صروف الدهر تعتذر
والمرء إن عضه ناب الحِمام ثوى ... لا البيض مانعة عنه ولا السمر
وما تبسم للأيام مختبل ... إلا تفجع بالأيام مختبر
والدهر يومان يوم كله كدر ... لا صفو فيه ويوم بعضه كدر
سلوا المآثر عنه فهي خالدة ... في كل قلب له من حبه أثر
واستخبروا الشرق ما للشمس كاسفة ... فما (جهينة) إلا عندها الخبر
وفي ذهاب (ضياء الدين) مظلمة ... هيهات تكشفها الأوضاح والغرر
ما شبَّ في غِيَر الأحداث فكرته ... إلا أضاءت له الأحداث والغير
ومدفع الغرب في أيدي عصابته ... كباتر الهند بالأفغان يفتخر
فلو رأى الكوكب السيارة خاطره ... ما كان يسليه إلا إنه بشر
ولو روى الفلك الدوار حكمته ... لأمست الشهب فيه كلها سور
يا شامخًا دكه ريب المنون أما اهـ ... ـتز الحطيم وركن البيت والحجر
طارت بنعيك للإسلام بارقة ... فانهل دمع بني الإسلام ينهمر
وذي قلوب الورى من حر جارحها ... كأن نار الوغى فيهن تستعر
فما لأنباء هذا السلك خائنة ... حتى المدامع خانت سلكها الدرر
***
(قضايا غرام، فهل من محام)
قال الشيخ تاج الدين محمد بن عبد المنعم التنوخي المعري الأصل الدمشقي
المتوفى سنة 669.
ما ضر قاضي الهوى العذري حين ولي ... لو كان في حكمه يقضي علي ولي
وما عليه وقد صرنا رعيته ... لو أنه مغمد عنا ظُبَى المقل
يا حاكم الحب لا تحكم بسفك دمي ... إلا بفتوى فتور الأعين النجل
ويا غريم الأسى الخصم الألد هوى ... رفقًا علي فجسمي في هواك بلي
أخذت قلبي رهنًا يوم كاظمة ... على بقايا دعاوٍ للهوى قِبَلي
ورمت مني كفيلاً بالأسى عبثًا ... وأنت تعلم أني بالغرام مَلي
وقد قضى حاكم التنبريح مجتهدًا ... عليَّ بالوجد حتى ينقضي أجلي
لذا قذفت شهود الدمع فيك عسى ... أن الوصال بجرح الجفن يثبت لي
لا تسطون بعسَّال القوام على ... ضعفي فما آفتى إلا من الأسل
هددتني بالقلى حسبي الجفا وكفى ... (أنا الغريق فما خوفي من البلل)
ولغيره:
عيناه قد شهدت بأني مخطئ ... وأتت بخط عذاره تذكارا
ياحاكم الحب اتَّئِد في قتلتي ... فالخط زور والشهود سكارى
ولنا في أيام الدراسة والطلب:
أتيت قاضي الهوى أشكوه مظلمتي ... إذ لج بي منه هجران وتبريح
ولي شهيدان: قلب خافق قلق ... ومدمع دافق فاضت به الروح
فقال ما لك في دعواك بينة ... فالعين نمامة والقلب مجروح
__________
(1) جبل في الهند من أعظم جبال الأرض.
(2) المراد به الوزير بحسب اصطلاحهم.(4/709)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(الصدر الأعظم)
توفي الصدر الأعظم خليل رفعت باشا، وكان ليّن العريكة، ضعيف العزيمة
- أو كما قال المؤيد - لم تكن له إرادة مع إرادة مولاه السلطان، ونقول على كل
حال تغمده الله برحمته التي وسعت كل شيء.
وقد أقر مولانا السلطان الأعظم أيد الله دولته، وأنفذ بها شوكته، عيون الأمة
العثمانية إذ عهد بمنصب الصدارة العظمى إلى ابن بجدتها وأبي عذرها صاحب
الدولة والفخامة سعيد باشا الصدر الأسبق، فهو خير وزراء الدولة في هذا العصر،
وأكبر رجالها والأتراك يكنونه بأبي الأمة، وفقه الله تعالى لما فيه نجاح الدولة
العلية وترقية الأمة العثمانية، آمين.
***
(أمنية في إصلاح مراكش)
كنا تمنينا لو يستعين سلطان مراكش على إصلاح بلاده الإداري والحربي
بمولانا السلطان الأعظم، ولما اتصلت بنا الأخبار في هذه الأيام عن الاضطراب
في بلاد مراكش، وامتداد عنق فرنسا - بل يدها - إليها وقع في النفس فجأة أمنية لو
تحققت لكانت كافية في الإمداد والإسعاد، تمنينا لو يكون صاحب الدولة مختار باشا
الغازي هو الوزير الأول المفوض لسطان المغرب، فمن لنا بأن يعتقد ذلك السلطان
اعتقادنا، ويطلب هذا الرجل العظيم من أعظم سلاطين المسلمين.
***
(الاحتفال السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية)
سيكون هذا الاحتفال في هذه السنة في 25 شعبان، وهو أنفع الاحتفالات التي
تكون في مصر وأبهجها وأبدعها، والناس يقبلون عليه أكثر مما يقبلون على غيره
من الاحتفالات الأخرى، وهذا من دلائل الشعور بالمنافع العمومية الذي انبثَّ في
نفوس المصريين.
وإذا كان نجاح الأعمال الاجتماعية، والسعي في المصالح العمومية، هما
البرهانان على كمال الرجولية، فلا شك أنه لا يوجد عندنا برهان على رجولية أحد
إلا القائمين بأمر هذه الجمعية، وحظ كل مصري من الكمال بقدر مساعدته لهم
ومعاونته إياهم، والمساعدة على قدر الاستطاعة، وكل امرئ أعلم بمبلغ استطاعته
فلينظر في درجة كماله.
***
(امرأة خير من الرجال)
يصفون من تأخر البلاد ويذكرون من ضعف الأمة وتقهقرها والبلاء الذي
يخشى أن يفضي إلى الفناء؛ لأنه مثار كل شقاء، هو كون كل فرد منا لا يفكر إلا
في أمر نفسه، ومن هو كنفسه كزوجته وولده الصغير، وعدم الاهتمام بأمر الأمة
والعمل لمصلحة البلاد، وما أفضل الناس من ينقطع إلى طلب العلم ليعيش به، ولا
من ينقطع للعبادة ليُعَظَّم ويُكَرَّم في الدنيا وفي الآخرة، ولا من يسميهم الناس عظماء
وأمراء؛ وإنما أفضل الناس أنفعهم للناس؛ لأن الإنسان خلق اجتماعي فمن يخدم
الجماعة يكون أرقى في الإنسانية ممن لا يخدم إلا نفسه، بل ذلك هو الإنسان وما
سواه حيوان.
ومن البلاء أن من يوفق من أغنيائنا لبذل شيء من المال في المصالح العامة
يضعه في غير موضعه، فإما أن يبني مسجدًا حيث تكثر المساجد وتزيد على عدد
المصلين، فيكون كمسجد ضرار مفرقًا لا جامعًا، وإما أن يبني زاوية أو تكية تكون
مأوى للكسالى والبطالين، وإما أن يوقف عقارًا على عمل ضار يعده الجهلاء نافعًا
كبناء الأضرحة والقباب عليها، ومما حدث في هذه البلاد التي أنشأت تستنشق نسيم
الحياة الاجتماعية أن امرأة بَرَّة من ناحية المطيعة التابعة لأسيوط اسمها الحاجة
بخيتة بنت محمود، قد وقفت لأعمال خيرية بذلت فيها المال حيث ينبغي أن يبذل،
إذ بنت في بلدتها مسجدًا ومكتبًا لتعليم القرآن وعقائد الدين وأحكامه، ورتبت
النفقات الكافية لهما وللعلماء والمدرسين في مدينة أسيوط، وأوقفت عشرة أفدنة من
أطيانها على الجمعية الخيرية الإسلامية مساعدة لها على تعليم أولاد فقراء المسلمين
وإعانة الضعفاء والبائسين، وقد كتب إليها صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد
عبده مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية كتاب شكر هذا نصه:
(مصر: في 22 جمادى الثانية سنة 1319 عدد 171
حضرة السيدة بخيتة بنت محمود
بلغنا من حضرتي الفاضلين عبد الرحمن بك حسنين النميس وحسين بك
فهمي أن الله قد أرشدك إلى وقف عشرة أفدنة على الجمعية الخيرية الإسلامية
ليكتبها الله بك في سجل أعمالك الصالحة الباقية، فحمدنا الله تعالى على أن جعل
في بلادنا من النساء الخيِّرات من يسبقن الرجال في فضائل الأعمال، وإنا نشكره
جل شأنه على نعمته، ونشكرك على عملك الفاضل، وقد عرضت هذا العمل على
أعضاء الجمعية فكلفوني بأن أشكرك بالنيابة عنهم، كما شكرتك بالأصالة عن نفسي
وأسأل الله أن يكثر في المسلمين من أمثالك والسلام) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... التوقيع
من بَلَّغ المرأة الفاضلة كتاب الرئيس؟ ذهب صاحب السعادة أحمد باشا
حشمت مدير أسيوط إلى بلدها في طائفة من أهل الفضل والوجاهة في أسيوط،
منهم عبد الرحمن بك النميس، وحسين بك فهمي، والدكتور أحمد أفندي السعيد
طبيب مدرسة الجمعية الخيرية في أسيوط، والشيخ عبد الرحمن أحمد أحد أساتذتها
والخواجة دوس المطيعي، فتلقاهم أهل البلدة بالحفاوة، وساروا بهم إلى دار
المحسنة الفاضلة، فرحبت بهم أحسن ترحيب.
وابتدأ المدير بالثناء عليها، وفضلها على جميع نساء الوطن، وعلى كثير من
رجاله، ثم خطب صاحب العزة حسين بك فهمي خطبة نافعة بيَّن فيها للحاضرين
مكانة هذه المراة الفاضلة، وفضل عملها المبرور، وقد لقبها صاحب السعادة أحمد
حشمت باشا (بست البلد) وأمر الحاضرين بأن يطلقوه عليها، ثم انفضوا
مسرورين، ولنا أن نقول لأغنيائنا الأشحة.
ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال
***
(أمثلة لطفولية الأمة)
قلنا غير مرة أن أمتنا كالطفل في الحياة الاجتماعية، وأوضحنا هذا في
مقالتين نُشرتا في آخر المجلد الثاني من المنار، عنوان أحدهما (طفولية الأمة وما
فيها من الحيرة والغمة) وعنوان الثانية (الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة)
ومما نقوله كثيرًا بمناسبة ذكر التعليم الذي تحيا به الأمم: إن أمتنا لما تشرع في
التعليم الابتدائي؛ وإنما يصح أن يكون الزمان قد أعد جماعة منها إلى ما يسمونه
(القسم التحضيري) الذي استعد أو يستعد للتعلم الابتدائي في مدارس الاجتماع،
وإننا نذكر ههنا ثلاثة أمثلة على طفولية الأمة نلقنها لأهل هذا القسم التحضيري:
(المثال الأول شركة الاقتصاد الإسلامية)
لاشك أن الشركات من أكبر الدروس الاجتماعية العملية، وقد أراد جماعة من
القسم الذي نسميه تحضيريًّا أن يبتدءوا بدرس الشركات بعدما تعلموا العلوم العالية
في مدارس الحكومة، وبعضهم تعلم في أوربا وأخذوا الشهادات في اللغات وعلوم
الاقتصاد والحقوق وغيرهما، وكان منهم الموظفون والمحامون، فسنوا لهم قانونًا
وألَّفوا شركة وجعلوا لهم جمعية عمومية ومجلس إدارة، ثم جمعوا من السهام مبلغًا
من المال.
ماذا عملوا بعد ذلك؟ عملوا عمل العجائز والزمنى الذين لا يقدرون على
التصرف بأنفسهم إذ اشتروا ببعض المال سهامًا من بعض الشركات الأجنبية العاملة
كشركة الماء، وشركة الأسواق، ثم علم بعض المشتركين بأن أسعار السهام قد
نزلت بعد حرب الترانسفال، فطلب بعضهم ما دفعه فأخذه بعد إمساك الشركة ما
أصابه من الخسارة، وصبر الآخرون راجين أن يقوم مجلس الإدارة بعمل آخر
يربح ما يعوض الخسارة؛ ولكن المجلس حار ولم يدر ماذا يعمل، ثم دعا الجمعية
العمومية للمشاورة في حل الشركة، فحلوها على خسارة ثلاثين في المائة، فمن لم
يحضر فعليه أن يذهب إلى مكتب أمين الصندوق عزتلو محمد بك فريد المحامي،
ويأخذ ما بقي له.
وهذه العبرة لا تقضي علينا باليأس من الأعمال الاجتماعية؛ وإنما تقوي
الرجاء لأنه مر علينا زمن لا نفتكر فيه بهذه الأشياء حين كنا كالجنين، وقد ارتقينا
فصرنا كالطفل يحاول المشي، فيقع بين كل خطوة وأخرى، ولا بد أن يكون رجلاً
إن شاء الله تعالى.
(المثال الثاني مجلة الموسوعات)
سمعنا أن مجلة الموسوعات أُنشئت لمباراة مجلة المقتطف، وإغناء
المصريين والمسلمين عنها، وكان يكتب على ظهرها أنه يحررها لجنة من أعاظم
الكُتَّاب، ولا شك أن لجنة من أعاظم الكُتَّاب أقدر على الإفادة والإجادة من كاتب أو
كاتبين؛ ولكن المجلة سارت الخَوْزَلَى ثم القهقرى ثم عثرت فسقطت، وهذا لا
يصح أن يكون أيضًا مدعاة لليأس، فما هو إلا طفل تحرك بروح حية، ويرجى أن
يقوم ويمشي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
(المثال الثالث رجال الصحافة في مصر)
الجرائد مدارس اجتماعية وأصحابها وكتابها كمديري المدارس ونظارها
وأساتذتها، ونراهم على ذلك يتسابون ويتشاتمون ويتخاصمون ويتنازعون كالأطفال
لا كما يكون من اختلاف آراء الرجال، والعبرة الكبرى في الحادثة الأخيرة من
حوادثهم، وهي أن أصحاب الجرائد اليومية اقترحوا على الحكومة أن تأذن لهم
بإرسال مكاتبين يرافقون موكب سمو الخديوي في زيارته للسودان، وليكتبوا أخباره
لجرائدهم عن عيان، واحتجوا على الحكومة بأن هذا معهود في أوربا، فأرادت
الحكومة أن تُعَرِّفهم أنه لا فرق بينها وبين حكومات أوربا؛ وإنما الفرق العظيم
بينهم وبين أصحاب الجرائد في أوربا، فعهدت إلى أصحاب الجرائد العربية
بانتخاب واحد منهم ينوب عنهم، فاجتمعوا أولاً في إدارة جريدة المؤيد وارتأوا أن
يدعوا جميع أصحاب الجرائد الأسبوعية لمشاركتهم، فدعوهم واجتمع من حضر في
إدارة جريدة الأهرام، فاقترح بعضهم أن يكون المنتخَب من أصحاب الجرائد
الأسبوعية، فتنازعوا واختصموا، وخرج البعض مغضبًا، ثم اجتمعوا في إدارة
المقطم فكانوا أكثر خصامًا ونزاعًا وخلابة وخداعًا، ثم انقسموا إلى طائفتين خرجت
طائفة من المجلس، ومنها جميع المسلمين وصاحب جريدة مصر القبطية، ومدير
جريدة الرائد المصري السوري، وأما الذين بقوا في المقطم فهم سوريون إلا
صاحب جريدة الوطن فهو قبطي؛ وإنما ذكرنا أجناسهم ومللهم؛ لأن لذلك دخلاً في
النزاع والاختلاف، ثم انتخبت كل طائفة مندوبًا من أصحاب الجرائد الأسبوعية،
وعرضوا الانتخابين على نظارة الداخلية، فأرسلته إلى حكومة السودان أو للحربية
لأجل الترجيح، ثم استقال كل من المنتخبين، واختارا محرر جريدة أسبوعية
أخرى، فأجاز ذلك منتخبوهما، وبذلك انحسم النزاع.
__________(4/714)
غرة رمضان - 1319هـ
12 ديسمبر - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان
الصوم والناس. العبادة. معرفة الله. البعث. جاهلية المدنية الأوربية.
التكوين حسب العلم العصري الموافق للقرآن. الحياة والبقاء. الأرواح. الحاجة
إلى الدين. الإسلام والمدنية. شكوى المسلمين. دعوة المرتابين إلى الحق.
أقبل شهر الصيام فرحَّب به المؤمنون، وتبرَّم منه المنافقون، واستهان به
الزنادقة المارقون، فالمؤمن في صيام وصلاة، وصلة وزكاة، وبِرٍّ ومواساة،
وعكوف على كتاب الله، والمنافق في كذب ومداجاة، وإسرار يخالف ما أظهره
وأبداه، يستخفي بإفطاره من الناس ولا يستخفي من الله، كأنه لا يعلم أنه يبصره
حيث كان ويراه، والمارق المرتد يجاهر بالإفطار، وتُمد له الموائد في نصف
النهار، فيأكل الطعام ويشرب العقار، ويفجر مع أمثاله من الفجار، ضلال مع
إصرار، لا ندم يعقبه ولا استغفار أولئك هم الفاسقون {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 3-4) .
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس: 17-23) أمره بالصلاة فكسل، وأمره بالزكاة فبخل، وأمره بالصوم
فشرب وأكل، ولو عرف الله لآثر طاعته على شهوته وهواه، ولو عرف نفسه
لعرف ربه، وابتغى رضوانه وقربه، وارتقى بذلك عن اللذة الحسية البهيمية، إلى
اللذة الروحانية الإنسانية، فصلى طلبًا لمرضاته، وتلذذًا بمناجاته، وصام ابتغاء
وجه ربه الأعلى، الذي يعلم الجهر وأخفى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 88) .
نعم لكل موجود ممكن وجهان، وجه إلى عالم الكون والفساد الذي تفنى عن
قريب صوره، ويمحى أثره، ووجه إلى الوجود الحق الذي استفاد وجوده من
وجوده، واستمد ما به بقاؤه من كرمه وجوده، إذ هو {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن
مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ
ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى} (القيامة: 36-40) .
بلى إن الكيماوي يحلل بعض الأجسام المركبة ويرجعها إلى عناصرها
البسيطة، فتراها قد فنيت وتلاشت، ثم يعيدها بالتركيب إلى شكلها الأول فتراها
خلقًا جديدًا، هذا والكيماوي رجل مثلك يشكو الجهل والضعف {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ
العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) أفرأيت الحي الذي استمد الحياة منه كل الأحياء،
القيوم الذي قامت بقدرته الأرض والسماء، يعجز عن فعل ذلك بك وهو الفعَّال
لما يريد {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15) .
هؤلاء الزنادقة المرتابون في النشأة الأخرى الذين تركوا الصوم والصلاة
واتبعوا الشهوات يتوكأون في هذا العصر على العلم الطبيعي في ارتيابهم أو
جحودهم، وهم أعرق في الجهل به من أمثالهم في زمن الجاهلية الأولى؛ فإن
علمهم الطبيعي ينطق بأن العدم المحض مُحال، وأن الإعدام والإيجاد إبطال صور
وأشكال وتجديد صور وأشكال، وأن هذه الكواكب السماوية، وهذه الأرض كانت
كلها مادة واحدة منتشرة كالدخان والهباء، ثم انفتق رتقها فكانت أجرامًا كروية
متعددة، ثم نشأ في هذه الأرض وهي إحداها ما نراه فيها من العوالم الحية وغير
الحية، وكان كل ذلك الإبداع والإحكام بترتيب كامل ونظام يدل على أنه صادر عن
علم وحكمة وإرادة وقدرة {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً
فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) .
عرفوا قليلاً من ظواهر أشكال هذه المخلوقات وقواها وخواصها، وعرفوا أن
أعلاها وأكملها المخلوقات الحية، وأن أكمل الأحياء منها الإِنسان، أفلا يدلهم هذا
على أن الحياة التي بها قوام أكمل المخلوقات هي أكمل الموجودات، وعلى أن
كمالها في مراتب الوجود بالنشوء والارتقاء يدل على رسوخها فيه؟ وإذا عرفوا هذا
وضموه إلى علمهم بأن أجزاء المادة التي لا حياة لها لا تقبل عدم المحض؛ وإنما
تنحل منها صورة فتدخل أجزاؤها في تكوين صورة أخرى من المخلوقات الحية،
ألا ينتج لهم مجموع هذه المعارف أن الحياة التي تلابس المادة الميتة فتجعلها خلقًا
جديدًا ينمو ويرتقي أجدر بالبقاء، وأولى بالارتقاء لا سيما هذا الإنسان الذي هو
أكمل ما في هذه الأكوان، بلى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ
الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} (التين: 1-8) .
حياة الأحياء معلومة بالضرورة لا تحتاج إلى دليل، وإن ما به الحياة مجهول
في كنهه وحقيقته معلوم بأثره، وإن أكمل مراتب الحياة وأعلى درجاتها هو ما كان
من أثره العلم والحكمة والإرادة، وهو ما يسمى باللغة العربية روحًا، وإن أفراد
الأرواح متفاوتة في الارتقاء، كما أن أنواع جنسها - وهو ما به الحياة - متفاوتة
كما قلنا آنفًا، وإن أعلى الأرواح رتبة وأكملها هو ما كانت علومه ومعارفه أعلى
وأكمل، وإن أكمل المعارف والعلوم هو ما كان موضوعه أعلى وأكمل، وأثره أنفع
وأفضل، وإن ذلك هو معرفة الله تعالى الذي منه مبدأ كل هذه الوجودات وإليه
مرجعها إذ هو الحي القيوم بنفسه الذي حيي وقام به غيره؛ لأن قيام الأشياء وثبوتها
وحياة الحي منها لم يكن بالمصادفة والاتفاق، ولا يصح أن يكون علة لنفسه لئلا
يكون سابقًا عليها، ولا أن يكون سببه عدميًّا؛ لأن العدم لا يُتَصَوَّر فكيف يخلق
ويُصَوِّر؟ وَيَلي معرفة الله تعالى معرفة سننه في خلقه وشرائعه التي يصلح بها أمر
عباده في أرواحهم وأجسادهم، وهي ما يسمى العمل بها عملاً صالحًا؛ وإنما
صلاحه بكونه أنفع للناس وأفضل كما ثبت بالنظر والتجربة، ولهذا جعل تعالى
الفلاح وهو الفوز بسعادة الدنيا والآخرة مقرونًا بالإيمان، وهو معرفة الله تعالى
بالعمل الصالح الذي به تصلح النفوس والشؤون {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 1-2) الآيات.
إذا تسنَّى للإنسان أن يعرف بطول الزمان وتقلب الحدثان ما به تصلح شؤونه
الدنيوية في أفراده ومجموعه من غير أن يسترشد بالوحي الذي هو تعليم يفيض من
عين الكرم والفضل على بعض الأرواح العالية التي يُعدَّها الله لذلك فهل له من
سبيل إلى معرفة ما يصلح به الروح ليرتقي بذلك إلى حياة أعلى من هذه الحياة؟
فإنه يعتقد بأن العدم محال، وأن الارتقاء سنة من سنن الوجود، ثم إن كل فرد من
أفراده يوقن من ذلك بأن وجوده الحاضر سيبطل ويفنى، أفلا يتعين عليه إذن أن
يؤمن بنشأة أخرى وحياة ثانية كما أخبر النبيون والمرسلون {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) .
الحق أقول: إن الإنسان كان قريبًا من العجماوات، وإنه لم يصعد في مراقي
الوجود بهذا التدريج البطيء إلا بهداية أفراد خصهم البارئ الحكيم بالإلهام الصحيح
والوحي إليهم روحًا من أمره أقدرهم به على هداية الناس في كل طور بقدر
استعدادهم، وإن هؤلاء الأوربيين الذين يتوهمون هم ومقلدوهم المخدوعون بمدنيتهم
أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه من معرفة المصالح والمنافع في شؤون الحياة الدنيا
بأنفسهم، من غير استرشاد بشيء من الوحي قد كذبوا في وهمهم وضلوا في
حسبانهم؛ فإنهم ما وصلوا إلى ذلك إلا بعدما اقتبسوا من الدين أصوله ومبادئه
وكثيرًا من فروعه ومقاصده، واعتبروا بتاريخ الإنسان أيام لا هادي له إلا الدين،
وقد صرح بعض فلاسفتهم بأنهم أخذوا استقلال الفكر واستقلال الإرادة من الإسلام،
وهما أصل كل تقدم ونجاح، وكذلك الاعتبار بسنن الكون ونواميس الطبيعة
والاعتماد على ثباتها وعدم تغييرها ولا تحويلها فهو مأخوذ من القرآن، وإن لم
يهتد به كما يجب أهل القرآن، وقل مثل ذلك في الحكومة الشوروية، وجعل
الحكومة بمعرفة الأمة وتحت سلطتها فهذا أصل ارتقائهم السياسي، كما أن ما قبله
أصل ارتقائهم العلمي، وهو مأخوذ من الإسلام وإن لم يعمل به المسلمون حتى
صاروا حجة على دينهم، وعلى كل دين كما تقدم بيانه في المنار مرارًا.
إذا كان كل خير أصابه الإنسان في دنياه متصلاً نسبه بهداية الدين فهل
يستغني هذا الخلق الضعيف عن إرشاد الدين فيما يتعلق بحياته الأخرى، أليس له
في هذه الحياة حواس ومشاعر يستعين بها في شؤونها، وليس له مثل ذلك في إعداد
نفسه وتأهيلها لتلك؟ فتبصر يا من أغواه التفرنج في أمرك، واعلم أنه قد دلاك
بغرور، وقذفك في تَيْهُور واستعبدك للشهوات، وهبط بك إلى دركة الحيوانات،
ففسد بأسك، وضاع وطنك وجنسك فخسرت الدنيا والدين، وذلك هو الخسران
المبين.
أنت تشكو من سوء الحال وضياع الاستقلال واختلال الأعمال، وتلتمس لذلك
الأسباب وتطرق للخروج منه كل باب؛ ولكن الانغماس في الشهوات جعل على
عينيك غشاوة، وفي سمعك وقرًا، فأنت الآن لا تسمع ولا ترى، فإن استطعت أن
تكسر من سَوْرة هذه الشهوات وتفل من حدها وتتفلت من عُقُلها، وتنطلق من
قيودها، فتكون إنسانًا مستقلاً، فحيتئذ يسهل عليك أن تعرف كيف ذلت أمتك بعد
عزها وضاعت بلادها بعد منعتها، ويسهل عليك السعي في تلافي ذلك، ولا سبيل
لك إلى الخلاص من ذلك الرق والاستعباد إلا بالدين، فارجع إليه وأقم أركانه وشيِّد
بنيانه، وها أنت ذا في الشهر الذي شرعه الدين لتأديب الشهوات، والتغلب على
العادات وجعل النفس الأمارة بالسوء خادمة مأمورة، وملكة الرذائل والشرور أَمة
خاضعة مقهورة.
شرعتُ في الكتابة قاصدًا بيان فضل الصائمين، والنعي على المفطرين من
المسلمين الجغرافيين، ثم بدا لي أن المسلم لا يفطر في رمضان عامدًا متعمدًا إلا إذا
كان مرتابًا في أصل الدين، غير مؤمن باليوم الآخر، ولهذا أطلت فيه المقال
بالنسبة إلى هذا المقام، فمن كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر، مسلِّما بالدين، عالمًا أن
فيه الفلاح والسعادة، واسترجاع ما فقدنا من السلطان والسيادة، فليؤدب بالصوم
نفسه، ويكتسب به ملكة الحكم عليها، فبذلك يحفظها في الدنيا من أكثر الأمراض؛
لأنها تنشأ من الإفراط في الشهوات، ويتبع هذا حفظ العِرض والمال والاستعانة
على تربية الأولاد، ويحفظها في الآخرة بما يعطيه الصوم من النور الروحاني
بمراقبة الله تعالى وحبه، والرغبة في رضوانه وقربه، وبما في الصوم من تهذيب
النفس وتزكيتها وإعدادها بهذا الترقي المعنوي لنعيم ذلك العالم الأخروي، وقد بيَّنا
منافع الصوم الروحية والجسدية في مقالتين نشرتا في المجلد الثاني من المنار تحت
عنوان (الصيام والتمدن) فليراجعهما من شاء (ص 673 و 695) .
ومن كان في شك من دينه فعليه أن يطيل البحث والسؤال من غير مراء ولا
جدال، ولا يغرنه ترك أئمته الأوربيين للدين؛ فإن الدين الذي تركوه ليس دين
زمنهم، ولم يكونوا يعرفوه على وجهه الذي كان عليه المسيح عليه السلام؛ لأن
دين المسيح هو دين اليهود ما نسخ على لسانه إلا قليل من أحكامه، وزاد فيه بعض
حكم ونصائح، فكان ممهدًا بذلك للدين العام الذي كان أهم وظائفه البشارة به،
والذي قال عن صاحبه أنه روح الحق الذي يبين للناس كل شيء، ولا يغرنه أيضًا
سوء حال المسلمين المخذولين الفاسدي الأخلاق؛ فإنه ليس لهؤلاء من الإسلام إلا
الاسم، ولا حظ لهم من كتابه إلا التبرك بالتلاوة والرسم، فهم بعدم القيام بحقوق
القرآن كالذين قال الله تعالى فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) والمنار قد بيَّن بعدهم عن الإسلام في جميع أجزائه،
فنقم عليه بعضهم أنه يعيب المسلمين وعذره في ذلك أنه يعظم الإسلام ويمدحه
ويبين حقيقته، وهذا يتوقف على الإزراء بمن أهانوه بانتسابهم إليه، حتى نفَّروا
الناس منه.
في الإيمان سعادة الآخرة وسعادة الدنيا، فيا أيها الشاكون، ويا أيها الجاحدون
تعالوا أبين لكم الحق، وأكشف لكم الشبهات عن وجهه، لا تَهْلِكُوا وتُهْلِكُوا أمتكم
بالأسوة السيئة، اتقوا الله في أنفسكم، وفيمن تجرِّئونهم على هدم أركان الإسلام
وانتهاك حرماته، وخذوا بالاحتياط إن كنتم تعقلون.
__________(4/721)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السياسة والساسة
ما السياسة ومن الساسة؟ السياسة من جملة علوم، أستاذها الفلك الدائر الذي
حضر في حلقته الأولون والآخرون، واستفاد من نظامه العلماء والجاهلون؛ فإن
ارتباط المسببات بالأسباب ما عرف بادئ بدء إلا بتعريف هذا الأستاذ الأعظم،
وليست السياسة إلا البحث عن أحوال العالم المجتمع وأسباب تغيرها، واتخاذ كل
طائفة أسباب السمو على غيرها بحسب اعتبارها، وما الساسة إلا علماء هذه
الأسباب وخطباء هذه المعاهد.
قلت: الفلك الدائر، ولعلي أغربت وأبعدت؛ ولكن ليس كل إغراب محرمًا في
شرع البيان، بل أنا لم أغرب ولم أبتدع؛ ولكنني اتبعت المثل السائر الذي شاع
ضربه وتصريفه في ارتفاع قوم وسقوط آخرين، ألم تسمعوهم يقولون: فلك دوَّار
يعلي وينزل.
الفلك لا يعلي ولا ينزل؛ ولكنه كناية عن النواميس والطبائع التي هو أبوها
الأقدم، لا تسل ما هو هذا الفلك الدائر، ولكن سل ما هي هذه النواميس والطبائع؟
هذه النواميس هي الأحكام الثابتة للكائنات في بساطتها وتركيبها، هذه الطبائع
هي المزايا الراسخة للموجودات على ما هي، هذه هي التي إن ظهرت تمجد آثارها
وإن بطنت تسبح أسرارها، هذه التي تجلت للإنسان فصار وحيدًا بين أقرانه
الحيوانات، وسلطانًا على عوالم الأرض، وما الإنسان لولا انكشافها له إلا كبعض
هذه الحيوانات السوائم، بل ما الحيوان لولا انكشاف شيء يسير منها له إلا كهذا
النبات النامي.
قف عند هذه النواميس إن شئت، واصعد إن شئت بعقلك إلى بارئها جل
جلاله، أسند الآثار إليها إن شئت، وأسند إن شئت لبارئها تعالى كماله، قل مثلاً:
النار محرقة أو المحرق بارئ النار سبحانه، وقل المطر تنزله الأسباب، أو تنزله
الملائكة بإذن البارئ ما أعظم سلطانه، لا نناقشك في هذا لأنا رأيناك لا تمد يدك
إلى النار خشية من إحراقها، ووجدناك تتناول الأغذية والأشربة رجاء إشباعها
وإروائها، ولم نرك تأكل وتشرب العبارات فلا تناقشنا أنت على تعبيرنا، بل إن
كان قريبًا وجب حقه عليك، وإن كان غريبًا فالأمر في تركه إليك، وإن استصعب
عليك أخذ المقصود من هذه النبذة، فدعها لغيرك وخذ أنت غيرها:
السياسة علم أحوال الأمم، علم أحوال الأمة الواحدة، علم أحوال النفس.
ليست هذه ثلاثة علوم متغايرة، بل ثلاث درجات متلاصقة، يطلق هذا الاسم على
كل واحدة منها، هن ثلاث درجات لا يرسخ العالم في واحدة منها إلا أن يحيط
نظره بالباقيتين، ويصح أن يقف في واحدة منها إذا تمكن فيها قدمه، ويكون معينًا
لمن وقف في غيرها.
من هذه الدرجات الثلاث يكون رقي الأمم على أيدي علمائها إلى مناط
السعادات، ويكون جلي المآرب دانيًا لها، والذين عدموا علماء لهذه الدرجات
واقفون في الدون، راضون بالهون يشرف عليهم الأعلون إشراف الطائر ذي
الأجنحة على الدواب الزواحف، ومتى شاءوا التقفوها غذاء وزقوا بها أفراخهم.
هذه هي السياسة وستُسألون أيها القوم ماذا أعددتم منها أمام المناظرين،
وستُحاسبون وقد أُحصيت أحوالكم، واستُمعت أقوالكم، وشوهدت فعالكم هل لكم
مواقف في هذه المعارج؟ هل اقتطفتم شيئًا على هذه المراقي؟ هل ساوت مناكبكم
مناكب أهل المواكب؟
السلامة كجنة فيها غرفات، والسياسة كسياج فيه أبواب: منها باب التربية
والتعليم، ومنها باب معرفة طبائع الأقاليم، ومنها باب معرفة الزمان وأهله،
واختبار حلوه ومره، وحزنه وسهله، ومنها باب معرفة ما كان في غابر الأزمان،
ومنها باب تأليف القلوب وجمع القبائل والشعوب، ومنها باب الحذر من الخصوم
وقهرهم بالمدافعة أو بالهجوم، ومنها باب المداراة والمداجاة، ومنها باب التحرش
والمفاجأة، ومنها باب التفقه في الحكم وهو باب الأبواب ولب اللباب، فأنتم
مسؤولون أي الأبواب معكم مفتاحها، وأي الغرفات معكم مصباحها، هل أنتم داخل
الأبواب أم خارجها؟ هل أنتم ضربتم السياج عليكم وغلَّقتم الأبواب؟ أم ضربوه
دونكم وصدكم الحُجاب؟
يسألونك لمن السياسة اليوم؟ السياسة لمن علت همتهم فجابوا من الأرض
البحر والبر، وعرفوا من الناس الفاجر والبر، ومن الطبائع النفع والضر، ...
السياسة لمن نفذت عزيمتهم فرضخ لسلطانهم اليم، واستكان لبعض تدبيرهم الجو،
وناجتهم الأرض دالة إياهم على غوامض أسرارها، وخفايا كنوزها، وخافتهم
النفوس فسكنت لأحكامهم، وترجتهم العقول فتعلقت بمعارفهم، السياسة لمن
يعرفون أسباب القوة ويعلمون التصرف بالضعيف.
أنا لم أمدح قومًا معينين؛ ولكني عرفت أوصاف الذين بيدهم مقاليد السياسة
العظمى، فمن وجد ما يعارض به كلامي فليفعل.
وأنا لم أنفِ بهذا كل معرفة وخير عن قوم معينين؛ ولكني أبين ولا حرج
فأقول: إنا أيها المسلمون اعتدنا أن نستهزئ بالأسباب كثيرًا، وبهذا خسرنا ما
خسرنا.
فبيْنا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سُوقَة نَتَنَصَّفُ
أفليس من استهزائنا بالأسباب استهزاؤنا بالأفراد الذين يريدون إصلاحًا؟
وهل الذين نهضوا بالأمم الأخرى إلا أفراد أمثالهم؟ ومن ظن أن هنالك سببًا
لخسراننا غير استهزائنا بالأسباب فليقل، فأية سياسة لنا إذا كنا نستهزئ بالأسباب؟
هذا ما عندي والسلام على النظام العام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز
تتبعها مقالة
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/728)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
(1) قال صلى الله عليه وسلم: (من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم
أن فيهم أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله وجميع
المسلمين) [1] فهل أمراؤنا وعمالنا أعلمنا بالكتاب والسنة.
(2) وقال صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم
فيما أحب أو كره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع عليه ولا
طاعة) [2] ، أفلا يكفر أكثر المسلمين اليوم من يدعوهم إلى العمل بهذا الحديث المتفق
عليه.
(3) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله؛ إنما
الطاعة في المعروف) [3] .
(4) وقال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى سلطانًا بما يُسْخِط ربه خرج
من دين الله) [4] .
(5) (استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا لكم، فضعوا
سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم) [5] أليست هذه سيطرة فعَّالة للأمة
على الأمراء والحكام، فمن أين جاءت السلطة المطلقة في الإسلام؟
أليس ملوك المسلمين أولى بأن يعاهدوا الأمة عند المبايعة على تحكيمها في
دمائهم إذا خالفوا شريعتها من ملوك الإنكليز الذين يبيحون لمجلس الأمة دماءهم إذا
خالفوا قوانين البلاد وتقاليدها المتبعة؟ بلى لأن المسلمين ملزمين بالعمل بالشريعة
وتقييد السلطة للدين والدنيا معًا بخلاف أولئك.
(6) وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا هل سمعتم؟ سيكون بعدي
أمراء - في غير هذه الرواية هنا زيادة: يكذبون ويظلمون - فمن دخل عليهم
فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على
الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني
وأنا منه وهو وارد على الحوض) [6] .
(7) وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم
يحدِّثونكم فيكذِّبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا
قبيحهم، وتصدقوا كذبهم، فاعطوهم الحق ما رضوا به، فإذا تجاوزوا فمن قُتل
على ذلك فهو شهيد) [7] فانظروا كيف حكَّم الأمة بالأئمة والأمراء، وجعلها هي
المعطية وهي المانعة، وأمرها بالخروج عليهم إذا لم يرضوا بالحق، وعَدَّ المقتول
في هذا السبيل شهيدًا، فهل يقول أحد بعد أن نوع الحكومة في الإسلام غير
معروف؟ ألا يجب تربية الأمة على الاستقلال لتقيم به هذه الركن.
***
آثار السلف عبرة للخلف
الخطبة الأولى للخليفة الأول رضي الله عنه
لما بويع أبو بكر - رضي الله عنه - صعد المنبر فنزل مرقاة من مقعد النبي
صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد أيها الناس فقد وليت
عليكم ولست بخيركم لوددت أن قد كفاني هذا الأمرَ أحدُكم.
اعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس التُّقى، وأن أحمق الحمق الفجور، إلا أن
الصدق عندي الأمانة، والكذب الخيانة، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له
بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه؛ إنما أنا متبع ولست بمبتدع
فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، ولا
يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالفقر، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا عمُّهم الله
بالبلاء، فأطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وفي رواية: قوموا إلى صلاتكم [8] ) .
قوله رضي الله عنه (وإن زغت فقوِّموني) قد اقتدى به عمر بن الخطاب
رضي الله عنه من بعده في عبارته المشهورة (من رأى منكم في عوجًا فليقوِّمه)
وعثمان رضي الله عنه في قوله (أمري لأمركم تبع) وقد روي عنهم مثل هذا كثيرًا
وكان يوعظون قولاً وكتابة فيحمدون من يعظهم ويأمرهم بالخير، على هذا بُنيت
الخلافة الإسلامية، فهدم ركنها بنو أمية وحاولوا جعل السلطة مطلقة أو استبدادية،
وساعدهم مَن بعدهم على ذلك بالتدريج، وساعد الملوك بعض الفقهاء فجعل لهم من
السلطة والتصرف المطلق ما لم يجعله لهم الدين، وكان أول من جاهر بالمنع من
نصيحة الملك أو الخليفة جهرًا عبد الملك بن مروان فقد قال على المنبر: (من قال
لي اتق الله ضربت عنقه) فضعف بهذا أمر الشورى، وبطلت سيطرة الأمة على
أمرائها فاستبدوا وجعلوا بأس الأمة بينها شديدًا، وحارب بعضهم بعضًا لأجل
الفتوح والغلب وإزالة سلطة وإدالة أخرى منها حتى حَلَّ بالمسلمين ما هم فيه من
البلاء المبين.
***
الخطبة الأولى للخليفة الثاني رضي الله عنه
عن سعيد بن المسيب قال: لما وُلِّي عمر بن الخطاب خطب الناس على منبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس إني
علمت أنكم كنتم تؤنسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكنت عبده [9] وخادمه، وكان كما قال الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ} (التوبة: 128) ، فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني أو
ينهاني عن أمر فأكف، وإلا أقدمت على الناس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله على
ذلك وأنا به أسعد، ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان كما قد علمتم في كرمه ودَعَته ولينه، فكنت خادمه كالسيف بين يديه أخلط
شدتي بلينه إلا أن يتقدم إلي فأكف وإلا أقدمت، فلم أزل على ذلك حتى توفاه الله وهو
عني راضٍ والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد.
ثم صار أمركم إليّ اليوم وأنا أعلم، فسيقول قائل كان يشتد علينا والأمر إلى
غيره، فكيف به إذا صار إليه، واعلموا أنكم لا تسألون عني أحدًا فقد عرفتموني
وجربتموني وعرفتم من سنة نبيكم ما عرفت، وما أصبحت نادمًا على شيء أكون
أحب أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه إلا وقد سألته، فاعلموا أن شدتي
التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافًا إذا صار الأمر إليّ على الظالم والمعتدي،
والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدي بالأرض
لأهل العفاف والكف منكم والتسليم، وإني لا آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء
من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر بيني وبينه أحد منكم،
فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم. ثم
نزل) [10] .
وعن الحسن قال: إن أول خطبة خطبها عمر حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أما بعد فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبي فمن كان بحضرتنا
باشرناه بأنفسنا، ومهما غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة فمن يحسن نزده حسنًا،
ومن يسئ نعاقبه، ويغفر الله لنا ولكم) [11] .
فانظر كيف وطَّن نفسه على قبول تحكيم من يريدون منهم إذا كان لأحد عليه
حق، وكيف وطنها على قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وفق الله
أمراءنا وحكامنا للاهتداء بهديهم والسير على سنتهم؛ فإن الدين يعتز بالخلف كما
اعتز بالسلف، ونكون من المفلحين، وظاهر أن هذين الخليفتين العادلين ما سارا
هذه السيرة من أنفسهما؛ وإنما تعلماها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة
ذلك الأحاديث السابقة ومثلها كثير.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس.
(2) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر.
(3) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن علي.
(4) الطبراني والحاكم عن عبادة بن الصامت.
(5) رواه الإمام أحمد عن ثوبان.
(6) رواه الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان عن كعب بن عجرة ورواه غيرهم عنه وعن غيره.
(7) رواه الطبراني عن أبي سلالة وله طرق أخرى.
(8) ملخص من رواية البيهقي عن الحسن وابن إسحاق عن أنس بإسناد قال ابن كثير إنه صحيح، والدينوري عن عبد الله بن عكيم، وفي بعض ألفاظها اختلاف.
(9) وقع في هذه الرواية لفظ (عبد) وهو لم يُعهد منهم، وإن كان مفسرًا بالخادم، فعله حُكي بالمعنى.
(10) رواه أبو حسين بن بشران في فوائده، وأبو أحمد الدهقان في الثاني من حديثه، والحاكم واللالكائي.
(11) رواه ابن سعد والبيهقي، ولعل كل راوٍ ذكر من الخطية شيئًا مما حفظه بمناسبة اقتضت ذلك.(4/732)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الدرس (31)
في شبهات على وظائف الرسل وأجوبتها
المسألة (76) شبهة على الوظيفة الثالثة:
يقولون: إن الأديان السماوية الثلاثة لم تتفق أيضًا في أمر الآخرة، فبعضها
يجعلها روحانية محضة، وبعضها يجعلها للناس إنسانية يتمتع فيها الناس بلذات
الروح والجسد جميعًا، وبعضها ينكر الزواج فيها ويخالفه الدين الآخر، فيقول إن
فيها أزواجًا مطهرة عما يُعهد من النساء في الدنيا، وبعضها يقول: إن الحساب على
الأعمال يكون في الدنيا، وبعضها يقول: إن ذلك يكون في الآخرة بعد الموت.
والجواب عن هذه الشبهة يُعلم من تقرير هذه الوظيفة، ومن الجواب عن
الشبهة الأولى، ومن مقدمة الدرس (30) وهو تحكيم القرآن المنقول بالتواتر
الصحيح كل كلمة من كلماته، وكل حرف من حروفه، وجعله هو الأصل وتأويل
ما يخالفه إذا أمكن، والحكم بعدم صحة روايته إذا لم يمكن، فإذا فرضنا صحة ما
نُقل عن السيد المسيح عليه السلام من قوله عن أهل الملكوت لا يزوجون ولا
يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله، فالمجال في تأويله واسع من حيث إن كلام
المسيح كان أمثالاً وألغازًا، وهذه الأناجيل التي تحكي شيئًا من تاريخه وكلامه تدلنا
على أنه كان يقول القول فلا يفهمه تلامذته، فإذا أخذوه على ظاهره يسمعون بعدُ ما
يخالف ذلك الظاهر، فيتبين لهم خطأ فهمهم، وفي العهد الجديد دلائل كثيرة على أن
الدعاة الأول الذين يسمونهم الرسل كانوا يُظْهِرُون للضعفاء خلاف ما عليه الأمر في
نفسه بحسب العلم، ومنه تصريح بولس في (8 كور) بأن العلم يقتضي عدم
ضرر أكل ما ذُبح للأوثان، وأن هذا الأكل لا يبعد عن الله وعدمه لا يقرب منه؛
ولكن الأكل يعثر الضعفاء، أي يوقعهم في عبادة الأوثان، وذكر في الباب (9)
الذي بعده أنه صار لليهود كيهودي ليربح اليهود ويجذبهم إلى اعتقاده، فالكتب التي
بنيت على هذا الأساس لا يصح أن يؤخذ كل شيء فيها على ظاهره، وإن فرضنا
أنه نُقل عن أصحابها بنصه، على أنه لم يُنقل إلا بالمعنى، وبعض الأناجيل لا تعرف
اللغة التي كُتبت بها يقينًا، وهل يصعب على أهل هذا الكتاب الذين أوَّلوا قول المسيح
أنه ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام بأنه يموت ويعود بعد ثلاث أن يؤولوا قوله (لا
يتزوجون؟)
لتأويل هذا النفي وجوه منها تعيين المراد بلفظ الملكوت، فقد ورد هذا اللفظ
في أمثال كثيرة للسيد المسيح عليه السلام، وأشهرها عند النصارى يوم مجيئه
ومحاسبة الناس يوم الدينونة، ويقولون إنه يكون في الدنيا قبل فناء عالمها كما تقدم
في الشبهة، وقد أخذوا هذا من ظواهر الأقوال، وإن لم تصح كلها، فقد روى متى
أنه قال بعدما ذكر آيات مجيئه (الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا
كله) وهو تصريح بأن الملكوت يأتي قبل انقضاء ذلك الجيل، ولم يبهم عليهم إلا
اليوم والساعة، وقال إنه لا يعلم بهما أحد إلا الله وحده، ثم ضرب لهم مثلاً لذلك
أيام نوح والطوفان، قال (لأنه كما كان الناس في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون
ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء
الطوفان وأخذ الجميع كذلك يكون مجيء ابن الإنسان) فالظاهر أن المسيح أراد أن
يخوِّف الرجل اليهودي الذي سأله عن المرأة التي تزوجت باثنين لأيهما تكون في
الملكوت، ويبين له أن ذلك يوم عظيم ينقطع فيه الزواج، وأنه يجب الاستعداد له
ولم يخبره بما يكون بعده من النعيم لئلا يتمادى في الغرور، ومن أكبر النعيم أن
يكون للإنسان زوج يسكن إليها، وذلك أولى من شرب الخمر الذي صرَّح بإثباته
في قوله بعد أن أخذ الكأس وشكر وأعطاهم وأمرهم بالشرب (وأقول لكم إني من
الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في
ملكوت أبي) والحاصل أن للملكوت مبدأ وهو يوم الحساب، وهو الذي لا أكل فيه
ولا شرب ولا زواج وله غاية، وهي كما في آخر (25متى) عن المسيح
(فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية) وفي ذلك اليوم يشرب
الخمر مع تلامذته، وكل ما يناسب الخمر من اللذات الجسدية فحكمه حكم الخمر،
وقد ورد في القرآن العزيز أحكام عن ذلك اليوم متناقضة في الظاهر متوافقة في
الحقيقة؛ لأن بعضها محمول على وقت الحساب كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92-93) وبعضها محمول على وقت
آخر كقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} (الرحمن: 39)
وللجمع بين الآيتين وجه آخر.
ومن وجوه تأويل نفي الزواج في الآخرة على تقدير صحة نقله أنه ليس كما
يكون في الدنيا؛ لأن الحياة الآخرة طور أعلى من هذه الحياة، فتشبيهها بها في
القرآن يشبه أن يكون تمثيلاً وتقريبًا لها من بعض العقول الضعيفة قال تعالى في
رزق الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} (البقرة: 25) وقال
عز وجل: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة: 17) وفي
الحديث: (إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)
وقال بعض علمائنا إن كل ما ورد في أمر الآخرة فهو من المتشابهات التي لا يعلم
تأويلها إلا الله تعالى.
م (77) شبهة على الوظيفة الرابعة:
ويقولون: إن وظيفة تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس مما يجب أن تتفق فيه
الأديان الإلهية، ولا نرى فيه بين المسيحية والإسلامية إلا الخلاف فكل من كتب
عن المسيح أثبت أنه كان يأمر بترك الدنيا والإعراض عنها بالمرة، مع أن القرآن
يُعِدُّ الاستخلاف والسيادة في الأرض أثرًا من آثار الإيمان والعمل الصالح، وأثبتوا
أيضًا أن المسيح كان يأمر بإذلال النفس وإهانتها، والقرآن يُعِدُّ عزة النفس من
صفات المؤمنين أو من خصائصهم، وأثبتوا أيضًا أن المسيح كان يقول إن الغني لا
يدخل ملكوت السموات، والإسلام يفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، كما
رجحه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم وغيره، ومثل هذا الخلاف كثير.
والجواب عن هذه الشبهة أن نقول إن مجموع تلك النقول الورادة في المعاني
التي ذُكر فيها الخلاف تُثْبِت في الجملة أن السيد المسيح عليه السلام كان يأمر
بالمغالبة في الزهد والتواضع، وربما جاء في بعض العبارات المنقولة عنه بالمعنى
ما لم يقله، فيخرج بذلك الكلام إلى الذي لا يرضاه، والحكمة في تلك المبالغة أن
اليهود الذين بعث فيهم والرومانيين السائدين عليهم كانوا قد غلوا في حب الدنيا،
والانغماس في شهواتها، والتهتك في لذاتها غلوًّا كثيرًا، وتناهوا في الكبرياء
والعنجهية وعتوا عتوًّا كبيرًا، والقاعدة الحكيمة أن من يدعو المتغالى في شيء إلى
الاعتدال فيه يبالغ في ضد ذلك الشيء، فكان بهذا ممهدًا لدين الإسلام الذي وضع
قواعد الاعتدال من أول الأمر؛ لأن العالم الإنساني في مجموعه كان قد استعد لذلك
في الجملة، ولا شك أن دين الله تعالى واحد ومقصد الأنبياء الدعاة إليه واحد، فإذا
أردنا أن نفرق بينهم ونقول هذا دين مستقل ليس مبنيًّا على سابقه ولا يتصل به
لاحقه، فهناك الجناية على الجميع، وإذا جعلنا المسيح مصدقًا لما بين يديه من
التوراة، ومبينًا لليهود بعض الذي يختلفون فيه بسبب التمسك بالظواهر والمحافظة
على الرسوم والتقاليد، وجعلنا محمدًا مصدقًا لموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام،
ومبينًا للناس كافة حقيقة دين الله تعالى في كل زمان بفضل زيادة وبيان استعد
لهما بالارتقاء نوع الإنسان، فتلك هي الخدمة الصحيحة للدين {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285)
{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) .
م (78) شبهة على الوظيفة الخامسة:
ويقولون: إن القوانين الوضعية هي أحسن وأصلح من الشرائع التي تنسب
إلى الديانات السماوية؛ فإن أحكام التوراة لا تصلح لأن تحكم بها الأمم المرتقية في
مراتب المدنية، والشريعة الإسلامية كذلك، ولولاه لم يتركها الملوك والأمراء
المسلمون، ويستبدلوا بها القوانين الأوربية في غير ما يتعلق بالدين والاعتقاد إلا
الأمراء الذين لا يزالون في طور البداوة أو الهمجية كبلاد مراكش فإنهم يحكمون
فيها بالشريعة الإسلامية، وهم بذلك أبعد عن العدالة وحفظ الحقوق من أهل مصر
الذين يحكمون بالقانون، وإن المسلمين في مصر يشكون من المحاكم الشرعية ما لا
يشكون من المحاكم الأهلية النظامية.
والجواب عن هذه الشبهة ظاهر لمن عرف دين الإسلام، وما اشتملت عليه
شريعته من العدالة والقسط، وما عليه أكثر القائمون عليها من الفساد والجهالة
والظلم والغواية، وأما الشريعة اليهودية فإنما كانت لشعب خاص إلى زمن محدود،
ثم نُسخت فلا يحتج بعدم صلاحيتها الآن.
الشريعة الإسلامية ترجع أحكامها كلها إلى حفظ خمسة أشياء يسمونها الكليات
الخمس، وهي حفظ الدين الذي يهذِّب الأخلاق ويزكي النفوس، وحفظ الدم،
وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهذه الأركان مبنية فيها على أساس
العدل والمساواة بين المحكومين بها، من غير تفرقة بين من يدين الله بها ومن يدينه
بسواها، قال تعالى في شأن اليهود: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقال عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي لا يحملنكم بغض
بعض الناس على عدم العدل، بل اعدلوا في العدو والصديق والقريب والبعيد،
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ
أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن
تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135)
وسيرة الخلفاء الراشدين شاهدة بأنهم أعدل من حكم في الدنيا، ولم يكن لهم علم إلا
ما جاءهم به الدين؛ لأنهم كانوا من قبله أميين.
ثم أحدث المسلمون لعلم الشريعة اصطلاحات وألفوا فيها المصنفات كما هو
الشأن في كل العلوم المدونة، واشترطوا في القضاة أن يكونوا مجتهدين ليستنبطوا
الأحكام الجزئية حافظة للعدل والمساواة في تلك الأمور الكلية؛ ولكن أكثر المسلمين
أبوا بعد ذلك إلا أن يقولوا: إن الاجتهاد قد أغلق بابه، وأسدل حجابه، وإن الأحكام
إنما تؤخذ من عبارات المؤلفين المتقدمين وألفاظهم فما وافقها فهو العدل، وما خالفها
فهو الظلم والجهل، ثم تلاعبت بالكثيرين منهم الأهواء، واستبداد السلاطين
والأمراء، وكان من ذلك ما كان، وهو ما نشاهد أثره الآن، وهذا الذي قلته لا
يخفى على بصير عرف التاريخ؛ فإن اللورد كرومر وكيل إنكلترا السياسي في
مصر، قال يوم مشكلة المحاكم الشرعية وعزم الحكومة المصرية على ندب بعض
القضاة الأهليين لإصلاح محكمة مصر الشرعية الكبرى ما معناه: إنني لا أصدق
أن فقد العدل من المحاكم الشرعية الذي أنطق ألسنة الناس بالشكوى هو من الشريعة
الإسلامية؛ فإن شريعة قامت بها دول واهتدت بها أمم، ووجد من أهلها العلماء
والفلاسفة لا تكون إلا عادلة؛ وإنما منشأ هذا الخلل التقاليد الإكليركية (أي تقاليد
رجال الدين) وحسبك بهذه الشهادة من هذا السياسي الكبير.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/737)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
النبذة العاشرة - كتب العهدين أيضًا
بيَّنا في النبذة التاسعة التي نُشرت في الجزء (17) ما قاله الفاضل صاحب
كتاب الأبحاث في إثبات كتب العهدين من طريق العقل، وفنَّدنا قوله تفنيدًا، ونذكر
ههنا أنه بعد ما ذكر حاول الاحتجاج على استحالة تغيير التوراة والإنجيل، فكانت
حجته الداحضة على ذلك أن الديانتين اليهودية والمسيحية كانتا منتشرتين في الشرق
والغرب (وكان الكتاب لا سيما الإنجيل مترجمًا إلى كل لغات الأقوام التي دخل
بينهم كالعربية والأرمنية والحبشية والقبطية واللاتينية من اللغتين اليونانية
والعبرانية الأصليتين (قال) فكيف يُعقل أن هؤلاء الألوف يجتمعون ويتفقون
على تغييره مع اختلافهم في اللغة والعقيدة، سيما أن المسيحيين كانوا شيعًا كل
واحدة تناظر الأخرى، ولا شك أن قول المسلمين بتغيير الكتاب هو دعوى بدون
دليل، وإلا فليخبرونا أين الآيات المتغيرة، وما هي وما أصلها وما الغاية من
تغييرها، فإن عجزوا - ولا مراء أنهم عاجزون - قل لهم كيف جاز لكم هذا الادعاء
والعالم الحكيم لا يقدم على أمر إلا ولديه ما يثبت مدعاه) اهـ.
والجواب عن هذه المغالطة سهل على الناظر في كتب العهدين التي يسمون
مجموعها التوراة والإنجيل، وفي كتب تواريخ الكنيسة والتاريخ العام، وأما المسلم
الذي لم يطلع على ذلك فيكفيه أن يقول: إن كل ما خالف القرآن فهو ليس من التوراة
ولا من الإنجيل؛ لأن القرآن ثابت بالبرهان القطعي ومنقول بالتواتر حفظًا وكتابة،
وتلك الكتب ليست كذلك، ووحي الله لا يخالف بعضه بعضًا إلا ما كان من قبيل
الأحكام المنسوخة، فلا بد من ترجيح القرآن عند التعارض فيما دون ذلك؛ لأنه هو
الثابت القطعي كما اعترف بذلك كثيرون من علماء النصرانية، فقد جاء في كتاب
(السيوف البتارة، في مذهب خريستفورس جباره) لمحمد أفندي حبيب الذي كان
تنصر، ثم رجع إلى الإسلام بعد ما اختبر غيره: (إن المستر ستوبارت رئيس
مدرسة لامارتينيبار في لكنؤ بالهند الإنكليزية صرَّح في كتابه المسمى (الإسلام
ومؤسسه) صحيفة 87 بما يأتي بالحرف الواحد: (عندنا براهين قوية عديدة
للتصديق بأن القرآن الموجود الآن هو عين ألفاظ النبي محمد الأصلية كما لقَّنَ
وأملى بمراقبته وتعليمه) وبهذا قال موير المعدود في الوقت الحاضر أمهر وأحذق
وأكبر عدو للإسلام) إلى آخر ما استشهد به.
أما التغيير والتبديل والتحريف في كتب العهدين، فالمسلمون لا يقولون إن
هذه الكتب كلها سماوية منقولة عن الأنبياء نقلاً صحيحًا، وإن اليهود والنصارى
غيَّروها بعدما انتشروا في الشرق والغرب، ونقلها كل قوم دخلوا في اليهودية أو
النصرانية إلى لغتهم؛ وإنما البحث في أصلها وكاتبيها في أول الأمر، ومن تلقاها
عنهم قبل ذلك الانتشار العظيم، وهذا هو الأمر المُشْكِل، والداء المعضل، الذي لا
يجد أهل الكتاب له دواء ولا علاجًا، من كتب الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى
عليه السلام. يقولون: إن موسى كتبها وأودعها ما كلَّمه به الرب، فكانت تاريخًا له
ولشريعته الإلهية، كيف يصح هذا الجواب وهذه الكتب تتكلم عن موسى بضمير
الغيبة، وفي آخر فصل منها ذكر موته ودفنه؟ يزعم بعضهم أن هذا الفصل كتبه
يشوع، وأنى يصح هذا وفي الفصل الحكاية عن يشوع، وأنه امتلأ روحًا وحكمة،
فسمع له كل بني إسرائيل، فهذه حكاية عنه من غيره، ثم كيف يدلس يشوع ويلحق
بكتاب موسى ما ليس منه من غير أن ينسبه إلى نفسه، ولعلهم استدلوا على ذلك
بأن يشوع قد ابتدئ بواو العطف فإن أول عبارة فيه هي: (وكان بعد موت موسى
عبد الرب) ... إلخ، وهناك دليل على أن الفصل الأخير ليس ليشوع أقوى من
الحكاية عنه ومن تبرئته من التدليس، وهو أن الفصل المذكور بعد حكاية دفن
موسى هذه الجملة (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم) فهي تدل على أن الجملة
كتبت بعد موسى بزمن طويل، ولو كانت ليشوع لم تكن كذلك، وحسبنا أنهم من
ذلك في شك مريب فكيف يوثق بهذا الكتاب ويقال إنه متواتر وعمَّن التواتر
والأصل مشكوك فيه.
في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ما نصه: (24 فعندما
كمَّل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي
تابوب عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد
الرب إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم 27 لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.
هوذا وأنا بعدُ حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي 28
اجمعوا إليَّ كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد
عليهم السماء والأرض 29 لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن
الطريق الذي أوصيتكم به) ... إلخ.
فهذه هي التوراة التي كتبها موسى على حدة في كتاب مخصوص هي كلام الله
الذي صدَّقه القرآن فأين هي، ماذا فعل بها أولئك الذين قال فيهم موسى إنهم
يفسدون بعده ويزيغون عن طريق الحق الذي هو التوراة، وماذا أصاب التوراة من
فسادهم وزيغهم وغلظ رقابهم؟ التوراة معناها الشريعة، وهذه الأسفار الخمسة
كتب تاريخية يوجد فيها من أحكام تلك الشريعة مثلما يوجد في كتب السيرة النبوية
عند المسلمين من آيات القرآن وأحكامه، وليست السيرة هي القرآن والشرع
الإسلامي، وكما يوجد في السيرة النبوية مع التحري في روايتها ما يصح وما لا
يصح فأجدر بتاريخ موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أن يوجد فيها ما يصح
وما لا يصح، وهي لم يتحر فيها كاتبها بعض تحري رواة المسلمين لسيرة نبيهم،
بل قدمنا أن كاتبي تلك التواريخ مجهولون.
اعترف صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة
المسيحية) استظهارًا بأن نسخة موسى (رُفعت من مكانها مرة ووقعت في خطر لما
غلبت عبادة الأصنام في ملك منسا وأمون وانقطعت عبادة الله الحقيقية بين
الإسرائيليين، وفي تلك المدة طرحت بين الرثث [1] حيث وجدت في ملك يوسيا
الصالح، ثم قال: (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى
الآن، ولا نعلم ماذا كان من أمرها، والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما خرَّب
بختنصر الهيكل، وربما ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن الكتب
المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ متفرقة من الكتب
المقدسة وأصلح غلطها؛ وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية)
فهل ينخدع المطَّلع على هذه الأقوال وأمثالها بقول صاحب كتاب (الأبحاث)
إن الكتاب كان محفوظًا بين الألوف بلغات كثيرة؟ هؤلاء علماء اللاهوت في
مذهبه يعترفون أن اليهود فُقدت منهم عبادة الله بعدما تغلبت عبادة الأصنام، وأن
نسخة التوراة الوحيدة فُقدت، ويعترفون أن اليهود يُقرُّون بأن جميع كتبهم فُقدت
لأنها كانت في الهيكل، وقد خربه الوثنيون وقد أخذوا الكتب، وأتلفوها، فلم يبق
لهم مستند لأصل دينهم إلا زعم يوسيفوس بأن كل سبط من أسباط بني إسرائيل كان
عنده نسخ من التوراة؛ ولكن أين هذه النسخ إن صح قوله - وهو رواية واحد بما
يؤيد دينه - فتلك هي النسخ التي أتلفها بختنصر، فيبقى معنا شيء واحد وهو
ادعاء أن عزرا الكاتب كتب جميع كتب اليهود كما كانت، بل صحح غلطها الأول
وكتبها أحسن مما كانت، وههنا يسأل المسلمون عن الدليل على ذلك، وعن سبب
وقوع الغلط في النسخ حتى احتاجت إلى إصلاح عزرا، وعن نسخة التوراة التي
هي شريعة مستقلة كما كتبها موسى، وعن السند المتصل المتواتر إلى عزرا بذلك؟
ثم إنهم يقولون: إذا جاز أن يُصحح عزرا الكاهن خطأ الكتب المقدسة فلم لا يجوز
ذلك لمحمد رسول الله وخاتم النبيين؟ اللهم إن الغرض مرض في القلب يحول بينه
وبين قبول الحق، فألهم اللهم هؤلاء الناس بأن يطلبوا الحق بصدق وإخلاص
وافصل بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاصلين.
هل جاء في كتبهم المقدسة أن عزرا كتب التوراة وسائر الكتب المقدسة كما
كانت؟ كلا إنه جاء في الفصل السابع من سفر عزرا أنه في ملك أرتحشستا ملك
فارس صعد عزرا (وذكر نسبه إلى هارون، وهو يدلي إليه بخمسة عشر أبًا) هذا
من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأنه
جاء إلى أورشليم في الشهر الخامس من السنة السابعة لأرتحشستا الملك، قال
10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة
وقضاء 11 وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشستا إلى عزرا الكاهن
كاتب وصايا الرب وفرائضه على اسرئيل 12 من أرتحشستا ملك الملوك إلى عزرا
الكاهن كاتب شريعة إله السماء) إلى آخره.
هذا هو دليلهم من كتابهم المقدس على أن عزرا كتب التوراة والكتب المقدسة
بالإلهام بعد فقدها، وهو كما ترى لا يدل على ذلك، بل قصارى ما يعطيه أنه كان
من كتبة الدين أو الشرع كما نقول أن فلانًا الصحابي كاتب الوحي، فلو فرضنا أن
القرآن فُقد من المسلمين، وأنه لم يحفظ في الصدور، ثم ادَّعينا أن معاوية كتبه
بالإلهام؛ لأنه وُصف في بعض كتب التاريخ الدينية بأنه كاتب الوحي، فهل يقبل
منا أهل الكتاب هذا الدليل.
ثم إن الملك أرتحشستا الذي شهد لعزرا هذه الشهادة التي لا نعرف سببها أمره
مبهم في التاريخ لا ينطبق على روايات العهد العتيق المضطربة في سفر نحميا،
وسفر عزرا فلا يعرف أهو أرتحشستا الأول الذي هو أزدشير الملقب عند الفرس
بزرادشت أم هو أرتحشستا الثاني فإن ذكر عزرا له بعد داريوس يدل على أنه
الأول، والتاريخ ينقض هذا. ولا نطيل في بيان الاضطراب فليرجع إليه من شاء
في كتب التاريخ، وفي دائرة المعارف ملخص منه، وهذا الاضطراب يُبطل الثقة
بالرواية، والمسلمون لا يقبلون خبرًا عن نبيهم رووه بالإسناد المتصل القريب، إذا
كان فيه مثل هذا الاضطراب العجيب.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الرثث: جمع رثة بالكسر، وهي سقط المتاع والخلقان، كالخرق البالية وغيرها مما يلقى في أسوأ مكان ولا يلتفت إليه.(4/743)
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
__________
آثار علمية أدبية
(استنهاض همم)
قصيدة أنشدت في الاحتفال الثامن لجمعية ندوة العلماء الهندية المخصوصة
بعلماء الدين من نظم صديقنا الأستاذ الفاضل الأديب أحمد الجيتكير، قال بعد أبيات
في حمد الله والصلاة والسلام على نبيه:
وبعد يا معشر الإسلام مالكمو ... لا تشعرون وإن الخطب قد عظما
عفَّى ديارَ علوم الدين قاطبة ... نسج الدبور وأرياح جرت نقما [1]
يا للمدارس أضحت وهي دارسة ... يا للمكاتب تبكي العلم والعلما
أما سمعتم بكاها وهي صارخة ... صراخ ثكلى على مولودها اخْتُرِما
هذي المشاعر ضيم الدهر عطَّلها ... ورُدَّ واردها غيظًا فما كظما
هذي الشعائر لم تبقِ الصروف لها ... مقدار عشر العشير الوزن والقيما
وارحمتاه لأرض الدين ينقصها ... ريب المنون ممدًا سيلها العرما
وارحمتاه لدين فلَّ عصبته ... من كل حام حماه راسخ قدما
وارحمتاه لدين لات عدته ... فمد بالنهب أيدي غصبها الخُصما [2]
وارحمتاه لدين قال نادبه ... واللرجال وواسيفاه واقَلَما
يا للبقية صونوا الدين تنتصروا ... يصونكم ويرد المجد والحشما
إني محذركم من وقع واقعة ... يُمسي الوليد لديها هيبة هرما
ألا خذوا حذركم في كل آونة ... فما اتقى النار إلا كيِّسٌ حزما
ووثقوا عروة الإسلام أوهنها ... تفرق فيكم قد حل مخترما
هذي اختلافاتكم كم سخَّفت بكمو ... وسفَّهت عرب الإسلام والعجما
أليس أكمل هذا الدين ربكمو ... أما أتم عليكم فضله النعما
ياليت شعري ففيما ذا اختصامكو ... وما الذي بعده ترضونه حكما
كم ذا التنازع ريح العز أذهبها ... كم ذا التشاجر ويحًا أثمر الندما
كم ذي الفتاوى وكم تكفير إخوتكم ... كم ذا التشاتم واذُلاه واندما
هذا الذي فتَّر الإسلام نهضته ... هذا الذي قصَّر الإعزام والهمما
هذا الذي حيَّر الأحرار ترقية ... هذا الذي غيَّر الأخلاق والشيما
الله الله كونوا أصدقاء كما ... كانت معاشرة أسلافنا القدما
الله الله إن كنتم لهم خلفًا ... فتابعوهم مع الإحسان لا جرما
وثقفوا أود الأحداث تربية ... حتى تقوم بهم سوق الكمال نُما
ضيعتموهم إذ الأقوام غيركمو ... حازوا الفنون وفاقوا في النهى حكما
إلام هيهات عنهم تغفلون وكم ... لا ترقبون لهم إلا ولا ذمما
غدًا سيسأل كل عن رعيته ... فما جوابكم يا معشر العلما
هذا بلاغ فيا قوم اسمعوه وعوا ... ويرحم الله من أوعاه معتزما
ثم السلام على من لاذ متبعًا ... هدي النبي بحبل الله معتصما
***
(القمر)
زهته الملاحة حتى سفر ... وخلَّى الدلال لذات الخفر
وبات يسامر أهل الهوى ... وقد طاب للعاشقين السمر
يحدثنا عن بني (عذرة) ... ويروي لنا عن (جميل) خبر
و (ليلى) وعن حب مجنونها ... وعمن وفى للهوى أو غدر
ويذكرنا فعلات الردى ... بأهل البوادي وأهل الحضر
كحظ السعيد إذا ما ارتقى ... وحط الشقي إذا ما انحدر
أرى كل شيء له آية ... وآية هذي الليالي العبر
فياقمر الأفق ماذا الزما ... ن جيل تجلى وجيل غبر
ويوم يمر ويوم يكر ... فإنا نُساء وإنا نُسر
بربك هل هذه الباقيات ... تقص من الغانيات الأثر
وهل في فؤاد الدجى لوعة ... فإن غاب عنه سناك اعتكر
كغانية فارقت صبها ... فأرخت عليها حداد الشعر
إذا ما سهرنا لما نابنا ... فما للنجوم وما للسهر
أترثي لمن بات تحت الدجى ... يقلب جنبيه حرُّ الضجر
على لوعة يصطلي نارها ... وجمر الهوى في حشاه استعر
وقد بسط البدر فوق الربى ... بساطًا فقام عليه الزهر
إلى أن طوته يمين الصبا ... وقد بللته عيون السحر
وباح الصباح بأسراره ... فحجبت الشمس وجه القمر
... ... ... ... ... ... ... (مصطفى صادق الرافعي)
__________
(1) عفت الريح المنزل: درسته ومحته، والتشديد للمبالغة.
(2) لات زيدًا حقه يلوته والاته: نقصه إياه [لا يلتكم من أعمالكم شيئًا] ولاته عن وجهه: صرفه وحبسه عنه.(4/749)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نساء المسلمين [1]
ملخص محاورات بين الكاتبة الفاضلة فاطمة علية هانم كريمة العلامة جودت
باشا أحد وزراء الدولة العلية رحمه الله تعالى، وبين بعض نساء الإفرنج
السائحات.
ابتدأت الكاتبة هذه المحاورات بمقدمة في الطور الجديد الذي دخل فيه العالم
من الاجتماع وسهولة المواصلات والعناية بالسياحة، وذكرت أن السائحين من
الإفرنج يعنون بمعرفة أحوال المسلمين، كما هو شأنهم في العناية بكل شيء، وأنها
علمت من محاورات نساء الإفرنج ومما كتبوه من قصص السياحات أنهم يُخطِئون
ويَهمون كثيرًا في اعتقادهم في نساء المسلمين وبيوتهم، وأن السبب في ذلك عدم
إمكان اجتماع السائحين بالنساء المسلمات، وكون السائحات قلما يجتمعن إلا بالنساء
التركيات اللواتي تربين تربية إفرنجية بمعرفة المربيات المعروفات بلقب
(أنستيتوتريس) قالت: (فهؤلاء التركيات قد تعلمن اللغة الفرنسوية لا لأجل اكتساب
المعارف والعلم؛ ولكن ليكن أوربيات خالصات، فبجهلهم بالدين ونبذهم العادات
الملية ظهريًّا كان الحديث معهن كالحديث مع أهل البيوت الإفرنجية في بك أوغلي -
قسم من الآستانة يسكنه الإفرنج - فلا يستفيد السائح منهن الحقيقة؛ فإنهن إذا سُئلن
عن أحوال المعيشة الإسلامية يسكتن عن بيان استقامة الدين وطهارته، ويُفضن في
الكلام بحدة وشدة على مسائل الحجاب، فيكن بجهلهن سببًا في طعن الأجانب في
الدين الذي استنرنا بمشكاته وتشرفنا بآياته) .
قالت: وإن من أهل البيوت الإسلامية من يظن أن في تعليم النساء العلوم
والمعارف إثمًا، فلا يخصون بالإنكار تعلم اللغة الفرنسوية؛ وإنما ينكرون ما زاد
على الضروري من اللغة التركية أيضًا، ولعمر الحق إن هؤلاء لا يعلمون ما بلغ
إليه الأزواج المطهرات والبنات الزاكيات، وكثير من العالمات الأديبات في الصدر
الأول للإسلام من رفيع الدرجات في العلم والفضل.
إن كشف وجوه النساء غير محرم شرعًا، وإنما الواجب عليهن ستر
شعورهن؛ ولكننا نرى بعضنا يعكس القضية، فيسترن الوجه ويكشفن عن الشعر،
فالحد الوسط مفقود عندنا فنحن بين أمواج الحيرة لا ندري أين تقذفنا، ولا شك أن
الخير في الاعتدال في جميع الأحوال وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
والواجب على السياح الراغبين في الوقوف على الحقائق أن يتعرفوها من
أهل البيوت العائشين على الأصول الإسلامية، المحافظين على دينهم وعاداتهم
الملية، العارفين مع ذلك اللغة الفرنسوية، لا من المترجمين الذين يجيبون عن كل
ما يُسألون عنه، وإن كانوا لا يعلمون.
ومعلوم أن الأوربيين لا يعترضون على شيء من أحكام ديننا الموافقة للعقل
والحكمة؛ وإنما يتخيلون ويظنون أن نساء المسلمين مظلومات مهضومات،
فيبالغون في المؤاخذة على ذلك، وقد اطلعت على أوهامهم في أثناء محاوراتي
لبعض السائحات الوجيهات، ورأيت نفسي مضطرة إلى بيان ما دار بيننا في ذلك
على الوجه الآتي:
المحاورة الأولى
في يوم من شهر رمضان الشريف أُخْبِرْنَا أن نبيلة أوربية تدعى مدام ف ...
وراهبة زاهدة ترغبان مشاهدة طعام الإفطار في منزلنا، وفي أصيله جاءتا، وبعد
أن طافتا في حديقة الدار الخارجية نصف ساعة استأذنتا في الدخول فذهبت
لاستقبالهما؛ لأن وظيفة الترجمة في الدار مفوضة إلى هذه العاجزة وصحبني
جاريتان لتحملا ردائيْ الزائرتين ومظلتيهما.
وعند دخولهما حييتهما باللغة الإفرنسية وصافحتهما، ومدت يدها مدام ف..
إلى الجارية التي كانت بجانبي لتصافحها، فلم يكن من الجارية إلا أن أخذت المظلة
من يدها، وهذه الجارية هي رئيسة الخدم عندنا، وأخذت الجارية الأخرى ردائيهما
وبرطلتيهما، ودخلنا بهما إلى غرفة الضيوف، ثم عرفتهما بربة البيت وأفراده
حسب العادة المتبعة وقدم إليهما الحلوى والقهوة على النسق التركي. وذكرت الكاتبة
هنا سنهما وعدم زيارتهما الآستانة من قبل.
ثم إن مدام ف.. طلبت أن ترى غرفة مفروشة على الطراز التركي،
فعجبت أنها لم تر فيها غير مقعد بسيط، ثم رغبت إليَّ أن أطوف بها على سائر
الغرف ففعلت مظهرة لها الارتياح لذلك، وفي أثناء ذلك التفتت إلى رئيسة الخدم
وكانت واقفة أمامها وقالت: إنني عند الدخول مددت يدي لهذه السيدة فلم تقبلها؛
وإنما أخذت المظلة من يدي وأراها الآن واقفة لا تجلس معنا فما سبب ذلك؟ قلت:
إنها جارية، قالت: وما شأن البنات اللواتي بالقرب منها؟ قلت: هن مثلها.
ف.. حسن جدًّا؛ ولكنني أيتها السيدة أرى في أذنيها قرطين ثمينين، وفي
إصبعها خاتمًا، وعلى صدرها ساعة جميلة وسلسلة حسنة، وكنت حسبتها سيدة،
وقد أدهشني امتيازها بالحلي على غيرها من الجواري، فهذه الفتاة الواقفة في
الجانب الآخر لا تتحلى إلا بقرط ليس بذي قيمة، وهذه الجارية الأخرى ليس لها إلا
ساعة عادية فما سبب هذا التفاوت.
أنا: إن الجارية التي حسبتِها سيدة هي رئيسة الخدم عندنا، أي أنها بمنزلة
مديرة لسائر الجواري تعلمهن القيام بشؤونهن وخدمة أنفسهن في اللباس والنظافة
والزينة حتى يحسنَّ ذلك بأنفسهن، وربة البيت تلقي تبعة كل تقصير منهن عليها،
وقد أهداها سيدها ما ترين من الحلي لكثرة خدمتها، وهي تعلمت من رئيسة كانت
قبلها، وهذه الجارية الفتاة جاءتنا وهي بنت أربع، ولها عندنا عشر سنين، ولما
تُكَلَّف بعمل، وستُكَلَّف بعد اليوم، وهذان القرطان قد اشترتهما مما اقتصدته من
مرتبها الشهري، وكذلك صاحبة الساعة، وهي أحدث عهدًا من هذه.
ف.. متعجبة مستأذنة في طلب التفصيل: أين رئيسة الخدم السابقة؟
أنا: قد انتهت وظيفتها، وقد زوجناها ولها ثلاثة أولاد وهي في بيت زوجها.
ثم سألت ف.. عن انتخاب رئيسة الخدم، وعن الرواتب للجواري والهدايا
للقديمات، وعن كيفية ابتياعهن، وسنبين في الجزء الآتي الجواب عن الأخير؛
لأنه كان تمهيدًا للبحث في الرق والإماء والتسري وغير ذلك من الفوائد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) نُشرت هذه المحاورات ومقدمتها في جريدة (ترجمان حقيقت) التركية منذ سنتين، وعُربت لجريدة الثمرات الغراء تعريبًا ضعيفًا، ونحن نأتي بملخصها بعبارة أصح من الأول.(4/752)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات
اختلاف العوائد في التسحير
نشرنا في مناري رمضان من السنة الماضية الأحاديث الموضوعة في
رمضان وفي الصوم، وبعض البدع التي فشت بين الناس في هذا الشهر الشريف،
ومما عده صاحب المدخل - رحمه الله تعالى - من البدع تسحير المؤذنين، وذكر
أنه ينهى عنه، ثم عقد فصلاً مخصوصًا لاختلاف عادات البلاد في التسحير، قال
فيه ما ملخصه مع حفظ حروف الأصل:
(اعلم أن التسحير لا أصل له في الشرع الشريف؛ ولأجل ذلك اختلفت فيه
عوائد بعض الأقاليم، ألا ترى أن التسحير في البلاد المصرية بالجامع يقول
المؤذنون: تسحروا وكلوا واشربوا، وما أشبه ذلك مما هو معلوم من أقوالهم،
ويقرأون الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183)
... إلخ ويكررون ذلك، ثم يسقون على زعمهم، ويقرأون من قوله تعالى: {إِنَّ
الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: 5) إلى قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
القُرْآنَ تَنزِيلاً} (الإِنسان: 23) والقرآن العزيز ينبغي أن يُنزه عن موضع بدعة
أو على موضع بدعة) وذكر إنشاد القصائد ثم قال:
ويسحرون أيضًا بالطبلة يطوف بها أهل الأرباع وغيرهم على البيوت
ويضربون عليها، هذا الذي مضت عليه عادتهم وكل ذلك من البدع، وأما أهل
الإسكندرية وأهل اليمن وبعض أهل المغرب فيسحرون بدق الأبواب على أصحاب
البيوت وينادون عليهم قوموا كلوا، وهذا نوع من البدع نحو ما تقدم، وأما أهل
الشام؛ فإنهم يسحرون بدق الطار وضرب الشبابة والغناء والهنوك والرقص واللهو
واللعب وهذا شنيع جدًّا.. . وأما أهل المغرب فإنهم يفعلون قريبًا من فعل أهل
الشام، وهو أنه إذا كان وقت السحور يضربون بالأبواق سبعًا أو خمسًا فإذا قطعوا
حُرِّم الأكل إذ ذاك عندهم.
ثم أطال في التشنيع على المغاربة كما شنَّع على أهل الشام على أن ما ذكره
عنهم غير معروف اليوم ولا سمعنا به، وذكر من عادات المغاربة العجيبة أنهم
عندما يمرون بالنفير والأبواق على باب مسجد يسكتون احترامًا لبيت الله، ثم إنهم
يفعلون ذلك في منار المسجد في شهر التوبة والعبادة، ثم حذر من التمادي بالأنس
بالعادة، وردَّ على من قال إن التسحير بدعة حسنة ثم قال:
وإذا كان كذلك فينبغي أن يُنهى الناس عما اعتادوه من تعليق الفوانيس التي
جعلوها عَلَمًا على جواز الأكل والشرب وغيرهما ما دامت معلقة، وعلى تحريم
ذلك إذا أنزلوها، وذلك يُمنع فعله لوجوه. وذكر أربعة وجوه:
(1) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض إيقاد النار ولا ضرب الناقوس
ولا النفخ بالقرن للإعلام بالصلاة، ورضي بالأذان فكان علامة للصلاة والصوم.
و (2) أن في ذلك تغريرًا لجواز أن تنطفئ بنفسها فيراها من يكون مضطرًّا
لنحو أكل أو شرب فيمتنع ويتضرر.
و (3) أنه قد ينساها أو ينام عنها الموكل بها حتى يطلع الفجر.
و (4) أنها قد تشتبك ولا يقدر الموكل بها على خلاصها.
ونحن نقول: إن المؤلف رحمه الله تعالى قد شدد جدًّا، حتى جعل بعض
العادات بدعًا دينية، والبدعة إنما تكون حرامًا إذا كانت في الدين، وأما التفنن في
العادات المباحة فليس بمحرم إلا إذا فعل باسم الدين أو ظنه الناس من الدين، ولا
شك أن صرف أموال الأوقاف لا يجوز في غير مشروع.
***
مستقبل الإسلام في رأي
المسلمين الجغرافيين
عثرنا بالمصادفة على مقالة في جريدة اللواء عنوانها (مستقبل الإسلام)
وهي لرجل جزائري منحته الجريدة لقب (العالم) وذكرت أن مقالته نشرت في
(مجلة المسائل السياسية والاستعمارية) ويظهر لمتصفح المقالة أن كاتبها تلقى
خواص الإسلام ومزاياه من المسلمين الجغرافيين، لا من الكتاب والسنة وسيرة
السلف الصالح؛ ولذلك لم يفده ذكاؤه في التمييز بين ما هو من الإسلام، وما هو
من جماهير المنتسبين إليه اليوم، فغلط كثيرًا، ونسب للإسلام ما هو بريء منه.
فمن ذلك أن الذين يعتنقون الإسلام يتولاهم (اضطراب داخلي عظيم فتقف
عندهم كل حركة، وتدخل أعضاؤهم في دور ملل شديد) ونحن نقول: معاذ الله أن
يكون هذه صحيحًا، فإن الذي يدخل في الإسلام يزول من قلبه كل اضطراب
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} (الرعد: 28) ويدخل في دور من النشاط كما نشط المسلمون في العصر الأول لكل
عمل مفيد.
ومنه زعمه أن مميزات المسلم: (قنوعه بالقليل وعدم طموح أنظاره نحو
الأمور العالية البعيدة، وتفضيله الحياة المتوسطة المصحوبة بالسكون والراحة على
الحياة الرفيعة المقرونة بالمشاغل والمتاعب) وزعمه أن زهادة المسيح لا توجد إلا
في المسلمين، وكل هذه الصفات مما رزئ به المسلمون الجغرافيون؛ ولكن الإسلام
إنما يمدح من القناعة ما يزكي النفس من الطمع فيما في أيدي الناس بالباطل ولم
يسلم منه المسلمون الجغرافيون؛ وإنما وُجدت عندهم قناعة الكسل التي هي ضد
الإسلام بدليل المباينة بين أهل الصدر الأول في جدهم وكدهم وعدم رضاهم بما
دون السيادة على جميع الأمم، وما عرفوا بالسكون عن طلب المعالي والسيادة، ولا
بحب الراحة التي غلبت علينا في هذه القرون النحسة التي ضاع فيها الإسلام
والمسلمون.
ومنه زعمه أن المسلم غير ميال للسياحة، وهو إنما يصدق على المسلم
الجغرافي أيضًا، أما الإسلام الحقيقي فقد وصف الله تعالى أهله بقوله: (السائحين
والسائحات) [*] وأمرهم بالسياحة في آيات كثيرة من كتابه ولم يأمرهم بالوضوء
للصلاة إلا في آية واحدة {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (النمل: 69)
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ
تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
ولا أنكر أن هذا الكاتب أصاب في بعض ما كتبه لا سيما تنديده بما وقع فيه
المسلمون من الجهل وقبول الخرافات والأوهام وقوله إنهم لا ينقرضون، وإن
انقرض الرومان والفراعنة من قبلهم وعلل ذلك بأن الأمم التي لها دين سماوي لا
تنقرض واستدل على ذلك باليهود، وإن أدري أعالم مسلم كتب تلك المقالة أم هي
دسيسة أسندت إلى هذا اللقب لتروج بين المسلمين ويطمئنوا إلى تلك المزايا الضارة
والأخلاق القاضية بالضعف والخمول، وأنت ترى أن بحثها ليس في مستقبل
الإسلام؛ وإنما هو في وصف المسلمين إلا الكلمة الأخيرة في عدم الانقراض.
***
نبي الطب الجديد
كُتب أيضًا إلى تلك الجريدة من مديرية القليوبية: أن في مركز نوى رجلاً
يدَّعي أنه أوحى إليه جبريل عليه السلام في المنام فلقنه الطب وعلَّمه مداواة العلل
والأسقام مهما اختلفت أنواعها، واشترط عليه أن يأخذ عن كل مريض يطببه
خمسين قرشًا فقيرًا كان أو غنيًّا، ذكرًا أو أنثى، وليدًا أو كهلاً، ويدَّعي أن الوحي
أباح له الخلوة مع الرجال خمس دقائق فقط، ومع النساء أربعين! ! ! ويعلل ذلك
بأن سائر النساء مريضات بالبواسير ولا يمكن استئصال هذا الداء منهن في أقل من
تلك المدة، وهناك حالات استثنائية يخلو فيها مع المرأة دون الرجل أكثر من
أربعين دقيقة، وذلك إذا كان بها ريح يمنعها من الحمل على زعمه، ومن الناس
من اغتر بهذه الدعاوى الباطلة فصدَّقوها.
(المنار)
إن الاعتقاد بوقوع خوارق العادات على الوجه الذي يتلقفه الناس بعضهم من
بعض واعتقاد أن كل من يأتي بأمر غريب لا يعهدونه فهو مؤيد من الله - هما
الاعتقادان اللذان أعدا الناس لقبول الدجل والانخداع للحيل، وإن ذهب بذلك
دينهم ومالهم وانتهكت أعراضهم، وقد ذكرت الجريدة من إقبال النساء والرجال على
هذا المتنبي المحتال، ولكن له أمثالاً من مدعي الولاية لا ينفر عنهم أحد.
__________
(*) لا توجد آية في القرآن بهذا اللفظ (ص 759 سطر 13) ولكن وردت آيتان: في واحدة منهما لفظ (السائحون) وهي [التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] (التوبة: 112) وفي الأخرى لفظ (سائحات) [عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً] (التحريم: 5) ولم ترد اللفظتان معًا في آية واحدة.(4/756)
16 رمضان - 1319هـ
27 ديسمبر - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السياسة والساسة
من نحن ومن غيرنا
الرسالة الثانية
سيقول الذين يرونني مغرمًا بالحقائق بعد أن يسمعوا كلامي في الرسالة
الأولى: أَوَأنت أيضًا راضٍ عن السياسة وأهلها، وضارب فيها بسهم، ومشترك بها
مع حزب؟ وهل تقدر أن تحب الحقائق وتتحزب؟ على سؤالهم بنيت هذه الرسالة
الثانية:
لا تبحث عن ماضي الإنسان الذي أوصله إلى هذا الحاضر، بل اكتف بمعرفة
حالته الحاضرة.
لا يفتح الإنسان عينيه على شيء في هذا الوجود قبل الثدي الذي يدر عليه
اللبن، ولا يعشق شيئًا من هذا الكون قبل المحسنة عليه بهذا الدر، لا تسل ما هو
إدراك الإنسان وكيف عشقه للأشياء، فذلك مما لم يدرك بعد، ولكن صور في
ذهنك وليدًا وطاؤه حجر الأم، وغطاؤه ذراعاها، وغذاؤه يفيض به ثدياها، أول ما
يناغي هُتافٌ باسمها ودعاء لرحمتها، مَن يكون معبوده غير معبودها وقد علَّمته
اسمه أول ما تكلم، وإسناد كل شيء إليه أول ما ميز، ومحبة حزبه وكراهية
مناظريه وأعاديه أول ما ودعه حضانها، واستقبله تدريبها، وكيف لا يقبل ذهنه
غراسها ومعها والده وجده، وعمه وخاله، وعمته وخالته، والخوادم وأهل الحي
أجمعون.
أترى هذا الولد إذا كبر وترعرع، وعظم إدراكه واتسع، ينظر ما لم ينظره
والداه في المعتقدات؟ قل هيهات هيهات!
حدَّث التاريخ عن نفر من هذا القبيل؛ ولكنهم قليل، وهب أنه رأى ما رأى
فهل تخال أنه يستطيع أن يظهر وأن يقول ويجهر؟ قل هيهات ثم هيهات، حصل
شيء من هذا فيما غبر؛ ولكنه أقل وأندر، ثم هب أنه ظهر، وقال وجهر، فمن
تظن أنه يستمع له؟ والكل جازمون أي جزم، أن ما ذهب إليه الآباء هو الحزم،
ومخالفته نقص في المروءة والعزم، نعم كان شيء من هذا في القرون ولكنه إن أثمر
على قلة فبعد موت الغارس، ومن ذا الذي يسمح أن يُعذب ويهان على غراسه في
حياته، وينتظر أن يمدحه الدائسون عليه بعد مماته؟
إذا فهم هذا من فهم فلا جناح علينا أن نقول: إن الإنسان إذا كان عاقلاً عارفًا
فلم يعذر نفسه في هذه المداخل لا ينصف إذا هو لم يعذر غيره ممن لا عقل لهم
كعقله، ولا همة لهم كهمته، بل الطامع أن يكون الناس كعقل رجل واحد ومسلكه لا
يصح أن نسميه عاقلاً عارفًا بعد أن قرأنا في سنن الوجود ناموس الاختلاف والتضاد
الذي عرفناه راسيًا ثابتًا، وإن لم نعرف حكمته حتى اليوم.
والعاقل لا يملك نفسه أن يتعجب كثيرًا من الأغلاط وشيوعها؛ ولكن تعجبه
هو محل التعجب؛ لأننا لم نر مبصرًا يتعجب من أعمى، ولا حيًّا من ميت، ولا
صحيحًا من مريض، وما هذا التعجب إلا أثر من نسيان هذا الناموس وتفرعاته.
ثم هو إن تعجب أو لم يتعجب عائش في مجتمع فلا بد من أن يجد سبيلاً معهم
من السكوت أو الموافقة أو المخالفة بالمعروف إذا رأى من زمانه دولة للبرهان،
فهو في أي سبيل محتاج للسياسة.
افرض أمامك شخصين ينسب أحدهما إلى الفرس والآخر إلى الروس،
أفرأيت إن قلت للفارسي هل تكره الروس الذين هم بشر مثلك ومثل قومك، فقال
لك لا، فقلت له لم تتحزب مع الفرس على الروس وهم أمثال بعضهم عندك، فقال
لا أستطيع التوفيق بين مصلحتيهما المختلفتين، ولا بد لي من التحزب مع أحد
الفريقين، ولا يرتاب أحد أن الأولى بي تحزبي مع الذين منهم أمي وأبي، وفيهم
داري وعقاري، وحليلتي وصغاري، وأعرف لغتهم ويعرفون لغتي، وقضيت
بينهم شطرًا كبيرًا من عمري أتقول له: هذا ينافي الحكمة والفلسفة، ويباين حب
السلام والفضيلة، ويغاير العدل والحقيقة؟ وأرأيت إن قلت له يمكنك أن تكون
بينهم ولا تتحزب معهم فحجك بأن الاجتماع يقتضي الاشتراك، أتقول له: هذه
القضية غير مسلَّمة، وإن أقام لك عليها البراهين وأورد الأمثال؟
ثم أرأيت إن قلت للروسي هل تكره الفرس؟ فقال نعم، فقلت له: لماذا؟
فقال: لأنهم ليسوا على ديني، فقلت له: فما دينهم إذن؟ فقال: لا أعلم ولكن هكذا
سمعت أبي وجدي - أفتحاجه أنت وتجادله بعدما برهن منطقه على أن الأنعام أعقل
منه؟ وهل الفارسي أعقل منه إذا أجاب كما أجاب هذا وكان مذهبه التقليدي فيه
مذهب المقلد المسكين فيه؟
بنو هذا النوع شأنهم في الاختلاف عجيب، وأعجب شيء أن أكثرهم لا
يعلمون حقيقة المذهب الذي ينتسبون إليه، فضلاً عن مذهب المخالف، فهم إنما
يقاتلون عن أسماء المذاهب لا عن حقيقتها وكنهها.. . وقد ضربت هذا المثل ليعلم
كل واحد أن العقلاء الحكماء معذورون في التحزب فضلاً عن الحمقى والغافلين؛
لأن الشاذ في قومه الذي لا يرجو أن ينال نصيبًا ماديًّا أو أدبيًّا من فوزهم إذا فازوا
لا يأمن أن يكون له نصيب من بأسائهم إذا خابوا وقهروا؛ لأن الخصم لا يُميز،
بل أنصباء الفوز يخص بها فريق دون آخرين، وأما أنصباء البأساء فإنها تتوزع
على الكل، وقد قيل من قديم: (الرحمة تخصص والبلاء يعم) هذا إذا ترك
الشاذ وشأنه من قبل الجمهور وهيهات، على أنه ليس مجهولاً أن أولي العزم من
الحكماء يحاربون الأغراض السافلة مهما حالت، ويحازبون المقاصد السامية حيث
وجدت، وتراهم يصبرون حتى يفوزوا وتحيى بهم السعادات العامة التي ما زالت
تستفاد من إرشادهم أو يقضوا كرامًا مخلدين ذكرًا في العالمين جميلاً مأسوفًا عليهم
كثيرًا.
قلت: إن أكثر بني هذا النوع الذين هم العوام، وهم كل البشر إلا قليلاً لا
يعلمون حقيقة المذهب الذي هم عليه، وبرهان هذا الكلام من أوضح الواضحات
لمن استقرأ؛ لأنه صادر عن الحس والمشاهدة ونضرب نحن الأمثال بالمسلمين
الآن:
هؤلاء المسلمين فرق شتى يكفر بعضهم بعضًا، وكلهم يقولون آمنا بأن النبي
الذي اسمه محمد عليه السلام جاء من عند الله بكتاب اسمه القرآن، ثم أكثرهم لا
يعلمون ما هو ذلك الكتاب الذي جاء به؛ لأنهم إما أعاجم لا يعلمون ذلك الكتاب
العربي وإن تعلموا قراءة حروفه، وإما أعراب أميون لا يقرأون الكتاب إلا قليلاً،
وإذا نظرت إلى الفرق واحدة واحدة تجد الأمر كذلك.. . هؤلاء العوام قاطبة تسأل
أحدهم ما مذهبك فيقول لك حنفي أو شافعي أو مالكي أو حنبلي أو.. أو.. فإذا
سألت الحنفي مثلا ما هو مذهب الحنفية تجده يقول لك لا أعرف؛ وإنما قد كان أبي
حنفيًّا فصرت مثله، فهو إذن لا يعرف إلا اسم المذهب، وربما لا يعرف اسم
الرجل الذي انتسب هذا المذهب لاسم بنته (حنيفة) ولقد بلغ الجهل ببعض العوام
أن سألني: أي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم أهو حنفي أم مالكي أم.. أم..
وما أظن أن أمثال هذا السائل الجاهل قليلون ولا أتعجب من ذلك، وقلت يومًا
لبدوي من (عَنَزَة) ما مذهبكم؟ فقال لي: لو سألت غيري لقال لك: نحن موالك
(يعني مالكية) ولكن الصحيح الذي عليه المعول لا مذهب لنا ولا كتب عندنا؛ وإنما
قد سمعنا أن المالكية لا يعتبرون الكلب نجسًا فأحببنا هذا القول؛ لأن الكلاب تطوف
على أوانينا كثيرًا! .
ماتت الفرق الإسلامية التي أساس مذاهبها العلم فقط كفرق المعتزلة والجبرية
المحضة مثلاً، ولم يبق منها إلا أحاديث مذاهبها في كتب العقائد يحارب أسماءها
قراءُ هذه الكتب، أما الفرق التي أساسها أغراض سياسية فهي حية باقية والموجود
منها اليوم هذه:
(1) أهل السنة، ومذاهب هؤلاء وطرائقهم واختلافاتهم وعددهم أكثر من
باقي الفرق؛ لأنهم أخذوا من الكل وحشوه في كتبهم فكل مشتهٍ يجد فيها شهوته،
وسموا أنفسهم على اختلافهم أهل السنة.
(2) شيعة العجم والعراق.
(3) شيعة اليمن والحجاز.
(4) دروز وهم فرقة قليلة العدد بالنسبة لباقي الفرق.
(5) نصيرية وهم أكثر من الدروز.
(6) إسماعيلية وهم أقل منهما، وهذه الفرق الثلاث متقاربة كلها باطنية،
وربما اعترض المسلمون بعَدِّ هؤلاء معهم، أما نحن فنراعي الظاهر هنا.
(7) إباضية.
(8) وهابية.
سلني هل تعرف كل فرقة من هؤلاء حقيقة مذهب الثانية؟ كلا بل تلعن كل
واحدة الأخرى من غير معرفة، وأغرب ما في الباب جهل الذين انتحلوا لأنفسهم
اسم السنة بحقيقة الوهابية الذين هم دعاة الكتاب والسنة، كما يعرفه كل مختبر
أحوالهم ومستمع أقوالهم.
لا تنكر علينا التطويل بهذا فمنه استبانت لك حقائق مهمة تفيدك في هذا
الموضع ومواضع أخر، ومنه تعرف عذرنا إذا بحثنا عن أحوال الأمم، وأحوال
هذه الأمة وأحوال نفوسنا، سمِّ هذا البحث بالسياسة أو باسم آخر، فقد عرفت أننا
رواد معانٍ لا رواد ألفاظ.
وهل علينا بعد هذا من حرج إذا قلنا نحن كذا وغيرنا كذا بعد الإيمان بأن
الغيرية طبيعية وأن لها أحكامًا.
سيبقى في نفوس القراء شوق لمعرفة من نحن فنوصيهم أن لا يتعرفوا أنانيتنا-
أي حقيتنا - من أسماء أشخاصنا، ولا من الأسماء التي ننتمي إليها، فالذي
تسميه أمه سلطانًا مثلاً لا يجب أن يصير سلطانًا بالفعل، بل عليهم أن يتعرفونا بما
نقول، وأن يسألوا عنا ما لديهم من العقول، فمن عرف الحق بالرجال شط، ومن
عرف الرجال بالحق بلغ المحط.
على أنه لا بأس أن نبين في فهرست إجمالي من نحن ومن غيرنا ليكون
كمؤنس لمن سأل عن سياستنا قبل سماع قضاياها:
(1) نحن بشر نرى أن الميزان في درجات البشر العلم والعمل، فمن
كانت في كفتهم العلوم النافعة والأعمال الرافعة كانوا أعلى وبسياسة الأنام أولى،
ومن كانت في كفتهم الجاهليات والأعمال الرديئة كانوا محتاجين للتعليم لئلا يطغوا
في الأرض.
(2) نحن أولو مصالح معاشية يهمنا أن تحميها سلطنة عادلة قوانينها،
موافقٌ رئيسها.
(3) نحن أهل مدن نرى حاجتها للمعارف وإصلاح الأخلاق والعوائد.
(4) نحن جماعة متعاونون داعون إلى الإصلاح، وبه متذاكرون، والسلام
على النظام العام.
... ... ... ع. ز
__________(4/761)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
(8) وقال صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويُحبونكم،
وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم،
وتلعنونهم ويلعنونكم) [1] وفي رواية الترمذي عن عمر رضي الله عنه (وتدعون
لهم ويدعون لكم) وهي بمعنى تصلون عليهم ويصلون عليكم هنا، ولو علم أمراء
المسلمين اليوم مكانتهم في قلوب الأمة، لا سيما الخاصة منها، وماذا يقولون فيهم،
لعرفوا من أي الفريقين هم، على أن منهم من يعتقدون أن الأمة عدوة لهم؛ ولذلك
اتخذوا عليها الجواسيس والعيون.
(9) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا
يجتهد لهم ولا ينصح إلا لم يدخل معهم الجنة) [2] .
(10) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فلم
يَحُطهم بنصيحته كما يحوط أهل بيته فليتبوأ مقعده من النار) [3] .
(11) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما والٍ ولي شيئًا من أمر أمتي فلم
ينصح لهم ويجتهد لهم كنصيحته وجهده لنفسه، كبَّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة
في النار) [4] فمن لنا بمن يوصل مثل هذا الحديث إلى الأمراء الذين يهملون أمور
الرعية، ويصرفون همتهم كلها إلى تنمية أرزاقهم وتكثير غلاتهم لعيالهم والادخار -
ليعتبروا به إن كانوا مؤمنين.
(12) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما راعٍ استرعي رعية فلم يَحُطْها
بالأمانة والنصيحة ضاقت عليه رحمة الله التي وسعت كل شيء) [5] .
(13) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به
مغلولاً يوم القيامة حتى يفكَّه العدل أو يوبقه الجور) [6] .
(14) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة
أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله وغش رسوله وغش
جماعة المسلمين) [7] وهذا الحديث بمعنى الحديث الأول في النبذة الماضية الذي
هو في صحيح مسلم، والمراد بالأفضل هنا من يزيد على غيره في العلم بالعمل
الذي استُعمل لأجله، فإن كان العمل حربيًّا يجب أن يولَّى الأعلم بفنون الحرب،
وكذلك إن كان علميًّا أو إداريًّا، ويعتبر مع العلم الهمة والأخلاق التي من أثرها العمل
بالعلم. ومن أكبر أسباب ضعف المسلمين أن أمراءهم صاروا يولون العمال بالهوى
لما أعطوه من السلطة المطلقة التي تخالف ما جاء به الإسلام، قال عمر رضي الله
عنه: (من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك، فقد خان الله ورسوله
والمؤمنين) .
(15) وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع
وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة
راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده وهو
مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته وكلكم راع
وكلكم مسئول عن رعيته) [8] ولا يخفى أن الإمام هو الأمير الحاكم، والمسئولية في
الدنيا بمعنى المطالبة شرعًا بإقامة العدل والأمانة في العمل، فمن خالف يُعاقب ولو
بالعزل، وفي الآخرة يسأله الله ويجزيه الجزاء الأوفى.
(16) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه سيفتح لكم مشارق الأرض
ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدَّى الأمانة) [9] .
احتجاب الأمراء والحكام
(17) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق
بابه دون المسلمين أو المظلوم أو ذوي الحاجة أغلق الله دونه أبواب رحمته عن
حاجته وفقره أفقر ما يكون إليه) [10] .
(18) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين
فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون حاجته وخلته
وفقره) [11] .
(19) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق
بابه دون ذوي الفقر أو الحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء) [12] .
(20) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا
فاحتجب عن ضَعَفَة المسلمين وأولي الحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة) [13] .
(21) وقال صلى الله عليه وسلم: (من احتجب عن الناس لم يحتجب عن
النار) [14] .
ومما فتن به أمراء المسلمين عندما استبدوا بالسلطة المطلقة بدعة الاحتجاب
دون الرعية، لا سيما الفقراء وذوي الحاجة فطغوا واستكبروا وعتوا عتوًّا كبيرًا
حتى سلط الله عليهم الأمم الأجنبية، فصارت تنتزع ملكهم من أيديهم، وأغلق الله
دونهم أبواب رحمته في الدنيا فلم يجدوا حيلة لإعادة سلطتهم المطلقة {وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت: 16) .
وسنبين بعدُ الأحاديث الواردة في هلاك الأمة بظلم أئمتها وأمرائها.
آثار السلف عبرة للخلف
روى ابن المبارك وابن راهويه ومُسدَّد عن عتاب بن رفاعة بن رافع قال:
بلغ عمر بن الخطاب أن سعدًا اتخذ قصرًا وجعل عليه بابًا وقال: (انقطع الصُّويت)
فأرسل عمرُ محمدَ بن مسلمة وكان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه،
فقال: ائت سعدًا واحرق عليه بابه، فقدم الكوفة فلما أتى الباب أخرج زنده فاستورى
نارًا، ثم أحرق الباب، فأتي سعدٌ فأُخبر ثم وُصف له صفته فعرفه فخرج إليه سعد،
فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: (انقطع الصويت) فحلف
سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدي عنك ما تقول، وأقبل -
أي سعد - يعرض عليه أن يزوده فأبى، ثم ركب راحتله حتى قدم المدينة فلما أبصره
عمر قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أديت، وذكر - أي محمد - أنه أسرع
السير وقال: قد فعلت وهو - أي سعد - يعتذر ويحلف بالله ما قال، فقال عمر: هل
أمر لك بشيء؟ قال: ما كرهت من ذلك؟ إن أرض العراق أرض رقيقة، وأهل
المدينة يموتون حولي من الجوع فخشيت أن آمر لك بشيء فيكون لك البارد ولي
الحار، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يشبع المؤمن دون
جاره) اهـ. ولعل في آخر الكلام حذفًا أوتحريفًا.
وروى ابن سعد عن موسى بن أبي جبير عن شيوخ من أهل المدينة قالوا:
كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: أما بعد فإني فرضت لمن قِبَلي في
الديوان [15] ولذريتهم ولمن ورد علينا بالمدينة من أهل المدينة وغيرهم ممن توجه
إليك وإلى البلدان، فانظر من فرضت له فنزل بك فاردد عليه العطاء وعلى ذريته
ومن نزل بك ممن لم أفرض له فافرض له على نحو مما رأيتني فرضت لأشباهه
وخذ لنفسك مائتي دينار - أي في السنة - فهذه فرائض أهل بدر من المهاجرين
والأنصار، ولم أبلغ بهذا أحدًا من نظرائك غيرك؛ لأنك من عمال المسلمين
فألحقتك بأرفع ذلك، وقد علمت أن مؤنًا تلزمك، فوَفِّر الخراج وخذه من حقه، ثم
عف عنه بعد جمعه، فإذا حصل إليك وجمعته أخرجت عطاء المسلمين وما يُحتاج
إليه مما لا بد منه، ثم انظر فيما فضل بعد ذلك فاحمله لي، واعلم أن ما قبلك من
أرض مصر ليس فيها خمس؛ وإنما هي أرض صلح وما فيها للمسلمين فيء تبدأ
بمن أغنى عنهم في ثغورهم، وأجزأ عنهم في أعمالهم ثم نقص (كذا في نسخة كنز
العمال ولعلها تفيض) ما فضل بعد ذلك على من سمى الله.
واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) يريد أن يُقتدى به، وأن معك أهل
ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال
(استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا) ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال
صلى الله عليه وسلم: (من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة)
احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لك خصمًا فإنه من
خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة وآنست من نفسي ضعفًا،
وانتشرت رعيتي، ورق عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرِّط، والله
إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك ضياعًا أن أسأل عنه يوم القيامة) .
فانظروا أيها المسلمون وتأملوا سيرة سلفكم الذين ملكتم بهم الأرض، وكيف
أكل خلفهم الأموال وظلموا أهل الذمة والمعاهدين حتى دالت لهم الدولة مصداقًا لقوله
صلى الله عليه وسلم (إذا ظُلم أهل الذمة أُديل للعدو) أي عادت لهم الدولة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما في الجزء التاسع عشر.
(1) رواه مسلم عن عوف بن مالك.
(2) رواه مسلم عن معقل بن يسار.
(3) رواه أحمد عن معقل بن يسار.
(4) رواه الطبراني عن معقل بن يسار أيضًا.
(5) رواه الخطيب في التاريخ عن عبد الرحمن بن سمرة.
(6) رواه البيهقي عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ورواه بألفاظ أخرى فيها بعض الاختلاف في اللفظ دون المعنى كثيرون، منهم سعيد بن أبي منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد، والطبراني عن سعبد بن عبادة، وابن عساكر عن أبي الدرداء.
(7) رواه أبو يعلى في مسنده عن حذيفة ورواه غيره.
(8) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(9) رواه أحمد عن رجل من محارب، ورواه أبو نعيم عن الحسن مرسلاً.
(10) رواه أحمد وابن عساكر عن أبي الشماخ الأزدي عن ابن عم له من الصحابة.
(11) رواه أبو داود وابن سعد البغوي عن أبي مريم الأزدي وكذلك الطبراني وابن قانع والحاكم والبيهقي.
(12) رواه أبو سعيد النقاش في القضاء عن أبي مريم.
(13) رواه أحمد والطبراني عن معاذ.
(14) رواه ابن منده عن رباح.
(15) الديوان: الكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية والصلة.(4/773)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
الصحة في تغيير الهواء
وتربية الخيال والذاكرة بمحاسن الغبراء [*]
(35) من هيلانة إلى أراسم في 20 يونية سنة 185
كان (أميل) عليلاً وكنت مشفقة عليه في بداية مرضه من الحمى الحصبية؛
ولكنه لم يصب بالحصبة، والسبب في عدم إخبارك بذلك هو أن الدكتور كان قد
تعهد بأن يكاشفك بسير المرض، ثم إنه لما لم يجد فيه أدنى خطر عليه رأى من
العبث أن يوقظ ما نام من همومك، ويحرك ما سكن من دواعي قلقك، ولقد عجلت
إليه العافية، فلم يمض عليه خمسة عشر يومًا حتى رُد له لباس الصحة وثابت إليه
أوابد القوى، وأما أنا فكان شأني غير ذلك؛ لأن ما قاسيته من التعب في ليالي
سقمه التي لازمت فيها السهاد وما كان يساورني فيها من الحزن والإشفاق - قد
تزعزعت له صحتي، ووهت به عافيتي، وللطب الإنكليزي في مثل حالتي هذه
دواء لابد أن يكون هو سيد الأدوية على ما أرى، وسندي في هذا الرأي ما أراه من
ثقة الأطباء به في وصفه لمرضاهم، ومن إذعان هؤلاء له طيبة به نفوسهم وهذا
الدواء هو تغيير الهواء.
نعم إن الهواء الذي نستنشقه في مرازيون جيد غير أن أخص ما يعول عليه
أطباء الإنكليز في إيصائهم المرضى بتغيير الهواء لتجديد قواهم، إنما هو الانتقال
من مكان إلى آخر، والنظر في مجالي الكون ومشاهده وتغيير ما التزموه من
عاداتهم، وإني والحق أقول قد أعجبت بهذا الرأي بعض الإعجاب لأني أعلم أن
ضواحينا التي يتوارد عليها السياح كثيرًا غاصة بضروب المحاسن الحقيقية، ولهذا
السبب لم أعارض في هذا الرأي، بل أذعنت له إذعان المريض المطيع الذي يجل
أحكام العلم ويكبرها.
لم تكلفنا معدات السفر كبير عمل ولا مزيد عناية؛ فإن السيدة وارنجتون
بفضل خبرتها بطرق البلاد وجهاتها قد تكفلت بأن تُشْرِعَ لنا طريق السير، وسقط
قوبيدون على مركبة عتيقة من المركبات المكشوف مقدمها مرت عليها أيام كانت
فيها أسعد حالاً بأصحابها، وعلى فرس مُذْك (كبير السن) لا يزال فيه على كآبة
منظره من القوة ما يقدره على احتمال مشاق الصعود والهبوط في أنجاد هذه الجهة
وأغوارها الكثيرة، فاستأجرناهما بأجرة قليلة، وفي صبيحة يوم ظعننا استوى
الزنجي البار على كرسي المركبة استواء السائق المختال المعجب بنفسه.
كان وجه (أميل) وقد زال شحوبه وعاد إليه لونه يتلألأ فرحًا، ويزهر بشرًا
وطلاقة؛ لأنه لا شيء يلذ للأطفال كتوقع الحوادث؛ ولكنا لم نصادف في طريقنا
شيئًا منها نقص عليك حكايته فلم نلاق سلَبَة ولا حوشًا ولا أسارى مقيدين في
مغارات الصخور، مع أننا قد جبنا أرضين مقفرة تحدها سواحل قحلة مهجورة
معرضة لجميع ما يطرأ من ضروب هياج البحر وطغيانه.
لم يكن خروجي إلى التنزه لمحض التداوي بتغيير الهواء، بل كنت أرمي إلى
غرض آخر أيضًا، وهو أن ينفعل (أميل) بما يشاهده من المناظر الخلوية
وصورها المدهشة، فتنتعش لها في نفسه آثار حية، فإنه يقال أن أول شيء بعث
في نفس بايرون [1] تباشير ولعه ولهجه بالشعر؛ إنما هو منظر ما يوجد في
هضاب إيقوسيا من البحيرات وقمم الجبال، ولست اعتقد أن (أميل) سيكون
بايرون عصره، بل لا أجد شيئًا من الحق في التطلع إلى ذلك؛ ولكني أتكدر
وأحزن أن رأيته من حيث هو إنسان لا يتأثر بما هو مسطور في صفحات الكون
من جيد الشعر وبديعه.
قد وهمت فيما علقته على هذا السفر القصير من الأمل الكثير في تنبيه القوى
الحاسة في (أميل) وها أنذا اعترف لك بخطأي صاغرة، إذ قد تبين لي أني
تعجلت في هذا الأمل فإني رأيته لا يشوقه إلا النظر إلى الجزئيات واستطلاع وقائع
الخلوات، وهو من حداثة السن بحيث يصعب عليه إدراك الأشياء في جملتها
ومجموعها.
أرى أن الطريقة المثلى في تنبيه الأطفال، وبث روح الملاحظة في نفوسهم
أن لا تطلب منهم الملاحظة ولا يحملون عليها، وقد سرت على هذه الطريقة في
سياستي (لأميل) فلم أشذ عنها إلا مرة واحدة، ذلك أننا كنا في رأس ليزارد [2]
وما أكثر عجائبه، وإن أردت تخيلها فمثل لنفسك صخورًا هائلة على جميع الأشكال
بعضها قائم وبعضها ساقط، وشيء منها متصل وآخر منفصل يهيج بينها البحر
ويصطخب، ومنها ما غمره البحر فطوَّق جيده بقلادة من الزبد، ولم يبد منه سوى
رأس مخروطي أملس مصقول، لا تفتأ الأمواج تغسله، ثم تصور أن بصرك يتتبع
من بعيد خط السواحل فيرى ما يتخللها من نقطة إلى أخرى من الصدوع العظيمة
والوهاد والمغارات المظلمة، فإذا وقف الإنسان وسط هذه المشاهد الكبرى كانت
حيرته في اختيار المكان الذي يشرف منه عليها، وقفت أنا و (أميل) تجاه
(كينانس كوف) وهو أحد الخُلج التي يُرى فيها البحر أجمل ما يكون وسط الأطلال
وقطع الصخور، وأخذت بيده ثم قلت له انظر إلى هذه المكان نظرًا بليغًا وانقشه
في حافظتك فلعلك لن ترى هذا المنظر بعد
اليوم.
كأني بك تقول هل القوة الذاكرة مما يأتمر بأمرنا فنأمرها بالحفظ والذكر؟
فأجيبك بأن لي بعض الحق أن أعتقد هذا إذا رجعت إلى ما دلتني عليه تجربتي،
ذلك أني أيام كنت فيما يقارب سن (أميل) سافر والداي إلى مقاطعة أوفرني [3]
وأخذاني معهما، وفي يوم من أيام إقامتنا هناك صعدنا على إحدى شعاف الجبل
المسمي مُنْدُور، وهناك نشدني الله والدي جاهرًا بصوته أن لا أنسى ما كنت أشاهده
في تلك الساعة ما دمت حية، ولا أراك إلا سائلي عن نتيجة هذا الإقسام فاعلم أن
جميع ما كان ينبسط أمام ناظري في ذلك الوقت من المشاهد المحدقة بي وهي
مشاهد الجبال والربى والوديان لا يزال مرسومًا في لوح ذاكرتي، ومن هذا تعرف
السبب الذي حملني على اتباع هذه الطريقة مع (أميل) نعم إن والدي قد أوصاني
بعد هذه المرة بحفظ منظر آخر لا أذكره الآن، فلم يجد ذلك شيئًا في الحفظ، وأنا
أستنتج من ذلك أنه إذا تيسر في وقت ما أن يكون للمربي شيء من السلطان على
حافظة الأطفال؛ فإن هذا السلطان من الأمور التي لا ينبغي الإفراط في استعمالها.
إذا وُكِّل (أميل) لنفسه كان دهشه بالأشياء التي يراها أكثر من إعجابه بها،
وهذا مما يحملني على اعتقاد أنه لابد في رؤية الأمور على حقيقتها كمال الرؤية من
شيء من الخيال، خذ لذلك مثلاً وهو أن الطفل لا يعرف من البحر سوء دائرة
الأفق التي يحويها بصره، وهي دائرة ضيقة بالنسبة للواقع؛ فإن حجاب المسافات
يحول بينه وبين ما وراءها من بقية البحر، فإذا كان الشاعر يفنى عن شهوده
وترتفع نفسه إذا وقف أمام مشهد المياه الجليل، فذلك لأنه ينظر بفكره إلى ما وراء
الأفق من امتداد المحيط؛ فإنه متى انفك ساعة من ربقة عجز المشاعر الظاهرة
تتسع في خياله حدود العالم المشهود، فيضيف إلى هذه البقعة المائية المضطربة
التي لا يرى منها إلا جزءًا حقيرًا مهما كانت دقة بصره صورة عدم التناهي
والجلال، وكلاهما من مدركات العقل لا دخل للحس فيهما، وبالجملة فإنه يرى
الجلال والعظم في ماهية البحر ومعناه الذهني لا في صورته المرئية.
إن خلو نفس (أميل) من ملكة التفكير التي لا بد أن تظهر فيه بتقدمه في
السن يكشف له سر عدم اكتراثه بما يراه من مناظر الكون، بل تقليده غيره في
الإعجاب بها كما يبين لي من انبعاث شوقه إلى بعض جزئيات ما كانت تخطر
ببالي مطلقًا، ولهجه بها لهجًا شديدًا ذلك أن معظم الصخور التي يتكون منها رأسًا
ليزارد ولندس إند (طرف أرض) وضع لكل صخرة منها اسم خاص بها، كأنه
يخاطب الخيال ويوقظه فيريك الدليل الخريت منها صور العمود وعرين الأسد
والمطبخ والمنافيخ والمقلاة والفرس ورأس الدكتور جونسن ووجه الدكتور مسنتاكن
وغيرها فمن هذه الأسماء ما ينطبق ولا شك على مناسبات خرافية تختلف درجة
قربها أو بعدها من الحقيقة، غير أن منها أيضًا ما هو مبني على وجود وجوه شبه
ظاهرة للعيان بين مسمياته الأصلية وبين تلك الصخور التي وضع لها، ومن
المحتمل أن تكون هذه الألعاب الكونية والصور الاتفاقية والحجارة التي تمثل هيئة
الإنسان أو شكل شيء من الأشياء مع عدم نحتها بالمنحات هي التي بعثت في
نفوس الأولين فكرة صناعة التماثيل، ومهما كان أصل هذه الصناعة؛ فإن هذا الفن
الفطري الاضطراري الذي نقشته على الصوان يد الخالق القادر هو من الغرائب
غير المألوفة التي هاجت شوق (أميل) إلى معرفتها؛ فإنه كان يجتهد من نفسه في
إدارك ما بين قطع الصخر وبين بعض الأشياء المعروفة له تمام المعرفة من وجوه
الشبه التي لم تغرب أيضًا - كما تدل عليه أسماء تلك القطع - عن فكر صيادي
السواحل السذج البسلاء.
من عهد أن رأيت جميع النموذجات الأصلية لفن العمارة ظاهرة في المغارات
وسلاسل الصخور لم يسعني إلا الارتياب في أن هذا الفن من مخترعات الإنسان،
ذلك لأنك تجد فيها أصل النافذة القوسية والقباب بما يقوِّمها من الارتفاع والانحناء
والدعائم الثقيلة والعمود الرفيع المخطط والشبابيك الطويلة المقبوة والعماد وغيرها
من الأشكال الكثيرة، فليس على الخيال إلا أن يتوجه إلى هذه الكتل الصخرية
المتراكمة حتى يميز النظر من بينها مُثُلاً لمعابد عتيقة وصفوفًا من تماثيل صخرية
ذات وجوه ناقصة وزخرفًا رمزيًا ووحوشًا خرافية لو فصلت من الصخر لكانت
شخوصًا مستقلة.
إني على كوني لست من العلماء، ولا من الأثريين كان بودي أن أعلم (أميل)
في هذه الفرصة الجميلة بأن ألقي في ذهنه معنى للآثار السلتية [4] التي لا تخلو
منها بعض جهات كورنواي وأكثرها شيوعًا هو كما تعلم الدوائر القسيسية [5]
والأحجار الطويلة القائمة في الأرض على قواعدها كالمسلات والرؤوس الصوانية
الطبيعية التي صارت بعد عمل صناعي قليل هي الحصون الأولي للبلاد، تحميها
من لصوص البحر، ولقد كان أشد هذه الآثار استمالة لي مدرَّج بيدين في رأس
ليزارد.
ومما يحمل على الظن بأن يد الإنسان هي التي نحتت هذا المدرج في
الصخر ما يشاهد في بعض أرجائه من آثار أعمال تلك اليد الفطرية التي محا
نصفها كرور العصور، وما نبت من الأعشاب الدقيقة على سطح الصخور، ومن
الأقوال المروية في شأن ذلك المدرج أن الدوائر العظيمة الناتئة في سمك الحجر
كانت فيما غبر من الزمن صفوف درجات، وأن السلت قد انتهزوا حينئذ فرصة
وجود منحنى خطته يد الفطرة، ووهدة يزيد البحر في قاعها فجعلوها مسرحًا
لأبصار النظار وعملوا لجمعهم حولها، إذا صحت هذه الرواية فليت شعري ماذا
كان المنظر الذي كان يحشر الناس له في هذا المكان؟ إن كان ذلك هو الكون
وعظمه؛ فإنه مشهد جدير بإثارة وجدان الإعجاب والإكبار خصوصًا في هذه البقعة؛
ولكني أرجح أن ذلك الاجتماع كان لقضاء بعض المناسك الدينية لوجود جملة من
الصخور السوداء ناهدة على سطح الأمواج تجاه المدرج، يقال أن القسيسين كانوا
يتخذونها مذابح للقرابين وتلك شعائر أقل ما فيها العظم والجلال.
يوجد أيضًا في هذه الناحية حجارة عمودية يتألف من تناسقها دوائر متناسبة
الأجزاء تسمى بالكروملك، يكتنفها نبات الخلنج الأدكن المحزن، فيورث رائيها
الغم والخوف؛ ولكن أنى (لأميل) أن يكون له كبير اشتغال بمثل هذه الآثار
القديمة، وهي خلو من أثر صناعة النقش ومجهولة التاريخ وكيف يرجي منه
الاهتمام بها؟ على أني أرى أن نفسه قد انفعلت بآثار كامنة فيها لما شاهدناه ستظهر
فيه يومًا من الأيام، وإني أستند في هذا الأمر على أمر صبياني جدًّا، غير أن كل
شيء في عالم الطفولة هو أكبر مما يظن به ودونك قصة هذا الأمر:
كان يوم 11 يونية عيد ميلاد (أميل) فأراد أن يشهر هذا اليوم العظيم بمأدبة
خفيفة موافاة لما تقضي به عادة أهل البلد الذي نسكنه، وفوق ذلك فإنه في هذا العيد
قد عمد إلى اختراع افتحره افتحارًا، فقد أخذ بثوبي وسار بي إلى بستان، فرأيت
فيه وأنا في غاية الدهش كومًا من الأحجار المتوسطة في الحجم مرتبة ومرصوفًا
بعضها فوق بعض بنوع من الحذق والصناعة، وعددتها فوجتها سبعة، فعلمت من
ذلك أنه قد استفاد من مدرسة قدماء السلت؛ فإنه لما فهم من الآثار التي زرناها على
طول الساحل أنها أقيمت تذكارًا لحادثة من الحوادث، طبَّق ما رآه على نفسه،
فأصبح كما ترى وله أن يقول ما قاله هوراس [6] من قبله وهو (قد رفعت لنفسي
أثرًا) .
على أني أسائل نفسي لماذا يسمى سن (أميل) بسن التمييز والتعقل؟ فليت
شعري أي شيء يتعقله الطفل في السابعة من عمره؟ لا أراه يتصور الجزئيات فإنه
لم يعمر من الزمن ما يكفيه لتصورها، ولا يدرك الكليات فإنه يجب لإدراك هذه أن
يكون العقل قد وصل إلى حد معلوم من الرشد، وإني إذا حكمت بمقتضى ما أدتني
إليه تجربتي واختباري أقول إن (أميل) لا يزال أكثر انبعاثًا إلى العلم بالأشياء منه
إلى الحكم عليها، فالذي يهمه ويشغله إنما هو كيفيات الموجودات الظاهرة، وبعض
دلائل الفكر وأماراته، وسأبين لك مرادي بمثل آخذه من ضروب تسلينا فانتظره في
المكتوب الآتي اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب الولد من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) بايرون: هو اللورد بايرون الشاعر الإنكليزي مؤلف القصص الكثيرة التي منها قصة الغلام هارولد وقصة الدون جوان ولد في سنة 1788 ومات سنة 1824.
(2) هو رأس من رؤوس سواحل إنكلترا في الطرف الجنوبي الغربي لقومتيه كورنواي.
(3) مقاطعة أوفرني: هي إقليم قديم من أقاليم فرنسا قاعدته كليرمونت فيراند ألفت منه ومن جزء من الهوت لوار والكروز مقاطعتا كانتال وبوي دودوم.
(4) السلتية: نسبة إلى السلت وهم شعوب قديمة من الناس كانوا يقطنون بلاد الفول وشمال إيطاليا وبريطانيا العظمى وأيرلاندا.
(5) نسبة إلى القسيسين؛ لأنهم هم الذين كانوا مختصين بهذه الدوائر فلا توجد في غير محالهم.
(6) هوراس: هو شاعر لاتيني شهير وُلد في سنة 68 ومات في سنة 8 ق م.(4/778)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(رمضان)
فديتك زائرًا في كل عام ... تحيِّي بالسلامة والسلام
وتقبل كالغمام يفيض حينًا ... ويبقى بعده أثر الغمام
وكم في الناس من دنف مشوق ... إليك وكم شجي مستهام
رمزت له بألحاظ الليالي ... وقد عجز الزمان عن الكلام
فظل يعد يومًا بعد يوم ... كما اعتادوا لأيام السقام
ومدَّ له رواق الليل ظلاًّ ... يرف عليه أجنحة الظلام
فبات وملء عينيه منام ... لتنفض عنهما كسل المنام
ولم أر قبل حبك من حبيب ... كفى العشاق لوعات الغرام
فلو تدري العوالم ما درينا ... لحنَّت للصلاة وللصيام
وما كلُّ الأنام ذوي عقول ... إذا عدُّوا البهائم في الأنام
بني الإسلام هذا خير ضيف ... وقد يغشى الكريم ذرى الكرام
يلمُّكم على خير السجايا ... ويجمعكم على الهمم العظام
فشدُّوا فيه أيديكم بعزم ... كما شدَّ الكميُّ على الحسام
وقوموا في لياليه الغوالي ... فما عاجت عليكم للمقام
وكم نفر تغرهم الليالي ... وما خلقوا ولا هي للدوام
وخلوا عادة السفهاء عنكم ... فتلك عوائد القوم اللئام
يحلون الحرام إذا أرادوا ... وقد بان الحلال من الحرام
ومن روَّته مرضعة المعاصي ... فقد جاءته أيام الفطام
* * *
(حسن التعليل في التمثيل)
بنو آدم أعداء ... على السراء والضرا
وما حياك باسِمُهم ... وإن أبدى لك البشرا
ففي الصدر حزازات ... تكاد تمزق الصدرا
ولو كادوا النجوم هوت ... من الخضراء للغبرا
فما الدنيا إذا فكَّرْ ... تَ غير جهنم الصغرى
ألست ترى بها أممًا ... وكل تلعن الأخرى
لقد جرّبتُ أهليها ... فلم أر فيهم خيرًا
(ومثلهم لنا الكفر ... اوي والصبان والفرَّا)
فعمرو ضارب زيدًا ... وزيد ضارب عمرا
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صادق الرافعي
* * *
(تشطيران للأديبة المصرية الشهيرة السيدة زينب فواز)
(ومصباح كأن النور منه) ... يحاكي ثغره البسَّام جهلا
زها منه ضياء كي يضاهي ... (محيَّا من أحب إذا تجلى)
(أغار على الدجى بلسان أفعى) ... فبدد شمله خذلاً وذلا
وبارز كوكب الجوزاء منه ... (فشمَّر ذيله فَرَقًا وولَّى)
* * *
(أمنت إلى هذا وذاك فلم أجد) ... من الخلق من أرجوه في عالم الحس
وما رمت من أبناء دهر معاند ... (أخا ثقة إلا استحال إلى العكس)
(فأصبحت مرتابًا بمن شط أو دَنَا) ... ولو كان في المريخ أو جبهة الشمس
وأيقنت أن لا خل في الكون يرتجى ... (من الناس حتى كدت أرتاب من نفسي)
* * *
(قصيدة بدوية سليقية في واقعة سياسية)
كُتب إلى جريدة الأهرام الغراء من مسقط ما نصه:
صرف القنصل الإنكليزي زمنًا طويلاً وهو يحاول الوصول إلى منجم للفحم
الحجري في صور، فبذل لذلك كل مسعى وحبط في المرتين الأولي والثانية؛ ولكن
حبوطه لم يثنه عن عزمه، وظل متلعًا عنقه إلى المنجم وفاتحًا عينيه للقبض على
المغنم، وسار ثالث مرة فوقف الأعراب في وجهه في وادي (رفصة) وردوه، فاتفق
مع سلطان عمان على أن ينجده بالهدايا والأموال، فجاء السيد فيصل يحمل التحف
ليغوي بها الأعراب، فهبت على مركبه ريح صرصر فابتلع البحر الهدايا وضاعت
من يده؛ ولكنه اتكل على المال الذي أعطاه إياه الإنكليز، فوزع على مشايخ القبائل
مبلغًا جسيمًا فرضي بعضهم بأن يسمح للقنصل بالوصول إلى المنجم والوقوف عليه،
وأبى الآخرون وسار القنصل مخفورًا فلما كاد يصل ظهرت ألوف العربان،
وأطلقت البنادق؛ ولكنهم أُقنعوا بأن القنصل لا يريد الاستيلاء على المعدن أو
الأرض، بل هو يريد رؤيته فسلموا له بذلك بعد مال وفير قسم بينهم، وما مكث
القنصل عند المنجم سوى بضع ساعات إذ وقف على حاله وعمقه وموقعه، وأشار
عليه المشايخ الذين يخفرونه بالقفول سريعًا مخافة العطب، والقصة كلها نظمها أحد
مشائخ الجعليين شعرًا، وهذا الشيخ المسن أعمى لا يرى، وهو ينظم الشعر عفوًا
ارتجالاً، والكتاب تتلقاه عنه وتسطره، وهذه هي القصيدة وفيها الدلالة الكافية
ننشرها على علاتها كالفكاهة؛ ولأنها الآن أنشودة كل عربي وبدوي في تلك
الأصقاع.
حدث أخي عن العجب ... وعن العلا وعن الحسب
وعن الخيانة أنها ... عار قبيح في العرب
طلب النصارى [1] أرضنا ... بمكيدة يومًا طلب
متعللاً بسياحة ... ... وقناصة تقضي الأرب
فأقام منا عصبة ... في رده حتى ذهب
لما دعا عيسى [2] أجبـ ... ـناه فحيا من وثب
فمضى ونحن أمامه ... لنضم شملاً للعرب
جئنا لجعلان فلم ... نلق خلافًا مقتضب
فتواثقوا وتعاقدوا ... في منعه عما طلب
وبنو مشرف [3] قابلوا الـ ... ـبالوز [4] بالمنع الألب
منعوه من أمرار رفـ ... ـصتهم فرد على العقب
وسليل [5] تركي تهد ... دهم فلم يخشوا عطب
لله درهم ودر ... رئيسهم حين انتدب
فرأى النصارى أننا ... في البأس كالسيف العضب
فغدا وكاتب فيصلاً ... فأجابه لما كتب
فأتى إلى صور لكي ... يقضي لهم ذاك الأرب
في مركب قد جاءها ... وله متاع قد ذهب
قد سلط الله على ... ما عنده بحرًا لجب
ودعا القبائل كي يخا ... دعهم بمال أو نشب
فنما إلينا أمره ... وأتى إلينا المحتسب
عيسى وأصحاب له ... جاءوا لنا بالمنترب [6]
ووراءهم جند كثـ ... ـير كالتراب إذا حسب
حرث وحجريون والـ ... ـهشم الغضارفة النجب
مع آل حبس [7] أو وهيـ ... بة [8] أو رواحة [9] تنتدب
ندب [10] ورحبيون أيـ ... ـضًا والسيابي المنتصب
مع آل أسود إن دعوا ... يتواثبون على الميب [11]
أو عامر [12] وبنو ريا ... م والقبائل نجتنب
من غافري أو هتا ... ويٍّ [13] تراهم كالشهب
فأتى إلينا داعيًا ... لنرد فيصل للعقب
فرأى البسالة في وجو ... هـ القوم منا تلتهب
سرنا لنحمي الدار عن ... أهل المعاصي والريب
حتى نزلنا بالفليـ ... ـج [14] من المكان المنتخب
سرنا وصادفنا العدو ... ومكانه منا قرب
لله وقفتنا بأم ... اللخم [15] إذ حمي اللهب
وترى التفاق [16] موجها ... ت للعدو المضطرب
وترى الكماة من الرجا ... ل كأسد غاب تنتشب
وترى المنايا في وجو ... هـ القوم تلمع كالشهب
والشمس في كبد السما ... ء على القماحد تلتهب
والأرض تشعل نارها ... وحصاؤها شبه الحطب
وهلال نجل سعيدنا [17] ... أورى الحروب لنا وشب
لما غدا متقحمًا ... لجج المنون ولم يهب
فهناك بان أخو البسا ... لة والجبان المكتئب
لو لم يكن عيسى أرا ... د العفو عنهم أو أحب
لرأيتهم جزر السبا ... ع مقطعين إرب إرب
فتصير أم اللخم أم ... اللحم مهما تنتسب
أو يرجعون كأنهم ... شعر تساقط عن جرب
وتحامت العربان طرًّ ... اعن ضياع ينتسب
إلا الصوايع [18] كالأُلى ... قد صوَّعوا بين العرب
لبسوا متى نصروا النصا ... رى كل عار مكتسب
فتشخصوا أشرافهم ... يتصارعون على العطب
ويسوسهم رجل [19] على ... حال الضلال نشا وشب
جاءوا وقنصلهم أما ... مهم كصنم منتصب [20]
كانوا كرامًا يُحسبو ... ن من الكرام أولي الحسب
فغدوا عبيدًا للنصا ... رى فانظرن هذا العجب
واستثن من أشرافهم ... قومًا لهم فينا رتب
جند الأمير ومن غدا ... عند الأمير متى وثب
أعني سعيدًا نجل سا ... لم المهذب إذ ندب
فهو الذي قد كان في الـ ... أعداء سهمًا قد وصب
في عصبة نصروا الإلـ ... ـه مع الذي فيه احتسب
فأتى بجمع من بني ... حسن [21] غضاريف نجب
فاشتد عند وصولهم ... حبل الهدى من غير جب
فلهم إذا طاب الثنا ... طيب الثنا بين العرب
إذ هم غدوا إخواننا ... قد ساعدونا في الوصب
وانزاح عن أفكارنا ... بوصولهم كل التعب
واذكر محمد بن شا ... مس [22] الذي في المجد خب
أَوَمَا رأيت ثباته ... ... يوم الزلازل تضطرب
فلقد سما بتقدم ... يوم الخؤن قد انقلب
وغدا عبيد الباليو ... ز كمثل نمل في سرب [23]
قد ورَّثوا أبناءهم ... ثوب المذلة والعطب
فلسان كل الخلق تُهـ ... ـدي نحوهم شتمًا وسب
والحمد لله الذي ... رد الأعادي للعقب
في خيبة من سعيهم ... خابوا وخاب المنقلب
__________
(1) كملة اصطُلح عليها بمعنى الإنكليز لا غير؛ لأن النصارى الآخرين في عرفهم أعداء الإنكليز.
(2) أي عيسى بن صالح شيخ قبيلة الحرث غزا مسقط سنة 95 وأخذ من أهلها دية كبيرة.
(3) أي المشارفة لهم قلعة الرفصة على مضيق في جبال المنجم.
(4) أى الباليوز وسيأتي بالياء، وهنا بدونها للضرورة، وتحقير للاسم والمسمى، وهو القنصل بلغة من لغات الهند.
(5) أي فيصل بن تركي صاحب مسقط، ويقال له السيد، وقد تلقب بعض أسلافه بالإمام، وهو يدعي أنه سلطان ولا أحد في بلاد العرب يوافقه، ولاسيما لصغر نفسه مع الإنكليز، ولو كان سلطانًا حقًّا لباع منهم مملكته.
(6) قرية من الشرقية التي هي قطر من عمان.
(7) أي الحبوس.
(8) أي آل وهيبة.
(9) أي بنو رواحة.
(10) أي الندابيون.
(11) جمع الميبة وهي في عمان المتراس كناية عن المساكرة.
(12) أي العوامر.
(13) أسماء الحزبين المتشاق إليها قبائل عمان.
(14) قرية.
(15) اسم مكان.
(16) جمع (تفق) أي: بندقية، مأخوذة من (تفنك) العجمي.
(17) هلال بن سعيد شيخ الحجريين.
(18) فخذ من قبيلة بني أبي حسن.
(19) عامر بن سالم شيخ الصوايع.
(20) تعريض بكبره وافتخاره، فهو طويل القامة، وله أنف طويل اعوج به، لقَّبته العرب أبا منقار وهو مكروه عندهم كرهًا شديدًا، فهو والسيد فيصل في المحبة كالأخوين، وكذلك رتبتهما في اعتبار العرب.
(21) أي بني أبي حسن.
(22) هو من أعيان قبيلة المشايخ.
(23) تعريض بأن القنصل ومن معه وصلوا المكان المعروف باسم اللخم السابق ذكره، وهو قريب من معدن فحم كان يقصده القنصل، ووعده السيد فيصل بإعطائه إياه، فإذا بالعرب أظهروا أنفسهم فوق الجبال وأطلقوا بنادقهم إلى السماء بقصد التخويف لا غير، إلا أن بعض المطلقين أخطأوا بحيث وقع بعض الرصاص بقرب من القنصل ومن معه، فألقوا أنفسهم من فوق مراكبهم إلى الأرض، ودبوا إلى الغيران وشقوق الصخور ولبدوا فيها، إلى أن أتاهم شيوخ العرب وسكَّنوا خواطرهم، ثم ساروا بهم إلى مكان الفحم فردوهم إلى الوراء.(4/787)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(مقدمة التفسير وتفسير الفاتحة ومسائل أفعال العباد والغرانيق وزيد وزينب)
الفاتحة يحفظها كل مسلم؛ لأنها جزء من صلاته، وينبغي له أن يفهم معناها
وفهمها من كتب التفسير يصعب على غير العلماء؛ لأنها ممزوجة بالاصطلاحات
العلمية والإعراب، وقد فسرها الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية تفسيرًا دينيًّا
خالصًا يسهل على كل قارئ فهمه، ونشرنا تلخيص ذلك في المنار.
ومسألة إسناد أفعال العباد إليهم تارةً، وإلى الله تعالى تارةً أخرى من أعظم
المشكلات الاعتقادية، وقد فسر الأستاذ الإمام الآيات التي توهم التناقض فيها بما
يرفع الإشكال ونشرناه في المنار.
ومسألة الغرانيق التي هي أكبر الشبهات على الوحي، ومسألة زيد وزينب
التي هي أكبر مطعن للمخالفين على النبي صلى الله عليه وسلم، قد اضطرب في
تفسير الآيات التي اتخذت شبهة في المسألتين المفسرون، ففسرها الأستاذ الإمام في
مقالتين نشرتا في المنار أيضًا.
وقد رأيت أن يُطبع تفسير الفاتحة، وتفسير الآيات المتعلقة بهذه المسائل على
حدة ليعم نفعه، فأنفذت ذلك، وساعدني على الطبع والنشر صديقي الفاضل الشيخ
أحمد عمر المحمصاني، ويُطلب الكتاب من إدارة المنار، ومن سائر المكاتب
الشهيرة، وثمنه قرشان ونصف قرش.
***
(كتاب غاية البيان، لما به ثبوت الصيام والإفطار في رمضان)
أهدانا هذا الكتاب الوجيز من تأليفه الأستاذ الفاضل الشيخ محمود محمد
خطاب السبكي أحد المدرسين في الجامع الأزهر، ألَّفه لبيان أن الكتاب والسنة وما
صح عن الأئمة هو أن الصيام والإفطار إنما يكونان برؤية الهلال، أو إكمال العدة
وأنه لا يجوز العمل بقول الحاسب والمنجم، وقد أورد النقول من كتب الفقه في
المذاهب الأربعة حتى كتب الشافعية الذين يقول بعضهم: إن للمنجم والحاسب العمل
بعلمه في حق نفسه فقط، وجاء المؤلف بما يضعف هذا القول الذي اعتمده بعض
الفقهاء، وقد قرَّظ الكتاب جماعة من علماء المذاهب الأربعة وأولهم شيخهم الأكبر
شيخ الجامع لهذا العهد.
***
(الرسالة البديعة - في الرد على من طغى فخالف الشريعة)
وأهدانا الأستاذ المذكور هذه الرسالة أيضًا في الرد على أهل الطرق الذين لم
يوافقوا في ذكرهم الكتاب والسنة، وهي جواب سؤال عرض عليه، وقد وافقه في
الجواب جماهير علماء الأزهر، وفي مقدمتهم شيخهم الأكبر لهذا العهد، وكان
يومئذ شيخ السادة المالكية، وقد بيَّن في هذه الرسالة أحكام الإنشاد في الذكر
والسماع والرقص والطبول والدفوف والمزامير التي يستعملونها، وشدد النكير على
ذلك، وذكر بعض شبهاتهم على إباحة هذه البدع وبيَّن بطلانها، وذكر أيضًا بدعهم
في تشييع الجنائز، ثم شرب الدخان في مجالس القرآن وغيرها، ثم تكلم في البدع
والعادات القبيحة المحرمة التي يأتيها الناس في ليلة الزفاف، وقد ذكر أمور غريبة
جدًّا ما كنا نظن قبل قراءتها أنه يوجد في البشر مثلها، فهي مما يستحي الإنسان،
لا سيما المسلم من سماعه أو قراءته، فكيف انتهى الناس في التسفل إلى فعله.
***
(تحفة الأبصار والبصائر - في كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر)
وأهدانا هذا الأستاذ أيضًا هذه الرسالة له، وموضوعها معروف من اسمها
وعليها تقريظ شيخ الأزهر الأسبق الأستاذ الشيخ حسونة النواوى وأشهر شيوخ
الأزهر ومنهم الأستاذ شيخ الأزهر لهذا العهد، وسنقتبس شيئًا منها أيضًا إن شاء
الله تعالى، وإننا نشكر لهذا الأستاذ الهمام عنايته بالكتابة فيما ينفع الناس، وهم في
أشد الحاجة إليه، ونسأل الله أن ينفع به وبتآليفه.
***
(كتاب محك النظر)
من الترقي في العلم اليوم انتداب بعض الفضلاء لطبع كتب الأئمة الأولين من
علماء الإسلام، ومن هذه الكتب (محك النظر) في المنطق للإمام الغزالي وهو
يخالف كتب الفن التي بين أيدينا في ترتيبه وتقسيمه وتعبيره وأسلوبه؛ فإنه يتكلم
على التصديقات قبل التصورات؛ لأنها المقصود الأهم ويقسم الكلام فيها إلى ثلاثة
فنون: الفن الأول في السوابق، وفيه فصول في الألفاظ والمعاني والقضايا
وأحكامها، والفن الثاني في محك القياس من المقاصد، وهو طرفان أحدهما في نظم
القياس، والثاني في محك النظم وشرطة، والثالث في مادة القياس ... إلخ.
أما أسلوبه فأسلوب الكتاب البلغاء وحسبك أن تقول أسلوب الغزالي المعهود
في الإحياء وغيره من القوة والسهولة والبيان والبسيط والتمثيل، أذكر من بيانه
قوله في تعريف اليقين: (أما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله، وهو أن النفس إذا
أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال (أحدها) أن تتيقن
وتقطع به، ويضاف إليه قطع ثانٍ، وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح، ويتيقن
بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس، ولا يجوز الغلط لا في
تيقنه بالقضية، ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه، ويكون فيه آمنًا مطمئنًا قاطعًا
بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه، ولا أن يطلع على دليل غاب عنه، فيغير
اعتقاده، ولو حكي نقيض اعتقاده عن أفضل الناس، فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه
وخطأه، بل لو حكي له أن نبيًّا مع معجزة - كذا ولعل الأصل ذا معجزة - قد
ادعى أن ما تيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته، فلا يكون له تأثير بهذا السماع، إلا
أن يضحك منه ومن المحكي عنه، فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون الله قد أطلع
نبيه على سر انكشف له - لعله به - نقيض اعتقاده، فليس اعتقاده يقينًا) اهـ،
ومثَّل ببعض اليقينات البديهية، فأنت ترى أن هذا البسط ضروري في كتب التعليم
وتعلم أن الذين لا يأخذون العلم بمثل هذا الإيضاح يكون علمهم دائمًا مبهمًا مظلمًا
لا تنكشف به الحقائق، ألا ترى أن أكثر الذين يتعلمون المنطق بكتب المتأخرين
المبهمة الموجزة لا يفرقون بين الظن واليقين، وأن أحدهم يتوهم أن سكونه للتسليم
بقول فلان العالم وثقته به عين اليقين، وهو مع ذلك إذا ثبت له أن ذلك العالم رجع
عن ذلك القول يرجع هو عنه أيضًا، وذلك شأنهم في العلم والدين فأين علم اليقين
وحق اليقين.
وغاية ما أقول في تقريظ هذا الكتاب: إنه ينبغي لكل طالب علم أن يطالعه
ليميز بين العلم الحي الذي تتغذى منه العقول وبين غيره، وقد طُبع على نفقة
الفاضلين الشيخ محمد بدر الدين النعساني الحلبي، والشيخ مصطفى القياني
الدمشقي، ويُطلب من المكاتب الشهيرة في مصر.
__________(4/794)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(رحلة سمو الخديوي إلى السودان وخطبته)
كنا وعدنا قبيل سفر العزيز إلى السودان بأن نكتب شيئًا من آراء الناس في
هذه الرحلة بعد السفر، ولما أن نشرت الجرائد خطبة سموه لم نر حاجة لذكر رأي
آخر؛ ولكننا ننشرها دون خطبة السردار التي هي ترحيب بسموه، وإعراب عن
الأمل بترقي عاصمة السودان وتدرجها في العمران حتى تصير عاصمة عظيمة،
ومتجرًا كبيرًا في السودان، وقد كانت خطبة سعادة السردار والحاكم العام للسودان
باللغة الإنكليزية، وقد أجابه سمو الخديوي بالعربية، وفي بعض الجرائد أن خطبة
سموه كانت مهيأة من قبل وهذا نصها:
يا سعادة السردار وحاكم السودان العام، ويا حضرات الضباط والعساكر
والموظفين وعلماء ومشايخ وأعيان وأهالي السودان، إني أشكركم على الخطاب
الذي حييتموني به، وإني أؤكد لكم بأني أعد من أعظم المسرات لي رؤيتي إياكم
في هذه البلاد الشاسعة التي قربتنا منها السكة الحديدية العجيبة التي ملأتني ارتياحًا
وابتهاجًا الآن، وقد رأيت هذه البلاد وعرفت الصعوبات والمشقات التي لاقاها من
كانت لهم يد في الحملات، التي كانت نتيجتها محو سلطة عبد الله التعايشي وإعادة
العدل والراحة والسكون في جميع أنحاء السودان (العلمان الإنكليزي والمصري
اللذان يخفقان بجانب بعضهما هما إشارة إلى الحكومة المشتركة التي أخذت على
عاتقها حماية الأهالي من الوقوع في شرك أهل الظلم والفساد، وابتداء عصر هناء
وسعادة في هذه الديار) ولقد سرني أيضًا ما أشاهده من تقدم مدينة الخرطوم في
العمران، واعتقدوا أني سأحفظ لكم أحسن ذكرى لاحتفائكم بي في هذه الزيارة
الأولى، وإني ليشملني السرور كلما سمعت بتحسن أحوالكم وتقدمكم في الرفاهة
التي أرى شواهدها بدت في كل الأرجاء، هذا وإني أنعم الآن بكل ارتياح ببعض
النشانات على بعض كبار علماء الدين، وسأنعم بها فيما بعد على الضباط
والموظفين والأهالي الذين يعرض عنهم لي سعادة السردار والحاكم العام بناء على
التقارير السنوية التي ترد له من المديريات، ثم أكرر لكم تشكري على احتفائكم بي
احتفاء صادرًا عن حسن نية وخلوص طوية اهـ.
***
(فتنة الكويت)
كان من أمر هذه الفتنة أخيرًا أن الدولة العلية رفعت رايتها على بناء الإمارة،
فأنزلها الإنكليز المرابطون هناك في البحر، ورفعوا مكانها راية شيخ الكويت أو
أميره، وذلك عدوان عظيم، وقد كتب إلينا من مكة المكرمة ما نصه: (يدور
عندنا في بعض الأندية (ولا نادي) الحديث في فتنة الكويت التي نخشى أن تطير
منها شرارة إلى الحجاز؛ فتثير الكامن وتظهر الحقيقة وينجلي المجاز، فما تنفع
القوات وأساسها خراب، وما تنفع الطاعة وصاحبها في خلاب) وهذه العبارة تثير
كامن الوساوس، وتبعث ميت الهواجس، وتدل على أن هناك أمرًا خفيًا، واتفاقًا
سريًا، ولعله يكون أمرًا فريُّا.
***
(مدرسة محمد علي الصناعية)
يسر كل غيور على أمته أن جمعية العروة الوثقى الإسلامية هبت في هذا
العام لإنشاء مدرسة صناعية تنسب إلى اسم محمد علي باشا الكبير، وقد جعل
الاكتتاب لتأسيسها تحت رياسة وزير مصر الشهير صاحب الدولة مصطفى رياض
باشا، وكان أول المتبرعين مولانا الخديو المعظم تبرع بمائة جنيه، وقد تبرع
أخيرًا جناب اللورد كرومر بمائة جنيه إنكليزي أرسلها لدولة الوزير مع كتاب شكر
على هذا العمل النافع الذي يحث المصريين عليه دائمًا، وقد بلغ الاكتتاب زيادة عن
خمسة آلاف وثلاثمائة جنيه، فنحث أهل الغيرة على البذل في هذا العمل العظيم؛
لأن البلاد في أشد الحاجة إليه.
__________(4/798)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار
عُني صديقنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظم بتأليف تاريخ سماه (أشهر
مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة) يمثل فيه المدنية الإسلامية بطريقة لم
يسبقه إليها مؤرخ مسلم، وقد صدر الجزء الأول منه في سيرة الخليفة الأول
وقائده الحربي الشهير خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وجعل ثمنه 6 قروش
ليسهل اقتناؤه، وسنقرظه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
***
نرجئ منار غرة شوال إلى نصف الشهر، وقد علم القراء من قبل حكمة ذلك،
وقد ضاق هذا الجزء عن نبدة (نساء المسلمين) والموعد ما بعده.
__________(4/800)
16 شوال - 1319هـ
26 يناير - 1902م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حياة أمة بعد موتها
جمعية اليهود الصهيونية
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
كنا نتحدث في أيام العيد مع صاحب الدولة رياض باشا في حال المسلمين وما
يحتاجونه من الإصلاح، فجاء ذكر اليهود عند ذكر ركن كل إصلاح وتقدم وهو
(المال) وذكرنا الجمعية الصهيونية ومساعيها في إعادة السلطة والمُلك إلى شعب
إسرائيل، فقال الوزير: إنه اطلع في هذه الأيام على كتاب لبعض الأوربيين
المحادين لليهود ألَّفه صاحبه للوقيعة والإزراء بهم، فكان كله تعظيمًا في الحقيقة
وتبجيلاً، ومما فيه أنَّ أزِمَّةَ المنافع في باريس أو فرنسا بأيدي اليهود، وقد رغَّب
إليَّ بعض أفاضل المصريين بتعريبه لا ليستاء الإسرائيليون؛ ولكن ليعتبر
المسلمون.
أنى يعتبر المسلمون بأحوال البشر، وما في الأرض من الآيات والعبر،
وعلي أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، وقلوبهم في أكنة لا يصل إليها وعظ
الواعظين، ولا تنبيه المنبهين، فالعبرة بعيدة عنهم ما دامت هذه الحوائل والموانع
بينهم وبينها، وسننبه عليها في هذه المقالة، وإن كنا فصَّلنا القول فيها من قبل؛ فإن
أكثر قومنا ينسون النافع ويحتاجون إلى التكرار.
لو كنا نسمع أخبار الأمم سماع تدبر، أو نعقل الحوادث بحكمة وتبصر، لما
كنا نضرب المثل إلى اليوم بذُلِّ اليهود وضعفهم، ونخشى أن نكون في يوم من
الأيام مثلهم ونحن لا نعرف أنفسنا ولا نعرفهم، لا نعرف من فضلنا عليهم في
الحياة الاجتماعية إلا أن بعض بلادنا لا تزال تحت رياسة أمراء منا، وأنهم
محرومون من السلطة، ويا ليتنا كنا نبصر الطريق التي تسير فيه أمراؤنا بتلك
البقايا من البلاد؛ لنعلم أهو طريق سلفنا العدول الصالحين الذين ورثوا الأرض
لأنهم صالحون لعمارتها؟ أم هو طريق خلفهم المستبدين الجائرين الذين أضاعوا
أكثر الممالك الإسلامية حتى لم يبق لنا منها إلا ذلك البعض الذى أعمانا الغرور به
على ما نشاهد من استبداد الأجانب علينا فيه.
ثم يا ليتنا كنا نبصر الطريق الذي يسير اليهود فيه الآن؛ لنعلم هل هو طريق
سلفهم الذين كانوا مغرورين بالنسب الشريف (سلالة الأنبياء) واللقب الضخم
(شعب الله - أبناء الله وأحباؤه) والاعتماد على بركة التوراة في الاستفتاح على
الأمم والانتصار على المناصبين من غير عمل بما ترشد إليه من الاتحاد والاعتصام؟
أم هو طريق آخر اعتبروا فيه بسنن الله في خلقه فحافظوا على لغتهم وجامعتهم
الملية مع تشتتهم في جميع أقطار الأرض، وتقرب بعضهم من بعض بالتعاضد
والتعاون، وأخذوا بجميع علوم العصر وفنونه النافعة، وبرعوا في جمع المال الذى
هو أساس القوة والعزة في هذا العصر؟ أليس هذا هو الطريق الذى استقام عليه
الإسرائيليون في هذا العصر، فنبتت شوكتهم المخضودة، وعادت عزتهم المفقودة،
ولا ينقصهم أن يكونوا أعظم أمة على سطح الأرض إلا الملك، وهم يسعون إليه
من طريقه الطبيعي، وإن اليهودي الواحد اليوم أعز من ملك من ملوك الشرق؛
فإن أية دولة أوربية تهدد أعظم سلطان شرقي بالقول والفعل وتحمله بالقوة على أن
يهين نفسه، وقد حاولت دولة فرنسا أن تهين رجلاً يهوديًّا فقامت عليها القيامة،
وكادت تشب فيها الحروب الداخلية المجتاحة لولا أن تداركتها، وذلك في مسألة
دريفوس التي لم ينسها أحد ممن عرفها.
لليهود جمعيات ملية كثيرة - ولا نجاح للأمم إلا بالجمعيات - ولم نسمع بذكر
الجمعية الصهيونية إلا من نحو خمس سنين، وهي جمعية سياسية غرضها
الاستيلاء على البلاد المقدسة لتكون مقر ملكهم وعرش سلطانهم، وقد جاء ذكر هذه
الجمعية في العدد السادس من منار السنة الأولى (ص 44 و 45) وفيه أن حركة
هذه الجمعية ظهرت فجأة في النمسا وألمانيا وإنكلترا وأميركا، ولم تكن تُظهر
في أول الأمر طلب الملك؛ وإنما كانت تتظاهر بحب نقل فقراء اليهود المهاجرين
والمُخْرَجِين (المنفيين) إلى بلاد فلسطين؛ ليعمروها ويعيشوا في ظل السلطان
آمنين، وكأنها وثقت بقوتها الآن، فخرجت من مضيق الكتمان، وقد بعثت منذ
أشهر المستر إسرائيل زنفويل من لندرة إلى الآستانة للمساومة في شراء القدس
الشريف ويقال إنه لقي من الحضرة السلطانية التفاتًا وانعطافًا، وبعد رجوعه خطب
في الجمعية فقال ما مثله بالعربية:
(إن اليهود سيرجعون بكثرة إلى فلسطين مملكتهم القديمة التي لا يمكن أن
تغرب شمسها من سماء أفكارهم، وسيبلغ عددهم فيها سنة 2000 أي آخر القرن
العشرين المسيحي مائتي ألف ألف (مليونين) نفس، وسيجعلون تلك الأراضي
جنات عالية قطوفها دانية، وينشئون فيها حدائق ذات بهجة، ويصلون أطرافها
وأرجاءها بالسكك الحديدية، ويقيمون فيها حكومة منتظمة خاصة بها تكون نموذج
الكمال لجميع الأمم والأجيال، فيكون شعب إسرائيل منارًا على جبل صهيون
تهتدي به الأمم كلها إلى المدنية الفضلى في الأحوال الاجتماعية والسياسية
والقضائية والأدبية والزراعية وسائر الشؤون المعاشية، ومن قوانينه تتعلم دول
أخرى طرق الرشاد في تدبير الممالك، كما تتعلم الأمم والشعوب من نظامه
الاجتماعي حقيقة المدنية، ومن سيادته الروحية معنى الديانة الحقيقية) .
قال: (وبالجملة فإني معتقد بنجاح الآمال في امتداد ملة اليهود بعد رجوعهم
إلى فلسطين، ويمكن أن يقال إنه منذ زمن المسيح إلى هذا العهد لم يطلع العالم
على شيء من حياة الإسرائيليين وأعمالهم، وقد كانوا مضطهدين من المسيحيين
والوثنيين في كل مملكة، فكان ذلك هو السبب في بقائهم بما قرَّب بعضهم من بعض وألف بين قلوبهم، ومنعهم من مخالطة غيرهم والتزوج ممن سواهم) .
ثم قال: (وغاية ما يرمي إليه اليهود هو جمع النقود الكافية لابتياع أرض
فلسطين من السلطان الذي ستكون الحركة الكبرى تحت سيادته، وقد بلغ ما جُمع
إلى الآن ألف ألف ريال أميركاني (مليون) وفي كل مدينة وكل قرية يتبوءها
اليهود في مشارق الأرض ومغاربها فرع من الجمعية الصهيونية يجمع المال لهذا
الغرض، وكل ما جمع فهو من الفقراء؛ لأن الأغنياء مشغولون بمنافعهم الشخصية
عن إعطاء هذا المشروع حقه من العناية والاهتمام، على أن تهاون الأغنياء لا
يخمد نار الحمية الملية في نفوس الفقراء، يدل على ذلك جمع النقود بسرعة من كل
صوب وانهمار صيبها من كل أفق، ويرجى أن نوفق في بضع سنين لجمع مقدار
من النقود يكفي لبلوغ الغاية ونيل الأمنية) ... إلخ.
أظن أن الخطيب مبالغ في نسبة أغنياء اليهود إلى عدم العناية بمساعدة
الجمعية الصهيونية، ولعل الحكمة في ذلك تنشيط الفقراء والمتوسطين على البذل
بقدر الإمكان، ثم يكون الأغنياء هم الذين يُتمون العمل إتمامًا، وإلا فمن ينكر كرم
البارون هرش والإنفاق من سعته على شراء المستعمرات لقومه، ومتى بسط مثل
هذا الغني السخي يده لمساعدة هذه الجمعية، فقل قد قرب مجيء ذلك اليوم العظيم.
جمع فقراء اليهود ألف ألف ريال لهذا العمل ولديهم مزيد، وهذا بعدما عمموا
المعارف في طائفتهم، فهل ينشط المسلمون في مصر وهم يقربون من عدد يهود
الأرض لمساعدة الجمعية الخيرية بجمع ألف ألف قرش على إنشاء مدرسة كلية في
القطر المصري؟ ؟
هذا، ومن تصريح الجمعية الصهيونية بمقاصدها السياسية على رؤوس
الأشهاد للصحيفة العبرانية الفرنساوية التي نشرها فرع الإسكندرية في غرة الشهر
لدعوة اليهود إلى سماع الخطب والمناقشات ليلاً في قاعة الملهى العباسي، وقد
اُفتتحت بما معناه بالعربية الصحيحة:
دعوة صهيونية ليهود الإسكندرية
(أيها الإخوان: إن شعبنا ما برح يعلل النفس بأن تكون له أمة (دولة) ولم
يتوان في السعي ولن يتوانى مهما عارضته الصوارف، وناهضته الصوادف، وقد
مضي على أولئك الذين دافعوا الدفاع الأخير عن بيتنا المقدس ألفا سنة، كانت الأيام
فيها تساورنا وتحاول محونا من لوح الوجود، فعجزت بأبنائها عن زلزال عقائد
إسرائيل، وإن قواعد ديننا وأحكام شريعتنا تقضي علينا بأن نستمسك بعروة وطننا
القديم، ونعتقد أن سيعود إلينا مجدنا التليد ومكانتنا السامية، تمزق شعب إسرائيل
كل ممزق، وتفرق شمله في الأرض؛ ولكن بلاد صهيون كانت معهد الارتباط بين
أفراده فهي مأمن السرب، وفرجة الكرب، وبسببها بقينا حافظين للعهود، محافظين
على سنن الآباء والجدود.
إن أعاصير الظلم والاضطهاد وعواصف التعصب والعناد التي تعصف
باليهود لتمسكهم بدينهم - قد اضطرتنا إلى العمل بما تكنه السرائر، وإظهار ما
انطوت عليه الضمائر، والخروج من مضيق الاستعداد إلى فضاء الإيجاد،
فالمشروع الصهيوني يطالبنا الآن بالمبادرة إلى العمل، والمسارعة إلى اتخاذ الحيل
ويحذرنا عاقبة الفتور والكسل، حسبنا أننا مُخْرَجُون (منفيون) من كل مكان،
مبغضون من كل إنسان، يرمينا الشانئ بذلك الوصف الشائن الذي نُبزنا من أجله
بلقب (اليهودي التائه) على حبنا للإصلاح وخدمتنا الجليلة لكل بلاد تبوأناها
وإعلاء شأن المدنية في كل مملكة استوطناها، إذا لا علاج لهذا الامتهان إلا الاتحاد
والاعتصام لتأييد النهضة الملية التي تأسست في النمسا من أفاضل شعبنا لحفظ
حقوقنا المقدسة، وقد أشرعنا الطريق للسير وما بقي علينا إلا أن نسلكه.
إخواننا: عليكم نعتمد في نجاح المشروع الصهيوني في أرض مصر،
فلنسلك مسالك إخواننا في الأقطار البعيدة، فقد مهدوا لنا السبيل، فإذا عضدناهم
فساعة الفوز آتية بعد زمن قليل، ويناجينا الشعور بحاجة بعضنا إلى بعض بأن
ستبادرون إلى إجابة دعوتنا وحضور ليلتنا لسماع الخطب في ملهى (منفراتو)
الساعة 9 من مساء السبت 11 الشهر (الإفرنكي) ونحن في انتظاركم شاكرين لكم
سلفًا محبة صهيون)
... ... ... قسم جمعية بارخورشبا الإسكندرية
ماذا عسانا نقول الآن في تنبيه قومنا إلى الاعتبار باتحاد اليهود، وسعيهم
لاسترجاع مجدهم، بل لأن تكون لهم مملكة تقتدي بها جميع الممالك فيكونوا أئمة
للعالمين؟ نعيد بعض ما قلناه في العدد السادس من السنة الأولى عند ذكر خبر
الجمعية ولم يكن أحد يذكر عنهم أنهم يطلبون الملك، إلا ما أشرنا إليه في ذلك العدد
من أنفسنا، ذكرنا يومئذ خبر هذه الحركة الصهيونية عن مجلة المقتطف الغراء
لفوائد بيناها هنالك، نذكر منها هنا الفائدة الثالثة وهي:
(3) إيقاظ قوم قد رزءوا بالخمول، وكاد يعمهم الذهول، واستلفاتهم (كذا)
إلى الروابط المحكمة بين اليهود مع تفرقهم في الممالك وتشتتهم في الأقطار،
وكيف يمدون سواعدهم لمساعدة إخوانهم ومعاضدة قومهم من وراء البحار وشعوف
الجبال، ولم يصدهم تنائي الديار، عن المواصلة في الأفكار، والتعاون بالدرهم
والدينار، الذي يُحقق به كل أمل، ويناط به كل عمل، فيا أيها القانعون بالخمول
أقنعوا رؤوسكم (ارفعوها) وحدِّقوا أبصاركم، وانظروا ماذا تفعل الشعوب والأمم
أصيخوا لما تتحدث به العوالم عنكم، أترضون أن يسجل في جرائد جميع الدول
فقراء أضعف الشعوب الذين تلفظهم جميع الحكومات من بلادها هم من العلم
والمعرفة بأساليب العمران وطرقه بحيث يقتدرون على امتلاك بلادكم واستعمارها
وجعل أربابها أجراء، وأغنيائهم فقراء ... تفكروا في هذه المسألة واجعلوها
موضوع محاوراتكم لتتبينوا هل هي حقة أم باطلة، صادقة أم كاذبة، ثم إذا تبين
لكم أنكم مقصرون في حقوق أوطانكم وخدمة أمتكم وملتكم فانظروا وتأملوا وتفكروا
وتذاكروا وتحاوروا وتناظروا في مثل هذا الأمر فهو أخلق بالنظر من اختلاق
المعايب، وانتحال المثالب، وإلصاقها بالبرآء، وأحرى بالمحاورة من التذقح
والتجني على إخوانكم؛ فإن في الخير شغلاً عن الشر، وفي الجد مندوحة عن
الباطل {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) اهـ.
هذا ما قلناه من نحو أربع سنين فماذا نقول اليوم؟ لا ينفع القول مهما بالغ
المنذر في البيان، وأدلى بالحجة والبرهان، أو يزول ذلك الوقر من المسامع وتزاح
تلك الغشاوة عن الأبصار، وأعني بالوقر ما ملأ أسماع الناس وقلوبهم من إطراء
الأمراء والحاكمين، وإقناع النفوس بأن سعادة الأمة إنما تفيض من سماء عظمتهم،
فما عليها إلا الاتكال عليهم وتعظيمهم وبذل النفس والنفيس في التقرب إليهم،
وأعني بالغشاوة تلك التمويهات التي يغشُّون بها الجمهور ليطمئن إلى الأقوال،
ويغفل عن نتائج الأفعال، وليس من موضعنا بيان نتائج سياسة كل أمير من أمراء
المسلمين، فمجموعها ما نحن فيه، فإن لم يكونوا هم المبسلين للأمة والمضيعين لها
بسلطتهم المطلقة فلا شك أنهم لم يحفظوها من الإبسال والهلكة، ولا نريد من مقالنا
هذا أن تخرج الأمة عليهم؛ فإن هذا يكون عونًا للأجانب على سرعة الإجهاز علينا
ولكننا نريد أن لا تعتمد الأمة عليهم، بل تسعى بكل ما في طاقتها لتحصيل العلوم
النافعة والثروة الواسعة والتربية الرافعة، فمن كان من أمرائهم محسنًا كانت الأمة
عونًا له إذ هي قوام الملك وعماده، وعدته وعتاده، ومن كان مسيئًا جبروا نقص
إساءته بإحسانهم حتى إذا صاروا أمة حقيقية لها رأي عام قوَّموه أو قوَّموا خلفه
بتقييده بالشرع والشورى سالكين في ذلك الطرق الحكيمة التي لاتُخشى مغبتها، ولا
تُحذر عاقبتها.
__________(4/802)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأمراء والحكام
بلاء الأمة بهم
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
(22) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي
الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني
أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي تعالى لأمتي أن لا يهلكوا
بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي عز
وجل قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا
أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو
اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يفني بعضًا. وإنما أخاف على
أمتي الأئمة المضلين) [1] الحديث، السنة: القحط، والبيضة: حوزة الشيء
وأصل القوم ومجتمعهم وعشيرتهم، ويقال لجماعة المسلمين بيضة الإسلام، وإذا
سألنا التاريخ يخبرنا بأن الأجانب لم يستولوا على بلاد إسلامية، ولم يستبيحوا
بيضة طائفة من المسلمين إلا بمساعدة المسلمين، فأهل مراكش كانوا عونًا لفرنسا
على أخذ الجزائر، والأفغانيين أعانوا الإنكليز على الهنود، والجندي المصري فتح
السودان ورفع الراية الإنكليزية عليه، وما كان المسلمون ليفعلوا هذا إلا بأمر أئمتهم
أي أمرائهم، ولذلك كان يخاف النبي عليه السلام على أمته الأئمة المضلين.
(23) وقال صلى الله عليه وسلم: (لست أخاف على أمتي غوغاء تقتلهم
ولا عدوًّا يجتاحهم؛ ولكني أخاف على أمتي أئمة مضلين إن أطاعوهم فتنوهم،
وإن عصوهم قتلوهم) [2] في هذا الحديث شيء من بيان معنى الخوف في الذي
قبله، ومن البلاء أننا لا نرى أميرًا مسلمًا ينزع من نفسه عن الاستبداد ويقيد نفسه
بالشرع والمشاروة حتى تكون الأجانب هي التي تغل يده وتقيده.
(24) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله؛
ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله) [3] وقد عرفنا أهله من الأحاديث التي أوردناها
في الجزئين السابقين من المنار.
(25) وقال صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين
ولاة السوء) [4] وذلك أنهم يستعينون على إفساده بعلماء السوء الذين يفتونهم بما
يهوون ويعظمونهم على ظلمهم وفسقهم فيقتدي الناس بهم فيفسد عليهم دينهم.
(26) وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي إذا صلحوا صلحت
الأمة: الأمراء والفقهاء) [5] وهذا مؤيد لتفسير الحديث قبله.
(27) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته ما
لم تُحْدِثُوا عمالاً تنزعه منكم، فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتَحَوْكُم
كما يُلْتَحَى هذا القضيب) [6] وهذا تصريح بأن الملك لا ينزع من المسلمين إلا
بواسطة أمراء السوء؛ ولكن الأمير مهما كان ظالمًا لا يعدم أعوانًا يحسِّنون عمله
ويغشون الأمة به ما دام أميرًا، فلا تظهر سيئاته للناس كلهم إلا بعد موته يوم لا
ينفعهم ظهورها، ولو شئنا لذكرنا شهادات التاريخ الماضي. وتاريخ هذا العصر
الجرائد، وأكثرها خاطئة كاذبة، ممالئة مواربة.
(28) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس
أفسدهم) [7] وهذا الحديث مختصر مما بعده ومصداقه ظاهر مشاهد.
(29) (ستكون من بعدي أمراء فأدوا إليهم طاعتهم؛ فإن الأمير مثل
المِجَنّ يتقى به، فإن صلحوا واتقوا وأمروكم بخير - وفي نسخة: بمعروف - فلكم
ولهم وإن أساءوا وأمروكم به فعليهم، وأنتم منه براء، وإن الأمير إذا ابتغى الريبة
بالناس أفسدهم) [8] أي هذا شأنه. ومن طرق الإفساد ما يبينه الحديث الآتي. وقوله
عليه السلام (فلكم ولهم) ظاهر؛ فإن سعادة الأمير على حسب سعادة الرعية، وفي
الحديث تقديم ذكر الرعية على ذكر الأمير؛ لأنها الأصل، وأما قوله عليه السلام
(فعليهم) أي إذا لم تطيعوهم كما هو الحكم الشرعي، وذكرنا بعض الأحاديث فيه من
قبل.
(30) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنك إذا ابتغيت عورات الناس أفسدتهم
أو كدت أن تفسدهم) [9] ومن أمرائنا من يتخذ العيون والجواسيس للبحث عن
عيوب الناس وتتبع عوراتهم، وقد أفسدوا بها كثيرًا وأضلوا كثيرًا.
(31) وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون بعدي سلاطين الفتن على
أبوابهم كمبارك الإبل لا يعطون أحدًا شيئًا إلا أخذوا من دينه مثله) [10] .
(32) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم
سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كانت
أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من
ظهرها) [11] أي فعليكم أن تستميتوا في نصر الحق وتأييده غير وجلين من الموت؛
لأنه خير من حياة كهذه.
(33) وقال صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون
فمن ناوأهم نجا، ومن اعتزلهم سلم أو كاد، ومن خالطهم هلك) [12] ناوأهم أي
عاداهم أو عارضهم، وفي رواية نابذهم. قال العلماء: يجب الإنكار على من أمن
على نفسه، فإن خاف أن يقتلوه يسقط الوجوب ويبقى الجواز، فإن قُتل فتلك
الشهادة الفضلى، وورد في الحديث ما يؤيد ذلك، وقال في المعتزل (سلم أو كاد)
لأن اعتزالهم قد يتضمن إقرارهم على ما هم فيه من الجور والمنكر، وأعظم الجور
أن تكون سلطتهم فوق شرع الله تعالى، قال الغزالي في المعتزل: سلم من إثمهم
ولكن لم يسلم من عذاب إن نزل يعمه.
(34) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كيف بك
يا أبا عبد الرحمن إذا كان عليك أمراء يطفئون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها)
فقلت فكيف تأمرني يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يسألني ابن أم عبد كيف يفعل! لا طاعة لمخلوق في معصية الله) [13] وقد أطفأ
أمراؤنا من عدة قرون السنة حتى خرجوا عن هديها في الغالب، وأحيوا في هذا
الزمان سنة الإفرنج حتى التهتك الذي يفسد أخلاق الأمة كالمراقص وما في معناها
وقصورهم حانات خمور يتقربون بذلك إلى الإفرنج، إلا من عصمه الله تعالى
(راجع حديث 25) .
آثار السلف عبرة للخلف
(1) روى أبو بكر بن أبي شيبة والبخاري والدارمي والحاكم والبيهقي
في السنن عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال
لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها:
تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت قالت: ما بقاؤنا على هذا
الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ [*] قال
بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس
وأشراف يأمرونهم ويطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أمثال أولئك يكونون على
الناس) ما كانت هذه الأعرابية الفاضلة تعلم أن سيكون للمسلمين مدنية لها رؤساء
مكلفون بإقامة شعائر الدين والقيام بشؤون النظام العام فضرب لها المثل برؤساء
القبائل في بداوة الجاهلية.
(2) روى البيهقي عن ابن اسحاق قال في خطبة أبي بكر يومئذ، أي يوم
البيعة (وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران؛ فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم
وأحكامهم وتتفرق جماعتهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تترك السُّنة وتظهر البدعة
وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح، وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله
ورسوله واستقاموا على أمره قد بلغكم ذلك وسمعتموه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) (فنحن الأمراء وأنتم الوزراء إخواننا في الدين وأنصارنا عليه) .
وفي خطبة عمر بعده (نشدتكم الله يا معشر الأنصار ألم تسمعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أو من سمعه منكم وهو يقول: الولاة من قريش ما أطاعوا
الله واستقاموا على أمره؟ فقال من قال من الأنصار: بل الآن ذكرنا، قال: فإنا لا
نطلب هذا الأمر إلا بهذا، فلا تستهوينكم الأهواء فليس بعد الحق إلا الضلال فأنى
تصرفون) .
إذا كان شرط بقاء الأمر في قريش طاعة الله ورسوله والاستقامة على ذلك
فمن أين جاءت لمن عداهم السلطة المطلقة التي يضعون بها القوانين المخالفة
للشرع، ويصدرون الأوامر بالعفو عمن أمر الله بإقامة الحدود عليهم؟ ولماذا يطبق
المنتصرون للدين بالقول الآيات الواردة فيمن لم يحكم بما أنزل الله على القضاة
وحدهم وينسون الأمراء والملوك الذين شرعوا لهم ما لم يأذن به الله وولوهم القضاء
وألزموهم الحكم بتلك القوانين؟
(3) روى البخاري وأبو عبيد وابن سعد والبيهقي عن عائشة قالت:
(لما استخلف أبو بكر قال: لقد علمت قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي
وقد شغلت بأمر المسلمين فيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين
فيه) .
(4) روى ابن سعد عن عطاء بن السائب قال: (لما بويع أبو بكر أصبح
وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق، فقال عمر أين تريد؟ قال السوق، قال
تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين، قال فمن أين أطعم عيالي؟ فقال عمر: انطلق
يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من
المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم وكسوة الشتاء والصيف إذا أخلقت شيئًا رددته
وأخذت غيره) في هذا الأثر فوائد جمة منها فضل الاحتراف الذي ترفع عنه
كبراؤنا حتى افتقر كثير من البيوتات لذلك، ومنها أن الحاكم العام ليس له أن
يحترف لئلا يشغله ذلك عن المصلحة العامة، ومنها أن سنة الراشدين أن لا يفرض
الإمام الأعظم لنفسه شيئًا حتى تكون الأمة هي التي تفرض له وعليه الرضا بحكمها
ومنها أن العدل أن يفرض له ما يكفي للمعيشة المتوسطة بالنسبة إلى صنفه،
فيكون قريبًا من كل طبقات الأمة في حاله، من أعطى أمراء المسلمين بعد ذلك أن
يأكلوا أموال الأمة بغير حساب ويهبوا منها بحسب أهوائهم وشهواتهم؟ أيصح أن
يكون رئيس جمهورية سويسرة وقومه أقرب إلى العمل بسنة سلفنا من أئمتنا
وأمرائنا إذ فرضت له الأمة راتبًا يكفيه أن يعيش كالمتوسطين في بلده، ومن ذلك
أنه يركب في الدرجة الثانية إذا أراد السفر، وقد اشترطت الأمة عليه ذلك فإذا
خالف لا يعيدون انتخابه، ديننا وضع هذه الأصول الإصلاحية وغيرنا يتمتع
بسعادة العمل بها ويفوز بثمراتها، ونحن نقدس أمراءنا الذين أضاعوها، ونقول
لجهلنا: ما بالنا ننكسر والأجانب ينتصرون، ما بالنا نذل وهم يعزون، ما بالنا نفتقر
وهم يستغنون، ما بالنا نُستعبد وهم يسودون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) القرى: الأمم، والمراد بالظلم: الشرك
والكفر، كما ورد في الحديث الصحيح، وقد أوضحنا أسباب هلاك الأمم بالعقل والنقل
في المجلد الأول من المنار فليراجع.
(5) وفي رواية البيهقي عن الحسن أن أبا بكر لما غدا إلى السوق فمنعه
عمر (قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله يشغلني عن عيالي،
قال: نفرض لك بالمعروف، قال: ويح عمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من
هذا المال شيئًا، فأنفق سنتين في وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم فلما حضره
الموت، قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا
فغلبني فإذا أنا مت خذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال، فلما أُتي
بها عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا) .
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ثوبان.
(2) رواه الطبراني عن أبي أمامة.
(3) رواه أحمد والحاكم عن أبي أيوب.
(4) الحارث عن ابن مسعود.
(5) أبو نعيم في الحلية وابن النجار عن ابن عباس.
(6) أحمد والطبراني والحاكم عن أبي مسعود الأنصاري.
(7) أبو داود عن جبير بن نفير وكثير بن مرة والمقدام وأبى أمامة.
(8) الطبراني عن شريح بن عبيد، قال أخبرني جبير بن نفير وكثير بن مروة وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبو أمامة.
(9) رواه أبو داود عن معاوية.
(10) الطبراني والحاكم عن عبد الله بن الحرث مرفوعًا وله شواهد موقوفة ومرسلة.
(11) الترمذي عن أبي هريرة.
(12) ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
(13) عبد الرازق في الجامع وأحمد.
(*) (بعد النبي) متعلق بـ (بقاؤنا) .(4/809)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
النبذة الحادية عشرة
عصمة الأنبياء والخلاص
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن
دُونِ اللَّهِ وَلِيًًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123-124) .
ذكرنا في نبذة سابقة أننا طلاب مودة والتئام، وأن المناقشات في الأديان
والمذاهب قليلة الجدوى، وربما أضرت ولم تنفع؛ لأن أكثر الناس مقلدون، وما
أضيع البرهان عند المقلد! ! وقلنا: إن هؤلاء المبشرين الإنجيليين اضطرونا إلى
الرد على تمويههم بما يرسلون إلينا من الكتب والجرائد التي تطعن في عقائد
المسلمين، ويلحون علينا بأن نرد عليها، وقد انضم إلى إلحاحهم طلب كثيرين من
المسلمين يقولون ليس في القطر مجلة إسلامية أنشئت لخدمة الدين مع العلم إلا
المنار، فيجب عليها رد الشبهات التي توجه إلى الإسلام، فبهذا وذاك صار من
الواجب علينا بحكم ديننا الرد على هذه الكتب والجرائد ونأثم شرعًا بتركه.
(كلما داويت جرحًا سال جرح) كنا نردُّ على آخر كتاب لهم جمع خلاصة
شبهاتهم، وإذا نحن بجريدة (بشائر السلام) ترد إلينا من غير طلب ولا سبق مبادلة،
ثم في هذه الأيام أرسلت إلينا جريدة (راية صهيون) الإنجيلية مكتوبًا عليها:
(أرجو الاطلاع على مقالة خطية الأنبياء والرد عليها) .
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
ولكن القليل من آيات الحق يكفي لإزهاق الكثير من الباطل، لذلك نقول:
ابتداء هذه المقالة (إن المسلمين يقولون: إن الله أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم
وأعظمهم ستة، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - أي المسيح - ومحمد،
وكثيرون يقولون بأن كل هؤلاء الأنبياء كانوا بلا خطية، ولذلك كانوا قادرين على
إيهاب الخلاص لتلاميذهم؛ ولكن لو كانوا خطاة فما كانوا يتيسر لهم ذلك، إذ لا
يمكن للخطاة أن يخلصوا الآخرين من الخطية) هذا ما قاله بحروفه، ثم تعقبه
بدعوى أن من عدا المسيح من هؤلاء الأنبياء كانوا عصاةً مذنبين مستدلاًّ بما جاء
في قصصهم في كتب العهد العتيق.
فأما معصية آدم فمعروفة، وأما نوح فذكر أنه شرب الخمر، واعترف الكاتب
بأن التوراة لم تذكر له خطيئة غير هذه؛ ولكنه جزم بأنه لابد أن يكون خاطئًا،
وأما إبراهيم (فقد ورد عنه أنه كذب مرتين من باب الخوف من الناس) وأما
موسى فذكر الكاتب من خطيئته أنه (حينما أمره الله أن يذهب إلى فرعون قد أظهر
خوفًا عظيمًا وجبنًا زائدًا جعل الله أن يغضب عليه، وحينما كان بنو إسرائيل في
البرية بعد خروجهم من أرض مصر قد فرط موسى مرة بشفتيه حتى أن الله لم
يسمح له نظرًا لهذا الذنب أن يدخل أرض كنعان، بل جعله أن يموت في القفر)
واستدل على خطيئاتهم من القرآن العزيز بما ورد من الآيات في طلبهم المغفرة إلا
المسيح فإنه لم يرد عنه ذلك، وختم المقالة بعد كلام طويل في الثناء على السيد
المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة المسلمين إلى الإيمان به - وهم المؤمنون حقًّا -
والاتكال عليه في خلاصهم - وهم لا يتوكلون إلا على الله وحده - ويعني بالإيمان
به أن يكون موافقًا لمذهب بروتستنت فإنه كتب نبذة في الصفحة الأولى من هذا
العدد بأن سائر الطوائف (مسيحيون بالظاهر، وأما في الحقيقة فليسوا كذلك) وأن
الله سيلقيهم في النار التي لا تطفأ، أما الرد على المقالة فمن وجوه:
(الأول) أن أفضل الأنبياء عند المسلمين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ويسمونهم أولي العزم، وليس آدم منهم لقوله تعالى
{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) ومن العلماء من منع التفاضل بين الرسل،
وقال: إن ذلك لا يُعرف إلا بالوحي.
(الثاني) أن المسلمين لا يعتقدون أن الأنبياء هم الذين ينجون الناس بسبب
عصمتهم من العذاب، ويدخلونهم بجاههم في رحمته؛ وإنما يعتمدون على الله تعالى
وحده في ذلك، ويعتقدون أن سبب النجاة الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأن
الأنبياء ما أرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، فهم يُعَلِّمون الناس الإيمان الصحيح
المقبول عند الله تعالى والعمل الصالح الذي يرضيه، فمن آمن وعمل صالحًا ترجى
له النجاة بفضل الله تعالى الذي وفقه وهداه، ومن كفر بعد بلوغ الدعوة بشرطها فلا
يزيد الظالمين كفرهم إلا خسارًا.
(الثالث) أن هؤلاء المعترضين لم يعرفوا معنى عصمة الأنبياء عند
المسلمين، فتوهموا أنهم يقولون بذلك لإثبات أن الأنبياء ينجون الناس؛ لأنهم
معصومون، فنجيبهم بأن المسلمين قام عندهم الدليل العقلي على ذلك، وهو أن الله
تعالى جعل الأنبياء هداة ومرشدين ليُقتدى بهم، فلو ابتلاهم بالمعاصي التي هي
مخالفة الشريعة التي يأتون بها لما كانوا أهلاً للهداية؛ لأن الله أودع في فطرة البشر
أن يقتدوا بالأفعال أكثر من الأقوال، وقد أخبرونا أن الله تعالى أمر بالاقتداء بهم،
فلو كانوا يرتكبون مخالفة أمره لكان في أمره بالاقتداء بهم تناقض وأمر بالشر وهو
محال، وليس معنى عصمتهم أنهم مخالفون للبشر في جميع أطوارهم فلا يخافون
مما يخيف في الدنيا، ولا يتألمون مما يؤلم ولا يتوقون الشر (سنوضح هذا المقام في
الأمالي الدينية بعد) .
(الرابع) أنه لم يُنقل عن سيدنا نوح في العهد العتيق إلا شرب الخمر،
وفي هذه الأناجيل أن المسيح شرب الخمر أيضًا، فإن قلنا بأن من لم يُنقل عنه أنه
عصى يصلح أن يكون مخلِّصًا للناس، فنوح يصلح لذلك كالمسيح، بل إن من
صالحي هذه الأمة المحمدية كثيرين لم تحفظ عليهم المعصية.
(الخامس) ما نقله عن سيدنا إبراهيم مصرح بأنه كان للضرورة وإرادة
التخلص من شر وظلم أكبر من كذبة في الظاهر لها تأويل في نفس القائل كقول
إبراهيم عن زوجته: (هذه أختي) يعني في الدين، ومن القواعد المعقولة
والمشروعة أنه إذا تعارض ضرران يجب ارتكاب أخفهما، فإذا حاول ظالم أن
يغتصب امرأتك ليسترقها أو يفجر بها وقدرت أن تنجيها منه بكلمة كاذبة - وجب
عليك ذلك، وتكون الكذبة معصية في الصورة طاعة في الحقيقة.
(السادس) أن ما ذكره عن سيدنا موسى من الخوف ليس فيه معصية لله
ومخالفة لشريعته؛ وإنما هو شأن من الشؤون البشرية الجائزة وهو خوف هيبة
وإجلال للوظيفة العظيمة التي كُلِّف بها.
(السابع) إذا لم يصح الدليل العقلي على عصمة الأنبياء، فعدم نقل
المعصية عن المسيح لا ينافي وقوعها منه؛ لأنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم
وجوده في نفسه.
(الثامن) أن طلب الأنبياء المغفرة من الله تعالى لا يدل على أنهم كانوا بعد
النبوة عصاة مخالفين لدين الله تعالى؛ ولكنهم لمعرفتهم العالية بالله تعالى، وما
يجب له من الشكر والتعظيم يعدون ترك الأفضل إذا وقع منهم في بعض الأوقات
ذنبًا وتقصيرًا، ألم تر أن للمقربين من الملوك والسلاطين ذنوبًا غير مخالفة القوانين
يطلبون من الملوك العفو عنها (ولله المثل الأعلى) وسيأتى إيضاح ذلك في الأمالي
الدينية.
(التاسع) إذا فرضنا أن دليل المسلمين على عصمة الأنبياء غير صحيح،
فلا حجة للمسيحيين عليهم في شيء؛ وإنما ذلك شبهة على الدين المطلق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/816)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طهارة الأعطار ذات الكحول
والرد على ذي فضول
بعدما انتشر الجزء الثالث عشر الذي ذكرنا فيه بحث طهارة الأعطار
الإفرنجية كتب إلينا عالم فاضل من الصعيد: أعجب العلماء والفضلاء بما كتبتموه
في مسألة الأعطار الإفرنجية؛ ولكن أكثر الناس لا يقتنعون إلا بكلام الميتين ولو
أقمت لهم سبعين دليلاً، وجئت بالله والملائكة قبيلاً، لذلك أذكركم بأن العلامة ابن
العماد الفقيه الشافعي صاحب كتاب المعفوات قد صرح بطهارة الخمر في كتابه
(رفع الإلباس عن وهم الوسواس) فلو ذكرتم نص عبارته لاطمأن لها أولئك
المقلدون ... إلخ.
وما كان يخطر في بال ذلك الفاضل أن بعض العوام الذين يقلدون كل مؤلف
ميت، وينكرون على كل حي يتطفل على موائد العلم ويلفق رسالة مخصوصة في
الرد على المنار، فقد أرسل إلينا السائل عن الأعطار الإفرنجية ورقات في ذلك
بإمضاء (مختار بن أحمد مؤيد باشا ابن نصوح باشا العظمي) تصفحناها وإن كنا
نعرف أن ملفقها ممن لا ينبغي إضاعة الوقت في شيء مما يكتبه؛ لأنه عامي مغرم
بالشهرة العلمية يجرئه على التأليف لقبه (بك) ولقب أبيه وجده (باشا) ومداهنة
المتملقين من المتعممين للأغنياء وتصحيحهم له ما يكتب؛ وإنما تصفحناها على
طولها - وهي 16 صفحة - لمعرفة مكانة ملفقها، ثم رفعنا من قدرها بالرد عليها
لئلا يكون علق بذهن السائل الذي أرسلت إليه شيء من أوهامها.
الرسالة مؤلفة من الفضول والتعريض المبني على سوء الظن بغير شبهة ولا
دليل، والتطويل بما ليس من الموضوع كالكلام في تحريم الخمر، وفي كون كل
مسكر محرمًا، وفي أن المسكرات مضرة، وأنه يحرم بيعها ونحو هذا مما لا نزاع
فيه، وأنى لمثل ملفقها أن يحرر محل النزاع في مسألة ويتكلم فيه، ومن العجيب
تبجحه بأنه أراد الاختصار، وأنه لو أراد الرد بالتفصيل على جواب المنار لاحتاج
إلى تأليف كتاب أكبر منه! ! وياليت هذه الورقات كانت في الرد على المنار؛ فإننا
لو حذفنا منها السؤال والجواب المنقولين من المنار والنصوص المنقولة من الكتب
في تحريم شرب الخمر وبيعه وعبارات الدعوى والتعريض وتحريف بعض الآيات
لم يبق منها صحيفة ترتقي إلى أن تكون من الشبهات على الموضوع، وإننا
نستخلص ذلك ونبين فساده لأنه مما يخطر في بال العوام أو يغتر به من يسمعه
منهم.
أما محل النزاع فهو أن جواب المنار في مسألة الأعطار الإفرنجية من وجهين
(أحدهما) اجتهادي مبني على الرجوع إلى الكتاب والسنة في مسائل الدين، وهو
أن المجيب لم يطلع فيهما على دليل يعتد به في نجاسة الخمر فضلاً عن الأعطار
التي فيها جزء كيماوي مما يوجد في الخمر (ثانيهما) تقليدي مبني على التسليم
بقول أكثر الفقهاء الذين قالوا بنجاسة الخمر، وبيان أن قولهم هذا لا يستلزم أن
يكون العطر الذي فيه جزء كيماوي من الخمرة خمرًا نجسًا مثلها، وهذا بيان
موضح بتسعة وجوه، وأما الأمور التي تتعلق بالموضوع من رسالة سعادة مختار
بك فهي مع بيان الحق فيها:
(1) زعمه أني أسأت الظن بالأئمة الأربعة (رضي الله تعالى عنهم)
وزعمت أنهم حرَّموا على الأمة شيئًا بغير برهان من الله ورسوله، وزعمه هذا
يقتضي أن كل مخالف أحدًا في رأيه أو قوله فهو مسيء للظن به، فكل عالم له قول
أو رأي مسيء للظن بجميع الأئمة والعلماء المخالفين له فيه، كلا إن الذي يتبع
الدليل يقول ما ظهر له ويعذر مخالفه ويعلم أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا بدليل
ظهر له، وأنه معذور ومأجور وإن لم يوافق الحق ويرى أنه مكلف بما ظهر له بعد
البحث بقدر الطاقة لا بما ظهر لمخالفه.
(2) دعواه أن الإجماع قد انعقد على نجاسة الخمر: وهو معذور على هذه
الدعوى؛ لأن بعض من ألَّف في الفقه ذكرها، وغاية ما يصل إليه علم مثله أن
يرى في كتاب شيئًا فيسلم به تسليمًا، أما الوصول إلى التحقق من الدعوى، وإلى
وجه كون الإجماع حجة فهو بعيد على مثله من العامة، وإذا سلَّمنا بذلك وبطل
الطريق الأول من جوابنا في إثبات طهارة الأعطار الإفرنجية فهل تنفعه هذه
الدعوى في إثبات أن العطر الذي يقول الكيماويون أن فيه مادة الكحول هو خمر
بالإجماع، الإجماع لا يعرف إلا بالنقل الذي لا معارضة فيه، ولا نقل في هذه
الأعطار، فتعين أن تكون مسألة اجتهادية إن كان هناك وجه للقول بنجاستها.
والتحقيق أن دعوى الإجماع غير صحيحة، وما الوصول إلى معرفة الإجماع
على قول الجمهور بإمكانه ووقوعه بالأمر السهل، قال حجة الإسلام في كتابه
(فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ما نصه: (ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا
فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم
أصول الفقه، وأنكر النظام كون الإجماع حجة أصلاً، فصار كون الإجماع حجة
مختلفًا فيه) وقال في فصل آخر منه: (وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من
أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد، فيتفقوا على
أمر واحد اتفاقًا بلفظ صريح، ثم يستمروا عليه مدة عند قوم وإلى تمام انقراض
العصر عند قوم، أو يكاتبهم إمام في أقطار الأرض فيأخذ فتاويهم في زمان واحد
بحيث تتفق أقوالهم اتفاقًا صريحًا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده، ثم النظر
في أن من خالف بعده هل يكفر؟ لأن من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن
يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق - أي مصادفة - ولا يمتنع على واحد منهم أن
يرجع بعد ذلك وهذا غامض أيضًا) .
ولهذه الصعوبة والغموض قال بعضهم: إن الإجماع غير ممكن، وقيل إنه
ممكن ولكن لا يقع، وقيل بل وقع ولكن لا سبيل إلى العلم به، ثم اختلفوا في
الاحتجاج به بعد فرض العلم بوقوعه، واشترط القائلون بكونه حجة قطعية نقله
بالتواتر وليس هذا بيسير أيضًا، فكم من مدَّع للإجماع قد خولف وأنكر عليه،
وأقرب الطرق إلى معرفة الإجماع والتواتر نقله بالعمل، وأبعدها ما كان موضوعه
الترك، فإذا نقل الألوف عن الألوف عملاً دينيًّا فهو دليل على أنه مشروع، أما
نقل الترك بالإجماع فمتعذر لأنه أمر عدمي ومعرفة سببه إن نُقل في غاية الغموض
وقد صدق الإمام الغزالي في قوله إن العلم بالإجماع لا يحصل بمطالعة تصنيف
ولا تصنيفين، وأنى لعامي مثل مختار بك بهذا الاطلاع.
وقد قال بطهارة الخمر نفسها فقيه المدينة الإمام ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك
كما في شرح المهذب للإمام النووي وكذلك الإمام داود، قال العلامة الفقيه أحمد ابن
العماد في كتابه (رفع الإلباس عن وهم الوسواس) [1] ما نصه: (ومنه الخمر
وهي نجسة خلافًا لربيعة شيخ مالك وداود؛ فإنهما قالا بطهارتها كالسم الذي هو
نبات الحشيش والمسكر، وحكى الغزالي وجهًا في المحترمة، ووجهًا في أن باطن
حبات العنب المستحيلة خمرًا طاهرًا، وحكى الشيخ تقي الدين رحمه الله في شرح
الموطأ طهارة - بياض في الأصل - والمحترمة هي التي اعتصرت بقصد أن تُتخذ
خلاًّ) ثم ذكر القول بأن ما اعتصره أهل الكتاب من المحترمة، أي بناء على عدم
تكليفهم بفروع الشريعة فكل خمور أهل الكتاب طاهرة على هذا الوجه.
(3) بحثه في كون الكحول مفسدة واستدلاله بثلاثة أمور:
(الأمر الأول) كونه من المسكرات، وكون كل خمر نجسًا، ويرده (أولاً)
أن الكلام في العطر لا في الكحول، والعطر ليس شرابًا مسكرًا ووجود الكحول فيه
لا يجعله خمرًا؛ لأنه موجود في اللبن الحامض الطاهر بلا خلاف، وفي النبيذ
الحلال الطاهر في مذهب الإمام أبي حنيفة الذي ينتمي إليه المعترض، وإن لم
يعرف مذهبه، وفي غير ذلك كما ذكرنا في وجوه جواب السؤال و (ثانيًا) أن أبا
حنيفة خص الخمر بالنيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد وسكن عن
الغليان، واكتفى صاحباه بالغليان والاشتداد، وما عدا الخمر من المسكرات كالباذق
والمنصف والطلا فقد اختلف الحنفية في نجاسته، هي هل مغلظة كالخمر أم مخففة
وفي ظاهر الرواية أن نجاستها خفيفة حتى يعتبر فيها الكثير الفاحش، فلو فرضنا
أن هذه الأعطار مثلها فلا يحكم ببطلان صلاة من تعطر بها، إلا إذا بلغ تضمخه
بها ربع الثوب فأكثر وهذا لا يكاد يوجد.
(الأمر الثاني) كون هذا الكحول من المواد المحرقة والعناصر القابلة
الالتهاب قال: (وما كان كذلك فتأثيره في الجسم أمر مسلَّم) ولم يذكر ما هو التأثير
المسلَّم، وظاهر السياق أن العطر الذي فيه الكحول يضر بجسم من يتطيب به إذا
أصابه وهي دعوى تكذبها التجربة، وللكحول منافع في الطب كثيرة يعرفها أهلها.
(الأمر الثالث) كون (كل ذي ذوق سليم يحكم بأفضلية أعطار البلاد
الشرقية على هذه الأعطار الإفرنجية) وفيه أن الحكم بأفضلية الأعطار الشرقية
يقتضي الحكم بفضيلة الأعطار الإفرنجية، لا بأن فيها مفسدة، ولعله لم يفهم أن
العبارة تفيد هذا المعنى لأنه حجة عليه، على أن هذه مسألة اقتصادية، وكلامنا في
حكم الطهارة والنجاسة لذاته لا لأهل الشرق خاصة؛ فإن أهل الغرب مكلَّفون
بالإسلام وفيهم الآن مسلمون.
(4) تحريفه الوجه التاسع من وجوه جواب المنار، وهو أنه ثبت في
الكيمياء أن مادة الكحول توجد في غير هذه الأعطار من الأكل والشرب والدواء،
لاسيما المتخمر منها كالعجين واللبن الحامض، فإذا حكمنا بنجاسة ذلك كله نوقع
الأمة في الحرج المنفي بالنص، فجاء المعترض ينفي الحرج في استبدال الأعطار
الشرقية بالأعطار الإفرنجية، ونحن لم نقل أن الحرج في الاستبدال، وإن أدري
أذلك عن سوء قصد أم عن سوء فهم.
(5) إيراده حديثًا ورد في آنية أهل الكتاب وهو (إن وجدتم غيرها فلا
تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها) واستدلاله به على أنه لا ينبغي أن
ننخدع لأواني الأعطار الإفرنجية المزخرفة، فقد نهينا عن أوانيهم، وأحسن في
كونه لم يستدل بالحديث على نجاسة أوانيهم مع أن أبا ثعلبة - رضي الله عنه -
السائل عن الأواني ذكر أنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، أما كون الحديث
إرشادًا للكمال في المعاملة والاستعمال، وغير دال على النجاسة فأدلته كثيرة،
وأعظمها حل طعامهم بنص القرآن في سورة المائدة، وهي آخر ما نزل، ومنها ما
ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وأكل
من الشاة التي أهدتها إليه يهودية خيبر ومنها أنه أكل من الجبن المجلوب من بلاد
النصارى - رواه أحمد وأبو داود - وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إليه
يهودي. رواه أحمد.
له بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ابن العماد توفي سنة 808، وتوجد نسخة من كتابه هذا في دار الكتب الخديوية بخط يحيى ابن محمد المناوي كتبت سنة 1902 كذا في الفهرس، ولم أتبين ذلك من الكتاب.(4/821)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع التعليم باللغة العامية المصرية
نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارْتَعَى
إذا أحس نبأة رِيعَ وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
نهال للخطب الذي يروعنا ... ونرتعي في غفلة إذا انقضى
إذا أزعج الصائح الغنم السائمة بنبأة شديدة تجفل مرتاعة وتترك الرعي هنيهة
ثم لا تلبث أن تعود إليه بعد سكوت الصائح، فإذا عاد إلى الصيحة عادت، فإذا
طامن لَهَتْ وتمادت، ذلك مثلنا في رأي ابن دريد قاله من نحو ألف عام أيام كنا في
أوج مجدنا، وبحبوحة عزنا، وهو إنما يصدق علينا في هذه القرون الأخيرة التي
غلبت علينا فيها المعيشة الفردية، وإن كانت خسيسة بهيمية، وجهلنا معنى الأمة
ومقوماتها، والحياة الاجتماعية وحسناتها، فلا يبالي الواحد منا بما ينزل بالأمة،
إلا إذا آلمه هو وأهمه، وإننا لنعد انطباق مثل السائمة علينا مبدأ ارتقاء وشعور
جديد في الدهماء.
ما أكثر النبآت والهيعات التي أجفلت المصريين في غضون هذه السنين؛
ولكنها لم ترتق بهم إلى تدارك الخطب وترك اللهو واللعب، ألم تر أن نبأة
المحاكم الشرعية القارعة، وصيحة إصلاحها الصادعة، كانت قد راعت الناس
واعتقدوا أن غرض الحكومة سيطرة المحاكم الأهلية على المحاكم الشرعية، أو
إدغامها فيها لتمحى بالكلية، ولما سكت الصائح عاد أهل هذه المحاكم إلى ما كانوا
عليه لا يصلحون عملاً، ولا يقوِّمون درأ ولا يقيمون عوجًا، وسكت عنهم الناس
الذين أجفلتهم الصيحة الأولي لا ينذرونهم بعودة الافتيات، ولا يوصونهم بالاستعداد
لما هو آت، فماذا ينظرون، إذ ظلوا في غفلتهم يعمهون؟ {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ
صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ} (يس: 49-50) ولكل شيء قيامة، إذا حلَّت لا تنفع الندامة.
وهذه صيحة استبدال اللغة العامية السخيفة، باللغة الصحيحة الشريفة -
استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير - قد طرقت المسامع، وآلمت الطبائع،
أستغفر الله، إنه لم يؤلم الطبائع إلا هذا السجع؛ ولكن الصيحة حركت الألسنة
والأقلام إلى تفويق سهام الملام، وإقامة الحجة على الصائح بأنه يقصد منفعة
قومه لا منفعة الذين يدعوهم إلى ترك لغة دينهم وشريعتهم وعلومهم وآدابهم التي
ضعف بضعفها فيهم كل مقوم من مقومات حياتهم، وفي محوها من ألواح التعليم
محو أمتهم من لوح الوجود الاجتماعي، وماذا عسى يُفيد الاحتجاج بالقول إذا لم
يؤيده العمل والسعي في ترقية اللغة الصحيحة، وجعلها لغة التخاطب والتعامل؟
أرأيت أيها القارئ إذا اتخذنا جفول أهل الشعور من هذه الصيحة وسيلة لاستنجاد
القائمين على تعليم اللغة والإلحاح عليهم بوجوب إصلاح التعليم بحيث يستعمل
المتعلم اللغة في القول والكتابة، أيقولون أن هذه لُباب النصيحة أم يقولون إنه إهانة
للعلماء والمدرسين، وإنما حياتنا بتعظيمهم وتبجيلهم والرضا بكل ما يكون منهم
سواء اغْتُنِمَتْ الفرصة أم فاتت، وعاشت لغة القرآن أم ماتت؟
أعني بصيحة اللغة كتابًا ألفه المستر ويلمور المستشار في محكمة استئناف
مصر الأهلية باللغة الإنكليزية، يدعو فيه إلى جعل اللغة العامية المصرية لغة
التعليم العامة بدلاً من اللغة العربية الصحيحة، ويحاول إقناع المصريين بأن هذا
خير لهم وأقوم سبيلاً، وما هي بالصيحة الأولى؛ وإنما هي ترجع لصوت (ولهلم
سبتا بك) الألماني أمين دار الكتب الخديوية من قبل (المتوفى سنة 1883) فإنه
وضع حروفًا إفرنجية للغة العامية المصرية لأجل إحيائها، وألف كتابًا في صرفها
وكتابًا في أمثالها وقصصًا عامية، ونشر ذلك باللغتين الألمانية والفرنسوية؛
ليرغب أوروبا في تنفيذ مشروع تعليم اللغة العامية بالحروف الإفرنجية، وجعلها
لغة العلم والتعليم، وقد انتدب بعض أغنياء الإفرنج منذ سنين لذلك، وأرصد له
مالاً جمًّا ونشرت يومئذ كراسة في الحث عليه وترغيب الآخذ به بالمال، ووزعت
هذه الكراسة مع الجرائد اليومية الكبرى حتى المؤيد، وكتبنا وقتئذ مقالتين مطولتين
في الرد والتنفير عن المشروع فنَّدنا فيهما وجوه الخديعة والخلابة وكشفنا الغطاء
عن ضروب التدليس والتلبيس في الموضوع بلهجة شديدة، فليرجع إليهما من شاء
في العددين 5 و 6 من السنة الأولى.
لم نكتف في المقالتين بتفنيد وجوه منافع المشروع التجارية والتعليمية
والوطنية التي زعمها ناشر الكراسة يومئذ؛ ولكننا نبهنا أيضًا على تقصيرنا في
إحياء اللغة الصحيحة ونشرها بالتعليم القويم حتى كادت تمحى وتزول، وحتى
صار بعض الناس يعتقد أن إحياءها محال، وعلى الخطر الذي يتهددها إذا تمادينا
في إهمالنا وإغفالنا؛ ولكن قومنا لا يروق لهم إلا القدح والطعن في الأجانب ومدح
أنفسهم، وإذا لم يضرهم هذا لما منحهم الأجانب من الحرية فإنه لا ينفعهم ولا يقيهم
من سهام الأجانب؛ وإنما الذي يقيهم وينفعهم هو النظر في تقصير أنفسهم والتبصر
في عيوبها، ثم الرجوع عليها باللائمة، وحملها على اتقاء السهام التي تصوبها
إليهم حرب تنازع البقاء بالمِجن الدافع، والتدبير النافع.
ليت المؤيد الأغر لم ينشر مقدمة كتاب المستر ويلمور لأجل عرضها على
الكتاب للرد عليها، فقد كان الأولى أن يبطل شبهاته من غير أن ينشرها ويقررها؛
فإن من الناس من يلتاث بالشبهة وإن كانت تتضاءل افتضاحًا، وتدق في نظره
الحجة وإن كانت تتبختر اتضاحًا، على أنه لا خوف على المصريين من الانخداع
لتلك الشبهات مهما موهها صاحبها مادامت شبهات قولية، كما أنه لا رجاء في
اقتناع المستر ويلمور وأمثاله بما نكتب ونقول؛ وإنما العبرة بالأعمال ومن الناس
من إذا قال فعل وبعضهم يقول ما لا يفعل:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
لهذا ختمنا المقالة الثانية من تينك المقالتين بهذه العبارة:
(إذا ألقي ما شرحناه على المتحذلقين من المصريين ينغصون رؤوسهم،
ويحدجون بأبصارهم، ويقولون: إكبار وتهويل، وصياح وعويل، وما هو إلا
كلام بكلام، أما العقلاء فيعلمون أنه كلام حق، وأن الإفرنج إذا قالوا فعلوا، وإذا
عملوا أدركوا، وأنهم ما دخلوا قرية ولا خالطوا أمة إلا أفسدوا كيانها وجعلوا أعزة
أهلها أذلة وكذلك يفعلون، إن نفوس سكان الولايات المتحدة نيف (كذا) وسبعون
مليونًا وليس فيهم هندي من السكان الأصليين، لا أبعد عليك في المثال، هذه بلادك
التي تسكنها أيها العاقل انظر فيها إن كان لك بصر، واعقل إن كان لك لب، ثم
ارجع إليَّ باللوم والتفنيد، أو بالشكر والتحبيذ) .
أرأيت يا من نسي الصيحة الأولى كيف تبعتها الرادفة، فتدبر وتفكر واعلم
أن الخَطْب لا يُدفع بخطب الخطباء، ولا بكتابة الأدباء، وإن كان لا بد من قول
ينفع إذا ضر السكوت وخيفت مغبته؛ وإنما يجب العمل لإحياء اللغة العربية بالفعل
فإذا صدقتنا في العمل لحفظ لغتنا المقدسة فلا يقدر أحد على إضاعتها مهما بلغت
قوته، وعلت صيحته، ومن أضاع حقه فلا يلومن الناس على إضاعته أو هضمه
لمنفعة أنفسهم.
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
فعلى من يدَّعي الغيرة على لغة دينه وملته، وقد رأى المعاول هيئت لتقويض
أركانها، وهدم بنيانها، أن يجدد لها بيتًا معمورًا، ويجعل عليها حجرًا محجورًا،
فإذا قال كلمة في الهادمين، فليقل عشرًا في البنائين؛ لأنك إذا أنصفت - وغير
الإنصاف لا يفيد - لا يمكنك أن تقول في محاول الهدم إلا أنه يفعل ذلك لمصلحة
قومه وأمته لا لمصلحتنا ولك مع المكلف بالبنيان كلام كثير إذا أحسن البناء، وكلام
كثير إذا أبى أو أساء، وأقترح الآن شيئًا واحدًا وهو تعوُّد متعلمي اللغة الكلام
العربي الصحيح، واستنجاد مشيخة الأزهر الشريف وطلب مساعدتها على ذلك
ليكون علماؤنا هم القدوة لنا في إنقاذ لغة الدين من مخالب المغتالين، وذلك بأن تلزم
المدرسين والمتعلمين بالنطق بالعربية الصحيحة في الدروس، ثم في غير الدروس
وإن لزهاء عشرة آلاف متعمم لتأثيرًا كبيرًا في إحياء هذه السنة التي هي حياة
جميع الفروض والسنن.
أما إصلاح التعليم لترتقي به اللغة فقد كتبنا فيه مرارًا كثيرة، ولو كان لنا
مساعدون يطالبون بالقول والكتابة لنفع القول وأفاد، وبلغنا به المراد، وإن لنا
لحملة على معلمي العربية في المدارس؛ فإن أكثرهم مقصر في أداء ما يفرضه
عليه ديوان المعارف، وكان الواجب عليهم أن يجتهدوا في الزيادة عليه إذا وجدوا
إليه سبيلاً.
__________(4/827)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نساء المسلمين
تابع المحاورة الأولى بين فاطمة علية هانم كريمة جودت باشا
وبعض نساء الإفرنج
ذكرنا في آخر ما أوردناه في الجزء التاسع عشر أن مدام ف ... سألت مؤلفة
المحاورات عن رواتب الخدم، وكيفية انتخاب رئيستهن، وعن كيفية ابتياعهن،
ووعدنا بالجواب عن الأخير لفائدته، أما الانتخاب والراتب فأخبرتها أن ربة البيت
تختار أمهر الجواري وأذكاهن لرياسة الخدم، وأن سيدهن يعطيهن رواتب شهرية
زيادة على مؤنتهن، ويجهز الجارية التي تشب وتريد التزوج بجهاز لائق، وربما
اقترن هو بها، أما الابتياع فقد أجابت عنه بما كتبته وهو: (أن ثمن الجارية يُدفع
للبائع فلا تستفيد هي منه؛ وإنما هو لسيدها الأول أو أقاربها، والدين الإسلامي
جعل للجواري علينا حقًّا يجب أداؤه، ولذلك نكافئهن بما علمت) .
(ف..: يظهر أن الجواري من نوع الخوادم.
أنا: نعم إنهن يشبهن اللواتي يخدمن بالمشاهرة أو المسانهة؛ وإنما تكون
الخادمة بأجرة معينة إلى أجل محدود؛ لأن الإجارة تكون فاسدة مع الجهل بالأجرة
أو مدة العمل، وأما الجارية فإن مدة خدمتها غير معلومة، وكذلك ما ينفق عليها في
أثنائها فهي شبيهة بالإجارة الفاسدة؛ ولكن التعامل جرى بهذا وما ينفق عليها يكون
بحسب سعة سيدها وصدقها في الخدمة، فهي قيمة تعرف بالعُرْف والعادة المتبعة،
والشريعة توجب علينا عتق الجارية بعد تسع سنين في حال السعة وبيعها في حال
الحاجة من ذي مروءة يعتقها [1] ، على أن العرف والعادة قضيا بالعاب والذام على
الذين يمسكون الجواري بعد سبع سنين ولا يعتقونهن.
أما أهل المروءة والدين من ذوي البيوتات فلا يمسكون الجارية أكثر من سبع
سنين؛ لأن في الدين أسبابًا كثيرة تقضي بعتق الرقيق، فمن ذلك أن من يقول: إذا
أصبت كذا فعلي أن أعتق عبدًا، فيصيب ذلك، يجب عليه العتق وفاء بالنذر، ومن
الناس من تصيبه النعمة فيعتق قيامًا بفضيلة الشكر، ومن ذلك أن من أفسد صوم
يوم واحد من رمضان وجب عليه أن يعتق عبدًا إذا قدر، فإن لم يستطع فعليه أن
يصوم شهرين متتابعين - وفي كلامها 61 يومًا - ومن العادات المتبعة عندنا أن
الجارية التي تخدم الطفل الصغير يعتقها سيدها في اليوم الذي يُرسل فيه ذلك الولد
إلى المدرسة، وأكثر الصغار يرسلون في السنة الرابعة، فكأن مدة رق المربيات
أربع سنين.
ف: ما أحسن ما تقولين إلا أن الخادمة تخدم حيث تشاء، والجارية مكرهة
على البقاء في منزل سيدها وإن كان ظالمًا.
أنا: إن تبرمت الجارية من منزل وأرادت تركه يكفي في ذلك أن تقول
بيعوني فيجاب طلبها، وقد جرت العادة بأن لا تُباع لمن لا يلائمها، وأما الشرع
فإنه أوصى بالأرقاء وحسن معاملتهم، وحرَّم الظلم والجفاء، فمن ظلم رقيقه فالحاكم
الشرعي يجازيه بما تفرضه العدالة متى وصل الأمر إليه.
ف: يستفاد من هذا أنه لا فرق بين الجواري والخوادم.
أنا: كلا إنه ليس للخوادم علينا من الحقوق مثلما للجواري، فليس للخادمة إلا
أجرها الشهري، وإذا استغنينا عنها نأذن لها بأن تذهب حيث تشاء، وهي التي تُعِدُّ
لنفسها الجهاز إذا أرادت الزواج، وإذا فارقها زوجها فلسنا مكلفين بها، فهي التي
تبحث لنفسها عن منزل تخدم فيه لتعيش، والجارية التي يفارقها زوجها تعود إلى
دار سيدها كأنه بيت أبيها، وهو يختار لها الزوج الملائم كما أنه يتولى أمر أولادها
ويربيهم ويعلمهم، ومن يظلمها زوجها ترجع إلى سيدها ليدافع عنها وينصرها،
وإذا توفي زوجها ولم يترك لها ما يكفيها ترجع بأولادها إلى بيت سيدها كهذه
الجارية التي ترينها من الكَوّ (النافذة الكبيرة) آخذة بيد ولدها الصغير طائفة به في
فناء الدار، وكفالة المعتوق إذا عجز عن القيام بأمر نفسه واجبة شرعًا على سيده
يُلزمه بها القاضي إذا هو امتنع، وفي مقابلة هذا إذا مات العتيق عن مال يكون
للمعتق نصيب منه فهو إذن معدود من أهل البيت وأفراد الأسرة - فات الكاتبة أن
تذكر هنا حديث: (مولى القوم منهم) والمولى: العتيق، ويُطلق على السيد وهو
الأصل - وإننا فوق هذا كله نأتمن الجواري على مفاتيح صناديقنا ولا نأتمن الخوادم
إلى هذا الحد؛ لأن شدة صلة الجارية بسيدها تمنعها من الخيانة كما لا يخون الأولاد
والديهم إلا نادرًا، ولهذه العناية لم يتفق أن جارية أَبَقَتْ تاركة كنف سيدها ولجأت
إلى أهلها، مع أنهن مطلقات السراح يذهبن حيث شئن.
مدام ف..: لا جرم أن هذا لنفورها من أهلها الذين باعوها.
أنا: عفوًا أيتها المدام فإن سمحت أنبأتك بالحقيقة.
ف..: عجبًا تستأذنين في شيء أنا أرجو بيانه بكل رغبة؛ فإن ما سمعته
منك في الأرقاء يباين ما كنت أعلمه من كل وجه، فأرجوك أيتها السيدة مواصلة
الحديث.
أنا: إذا وُلد للجراكسة بنت جميلة ينوّمونها بالهمهمة والتغريد، وأغانيهم
لهؤلاء البنات مشتملة على ذكر مستقبلهن في الآستانة كقولهم (إنك ستكونين في
الآستانة زوجة لأحد الباشوات فلا تنسي الأهل والأقربين) كطريقة الإفرنج في ذلك
إذ يُسمعون أطفالهم لقب (جنرال ومارشال) لينشئوهم على حب الجندية، ومتى
صارت البنت الجركسية تفهم القول يملأون سمعها بذكر سعادة عمتها وخالتها في
الآستانة فيشتغل خيالها بذلك، ويكون قلبها متعلقًا بقرب يوم السعادة الموعود حتى
إذا قاربت الإعصار أو الإرهاق، وصارت تستحي من الكلام مع والديها بذلك
تكاشف به والدتها وأترابها شاكية من إرجاء إرسالها إلى الآستانة، فكل من البنت
والوالدين ينتظر ذلك اليوم الذي يظفرون فيه بخاطب لا يكلفهم نفقة ولا جهازًا، بل
هو الذي يمطر على تلك الغادة الحلي والجواهر، ويغمرها بالسعادة والنعيم،
فتفيض على أهلها من فضل نعمتها ما تفيض، فهي تنفصل منهم ببسالة وشهامة
ولسان حالها يقول بعزة وصلف: (إنني لا أحملكم عناء في اختيار زوج لي؛ فإن
جمالي البارع الذي أراه في المرآة هو الذي يختار لي، وسترون كيف أكافئكم على
عنايتكم بي إلى أن بلغت هذا الطول) وظاهر أيتها المدام أنهم إذا لم يرسلوها إلى
الآستانة؛ فإنها تكون لهم عدوًّا وحزنًا.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لا ندري من أين جاءت الكاتبة بهذا الحكم الذي نسبته إلى الشرع.(4/832)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(أشهر مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة)
لنا كلمة في كتب التاريخ العربية قلناها منذ سنين، وهي أن هذه الكتب
جمعت مادة من جزئيات الحوادث والوقائع لمن يريد أن يؤلف في علم التاريخ،
وذلك أن العلم أحكام وقواعد كلية تُستنبط من الجزئيات، وأول من اهتدى إلى علم
التاريخ أو فلسفة التاريخ هو الحكيم العربي ابن خلدون الشهير فوضع مقدمته في
فلسفة التاريخ بعد جمع مواد تاريخه كلها، أي بعد تسويده على ما اعْتَقَدَ، وكان
ذلك في عصر تدلي العلم والمدنية في الأمة الإسلامية، لهذا لم يكن لتلك المقدمة
النفع المنتظر حتى دالت العلوم إلى الغرب فنقلوها إلى لغاتهم، وكانت الأصل لعلوم
العمران والسياسة والاجتماع التي توسع الإفرنج فيها ما شاءوا، وكانت كتب
التاريخ هي المنبع لهذه العلوم بما نقَّحوها وهذَّبوها وأوردوا الحوادث فيها مقرونة
بعللها وأسبابها موصولة بذكر آثارها ونتائجها، وطالما تمنينا على الفضلاء ومنينا
أنفسنا بوضع تاريخ إسلامي على هذا النسق، فحقق الله رغبتنا بما وفق صديقنا
الحميم الكاتب الفاضل رفيق بك العظم الشهير لتأليف كتاب مطول في ذلك، وهو
ما رأيت اسمه في العنوان، ونوهنا به في آخر الجزء الماضي.
رأى المؤلف أن يبرز هذا التاريخ الإسلامي في لباس كتب سير الرجال
ومناقب العظماء؛ ليكون أقرب إلى القبول والتأثير، فجعله تاريخًا لأشهر علماء
المسلمين في السياسة والحرب من الخلفاء والملوك والقواد الذين شادوا للإسلام
صروح العز والمجد.
ويذكر بمناسبة كل شأن من شؤونهم في أخلاقهم وأعمالهم ما لذلك الشأن في
نفسه من التأثير في العمران، وما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن لا يكون، وقد
أطلق لقلمه الحرية في بيان ما يراه حقًّا وصوابًا مع النزاهة في التعبير، والتلطف
في التصوير، والتنبيه على مواضع الاعتبار، وطرق الاستبصار، وجعل الكتاب
أقسامًا لكل دولة كبيرة قسم يمثله في سيرة أعظم رجالها، وقد صدر الجزء الأول
من القسم الأول المخصوص بدولة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، وفيه
سيرة الخليفة الأول وقائده الشهير خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهما.
وفي هذا الجزء من المباحث المفيدة بحث الخلافة، وبحث الردة وحقيقتها،
وأنها ليست كما يتوهم الكثيرون أن الذين قاتلهم الصِّدِّيق كانوا قد تركوا الإسلام
ورجعوا إلى الشرك، وبحث السياسة الإسلامية، وبحث القضاء في الإسلام،
وبحث الحكومة الإسلامية والعمال والكتاب، وبحث الألقاب والرتب، وبحث حكم
أهل الذمة وأصل الامتيازات التي للنصارى في البلاد الإسلامية، وغير ذلك من
الفوائد التي لا توجد في غير هذا الكتاب، وقد رغب إلينا صديقنا المؤلف أن ننتقد
الكتاب كما هو شأن من يكتب لينفع، فنعده بأننا بعد أن نُتم مطالعته نظهر ما عساه
يظهر لنا أنه يُستدرك عليه لتكون الخدمة أكمل وأتم، ونحث كل قارئ بالعربية أن
يقرأ هذا الكتاب لينتفع به، ويكون عونًا للمؤلف على تأليف بقية الأجزاء ونشرها.
***
(الفقه والتصوف)
مجموعة مؤلفة من ثلاث رسائل في انتقاد كتب الفقه والأصول والتصوف
لكاتبها العالم الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الزهراوي، وقد كنا نشرنا الرسالة
الأولى في المنار، وطلبنا من العلماء والفقهاء أن يكتبوا إلينا رأيهم فيها، وذكرنا
أن لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في أسباب الخلاف تصلح أن تكون جوابًا على
هذه الرسالة، وأننا سننشرها وملخصها في المنار، ثم وردت علينا الرسالة الثانية
مع رسالة التصوف فلم نشأ نشرهما على احترامنا حرية البحث والنقد، واعتقادنا
أن العلم لا يرتقي إلا بها، وذلك لأن مثل هذا النقد لا يكون مفيدًا إلا إذا تناوله
الخواص بالمناظرة المعتدلة، وإننا نرى أهل العلم الديني يلجأون في بلاد الاستبداد
إلى مقاومة من يخالفهم بالقوة، ونراهم في بلاد الحرية لا يحفلون بما يدور بين
حملة الأقلام وغيرهم من أمثال هذه المباحث، ولا يردون على ما يرونه منكرًا منها؛
لأنهم بمعزل عن العالم وسيره، وقد صرحنا عند نشر الرسالة الأولى بأن السبب
فيه إطلاعهم على بعض ما يدور بين الكُتاب ليكونوا على بينة منه، فلم يفد.
ولا سعة عندنا في الوقت لتعقب كل كاتب وإبداء رأينا فيما يكتبه، وقد كتبنا
رأينا في الفقهاء والصوفية في السنة الأولى، ونتذكر أننا قرأنا ذلك يومئذ على
فضيلة شيخ الأزهر وبعض علمائه، فقال الشيخ في المقالة إن كلامها شرعي لا
يعترض عليه، وذلك أننا ذكرنا محاسن القوم وذكرنا ما لا يوافق الشرع أو
المصلحة العامة مما يؤثر عن مجموعهم؛ ولكن رسالة الفاضل الزهراوي
مخصوصة بالمساوي؛ ولذلك كان يجب أن لا يطلع عليها إلا الخواص فطبعها خطأ،
وإن كان قصد مؤلفها حسنًا، فنحن نُجِلُّ غيرته ونحترم حريته ونمدح شجاعته،
على أنه أفرط فيها، ونتمنى أن يطلع العلماء على رسالته وينتقدوها.
***
(استدراك على مقالة السياسة والساسة الأخيرة)
فاتنا أن نستدرك في الجزء الماضي على هذه المقالة بعد العزم على ذلك، فإن
في بعض القول مجالاً للوهم، لا يهتدي فيه كل فهم، فمن ذلك قوله: (ماتت
الفرق الإسلامية التي أساس مذهبها العلم فقط كفرق المعتزلة والجبرية المحضة
مثلاً) يتوهم بعض الناس أن الكاتب يرجح هذه المذاهب وينفي العلم عن سواها،
وليس كذلك وإنما يعني أن قوامها البحث العلمي بدون أخذ الأمراء والحكام بها
وتأييدهم إياها، وفيه أن بعض الخلفاء العباسيين انتصر لبعض عقائد المعتزلة،
وكأنه لم يعتد به لأن المنتصرين لم يكونا هما السبب في القول بما انتصرا له ولم
يطل الأمد على ذلك، وفيه أيضًا أن عقيدة الجبر المحض لم تمت على ما فيها من
الجهالة والضرر، فإن كان الذين اخترعوها ودعوا إليها ودافعوا عنها قد انقرضوا،
فقد قام بنصرها من هم أقوى منهم تأثيرًا وأعز نصيرًا وهم أكثر فرق المتصوفة،
ولا تكاد تجد الآن عاميًّا من المسلمين إلا وهو يجادل في هذه العقيدة ويؤيدها بالعقل
والنقل، وكأن الكاتب لم يعتد بهذا لأن هؤلاء الجبرية لا يتمسكون بهذه العقيدة
ويناضلون دونها إلا بالنسبة لما يطلب منهم من الكمالات الشخصية والمنافع العامة
والاعتذار عن تقصيرهم في التمسك بدينهم وخدمة أمتهم.
ومن ذلك عدَّه أهل السنة في المذاهب التي أساسها الأغراض السياسية، يذهب
الوهم إلى أنهم غير مؤيدين بالعلم بقرينة قوله في المعتزلة والجبرية؛ ولكنه قال
هناك (فقط) وظاهر أن أهل السنة هم الذين نبغوا في كل العلوم الإسلامية،
والوهم في عبارته واضح وقد سماهم في الأصل (الحشوية) وحُذفت هذه الكلمة
من الأصل بإذن من جاء بالرسالة، ولعل الكاتب يرى أن أهل السنة هم أهل
الحديث وأن الذين يسمون بهذا الاسم غير متبعين السنة؛ ولذلك وقعوا فيما وقعوا
فيه من الخلاف وآثاره، ويظهر من كلامه بعد أنه يرى أن الوهابية أقرب من
غيرهم إلى هذا اللقب؛ لأن مذهبهم الحديث، ويظهر أيضًا أنه ليس مقلدًا لمذهب
معين والله أعلم.
***
من قصيدة للشاعر المجيد الشيخ مصطفى المنفلوطي يهنئ بها فضيلة مفتي
الديار المصرية بالعيد.
رويدك ما بعد الذي نلت غاية ... ترام لمرتاد فأين تريد
ورحماك بالحساد إن نفوسهم ... تقَطَّعُ أحشاء لها وكبود
يريدون ما لا يرتضي المجد والعلا ... وما الله والإسلام عنك يذود
وما لك ذنب غير أنك سيد ... وهل يذنب الإنسان حين يسود
ألست الذي أعلى بنا العلم بعدما ... هوى وأجار الحق وهو طريد
وقام بأمر الدين يحرس مجده ... ويكلأه والحارسون هجود
وجاهد فيه وحده وكأنما ... له عُدد من بأسه وعديد
فبيَّنه للناس أبلج واضحًا ... منيرًا وآيات الكتاب شهود
__________(4/836)
غرة ذو القعدة - 1319هـ
9 فبراير - 1902م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نساء المسلمين وتربية الدين
ورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية
يقولون: لا يصلح حال المسلمين إلا إذا صلح حال نسائهم؛ لأن النساء نصف
الأمة الذي يربي كل أفرادها التربية الأولى التي هي أساس وأصل لما بعدها، وهذا
القول صحيح لا خلاف فيه؛ وإنما الخلاف فيما يصلح به حال نساء المسلمين.
يقول قوم: إنه يصلح بالتعليم؛ ولذلك رغب الجماهير في هذا العصر بتعليم
البنات ولكننا نرى أكثر المتعلمات شرًّا من غير المتعلمات! ما زدن بيوت آبائهن ثم
بيوت بعولتهن إلا شقاء وتعاسة جد بما يكلفنهم من أعباء الأزياء وأوزار الزينة
وأثقال الحلية والماعون، وآصار الأثاث والرياش، وما يرهقنهم من العسر في
أمورهم، وما يدفعن من الكيد في نحورهم، ومن غير هؤلاء المتعلمات محصنات
غافلات حافظات للغيب بما حفظ الله، ورأيت منهن بنتًا فقيرة تمشي في شارع
العباسية وقت الغروب فمد يده إليها شاب من مُجَّان الأفندية فصاحت به: ويلك أيها
الوغد الأثيم، والعُتُل الزنيم، أتعرف إلى من مددت يدك؟ كنت مارًّا فسمعت
صوتها فرميت ببصري إلى حيث سمعت الصوت، فرأيت فتاة عليها جلباب أسود
خَلِق وقناع كأنه ملحفة زيَّات، ورأيت ما لم يره صاحب اليد الخاطئة، رأيت على
رأسها تاجًا من العزة والأمانة، وعلى عاتقها حللاً من العفة والصيانة، ورثتها مما
ترك الأمهات والجدات من خشية الله تعالى وحفظ ما أمر بحفظه.
لا أقول: إن التعليم ضار بذاته؛ وإنما ينفع التعليم إذا كان معه تربية قويمة،
فإذا كنا محتاجين إلى مثقال من التعليم فنحن أحوج منه إلى قنطار من التربية، ولا
تربية إلا بالدين وآدابه وفضائله، أرأيت تلك البنت الفقيرة البائسة التي كان من أمر
استقلالها وسلطان عصمتها ما سمعت، إنها لأحسن تربية من اللائي تعلمن أو أخذن
الشهادات من المدارس، إن كان فيهن من تربت في بيت أبيها، وإنني ذاكر لك
واقعة عنهن بإزاء واقعة البائسة الفقيرة:
أخبرنا رجل غريب نبيه أنه دخل في مصر يشتري شيئًا، فألفى بعض بنات
المدارس يبتعن بعض أدوات الدراسة، وألفى صاحب المكتبة يغازلهن ويناغيهن
حتى بلغ من تماديه في غيه أن مد يده إلى صدر إحداهن يعبث بثديها، فكأنهن وقفن
أنفسهن على العلم والتعليم حتى أبحن صدورهن لمن يتعلم فن الثُّديٍّ الفوالك
والكواعب والنواهد.
هذا المَسَن والفنوك والمجون والتهتك والتخنث هو الذي أقام قيامة الناس في
مسألة الحجاب، ورأوا طلب التخفيف فيه من العجب العجاب، فذهبوا في النظر
والاستدلال مذاهب الوهم والخيال، وطال المراء والجدال، ولعمري إن فتاة
العباسية كانت سافرة وفتيات المكتبة كن متبرقعات ولكن بمناديل الشفوف، لا
بحجاب الشرع المعروف (فعليك بذات الدين تربت يداك) .
في مصر الآن كاتبة من عقائل الفرنساويات السائحات لها عناية بالوقوف
على شؤون نساء المسلمين، وقد أقامت في الآستانة العلية زمنًا طويلاً، ومقامها في
هذه السنين بالجزائر وهي تكتب نتائج اختبارها في قصص مما يسمونه (رومان)
مبينة فيه رأيها، وقد كان من تأثير قصة منها طُبعت ونُشرت أن أصدر مولانا
السلطان الأعظم - أيده الله تعالى بالنصر والتوفيق - أمره بمنع المسلمين من اتخاذ
النساء الأوربيات خادمات ومربيات، فأشاع بعض الأتراك أن السبب في المنع أن
هؤلاء المربيات والخوادم ينقلن الأخبار الشفاهية بين وجهاء الآستانة وكبار
الموظفين، وأنه لم يبق لهم غير هذه الصلة الأمينة، فعلم بها السلطان فقطعها حتى
تقطَّع بينهم، والصواب أن السبب في المنع هو ما جاء في تلك القصة التي نشرتها
تلك الكاتبة على ما قالت لبعض وجهاء مصر.
ذلك أنها قالت في القصة: إن ما يظنه الأوربيون من أن خدور نساء
المسلمين، أو ما يسمى عندهم (الحرم) هو عبارة عن ماخور خفي أو بيت فجور
سري - هو ظن آثم وحكم ظالم، ولقد سبرت الأغوار ونبثت البئار، ووفقت على
ما وراء الأستار، فعلمت بعد طول الاختبار، أن النساء المسلمات هن المحصنات
الطاهرات، وأن ما وجد في بعض البيوت من لوث في الأعراض؛ فإنما هو في
البيوت التي تعلم النساء فيها عند الأوربيين، أو دخل فيها الخوادم والمربيات
الأوربيات، فهؤلاء المسلمات تركن بهذا التعليم الناقص آداب دينهن وفضائله
المؤثرة في إصلاح النفوس، فأمسين عابدات الهوى لا وازع لهن من أنفسهن.
قالت الكاتبة: وعندي أنه يستحيل إصلاح حال المسلمين إلا بإرجاع الدين إلى
البيوت، تعني تربية النساء تربية دينية إسلامية، ويالها من حكيمة زكية.
زارت هذه الكاتبة العاقلة أحد فضلاء المسلمين في مصر لتسأله عن أحكام
دينية تريد الكلام عنها في قصة تشتغل بتأليفها الآن على وجه الصواب، ومما قالته
إنها عرفت بعض الأميرات في مصر فأرادت أن تستعين بها على السعي في تربية
البنات تربية دينية فَضَلَّ سعيها وخاب أملها، كتبت إلى الأميرة كتابًا تذكر فيه تأثير
دين الإسلام في إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق وتقيم الحجج القيمة والبراهين
الناصعة على أن حال النساء لا يصلح إلا بالدين، وحال البيوت لا يصلح إلا
بالنساء، وحال الأمة لا يصلح إلا بالبيوت التي تتألف الأمة منها، ثم تستنجد بها
على السعي في (إرجاع الدين إلى البيوت) بعبارات تبعث الشعور في سكان
القبور، وتلين لها الجنادل والصخور، وإن كان لا يلين قلب الختَّار الكفور،
فأجابتها الأميرة الخطيرة سليلة محمد علي الكبير: إنك أيتها المدام تحاولين أن
ترجعي بنا إلى رق الرجال وأسرهم، وأن تسلبينا ما منحته الحرية من إطلاق
السراح وتعيدي أرجلنا إلى تلك المقاطر والقيود، وتجعلي في أعناقنا تلك الأوهاق
والأغلال، فكيف نرضى بأن نترك الحرية للعبودية، ونستبدل الهمجية بالمدنية،
هذا معنى ما كتبته الأميرة بالفرنسوية، فليعتبر المسلمون بأمرائهم وأميراتهم.
إن بركان الفساد والفجور لم ينفجر إلا من تلك القصور، وقد ألقى بقذائفه
الخبيثة على ما جاور القصور وقاربها من البيوت العالية، ومنها تعدى إلى البيوت
الصغيرة، ثم إلى الخيم والأكواخ الحقيرة، ذلك أن مدار التربية العمومية والمذاهب
الاجتماعية على التأسي والقدوة وسنة الكون في الأسوة أن تقتدي كل طبقة بما فوقها
وفي الأمثال السائرة (إن السمكة تنتن من رأسها) فكما أفسد الأمراء رجال الأمة
وأماتوا استقلالهم الشخصي الذي هو أصل استقلال الأمة، كذلك فعل نساؤهم بنساء
الأمة، علمنهن الترف والسرف والمخيلة والانغماس في النعمة وإبداء الزينة،
وحببن إليهن الخلاعة والتهتك، بل أغوينهن بشرب الخمرة أم الخبائث ومنبع الفتن
وآفة العفة والصيانة، فكيف يرجى منهن بعد هذا كله أن يهدمن كل ما بنين ويسعين
ببناء صالح جديد يكون منبعًا لكل صلاح، ألا وهو إعادة الدين إلى البيوت بعدما
فارقها حزينًا مهينًا؟
لقد جرى القلم بسائق الامتعاض والانفعال إلى ميدان لم يكن من القصد جريه
فيه، فلنمسك بعنانه ونصرفه عنه، وإن لنا لعودة إلى بيان هلاك الأمم بالترف
والسرف نفصِّل القول فيه تفصيلاً، أما تربية النساء بالدين أو إرجاع الدين إلى
البيوت كما تقول الكاتبة الفرنسوية الفاضلة فهو عضلة العقد وأكبر المشكلات؛ لأن
الطريقة المثلى التي تجب لا يعرفها إلا الأقلون، ولا بد لها من كتب مخصوصة
تجمع بين السهولة والتأثير لتعين عليها، فهل يتعب نفسه العارف بوضع كتب في
ذلك، وينفق فضل ماله في طبعها وهو يعلم أنها لا تروج في المدارس؛ لأن
الحكومة لا عناية لها بالدين وأن المدارس الأهلية لا غرض لها إلا التجارة، وهي
دون مدارس الحكومة في كل شيء؟ نعم لو أن في البلاد عددًا كبيرًا من أهل
العقل والغيرة يعرفون قيمة هذا العمل، ويؤازرون من يقوم به ويعملون بما يرشد
إليه في بيوتهم - لوُجد القائم به؛ ولكن قومنا مشغولون عن كل هذا باللهو واللعب
يبذل الغني ماله في طلب لقب ضخم يتبجح به، أو وسام لامع يزين به صدره يوم
لقاء الأمير في العيد، وهم غافلون عما في بيوتهم من معاول الخراب، وعن سير
أمتهم في طرق العدم والانقراض، ولخادعيهم المكانة الأولى عندهم (وقد يستفيد
الظنة المتنصح) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/841)
الكاتب: إسحاق طيلر
__________
المسلمون في أفريقيا
لقسيس إنكليزي [1]
قرأ (القسيس إسحاق طيلر) بالأمس صحيفة قال فيها: إن الإسلام من حيث
هو دين تبليغي - أي جعل أساسه على تبليغ عقائده إلى الناس بطريق الدعوة،
وإقامة الدليل والحجة، وتفويض الأمر للنظر والفكر في الوصول إلى المطلوب
علمه من تلك العقائد، ولم يجعل أساسه على الإلزام بما لا يعقل بطريق جبري -
قد نجح في قطعة أرض عظيمة من العالم نجاح الديانة المسيحية (تحيُّر من
السامعين) .
الداخلون في الإسلام من الوثنيين لا أقول فيهم إنهم أكثر عددًا من الداخلين
منهم في المسيحية فقط، بل أزيد على ذلك أن المسيحية تخنس بالفعل بين يدي
الإسلام والمساعي المبذولة لتنصير الأمم المسلمة ترجع إلى الخيبة رجوعًا ظاهرًا،
ليس أمرنا واقفًا عند العجز عن إحداث مواطئ جديدة لأقدامنا فقط؛ ولكن المقام
الذي نحن فيه قد نعجز عن حفظه أيضًا، إن دين الإسلام قد انتشر آنفًا من
(مراكش) إلى (جاوا) ومن زنجبار إلى الصين وهو الآن ينتشر في إفريقية
بسرعة لا يأتي عليها الوصف، فقد ضرب هذا الدين بجرانه في أرض (كونغو)
و (زمبيسي) و (أوغاندا) فهذه المملكة القوية الزنجية صارت محمدية من زمن
قريب، التمدن الأروبي الذي يهدم الوثنية الهندية في الهند إنما يوطئ طريقًا جديدًا
للدين الإسلامي! فإن في أرض الهند مائتنين وخمسة وخمسين مليونًا من السكان،
فيهم خمسون مليونًا مسلمون، وليس بينهم من المسيحيين إلا النزر اليسير،
والمسلمون من أهالي أفريقيا يزيدون على نصف سكانها، لا يتعلق بغرضنا الآن
بيان كيفية انتشار الدين الإسلامي في بدايات أمره؛ ولكن علينا أن نبين حالته في
ثباته ودوامه وأخذه بقلوب المستمسكين به؛ فإن الديانة المسيحية أقل سطوة منه
على القلوب؛ لذلك ترى القبيلة الإفريقية تدخل في الدين الإسلامي، ثم لا ترتد إلى
الوثنية قط ولا تتنصر أبدًا.
نرى الإسلام أوفق ما يكون لتهذيب الأمم المتوحشة وترقية حالها، أما الديانة
المسيحية فهي أبعد من أن تنالها عقول السذج وهي على ما نعلم من دقتها.
الإسلام قد نفع التمدن أكثر من المسيحية (تعجُّب من السامعين) انظروا في
تقارير أرباب المناصب من الإنكليز أو العامة من السائحين تقفوا على فوائد الدين
الإسلامي في إصلاح الأعمال البشرية؛ فإن الديانة المحمدية إذا دخلت في قبيلة
زنجية محت من بينها الديانات الوثنية وعبادة الشياطين ورفعتها عن السجود
للأباطيل، وكرَّهت إليها أكل لحوم البشر، وذبح الإنسان وقتل الأولاد، ونزهتها
عن معاطاة السحر، وهيأت لها من ذلك كله خلاصًا أبديًّا، وأول ما يبتدئ به
الوحشيون بعد الدخول في الإسلام لبس الثياب والنظافة، ثم تنشأ فيهم عزة النفس
ويكسوهم الوقار، ويصير قري الضيف بمنزلة فريضة شرعية، ويندر السُّكر،
وينقطع القمار، ولا يبقى أثر للمراقص المخزية، ويحظر اختلاط الرجال بالنساء،
وتُعَدُّ العفة في الإناث من خلائق التقوى، ويُبَدَّل الكسل بالعمل، وتأخذ الشريعة
مكان الأهواء، ويتحكم النظام والكياسة، ويَحْرُم سفك الدماء وظلم العبيد والبهائم،
ثم يفشو التناصح بالإحسان والأخوة والإحساس بالوجدان الإنسي، أما الاسترقاق
وتعدد الزوجات فيأخذان وجهًا من الترتيب وتمحى مساويهما.
الجمعية الإسلامية هي المستعلية على الكل بشدة قواها واجتنابها للمسكرات،
أما انتشار التجارة الأوربية فليس إلا انتشار السُّكر والقبائح والأخلاق السافلة،
والإسلام يروج بين الناس تمدنًا في رتبة غير سافلة لاحتوائه على تعلم القراءة
والكتابة وستر العورة والنظافة والصدق والحياء، إن رواج الإسلام وحمله الناس
على التمدن من العجائب، وما أقل ما نجد لو طلبنا عوضًا للمبالغ الوافرة من
الأموال التي أسرفنا في تبذيرها في أفريقيا، فالمتنصرون يعدون بألوف،
والداخلون في الإسلام يعدون بملايين، تلك أحوال يسوءنا مرآها وجهلها حماقة.
فيجب علينا أن نتبصر أمرًا، وهو أن الدين الإسلامي لا يناقض الديانة
المسيحية، بل يتفق معها؛ فإن ذلك الدين صوت إيمان إبراهيم وموسى عليهما
السلام، وفيه كثير من الأصول المسيحية وهو يخالف اليهودية في أنها كانت خاصة
وهو دين عام لا يختص بأمة واحدة، بل يعم كل العالم.
المسلمون يعترفون بأربعة مرشدين كرام: إبراهيم خليل الله، وموسى كليم الله
وعيسى كلمة الله، ومحمد رسول الله، ولسيدنا عيسى مقام جليل في الأربعة،
ولو فرضنا أن الديانة الإسلامية لا ترمي مرامي تعليمات القديس بولس فهي لا
تخالف المسيحية، بل هي قريبة منها، وخير من اليهودية لإقرارها بمعجزات
المسيح ونبوته، كان فيما ينسب إلى الديانة المسيحية موضوعات خيالية وضعها
بعض الرؤساء من عند أنفسهم، فصارت بها الأقوام مشركين في أعمالهم يعبدون
جماعة من القديسين والشهداء والملائكة، وظنوا من بعض أحكامها أن الوساخة من
خصال القديسين، فجاء الإسلام وكسح مجموع هذه المفاسد والأباطيل، وأظهر
الأحكام الأساسية الدينية، وهي توحيد الله وتعظيمه، وبدَّل الرهبانية بالإنسانية،
وأرشد الناس إلى الأخوة الصحيحة ومعرفة الحقائق الأساسية للطبيعة الإنسانية،
الدين الإسلامي لا يفرض على الناس خلع سلطان الطبيعة البشرية من مقامه
الفطري، كما تفرض ذلك الديانة المسيحية - في نحو الأمر بمحبة الأعداء مثل
محبة الأصدقاء، وبالتجرد عن قنية الأموال وبإدارة الخد الأيسر لمن ضربك على
الخد الأيمن وما شابه ذلك - لكن يطالب العقول بما تحتمله كالاعتدال والنظافة
والعفة والقسط والثبات والشجاعة وإكرام الضيف، فإذا أكسبهم هذه الخصال سهَّل
لهم طريق الفضائل السامية وجنبهم جميع الرذائل والكبائر، الدين المسيحي يطالب
بمؤاخاة الناس كافة وتلك غاية لا تُنال؛ لكن الإسلام ينادي بمؤاخاة فعلية يستوي
فيها المسلمون عامة، وهذه الأخوة جعالة عظيمة يقدمها الإسلام للداخلين فيه، فمَنْ
قَبِل الإسلام دخل في جمعية مؤتلفة القلوب على الإطلاق، وصار عضوًا لمجمع
أخوة عددهم (150.000.000) والداخلون في الديانة المسيحية جديدًا لا ينظر إليهم
بين النصارى بنظر المساواة؛ لكن الأخوة الإسلامية أمر حقيقي (هذه أخلاق أهل
الإسلام في أفريقيا كما قال القس طيلر، وهي الجدير بها المسلمون كافة؛ ولكن من
الأسف أن المسلمين في جهات كثيرة فقدوا هذه الأخوة الحقيقة) .
عندنا يا إخوتي كثير من الأحبة في منبر الكنيسة؛ لكن قليلاً ما نشاهدهم في
المعيشة اليومية (ضحك) حق أن القرآن بشَّر بجنة جسمانية لكن لها في الفضائل
الإنسية التي لابد منها في هذا العالم أقوى تأثير، الإسلام لا ينقطع بالإنسان إلى
الروحانية المحضة كما ترشد إليه التعاليم المسيحية؛ لكنه المكتب الفرد الذي يمكن
أن يتربى فيه الإفريقي.
العقبتان العظيمتان المانعتان من تنصر أهالي أفريقيا هما تعدد الزوجات
والاسترقاق، أما الاسترقاق فليس من لوازم العقيدة الإسلامية، لكن رخَّص فيه
الشرع المحمدي؛ لأنه شر اضطراري، كما رخَّص فيه موسى وماربولس، ويد
المسلم فيه أرفق وألين من يد المستعبدين في الممالك المتحدة، تعدد الزوجات
أصعب المسألتين على أنها لم ينه عنها في شرع موسى وعمل بها داود عليه السلام
والإنجيل لم يصرح بمنعها مع مخالفتها لأصوله، محمد (صلى الله عليه وسلم)
جعل حدًّا معينًا لعدد الزوجات، فخف شره ووجدت له منافع كثيرة، فهو الذي نسخ
قتل الإناث، وأقام لكل امرأة قيّمًا شرعيًّا؛ وبسببه خلصت البلاد المحمدية من
الفواحش الرسمية وهي أعظم شناعة في المسيحية من تعدد الزوجات في الإسلامية.
تعدد الزوجات على قواعده المنتظمة عند المسلمين أنجح تأثيرًا في صيانة النساء
عن الرذائل، وأخف ضررًا على الرجال من مخالطة امرأة واحدة لرجال كثيرين،
تلك لعنة البلاد المسيحية ولا وجود لها في بلاد الإسلام.
(انظر وتأمل) الإنكليز الذين يُجَوِّزون توارد رجال كثيرين على امرأة
واحدة في المواخير (أى محلات الفواحش) لا يليق بهم أن ينكروا على المسلمين
الناكحين مثنى وثلاث ورباع (أنصتوا أنصتوا) فلنخرج الجذع الكبير من أعيننا
قبل أن نهتم بإخراج القذى من عيون إخواننا.
إن أسقف لاهور في رؤساء آخرين أقدم على السماح لقوم بالتنصر مع إبقاء
زوجاتهم اللاتي كن في عصمهم قبل النصرانية؛ لأن من الظلم الفاحش أن يكلف
المتنصر بترك زوجته وقد تزوجها بنكاح صحيح في شريعته وجاءت منه بأولاد،
أيجوز أن أمهات أولاد الرجل يطلقن ويتركن للمعيشة في الرذائل، لا يمكن لرجل
يليق بأن يكون مسيحيًّا أن يقدم على عمل ظالم مخالف للفطرة مثل هذا.
إن الشرور الأربعة التي نعدها في البلاد المحمدية، وهي تعدد الزوجات
والاسترقاق والتمتع بالإماء وإباحة الطلاق - ليست من خصائص الإسلام، بل كان
معمولاً بها على أشنع صورها في الممالك المتحدة، وهي أرض مسيحية وسكانها
من الإخوة الإنكليز.
إن المعلمين الأوربيين لا يستطيعون أن يدخلوا أفريقيا في النصرانية، فهذا
شيء جُرِّب فلم يفد، فعلينا أن نعدل عن تهييج الخصام بيننا وبين المسلمين وتكذيب
نبيهم وتكفيرهم، ونجتهد في تفهيمهم أن المسيحية لا تخالف الإسلام، بل تشابهه
جدًّا، وعلينا أن نذكر أن الدين الإسلامي أشد تأثيرًا في إخضاع النفوس لمشيئة الله
وردعها عن السُّكر، وحملها على الصدق وتمكين عرى الألفة والأخوة الإيمانية
بينها، وأنفذ فعلاً مما عندنا فلنا فيهم أسوة حسنة، إذا اقتدينا بهم حسنًا.
إن الإسلام قد نسخ السُّكر والقمار والبغاء، ثلاث لعنات أهلكن البلاد المسيحية
(فليعتبر المقامرون حاسبهم الله) الإسلام قريب جدًّا من المسيحية، والمسلمون
كأنهم مسيحيون، فتعالوا بنا نساعدهم على الكمال في دينهم، ولا نسعى سعيًا عبثًا
لإبطاله لعلنا نجد في الإسلام مسيحية ونجد محمدًا (صلى الله عليه وسلم) آخذًا
بعضد المسيح في دينه (بشاشة من الحاضرين) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) للقسيس إسحاق طيلر الإنكليزي الذي توفي من عدة أشهر خُطب وكلام عادل عن الإسلام والمسلمين، نشر في الجرائد الإنكليزية منذ سنين، فكان له دوي عظيم، وقد عُرِّب بعضه ونُشر في (ثمرات) الفنون الغراء، وقد رأينا أن ننشر ما نقف عليه من ذلك وننشره في المنار بالتدريج، وهذه المقالة معرَّبة عن (البال ما غازيت) الإنكليزية من بضع عشرة سنة.(4/846)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورة الثالثة عشرة بين المصلح والمقلد
التقليد والوحدة الإسلامية في السياسة والقضاء
نهى الإمام أحمد وأتباعه عن التقليد، ترك التقليد ليس غمطًا للأمة والعلماء،
أحكام الشرع قسمان: روحاني لا تقليد فيه ودنيوي يُتبع فيه أولو الأمر
المجتهدون، الوحدة الإسلامية في المعاملات السياسية والقضائية، المشاورة
والإجماع، تفويض الشارع أمر الأحكام لأولي الأمر المجتهدين، تقديم الحكم
بالمصلحة الموافقة للقواعد العامة، نكاح المتعة، الحكم بالاستحسان عند الحنفية،
حكم القاضي بعلمه، أسباب الحكم ليست تعبدية، حكم القضاء على الظاهر وحكم
الدين على الباطن، العدل هو ما يوصل إلى الحق، اقتراح على أهل الحل والعقد أن
يؤلفوا كتابًا في السياسة والقضاء يوافق المصلحة الإسلامية في هذا العصر.
اجتمع الشيخ المقلد والشاب المصلح لإتمام المحاورة والمناظرة بعد فترة
طويلة، وابتدأ الشاب الكلام فقال:
المصلح: الأولى لنا أن نورد شيئًا مما يؤثر عن ناصر السنة الإمام أحمد بن
حنبل رحمه الله تعالى في النهي عن التقليد؛ ليعلم الذين ركنوا إلى تقليد هؤلاء
الأئمة الأربعة أنهم ليسوا على هديهم في هذا التقليد، وقد كان هذا الإمام الجليل
متأخرًا قليلاً عن الثلاثة، وإن أدرك بعضهم وصحب أحدهم، وكان قد رأى بوادر
التزام تقليد الذين تكلموا في الأحكام وكتبوا فيها وعلم أن الإمام مالكًا رحمه الله تعالى
قد ندم قبل موته أن نقلت أقواله وفتاويه؛ ولذلك لم يدون مذهبًا، واقتصر على
كتابة الحديث؛ ولكن أصحابه جمعوا من أقواله وأجوبته وأعماله ما كان مجموعه
مذهبًا كما قال العلامة ابن القيم، وسأله أبو داود عن الأوزاعي ومالك أيهما أتبع،
فقال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فخذ به، وذكر أن الرجل مخير في التابعين.
المقلد: إذا كان خَيَّرَ في اتِّبَاع التابعين فتلك رخصةٌ بتقليدهم.
المصلح: إنه كان يفرق بين الاتباع والتقليد، قال أبو داود: سمعته يقول:
الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم هو من
بعد في التابعين مخير، وقال أيضًا: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا
الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا، فالتقليد هو الأخذ بقول أحد من غير
معرفة دليله، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن إلا بعد العلم بسنته، فاتحد
الدليل والمدلول، وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد اختلف الأئمة في الأخذ
بالموقوف عليهم، فمنهم من يقول به كأحمد ومنهم من يقول هم رجال ونحن رجال
ومنهم من فصَّل وليس هذا من غرضنا الآن؛ ولكننا نفهم من عبارة الإمام أحمد
أن مراده الاهتداء بعمل الصحابة وسيرتهم لا تقليد واحد منهم بعينه في كل ما يقول
وإنما خير في التابعين؛ لأن المختار من لا يتبع الهوى في اختياره؛ وإنما يسترشد
بمن يراه أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً.
المقلد: أليس هؤلاء الأئمة الأربعة خيرًا من كثير من التابعين، فلماذا لا
تختار اتباعهم، ونكون آخذين برخصة الإمام أحمد في ذلك بالأولى؟
المصلح: إن الأئمة الأربعة أولى بأن يتبعوا في سيرتهم العلمية والعملية من
كثير من التابعين، وقد اتبع أحمد الشافعي في طرق الفهم والاستنباط، وفضَّله في
حداثة سنه على الشيوخ الذين كان يُرحل إليهم؛ ولكنه لم يقلده تقليدًا، روى الحاكم
بسنده إلى الفضل بن زياد العطار أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول (ما مس
أحد محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة) ولولا أن المتأخر من العلماء يهتدي
بهدي المتقدم لما ارتقى علم في الدنيا، ولو أن المتأخر يأخذ بكل ما يقوله المتقدم لما
ارتقى علم في الدنيا.
المقلد: إذا كان الإمام قد نهى نهيًا صريحًا عن تقليده، فلماذا دوَّن أصحابه له
مذهبًا مستقلاًّ، وحملوا الناس على العمل به؟
المصلح: هذا السؤال يرد على سائر المقلدين؛ فإن الأئمة الثلاثة نهوا عن
التقليد أيضًا، كما قلنا في مجالسنا السابقة، وقد كان أتباع الإمام أحمد أبعدهم عن
التقليد المحض، وأقربهم إلى ما كان يسميه إمامهم اتباعًا واهتداء، وذلك أنه لا
يزال مذهبهم الحديث، والفروع الفقهية عندهم مدللة باتباع السنة في الغالب؛ ولذلك
كان أكثر الحفاظ والمحدثين من أتباعه وليس فيهم من يترك الحديث لقوله كما يفعل
سائر فقهاء المذاهب الأخرى وهم أكثر الناس نعيًا على التقليد والمقلدين.
قال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتاب (تلبيس إبليس) : اعلم أن المقلد
على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه خلق للتأمل والتدبر،
وقبيح ممن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة، واعلم أن
عموم اصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم التفحص عن أدلة إمامهم، فيتبعون قوله
وينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن عبد
الله الأعور بن الحوطي وقد قال له أتظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل؟
فقال له: (يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق
تعرف أهله) .
وقال ابن القيم العلامة المحدث المشهور بعد كلام في النفس الأمارة، ثم
النفس المطمئنة: (فإذا جاءت هذه بتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم
جاءت تلك (أي الأمّارة) بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم، فأتت بالشبهة المضلة بما
يمنع من كمال المتابعة، وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق، والله يعلم أنها
كاذبة وما مرادها إلا التفلت من سجن المتابعة إلى فضاء إرادتها وحظوظها وتريه
(أى تري صاحبها) تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقديم قوله على
الآراء في صورة تنقص للعلماء وإساءة الأدب عليهم المفضي إلى إساءة الظن بهم،
وأنهم قد فاتهم الصواب، فكيف لنا قوة بأن نرد عليهم أو نحظى بالصواب دونهم
وتقاسمه بالله إن أردت إلا إحسانًا وتوفيقًا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء: 63) والفرق
بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقواله وإلغائها، أن تجرد المتابعة أن لا يُقَدِّم
على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قول أحد ولا رأيه كائنًا من كان، بل ينظر
في صحة الحديث أولاً، فإذا صح نظر في معناه ثانيًا، فإذا تبين له لم يعدل عنه ولو
خالفه من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على ترك ما جاء به نبينا
صلى الله عليه وسلم، بل لابد أن يكون في الأمة من قال به ولو خفي عليك فلا تجعل
جهلك بالقائل حجة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في تركه، بل اذهب
إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا؛ ولكن لم يصل إليك علمه.
هذا، مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم
في حفظ الدين وضبطه، فهم رضي الله عنهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة؛
ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم منك
، فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النصوص أعلم فهلا وافقته إن كنت صادقًا، فمن
عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر
أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك، بل مخالفتهم في ذلك
أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على
أقوالهم، ومن هذا تبين الفرق بين تقليد العالم في جميع ما قال، وبين الاستعانة
بفهمه، والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب دليله
من الكتاب والسنة، والمستعين بأفهامهم يجعلهم بمنزلة الدليل الأول، فإذا وصل
استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة لم يبق لاستدلاله
معنى إذا شاهدها، قال الشافعي: (من استبانت له سنة رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد) .
(ومن هذا تبين الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول
الذي غايته أن يكون جائز الاتباع، بأن الأول هو الذي أنزل الله تعالى على رسوله
صلى الله عليه وسلم متلوًّا أو غير متلو، إذا صح وسلم من المعارضة، وهو حكمه
الذي ارتضاه لعباده ولا حكم له سواه، وأن الثاني أقوال المجتهدين المختلفة التي لا
يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها؛ فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله
ورسوله قطعًا وحاشاهم عن قول ذلك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم النهي عنه في قوله (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تجعل لهم
ذمة الله وذمة رسوله فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة
أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم
على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري
أتصيب حكم الله أم لا) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من
حديث بريدة، بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، ولم يلزم
أحد منهم بقول الأئمة، قال أبو حنيفة هذا رأيي فمن جاء بخير منه قبلته، ولو كان
هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه، وكذلك قال
مالك لما استشاره هارون الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك،
وقال: قد نفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند
كل قوم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين، وهذا الشافعي نهى أصحابه عن تقليده،
وكان يوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد أنكر على
من كتب فتاويه ودوَّنها، وكان يقول: (لا تقلدوني ولا تقلدوا فلانًا وفلانًا وخذوا
من حيث أخذوا) اهـ.
قال المصلح بعد إيراد هذه الجملة الصالحة من كلام ابن القيم: إنني سقت هذا
الكلام بطوله لأذكرك بخلاصة ما مر من النقول والدلائل، وقد رأيت هذا الكلام
اليوم وأعجبني جدًّا.
المقلد: حاصل ما فهمته منك أن مذهبك مذهب المحدثين؛ ولكن ماذا تفعل
بالحديث إذا خالف مذاهب أهل السنة كلهم، كحديث أحمد ومسلم الذي ورد في آخر
كلام ابن القيم الذي يثبت الحكم لغير الله تعالى في قوله (أنزلهم على حكمك) وأهل
السنة يقولون: لا حكم إلا لله وحكمت المعتزلة بالعقل.
المصلح: إنما سمي أهل السنة بهذا الاسم؛ لأنهم يتبعون السنة إذا صحت،
وهذا الحديث صحيح عند أئمتهم في الحديث والفقه، فمن خالفه منهم فقد خرج عن
السنة في هذه المسألة، وإذا أخذ به المعتزلة فهم على السنة فيها، وكأني بك لا
تزال مصرًّا على أن مذاهبكم هي الأصل الذي يعرض عليه الكتاب والسنة، فإن
وافقاه قبلا، وإلا ردا بضروب من التأويل، ومن اعتقد هذا فهو بعيد عن السنة،
بل وهو بعيد عن الإسلام، وأنا أقول: معاذ الله أن تكون مذاهب أهل السنة مخالفة
لهذا الحديث ولكن عليك بالفهم ولا تؤاخذني بهذه الكلمة فقد آلمني قولك هذا بعد كل
ما تقدم.
أما أحكام الدين فهي لله كما قال أهل السنة والجماعة أخذًا من قوله تعالى: {إِنِ
الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 40) ولكن أحكام الله تعالى على قسمين قسم لا يستقل العقل بمعرفة أصوله
ولا فروعه وهو الروحاني المحض الذي يتقرب به إلى الله تعالى، وإنما يفهم العقل
فائدته ومنفعته الدنيوية في جملته، ويفوض الأمر في منفعته الأخروية إلى الله
تعالى كالإيمان بالغيب من أمور الآخرة وما يتعلق بها، وكالعبادات ومواقيتها
ومقاديرها فهذا القسم يؤخذ عن الشارع ولا يتصرف العقل فيه بزيادة ولا نقص، وقد
تقدم الكلام عليه في بحث الوحدة الإسلامية في العبادات وما في معناها، وقسم
يستطيع العقل أن يعرف وجه المصلحة فيه بالتأمل والنظر والاختبار والقياس؛
ولكنه يكون عرضة للخطأ والضلال في بعض مسائله لضعفه تارة، ولميله مع
الهوى تارة أخرى، فوضع له الشرع قواعد عامة ليبني أحكامه الجزئية عليها
ويرجعها إليها، وهذا قسم المعاملات الدنيوية المبنية على أساس دفع المضار وجلب
المنافع وارتكاب أخف الضررين عند تعارضهما وتحتم وقوع أحدهما، وهذه المسألة
لازمة لما قبلها وكلاهما مجمع عليه، وهذا القسم هو الذي يجب تقليد العامة فيه لأولي
الأمر الذين يجب أن يكونوا مجتهدين في علوم الدين والدنيا؛ ولذلك سمَّاهم الشرع
أئمة.
المقلد: أذكر أن الوحدة الإسلامية التي ذكرت من قبل في شأن القسم
الروحاني من الدين، هي أن يكون ما أجمع عليه المسلمون الذين يُعْتَدُّ بإسلامهم هو
الذي يدعى إليه، وهو الذي يلقن للجماهير بحيث يعرفه ويفهمه كل من يدخل في
الإسلام، وتكون المسائل الخلافية الدينية كالمسائل العلمية لا تنافي الأخوة الإسلامية
في شيء يتبع العالم فيها ما صح عنده من غير أن يعيب مخالفه فيها، وإذا عرضت
للعامي يسأل من يثق بدينه وعلمه عن حكم الله فيها، فإن كان عنده شيء من
الكتاب والسنة ذكره له، وإلا توقف كما كان أئمة السلف وعامتهم يفعلون، إذا
تحققت الوحدة الإسلامية في هذا القسم بما ذكرت فكيف يمكن أن تتحقق في القسم
الثاني الذي جعلت مدار جزئياته على اجتهاد أولي الأمر، وهم لا بد أن يختلفوا كما
عُرف بالاختبار، وهل من دليل على تفويض الأحكام إليهم من السنة غير حديث
أحمد ومسلم الذي تقدم.
المصلح: أما جمع الكلمة وتحقق الوحدة الإسلامية بذلك، فبوجوب طاعة
أولي الأمر إذا حكموا بأمر أو قرروه وأمروا به، أي مما يتعلق بالمصلحة في
المعاملات؛ فإننا استثنينا الأمور الدنيوية المحضة لأن الله تعالى أكملها أصولاً
وفروعًا كما تقدم شرحه، ولما كانت هذه وظيفة أولي الأمر اُشترط فيهم أن يكونوا
من العلم في مرتبة الاجتهاد المطلق، وفرضت عليهم المشاورة وجعل إجماعهم
حجة شرعية بالنسبة إلى الجمهور المكلف بقبول أحكامهم، لئلا تنشق العصا
وتستباح البيضة بالخلاف والتفريق، وأما الأدلة على تفويض الأمر إليهم غير ما
تضمنته الآية والحديث السابق فأحاديث منها ما رواه أحمد والبخاري في تاريخه
والدورقي وغيرهم عن علي كرم الله وجهه قال: قلت: يا رسول الله إذا بعثتني في
شيء أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال: (بل الشاهد
يرى ما لا يرى الغائب) يدل الحديث على أن مراعاة المصلحة هو الأصل فيمن
عهد إليه بشيء من أمر الناس لا الأخذ بظاهر قول الشارع في الجزئيات، وإن
فرض عدم انطباقه على المصلحة، ويصلح الحديث حجة للحنفية على تقديم
الاستحسان على القياس الجلي المقدم على خبر الواحد إن أريد بالاستحسان ما نفهمه
من أنه ما يوافق المصلحة العامة من الأحكام؛ فإن ذلك هو الذي يوافق القواعد
الأصلية الثابتة بالنصوص القطعية، وهذا ظاهر في الأحكام الدنيوية والمعاملات
المعاشية؛ لأنها ليست تعبدية ولذلك تسري على المؤمن والكافر، ويحكم فيها
العرف الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وهذا الاستقلال الذي يدل عليه
الحديث لا ينافي وجوب المشاورة في الأمر الثابتة بنص القرآن، كما لا ينافي اتباع
سائر القواعد الشرعية التي هي أصول الاستنباط والاجتهاد، بل يستلزمها بدليل
آخر.
المقلد: إن قولك هذا يناقض ما أطلت به وأوردت عليه نصوص الأئمة من
أنه لا يجوز لأحد أن يرغب عن السنة إذا صحت عنده.
المصلح: إن هذه المعارضة هي أقوى شيء راجعتني فيه منذ تكلمنا في هذا
الأمر، والجواب عنها أنها مسلَّمة في الأمور الدينية المحضة، وهي التي لم نجعل
فيها رأيًا لإمام ولا حاكم، وأما الأمور السياسية والقضائية فهي محل الشبهة،
والجواب عنها أنه يجب العمل بالحديث الصحيح فيها إذا لم يناف المصلحة والمنفعة
فإن فُرض أنه وُجد حديث لا ينطبق على المصلحة؛ فإننا نعتبر هذا الحديث
معارضًا للأصول العامة القطعية المؤيَّدة بالكتاب والسنة العملية والقولية أيضًا
كحديث (لا ضرر ولا ضرار) ونحوه، ولا شك أن هذه الأصول مرجحة على
ذلك الحديث الذي فرضنا وجوده؛ لأنه لا يكون إلا من أحاديث الآحاد التي لا تفيد
إلا الظن، فلا يقال حينئذ إننا تركنا السنة بتركه أو رغبنا عنها؛ وإنما رجحنا منها
ما هو أولى بالترجيح، على أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قضى في مسائل كثيرة بخلاف ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كمسألة
الطلاق الثلاث التي تكلمنا عنها بالتفصيل في شرح المقدمة الحادية عشرة من
المحاورة السابعة، ومنها مسألة المتعة أخرج مسلم وغيره من حديث جابر قال كنا
نستمتع بالقبضة من الدقيق والتمر الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر حتى نهانا عنها عمر في شأن حديث عمرو بن
حريث، وروى عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان يراها حلالاً ويقرأ {فَمَا
اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} (النساء: 24) قال وقال ابن عباس في حرف أُبي بن كعب:
(إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) قال: وكان يقول: يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة
رحم الله بها عباده ولولا نهي عمر لما احتيج إلى الزنا أبدًا، وهو صريح بأن عمر
نهى عنها اجتهادًا منه.
المقلد: إن نكاح المتعة محرم بإجماع أهل السنة، ولولا خلاف الشيعة فيها
لكان فاعلها كافرًا، ويروون أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رجع عن إباحتها،
وورد في الأحاديث الصحيحة التي النهي عنها.
المصلح: مهلاً إن كان هناك اتفاق من المتأخرين فسببه امتثال المسلمين لقول
عمر، وهو إقرار له على الحكم بتحريم شيء كان أُحل للضرورة فخاف عاقبة
توسع الناس فيه، ورأى المصلحة في إبطاله، وهو مأمور أن يحكم بمقتضى
المصلحة، فهو بذلك ممتثل أمر الله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما فوض إليه
وعهد إلى أمانته، فلا يقال إنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من تعارض
عنده قولان فعمل بأرجحهما لا يقال إنه غير متبع، وأما الصحابة فقد نُقل عنهم
الخلاف في المسألة، فروى ابن حزم تحليلها عن جماعة منهم ابن عباس وابن
مسعود وجابر بن عبد الله ومعاوية وعمرو بن حريث وأبو سعيد وسلمة ابنا أمية
ابن خلف، ومنهم أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وروي عن
جابر أنه قال بعدما ذكر أن عمر نهى عنها في آخر خلافته: (إنه إنما أنكرها إذا لم
يشهد عليها عدلان فقط) قال ابن حزم: وقال بها من التابعين طاوس وعطاء
وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة، وما ورد من الأحاديث في النهي عنها، ثم الإذن
فيها، ثم النهي عنها، فبعضه ضعيف وبعضه صحيح، وصرح بعضهم بأن الإذن
محمول على حال الضرورة بنحو سفر وعزبة، والمنع محمول على حال الإقامة،
ولو كان النهي قطعيًّا عامًّا مؤبدًا لما جهله الصحابة الذين استمروا على استباحة
المتعة طول حياته عليه السلام ومدة خلافة أبي بكر ومعظم خلافة عمر حتى نهاهم
عنها.
المقلد: لقد شهدت لك أيها الشاب الفاضل بسعة الاطلاع وطول الباع، ولو
لم يكن من مضرة التقليد إلا عكوفنا على كتب أصحاب مذهبنا وإهمالنا النظر في
كتب السنة لكفى، وإنني - والحق أحق أن يتبع - لا أدري ماذا أقول لك، وإن كان
في نفسي حرج من بعض ما تقول، وأخشى أن تكون مخادعي بقوة عارضتك، فبينا
أنت تقيم البرهان على أنه لا يجوز العمل بقول أحد غير المعصوم إذا بك تنهض
بالحجة على ترك الحديث لاجتهاد المجتهدين، نعم إنك جعلت لكلٍّ محلاًّ بحيث لا
يعترض عليك، ولا سيما وقد وافقت في كل قول إمامًا من الأئمة؛ فإن الإمام أبا
حنيفة وأصحابه يقدِّمون الاستحسان على القياس، وعلى خبر الواحد، وقد انشرح
صدري لتفسيرك الاستحسان؛ ولكنني أعني بالمخادعة أن من يسمع منك أحد
الكلامين لا يخطر له على بال أنك تقدر على الاحتجاج للثاني، وقد كان وقع لكلامك
شيء في نفسي من الاستحسان والقياس.
المصلح: أحسنت فيما ذكرت من مضرة التقليد؛ فإنه الحجاب الأعظم دون
العلم والفهم، ولو شئت لزدتك من ذكر الأحكام التي حكم فيها عمر رضي الله عنه
بمثل ما حكم في الطلاق الثلاث ونكاح المتعة؛ ولكن الوقت قد ضاق، فإن أحببت
الاستزادة فشرفني مرة أخرى أزدك إن شاء الله تعالى، وأريد الآن أن أقرأ عليك
جملة نفيسة قالها الإمام الشوكاني في بحث خلاف العلماء في قضاء القاضي بعلمه
وهي:
(والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أنه يقال: إن كانت الأمور التي جعلها
الشارع أسبابًا للحكم كالبينة واليمين ونحوهما أمورًا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم
إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا الوقوف عندها
والتقيد بها وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنًا ما كان، وإن كانت أسبابًا يتوصل
بها الحاكم إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ غير مقصودة
لذاتها، بل لأمر آخر وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن، وأنها أقل
ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر
، فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأن شهادة الشاهدين والشهود
لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة، أو ما يجري مجراها فإن الحاكم
بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين، ولهذا يقول المصطفى صلى
الله عليه وآله وسلم (فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه إنما أقطع له
قطعة من النار) فإذا جاز الحكم مع تجويز كون الحكم صوابًا وتجويز كونه خطأ،
فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم اليقين؟ ولا يخفى رجحان
هذا وقوته؛ لأن الحاكم قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله تعالى) اهـ
المراد منه على أن له فضل بيان.
المقلد: إن أحكام المعاملات عندنا من الدين ونحن متعبدون بها.
المصلح: نعم إنها من الدين بمعنى أن الدين أرشدنا إلى اتباع الحق وإقامة
العدل فيها، وهي أحكام يتحرى فيها الحاكم ذلك، فإن أصابه فقد أصاب حكم الله
كما ورد (حيثما وجد فهناك حكم الله) ولذلك يقول الفقهاء: فله كذا والحكم كذا
قضاء لا ديانة أو ديانة لا قضاء، الأصل في هذا حديث (إنما أنا بشر وإنكم
تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما
أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)
رواه أحمد والستة عن أم سلمة (الألحن بالحجة هو الأفصح بها والأظهر احتجاجًا)
فالحق ثابت في نفسه لا يتغير أخطأه الحاكم أم أصابه، وكذلك العدل لأنه إصابة
الحق.
المقلد: العدل هو ما وافق الحكم الشرعي والجور والظلم ما خالفه لقوله تعالى:
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) .
المصلح: إن الظالمين الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الذين لا يحكمون
بالعدل؛ لأن الذي أنزله الله تعالى وجعله آلة الحكم بين الناس هو العدل، قال
تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقال عز
وجل: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: 17) فالله تعالى لم
ينزل آيات قرآنية بعدد الوقائع التي تحدث للناس، وقال احكموا بها فإنها العدل،
وإنما أعطانا ميزانًا نعرف به الحق الراجح من المرجوح، وهو ما أرشدنا إليه من
القواعد العامة التي يكون بها الترجيح وأشرنا إلى بعضها في كلامنا السابق، أرأيت
أن العرب عندما كانوا يسمعون الأمر بالحكم بالعدل يفهمون منه أن العدل هو أحكام
فرعية منصوصة يجب العمل بها؟ أرأيت ذلك الرجل الذي قال يا (محمد اعدل)
يريد احكم بالفروع التي جئت بها، وجواب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
له (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) يريد به
ذلك؟
والحديث رواه أحمد ومسلم عن جابر وسببه أنه عليه السلام كان يعطي الناس
شيئًا من الفضة عند منصرفه من حنين، نعم إن ما ورد في الكتاب وصح في السنة
من الأحكام فكله عدل وقسط؛ ولكن الأحكام الاجتهادية التي استنبطها الفقهاء منها
ومنها، ولذلك وقع فيها الاختلاف والحق في نفسه واحد سواء أكان الذي أخطأه
مجتهدًا معذورًا، أم مقصرًا مأزورًا، والعدل هو ما يحفظ الحق أو يوصل إليه من
غير ميل مع إحدى الريحين، إلى جانب أحد الخصمين، وهو المقصود بالذات،
وإن تعددت الطرق والدلالات، واختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والحالات،
أرأيت إذا وضع القاضي متهمين في بيت ووضع عندهما حافظة الصوت
فونوغراف، فتكلما في كيفية ارتكابهما الذنب وائتمرا في كيفية الإنكار، فنطقت
بذلك الآلة أمام القاضي ألا يكون موقنًا بذنبهما، وهل يأتي مثل هذا اليقين في شهادة
الشاهدين؟
وحاصل ما أريد بالوحدة الإسلامية في السياسة والقضاء أن يجتمع أهل الحل
والعقد من العلماء والفضلاء، ويضعوا كتابًا في الأحكام مبنيًّا على قواعد الشرع
الراسخة، موافقًا لحال الزمان، سهل المأخذ لا خلاف فيه، ويأمر الإمام الأعظم
حكام المسلمين بالعمل به، وهذه هي وظيفته فإن لم يقم بها؛ لأنه ليس أهلاً لها،
فعلى العلماء أن يقوموا بها ويطالبوه بتنفيذها، فإن لم يفعلوا فيجب على كل مسلم
أن يعرف أن الأمراء والعلماء هم الذين أضاعوا الدين، وفرَّقوا كلمة المسلمين،
وليستعدوا لتقويمهم إن كانوا مؤمنين اهـ.
__________(4/852)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طهارة الأعطار ذات الكحول
والرد على ذي فضول
(تتمة)
ذكرنا في الجزء الماضي ثلاثة أمور مما يتعلق بموضوعنا من رسالة مختار
بك المؤيد وهاؤم الباقي.
(4) دعواه الإجماع على أن الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب
أو المصلى، وما أسهل دعوى الإجماع على مثله، قال في نيل الأوطار ما نصه:
(وهل طهارة ثوب المصلي شرط لصحة الصلاة أم لا؟ فذهب الأكثر إلى أنها
شرط وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وهو مروي عن مالك
أنها ليست بواجبة، ونقل صاحب النهاية عن مالك قولين أحدهما إزالة النجاسة سنة
وليست بفرض، وثانيهما أنها فرض مع الذِّكر ساقطة مع النسيان، وقديم قول
الشافعي أن إزالة النجاسة ليست بشرط، ثم أورد ما استدل به الجمهور على
الشرطية وبيَّن عدم صحة الاستدلال؛ لأن ما كان من حديث صحيح في ذلك فهو
آمر بإزالة النجاسة أو مرشد إليها بالعمل من غير ذكر ما يفيد أنها شرط للصلاة
كالآية الكريمة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4) إلا حديث (تعاد الصلاة من قدر
الدرهم من الدم) ولو صح لكان مفيدًا للشرطية؛ لكنه باطل لأن في إسناده روح بن
غطيف وقال ابن عدي وغيره: إنه تفرد به وهو ضعيف، وقال الذهلي: أخاف أن
يكون موضوعًا، وقال البخاري حديث باطل، وقال ابن حبان: موضوع، وقال
البزار: أجمع أهل العلم على نكرة هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر: وقد أخرجه
ابن عدي في الكامل من طريق أخرى عن الزهري لكن فيها أبو عصمة وقد اتهم
بالكذب.
وقد استدلوا على الشرطية بما هو حجة عليهم كحديث خلع النبي صلى الله
عليه وسلم نعله في الصلاة؛ لأنه علم أن بها خبثًا، وهو يدل على عدم الشرطية
لأنه لم يستأنف الصلاة، والشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ومنها حديث
أمره عليه السلام بغسل لمعة الدم من الكساء بعدما صلى فيه، ولو كانت طهارة
الثوب شرطًا لإعادة الصلاة، وقد قال الإمام الشوكاني بعدما أورد أدلة الجمهور
وأعلَّها ما نصه: (إذا تقرر لك ما سقناه من الأدلة فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة
وجوب تطهير الثياب فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركًا لواجب، وأما أن
صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة، فلا؛ لما عرفت اهـ.
(5) إنكاره على المنار القول بأن الكحول لم يكن موجودًا في زمن التشريع
وأزمنة الأئمة الأربعة فينص فيه على شيء، وزعمه أن ذلك دعوى بغير دليل،
وإن عدم ذكره ليس دليلاً على طهارته، وما كتبه المؤلف العامي في هذا المقام دليل
على أنه لم يفهم كلام المنار؛ فإننا لم نستدل بعدم ذكر الأئمة له على طهارته،
وإنما أردنا أنه ليس فيه عنهم نص فيأخذ به مقلدهم فهو على أصل الطهارة، وما
قاله بعض المقلدين من المتفقهة المعاصرين في نجاسته فمردود بالوجوه التي
ذكرناها في المنار.
(6) إنكاره تعليل المنار عدم وجود الكحول في زمن التشريع بعدم وجود
الكيمياء، وقوله إن الأحكام الشرعية لا تتوقف على وجود هذا العلم، ثم استدلاله
على وجوده بوجود علم الطب والتصوير عند الشعوب المتمدنة (كذا) وهذا اللغو
أيضًا من سوء الفهم؛ فإننا نحن الذين صرحنا بأن الأحكام الدينية لا تبنى على
المسائل الكيماوية، وعنصر الكحول لم يُعرف إلا من الكيمياء، واستدلاله بالطب
والتصوير على وجود علم الكيمياء في زمن التشريع من أغرب ما يحتج به من
يفتحر الكلام افتحارًا، ولو كان يعلم كما نعلم أن علم الكيمياء الحديث من اختراع
جابر بن حيان الصوفي المتوفى سنة 161 لملأ الدنيا لغطًا وتبجحًا؛ لأن زمنه زمن
الأئمة المجتهدين؛ ولكن صاحب الفهم السليم يعلم أن ذلك لا ينافي كلامنا، وأما
الكحول فالذي اكتشفه هو أبو بكر الرازي الفيلسوف الطبيب المتوفى 311 أي بعد
الأئمة المجتهدين، ويعترف لنا فلاسفة الإفرنج بهذا السبق، ولم يكتشفه الأطباء
والمصورون الأقدمون كما زعم المؤلف العامي.
(7) زعمه سقوط استدلال المنار على أن نجاسة الكحول لا يصح أن تؤخذ
من اللغة؛ لأنه ليس قذرًا قال: (فأي قذارة في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
التي أمرنا الله بالنص باجتنابها) ... إلخ، ونحن قد سبقناه إلى القول بأن رجسية
هذه الأشياء معنوية، أي أنها مضرة ولذلك وجب اجتنابها، وليست رجسية حسية
يجب تطهير الثياب منها كالعذرة مثلاً، فمن مسّ الأنصاب أو لَعِبَ الميسر أواستقسم
بالأزلام، وهو رطب اليد لا يجب عليه غسل يديه، ولو صلى قبل الغسل لا تجب
عليه الإعادة، وكذلك الخمر لأن حكمها في الآية حكم الميسر والأنصاب والأزلام،
فهذا المؤلف العامي يرد على نفسه من حيث لا يدري.
(8) إنكاره قول المنار إن الكحول يوجد في غير الخمر من الأشربة
والأدوية وغيرهما، وزعمه أنه (لا وجود له في الطبيعة ألبتة، بل هو عنصر
يتولد بالتخمير) ... إلخ، ومن سَهُل عليه أن يقول في الدين بغير علم فأحرى به
أن يقول في الكيمياء بغير علم، وزعمه أن لا وجود له في الطبيعة يقتضي أنهم
يوجدونه من العدم بالتخمير، وليس في الدنيا كيماوي ولا طبيعي يقول بأن شيئًا ما
يوجد من العدم بأعمال كيماوية أو غير كيماوية، وقد اعترف المؤلف العامي بأن
الكحول يُستخرج من الثمرات والفاكهة والخضر والحبوب والخشب؛ ولكنه زعم أن
ذلك بالتخمير، والصواب أنه يُستخرج من الخشب وغيره بالاستقطار بآلات حديدية
مخصوصة، فهو يصدق المنار ويؤيده من حيث لا يفهم، ثم يرد عليه من حيث لا
يعلم.
(9) قوله: (تذكرت في هذا المقام جوابًا لجناب الأستاذ، وذكر حديثًا
شريفًا في الإنكار على اليهود إذابة الشحوم المحرمة وبيعها، وهذا الحديث ليس
جوابًا لنا؛ وإنما يصح أن يكون جوابًا منا؛ لأننا نقول إن الأحكام الدينية يجب أن
تؤخذ عن الشارع من غير تأويل ولا حيلة، وهذا الحديث ينكر التأويل والحيلة
على اليهود فلماذا لا يحتج به على الفقهاء الذين يبيحون الحيل في الأمور الشرعية
حتى ما يتعلق بأركان الإسلام كالزكاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن
الكلب، والإمام أبو حنيفة يجوِّزه، فهل رأى المؤلف الأمي أن يجعل العطر من
الخمر ويحتج علينا بالحديث، ولا يحتج به على المحتالين على هدم أركان الإسلام
بالحيل ومخالفة النصوص الصريحة؛ لأن الموت جعلهم مقدسين أو معصومين،
وذنبنا أننا أحياء، أنا أجل الإمام أبا حنيفة عن تجويز الحيلة في الدين، وإن كان
من المنتسبين إليه من ألَّف في الحيل حتى كاد يبطل بها كل شيء.
(10) قوله إن النصوص مصرحة (بأن كل مسكر يدخل تحت اسم الخمر
وأحكامه حكمًا لا تقليدًا ولا اجتهادًا ولا استنباطًا، وأن كل خمر نجسة العين)
ونحن نقول إذا صح قوله هذا فهو حجة على أئمته الحنفية لا علينا؛ فإن الخمر
عندهم ما عُرِّفت في النبذة الأولى من الرد، أي لا تكون إلا من عصير العنب
والأعطار الإفرنجية ليست من المسكرات، ونقول على قاعدته إنه يسيء الظن
بالإمام أبي حنيفة، ويزعم أنه مخالف لأحكام الدين من غير اجتهاد ولا استنباط
(حاشاه من جهل هذا المؤلف العامي) .
(النتيجة)
أن الخمر مختلف في نجاستها عند علماء المسلمين، وأن الخلاف في غير
عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد أقوى، وأن النبيذ طاهر عند الإمام أبي
حنيفة وفيه الكحول قطعًا، وأن الكحول ليس خمرًا، وأن الأعطار الإفرنجية ليست
كحولاً؛ وإنما يوجد فيها الكحول كما يوجد في غيرها من المواد الطاهرة بالإجماع
وأنه لا وجه للقول بنجاستها حتى عند القائلين بنجاسة الخمر والله أعلم وأحكم.
__________(4/866)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مؤتمر التربية والتعليم في الهند
ليس للمصريين عبرة يعتبرون بها، ولا أسوة يتأسون بها كإخوانهم الهنود
الذين مرت عليهم السنون وهم يجهلون نعمة الحرية، التي هي للأمة كالعافية
للأفراد، وكالشمس في الطبيعة لا حياة طيبة إلا بها، ثم عرفتهم بها المصائب التي
نزلت بهم لترك الشكر عليها بالتربية والعمل النافع، لهذا نرى أن أفضل ما يُنشر
في المؤيد الأغر هو أخبار المسلمين في بلاد الهند، وقد كتب في الشهر الماضي
كلامًا عن ندوة العلماء التي أوجس منها حكامهم الإنجليز خيفة؛ لأنها مؤلفة من رجال
الدين، حتى أن الحاكم الإنجليزي للولاية التي هي فيها عرَّض بها، بل صرح في
خطبة له، فقام بعض فضلاء المسلمين يرد عليه بأن الجمعية لم تؤلف لغرض
سياسي - ومتى كان علماء الدين سياسيين - تخشى مغبته الحكومة؛ وإنما هي
لمحض ترقية العلوم الدينية والصلة بينها وبين العلوم الدنيوية لأجل ترقية المدنية،
فهل عرف المصريون كنه حرية الإنكليز كما عرفها إخوانهم الهنديون، أم يزالون
يسيئون الظن بهم انخداعًا لوسواس شياطين الوطنية الكاذبة، فلا يقدمون على عمل
نافع خوفًا من إيقاع الإنكليز بهم ووقوفهم في طريق عملهم؟ إن كانوا كذلك فهم من
خوف الذل في الذل.
ثم إنه - أي المؤيد - نشر خبر انعقاد المؤتمر الإسلامي المرة الخامسة عشرة
بالتفصيل، فجاء فيه أنه انعقد السنة في مدينة مدراس، وكان ينعقد في كلكتا
برياسة فاضل الهند وعاقلها القاضي أمير علي، واتفق أنه لم يوجد من أعضائه
المسلمين في مدراس من يصلح لرياسة الاجتماع، فكان الرئيس القاضي بودام
الإنكليزي فألقى خطبة افتتاحية تلقاها جميع المسلمين بالاستحسان والإعجاب، وهي
جديرة بذلك.
ابتدأ الخطيب كلامه بإظهار التأسف؛ لأنهم لم يجدوا مسلمًا يصلح لرياسة
الاجتماع يشعر بما يشعرون به، ويتألم مما يتألمون، ويخاطبهم بما يفهمون،
ويثقون بما يقول، ثم بإظهار الرجاء بأن يكون انعقاد المؤتمر في عاصمة ولاية
مدراس سببًا في إزالة الشقاق والخلاف من المسلمين وجمع كلمتهم واتحادهم على ما
ينفع أمتهم وبلادهم، وذكر أنه قبل الرياسة مضطرًّا بعد تردد، وأنه يؤمل أن ينفع
المسلمين بذلك.
وأثنى على المرحوم السيد أحمد خان مؤسس المؤتمر ومدرسة عليكدة الشهيرة
وذكر أنها تربي رجالاً عليهم مدار نجاح المسلمين في الحال والاستقبال، بما
تعرفهم من شأن الاعتماد على النفس والسعي بالنفس، وعدم الاتكال على الحكومة،
وعدم الخوف من معارضتها إذا هم جدوا واجتهدوا وتركوا الخمول والكسل،
وهبوا من نومهم الطويل، وذكَّرهم بأن هذه الصفات التي عُرف بها المسلمون هي
التي تقضي عليهم إذا لم يستبدلوا بها أضدادها من النشاط والنباهة وعلو الهمة؛ فإن
هذا العصر يتخلف فيه الظالع ويسبق الضليع ويبتلع فيه القوي الضعيف، وقال إنه
لا يشك أحد في أن هذا المؤتمر يؤدي للمسلمين أنفع خدمة؛ لأنه يجمع بين التربية
العصرية وعلوم المشرق وآدابه المشهورة وحاديه الاعتماد على النفس عند السعي
بالنفس.
ثم ذكر الخطيب وجه الأمل في نجاح المسلمين مع اعترافه بأنهم باتوا وراء
جميع الأمم، وأن الذين نقهوا منهم وأبلُّوا من المرض الاجتماعي وحاولوا مجاراة
الأمم الأخرى في مضمار الحياة يتهادون في مشيتهم تهاديًا، والأمم أمامهم توجف
وتوضع، وتعدو وتسرع، وهو أن لهم في المدنية قدمًا عالية، وأنهم كانوا أمة
راقية سامية، وأنهم كانوا أرباب السيف والقلم، ومنبع العلوم والحكم، اشتهروا
بالفلسفة والآداب والفنون الرياضية والطبيعية وكانت لهم المدارس الشهيرة في
القاهرة وبغداد وسمرقند وكانت بلاد الأندلس بهم أرقى بلاد العالم في العلم
والمدنية، قال: ومن العدل أن تذكروا هذا المجد القديم وتنشدوه، لا لتفتخروا
بالعظم الرميم وتقدسوه؛ ولكن لتقتدوا بتلك الهمم العالية، وتبعث فيكم تلك الروح
الزاكية، وإلا فالنسيان أولى.
ثم انتقل إلى السؤال عن طريق الوصول إلى هذه الغاية، وأجاب بأن الوسيلة
الفضلى والطريقة المثلى هي الجمعيات الإسلامية كذلك المؤتمر؛ لأن المسلمين
يجتمعون بواسطتها من البلاد الكثيرة في صعيد واحد يأتمرون بينهم ويتحاورون في
شؤون التربية ومستقبل الأمة، وكيفية الاتحاد واجتماع الكلمة، ومتى اجتمعوا
واتحدوا أدركوا ما أملوا وقصدوا.
ثم ذكر مدارس الحكومة في الهند، وقال إن زعماء الإصلاح من المسلمين
يرون أن نظام التربية فيها غير صالح لهم، ولا يؤدي إلى الغاية التي يرمون إليها
في مستقبلهم، وأنه يجب التوسل لجعل التربية والتعليم صالحين موصلين إلى
المقصد، قال الخطيب الرئيس: ويجب أن ينتشر هذا الرأي بينكم فإن مدارس
الحكومة لا تفي بكل حاجتكم.
ثم طفق يتكلم على التربية ما يؤثر منها في حسن العمل، وإصلاح الخلل،
وما لا يؤثر ثم قال ما خلاصته:
تبين لكم مما قلته إن خير المدارس لتعليم أولاد المسلمين ما جمع بين التربية
الدينية والعلوم العصرية، إذ تتهذب أخلاقهم ويقتبسون الفضائل في زمن تلقي
العلوم النافعة لهم في مستقبل حياتهم، هذا هو رأيي وأظن أنكم تجيزونه، وأزيد
على ذلك أن الطريقة التي تسيرون عليها في التربية الدينية غير مؤدية إلى الغاية؛
لأنها ليست سوى صور لبعض معلومات العقائد والأحكام تلقى في الأذهان فلا يكون
لها التأثير المطلوب في التهذيب، فإذا جعلتم التربية النفسية مدغمة في دروس
العلوم العصرية تصيبون الغرض مع الاقتصاد في الزمن؛ ولكنكم إذا بدأتم بالتعليم
الديني وحده وأنفقتم فيه الزمن الطويل، ثم عكفتم على العلوم العصرية يضيع منكم
زمن تسبقكم فيه أبناء الطوائف الأخرى إلى أخذ الشهادات العالية والانتظام في سلك
العاملين للحياة والمبرزين فيها، فيكون مثلكم معهم كمتسابقين إلى غاية يسير
أحدهما في قاع صفصف، والآخر حزون ذات تضاريس وعواثير، لهذا أرى أن
مدرسة عليكدة هي خير مدرسة للمسلمين؛ لأنها تسير على مثل النظام الذي ذكرته
ويا ليت لكم في كل ولاية مدرسة مثلها، وما كانت خيرًا لكم وافية بحاجتكم إلا
لأنها مدرسة أسسها المسلمون بأنفسهم لأنفسهم، ولا بد لكم من مدارس أهلية مثلها
تسير على النظام الذي ترونه نافعًا ناجحًا، ويجب أن يكون فيها مساكن للطلاب
ليكونوا دائمًا تحت هيمنة الأساتذة الفضلاء الذين يتولون أمر التربية، ويكونون
أئمة فيها يُقتدى بصفاتهم وأعمالهم.
ولا تحسبوا أن الحكومة أو طائفة من الطوائف تصدكم عن هذا السبيل، أو
تعيقكم عنه إذا أنتم سرتم بجد واجتهاد ناشئين عن ألم الشعور بالحاجة الذي لا
تجتمع مع الفتور والونى، الحق أقول لكم إنهم إذا رأوكم هكذا يعجبون بكم إن لم
يكونوا من أنصاركم، فالهندوس وسائر الطوائف يسرهم أن يروا إخوانهم في
الوطن ناجحين ليتكون من المجموع عمال ينهضون بالأمة الهندية ويسيرون بها في
جادة السعادة ويبلغون بها غاية الكمال.
لا تيأسوا ولا تستبعدوا الغاية ولا تعتذروا بالفقر ولا تطلبوا من الحكومة أن
تكون وصية عليكم وقائدة لكم، بل اعتمدوا على أنفسكم واعلموا أن الحكومة لا
تتأخر عن مساعدتكم إذا رأتكم تعملون لأنفسكم.
ثم ذكر أن الشرق كان مشرق أنوار المعارف، وأن دولة العلوم دالت بعد ذلك
إلى الغرب، فيجب أخذ العلوم منه لا سيما على قوم حكومتهم غربية، وذكر أن من
المسلمين قومًا يخافون على الدين الإسلامي من العلم، وأن هذا الخوف في غير
محله، قال: الإسلام باق لا يتأثر بشيء لأنه دين ليس فيه ما يعارض العلوم،
وهو يحث على ترقي العقل، فالترقي في العلوم العصرية يساعد على تقويته في
النفوس ووضعه في المكانة التي تليق به، وسيبقى فيكم من علمائه من يحافظ عليه
دائمًا، ثم ختم الكلام بفائدة المؤتمر في اتحاد المسلمين وارتقائهم والنصح لهم بأن
ينشئوا له فروعًا ثابتة في كل مدينة، وأن يكون أعضاؤه من الخواص الذين تتحقق
بهم الوحدة الإسلامية؛ ليكون المسلمون في الهند كجسد واحد إذا اشتكى له عضو
تألم جميعه، واقترح عليهم القيام باكتتاب عام دائم لأجل إنشاء المدارس الأهلية
مساعدة لمدرسة عليكدة، ثم أكد لهم القول السابق بأن الحكومة لا تساعدهم إلا إذا
بذلوا النفس والنفيس في خدمة أنفسهم، وإحكام رابطتهم، وحثهم على العمل،
وترك المراء والجدل، قال: (لتشهد لكم الحكومة والطوائف الأخرى، ويعترف
العالم كله بأن مسلمي الهند ليسوا أمة خاملة جاهلة) وفي هذه النصائح أكبر عبرة
لمسلمي مصر وأفصح معرف لهم بحرية الإنكليز التي لا يساويهم فيها أحد،
فليعملوا لحياتهم في ظل هذه الحرية الظليل مثل إخوانهم الهنديين إن كانوا يعقلون،
ولينشئوا لهم مؤتمرًا كمؤتمرهم لعلهم يرجعون.
__________(4/871)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العربية الفصحى والعامية المصرية
مناظرة
من خير الجمعيات العلمية الأدبية جمعية في القاهرة مؤلفة من الشبان الذين
أتموا دراستهم في إنكلترا، وقد بلغنا أن هذه الجمعية دعت المستر ويلمور الداعي
إلى استبدال العامية المصرية بالعربية الفصحى [1] لحضور اجتماعها الأخير
للمناظرة والمناقشة الأدبية في موضوع كتابه الذي ألَّفه في هذا الشأن فأجاب الدعوة
وتلقاه أعضاء الجمعية بالترحيب والشكر، وبعد أن بيَّن ملخص موضوع الكتاب
دارت المناقشة، ومنها أن الأستاذ الفاضل الشيخ عبد العزيز جاويش سأله قائلاً ما
مثاله:
هل خطر في بال المستر أن يدعو قومه الإنكليز إلى توحيد لغتهم بأن يجعلوا
لهجة العاصمة (لندن) لغة المملكة كلها كما يدعو المصريين إلى ذلك؛ فإنه يعلم
كما علمنا بالاختبار أن بين لهجة أهل لندن ولهجات سائر الولايات الإنكليزية من
التفاوت مثل ما بين لهجة القاهرة ولهجات الوجه القبلي والوجه البحري أو أشد مثل
كذا وكذا (وضرب بعض الأمثلة) فقال المستر ويلمور: إن هذا غير ممكن فإنه
يضيع علينا تاريخ لغتنا؛ فإن كل لهجة من اللهجات في بلاد الإنكليز وكل اختلاف في
المفردات أو الأساليب فهو مأخوذ من شعب من الشعوب التي سادت على إنكلترا، قال
الشيخ: إن هذه الغائلة التي تحذرونها هي بعينها محذورة من إبطال لهجات أرجاء
القطر المصري ما عدا لهجة القاهرة المذبذبة؛ فإن قبائل العرب الفاتحين ضربوا في
كل رجًا من أرجاء القطر، وتبوأت طائفة من كل قبيلة جهة من الجهات غلبت لهجتها
عليها، وضرب لذلك بعض الأمثلة، وانتقل الشيخ بهذه المناسبة إلى الاستدلال على
غلط المستر في قوله: إن لغة القطر المصري لغة مستلقة دون العربية الصحيحة
بعيدة عنها كل البعد، وبيَّن أنها ليست إلا لغة عربية دخلها بعض التحريف والدخيل،
وإن أكثر ما يظن أنه منافٍ للعربية من لهجاتها هو من العربية وإنه إذا لم يوافق لهجة
قريش الفصحى فإنه ربما يوافق لغة بعض القبائل الأخرى وأورد أمثلة في ذلك وفي
التحريف فيها مقنع.
ثم ذكر أيضًا شيئًا كثيرًا من عيوب اللغة الإنكليزية كالخلاف بين ما ينطق وما
يكتب، وكالحروف الأثرية الزائدة في كثير من الكلمات حتى أن متعلم هذه اللغة
يضطر إلى حفظ لفظ كل كلمة وحفظ صورتها في الرسم؛ لأن الأول لا يدل على
الثاني في ألوف من الكلمات حتى يصح أنه يقال إنه لا قياس في هذه اللغة، وسأل
القاضي لماذا لا تصلحون هذه العيوب؟ فقال لأن ذلك إخلال بتاريخ لغتنا ومانع من
الانتفاع بالكتب الكثيرة التي أودعت علوم سلفنا ومجدهم، فقال الشيخ إن هذا المانع
نفسه هو الذي يمنعنا من استبدال خط لغتنا بخط آخر، كما يمنعنا من التدلي من
الصالح منها إلى الفاسد الذي لا يرجى إصلاحه؛ لأنه يتغير كل يوم، فاقتنع
القاضي وكان عادلاً في قبول هذه الأدلة والبراهين، ثم ختم الشيخ الكلام بقوله:
(إذا نبذنا اللغة الفصيحة ظهريًّا، وقبلنا أن يكون التعليم باللغة العامية
المصرية التي لا كتب فيها ولا قواعد لها، ننتقل إلى دور آخر في تعذر الإصلاح
واستحالة التعليم والتربية بهذه اللغة الفقيرة، وهو الدور الذي احتج فيه اللورد
ماكولي على وجوب تعليم الهنود باللغة الإنكليزية.
اللورد ماكولي أحد أعضاء الجمعية التي ذهبت إلى الهند في أوائل استقرار
السلطة الإنكليزية هناك لأجل تنظيم شؤون البلاد المالية والأدبية، وقد قال في
مناقشة من مناقشات الجمعية في أمر المعارف والتعليم: إننا جئنا لنعلم أمة لا تصلح
لغتها لأن تكون واسطة لتعليمهم ما عندنا من الفنون والعلوم لتعدد اللهجات غير
المضبوطة، وعدم سبق تأليف شيء من الكتب العلمية والفنية في لغتهم، فيجب
علينا إذن تعليمهم لغة أوربية، ثم أطنب في مدح اللغة الإنكليزية ما شاء وقال: فإن
قيل إن اللغة العربية قد أُلِّف فيها كثير من الكتب في كل علم وفن، لا سيما
الرياضيات والطبيعيات أيام ارتقاء العرب في الحضارة والمدنية وضخامة دولتهم،
وهذه اللغة لا تزال مألوفة لكثير من الشعوب الهندية فلماذا لا ننقل إليها ما ألف في
لغات أوربا من العلوم والفنون ونجعلها لغة التعليم، قلنا إن هذا صحيح؛ ولكن
الحكومة التي تتولى أمر التعليم في هذه البلاد ليست عربية، ولا من مصلحتها
التعليم بالعربية، ولا بد في هذا التعليم من تعريب كتب العلم، والمال المخصص
للتعليم لا يفي بنفقات التعريب وإيجاد الكتب العربية والمعلمين العارفين بها،
فالأقصد الأقرب أن يكون التعليم باللغة الإنكليزية اهـ.
وما يشعرنا إذا قبلنا ترك العربية الصحيحة ذات الكتب والفنون، وجعل
التعليم باللغة العامية أن يقول لنا المحتلون القابضون على زمام التعليم: إن المال
المخصص للتعليم لا يفي بالإنفاق على تأليف كتب تعليمية في هذه اللغة، وفي
إيجاد المعلمين، فأقرب الطرق وأقصدها أن يكون التعليم كله باللغة الإنكليزية،
وبذلك نفقد اللغة الفصيحة والعامية، فلا يبقى عندنا تاريخ للسلف ولا للخلف ولا
لغة ولا كتب، فسُرَّ المستر ويلمور بكلام الشيخ وإخوانه، وأكد لهم أنه ما أراد إلا
خيرًا، وأنه اقتنع بكلامهم ويرجو أن يحضر اجتماعهم مرة أخرى يزداد به
الموضوع إيضاحًا، فتلقوا كلامه بالقبول وودَّعوه بالشكر والاحترام.
هذا بعض الآراء والمسائل التي وصلت إلينا من المناظرة؛ ولكننا لم نقف
على ترتيب الكلام وكل ما قيل في المجلس، وفيما أثبتناه غناء وفائدة ودلالة على
فضل أعضاء الجعية وقوة حجتهم، وعلى إنصاف القاضي ويلمور وعدله
بالاعتراف بالحق؛ ولكن كل هذا لا يغني عن اللغة العربية شيئًا إذا لم ننهض
لنشرها وتعميمها ولو بين أهلها، ومن فوائد هذا الكتاب أنه أحدث حركة في الأفكار
لإحياء اللغة، ويتفكر بعض الفضلاء في تأليف جمعية لذلك، فعسى أن يكون العمل
قريبًا.
__________
(1) مما لاحظناه في كتابة المنتصرين للغة أنهم كانوا يشكون من (استبدال اللغة الفصحى باللغة العامية) ومعنى هذه العبارة باللغة الفصحى أن تكون هي بدلاً من العامية، لا أن تكون العامية بدلاً منها، وهذا من الخطأ المشهور الذي ينبغي اجتنابه بحكم اللغة الفصحى؛ فإن الباء تدخل على المبدل منه لا على البدل، قال تعالى: [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ] (البقرة: 61) وقال عز وجل [وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] (البقرة: 108) .(4/876)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وصف الشام
من قصيدة لشاعر مصر حافظ أفندي إبراهيم يخاطب بها صديقًا:
شجتنا مطالع أقمارها ... فسالت نفوس لتذكارها
وبتنا نحن لتلك القصور ... وأهل القصور وزوارها
قصور كان بروج السماء ... خدور الغواني بأدوارها
ذكرنا حماها وبين الضلوع ... قلوب تلَظَّى على نارها
فمرت بأرواحنا هزة ... هي (الكهرباء) بتيارها
وأرض كستها كرام الشهور ... حرائر من نسج آذارها
إذا نقطتها أكف الغمام ... أرتك الدراري بأزهارها
وإن طالعتها ذكاء الصباح ... أرتك اللجين بأنهارها
وإن دب فيها نسيم الأصيل ... أتاك النسيم بأخبارها
وخِلٍّ أقام بأرض الشام ... فباتت تُدِلّ على جارها
وأضحت تتيه برب القريض ... كتيه البوادي بأشعارها
وللنيل أولى بذاك الدلال ... ومصر أحق بمهيارها
تشمر وعجل إليها المآب ... وخل الشام لأقدارها
فكيف لعمري أطقت المقام ... بأرض تضيق بأحرارها
... ... ... ... ... ... ... ... ... لشاعر أمير مصر
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بك شوقي
أرى طوفان هذا الغرب يطفى ... وأهل الشرق سادتهم نيام
فإن لم يأتنا (نوح) بفلك ... على الإسلام والشرق السلام
نشرت البيتين جريدة (المناظر) البرازيلية الغراء، وسألت: هل مولى
الشاعر من هؤلاء السادة النيام، أم لا، أم هو مستثنى؟ ونحن نجيبها عنه بأنه
يريد بـ (نوح) مولاه، ويرجو منه الإتيان بفلك النجاة.
__________(4/880)
16 ذو القعدة - 1319هـ
24 فبراير - 1902م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخمر أم الخبائث
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ [[*] .
خلق الله الحيوان محدود الشهوة، وما به قوام حياته وأعطاه إدراكًا محدودًا
بحسب حاجته، وخلق الإنسان ذا شهوات ممدودة، ورغائب غير محدودة، وجعل
منافعه وحاجاته غير متناهية، فوهبه إدراكًا غير محدود ولا متناه، وهو العقل الذي
يَفْضُل به سائر الحيوان، فيسخره لمنافعه، ويستعمله في حاجه، كما يُسَخِّر القوى
الحيوانية التي في نفسه، ويتحكم فيها بعزته وسلطانه، فيوقفها في موقف الاعتدال
ويربأ بها عن حد التفريط والإفراط.
هذه وظيفة العقل الكامل في الإنسان؛ ولكنه لم يوهب العقل كاملاً، وإنما
يكمل فيه بالتربية الصحيحة المعتدلة، ولا بد للتربية من قانون، وقد وهب الله
الإنسان قانون الفطرة والطبيعة ليستفيد منه ما يربي به عقله الذي يربي نفسه؛
ولكن هذا القانون كسائر القوانين والشرائع يحتاج إلى مرشد وأستاذ يعلمه وسلطان
ينفذ أحكامه؛ لأن الناس لا يفهمون من القوانين بدون المعلم إلا قليلاً، ولا يعملون
بكل ما يفهمون، إلا إذا كان عليهم سلطان يحملهم على العمل، ووازع يزعهم عن
الزلل، لذلك وهبهم الله الدين الذي هو أهدى مرشد وأعدل سلطان، بل هو سلطان
السلاطين، وأحكم الحاكمين؛ لأنه حكم فاطر السموات والأرض الذي أنزله لتربية
الفطرة الإنسانية التي هي أكمل المخلوقات في عالم الملك.
كيف يتربى العقل بالطبيعة حتى يقوى على طغيان الشهوة، وفي الطبيعة ما
ينصر الشهوة عليه حتى تظفر به وتقتله أو تعقله، ثم تعيث في الأرض فسادًا
فتهتك الأعراض وتسفك الدماء وتبذر الأموال، وتضيع العيال، فأي عاصم للعقل
من ذلك النصير للشهوة، وهو أقوى منه بأسًا، وأصعب مراسًا، وهل يستطيع
العقل أن يساور الخمرة وهي غوله، وبها خسوف بدره أو أفوله؟ كلا إنه ينشأ
ضعيفًا فتسطو عليه الشهوات، فإذا أراد أن يستعين عليها بما يستفيده من حوادث
الطبيعة تسلط عليه الخمرة فتثل عرشه، وتنكث فتله، ويكون النصر للبهيمية على
الإنسانية ولا يقوى على الخمر إلا سلطان الدين إذا كان صاحبه منه على يقين.
إذا لم يكن للخمر جناية على الأعراض، ولم تكن مولدة للأمراض، ولم تكن
ملقية للعداوة والبغضاء، ولم تكن صادة عن ذكر الله وعن الصلاة، فحسبها خبثًا
ورجسًا جنايتها على سلطان العقل الذي فَضُل به الإنسان الحيوان، وبفقده يكون
الحيوان أهدى منه، وأبعد عن الإضرار بنفسه، والإيقاع بأبناء جنسه، وربما
وصل شارب الخمر إلى حالة يكون بها شرًّا من المجنون.
العقل أفضل نعم الله على الإنسان، فما ذهب به فهو أخس الأشياء وأقبحها،
وإذا كان خبث الرذائل وقبحها مما يوزن بميزان المضار والمنافع، فالخمرة جديرة
بكنيتها المعروفة عند المسلمين، وهي (أم الخبائث) وحقيقة بأن تسمى باعتبار
أثرها أكبر الكبائر، وأن يعاقب معاقرها بأشد العقوبات، وكأن الشريعة جعلت حد
السكر أخف من حدي الزنا والقتل، مع أنهما كثيرًا ما يكونان بعض آثارها إذا
أفضت إلى جريمة يعاقب المجرم عقابين عقاب السكر وعقاب تلك الجريمة.
للخمر غوائل ومضار كثيرة، تكفي كل واحدة منها لتحريمها والبعد منها،
فكيف بها إذا اجتمعت، وإننا نعد ما يحضرنا منها من غير شرح طويل.
(الغائلة الأولى) : ذهاب العقل وهبوط السكران إلى دركة المجانين
والصبيان، كأن الإفراط في حب اللذة ينفر هذا الإنسان الضعيف من كل ما يحكم
عليه بالاعتدال فيها والحذر من غوائلها، فيسعى في مقاوتمه وإن كان فيه سعادته
وكماله كما يتمنى الجناة هلاك القضاة والحكام، والأطفال البعد عن المربي القاسي
والمعلم الجافي، وعجيب ممن يعتاد السكر كيف يحتقر المجانين والأطفال، وهم ما
أعطوا العقل ثم انسلخوا منه باختيارهم كما هو شأنه، فهو أولى منهم بالاحتقار،
ولقد أحسن ذلك المجنون في جوابه للملك الذي شرب الخمر وعرض عليه أن
يشربها حيث قال: (أنت تشرب لتكون مثلي، فأنا أشرب لأكون مثل من؟)
وفاتحة المقالة كلها في هذا النوع من مضرة الخمر، وهو أصل أكثر المضرات
الأخرى، وأكثر الذين طرأ عليهم الجنون هم من السكارى والحشاشين، ومن كان
في شك فليسأل قَيِّم البيمارستان.
(الغائلة الثانية) : الخمول والخمود اللذان يعقبان زيادة التنبه التي يعدونها
من فائدة الخمرة، فأفضل حالات الإنسان أن يكون على اعتداله الطبيعي في جسمه
وعقله، وأن لا يتخذ شيئًا يزيد في قوتهما؛ لأن هذه الزيادة لا بد أن يعقبها نقص
بحكم قاعدة (رد الفعل) المعروفة، وهذا النقص يستدعي معاودة اتخاذ ما زاد القوة
أولاً؛ لأن من لم يرض بقوته المعتدلة، فأجدر به أن لا يرضى بها إذا نقصت عن
الاعتدال، وإذا عاد إلى اتخاذ ذلك السبب المقوي يرى أنه محتاج إلى مقدار منه
يزيد على المقدار الأول؛ لأن الحاجة زادت بما طرأ من الضعف برد الفعل، فيزيد
في المقدار، ويكون من أثر ذلك زيادة الضعف عقيبه، ثم لا يزال يزيد منه ويزيد
ضعفًا حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين.
ولسنا نعني بقولنا يرى أنه محتاج إلى الزيادة فيزيد، أن ذلك يكون عن فكر
وروية؛ وإنما هو شيء تقتضيه طبيعة هذا الشيء، فيكون الاندفاع إليه بعلم
ضروري لا بعلم نظري وترتيب مقدمات، وهذه الغائلة من غوائل الخمر تتحقق في
كل ما هو بمعناها من المخدرات كالحشيش والأفيون، وكذلك الدخان وقهوة البن
عند المفرطين فيهما لكن أثرهما أخف.
ومثل ذلك المقويات الجسدية التي تتخذ لتقوية المعدة أو الباه؛ فإن أثرها في
رد الفعل يضر بالجسم كما تضر المسكرات والمخدرات بالعقل، وكل هؤلاء
الحمقى يطلبون زيادة اللذة، فيقعون في النقصان بعد رد الفعل.
ترى مدمن الخمر أو الحشيش ونحوهما كاسف البال، ممتقع اللون، كئيب
الوجه، ضيق العطن، شرس الأخلاق، فالشر لا يزايله؛ وإنما يلعب به كما يلعب
الصبيان بالكرة يقذفه من جانب الإفراط إلى جانب التفريط ولا خير ولا راحة ولا
سعادة إلا في الاعتدال، وأنى لمن يتربى على مجاراة اللذة والانقياد للشهوة أن يفقه
هذا؟ وهل من سبيل إلى استقامة ميزان اللذة، وتأديب عامل الشهوة إلا بتربية
الدين؟ ؟
(الغائلة الثالثة) : فساد الأخلاق؛ فإن الأخلاق الفاضلة نتيجة اعتدال القوى
النفسية، وسلطان هذه القوى العقل وقانونه الشرع، والسكر اعتداء على هذا
السلطان وعلى قانونه ونبذ لسلطتهما، ومتى ذهب الحاكم والقانون كانت المملكة
فوضى، أي حاجة إلى تعليل إفساد السكر للأخلاق كما هو مشاهد بعد العلم بأن
ضعف العقل سبب بديهي لهذا الفساد، وهو الغائلة الأولى للخمر على ما بيَّنا، وأن
ضعف المزاج سبب له كما يشاهد في أخلاق المرضى، وهذا الضعف من غوائل
الخمر على ما نبين، السكر يُذْهِب بالعفة والوقار، ويجعل الحليم سفيهًا، والحكيم
جهولاً، والحيي وقحًا، والنزيه بذيئًا، والأمين خوانًا، والشجاع متهورًا أو جبانًا،
فهذه أمثلة من أصول الأخلاق فقس بها غيرها مما تشاهد أثره، وتعرف مصدره.
(الغائلة الرابعة) : فساد المزاج واختلال الصحة، فالإنسان روح وجسد
مرتبط أحدهما بالآخر، فما يطرأ على الأول من ضعف يتعدى أثره إلى الثاني،
وما يصيب الثاني ينتقل إلى الأول، ولهذا قال الحكماء: (العقل السليم في الجسم
السليم) وليس إفساد الخمر للمزاج محصورًا بإضعافها للروح على ما تقدم شرحه
في الغوائل الثلاث، فقد تقرر في الطب أنها تُحْدِث أمراضًا كثيرة وأدواء معضلة
كداء السل الذي أعيا علاجه أطباء العالم كله، ولا شك أن السكر يُعِدُّ المزاج لقبوله
ويكن من أسباب حصوله، وقد قيل إن سُبْع الوفيات في العالم من السل، وإن
ستين في المائة من أموات أبناء العشرين إلى الأربعين من المسلولين، وكأمراض
الكبد والقلب والرئتين والكليتين، وقد قال بعض الأطباء إن تسعة أعشار المصابين
بهذا المرض من السكارى والسكر هو السبب في مرضهم، ومنها أمراض الدماغ
والحبل الشوكي والعضلات والأوعية الدموية وفقر الدم (الأنيميا) وتلبك المعدة
وآثاره، وذلك أن شارب الخمر يكثر أكله ويقل هضمه، وأقبح أداواء الخمر الخُمار
الذي يدعو الشاب إلى المعاودة والإدمان، وهو نوع من التسمم، وثم أنواع أخرى.
(الغائلة الخامسة) : ارتكاب الفواحش البهيمية والمنكرات الوحشية،
فالسكران يفجر حتى بالأقارب؛ لأن التمييز يزول، والطبيعة تطغى، والإيمان
يذهب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو
مؤمن) فأي رادع يردع من فقد كل وازع من نفسه؟ قال الشاعر:
لا ترجع النفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
والسكران يعتدي على من لا يقدر عليه، ويحاول ما لا سبيل إليه؛ لأنه لا
يخاف عقابًا، ولا يحسب للعاقبة حسابًا.
(الغائلة السادسة) : انطلاق اللسان بما يجب السكوت عنه، كإفشاء السر
الذي هو من أقبح الرذائل وأشدها فضيحة للمرء في نفسه وأهله، ولا سيما إذا كان
من أسرار الأمراء والسلاطين، أو الدول والحكومات، فرب كلمة يقولها سكران
تكون سببًا في انكسار جيش وإذلال أمة بأسرها، وكالغيبة والنميمة والفحش والبذاء
وغير ذلك من آفات اللسان التي أوصلها بعض العلماء إلى سبعين آفة.
(الغائلة السابعة) : الإسراف والتبذير، فكم أفقرت الخمرة غنيًّا، وخربت
بيتًا عامرًا؛ وذلك لأنها تفضي إلى جميع أنواع الإسراف.
(الغائلة الثامنة) : قلة النسل فإن مدمني الخمر كثيرًا ما يُصابون بالعقم،
ومن يولد له لا يكون نسله كثيرًا، ويرث من والده أكثر أدواء السكر الجسدية
والعقلية والنفسية، فيجيء قميئًا قشعوما وأبله أو معتوهًا، فإن أعقب فولده يكون
شرًّا منه وهكذا يتدلى النسل حتى ينقرض البيت؛ ولذلك قال غير واحد من ساسة
الأوربيين وحكمائهم: إن انقراض الأمم المتوحشة سيكون بفتك الأشربة الروحية
فيهم، ذلك أنهم يشربون من غير عقل ولا قانون ولا معرفة بمداراة الصحة،
فتغتالهم غوائل الخمر كلها بخلاف أهل الحضارة؛ فإنهم يتقون تلك الغوائل بما
يعطيهم العلم؛ ولذلك يقل السكر في أمم الغرب عامًا بعد عام، وكثرت فيهم
الجمعيات المقاومة للمسكرات، ولو كان عندهم دين يتربون عليه وهو يحرم الخمر
قطعًا، لكفى تلك الجمعيات كثيرًا من العناء والنفقات، وقد ظهر أثر السكر والزنا
في تقليل النسل في فرنسا على ما فيها من علم وحكمة، والسكر والسفاح من أسباب
ذلك قطعًا.
(الغائلة التاسعة) : فساد تربية العيال والجناية على عفة النساء، سمعنا
غير واحد من الواقفين على أسرار البيوت والمراقبين سير التربية يقولون إنه لا
يكاد يوجد مدمن خمر عفيف المرأة، مُربَّى الولد، ولا يسعنا الآن أن نطيل في هذا
الموضوع.
(الغائلة العاشرة) : العداوة والبغضاء وقطع الأرحام وصلات الصداقة
والوداد، وهذا أيضًا ظاهر مما تقدم؛ لأنه نتيجة لذهاب العقل وفساد الأخلاق؛
ولذلك أخَّرناه، وهذه الغائلة أضر الغوائل الفرعية لتعدي أثرها، وهي مشاهدة
ولذلك نصت عليها الآية الكريمة.
(الغائلة الحادية عشرة) : الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويقال في هذه
الغائلة مثلما تقدم في التي قبلها من حيث هي نتيجة ومعلولة لبعض الغوائل المتقدمة
وكون هذا هو السبب في تأخيرها في الذكر، ومَن لاحظ تأثير الصلاة إذا أقيمت
على وجهها وتأثير ذكر الله تعالى في النهي عن الفحشاء والمنكر، يفهم السر في
تنصيص الآية الكريمة على هذه الغائلة الدينية.
فهذه إحدى عشرة غائلة، منها عقلية، ومنها نفسية، ومنها بدنية، ومنها
لسانية، ومنها منزلية (عائلية) ومنها مالية، ومنها اجتماعية، ومنها دينية،
ولو أردنا ن نبسط غوائل الخمرة ومضارها بالتفصيل، ونذكر ما يتفرع عما ذكرناه
ونشرحه لاحتجنا إلى تأليف كتاب ضخم، ولا بد أن نضم إلى ما ذكرناه غائلة
أخرى عارضة في مثل هذه البلاد، وهي أضر من كثير من الغوائل الذاتية وهي:
(الغائلة الثانية عشرة) : الذهاب بثروة البلاد التي يجلب الخمر إليها
الأجانب من الخارج، ويبيعونها من أهلها كالبلاد المصرية؛ فإن الخمور ترد إليها
من أوربا والذين يبيعونها كلهم من الأجانب كالروم والتليانيين، فإذا كانت قيمة
الوارد منها تقدر ببضع ملايين من الجنيهات - كما هو مشهور - وكان الربح فيها
مضاعفًا كما هو معلوم، فلا شك أن تجار المسكرات من الأجانب يأخذون من ثروة
البلاد في كل عام أكثر مما تأخذه الحكومة من الخراج والضرائب، وكل هذه
الأموال تدفعها الأمة الفاسقة باختيارها ولا تشعر به، وهي مع ذلك تطلب من
الحكومة أن تربي أولادها وتعلمهم من فضل المال الذي يتوفر في صناديقها، وترى
جل هؤلاء المتعلمين أو كلهم يطلبون أن يعيشوا بمال الحكومة بما يعملون لها،
والحكومة عاجزة عن تعميم التعليم، والأمة قادرة عليه لو اقتصدت هذه الأموال
التي تبذلها في الخمرة فقط، فما بالك بما يتبع الخمرة من الفسق والفجور.
كل هذه المضرات والغوائل معروفة للخواص، وإن كان يصعب على
الأكثرين استحضارها في وقت واحد، وبعضها معروف للعوام والتحوت أيضًا؛
ولكن أكثرهم مدمن سكر لأنه عبد الشهوة، وأسير اللذة فلا يصده عن الانهماك في
لذته خوف الله، ولا مصلحة الأمة، ولا حفظ الذرية، ولا صيانة العرض، ولا
أدب الاجتماع، ولا الحرص على المال.
أما السبب الأكبر في فشو هذا المنكر الذي هو مثار جميع ما علمت من
الفواحش والمنكرات، فهو مجاهرة الأمراء والحكام به وإطلاق الحرية لمرتكبه،
وقد مضت سنة الاجتماع في تقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج في
سوقهم يروج في أسواق الأمة، وإذا كان حديث (الناس على دين ملوكهم) لم
يُعرف له سند يصل نسبه ويرفعه، فمعناه صحيح وهو ضروري الوقوع في
الحكومات المطلقة الاستبدادية، وإننا نعلم أن أكثر أمرائنا يجعلون الخمر من
متممات الموائد الرسمية، يحيون بها ضيوفهم، ويتقربون بها إلى الأجانب، ولو
شئت لصرحت بأسماء بعض الذين يحبون الظهور بلباس الدين منهم وذكرت من
وقائعهم؛ لأنهم لمجاهرتهم لا غيبة لهم؛ ولكن لا غرض لنا بذكر الأشخاص، على
أن أكثر الناس يعرفون ذلك منهم بالمشاهدة أو بالأخبار المستفيضة والمتواترة.
وأما علاج هذا الداء الخبيث فهو التربية الدينية العملية، وما أصعب هذه
التربية في أمة فسق أمراؤها وكبراؤها، وضعف هداتها وعلماؤها، ومرض أُساتها
وأطباؤها، وبخل مثروها وأغنياؤها، وجمح مساكينها وفقراؤها.
على أننا لا نيأس من روح الله، فهو القابض الباسط الذي يغير ولا يتغير،
وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه، حتى يبلغ نصابه، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم، وإنما يغير الناس ما بأنفسهم بإرشاد المرشدين وسعي المصلحين، وتقديم
الاهتداء بهم على التزلف للأمراء والسلاطين، والله ولي المتقين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا
نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
__________
(*) (المائدة: 90-91) .(4/881)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حرمة الخمر [*]
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب
وهو مؤمن) [1] وفي رواية للنسائي زيادة: (وذكر رابعة فنسيتها، فإذا فعل ذلك فقد
خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه) فليتأمل المسلمون لا سيما
المصريون في هذا وما في معناه ليعرفوا منه، ومما تقدم من الأحاديث في الأمراء
السبب في حرمانهم من السيادة والعز الذي أعطاه الله لسلفهم بالإسلام، وجعلهم
بدينهم فوق جميع الأنام.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها
حُرمها في الآخرة) [2] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شراب أسكر فهو حرام) [3] ومن جهل
بعض مدمني الخمر أنهم يقولون: إنه لا دليل على تحريمها، ويؤولون قوله تعالى:
{فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90) وهو أمر بالترك يقتضي التحريم بحسب قواعد
أصول الفقه، وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) يحملونه على
الاستفهام الحقيقي، وهو جهل أو استهزاء بكتاب الله تعالى، فإن كانوا لا يرون
دليلاً على الحرمة إلا لفظ حرام، فماذا يقولون في هذا الحديث الصحيح؟ أيستدلون
به على التحريم أم يأخذون بقول تلك المجلة التي سألها مسلم مصري عن دليل
تحريم الخمر فأجابه محررها - وهو مسيحي - أنه لا دليل في الدين على تحريمها
ولكن أمر باجتنابها لما فيها من المضرات، وليس أمر هذا المفتي في هذه المسألة
بعجيب، ولكن العجيب أمر المستفتي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير
اسمها) [4] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ستشرب أمتي بعدي الخمر يسمونها بغير اسمها
يكون عونهم على شربها أمراؤهم) ولولا الأمراء لما فشا شربها واستبيح جهرًا،
ولا يخفى أن معتقد حل الخمر كافر باتفاق الأئمة والفقهاء.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها
وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) [5] وقد احتمل أكثر
المسلمين في مصر كل هذه اللعنات إلا الأخيرة؛ فإنهم حمَّلُوها للأجانب، وأعطوهم
أجرة حملها الملايين من الجنيهات والألوف من فدادين الأطيان، يدخل الرومي البلد
من القطر المصري لا يملك إلا بعض زجاجات من الخمر، فلا يمر عليه زمن حتى
يكون سيد البلد وبيده زمام زراعتها وتجارتها، وإليه مرجع أغنيائها وسادتها {رَبَّنَا
إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ
لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة:
مدمن الخمر والعاق - أي المؤذي لوالديه - والديوث الذي يقر في أهله الخبث) [6] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدًا: الديوث والرجلة
من النساء ومدمن الخمر) قالوا يا رسول الله، أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما
الديوث؟ قال: (الذي لا يبالي من دخل على أهله) قلنا: فما الرجلة من النساء؟
قال: (التي تَشبَّه بالرجال) [7] .
عن ابن عمر أن أبا بكر وعمر وناسًا جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن
عمرو بن العاص أسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم
فأنكروا ذلك، ووثبوا إليه جميعًا، حتى أتوه في داره، فأخبرهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين
أن يشرب الخمر أو يقتل نفسًا أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه، فاختار
الخمر، وإنه لما شرب الخمر لم يمتنع من شيء أرادوه منه) [8] وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا
يموت وفي مثانته منه شيء إلا حرمت بها عليه الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات
ميتة جاهلية) وورد في هذا المعنى كثير؛ ولكن في أكثره جرحًا أو نكارة.
***
حد الخمر وعقوبة السكر
عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال،
وجلد أبو بكر أربعين) [9] .
وعن السائب بن يزيد قال: (كنا نؤتي بالشارب في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وفي إمرة أبي بكر، وصدر من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه
بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان صدرًا من إمرة عمر، فجلد فيها أربعين، حتى
إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين) [10] .
وعن حصين بن المنذر قال: (شهدت عثمان بن عفان أُتي بالوليد قد صلى
الصبح ركعتين، ثم قال أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب
الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها،
فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها
من تولَّى قارها، فكأنه وَجَدَ عليه، فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده
وعلي يَعُدُّ حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم
أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحب إلي) [11] الظاهر
أن الإشارة إلى ما فعل بين يديه وهو الأربعون.
وعن علي أنه قال: (ما كنت لأقيم حدًّا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه
شيئًا إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وَدَيْتُه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يسنه) [12] قال في منتقى الأخبار: يعني لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه،
أقول ولم يلتزم عددًا بعمله.
وعن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم
ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم) [13] .
وعن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر فجلد
بجريدتين نحو أربعين، قال وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد
الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر) [14] .
والحاصل أن مجموع الأحاديث الصحيحة على أن عقوبة الخمر من
التعزيرات المفوضة إلى ما يراه الإمام أصلح بالمشاورة؛ ولكن الفقهاء أجمعوا بعد
ذلك على الحد المعين.
***
آثار السلف عبرة للخلف
قصة أبي محجن
قال الحافظ ابن حجر في (أسد الغابة) إن أبا محجن الثقفي كان يشرب
الخمر، لا يتركها خوف حد ولا لوم، وإن عمر حدَّه مرارًا ونفاه إلى جزيرة في
البحر، وبعث معه رجلاً فهرب منه، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية
يحارب الفرس، فكتب عمر إلى سعد ليحبسه فحبسه، فلما كان بعض أيام القادسية
واشتد القتال بين الفريقين، سأل أبو محجن امرأة سعد أن تحل قيده وتعطيه فرس
سعد البلقاء، وعاهدها أنه إن سلم عاد إلى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا
تبعة عليه فلم تفعل فقال:
كفى حَزَنًا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأُترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
إذا قمت عنّاني الحديد وأُغلقت ... مصارع دوني قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا
حبسنا عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيري يوم ذاك العواليا
فلله عهد لا أَخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا [15]
فلما سمعت سلمى امرأة سعد ذلك رقت له، فخلت سبيله وأعطته الفَرس فقاتل
قتالاً عظيمًا، وكان يكبر ويحمل فلا يقف بين يديه أحد، وكان يقصف الناس قصفًا
منكرًا، فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، ورآه سعد وهو فوق القصر ينظر إلى
القتال، ولم يقدر على الركوب لجراح كانت به وضربان من عرق النسا فقال [16] :
لولا أن أبا محجن محبوس لقلت هذا أبو محجن، وهذه البلقاء تحته، فلما تراجع
الناس عن القتال عاد إلى القصر وأدخل رجليه في القيد، فأعلمت سلمى سعدًا خبر
أبي محجن، فأطلقه وقال اذهب لا أحدك أبدًا، فتاب أبو محجن حينئذ وقال:
(كنت آنف أن أتركها من أجل الحد) اهـ. وفي رواية لغيره أنه قال: (وأنا والله
لا أشربها أبدًا؛ إنما كنت أشربها إذ كنتم تطهروني) .
وفي الكامل لابن الأثير أنه قال حين رجع إلى القيد:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعًا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا وفدهم في كل يوم ... فإن عُمُّوا فسل بهم عريفا
وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أُحبس فذلكم بلائي ... وإن أُترك أذيقهم الحتوفا
وزعم ابن الأثير أن سلمى سألته فيم حبسه سعد، فحلف أنه ليس بحرام أكله
أو شربه، قال: ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب
الشعر على لساني فقلت:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
فلذلك حبسني) اهـ، والأول هو الصحيح ويدل عليه قوله:
ألم ترني ودعت ما كنت أشرب ... من الخمر إذ رأسي لك الخير أشيب
وكنت أروي هامتي من عقارها ... إذ الحد مأخوذ وإذ أنا أضرب
فلما دَرَوْا عني الحدود تركتها ... وأضمرت فيها الخير والخير يطلب
وقال لي الندمان لما تركتها ... أالجدُّ هذا منك أم أنت تلعب
سأتركها لله ثم أذمها ... وأهجرها في بيتها حيث تشرب
الاعتبار في الأثر: يقرأ بعض الفساق أو يسمع بأن مثل أبي محجن رضي
الله عنه كان يشرب الخمر، فيغش نفسه بأن الأمر ليس بعظيم، وإن حسبه أن
يكون كأبي محجن في مدخله ومخرجه ودنياه وآخرته ويا ليت الهوى يصدق صاحبه
ويعز جانبه، وإننا نذكر من وجوه العبرة في الأثر ما يقطع أسباب الأماني ويحل
عرى الأهواء، وذلك من وجوه:
الأول: أن أبا محجن كان مدمنًا للخمر في الجاهلية، ومدمنها يصاب بداء
الخمار على ما أشرنا في المقالة الأولى، فيصير مغلوبًا على أمره؛ لأنه مريض،
ولمَّا أسلم وعلم أن في الشرب حدًّا إذا أقيم على الشارب سقطت عنه العقوبة في
الآخرة - رجح احتمال عقوبة الحد على احتمال ألم مرض الخمار الذي يزعجه إلى
الشرب، فلم يكن في شربه متهاونًا بالدين، ولا مستخفًّا بعذاب الآخرة؛ ولذلك جرَّد
حسام العزيمة على مرض الشهوة فجندله عندما قال سعد إنه لا يحده، وفي ذلك من
قوة الإيمان ما يعلو الأهواء، ويلاشي الأدواء، وهو الذي يجب أن يكون عبرة
للمعتبرين وقدوة لهم إن كانوا مؤمنين.
الثاني: أن أمر سيدنا عمر بإبعاد أبي محجن إلى جزيرة في البحر بعد أن
حده سبعًا أو ثمانيًا على ما في (أسد الغابة) يرشدنا إلى أن أمير المؤمنين يجب
عليه أن يلاحظ الآداب العامة، ويبعد عنهم ما يكون قدوة سيئة، وقد وافق رأيه هذا
بعض فلاسفة أوربا فقال إن المجرمين الذين انطبعوا على الجرائم وتمكنت منهم
يجب إبعادهم إلى جزائر في البحر، ومنعهم من التزوج ليزول عن الناس شرهم،
وينقطع نسلهم الذي يرث منهم الاستعداد لمفاسدهم، ولكن إذا كان أمراء المسلمين
هم الذين يعلمونهم السكر ويدعونهم إليه كما هو معلوم الآن من أكثرهم، فمن الذي
يمنع هذه المنكرات: (ما يصلح الملح إذا الملح فسد) .
الثالث: لم ينقل أن أحدًا أنكر على سعد رضي الله عنه ترك حده أو عزمه
على ذلك، وهذا يدلنا على أنهم كانوا يرون أن العقوبة على الخمر من التعزيرات
كما تقدم، وهذه مفوضة إلى رأي الحاكم بالنسبة إلى الأفراد، وأما التقدير لها فهو
من وظائف الإمام التي يقررها بمشاورة أهل الرأي كما فعل عمر رضي الله عنه،
وتقدم أن الفقهاء أقروا ما قدَّره عمر، وجعلوه حدًّا ثابتًا لا يزيد ولا ينقص.
__________
(*) كنا ابتدأنا في هذا الباب بذكر نوع الحكومة الإسلامية وشأن الأمراء، وكنا نريد أن نتبع هذا
البحث بعد إتمامه ببحث القضاء؛ ولكننا ذكرنا ما ورد في الخمر بمناسبة المقالة الافتتاحية.
(1) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة.
(2) أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر.
(3) أحمد والشيخان وابن عدي عن عائشة.
(4) رواه أحمد وأبو داود عن أبي مالك الأشعري وغيرهما من غيره.
(5) أبو داود والحاكم عن ابن عمر، ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي والضياء عن ابن عباس بلفظ (أتاني جبريل فقال يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها) إلخ.
(6) أحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وصححه.
(7) الطبراني بسند قال الحافظ المنذري: لا أعلم في رواته مجروحًا.
(8) الطبراني بسند صحيح والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم.
(9) أحمد والشيخان.
(10) أحمد والبخاري.
(11) رواه مسلم.
(12) أحمد والشيخان، وهو لأبي داود وابن ماجه وقالا فيه: (لم يسن فيه شيئًَا إنما قلناه نحن) .
(13) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وقال الترمذي منسوخ، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمن شرب الرابعة بعده فلم يقتله.
(14) أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
(15) لا أخيس: لا أغدر وأنكث، والحواني: جمع حانية وهي الدكان أو حانية بالتشديد وهي الخمر والخمّار وخفف، ويروى بعده:
فإن مت كانت حاجة قد قضيتها ... وخلفت سعدًا وحده والأمانيا.
(16) في غير هذا الكتاب أن سعدًا كان يقول: أما الفرس فالبلقاء، وأما الشدات فشدات أبي محجن، وكان الناس يقولون لو أن الملائكة تقاتل لقلنا أنه ملك.(4/897)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
تعليم التاريخ الطبيعي
بتمثيل الفانوس السحري [*]
المكتوب (36) من هيلانة إلى أراسم في 2 نوفمبر سنة 186
فرغت من إقامة معهد التمثيل الصغير الذي كنت حدثتك عنه في بعض
مكاتيبي السابقة، ولي أن أقول ولا فخر إنه ناجح مؤدٍّ إلى الغاية المقصودة.
استحضر لي الدكتور وارنجتون من لوندرة فانوسًا سحريًّا، وهو آلة جميلة
معدَّة لأن تتجلى فيها المناظر المتعاقبة بواسطة الضوء واللون، ومن خواصها أنها
تكبر ما يمثل فيها من الأشياء تكبيرًا في غاية المناسبة، وترسم على حجابها الذي
هو من القماش صورًا لا يمكن أن يرى أظهر ولا أوضح منها؛ لذلك تراني قد قمت
بما أخذته على نفسي من رسم معظم الصور وتلوينها على زجاجها مختبرة ما يكون
للوهم من الأثر في النفس عند النظر إليها، وقد بدا لي أيضًا أن من المفيد أن أؤلف
بين ما تمثله هذه الآلة من المشاهد المختلفة بتنسيقها وجعلها على شكل قصة وجيزة
تجعل التمثيل مرتبًا متواصل الأطراف يستميل النفوس ويبهج الأنظار، ولما
انتهيت من هذا العمل دعوت إلى المعهد في الشتاء الماضي عشرين طفلاً من
الولدان والولائد مخالفة في ذلك سنة الكومتيس ديسكاريانياس؛ فإنها كانت تشخص
في بيتها القصص الهزلية وتأمر بوابها بأن لا يدخل أحدًا، وسبب هذا المخالفة أني
أعتقد أن الإنسان لا يمكنه أن يلتذ بشيء من مروحات النفس إلا إذا كثر عدد
حاضريها، وإنهم إذا كانوا أطفالاً تكون الاستفادة أعظم والنفع أتم.
ابتدأت التمثيل بعرض أشياء في غاية البساطة كداخل ضيعة أو طاحون
والمعيشة في سفينة، ثم مثلت هذه السفينة في يوم آخر وقد نقلتنا إلى بلاد بعيدة،
كان أبعدها عن أخلاقنا وعوائدنا أدعاها إلى إثارة الاستغراب وتهييج الشوق في
نفوس النظار الصغار، فكانوا يحبون أن يروا بيوتًا بنيت على خلاف طريقتنا في
البناء، وشوارع وساحات ورحبات عامة فيها رجال ونساء غريبو الأزياء والهيئات
وكان فيما عرضته عليهم صورة صيد الحيوانات الوحشية خصوصًا أضخمها
وأضراها كالفيل وفرس البحر والكركدن والأسد والنمر، فلم أعدم منهم تحمسًا في
الدهش والإعجاب بها، ثم أريتهم قافلة تجوب الصحراء فشاقهم منظرها كثيرًا،
ولقد كفتني هذه التجارب في الاقتناع بأن في فانوسي السحري عزيمة (يا سمسمة
انفتحي) [1] وإني إن لم أستعن به على فتح أبواب المجهولات لأصدقائي الأحداث
كنت مخطئةً ملومةً.
يتشوف الأطفال كثيرًا إلى معرفة كيفية تكون الحيوانات والنباتات والصخور
وتتشوق نفوسهم إلى معرفة طريقة نشوء جميع ما يشاهدونه كل يوم من ذلك، فقد
أذنت جماعة النظار جهرًا بأنا سنمثل على الدوام قصة ذات بهجة وجلال مؤلفة من
عدة فصول تسمى تاريخ الأرض.
استعنت عشية هذا التمثيل بجميع ما في النفوس من قوة الاستعداد وبصور
اُعتمد في رسمها على آراء علماء طبقات الأرض من الإنكليز، وبقليل ما حصلته
من العلم بمطالعة الكتب، واستقر رأيي على أن أجعل في التمثيل لفواعل الكون
وقوى الطبيعة لسانًا نفصح به عن الحقائق والحوادث، وهو تجوّز يمكن أن يسمح
به في قصص الغناء والتلحين الشعري على أنه لم يكن المقصود من ذلك قرض
الشعر بحال، بل كان الغرض منه إيضاح ما لم تكف آثار الضوء والألوان
المتنوعة في إظهاره على الحجاب إظهارًا تامًا بعبارات في غاية السهولة، مثال
ذلك أن أقول للنظار: أتدرون ماذا كان يقول المحيط الذي هو أصل الأشياء لما
غمر سطح عالم أزهقت روحه مياهه؟ الحق أقول إنني لم أقف على كلامه؛ ولكني
أخال أنه كان يدعو الحياة دعاء الأنبياء، ويسألها أن تزيل الوحشة من أعماقه
المظلمة ولججه القاحلة.
ولا جرم فقد بدا في أشعة الضوء السحري أقدم ما عُرف من أشكال الحيوانات
كالأوداميا [2] ، واللنجولا [3] ، والأورتوسيراتيت [4] طاغية البحار السيلورية [5]
والتريبوليت [6] وغيرها من مخلوقات الكون الأولى التي رسمت صورها اعتمادًا
على بقاياها الأثرية، أو على ما انطبع على الصخور من تلك البقايا.
ثم تلا ذلك ظهور أول أرض انحسر عنها الماء، فنهدت على سطحه وكانت
طوائف من الجزر، كان يخيل للنظار بواسطة المغالطة البصرية أنهم يشاهدون
الأعشاب الشجرية تنبت منها وذلك كالسيجيلاريا [7] والاستجماريا [8] وغيرهما من
المُثُل الأصلية للنباتات القديمة، ولست أنكر أن جميع هذه المناظر هي صور في
نهاية الحقارة بالنسبة لما تمثله من المشاهد الكبرى للكون في عصره الأول، ولو أن
إنسانًا كان قُدِّر له أن يشهد خلق الأشياء حضر في معهد تمثيل تلك الصور لما
وسعه إلا أن يضحك منها؛ لأنها ليست إلا أشباح لاعب، ولكن لا يغرب عن ذهن
هذا الساخر أن هذا التمثيل إنما جُعل للأطفال، وأن القصد منه هو تعليمهم، وهو
غرض جليل يجب الإغضاء عن حقارة ما يُتخذ من الوسائل للوصول إليه.
كان يتلو كل عصر من عصور تاريخ الأرض فترة جهالة عمياء وسكوت عام
كانت تدل كما نبهت النظار إليه، على اشتغال الدهر بعمله البطيء الخفي.
ظهر في الفصل الثاني من القصة سلسلة مناظر مختلفة آذنت بحصول بعض
الحوادث الكبرى على سطح الأرض، منها أن جزرًا نتأت من الماء وتواصلت
فكانت بداية تكوُّن القارات المستقبلة، ومنها أن ظهرت نباتات وحيوانات جديدة لم
يكن عُهد لها وجود في العالم إلى ذلك الحين، وأخص ما أثار دهش النظار من تلك
الحوادث وهاج إعجابهم دور ظهور الزواحف، وقد حملني ما رأيته من ذلك على
اعتقاد أن بين طفولية الكون وطفولية الخيال مناسبة ومطابقة، لما خلته من ارتياح
نفوس تلامذتي الصغار لمشاهدة صور تلك المملكة الحيوانية الفانية؛ فإني قد مثلت
لهم الليبيرانتودون [9] وهو ضفدعة كالثور في الضخامة، والإختوزيور [10] ذو العين
الهائلة، والبليزيوزيور [11] الذي عنقه كعنق الثعبان والميغالوزور [12] فيل الزواحف
الذي رأسه كرأس الضب، والهيليوزور [13] ذو الظهر الشائك وصنوف الحيات
الطيارة المسماة بالبتروداكتيل التي تشابه ذلك الوحش الخرافي ذا الأجنحة الذي
وجهه وجه امرأة، وجسمه جسم عقاب واسمه الهاربي، فأثارت دهشتهم وإكبارهم
لها بمقادير أجسامها الهائلة وقوة الدفاع فيها، ثم تلاشت نوعًا بعد نوع كما تتلاشى
الأحلام.
كان النظار يعتقدون أن جميع هذه المخلوقات كانت عائشة على وجه الأرض
لأني كانت أؤكد لهم ذلك بذمتي، وكان هذا التأكيد مصدر استغراب جديد لهم،
على أني ما قصدت إضلال أحد منهم، ولا التمويه عليه، بل قصصت عليهم
بالإيجاز كيفية معرفتي إياها وبينت لهم ما أضفته من عندي إلى ما عرف حق
المعرفة من تركيبها وتاريخها، ولو أن سائلاً منهم سألني عن سبب انمحائها من
على وجه الأرض لأعضلني سؤاله، على أني كنت أجيبه أننا معشر الموجودات قد
زج بنا في محيط الدهر زجًّا شديدًا، والدهر كما تعلم منشأ التقلب، وقد وجد في
طبائعنا الاستعداد لجميع ما قُدِّر لنا من ضروب تصاريف الحياة واستحالاتها، فمهما
كان عمر الزواحف القديمة طويلاً فلا بد أنها قد مرت بما قُدِّر للكون من النظام العام
كما كانت تمر أشباحها الممثلة على الحجاب المعد لقبولها.
آذن الفصل الثالث من القصة بمناظر خلوية اجتهدت في أن أمثل في بعض
آيات العصر الذي يسميه علماء طبقات الأرض فجر حياة الأرض الحالية (أيوسين)
وظهر بعد الزواحف الضخمة جسام الحيوانات الثديية كالميجاتيريوم [14] الهائل
والدينوتيريوم [15] مارد المردة في عصرها والمستودونت [16] كبير الحيوانات البائدة
الصفيقة الجلود وغيرها مما لم أذكره، وإن كان من أغربها، أحضرها الفانوس
فعرضها على الأنظار برهة، ثم لما رأت أن هذا الكون الذي نعيش فيه لم يُخلق لها
حتى ما كان منه في حيز الوهم والمغالطة لم تلبث أن لبَّت دعوة العدم فزالت على
التعاقب كما بدت.
على أن ما تلا هذه العصور الأولى من الاستحالات والانقلابات في النباتات
والحيوانات التي كانت موجودة فيها قد آذن بأن الأرض صائرة إلى أحوال العصور
الحالية، فأنشأ الأطفال يتدرجون في الشعور بأنهم في أرض يعرفونها، مع ما كان
لا يزال يوجد من التباين بينما فيها وبين ما يعرفونه من أرضهم، كانت تتجلى
أمامهم غابات تقارب أشجارها أشجار غابتنا، تجول فيها أُيَّل ضخمة الأجسام تعدو
وراءها السباع التي لا يزال نسلها يفترس فرائسه إلى اليوم في الصحاري والقفار.
لم يكن البرد إلى ذلك الحين قد كدر صفاء هذه المشاهد التي كان يسبح فيها
ضوء الشمس ممزوجًا بحرارتها القوية؛ ولكن في آخر العشية بدت تباشير الثلج
فكان لها مناظر محزنة متعاقبة استعنت في إبرازها للعيان بكل ما في فانوسي من
قوة الاستعداد، ففهم منها النظار أن حيوانات العصور الأولى قد أهلكتها هذه
المؤثرات المبيدة أو أنها أوت إلى أقاليم أخرى أشد حرارة من أقاليمها الأولى،
وكان صاحب السلطان على هذه الأقاليم الباردة هو الوعل القطبي والفيل ذو الفروة
المسمى بالمموث، كان يخيل للأطفال أن الأرض صائرة إلى الفناء وخلتني أطالع
في عيون أكثرهم التفاتًا آيات القلق والحيرة، ولم أر من الضروري أن أسري عنهم
هذا القلق فقد تكفلت بذلك الحوادث، أستغفر الله بل صور الحوادث.
بدت أمامهم مغارة نحتتها يد الفطرة في سمك الصخور، فكانت ملجأ أوت إليه
الحيوانات الوحشية كالدب والضبع الذي هو نوع من الكلب وغيرهما من النزلاء
التي ترجع في نسبها إلى أنواع من الحيوانات قد أصبحت اليوم مستأنسة، ثم ظهر
لهم خلق جديد هو عجيبة الكون ذلك هو الإنسان رأوه على ضوء نار أوقدها لنفسه
في جانب منزل من الأرض، وهو شبه حي عرف كيف يختطه لنفسه، فليت
شعري ما هو ذلك الخلق ومن أين هو؟ لا شك أن مثل هذين السؤالين هما من
الأسئلة المعضلة التي يحار الإنسان في الجواب عنها والمناقشة فيها أمام أطفال لا
تتسع عقولهم لها على أني لست متثبتة في العلم بالإجابة عنهما، من أجل ذلك رأيت
من الحزم أن أطفئ فانوسي وأكف عن الخوض فيهما.
إجابةً لطلب العموم كما يقال في إعلانات معاهد التمثيل، قد استعد معهدنا
لإيجاد عدد عظيم من المشاهد ستمثل في قصتنا.
عقدت النية على الاستمرار في دروس التمثيل هذه، وعلى أن أحكي
لأصدقائي الأحداث بواسطة الفانوس تاريخ الإنسان ومغالبته لفواعل الكون، وما
اتخذه من آلات صيده أو أدوات عمله الأولى وتجاربه الصناعية مذ كانت الصناعة
في مهد طفوليتها، ثم أبين لهم بعد ذلك بهذه الطريقة عينها ما عُرف من المجتمعات
القومية والعوائد القديمة وآثار الفنون الأولى؛ فإني أرى أنه لا شيء إلا ويمكن أن
يفهمه الأطفال على شرط إطلاعهم على كل ما نحدثهم به من الأشياء، والنزول
معهم في التعبير إلى الحد الذي تطيقه أذهانهم.
لست أغبى عن قيمة صناعة رسم الأشباح، ولا أجهل ما تساويه تلك
الألاعيب الخيالية، ولا خفاء في أني لا أدعي أني إذا استعرضت أمام أميل بعض
صور لما كانت عليه الأرض والناس في عصورهم القديمة، أكون قد علَّمته علم
الطبقات الأرضية، أو علم التاريخ، وإني أعلم أيضًا أن كثيرًا من الصور السحرية
لا تلبث أن يزول أثرها من أذهان الأطفال كما يزول من حجاب الفانوس؛ ولكن
كل هذا لا شيء فيه فحسبي أن يثبت في أذهانهم صورة أو صورتان، فإن تم ذلك
رجوت لهم في مستقبلهم أن يجتهدوا في تحصيل العلم بأنفسهم من المدرسة الكونية،
أو من مدارسة الكتب، وعلى كل حال فليس الغرض من تعليمهم في الصغر أن
يحصلوا العلم؛ وإنما الغرض منه أن تبعث فيهم روح الشوق والميل إلى المعرفة
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب كتاب أميل القرن التاسع عشر في فن التربية من باب الولد.
(1) عزيمة سحرية خرافية لفتح الأبواب المقفلة ذكرت في كتاب ألف ليلة وليلة.
(2) الأوداميا: حيوان هلامي من المكونات الأولى، توجد آثاره ولا تعرف أخباره.
(3) اللنجولا: حيوان رخو ذو محارة مخروطية مستطيلة يشمل جنسة عدة أنواع بادت ولم تبق إلا آثارها وأعضاء الحركة في هذا الحيوان توجد في رأسه.
(4) الأورتوسيراتيت: حيوان هلامي رخو يقوم فيه الذراعان مقام الرجلين، محارته ذات فلقتين يشتمل جنسه على عدة أنواع بعضها عائش وبعضها باد فلم يبق إلا آثاره.
(5) السيلورية: نسبة إلى بلاد السيلور، وهم أقوام كانوا يقطنون بلاد الغال في بريطانيا العظمى.
(6) التريبوليت: حيوان رخو محارته ذات فلقتين.
(7) السيجيلاريا: نوع من النباتات البائدة التي لا يوجد منها إلا آثارها يحتوي على نحو ستين صنفًا ويوجد في الطبقات الفحمية من الأرض.
(8) الاستجماريا: نوع آخر من تلك النباتات.
(9) الليبيرانتودون: هو نوع من الزواحف البائدة، أثبت وجوده العالم الإنكليزي المسمى أوين بما عثر عليه من رفاته.
(10) الإختوزيور: نوع من الضب فني، فلم تبق إلا رفاته.
(11) البليزبوزيور: نوع آخر منه.
(12) الميغالوزور: نوع ثالث منه أضخم من السابقين.
(13) الهليوزيور: نوع من الزواحف الهالكة وجدت رفاته في أرض إنكلترا.
(14) نوع من الحيوانات الثديية انقرض وبقيت رفاته.
(15) نوع آخر منها أرقى من الفيل، توجد رفاته في الأرض الرملية والحجرية.
(16) نوع من الزواحف البائدة الهائلة.(4/905)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)
توسع بعض الفقهاء في مسائل التكفير، وما يكون به المسلم مرتدًّا، حتى إننا
إذا سلمنا بكل ما قالوه لا يكاد يسلم لنا أحد نسميه مسلمًا في هذا العصر، وللإمام
حجة الإسلام الغزالي كتاب وجيز سماه (فيصل التفرقة.. .) حقق فيه ما يجب
التعويل عليه في هذا الباب، ولا غرو فكلام هذا الإمام لباب اللباب، وقد وفق الله
تعالى صاحبنا المهذب الشيخ مصطفى القباني لإحياء كتب حجة الإسلام التي أماتها
الجهل وسوء الاختيار، وقد طبع في هذه الأيام هذا الكتاب في مطبعة الترقي على
ورق جيد، ووضع في ذيله حواشي تزيد في فائدته، وطبع معه رسالة أخرى
للمصنف في الوعظ والاعتقاد، فجزاه الله عن حجة الإسلام وعن المسلمين خير
الجزاء، ووفقهم لقراءة هذه الكتب النافعة، والكتاب يُطلب من مكتبة الترقي ومن
غيرها.
***
(جواهر العلوم)
لم ينس القراء كتاب (ميزان الجواهر) الذي قرظناه في الجزء الخامس،
ولم ينسوا أن مؤلفه هو الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري مدرس البلاغة
والإنشاء في المدرسة الخديوية، وهذا كتاب جواهر العلوم للجوهري أيضًا،
فصاحب الميزان هو صاحب الموزون، فمن اطلع في ذاك على الجواهر في
ميزانها، فعليه أن يطلع عليها في هذا مجردة قائمة بنفسها، رعى الله هذا المؤلف
فلقد سلك في كتابيه الطريق القويم، وهَدَى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، إذ دل
الناظرين في العلوم الكونية على خالق الأكوان، وقرب هذه العلوم من غير
الناظرين فيها بأعجوبة من سحر البيان، كأن الغاية من إنشاء مدرسة دار العلوم قد
تجلت في هذا المؤلف في أبهى مظاهرها، وقد نظم هذا الكتاب في سلك القصص،
فهو حكاية شاب عرف العلوم والآداب، وضرب في الأرض يطلب فتاة كمثله
ليتخذها زوجًا يسكن إليها؛ فإن النفس لا يسكن اضطرابها إلا لمن يشاكلها ويقاربها
وفيه ثلاثة أبواب أحدها في عجائب الأرض، والثاني في عجائب السموات،
والثالث في آيات من القرآن محيطة بكل ذلك {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ
قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 20-22) وقد طُبع الكتاب على نفقة
الأستاذ المرشد والواعظ المتفرد الشيخ علي أبي النور الحربي والفاضل المهذب
محمد توفيق أفندي الكاشف، فيُطلب منهما، ومن مكتبة الترقي.
***
(قصة وردة)
نُشر الجزء الثاني من هذه الأسطورة التاريخية التي تمثل أخلاق المصريين
وعاداتهم، وكيفية حكومتهم، ومبلغ علمهم ومدنيتهم في عهد رعمسيس الثاني، وقد
ذكرنا في تقريظ الجزء الأول أن مؤلفها هو الدكتور جورج إيبرس الألماني اقتبس
مادتها من العاديات المصرية، وأوراق البردي، وأن معربها هو الكاتب الشهير
محمد أفندي مسعود أحد محرري المؤيد، وقلما توجد أسطورة جمعت من اللذة
والفائدة ما جمعت هذه القصة، وهي تطلب من معربها، ومن المكاتب المشهورة.
***
(الإنشاء العصري)
إن أكثر الذين يتعلمون القراءة والكتابة لا يعرفون رسوم الكتابة في الشؤون
الودادية، ولا في المعاملات المعاشية، وقد ألف الأديب الفاضل محمد أفندي عمر
نجا البيروتي كتابًا سماه الإنشاء العصري لم يغادر شيئًا مما يحتاجه هذا الفريق
الأكثر من رسوم المكاتبات الأدبية والتجارية إلا هداهم إليه؛ لذلك يرجى أن يكون
هذا الكتاب من أكثر كتب العصر رواجًا؛ لأن السواد الأعظم يحتاجه ويرغب فيه،
وقد طبع في بيروت طبعًا حسنًا.
***
(نوادر الأدباء)
كتاب جديد يشتمل على نوادر وحكايات لطيفة مما يعزى في كتب الأدب
والتاريخ إلى الخلفاء والملوك والحكماء والزهاد والأدباء، جمعه الفاضل إبراهيم
أفندي زيدان، وطبع بنفقة صديقنا الفاضل متري أفندي زيدان مدير الهلال الأغر
طبعًا جميلاً، وثمن النسخة خمسة قروش صحيحة، ويُطلب من مكتبة الهلال
وغيرها.
***
(الشرق المصور)
مجلة عثمانية علمية أدبية فنية صناعية مصورة تصدر في 10 و25 من كل
شهر عربي، وقيمة الاشتراك فيها 40 قرشًا صحيحًا في مصر، و 50 في غيرها،
منشئها ومديرها الفاضل أحمد بك كامي، وقد صدر منها خمسة أجزاء مملوءة
بالفوائد الأدبية والتاريخية والرسوم الجميلة، فعسى أن تصادف من الرواج
والانتشار ما تستحقه.
***
(الطب الحديث)
مجلة علمية طبية خاصة بالأطباء والصيادلة يصدرها رصيفنا البارع الدكتور
عيد أفندي صاحب مجلة طبيب العائلة الغراء، وهي حاوية زبدة المباحث الطبية
والفوائد العلمية والاكتشافات الفنية، فنحث عليها الأطباء الأفاضل.
***
(ألف ليلة وليلة المصور)
هذا الكتاب أشهر القصص الشرقية وأعذبها؛ لأن أعذبها أكذبها، وله مكانة
عند الإفرنج عالية، فقد نقلوه إلى لغاتهم وزينوه بالصور والرسوم، وقد رأيت
طبعة منه بالإنكليزية تساوي النسخة منها 24 جنيهًا، وقد اعتنى صديقنا الفاضل
جرجي أفندي زيدان صاحب الهلال المنير بطبعه مزينًا بالرسوم والصور وحذف
منه الكلام المجوني الصريح، وهو يصدره أجزاء يزيد الجزء منها على مائتي
صفحة، وثمنه عشرة قروش، وقد صدر منه جزآن يُطلبان من مكتبة الهلال.
__________(4/911)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نساء المسلمين
تابع المحاورة الأولى بين فاطمة علية هانم كريمة جودت باشا وبعض نساء
الإفرنج بعدما بينت الكاتبة حال البنات الجركسيات الجميلات قالت في تتمة الجواب:
وأما غير الجميلات من أولئك البنات؛ فإنهن مضطرات إلى إنفاق العمر في
بلادهن بالأعمال الشاقة كالزرع والحصاد لا بخدمة البيوت فقط؛ ولكن إذا لم يكن
النظر في المرآة يطمعهن في دار السعادة فإن لهن فيها مطمعًا آخر، وهو الرسائل
والمكاتيب التي تجيء من بنات أعمامهن وعماتهن وأخوالهن وخالاتهن وصواحبهن
الجميلات؛ فإنها تحدث عندهن أملاً في ترك الشقاء في بلادهن وإصابة حظ من
السعادة في الآستانة إذ يسمعن في تلك المكاتيب أن الجارية فلانة قد كافأها سيدها
على حسن الخدمة ببيت، وزوَّجها برجل ملائم لها، وإذا رُزقت الجارية بغلام
تبشر أهلها، ثم ترسل علامة سلامه إليهم بأن تلوث أصبعه بالحبر وتضعه في ذيل
المكتوب، فهذه الأخبار تملأ خيالات البنات فينفرن من بيوتهن ويستثقلن المعيشة
فيها، ثم تثقل عليهن الخدمة التي كن تعودنها، بل يستبشعن الذي تربين عليه،
ويستحوذ عليهن الخمول والكسل، فيلقين لذلك ضروبًا من إهانة أهليهن كقولهم:
(إن الخبز لا يؤكل بدون تعب) فحينئذ تناجي الواحدة منهن نفسها: أليس من البلاء
أن أضطر إلى الحرث والزرع والحصاد لأجل الوصول إلى لقمة من الطعام؟ أليس
الاتصال بأحد الأفندية في الآستانة خير لي: يأتيني رزقي رغدًا، ولا أكلف إلا
بخدمة البيت وهي يسيرة، تعلمني كيف أدير شؤون منزلي، إذا أنا صرت سيدة،
فهذه الحالات والتصورات تبعث فيها الرغبة الصادقة في أن تكون جارية في
الآستانة عدة سنين، ثم تكون سيدة ناعمة العيش طول حياتها تلح بها الرغبة في
الهجرة على حبها الطبيعي لوالديها ولوطنها؛ ولكن بعض الحب يغلب على بعض،
ذكرت لك الواقع أيتها المدام من غير حكم عليه بخطأ ولا صواب، فما هو رأيك
في رغبة مثال هذه الجركسية أيجامع حب الأهل والوطن، أم هو من الإفراط في
حب الذات؟
ف: أراك قد عرفت الرق تعريفًا لطيفًا يكاد يجعل كل إنسان يود أن يكون
رقيقًا.
أنا: كلا إنه ينبغي لنا أيتها المدام أن نكثر الأرقاء؛ فإن ذلك يستلزم قلة
حماتهم.
وبينا كنا نتضاحك من موضوع القول كانت الراهبة لا تزال معرضة عن
حديثنا، وربما لم تكن فطنت له كما تدل على ذلك ملامحها، ثم إنني انتبهت إلى
كلام المدام انتباهًا جديدًا لم يكن من قبل فقلت:
(إن ما ذكرته لك عن الجواري والأرقاء هو مبني على قواعد الشرع،
وعلى عادات البيوت والأُسر المتأدبة بآداب الدين والعمل بأحكامه، وهذا لا ينافي
أن يكون في الناس من ينحرف عن جادة الدين والإنسانية في أمر الرق؛ فإن الدهر
بالناس قُلَّب وكثيرًا ما يفضي تقلبه بهم إلى تحويل الحسن إلى رديء، واستبدال
الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن ذلك أن بعض الآباء يبيعون بناتهم اللاتي
يرغبن عن العزبة ويفضلن المعيشة في أعشاشهن التي نشأن فيها لينتفعوا بثمنهن،
ومن الموالي من يعامل الجارية التي يشتريها بما تأباه المروءة ولا ترضى به
الشريعة فيستخدمها ثلاثًا أو خمسًا، ثم يبيعها من آخر ابتغاء الربح، أليس من
المعهود في الناس قلب المنافع إلى مضار، وتأويل أنفع القوانين وأعدلها ميلاً مع
الهوى والغواية وارتكاسًا بين أمواج الضلالة؟ والذي يمسك بالنفس أن تذهب عليهم
حسرات أنهم قليل ومعدودون من الشذاذ فليس لمذهبهم في تأويل الشريعة وسوء
استعمال العرف والعادة تأثير في مجموع الأمة؛ لأنهم ساقطون من نظر الخواص.
مدام ف مُظهِرة الإعجاب بالقول والعناية به: إنه كثيرًا ما يطرأ على
المروءة ما يذهب بأثرها من المودة والرحمة والرعاية والحرمة بين أهل البيت من
الوالدين والأولاد والأزواج فيتقطع بينهم، وهذا حاصل ومعروف في أوربا،
ومفاسد الرق معروفة عندنا، وقد كتب فيها كثير؛ ولكنا كنا نجهل من تعريفها
وشؤونها عند المسلمين ما عرفته منك وأنا به مغبوطة وشاكرة، وأسألك رأيك في
الذين يبيعون أطفالهم قبل التمييز.
أنا: إن هؤلاء أشد رغبة في سعادة بناتهم، فلا يكتفون بأن يكن سيدات بجاه
أزواجهن، بل يتشوفون إلى تعليمهن وتربيتهن في دار السعادة، أتدري من
يشتريهن.
ف: إن تصور بيعهن راعني وأذهلني عن التفكر فيما عداه، كالمشتري
وغيره.
أنا: لعله لا يذهلك عما أقوله، وهو أن ممن يشتري (هؤليَّا) الجواري العقماء
والعُقَّر - جمع عاقر للرجل والمرأة - فيكنَّ لهم كالأولاد، ومن الناس من يشتري
الجميلات ويربيهن تربية بنات الوجهاء في المدن ليبيعهن إلى العظماء، وهل
يقصر في تربية الجارية من يبيعها بخمسمائة ليرة أو ألف ليرة؟ وأكثر أصحاب
البيوتات يشترون الجواري من هؤلاء المربيات المتعلمات لأجل الاقتران بهن،
ومنهم الذين يربونهن ليتزوج بهن أبناؤهم أو ليكن أترابًا مؤنسات لبناتهن، فلكل
فتاة من الأسر الكريمة تِرْب من الجواري، تتعلم معها وتربى تربيتها وتعتق يوم
تتزوج الفتاة، فيكثر الراغبون في الاقتران بها من خيار الناس.
ف: يخيل إلي من كلامك أنني ضللت في سفري فوقعت في غير تركيا.
أنا: السبب في هذا أن السائحين منكم لا يعرفون من دار السعادة إلا فنادق بك
أوغلي، وطرقات المدينة وأسواقها، فأكثر ما في كتبهم أغلاط وأوهام يتلقفونها من
المترجمين الجاهلين بحال المدينة، وإننا نظن عند قرائتها أننا نقرأ عن عالم
مجهول.
وبينا نحن نتكلم دخلت علينا جارية حبشية كانت منذ دبَّت إلى أن شبَّت متنوّفة
في الزينة منشَّأة في التطرس والتطرز فلما رأت مدام ف.. زيها وحليها قالت
بدهشة وروعة: من هذه التي تعلو رئيسة الخدم زينة وحليًّا؟
أنا: إنها جارية تربت عندنا، وأبت الحرية، فأعطيناها كتابًا بأن أمر
حريتها لها.
ف: نادت الحبشية وسألتها بواسطتي عن السبب في إباء الحرية، فقالت:
إنني متى جاءني زوج أرتضيه أعتق نفسي وأتزوج به، وإلا فأنا فاكهة في نعمة لا
أجد مثلها، فسألتها كيف يكون الزوج الذي ترضينه؟ فقالت: هو من يطعمها كما
تأكل في بيت سيدها ويكسوها كما تكتسي ولا يحملها خدمة أكثر مما تحمله الآن.
لها بقية
__________(4/913)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة محمد علي الصناعية
دعا صاحب الدولة رياض باشا العظماء والوجهاء في مصر إلى داره للمذاكرة
في وسائل إنجاح مشروع المدرسة الصناعية، فتكلم الوزير في فائدة الصناعة،
وشدة حاجة القطر إليها، وشكا من قبض الأكف وغل الأيدي وطلب من حاضري
المجلس إبداء رأيهم، فتلاه صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية في القول، وكان
مما قاله: إنه يجب أن يكون رجال الدين من الدعاة إلى الاكتتاب والعاملين في ترويج
المشروع؛ لأن المدرسة تنفع في الدين، كما تنفع في الدنيا؛ فإن أكثر الفقراء
والمساكين محرومون من العلم والعمل والدين، وإذا لم يكن للفقير دين ولا عمل فهو
شر محض على قومه وعلى الناس الذين يعيش معهم، وضرر هؤلاء يكون على
أشده في البلاد التي تقطعت فيها الروابط الاجتماعية، فأمسى كل واحد من الغوغاء
يرى نفسه كونًا مستقلاً لا يوقر من هو أكبر منه، ولا يستحيي منه، ولا ممن هو
في طبقته، فالمدرسة تعلمهم دينهم وتشغلهم بالعمل عن الوقوع في مزالق الزلل، ثم
أقر الحاضرون على تأليف لجان تسعى في الاكتتاب، وابتدأ بعض الحاضرين في
ذلك بأنفسهم.
علم الناس أن نحو ثلثي ما اكتتب به إلى الآن هو من الأجانب، ونحو الثلث
من المصريين الذين يُراد إنشاء المدرسة لهم، والأجانب في البلاد يعدون بالألوف
والمصريون يعدون بالملايين؛ ولكن الأجانب يعرفون قيمة الأعمال الاجتماعية
وأكثر المصريين يجهلون، ومن يعرف منهم قيمة العمل، فهو إما فقير الأب والجد
فهو على بخل موروث، ودناءة تربى عليها، فلم يقو ما أوتيه من علم على
استئصالها؛ لأن تأثير التربية غالب دائمًا على تأثير التعليم، وأكثر الأغنياء سفهاء
الأحلام غارقون في غمرة من الأوهام، يبذلون المال الكثير لنيل لقب كبير والتزلف
إلى الأمير.
نعم إن أصحاب البيوت القديمة والأسر الكريمة لم يفتقروا جميعًا، ولم يعمهم
الجهل، ولم يدمرهم فساد التربية، وفي البلاد فئة قليلة من العصاميين الأخيار،
فهؤلاء وهؤلاء محل الرجاء؛ ولكنهم بالنسبة إلى المجموع قليل عددهم، ولا
يقدرون على القيام بالمشروعات اللازمة لحياة البلاد إلا بمساعدة الآخرين لهم، فأين
أهل الدعوى، أي محبو الشهرة، فهذا اليوم فيه صبغ الدعاوي يحول.
__________(4/915)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدول في سلطنة مراكش
جاء في برقيات هافاس من طنجة في 19 يناير أنه وصلت إليها بارجة تحمل
مندوب الجمهورية الفرنساوية لدى سلطان مراكش، وستصل غدًا دارعة إنكليزية
تحمل رجال السفارة الإنكليزية، وأما السفارة النمسوية فستسافر في 26 يناير.
وقد تحقق أن صاحب مراكش استحضر ضابطًا من الإنكليز يعلمون عساكره
الفنون العسكرية، وأنهم يعلمونهم باللغة الإنكليزية لتبقى القوة العسكرية المراكشية
في أيديهم يوجهونها كيف أرادوا، ولا يمكنها أن تحارب إلا بهم، وهذا تسليم
معنوي للبلاد (وكل من لا يسوس الملك ينزعه) والمانع لصاحب مراكش أن يستعين
بأخيه صاحب القسطنطينية على التعليم والتمرين العسكري التنازع على لقب خليفة
الذي أهلك الإسلام في السلف والخلف، وما كان أهله ليعتبروا، ولا يترك
رؤساؤنا الحرص على هذا اللقب الذي لم يبق له معنى حتى لا تبقى سلطة
لمسلم على وجه الأرض والله يفعل ما يشاء.
__________(4/916)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرقص والعفة والحجاب
رحم الله المتنبي حيث قال: (لِهَوى النفوس سريرة لا تُعلم) فإن هذه الحكمة
تصدق على الذين ملأوا وادي النيل صراخًا وعويلاً، وتنديدًا وتهويلاً، أن قام
رجل منهم يقول ربوا البنات وعلموهن، ثم خففوا الحجاب عنهن بحيث لا يبدين
من زينتهن إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان على ما يقول بعض المفسرين،
وهم مع ذلك يحضرون بدعة رقص النساء ويأذنون لنسائهم بالتفرج عليها من غير
تحرج ولا تأثم ولا نكير، بل منهم من يثني على هذه البدعة الذميمة حتى بالكتابة
في الجرائد.
بدعة الرقص وما أدراك ماهية، هي الوباء الذي يصطلم العفة اصطلامًا،
ويستأصل جراثيم الصيانة استئصالاً، قال راوي المنار: دعاني غير واحد من
الفضلاء إلى الكتابة في التنفير عنها، والإنكار على فاعليها الفاسقين ومنهم من قال
ينبغي أن تشاهدها مرة لتكتب عن بينة وشعور بوجه ضررها، فقلت ما كان لمثلي
من خدمة الدين أن يقف في تلك المواقف النجسة، وإن كان القصد طاهرًا والغرض
شريفًا، وقال آخر: إن هذا الرقص يكون في مكان شريف، في بعض أيام السنة،
ويتسنى لك أن تشاهده هناك، وفاته أن هذا الشرف اعتباري لا حقيقي، وأنه
خسيس عند الله ورسوله وصالحي المؤمنين، فماذا تغني عنه شهادة المبتدعة
والفاسقين، ثم اتفق لي أن دخلت (الأوبرا الخديوية) ليلة الاحتفال بجلوس الجناب
الخديوي من هذه السنة لأشاهد كيفية تمثيل الإفرنج للقصص وأختبره؛ فإنني قرأت
في كثير من الكتب والجرائد أن تمثيلهم ركن من أركان التهذيب وأصل من أصول
التأديب، وما كنت أعلم أن سيكون في خلاله رقص ولكنه كان، وشاهدت هذه
البدعة التي هي أفتك عوامل الافتتان.
برز في معهد التمثيل زهاء عشرين أو ثلاثين بنتًا كواعب أترابًا من أجمل
من أنبتت أرض الشمال، وعليهن من لبوس الزينة ما عليهن وطفقن يرقصن بنظام
غريب لا يحيط به الطرف، فيحيط به الوصف، على أني لو شئت لقلت في ذلك
قولاً يقرب بالخيال من ذلك الجمال، ويطير بالقلب في عالم المثال؛ ولكنني أخشى
أن أكون بذلك من دعاة الفتنة، وأنصار هذه المحنة، وكان يلقى على الراقصات
شعاع كهربائي يلون بألوان مختلفة، فتارة يكون أبيض ناصعًا، وطورًا يكون
ضاربًا إلى الصفرة كنور الشمس، وآنًا يُرى مشوبًا بحمرة زاهية، وآونة تمازجه
زرقة صافية، وكان الناس حيارى، تساوى في الدهشة غير السكارى بالسكارى، أما
هؤلاء فكانوا كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى يفيق فتى به سكران
وأما كاتب هذه السطور فكان كما أجاب رجلاً بجانبه ممتعضًا، فسأله ما بالك
ألست معجبًا بهذا المنظر الرائع والجمال البارع، فقلت في جوابه إنني في هذه
الليلة كالحاسد يرى نعمة المحسود عيني في جنة وقلبي في نار، قال وما الذي أوقد
في قلبك هذه النار، فقلت: احتكاك الأفكار، ألا تراني كيف أدير الطرف وأرمي
به إلى المتفرجين والمتفرجات، أكثر مما أرمي به إلى الراقصات، انظر إلى
هؤلاء الكهول المفتونين بهذا المنظر، وأمثل في خيالي ما يثير في نفوسهن من
الشواغل، وأتفكر في أثر ذلك وعاقبته في معاشرة نسائهم وصحبة زوجاتهم إذا لم
يكن بارعات الجمال، وقد فهمت السر في افتتان أغنيائنا بأوربا وإضاعة أموالهم
وأوطانهم ودينهم وإيمانهم في سبل ترف أوربا وزخرفها، أنظر إلى هؤلاء الشبان
الذين ترقص أعينهم وقلوبهم مع الراقصات، وتذهب نفوسهم عليهن حسرات،
وأتفكر في مستقبلهم، ومستقبل البلاد والأمة بهم، أنظر إلى هؤليا - تصغير هؤلاء-
الولدان والجواري (البنات) الصغيرات، وأمثل في ذهني نفوسهم بألواح صقيلة
ترسم فيها هذه النقوش والصور، وأتفكر في مغبة هذا الرسم والتصوير عندما
تعصر الصغيرة ويراهق الصغير، أنظر إلى تلك المقصورات في المقصورات
(أي النساء المحبوسات في الغرف التي يسمونها الألواج) وياليتهن كن من
القاصرات، فإني لا أراهن إلا يلتعن التياعًا، وتطير نفوسهن شعاعًا، ويملن إلى
محاكاة هؤلاء المائلات المميلات، الكاسيات العاريات، وقد تذكرت حديثًا شريفًا
من أعلام النبوة وهو قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (صنفان من أهل النار
لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات
عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسْنِمة البُخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا
يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم وغيره، وقد مر
على العلماء قرون لا يعرفون تأويله حتى كان منهم من فسَّر (كاسيات عاريات)
بأنهن كاسيات من نعم الله تعالى عاريات من شكره، وحتى قالوا في معنى مائلات
مميلات أنهن يمشين متبخترات ومميلات لأكتافهن، أو أنهن يتمشطن المشطة
الميلاء وهي مشطة البغايا، وأنت ترى أن الحديث صريح في دولة (الكرباج)
القريبة العهد في مصر، ودولة التهتك التي لا تزال في نمو وارتقاء بتعزيز الأمراء
والأغنياء، ومن أين كان يخطر في بال علمائنا السالفين رضي الله عنهم، بل من
أين كان يخطر في بال مثلي قبل هذه الليلة أن النساء يلبسن سراويلات حازقة
(ضيقة ضاغطة) بلون البدن وغلائل من الشفوف (الثياب الرقيقة) التي لا تحجب
ما وراءها ولا يكتفين بذلك حتى يكشفن نحورهن وأكتادهن وأيديهن إلى الأكتاف؟
وأما القبعة المرتفعة التي تحكي سنام الجمل فقد رأيناها من زمن بعيد.
هذا ما كنت أحدث به جارًا لي في الجلوس ولعمري إنني كنت أتصور أنه
قلما يخرج رجل متزوج من ذلك المكان وهو راض بحليلته، وقلما تخرج امرأة إلا
وهي مفتونة بهذه الصناعة عازمة على تقليد هذا التهتك والخلاعة، ومن يمتلئ
دماغها بهذه الخيالات، وتنفعل روحها بفعل هاته السيئات، فهل يحفظ عفتها،
ويحمي صيانتها، منديل رقيق على أرنبتها، تلاعبه الأنفاس وتخترقه أشعة عيون
الناس؟
عجيب ممن يسمح لأهله بحضور هذه المخازي، ويغفل عن هذه المغازي،
وعجيب من الذين يدعون الغيرة على الأعراض، كيف تعميهم عن هذه الفضائح
الحظوظ والأغراض، فهم يملأون الصحف تنديدًا بكلمة تقال، ثم يحثون الناس
على هذه الفعال، أليس الواجب أن يضرب دون هذه الفضائح ألف حجاب صفيق،
إذا وجب أن يكون على فم المرأة منديل رقيق، بلى ولكن الهوى هو الذي يكتب
ويتكلم ولهوى النفس سريرة لا تعلم.
__________(4/917)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مطل قراء الجرائد
المشتركون في الجرائد هم خواص الأمة في الفكر والعلم، أو المتشبهون
بالخواص، وأعني بالعلم علم الحياة الاجتماعية وما يتعلق به فإنه أعلى العلوم،
وأصحاب الجرائد التي يُقصد بها ترقية الأمة في حياتها الاجتماعية هم أعلم الناس
بحال الأمة، وبدرجة ترقي الفكر فيها، وقوة الحياة أو ضعفها في أفرادها،
الكثيرون من هؤلاء الخواص يبذلون كل يوم ما يقدرون على بذله في السفاسف،
ويصعب على أحدهم أن يبذل في السنة جنيهًا أو نصف جنيه قيمة الاشتراك في
الجريدة أو المجلة التي يعتقد منفعتها، ويشهد بفائدتها، فإذا خرج منه شيء لا
يخرج إلا نكدًا بعد إلحاح في الطلب ومراوغات في الهرب، ومنهم من يعتذر
بأعذار جديرة بالعظة والاعتبار، من أغربها معرفة صاحب الجريدة أو ادعاء
صحبته، يقول أحدهم: إنني لا أدفع قيمة الاشتراك في هذه الجريدة؛ لأنني عرفت
صاحبها وصار لي معه صحبة، فهل يحكم هؤلاء على صاحب الجريدة بأن يتخذ
نفقًا في الأرض فيتوارى به عن الناس لكيلا يعرفوه، وأن يقابلهم مقابلة سوأى إذا
هو رآهم لئلا يصحبوه، فيكون بذلك جديرًا بأن يُعْطَى حقه، ويُعَانَ على عمله،
قلما تروج جريدة في هذه البلاد إذا لم يكن لصاحبها أصدقاء كثيرون ينوهون
بجريدته، ويرغِّبون الناس فيها، فإن لم يفعلوا هذا فليسوا بأصدقاء، وليت شعري
كيف يرضى إنسان أن يسن سنة يحرم بها صديقه من منافع كثيرة، بل يؤذيه بها
ويضره ليوفر على نفسه شيئًا قليلاً من المال، لا يبخل به كريم النفس على غير
صديق بغير حق؟ أعني بهذه السنة كون الصديق لا يدفع قيمة الاشتراك، فإذا كان
لي مائة صديق في مصر فصاحب السنة يوجب علي أن أخسر مائة اشتراك في كل
سنة لأجل أن يوفر هو على نفسه قيمة اشتراك واحد! ! ! أظن أنه لا توجد لغة
ولا عُرف يجيزان أن يسمى مثل هذا صاحبًا أو صديقًا، وإن فرضنا أنه يسعى في
نشر الجريدة وترويجها فكيف به إذا كان لا يفعل؟
ومن الناس من يمتنع من دفع الاشتراك؛ لأنه كبير يجب التقرب إليه بتقديم
الجريدة مجانًا، وكذلك العلماء قلما يوجد فيهم من يدفع قيمة الاشتراك. والفقراء ربما
يعجزون وهم أقرب إلى العذر الحقيقي، فإذا كان العالم والكبير والصديق لا يؤدون
هذا الحق، فمن ذا الذي يؤديه؟ إنهم لا يتفكرون في هذا؛ لأن الأمة في طفولية
فكبيرها صغير، وعاقلها أفين، وهي لما تعرف معنى الحياة القومية الاجتماعية
ومقوماتها، والحقوق الإنسانية وواجباتها، إلا قليلاً من أهل الفضل والمروءة،
يؤدون الحقوق ويسعون في سبيل المنافع القومية، ولكن إذا لم يقدروا على جذب
الجماهير فيا سوء العاقبة وبئس المصير.
__________(4/919)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات
لو أن تلك الكاتبة الفرنسوية التي تدعو المسلمين إلى إرجاع الدين إلى البيوت
عرفت صاحبة الدولة الأميرة ناظلي هانم أفندي، واستعانت بها على ما تريد
لرجونا أن تلقى أذنًا واعية، وجوابًا مرضيًا؛ فإن هذه الأميرة هي أعقل أميرة في
أسرة محمد علي الكبير، ولها عناية بالشؤون العمومية، وقد قالت مرة إننا نحن
المسلمين لا نجاح لنا إلا بالتمسك بالإسلامية، وعسى أن تهتم الأميرة بهذا الأمر من
نفسها، وتستشير أهل العقل والبصيرة في اتخاذ الوسائل لإرجاع الدين إلى البيوت
ليحفظ لها التاريخ بذلك ذكرًا خالدًا.
__________(4/910)
غرة ذو الحجة - 1319هـ
11 مارس - 1902م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح الدولة العلية
رأي يستحق النظر
ضمنا في هذه الأيام سامر من سمار أهل الفضل ومحبي الإصلاح،
فطفق القوم يتحدثون في شؤون المسلمين في مراكش والجزائر وتونس ومصر
والدولة العلية وإيران والهند والأفغان وبلاد العرب، فكان من رأيهم أن المسلمين في
كل قطر من أقطار الأرض متشابهون في أخلاقهم وأطوارهم وقابليتهم للإصلاح،
وإن كل ما أصابهم من البلاء والشقاء فهو من أمرائهم وحكامهم؛ لأنهم يخضعون
لرؤسائهم خضوعًا أعمى، وأنه متى صلحت حال حكومة إسلامية تصلح بذلك أحوال
الأمة التي تحكمها لا محالة، وأن للبلاد العثمانية عامة ولبلاد مصر خاصة مزية لا
تشاركها فيها بلاد إسلامية أخرى، وهي أن الإصلاح الحقيقي إذا وجد في أحدهما أو
كليهما فإن أثره يتعدى إلى جميع الأمة الإسلامية، وبه يكون مجد الإسلام الحقيقي؛
وذلك لاتصالهما بالحرمين الشريفين وكونهما قلب البلاد الإسلامية، وتَفْضُل الحكومةُ
العثمانية الحكومةَ المصرية بأن أكثر المسلمين في العالم يعتقدون أن رئيسها هو خليفة
المسلمين وإمامهم الديني، وبأنها سيدة مصر وحاكمة الحرمين الشريفين وبأنها مستقلة
استقلالاً يمكنها أن تفعل ما تشاء من الإصلاح بدون سيطرة الأجانب، ونتيجة هذا كله
أن الإصلاح الإسلامي إذا التمس من حكومة؛ فإنه محصور في الدولة العلية؛ لأن
حكومة مراكش في أقصى الأطراف، وحكومة الأفغان كذلك في طرف بعيد لا تأثير
له إلا في موضعه، وحكومة إيران لا تلتئم مع سائر المسلمين لاختلاف المذهب، وبقية البلاد تحت سيطرة الأجانب.
ثم أنشأوا يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، وهو الإصلاح
وإمكانه وكيف يكون، قالوا: إنه ممكن، واختلفوا في كونه مرجوًّا ومأمولاً أم لا،
فقال بعضهم إن الشعب التركي لا يحسن الاستعمار؛ ولذلك بقيت الشعوب التي
استولى عليها حافظة لغاتها وتقاليدها وعاداتها حتى كانت كلما آنست من الدولة
المتغلبة عليها غرة خرجت عليها وحاولت نبذ سلطتها، وما زالت تناوشها وتثور
عليها إلى أن تمكن أكثرها من الاستقلال بعد ضعفها، ولولا أن العنصر العربي
أكثره يدين بالإسلام فيرتبط معها برابطة الدين لاستقل دونها كما استقل غيره،
وكَبُرَ جهلاً منها أن بقيت متعصبة لجنسيتها التركية؛ فإن المسلمين لا رابطة لهم
ولا جامعة واحدة إلا في دينهم، فلو أنها ساوت بين التركي والعربي كما ساوى
بينهما الدين، وعملت لإحياء بلادهم وعمارتها وجعلت لسانها الرسمي لسان القرآن
لاستولت على جميع المسلمين، وكان لها منهم قوة لا تغالب.
كيف يرجى الإصلاح الإسلامي من الترك وأهل الحل والعقد منهم لا يرون
لأنفسهم صلاحًا إلا بتقليد الإفرنج في كل شيء، والنشء الجديد المتعلم أوربي
النزعة في كل شيء حتى في جعل الدين آلة من آلات السياسة، فإذا أتيح لهم أن
يحفظوا استقلالهم وتكون لهم حكومة منتظمة وأمة مرتقبة؛ فإنما يكون ذلك بحصر
سلطتهم في البلاد التركية المحضة بأن يجعلوها كأمة من أمم أوربا في جميع
شؤونها وأطوارها، وإذا هم سلكوا هذا المسلك وارتقوا هذا الارتقاء الجنسي على
الطريقة الأوربية، فلا يمكن أن يكون لهم نفوذ وسلطان في سائر العالم الإسلامي،
وهذا سبب من أسباب التنازع المستمر بين مولانا السلطان عبد الحميد وبين النشء
التركي الجديد والحق فيه معه، وإن كان لهم وجه من طرف آخر، وهو طلب تقييد
السلطة بالشورى والشرع والقانون، وإن لي صديقًا من غير هذه البلاد كان ولا
يزال يقول إن الترك لا ينقرضون، ولا بد أن تكون لهم دولة منتظمة في بلاد
الأناضول.
وقال آخر: إن دولة الترك بقوتها العسكرية، وموقعها الجغرافي، وسلطتها
الدينية لها تأثير كبير في إنعاش قوى المسلمين، سواء أحسنت الاستعمار وحكمت
الديار أم لا، فسقوطها - والعياذ بالله تعالى - يُوقع المسلمين في يأس وقنوط، ولا
يمكن أن يجتمع شملهم بعد ذلك إلا بدعوة إسلامية مؤيدة من الله تعالى كدعوة المهدي
الذي ينتظرونه، وأنى لهم بذلك.
ثم بعد اتفاق الآراء على أن صلاح الدولة خير للمسلمين على كل حال،
خاض القوم في كيفية الإصلاح، فذكر بعضهم رأيًا ربما ينكره الكثيرون بادي
الرأي ويحسبون أنه من الخواطر الخيالية التي تسنح للأذهان في بعض الأحيان،
فيبادر اللسان إلى ذكرها إعجابًا بغرابتها، والصواب أنه رأي تمخضت به الحلوم
لا الأحلام، وولدته الأفكار الصحيحة لا الخيالات والأوهام، وإنني أعرف من دون
أصحاب سامرنا الذين وافقوا قائله عليه رجلين من أعلم الناس بالعلم الاجتماعي
جزما بصحته جزمًا، وقالا بوجوبه حتمًا.
ذلك الرأي هو تغيير عاصمة السلطنة، واستحسن صاحب الرأي أن تكون
العاصمة مدينة بورصة، وقال إن تغيير البيئة (الوسط) يُسَهِّل على الدولة سبيل
الخروج من كثير العادات الضارة والتقاليد التي أرهقتها من أمرها عسرًا، وقد
اعترض بعض السمار على هذا الرأي فأجابه غير واحد بما أقنعه.
أما القسطنطينية العظمى فيجب حينئذ أن تكون معسكر الدولة الأكبر، وينبوع
قوتها الأغزر، حفظًا لموقعها الحربي، وأمنًا عليها من اختلاف العناصر وكثرة
الأجانب، وأما ما في قصور السلاطين من الذخائر وآنية الذهب والفضة ونحو ذلك
فيجب أن يباع منه كل ما لا يُعَدُّ من الآثار التاريخية التي في حفظها فائدة،
وتستعين الدولة بذلك على الإصلاح الإداري والحربي؛ فإن الشرف الحقيقي خير
لها من الشرف الوهمي.
استحسن إخواننا السامرون أن نعرض هذا الرأي في المنار على الباحثين في
الإصلاح، فعرضناه لتصقله الأفكار وتستنبط فوائده القرائح حتى إذا ما عنت
الفرصة المناسبة لإنقاذه توجهت إليه النفوس، وطالبت به الناس عن بينة وبصيرة
ولسنا نعني أن هذه الانتقال هو عين الإصلاح؛ وإنما نريد أنه مقدمة من مقدماته
ربما ترتقي إلى أن تكون شرطًا يلزم من عدمه عدم الإصلاح، ولا يلزم من وجوده
وجوده؛ وإنما يسهل سهولة كبرى تكاد تكون سببًا، وإننا نعرض على الأفكار
ثلاث فوائد إجمالية، ونكل التفصيل فيها إلى أفكار الباحثين:
(الفائدة الأولى) : البعد عن تأثير الأجانب وسيطرة السفراء وافتياتهم،
وهذه الفائدة لا يعرفها حق المعرفة إلا الواقف على أحوال الآستانة وأحوال بلاد
الأناضول، بحيث يفرق بين طبيعة البيئتين، فمن كان يهمه هذا الأمر فليبحث عنه
حتى يصيب المطلوب منه، ولعل بعض الباحثين يقول بعد التأمل أن يجب أن
تكون العاصمة أبعد عن البحر من بورصة، وأشد إيغالاً في البلاد الإسلامية.
(الفائدة الثانية) : الاقتصاد في المال؛ فإن حال أهل الآستانة وتقاليد البيت
السلطاني وتقاليد الحكومة تقتضي نفقات عظيمة تذهب بالجزء العظيم من بيت المال
ولا سبيل إلى تخفيف ذلك إلا بالانتقال إلى عاصمة أخرى.
(الفائدة الثالثة) : ترك التقاليد والعادات والرسوم الضارة والاقتصاد في
الأعمال؛ فإن كثيرًا من هذه التقاليد حكمت به طبيعة البيئة ومجاراة الغربيين الذين
يمازجون الأتراك أشد الممازجة في هذه المدنية الأوربية، ولا يمكن التفصي منها
إلا بمغادرتها إلى بيئة لم يستحوذ عليها التنوق في الترف، والتغالي في تقاليد
المدنية الأوربية، وحسبنا الآن هذا التنبيه والله الموفق.
__________(4/921)
الكاتب: إسحاق طيلر
__________
الإسلام والمسلمون
المقالة الثانية للقس إسحاق طيلر
كتبها بعدما جاء مصر ليختبر حال المسلمين؛ إذ قيل له إنه مبالغ في مدح
دينهم ونشرتها جريدة (سنت جمس غازت) الإنكليزية تحت العنوان المذكور
بتاريخ 18 أفريل سنة 1888.
إني ذهبت إلى مصر أحد أقطار الإسلام ومقصدي الوحيد أن أطلع في ذلك
المكان على الأعمال المجموعة في القرآن من الآداب والأخلاق والتقوى والمعرفة،
وأعلم بقدر الإمكان ما هي العقائد الحقيقية المتعلقة بالمسلمين ذوي التربية. ما لقيت
مانعًا لمقصدي هذا؛ لأني لم أكن مجاهدًا لأربح تلامذة. أقول الحق: إن المسلمين
تأثروا بما يتهمون به عنادًا، وإن أمرهم الظاهر قد شُبِّه على النصارى، فكيف
نحكم نحن معشر النصارى عليهم بالكفر بعد أن نسمع قولهم لنا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) ؟ لماذا
يسألوننا تسلطت على قلوبهم حزازة أبدية كهذه (كذا) .
إني أقر وأعترف بأني تعجبت غاية التعجب لما رأيت المسلمين راضين بأن
يتكلموا معنا عن موضوع عقائدهم، وحاضرين للاعتراف بذنوبهم، قال لي أحد
علماء الإسلام الذي هو عالم بكتابنا وبالقرآن ككثيرين من أمثاله: (نحن لا نرى
من المعصية البحث في الدين، بل هو محبوب عندنا؛ لأن الحق إنما يظهر به
ويتبين الرشد من الغي) تعالوا نبحث في هذه المادة حتى تروا في أي شيء نوافقكم
وفي أي شيء نخالفكم، عسى أن لا يكون إصلاح ذات البين أمرًا صعبًا، لا
ريب أنه حدث عندنا ما كان يجب علينا تركه؛ لأنا زدنا أشياء كثيرة على ديننا
الطاهر الموجود في كتابنا الإلهي، كذلك فعلتم أنتم من قبلنا حتى انقلبت الأمور
عليكم من تهاونكم في حفظ الدين عن الشوائب، أكثر عقائدنا الاعتيادية وأعمالنا
ليس لها سند من القرآن أكثر مما للنصارى في أناجيلهم من السند بالنسبة إلى
سجودهم للتماثيل، وعبادتهم لمريم عليها السلام، إن رجعنا إلى خالص تعليم نبينا
صلى الله عليه وسلم كما في كتاب الله، ورجعتم إلى خالص تعليم عيسى عليه
السلام وحوارييه كما في الإنجيل الأصلي، فلا نجد ما يفرق بيننا وبينكم، مسيحيتكم
السابقة ليست مردودة عندنا؛ ولكنا نعتقد أن تعليمات عصر عيسى عليه السلام
والحواريين غشيتها الأباطيل منذ أيام قسطنطين الأول، ورفض تلك الأباطيل
واجب، سيأتي زمان تترك فيه هذه المفاسد كلها، ويبقى على الأرض دين واحد
خالص، كل إنسان يقدر على قبوله.
إني قبل ذلك كنت قد رأيت القبط في عبادتهم لمريم واعتكافهم للتماثيل الذين
يتعلم منهم المسلمون المصريون عقائدهم المخصوصة المتعلقة بالمسيحية؛ ولذلك
ظننت أن صديقي كان مدركًا لقضيته وحسب. إن الإنكليزي المتمدن بالنسبة إلى
المسلم العاقل مشابه للقبطي الجاهل. لا يدخل في العقل أن نترقب أن المسلمين
سيتركون عقائدهم وصور عبادتهم التي تربوا فيها بمحض أمرنا وإرادتنا ويقبلون
رسومات مرسلي النصارى الضيقة، الذين يجتهدون أن يردوهم عن دينهم إلى
إحدى العقائد المتناقضة الموجودة بين الرومانيين أو البروتستانيين، المسلمون
يسهل عليهم أن يقبلوا كتب العهد الجديد أو الأناجيل؛ لكن لهم الحق كالبروتستانيين
في أن يفسروا أو يؤولوا تلك الكتب كما يشاؤون، وهم يرفضون رفضًا تامًّا كل
صور العقائد المخترعة، كالبنود التسعة والثلاثين المتعلقة بالكنيسة الإنكليزية،
واعتراف الكنيسة الوستمنسترية، أو القضايا المثلثة الأسنان وأمثال ذلك.
كل مسلم يؤمن بالله الواحد القهار، النافذ أمره في السماء والأرض، وبرسالة
عيسى عليه السلام الملقب عندهم بالمسيح ومعجزاته، ويؤمن بوجوب الصلاة،
وببقاء النفس في الآخرة، إما في الرحمة وإما في العذاب، وبإلهامية الكتب المنزلة
من قبل، أمة محمد صلى الله عليه وسلم متقية جدًّا، وبعض أدعيتهم وصور
مناجاتهم حسنة للغاية؛ حتى إنه لا يمكن لأحد من المستحقرين أن يجد فيها كلمة
واحدة يعترض عليها، وهي أقل صعوبة لكثيرين منا يوافقونهم فيها من بعض
الأدعية الشفاهية البروتستانية لله، أو الصلوات الرومانية لمريم، خذ الفاتحة مثلاً
لك، وهي دعاء يدعو بها المسلمون ربهم وقت الصلاة، أو اقرأ هذا الدعاء اللهم
انصرنا وارحمنا واهدنا إلى الصراط المستقيم، إنا نؤمن بك ونتوب إليك ونستعينك
ونتوكل عليك، ونقر بأنك أصل الخيرات كلها، إنا نشكر لك ولا نزال نرى آلاءك
علينا، لك نسجد ولا نمشي مع الذين يخالفون إرادتك، اللهم إياك نعبد وأمامك
نركع، وبين يديك نقدم صلواتنا وتسبيحاتنا، نسألك من رحمتك، ونخاف من
غضبك الجدير به المسيئون [1] ، دعاء آخر يسمى عندهم دعاء داود النبي وهو هذا:
(رب هب لي من محبتك، هب لي أن أحب الذين يحبونك، أوزعني أن أعمل
صالحًا ترضاه، اجعل محبتك أحب إلي من نفسي وأهلي، وأعز من الغنى، وألذ
من الماء البارد) لا يصعب أن يُؤلَّف من صحف أدعية المسلمين كتاب صلاة، إن
لم يذكر مأخذها يكون مقبولاً في البلاد المسيحية.
إن كل عقيدة من العقائد الإسلامية قد أخذ بها بعض الأحزاب المسيحية
والمؤلفين المسيحيين، مثلاً المسلمون كلهم من دون مضايقة لا يقدرون أن يقبلوا
توصيف الله الموجود لدى الكنيسة الوستمنسترية، واعتقاده بمسألة التقدير واقتدار
الله تعالى كاعتقاد القسيس كالفين في ذلك، ورأيهم في المؤاخاة الإيمانية عين رأي
الوسليين، وفي مسألة القداسة والكهنوت أو الإمامة هم يشابهون الهزهازيين ومستر
بريت، وفي مسألة التثليث رأيهم كرأي الموحدين منا ومستر شمبرلين، وفي
العشر والزكاة مذهبهم مذهب لورد سلبورن ومستر برست فوردهوب، وعقيدتهم
في الوحي والإلهام عين عقيدة الحبر الشستري، وأفكارهم في عذاب الآخرة كأفكار
دوكتر بوسي، وبالنسبة إلى داومه يميلون إلى عقيدة أرشديقوذ فراد وهم أسرع من
بعضنا في قبول عقائد دوكتر كمينك في مجيء عيسى الثاني، أو في قبول عقيدة
القسيس بودي في أعمال الملائكة في الأرض، لهم الوفاق التام مع أحسن الإلهيين
الإنكليز في أن المقصود من الصلاة ليس أن نتبع إرادة الله لإرادتنا، بل إرادتنا
لإرادته، إن مرسليهم ودعاتهم وهم أكثر شرفًا من جند النصرة بيننا كحزب
الجنرال بوذيناون بتعليم واحد مخصوص، وهو الخلاص بالإيمان، ويصرفون في
إيجاب عمل واحد وهو الامتناع عن السكر، ما من عقيدة من عقائد الإسلام إلا
ونراها قد تمسك بها بعض الذين يسمون عندنا مسيحيين، وما يمكن أن نرى أحدًا
من المسلمين قد تمسك بمفتريات أو أباطيل كثيفة كالموجودة بين فلاحي جنوبي
إيطاليا.
في المسائل المختلف فيها بيننا وبينهم يستدل المسلمون لها بالكتب المقدسة
العبرانية في إثبات حقية عقائدهم وأعمالهم، مثلاً هم يثبتون إباحة تعدد الزوجات
وأخذ الإماء الواردة في القرآن بما فعل داود وسليمان ويعقوب وإبراهيم والأنبياء
العظام أولو الاحترام عليهم السلام، وإن لمتهم على الاسترقاق أجابوك
كالأمريكانيين المستعبدين في أيامنا، أن ذلك غير منهي عنه حتى في الأناجيل؛
لأن فليمون كان مالك عبد أبق منه إلى القديس بولس وهو رده إلى مولاه، وكان
يأمر العبيد أن يكونوا خاضعين لسادتهم؛ لكنهم مع كونهم مستمسكين بتعدد
الزوجات وبنكاح الإماء والاسترقاق لأنها غير منهي عنها في القرآن والتوراة وكذا
الإنجيل، فعدد كثير منهم يعتقدون بالجزم أنها غير مفيدة، أي لعدم تحقق شروط
إباحة تعدد الزوجات الآن من العدل بينهن والتسوية إلخ.
أما الحروب المقدسة الأولى التي حصل منها ظفر المسلمين، فهم يبرهنون
عليها محتجين بما فعل بنو إسرائيل في فتح كنعان ويسألوننا: أما كان الخلفاء أرحم
من يوشع بن نون عليه السلام أو من صموئيل النبي عليه السلام حين أمر بقتل
أجاج والعمالقة، أو من إلياس النبي عليه السلام إذ قتل أربعمائة وخمسين كاهنًا
لبعل، وإن اعترضت عليهم أن هذه الوقائع إنما هي مذكورة في تاريخ اليهود
أجابوك بأن تاريخ النصارى لا يخلو أيضًا من الحروب الدينية، أو أن الدين
المسيحي انتشر بالسيف، يصعب على الإنسان أن يجد في تاريخ الإسلام ما يساوي
استئصال الجبليين على يد البوسطانيين أو تعميده الإجباري لسبعين ألف وثني في
آسيا الصغرى، أو نأتي إلى زمان أقرب ونقول لا يمكن أن يلام الإسلام على
تعديات فظيعة، مثل ما ارتكب أينوسنت الثالث على الألبيجيين، أو كقتال سنت
برتالمو أو كمحاربات شارلمين الاستئصالية للسكسونيين، أو كإجلاء المغربيين
والمورسقين من أسبانيا، أو كتعديات الأعصر الوسطى على اليهود، فلتقس قتل
الصليبيين لعشرة آلاف من المسلمين حين سخَّروا تلك البلدة، أو قتل سبعين نفسًا
من المسلمين حين فتح كودفري دي بوليون لأورشليم بالرحمة التي أظهرها عمر بن
الخطاب رضي الله عنه حين فتحها المسلمون أول مرة، أو حينما استردها صلاح
الدين من الصليبيين ثاني مرة، ما أكبر الفرق! المسلمون يدَّعون - وأنا أفتكر أنهم
على الحق - أن تواريخهم أقل تلويثًا بالدماء من تواريخ النصارى، وإن قلت إن
الصليبيين قد مضى تاريخهم قالوا وكذا مضى تاريخ الهلاليين.
لكن هذه المسائل التي فاتت فوت العمد من فكر القسيس مكوم مكول نتركها له
أن يشتغل بها في مقالته الآتية التي سيكتبها في الإسلام والتمدن في جريدة
كونتمبوري، أنى أقر بأني أحب كثيرًا أن أكون حاضرًا حين وقوع البحث بين ذلك
المجادل الماهر وبعض خلاني المسلمين الذين لا يكونون أقل مهارة منه، ولا أدنى
علماء الشرف المقسوم في ظني متوقف على فصل القاضي بين الخصمين.
هناك تهمة أخرى وهي أن الإسلام غير متقدم؛ لكن هذا شيء يمكن القول به
في حق كل الأديان الشرقية، وهي مسألة جنسية أو إقليمية لا دينية، الكنيسة
القبطية أبطأ في تقدمها من الإسلامية، كتب صلواتهم وسبك عبادتهم وترتيب سعيهم
هي عين ما كان في القرن الثالث من دون أدنى تغير، في ظني أن التقدم بين القبط
هو أقل جدًّا مما حصل بين المسلمين، ومثل ذلك يقال في الهنود وأصحاب بدها
وأتباع كونفوشيوس وغيرهم، لعل أهل الشرق مبرؤون من حرصنا؛ لكن القسيس
ملكوم مكول لا يحسب هذا شيئًا وينسب الفرق إلى الدين، ويوضح الكل بفرضه أن
كل تقدم للمسلمين خارج عن دائرة القرآن نوع من الكفر - أي على زعمه - سلَّمنا
أن هذه عقيدة القسيس ملكوم مكول؛ لكنها ليست من عقائد المسلمين أنفسهم، هم
يقرون علانية أنهم كسائر الشرقيين متأخرون في اكتساب العلوم الجديدة؛ لكنهم
يفتخرون بتلك النهضة العلمية المتعلقة بأيام العرب المضيئة، والرغبة إلى التقدم
والتربية عندهم من النوادر.
إن شيخ مدرسة الأزهر الذي مقامه كمقام الويس شنسلر في مدارسنا الكلية
سأل وزير المعارف في مصر حديثًا أن يهيئ وسيلة لتربية ألف ومائتين من تلامذة
العلوم الإلهية في الفنون الدنيوية، سمعت من محمدي عالم كان مدرسًا في إحدى
مدارس الحكومة أنه ذات يوم أعلن في بعض الجرائد الوطنية أن له النية أن يُعطي
درسًا لبعض تلامذة مدرسة الأزهر، وفي أسبوع واحد جاء أكثر من ستمائة طالب
يستأذنونه بالدخول في الصف.
لعل التعليم الأنفع لهؤلاء التلامذة معرفة التواريخ؛ لكن الصعوبة في هذه هي
عدم وجود كتب متينة صالحة تحكى عن الدينيين بروح الإنصاف والمحبة، سألت
يومًا تلميذًا من تلامذة الأزهر هل قرأت كتب التواريخ؟ قال نعم عندي كتاب لكني
لا أحبه، قلت له لماذا؟ أجاب لأنه يتهضم نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله
الباطل إنه كان مفتريًا، ظهر أن الكتاب كان عمل بطرس بادلي وهب له من أحد
المرسلين الأمريكانيين فلا عجب أنه لم يحبه، هل نحب نحن أن يهب المرسلون
الإسلاميون كتبًا لتلامذة مدارسنا الإلهية مكتوبًا فيها أن مؤسس بنيان المسيحية كان
مفتريًا.
إني أترك لمقالتي الآتية بيان المذاكرة في موضوع دين المسيح وذكر رغبة
كثير من المسلمين في إصلاح الحال، حتى قال لي أحدهم لا يبعد أن يحصل بين
المسيحيين والمسلمين مودة تامة، وتماس بأيدي الصداقة والأخوة وزوال أسباب
الحرب إن شاء الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسحاق طيلر
__________
(1) هكذا عربت عبارته الإنكليزية، والظاهر أنه أخذ هذا من دعاء القنوت المأثور وهو: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق) نحفد: نسرع، وملحق - بكسر الحاء - بمعنى لاحق، وإنما أوردته لأنه أشتهر عند بعض أصحاب المذاهب دون البعض.(4/925)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القضاء في الإسلام
الترغيب والترهيب
قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في
النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق وجار في
الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) [1] ومَن أجدر
بالنار ممن يقضي بغير الحق، فيضيع على الناس حقوقهم بجهله أو بهواه؟ والحق
هو ما كان عليه الأمر في نفسه، فالمبطل من الخصمين من يخفيه، والمحق من
يطلب إظهاره. وإصابته في الحكم هي العدل، فالحق والعدل لا يعرفان من كلام
المصنفين والمؤلفين؛ وإنما كلام العلماء يبصر القاضي ويهديه إلى طريق الحق،
وهو يصل إليه باجتهاده وتحريه وتوفيق الله تعالى، واستدلوا بالحديث على أن
القاضي لا يكون إلا رجلاً.
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله ألا تستعملني،
قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم
القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) [2] وفي حديث
آخر أنه قال له: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب إليك ما أحب لنفسي لا
تَأَمَّرن على اثنين ولا تَوَليَنَّ على يتيم) [3] في الحديث دليل على أن الضعيف لا
يُولَّى القضاء. والضعف على إطلاقه، فيشمل ضعف الرأي وضعف العزيمة
والإرادة وضعف النفس بأن يكون ممن يغلب عليه الخجل والحياء من الصدع بالحق
أو يكون سريع التأثر والانفعال قريب الانخداع، ومن الضعف أن يكون مهينًا
عند الناس غير محترم ولا موقر لحال فيه تقتضي ذلك كالإفراط في الدعابة والإلمام
بالخسائس والمحقرات.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من جُعِل قاضيًا بين الناس فقد ذُبح بغير
سكين) [4] الحديث تمثيل لخطر المنصب وحرج الموقف؛ فإن القاضي إذا جار وظلم
كان له الخزي وسوء الأحدوثة في الدنيا، وسخط الله وعقوبته في الآخرة، وإن عدل
أسخط نصف المتقاضين كما قيل:
إن نصف الناس أعداء لمن ... وُلِّي الأحكام هذا إن عدل
هكذا حمل أكثر العلماء الحديث على التنفير من القضاء وبيان الخطر فيه،
وقالوا: إن قوله (بغير سكين) تهويل للذبحة وبيان لشدتها؛ لأن أهون الذبح ما كان
بسكين، فإن كان بمحدد آخر كالظرَّان كان أشبه بالخنق وسخروا من قاضٍ قال إن
ذلك إشارة إلى الرفق وإراحة المذبوح، ولهذا الحديث وأمثاله كان أهل الدين
والورع من السلف يتحامون القضاء ويفرون منه، فكان ذلك سببًا في جعل هذا
المنصب العظيم في أهل الطمع والدهان للأمراء والسلاطين، وكانت هذه السنة من
أقتل أمراض المسلمين، وأفتك أدوائهم في الدنيا والدين.
وحمل أبو العباس أحمد بن القاص الحديث على جهاد النفس وترك الهوى،
وقال: إنه لا يفيد كراهية القضاء وذمه، واستشهد لذلك بأحاديث ذكر فيها الذبح
وأطال في بيان ذلك، وأيده بما ورد في تعظيم شأن الحكم بين الناس في الكتاب
والسنة، وأنه وظيفة الأنبياء عليهم السلام وذكر من وَلِيَ القضاء من الصحابة
عليهم الرضوان، ولا حاجة إلى هذا كله في تأويل الحديث؛ فإن الترهيب له أهل
وقد علم قاضي الجنة من قاضي النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى
نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده) [5] وفي حديث الصحيحين الوارد
في مطلق الإمارة لم يشترط الإكراه عليها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (يا عبد
الرحمن بن سمرة لا تسأل عن الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها
وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) وهذا الإطلاق هو الظاهر، وتؤيده الرواية
الأخرى؛ لأن الذين يتهافتون على القضاء والإمارة هم الذين يبتغون بالمناصب
المال والجاه، لا إقامة العدل وتعزيز الحق؛ ولذلك يطلبونها بالشفعاء، وقلما يسأل
المستعد للشيء الطالب للحق شفيعًا يوصله إليه؛ لأنه يعتمد في الغالب على
استعداده، إلا إذا كان في أمة وحكومة ضاع الحق بينهم، وحينئذ يفضل البعد
والهرب من المناصب غالبًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله مع القاضي ما لم يَحِفْ عمدًا) [6] وقال
صلى الله عليه وسلم (إن الله مع القاضي ما لم يَجُر، فإذا جار تبرأ الله منه ولزمه
الشيطان) [7] ونكتفي بهذا القدر من أحاديث الترغيب والترهيب، فمقام القضاء
مقام رفيع، وعلى قدر الارتفاع يكون خطر السقوط، وسيأتي بآدابه وأحكامه في
الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن بريدة، وله ألفاظ أخرى.
(2) رواه أحمد ومسلم.
(3) رواه أحمد ومسلم.
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن - إلا النسائي - عن أبي هريرة ورواه غيرهم أيضًا.
(5) رواه أبو داود والترمذي عن أنس، وقال حسن غريب وفي رواية (واستعان عليه) بدل (وسأل فيه الشفعاء) ، وبدل كلمة (الإكراه) (ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه) ويشهد لها حديث الصحيحين.
(6) أحمد عن معقل بن يسار والطبراني عن ابن مسعود.
(7) الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن أبي أوفي.(4/937)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خبر سلمان الفارسي وإسلامه
رضي الله عنه [*]
روى ابن أبي شيبة في مسنده عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: (كنت من
أبناء أساورة فارس، وكنت في كُتَّاب ومعي غلامان، وكانا إذا رجعا من عند
معلمهما أتيا قسيسًا فدخلا عليه فدخلت معهما، فقال ألم أنهكما أن تأتياني بأحد،
فجعلت أختلف إليه حتى كنت أحب إليه منهما، فقال لي إذا سألك أهلك عن حبسك
فقل معلمي، وإذا سألك معلمك فقل أهلي، ثم إنه أراد أن يتحول فقلت له أنا أتحول
معك فتحولت معه، فنزلت بقرية فكانت امرأة تأتيه، فلما حُضِر [1] قال يا سلمان
احضر عند رأسي، فحضرت عند رأسه فاستخرجت جرة من دراهم، فقال صبها
على صدري، فصببتها على صدره فكان يقول: ويل لاقتنائي، ثم إنه مات فقلت
للرهبان من لي برجل عالم أتبعه؟ فَدَلُّوني على رجل فأتيته، فقلت ما جاء بي إلا
طلب العلم، قال فإني والله ما أعلم اليوم رجلاً أعلم من رجل خرج بأرض تيماء
وإن تنطلق الآن توافقه وفيه ثلاث آيات: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وعند
غضروف كتفه اليمنى خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة لونها لون جلده، فانطلقت
حتى مررت بقوم من الأعراب فاستعبدوني فباعوني حتى اشترتني امرأة من المدينة
فسمعتهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت لها هبي لي يومًا، قالت نعم
فانطلقت فاحتطبت حطبًا فبعته وصنعت طعامًا، فأتيت به النبي صلى الله عليه
وسلم وكان يسيرًا، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا، قلت صدقة، فقال
لأصحابه (كلوا) ولم يأكل قلت هذا من علامته، ثم مكثت ما شاء الله أن أمكث،
ثم قلت لمولاتي هبي لي يومًا قالت نعم فانطلقت فاحتطبت حطبًا فبعته بأكثر من
ذلك، وصنعت طعامًا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه
فوضعته بين يديه فقال ما هذا؟ قلت: هدية، فوضع يده فقال لأصحابه (خذوا
بسم الله) وقمت خلفه فوضع رداءه فإذا خاتم النبوة، فقلت أشهد أنك رسول الله قال:
(وما ذاك) فحدثته عن الرجل، ثم قلت: أيدخل الجنة يا رسول الله فإنه حدثني
أنك نبي قال: (لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة) .
وفي كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار المنسوب للشيخ محيي الدين بن
عربي بعد ذكر الأسانيد ما نصه:
(عن ابن عباس قال: حدثني سلمان قال كنت رجلاً فارسيًّا من أهل
أصبهان من قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان في قريته، وكنت من أحب الخلق
إليه، فما زال حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، وكنت قد
اجتهدت مع المجوسة حتى كنت قَطِنَ النار أوقدها لا أتركها تخبو ساعة اجتهادًا في
ديني، وكان لأبي ضيعة في عمله، وكان يعالج بيتًا له في داره، فدعاني فقال:
أي بني إنه قد شغلني بنياني كما ترى، فانطلق إلى ضيعتي هذه ولا تحتبس علي؛
فإنك إن احتبست علي كنت أهم إليّ من ضيعتي ومن كل شيء، وشغلتني عن كل
شيء من أمري، قال فخرجت أريد الضيعة التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من
كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس
لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يفعلون،
فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، فقلت والله هذا خير من الدين
الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غابت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها
ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين فقالوا بالشام.
قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي فشغلته عن عمله كله، فلما جئته
قال يا بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال قلت: يا أبي مررت بناس
يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى
غربت الشمس، قال أبي: أي بني ليس في ذلك الدين خير، بل دينك ودين آبائك
خير، قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا، قال فخافني وجعل في رجلي قيدًا ثم
حبسني في بيتي.
قال: وبعثت إلى النصارى، فقلت إن قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني،
فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني قلت إذا قضوا حوائجهم
وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أعلموني بهم، قال فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت
معهم حتى قدمت الشام، قلت من أفضل هذا الدين علمًا؟ قالوا الأسقف في الكنيسة،
فجئته فأعلمته أني قد رغبت في هذا الدين وأكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم
منك وأصلي معك، قال فافعل وادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم
بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئًا كنزه لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا
فما لبث أن مات فعرَّفت النصارى بأمره، قالوا وما علمك بذلك، قلت أنا أدلكم
على كنزه، فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وفضة ووَرِقًا،
فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه وصلبوه، ثم رموه بالحجارة.
ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً في ملته أفضل منه،
وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا، قال فأحببته حبًّا لم
أحب شيئًا كان مثله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان إني
كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحب شيئًا كان قبلك مثله، وقد حضرك ما ترى من أمر
الله تعالى فإلى من تأمرني ألحق به، قال يا بني والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما
كنت عليه، لقد هلك الناس وبدَّلوا كثيرًا ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل وهو
فلان، وهو على ما كنت عليه فالحق به، فلما غُيب لحقت بصاحب الموصل فقلت
يا فلان إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال
أقم عندي فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات
فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانًا أوصاني إليك وأمرني باللحوق بك، وقد
حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصيني؟ قال: والله إني ما أعلم رجلاً على ما
كنت عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به، فلما مات وغُيب لحقت
بصاحب نصيبين، فجئته وأخبرته خبري وما أمرني به صحابي، فقال أقم عندي
فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت معه فكان خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به
الموت، فلما حضرته الوفاة قلت يا فلان إن فلانًا أوصاني إلى فلان وأوصاني فلان
إليك فإلى من توصيني وما تأمرني، قال أي بني ما أجد أحدًا بقي على أمرنا آمرك
أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل أمرنا، فإن أحببت فائته
فلما مات وغُيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال أقم عندي فأقمت
عنده فوجدته خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم.
قال: ثم اكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله تعالى فلما
حضرته الوفاة قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ثم أوصاني
فلان إلى فلان ثم أوصاني فلان إليك فإلى من توصيني وتأمرني، قال أي بني والله
ما أعلم على ما كنا عليه أحدًا من الناس آمرك أن تأتيه؛ ولكن قد أظلك زمان نبي
هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين الحرتين بها
نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة،
فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي من كلب
تجار فقلت أتحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري هذا وغنيمتي هذه،
فأعطيتهم إياها وحملوني معهم، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني وباعوني
من رجل يهودي، فكنت عنده ورأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصفه
لي صاحبي، فبينما أنا كذلك إذ قدم ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني
منه وحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت
بها وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر على
ما أنا عليه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فبالله إني لفي رأس عذق لسيدي
أعمل فيها بعض عمله، وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له فوقف عليه فقال يا
فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن مجتمعون بقبا على رجل قدم عليهم من مكة
اليوم يزعم أنه نبي، قال فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على
سيدي فنزلت عن النخلة، وجعلت أقول لابن عم سيدي ما تقول فغضب سيدي
فلطمني لطمة شديدة، ثم قال لي ما لك ولهذا أقبل على عملك، قلت لأي شيء
أردت تستبين عما قال، وكان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم
ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت المسجد عليه فقلت
له بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء عندي
للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، ثم قربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (كلوا) وأمسك يده ولم يأكل، فقلت في نفسي هذه واحدة.
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا لما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة، فجئته فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي هاتان
ثنتان.
ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد تبع جنازة رجل
من أصحابه عليه شملتان، فسلمت عليه ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى
الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم
استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره،
فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم تحول فجلست بين يديه، فقصصت حديثي كما حدثتك يا ابن عباس،
فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع أصحابه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كاتب يا سلمان) فكاتبت صاحبي
على ثلاثمائة نخلة أجبيها بالفقر، وبأربعين أوقية من ذهب، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (أعينوا أخاكم) فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين، والرجل بخمسة
عشر، والرجل بقدر ما عنده حتى جمعوا ثلاثمائة ودية، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (اذهب ففقرها، فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي) قال ففقرت لها،
فأعانني أصحابه حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم معي إليها فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده الشريفة حتى فرغنا، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت
النخل وبقي علي المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة
من ذهب فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ فدعيت له فقال: (خذ هذه فأدها بما
عليك يا سلمان) قلت ما تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: (خذها فإن الله
سيؤدي بها عنك) فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفسي بيده أربعين أوقية فأوفيتهم
حقهم وعتق سلمان، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق وأحدًا ثم لم
يفتني اهـ.
(تفسير الغريب)
قوله: قَطِن النار قال شمر أي خادمها وخازنها، قال ابن الأثير أراد أنه
كان ملازمًا لها، ويروى بفتح الطاء جمع قاطن، فَقَر الأرض وفقّرها: حفرها،
والفقير: حفير يحفر حول الفسيلة إذا غرست، وفقير النخلة: حفيرة تحفر للفسيلة إذا
حولت لتغرس فيها، وفي الحديث قال لسلمان (اذهب ففقر الفسيل) أي احفر لها
موضعًا تغرس فيه الودية فسيلة النخل جمعها ودي اهـ. لسان العرب والعُرَواء رعدة
تأخذ الإنسان عند الحمى والفزع ونحو ذلك.
(المنار)
أوردنا هذه الرواية بطولها إجابة لرغبة بعض الفضلاء؛ ولأنها
ممثلة للانحراف عن الدين كيف يكون في الأمم حتى يبقى المستمسكون بالحق
معدودين يعرف بعضهم بعضًا على تنائي الدار، ولا يعرفهم سائر الناس
بخصوصيتهم، وفي هذا عبرة للذين يعرفون الحق بكثرة القائلين، إن كانوا بمثله
معتبرين.
__________
(*) ذكرنا في هذه المرة الآثار في غير معنى الأخبار النبوية، وسنعود إلى طريقتنا الأولى في
الأجزاء التالية.
(1) حضر واحتضر - مجهول - أي حضره الموت.(4/940)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
تعليم السباحة وتربية العضلات [*]
(المكتوب 37) من هيلانة إلى أراسم في 14 يوليه سنة 185
لقد زها (أميل) بالمكتوب الذي أرسلته إليه، وأعجب به إعجابًا كثيرًا،
وكان فيما رأيته شديد الحنق من عجزه عن قراءته بنفسه، وهو على انتظاره بلوغ
أهلية الترسل قد طلب إليَّ أن أكتب إليك بما لقفناه من أخبار حادثة الغرق بعد الذي
أخبرناك به، فأقول: قد ابتلي ملاحو السفينة بضروب المحن وأنواع الشدائد، ثم
اخترمتهم المنية فلم يبق منهم إلا واحد أنشأ يستجم ويستجمع ما تبدد من قواه،
وتيسر التفاهم معه بواسطة ربان إسبانيولي يعرف لغته ومما أستفيد من أقواله أن
السفينة الغريقة المسماة (أياكوكو) كانت لرجل من الملاحين في بلاد البيرو [1]
شحنها بضاعة، وقصد بها إنكلترا فما هو إلا أن أحاط بها ريح عاصف من أشد ما
يمكن تخيله من العواصف فأغرقها، ومما يوجب الأسف أن غرق ذلك الرجل
أصبح مما لا سبيل للريب فيه، وقد كان استصحب بنته وهي في الخامسة من
عمرها لأسباب لا تزال طي الخفاء، وكان من في السفينة يدعونها (لولا) وهو اسم
مختزل فيما أظن من دولوريس.
عهدت إلى بعض الناس هنا بمراسلة أهل الفتاة في بلدهم، ولمَّا يجبه أحد
منهم، ويقول الملاحون: إنها فقدت والدتها من بضع سنين، وليس لها أخ ولا أخت
ولم يبق من ذوي قرباها إلا أباعدهم، ويؤخذ من كلامهم أن صاحب السفينة كان
من المثرين؛ ولكن ما أدرانا أن ثروته لم تكن قصورًا في أسبانيا [2] ؛ لأن البيرو
هي أسبانيا وراء البحار.
أثار في نفسي سوء حظ هذه الفتاة عواطف الرحمة والحنان، فأمسكتها حتى
يأتيني فيها أمرك، وأنا على يقين من أن عملي هذا لا يقع منك إلا موقع الرضا،
نعم إني قد لاحظت في أحوالها، وهيأت أفعالها شيئًا من الجفاء والوحشة؛ ولكنني
أرى على هذا الجفاء الصبياني مسحة من الحسن والطلاوة، كما أن وجهها تبدو
عليه مخايل الجمال والنضرة، وهي الآن تعلِّم أميل ما تعرفه من الإسبانيولية على
قلته، وهو أيضًا يعلمها الفرنساوية والإنكليزية، ولا غرو فإن الأطفال يتفاهمون
بالنزر من الكلم أسرع ما يكون اهـ.
(المكتوب 38) من هيلانة إلى أراسم في 17 يوليو سنة 185
إني مع اشتغالي بتربية عقل أميل أرى أن أخص ما يجب الاشتغال به في
سنه هذا أن تُعد فيه لاحتمال متاعب الحياة أعضاء سليمة قوية، من أجل ذلك
تجدني أحثه على ممارسة الرياضات البدنية، والإكثار من قبض عضلاته وبسطها
اختيارًا، واقتحام العقبات التي لا يخرج عن وسعه اقتحامها، نعم إن لي رجاء قويًّا
في أن لا يصير من المصارعين، ولا أحب أن أرى فيه مثالاً صغيرًا لذلك
المصارع الشهير المدعو ميلون دوكرتون وإن أوتيت من أجله أنفس شيء في الدنيا
ولكني أرى أن كل ضعف يلحق الإنسان بدنيًّا كان أو عقليًّا يصير سببًا من أسباب
استعباده.
قد بدت على قوبيدون منذ حين سمات الكدر لكون أميل لا يزال جاهلاً
بالسباحة، ولما كان يفضي إلي بأسفه من ذلك كنت أعترض عليه بأنه لا يزال من
حداثة السن بحيث لا يستطيع أن يمسك نفسه على الماء، وهو اعتراض لم يكن
له قيمة؛ لأنه إذا كان ما يعتري الإنسان من الخوف عند وجوده في مكان مجهول له
هو أكبر العوائق التي تعطل جري حركاته في هذا المكان، فلا يكون تقدمه في
السن إلا من أسباب ازدياد هذا الخوف وقوته، والذي يُستفاد من كلام الزنجي البار
أنه كان يسبح من عهد ولادته، وهو يقصد بذلك ولا شك أنه لا يذكر تعلمه السباحة
كما أنه لا يذكر تعلمه المشي على الأرض؛ لأن هذين النوعين من الرياضة هما
في نظره من الأمور الفطرية، انتفت عني شكوكي ومخاوفي بتأكيده أن لا خطر
على أميل من تعلمه ذلك الفن، وقد رأيت أن من مزاياه تعلمه إنماء العضلات
وتقويتها، وكأنه يوسع مجال حرية الإنسان في حركته ومرحه في برزخ يصل بين
عنصري التراب والماء، وهو فوق ذلك وسيلة من وسائل النجاة، ومن هذه الجهة
يكون تعلمه فرضًا علينا لأنفسنا ونظرائنا، على أنني كنت أعرف في قوبيدون أنه
وإن كان يغلب عليه التهور في تعريض نفسه للخطر، يحرص كل الحرص على
حياة أميل فلا يعرضها لما يخشى منه، ولو سيقت له في ذلك الدنيا بحذافيرها.
يوجد على مقربة منا شبه بحيرة صغيرة ناشئة من اجتماع غدير يصرفه عن
الانصباب في البحر ما يعترضه من الشعاب والكثبان، فرآها قوبيدون موافقة لتعليم
أميل مبادئ السباحة، فأنشأ يعلمه فيها غير متخذ له منطقة من الفلين، ولا مثانة
مملوءة بالهواء، ولا غيرهما من الآلات الأخرى التي تستعمل أحيانًا، إن لم أكن
واهمة لمساعدة قوى المبتدئين في السباحة، ولما كان يقال له في ذلك كان يجيب
بلسانه الساذج قائلاً يجب أن يكون الطفل فلينة نفسه، وأرى أن طريقته في التعليم
سهلة جدًّا على حسب ما تيسر لي من الحكم عليها، فأهم شيء بنيت عليه هو بث
روح الثقة في نفس المتعلم، وقد أكد لي من رآه في وقت التعليم أنه من أجل أن
يكون قدوة في ذلك لتلميذه، كان يستلقي على ظهره في الماء ناظرًا إلى السماء،
سادًّا فاه، متنفسًا بأنفه، وقد برز جزؤه من الماء، فكان لسان حاله وهو في هذا
الوضع يقول لناظريه ها أنتم أولاء ترون أن الإنسان لا يصح أن يغرق، وأنه إذا
غرق بعض الناس؛ فإنما يغرقون مختارين.
لم يلبث هذا الأستاذ أن أبدى كثيرًا من التيه والفخر بتقدم تلميذه، غير أنه
كان يرمي في سبيل نجاحه إلى غاية أبهر من ذلك وأظهر، فكنت أسمعه يهمهم
متهكمًا بالسباحة في البحيرة قائلاً: ما أحسنها من سباحة في مغتسل، دعيني من
البحيرات وحدثيني عن البحر تجدي أذنًا صاغية، فهو الذي يمسك من يسبح فيه
ويسنده ويزيد في قواه؛ ولكني كنت أعارضه وأنهاه عن الذهاب بأميل إليه، وعن
تجربة سباحته فيه لما كان يخامر قلبي من الروع والفزع المنبعث عن المبالغة في
توهم ما عسى أن يكون في ذلك من الأخطار؛ لأني أُكبر هذا الخلق العظيم وأُجله
إجلالاً مشوبًا بالورع؛ فإنه كثيرًا ما اغتال أناسًا في نواحينا، ولا بد أن أقول إن
أميل أيضًا كان يشاركني في هذا الروع بعض المشاركة؛ لأن البحر خلق حي
مضطرب يرتفع ويجذب السابح فيه إليه مصطخبًا، وفي كل صفيحة من صفائح
أمواجه شخص، بل عدو لذلك السابح عامل على إهلاكه، وفي دوام روحات هذه
الأمواج وجيآتها ما يمثل للإنسان اضطراب بحر الأزل بعوالم المخلوقات، ويقوم له
منه أكبر موعظة وذكرى تنبهه إلى ضعفه وعجزه.
لم يطل عهد نفور (أميل) من البحر وخوفه منه، وها أنذا مبينة لك السبب
الذي قمع ذلك النفور، وشرد هذا الخوف فأقول:
إنه يفهم من سجنك معنى مبهمًا، ولم أرد أن أكشف له حقيقة هذا الأمر الذي
يهيج الكلام فيه ساكن آلامي، ويثير كامن أشجاني لسببين، أولهما أنه يصعب عليه
فهم مرادي من الكلام (فماذا عسى أن يفهمه من قولي له إن والدك سجن بسبب
سياسي) وثانيهما أن سوء إدراكه للحوادث التي حصلت قد يبعث في نفسه نقص
فرنسا وعدواتها لذلك تراه قد جره إمساكي عن الخوض في هذه المسألة إلى أن
يخترع لها حكاية يعللها بها، فهو يتوهم أنك أسير في قبضة جنية أو غول أو تنين
وأنك رهين قلعة يحصنها البحر، وربما كان الباعث له على هذا وجوده يومًا ما
فوق صخرة وغشيان المد إياه، وإحاطة الأمواج به إحاطة ذلك الكلب الخرافي ذي
الرؤوس الثلاثة المقول في أساطير الأولين بأنه حارس جهنم، ومهما كان الحامل
على ذلك الاعتقاد؛ فإنه قد وطَّن نفسه على أن يحمل حملته الأولى لتخليصك
مصاحبًا لعزم كعزم أشراف المائدة المدورة [3] أو كعزم شاب باسل قتَّال للوحوش،
غلاب للأغوال على أني لا يسعني إلا اتهام الزنجي الخبيث بأنه زين له أوهامه،
وحبب إليه خداع نفسه ليحمله على مشايعته في آرائه، وموافقته لأفكاره.
دخل علي البيت كلاهما ذات يوم ووجه قوبيدون تعلوه قترة الريبة، وقد غلب
على أميل ما يغلب على كل ظافر بطلبته من الفرح، فلم ألبث أن فطنت إلى المكان
الذي جاءا منه، وهاج غضبي عليهما إلى حد أن صار وجهي أحمر كالجمر
وعنفتهما على مخالفتهما لأمري فلم يتزعزع أميل لهذا الهياج، بل إنه تلقاه بثبات
الشجعان، وأجابني وقد بدا على وجهه من الإصرار ما لم أعهده فيه من قبل، فقال
إني أريد أن أتعلم السباحة لأفكّ والدي من أسره وآتيك به، فما سمعت منه هذه
الكلمات وشاهدت لحظه المعرب عن حرية ضميره وخلوص طويته، ورأيت ثقته
بنفسه المنبعثة عن سذاجته، وعلمت مقاصده النبيلة حتى سكنت ثائرتي، وكفت
بادرتي، فبششت في وجهه بعد العبوس وتبسمت له وضممته إلى صدري وأشبعته
تقبيلاً في جبينه الذي كان لا يزال مندى بماء البحر اهـ.
(م 39) من هيلانة إلى أراسم في 18 يوليه سنة 185
إذا صح ما نشرته الجرائد الإنكليزية، وما ذاع من الإشاعات في الهواء لم
تبق حاجة لأميل في أن يتسلح تسلح الأشراف، ولا أن يطوي البحار ليخلصك من
قبضة التنين الذي يعتقد أنك في أسره؛ لأن الناس هنا يتكلمون بحصول عفو
سياسي، وإني كنت أتمنى أن يحصل لك من الحكومة فوق هذا العفو عمل يكون
جزاء ما لحقك من الضرر، وتحقيقًا لمقتضى الإنصاف؛ ولكني لم أطلب لك شيئًا
من ذلك فلا تعجل بالرفض، واعلم أن قلبي يرقص طربًا كلما فكرت في وقت
التلاقي اهـ.
(م 40) من الدكتور وارنجتون إلى هيلانة.. .
أيتها السيدة
علمت الليلة في لوندرة خبرًا أبادر بإبلاغك إياه، ذلك أن زوجك قد مُنح نعمة
الحرية، وفي الختام لك مني السلام والاحترام اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من كتاب أميل القرن التاسع عشر في التربية والتعليم من باب الولد.
(1) بلاد البيرو، وهي جمهورية في أمريكا الجنوبية عاصمتها ليماو سكانها 3000000 نفس.
(2) يشير بقصور أسبانيا إلى المثل الفرنساوي المشهور، وهو قوله (إن فلانا يبني قصورًا في أسبانيا) يضربونها لمن يتعلل بالأماني الباطلة، ويحلم بإدراك المقاصد الخيالية.
(3) أشراف المائدة المدورة، هم رهط من الأشراف عددهم اثنا عشر يجعلهم كتاب القصص القديمة من رفقاء أرتوس وهو شجاع قصصي من شجعان بريطانيا العظمى.(4/947)
الكاتب: محيي الدين البيروتي
__________
سوانح وبوارح
من نظم الشاعر العصري الأديب الأستاذ الشيخ محيي الدين الخياط البيروتي
ذكرت بالفضاء ربعًا ودارا ... فهي تأبى دون الفضاء ديارا
ذكرت ظعنها فهاجت وهامت ... فهي تأبى التهويم إلا غرارا
خلها للظعين تفري الفيافي ... تقترى أثره وتبري القفارا
هزها الشوق والغرام حداها ... فهي تأبى دون القرار قرارا
نزعت تضمر الرهان بقفر ... هي فيه لن تبلغ المضمارا
ملعب دونه الصوافن حسرى ... مثلما دونه القلوب حسارى
أيها الصافن الجريُّ رويدًا ... صافنات الأفكار ليست تجارى
تبتغي قبة الأثير مجالاً ... لخطاها فاحذر عليها العثارا
يرجع الطرف خاسئًا عن مداها ... حيث لا يدرك المجلّي الغبارا
هي ترجو كشف السرار ولكن ... أين منها أن تدرك الأسرارا
موقف عنده الأنام حيارى ... وسكارى وما هم بسكارى
موقف كم به خواطر شتى ... خطرت وهي ترقب الأخطارا
ولجت في محيط لج فخاضت ... في دجاه الخُضارم الزخارا
ركبت صهوة الفضاء فزلت ... ثم راحت تستصرخ الآثارا
فلكًا دائرًا وشمسًا وبدرًا ... ونجومًا منازلاً أدوارا
روضة من بنفسج عقد الأفـ ... ـق عليها من زهره أزهارا
خيمة من زمرد أو غدير ... سندسي يموج بالشهب نارا
يا لنهر على المجرة يسقى ... نرجس الأفق من سناه جمارا
سرطان يعوم فيه وحوت ... وترى النسر حام يبغي وجارا
ويصب الميزان بالشط منه ... ما عهدنا كنهره أنهارا
والثريا كطائر من نضار ... أو كجام بمحفل الأفق دارا
وسهيل ظمآن يبغي ورودًا ... أو مشوق يستطلع الأخبارا
زُهرة الزُّهر بين ريا الخزامى ... ذكرتنا زهر الربى والعرارا
وكأن الجوزاء شجرة تبر ... حولها الفرقدان طيران طارا
وكأن السماك في رمح نار ... ثار يبغي من الدجنة ثارا
وذُكاء سبيكة من لجين ... في زجاج تذوِّب الأنوارا
وهلال كمخلب من عقاب ... منجل الأفق يحصد الأعمارا
وبنات السماء تحمل نعشًا ... مستديرًا فوق الرؤوس استدارا
رب ورقاء فوق خوطة بان ... جددت لي بسجعها تذكارا
ذكرت إلفها فحنت وأنت ... وتغنت تهيج الأطيارا
أعربت لحنها فكادت بشجو ... وشجون تستنطق الأشجارا
بلسان الزمان تطلب مني ... شرح حالي وحالتيه جهارا
قلت: ذاتَ الهديل هيهات عني ... أن تميطي أو تهتكي الأستارا
حالتي لو عقلتِ يا ذاتَ طوق ... لاختصرت المقال فيها اختصارا
أو تفكرت في المنى والمنايا ... لنسيت الآمال والأفكارا
أبنات الغدير غادرت طرفي ... ذا شؤون ولم يكن غدارا
ردِّدي النوح يا حمام فقلبي ... بين نوح الحمام والوجد طارا
حدثي النفس فالحديث شجون ... عل منك الحديث يشفي الأُوارا
عل منك الهديل يرجع قلبًا ... قُلبًا بالغرام طار فحارا
ليس بدعًا أن حار فالكون هادٍ ... مرشد والأنام فيه حيارى
أمم حالها عجيب ودنيا ... هي منهم والله أعجب دارا
في فيافي الوجود تاهوا قديمًا ... وهم الآن يقطعون القفارا
يعجب الدارس الحقائق عنهم ... وهو يتلو من خلقهم أطوارا
لو يأوبون للضمير جميعًا ... لرأينا الملائك الأبرارا
غرّمنا الأغرار عصر حديث ... سل بالأحداث الظبي والغرارا
ملك اللب حيَّر الأفكارا ... أدهش السمع أذهل الأبصارا
لقَّبوا علمه بعلم الترقي ... صح هذا لو لم ندنسه عارا
شوَّه الله وجه علم علينا ... شوَّه الدين شوش الأفكارا
ليت شعري ماذا جنينا منه العلـ ... ـم وماذا جنى بنوه ثمارا
هل جنينا غير التفنن بالأز ... ياء والبذخ والفجور اختيارا
أم جنينا منه التفنن بالمكسـ ... ـيم والرشاش الذي لا يبارى
بل فقدنا الأخلاق والدين فيه ... وعدمنا عفافنا والوقارا
ولبسنا ثوب الغواني دَرِيسا ... وخلعنا عذارنا للعذارى [1]
أن تُقِر الحرية اليوم هذا ... فابك يا رق واندب الأحرارا
أبهتك الستار سُدنا البرايا ... أم بذات الخمار شِدنا الفخارا
أنماري حكم النواميس جهرًا ... ونواري الحقائق استكبارا
ونساوي من لا يساويه شيء ... أو يساوي الأضداد والأغيارا
أو يعيد الأوضاع وضعًا جديدًا ... أو يخطِّي الوجود والأقدارا
نعرف الداء والدواء ولكن ... لم تراع الأزمان والأدوارا
لم نراع الأخلاق والأطوارا ... لم نراع الأجسام والأفكارا
نعرف الداء والدواء وننسى ... أن داء الأساة زاد انتشارا
نعرف الداء والدواء وننسى ... أن جرح الأساة أمسى جُبارا [2]
نعرف الداء والدواء ونبغي ... أخذه صُبْرة وننسى البوارا [3]
أيُنَاجى من شأنه أن يناغى ... أم يُمارى من شأنه أن يُجارى
أيها العصر أي علمك أجدى ... دعة راحة ذمامًا ذمارا
أنت عصر العلوم لكن عليه ... قذف الجو ريحه إعصارا
لا تُذَم العلوم منك ولكن ... سنذم الآثام والأوزارا
أيها المنكر المكابر عفوًا ... كبرت يُوح بالضحى توارى [4]
إن أردت الدليل دون انحياز ... أبلجا ناصعًا يضاهي النهارا
هذه الناس والشعوب جميعًا ... لك كالدرس فاختبرها اختبارا
وانتخب أعرق الجميع علومًا ... ونفوذًا وسطوة واقتدارا
ثم قابل أعماله والترقي ... بعلوم الأخلاق تلق اعتبارا
غمض حق ونقض عهد وجورًا ... وفجورًا وأُثرة وختارا
لا يرى غيره من الناس إلا ... مثلما يرى الهَصُورَ الفُرارا [5]
كل حكم له شذوذ وخرق الـ ... ـحكم في الخلق سنة لا تبارى
وبحكم المجموع حكم البرايا ... وعليه لا تنكر الأخيارا
حكمت سنة البقاء قديمًا ... أن تجاري الشعوب من كان جارا
وتضحِّى على هياكل ضعف ... هكذا الضعف يقصف الأعمارا
لا تُرَع أيها اليراع فعهدي ... أن تروع المهند البتارا
إن فوق الطروس منك صريرًا ... يستبيل الغضنفر الزارا [6]
وإذا ما جرى خميسك بالخمـ ... ـس يقل العرمرم الجرارا
زعموا الدين والترقي محالاً ... زعموا باطلاً وقالوا كُبَّارا
إن أسفار كل دين دليل ... إن أرادوا فلينظروا الأسفارا
إن آثار ديننا هي فيهم ... إن أرادوا فلينظروا الآثارا
وليُحَيُّوا وسطى القرون وما قـ ... ـبل فقد يحمد السراة السرارا
دار مصر والقيروان وغرنا ... ط وفاس وبصرة عمت دارا
وسمرقند من دمشق وبغدا ... د عليك الديار تبكي الديارا
لعب ذكرنا القديم وهزؤ ... إنما ذكره يعد اعتبارا
ليس يجدي المجد القديم ولكن ... يتأسى من ينشد الأشعارا
__________
(1) الثوب الدريس: هو الخَلِق البالي.
(2) الجُبار: الهدر أي أن جرح الأساة وهم الأطباء لا قصاص فيه.
(3) أخذه صبرة: أي بلا وزن ولا كيل.
(4) يوح: اسم للشمس.
(5) الفرار: البهم الكبار، واحدها فرفور، والهصور: الأسد يهصر فريسته، أي يجذبها ويكسرها.
(6) الغضنفر: الأسد، ويستبيل: يوقفه ليبول، أي يخيفه ويفزعه.(4/951)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(جمعية الكُتَّاب المصرية)
تألفت جمعية من أرباب الأقلام المقيمين في مصر سُميت جمعية الكتاب
المصرية، الغرض منها ترقية الكتابة والأدب ورفعة شأن الكتاب، وقد انتخبت في
إحدى اجتماعاتها لجنة لإدارة شؤونها رئيسها العالم الفاضل سليمان أفندي البستاني،
ونائب الرئيس صاحب هذه المجلة (المنار) وكاتب السر إسكندر أفندي شلهوب
صاحب جريدة الرأي العام الغراء، وأمين الصندوق إبراهيم بك رمزي صاحب
جريدة التمدن الغراء، وباقي أعضاء اللجنة هم محمد أفندي مسعود، وأحمد حافظ
أفندي عوض من محرري جريدة المؤيد الغراء، وأضيف إليهما في اجتماع آخر
داود بك عمون المحامي الشهير، ولا شك أن الكتاب أجدر الناس بالاجتماع الذي
هم دعاته ومرشدو الناس إليه، وقد اتفق رأي الجمعية في اجتماع عام من اجتماعها
على اختيار أعلم العلماء، وأكتب الكتاب الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية رئيس شرف لهذه الجمعية، وعهدت إلى جماعة من الأعضاء بأن يفدوا
على الأستاذ ويعرضوا عليه رغبتهم وكذلك كان، فنسأل الله تعالى أن يوفق هذه
الجمعية لخدمة الأمة والبلاد.
***
(مفتي صيدا)
علمنا أن منصب الإفتاء في صيدا قد أُسند إلى صاحب الفضيلة صديقنا
الأستاذ الشيخ سعد الدين أفندي الصلح الشهير بالاستقامة والدراية، فنهنئه بما هو
الأجدر به، بل نهنئ البلاد بعلمه واستقامته وأدبه.
***
(كتاب أميل القرن التاسع عشر)
قد علم القراء المعجبون بهذا الكتاب ومباحثه العلمية في فن التربية العلمية أن
أراسم هو والد أميل الذي وضع الكتاب في كيفية تربيته على أصول العلم والحكمة
التي انتهت إليها معارف القرن التاسع عشر، وأنه كان مسجونًا بذنب سياسي، وقد
رأوا الآن في المكتوبين الأخيرين المنشورين في هذا الجزء أنه قد عُفي عنه وأُطلق
من سجنه، فبقية مباحث الكتاب في التربية تبرز في الأجزاء الآتية بأسلوب آخر
غير أسلوب المكاتبة بين أم أميل وأبيه، وهي أكثر فائدة مما تقدم؛ لأنه في التربية
والتعليم في سن التمييز إلى سن الرشد ومنها أيضًا مكاتيب أراسم التي كتبها في
السجن ولم يرسلها، وفيها ما تلذ قراءته وتعظم فائدته.
***
(سجل جمعية أم القرى)
كتب في صدر هذا السجل الذي سننشره في المجلد الخامس كما ترى في
الخاتمة ما نصه:
أيها الواقف على هذه المذكرات
اعلم أنها سلسلة قياس لا يغني أولها عن آخرها شيئًا، وأنها حلقات معانٍ
مرتبطة مترقية لا يغني تصفحها عن تتبعها، فإن كنت من أمة الهداية وفيك نشأة
حياة ودين وشمة مروءة فلا تعجل بالنقد حتى تستوفي مطالعتها وتعي الفواتح
والخواتم، ثم شأنك ورأيك، أما إذا كنت من أمة التقليد وأسراء الأوهام بعيدًا عن
التبصر، لا تحب أن تدري من أنت، وفي أي طريق تسير، وما حق دينك ونفسك
عليك وإلى ماذا تصير فتأثرت من كشف الحقائق، ودبيب النصائح، وشعرت بعار
الانحطاط وثقل الواجبات، فلم تطق تتبع المطالعة وتحكيم العقل والنقل في
المقدمات والنتائج فأناشدك الإهمال الذي ألفناه أن تطرح هذه المذاكرات إلى غيرك
ليرى رأيه فيها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
***
(أريحية ومأثرة علمية)
زار الأديب الفاضل جاد بك عيد مدرسة صاحب العزة مصطفى بك خليل
الشهير في فاقوس فسُرَّ من اجتهاد الأساتذة ونجاح التلامذة، فتبرع بإرسال مائة
نسخة من كتاب تفسير الفاتحة والآيات المشكلة في القرآن إلى المدرسة لتوزع على
التلامذة، لما فيها من الفائدة الدينية وتقويم اللغة العربية، ومن علم أن هذا المتبرع
من نابغي الشبان المسيحيين، علم أننا في عصر ترجى فيه الأخوة الحقيقية بين
جميع الشرقيين.
__________(4/955)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز
جرَّأت فوضوية المطبوعات في مصر كثيرًا من الجاهلين على مقام الصحافة
فأنشأوا الجرائد للخوض في أعراض الناس، إلا أن يرضخوا لهم بشيء من المال
وعهدنا بهم النيل من الأغنياء والأمراء الذين يطمعون في أموالهم، ثم انتقلوا إلى
الطعن في العلماء، وبمناسبة ذلك انتقل بعض أهل هذه الحرفة إلى الكلام في بعض
المسائل الدينية عن جهل، ومنهم من زاد على ذلك إيراد بعض آيات القرآن في
مقام الهزء والسخرية، ومثل هذا يحكم العلماء بكفر مرتكبه وخروجه من الإسلام،
وإننا نذكر بعض نصوص فقهاء الحنفية في ذلك:
جاء في شرح الطريقة المحمدية للعلامة الخادمي (ص 171 ج 2) ما نصه:
(قال في الأشباه: الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر) وعن منية المفتي (تخفيف العلم
والعلماء كفر) وعن الخزانة (من أذل العلماء ينفى من البلد بعد تجديد الإيمان) وعن
مجموع النوازل (إهانة علماء الدين كفر) وعن المحيط (إن شتم عالمًا فقد كفر
فتطلق امرأته وهكذا وهكذا) أي ويأتي في حقه سائر أحكام الردة كالقتل إذا لم يتب،
وكتجديد عقد النكاح إذا تاب إلخ، وفي مختصر الفقيه يحيى بن أبي بكر الحنفي،
وهو موجود في دار كتب الأزهر الشريف من الفصل الثالث ما نصه: (ومن أنكر
آية من القرآن أو استهزأ بها، أو قال: ذهبت بجلد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) أو قال أخذت بذيل {الم * تَنزِيلُ} (السجدة: 1-2) أو قال
أنا أقصر من {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} (الكوثر: 1) أو قال لمن يقرأ عند الميت يس لا
تضع في فم الميت {يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ} (يس: 1-2) أو قرأ على ضرب
الدف والبربط وغيرهما من آلات الملاهي - يكفر في جميع ذلك، ولو ملأ القدح فقال
{وَكَأْساً دِهَاقاً} (النبأ: 34) أو أفرغها فقال فكانت شرابًا أو قال عند الكيل
والوزن بطريق الاستهزاء {وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 3)
يكفر، أو قال اجعل البيت مثل {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (الطارق: 1) أو قال تعممت
بعمامة {أَلَمْ نَشْرَحْ} (الشرح: 1) يعني ابتدأت العلم، أو رأى جماعة
مجتمعين فقال بطريق الاستهزاء {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} (الكهف: 47)
يكفر في ذلك كله، ثم قال: ولو تخاصم اثنان فقال أحدهما لا حول ولا قوة إلا بالله،
فقال آخر: لا حول، لا ينفع أو قال: أيش أعمل بها أد حقي - يكفر، ولو قال:
قشرت بجلد سبحان الله، أو سمع الغناء فقال اذكر اسم الله تعالى - يكفر، ولو أكل
طعامًا حرامًا فقال بسم الله يكفر، ولو قال بعد الفراغ الحمد لله، لا يكفر عند بعض
المشايخ، ولو قال عند شرب الخمر وغيرها من المحرمات بسم الله، يكفر بالاتفاق،
ثم قال: أو أذن بطريق الاستهزاء يكفر بالاتفاق.
وقال في الفصل الرابع ما نصه: (ولو قال لو لم يأكل آدم الحنطة ما وقعنا
في هذا البلاء، يكفر عند بعضهم، ولو قال لعلماء الدين: العلم الذي يتعلمه هؤلاء
أساطير وخرافات، أو قال: كل ما يقولون هباء وكذاب أيش أعمل بمجلس العلم لا
يثرد في القصعة - يكفر في ذلك كله) بل شدد بعض هؤلاء الفقهاء في مسألة إهانة
العلم والعلماء حتى قال بعضهم من صغَّر بابوج العلم يكفر، وكل هذا التشديد
العظيم لأجل حماية شرف الدين أن تناله ألسنة الجاهلين، فإذا لم يصح كون مثل
هذا التصغير كفرًا، فلا أقل من أن يكون معصية.
ولم يسلم من هزء بعض الجرائد الهزلية المعروفة قرآن ولا علم ولا دين، ولا
شك أن كل قارئ لهذه الجرائد وكل مشترك فيها وكل مبتاع لها فهو شريك لصاحبها
في الإثم؛ لأن الذي يعين على الشيء كفاعله، وإن كثيرًا من الناس ليفضلون قراءة
هذه الجرائد وإن ملئت بالكفر وقول الزور وثلب الأعراض وإشاعة الفواحش،
ويتحملون مقت الله وغضبه وإفساد أخلاق الأمة لأجل أن يضحكوا عند قراءتها،
ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال: (نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون
ألسنتكم عن النطق به؛ فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء
في إنائه، فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم (وفي الحديث الشريف) وإن الرجل
ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً (وفي رواية: ليضحك بها الناس)
يهوي في جهنم سبعين خريفًا) .
***
خيانة الخدم
رب خادم خائن يؤذي مخدومه الإيذاء الكبير لينال بعض النفع الحقير، وأكثر
من يبتلى بهؤلاء الخدم أهل الاستقامة والتقوى؛ لأنهم لسلامة باطنهم يسلمون لمن
يستخدمونه تسليمًا لا يأتي من سواهم، ومن هؤلاء الرجال الوجيه الفاضل أمين بك
الشمسي الشهير فقد كان ابتلي بكاتب زوَّر إمضاءه وكتب ورقة عن لسانه أخذ بها
خمسمائة جنيه من أحد المصارف في الإسكندرية وضبطته الحكومة في طنطا قبل
أن ينفق جميع المال وحوكم، وقد جرت عادة أمين بك أن يأخذ ورقة إذن من
مصلحة سكة الحديد بالسفر في قطاراتها مدة سنة، وفي ابتداء كل سنة يجدد هذا
الإذن ويدفع عن السنة كلها مبلغًا معينًا لكثرة سفره، وقد جاء في بعض الجرائد من
عهد قريب أن بعض المفتشين رأى أن ورقة الإذن التي في يد سعادة أمين بك
مزورة بتغيير التاريخ من سنة 1901 إلى 1902، ثم ذكرت الجرائد أن مصلحة
السكة الحديدية تبين لها براءة سعادة البيك من هذا العمل، وظهر أنه كان أمر كاتبًا
عنده بالذهاب إلى المصلحة لتجديد ورقة الإذن، فذهب وغيَّر التاريخ وأكل الدراهم
التي أخذها ليدفعها إلى المصلحة، ومن البديهي أن مثل هذا الرجل السليم القلب لا
يخطر في باله مثل هذه الخيانة ليدقق النظر في التاريخ حتى إنه لو لم يغيره بالمرة
لما فطن له، وقد وجد المبلغ مقيدًا في دفاتر البيك المنتظمة في وقته، وقد أعلمت
النيابة بأمر الكاتب ليحاكم ويعاقب على ما فعل.
***
كتاب أسد الغابة
هو للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري
المعروف بابن الأثير لا للحافظ ابن حجر كما ذكر في الجزء الماضي سهوًا.
__________(4/956)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الرابعة
بهذا الجزء يتم المجلد الرابع من المنار، وقد صدرت أجزاؤه في سنة
وشهرين؛ لأن بعضها أُخر عن موعده عمدًا؛ لتوافق أول سنة المجلد أول السنة
الهجرية الشريفة، وقد زاد هذا المجلد عما قبله زهاء مائة صفحة، وقد رأينا أن
نجعل خمسي المنار بحروف صغيرة في السنة الخامسة، وأرينا القراء نموذج في
هذا الجزء وما قبله، وهي زيادة في الفائدة وسعة في المادة.
أما مباحث المنار ومسائله فهي ما رسمناه وحددناه بالإجمال في السنة الأولى،
وفصَّلنا القول فيه بالتدريج تفصيلاً، فقبلة المنار الإصلاح الديني، وإمامه القرآن،
ومذهبه السنة وسيرة السلف الصالحين والأئمة المجتهدين، وهو خصم ألد لجميع
البدع والخرافات والتقاليد والعادات التي ألصقت بالدين، والتَاثَتْ بنفوس جماهير
المسلمين، وفي يقينه أن الشرق لا يصلح إلا بصلاح المسلمين، وأن المسلمين لا
يصلحون إلا بالرجوع إلى سيرة السلف الصالح في دينهم من غير زيادة ولا نقصان
ومجاراة الأمم الحية في دنياهم وأخذهم بجميع فنونها وعلومها وصنائعها،
فالإصلاح الديني هو الذي ينفخ فيهم روح الاتحاد الاجتماعي بعقائده المرقية للعقول
وآدابه المزكية للنفوس، ومجاراة الأمم الحية هي التي تعطيهم قوة مادية يحفظون
بها وحدتهم، ويعززون بها ملتهم، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
ونعد القراء الكرام بأننا سننشر في أجزاء السنة الخامسة مباحث كتاب (أم
القرى) وهو كتاب لم يكتب مثله في الإصلاح الإسلامي، فقد جمعت فيه آراء
جميع المصلحين بقلم حكيم من حكمائهم، وعالم اجتماعي من أفضل علمائهم،
يسمى في الكتاب بالسيد القرآني كاتب سر (جمعية أم القرى) والكتاب سجل
مذاكرات الجمعية في 12 اجتماعًا من اجتماعاتها في مكة المكرمة، وأعضاء
الجمعية أو (مؤتمر النهضة الإسلامية) الذين يحتوي هذا السجل على مذاكراتهم
22 رجلاً، كل رجل نائب عن قطر من الأقطار الإسلامية من المشرق والمغرب،
والأقطاب التي دارت عليها مباحثهم ثلاثة، وهي حالة المسلمين الدينية وحالتهم
الاجتماعية وحالتهم السياسية، وبيان أن أسباب ضعفهم في هذه الأحوال، وما
يعالج به هذا الضعف لإعادة القوة؛ ولكن في القسم السياسي كلامًا لبعض أعضاء
الجمعية في الدولة العلية - أيدها الله تعالى - نحذفه عند الوصول إليه؛ لأنه لا
يؤلم أكثر الناس، ولا ينبغي أن يعرفه إلا الخواص، ولأجل ذلك اغتالت الكتاب
بعدما طبع الأغوال، وأسدلت عليه أستار الليال، وفي آخر الكتاب (قانون جمعية
تعليم الموحدين) التي اقترح المؤتمر إنشاءها وهو مؤلف من 48 قضية، وقد
وعدنا جامع الكتاب بتنقيح النسخة التي سننشرها في المنار، وبإضافة زيادات إليها
هدت إليها الحنكة والاختبار.
وإننا سننجز في السنة الخامسة ما كنا وعدنا به من إتمام مباحث مدنية العرب
ومبحث الكرامات، وسنجيب عن جميع الأسئلة المشكلة الدينية التي سألنا ويسألنا
عنها المشتركون الكرام، ونوسع دائرة المباحث العلمية العصرية بعبارة سهلة، ولا
نزيد في قيمة الاشتراك شيئًا، فكل من قبل الجزء الأول من السنة الخامسة؛ فإننا
نعتبره مشتركًا إلى مدة سنة كاملة بخمسين قرشًا أميريًّا نتقاضاها منه، وإن رد
الجزء الثاني أو شيئًا مما بعده، فمن لم يقبل بهذا الشرط فليرد الجزء الأول إلينا؛
لأن فقد جزء واحد فقد لأجزاء السنة كلها كما لا يخفى، وهذا الشرط عام لطلاب
العلم وتلامذة المدارس ومن كان منهم فقيرًا ويود أن نسمح له ببعض القيمة لفقره
فعليه أن يطلب ذلك منا مشافهة أو مكاتبة قبل صدور الجزء الأول من السنة
الخامسة.
هذا وإننا بعد الشكر لله على توفيقه وهدايته، نشكر لأولئك الفضلاء الذين
وازرونا على القيام بفريضة الدعوة إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
السعي في نشر المنار، وتكثير سواد قارئيه، فقد تضاعف عدد المشتركين في هذه
السنة من غير وكلاء ولا دعاة إلا دعاة الخير؛ لأنه خير، وكثر في هذا الشهر
طلب الاشتراك من السنة الخامسة، وهذا من المبشرات بنمو الحياة الملية في جسم
الأمة، وتحقيق لرجائنا الذي أفصحنا عنه في فاتحة السنة الأولى.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا في السنة الآتية لخير ما وفقنا في
السنين الماضية، وأن يوفق أمراءنا وحكامنا للعدل في العباد وإصلاح حال البلاد،
وعلماءنا للهدي والإرشاد، وأغنياءنا للبذل والإمداد، وأن يوفق الوالدين لتربية
الأولاد، وينفخ في الجميع روح الاجتماع والاتحاد، وسلام على المرسلين، ومن
تبعهم من المصلحين، والحمد لله رب العالمين.
__________(4/959)
المجلد رقم (5)(5/)
غرة محرم - 1320هـ
10 إبريل - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد، فقد تم للمنار أربع سنين ودخل بهذا الجزء في السنة الخامسة. ولم ينس
القراء أن فواتح السنين الخالية وخواتمها كانت تكتب بمداد الصبر والتبرُّم، على
صحائف الأمل والتعلل، لِمَا لقيناه من معارضة أنصار الجهل، ومناهضة الذين
ألفوا الذل، وما تحملناه من مناصبة الظالمين، ومغاضبة المقلدين، مع العناء
الكبير، وقلة العون والنصير.
ولو كان هذا المنار مُنْشأ لأجل الكسب، وابتغاء الرزق، لقوّضته أنواء
المناوأة والمناكدة، ودكته رياح المماكرة والمكايدة. ولو قصد به التوسل إلى
الوظائف والمناصب، والتوصل إلى الرتب والرواتب، لنال منها ما أراد، أو نالت
منه ما تريد. ولو كان الغرض منه الرياء والفخر , وحسن السمعة والذكر , لتلاعبت
به الأهواء , وعبثت به أيدي الزعماء والرؤساء , فأمالته عن الطريقة , وصرفته عن
طلب الحقيقة. كلا والله ما كان شيء من ذلك ولن يكون {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
صرحت في فاتحة السنة الأولى بأنني كنت في هذا العمل بين يأس ورجاء
يحركني الباعثان , ويتنازعني العاملان , وفي خاتمتها بأن غوغاء الناس سلقونا
بألسنة حداد , ورمونا بسهام الانتقاد , ولم تكن السنة الثانية بأمثل من الأولى , ولا
بأقل بلاءً وأكثر قبولاً. وقلت في فاتحة السنة الثالثة: إن المنار قد انتشرت تعاليمه.
ولم أقل: إنه زاد هو انتشارًا. وقلت: إن الكُتَّاب والخطباء قد تداولوا مسائله. ولم
أقل: إنهم كانوا أعوانًا له وأنصارًا , بل صرحت بأنهم كانوا (بين مخطّئ
ومصيّب ومنتقد ومجيب , وهكذا يكون الأمر في أوله وستتجلى الحقيقة للناس إن
شاء الله عن قريب) . وكتبت في فاتحة السنة الرابعة أنه قد نما النمو الطبيعي المقدر
له من أول نشأته (أي: التدريجي البطيء) ولقي صاحبه من الألاقي بعض ما لقي
الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) نعم إننا كنا نمزج هذه الشكوى بشكر العلماء , والاعتراف بفضل
الفضلاء، الذين تقبلوا المنار بأحسن القبول، ورأوه من بواعث إحياء الأمل
وحصول المأمول، مع الإيماء إلى قلتهم، والتبرم من عدم نجدتهم.
هذا مجمل تاريخ المنار من أول نشأته إلى سنته الرابعة التي كان آخرها
خيرًا من أولها وخاتمتها أفضل من فاتحتها، ولم ينس القراء أننا اعترفنا فيها
بتضاعف قراء المنار، وكونه صار موضع الثقة في جميع الأقطار.
ونزيد تحدثًا بالنعمة فنقول: لقد خشعت بفضل الله تعالى أصوات المشاغبين،
وأعرض الناس عن جهل المعارضين، فخنست شياطين الوساوس، وطاشت سهام
أرباب الدسائس، وصار لنا من مستحسني العمل في السر، من يدعو إليه في الجهر،
ومن المتبرمين منه، من يناضل دونه ويدافع عنه، فلنا أن نقول الآن تحدثاً بالنعمة:
إننا انتقلنا من مقام الصبر إلى مقام الشكر.
فأما الصبر: فلا بد للداعي إلى الحق من الاعتصام به ولذلك قرن الله تعالى
التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومن فوائد الصبر الظفر وحسن الجزاء قال
تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 96)
وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) بل وعد سبحانه أهل الصبر، بمضاعفة الجزاء
والأجر، فقال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} (القصص: 54) .
وأما الشكر: فقد وعد الله تعالى صاحبه بالمزيد من النعمة والأمن من العذاب
فقال عز شأنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) وقال جل ثناؤه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِراً عَلِيماً} (النساء: 147) فنسأله تعالى أن يوفقنا للشكر على الآلاء (ما وفقنا
للصبر على البلاء) فإن الشكر مقام عزيز؛ لأن من شأن الإنسان أن تُبطره النعمة
ويشغله الغرور بها عن الشكر عليها، ولذلك قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13) .
الشكر هو: معرفة النعمة للمنعم تعالى والثناء عليها وصرفها في إقامة
سننه وموافقة حكمته وموجبات محبته، ومَنْ شَكَرَ اللهَ شَكَرَ مَنْ أحسن العمل مِن
عباده، فقد روى أحمد وأبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يشكر الله من لا يشكر
الناس) لهذا نشكر لأولئك الأفاضل الذين انتدبوا للدعوة إلى المنار والسعي في نشره
عملهم، ونعرف لهم فضلهم، ونشكر أيضًا للمشتركين الكرام الذين يؤدون الحقوق
في أوقاتها وفاءهم، ونعترف بالسبق بالفضل، لقوم سبقوا بالبذل؛ فأدوا قيمة
الاشتراك عن السنة الخامسة قبل دخولها حتى إننا لم نقبل ذلك من بعضهم إلا بعد الإلحاح منهم والإصرار.
ونرجو من سائر المشتركين الفضلاء أن يبادروا إلى حسن الأداء، فإنه من
يُشكَر له، خير ممن يُصْبَرُ عليه، ونحمد الله تعالى أن أكثر قراء المنار، من
المصطفين الأخيار فمنهم العلماء الفضلاء، والأمراء والوزراء، والقضاة
المقسطون، والمحامون البارعون، ونظار المدارس وأساتذتها، والأذكياء النابغون
من تلامذتها، وذوو الشهامة من الضباط المصريين، ونعِد الجميع بأننا سنبذل
الجهد في زيادة الفوائد، وتحرير المسائل، والبحث عن أقرب الوسائل لنهضة
المسلمين، ومنفعة جميع الشرقيين، بل نرجوا أن يكون عملنا خدمة للناس أجمعين.
ونسأل الله أن يحفظنا من عثرة القلم، وزلة القدم، وأن يلهمنا السداد،
ويوفقنا للصواب، وأن ينصر سلطاننا، وينير برهاننا، ويحقق آمالنا، ويحسن
مآلنا، فهو نعم المولى ونعم النصير، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيدرضا
__________(5/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القضاء في الإسلام
النبذة الثانية
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
وجوب نصب القاضي:
(الحديث) [1] قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من
الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم) وفي رواية: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا
عليهم أحدهم) استدل العلماء بهذا الحديث على أن نصب الأمير الذي يسوس الناس
والقاضي الذي يحكم بينهم واجب شرعًا؛ لأن هذا أولى بالوجوب من تأمير
المسافرين - وإن كانوا أقل الجمع - واحدًا منهم عليهم، والعلة ظاهرة والعمل عليها
من أول الإسلام. وفي الحديث إرشاد إلى أن الأمة هي التي تولي الأمراء والحكام
كما تقدم شرحه في باب الأحاديث الواردة في الأمراء من المجلد الرابع.
موانع القضاء أو شروطه:
تقدم في الأحاديث السبعة التي أوردناها في النبذة الأولى ما يدل على أن
الضعيف لا يكون قاضيًا وبيَّنَّا أنواع الضعف، وأن الجاهل لا يكون قاضيًا. كما
يؤخذ من حديث قاضي الجنة وقاضيي النار وغيره. وأن الجائر لا يكون قاضيًا، وأن
المرأة لا تكون قاضية، وخالف في هذا الشرط الحنفية، ولو كان المخالف من علماء
هذا العصر لحكم بكفره أكثر المسلمين، ورموه بمصانعة الأجانب وتقليد الأوربيين،
وكذلك الصبي لا يكون قاضيًا، ونقل بعضهم الإجماع على هذا، ويستدل له بما
اسُتدِلَّ به على منع قضاء المرأة، وفي هذه الموانع أحاديث أخرى نورد بعضها [2] :
قال صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان)
والقضاء ضرب من الإمارة ولا نعرف في الناس من تُوَلِّي الصبيان القضاء،
ولكنهم يولونهم الإمارة والسلطنة بالوراثة، وقد قلد المسلمون الأوربيين في هذه
الوارثة.
فأما أولئك فإنهم آمنون من مضرة ولاية الصبي؛ لأن حكوماتهم مقيدة بقوانين،
ووزراء مسؤلين ومنفذين، وإنما الحاكم العام، (كالملك ورئيس الجمهورية)
لأجل الوحدة في مصدر الأحكام، وهو لا يستبد دونهم بنقض ولا إبرام.
وأما بلاد الشرق فلقد تأصل فيها الاستبداد ورسخت عروقه، واعتادت أممها
عليه، وضعفت عن مقاومته، فلو قضت شئون السياسة وتقلب الحوادث على بعضها
بوضع قانون يجعل أحكامها مقيدة بالقوانين التي تغل أيدي الأمراء والسلاطين،
لَمَا وُجد مِن الأمة كافل يضمن تنفيذ القانون ولا استبد الحاكم الأكبر كيف شاء أو
يجد قوة أجنبية تأخذ على يده وتوقفه عند حده.
ولهذا المعنى كانت تولية الصبي الملك خطرًا في الشرق، ومثله المرأة. وأما
رأس السبعين في الحديث فقالوا: إنه إنباء بما وقع في عشر السبعين من الفتن،
كقتل سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان ووقعة الحرة وغير ذلك.
عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس
ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) [3] والنظر في
هذا الحديث الشريف من وجهين:
أحدهما: كونه خبرًا.
وثانيهما: كونه حكما شرعيًّا؛ لأنه يتضمن بمعناه النهي عن تولية النساء الأمور
العامة كالخلافة والقضاء.
أما الأول فهو مبني على العادة التي كانت متبعة في الشرق بل في العالم كله
وهي أن الأمر والنهي والتصرف السياسي والقضائي بأيدي الملوك والأمراء، ولا
شك أن هذه الوظائف لا يصح أن تسند إلى النساء؛ لأنهن أضعف رأيًا لاسيما في
محافل الرجال وما يتعلق بأعمالهم، وأقل جلدًا وثباتا وأميل مع الهوى؛ لرقة قلوبهن
وسرعة انفعالهن، ولأنهن إن يشتغلن بذلك يضعفن عن وظيفتهن الطبيعية وهى
تربية الأولاد وتدبير المنزل.
فإذا كان في المرأة استعداد لأنْ تُجاري الرجل وتكون مثله في كل شيء كما
يزعم بعض الأوربيين فهذا الاستعداد لما يتحقق فعلاً مع العناية بتربية النساء في أوربا فلا يعترض به على حديث قيل في شأن الفرس من ثلاثة عشر قرنًا، ولا
ينبغي السعي في تحقيقه بتربية المرأة كما يتربى الرجل تماما؛ لأن هذا يضر النوع
الإنساني من وجوه أهمها تربية الأولاد، فإن المُرَبِّي يجب أن يكون بينه وبين
المُرَبَّى تقارب وتناسب في السجايا والأخلاق والأفكار والرغائب؛ ليسهل الائتلاف
والامتزاج معه والتقليد له والأخذ عنه بالطبع لا بالتكلف. والمرأة وسط بين
الأطفال وبين الرجال فهي التي تربي البنات كل التربية وتربي الصبية التربية
الأولى التي تعدهم للأخذ عن الرجال والاقتداء بهم. وإذا اشتغل الرجل بتربية
الأطفال، فإنه يعامل الذكران والإناث معاملة الرجال، وفي ذلك خروج بالبنات عن
سنة الفطرة، وذهاب بالصبيان مع الفطرة.
وأما الثاني - وهو كون الحديث حكمًا شرعيًّا بمنع ولاية النساء - فهو من
جهةٍ مناسبٌ لاستعداد النساء ولوظيفتهن الفطرية، ومن جهة أخرى مناسب لما كانت
عليه حالة الأمم في ذلك العصر ولا حاجة لإباحته في عصر آخر بل فيه الضرر
المذكور في الوجه الأول وهو التعدي على وظيفة النساء الطبيعية.
ولا يعترض بحال أوربا وكون الدولة الإنكليزية أفلحت في عهد الملكة فيكتوريا
فلاحًا ما رأت هي ولا غيرها من الدول مثله؛ لأن فرقًا بين أمم أوربا والأمة
الإسلامية، وهو أن المَلك فيهم ليس له من الوظائف مثل ما للخليفة عند المسلمين،
فإن الخليفة هو الإمام الديني الذي يصلي بالناس ويخطب فهم ويؤمهم في حجهم عند
حضوره الحج وكل الأئمة والخطباء في البلاد الإسلامية وكل القضاة والمفتين نوابه
ووكلاؤه فهو الذي يقلدهم هذا المنصب بشرط الكفاءة، وإليه يرجعون في مسائل
الخلاف ليفصل فيها، ومن شروط الكفاءة أن يكون القاضي والمفتي في مرتبة
الأئمة المجتهدين في الدين ومعرفة مصلحة المسلمين. ولا يعرف هذا إلا من هو أهله.
وإن فَرَضْنا أن في استعداد المرأة الوصول إلى هذه المرتبة، وأنه لا ضرر في
هذا على النوع الإنساني، فهناك مانع آخر من إمامتها وهو: أنها تكون في طور لا
تصح فيه صلاتها بنفسها؛ فكيف تكون إمامًا لغيرها؟ ولا يقال: تستنيب؛ لأن من
ليس له الحق بشيء لا يصح أن يستنيب فيه؛ إذ النائب يؤدي وظيفة المنيب، ولا
وظيفة له هنا - هذا بعض ما يقال في المنع من الجهة الدينية المحضة، وثَمَّ موانع
أخرى من الجهة الدنيوية وهي كون الخليفة مدير السياسة والحروب ومتولي النظر
في المصالح الداخلية والخارجية، ولذلك اشترطوا أن يكون شجاعاً فإن قيل: إن
الإسلام شرع المشاورة في الأمور وجعلها فرضًا لازمًا ومنع الخليفة أن يستبد في
أمر بنفسه، وهذا عين ما عليه الأوربيون في تقييد الملوك بالمجالس النيابية. قلنا:
نعم هذا صحيح، ولكن الإسلام أوجب على الخليفة أن يكون عاملاً بالمشاورة لا أن
يكون آلة تجري الأُمور باسمه بدون شعور. والكلام في هذا المقال كثير وفيما
ذكرناه غناء للصبر.
ومن موانع القضاء عند الجماهير الرق وحكي عن العترة أنه يصح أن يكون
العبد قاضيًا، وكأنهم أخذوا بظاهر الحديث وهو: [4] قال صلى الله عليه وسلم:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) وفي رواية:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله) قال القسطلاني في
شرح البخاري: معناه: إن استعمله الإمام الأعظم على القوم، لا أن العبد الحبشي هو
الإمام الأعظم؛ فإن الأئمة من قريش. اهـ، أو المراد به الإمام الأعظم على سبيل
الفرض والتقدير وهو مبالغة في الأمر بطاعته، والنهي عن شقاقه ومخالفته. اهـ أي:
ليس المراد به ظاهره فإن العبد إذا ولي الخلافة لا يطاع بل يخلع ويعزل: قال
الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود. وقال الحافظ في الفتح: ونقل ابن
بطال عن المهلب قال: قوله: (اسمعوا وأطيعوا) لا يوجب أن يكون المستعمِل للعبد
إلا إمام قرشي لما تقدم من أن الإمامة لا تكون إلا في قريش وقد أجمع الأمة على أنها
لا تكون في العبيد ويحتمل أن يكون سماه عبداً باعتبار ما كان قبل العتق. اهـ
والحاصل أن شروط القضاء في الشرع سبعة، كما قال في الأحكام
السلطانية: الرجولية، والحرية، والإسلام، والعدالة، والاجتهاد في العلم، والعقل،
وسلامة الحواس. وجوّز مالك قضاء الأعمى كما جوز شهادته.
***
آثار السلف عبرة للخلف
عدل عمر:
روى ابن عبد الحكم عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن
الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذًا. قال:
سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن
الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم ابنه معه، فقدم، فقال عمر:
أين المصري؟ خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب
ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه فما أقلع
عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو.
فقال: يا أمير المؤمنين! إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر
لعمرو: مُذْ كم تعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا! قال: يا أمير المؤمنين
لم أعلم ولم يأتني.
وروى عبد الرزاق في الجامع والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر قال:
شرب أخي عبد الرحمن وشرب معه أبو سروعة عتبة بن الحارث وهما بمصر في
خلافة عمر فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا:
طهّرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه (يظهر من هذه الكلمة أنهما لم يكونا
يقصدان السكر ولم يعرفا ما هو الشراب) قال عبد الله: فذكر لي أخي أنه سكر،
فقلت: ادخل الدار أطهّرك ولم أشعر أنهما قد أتيا عَمْرًا فأخبرني أخي أنه أخبر
الأمير بذلك فقلت: لا تحلق اليوم على رءوس الناس ادخل الدار أحلقك. وكانوا إذ
ذاك يحلقون مع الحد فدخلا الدار. قال عبد الله: فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهم عمرو
فسمع بذلك عمر وكتب إلى عمرو أن ابعث إليَّ بعبد الرحمن على قتب ففعل ذلك،
فلما قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه ثم أرسله فلبث شهرًا صحيحًا ثم أصابه قدره فمات فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر ولم يمت من جلد عمرو.
وروى هذا الأثر ابن سعد في الطبقات مطولاً، ذكر فيه مجيء عبد الرحمن
إلى مصر ونزوله في أقصاها وأن عَمْرًا خشي أن يزوره أو يهدي إليه شيئاً فيعلم
أبوه عمر بذلك فيعاقبه؛ لأنه كان كتب إليه (إياك أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي
فتَحْبُوه بأمر لا تصنعه بغيره) حتى جاءه هو ورفيقه أبو سرعة منكسرَيْنِ يطلبان
إقامة الحد عليهما. وفيه أن عمر لما علم أن عَمْرًا أقام الحد على ولده في بيته
وحلقه في بيته ظن أنها خصوصية اختص بها ولده، فكتب إليه يوبخه ويهدده بالعزل
ويطلب عبد الرحمن. وأن عَمْرًا اعتذر له بأن يحد كل مسلم وذمِّيٍّ في بيته.
اهـ ملخصًا من كتاب كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو، والرواية الثانية: أخرجها أبو داود عن أبي سعيد. وأخرج نحوهما البزار بسند صحيح عن عمر بن الخطاب.
(2) رواه أحمد عن أبي هريرة.
(3) رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي.
(4) رواه أحمد والبخاري عن أنس والرواية الثانية لمسلم عن أم الحصين.(5/11)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(الدرس 32)
عصمة الأنبياء عليهم السلام
(المسألة 79) حقيقة العصمة هي في اللغة: المنع، وقال الجرجاني ... في التعريفات: (العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها) أي إن
المعصوم من الشيء يجد في نفسه قدرة عليه ويشعر بزاجر منها يحول دون
الوقوع فيه.
فالعصمة وازع نفسي راسخ في النفس وهي في الأنبياء فطرية، وقد يكون
لغيرهم بحسن التربية من ملكة الفضيلة ما يربأ بنفوسهم عن موافقة الفجور والدنايا.
ويسمي علماؤنا هذا المعنى حفظًا؛ للتفرقة، وإنما يكون هذا بالتربية الفاضلة بين
الفضلاء مع مساعدة الوراثة واعتدال المزاج. وقد ينكر الذين ابتلوا باقتراف الكبائر
هذا المعنى أن يكون لغير الأنبياء، ويسلمون به للأنبياء تقليدًا. ولهم العذر فإنه أمر
لا يعرفه إلا من ذاقه وقليل ما هم.
***
(م 80) العصمة في التبليغ.
جاء في المواقف أن أهل الملل والشرائع قد أجمعوا على عصمة الأنبياء
عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن
الله تعالى. وإن عاقلاً لا يجمع بين الإيمان والوحي والنبوة وبين تجويز كذب النبي
على الله تعالى فيما يبلغ عنه، فإن كان هذا جائزًا؛ فأي ثقة بالوحي؟!
وكيف يميز المكلف بين ما هو عن الله وما عن غير الله والمبلغ غير موثوق
بصدقه؟ !
ولقد أبعد القاضي - أحد أئمة الأشعرية - في قوله بجواز صدور الكذب منهم
سهوًا. وهو قول مردود لا يعوِّل عليه أحد. والدليل على هذا النوع من العصمة
هو عين الدليل على النبوة من الآيات العلمية أو الكونية.
***
(م 81) العصمة من الكفر.
أجمع المسلمون من جميع الفرق على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها
وليس هنا شبهة لأحد فنتوسع فيه.
***
(م 82) العصمة من كبائر الذنوب
قال في المواقف وشرحه: (أما الكبائر) ، أي: صدورها عنهم عمدًا (فمنعه
الجمهور) من المحققين والأئمة، ولم يخالف فيه إلا الحشوية، (والأكثر) من
المانعين (على امتناعه سمعًا) قال القاضي والمحققون من الأشاعرة: إن العصمة
فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم سمعًا
مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك. (وقالت المعتزلة بناء
على أصولهم الفاسدة في التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح
والأصلح) (يمتنع ذلك عقلاً) ؛ لأن صدور الكبائر عنهم عمدًا يوجب سقوط
هيبتهم من القلوب وانحطاط رتبتهم في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم
الانقياد لهم. ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم وهو خلاف مقتضى
العقل والحكمة. (وأما) صدورها عنهم (سهوًا) وعلى سبيل الخطأ في التأويل
(فجوزه الأكثرون) والمختار خلافه. اهـ
ولم يذكر ناقلي الإجماع ولا كيف وقع هذا الإجماع، وما أراه إلا الإجماع
السكوتي. وعجيب من سادتنا الأشاعرة كيف ينقضون الأدلة العقلية على عصمة
الأنبياء لأجل مخالفة المعتزلة ولو بالتكلّف؟
إذ استلزام دليلهم للتحسين والتقبيح بالمعنى النافي لاختيار الله تعالى
ممنوع كما سنبينه.
ثم إنهم جوّزوا وقوع الكبائرمنهم سهوًا وتأويلاً كما ترى. وذكر السيد أن
المختار خلاف ما عليه الأكثرون. وقد جزم المتأخرون بهذا في عقائدهم، ولا
شك أن المتأخرين أشد تعظيمًا بالقول للأنبياء والصلحاء وكذلك في الاعتقاد
التخيلي دون البرهاني. على أنهم في هذه المسألة أقرب إلى الصواب من
المتقدمين.
***
(م 83) العصمة من الصغائر:
قال في المواقف: (وأما الصغائر عمدًا فجوزه الجمهور إلا الجبائي، وأما
سهوًا فهو جائز اتفاقًا إلا الصغائر الحسية كسرقة حبة أو لقمة. وقال الجاحظ:
يجوز بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير من المتأخرين وله نقول)
قال الشارح: (أي نحن الأشاعرة) .
***
(م 84) العصمة قبل النبوة:
قال في المواقف بعد إيراد ما ذكر كله: (هذا كله بعد الوحي وأما قبله
فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة؛ إذ لا دلالة للمعجزة عليه ولا حكم
للعقل. وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب منها؛ لأنه يوجب النفرة،
وهي تمنع عن اتباعه، فتفوت مصلحة البعثة. ومنهم من منع عما ينفر مطلقًا كعهر
الأمهات والفجور في الآباء والصغائر الحسية دون غيرها. وقالت الروافض: لا
يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة قبل الوحي، فكيف بعد الوحي؟) اهـ.
وقول الروافض هذا هو الذي اعتمده المتأخرون من أهل السنة، بل منع
بعضهم وقوع المكروه منهم إلا على سبيل التشريع.
***
(م 85) رَأْيُنا [1] : إنما ذكرنا هذا الاختلاف في العصمة ليعرف من يطلع
عليه من دعاة النصارى ومجادليهم أن المسلمين لم يتكلفوا القول بعصمة الأنبياء
تكلفًا لإثبات قدرتهم على إنجاء الناس من العذاب في اليوم الآخر كما يزعمون، وإنما
يتبعون في ذلك - كغيره - ما يظهر لهم من الأدلة العقلية والسمعية أي: أدلة الوحي
وإنما نقلنا عبارة كتاب المواقف الذي هو أعظم كتب الكلام عندنا لئلا يظن قليل
الاطلاع من المسلمين أن الأقوال التي أوردناها في الخلاف هي أقوال شاذة أو مسندة
لغير أصحابها سهوًا أو جهلاً لا سيما اعتماد متأخري أهل السنة قول الرافضة.
والذي نراه أنه يصح الاستدلال بالعقل على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولا
يستلزم ذلك القول بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين ولا سلب الاختيار عن الله تعالى.
وكذلك يستنبط من كثير من الآيات القرآنية ما يدل على نزاهتهم وكونهم قدوة في
الخير والفضائل، ولكن ليس فيها نص صريح على العصمة من الذنوب مطلقًا؛
ولذلك قال صاحب المواقف بعد إيراد تلك الآيات: إنها ليست بالقوية فيما هو محل
النزاع وهو الكبيرة سهوًا والصغيرة عمدًا. وفي الكتاب والسنة إسناد الذنوب إلى
بعض الأنبياء عليهم السلام، وما جاز على بعضهم جاز على الآخرين. والعلماء
يؤوِّلون ذلك. وقصارى هذا كله وجوب الاعتماد على الدليل العقلي والتوفيق بينه
وبين ما ورد من إسناد الذنوب إليهم، فاطلب ذلك من الدرس الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) راجع النبذة 11من شبهات المسيحيين وحجج المسلمين في عصمة الأنبياء والخلاص (ص816م4) .(5/18)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
(س1) محمد توفيق أفندي حمزة بالفشن (المنيا) : هل يوجد حديث
صحيح بأن في القرآن لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها وأن منه قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) نرجو الرد على ذلك لإزالة الشبهة.
(ج) لم يرد في هذا المعنى حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، ولكن
الزنادقة الذين حاولوا العبث بدين الإسلام كما كان يفعل أمثالهم في الأديان الأخرى
لما عجزوا عن زيادة حرف في القرآن أو نقص حرف منه؛ لحفظه في الصدور
والصحف أرادوا أن يشككوا بعض المسلمين فيه بشيء يضعونه عن لسان الصحابة
الكرام فزعم بعضهم أن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان
فوجد فيها حروفًا من اللحن فقال: (لا تغيروها فإن العرب ستغيّرها، أو قال:
ستقرأها بألسنتها، ولو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه
الحروف) .
وفي لفظ آخر: (أحسنتم وأجملتم، أرى شيئًا من لحن ستقيمه العرب
بألسنتها. ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد هذا) ، ولما تصدى
المحدثون رضي الله عنهم لنقد الحديث والأثر من جهة الرواية التي راج في سوقها
الطيب والخبيث تبين لهم في هذا الأثر ثلاث علل: الانقطاع، والضعف
والاضطراب؛ فهو لا يعوّل عليه لو كان في الحث على فضائل الأعمال فكيف يلتفت
إليه في موضوع هو أصل الدين الأصيل وركنه الركين؟ ومن يدري إن كان
الساقط من سنده مجوسي أو دهري أو إسرائيلي؟ على أن الكلمة التي نسبت إلى
عثمان تدل على أن اللحن في الرسم، وأنه لم يكن مما يشتبه في قراءته؛ لأنه لا
يحتمل في النطق وجهًا آخر، كرسم الصلاة والزكاة والحياة بالواو مثلاً (الصلوة
الحيوة) . ولكن الموسوسين حملوا ذلك على كلمات قليلة جاءت في المصحف على
خلاف القواعد النحوية التي وضعها الناس لكلام العرب وتحكَّمُون بها عليهم، ومن
ذلك الآية التي أشار إليها السائل وهي قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ} (النساء: 162) وإنني لأعجب من دخيل في لغة قوم يتحكم عليهم في
شيء يخترعه هو ويجعله أصلاً لها، وأعجب من هذا أن يكون هذا التحكم على
أصح شيء في اللسان فإن الذين يؤولون ما ورد عن بعض سفهاء الأعراب من
الشعر المخالف للقواعد أو يكتفون بأنه صحيح - لأنه هكذا سُمع - يتوقفون في بعض
الكلم من القرآن إذا رأوا أنها على خلاف القياس.
على أن علماء العربية خرجوا تلك الكلمات على ما يوافق قواعدهم من وجوه
مذكورة في كتب التفسير وكتب النحو لا محل لها هنا. وسنفصل القول في مسألة
جمع القرآن في دروس الآمالي الدينية بما يشفي الصدور إن شاء الله تعالى.
***
(س2) أحمد أفندي الألفي في أبي كبير (شرقية) : ما أقرب الطرق
لمعرفة أحكام العبادات من الكتاب والسنة؟
(ج) الكتاب العزيز لم يفصل القول في صور العبادات، وإنما بين روح
العبادات والمقصود منها، وفيه كيفية الوضوء وذكر الركوع والسجود من أعمال
الصلاة. والسنة بينت صورها وأذكارها. وأصحاب الكتب الستة التي هي أصح
كتب الحديث إنما ألفوا كتبهم لمعرفة الدين منها، فجامع البخاري هو مذهبه الذي
يعتمد عليه في فهم الدين وقد قال بعض العلماء: إن سنن أبي داود كافية فيما
يشترط للاجتهاد من علم السنة.
ويوجد كتاب يسمى (منتقى الأخبار) جمع فيه صاحبه أحاديث الأحكام من
الكتب الستة ومن مسند الإمام أحمد، وقد شرحه الإمام الشوكاني وأورد في شرحه خلاف جمع أئمة المسلمين المشهورين من الصحابة والتابعين مع بيان الترجيح في
الاستدلال.
واسم الشرح (نيل الأوطار) ، فهو أجمع كتاب في أحكام الدين من السنة
وهدي سلف الأمة لمن هو أهل للفهم. والأحاديث الشريفة أسهل فهمًا من كلام
العلماء، ولكن لا يستغنى عن هدايتهم في معرفة ما يحتج به وما يختلف مع غيره.
***
(س3) ومنه: هل يفيد حفظ القرآن في اكتساب ملكة البلاغة كغيره من الكلام البليغ؟
(ج) لعل سبب السؤال توهم أن القرآن في علو أسلوبه وإعجازه لا يمكن
أن يحتذي بلاغته مَنْ لا يطمع أن يبلغ غايته. والصواب أن لحفظ القرآن مع
فهمه أبلغ التأثير في ارتقاء ملكة البلاغة العربية، ولقد ارتقى به كلام العرب
أنفسهم فكان كلامهم في المنظوم والمنثور بعد الإسلام أعلى منه قبله. فالقرآن أنفع
الكلام في ارتقاء اللغة كما أنه أنفعه في إصلاح الأرواح وتهذيب النفوس وإكمال
العقول. ولا يستلزم نفعه في ارتقاء البلاغة إمكان التسلق إلى درجته، والجري إلى
غايته، وإن لنا لعودة إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
***
(س4) ع. ا. ر. في الإسكندرية: لا يخفى ما رسخ في أوهام العوام من
مسألة كرامات الأولياء والخروج في فهم حقيقتها عن الحد الذي نبهت عليه شريعتنا
السمحة، وبثغرنا واحد من هؤلاء الدجالين الجهلاء المنتحلين لأنفسهم على الغيب،
وله سبحة طويلة ينظر فيها عند سؤاله من العامة فيخبرهم بما يحصل لهم في غد
من الحوادث فيصدقونه، والمنتبهون منهم إن سألوا بعض العلماء عن ذلك جوزوه
بدعوى أنه كرامة من غير توضيح ما هي الكرامة ومن يكرم الله بها من عباده
المتقين غير الدجالين الذين هم عن صلاتهم ساهون.
ولما كان للإسلام والمسلمين صوًى و (منار) كمنار الطريق الذي
يتخذونه نبراسًا لهم ودليلاً إن هم تاهوا في بيداء الحيرة وقبور الضلال، فقد أرسلت
بهذه السور إليكم ملتمسًا من بحر علمكم وواسع حكمتكم أن توضحوا بعدد المنار المقبل
(وإن كان سبق توضيح) : هل ورد في الشرع ما يجيز لأحد من الناس التهجم على
غيب علم الله الذي ستره عن عباده وإخبار الناس بما يصيبهم من خير أو شر؟ فإن
ضل أو استشعر من الخبط والخلط قال: (السبحة تايهة السبحة تايهة) فالمرجو أن
توضحوا لنا ذلك بمناركم المنير وتزيلوا هذه الغيوم المتلبدة على العقول.
(ج) لم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ما يدل على جواز
هذه الدعوى لأحد، بل ورد ما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام قد أمروا بأن
يتنصلوا منها: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50) ، {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ
أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ، {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ
إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
واستشكل بعضهم نفي علم الغيب عن النبي مع أنه أخبر بكثير منه، وأحسن جواب
أجابوه ما تؤيده الآيات كقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إليَّ} (الأنعام:
50) فنقول فيما أخبر به من ذلك كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وأما المنفي فهو ما يتعلق بمصالح
الدنيا وما يكون من أمر الناس فيها واستشهدوا له بالحديث الصحيح الوارد في
تأبير النخل وقوله لما خرج خلاف ما قاله عليه السلام: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)
وفي رواية لمسلم: (إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإن كان من أمر
دينكم فإلي) فالحديث يدل على أن الله تعالى لم يعط الأنبياء معرفة الغيب في
مصالح الناس في دنياهم، وإنما جعل علم الدنيا كسبيًّا يعلمه الناس بالبحث والجد.
أما هؤلاء الدجالون من أصحاب السبح ونحوهم فلا تزال بضاعتهم تروج ما
دام هذا الجهل فاشيًا في جميع طبقات الأمة، ولا ينفع في الجاهل المُقَلِد الأعمى دليل
ولا برهان. وراجعوا مقالات (كرامات الأولياء) في ص401 و417 و 449
و481 و 545 من مجلد المنار الثاني.
__________(5/21)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكتاب الموعود بنشره
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المخلوقين
وعلى آله وأصحابه أنصار دينه الأولين وعلى أتباعهم في مسالكهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأقول: لما كان عهدنا هذا - وهو أوائل القرن الرابع عشر- عهدًا
عم فيه الخلل والضعف جميعَ المسلمين، وكان من سنة الله في خلقه أن جعل لكل
شيء سببًا، فلا بد لهذا الخلل الطارئ والضعف النازل من أسباب ظاهرية غير سر
القدر الخفي عن البشر فدعت الحمية بعض أفاضل العلماء والسراة والكتاب
السياسيين للبحث عن أسباب ذلك والتنقيب عن أفضل الوسائل للنهضة
الإسلامية فأخذوا ينشرون آراءهم في ذلك في بعض الجرائد الإسلامية
الهندية والمصرية والسورية والتاتارية. وقد اطلعت على كثير من مقالاتهم
الغراء في هذا الموضوع الجليل واتبعت أثرهم بنشر ما لاح لي في جل هذا المشكل العظيم.
ثم بدا لي أن أسعى في توسيع هذا المسعى بعقد جمعية من سراة الإسلام في
مهد الهداية - أعني مكة المكرمة - فعقدت العزيمة متوكلاً على الله تعالى على إجراء
سياحة مباركة بزيارة أمهات البلاد العربية؛ لاستطلاع الأفكار وتهيئة الاجتماع في
موسم أداء فريضة الحج، فخرجت من وطني أحد مدن الفرات في أوائل محرم سنة
ست عشرة وثلاثمائة وألف وكلي ألسن تنشد:
دراك فمن يدنف لعمري يدفن ... وما نافع نوح متى قيل قد فني
دراك فإن الدين قد زال عزه ... وكان عزيزًا قبل ذا غير هين
فكان له أهل يوفون حقه ... بهدي وتلقين وحسن تلقن
إلام وأهل العلم أحلاس بيتهم ... أما صار فرضًا رأب هذا التوهن
هلموا إلى (أم القرى) وتآمروا ... ولا تقنطوا من روح رب مهيمن
فإن الذي شادته الأسياف قبلكم ... هو اليوم لا يحتاج إلا الألسن
فسلكت الطريق البحري من إسكندرون معرجًا على بيروت فدمشق ثم يافا
فالقدس، ثم جئت الإسكندرية فمصر، ثم من السويس يممت الحديدة فصنعاء فصُعُدًا
إلى البصرة ومنها رجعت إلى حائل إلى المدينة على مُنوِّرِها أفضل الصلاة والسلام
إلى مكة المكرمة، فوصلتها في أوائل ذي القعدة، فوجدت أكثر الذين أجابوا الدعوة
ممن كنت اجتمعت بهم من أفاضل البلاد الكبيرة المذكورة وسراتها قد سبقوني
بموافاتها، وما انتصف الشهر - وهو موعد التلاقي - إلا وقدم الباقون ما عدا
الأديب البيروتي الذي حرمنا القدر ملاقاته لسبب أنبأنا عنه فعذرناه.
وفي أثناء انتظارنا منتصف الشهر سعيت مع بعض الإخوان الوافدين في
تحري وتخيّر اثني عشر عضوًا أيضًا لأجل إضافتهم للجمعية، وهم من مراكش
وتونس والقسطنطينية وبغجة سراي وتفليس وتبريز وكابل وكشغر وقازان
وبكين ودهلي وكلكتة وليفربول.
وإذ كنت المباشر لهذه الدعوة بادرت واتخذت لي دارًا في حي متطرف في مكة
لعقد الاجتماعات بصورة خفية، ومع ذلك استأجرتها باسم بواب داغستاني روسي؛
لتكون مصونة من التعرض رعاية للاحتياط. وقد انعقد من منتصف الشهر إلى سلخه
اثنا عشر اجتماعًا غير اجتماع الوداع جرت فيها مذكرات مهمة صار ضبطها
وتسجيلها بكمال الدقة كما سيعلم من مطالعة هذا السجل المتضمن كيفية الاجتماعات مع جميع المفاوضات والمقررات غير ما آثرت الجمعية كتمه كما سيشار إليه.
***
الاجتماع الأول
يوم الإثنين الخامس عشر ذي القعدة سنة 1316
في اليوم المذكور انتظمت الجمعية للمرة الأولى وأعضاؤها اثنان وعشرون
فاضلاً كلهم يحسنون العربية، فبعد أن عَرَّفت كلاًّ منهم بباقي إخوانه وتعارفوا
بالوجوه بادرتهم بتوزيع اثنين وعشرين قائمة - كن مهيئات قبلاً - مطبوعات بمطبعة
(الجلاتين) التي استعرتها من تاجر هندي في مكة لأجل طبع هذه القائمة وأمثالها
من أوراق الجمعية، محررًا في نسخ القائمة مختصر تراجم إخوان الجمعية جميعهم
ببيان الاسم والنسبة والمذهب والمزية المخصوصة، وموضحًا فيها أيضًا مفتاح
الرموز التي يحتاج الإخوان لاستعمالها.
وأعضاء الجمعية هم: السيد الفراتي، الفاضل الشامي، البليغ القدسي، الكامل
الإسكندري، العلامة المصري، المحدث اليمني، الحافظ البصري، العالم النجدي،
المحقق المدني، الأستاذ المكي، الحكيم التونسي، المرشد الفاسي، السعيد
الإنكليزي، الموالي الرومي، الرياضي الكردي،المجتهد التبريزي، العارف
التاتاري، الخطيب الفازاني، المدقق التركي، الفقيه الأفغاني، الصاحب الهندي
الشيخ السندي، الإمام الصيني. ثم بادرت الإخوان جاهرًا بكلمة شعار الأخوة التي
يعرفونها مني من قبل وهي (لا نعبد إلا الله) مسترعيًا سمعهم وخاطبتهم بقولي:
من كان منكم يعاهد الله تعالى على الجهاد في إعلاء كلمة الله والأمانة لإخوان
التوحيد أعضاء هذه الجمعية المباركة فليجهر بقوله: (عليّ عهد الله بالجهاد والأمانة) ،
ومن كان لا يطيق العهد فليعتزلنا وما جال نظري فيهم إلا وسارع الذي عن يميني إلى
عقد العهد ثم الذي يليه ثم الذي يليه إلى آخرهم.
ثم التمست منهم أن ينتخبوا أحدهم رئيسًا يدير الجمعية ومذكراتها وآخر كاتبًا
يضبط المفاوضات ويسجل المقررات، فأجابني العلامة المصري أن معرفة الإخوان
بعضهم بعضًا جديدة العهد وأنك أشملهم معرفة بهم، فأنا أترك الانتخاب لك. وما أتم
رأيه هذا إلا وأجمع الكل على ذلك، فحينئذ أعلنت لهم أن أتخير للرئاسة الأستاذ المكي
وأتخير نفسي لخدمة الكتابة تفاديًا من إتعاب غيري في الخدمة التي يمكنني
القيام بها، واستأذنت الأفاضل الأعجام منهم بنوع من التصرف في تحرير بعض
ألفاظهم، فأظهر الجميع الرضا والتصويب. وصرح الأستاذ بالقبول مع الامتنان
من حسن ظنهم به واستولى على الجمعية السكون ترقبًا لما يقول الرئيس.
أما (الأستاذ الرئيس) فقطَّب جبينه مستجمعًا فكره ثم استهل فقال: الحمد لله
عالم السر والنجوى، الذي جمعنا على توحيده ودينه وأمرنا بالتعاون على التقوى،
والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ،
وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله انتصارًا لدينه لم يشغلهم عن إعزاز
الدين شاغل، وكان أمرهم شورى بينهم يسعى بذمتهم أدناهم، اللهم {إِيَّاكَ نَعْبُد} (الفاتحة: 5) لا نخضع لغيرك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) لا ننتظر نفعًا
من سواك ولا نخشى ضرًّا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) الذي لا
خفيات ولا ثنيات فيه {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) بنعمة الهداية
إلى التوحيد {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) بما أشركوا {وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 7) بعد ما اهتدوا، سبحانك ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من
أمرنا رشدًا.
وبعد: فيا أيها السادة الكرام، كل منا يعلم سبب اجتماعنا هذا من مفاوضات
أخينا السيد الفراتي الذي أجبنا دعوته لهذه الجمعية شاكرين سعيه. ولذلك لا أرى
لزومًا للبحث عن السبب، كما لا أجد حاجة لتنشيط همتكم، وتأجيج نار حميتكم؛
لأننا كلنا في هذا العناء سواء، ولكن أذكركم بخلاصة تاريخ هذه المسألة فأقول: إن
مسألة تقهقر الإسلام بنت ألف عام أو أكثر، وما حفظ عز هذا الدين المبين كل هذه
القرون المتوالية إلا متانة الأساس مع انحطاط سائر الأمم عن المسلمين في كل
الشؤون إلى أن فاقتنا بعض الأمم في العلوم والفنون المنورة للمدارك فَرَقَت قوتها
فنشرت نفوذها على أكثر البلاد والعباد من المسلمين وغيرهم ولم يزل المسلمون في
سُباتهم إلى أن استولى عليهم الشلل على كل أطراف جسم الممالك الإسلامية وقرب
الخطر من القلب - أعني: (جزيرة العرب) - فتنبهت أفكار من رزقهم الله بصيرة
بالعواقب، ووفقهم لنيل أجر المجاهدين فهبوا ينشرون المواعظ والتذكرة والمباحث
المنذرة، فكثر المتنبهون، وتحركت الخواطر لكنها حركة متحيرة الوُجهة ضائعة القوة، فعسى الله أن يرشد جمعيتنا للتوصل إلى توحيد هذه الوجهة وجمع هذه القوة.
وبتدقيق النظر في النشريات والمقالات التي جادت بها أقلام الفضلاء في هذا
الموضوع نرى كلها دائرة على أربعة مقاصد ابتدائية:
(الأول) منها بيان الحالة الحاضرة ووصف أعراضها بوصف عام وصفًا
بديعًا يفيد التأثر ويدعو إلى التدبر، على أن ذلك لا يلبث إلا عشية أو ضحاها.
(والثاني) بيان أن سبب الخلل النازل هو الجهل الشامل، بيان إجمال
وتلميح، مع أن المقام يقتضي عدم الاحتشام من التفصيل والتشريح.
(والثالث) إنذار الأمة بسوء العاقبة المحدقة بها إنذارًا هائلاً تطير منه
النفوس مع أن الحال الواقع لا تغني فيه النذر.
(والرابع) توجيه اللوم والتبعة على الأمراء أو العلماء أو على الأمة كلها
لتقاعدهم عن استعمال قوة الاتفاق على النهضة، مع أن الاتفاق وهم متشاكسون
متعذر لا متعسر.
فهذه المقاصد القولية قد استوفت حقها من أنواع بدائع الأساليب، وآنَ أوان
استثمارها وذلك لا يتم إذا لم يشخص المرض أو الأمراض المشتركة تشخيصًا دقيقًا
سياسيًا، فالبحث أولاً عن مراكز المرض ثم جراثيمه ليتعين بعد ذلك الدواء الشافي
الأسهل وجودًا والأضمن نتيجة، وبالتنقيب ثانيًا عن تدبير إدخاله في جسم الأمة
بحكمة تصرع العناد والوهم، وتتغلب على مقاومة أعضاء الذوق والشم.
ثم أظنكم أيها السادة تستحسنون الاكتتام الذي اختاره أكثر هؤلاء الكتاب
الأفاضل؛ لأن لذلك محسنات بل موجبات شتَّى ينبغي أن تستعملها جمعيتنا أيضًا
فلنحرص كلنا على الاكتتام؛ لأن من موجباته التزام كل منا المشرب العمري، أعني
القول الصريح في النصيحة للدين بدون رياء ولا استحياء ولا مراعاة ذوق عامة أو
عتاة؛ لأن حياء المريض مهلكة، وكتم الأمر المستفيض سخافة، والدين النصيحة،
ولا حياء في الدين.
ومن موجبات الاكتتام أيضًا أن كل ما يتخالج الفكر في موضوع مسألتنا
معروف عند الأكثرين ولكن بصورة مشتتة، والناس فيه على أقسام: فصنف العلماء
إما جبناء يهابون الخوض فيه، وإما مراءون مداجون يأبون أن تخالف أقوالهم
أحوالهم، وباقي الناس يأنفون أن يذعنوا لنصح ناصح صادع غير معصوم، ولذلك
كان القول من غير معرفة القائل أرعى للسمع وأقرب للقبول والقناعة وأدعى
للإجماع.
ثم أظنكم أيها الإخوان تستصوبون أن نترك جانبًا اختلاف المذاهب التي نحن
متبعوها تقليدًا، فلا نعرف مآخذ كثير من أحكامها، وأن نعتمد ما نعلم من
الكتاب وصحيح السنة وثابت الإجماع؛ وذلك لكيلا نتفرق في الآراء، وليكون ما
نقرره مقبولاً عند جميع أهل القبلة؛ إذ إن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد، ولا
تستنكف الأمة أن ترجع إليه وتجتمع عليه في بعض أمهات المسائل؛ لأن في ذلك
التساوي بين المذاهب، فلا يثقل على أحد نبذ تقليد أحد الأئمة في مسألة تخالف
المتبادر من نص الكتاب العزيز أو تباين صريح السنة الثابتة في مدونات الصدر
الأول.
ولا يكبرن هذا الرأي على البعض منكم فما هو برأي حادث بين المسلمين. بل
جميع أهل جزيرة العرب ما عدا أخلاط الحرمين على هذا الرأي، ولا يخفى عليكم
أن أهل الجزيرة وهم من سبعة ملايين إلى ثمانية كلهم من المسلمين السلفيين عقيدة
الحنابلة , أو الزيدية أو الشافعية مذهبًا وقد نشأ الدين فيهم وبلغتهم فهم أهله وحملته
وحافظوه وحماته وقلما خالطوا الأغيار أو وجدت فيهم دواعي الغرباء والتفنن في
الدين لأجل الفخار ولا يعظمن على البعض منكم أيضًا أنه كيف يسوغ لأحدنا أن
يثق بفهمه وتحقيقه مع بعد العهد ويترك تقليد من يعرف أنه أفضل منه وأجمع عملاً
وأكثر إحاطة واحتياطًا. ولا أظن أن فينا من ليس في نفسه إشكال عظيم لوجود
اختلافات واضطرابات مهمة بينهم ما بين نفي وإثبات حتى في كثير من الأمور
التعبدية الفعلية التي مأخذها المشاهدة المتكررة ألوف مرات مثل: هل كان النبي
عليه الصلاة والسلام ثم جمهور أصحابه عليهم الرضوان يصلون وِتر العشاء
بتسليمة أم بتسليمتين، وهل كانوا يقنتون في الوتر أم في الصبح، وهل كان
المؤتمون يقرؤون أم ينصتون، وهل كانوا يرفعون الأيدي عند تكبيرات الانتقال أم
لا يرفعون، وهل يعقدون الأيدي أم يرسلونها. فإذا كان الأئمة والعلماء الأقدمون
هذا شأنهم في التباين والتخالف في تحقيق كيفية عبادة فعلية هي عماد الدين، أعنى:
الصلاة التي هي من المشهودات المتكررات وتؤدى بالجموع والجماهير؛ فكيف
يكون شأنهم في الأحكام التي تستند إلى قول أو فعل أو سكوت صدر عن النبي
صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات فقط ورواها فرد أو أفراد.
فعلى هذا لا أرى من مانع أن نترك النقول المتخالفة خصوصًا منها المتعلق
بالبعض القليل من الأصول ونجتمع على الرجوع إلى ما نفهمه من النصوص أو ما
يتحقق عندنا حسب طاقتنا أنه جرى عليه السلف، وبذلك تتحد وجهتنا ويتسنى لنا
الاتفاق على تقرير ما نقرره، ويقوى الأمل في قبول الأمة منا ما ندعوها إليه.
وإني أسلفكم أيها السادات أنه يبقى أن لا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم
أسباب الضعف والفتور كيلا نيأس من رَوح الله، وأن لا نتوهم الإصابة في قول من
قال: إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال: إذا نزل
الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع. فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان
واليابان وغيرها كلها أمم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم
الأدبية للحياة السياسية.
بل ليس بيننا ولا سيما عرب الجزيرة منا وبين أعظم الأمم الحية المعاصرة
فرق سوى في العلم والأخلاق العالية على أن مدة حضانة العلم عشرون عامًا فقط
ومدة حضانة الأخلاق أربعون سنة، فعلينا أن نثق بعناية الله الذي لا يعبد سواه
وبهذا الدين المبين الذي نشر لواء عزه على العالمين ولم يزل بالنظر لوضعه الإلهي
دينًا حنيفًا متينًا محكمًا مكينًا لا يفصله ولا يقاربه دين من الأديان في الحكمة والنظام
ورسوخ البنيان، ثم أيقنوا أيها الإخوان أن الأمر ميسور، وأن ظواهر الأسباب
ودلائل الأقدار مبشرة بأن الزمان قد استدار ونشأ في الإسلام أنجاب أحرار وحكماء
أبرار يعد واحدهم بألف وجمعهم بألف ألف، فقوة جمعية منتظمة من هؤلاء النبلاء
كافية لأن تخرق طبل حزب الشيطان وتسترعي، سمع الأمة مهما كانت في رقاد
عميق وتقودها إلى النشاط، وإن كانت في فتور مستحكم عتيق.
على أن محض انعقاد جمعيتنا هذه لمن أعظم تلك المبشرات خصوصًا إذا وفقها
الله تعالى بعنايته لتأسيس جمعية قانونية منتظمة؛ لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها
الثبات على مشروعها عمرًا طويلا يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد وتأتي بأعمالها
كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد، وهذا هو سر ما ورد في الأثر من أن يد الله مع
الجماعة، وهذا هو سر كون الجمعيات تقوم بالعظائم وتأتي بالعجائب وهذا هو
سر نشأة الأمم الغربية وهذا سر النجاح في كل الأعمال المهمة لأن سنة الله في خلقه
أن كل أمر كليًّا كان أو جزئيًّا لا يحصل إلا بقوة وزمان متناسبين مع أهميته، وأن كل
أمر يحصل بقوة قليلة في زمان طويل يكون أحكم وأرسخ وأطول عمرًا مما إذا حصل
بمزيد قوة في زمان قصير، وكلنا يعلم أن مسألتنا أعظم من أن يفي بها عمر إنسان
ينقطع أو مسلك سلطان لا يطرد شأو قوة عصبية حضرية حمقاء تفور سريعًا وتغور
سريعًا.
وإذا تفكرنا أن مبدأ أعظم الأعداد اثنان؛ فكذلك مبدأ الجمعيات شخصان ثم
تتزايد حتى تكمل وتتقلب أشكالاً حتى ترسخ، فعلى هذا لا يبعد أن يتم لنا انعقاد
جمعية منتظمة تنعقد الآمال بناصيتها. ولا ينبغي الاسترسال مع الوهم إلى أن
الجمعيات معرضة في شرقنا لتيار السياسة فلا تعيش طويلاً، ولا سيما إذا كانت
فقيرة ولم تكن كغالب (الأكاديميات) ؛ أي: المجامع العلمية تحت حماية رسمية بل
الأليق بالحكمة والحزم الإقدام والثبات وتوقع الخير إلى أن يتم المطلوب.
هذا وإن شرقنا مشرق العظائم، والزمان أبو العجائب وما على الله بعزيز أن
يتم لنا انتظام جمعية يكون لها صوت جهوري إذا نادى مؤذنها: (حي على الفلاح) في
رأس الرجاء يبلغ أقصى الصين صداه.
ومن المأمول أن تكون الحكومات الإسلامية راضية بهذه الجمعية حلمية لها
ولو بعد حين؛ لأن وظيفتها الأساسية أن تنهض بالأمة من وهدة الجهالة، وترقى
بها في معارج المعارف متباعدة عن كل صبغة سياسية، وسنعود لبحث الجمعية
فيما بعد.
ولنبدأ الآن بتشخيص داء الفتور المستولي على الأمة تشخيصًا سياسيًّا مدققًا
فأرجوكم أيها السادات أن يعمل كل منكم فكره الثاقب فيما هو سبب الفتور ليبين
رأيه وما يفتح الله به عليه في اجتماعاتنا التي نواليها كل يوم ما عدا يومي الثلاثاء
والجمعة من بعد طلوع الشمس بقراءة ضبط المذكرات التي جرت في الاجتماع
السابق ثم نشرع بالمفاوضات، وإني أختم اجتماعنا اليوم ببرنامج المسائل الأساسية
التي تدور عليها جمعيتنا وينبغي لكل منا أن يفتكر فيها ويدرسها وهي عشر مسائل:
(1) موضع الداء (2) أعراض الداء (3) جراثيم الداء (4) ما هو
الداء (5) ما هي وسائل استعمال الداء (6) ما هي الإسلامية (7) كيف يكون
التدين بالإسلامية (8) ما هو الشرك الخفي (9) كيف تقاوم البدع (10) تحرير
قانون لتأسيس جمعية تعليمية.
ولما انتهى خطاب الرئيس وانتهت الجلسة قال السيد الفراتي: أرى أن يقيد
كل منا هذه المسائل العشر في جانب من ورقة التراجم لأجل التذكرة ففعلوا. ثم
دعاهم إلى الطعام فأجابوا، وكان حديثهم على المائدة استقصاء أخبار المهتدين في
ليفربول من السعيد الإنكليزي. وبعد أن طعموا عرض عليهم الشاي والقهوة
والشراب المثلوج فاختار كلٌّ ما أَلِفَ وأحب، ثم انصرفوا أزواجًا وفُرادى مجيبين
دعوة خير الدعاة؛ إذ كان قد دنا وقت الصلاة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/26)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
علم تلامذة العرب وبلاغتهم
جاء في أمالي أبي علي القالي ما نصه: حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا
أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانذاني، عن التوزي، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان لرجل من مقاول حمير ابنان يقال لأحدهما عمرو،
وللآخر ربيعة، وكانا قد برعا في الأدب والعلم، فلما بلغ الشيخ أقصى عمره
وأشفى على الفناء دعاهما ليبلو عقولهما ويعرف مبلغ علمهما، فلما حضرا قال
لعمرو وكان الأكبر: أخبرني عن أحب الرجال إليك، وأكرمهم عليك. قال: السيد
الجواد، القليل الأنداد، الماجد الأجداد، الراسي الأوتاد، الرفيع العماد، العظيم
الرماد، الكثير الحُساد، الباسل الذواد، الصادر الوراد. قال: ما تقول يا
ربيعة؟ قال: ما أحسن ما وصف، وغيره أحب إلي منه. قال: ومن يكون بعد
هذا؟ قال: السيد الكريم، المناع للحريم، المفضال الحليم، القمقام [1] الزعيم، الذي
إن هم فعل، وإن سئل بذل.
قال: أخبرني يا عمرو بأبغض الرجال إليك. قال: البرم اللئيم [2] ،
المستخذي الخصيم [3] ، المبطان النهيم [4] العيي البكيم [5] ، الذي إن سئل منع،
وإن هُدِّد خضع، وإن طلب جشع [6] . قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره
أبغض إلي منه. قال: ومن هو؟ قال: النموم الكذوب، الفاحش الغضوب،
الرغيب عند الطعام [7] ، الجبان عند الصِّدام. قال: أخبرني يا عمرو، أي النساء
أحب إليك؟ قال: الهركولة اللفاء [8] ، الممكورة الجيداء [9] ، التي يشفي السقيم
كلامها، ويبرئ الوصب إلمامها [10] ، التي إن أحسنت إليها شكرت، وإن أسأت إليها
صبرت، وإن استعتبتها أعتبت [11] ، الفاترة الطرف، الطفلة الكف [12] ، العميمة
الردف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعت فأحسن وغيرها أحب إلي منها. قال:
ومن هي؟ قال: الفتانة العينين، الأسيلة الخدين، الكاعب الثديين، الرداح
الوركين [13] ، الشاكرة للقليل، المساعدة للحليل، الرخيمة الكلام، الجماء العظام،
الكريمة الأخوال والأعمام، العذبة اللثام.
قال: فأي النساء أبغض إليك يا عمرو؟ قال: القتاتة [14] الكذوب، الظاهرة
العيوب، الطوافة الهبوب [15] ، العبسة القطوب، السبابة الوثوب، التي إن ائتمنها
زوجها خانته، وإن لان لها أهانته، وإن أرضاها أغضبته، وإن أطاعها عصته.
قال: ما تقول ياربيعة؟ قال: بئس والله المرأة ذكر وغيرها أبغض إلي منها.
قال: وأيتهن التي هي أبغض إليك من هذه؟ قال: السليطة اللسان، المؤذية
للجيران، الناطقة بالبهتان، التي وجهها عابس، وزوجها من خيرها آيس، التي
إن عاتبها زوجها وترته [16] ، وإن ناطقها انتهرته. قال ربيعة: وغيرها أبغض إلي
منها. قال ومن هي؟ قال: التي شقي صاحبها، وخزي خاطبها، وافتتضح أقاربها،
قال: ومن صاحبها، قال صاحبها مثلها في خصالها كلها، لا تصلح إلا له ولا يصلح
إلا لها، قال: فصفه لى؟ قال: الكفور غير الشكور، اللئيم الفخور، العبوس الكالح،
الحرون الجامح، الراضي بالهوان، المختال المنان، الضعيف الجنان، الجعد
البنان [17] ، القؤول غير الفعول، الملوم غير الوصول، الذي لا يرع عن المحارم،
ولا يرتدع عن المظالم. قال: فأخبرني يا عمرو أي الخيل أحب إليك عند
الشدائد، إذا التقى الأقران للتجالد؟ قال: الجواد الأنيق، الحصان العتيق، الكفيت
العريق [18] ، الشديد الوثيق، الذي يفوت إذا هرب، ويلحق إذا طلب. قال: نعم
الفرس والله نعت فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أحب إليَّ منه. قال: وما هو؟ قال
الحصان الجواد، السَّلس القياد، الشهم الفؤاد، الصبور إذا سرى، السابق إذا
جرى، قال فأي الخيل أبغض إليك يا عمرو؟ قال: الجموح الطموح، النكول
الأنوح [19] الصؤول الضعيف، الملول العفيف، الذي إن جاريته سبقته، وإن
طالبته أدركته، قال: فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إليَّ منه، قال وما هو؟
قال: البطيء الثقيل، الحرون الكليل، الذي إن ضربته قمص [20] ، وإن دنوت منه
شمس، يدركه الطالب، ويقطع بالصاحب، قال ربيعة: وغيره أبغض إليّ منه،
قال: وما هو؟ قال: الجموح الخبوط [21] ، الركوض الخروط [22] ، الشموس
الضروط، القطوف [23] في الصعود والهبوط، الذي لا يسلم الصاحب - لعلها
بالصاحب -. ولا ينجو من الطالب.
قال: أخبرني يا عمرو أي العيش ألذ؟ قال: عيش في كرامة، ونعيم
وسلامة، واغتباق مدامة. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: ونعم العيش والله وصف
وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: عيش في أمن ونعيم، وعز وغنى عميم،
في ظل نجاح، وسلامة مساء وصباح، وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال:
غنى دائم، وعيش سالم، وظل ناعم.
قال: فما أحب السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الصقيل الحسام، الناثر
المجذام، الماضي السطام [24] ، المرهف الصمصام، الذي إذا هززته لم يكب،
وإذا ضربت به لم ينب.
قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم السيف نعت وغيره أحب إلي منه. قال:
وما هو؟ قال: الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع، الذي إذا
هززته هتك، وإذا ضربت به بتك، قال: فما أبغض السيوف إليك يا عمرو؟ قال:
القطار الكهام الذي إذا ضُرِبَ به لم يقطع، وإن ذبح به لم ينخع [27] . قال: ما تقول
يا ربيعة؟ قال: بئس السيف والله ذكر، وغيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟
قال: الطبع الددان [28] ، المعضد [29] المهان.
قال: فأخبرني يا عمرو أي الرماح أحب إليك عند المراس، إذا اعتكر
البأس، واشتجر الدعاس [30] ؟ قال: أحبها إلي المارن المثقف [31] ، المقوم
المخطف [32] ، الذي إذا هززته لم يتعطف، وإذا طعنت به لم يتقصف. قال: ما
تقول يا ربيعة؟ قال: نعم الرمح نعت وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال:
الذابل العسال، المقوم النسال [33] ، الماضي إذا هززته، النافذ إذا همزته [34] .
قال: فأخبرني يا عمرو عن أبغض الرماح إليك. قال: الأعصل [35] عند الطعان،
المثلم السنان، الذي إذا هززته انعطف، وإذا طعنت به انقصف. قال: ما تقول يا
ربيعة؟ قال: بئس الرمح ذكر وغيره أبغض إلي منه. قال: ما هو؟ قال:
الضعيف المهز. اليابس الكز [36] . الذي إذا أكرهته انحطم، وإذا طعنت به انقصم.
قال: انصرفا، الآن طاب لي الموت اهـ.
فهل نجد في تلامذتنا أو شيوخنا من يلم بمثل هذه المعاني أو يحسن مثل هذا
الوصف؟ ! أنى ولا لغة لنا ولا علم إلا بلغة حية مرتقية فليرجع القارئ إلى ما جاء
في نبذة التفسير من الحكم بأننا أجهل الجاهلية الأولى.
__________
(1) القمقام من أسماء البحر ويطلق عليه السيد الكريم، ويطلق أيضا على الدنيء أخذًا من قمقم فلان ما على المائدة كتقممه واقتمه إذا تتبعه وأتى عليه.
(2) البرم بالتحريك ثمر العضاة، وهو لا ينتفع به فيطلقونه على الرجل لا خير فيه، والبرم أيضا من لا يدخل مع القوم في الميسر وهو جدير بالاستعمال.
(3) استخذى - خضع وذل وأقبح بالمستخذي كثير الخصومة.
(4) المبطان كبير البطن من كثرة الأكل، والنهيم والنهم: الشره.
(5) العيي العاجز عن الإفصاح بالقول، والبكيم: الأبكم.
(6) الجشع: الحرص على الأكل وغيره.
(7) في الأساس: رجل رغيب واسع الجوف أكول.
(8) الهركولة: الحسنة الجسم والخلق والمشية والجارية الضخمة الأوراك، واللفاء مؤنث الألف وهى الضخمة الفخذين.
(9) الممكورة - المطوية الخلق والجيداء الطويلة الحسنة.
(10) الوصب المريض، والإلمام: الزيارة.
(11) أي: إن استرضيتها أرضت.
(12) الطفلة: الناعمة.
(13) الثقيلتهما.
(14) النمامة.
(15) يصفها بكثرة الطواف كالريح ويحسن من المرأة أن تقر في بيتها.
(16) الوتر: الثأر، ووتره: أصابه بالوتر أو ظلم فيه، ووتره عمله أو حقه نقصه إياه.
(17) البخيل المنقبض الكف.
(18) الكفيت: السريع، والعريق: ما له عرق في الكرم أو اللؤم.
(19) نكل عن الشيء نكص ولم يقدم أو هم بالشيء وهاب إتيانه، وأنح أنحًا وأنوحًا زجر من ثقل مرض أو بهر نفس والأنوح أيضًا البخيل ويتنحنح إذا سئل.
(20) قمص الفرس ونحوه استن أي: رفع يديه معًا ووضعهما معًا.
(21) الذي يخبط الأرض برجله.
(22) الجموح يجتذب الرسن من ممسكه.
(23) الذي يسيء السير ويبطئ.
(24) الحد.
(25) قطع.
(26) الفطار ما فيه تشقق فلا يقطع، والكهام: الكليل لا يمضي.
(27) نخع الذبيحة: جاز بالذبح إلى النخاع وذلك أقصاه.
(28) الطبع: الصدىء، والددان: الكهام.
(29) الذي يهان بعضد الشجر، أي: قطعه.
(30) الدعاس: الطعان، واشتجروا: اختلفوا، وتشاجروا بالرماح تطاعنوا.
(31) اللين المقوم.
(32) لا أعرف وصفًا للرمح من حرف خطف، ومن معانيه المناسبة استلبه بسرعة.
(33) السريع والعسال: اللين المتحرك.
(34) دفعته طاعنًا.
(35) الأعوج الملتوي.
(36) اليابس.(5/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(سلم الارتقاء لمعرفة دروس الأشياء)
مجموعة كتب علمية في التاريخ الطبيعي وحفظ الصحة والتدبير المنزلي
والأِشياء (الطبيعيات) . شرع في تأليفها الفاضل محمد أفندي أمين من موظفي
الإدارة بنظارة الأشغال العمومية. وقد صدر الجزء الأول منها وفيه 36 درسًا في
مباحث التاريخ الطبيعي العمومية مع شيء من التفصيل في الإنسان.
والغرض الأول من هذا الكتاب تسهيل فهم هذه العلوم على تلامذة المدارس
فإنهم يتعلمونها باللغة الأجنبية في أثناء تعلم اللغة فيعسر عليهم فهمها
كما يعسر عليهم فهم الكتب العربية المؤلفة فيها؛ لأنها لم توضع للمبتدئين. وقد تكرم
المؤلف الفاضل بإهداء باكورة عمله إلينا. ورغب إلينا أن ندله على غلطه ليصلحه
في طبعة ثانية ولكن بعض الأصدقاء أخذ الكتاب منا ليطلع عليه ويعيده بعد يوم أو
يومين فعرض ما أوجب تأخير إرجاعه زمنًا طويلاً، ولذلك لم نتمكن من مطالعته،
ولكننا تصفحنا قليلاً منه فألفيناه في غاية السهولة، فنتمنى أن يقبل عليه مع التلامذة
نبهاء المجاورين في الأزهر الذين سألونا عن كتاب في هذا الفن يسهل عليهم
فهمه من غير أستاذ. وأسلوب كتابة الكتاب أسلوب الجرائد السيارة وفيها من
الانتقاد ما نود أن نذاكر المؤلف فيه مشافهة. وفي آخر الكتاب عدة رسوم،
وثمنه خمسة قروش فقط.
***
(الإحاطة في أخبار غرناطة)
تاريخ عظيم لأديب الأندلس الشهير الوزير محمد لسان الدين بن الخطيب.
عثرت عليه شركة طبع الكتب العربية فاختارت طبعه، وقد صدر الجزء الأول منه
مطبوعًا طبعًا متقنًا. وهو مبتدأ بكلام عام في تلك العاصمة كوضعها، وفتحها،
ونزول العرب الشاميين بها، وما آل إليه حال سكانها الأولين معهم، وحال ما يتصل
بها وينسب إلى كُورتها، ووصف سورها، ونحو ذلك، وسائر الكتاب في تراجم من
نشأ فيها من رجال السيف والقلم من الرجال والنساء.
ولا شك أن كل قارئ بالعربية يتشوق إلى معرفة تاريخ الأندلس التي كانت
أكبر فخر للعرب في العلم والمدنية وكل محب للأدب يتلذذ بقراءة كتابة لسان الدين
بن الخطيب البليغة وكفى بهذين تشويقًا وترغيبًا، ولكننا أسفنا لما رأيناه في الكتاب
من الغلط والتحريف كأكثر المطبوعات الجديدة، وإنما نبهنا على هذا؛ لأن هذه
الشركة أقدر على ضبط كتبها من الأفراد الذين يتجرون بطبع الكتب. ولعل عذرها
في هذا الجزء أنه لم يوجد منه إلا نسخة واحدة، وثمنه 15 قرشًا وصفحاته 375.
***
(الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف
بين المسلمين في آرائهم)
تصنيف العلامة عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي الأندلسي الشهير،
واسم الكتاب يدل على سمو موضوعه، وهو على اختصاره قد جمع من الفوائد في
بابه ما لم تجمعه الأسفار الكبيرة، ولا شك أنه من أنفع الكتب التي ألفها سلفنا. وقد
طبعه واعتنى بضبطه وتصحيحه وشرح أبياته وتفسير غريبه أخونا الفاضل الشيخ
أحمد عمر المحمصاني الأزهري بمراجعة إمام اللغة في هذا العصر الأستاذ الشيخ
محمد محمود الشنقيطي الشهير. فنحث جميع الذين يعولون على رأينا في اختيار
الكتب النافعة على قراءته، ثمنه ثلاثة قروش ولو لم أظفر به إلا بثلاثة دنانير لبذلتها
مرتاحًا وسنعود إلى الاقتباس منه بعد.
***
(مرشد مأموري الضبطية القضائية. ضبط الوقائع الجنائية)
لقد أحسن صنعًا الفاضل محمد بك صبري عضو النيابة بمحكمة الزقازيق
بتأليف رسالة سهلة العبارة في كيفية ضبط الوقائع الجنائية ليستعين بها العمد
ومأمورو الضبطية فيما يعهد إليهم من هذا العمل العظيم الذي يتعلق بحفظ الدماء
والأعراض، وأكثر العمد والمأمورين جهلاء بالطرق التي تتبع في ذلك، ويصعب
عليهم الاستمداد من كتب القوانين، فسهل لهم هذا المؤلف ذلك، فعسى أن يقبلوا عليه
ويحيطوا بما فيه. وهو مطبوع طبعًا حسنًا بمطبعة الشعب، ويطلب من مكتبة
الشعب ومن حضرة مؤلفه
***
(المصور)
جريدة أسبوعية سياسية أدبية مصورة بالألوان أنشأها حديثًا أحد الكتاب
المشهورين بآثارهم القلمية في المؤلفات العصرية والجرائد اليومية الفاضل
خليل أفندي زينية. وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا أميريًّا في السنة، وهي
جديرة بالرواج.
***
(الرأي العام)
جريدة مشهورة في مصر يمتاز صاحبها البارع إسكندر أفندي شلهوب بأسلوب
في كتابة الجرائد يجذب القارئ إلى المطالعة فإذا أخذ جريدته قرأها كلها بلذة، وإن
كان من لا يقرأون من الجرائد إلا ما يحبون موضوعه. وقد كانت احتجبت ثم أسفرت
فعسى أن تظل مسفرة دائمًا.
__________(5/36)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حرية الجرائد والشعور العام بالفضيلة في مصر
أكبر النعم التي مُنحتَها مصر في عهد الاحتلال الأمن العام وحرية المطبوعات.
ومن العجائب أن المتمتعين بهذه الحرية يشكون في هذه الأيام منها، ويطلب
بعضهم أن تقيد الحكومة هذه الحرية المطلقة كمن يطلب احتكار الهواء الذي يحيا به
الناس ليعطوا منه بقدر ما يراه المحتكر لازمًا لحياتهم. هذا ما يظهر بادئ الرأي
من الذين يردون على طالبي التقييد، على أنه لم يطلبه أحد ونحن نذكر الحقيقة مع
بيان السبب.
كثرت الجرائد الأسبوعية في مصر، وأكثر أهلها ليسوا من أهل الصحافة فلا
استعداد عندهم لجعلها حاجة من حاجات البلاد؛ ولذلك أشرعوا لهم طريقًا جديدًا
وهو التنديد أو التعريض بمساوئ الأشخاص وقد وجدوا في هذا الطريق لماجًا
وعوارض يرضون بها قومهم، فمن الناس من يفتدي عرضه منهم بقليل من المال أو
العروض، ومنهم من يغريهم بذم عدو له بأجر معلوم، وقد أطمعتهم معاملة هؤلاء
السفهاء بالعظماء والفضلاء فلم يسلم منهم صنف من الأصناف، وقد أكثروا في هاتين
السنتين من الخوض (بالمعية السنية ... ) والإرجاف بأعمالها.
هذا كله، والرأي العام ساكت عنهم، فما الذي أقام عليهم القيامة في هذه الأيام
وأفاض التبرم والشكوى على جميع الألسنة والأقلام؟ الجواب عن هذا السؤال
يعرفه كل من يقرأ الجرائد المصرية وإنما نذكره صريحًا؛ لأنه من المبشرات
بدخولنا في الحياة الاجتماعية بعد أن كانت حياتنا فردية أحادية، وليكون مسجلاً في
تاريخ مصر الأدبي.
وهو أن جريدة (حمارة منيتي) الهزلية التي تكتب غالبًا باللغة العامية المصرية
قد طعنت من عهد قريب بفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية فهاج
الرأي العام في مصر للطعن بهذا الإمام العظيم، وذهب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع
الأزهر بنفسه إلى محكمة مصر الكبرى وطلب من رئيس النيابة فيها محاكمة صاحب
جريدة الحمار بعد أن طلب مقابلة النائب العمومي فقيل له أنه مسافر. وتقدمت
المحاضر العمومية من العلماء وطلاب الأزهر ومن الأهالي في القاهرة ومن بعض
البلاد في خارجها يطلبون محاكمته. وانطلقت أقلام الكتاب والشعراء في ذم صاحب
الحمارة وأجمعت الجرائد على ذمه وانبرى بعض الكتاب لإحصاء عيوب جريدته منذ
أنشئت، وذكروا منها إهانة القرآن وإفساد الآداب وإفساد اللغة والطعن بالسلطان
والأمير وغير ذلك. وقد قال بعض الأدباء: إن بعض هذه الذنوب أكبر عقوبة من
الطعن بمفتي الديار المصرية فلماذا سكت الناس عنها إلى الآن؟
وقد ذكر صاحب الحمارة نفسه هذا المعنى في مقدمة العدد الأول من السنة
الخامسة ونصه: (قل لي بحقك ما الذي جناه صاحب الحمارة اليوم حتى قامت
عليه هذه القيامة، وما هي بالله تلك الخطيئة التي ارتكبها واستحق عليها الملام،
واتجهت إليه أسنة الأقلام. وانصبت عليه كل هذه السهام؟ فلم يبق في أرض
مصر جريدة ولا مجلة ولا قصيدة إلا وقد حملت عليه، بعد أن كانت في العادة
تحمل منه لا عليه، ولا يبقى شاعر، ولا كاتب واعر، إلا وحرك في ذكراه شفتيه،
كأنهم يريدون ابتلاعه بكل ما لديه) إلخ.
هذا هو السبب في تألم الرأي العام من إطلاق المطبوعات، وما من شيء في
هذا الوجود إلا وله سيئات وحسنات، وهو دليل على أن الأمة المصرية قد دب
فيها الشعور بشئون الحياة الاجتماعية، وصار الرأي العام يعرف لذي الفضل فضله.
ولذا طالب بعض أعضاء الجمعية العمومية الرغبة إلى الحكومة بالاتفاق مع وكلاء
الدول لوضع قانون عام عادل لفوضوية المطبوعات ليأمن كل إنسان على عرضه.
واستحسن رأيه هذا بعض أصحاب الصحف الكبيرة وعده الآخرون وسيلة لتقييد
حرية الصحافة والمطبوعات فأنكروه، ولا يزالون يتناقشون فيه وهم متفقون على أن
حرية الطباعة والصحافة حسناتها أكثر من سيئاتها بأضعاف مضاعفة.
وإذا رجعنا إلى مثلنا الأول نقول: إن هذه الحرية كالهواء الذي هو شرط
للحياة فإذا مر في بعض الأيام على جيفة فحمل إلينا ريحها أو هب شديدًا فأثار الغبار
في وجوهنا فلا شك أننا نبادر إلى ذمه والشكوى منه، ولكننا لا نطلب انقطاعه وإنما
نطلب منع الجيف من طريقه وإزالة الغبار برش الأرض بالماء فلا خلاف إذن بين
الناس في وجوب بقاء هذه الحرية.
أما إزالة هذه الجيف فأمثل طرقها تصدي النيابة العمومية لمحاكمة أصحابها،
فيجب عليها أن تحاكم كل من ينتهك حرمات الآداب وينال من أعراض الناس، وإن
لم يطلب ذلك ممن يطعن فيه. إن لم تقم النيابة بهذه الخدمة للأمة فيجب على الناس
أن يحاكموا من يطعن فيهم إلا عثرة الكريم فإنها تقال شرعًا وأدبًا. والامتناع عن
محاكمتهم توهمًا أن ذلك يعلي شأنهم أو يخفض شأن من يحاكمهم خطأ كبير؛ فإن
الحدود والعقوبات لم تسن في الشرائع الإلهية ولم توضع في القوانين البشرية إلا
لهؤلاء المعتدين {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21) .
وأما صاحب الحمارة فقد حاكمته النيابة العمومية فحكم عليه بالسجن مدة ثلاثة
أشهر وبالنفقات، ولم يدخل المفتي في الدعوى مطلقًا ولا طلب حقًّا مدنيًّا. وكان في
الجرائد التي حملت على صاحب الحمارة جريدة طلبت من المفتي العفو عنه، ولو كان
هو الذي طلب ذلك تائبًا لأجيب طلبه قطعًا فإن الأستاذ سليم القلب واسع الحلم لا
يحب أن ينتقم لنفسه، على أن ما كتبته الحمارة كان أكبر خدمة له؛ لأنه أظهر له
مكانة عالية في نفوس خواص الأمة وعوامها لا يدانيه فيها أحد مع العلم القطعي
لكل أحد بأنه بريء من سبب نهاق الحمارة براءة عائشة من إفك المنافقين،
وصاحب الحمارة نفسه يعتقد ذلك أيضًا، لأن هذيانه لم يكن مبنيًّا إلا على الاستنباط
من صورة اخترعها بعض المفسدين.
أما العبرة التي نقصدها من إيراد هذه المسألة فهي إزالة شبهة علقت في أفهام
أكثر الناس فكانت أضر اعتقاد تقلدوه، وهي أن من يشتغل بالعلوم الحقيقية ويتخلق
بالأخلاق الفاضلة والسجايا الكاملة كالصدق والمروءة وعلو الهمة وبذل المعروف
والسعي في خير الناس ومنفعتهم لا ينجح في عمله ولا يعرف له أحد فضله
ويستدلون بأمثال يضربونها قد اشتبه عليهم حقها بباطلها، وهذا المثل الحق الذي
يدحضها وهو أن الشيخ محمد عبده سلك هذه الطريقة فحل من نفوس الأمة محلاً
عليًّا ونال فيها اسمًا سميًّا ما زاحمه فيه عالم ولا أمير، ولا شاركه فيه غني ولا
وزير، والعاقبة كما قال الله تعالى للمتقين.
__________(5/38)
16 محرم - 1320هـ
25 إبريل - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(الدرس 33)
عصمة الأنبياء عليهم السلام
(المسألة 86) الدليل العقليّ على عصمة الأنبياء:
يؤخذ الدليل على عصمة الأنبياء من وجه الحاجة إليهم في الكمال الإنساني،
ومن وظائفهم المنطبقة على وجه الحاجة إليهم. وقد تقدم الكلام في ذلك، ومنه أن
الوظائف خمس وهي نوعان: نوع في بيان الاعتقادات التي ترقي العقل وتعتقه
من رق العبودية لمظاهر الطبيعة التي خلق مستعدًّا لتسخيرها والتصرف فيها فجنت
عليه الوثنية فسخرته لعبادة كل مظهر منها لا يعرف علته ولا يحيط بحكمته.
ونوع في تهذيب النفس وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة. ولا
يرتقي النوع الإنساني إلا بمجموع ما يندرج في هذين النوعين من التكاليف وبارتقائه
يكون خليفة الله تعالى في الأرض، وتلك غاية سعادته في هذه الحياة الدنيا التي
تستتبع سعادته في الحياة الآخرة الباقية التي جعلت هذه الحياة مزرعة لها كما ورد.
وبديهي أن العمدة في بيان النوع الأول صدق الخبر بحيث لا يحوم حوله
الشك والريب. والعمدة في الثاني صدق الخبر كذلك مع حسن الأسوة وصحة القدوة
بالمخبر؛ لأنه تربية وإنما التربية بالقدوة، والتعليم القولي مساعد للتأسي وأثره. ولا
تحصل الثقة القطعية بصدق الخبر إلا إذا كان المخبر معصومًا من الكذب والخطأ
في التبليغ. ولا تتم القدوة وتحسن الأسوة إلا إذا كان الإمام المقتدى به بريئًا من
النقائص، منتهيًا عما ينهى عنه، مؤتمرًا بما يأمر به، متخلقًا بما يرغب في التخلق
به إذًا لا تتم حكمة الله تعالى في إرسال الرسل إلا إذا كانوا بحيث ذكرنا من الصدق
والنزاهة.
والحكمة واجبة لله تعالى فوجب أن يكون الأنبياء المبلغون عنه سبحانه صادقين
معصومين {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) ولا يلزم من هذا إيجاب شيء على الله تعالى فيكون حجة للمعتزلة وإنما هو إيجاب الحكمة له كإيجاب العلم والقدرة.
***
(م 87) الدليل النقلي على عصمتهم:
إن الله تعالى ما أرسل المرسلين إلا ليُتبعوا ويُقتدى بهم، وقد أمر باتباعهم
كقوله في خاتمهم عليه السلام: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) فلو كانوا يخالفون ما يجيئون
به من الهدى لكان الله تعالى آمرًا بالشيء ناهيًا عنه في آنٍ واحد، وهو مُحال على
الله تعالى، ولو فعلوا الفاحشة لكان الله آمرًا بها من حيث أمر باتباعهم أمر تشريع
وأمر بالتأسي بالعظماء أمر تكوين بأن أودع ذلك في فطرة الإنسان. وقد قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28) على أن الطاعة هي ما أمر الله
تعالى به فلو فُرض أن المرسلين يرتكبون المعاصي لكان معنى ذلك أن الطاعات
هي من المعاصي كما قال السنوسي في الكبرى وذلك تناقض لا يقول به عاقل.
وهذا الاستدلال لا يصح على أصول أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويجب أن
يكون أصلاً يرجع إليه جميع الأدلة التي يثبت هو بها فيكون ناقضًا لنفسه.
***
(م 88) الشبه على العصمة:
يقولون: ورد في القرآن إثبات الذنوب للأنبياء والمرسلين إجمالاً
وتفصيلاً.
أما الإجمال فكقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: 2) وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (غافر: 55) وقوله عز وجل:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (النصر: 3) وأما التفصيل فكقوله: {وَعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121) وكقصة داود وسليمان عليهما السلام وكقصة إخوة
يوسف، ونحن نجيب عن ذلك بالتفصيل.
***
(م 89) مغفرة الذنوب:
علمنا مما تقدم أن معنى عصمة الأنبياء في النوع الثاني (العملي) هو
نزاهتهم وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها لئلا
يكونوا قدوة سيئة مفسدين للأخلاق والآداب وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات
الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الضعف البشري من
التقصير في القيام بحقوق الله تعالى على الوجه الأكمل، ومن الخطأ في الاجتهاد
ببعض المصالح والمنافع ودرء المضار. كلا إن الإنسان خلق ضعيفًا، وما أوتي
من العلم إلا قليلاً، ولا يمكن أن يحيط بوجوده المصالح والمنافع ودرء المضار
والمفاسد إلا من هو بكل شيء عليم، ومن ليس له هذه الإحاطة قد يخطئ في اجتهاده
فيعمل العمل وهو يعتقد أنه الصواب والخير فيجيء بخلاف ذلك - ومثل هذا يسمى
ذنبًا من الكامل والمقرّب؛ لأن الإنسان مستعد لإدراك الصواب في تلك المسألة التي
أخطأ فيها، فإذا وقع عَرَضًا من الأنبياء يعاتبهم الله تعالى عليه ويغفره لهم ويأمرهم
بتبليغ ذلك لأمتهم؛ ليعرفوا الفرق بين الرب والعبد فلا يفضي بهم الغلوّ بتعظيم
أنبيائهم والإعجاب بفضائلهم ونزاهتهم إلى عبادتهم مع الله تعالى-.
ومن أمثلة ذلك اجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم في استمالة رؤساء
قومه وأغنيائهم إلى الإيمان الذي أدّاه إلى الإعراض عن ابن أمّ مكتوم لما جاءه يسأله
أن يعلمّه مما علّمه الله وكان يدعو صناديد قريش، فإنه كره أن يشتغل به عنهم لئلا
ينفّرهم، ولا يخفى أن أولئك النفر من كبارهم هم الذين كانوا يحادّون النبي ويناصبونه
ولو آمنوا أولاً لتبعهم سائر قريش، فهذا هو وجه اجتهاده صلى الله عليه وسلم في
العناية بهم والإعراض عن الأعمى إذ جاء يشغله عنهم.
فعاتبه الله تعالى على ذلك وردعه عنه بالقول الشديد كقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (عبس: 3) ، فلَْتُتْلَ الآيات في أول سورة (عبس) وذلك أن سنة
الله تعالى مضت في أن الأديان تقوم بالدعوة والاقتناع والرؤساء والمترفون أبعد
الناس عن معرفة الحق وعن الخضوع له إذا عرفوه، وقد جاء في هذا المعنى آيات.
ومن الأمثلة أيضًا عتابه في مسألة زيد وزينب (فلتراجع في ص 630
و714 من المجلد الثالث) . ومنها: إذنه صلى الله تعالى عليه وسلم للذين استأذنوه
في التخلّف يوم الخروج إلى تبوك، وقد عاتبه الله تعالى على ذلك ألطف عتاب بقوله:
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43) الآية. فكان الأولى أن لا يأذن
ليعلم الكاذب المنافق، من المؤمن الصادق، ومنها مسألة أخذ الفداء من أسرى بدر
اجتهد صلى الله عليه وسلم وشاور فاختلف أصحابه فوافق رأيه رأي أبي بكر بأخذ
الفداء فعاتبه الله تعالى عتابًا شديدًا حتى بكى وبكى أبو بكر، وذلك قوله تعالى: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} (الأنفال: 67-68) قال البيضاوي في تفسيره: والآية دليل على أن
الأنبياء يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه.
فهذه هي ذنوب الأنبياء وهم يستغفرون منها، وهي مغفورة لهم بفضل الله
تعالى لأنهم لم يريدوا إلا الخير والنفع وليس فيها قدوة سيئة، وإنما فيها فائدة
معرفة الناس أن النبي وإنْ جلّ قدره وعلت نفسه فهو بشر مثلهم ميزه الله تعالى
بالوحي وجعله إمامًا في الخير، وأنه على هذه الخصوصية يعاتب وينسب إليه
الذنب والتقصير، ويمنحه الله المغفرة دلالة على أن له أن يغفر له وله أن يعاقبه {قُلْ
فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ
جَمِيعا} (المائدة: 17) وعلى أنَّ توقع نزول العقوبة بأصحاب المعاصي التي تنتهك
فيها الشرائع ويخالف الدين عمدًا - وهو ما لا يقع من الأنبياء - أقرب، وأنهم أولى
بالخوف منه وأجدر بالتوبة. وأن الكمال المطلق لله تعالى وحده فلا رب غيره ولا
معبود سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/47)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
(س1) من الشيخ مقبل عبد الرحمن الذكير في البحرين: ما قول منار
الإسلام وهداة الأنام سادتنا العلماء الأعلام في الأوراق المسماة بالأنواط التي وضعها
بعض الدول للتعامل عوضًا عن بعض المسكوكات الفضية كالروبيات مثلاً والتزمت
تلك الدولة التعويض عنها بالأثمان المقدرة بها؟ هل تجري مجرى العروض كما هو
واقع من كثير من التجار يتعاطونها بيعًا وشراءً، رواجًا وبخسًا، أو تجري مجرى
العين؟ فإن قلتم بالثاني فهل تقولون به من كل وجه وفي كل باب، أو من بعض
الوجوه وفي بعض الأبواب؟ فإن قلتم بالأول فيقتضي أن لا يجوز صرف تلك
الأوراق بباقي أيّة سكة من السكك الفضية إلا وزنًا بوزن، يدًا بيد وهو في الظاهر
بعيد كما أن ذلك يقتضي أن لا يجوز الزيادة على الثمن الذي قدرت به بشيء
ما، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه المسألة، ويتفرع عنها في باب الزكاة وباب
الصرف، وباب الدين والحوالة والبيع نقدًا ونسيئة، وما تقولون في الحديث
الوارد: (إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم) .
وبالضرورة أن الورق المذكور بل وجنس الورق كيف كان ليس هو من جنس
أحد النقود الذهبية والفضية والنحاسية لا لغةً - وهي معتبرةٌ هنا في الشرع - ولا
عقلاً وشرعًا ولا عرفًا عامًّا. والمأمول أن يكون التقرير في غاية الوضوح والبيان
والمتانة على منهج القواعد الشرعية والأدلة المرعية والطرق الأصولية بالسيرة
المرضية؛ لأن المسألة بعموم البلوى والضرورة العامة صار لها في البحث أهمية.
ولكم الأجر والثواب من الملك الوهاب.
(ج) الورق ليس مالاً ربويًّا في عرف فقهائنا؛ ولذلك أفتى بعض
علماء الشافعية بأن هذه الأوراق المالية المسماة بالأنواط (مفرد: نوط) لا يجري فيها
الربا، ويفتي غيرهم من علماء المذاهب بذلك؛ لأن الربا مخصوص بالنقدين
والأقوات عند الشافعية ومن وافقهم.
والعلة عند الحنفية الكيل مع الجنس أو الوزن، فكل مكيل أو موزون إذا بيع
بجنسه متفاضلاً فهو ربًا محرم ولكن هذا لا يأتي في هذه الأنواط وإن ورقتين منها
يتساويان في الوزن، وقيمة إحداهما مائة روبية والأخرى ألف روبية مثلاً. فلا
بد من النظر في مقاصد الشريعة وحكمها وجعلها مدار معرفة الأحكام، وإننا نأخذ
بكلام الفقهاء ما لم يخل بهذه المقاصد، فإذا أخل بشيء منها كمنع الزكاة أو إباحة
الربا الضار الذي حرمه الله تعالى رحمة بالناس فإننا لا نقبله؛ إذ لا يصح أن يكون
الاجتهاد مبطلاً للنص بل لا يصح مع النص، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ
والمباني. ولا يخفى على أحد أن هذه الأوراق المالية لا قيمة لها من حيث هي
ورق، وإنما هي سند بمبلغ من النقود فقيمتها بحسب الرقم الذي يعين المبلغ. ولا
يضر المتدين الأخذ بقول أي فقيه ما لم يمنع الزكاة أو يستبِح الربا.
فأما الزكاة فلا تضيع إذا اعتبرنا هذه الأنواط من عروض التجارة؛ لأنها
تقوم في كل حول بقيمتها وتؤدى زكاتها. وأما الربا فالذي أجمع المسلمون على
تحريمه منه هو ربا النسيئة، والجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريم ربا
الفضل أي: الزيادة في أحد العوضين مع التقابض فيما هو ربوي كالنقود
والتمر والحنطة ونحوهما، وفيه خلاف بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
أجمعين كابن عمر وابن عباس وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم، وكسعيد
بن المسيب وعروة بن الزبير من التابعين. واستدلوا بما أخرجه البخاري ومسلم
وغيرهما من حديث أسامة (إنما الربا في النسيئة) في رواية مسلم عن ابن
عباس (لا ربا فيما كان يدًا بيد) .
ومثل ذلك الأحاديث الصحيحة في جواز الصرف يدًا بيد. والعله أو الحكمة في
منع الربا لا محل لتفصيلها في هذا الجواب. وإنما نقول بالإجمال: إن من أكل شيئًا
من مال أخيه بغير مقابل من عين أو عمل فقد أكله بالباطل، وإن أخذ زيادة عما
يعطي الإنسان لأخيه بمجرد التأخير في الوفاء من دواعي قسوة القلوب ومحو
عاطفة التراحم وقطع طريق الصنيعة وعمل المعروف فلا يليق بالدين أن يبيحه.
ومن بليغ الكلام , ما قاله الأستاذ الإمام , وهو: إن الربا عبارة عن استغلالك
حاجة أخيك. وإن مشروعية التعامل بالنقود خاصة تفضي إلى الجناية على التجارة -
وسنفصل القول في الربا ومضاره في فرصة أخرى.
أما حقيقة الربا فليس بعد بيان الله تعالى فيها بيان قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فعلمنا أن
الربا قسيم البيع ومقابله، فالجامع بينهما المعاوضة، والفارق هو أن أحد العوضين في
البيع وهو الثمن يقابل جميع العوض الآخر وهو المثمن بخلاف الربا فإن أحد
المتعاوضين فيه يأخذ جزءًا من مال الآخر بدون عوض ولا مقابل، وهذه التفرقة
معتبرة في التسمية إلى الآن، فالربا لا يسمى بيعًا، ولكن من البيع ما تدخله شبهة
الربا بحسب ما توسع فيه الفقهاء من أحكامه وجزئياته، ولكن من فهم حكمة الشارع
المبنية على درء المفسدة وجلب المنفعة لمجموع الأمة يقدر أن يميز بتفقهه في الدين
بين المعاوضة والمقصود بها البيع، ونفع أخيه بمثل ما ينتفع به منه بالمعروف،
وبين انتظار الفرص لضرورته واستغلال حاجته وأكل ماله بالباطل.
وإنني أنصح للأخ السائل وغيره من تجار المسلمين الذين يهمهم أمر الدين أن
يلاحظوا هذا الفقه الحقيقي ويجعلوه الأصل في معاملتهم؛ لأنه هو روح الدين وسره
الذي يتعلق بإصلاح القلب وتزكية النفس، فإذا أفتاهم علماء الرسوم بفتوى تؤدي إلى
منع الزكاة بحيلة من الحيل , أو أكل أموال الناس بلا بدل , أو تجعل البيع ربًا؛
فليحتاطوا لأنفسهم فإن الله تعالى ما تعبدنا بظواهر الألفاظ ومدلولات كلم الناس وما
يضعون من الأقيسة والقواعد التي لا تصلح بها القلوب.
وقد قال عليه السلام لوابصة (استفت نفسك البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت
إليه النفس والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه
أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهم. ومن فقه ما ذكرنا لا يحار سواء عليه أعد تلك
الأنواط عروضًا أم عدها نقودًا، والذي يميل إليه القلب هو اعتبارها نقودًا.
وأما الحديث الذي ذكره فهو جزء من حديث صحيح أخرجه أحمد وابن أبي
شيبة في مسنديهما ومسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننهما عن عبادة
ابن الصامت ولفظه: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير
بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه
الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيد) ومعلوم أنه إذا اختلف الصنف بطل الربا
ولا معنى لبيع شيء بمثله من صنفه إلا إذا كان من جيد ورديء، وفي هذه الحالة
أجاز النبي صلى الله عليه وسلم المعاوضة بالتفاضل بشرط أن يكون بيعًا يقدّر بالثمن
كما في حديث البخاري وغيره.
وليس هذا من الحيلة التي تضيع بها حكمة التشريع، وإنما هي سدٌ لذريعة الربا
وبيانٌ لقاعدة نافعة وهي أن الربا ينتفي بقصد البيع فكل ما تحقق فيه معنى البيع
فليس من الربا في شيء. هذا ما يتسع له المجال الآن وسنعود إلى الموضوع ونطلب
من العلماء الكرام بيان رأيهم لننشره والله الموفق للصواب.
***
(س2) السيد أحمد منصور الباز ببني صالح: يعتري بعض الناس حال
تسميها العامة (جذبًا) فيغيب عن وجوده حتى يصير كالمجنون لا يدري ما يقول
ويفعل ويظهر هؤلاء بمظاهر مختلفة تعتقدهم العامة بل والعلماء، وكتب الصوفية
طافحة بأخبارهم وأخبار القطب والأنجاب والأوتاد والأبدال، ويسمون مجموع
هؤلاء الدائرة القطبية ورئيسها القطب الملقب بالغوث، ويقال: إنه يتلقى الأوامر
الإلهية وتفيض منه إلى الدائرة القطبية بترتيب معروف عندهم فما رأيكم فيهم؟
نرجو الإفادة بالمنار ليظهر الحق للناس كافة.
(ج) أما الحال التي يسمونها جذبًا فهي فن من فنون الجنون، وإنما
يسمى صاحبها مجذوبًا أو بُهلولاً إذا كان سبب الحال هو الإفراط في الرياضة
والمجاهدة النفسية والانقطاع للذكر والعبادة إكرامًا لمن كان كذلك أن يساوى بسائر
المجانين والاعتقاد بهؤلاء البهاليل قديم العهد عندنا، وسببه أن منهم من كان يظهر
على لسانه بعض الحكم؛ لأن من يذهب عقله لا يعدم كل ما كان أدركه وعَلمه،
وإنما يعدم النظام بين الأفكار والمعلومات، ومنهم من ظهر على يديه بعض الغرائب
أو أسنده إليهم بعض المغرورين الذين يضيفون الأشياء الغريبة إلى ما يقارنها من
الحوادث، وإن لم يكن علة لها، كأن يؤذي إنسان آخر فيصاب عقيب ذلك بمصيبة
تقع بوقوع سببها.
وأما القطب وسائر الموظفين الروحانيين في دائرة تصرفه، الذين يسمونهم
رجال الغيب كالإمامين والأوتاد والأبدال، فلم يرد فيه شيء صحيح في السنة إلا ما
رووه في الأبدال وهي روايات ضعيفة مضطربة في بعضها يعدون ثلاثين وبعضها
أربعين إلخ. ومن عجيب تمحلهم في الاستدلال على القطب ما نقله ابن حجر عن
بعض المحدثين من حمله خبر أبي نعيم في الحِلْية على القطب وهو: (إن لله في
كل بدعة كِيد بها الإسلام وأهله وليًّا صالحًا يذب عنه) إلخ.
وأعجب من هذا أن المسلمين في الغالب لا يحفلون بمن يدافع عن البدع بالفعل
ولا يسمونه وليًّا ولا قطبًا بل ربما عادوه، ولكن يسهل عليهم أن يقولوا: إن الذي
يدافع عن البدع رجل خفي من رجال الغيب يدافع في الغيب عن الإسلام فلا يُعرف
ولا تُعرف مدافعته.
والحاصل أن الشرع لا يطالب أحدًا بتصديق ما لم يقُم عليه دليل، ولا يكلفه
بالإيمان بهؤلاء الرجال المجهولين، بل يحرُم عليه أن يقول ما لا يعلم. وهذا لا يمنع
أن تصطلح طائفة الصوفية على ألقاب تطلقها على أهل الخصوصيات، وليس لهم أن
يفضوا بذلك إلى من لا يعرف تلك الخصوصية لئلا يكلفوه بالقول بغير علم. وللمبحث
ذيول سنفصلها تفصيلاً.
***
(س3) محمد أفندي مأمون كرشه بسنديون (غربية) : هل حكم الحاكم
يرفع الخلاف أم لا، ومَن هذا الحاكم، فإن كان رافعًا فهل يبقى كذلك بعد موته؟ فإنه
إذا لم يبق يلزم أن لا يعمل بحكم قاضي مصر السابق إلا إذا أجازه من يخلفه.
(ج) حكم الحاكم الشرعي الذي رأيتم شروطه في الجزء الماضي يرفع
الخلاف في المسائل الاجتهادية فيجب تنفيذه ولو عزل أو مات. ونعني بالمسائل
الاجتهادية ما لا يخالف الكتاب والسنة والإجماع. قال في الجامع الصغير: (وما
اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاضٍ آخر يرى غير ذلك أمضاه)
وعلَّله الكمال في الفتح بأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، ويرجح هذا باتصال القضاء
به فلا ينقض بما دونه.
***
(س4) ومنه: هل يصح ما يقول الوعاظ وعصابة الزار من أن
الجنّ مسلطون على الإنسان؟ وهل الزار على هذا منكر يجب النهي عنه شرعًا أم
لا؟ وإن أجبتم بالسلب، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا
الحمام المقاصيص فإنها تلهي الجن عن صبيانكم) ؟ ومعنى ما ورد في الآثار أن
الجن يجري في جسم الإنسان مجرى الدم في الشرايين؟
(ج) لفظ الجن يطلق على المخلوقات الخفية، ويقال: إن منها ما هو مادي
وما هو روحاني، وأجدر بهذه الأحياء التي يسمونها الميكروبات أن تكون من المادي
وهي سبب الأمراض والأوبئة كالطاعون والهيضة، وعليها يحمل ما ورد من أن
الطاعون من وَخْز الجن، فهي مسلطة على الإنسان وهو مسلط عليها بالعلم
الصحيح، وإن كان لما يقدر على كثير منها بعد تمكنها في الجسم.
وأما الروحانية فلا سُلطة لها على الأجساد وإنما هي منشأ الوساوس والخواطر
القبيحة الضارّة فمن العلماء من يقول: إنها القوى المعنوية الباعثة على الشر،
والأكثرون على أنها عالم مستقل من جنس عالم الروح يلابس أفراده النفوس المستعدة
للشر بسوء التربية فيقوي فيها الرغبة فيه. وعليه يحمل حديث الصحيحين وغيرهما
(إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع) .
وهو كناية عن تمكنه من الوسوسة. وأما الزار فهو منكر قبيح يجب إبطاله
بالفعل، فإن لم يستطع فبالقول، وأما حديث اتخاذ الحمام المقاصيص فغير صحيح،
ويطلق لفظ الشياطين والجن على الأشرار من الناس وعلى الحيّات والثعابين. وعلى
الأول يحمل الحديث لو ثبت وكذا غيره مما ورد في النهي عن خروج الصبيان في
الليل؛ لأنه وقت انتشار الشياطين. وإننا نرى شياطين الأزبكية وجنها ينتشرون إذا
جنّ الليل، ونحث من يهمهم تربية أولادهم على منعهم من الخروج لئلا يفسدهم
هؤلاء الشياطين.
***
(س5) ومنه: هل التسبيح في قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِه} (الإسراء: 44) بلسان المقال أم بلسان الحال أم المقصود أنه سبب في
تسبيح الرائي؟
(ج) المتبادر الذي اختاره المفسرون أن التسبيح من غير العقلاء هو بلسان
الحال أي: إن إمكان الأشياء وحدوثها يدلان على تنزيه واجب الوجود. وذهب بعض
إلى أنه بلسان المقال؛ لقوله: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44)
وأجابوا عنه بأن الخطاب للمشركين لا للناس أجمعين؛ أي: لا تفقهون هذه الدلالة
لإهمالكم النظر الصحيح والاستدلال العقلي.
__________(5/51)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القرآن والكتب المنزلة
المقالة الثالثة للقس إسحاق طيلر نشرت في جريدة سنت جمس في 13 مايو
سنة 1888.
إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح وصدقوا ببعثته وهو عندهم معدود في أولي
العزم من رسل الله إلى خلقه، فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد ونسأل الله
أن يهديهم وإيانا إلى الحق وطريق مستقيم. ولا منافاة عندهم بين الاعتقاد بالقرآن
وأنه كلام الله وتنزَّل من عنده، وبين الاعتقاد بسائر الكتب السماوية وأنها بوحي من
الله وإلهام. بل يعرف من صريح كلام المسلمين أن اعتقادهم بالكتب السماوية إنما
ساقه إلى قلوبهم الاعتقاد بالقرآن فهم في اعتقادهم بها يمتثلون أمرًا من أوامره
ويجيبون داعيًا من دواعيه.
وليس في المسلمين من يدعي أن القرآن يكذب شيئًا من الكتب الإلهية ولا في
إمكان مسلم أن يدعي ذلك لما يشهد به القرآن من أنه مهيمن على ما بين يديه من
الكتب يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، مصدق لما معهم من
الحق ولكنهم يقولون: إن القرآن خاتمة الكتب كما أن من أنزل عليه (صلى الله
عليه وسلم) خاتمة الأنبياء، ولا تجد مسلمًا إلا يؤمن بالتوارة والإنجيل
والزبور والقرآن، فكل صحيفة من الكتب الإلهية ثبت مجيئها على لسان
نبي صادق فهي عندهم كلام الله المنزه عن الخطأ والزلل.
وما صح نقله عن عيسى عليه السلام فهو حق واجب التصديق، وكثيرًا ما
ينقلون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يعرف بالأحاديث شيئًا من أقوال المسيح
ونصائحه وأحواله ويتلقونها بالقبول، غير أن المعروف عندنا أن الأناجيل
المشهورة لم تكتب في عهد المسيح عليه السلام كما كتب القرآن وغيره في حياة
من أنزل عليهم فلا لوم على المسلم إذا طلب التثبت وتحقيق السند لصحة النقل كما يكون منه ذلك فيما ينقل عن نبيه (صلى الله عليه وسلم) من الأحاديث؛ لأن
عروض الشبهة في نقل من تتحقق عصمته أمر طبيعي عند عموم البشر.
قال لي أحد المسلمين: إن القرآن يشهد بأن الله آتى عيسى عليه السلام
الإنجيل وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وما نعرفه من الكتب الإلهية نقبله
ولا ننكر شيئًا منه، وإن كنا قد نختلف معكم على تفسيره وتأويله كما اختلف
الأحزاب من بينكم، وعندنا أن كتابنا ونبينا صلى الله عليه وسلم قد بشر بهما أنبياؤكم
من قبل كما تقولون في المسيح عليه السلام، وكما لم يقدح إنكار اليهود لعيسى في
اصطفاء الله له، كذلك لا يقدح إنكار من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في
ثبوت رسالته. ولقد أرشدني الاطلاع على مذاهب المسلمين في التعليم إلى أنهم لا
يأبون عن تسليم أدلة القسيس بالي التي ذكرها في كتابه المسمى ببراهين دين المسيح
غير أنهم يتخذون منها حججًا قويمة على أن دينهم الحق. مثلاً يعدون من بينات
دينهم ودلائل أنه الحق سرعة انتشاره واستقبال القلوب وجهته على نحو غريب
عزيز المثال، ثم إشراق نور الإخلاص من عقائد الذين اتبعوه كما يرشد إليه أدنى
الفكر في أحوالهم من ثباتهم معه في ساعات العسرة ومصابرتهم في الشدائد وازدياد
إيمانهم في الضراء واستقامة سيرهم في السراء.
ومنها ما بهر العقول من الحكم الدقيقة التي برعت بها أحكام القرآن وانطباقها
مجيب على ما تقتضيه طبيعة الإنسان الدينية (أي: من حيث يطلب دينًا) وتأثيرها
الغريب في قلوب الآخذين بها والقائمين على سبيلها واحتباسها لنفوسهم على
الكمالات الإنسانية، واجتذابها لهممهم عن الانبعاث إلى ما تدعو إليه الرعونة البدنية،
فهي تلبسهم ثوب الوقار والحشمة في النعماء، وتشعرهم شعار التسليم والاصطبار في
البأساء. وفي الحق أن لهم أن يسألونا: هل يمكن لأميّ مثل محمد (صلى الله عليه
وسلم) أن يأتي بحقائق زكية نقية عليَّة وأحكام تسطو بسلطانها على النفوس كالتي جاء
بها القرآن بدون أن يكون ذلك بوحي من الله وإمداد منه؟
أما ما يقال من أن القرآن لم يذكر فيه معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم سوى
القرآن نفسه؛ فعلى فرض أن لا يصح شيء مما نقل في كتب الأحاديث من المعجزات
مع أنها أشبه بالأناجيل عندنا يجاب عنه بأن هذا لا يقدح في رسالته، بل هو أوضح
دليل على صدقه في دعواه؛ إذ لو كان ملبسًا أو مفتريًا (والعياذ بالله) لما أعوزه
التمويه ببعض الغرائب المخترعة ليشبه على أصحابه ويحمل الناس على الإعجاب
بغرائبه. وقد رأينا أن المسيح عليه السلام كان يوبخ اليهود على مطالبتهم له
بالمعجزات، والذي يظهر لنا أنه لولا قساوة قلوبهم وعنادهم لما عوّل في دعواه
عليها.
على أن الأعاجيب التي رويت عن المسيح عليه السلام أصبحت في هذه
الأيام مما يعد عقبة في طريق الاعتقاد بدينه فكثير من الناس يحسبون الدين سهل
القبول لولاها. فعدول محمد (صلى الله عليه وسلم) في إثبات نبوته عن سبيل
الغرائب واكتفاؤه من المعجزة بكتابه وصدق أنبائه، والبراهين العقلية التي تحدق
إليها البصائر السامية، كل ذلك آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم على صدقه،
ولا إشكال فيه بل هو عين ما يطلبه المسلمون.
ثم إن المسلمين لا يقفون في إثبات دينهم عند نهاية هذا الحد ولكنهم يذهبون إلى
أن لهم في الكتب السابقة أدلة بينة على صدق كتابهم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم
وهم على يقين أن الأنبياء السابقين (عليهم الصلاة والسلام) قد توالت أنباؤهم على
التبشير بنبيهم كما نقول في عيسى عليه السلام، وما يذهب إليه المسيحيون في تأويل
بعض الأخبار المأثورة عن الأنبياء أو الأصفياء الأولين يخالفهم فيه المسلمون إلى
تأويل أفضل لهم، وقد نجد التأويل الثاني ألصق بعبارة النبأ، فإن لم يكن فإنا نرى
التأويلين في كفتين متعادلتين، وإنما يرجح كُلاًّ إِلفُ صاحبه ومَيله، ولذلك أمثال
كثيرة يطول سردها ويسهل على الطالب إيجادها.
أذكر ما نبهني إليه أحد أصدقائي المسلمين من معنى العددين المذكورين في
آخر كتاب دانيال النبي عليه السلام وهما عدد 1290 وعدد 1335، فبعد أن بين
بتاريخ انقطاع الذبيحة اليومية من يوم بني منسه ملك اليهود مذابح للأصنام في هيكل
القدس، وفسر الصنم المصوغ الذي نصبه الملك في القدس بالرجس المخرب، وعبر
عن الخراب بتسخير الأوديين لأورشليم فأراني كيف أن أحد العددين المذكورين يأتي
بنا إلى زمان الهجرة النبوية، وأن الثاني ينتهي بنا إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان
عندما أتم المسلمون فتوحاتهم في سورية ومصر وفارس وأفريقيا، وكيف قطعت
مصالحة الحسن بن عليّ دابر الشقاق بين الأمة، وسكن المسلمون الأرض آمنين
مطمئنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولست أحكم بصحة التأويل ولا عدمها،
ولكن أقول: إنه ليس بأقل جودة من بعض ما أول به قوم آخرون.
وأهم ما نقصد الآن أن يعرف النصارى عندنا في إنكلترا كيف يستدل
المحمديون بأنباء كتب اليهود والنصارى على إثبات دينهم وتحقيق يقينهم.
بقي شيء يشتد الإنكار فيه منا على المسلمين وهو اعتقادهم بجنة جسمانية فيها
من الحور العين ما تشتهيه نفوس المؤمنين، على أني أقول: وما إنكارنا ونحن
نرى في كتاب نشيد الأناشيد المنسوب إلى سليمان بن داود (عليه السلام) عبارات إن حُملت على ظاهرها كانت أدخل في الجسمانية وعالم المادة من كل ما ينسب إلى
القرآن غير إننا لمحنا من درس فصول ذلك الكتاب في ترجمته المشهورة أن تلك
كنايات عن محبة المسيح لأمته، ثم إننا نرى ذِكرًا صريحًا للجنة الجسمانية في
مكاشفات يوحنا المعدودة عندنا خاتمة الأناجيل، فإنه يذكر وصف أورشليم الجديدة وهي الجنة ومساحتها الدقيقة وحدودها وما فيها من أبواب من لؤلؤ وأزقة من ذهب
وجدران من جوهر ويفيض فيما رواه ذلك مما لم يأت القرآن عليه. وإن لنا
عبارة تألفها نفوسنا ونترنم بها في عبادتنا مع الافتخار إذ نقول: (أورشليم
المذهبة المباركة باللبن والعسل) وليس يخطئ قائل لنا: إن نغمات المظفرين
وأغاني المخلفين التي نجدها في مكاشفات يوحنا تذكّرنا بأن غاية المسيحي من إيمانه
وأمله المطلوب من عبادته أن يصل إلى جنة نعيمه فيها أن يأكل ويشرب ويسكر
ويغني كما نرى من عمله في هذه الدنيا أيام الأعياد المشهورة، على أننا نأول ذلك كله
ونصرفه عن ظاهره، ونحمل كل لفظ وجد لمعنى محسوس على سر معقول.
وإن العرفاء من المسلمين يعتقدون بأن لهم نعيمًا روحانيًّا يتعالى إلى غير
النهاية عن النعيم الجسداني، ولسنا نكابر كما يكابر القسيس (مكول) ونحكم بأن
المسلم لا مطمح له في أخراه إلا الأكل والشرب وقضاء شهوات أُخَرَ، وقد ذكر في
القرآن في سورة القيامة من جزاء المؤمنين أن تكون وجوههم يوم القيامة ناضرة إلى
ربها ناظرة، وفي الأحاديث عندهم ما يدل على ذلك ففيها عن نبيهم (صلى الله
عليه وسلم) ما معناه أن أعظم فوز يفوز به العبد في الآخرة هو لقاء ربه في الغدوّ
والآصال وهو نعيم يفوق كل نعيم كما يفوق البحر قطرات العرق، وفي حديث آخر
أن المؤمنين يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر. وفي آخر ما يشبه المعروف
عندنا (إن الله قد أعد للمؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر) .
وإن في عقائد المحمديين أن رضوان الله أكبر من كل نعيم، فإن وافقنا المسلم
على أن جنة جسدانية لا تليق أن تكون جزاء المؤمن في الآخرة؛ أفلا يجوز له أن
يُؤول ما ورد في كتابه من ذلك كما وردت عبارة النشيد وعبارات المكاشفات
والتأويل عليه أسهل منه علينا فإن عنده في كتابه ما يشير إلى أن بعض ما نص الله
لهم من الكتاب لا يؤخذ على ظاهره، وله في السنة ما معناه: ليس في الجنة شيء مما
في الدنيا إلا الأسماء لنا نحن. فلم يذكر لنا في المكاشفات ما يسوغ التأويل أو يشير
إلى أن ما جاء فيها من الأوصاف ضرب من التمثيل؛ لأن صاحب الكتاب يصرح
لنا بأن ما فيه من الأقوال حق لا ريبة فيه كما هو مذكور، فللمحمديين حق إن
طلبوا الجنة الروحانية واللذائذ السامية العقلية، وهم مؤمنون بكتابهم، ويرون أن هذا
المطلب عليهم أيسر منه على كثير من غيرهم، وإني أحسب من الظلم الفاحش أنَّا لا
نسوغ للمسلمين سلوك طريق من التفسير لم نزل نسلكه في إيضاح غوامض
كتابنا المقدس.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسحاق طيلر
__________(5/59)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع الثاني - الداء أو الفتور العام
في مكة المكرمة يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة 1316 في صباح
اليوم المذكور انعقد الاجتماع وبعد قراءة ضبط الجلسة الأولى افتتح الكلام (الأستاذ
الرئيس) فقال: إنا نجد الباحثين في الحالة النازلة بالمسلمين يشبهونها بالمرض
فيطلقون عليها اسم الداء مجردًا أو مع وصفه بالدفين أو المزمن أو العضال، ولعل
مأخذ ذلك ما ورد في الأثر وألفته الأسماع من تشبيه المسلمين بالجسد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ويلوح لي أن إطلاق الفتور العام
أليق بأن يكون عنوانًا لهذا البحث لتعلق الحالة النازلة بالأدبيات أكثر منها بالماديات،
ولأن آخر ما فيها ضعف الحس فيناسبه التعبير عنه بالفتور.
إن هذا الفتور في الحقيقة شامل لجميع أعضاء الجسم الإسلامي فيناسب أن
يوصف بالعام، وربما يتوقف الفكر في الوهلة الأولى عن الحكم بأن الفتور عام
يشمل المسلمين كافة، ولكن بعد التدقيق والاستقراء نجده شاملاً للجميع في مشارق
الأرض ومغاربها لا يسلم منه إلا أفراد شاذة.
فيا أيها السادة، ما هو سبب ملازمة الفتور منذ قرون للمسلمين؟ من أي قوم
كانوا، وأينما وجدوا، وكيفما كانت شئونهم الدينية أو السياسية أو الأفرادية أو
المعاشية حتى إننا لا نكاد نجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين في
ناحية أو بيتين في قرية، أهل أحدهما مسلمون وأهل الآخر غير مسلمين إلا ونجد
المسلمين أقل من جيرانهم نشاطًا وانتظامًا في جميع شئونهم الحيوية الذاتية
والعمومية، كذلك نجدهم أقل إتقانًا من نظرائهم في كل فن وصنعة مع أننا نرى أكثر
المسلمين في الحواضر وجميعهم في البوادي محافظين على تميزهم عن غيرهم
من جيرانهم ومخالطيهم في أمهات المزايا الأخلاقية مثل الأمانة والشجاعة
والسخاء.
فما هو والحالة هذه سبب شمول هذا الفتور وملازمته لجامعة هذا الدين
كملازمة العلة للمعلول بحيث يقال: أينما وجدت الإسلامية وجد هذا الداء حتى توهم
كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان. هذا هو المشكل العظيم الذي يجب
على جمعيتنا البحث فيه أولاً بحث تدقيق واستقراء عسى أن نهتدي إلى جرثومة
الداء عن يقين فنسعى في مقاومتها حتى إذا ارتفعت العلة برئ العليل إن شاء الله
تعالى.
قال (الفاضل الشامي) : إني أوافق الأستاذ الرئيس على تعريفه ووصفه
الحالة النازلة بالفتور، ولا أعلم ما يعارض كون هذا الفتور عامًّا محيطًا بجميع
المسلمين.
قال (الصاحب الهندي) : إني وإن كنت أقل الإخوان فضيلة ولكنني جوّال،
وقد خبرت البلاد وأحوال العباد، ولا شك عندي في أن هذا الفتور عامّ وإن كان لا
يظهر في بعض المواقع التي ليس فيها غير المسلمين كقلب جزيرة العرب وبعض
جهات إفريقيا، ولا يظهر أيضًا في بعض مواقع أخرى مجاورو المسلمين فيها
ومخالطوهم من أهل النِّحل الوثنية الغريبة الوضع المتناهية في الشدة كبقايا الصابئة
حول دجلة الذين يضيعون كثيرًا من أوقاتهم منغمسين في الماء تعبدًا، وكالكونغو من
الزنوج، وكالبوذية من الهنود المعتقدين أن كل مصائبهم حتى الموت الطبيعي من
تأثيرات أعمال السحرة عندهم، فإن أمثال هؤلاء أكثر فتورًا من المسلمين على أن
ذلك لا يرفع صفة الفتور وعموميته عن المسلمين.
فقال (الأستاذ الرئيس) : إن الصاحب الهندي مصيب في تفصيله وتحريره،
ولذلك رجعت عن قولي بأن المسلمين أحط من غيرهم مطلقًا إلى الحكم بأنهم أحط
من غيرهم ما عدا النحل المتشددة في التدين.
قال (الحافظ البصري) : يلوح لي أنه يلزم استثناء الدهريين والطبيعيين
وأمثالهم ممن لا دين لهم؛ لأنهم لا بد أن يكونوا على غير نظام ولا ناموس في
أخلاقهم معذبين منغصين في حياتهم منحطين عن أهل الأديان كما يعترف بذلك
الطبيعيون أنفسهم فيقولون عن أنفسهم: إنهم أشقى الناس في الحياة الدنيا.
فأجابه (الصاحب الهندي) : إني كنت أيضًا أظن أنه يوجد في البشر أفراد
ممن لا دين لهم، وإن من كانوا كذلك لا خلاق لهم، ثم إن اختباري الطويل قد برهن
لي على أن الدين بمعناه العام وهو إدراك النفس وجود قوة غالبة تتصرف بالكائنات،
والخضوع لهذه القوة على وجه يقوم في الفكر هو أمر فطريٌّ في البشر، وإن قولهم:
فلان دهري أو طبيعي هو صفة لمن يتوهم أن تلك القوة هي الدهر أو الطبيعة فيدين
لما يتوهم، فثبت عندي ما يقرره الأخلاقيون من أنه لا يصح وصف صنف من
الناس بأنهم لا دين لهم مطلقًا، بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح أو فاسد عن
أصل صحيح، وإما باطل أو فاسد عن أصل باطل، والفاسدان يكون فسادهما إما
بنقصان، أو بزيادة، أو بتخليط، فهذه أقسام ثمانية.
فالدين الصحيح كافل بالنظام والنجاح في الحال والسعادة والفلاح في المآل،
والباطل والفاسدان بنقصان قد يكون أصحابهما على نظام ونجاح في الحياة على
مراتب مختلفة، وأما الفاسدان بزيادة أو بتخليط فمهلكة محضة، ثم أقول: بما كان
تقريري هذا غريبًا في بابه فألتمس أن لا يقبل ولا يرد إلا بعد التدقيق والتطبيق؛
لأنه أصل مهم لمسألة الفتور العام المستولي على المسلمين.
(قال الرئيس الأستاذ) : إني أجلكم أيها السادة الأفاضل عن لزوم تعريفكم
آداب البحث والمناظرة، غير أني أنبه فكركم لأمر لا بد أن يكون في نفوسكم جميعًا،
أو تحبوا أن يصرَّح به ألا وهو عدم الإصرار على الرأي الذاتي وعدم الانتصار له،
واعتبار أن ما يقوله ويبديه كل منا إن هو إلا خاطر سنح له فربما كان صوابًا أو
خطأً، وربما كان مغايرًا لما هو نفسه عليه اعتقادًا وعملاً، وهو إنما يورده في
الظاهر معتمدًا عليه، وفي الحقيقة مستشكلاً أو مستثبتًا أو مستطلعًا رأي غيره، فلا
أحد منا ملزم برأي يبديه ولا هو بملوم عليه، وله أن يعدل أو يرجع عنه إلى ضده؛
لأننا إنما نحن باحثون لا متناظرون، فإذا أعجبنا رأي المتكلم منا أثناء خطابه
إعجابًا قويًّا فلا بأس أن نجهر بلفظ (مرحى) [1] تأييدًا لإصابة حكمه وإشعارًا
باستحسانه، فلنمض في بحثنا عن أسباب الفتور العام على هذا النسق.
قال (الفاضل الشامي) : إني أرى منشأ هذا الفتور هو بعض القواعد
الاعتقادية والأخلاقية، مثل العقيدة الجبرية التي من بعد كل تعديل فيها جعلت الأمة
جبرية باطنًا قدرية ظاهرًا (مرحى) ومثل الحث على الزهد في الدنيا والقناعة
باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية كحب المجد والرياسة والتباعد
عن الزينة والمفاخر والإقدام على عظائم الأمور، وكالترغيب في أن يعيش المسلم
كميت قبل أن يموت، وكفى بهذه الأصول مفترات مخدرات مثبطات معطلات لا
يرتضيها عقل ولم يأت بها شرع، ولمثلها نفى عثمان بن عفان رضي الله عنه أبا ذر
الغفاري إلى الربذة.
فأجابه (البليغ القدسي) : إن هذه الأصول الجبرية والتزهيدية الممتزجة
بعقائد الأمة وما هو أشد منها تعطيلاً للأخذ بالأسباب، ولنشأة الحياة موجودة في
جميع الديانات؛ لتعدل من جهة شره الطبيعة البشرية في طلب الغايات، وتدفعها إلى
التوسط في الأمور، ولتكون من جهة أخرى تسلية للعاجزين وتنفيسًا عن المقهورين
البائسين وتوسلاً إلى حصول التساوي بين الأغنياء والفقراء في مظاهر النعيم.
ألا يرى إجماع كل الأديان على اعتقاد القدر خيره وشره من الله تعالى، أو
خيره منه وشره من النفس أو من الشيطان، ومع ذلك ليس في البشر من ينسب أمرًا
إلى القدر إلا عند الجهل بسببه سترًا لجهله، أو عند العجز عن نيل الخير أو دفع الشر
سترًا لعجزه، وحيث غلب أخيرًا على المسلمين جهل أسباب المسببات الكونية
والعجز عن كل عمل التجأوا إلى القدر والزهد تمويهًا لا تديُّنًا. وهذا التبتل
والخروج عن المال من أعظم القربات في النصرانية، فهل كان قصد شارع
الرهبانية أن ينقرض الناس كافة بعد جيل واحد، أم كان قصده أن يشرعها على أن
لا يتلبس بها إلا القليل النزر؟ كلا لا يُعقل في هذا المقام إلا التعميم، وينتج من ذلك
أنه لا يصح اعتبار هذه الأصول الجبرية والتزهيدية سببًا للفتور، بل هي سبب
لاعتدال النشاط وسيره سير انتظام ورسوخ.
وفي النظر إلى المشاق والعظائم التي اقتحمها الصحابة والخلفاء الراشدون
رضي الله عنهم لنيل الغنى والرياسة والفخار مع الأجر والثواب أقوى برهان مع أن
الأمة إذ ذاك كانت زاهدة فعلاً لا كالزهد الذي ندعيه الآن كذبًا ورياءً
(مرحى) .
وإذا تتبعنا كل ما ورد في الإسلامية حاثًّا على الزهد نجده موجهًا إلى الترغيب
في الإيثار العام؛ أي: بتحويل المسلم ثمرة سعيه للمنفعة العمومية دون خصوص
نفسه، حتى إن كل ما ورد في الحث على الجهاد في سبيل الله مراد به سعي المؤمن
بكل الوسائل حتى ببذل حياته لإعزاز كلمة الله وإقامة دينه، لا في خصوصية محاربة
الكفار كما تتوهم العامة، كما أن المراد من محاربة الكفار هو من جهة: إعزاز
الجامعة الإسلامية، ومن أخرى: خدمة الجامعة الإنسانية من حيث إلجاء الكفار إلى
مشاركة المسلمين في سعادة الدارين؛ لأن للأمم المترقية علمًا ولاية طبيعية على
الأمم المنحطة؛ فيجب عليها إنسانية أن تهديها إلى الخير ولو كرهًا باسم الدين أو
السياسة.
ثم قال: أما أنا فيخيل إليّ أن سبب الفتور هو تحويل نوع السياسة الإسلامية
حيث كانت نيابية اشتراكية؛ أي: (ديمقراطية) تمامًا، فصارت بعد الراشدين بسبب
تمادي المحاربات الداخلية ملكية مقيدة بقواعد الشرع الأساسية، ثم صارت أشبه
بالمطلقة. وقد نشأ هذا التحول من أن قواعد الشرع كانت في الأول غير مدونة ولا
محررة بسبب اشتغال الصحابة المؤسسين رضي الله عنهم بالفتوحات وتفرقهم في
البلاد، فظهر في أمر ضبطها خلافات ومباينات بين العلماء، وتحكمت فيها آراء
الدخلاء، فرجحوا الأخذ بما يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية (وليتهم لم يدنسوا الإسلام
بالدخول فيه) فاتخذ العمال السياسيون -ولا سيما المتطرفون منهم- هذا التخالف في
الأحكام وسيلة للانتقام والاستقلال السياسي، فنشأ عن ذلك أن تفرقت المملكة
الإسلامية إلى طوائف متباينة مذهبًا، متعادية سياسة، متكافحة على الدوام.
وهكذا خرج الدين من حضانة أهله وتفرقت كلمة الأمة فطمع بها أعداؤها
وصارت معرضة للمحاربات الداخلية والخارجية معًا، لا تصادف سوى فترات قليلة
تترقى فيها العلوم والحضارة على حسبها , وقد أثر استمرار الأمة في هذه الحروب أن صارت باعتبار الأكثرية أمة جندية صنعةً وأخلاقًا، بعيدة عن الفنون والصنائع
والكسب بالوجوه الطبيعية، ثم بسبب فقدان القواد والمعدات لم يبق مجال للحروب
الرابحة فاقتصرت الأمة على المدافعات خصوصًا منذ قرنين إلى الآن؛ أي: منذ
صارت الجندية عند غيرنا صنعة علمية مفقودة عندنا، فصرنا نستعمل بأسنا بيننا
فنعيش بالتغالب والاحتيال لا بالتعاون والتبادل، وهذا شأن يميت الانتباه والنشاط
ويولد الخمول والفتور (مرحي) .
فابتدر (الحكيم التونسي) وأجابه: إن غيرنا من الأقوام -كجرمانيا مثلا- وُجِدُوا في حكومات مطلقة، وفي اختلافات مذهبية، وفي انقسامات إلى طوائف
سياسية، وفي حروب مستمرة، ولم يشملهم الفتور بوجه عام فلا بد للفتور في
المسلمين من سبب آخر.
ثم قال: وفيما أتصور أن بلاءنا من تأصل الجهل في غالب أمرائنا المترفين
الأخسرين أعمالاً الذين ضلوا وأضلونا سواء السبيل وهم يحسبون أنهم يُحْسنون
صنعًا، حتى بلغ جهل هؤلاء دركةً أسفل من جهل العجماوات التي لها طبائع
ونواميس، فمنها التي تحمي ذمارها وتمنع عن حدودها وتدافع عما استُحفظت عليه،
وهؤلاء ليس لهم طبائع ونواميس فيخرّبون بيوتهم بأيديهم وهم لا يشعرون، ومنهم
الذين ضلوا على علم وهم الذين يشكون ويبكون حتى يظن أنهم مغلوبون على أمرهم
ويتشدقون بالإصلاح السياسي مع أنهم - وايم الحق - يقولون بأفواههم ما ليس في
قلوبهم، ويظهرون الرغبة في الإصلاح ويبطنون الإصرار والعناد على ما هم عليه
من إفساد دينهم ودنياهم وهدم مباني نجدهم وإذلال أنفسهم والمسلمين. وهذا داء عياء
لا يُرجى منه الشفاء؛ لأنه داء الغرور لا يقر صاحبه لفاضل بفضيلة، ولا يجاري
حازمًا في مضمار، وقد سرى من الأمراء إلى العلماء ثم إلى سائر الطبقات.
فأجاب (المولى الرومي) إن إلقاء التبعة على الأمراء خاصة غير سديد؛
خصوصًا لأن أمراءنا إن هم إلا لفيف منا، فهم أمثالنا من كل وجه، وقد قيل: كما
تكونوا يولَّى عليكم، فلو لم نكن نحن مرضى لم يكن أمراؤنا مدنفين.
وعندي أن البلية هي فقدنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما حرمنا معناه
حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه. وقد عرف الحرية من عَرفَها بأن
يكون الإنسان مختارًا في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم. ومن فروع الحرية
تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنّهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة
بالحق وبذل النصيحة، ومنها حرية التعليم وحرية الخطابة والمطبوعات وحرية
المباحثات العلمية.
ومنها الأمن على الدين والأرواح والأمن على الشرف والأعراض والأمن على
العلم واستثماره، فالحرية هي روح الدين، وينسب إلى حسان بن ثابت الشاعر
الصحابي رضي الله عنه:
وما الدين إلا أن تقام شرائع ... وتؤمن سبل بيننا وهضاب
فلينظر كيف حصر هذا الصحابي الدين في إقامة الشرع والأمن. هذا، ولا
شك أن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال وتبطل
الأعمال وتموت النفوس وتتعطل الشرائع وتختل القوانين. وقد كان فينا راعي
الخرفان حرًّا لا يعرف للملك شأنًا، يخاطب أمير المؤمنين بيا عمر ويا عثمان.
فصرنا ربما نقتل الطفل في حِجْر أمه ونلزمها السكوت فتسكت، ولا تجسر أن
تزعج سمعنا ببكائها عليه. وكان الجنديُّ الفرد يؤمّن جيش العدو فلا يخْفر له عهد،
فصرنا نمنع الجيش العظيم من صلاة الجمعة والعيدين ونستهين بدينه، لا لحاجة غير
الفخفخة الباطلة (مرحى) .
فلمثل هذا الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور، وقد
كرت القرون وتوالت البطون ونحن على ذلك عاكفون فتأصّل فينا فقد الآمال،
وترك الأعمال، والبعد عن الجد والارتياح إلى الكسل والهزل، والانغماس في اللهو
تسكينًا لآلام أسرِ النفس، والإخلاد إلى الخمول والتسفل طلبًا لراحة الفكر المضغوط
عليه من كل جانب. إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق
مطالعة الكتب النافعة، ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة؛ لأن ذلك يذكرنا
بمفقودنا العزيز فتتألم أرواحنا وتكاد تزهق إذا لم نلجأ إلى التناسي بالمُلْهيات،
والخرافات المروّحات، وهكذا ضعف إحساسنا وماتت غيرتنا، وصرنا نغضب
ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة لعجزنا عن القيام بها
عجزًا واقعيًّا لا طبيعيًّا.
هذا ونعترف بأن فينا بعض أقوام قد ألفوا من ألوف سنين الاستعباد والاستبداد
والذل والهوان فصار الانحطاط طبعًا لهم تؤلمهم مفارقته، وهذا هو السبب في أن
السواد الأعظم من الهنود والمصريين والتونسيين صاروا بعد أن نالوا رغم أنوفهم
الأمن على الأنفس والأموال، والحرية في الآراء والأعمال. لا يَرْثُونَ ولا
يتوجعون لحالة المسلمين في غير بلادهم بل ينظرون للناقمين على أمرائهم المسلمين
شزرًا، وربما يعتبرون طالبي الإصلاح من المارقين من الدين.
كأن مجرد كون الأمير مسلمًا يغني عن كل شيء حتى عن العدل، وكأن طاعته
واجبة على المسلمين وإن كان يخرب بلادهم ويقتل أولادهم ويقودهم ليسلمهم
لحكومات أجنبية، كما جرى ذلك قبلاً معهم. والحاصل أن فقدنا الحرية هو سبب
الفتور والتقاعس عن كل صعب وميسور.
أجاب (المجتهد التبريزي) : إن هذا الحال ليس بعام مع أن الفتور لم يزل
في ازدياد واستحكام فلا بد لذلك من سبب آخر.
ثم قال: ويلوح لي أن انحطاطنا من أنفسنا؛ إذ أننا كنا خير أمة أخرجت للناس
نعبد الله وحده؛ أي: نخضع ونتذلل له فقط، ونطيع من أطاعه ما دام مطيعًا له
نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، أَمْرُنا شُورَى بيننا، نتعاون على البر والتقوى
ولا نتعاون على الإثم والعدوان. فتركنا ذلك كله ما صعب منه وما هان. وقد يظن أن
أصعب هذه الأمور النهي عن المنكر؛ مع أن إزالة المنكر في شرعنا تكون بالفعل فإن
لم يمكن فبالقول، فإن لم يكن فبالقلب، وهذه الدرجة الثالثة هي الإعراض عن الخائن
والفاسق والنفور منه وإبطان بغضه في الله.
ومن علائم ذلك تجنب مجاملته ومعاملته. ولا شك أن إقامة هذا الواجب الديني
كافٍ للردع ولا يتصور العجز عنه قط. قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْض} (البقرة: 251) .
فهذا هو سبب استرسال الأمة في عبادة الأمراء والأهواء، والأوهام وفي طاعة
العصاة اختيارًا وترك التناصح، والركون إلى الفساق، والإذعان للاستبداد،
والتخاذل في الخير والشر. قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وعنه
صلى الله عليه وسلم [2] (لتأمُرُنَّ بالمعروف وَلّتنْهن عن المنكرِ أوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ الله
عليكم شِرَارَكم فليسومونكم سوء العذاب) إلى غير ذلك من الآيات البينات
والأحاديث المنذرات القاضيات بالخذلان على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فهذا هو السبب الناشئ عنه الفتور.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مرحى - كلمة تعجب يقولها العرب عند إصابة الرامي المرمى.
(2) المنار - لفظ الحديث (أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم) رواه البزار عن عمر والطبراني عن أبي هريرة وسندهما ضعيف 0 وللترمذي من حديث حذيفة نحوه إلا أنه قال: (أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم) وقال: حديث حسن.(5/65)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم الذي ترتقي به الأمة
أكثر الناس في بلاد الشرق - بلاد البطالة والكسل - يفنون أزمنتهم بالعبث
واللغو من القول، فلا تسمع منهم في أنديتهم وسمّارهم إلا الخوض بفلان والإزراء
بعلاّن ومما أشبه ذلك مما هنا وهنالك، ورب فئة قليلة تحب الجد وتختار للبحث
والحوار المسائل النافعة، وقد كتبنا مقالة في الجزء الرابع والعشرين من السنة
الماضية في موضوع حديثهم في سامر من سمارهم وهو إصلاح الدولة العلية،
ونذكر ههنا أنهم رأوا أن يقترحوا على كل واحد منهم كلما ضمهم نادٍ أو سامرٌ أن
يتكلم في مسألة من المسائل النافعة، وابتدؤوا بالاقتراح على كاتب هذه السطور أن
يتكلم في التعليم النافع للمسلمين فأجاب، وإنني أذكر بعض ما قلته هناك ملخصًا وقد
ابتدأت بذكر عيوب التعليم عندنا وهي:
العيب الأول:
عدم اللغة: إحياء العلم لا يكون إلا بلغة حية، ولغة الإسلام والمسلمين العربية
ولكنهم أهملوا تعلمها وتعليمها حتى إنني أقول ما قلته من قبل: إنني لا أعرف مدرسة
في الدنيا تعلّم فيها اللغة العربية الصحيحة، ومن عنده حظ من هذه اللغة فإنما تعلّمه
بنفسه؛ لاهتدائه إلى طريقة التعلم بذكائه أو بإرشاد مرشد آخر، وستأتي الإشارة إلى
كيفية هذا التعلم، وإن كان المنار قد فصله من قبل تفصيلاً.
العيب الثاني:
في اختلاف منابع التعليم: التعليم النافع هو ما يكون فيه قوام الأمة وترقيها،
والترقي إنما يكون بالرجال المتعلمين العلم النافع لها؛ لأن زمامها يكون في أيديهم،
وقواد الأمة يجب أن يكونوا متفقين في مقاصدهم الإصلاحية، وإنما يكون هذا الاتفاق
والاتحاد إذا كانت تربية عقولهم وأفكارهم متحدة، ولن تكون متحدة إلا إذا كان
التعليم من منبع واحد.
والتعليم في بلادنا بعضه في مدارس الحكومة وبعضه في المدارس الأجنبية من
فرنسوية وأميركانية وإنكليزية وإسرائيلية، وليس منه شيء موافق لحاجة الأمة،
ومنطبق على مصلحتها فإن لكل صنف من هذه الأصناف مقصد من التعليم إما
سياسيّ وإما ديني غير إسلامي، والتعليم في المدارس الأهلية الإسلامية ناقص بحيث
يصح أن نقول: إنه دون كل تعليم، ولا أستثني المدرسة الدينية الإسلامية الكبرى
وهي الجامع الأزهر فكلنا نعرف أنها ليس فيها غناء وأنها مقصرة كل التقصير في
وظيفتها الأولى وهي إحياء اللغة العربية وعلوم الدين. على أن علم الدين لا يكاد يوجد في علم الأزهر وما يتبعه من المساجد فهو على نقصه خير من غيره من هذه الجهة (ومن للعُمْي بالعور) .
العيب 3: عدم التربية.
التعليم لا يفيد النجاح المطلوب للأمة إلا إذا كان مقارنًا للتربية الملية القومية،
وهذه التربية مفقودة عندنا؛ لأن القائمين على أمر التعليم لا يهمهم أمرها بل هو
مباين لمقصدهم السياسي والديني. على أنهم لو حاولوها لما أحسنوها؛ لأنه لا
يحسن الشيء إلا من يتوجه إليه بباعث الشعور بحاجته وحاجة أمته إليه مع العلم
بطريقه الطبيعي.
وقد علمنا أن أكثر المسلمين المشتغلين بالتعليم جاهلون بطرقه وعادمو الإحساس
والشعور بالحاجة الملية القومية. وعلمنا حال مدارس الأجانب ولمدارس الحكومة في
مصر حكمها؛ لأن روح التعليم فيها إنكليزي استعماري لا إنكليزي سكسوني. ولا
يحسبنّ أحد أن مدارس الحكومة في بلاد الدولة العلية أمثل وأنفع من مدارس الحكومة
في مصر، بل الصواب أنها دونها في كل البلاد لا سيما العربية منها إلا مدارس دار
السلطنة فإنها أرقى من مدارس مصر؛ لأنها فيها روحًا وطنيًّا حقيقيًّا عجزت
السياسة عن إزهاقه.
هذه هي العيوب الأساسية للتعليم في البلاد الإسلامية، أما إزالة هذه العيوب
من مواطنها؛ فلا سبيل إليه ولا طاقة لنا به، ولكن من الممكن السعي في إيجاد تعليم
نافع وتربية قويمة، والطريق إليه واحد وهو إنشاء المدارس الكلية التي تربي
الناشئين وتعلمهم التعليم الابتدائي والتجهيزي والعالي، ولكنه طريق يعسر تطريقه
وإشراعه؛ لأننا فقراء في المال وفي العلوم والعقول، وهذا الفقر المعنوي أشد فينا
فتكًا، ولكنه لا يعوزنا ويعجزنا في طريقنا هذا كما يعجزنا ويعوزنا الفقر المادي، فإن
مَن أوتي نصيبًا من العلم والعقل والأدب يجود بما عنده مرتاحًا إليه إذا رجا الانتفاع به
ولكن الذين أوتوا المال منا قد أوتوا معه البخل والسفه معًا، فهم يبذلون المال في
طرق الفساد بغير حساب، ولا يخرج من أيديهم درهم في طريق الخير إلا نكدًا.
وليس المقام مقام بيان تطريق الطريق لإنشاء مدرسة كلية في مصر ولكنني أقول: إن هذه الفئة تحب خدمة أمتها إذا لم تجتهد في إنشاء هذه المدرسة فلنا أن
نحكم بأنها لم تعمل شيئًا يذكر، وإذا هي لم تعمل فلا ندري متى تلد أرض مصر
خيرًا منها ليعمل خيرًا من عملها.
أما التعليم والتربية في الكلية فلا نبحث فيهما؛ لأن الحاضرين يعرفون هذا
الفن (البيداجوجيا) ، وإنما ننبه على وجوب إحياء اللغة العربية بالعمل بأن يكون
الكلام العربي الصحيح هو اللسان الرسميّ فيها، ويعلم كما تعلم اللغات الأخرى في
المدارس لا كما يعلم هو فيها.
وأما تعليم الدين فيجب أن يكون أساسه القرآن والسنة الصحيحة ومعرفة
الإجماع وأن يعدّ كل ما وراء هذا من الخلاف بين أئمة المسلمين وعلمائهم
كالخلاف في المسائل العلمية، لا ينكث من فتل الأخوة الإسلامية، وكل ما هو من
أعمال الجوارح يكون تعليمه بالعمل كالصلاة مثلاً، وما عدا ذلك يعلم بالقول. وأما
التربية فمما يجب التنبيه عليه وتربية الإرادة والعزيمة التي هي منشأ
الاستقلال الشخصي، والنوعيّ تبع للشخصي، وتربية الأخلاق بملاحظة
السيرة والسلوك، وتربية الخيال التي تعد للخطابة والشعريات المؤثرة في النفوس،
هذا ما أراه نافعًا من التعليم الإسلامي، وفّق الله المسلمين لتحقيقه، والسير طريقه، آمينَ.
__________(5/72)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمتنا لكتاب أسرار البلاغة
بسم الله الرحمن الرحيم
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} (الرحمن: 1-3) ، فله الحمد
أن علم، والشكر على ما أنعم، ومنه الصلاة والتسليم على نبيه الرؤوف الرحيم،
الذي جاء بتوحيد اللغة والدين، وجعل الكتاب والحكمة في الأميين، فكانوا بذلك
أئمة وكانوا هم الوارثين.
الإنسان يمتاز بالعلم وإنما العلم بالتعلم، والتعلم باللغة. واللغات تتفاضل في
حقيقتها وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون
أقرب إلى القبول، وأدعى إلى التأثير، وفي صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق
وسهولة اللفظ والإلقاء والخفة على السمع.
وإن للغة العربية من هذه المميزات الميزان الراجح، والجواد القارح،
يعرف ذلك من أخذها بحق، وجرى فيها على عرق، فكان من مفرداتها على علم،
وضرب في أساليبها بسهم، ومن آية ذلك لغير العارف أن أولئك الشراذم والأوزاع من
أهلها قد حملوها إلى الأمم، التي كان للغاتها في العلوم قدم، ولم يحملوهم عليها
بالإلزام، ولا بالتعليم العام، وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة
المصريين من مصرهم، والرومانيين من شامهم، واستعلت على الفارسية العذبة
في مهدها وموطنها، وامتد شعاعها إلى الأندلس في غربي أوربا بعد ما طاف ساحل
أفريقيا الشمالي وإلى جدار الصين من الشرق - كل ذلك في زمن قريب لم يعرف
في التاريخ مثله للغة أخرى من لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم
وتعميمها بالتعليم العام وضروب الترغيب والترهيب.
كانت لغة أميين وثنيين جاهليين فظهر فيها أكمل الأديان فكانت له أكمل
مظهر، وتجلى لها العلم فكانت له خير مَجْلَى، وصارت بذلك لغة الدين والشريعة،
وعلوم العقل والطبيعة، ولكن عَدَتْ على أهلها عواد كونية، وطرأت عليهم
أمراض اجتماعية، فضعف فيهم كل مقوّم من مقوّمات الأمم الحية، ومن تلك
المقوّمات الحقيقية اللغة؛ فقد فسدت ملكتها في الألسنة، والتوى طريق تعليمها
في المدارس، حتى كادت تكون من اللغات الدوارس.
ظهر ضعف اللغة في القران الخامس وكانت في ريعان شبابها وأوج عزها
وشرفها، وكان أول مرض ألمّ بها الوقوف عند ظواهر قوانين النحو ومدلول
الألفاظ المفردة والجمل المركبة والانصراف عن معاني الأساليب، ومغازي
التركيب، وعدم الاحتفال بتصريف القول ومناحيه، وضروب التجوز والكناية فيه،
وهذا ما بعث عزيمة الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام علوم اللغة في عصره إلى
تدوين علم البلاغة ووضع قوانين للمعاني والبيان كما وضعت قوانين النحو عند
ظهور الخطأ في الإعراب، فوضع هذا الكتاب في البيان، ومن فاتحته يتنسم
القارئ أن دولة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره واستبدت على المعاني، وأنه
يحاول بكتابه تأييد المعاني ونصرها، وتعزيز جانبها وشد أسرها.
كتب قبل عبد القاهر في البيان بعض البلغاء مثل: الجاحظ، وابن دُريد، وقدامة الكاتب. ولكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن جعلوه فنًّا مرفوع القواعد، مفتح
الأبواب كما فعل عبد القاهر من بعدهم، فهو واضع علم البلاغة كما صرح به بعض
علمائها وإن لم يذكر له هذه المنقبة المؤرخون الذين رأينا ترجمته في كتبهم حتى إن
ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي
هذب الفن بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السكاكي، وما كان
السكاكيّ إلا عيالاً على عبد القاهر تلا تلوه وأخذ عنه مع المخالفة في شيء من
الترتيب والتبويب، ولكنه لم يسلم من التكلف في بعض عبارته، والتعقيد في بعض
منازعه، فإذا جاز لنا أن نقول: إنه فاق لتأخره بالترتيب المعلوم، وبما حرره من
الحدود والرسوم، فإننا لا ننسى من فضل المتقدم سلامة عبارته، وصفاء ديباجته،
وغوصه على أسرار الكلام، ووضع دررها في أبدع نظام.
كان السكاكيّ وسطًا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل،
وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا
بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم
تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمَّيات والألغاز،
فضاعت حدوده بتلك الحدود، وَدَرَستْ رسومهُ بهاتيك الرسوم، وكان من أثر
فساد ذوق اللغة اختيارُ هذه الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها على الكتب التي
تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها ومناحيها،
فكادت كتب عبد القاهر تمحى وتنسخ، وصارت حواشي السعد تطبع وتنسخ، وهذا
هو حظ العلم النافع إذا ألقي إلى الأمة في طور التدلّي والضعف، فمثل عبد القاهر
في أسرار بلاغته ودلائل إعجازه، كمثل ابن خلدون في مقدمته، كالسلطان سليمان
العثماني في قوانينه.
رب غذاء طيب نافع عافته النفس لمرض ألمّ بها حتى إذا نقهت أو أبلت
اشتهته وطلبته، وهذا هو مثلنا أمس واليوم، فقد كنا متفقين على أخذ العلم من كتب
علمائنا المتأخرين كما يختار المريض الغذاء الضار، فظهر فينا هداة مرشدون
يسعون في إحياء ما أماته الجهل من آثار سلفنا ومصنفات أئمتنا، ويدلوننا على العلم
الحيّ الذي تفجر من ينابيع النفوس الحية؛ لنفرق بينه وبين الرسوم الميتة التي
سماها الجهل علمًا.
ولما هاجرت إلى مصر في سنة 1315 لإنشاء (المنار) الإسلامي ألفيت
إمام النهضة الإسلامية الحديثة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده رئيس جمعية إحياء
العلوم العربية ومفتي الديار المصرية اليوم مشتغلاً في بعض وقته بتصحيح كتاب
دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني، وقد استحضر نسخة من المدينة المنورة
ومن بغداد ليقابلها على النسخة التي عنده، فسألته عن كتاب (أسرار البلاغة) للإمام
المذكور فقال: إنه لا يوجد في هذه الديار. فأخبرته بأن في أحد بيوت العلم في
طرابلس الشام نسخة منه. فحثني على استحضارها وطبعها فطلبتها من صديقي
الحميم العالم الأديب عبد القادر أفندي المغربي وهي مما تركه له والده فلبى الطلب.
وعلمنا أن نسخة أخرى من الكتاب في إحدى دور الكتب السلطانية في دار
السلطنة السنية، فندبنا بعض طلاب العلم الأذكياء لمقابلة نسختنا بتلك النسخة فخرج
لنا من مجموعها نسخة صحيحة شرعنا في طبعها، ووضعنا في ذيل المطبوع شرحًا
لطيفًا ضبطنا فيه الكلمات الغريبة، وفسرنا منها ومن جمل الكتاب ما رأيناه يستحق
التفسير، وأشرنا إلى الخلاف بين النسختين، فيما يحتمل صحة الاثنتين.
أما كون عبد القاهر هو واضع الفن ومؤسسه؛ فقد صرح به غير واحد من
العلماء الأعلام أجلهم قدرًا، وأرفعهم ذكرًا، أمير المؤمنين، محيي علوم اللغة
والدين، السيد يحيى بن حمزة الحسيني صاحب كتاب (الطراز في علوم حقائق
الإعجاز) فقد قال في فاتحة كتابه. هذا وهو من أحسن ما كتب في البلاغة بعد عبد
القاهر ما نصه:
(وأول من أسس من هذا الفن قواعده، وأوضح براهينه وأظهر فوائده ورتب
أفانينه الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد
الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزاهره، من
أكمامها، وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام أفضل
الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه
كتابان: أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز، والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على
شيء منهما، مع شغفي بحبها وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم
منهما) .
وأما مكانة هذا الكتاب وبيان ما يمتاز به على كتب البيان فحسبي عرضه
على الأنظار مع التنبيه على مسألتين نافعتين:
(إحداهما) أن العلم هو صورة المعلوم مأخوذة عنه بواسطة الإدراك كما
تؤخذ الصورة الشمسية بالآلة المعروفة، فإن كان المعنى المنتزع من الجزئيات قانونًا
كليًّا يرشد إليها؛ فهو القاعدة، وإن كان صورة تناسبها وتقربها من الفهم؛ فهو المثل.
(والثانية) أن القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، والأمثلة
والشواهد صور تفصيلية لها. والتعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة
بالصورة المجملة؛ إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل، وبهذه
الطريقة يجمع بين العلم والعمل الذي يثبت به العلم وهي طريقة عبد القاهر في
كتابه هذا وكتاب دلائل الإعجاز.
على أن كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- كله من آيات البلاغة فهو يعطيك علمها
بمعانيه، وعملها بمبانيه، وبهذه المميزات يفضل هذا الكتاب جميع ما بين أيدينا من
كتب الفن؛ لأنها إنما تقتصر على سرد القواعد والأحكام بعبارات اصطلاحية،
تنكرها بلاغة الأساليب العربية، ولا تذكر من الشواهد والأمثلة إلا القليل النادر،
الذي أدلى به السابق إلى اللاحق والأول إلى الآخر.
لهذا بادر الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية في هذه الأعوام إلى تدريس
الكتاب في الأزهر الشريف عقيب شروعنا في طبعه، فأقبل على حضور درسه مع
أذكياء الطلاب كثيرون من العلماء والمدرسين وأساتذة مدارس الأميرية. وقد قال
أحد فضلاء هؤلاء الأستاذين بعد حضور الدرس الأول: إننا قد اكتشفنا في هذه
الليلة معنى علم البيان.
وقد ظهر للأستاذ في غضون التدريس والمطالعة أغلاط في الكتاب بعضها من
الطبع، وبعضها من تحريف النساخ في الأصل، وأغلاط أخرى في
الهوامش، فأحصيناها كلها من نسخته، ووضعنا لها جدولاً في آخر الكتاب إتمامًا
للفائدة، ومما يجب التنبيه عليه أن بعض تراجم فصول الكتاب هي من وضعنا؛
فإن المصنف رحمه الله تعالى كان يكتفي في كثير منها بكلمة (فصل) اهـ. ويلي
هذا ترجمة المصنف.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/74)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(فتح القدير شرح الهداية)
لمجتهد الحنفية في القرن السابع الكمال بن الهمام
يتعب طلاب فقه الحنفية عشرين سنة أو أكثر ليكونوا فقهاء في هذا المذهب،
فيضيع تعب الأكثرين سُدًى؛ لاشتغالهم بكتب المتأخرين المحشوّة بالفروع الشاذة
وغير الشاذة، والاضطراب في التصحيح والترجيح ولا يكون الإنسان بهذه الطريقة
فقيهًا ولو أفنى عمره في المُدارسة. وقد كان لهؤلاء بعض العذر قبل أن يطبع هذا
الكتاب (فتح القدير) الذي هو أحسن كتب المذهب في تحرير المسائل وبسط أدلتها
وإرجاعها إلى أصولها.
وقد كان العلماء يتنافسون في الاطلاع عليه حتى إن ابن عابدين المشهور
ظفر بنسخة منه فاشتراها بوزنها ذهبًا. وقد كان طبع في الهند فطلب نسخًا منه
أكابر فقهاء الحنفية فألفوه كما كان يقول أحدهم (الشيخ عبد الغني الرافعي رحمه
الله تعالى) : توراة مبدّلة؛ أي: إنه كثير الغلط والتحريف. وقد طبعه أخيرًا السيد
عبد الواحد بك الطوبي وأخوه في المطبعة الأميرية، واعتنى بتصحيحه، وأضيف
إليه تكملته المسماة (نتائج الأفكار) للمولى شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده.
ووضع في هامشه (شرح العناية على الهداية) لأكمل الدين البابرتي
وحاشية سعدي جلبي المفتي الشهير، فبلغ الجميع ثمانية مجلدات وجعل ثمنه 160
قرشًا و 165 من الورق النباتي، ويطلب من مكتبة طابعيه في مصر. فنوجه إليه
أنظار الحنفية عامة وأهل الهند خاصة.
* * *
(جواهر الإنشاء)
أنشأ أخونا الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري مدرس العربية في
المدرسة الخديوية نبذًا وفصولاً في موضوعات مختلفة؛ لتكون تمرينًا للتلامذة على
الكتابة والإنشاء. ثم ضم إليها بعض الأحاديث النبوية في الفضائل ومحاسن
الأعمال وشيئًا من الحِكَم المنثورة، ومن الأشعار المختارة في الآداب، ومنها نظم
ملخص من كتاب (أدب الدنيا والدين) وسمى هذه المجموعة (جواهر الإنشاء) . وقد
طبعت في مطبعة الترقي الشهيرة بالإتقان، وثمنها قرشان، وهي 90 صفحة
وتطلب من مكتبة الترقي ومن حضرة ملتزم طبعها توفيق أفندي كاشف بشارع
بركة الفيل.
* * *
(رسالة الشيرازي في علم الأخلاق)
هي رسالة مختصرة مفيدة في الأخلاق والآداب سهلة العبارة اعتنى بطبعها
المحامي الفاضل الأديب عبد العليم أفندي صالح، ولا يعرف مؤلفها، وربما يتبادر
إلى الذهن أنها للشيخ أبي إسحاق وما هي له فيما يظهر من إهدائها في فاتحتها. على
أن العبرة بالقول لا بالقائل، والرسالة نافعة في بابها، وهي ثلاثة أقسام:
أحدها في الأصول الكلية لعلم الأخلاق.
وثانيها فيما يجري مجرى الأمثال السائرة من الكلمات النادرة.
وثالثها في محاسن أخلاق الملوك وآداب أتباعهم وحواشيهم وهذا القسم يدلنا
على استبداد الملوك في ذلك العصر وإقرار العلماء على ذلك. فنشكر لطابعها فضله
في إحياء هذه الآثار الأخلاقية التي نحن أشد حاجة إليها من سائر العلوم، ونحث
الناس على قراءة هذه الرسالة وثمنها قرشان.
* * *
(تاريخ حرب الدولة العثمانية مع اليونان)
كما يجب على الإنسان أن يعرف نفسه من حيث هو شخص يجب عليه أن
يعرفها من حيث هو أمة؛ أي: عضو من أمة شرفه بشرفها ومهانته بمهانتها والأمم
الحية تعتني بتاريخها فتعلمه أولادها بالتفصيل وتاريخ سائر الأمم والدول بالإجمال
ولكننا نرى أكثر المسلمين يجهلون تاريخ الإسلام، وأكثر العثمانيين يجهلون تاريخ
الدولة العلية ولآل العظم فضل على الفريقين بالعناية بالتأليف في التاريخين. فإذا كان
رفيق بك العظم مشغولاً بتأليف تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) فحقي بك العظم
الفاضل مشغول بتاريخ الدولة العلية فبعد أن ألف كتاب (دفاع بلفنا) وطبعه، ألف لنا
كتاب (تاريخ الحرب العثمانية اليونانية بالتفصيل) وطبعه، فجاء كتابًا حافلاً صفحاته
225، وفيه مباحث تاريخية واجتماعيه نافعة منها بحث (اللغة تحفظ كيان الشعب) ،
ومنها التعريف بمقدمات الحرب وأسبابها والجمعية الوطنية اليونانية، ومنها تعليل
الحوادث والوقائع ونتائجها، وختمه بنظرة سياسية في موقف الدولة العلية
قبل الحروب وبعدها وأحوال ألبانيا ومكدونيا، واحتياج الدولة للرجال الأكفاء،
وسبب سكوت الدولة عنها الآن. والكتاب مطبوع في مطبعة الترقي على ورق
جيد ويطلب منها ومن إدارة المنار وثمنه عشرة قروش أميرية.
* * *
(البيان)
مجلة إخبارية تاريخية تصدر مرة في الشهر باللغتين العربية والأوردية،
لمُنشئها الفاضل الشيخ عبد الله العماوي، وصاحب امتيازها المولوي عبد الولي ابن
الفاضل الراسي عبد العلي المدراسي. والغرض منها جمع كلمة الأمة الهندية ,
وإحياء الفضائل العربية , ومن المباحث النافعة فيها نبذة (الحضارة والهند) شكا
فيها الكاتب من فقر الأمة وقلة الكسب، وكثرة الإتاوات والضرائب وهي نحو 500
مليون روبية، منها 160 مليونًا من الخراج و 85 مليونًا من الملح و 35 مليونًا
من القراطيس القضائية و 55 مليونً من الخمور و 35 مليونًا الزيادات الخراجية
و5 ملايين من التسجيل (السيكورتاه) . ومنها نبذة في مقاصد ندوة العلماء لم تتم،
ولعلنا نلخصها بعد تمامها. ونرجو لهذه المجلة الرواج فقيمة الاشتراك فيها 8 روبيات
في الهند و30 غرشًا أو 6 شلينات في الخارج.
* * *
(تنبيه)
ضاق هذا الجزء عن باب الأخبار النبوية وآثار السلف وعن الأخبار والآراء
والبدع والخرافات.
* * *
(للشاعر المجيد مصطفى أفندي صادق الرافعي في الساعة)
تضرب كالقلب شفَّه السقم ... كأن فيها الهموم تضطرم
ذات محيّا أظل أقرأ من ... خطوطه ما يخطه القلم
ألفتها لا أذم صحبتها ... وعيّ بي في اصطحابها السَّأم
وما أراها سوى الزمان أما ... يدور فيها النعيم والنِقم
تُذكرني ما يمر من عمري ... فكل يوم يَجِدّ لي نَدم
ما إنْ تراعي لأهلها ذممًا ... إن رعيت عند أهلها الذِمم
وليس إذ ما سعت عقاربها ... يدب في غير مهجتي الألم
ولا إذا أعجلت فجائعها ... في غير ضيق القلوب تزدحم
يا أخت ذات البروج هل حجبت ... طوالع السعد هذه الظلم
كأنها والخطوب تكتمها ... سر بقلب الزمان مُنكتم
وهل تعود الجدود ثانية ... من بعد هذا العبوس تَبتسم
ما أثبت الهم في الصدور إذا ... أمست ليالي الحياة تنهزم
وهذه الدار كلها تعب ... سيان فيها الوجود والعَدم
والناس كالنائمين ما لبثوا ... فكل ما يشاهدونه حُلم
أبدع ذات العماد مبدعها ... فأين راحت بأهلها إرَم
__________(5/78)
غرة صفر - 1320هـ
9 مايو - 1902م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(الدرس 34)
الأجوبة عن شبهات العصمة
(المسألة 90) معصية آدم عليه السلام:
علمنا أن مذهب جمهور أهل السنة أن الأنبياء معصومون بعد النبوة لا قبلها،
فلا ترد معصية آدم على هذا المذهب؛ لأنه لم يكن نبيًّا حين عصى ربه، بل لم يكن
في طور التكليف إلا بالنسبة إلى النهي عن الأكل من الشجرة. ولا ترد أيضًا على
ما اختاره المتأخرون من عصمتهم قبل النبوة (وإن كان يلزم منه أن هناك أحكامًا قبل
التشريع والوحي) ؛ لأن الدليل العقلي الذي يمكن أن تثبت به هذه العصمة لا يأتي في
مسألة آدم وهو أن يكون من اختياره للنبوة معروفًا في قومه بمكارم الأخلاق وأحاسن
الأفعال؛ لأن سيّئ السيرة ممقوت منبوذ تحفظ مساويه وجرائمه فتحول دول قبول
دعوته وكون هذا لا يجيء في مسألة آدم بديهيٌّ لا يحتاج إلى بيان. فإن قيل إن الدليل
يرشد إلى أن فطرة الأنبياء زاكية ونفوسهم عالية فهم ينفرون من المعاصي والجرائم
بوازع نفسي راسخ فيهم - كما علم من إثبات النبوة والوحي - فكيف يقترف آدم تلك
المعصية مع كونه خلق في أحسن تقويم وأكمل صفة؟
والجواب: إن صاحب النفس الزاكية تربأ به نفسه عن تعمد إتيان المنكر
وارتكاب الفاحشة التي يعرف مضرتها وسوء عاقبتها، وآدم لم يتعمد المخالفة بدليل
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (طه:
115) ولم يكن عالمًا بوجوه مضرتها لتنفر فطرته منها، بل كان يعتقد صدق
الشيطان الذي وسوس إليه بأنها شجرة الخلد وملك لا يبلى فهذا الاعتقاد دفعه عند
نسيان النهي إلى الأكل؛ ليكون مظهرًا لهذا النوع الذي هو أبوه، وليعلم مَن بعده مِن
ولده غير المعصومين ما يجب على من عصى ربه من التوبة والإنابة إلى
الله تعالى.
على أن في قصة آدم وجهًا في التأويل، بأنها وردت مورد التمثيل، لإظهار
طبيعة النشأة البشرية في أطوارها التدريجية، فالجنة والعيش الرغد فيها مثل لما
كان عليه النوع البشري في طور السذاجة الأولى، وعصيان آدم وهبوطه هو وزوجه
من الجنة مثل لدخول البشر في طور المخالفات التي تجر عليهم الشقاء والبلاء.
والتوبة والمغفرة مثل لطور الكمال الكسبي والارتقاء العلمي والعملي (سيأتي
إيضاح ذلك في باب التفسير المقتبس من مفتي الديار المصرية) .
***
(م91) قصة داود عليه السلام
وُلع بالإسرائيليات بعض الذين اشتغلوا بتفسير القرآن بالمأثور، فألصقوا
بالقرآن ما تلقفوه من أهل الكتاب لأدنى مناسبة، ولولا ذلك لما كنا محتاجين إلى
الجواب عن هذه الشبهة بعد ما قررنا في الدرس الماضي الفرق بين ذنوب الأنبياء
وبين المعاصي الحقيقية التي عصمهم الله تعالى منها.
القرآن مهيمن على الكتب السماوية؛ لأنه ثابت بالتواتر دونها، فما أثبته فهو
الثابت وما نفاه فهو المنفي. وقصة داود مع الخصم ليس فيها بحسب نصّ القرآن
إلا أن اجتهاد داود اختلف في قضيتين متشابهتين فعرفه الله خطأ الاجتهاد الأول بما
عداه إليه في الثاني؛ لأن خطأ الأنبياء في اجتهادهم لا يُقرُّون عليه كما تقدم في
الدرس الماضي عن البيضاوي. هذا إذا كان لقصة المرأة أصل، وإلا فإن قضية
الخصمين اللذين تحاكما إلى داود عليه السلام ليست نصًّا في أنه أخطأ في قضية، أو
تزوج امرأة بعد ما عرّض زوجها للقتل أو غير ذلك مما يزعمون.
القضية أن أحد الخصمين له تسع وتسعون نعجة وللآخر نعجة واحدة فطلب
الأول أن يضمها إلى نعاجه، وحاجّ صاحبها في بيان أن ذلك هو الصواب والأولى
فعزّه وغلبه في الخطاب والكلام فحكم داود بأن صاحب التسع والتسعين ظالم وأن من
شأن الخلطاء البغي، ولكن خَتْمَ النبأ بقوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: 24-25) يدل على أن وراء القضية أو فيها هفوة لداود.
ولقائل أن يقول: يحتمل أن تلك الهفوة في نفس الحكم؛ فإنه لا يبعد أن يكون
الصواب ضم النعجة إلى القطيع لتحفظ وتأتي بالنسل، وأن بقاءها عند صاحبها
مَضيعة لها فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية كما ورد في الحديث الشريف.
واعتراف المدعي بأن خصمه عزّه في الخطاب دليل على أنه لم يطلبها إلا بحق
وبعِوض كثمن المثل أو منفعة أخرى من اللبن أو النسل. وفي البيضاوي وغيره
احتمال آخر في التأويل مروي، وهو أن الذين تسوروا المحراب كانوا يقصدون
اغتيال داود في يوم انفراده فوجدوا عنده قومًا فتصنّعوا بالتحاكم، فعلم غرضهم
وقصد أن ينتقم منهم ثم لم يجد مسوغًا شرعيًّا فعاتب نفسه، وظن أن الله تعالى أراد
ابتلاءه واختباره بذلك فاستفغر ربه مما هم به؛ لأن ذلك ذنب بالنسبة إلى مقامه،
وإذا كان لقصة امرأة أوريا أصل فيجب أن يكون مطابقًا لقضية الخصمين؛ بأن يكون
داود اعتقد أن امرأة جميلة في بيت جندي فقير خلف أسفار لا تسلم من تطلع السفهاء
وتعرّض الفجار، وأن الطريقة المثلى لصيانتها هي أن تكون في بيت النبوة والملك
وأنه كلم زوجها في أن يكفلها فأقنعه وعزّه في الخطاب؛ لأن هذا هو الصواب.
وإنما استغفر داود من ذلك؛ لأنه ظن أن اجتهاده في أمر المرأة مشوبٌ بشيء من ميل
النفس إلى كفالتها وأن هذا الميل هو الذي رجَّح في نفسه الرأي الأول بدليل أنه ظهر
له خلافه في قضية تشابه الأولى، ومثل هذا يعده هؤلاء الكمَلَة ذنبًا، وإن لم يكن فيه
مخالفة لأمر الله تعالى وحيد عن شريعته.
ومن تأمل ما تقدم القصة وما تأخر عنها من الثناء على داود عليه السلام علم
أن القرآن يتنزه في حكمته وبلاغته أن يكون ذكر الفاحشة فيه محتفًّا بهذا الثناء
والإطراء. ويقال: إن تنازل الرجل عن امرأته لآخر ليتزوج بها كان مشروعًا
عندهم. وقد آثر الأنصار المهاجرين (رضي الله عنهم أجمعين) بزوجاتهم فكان
من عنده امرأتان يطلق إحداهما ليتزوج بها أخوه المهاجر.
وفي القصة روايات كثيرة في كل فرع من فروعها لا يعبأ بها أهل العقل ولا
أهل النقل. فإن قبلنا منها شيئًا فلنقبل ما يوافق قواعدنا الثابتة، كرواية أن أوريا لم
يكن متزوجًا بالمرأة وإنما كان خاطبًا، ورواية نهي الإمام علي كرم الله وجهه عن
التحديث بالقصة على ما يرويه القصاص، ووعيده من خالف بجلد مائة وستين جلدة
وذلك حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام.
(م 92) الشبهة الأولى على سليمان عليه السلام
حاسب الله القصاص فلقد شوهوا كتب التفسير بقصصهم، استعرض
سليمان نبيّ الله وملك بني إسرائيل الخيل وهو نعم العبد {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} (ص: 31-32) المعقود
بنواصي الخيل لا عن هوى نفسي ولكن {عَن ذِكْرِ رَبِّي} (ص: 32) وَوحيه
الذي أمر برباط الخيل للدفاع عن الحق.
فما زالت تعرض {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) فقال {رُدُّوهَا
عَلَيّ} (ص: 33) لأراها مقبلة ومدبرة أو لأختبر حالها. فقد قيل: إنه كان
عالمًا بها وبأمراضها أو لأتمتع بمسح سوقها وأعناقها، فردُّوها عليه {فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} (ص: 33) كما هو شأن محبّي الخيل في كل جيل وزمان.
فأي هذيان أم أية شبهة في هذه الآيات على أن سليمان عليه السلام ترك صلاة
العصر شغلاً بالخيل حتى غربت الشمس، وأنه انتقم منها بقطع سوقها وأعناقها -
ولو كان المسح هو القطع لكان قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} (المائدة: 6) بمعنى: اقطعوها - وأن قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} (ص: 33) خطاب
للملائكة الموكلين بالشمس يأمرهم بردها بعد غروبها ليصليَ العصر؟ وأيّ حاجة
لتطويل الفقهاء البحث في هذه الصلاة هل هي أداء أم قضاء؟ ولكن هذا قضاء
الله في قوم اشتغلوا عن لباب العلم بلَوْك القشور، ألا إلى الله تصير الأمور.
***
(م93) الشبهة الثانية على سليمان عليه السلام
رووا في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ
أَنَابَ} (ص: 34) روايات مضطربة متعارضة، فإذا حكَّمنا علم الرواية فإننا
نقبل رواية البخاري ومن وافقه، وملخصها: أن سليمان قال: لأطوفنَّ الليلة
على أربعين امرأة (من نسائه) تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل
إن شاء الله: فلم تحمل منهن إلا واحدة جاءت بشق رجل فألقي على كرسيه عرضًا
عليه، وسمي جسدًا؛ لأنه ليس إنسانًا كاملاً، فكان ذلك فتونًا واختبارًا من الله تعالى
له فأناب إليه وتاب أن يجزم بشيء دون الاستثناء بمشيئته؛ فأين التماثيل وعبادة
الأصنام ووثبان الشياطين على كرسيّ الملك وما أشبه هذا الهذيان الذي رووه؟
***
(م94) الشبهة على عصمة يوسف عليه السلام
إن ما جرى ليوسف مع امرأة العزيز كان قبل نبوته، وليس فيما قصه الله
تعالى علينا إلا أنه: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: 24) فيجوز
أن يكون جواب لولا محذوفًا دلّ عليه ما قبله فتكون الآية ناطقة بأنه لم يهمّ، وبعض
النحاة جوَّز تقديم جوابها؛ أي: إنه لولا رؤية برهان رّبه لهمَّ بها لتوفّر
الدواعي ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء فلم يهمّ
ولو فرضنا أن الجواب (لغَشْيِهَا) وأنَّ الهمّ وقع منه لكان لنا أن نقول: إن الأنبياء
ليسوا معصومين من حديث النفس ومراودة الشهوة البشرية، ولكنهم معصومون من
طاعتها والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم داعية إلى خطأ لما كانوا مأجورين على
ترك المنكرات والمعاصي؛ لأنهم يكونون مجبورين على تركها طبعًا. والعنين لا
يؤجر ويثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية
ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كفّ النفس عما تتشوّف إليه فهو عمل نفسي.
***
(م 95) الشبهة على إخوة يوسف
لا شك أن إخوة يوسف قد ارتكبوا المعصية المشتملة على عدة معاصي،
ولكنهم لم يكونوا أنبياء. وأما ذكر الأسباط، فيمن أوحى الله تعالى إليهم من الأنبياء
فالمراد به (والله أعلم) أنبياء الأسباط وهم فرق بني إسرائيل الاثنى عشر. قال
تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} (الأعراف: 160) ، وقد بعث الله
في كل أمة من هؤلاء الأسباط أنبياء وأوحى إليهم فعل الخيرات وهداية بني
إسرائيل. وما رواه ابن جرير الطبري من استغفار يعقوب لهم في وقت السحر
وتأمين يوسف عليهما السلام، وأن الله استجاب له على رأس العشرين سنة من دعائه
وأوحى إليه أنه غفر لهم (وعقد مواثيقهم على النبوة) فهو غير صحيح هذا هو
الحق في هذه القصص، وقد انكشفت به الشبه، فينبغي ذأن يلقن للمسلمين في الدروس
ويعلم للأطفال لكيلا يغتر أحد بما في كتب العهد العتيق التى يسمونها التوراة وبما
حشي في كتب قصص الأنبياء وبعض التفاسير من الإسرائيليات، {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/87)