الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال الأول
بامتحان مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية
احتُفل في أصيل يوم الجمعة الماضي في قبة الغوري الاحتفال الأول بامتحان
تلامذة مدرسة مصر القاهرة لهذه الجمعية النافعة تحت رئاسة فضيلة الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية , وأحد أركان مؤسسي الجمعية
وأعضائها العاملة , وقد حضر الاحتفال سعادة الفاضل الهمام ماهر باشا محافظ
مصر , وكثيرون من العلماء والوجهاء , وافتتح الاحتفال بقراءة آيات من الكتاب
العزيز قرأها أحد التلامذة بصوت رخيم وتجويد وترتيل انشرحت له الصدور , ثم
قام رئيس الاحتفال فشكر للحاضرين عنايتهم بالجمعية وتنشيطها بالسعي لحضور
احتفالها ورؤية ثمرة أعمالها , ثم بين أن الغرض الأول من تأسيس الجمعية تربية
أولاد الفقراء من يتامى وغيرهم تربية يحافظون فيها على عقائدهم وآداب دينهم
وأخلاقه وأعماله , ويستعينون بها على معايشهم وتحصيل أرزاقهم , ومن عساه
يوجد في مدارس الجمعية من أولاد الأغنياء، فوجوده غير مقصود بالذات.
قال: وإن الامتحان الذي يعرض أمام حضراتكم اليوم هو مطابق لهذا الغرض
ومبني على هذا الأصل , ولهذا لا تسمعون فيه ذكر لغة أجنبية , ولقد كان من رأي
بعض الأعضاء المؤسسين أن تُعلَّم في مدارس الجمعية اللغات الأجنبية لأجل
الترغيب في الإقبال عليها , وقد كان الجواب عن هذا الرأي أنه ليس الغرض من
مدارس الجمعية التجارة فنرغب الناس فيها بما ليس من موضوعها , وإنما الغرض
تربية أولاد الفقراء , فلو أمكننا أن نلتقطهم من الشوارع ثم نرضي أولياءهم لفعلنا.
لم تنشأ الجمعية لمقصد أعلى من هذا في مدارسها كأخذ الشهادات والاستعداد
للوظائف , بل من أهم مقاصدها أن تنزع من النفوس اعتقاد أن التعليم لا فائدة فيه
إلا الاستخدام في الحكومة , وهذا الفكر كان مستوليًا على الأمة , ونحمد الله أن
كثيرًا من الناس قد انتبه لما في هذا الفكر من الخطأ والضرر , والجمعية توطن
نفوس التلامذة في مدارسها على أن يعمل الواحد منهم عمل أبيه بإتقان , ويعيش مع
الناس بالأمانة والاستقامة , فولد النجار يكون نجارًا , وولد الحداد يكون حدادًا
وولد الفراش يكون فراشًا , والتربية والتعليم يساعدان كلاًّ على إتقان عمله
وصناعته , فيكون أكثر كسبًا لأنه أكثر إتقانًا للعمل مع الأمانة والاستقامة. ولا شك
أن الإنسان إذا ظفر بفراش كاتب مهذب يزيد في أجره ويطول عنده مكثه. ومن
كان فيه استعداد لشيء أعلى مما كان عليه آباؤه وظهر عليه ذلك، فإنه ينبعث إليه
من نفسه , والجمعية تساعده عليه , وقد حصل هذا لبعض التلامذة , والجمعية
مهتمة في إنشاء قسم صناعي في مدارسها لأنه من مقاصدها الأصلية , ثم قال:
هذا الاحتفال بامتحان تلامذة مدارس الجمعية لم يكن بمواطأة , ولا كان تركه
في الماضي إلى هذه السنة وهي الخامسة من سني المدارس عن قصد , وإنما هو
شيء جاء من نفسه , واقتضته طبيعة العمل , فمثل الجمعية فيه كمثل الطفل الذي
يظهر فيه بعد خمس سنين ثمرة العلم. وقد ظهرت الرغبة فيه قبلاً من أعضاء
الجمعية على ثقتهم بحسن النتيجة لما فيه من ظهور ثمرة العمل التي يُسر بها العامل ,
وتكون مدعاة لمساعدة إخوانهم الآخرين له , ومسرة من لم يستطع المساعدة , فإن
كل مسلم يسره أن يرى إخوانه المسلمين موفقين للأعمال النافعة للأمة التي لا
يستطيعها هو , وهذا هو السبب في دعوة حضرتكم إلى هذا الاحتفال , وشكرنا لكم
حسن الإجابة والقبول.
ثم وقف أحد الأطفال فسأله أحد المعلمين أولاً عن وجه حاجة البشر إلى
إرسال الرسل فأجاب بأحسن جواب - أجاب بملخص ما هو مذكور في كتاب (رسالة
التوحيد) التي لم يؤلف مثلها في بيان حقيقة الإسلام , فصفق له النادي تصفيق
استحسان , وأعطاه فضيلة الأستاذ الرئيس جائزة مالية , ثم وقف آخر فقرأ نبذة من
كتاب الدروس الحكمية , واختار الأستاذ مما قرأه جملة أمره بكتابتها وإعرابها وهي
(وبلغ بهم هذا الحب المتبادل إلى حد من ثقة بعضهم ببعض أن كان أحدهم ثقة
بإخوانه , لا يأتي أمرًا إلا بمشورتهم) فأحسن إعرابها إلا أنه توقف بكلمات , ثم
فطن لها من السؤال , فدل هذا على إعراب عن فهم لا عن حفظ ألفاظ
واصطلاحات [1] وعلمت أنه كان في نية المعلمين أن يلقوا عليه للإعراب قوله
تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الحشر: 9) الآية لما فيها من المناسبة للمقام
ثم وقف آخر , وألقيت عليه مسألة حسابية فحلها قولاً وكتابة , ثم آخر فسئل عن
مسألة هندسية فأحسن الجواب , وكان موضوع المسألة بناء حوض صفته كيت
وكيت , ثم طلب منه أن يرسمه بحسب الوصف فرسمه رسمًا حسنًا. ثم وقف آخر
وطلب منه أن يرسم قارة أسيا ففعل وسئل فيها بعض المسائل فأجاب , ثم وقف
آخر صغير جدًّا يظهر أنه في السنة الأولى , وأن عمره لا يتجاوز الخمس سنين ,
وقرأ في كتاب التعليم قصة المرأتين اللتين اختصمتا إلى داود وسليمان عليهما
الصلاة والسلام في الولد المتنازع فيه، فأحسن القراءة , وسئل أن يحل المعنى بالكلام
البلدي فحله حل الحاذق الفهم , ثم اعتذر بصغره وقصره وأنه لولا ذلك لأجاد الكلام
وأتى بما يعجب به الحاضرون , فكانت الوجوه تتدفق سرورًا وتتلالأ بشرًا لكلامه
وبراعته , وأخذ الجائزة المالية من فضيلة الرئيس , وصفق له النادي كما صفق
لإخوانه من قبله , ثم قام آخر وتلا الخطاب الآتي، ألقاه إلقاء خطيب متمرن يعطي
كل جملة حقها من الإشارات وهو:
غير خافٍ أن الإنسان محتاج بطبعه في هذه الحياة الدنيا إلى الاجتماع ببني
جنسه على هيئة يكون بها التعاون والتعاضد ليحصل بهذا الاجتماع على ما تقوم به
حياته من الغذاء واللباس والمسكن والدفاع , ويتم ما أراده الله به من العمران.
ولهذا الاجتماع العمراني علوم وفنون جمة ولدتها الحاجات , وحققتها التجارب
حتى صارت حقائق ثابتة يتوقف على معرفتها تمتع أفراد المجتمع الإنساني بالراحة
التامة والرفاهية الكاملة , وعلى قدر التمسك بهذه العلوم والفنون والعمل بمقتضاها،
تكون سعادة الأمة وغناها , وبمقدار إهمالها والتقاعد عنها يكون شقاء الأمة وعناؤها
ومن قارن بين الأمم الغربية والشرقية في هذا العصر تحقق ما قلناه , واعتبره
مسبرًا يسبر به غور الأمم، فمتى وجد أمة ينمو بين أفرادها حب التربية والتعليم
حتى يمتزج ذلك بدمائهم ويرسخ في نفوسهم , ويصير أسمى مطلب وأنفس مأرب
يتيقن أنها سائرة إلى مجد شامخ وشرف باذخ لا بد وأن تبلغه يومًا ما , ومتى وجد
أمة على الضد من ذلك جزم بأنها هاوية إلى البوار ومتقهقرة إلى الدمار.
وإننا نحمد الله حيث نرى أن أمتنا المصرية قد نهضت نهضة سريعة في
الميل إلى التربية والتعليم , واتجهت لذلك أنظارهم وتسابقت إليه همهم , فبذلوا في
هذا السبيل أنفس النفائس , وأسسوا كثيرًا من المدارس حتى صار هذا التقدم في
الحال مما يبشر بحسن الاستقبال.
وكان الباعث الأول لهذه النهضة الوطنية تأسيس هذه الجمعية الخيرية
الإسلامية , وغرسها أطيب المغارس بإنشائها هاتيك المدارس لتربية أبناء الفقراء
واليتامى الذين ليس لهم أولياء مع مواساة من أخنى عليهم الزمان من بيوت كانت
من المجد بمكان. فما ظهر هذا المشروع المحمود من العدم إلى حيز الوجود إلا
وتلقته أيدي النفوس الزكية بالارتياح حيث كان أفضل عمل يوصل إلى النجاح
والفلاح.
كان تأسيس هذا العمل المبرور والفعل الحميد المشكور بهمة نخبة أصفياء من
العلماء والوجهاء. في سنة 1310 هلالية الموافق سنة 92 شمسية. مؤيدًا
بالعناية الإلهية , ومعززًا بالرعاية الخديوية العباسية. حيث أساسه البر والتقوى ,
وغايته الترقي في معارج السعادة إلى الدرجة القصوى.
وفي مبدأ الأمر لم يبلغ عدد الأعضاء المؤسسين له سوى اثنين وعشرين ,
وما زالت سراة الأمة تحنو بالإشفاق عليه , وتتجاذب نفوسهم إليه. حتى بلغ عدد
الأعضاء العاملين والمشتركين ما يزيد عن الستمائة والثمانين , ولما كان روح
النجاح في الأعمال هو ملازمة الثبات لبلوغ الآمال. قد وفق الله الأعضاء العاملين
للتمسك بحبل العزم المتين والاعتصام بروابط الاتحاد والدأب على ما فيه الصالح
بكل جيد واجتهاد حتى تم في زمن غير مديد كثير من العمل المفيد.
فأول عمل ينبغي أن يذكر فيشكر ويشهر بين العاملين وينشر: إنشاء هذه
المدارس الأربع الزاهرة في أسيوط , وطنطا والإسكندرية , والقاهرة , رحمة
بأبناء الفقراء وانتياشًا لهم من وهدة الشقاء وتعهدهم بالتربية الحميدة. وتثقيف عقولهم
بالعلوم المفيدة حتى يشبوا على حب العمل والاعتماد على الله , ثم على النفس في
بلوغ الأمل. فينتفعون وينتفع بهم , ولا يكونون عالة على غيرهم , وقد أثمر ولله
الحمد هذا الغرس وطابت منه كل نفس. فبلغ متوسط عدد تلامذة هذه المدارس
الأربع 350 تلميذًا , وعدد النابغين منهم منذ الإنشاء إلى سنة 1316 هجرية ثمانين
تلميذًا التحق منهم بقسم الصنائع 43 تلميذًا على نفقة الجمعية. وانتظم الباقون في
أعمال أخرى تحسنت بسببها حالتهم المعاشية. وكلهم من أبناء الفقراء المعوزين.
وإني أيها السادة الكرام والعلماء الأعلام ممن شملتهم هذه التعطفات الرحمانية,
وغمرتهم نعمة التعليم في مدرسة مصر من مدارس هذه الجمعية , وأوصلني الحظ
الجميل إلى وقوفي هذا الموقف الجليل بين يدي الحاضرين من العلماء والفضلاء
والأعيان والوجهاء. وهو موقف كان يصعب على مثلي أن يقفه , وأن يتلفظ فيه
ببنت شفة. فلله الحمد والمنة على جليل هذه النعمة. ومن أعمال الجمعية المشكورة ,
وآثارها الجليلة المبرورة مد يد المساعدة بالبر والإحسان لبيوت تقلبت بها
صروف الحدثان؛ فأصبحت بعد العسر في يسر , وصارت بعد الشقاء في هناء
وهذا لعمر الحق إحساس شريف , ومقصد سامٍ منيف يقوي دعائم الفضيلة , ويشيد
أركان الخلال الجميلة , ويرغب النفوس في حب السخاء وتوثيق عرى الإخاء.
هذا ولما رأت رجال الجمعية أن التربية قسمان: علمية وعملية، بدأت بالأولى
لتكون كأساس وطيد صالح لأن يرفع عليه خير بناء مشيد , وعزمت على أن
تردفها بالثانية بقدر الاستطاعة. فتنشئ قسمًا عمليًّا لِما تمس الحاجة إليه من فنون
الصناعة؛ لتتم الفائدة للنابغين من التلامذة , ويتيسر لهم بهذه التربية الكاملة التي
نمت بها قواهم العاقلة والعاملة أن يعيشوا عيشة راضية حائزين في هذه الشركة
الإجتماعية حظوظًا وافية. حقق الله أماني جمعيتنا الإسلامية وأعانها على تتميم
هذه المساعي الخيرية وجعلها نموذج كمال ينسج على منواله , وتتسابق الهمم
السامية إلى الحذو على مثاله. حتى نرى الوطن العزيز رافلاً في حلل البهاء بآثار
نبل هذه الأيادي البيضاء. وفق الله الأمة للسداد ويسر لها أسباب السعادة والإسعاد.
وأيدها بالتعاضد والالتئام. حتى يبشر المبدأ بحسن الختام
آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أبلغها آلاف آمينا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... اهـ
وقد طلبنا هذا الخطاب ونشرناه لما فيه من الفائدة المتعلقة بتاريخ الجمعية
وثمرتها.
ثم صعد مرقى الاحتفال ثلة من التلامذة ولحنوا نشيدًا جميلاً يتضمن شكر الله
تعالى وشكر مؤسسي الجمعية ومساعديها والدعاء للحضرة الخديوية العباسية التي
جعلتها تحت رعايتها , وأمدتها بالرفد والمساعدة , ثم ختم الاحتفال كما افتتح بتلاوة
القرآن الكريم وشكر رئيسه للحاضرين. فانفض الجمع منشرحة صدورهم بهذا
النجاح الباهر لا سيما بما رأوا من الهدوء والسكينة والنظام التي هي من آثار كمال
التربية والتهذيب.
(رجاء)
قد ظهرت ثمرة هذه الجمعية للعيان , وتبين أنها أحق الجمعيات بمساعدة أهل
البر والإحسان؛ لأنها سالكة أمثل الطرق في تربية أبناء فقراء المسلمين. وهو ما
يؤهلهم لاكتساب خيري الدنيا والدين , وإن أساسها لمتين وركنها لركين
وأعضاءها من خيرة الرجال العاملين، فلا عذر لأحد بعد ظهور الثمرة ووجود الثقة
بنجاح العمل وثباته في عدم الإقبال على مساعدتها إلا العجز. فالرجاء من أصحاب
الغيرة الحقيقية على الأمة والبلاد أن يقبلوا على الاشتراك فيها ومساعدتها لتتمكن من
إتقان مدرسة الصناعة المتأهبة لها , وتردفها بمدرسة أخرى للزراعة فإن النجاح
الحقيقي لا يكون إلا بالتربية على قرن العلم بالعمل كما هو مبدأ الجمعية , وعسى
أن يقل بنموها واتساع نطاقها عدد المتسولين والشحاذين الذين غصت بهم الطرقات ,
وضاقت بهم الأسواق والشوارع حتى إنه يخيل لمن يجيء القاهرة من البلاد
الأجنبية أن ثلث أهلها من الشحاذين , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) ذكرني هذا مجاورًا في الأزهر يطلب العلم فيه من 29 سنة , وحضر جميع الكتب العالية , وقد أمره فضيلة مفتي الديار المصرية من أيام أن يعرب جملة في غاية الوضوح , فأخطأ في البديهيات. العبارة فيما أذكر (ولما كان القضاء هو المقصود … قدمه تقدمة للأصل) إلخ فقال: لما: حينية، وكان: فعل ماض، والقضاء: فاعل و (هو) ضمير فصل، والمقصود: فاعل إلخ , واشتبه في كلمة (تقدمة) فقال مرة: إنها فعل ولكنه لم يعين نوعه , فسأله الأستاذ هل هو معرب أم مبني؟ فقال: كل فعل مبني … ثم أنكر أنها فعل، وقال: إنها اسم، لكنه لم يعرف ما هو، ثم أنكر كونها اسمًا كما أنكر من قبل كونها فعلاً أو حرفًا إلخ! ! ! فما هذا التعليم؟ .(3/294)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية وأدبية
(ملخص خطاب مولانا الأستاذ الحكيم في ختام درس المنطق)
وعدنا بأن نأتي بما وعيناه من ذلك الخطاب البليغ، وها نحن أولاء منجزو
موعدنا، قال الأستاذ بعد ما تقدمت الإشارة إليه من ذم الإطراء ما مثاله ملخصًا:
سعادة الناس في دنياهم وأخراهم بالكسب والعمل؛ فإن الله خلق الإنسان وأناط
جميع مصالحه ومنافعه بعمله وكسبه , والذين حصَّلوا سعادتهم بدون كسب ولا سعي
هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحدهم لا يشاركهم في هذا أحد من البشر مطلقًا ,
والكسب مهما تعددت وجوهه فإنها ترجع إلى كسب العلم؛ لأن أعمال الإنسان إنما
تصدر عن إرادته , وإرادته إنما تنبعث عن آرائه , وآراؤه هي نتائج علمه , فالعلم
مصدر الأعمال كلها دنيوية وأخروية، فكما لا يسعد الناس في الدنيا إلا بأعمالهم كذلك
لا يسعدون في الآخرة إلا بأعمالهم , وحيث كان للعلم هذا الشأن فلا شك أن الخطأ
فيه خطأ في طريق السير إلى السعادة عائق أو مانع من الوصول إليها , فلا جرم أن
الناس في أشد الحاجة إلى ما يحفظ من هذا الخطأ ويسير بالعلم في طريقه القويم
حتى يصل السائر إلى الغاية , وهذا هو المنطق المسمى بالميزان , والمعيار الذي
يضبط الفكر ويعصم الذهن عن الخطأ فيه ولهذا كانت العناية به من أهم ما يتوجه
إليه طلاب السعادة.
اعتنى العلماء في كل أمة بضبط اللسان وحفظه من الخطأ في الكلام ,
ووضعوا لذلك علومًا كثيرة , وما كان للسان هذا الشأن إلا لأنه مجلي للفكر
وترجمان له وآلة لإيصال معارفه من ذهن إلى آخر، فأجدر بهم أن تكون عنايتهم
بضبط الفكر أعظم. كما أن اللفظ مجلي الفكر هو غطاؤه أيضًا فإن الإنسان لا يقدر
على إخفاء أفكاره إلا بحجاب الكلام الكاذب حتى قال بعضهم: إن اللفظ لم يوجد إلا
ليخفي الفكر.
إنما ينتفع بالميزان الذي هو علم الفكر من كان له فكر , والفكر إنما يكون
فكرًا له وجود صحيح إذا كان مطلقًا مستقلاًّ يجري في مجراه الذي وضعه الله تعالى
عليه إلى أن يصل إلى غايته , وأما الفكر المقيد بالعادات المستعبد بالتقليد فهو
المرذول الذي لا شأن له وكأنه لا وجود له. وقد جاء الاسلام ليعتق الأفكار من رقها ,
ويحلها من عقلها , ويخرجها من ذل الأسر والعبودية , فترى القرآن ناعيًا على
المقلدين ذاكرًا لهم بأسوأ ما يذكر به المجرم , ولذلك بنى على اليقين الذي علمتم
معناه موضحًا في درس سابق [1] لا ينبغي للإنسان أن يذل فكره لشيء سوى الحق ,
والذليل للحق عزيز. نعم يجب على كل طالب علم أن يسترشد بمن تقدمه سواء
أكانوا أحياء أم أمواتًا , ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم فإن وجده
صحيحًا أخذ به وإن وجده فاسدًا تركه , وحينئذ يكون ممن قال الله تعالي فيهم:
{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ
هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) وإلا فهو كالحيوان , والكلام كاللجام له أو
الزمام يمنع به عن كل ما يريد صاحب الكلام منعه عنه , ويقاد إلى حيث يشاء
ذلك المتكلم أن يقاد إليه من غير عقل ولا فهم.
ما الذي يعتق الأفكار من رقها وينزع عنها السلاسل والأغلال لتكون حرةً
مطلقةً؟ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى شرح طويل لأن تخليص الأفكار من
الرق والعبودية من أصعب الأمور , ويمكن أن نقول فيه كلمة جامعة يرجع إليها كل
ما يقال وهي (الشجاعة) .
الشجاع هو الذي لا يخاف في الحق لومة لائم، فمتى لاح له يصرح به ويجاهر
بنصرته وإن خالف في ذلك الأولين والآخرين , ومن الناس من يلوح له نور الحق
فيبقى متمسكًا بما عليه الناس ويجتهد في إطفاء نور الفطرة , ولكن ضميره لا
يستريح فهو يوبخه إذا خلا بنفسه ولو في فراشه. لا يرجع عن الحق أو يكتم الحق
لأجل الناس إلا الذي لم يأخذ إلا بما قال الناس , ولا يمكن أن يأتي هذا من موقن
يعرف الحق معرفة صحيحة.
إن استعمال الفكر والبصيرة في الدين يحتاج إلى الشجاعة وقوة الجنان , وأن
يكون طالب الحق صابرًا ثابتًا لا تزعزعه المخاوف فإن فكر الإنسان لا يستعبده إلا
الخوف من لوم الناس واحتقارهم له إذا هو خالفهم أو الخوف من الضلال إذا هو
بحث بنفسه , وإذا كان لا بصيرة له ولا فهم فما يدريه لعل الذي هو فيه عين
الضلال. إذن (إن الخوف من الضلال هو عين الضلال) . فعلى طالب الحق أن
يتشجع حتى يكون شجاعًا، والله تعالى قد هيأ الهداية لكل شجاع في هذا السبيل , ولم
نسمع بشجاع في فكره ضل ولم يظفر بمطلوبه.
وههنا شيء يحسبه بعضهم شجاعة وما هو بشجاعة وإنما هو وقاحة , وذلك
كالاستهزاء بالحق وعدم المبالاة بالمحق، فترى صاحب هذه الخلة يخوض في الأئمة
ويعرض بتنقيص أكابر العلماء غرورًا وحماقة , والسبب في ذلك أنه ليس عنده من
الصبر والاحتمال وقوة الفكر ما يسبر به أغوار كلامهم , ويمحص به حججهم
وبراهينهم ليقبل ما يقبل عن بينة ويترك ما يترك عن بينة , وهذا لا شك أجبن من
المقلد لأن المقلد تحمل ثقل التقليد على ما فيه , وربما تنبع في عقله خواطر ترشده
إلى البصيرة أو تلمع في ذهنه بوارق من الاستدلال لو مشى في نورها لاهتدى
وخرج من الحيرة , وأما المستهزئ فهو أقل احتمالاً من المقلد، فإن الهوس الذي
يعرض لفكره إنما يأتيه من عدم صبره وثباته على الأمور وعدم التأمل فيها.
والحاصل أن الفكر الصحيح يوجد بالشجاعة والشجاعة هنا (هي التي يسميها
بعض الكتاب العصريين الشجاعة الأدبية) قسمان: شجاعة في رفع القيد الذي هو
التقليد الأعمى , وشجاعة في وضع القيد الذي هو الميزان الصحيح الذي لا ينبغي
أن يقر رأي ولا فكر إلا بعد ما يوزن به ويظهر رجحانه , وبهذا يكون الإنسان حرًّا
خالصًا من رق الأغيار عبدًا للحق وحده. وهذه الطريقة طريقة معرفة الشيء بدليله
وبرهانه ما جاءتنا من علم المنطق , وإنما هي طريقة القرآن الكريم الذي ما قرر
شيئًا إلا واستدل عليه وأرشد متبعيه إلى الاستدلال , وإنما المنطق آلة لضبط
الاستدلال كما أن النحو آلة لضبط الألفاظ في الإعراب والبناء كما قلنا. ولا يمكن
أن ينتفع أحد بالمنطق ولا بغيره من العلوم مهما قرأها وراجعها إلا إذا عمل بها
وراعى أحكامها حيث ينبغي أن تراعى، فالذي يحفظ العلم حفظًا حقيقيًّا هو العمل به
وإلا فهو مَنسيّ لا محالة , وإننا نرى المجاور يقضي السنين الطويلة في الأزهر
يدرس العلوم العربية ولا ينتفع بها بتحصيل ملكة العربية قولاً وكتابة , وإنما ذلك
لعدم الاستعمال. فأنصح لكل من يسمع كلامي أن يستعمل ما يحصله من العلم ,
وأن يحصل لنفسه ملكة الشجاعة , وبدون هذا لا ينتفع بعلم ولا عمل ويكون
الاشتغال بالدروس في حقه من اللغو المنهي عنه المذموم صاحبه شرعًا. بل يقضي
حياته كسائر الحيوانات العجم وربما كان أتعس منها. وأحب أن يكون كل منكم
إنسانًا كاملاً والإنسان يطلب الجميل النافع لأنه حسن في نفسه لا لأن غيره يطلبه ,
فلو كفر كل الناس لوجب عليه أن يكون أول المؤمنين , وهذا هو الإسلام الصحيح
ثم ختم الأستاذ الخطاب بالدعاء والثناء على الله تعالى وانفض الاجتماع.
***
(قصيدة)
من القصائد التي نظمت بمناسبة الاحتفال بختم درس المنطق , قصيدة غراء
لصديقنا الفاضل الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي قال في مطلعها يخاطب
الأستاذ:
لعلياك مجد لا يماثله مجد ... وفضلك فضل لا يرام له حد
وأنت إمام العصر بل أنت شمسه ... وأنت وحيد الدهر والعلم الفرد
أقمت منار الشرع فينا بهمة ... هي الهمة العلياء والفطنة النقد
(ومنها)
فللت جموع الزيغ بالحق والهدى ... وهابتك حتى في مرابضها الأسد
وذدتَ عن الدين الحنيفي مخلصًا ... على حين أن القوم ليس لهم ذود
بتفسيرك الشافي كشفت سحابة ... من الجهل قد غشت وطال بها العهد
على أمة في غفلة عن حياتها ... وقل نصير الحق وانتشر الصد
عن المنهج الأقوى عن الخير كله ... ولولا كتاب الله لانفرط العقد
وأحييت ألبابًا بتقريرك الذي ... تباهت به الأقطار والسند والهند
هو الحق والعلم الصحيح بيانه ... هو الذهب الإبريز واللؤلؤ النضد
بك اعتز دين الله من بعد فترة ... تحكم فيها الجهل والحقد والجحد
فكنت بنصر الحق أفضل قائم ... وليس سوى الإخلاص عون ولا جند
ومنها في نصيحة طلاب العلم:
أيا معشر الطلاب للخير سارعوا ... ولا تهنوا في العلم فالوقت يشتد
إذا عرف الإنسان قيمة نفسه ... ... تسامى إلى العليا وطاب له السهد
وإن فتى الفتيان في العلم همه ... طلاب المعالي لا الثراء ولا الرفد
وقال في الختام يخاطب الأستاذ:
ويا شمس هذا العصر لا زلت راقيًا ... من المجد ما يبقى له الذكر والحمد
ودام بك النفع العميم مؤزرًا ... وخادمك الإقبال واليمن والسعد
***
(كتاب البصائر النصرية)
نوًهنا بهذا الكتاب الجليل في ذكر الاحتفال بختامه في الجزء الماضي , وهو
من تصنيف العلامة الجليل القاضي الزاهد زين الدين عمر بن سهلان الساوى. ألفه
باسم السيد نصير الدين بهاء الدولة كافي الملك أبي القاسم محمود بن أبي توبة
ونسبه إليه.
والكتاب جزل العبارة كبير الفائدة يمتاز على جميع الكتب المتداولة في الفن
بالتحقيق والتحرير وتحري المسائل التي يحتاج إليها من يريد استعمال الفن فيما
وضع له , ويزيد عليها بأبواب ومسائل لا توجد فيها كالأجناس العشرة التي تسمى
بالمقولات , وإطالة البيان فيما قصرت فيه لا سيما في باب القياس فعقد فصولاً
لاكتساب المقدمات ولتحليل القياسات ولاستقرار النتائج التابعة للمطلوب الأول ,
وللنتائج الصادقة عن مقدمات كاذبة , وللقياسات المؤلفة من مقدمات متقابلة ,
وللمصادرة على المطلوب الأول , وللأمور الشبيهة بالقياس وليست منه،
والقياسات المخدجة، وتكلم في هذا الفصل على الاستقراء والتمثيل والضمير
والرأي والدليل والعلامة والقياس الفراسي، بما لا نكاد نجده في غيره. وتوسع في
مواد القياس توسعًا نافعًا لا يستغني عنه طالب هذا الفن. وقد علق عليه مولانا
الأستاذ الشيخ محمد عبده تعليقًا وجيزًا تُعلم فائدته مما كتبناه في الجزء الماضي ,
وأحسن ما يقرظ به الكتاب قول الأستاذ في مقدمة هذا التعليق:
(وهو حاو مع اختصاره لما لم تحوِه المطولات التي بأيدينا من المباحث
المنطقية الحقيقية , وخالٍ مع كثرة مسائله من المناقشات الوهمية التي لا تليق
بالمنطق , وهو معيار العلوم من مثل ما نجده في المطالع وشروحها وسلم العلوم وما
كتب عليه (قال) : ووجدته على ترتيب حسن لم أعهده فيما وقفت عليه من كتب
المتأخرين من بعد الشيخ الرئيس ابن سينا ومن في طبقته من علماء هذا العلم) ثم
ذكر استحسانه لقراءته في الجامع الأزهر وعرضه على شيخ الجامع وأعضاء
مجلس إدارته وإعجابهم به وإقرارهم على قراءته في الأزهر لأنه من أفضل ما
يهدى إليه ثم قال:
(على أن الكتاب وإن كان جزل العبارات صحيح البيان إلا أن فيه ألفاظًا
وعبارات ومسائل اعتمد في الإتيان بها على ما كان عليه أهل زمانه من درجته في
العرفان , وهي اليوم تحتاج إلى شيء من الإيضاح والشرح، فاستخرت الله تعالى في
وضع بعض تعاليق على ما رأيته محتاجًا إلى ذلك , وأسأل الله أن ينفع به الطلاب
ويجزل فيه الثواب) .
والكتاب يباع في محل السيد عمر الخشاب في السكة الجديدة وثمنه عشرة
غروش أميرية , وهي قيمة الاشتراك به قبل طبعه لم يزد عليها تسهيلاً على طلاب
العلم.
***
(طوفان نوح)
جاء في جريدة نور الإسلام المفيدة تحت هذا العنوان ما نصه:
رفع سؤال إلى مولانا الأستاذ الأكبر والعلم الأشهر حكيم الأمة وخاتمة الأئمة
الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية، مصحوبًا هذا السؤال برسالة ألفها
الأستاذ الشيخ بكر التميمي النابلسي في مسألة الطوفان , وهل كان عامًّا أم لا؟
يطلب رافعه من فضيلة المفتي حكمه فيما نشر في هذه الرسالة , وبيان ما يجب
اعتقاده شرعًا في هذه المسألة التي كثر فيها الاختلاف. فأجاب -أطال الله وجوده- بما
يأتي:
الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله , اطلعت على رسالة الطوفان التي حررها
حضرة الشيخ بكر التميمي النابلسي فرأيت أن حضرة الكاتب يبني رأيه فيها على
أصول مقررة تعرفها الشريعة الإسلامية , ولا ينكرها أحد من العارفين بها إلا إذا
صدق بعضًا وأنكر بعضًا , وهو ليس من خلائق أهل الإسلام , أو ناقض بعض
آرائه بعضًا وهو ليس من شأن العقلاء.
وقد ورد عليّ من عدة أشهر سؤال في هذه الحادثة من أحد أهل العلم بمدينة
نابلس وفيه ذكر لما يستند إليه منكرو عموم الطوفان وعموم رسالة نوح عليه السلام.
فأجبته بجواب أكتفي بنقل صورته , وهو يؤيد رأيي في الرسالة وهذا نصه:
(أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان ولا عموم
رسالة نوح عليه السلام , وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد
لا يوجب اليقين , والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عُدَّ
اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما
ترجحه عنده ثقته بالراوى أو المؤرخ أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون
والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها ولا
يتخذ دليلاً قطعيًّا على معتقد ديني , وأما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي
موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض , وموضوع خلاف
بين مؤرخي الأمم , فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عامًّا
لكل الأرض , ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر , واحتجوا على رأيهم بوجود
بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال لأن هذه الأشياء مما لا يتكون
إلا في البحار، فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من
المرات , ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من
المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامًّا , ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها غير أنه
لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامًّا لمجرد حكايات من أهل
الصين أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد
بالدين أن لا ينفي شيئًا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها
وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلى يقطع بأن الظاهر غير مراد , والوصول
إلى ذلك في هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد وعلم غزير في طبقات
الأرض وما تحتوي عليه , وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية , ومن هذى
برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف , ولا يسمع له قول , ولا يسمح له ببث
جهالاته , والله سبحانه وتعالى أعلم) .
هذا ما كنت كتبته جوابًا عن السؤال الوارد إلي , أما وقد اطلعت على رسالة
الشيخ بكر التميمي فأرى أنه لم يخطئ الصواب فيما كتب , ولا أجد في كلامه ما
يشم منه رائحة التطوح مع الهوى فيما وجه إليه قصده من ترجيح أحد الرأيين على
الآخر , والله الموفق للصواب.
__________
(1) قال الأستاذ: هو اعتقاد أن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن يكون إلا كذا لأنه مطابق للواقع وهو بمعنى قولهم: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع , وأما قولهم: عن دليل، فلا معنى له لأن اليقين أكثر ما يكون في البديهيات وهي لا يدلل عليها.(3/302)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(الحجاج الكرام)
نحمد الله تعالى أن حجاج بيته قد أقبلوا بغاية الصحة لا يشكون إلا من قساوة
المعاملة في المحجر الصحي والمشقة في البواخر الخديوية , وقد حظينا بلقاء
أصدقائنا الكرام الأستاذ الواعظ المؤثر الشيخ علي الجربي والأستاذ الفاضل الشيخ
سالم الرافعي وأخيه الفاضل النجيب الشيخ محمد سعيد وقد حدثنا هذا بشكوى أهل
الحجاز العامة من سيرة الشريف عون باشا أمير مكة المكرمة فوافق قوله الآخرين ,
وربما نذكر ما يفيد الوقوف عليه من ذلك.
* * *
(المولد النبوي الشريف)
أقيمت معالم الزينة والاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في صحراء
العباسية حسب العادة , وقد زرنا تلك المعاهد في الليلة البارحة لأجل المقابلة بين
الزينة في هذا العام وفيما قبله فألفينا الازدحام أقل مما كان فيما سبق , والسبب في
ذلك فيما يظهر إبطال كثير من البدع والقبائح كالرقص على أبواب الخيم
والسرادقات , ولا بعد في أن يكون للانقلاب في الأفكار الذي ينمو عامًا بعد عام أثر
كبير في ذلك.
وهذه الليلة التي تستقبلنا هي ليلة الجمع الأكبر , وسنرى ماذا يكون فيها. ولا
بد لصاحب السماحة والرجاحة السيد توفيق البكري شيخ شيوخ طرق الصوفية
ورئيس هذا الاحتفال من تجديد أمور ممدوحة ترغب الناس في العناية به والإقبال
عليه بدلاً من الأمور المذمومة التي يسعى في إبطالها. ولا شيء يرغب الناس في
ذلك كالخطابة فعسى أن ينصب في العام القابل منبر أو منبران للخطابة بما يناسب
المقام فيكون للاحتفال البهاء الصحيح والإقبال النافع، وبالله التوفيق.
* * *
(وفاة سري)
نعى البرق إلينا من أيام سليل بيت المجد والشرف السيد محمد راتب باشا ,
وافته المنية في محجر بيريه من ثغور اليونان قاصدًا الأستانة العلية للاصطياف فيها
وكان لنعيه رنة أسف في القاهرة , وقد حنطت جثته , وبعد ما بلغوا بها الأستانة
أعيدت إلى مصر لتدفن في مدفن أسرتها الكريمة , واليوم موعد وصولها وغدًا
تشيع بالاحتفال اللائق. وكان الفقيد كريم السجايا طلق اليد والمحيا متمسكًا بالدين ,
تغمده الله تعالى برحمته وعزى آله أحسن العزاء على فقده.
__________(3/311)
21 ربيع الأول - 1318هـ
18 يوليو - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المشروع الحميديُّ الأعظم
سكة حديد الحجاز
سرور المسلمين بالمشروع. غلط الواهم بمضرته , غير المسلمين ممنوعون من
الحجاز رسميًّا , استعداد الإفرنج لدخول الحجاز بالتظاهر بالإسلام , الخطر على
الحجاز من البحر دون البر , إمكان إماتة أوربا أهله بالجوع إذا لم توجد هذه
السكة , مقاصد الأعداء في الكعبة والقبر الشريف. ردة الجهلاء إذا وقع بهما
سوء. وجوب مساعدة المشروع دينًا.
لقد رقصت قلوب المسلمين جذلاً وسرورًا لمشروع السكة الحديدية الحجازية ,
وهتفت ألسنتهم بالثناء والدعاء لمولانا السلطان الأعظم لتوجيه عنايته الشريفة إلى
هذا العمل المبرور الذي يرضي الله تعالى ويرضي الرسول (صلى الله عليه وسلم)
في ملحودة قبرة الشريف.
ولا التفات لذي نظرة حمقاء يتوهم أن في المشروع مضرة لأنه يسهل على
الأوروبيين دخول البلاد المقدسة متَّجرين، وهي الوسيلة الوحيدة لنفوذ سلطتهم فيها ,
وربما يجيء بعد ذلك يوم من الأيام يزحفون عليها بقوة عسكرية لحماية رعاياهم من
ضرر يتوقع نزوله بهم كما هو المعهود منهم في كل بلاد شرقية يعتدون عليها.
وكأن صاحب هذا الوهم يعتقد أن المانع الآن للأوروبيين من دخول البلاد الحجازية
هو حزونة الطريق وبُعد الشُّقة , والصواب أن المعاهدات التجارية بين الدولة العلية
وسائر الدول الغير المسلمة تُستثنى منها تلك البلاد الشريفة، فهم ممنوعون من دخولها
منعًا رسميًا متفقًا عليه لأنها معتبرة معبدًا من المعابد الإسلامية كالجوامع , ومن
دخلها مستخفيًا وسُفك دمه فالدولة العلية لا تسأل عنه مطلقًا. وهذا المنع الرسمي
هو الذي جعل المولعين بحب الاكتشاف من الأوربيين إذا أرادوا التسلل للوقوف
على شئون البلدين المكرمين وما يكتنفهما من البلاد العربية يستعدون لذلك زمنًا
طويلاً يتعلمون فيه لغة شرقية كالعربية أو التركية أو الفارسية أو الأوردية ,
ويتعلمون العبادات الإسلامية كالطهارة والصلاة ومناسك الحج , ثم ينسلون مع
الحجاج , ويؤدون معهم المناسك ويستخفون أشد الاستخفاء في أخذ رسوم البلاد
بالفوتغرافيا حتى إن أحدهم جعل الآلة الفوتغرافية في نوط الساعة. ولم ينس قراء
المنار ما قصصناه عليهم في المجلد الأول من خبر ذلك الأوروبي الذي أراد اكتشاف
البلاد الحجازية وغيرها من شبه جزيرة العرب فاستعد لذلك بإظهار الإسلام وتعلم
العربية وأخذ شهادة من أشراف حلب بأنه قرشي هاشمي النسب , وصدق على نسبه
هذا في الأستانة العلية وأخذ عليه فرمانًا شاهانيًّا , ثم كان من أمر دخوله ما كان
وكتب عن تلك البلاد ما كتب. فلو أن دخول البلاد الحجازية مباح للأوروبيين لما
احتاج مثل ذلك الرجل وغيره إلى كل ذلك العناء في التوسل إليه.
وأكثر الناس يعرفون أن الوصول إلى مكة المكرمة من جدة والمسافة بينهما
تعد بالساعات أيسر من الوصول إليها في السكة الحديدية التي تمتد إليها من الشام
حيث المسافة تعد بالأيام. هذا وإن التجار الأوربيين لا نجاح لهم في مثل دمشق
وطرابلس ونحوها من البلاد التي يغلب عليها العنصر الإسلامي، فكيف تروج
تجارتهم في مكة والمدينة والقياس على البلاد المصرية قياس مع الفارق , فإنه
لا يوجد في الدنيا كلها بلاد تعظم الإفرنج وتحترمهم كهذه البلاد , والسبب في ذلك
أمراؤهم كإسماعيل باشا وغيره.
لا ريب في أن الرغبة من الإفرنج في دخول تلك البلاد محصورة في أهل
العلم والسياسة , وأما الحصول على هذه الرغيبة جهرًا فهو غير مطموع فيه ما دام
للدولة العلية صفة رسمية في أوربا , وما دام الأوربيون يرون أن تهييج الرأي العام
الإسلامي مضر بهم وعاقبته وخيمة عليهم. ولكن لا نأمن أن يجيء يوم من الأيام
يفور فيه التنُّور ويؤمَن المحذور وتتصدى الدول الأوروبية كلها أو بعضها لتدمير
الكعبة المشرفة ونقل قبر المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام إلى متحف اللوفر
عملاً بنصيحة كيمون ومن على شاكلته , ولا يمكن أن يكون زحفهم عن طريق
الشام لتكون هذه السكة الحديدية عونًا لهم لأن هذا يحتاج أولاً إلى تدمير البلاد
الشامية نفسها وإفناء أهلها , وعندما تشتعل النار في الشام يمكن للعربان الضاربين
بين القطرين أن يقتلعوا القضبان الحديدية , ويمحوا أثر هذه السكة الحديدية إما بعد
بعث البعوث عليها لنجدة أهل الشام , وإما قبل ذلك , فكيف يختار الأعداء هذا
الطريق المحفوف بالأخطار على طريق جدة القريب؟ . وإذا هم زحفوا من جدة
فسكة الحديد هي الوسيلة الوحيدة لحماية البلاد المقدسة منهم لأن الدولة العلية لا
يتسنى لها في عشرات السنين أن تنشئ لها أسطولاً كأسطول فرنسا أو إنكلترا فما
بالك إذا اتفق الدول يومئذ اتفاقهن الآن على الإيقاع بالصين.
هذا ضرب من الاستعداد للمستقبل , ونرجو الله أن يقينا شواظ ناره ويحفظنا
من أخطاره. وثم خطر أقرب من هذا حصولاً وهو إمكان إماتة أهل البلاد
الحجازية بالجوع. من المعلوم أن تلك البلاد ليس فيها من القوت ما يقع أدنى موقع
من كفاية أهلها فمعظم أهلها من بدو وحضر يقتاتون مما يرد إليهم من الخارج ,
وأكثره الأرز الهندي الذي تفرغه البواخر الإنكليزية في مواني البحر الأحمر كجدة
وقنفذة، فإذا تسنى لإنكلترا أن تستبد بالبحر الأحمر وهي الآن صاحبة النفوذ الأكبر
فيه باحتلالها لمصر وامتلاكها لعدن فإن حياة البلاد الحجازية تكون حينئذ في قبضتها ,
وإذا كانت أوربا تحول دون هذه الأمنية الإنكليزية فهل من البعيد أن تتفق دولها
البحرية مع الإنكليز على منع البواخر العثمانية من العبور في قنال السويس. وإذا
كان هذا والعياذ بالله تعالى فهل يكون إلا لمنع الحج ومنع دخول القوت إلى بلاد
الحجاز؟ كلا إنه ليس لنا ما نتلافى به هذه الأخطار المتوقعة إلا هذه السكة الحديدية
التي تصل البلاد الحجازية ببلاد الشام الخصبة القوية , ولذلك توجهت إليها عناية
مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى فيتحتم على كل مسلم أن يمد إليه ساعد المساعدة
لسرعة إنجازها {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا} (الطلاق: 7) .
يا أيها الذين آمنوا إن كعبتكم التي ينهدم بانهدامها - والمستغاث بالله - ركن
من أعظم أركان دينكم تستغيث بكم فأغيثوها , وإن قبر نبيكم عليه الصلاة والسلام
يستنجد بكم لحمايته وحفظه فانجدوه ولا تقولوا: إن الله تولى حفظهما، فإن الله يحفظ
ما يريد حفظه بالناس , ولكل شيء سبب , وقد شُجَّ رأس النبي صلى الله عليه
وسلم وهو حيٌّ وكسرت رباعيته وهدمت الكعبة من بعده {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .
يا أيها الذين آمنوا إن صدى صوت كيمون الحاضّ على هدم الكعبة ونقل قبر
النبي صلى الله عليه وسلم إلى باريس لا يزال يرنٌ في مسامعكم ولا تزال آلامه
تدمي قلوبكم وتنفعل لها أرواحكم فليزعجكم هذا إلى مساعدة هذا المشروع العظيم إذا
كنتم نسيتم ما تمثل به المقطم الأغر إنذارًا لكم في مقالة له أيام الفتنة الأرمنية وهو:
ها مصر قد أودت وأودى أهلها ... إلا قليلاً والحجاز على شفا
لقد أنذركم الله بطشته فلا تتماروا بالنذر {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ
الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 10-11) .
يا أيها الذين آمنوا اسمعوا ما قال شيخ الإسلام في المجلس العالي الذي عقد
للمذاكرة في المشروع في دار السعادة، قال: (إن الدولة العلية إذا لم تتم هذا العمل
تسقط قيمتها من نظر العالم الإسلامي) ولقد قال حقًّا وكان لقوله أحسن الأثر عند
مولانا السلطان الأعظم رئيس اللجنة وسائر أعضائها.
ونحن نزيد على سماحته فنقول: إذا لم يتم هذا المشروع فإن العالم الإسلامي
كله يسقط من نظر العالم الإنساني بل ومن نظر نفسه أيضًا وييأس المسلمون من
كل عمل نافع للملة والأمة. بل يخشى أن يرتد الملايين من المسلمين إذا أصيبت
الكعبة أو القبر الشريف بسوء، وما أجدرهم باليأس إذا كان خليفتهم ورئيسهم الدنيوي
يحاول القيام بعمل يعد صغيرًا بالنسبة لأمثاله من الخطوط الحديدية ثم تعجز الدولة
والأمة الإسلامية كلها عن إتمامه! ! ! وكيف لا يرتدُّون وهم لجهلهم يعتقدون أن
تلك المواضع محفوظة بالخوارق؟ وأعوذ بالله أن يرضى مسلم يؤمن بالله واليوم
والآخر بهذه الإهانة الكبرى لأمته , وأن يقصر في عمل عاقبته اليأس والقنوط
{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} (الحجر: 56) ومن آمن بالله لا يقصر في حفظ بيت الله وتسهيل
السبيل لحجاجه. ومن يؤمن برسوله يتمنى تسهيل زيارته على نفسه وعلى إخوانه
المؤمنين. ومن أفضل المجاهدة بالمال بذله في هذا العمل المبرور فمن فاته الجهاد
بالنفس لا يفوته الجهاد بالمال {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39) .
يا أيها الذين آمنوا تفكروا في ماضيكم وحاضركم واسمعوا ما تقول الأمم فيكم
اليوم، يزعمون أن المسلم يستحيل أن يقوم بمشروع نافع وأن يأتي بعمل عام مفيد ,
وأن السعادة مختصة بهم ومحصورة فيهم فكذبوهم بأعمالكم. وهذا المشروع فرصة
سانحة لتكذيبهم فاغتنموها {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ
اللَّهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: 29) .
__________(3/313)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
النبذة الثانية
الجهاد في الإسلام كان للضرورة. الميل للعلوم والفنون استفاده العرب من
القرآن. زيغ العقيدة ليس من لوازم العلوم الطبيعية. فساد الأخلاق والأعمال ليس
من لوازم الفقه. الخلاصة أن مدنية العرب من دينهم.
كان أول أثر للإسلام في العرب جمع كلمتهم وتكوين وحدتهم وتأليف قلوبهم ,
وهذه هي الغاية القصوى من المدنية التي من شأنها ألا تحصل إلا بعد ما تقضي
الأمة زمنًا طويلاً في مزاولة تعميم التربية والتعليم , ومن هنا نقول: إن الوحدة
العربية لأول عهدها كانت بإمداد سماويّ وعناية إلهية لا بسياسة القيّم الكسبية
وبراعة الداعي الطبيعية , ولذلك قال تعالى مخاطبًا النبي عليه الصلاة والسلام:
{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: 63) ولقد حسدتهم الأمم على هذه النعمة , وناوأتهم الشعوب للاختلاف في
الدين فاضطروا إلى المدافعة , ثم أُمروا بالدعوة بالتي هي أحسن فقابلهم المدعوون
بالتي هي أسوأ لما كانت عليه جميع الأمم لذلك العهد من الفساد والإفساد والبغي في
الأرض بغير الحق فاضطروا لمكافحتهم وكتب الله لهم النصر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) ثم كان لهم ولوع بالفتوح وهي سنة
الكون: العالِم يستولي على الجاهل , والضعيف ذو الإصلاح يغلب القوي ذا
الإفساد. فلما تمكنوا في الأرض وأمنوا المناصبة والمواثبة؛ ظهر فيهم الميل إلى
ما يرشد إليه القرآن من النظر في ملكوت السموات والأرض ورغبوا في الكمال في
هذا النظر؛ فاهتدوا بذلك إلى الاستعانة بعلم من كان قبلهم فترجموا الكتب اليونانية
وغيرها وصححوا غلطها وزادوا عليها ما شاء الله أن يزيدوا كما سيأتي تفصيله.
يظن بعض الجاهلين أن الميل في العرب إلى العلوم الرياضية والطبيعية كان
من طبيعة الملك والعمران لا من إرشاد السنة والقرآن , ويتهم بعضهم المسلمين
بأنهم هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية اكتفاءً بالدين عن كل ما عداه. وقد جاءوا
بقولهم هذا ظلمًا وزورًا. فإن ما ورد في القرآن من الحث على النظر في ملكوت
السموات والأرض والانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من هذه الخليقة هو أكثر مما
ورد في أحكام الصلاة والصيام أو أي عبادة أخرى. ومن هؤلاء الجاهلين من يزعم
أن العلم الذي كثر الترغيب فيه في هذا الكتاب العزيز إنما هو علم الأحكام الفقهية ,
ولكن حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى قال: إن أفضل العلوم العلم بالله تعالى
وبسننه في خلقه , وإنما كمال العلم بالله تعالى تابع لكمال العلم بأسرار صنعه وإبداع
خلقته وتدخل في هذا جميع العلوم الطبيعية , واتلُ عليهم إن شئت قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:
27-28) فذِكر العلماء بهذه المنقبة الجليلة بعد الاستلفات إلى إنزال المطر وإخراج
الثمرات به وإلى اختلاف ألوان الجماد والحيوان والإنسان - يدل على أن
المراد بالعلم الذي يورث الخشية هو العلم بهذه المخلوقات من جماد
ونبات وحيوان التي لها في هذا العصر أسماء كثيرة منها: التاريخ الطبيعي
والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والنبات وغير ذلك.
فإن قيل: إننا نرى المشتغلين بهذه العلوم لهذا العهد لا توجد عندهم خشية الله
تعالى، بل يقال: إن منهم من ينكر وجوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون
علوًّا كبيرا. فالجواب أن المشتغلين بالعلم الذين يسمونه فقهًا ربما كانوا أبعد من
هؤلاء عن الخشية، فإن هؤلاء المتفقهة اتخذوا الدين حيلة للكسب وأحبولة لصيد
الحطام يحتالون على الله , ويعلمون الناس الحيل لأكل الحقوق , وقد فشا فيهم
الكذب والخيانة والطمع وغيرها من الصفات الخسيسة التي يتنزه عنها في الغالب
العالمون بعلوم الخليقة , ولا يصح أن نضيف هذا الفساد لعلم الفقه كما لا يصح أن
نضيف ما عليه بعض علماء الكون من زيغ العقيدة إلى أنه من لوازم العلوم الكونية
لأنه لا دليل على وجود البارئ وكماله إلا هذه الأكوان البديعة التي خلقها في أحسن
نظام , ولكن الفساد في الأخلاق والأعمال والزيغ في العقائد يرجعان إلى فساد
التربية التي يؤخذ بها الإنسان من نشأته الأولى. وقد صرّح الفيلسوف سبنسر بأن
العالم بأسرار الخليقة يجب أن يكون أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم تعظيمًا له، قال:
وهذا هو الدين الصحيح المرضي عنده تعالى , وهذا القول صحيح لكن الذي قاله
هو أساس الدين لا كل الدين.
وإن تعجب فعجب قولهم: إن من يتعلم العلوم الطبيعية يفسد اعتقاده، قياسًا
على بعض فاسدي العقيدة من علمائها , وهو قياس مع الفارق ولا يخاف على دينه
إلا من لم يكن في عقائده على يقين فإن الموقن لا يخطر على باله أن يزول اعتقاده
لأنه جازم بأنه الحق المطابق للواقع , والواقع لا يزول. والإيمان بغير يقين لا
يقبل من أحد فقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا} (يونس: 36)
وقال تعالى حاكيًا عن الذين لا إيمان لهم: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية: 32) إن أكثر مسائل العلوم الطبيعية العصرية مبنية على المشاهدة
والاختبار فهي ثابتة يقينًا , واليقين لا يناقض بعضه بعضًا فيخاف على العقيدة من
شبه فيها وأما المسائل النظرية التي تخالف بعض قضايا الدين فهي غير مقطوع بها
عند أهل العصر ويسهل علينا أن لا نُعلِّم الأحداث هذه المسائل إلا بعد معرفة
البراهين الصحيحة على عقائدهم فتكون العقيدة أقوى منها. ولو كانت هذه العلوم
في عصر العلماء المتقدمين الذين ذموا الفلسفة كما هي في هذا العصر ولها من
الفوائد مثلما لها الآن؛ لكان كلامهم فيها غير الذي كان. ولقد خضنا في هذا
الموضوع مرارًا فلا حاجة للإطالة فيه بعد ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/319)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم
أنشأت جمعية شمس الإسلام عدة مدارس ولم يحتفل بشيء منها احتفالاً
عموميًّا إلا مدرسة فرع الفيوم. نبت هذا الفرع من عهد قريب كما يعلم قراء المنار
ولكنه نما نموًّا حسنًا وأثمر ثمرًا قريبًا بهمة أعضاء مجلس إدارته الأخيار واجتهاد
سائر أفراده الأبرار. وقد كانوا من مدة عقدوا اجتماعًا حضره صاحب السعادة مدير
الفيوم الهمام وكثير من الأعيان وجمعوا بالاكتتاب مبلغًا لشراء أدوات المدرسة وتلا
ذلك التأسيس. وفي يوم الجمعة الماضي كان الاحتفال بافتتاح المدرسة فزين بناؤها
بالرايات والأعلام وما جاءت الساعة التاسعة صباحًا حتى غص المكان بالمدعوين
من أهل العلم والوجاهة ومأموري الحكومة وبعض رؤساء وأعضاء فروع الجمعية
في سائر البلاد , وابتدئ الاحتفال بتلاوة آي القرآن الكريم وفاقًا لسنة الجمعية في
كل أعمالها , ثم لحن التلامذة أنشودة مناسبة للمقام مسك ختامها الدعاء لمولانا أمير
المؤمنين السلطان الأعظم عبد الحميد خان ومولانا العباس عزيز مصر المعظم. ثم
تقدم أحدهم إلى بهرة الحلقة فحيا الحاضرين بتحية الإسلام فقالوا جميعا: وعليكم
السلام. وأنشد أبياتًا في الحث على التربية والتعليم وإعانة المدرسة وتلاه ثانٍ
وثالث فعلا مثل فعله فصفق لهم القوم تصفيق الاستحسان , وأقبل بعدهم تلميذان
فحيا وسلما ثم تحاورا محاورة لطيفة موضوعها تفضيل التعليم والكون في المدرسة
على البطالة واللعب فأحسنا الأداء وصفق لهما الحاضرون.
ثم قام العاجز كاتب هذه السطور فألقى خطابًا مطولاً في وجه الحاجة إلى
التربية والتعليم لسعادة الدنيا والآخرة , وأننا لا نظفر بفائدتهما إلا إذا كانا على
الطريقة الدينية التي هي أقرب الطرق للغاية المقصودة. ثم رغب سعادة رئيس
الجمعية على حضرة العالم الفاضل والخطيب المفوَّه أحمد لطفي أفندي السيد وكيل
النيابة في محكمة الفيوم في أن يقول شيئًا فأجاب الدعوة وحقق الرغيبة وألقي خطابًا
وجيزًا أنبأ عن أفكار عالية وآراء سامية وتدقيق في فلسفة الأخلاق والآداب ,
والقطب الذي كان يدور عليه الكلام أن العلم يجب أن يطلب لتكميل النفس لا
لتحصيل الرزق وابتغاء عرض الدنيا لأن طلب العلم لهذا الغرض الخسيس إهانة له ,
ومن الفوائد التي اشتمل عليها خطابه قوله نقلاً عن أحد فلاسفة الإنكليز: إن حب
الذات هو علة لجميع الفضائل , وقد شرح هذا الكلام شرحًا وجيزًا ومثل له بالحب
وبين أن الإنسان لا يمكن أن يحب أحدًا إلا إذا كان في ذلك الحب فائدة لنفسه , وأن
قول بعض الناس: إنني أحب فلانًا لوجه الله، غير صحيح لأنهم يقصدون به أنني
أحبه لغير سبب ولا فائدة تعود على نفسي , وبعد ما أتم كلامه انبرى هذا الفقير
فأثنى عليه بما هو أهله , ثم أوضحت من كلامه ما تراءى لي أنه يعلو على بعض
الأفهام فقلت ما ملخصه:
المشهور عند علماء الأخلاق أن حب الذات علة العلل لجميع الرذائل , وقد
سكتوا على هذا القول إلا المحققين فإنهم قالوا: إنه علة العلل لجميع الفضائل أيضًا
يكون علة للفضائل إذا كان واقفًا عند حد الاعتدال ومتى خرج عنه إلى إفراط أو
تفريط تولّدت منه الرذائل. ومن المعروف عن الحكماء من عهد اليونان إلى اليوم
أن الإنسان لم يحب إلا نفسه وما كان له اتصال بها أو لها فائدة منه؛ فالوالد يجب
ولده لأنه بضعة منه ويتوهم أن في بقاءه بقاء له في الجملة , والولد يحب والده لأنه
هو منه ولولاه لما وجد ولأنه تعاهده بالتربية والتغذية حتى نما وشب , ويحب
الإنسان صديقه لأنه يأنس به ويطمئن إليه ويستعين به على مهماته , ويحب أستاذه
لأنه يهذبه ويكمله , ويحب وطنه لأنه ينسب إليه فيشرف بشرفه ويهان بإهانته إلخ
وكل حب يكون سببه شرعيًّا وعلته مرضية لله تعالى يطلق عليه عند الصوفية
الحب في الله أو الحب لوجه الله أي للوجه الذي شرعه ويرتضيه لا أن معناه أنه
حب لغير علة ولا فائدة كما يتوهم بعض العامة , وربما أقسم أحدهم الأيمان المغلظة
بأنه يحب فلانًا لوجه الله لا لعلة مطلقًا. وكل من يفهم معنى الإنسان يمكنه أن
يستفتي نفسه في هذا الحب وهي تفتيه بأنه لا وجود له وأن مدعيه كاذب وهذا هو
الذي عناه بالنفي الخطيب الفاضل.
ثم خطب بعض أفراد الجمعية فحث الناس على مساعدة الجمعية وتعضيدها
في عملها , وتلاه تلامذة المدرسة بإعادة الترنم والأنشودة اللطيفة.
ثم وقف هذا الفقير منشئ المنار ثالثة , وتضرع إلى الله عز وجل بأن يؤيد
بالنصر والتوفيق مولانا الخليفة والسلطان الأعظم أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني ,
وأن يؤيد عزيز مصر عباس باشا حلمي الثاني ويوفقه لما فيه سعادة هذه البلاد.
وأن يمطر سحائب الرحمة على مؤسسي هذه الجمعية النافعة , ويأخذ بأيدي القائمين
بشئونها. وختم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن العزيز , ثم وقف سعادة الرئيس
العام فأثنى على فرع الفيوم وشكر لهم هذه الهمة والغيرة الملية ولمن حضر
الاحتفال عنايتهم بحضوره وانفض الجمع.
__________(3/323)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حِكم الفلاسفة ونوادرهم
(ا)
قال أفلاطون: لا تصحبوا الأشرار فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم. وقال:
لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال: إذا أقبلت
الدولة خدمت الشهواتُ العقولَ , وإذا أدبرت خدمت العقولُ الشهواتِ. وقال: لا
يضبط الكثير من لم يضبط نفسه الواحدة. وقال: موت الصالح راحة لنفسه وموت
الطالح راحة للناس. وقال: إذا قويت نفس الإنسان انقطع إلى الرأي وإذا ضعفت
انقطع للبخت. وقال: إذا أردت أن تعرف طبقتك من الناس فانظر إلى من تحبه
لغير علة. يريد أن الإنسان لا يحب هذا الحب إلا من يشاكله مشاكلة روحية
وظاهر أنه يريد بالعلة المنفعة الخارجية , وإلا فالمشاكلة علة لا تنكر. وسئل بماذا
ينتقم الإنسان من عدوه؟ فقال: بأن يتزيد فضلاً في نفسه. وقال: الأشرار
يتقربون إلى الملوك بمساوي الناس والأخيار يتقربون إليهم بمحاسنهم. وقال: لا
تقبلنَّ في الاستخدام إلا شفاعة الأمانة والكفاءة. ويقال: إن أفلاطون رأى فتى ورث
مالاً كثيرًا وضياعًا فأتلفها فقال: رأيت الأرضين تبلع الناس وهذا الإنسان بلع
الأرضين. أقول: إن أكثر أولاد الأغنياء في مصر كهذا الفتى , ولقد جاء فتى منهم
إلي أحد الوجهاء يطلب شفاعته في وظيفة ولو حقيرة وقال: أرجو أن تجعلني خادمًا
في البيت إلى أن تتيسر الوظيفة وما ذلك إلا لأجل القوت الضروري. وهذا الفتى
مات والده وترك له خمسة آلاف فدان فابتلعها كما قال أفلاطون، بل ابتلعتها حانات
الخمور ومواخير الفجور وبيوت القمار وصحبة الأشرار. ومن البلاء أن كلامنا
هذا لا يقرأه إلا الأفاضل , وأما أولئك الفتيان السفهاء فأوقاتهم مصروفة في تخريب
بيوتهم وتضييع أوطانهم.
وقال أفلاطون: لا ينبغي للأديب أن يخاطب من لا أدب له كما لا ينبغي
للصاحي أن ينازع السكران. وقيل له: كيف يغم الإنسان عدوه؟ فقال: بأن يصلح
نفسه. أقول: وإن شأن الأمم في هذا كشأن الأفراد سواء بسواء فلا تنكي الأمة
عدوها إلا بإصلاح شئونها. وقال: إذا صادقت رجلاً وجب عليك أن تكون
صديق صديقه , ولا يجب عليك أن تكون عدوَّ عدوه لأن هذا إنما يجب على خادمه
ولا يجب على مماثل له. وقال: الحر من وفى بما يجب عليه , وتسمّح بكثير مما
يجب له , وصبر من عشيره على ما لا يصبر منه على مثله وكانت حرمة القصد
عنده توازي حرمة النسب وذمام المودة له يجوز ذمام الإفضال عليه. وقال: ينبغي
لمن طال لسانه وحسن بيانه أن لا يحدث بغرائب ما سمع فإن الحسد لحسن ما
يظهر منه يحملهم على تكذيبه , وأن يترك الخوض في الشريعة وإلا حملتهم
المنافسة على تكفيره. أقول: إن شواهد هذه الحكمة واقعة في كل زمان وجد فيه
صاحب علم وبيان. وقال: أضرُّ الأشياء عليك أن يعلم رئيسك أنك أحسن حالاً منه
أقول: وهذا أصل بلاء العظماء الذين مكانهم في الاجتماع دون مكانتهم في العلم
والفضل. وقال: إذا حاكمت رجلاً فليكن فكرك في حجته عليك أقوى من فكرك في
حجتك عليه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/326)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القديم في الحديث والأول في الآخر
ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي كله
ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام , وحتى صرنا نعد وجود مثل
سعادة محمود سامي باشا من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة العربية
رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها , والظاهر
أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد وأن النابغين
فيها أكثر منهم في غيرها. ولقد وافى هذه البلاد من أشْهُرٍ رجل فاضل جدير بلقب
(الأديب) وقل الجدير به في هذا العصر ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن
الكاظمي (نسبة لكاظم بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح
والأخلاق الحسنة من الشاعر المفلق العذب المنطق الذي ناهز المقدمين , وخاطر
المقرمين. ومن السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس حتى إنك لا تشعر
في أول عهدك به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة. قال
صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب في مصر:
إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته فلما خبرته علمت أنه لا
تطيب مفارقته. وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير
الطرابلسي:
إِباء فارس في لين الشآم مع ... الظرف العراقي واللفظ الحجازي ...
أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة: طريقة الشريف ومهيار ,
وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود , الأهم من بلاغة القول
ولقد طلبنا منه شيئًا من شعره فوعدنا بذلك , ونشرت جريدة المؤيد الغراء
منذ يومين قصديته العينية التي نظمها في مصر فرأينا أن نتحف قراء المنار
بنشرها تباعًا , وهى:
إلى كم تجيل الطرف والدار بلقع ... أما شغلت عينيك بالجزع أدمع
أأنت معيري عبرة كلما ونت ... يحفزِها برح الغرام فتسرع
وهل عريت أرض كسوتُ أديمَها ... بماء شئوني فهي زهراء ممرع
فمن حرّ أنفاسي وفيض محاجري ... مصيف تراءى في ثراها ومربع
ألم تر جرعاء الحمى كيف روضت [1] ... وسال بمحمرّ الشقائق أجرع
فهاتيك من دمعي وهذاك من دمي ... فللعين ذا مبكى وللقلب مجزع
جرى ماء جفني عن سويداء مهجتي ... فمن أجل ذا وشيُ الرياض مجزّع [2]
أفي كل دار أنت ماتح عبرة ... إذا غاض منها مدمع فاض مدمع
كأنك فيها ناظر رسم منزل ... حمته عن النظارة نكباء زعزع
تذكرت شعبًا في رباها ولعلعًا ... فهاج لكل البرحاء شعب ولعلع
كأن على عينيك عارض مزنة ... تصوب عزاليها ولا تتقشع
كأن بها خرقاء أوهت مزادها ... وليس لوهى سال واديه مرقع
تتبع تجد ما يغمر القلب سلوة ... وهل عدم السلوان من يتتبع
وهيهات تسلى الدار وهي فجيعة ... ويسلو أسير الدار وهو مفجع
وأفدح خطب شفني بصروفه ... وجرعني ما لم أكن أتجرع
وقوفي على تلك الديار وقد عفت ... معالم كانت زاهيات وأربع
معالم أعفاها البلى فتوزعت ... وما هي إلا أكبد تتوزع
وقفت عليها آخر الليل وقفة ... أودع من أطلالها ما أودع
ولا مسعد إلا الدموع وكيف بي ... إذا جف ما عندي من الدمع أجمع
أيا بانة الوعساء من أعلم الذوى ... بفرعك حتى اجتُث من حيث يفرع
ويا غفلات الجزع هل بعد عالج ... معاد لأيام الغميم ومرجع
فكم ليلة بتنا نَشَاوى ولا طلا ... وصرعى وما غير الأحاديث تصرع
يطير بنا الشوق ارتياحًا وكلنا ... رذايا [3] هوى في ندوة الحي وقع
فمن مغرم يصبو لنجواه مغرم ... ومن مولع يرثي لشكواه مولع
ويا حبذا بالجزع فرع أراكة ... تميل وفي أفنانها الوُرق تسجع
ورب حمامات مع الصبح أقبلت ... تردد في ألحانها وترجع
تهيج تباريح الغرام ولم تُبل [4] ... تذوب قلوب أو تقصف أضلع
نصبت لها أذني وقلت إصاخة ... عسى نبأ من ذي هوى يتسمع
فأعرضن عن ذي لوعة وروين لي ... أحاديث مجراها الجوى والتولع
فقلت: فظيع من نوى الدار حل بي ... فقالت: وما بالدار بعدك أفظع
أحن إلى النائي حنين موله ... وهل يُرجع النائيَ الحنينُ المرجع
وعندي وما عندي هل هي غُلَّة ... إذا عللوها بالتذكر تنقع
ولم أنس يوم الجزع والساعة التي ... وقفنا بها نبكي الديار ونجزع
وقفنا عليها برهة ويد الأسى ... تقطع من أحشائنا ما تقطع
ونادى المنادي حين أزمعت للسرى ... إلى أين يا حامي الحقيقة مُزمِع
فوسع من قلبي الأسى كل ضيق ... وضاق بعيني الفضاءُ الموسع
فلله ما فََتَّ الوداعُ من الحشا ... ولله ما قاسى الخليط المودع
سرينا نجوب البيد في غلس الدجا ... وصارت مطايانا تخب وتوضع
تعوج بنا شرقًا وغربًا كأنها ... تقيس بمسراها القفار وتذرع
كأنا وقد مالت بنا سنة الكرى ... سجود على أكوارهن وركع
نقطع من أعراض كل تنوفة [5] ... سماوية الأعلام ما ليس يقطع
ونعتام [6] تيار الدجى بعزائم ... تلوح بآفاق البلاد وتلمع
ويا مألف الآرام رد وديعتي ... فإن فؤادي عند سربك مودع
أقول وقد شَبَّت بقلبي جذوة ... تعلمني جمر الغضا كيف يلذع
أحباي هل من عطفة في رباعنا ... يطيب بها المصطاف والمتربع
وهل تنثني الأيام ثانية لنا ... ويجمعنا بعد التفرق مجمع
تهب صبا حتى تكاد من الصبا ... نزعًا إلى واديكم الروح تنزع
كأنكمو مني بمرأى ومسمع ... على حين لا مرأى هناك ومسمع
__________
(1) روضت: يقال: روض إذ لزم الرياض.
(2) المجزع: ما فيه سواد وبياض وأصله إرطاب البسر إلى نصفه، ومراده هنا مطلق اختلاف
الألوان.
(3) الرذايا: جمع رذي كعلي، وهو مَن أَثقَلَه المرض، والضعيف من كل شيء.
(4) لم تبل: بمعنى لم تبال.
(5) التنوفة: الصحراء.
(6) نعتام: معناه - فيما أعرف - نختار، أي نأخذ العيمة وهي بالكسر خيار الشيء، وليس بظاهر هنا ولعل له معنى آخر كالعوم وليس معي الآن قاموس.(3/328)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(المحاماة)
سِفر جليل ظهر في هذه الأيام من تأليف القاضي الفاضل والكاتب البارع
صاحب العزة أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر الأهلية. والذي أدهش
الناس من أمر مؤلفه أنه على كثرة أعماله في المحكمة يتحف قراء العربية في كل
عام بكتاب من أنفع الكتب إما من تأليفه وإما من ترجمته , وقد قلنا هذه الكلمة من
قبل كما قالها غيرنا وإنما نعيدها الآن لنقرن بها ما يلي:
ذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى أن من أنواع الكرامات كثرة
التآليف في الزمن القليل , وضرب المثل على هذا بكثيرين منهم والده قاضي القضاة
تقي الدين السبكي (رحمهما الله تعالى) فإنه ألف كتبًا كثيرة مع اشتغاله بالقضاء
والتدريس بحيث لا يكون له من أوقات الفراغ ما يفي بنسخها. ولكننا نقول: إنها
همة الرجال تجعل الوقت كالمادة المرنة القابلة للتمدد أضعاف مساحتها , على أن
أكثر تآليف العلماء في تلك القرون المتوسطة كانت من قبيل النسخ لأن كل واحد
ينقل عمن قبله فيختصر أو يطيل ويضيف إلى القول أقوالاً ولو من غير الفن الذي
يؤلف فيه , وليس بين أيدينا من الكتب العربية التي يصح أن يقال: إن ما فيها نابع
من صدور مؤلفيها وفائض من سماء عقولهم، إلا العدد القليل كإحياء العلوم
وكالموافقات والاعتصام للعلامة الشاطبي ومقدمة ابن خلدون وغيرها , والأكثر ما
بين منسوخ وممسوخ. وهذا النسخ والمسخ لا يحتاج إلى زمن طويل. وقد كان
العلماء المشتغلون بالعلوم النقدية يستعينون بتلامذتهم وبالكتاب المستأجَرين على
التأليف فيدلونهم على ما يرون نقله وهم ينقلونه لهم , وإنني أعرف رجلاً من
المعاصرين ينسب له من المؤلفات ما يزيد على ثلاثين كتابًا ورسالة كتبت في مدة لا
تزيد على العشرين سنة إلا قليلاً مع أن له بغيرها شغلاً كثيرًا , ولكن هذه الكتب
الكثيرة ليست له فيها إلا الدلالة على الكتب والإيماء إلى المقاصد المطلوبة له وليس
فيها شيء من العلم الحقيقي يصح أن ينسب للمؤلف فيعد من بنات فكره أو من
استنباطه.
أما مثل كتاب المحاماة فهو كتاب لم يسبق المؤلف أحد للكتابة في موضوعه
فهو مبتكر، وأما استمداده فليس من كتب موجودة بين الأيدي قد سبق أنه طالعها
فسهل عليه أن يراجعها , ولكنه استمد من أوراق الحكومة ودفاترها الرسمية فاحتاج
إلى زمن طويل في التنقيب والتفتيش يعزّ على من ليس له مثل همته أن يختلسه من
أيدي الشواغل الكثيرة المنوطة به , وليس شأن القضاء في هذا العصر كشأنه في
الزمن الماضي فإنه لم يكن أمام حكم القاضي في الغالب إلا طلب البينة أو اليمين
عند فقدها , وأما الآن فرب قضية واحدة لا يتأتى للقاضي أن يحكم فيها إلا بعد
قراءة مئات من الصحائف، فهل يسهُل على الإنسان أن يؤلف كتابًا من هذه الكتب
الملفقة قبل أن يقرأها ويفهمها؟ ناهيك بالأعمال الإدارية المطلوبة من رئيس محكمة
مصر. فنسأل الله مع السائلين أن يكثر من أمثال مؤلف كتاب المحاماة في الأمة إذ لا
يمكن أن تجاري الأمم الحية إلا بأمثال هؤلاء الرجال العاملين. وسنعود إلى تقريظ
الكتاب بعد ما تتسنى لنا مطالعة كله أو جّله.
***
(خريطة الكرة السماوية)
أتحفتنا جريدة المبشر الغراء بنسخة من خريطة الكرة السماوية مطبوعة باللغة
العربية جاءت ملحقة بالجريدة , وقد سررنا بهذا الأثر النافع بقدر حاجتنا إليه فإننا
لم نظفر بهذه الضالة بالعربية قبل الآن ويا حبذا لو كان طبعها على ورق نظيف
متين ليطول زمن الانتفاع بها بطول مكثها.
__________(3/331)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والجواب
عن حل طعام أهل الكتاب
سيدي الأستاذ الفاضل الشيخ رشيد أفندي رضا منشئ المنار الأغر. السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإننا لعلمنا بما أعطاكم الله جل شأنه من بسطة العلم
بما في كتابنا الكريم وسنتنا المحمدية نرجو التفضل بالجواب عن السؤال الآتي وهو:
(هل يجوز لمسلم أن يتناول طعامًا وشرابًا من يد نصراني أو يهودي وهو
مباشرهما؟ وهل يجوز الأكل من ذبح اليهود بعد قوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ} (التوبة: 28) الآية) راجين إدراجه مع السؤال في أول عدد صادر ولكم منا
مزيد الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد مشتركي المنار
(جواب المنار)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ
الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28) لا يدل على عدم حلّ طعام أهل الكتاب
ولا يصح أن يكون ناسخًا لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} (المائدة: 5) والآية نزلت في منع مشركي العرب من الحج ,
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
بقراءتها في عرفة، والمراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوبة، وهي الشرك وعبادة غير
الله تعالى لا نجاسة الجسد؛ لأن الجسد إذا كان نجس العين لا يطهر بالإيمان
والاستحالة ههنا ممنوعة كما تستحيل الخمر خلاًّ. وإن كان المراد النجاسة العارضة
أي: أنهم لا يتطهرون من النجاسة ولا يغتسلون من الجنابة كما قال بعض
العلماء - فيقتضي أن يزول المنع بزوالها , ولم يقل أحد من الأئمة المجتهدين بأن
المشرك يمكَّن من الطواف إذا اغتسل وتنظف حتى عند من لم يشترط النية في
غسل الجنابة. ولو صح هذا لم يكن فيه دليل على تحريم طعام المشرك فضلاً عن
الكتابي , وأما النزاهة والاحتياط فهما يتبعان حال الأشخاص فرب مشرك أشد عناية
بالنظافة من مسلم , وإن نفس من تربى على النظافة لتأنف أن تأكل من طعام أكثر
الفلاحين في الأرياف لا سيما بعد اختبارهم ومشاهدة تساهلهم في النجاسة والقذارة.
لم يرِد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة عليهم
الرضوان أن الكفار أعيانهم نجسة فيكون ما يلمسونه مع الرطوبة نجسًا. وما نقل عن
ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك فلا أراه يصح فهو اجتهاد أو فهم نخالفه فيه اتباعًا
للسواد الأعظم من الصحابة والأئمة وعمل الصدر الأول , وإن أخذ به منا بعض فرق
الشيعة , وأما حديث مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام فهو إن
صح لا يدل على النجاسة؛ لأن للملائكة شؤونًا خاصة , ولو كان يجب علينا أن نمتنع
عن كل ما يمتنع عنه جبريل لامتنع علينا أن ندخل بيتًا فيه كلب أو صورة ولا قائل
بهذا.
إن الله تعالى ما شرع لنا الدين ليبعدنا عن الناس ويجعله سببًا للنفور بين
الآخذين به وبين سائر الملل والنحل بل شرعه ليزيل به الخلاف ويستبدل بالنفور
الائتلاف لا سيما أهل الكتاب الذين احترم أديانهم وهداهم إلى أن رفض الابتداع
والتقاليد التي أحدثها التأويل والتحريف والرجوع إلى الأصول الأولى هما اللذان
يسهلان عليهم الاتفاق معنا في الدين واعتباره واحدًا لا ينبغي التفرق فيه. وقد سهل
علينا أسباب التآلف مع أهل الكتاب بحل المؤاكلة والمناكحة فقال تعالى في آخر
سورة أنزلت من القرآن وهي التي صرح فيها بإكمال الدين: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (المائدة: 5) الآية. فمن فطن لهذا يعرف أنه هو الموافق لغرض الدين وحكمته ,
ومن جمد على التقليد الأعمى فلا علاج له , وفي المقام كلام كثير , وفيما ذكرناه
مقنع لمن يريد الحق، والله أعلم وأحكم.
***
(شمس مكارم الأخلاق)
جمعية في الزقازيق من أحسن الجمعيات الإسلامية التي تألفت في القطر
المصري في هذا العهد فإنها بهمة مؤسسيها الأفاضل قد قامت بأعمال نافعة قبل أن
يأتي على تأسيسها شهران. رتبت مدرسين في ثلاثة مساجد يعلمون الناس الأخلاق
والآداب الدينية وجعلت لهم أجورًا شهرية. وأنشأت ناديًا علميًّا لمطالعة الكتب
ورتبت معاشًا لأسرة فقيرة توفي عائلها عن صِبية صغار ونساء ضعاف , وأنشأت
مدرسة لتعليم خمسين تلميذًا من أولاد الفقراء مجانًا، استأجرت لها محلاًّ فسيحًا بأربعة
وعشرين جنيهًا في السنة. وكانت عينت شيخًا للوعظ في ليالي الاجتماع الأسبوعية
فتبين لها أنه لا يحسن الوعظ ولا يصلح له ففصلته , وطلبت من صاحبي الفضيلة
مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر انتخاب واعظ لها يكون كفؤًا لهذا العمل
بعلمه وأدبه. ولها أعمال من دون ذلك تعملها كتجهيز الموتى من الفقراء وغير ذلك.
ومن أعضائها العاملين صاحبا مجلة نور الإسلام النافعة التي تدل قيمتها الزهيدة
أنها ما أنشئت إلا لتعميم الفائدة , ويصح أن نقرن هذه الحسنة بحسنات الجمعية وإن
كانا صاحباها الكريمان ينفقان عليها من مالهما الخاص لأنهما لم يوفقا لهذا العمل
الشريف إلا بعد الدخول في الجمعية. ويقال: إنه لا يشتكي شيء من هذه الجمعية إلا
وجود بعض أفراد فيها ليسوا من أهلها فعسى أن يوفق مجلس إدارتها لقطع
الأعضاء الفاسدة قبل انتشار العدوى منهم إلى غيرهم والله الموفق.
***
(دودة القطن)
استُلفتنا إلى مقالة مهمة في دودة القطن وكيفية تلافي ضررها نشرت في
جريدة الإخلاص الغراء وقد أردنا أن نراجعها لننبه على ما فيها فألفينا أن العدد التي
هي فيه قد اختزل فرأينا أن لا نترك التنبيه عليها بالإجمال.
__________(3/333)
غرة ربيع الثاني - 1318هـ
28 يوليو - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هانوتو والإصلاح الإسلامي
ألم المسلمين من مقالات هانوتو , عظمة أمر فريضة الحج، رأيُ كيمون في
نسف الكعبة ونقل القبر المعظم عليه كثيرون من الأوربيين , حاجتنا إلى معرفة
رأي الأوروبيين فينا، وفاء كتاب الإسلام الذي عربه فتحي بك زغلول بهذا
الغرض , أوربا والإسلام، خطأ الأوربيين في اتهامهم إيانا بالسعي في أن يكون لنا
حاكم واحد، قولهم: إن الدين الإسلامي يحول دون تقدم المسلمين، مناقشة هانوتو
في رده على كيمون، الفصل بين السلطتين السياسية والدينية، سيرة فرنسا في
الجزائر وتونس , النسبة بين الصلاة والحج، المساواة في الإسلام، حقيقة أثر
الإسلام في التقدم والتأخر، الرأي في إزالة سوء التفاهم بين أوربا والمسلمين.
نشرت مقالات هانوتو في (الإسلام) فما بلغت البلاد الإسلامية إلا وقامت لها
وقعدت , وأشد ما أمضَّها منها وجرح وجدانها هو ما نقله عن (كيمون) من
التحريض على نسف الكعبة المكرمة ونقل القبر المعظم إلى متحف اللوفر , ومن
وصف الإسلام بالأوصاف القبيحة الشائنة , وما صرح هو به من رغبة أوربا في
الحيلولة بين المسلمين وبين أداء فريضة الحج التي هي من أركان الدين الإسلامي لا
من أعماله المندوبة أو المستحبة ولا من الواجبات المخيَّر بها المكلف. ولو أن ما
جاء في تلك المقالات هو رأي كيمون وحده أو رأيه ورأي هانوتو معًا، لما كان لنا أن
نلقي إليه بالاً أو نعده بلاء ووبالاً ولكنه رأي الكثيرين من الكتاب والسياسين. ومن
البلاء الأكبر أننا نجهل هذا وهو من أسوأ أنواع الجهل وأقبحها وأشدها ضررًا
ووخامة عاقبة لأن بغض الأمم الأوربية واحتقارهم لنا ما جاء إلا من الكتاب
والسياسيين القابضين على أزِمَّة النفوس والمتصرفين في الوجدانات والعقول. وقد
ذقنا مرارة هذا البغض والاحتقار , وربما كان ما سنلاقيه من الألاقي (الدواهي)
أشد مما لاقيناه في الماضي.
علم عقلاؤنا شدة حاجتنا إلى الوقوف على اعتقاد الأوربيين فينا فقام صاحب
الهمة العلية والغيرة الملية أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر بترجمة كتاب
من الكتب التي ألفوها في الإسلام [1] ليكون عبرةً لنا وباعثًا لعلمائنا وكتابنا على
الدفاع عن حقيقتنا ببيان حقيقة الإسلام لهم ليزول سوء التفاهم , وبإصلاح شئوننا
حتى لا يكون لهم حجة علينا، فلم يكن من بعض أصحاب الأنظار القصيرة والآراء
الأفينة إلا أن نَفَرُوا ونَفَّرُوا من قراءة الكتاب المذكور زعمًا منهم أن تعظيم الدين
ومن جاء به إنما يكون بجهل ما يقوله خصماؤه فيه وما يريدونه من السوء به ,
ومن هؤلاء الاغرار من خطأ المؤيد بنشر ترجمة مقالات هانوتو الأخيرة.
دع هؤلاء الغافلين في جهلهم الذي سموه تعظيمًا وهلم بنا للبحث في هذا
الموضوع الذي هو أهم مصالح الإسلام والمسلمين - موضوع العلاقة بين أوربا
والإسلام وما يريده القوم منا وما نريده منهم وما نريده من أنفسنا تجاههم. تتهم
أوربا كتاب المسلمين بأنهم قاموا في هذه السنوات الأخيرة يطالبون إخوانهم في
جميع أقطار الأرض بالاتحاد والاجتماع تحت راية واحدة والسعي في أن يكون
حاكمهم كلهم واحدًا منهم فحزبها هذا الأمر وأهمها لأن غايته نزع المستعمرات
الإسلامية من مخالب الدول المسيحية , وقد كتبنا في الجزء الحادي عشر من هذه
السنة مقالة عنوانها (أوربا والإصلاح والإسلامي) بينا فيها أن كتاب المسلمين لا
يطالبونهم في هذه الأيام إلا بمجاراة الأمم الحية في العلوم والأعمال وما خطر على
بال أحد منهم أن يحضهم على السعي في أن يكون لهم حاكم واحد , وكل يعتقد أنه
لا سبيل إلى ذلك. والآن نعيد القول بمناسبة ما جرى بين موسيو هانوتو وسعادة
بشارة باشا تقلا ونشر في جريدة الأهرام منذ أيام , وأهم ما في تلك المذاكرة أمور:
(أحدها) قول هانوتو للباشا: (أنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسويين ,
ولم أستشهد بكيمون وهو يوناني الجنس إلا لأفنّد أقواله التي لم ينفرد بها , فإن
كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسويين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه وقالوا
قوله , وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل ونجاحهم بعيد لأن الإسلام
معتقدهم يحول دون ذلك , وحجة هؤلاء واحدة وهي أنه كلما تقدمت أوربا تأخر
الشرق لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي , وأن كل حكومة انفصلت عن
الشرق سارت على منهاج أوروبا علمًا ومدنية فنجحت مع أن العثمانية وأفغانستان
ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة , وأنا ذكرت من
هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم , ولأفند مزاعم هذا
الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون
الإصلاح والمدنية , واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس فذكرتها مثالاً أؤيد
به أقوالي وسياستي , هذه هي روح كتابتي السابقة , وإنها ستكون روح اللاحقة) ثم
ذكر أن مغزى كتابة هؤلاء لا تخرج عن إعادة الكَرَّات الصليبية. ونحن نقول: إنه
لا يفند رأي كيمون إلا من هذه الجهة - جهة التحريض على الحرب الصليبية - لما
في ذلك من الخطر على العالم كله فإن مناوأة ثلاثمائة مليون مسلم (أو مجنون كما
يقول كيمون) يتمنون الموت في سبيل الدين، ليس بالأمر الهين والسهل , ولكن
فلسفته في عقائد الدين الإسلامي كان من معناها أن المسلمين أو الساميين عامةً لا
يمكن أن يجاروا المسيحيين أو الآريين؛ لأن طبيعة عقائدهم لا سيما القضاء والقدر
تحول دون ذلك , وذكر أن تمسك المسلمين بدينهم المقتضي للتأخر يسهل على أوربا
أن تحل رابطته وتفصم عروته , واستشهد على هذا بأن فرنسا تمكنت من فصل
تونس عن مكة وذلك بمنع أهلها من أداء فريضة الحج الشريف.
(ثانيها) مسألة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسة وهي أهم
المسائل التي تطلبها أوربا من المسلمين , والجرائد التي تدعو الشرقيين أو المسلمين
إلى مدنية أوربا تجتهد في في إقامة الحجج على أن النجاح موقوف على هذا الفصل ,
وربما كان فيهم من يعتقد ذلك حقيقة , وقد كتبنا في هذا غير مرة ومن ذلك مقالة
عنوانها (الدين والدولة والخلافة والسلطنة) بلغنا أن قناصل الدول في القاهرة
ترجموها وأرسلوها إلى أوربا , وليس من غرضنا الآن إلا مناقشة موسيو هانوتو
للوقوف على حقيقة مراده , قال في حديثه مع تقلا باشا بعد كلام في المسألة:
(وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسويين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق
للسلطة الحاكمة مع احترام عقائد الشعوب الذين تحت حكمنا وسلطتنا , وهو ماسرنا
عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسوية) ونحن نقول:
إن المسلمين يكتفون من الفرنسوين وغيرهم من المتسلطين عليهم من الأوروبيين
بأن لا يتعرضوا لشيء من أمور دينهم , ولكن الفرنسويين منعوا الحج من
القطرين واستولوا على الأوقاف ومنعوا حقوق الحرمين الشريفين منها , وذكر
العلامة الشيخ محمد بيرم في رحلته (صفوة الاعتبار) أنه لم يبق في مدينة
الجزائر إلا أربعة جوامع , ولقد عارض الباشا هانوتو مذكرًا له بأن أهل الجزائر
غير راضين عن فرنسا فاعترف بذلك ووعد بالكتابة فيه , وأكد القول بأن أهل
تونس راضون بإصلاح فرنسا بلادهم لاحترامها جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم
الشخصية وهي راضية منهم باحترام سلطتها السياسية وإذا كان هذا القول صحيحًا
فما هو إلا لأنهم يعتقدون أن منع الحج أمر عرضي مؤقت، الغرض منه المحافظة
على الصحة وأنهم يتوقعون في كل عام الإذن لهم بإقامة هذا الركن الإسلامي العظيم ,
فإذا علموا بعد ذلك بأن الغاية منه فصل تونس من مكة فلا يمكن أن يرضى منهم واحد
بذلك , ولا بد أن تظهر آثار السخط عليهم أجمعين إذ لا فرق عندهم بين أن يمنعوا من
دخول المساجد لأداء الصلاة وبين أن يمنعوا من دخول الحرم الشريف لأداء الحج ,
بل المنع الأخير أشد جناية على الدين لأن الصلاة يصح أن تؤدى في البيوت والطرق
وكل مكان , وأما الحج فلا يصح إلا في مكة المكرمة. فإذا كان ما يقوله موسيو
هانوتو حقًّا فما على حكومته إلا أن تثبته بإزالة المنع من الحج وبدون هذا لا يمكن أن
يصدق هذه الأقوال أحد من قارئيها على أنهم أقل القليل , إن الأمة الإسلامية أصبحت
أسوأ اعتقادًا بفرنسا من سائر الدول بسبب منع الحج لأن لأهل الجزائر وتونس شئونًا
خاصة في بلاد الحجاز تستلفت إليهم جميع الشعوب الإسلامية , وذلك في اجتماعهم
ومدافعة بعضهم عن بعض وكلامهم وعاداتهم , وقد نقل إلينا أنهم افتقدوا بعد المنع في
عرفات لا سيما في هذه السنة , وكان حديث الحجاج أن فرنسا منعتهم من أداء فرضهم
غلوًّا في التعصب على الإسلام.
يسهل على هانوتو وغيره أن يقنع بعض من يقرأ كلامه من المسلمين بالأدلة
النظرية على حسن قصد فرنسا بمنع الحج في هذه السنين , ويتعذر عليه وعلى كل
أحد أن يقنع العالم الإسلامي بذلك , ولكن يسهل على فرنسا هذا الإقناع بإزالة المانع
كما قلنا.
(ثالثها) قول موسيو هانوتو: إن أوربا لا تسعى إلا لمصلحتها السياسية
وأنها ستتفق على المسائل الشرقية اتفاقها الآن على دولة الصين، وأن مِن جَهْل كُتَّابنا
التحيز للألمانيين لنكاية الإنكليز والانتصار للفرنسويين على الألمانيين (مثلاً)
وهذا القول صحيح وهو موضع العبرة لمن يعتبر والعظة لمن يعقل , وقد بالغ
هانوتو في تبرئة أوربا من التعصب الديني علي المسلمين وخطَّأ الذين يدَّعون هذا
محتجًّا بحرب القريم وغيرها , فإذا سلَّم له المسلمون احتجاجه وقالوا: إننا لا ثقة
لنا بأوربا , ولا يمكن أن نأمن لها ونطمئن بوعودها لأنها طامعة في بلادنا وعاملة
على نزع استقلالنا بعامل المصلحة والسياسة لا بعامل الاعتقاد والدين , فهل يمكن
لهانوتو أن يزيل هذا العذر بفصاحته بعد ما أثبت أسبابه بصريح قوله؟ ؟
(رابعها) قول تقلا باشا لهانوتو: (المسلمون يعتقدون أن مصلحة أوربا
المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول
المسيحية , وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا ولو
أخلص لهم الخدمة وصدق معهم) قوله هذا مبالغ فيه فإن المسلمين كانوا ولا
يزالون يقلدون المسيحيين المناصب العالية , ويثقون بمن يصدق ويسير بالأمانة ,
وانظر كيف كان رستم باشا موضع ثقة الأمة الإسلامية وإمامها الأعظم السلطان عبد
الحميد وانظر إلى كثرة الموظفين في الدولة العلية من الأرمن على خيانتهم
وثوراتهم المتعددة , وانظر إلى الحكومة المصرية كيف كانت تقدم المسيحيين ولو
غرباء على المسلمين المصريين أصحاب البلاد , ولكن تكرار الخيانة يعلم البليد
الحذر.
(خامسها) قول موسيو هانوتو: إنه كان يجب على المسلمين الذين
عركتهم حوادث السنين أو الذين درسوا في أوربا أن يهتموا بنشر العلوم العصرية
في بلادهم وأن يسعوا في إزالة سوء التفاهم بين الشرق والغرب بأن يتلوا تلو أوربا
في الاجتهاد والإقدام كما فعلت اليابان , ومن الأسف أن هذا الرجل على سعة
معارفه بأحوال عصره لما يدرِ بأن عقلاء المسلمين وكُتابهم قد جعلوا كل عنايتهم في
هذا الأمر النافع , وقد صدق في قوله: إن التعليم لا يفيد إذا لم يصحبه التهذيب ,
وفى قوله: إن المتعلمين في أوربا منا ربما كانوا أكثر من الذين تعلموا فيها من
اليابان , ولكن ظهرت في اليابان نتيجة لم يظهر مثلها عندنا.
(سادسها) ما ختم به قوله من أن النجاح مشروط بخدمة الوطن خدمة
منزهة عن كل غاية شخصية أو مذهبية (قال) : لأن الوطن الواحد قد يجمع أكثر
من عنصر ومعتقد ولكن الاعتقاد وحده لا يجمع إلا عنصرًا واحدًا إلى أن قال: لهذا كانت الرابطة الوطنية أعم وأشد من الرابطة الدينية وهي التي كانت قاعدة
أوربا وبها تقدمت وتمدنت ونجحت , ونحن نقول: إن هذا القول لا يصدق على
الدين الإسلامي فإن الرابطة الإسلامية لها طرفان: طرف روحي يضم أبناء الدين
ويجعلهم إخوة بعضهم أولياء بعض في الدين , وطرف مادي اجتماعي يضم مع
المسلمين غيرهم من العناصر ما عدا المحاربين الذين لا عهد لهم، ويجعل الجميع
سواءً في الحقوق لا يفضل المسلم مهما كان عظيمًا على غير المسلم مهما كان حقيرًا ,
وبهذا يمكن أن تعمر البلاد وتسعد العباد , وقد أوضحنا هذا المبحث في مقالة
نشرت في المجلد الثاني من المنار عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) ونوهنا به في
مقالات أخرى كثيرة.
ولا يمكن لكتاب المسلمين أن يجعل كل واحد منهم إرشاده لأهل بلاده خاصة
لأن تأخرهم لم ينسب إلى بلادهم وإنما هو منسوب إلى دينهم وهو يوافقون كُتَّاب
أوربا على قولهم: إن للدين أقوى الأثر في هذا التأخر , ولكنهم يخالفونهم في وجهه
فأولئك يزعمون أن طبيعة الدين تقتضي هذا ونحن نوقن أن طبيعته تقتضي التقدم
وأن التأخر ما جاء إلا من الانحراف عن سننه ولبسه كما يلبس الفرو مقلوبًا (كما
قال الإمام علي كرم الله وجهه) وقد بينا هذا من قبل في مقالات كثيرة ولكن صوتنا
لا يصل إلى هانوتو وأمثاله من السياسيين والكتاب الأوربيين , ولا ينقل لهم
الوسطاء بيننا وبينهم إلا أقوالاً مقتضبة مختزلة يستثيرون بها إحنتهم علينا , ولو
نقلوا إليهم كتابة من يعتد بكلامهم ويوثق بمعرفتهم للإسلام لقبله المنصفون وزال
سوء التفاهم الذي نتمناه كما تمناه هانوتو وغيره من العقلاء أو أشد تمنيًا , وربما
كان فيه الخير للفريقين , فعسى أن نصل إلى هذه الأمنية بالجرائد الشرقية التي
تنشر باللغات الأوربية كالمؤيد الفرنسوي في مصر ومحمدان ومسلم كرونكل في
الهند , وغيرها من الجرائد المسيحية المنصفة والله يجزي المحسنين.
__________
(1) هو كتاب عنوانه (الإسلام خواطر وسوانح) من تأليف الكونت هنري دي كاستري وهو من أحسن الأوربيين الذين كتبوا في الإسلام رأيًا وأحسنهم عنه دفاعًا ولكنه يعرفنا جميع خطأ المخطئين وعيب العائبين.(3/337)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
من كتاب
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد)
(10) من أراسم إلى هيلانة في 3 يونية - 185
إن معظم من كتبوا في علم التربية يغالون بأصول علم الأخلاق ويرفعون من
شأنها , وأنا مثلهم أعتقد أن المواعظ الحسنة وقواعد التهذيب المفيدة قد تبعث العزائم
في بعض الأحوال على القيام بصالح الأعمال ولكني لا أعتقد أن ما يلقفه الناشئون
منها من أفواه معلميهم في دروسهم يغير طباعهم تغييرًا حقيقيًّا , وهيهات أن أعول
عليها في ذلك فإننا نرى كل يوم في المجتمع الإنساني أناسًا من الظرفاء الأكياس
جُفاةً غُلف القلوب على أنهم لم يحرموا من النصائح العامة الداعية إلى التحابِّ
والتراحم المرغبة في لذة الاتصاف بهما , فما من فاسق أو شرير أو بخيل إلا وقد
سمع ألف مرة من ألسنة الوعاظ قولهم: (كن حكيمًا مهذبًا تكن عزيزًا مغتبطًا) [1]
(لا تفعل بغيرك ما لا ترضى أن يفعله بك) [2] (لا تجعل لحطام الدنيا حظًّا من
قلبك) [3] إلى غير ذلك من النصائح والحكم.
الإنجيل كله مواعظ رائقة وأمثال شائقة فليت شعري من ذا الذي يراعيها.
هل تجدين كثيرًا من الأغنياء أنفقوا جميع أموالهم على الفقراء بعد سماعهم آية (إن
دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني في ملكوت السموات؟) [4] هل
تلاقين ولو في القسيسين أنفسهم عددًا كبيرًا ممن يفضلون عبادة الله (سبحانه) على
عبادة الدنيا والدرهم؟ هل يرضى أوائل الناس أو الذين يعتبرون أنفسهم كذلك أن
يعاملوا معاملة الأواخر؟ هل يسهل على الحاكمين أن ينقلبوا محكومين؟ كلا إننا
نرى علماء الدين يغالطون في فهم نصوص الكتاب مخادعين وجدانهم غاشين
ضمائرهم وما أكثر ما يؤوّلونه منها تخلصًا من قضائها عليهم وفرارًا من عواقب
الأخذ بصريحها.
جاء المسيح يدعو إلى السلام في كل قول من أقواله، فهل رأيتِ الممالك
أصبحت أقل قتالاً؟ ندب إلى التآخي بقوله الجليل: (كلكم إخوان) [5] فهل هدم
هذا القول دعائم الاستعباد ومحا من النفوس ميلها إلى التسلط؟ توعد من يصلت
سفيه بغيًا وعدوانًا بالهلاك، فقال ما معناه: (من سل سيف البغي به قتل) [6] فهل
ردع هذا الوعيد من كان بيدهم الحول والقوة عن انتهاك حرمة القانون بالبغي
والفساد في الأرض. قال (من أخذ قميصك فأعطه رداءك) [7] فلو أن أحدًا منا
معشر الفرنساويين المتشددين في التمسك بالدين اتبع هذا الأمر وجرى على نصه
حرفيًّا لسجن في شارنتون [8] خصوصًا إذا كان له من أقاربه وارثون.
لم يختص المسيحيون بهذه المواعظ الحسنة فإن لليهود أيضًا والصينيين
والفرس كتبًا فيها حكمة بالغة وكلم نابغة , ولكنهم لم يصيروا بها أحسن منا حالاً
فإنه لو كان يكفي في تحسين أحوال الناس وتهذيب نفوسهم وجود كتاب مفيد في علم
الأخلاق لكانت الدنيا قد بلغت غاية الكمال من زمن طويل لأنها والحمد لله لم تخل
من علماء الأخلاق يومًا، على أننا لا نسمع في جميع أرجائها إلا أصوات آلام
المنكوبين والمكروبين وتحريق الأرَّم من المقهورين المتغيظين.
أرى أنه لا ارتباط بين مذهب المرء وبين عمله غالبًا إلا في الخيال والوهم
فلو أن الخير كله والشر كله كان كل منهما بمعزل عن الآخر في مجرى الحياة
وسياق أعمالها لسهل على الناس الحكم فيما اختلفوا فيه من آرائهم ومذاهبهم ,
ولانقطع من بينهم سبب الخلاف بأسرع ما يكون , ولكن هيهات أن يكون الأمر
كذلك وقد علمت أنه لا يعمل منهم بعلمه إلا الشذّاذ! انظري إلى أصول الأخلاق
الإنجيلية - مثلاً - تجدي أن من لا يؤمنون بألوهية المسيح هم في الغالب أكثر اتباعًا
ورعاية ممن اتخذوا الإيمان بتلك الألوهية مهنة لهم.
أنا لا أعني بجميع ما قلته هنا أن علم الأخلاق لا فائدة له في التربية وإنما
الذي أريده بهذا الكلام هو أن أحسن ما يوجد بهذا العلم من الأصول في الدنيا بأسرها
لا ينشئ رجالاً كملة مهذبين , وقد فهم ذلك حق الفهم واضعو الشرائع فعززوا ما
دوّن من تلك الأصول في الكتاب بأوضاع تامة للثواب والعقاب.
ثم إن الطفل لا يستفيد مما يلقى عليه من دروس الأخلاق إلا إذا كان من
الاستعداد والكفاءة بحيث يقدر أسباب أعماله وعواقبها، فأنَّى له إذن أن يفهم هذا
الأصل الوجداني وقد حجبه عنه إدراك مشاعره الظاهرة واشتداد أهوائه وشرّة
غرائزه؟ وأنَّى له أيضًا بأن يكون جميع ما يراه من الأسى والأمثال من شأنه أن
يأخذ بزمام عزيمته إلى الخير ويصرفه عن الشر؟ وليت شعري هل تجري أمة
دائمًا على مقتضى ما ترشده إليه من صالح الأخلاق وجميل الصفات؟ إن الوالد
ليلقي على ولده خطبة طويلة في وجوب مواساة الفقراء والإحسان إلى المساكين ثم
لا يلبث هو نفسه أن يلومه إذا أعطى لفقير درهمًا من الفضة، فهو بذلك يبذر بإحدى
يديه في ذاكرته أصول الإنجيل وينقش بيده الأخرى على قلبه صور النفاق والرياء
اهـ[*] .
(13) من أراسم إلى هيلانة في 4 يونيه سنة -185:
يُعوِّل علماء الأخلاق كثيرًا في تربية الأطفال على قوة القدوة وتأثير الأسوة،
وأنا في هذا موافق لهم ولكن أيّ والد يصح له أن يتبجح بأنه على الدوام قدوة
صالحة لولده.
نحن في الجملة نسعى في غش الأطفال وخداعهم بما نتزين به لهم من لباس
الرياء الذي يجعلنا في أعينهم أحسن مما نحن عليه في الحقيقة والواقع وبما يصدر
عنا كثيرًا أمامهم من الأقوال والآداب المغايرة كل المغايرة لمعتقداتنا وآرائنا الذاتية
وحقيقة الأمر أننا نقصد أن نربي طباعهم على ما نشأنا عليه؛ موافقة لحسن رأينا
في أنفسنا , ورغبة في تحقيق غيرنا بهذا الرأي , وأن نكسوهم من الفضائل ما
نتظاهر لهم بأننا متحلُّون به , ولكن هيهات أن ينخدعوا بهذه الحيل , ومن ظن بهم
ذلك فقد أخطأ في فهم معنى سذاجتهم وصفاء قلوبهم خطأً بينًا. الأطفال يعرفون
كمال المعرفة ما يعتمدون عليه في كشف مقاصد آبائهم والوقوف على شئونهم وهم
يدركون بالحدس والتخمين ما يجتهد هؤلاء في كتمانه عنهم , وإني لفي شك من أن
هذا الكتمان وإن حمدت أسبابه يزيدهم في نفوسهم إجلالاً وتعظيمًا.
عاقب والد ابنًا صغيرًا له لم يتجاوز الخامسة من عمره على أكذوبة قالها ولم
يكد ينتهي من عقابه حتى دخل عليه خادمه مخبرًا له بأن زائرًا ثقيلاً ينتظره في
الخارج , فقال له ذلك الرجل الوقور: أخبره بأني لست هنا. فيا له من درس
يستفيد منه الطفل الصدق والإخلاص! .
أنا على يقين من أن (أميل) لن يجد فيك إلا أحسن أسوة وأكمل قدوة , وهذا
هو الذي يملأ قلبي اطمئنانًا عليه. ولكن أقول لك الحق غير مُداجٍ فيه ولا مُدارٍ
وهو أن غرضي من تربيته أن يكون ذا طبع مستقل لا مفرغ في قالب طبع آخر
مهما كان لهذا الطبع من الكمال. وأذكر لك هنا واقعة حضرتني الآن تدلك على أني
محق في قصدي وهي أني رأيت ذات يوم طفلاً في السادسة من عمره راجعًا مع
والدته من تشييع جنازة وهو من الأطفال الناجحين المتقدمين جدًّا على حسب اعتقاد
الناس , وكان يبكي أو يتباكى فارتبت في أمره وظننت أنه مخطئ في معرفة من
فجع به لأن المتوفى لم يكن إلا ابن عم بعيد له (على أن الأطفال لا يفهمون حقيقة
الموت كما تعلمين) فسألته عن سبب بكائه وكدره العظيم فكان جوابه لي أن قال:
(لا سبب سوى أني رأيت الآن والدتي تمسح عينيها بمنديلها فبكيت) فأضحكني منه
هذا التأثر التقليدي وإن كان صادرًا بلا شك عن طبع ساذج وقلب سليم , فلا أريد
أن يكون (أميل) مثل هذا الغلام في تأثره بل أودُّ أنه متى بلغ السن الذي يرقُّ فيه
لمن تصيبه مصيبة ويعطف عليه يكون ذلك منه ناشئًا عن غم كارث ألم بنفسه
وحزن ممض يضطرم في قلبه.
يجب أن يلحق ما يرى من أعمال الحيوانات وسيرها في حياتها بما للقدوة من
التأثير في التربية. وكيف لا ونحن نرى كتاب الأمثال عندنا على بعد مجتمعاتنا من
معاهد الفطرة تزدان تآليفهم وتزدهي دروسهم بما يودعونها من سير الحيوانات
وأخلاقها , وأن الطفل من أولادنا لا يكاد يقدر على النطق المفهوم والحفظ حتى
يحمل على حفظ أسطورة من أساطير لافونتين [9] كأسطورة الصرصار والنملة مثلاً
أنا لا أنكر أن في حياة الحيوانات عبرًا كثيرة وعلومًا شتى يجب علينا تعلمها ,
ولكني أقول: ألا ينبغي لهذا العالم الصغير الذي يحفظ سير هذه المخلوقات الممثِّلة
رواية الكون الكبرى في مشهده الأعظم أن يعرفها ليهتم بشأنها اهتمامًا حقيقيًّا؟ . فكم
نرى من الأطفال الذين نشأوا في حواضرنا الكبرى وقرأوا أساطير ذلك الكاتب
الشهير من لم ير في حياته تلك المخلوقات التي يحكى لهم قصصها ويمثل لهم
أحوالها إلا قليلاً، فهم على جهل تام بأخلاقها وعوائدها. وفي رأيي أن سليمان
(عليه السلام) أعقل من واضعي التعليم الحديث إذ قال للكسلان: عليك بالتعلم في
مدرسة النملة [10] فإنه دله بهذا الإرشاد على ينابيع علم الأخلاق الفياضة لا على
حياضه التي لبعدها عن تلك الينابيع لا توجد فيها إلا صُبابة لا تروي ظمأ ولا تبرد
غُلة اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الحكمة واردة في أمثال سليمان عليه السلام في التوراة بهذا النص وهو: (الرجل الحكيم في عز) [وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ] (البقرة: 129) .
(2) نص الكتاب المقدس في هذا المعنى هو: (وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا) راجع من إنجيل لوقا الإصحاح السادس العدد 31.
(3) نص الكتاب في هذا المعنى هو (لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون , بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ) راجع العدد 16 و19و21 من الإصحاح السادس من إنجيل متَّى.
(4) راجع العدد 24 من الإصحاح 19 من إنجيل متَّى.
(5) نص ما ورد في الكتاب المقدس في هذا المعنى هو: (وأما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد هو المسيح وأنتم جميعًا إخوة) راجع الإصحاح 23 والعدد 98 من إنجيل متَّى.
(6) عبارة الكتاب في هذا المعنى هي: فقال يسوع: (رد سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون) راجع الإصحاح 26 والعدد 52 من إنجيل متى.
(7) عبارة الكتاب هى: (ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضًا) راجع الإصحاح 6 والعدد 49 من إنجيل متى.
(8) شارنتون اسم لقريتين من قرى فرنسا إحداهما تدعى شارنتون لويون وهي أشهر قرية في إقليم السين بقضاء سو واقعة على نهر مارن، والثانية تسمى شارنتون سور لوشير وهي أشهر قرية في إقليم شير بقضاء سانت أمندمونت روند، يظهر أن إحداهما فيها سجن للمجانين.
(*) المنار: محصل كلامه أن تعليم الأخلاق والآداب قليل الجدوى إذا لم يتربَّ الإنسان عليها عملاً وهذا صحيح , ولم توضع أصول التهذيب لأجل الدراسة وإنما وضعت ليجري عليها المربون فعلاً. اقرأ قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: [وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]
(البقرة: 129) فلم يكتف بالتعليم بل أضاف إليه التزكية وهي التربية العلمية على أصول الخير والفضائل.
(9) لافونتين واسمه جان دول فونتين من أشهر كتاب الأساطير في فرنسا ولد في ساتوتيري سنة 1621 ومات سنة 1695.
(10) عبارة الأمثال في هذا المعنى هي: اذهب إلى النملة أيها الكسلان تأمل طرقها وكن حكيمًا (هي) التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط وتعد في الصيف طعامها وتجمع في الحصاد أكلها. راجع الباب 6 من أمثال سليمان والأعداد 6 و7 و8.(3/345)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية وأدبية
(حكم الفلاسفة ونوادرهم)
(2)
قال أرسطوطاليس: من عُدم العقل لم يزده السلطان عزًّا ومن عُدم القناعة لم
يزده المال غنًى , ومن عدم الإيمان لم تزده الرواية فقهًا. أقول: نسب هذا الكلام
لهذا الفيلسوف صاحب كتاب (الكلم الروحانية في الحكم اليونانية) وهو ليس له
وإنما هو لأحد حكماء الإسلام لأن أخذ الفقه من الرواية من وضع المسلمين
واصطلاحهم وظاهر أن المراد بالرواية رواية الحديث , ولم يكن عند فلاسفة
اليونان فقه يستمد من رواية , وكثيرًا ما راجت الأكاذيب والموضوعات على أهل
النقل لعدم المعرفة التامة بتاريخ اللغة، فكم من خبر وأثر فيه ألفاظ لم تكن تستعمل
في عصر من نسبت إليهم بالمعنى الذي تروى به.
وقال: الحُسْنُ رديء لصاحبه جيدٌ لغيره , وقيل له: لم تناقض صديقك
أفلاطون فقال: أفلاطون صديقي والحق أولى بالصداقة منه. وقال له رجل:
أخْبَرني ثقة عنك بما يوحش، فقال: الثقة لا ينمُّ , وسئل: أي شيء ينبغي للفاضل
أن يقتنيه؟ فقال: الأشياء التي إذا غرقت به سفينة تنجو معه إذا نجا، يعني العلوم
والمعارف الحقة. وقال: ظاهر العتاب خير من مكتوم الحقد , وقال: ضربة الناصح
خير من تحية الشانئ (العائب) وقال: العقل عقلان: مطبوع ومسموع. أقول: إن
هذه الحكمة تؤثَر عن الإمام علي كرم الله وجهه ولم يكن وصل إلى العرب شىء من
علم اليونان. وقال: قوت الأجساد المطعم، وقوت العقول الحكم فإذا فقدت العقول
الحكمة ماتت موت الأجساد عند فقد الطعام. وقال: المعلم الرفيق يربي المتعلم بصغار
الحكمة قبل كبارها كما تربي الوالدة ولدها بالرضاع قبل الطعام. وقال: العاقل لا
يجزع من جفاء الولاة إيّاه وتقريبهم للجهال دونه لعلمه بأن الأقسام لم توضع على قدر
الأخطار (أي ليست الحظوظ عندهم بحسب مراتب الشرف الحقيقية فيرى أن خطره
وشرفه لم يقدر قدره) وقال: الحكيم الصالح لا يخدع أحدًا والعاقل الكامل لا يخدعه
أحد. يريد أنه لا ينجح في خداعه ليقظته وانتباهه. ويتوهم بعض من يقرأ كتب
الأدب أن المخدوع ممدوح لما في ذلك من الآثار والأشعار المسطورة فيها كأثر (من
خادعنا في الله انخدعنا له) وكقول الشاعر:
خادع خليفتنا عنها بمسألة ... إن الخليفة للسؤَّال ينخدع
وكقول عبد الباقي في أمير المؤمنين رضي الله عنه:
قد خادعوا منك في صفين ذا كرم ... إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وهذا الانخداع هو الإغضاء عن الذنب في موضعه والتغافل عنه من باب
(تجاهل العارف) ولقد نزه الله نفسه والمؤمنين عن أثر خديعة المنافقين فقال:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) .
وقال أرسطوطاليس: نصيحة العاقل مبذولة للعامة، وسرُّه مكتوم إلا عن
الخاصة. وقال: أيّ ملك جاوز سرُّه وزيره فهو في حد ضعفاء السوقة. وقال
للإسكندر: كن رحيمًا من غير أن تكون رحمتك فسادًا , وقال له: اعتبر بمن
مضى قبلك ولا تكن عبرة لمن يأتي بعدك , وقال له أيضًا: يا إسكندر اعلم أن
عيوب عمالك عيوبك , وقال له: إذا فرضت لجندك فلا تفرض لمن لا تعرف والده
ومن وُلد على العبودية؛ فإن الناس يقاتلون بالأنفة والحمية. أقول: لا مندوحة عن
مراعاة عزة النفس ومعرفة البيوت في الضباط والقوَّاد حتى في هذا العصر , وقال
له: لا يكن لجائزتك حد فإن هذا أبسط للأمل فيك , وقال له: اعمر ما خرب مما
أنشأه مَن قبلك يُعِّمر ما تبنيه من يتبعك , وقال له: تفقد أمر عدوك قبل أن يطول
باعه , وارتق الفتق قبل أن يتجاوز اتساعه , وقال له: امنع أن يظهر في عسكرك
الفجور والسكر فإنهما مفتاح الوهن , وقال: أيُّ ملك نازع السوقة هتك شرفه ,
وأيّ ملك تصدّى للمحقرات فالموت أكرم له. وكلمه رجل بكلام طويل جدًّا فقال له:
أما أول كلامك فقد أنسيته لطول عهده وأما آخره فلم أفهمه لتفلّت أوله , وقال: قد
استحسنت قول (لا أدري) حتى أقوله فيما أدري.
***
(القسم الثاني من عينية الكاظمي)
وهو ما يتعلق بمصر
ولما نقلنا للبواخر رحلنا ... وعفنا المطايا وهي حسرى وضلع
هجمنا على جيش من الموج ضارب ... بزخاره نحو السما يترفع
يطالعنا من كل فج كأنه ... جبال شرورى أصبحت تتقلع
ولما تبينت (السويس) وسار بي ... إلى (النيل) سيار من البرق أسرع
هرعت إليه عاطفًا من حشاشتي ... وقلت لصحبي هذه مصر فاهرعوا
سقى الله دارًا تيم الصب نشرها ... وأخرى بها داريَّة تتضوع
لقد صرت في هذي وقلبي معلق ... بتلك إذن ماذا أنا اليوم أصنع
وأصبحت أسوانًا فلا أنا ميت فأسلو ولا حي يرجى فأطمع
أنادي فلا (شمعون) يسمع دعوتي فيدنو ولا ينأى بوجدي (يوشع)
وما لي منه يعلم الله لو دنا سوى نظرة تدنو إلي فأقنع
ذر الدمع يدمي ناظريّ فإنني رأيت بعيني طرف (شمعون) يدمع
ويا أهل هذا الحي خلوا لنا الجوى نقضي به ليل الصبابة واهجعوا
على داركم شق الجيوب ودارنا يشق وريد في ثراها وأخدع
فلو أن مثلي في سراة قبيلكم من الحب مضنى أو من البين موجع
لأعلنت بالشكوى وصرحت بالجوى وقلت: اسعدوني أيها الصحب أو دعوا
تمكنت الأوجاع من كل مفصل وليس لهذا الصب من يتوجع
وآيسني طول النوى من طماعتي ولا يأس إلا حين لم يبق مطمع
تكلفني عيناي في الحي هجعة فأغمض علمًا أنني لست أهجع
وآمل من نومي المشرّد رجعة وأكبر ظني أنه ليس يرجع
أقول لجيران لهم بين أضلعي مراح وفي الأحشاء مرعى ومرتع
أيا جيرتي جف الرقاد فعاذر إذا رحت في كأس من السهد أكرع
ملكتم فؤادي بالتودد خدعة وكل كريم بالتودد يخدع
تعسفتموا ما كان مني شيمة وأين من المطبوع من يتطبع
وكيف أرجى منكمو ذا حفيظة وأكثر شيء في الأنام التصنع
إلا أن دهري موجعات فعاله وأفعال أهليه أمض وأوجع
أمثل (فلان) يحفظ الناس وده ومثلي في هذي البلاد يضيع؟
فوالله ما أدري وقد خامر الحشا هوى أوشكت منه الحشا تتصدع
أأترك مصرًا أم أقيم بجوها وما جوها إلا جوى يتدفع
تساومني خفض الجناح ظباؤها وما شيمتي إلا العلا والترفع
أصد فتثنيني إلى الحي لفتة ويقتادني داعي الغرام فأتبع
وأغضي فتلويني إلى الغيد نظرة ترد غرامي كلما بان برقع
فينزعن في قلبي سهامًا مريشة وأطرب إما قيل في القوس منزع
تعدت صروف الدهر مصر وأهلها ولا زال في أرجائها البِشر يسطع
نعم أهل مصر أنتمو خير أمة وما الخير إلا منكمو يتفرع
لقد شاع عنكم كل فضل وسودد وسوف نرى للفخر ما هو أشيع
فما سرني منكم تجمل أنفس كما ساءني قصد العدا المتشنع
خذوا حذركم فالكاشحون بمرصد وأنتم كما شاء الكواشح هجّع
أرى اليوم موسومًا بكل شنيعة وأخشى غدًا يأتي بما هو أشنع
ولكنني أرجو انتباهة حازم تصرف عنا هول ما نتوقع
دعوا عنكم مرّ الهوان وعرجوا إلى جنبات العز من حيث تنصع
وعودوا بها شم الأنوف تواركًا أنوف الأعادي دونكم وهي جُدَّعُ
ولا تشبعوهم غير يأس فإنهم إلى أكلكم - أخزاهم الله - جوَّع
وشدوا عُرى أوطانكم بمثقف من الرأي تخشاه الظبى وهي قطع
وكونوا لها أطواد عز منيعة يكن لكمو فيها الفخار الممنع
***
(الخزانة)
مجلة شهرية في السياسة والأدب أصدرها في أول يوليو حضرة الوجيه
الفاضل يوسف أفندي الخازن، استعاض بها عن جريدته (الأخبار) اليومية , وذكر
في فاتحتها أنه ليس القصد منها بث العلوم وعضد الصناعة وترقية الزراعة،
وإنما غرضها الأساسي تفكهة القراء وتسلية الخواطر بمباحث جديدة ذات طلاوة
وفكاهة تلذ مطالعتها , ومن ذلك أنه ينشر في كل عدد حكاية (رواية) وجيزة ,
وفي العدد الأول منها مقالة سياسية في الشؤون الحاضرة , ومقالة أخرى في ترجمة
الوزير الكبير صاحب الدولة رياض باشا مأخوذة عن كُتاب أوربا المشهورين ,
ومقالة في زيارة سمو الخديوي لملكة الإنكليز واستحسان سياسة الوفاق والمسالمة
بين مصر والمحتلين، وتقريظ كتاب المحاماة، وشذرات بعض مشاهير الرجال.
وقيمة الاشتراك في المجلة 100 غرش مصري فنرجو لها الرواج والنجاح.
__________(3/352)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المشروع الحميدي الأعظم
لم يكن للمسلمين من شبهة في فائدة مشروع سكة حديد الحجاز إلا أنها وسيلة
لدخول الأجانب في أرض الحرمين الشريفين وقد أزلنا هذه الشبهة بالمقالة التي
نشرناها في فاتحة الجزء الماضي ونشرتها عنا جريدة المؤيد الغراء لتعم فائدتها
جميع الأرجاء. وأما ما يوسوس به بعض الناس من أن الدولة العلية لا تقدر على
إتمام هذا العمل لقلة مالها , وما ينصح به الناس بناء على هذا الإيهام آمرا لهم
بالحرص على مالهم وعدم بذله في إعانتها على العمل - فلا قيمة له في نظر المسلمين
لا سيما وهو لم يظهر إلا على صفحات جريدة المقطم التي يسيئون بها الظن في كل
ما يتعلق بالإسلام والدولة العلية. على أن الوسواس إذا صح فهو يقتضي الإعانة لا
عدمها , إذ من البديهي أن الإعانة تزيل العجز فيتم المطلوب. ومهما كان العاقل
سيئ الظن بالدولة العلية والأمة الإسلامية فإنه لا يتصور أنهما لا يقدران على إتمام
مشروع كهذا مع التضافر والتعاون , ولا أن الدولة تجمع المال من الأقطار
الإسلامية بهذا الاسم ثم تنفقه في شيء آخر إلا إذا دهمها من أوربا خطر عظيم على
حياتها التي هي حياة المسلمين اضطرها إلى صرفه في المدافعة، وهذا أمر لا يمنع
المسلمين من بذل المال لأنهم يعتقدون أن الإنفاق على هذه المدافعة هو أفضل ما
ينفق فيه المال. وأجل منافع هذه السكة الحديدية هو كونها تستهل الدفاع عن
الحرمين الشريفين في الاستقبال فما بالك إذا اضطررنا إلى المدافعة في الحال. ولا
شك أن مولانا السلطان عبد الحميد كان ولا يزال صارفًا سياسته الحكيمة إلى تأييد
السلام، وأوربا الآن مشغولة بالصين فلنا فرصة يجب أن تنتهز لإتمام هذا المشروع
العظيم.
***
(المقطم والمشروع)
لجريدة المقطم مزية لا تشاركها فيها جريدة في القطر المصري وهذه المزية
تفيد خاصةَ المسلمين في المشروعات والمصالح الإسلامية، وربما أضرت ببعض
العامة وهي أنها تنشر الآراء الشاذة والأقوال التي تنافي المصلحة وإن كانت لا
تعتقد ذلك، وكثيرًا ما تصرح بعدم اعتقاد ما تنشر وتعتذر عنه بحرية النشر. وهي
لا تكاد تنشر ما ينافي خطتها الخصوصية في السياسة كسائر الجرائد السياسية في
العالم. ومن غريب الآراء السخيفة التي نشرتها في التنفير عن سكة الحديد
الحجازية رأي بعض المحرفين والمؤولين لكتاب الله تعالى بآرآئهم الزاعم أن القرآن
الكريم يدل على عدم وجود هذه السكة بقوله تعالى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27) وليس في الآية ما
يدل على حصر الإتيان بالمشي وركوب الضمّر، وإلا فالحصر منتفٍ بإتيان بعضهم
على غير الضُمّر من الإبل والبغال والحمير بل والخيل أيضًا وبما حكاه الله تعالى
من دعاء إبراهيم بأن يجعل الله الحرم آمنًا ويرزق أهله من الثمرات ويجعل الأفئدة
تهوي إليهم , وما أبعد فهم من يستدل بهذا على عدم وجود السكة الحديدية! !
والأقرب أنها تدل على وجودها ليكون دعاء إبراهيم مستجابًا على ممر السنين
وعلى أكمل الوجوه إذ لا خلاف في أن هذه السكة من أسباب الأمن وكثرة الثمرات
في البلاد الحجازية حيث تنقل إليهم عليها من الشام فانظر إلى هؤلاء المسلمين
الذين يؤولون القرآن بأهوائهم ويحرفون معانيه ليصرفوا المسلمين بجهلهم عن هذا
العمل النافع.
هذا ما قاله الهزاع وتلاه المذاع (الذي لقبه المقطم بالعالم الفاضل) فكتب
مقالة في المقطم سلك فيها مسلكًا آخر من التنفير عن المشروع النافع فزعم أن
المرغب فيه والمعظم لشأنه يبغض السلطان لأن المشروع بحسب زعمه لا يتم
ومتى انقطع الأمل منه تكون كراهة الناس للسلطان بقدر اعتقادهم بعظمة المشروع
فعلى هذا تكون محبة السلطان بالإخلاص محصورة بمن يقبح المشروع ويحقره
وينفر عنه، وهُم الهزاع والمذاع والمقطم وجريدة أخرى لا نذكر اسمها.
ومن عجيب أمر المذاع أنه زعم أن المسلمين يعتقدون أن بلاد الحرمين
محفوظة بالملائكة فلا يجب الاستعداد للمدافعة عنها. قال هذا غشًّا للمسلمين , وهو
لا يعتقده لأنه قرأ قولنا أن الكعبة هدمت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم
أيضًا أكثر من ذلك , ومنه أخْذ القرامطة للحجر الأسود وبقاؤه عندهم زيادة عن
عشرين سنة وربط الخيول في الحرم النبوي الشريف وغير ذلك. وتعبير المقطم
عن صاحب الآراء بالعالم الفاضل يوهم العامة أنه من علماء الدين الإسلامي وليس
منهم في شيء ولو صرح باسمه لانهالت عليه الشتائم واللعنات كما قال المقطم إذ
ينضم إلى سوء قوله معرفة الناس بسوء نيته وخبث طويته على أنهما ظاهران من
قوله.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
***
(الأمانة)
لا يزال الناس بخير ما وجد فيهم الصدق والأمانة والمروءة. وإننا نسر أن
نرى هذه الصفات الجليلة من الطبقات الوسطى والدنيا من أمتنا، فقد سقط من منشئ
هذه المجلة حافظة ورق (جزدان) فيها أوراق مالية بمبلغ يزيد على عشرين جنيهًا
وأوراق مهمة أخرى فوقعت في يد أحمد أفندي موسى , وهو تلميذ في المحافظة
الآن ومتعلم في المدرسة العثمانية , ومحمد علي البيطار في باب الخلق، فلما وجد
الأفندي المذكور اسمي على الأوراق سعى هو ورفيقه إلي من ساعتهما وأعطياني
الحافظة فشكرًا لهما وأكثر الله في الأمة من أمثالهما.
***
(أمنية)
لو أن مولانا السلطان الأعظم يجعل كل نجل من أنجاله الكرام ريئسًا للجنة
إعانة السكة الحديدية الحجازية في قطر من الأقطار الإسلامية لكان هذا من الأسباب
التي تنمو بها التبرعات نموًّا عظيمًا لا سيما إذا سافر أولئك الأمراء العظام إلى تلك
الأقطار , ولا شك أن تشريف واحد منهم إلى مصر يجعل التبرعات فيها أضعاف ما
ننتظر الآن.
__________(3/357)
11 ربيع الثاني - 1318هـ
8 أغسطس - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محبة الله ورسوله
في إعانة السكة الحديدية الحجازية
حب الله ورسوله - معناه ودليله وعلامته: بذل المال والنفس في سبيل الله.
سخط الله على من يبخل بذلك. سكة حديد الحجاز: المدافعة في الجهاد أشد وجوبًا
من المهاجمة.
بعض فوائد السكة: هي سنة حسنة سنها السلطان ومن أعان عليها فهو
شريكه في الأجر. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) للحب أنواع كثيرة وضروب شتى أعلاها حب
الله ورسوله لأنه غاية كمال الإيمان الذي هو مشرق أنوار التهذيب ومنبع مكارم
الأخلاق وروح الفضائل الصورية والمعنوية، أرأيت كيف جعل الله سبحانه وتعالى
شدة حبه مقرونة بالإيمان الذي هو مصدرها حيث قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) .
وإن ترتيب الحكم على المشتق يؤذِن - كما قالوا - بعلية الاشتقاق. وقد
ورد في الحديث المشهور (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن
عداهما) وفي حديث آخر: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله
ومن نفسه التي بين جنبيه) أو كما ورد.
فما هو حب الله ورسوله؟ وما علامته وما دليله وبرهانه؟ الجواب عن
السؤال الأول هو ما يرشدنا إليه قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31) وفي هذا
المعنى قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وأما علامة هذا الحب ودليله فهو الاهتمام بما يرضي الله ورسوله من جميع
الطاعات , فكيف بالطاعة التي هي مختصة بحفظ بيت الله وقبر رسوله عليه أفضل
الصلاة والسلام؟ فكيف بالطاعة التي تسهل على عباد الله تعالى حج بيته وزيارة
رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فكيف بالطاعة التي يتفرع عنها من الطاعات
والحسنات ما لا يحصى ولا يحصي ثوابه إلا الله سبحانه وتعالى وهو الذي بجزي
عليه الجزاء الأوفى؟
وأكبر علامات حب الله ورسوله بذل المال والنفس في طاعتهما ومرضاتهما
لأن المال والنفس أعز الأشياء على صاحبهما في حياته الدنيا فهو بالطبع لا يبذلهما
إلا فيما هو أعلى عنده منهما شأنًا وأرفع مكانةً , فمن يبخل بماله أو بنفسه في سبيل
الله فهو مفضل لهما على الله ورسوله ومهدد بالسخط والمقت والعقوبة وحرمان
الجنة والنعيم لأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة , وأمر من
قبل هذا الشراء بالوفاء , ولا شك أن كل مؤمن يقبله بل هو عنده أعز الأشياء
وأنفسها.
نحن الآن لا ندعو إلى بذل الأنفس وإنما ندعو إلى بذل شيء مما أنعم الله به
من المال في حب الله ورسوله وخدمة حرميهما مهبطي الوحي ومعهدي الدين القويم
فأي مؤمن يبخل بماله في سبيل الله؟ {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ
وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) .
أي مؤمن يبخل ببعض ما أنعم الله عليه في سبيله ويتعرض لسخطه وعقوبته
في قوله عز من قائل: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) ولا شك
أن إعانة مشروع السكة الحديدية الحجازية من أسباب سهولة الدفاع عن الحرمين
الشريفين إذا أراد العدوّ بهما سوءًا، ولا فرق في الجهاد بين أن يكون مهاجمة أو
مدافعة إلا بما تكون به المدافعة أشد وجوبًا وأقدس عملاً. ومن يقول أن دفع الخطر
وابتغاء الخطر (هذا بمعنى الشرف) في مرتبة واحدة , والشرع والعقل متفقان على
أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟
هذا وليست منفعة السكة الحجازية محصورة في الاستعداد لدفع الخطر ودرء
المفاسد , بل إن فيها من المصالح والمنافع الكثير الجم , وناهيكم بتسهيل أداء
فريضة الحج على إخواننا المسلمين الذين يقاسون من سوء معاملة الإفرنج في
السفن البحرية والمحاجر الصحية ما يقاسون. ويلاقون من تعدي العربان في البر
ما يلاقون , وهذه السكة تذهب بهذه النكبات وتزيل هذه المضرات.
الساعي بالخير كفاعله , وقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره:
(من سن سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة , ومن سن
سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهذه السكة الحديدية
سنة سنها مولانا الخليفة والسلطان الأعظم وكل من أعان عليها فهو من أسباب
وجودها لأنها لا تتم إلا به فهو شريك في ثوابها فبادروا رحمكم الله إلى هذا الخير
العظيم والأجر الكبير {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً} (المزمل: 20) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(3/361)
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
__________
الشعر العربي
لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى أفندي الرافعي
ضربت العرب في الشعر كل بسهمه فمخطئ ومصيب حتى ملأوا بقاع
الأذهان حكمة وغرسوا في الأفكار فسيلة الخيال فإذا هي شجرة طيبة أصلها ثابت
في الجنان وفرعها في اللسان تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ظلُّوا سائرين بعد
ذلك في أنجاد وأغوار بين إرقال وإيضاع حتى إذا أخذت الأفكار زخرفها من تلك
الوهاد وأصبح أهلها قادرين عليها ارتفعوا بشعرهم. فمن باسط يده لشهب السماء ,
ومن قابض بأنامله على كواكب الجوزاء , ومن سابح في البحار إلى سائح في القفار
وفي كل ذلك منهم قاصر ومجيد.
لقد صح للعرب وذلك مبلغهم من العلم أن يقولوا: إن الشعر يرفع ويضع
ويضر وينفع. وليس بعيدًا أن يعلو بقوم وينزل بآخرين ما دامت الأسماع على
الأفواه تلتقط الكلمة يطرحها الشاعر من بين شفتيه فإذا هي في أنحاء البلاد جارية
على ألسن العرب مجرى الماء العذب.
روى لنا التاريخ في أصل ضعة بني أنف الناقة وخمول ذِكْرهم ونَبْزهم بهذا
اللقب أن أبا أنف الناقة كان له جملة من الولد مختلفات أمهاتهم وكان أنف الناقة
واحدَ أمِّه فنحر يومًا ناقة وقال لولده: اذهبوا فاقتسموها فتباطأ أنف الناقة حتى لم
يبق منها إلا رأسها فذهب ليأخذه وأدخل ذراعه في أنفه واحتمله فقيل له: أنف
الناقة , وعير بذلك فلما قال في مدحهم الحُطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسَوي بأنف الناقة الذنبا
علا قدرهم وارتفع ذكرهم وصار اللقب مفخرهم بعد أن كانوا ينتسبون إلى
مختلفين من الأجداد مخافة أن يعيروا بذلك اللقب الشنيع.
وكانت نمير من أعز القبائل حتى اشتهرت بجمرة العرب لقصر أنسابهم عليهم
إذ ليس فيهم دخيل فهم لا يُخْرِجُون من نسائهم لغيرهم , ولا يُدْخِلُون من رجال
غيرهم على نسائهم وحتى كانوا إذا قيل لأحدهم: ممن الرجل؟ قال: نميري
مفخمة يملأ بها فاه , فلما قال جرير يهجو الراعي:
فغُض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
ذل هذا الاسم واتضع وانتسبوا بعد ذلك لجد أعلى منه , فكان واحدهم يقول
إذا سئل الانتساب: (عامري) تاركًا منتسبه الأول من ورائه ظهريًّا.
تلك حالة الشعر والشاعر أيام كان الأول تارة كالنجم الزاهر , وآونة كالسيف
الباتر , ومرة كالعقاب الكاسر وطورًا كالليث الخادر، وأيام كان الثاني في رصانة
النظم عالي الذكر جليل القدر يثور بمقوله كالأسد بمخلبه فتخشاه القبائل وتخافه
العشائر.
بهذه الثياب الطبيعية التي كان يلبسها الشاعر حينًا فحينًا وبذلك الباتر العضب
الذي ابتز به تلك الثياب لم يغادر الشعراء من متردم. فخلف من بعدهم خلف
أضاعوا المقصد وأضلوا المورد فظلعوا كالضبع على بعد المزار حتى بلغوا من
البحر نجعة فلزموها يرددونها في أفواههم ترديد الصبي لعابه حتى انقلبت فقاقع
يغرهم فيها قول الناس: إنها الماء الزلال أو السحر الحلال.
ذلك مورد الشعر في عصوره الأولى بل والوسطى أيام كان يفيض عن ألسنة
الفرزدق وجرير وأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء والشريف ومهيار
ومن كان من هذه الطبقة. أما وقد حملت الأرجل بعدهم أناسًا لا ألسنة لهم إلا
صحف أسلافهم يقطعون من مشتجرها أشجارًا ويجنون من حدائقها ثمارًا زاعمين
أن الغراس بأيديهم والمراس بأنفسهم والشجرة لم تثمر إلا بعد أن سقوها من عرقهم
كالسيل المنهمر فاهتزت أرضها وربت وأنبتت من كل زوج بهيج- فليس الشعر إلا
شعيرًا وليس الشاعر إلا ناعرًا.
أولئك الزعانف الذين جعلوا الشعر تجارة وليتها لم تكن بائرة واتخذوا النظم
صفقة ولكنها خاسرة، قد ركبوا من المقت سفنًا , وقذفوا بأنفسهم في بطونها كما يقذف
بالطير في القفص مجذوذًا جناحه فلا طير ولا ارتياش حتى انكدرت نجوم الشعر
وكسفت شموس أهله.
حسبوا أن الزمان من صباه إلى هرمه لم يكن في عمرانه غير الطلل البالي
والمنزل الخالي، فهم يسلمون عليه ويبكون لديه حتى تسيل المحاجر السود على
الخدود الصفر فتجري الشئون الحمر كالأنهار على ظهر القفار كل ذلك والشاعر
يقول: إنه غرق بدمعه وعميت عليه غياهب القضاء حتى ضاق بعينيه الفضاء وأنه
استبسل للمقدور واستسلم للمحذور , وفي كل هذه المصائب التي يذكرها تجد قلمه
في يديه وقرطاسه أمام عينيه وهو يفكر ويسطر ولا طلل ولا بكاء ولا محذور ولا
قضاء ولا قفار ولا أنهار ولا جبال ولا تلال ولا ظباء نافرة ولا أسود كاسرة ولكنه
الخيال يدع الأرض سائرة والجبال مائرة والأمور تتقلب في الأفكار كتقلب الليل
والنهار على حين لا طائل تحت ذلك ولا جدوى من ورائه. وحسبوا أن ليس في
الأرض غير العقيق والجزع والمفازة والدهماء والأجرع والجرعاء والهوجاء
والهيجاء والبان والسلم والكثبان والعلم، وهم يرون بأعينهم القصور الشامخة
والمصانع الباذخة والعمران في نضارته والإنسان في غضارته والبحار وما فيها
والبخار وما يعمله والكهرباء وما تصنعه. وكل هذه الآيات البينات لا تثنيهم عن
تلك الرسوم الدارسات.
قال ابن رشيق: خولفت العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق منه
وأمس بالوقت وأليق بأهله؛ فإن القينة الجميلة لم ترض أن تشبه نفسها بالذباب كما
قال أبو محجن:
ترجع الصوت أحيانًا وتخفضه ... كما يطير ذباب الروضة الغرد
وطرز قوله ذلك ابن حجة بقوله: والعرب عذرها واضح في ذلك فإنه لم
يسعها أن تذكر غير ما وجدته في المهامه المقفرة من الذباب والأساريع وشجر
الأسحل وما أشبه ذلك ومن أين للعرب أن تقول كقول ابن المعتز في الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وهي عن الزورق والعنبر وعن كثير من ذلك بمعزل.
وأين وصف عنترة لروضته بالذباب والزناد الأجذم في قوله من المعلقة:
وخلا الذباب بها فليس بنازح ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذارعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
من وصف العلامة يحيى بن هذيل المغربي لروضته الأريضة حيث أتى
ببديع الغريب وقال:
نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى
أما تشبيه عنترة فإنه معدود من التشابيه العُقم، غير أن عقادة التركيب في تقديم
الألفاظ وتأخيرها أسفرت عن أقطع يحك ذراعه بذراعه.
وأين قول امرئ القيس في تشبيه الأنامل
وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك أسحل
من قول الراضي بالله:
قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتقلن خضابا
فكأنها بأنامل من فضة ... غرست بأرض بنفسج عنابا
ولو شئنا لأتينا على كثير للعرب مما يجب أن يرغب عنه ولكنه قتل للوقت
فيما لا طائل تحته وفي هذا بلاغ.
يقول الخليل: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاءوا، جائز لهم
فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تسهيل اللفظ وتعقيده. ليت
شعري أين كان الخليل وأين كان ذكاء الخليل؟ ولكن عذره أن عصر العرب
القدماء كانت رنته تجول في أفكاره فسكر بسلافتهم وأخذ بما أخذوا به من تسهيل
وتعقيد وإطلاق وتقييد حتى وضع العروض على طول كلامهم واختط البحور من
مواردهم ومصادرهم , فعذره عذر من وصف الحسناء بالذباب، والأنامل بالأساريع
ومساويك الأسحل. ولكني أقول: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف
شاءوا جائز لهم في النظم ما لا يجوز لغيرهم في النثر ما دام كلامهم لم يتجافَ عن
مضاجع الرقة جنبه حتى يكون سهلاً ممتنعًا كالماء السلسل يتجرعه الشارب فيسيغه.
وفيما أرى أن سالك تلك السبيل الأولى والناسج على ذلك المنوال القديم الذي
حطمته الأزمان لا حظ له في اسم الشاعر ما دام قلمه مغزلاً وغزله كالعهن المنفوش.
دخل أبو العتاهية على عمرو بن العلاء فأنشده بعد قليل من أبيات الغزل:
إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... تخذوا له حر الخدود نعالا
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسبًا ورمالا
فإذا وردن بنا وردن خفائفًا ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا
فأعطاه سبعين ألفًا وخلع عليه حتى لا يقدر أن يقوم فغار الشعراء لذلك
فجمعهم ثم قال: يا معشر الشعراء عجبًا لكم ما أشد حسدكم بعضكم بعضًا إن أحدكم
يأتينا ليمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته بخمسين بيتًا فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة
مدحه ورونق شعره وقد أتانا أبو العتاهية فشبب بأبيات يسيرة ثم قال ... وأنشد
الأبيات المذكورة فما لكم منه تغارون؟
وجماع القول في الشعراء أن لا يخرج الشاعر عما يعهده القوم حتى يصادق
الخُبرُ الخَبر. فإنه من العبث أن يسير الإنسان قابضًا بيده على زمام بعيره ناظرًا
إلى مناسمه ونسوعه وما يسير فيه من السباسب والفدافد والضحاضح وما يتبع ذلك
من الجنان وانصداع الفجر والتهجر والآل إلخ آخذًا في ذلك بأزِمّة الخيال يصف
كيف شاء سائرًا في أي طريق فبينما هو على بعيره في نجد إذا هو أمامه في تهامة
إذا هو خلفه في العقيق إذا هو في الحصيب. أمكنة لا يعرفها ولم يكن رآها حتى
يكاد شعره يكون عند قومه من اللغات الأجنبية.
ذكر صاحب الأغاني: قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر
الناس؟ قال: من إذا شئت لعب , ومن إذا شئت جد , فإذا لعب أطمعك لعبه فيه ,
وإذا رمته بعد عليك وإذا جد فيما قصد له آيسك من نفسه , قال: مثل من؟ قال:
مثل جرير حيث يقول إذا لعب:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ثم قال حين جد:
إن الذي حرم المكارم تغلبًا ... جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلَي قطينا
مثل هذا يكون أشعر الناس في عصرنا لو تبع جده ولعبه في وصفيهما باقي
شعره في مذاهب الشعر العربي وعلى هذا المنوال فلينسج الشاعرون.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/364)
الكاتب: الكاظمي
__________
القسم الثالث من قصيدة الكاظمي
في الفخر
تخلى لكم من لو عصفتم بحده ... رأيتم إذن عضب الشباكيف يقطع [1]
وحل بكم من لو علمتم محله ... علمتم إذن بدر السما أين يطلع
فإن الذي في الكون عنه مفرق ... وإن الذي في الكون فيه مجمع
فلا يملك العلياء إلا سميذع ... وها أنا ذاك الأريحي السميذع [2]
نزعزع أبطال الوغى لو تحركت ... يراعة فكري لا الوشيج المزعزع [3]
ويسكرني والبيض تعسف بالطلا ... نجيع الهوادي لا العقار المشعشع [4]
وكيف أخاف الخطب يسود ليله ... وأسياف عزمي في دجى الخطب لمع
فكم غمة كشفتها وعظيمة ... تسنمتها والليل أسود أسفع
وحادثة قصرتها بعصابة ... تطول لهم في الروع بوع وأذرع
تطلعت منها كل دهياء أزمة ... كأني فيها الأرقم المتطلع
فقل للعِدا تختر لها أي ميتة ... فسيفي بألوان المنون مرصع
وهاك لسيفي الذكر في كل وقعة ... وهل يخلُ من آثار سيفي موقع [5]
ورُب سعاة أسرعت خطواتهم ... ففات مساعيها المشيح السرعرع [6]
ترنا لدى التمثيل سيين خلقة ... ولكن حفظنا المكرمات وضيعوا
لئن يرثوا أو يعجلوا لي سجية ... فلا تتوانى بي ولا تتسرع
ولي من وراء الغيب عين تدلني ... على المنهل العذب الذي ليس يشرع [7]
أرى كل تلعاء متى شئت جزتها ... وخلفت دوني كل من يتتلع [8]
ويا رب قوم غرهم نوم جمعنا ... وأغراهمو ذاك العديد المجمع
يخالون أن الطود يؤلمه الحصا ... وأن السبنتى بالنباح يروَّع [9]
وما علموا إذ يمموا الغاب خدعة ... يكون وراء الغاب ليث مخدع [10]
فجاءوا إلى الإسلام يعترضونه ... سفاهًا فشاموا أن واديه مسبع
سعوا بضلالات فخيب سعيهم ... أخو الرشد محمود النقيبة أروع [11]
فردُّوا عن الإسلام ميلاً رقابهم ... وجيد بني الإسلام أجيد أتلع [12]
وأقسم أني لو شحذت مقالتي ... لراح بها هانوت وهو مبضع [13]
ولكنني أغضي احتشامًا وقدرة ... وعندي من القول الطرير الملمع [14]
ونحن بنوا لبيض المصاليت في اللقا ... إذا مصقع منا جثا قام مصقع [15]
دعوا كل هياب يحكك نفسه ... بكل شجاع عله يتشجع
وخلوه ينهض بالذي لا يطيقه ... كما ناء بالعبء الأجب الموقع [16]
ولا تحسبوا نوم الشريف على القذا ... يدوم ويهنا في الزمان الموضع
فإن أسود الغاب تغضي ملاوة ... فتعسل سِيد في الفلاة وأضبع [17]
وإن هي هبت لا تدع من ورائها ... مهبأ ولا قدامها من يجعجع
فبشرى لنا والبشر للدار بعدنا ... إذا ما بها قام العماد المرفع
__________
(1) عصفت الحرب بالقوم: أهلكتهم , وعصف الدهر بهم: أبادهم , وليس بظاهر في البيت، والشبا جمع شباة وهي الحد.
(2) الأريحي بفتح وسكون: الواسع الخلق , والسميذع بفتح السين والميم والذال المعجمة: السيد الكريم والشجاع والرجل الخفيف في حوائجه.
(3) الوشج: الاشتباك , والوشيج اسم منه يطلق على عروق الشجرة المشتبكه كعروق القنا وعلى اشتباك القرابة , ثم انتقلوا من إطلاقه على شجر الرماح لإطلاقه على الرماح نفسها يقال: (تطاعنوا بالوشيج) والمزعزع بفتح الزاي: المحرك تحريكًا شديدًا.
(4) الطُلى بالضم: الأعناق واحده طلية وقيل: طلاة , والنجيع: الدم الضارب إلى السواد , وقيل: دم الجوف خاصة , والهوادي: الأعناق واحده هادية , والعقار بالضم: الخمر , والمشعشع: الممزوج، وأما عسف السيوف بالطلى فلم أره في ثلاثي هذه المادة.
(5) سيأتي الكلام على هذا البيت وغيره في الملاحظة التي ننشرها في العدد الآتي.
(6) المشيح اسم فاعل من أشاح بمعنى جد واجتهد والمقبل عليك , والسرعرع: الشاب اللدن الناعم.
(7) يُشرَع: ماض مجهول من أشرع فلانًا الماء: أورده إياه وأخاضه فيه , ويقال: أشرعه فيه.
(8) التلعاء: المرأة الطويلة القامة أو العنق , ويظهر أن مراد الشاعر التلعة وهي ما علا من الأرض , ولا أعرف أنهم سموها تلعاء , ويتتلع يمد عنقه للقيام.
(9) السبنتى: لم أجد هذه الكلمة ولا أذكر أنني رأيتها في غير هذه القصيدة , والمسبنتى والمسبنتأ: من كان رأسه طويلاً كالكوخ.
(10) المخدّع: المجرب لأنه خدع مرارًا.
(11) النقيبة: النفس والطبيعة والعقل ونفاذ الرأي , والأروع: من يروعك بشجاعته أو بجماله , ولا يصدق هذا إلا على ذلك الإمام العظيم الذي رد على هانوتو ذلك الرد الحكيم.
(12) الأتلع: الطويل.
(13) المبضع: المقطع، وما كان أحوجنا إلى تلك المقالة وشحذها فعسى أن يبرزها الشاعر.
(14) الطرير: ذو المنظر والرواء وسنان طرير أي محدد ولعل التجوز فيه.
(15) المصاليت: الشجعان , والمصقع: البليغ أو من لا يرتج عليه إذا خطب ولا يتتعتع إذا تكلم.
(16) الأجب: البعير المقطوع السنام , والموقع: البعير الذي تكثر عليه آثار الدير وهي (بالتحريك) القروح التي تحدث في الدواب من الرحل ونحوه.
(17) الملاوة: البرهة من الوقت , والسيد بكسر المهملة وسكون الياء الذئب , والأضبع: جمع ضبع يقال: عسل الذئب (كنصر) إذا اضطرب في مشيه وهز رأسه من مضائه.(3/374)
الكاتب: كمال الدين المرغناني
__________
قصيدة الجزائر
أومأنا في جزء مضى إلى أنه جاءنا قصيدة من بعض أدباء الجزائر في مديح
فضيلة مولانا الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية ,
وصاحب القصيدة هو الفاضل السيد كمال الدين مصطفى المرغناني وهاؤم نموذجًا
منها:
هل من طريق إلى مصر وأزهرها ... أم هل وصول إلى الأستاذ مفتيها
محمد عبده فذ المشارق بل ... شيخ المغارب دانيها وقاصيها
ركن الحنيفية البيضاء حجتها ... صدر الشريعة كهفها وحاميها
حكيم أمتنا العظمى ومرشدها ... إلى سبيل الهدى حقًّا وداعيها
وملجم السفهاء من حواسدها ... ومفحم الخصماء من أعاديها
أحسن برد له شفت قواطعه ... وأين منه الدراري في مساريها
تصنيف توحيده لله منزعه ... أغنى عن الكسب ماضيها وآتيها
ونهج تقريره كم فيه من حكم ... بها المحاكم قد نالت أمانيها
ثم نوه بفصاحة الممدوح وبتفسيره للقرآن الكريم وختم القصيدة بقوله:
مواهب خص من دون الفحول بها ... سبحان مانحها سبحان موليها
بشرى لكم معشر الإسلام فابتهجوا ... بطب أدوائنا طرًّا وشافيها
والله والله والله لرؤيتُه ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها
__________(3/377)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال الثاني عشر
بمدرسة ديروط الخيرية
احتفل في 27 ربيع الأول (24 يوليه) بهذه المدرسة تحت رئاسة صاحب
العزة مصطفى بك ماهر وكيل مديرية أسيوط وكان الاحتفال حافلاً حضره حكام
المركز ووجهاؤه , وكان رئيس لجنة الامتحان حضرة الفاضل محمد بك أمين ناظر
مدرسة أسيوط الأميرية , وقد بدئ الاحتفال بتلاوة آي القرآن العزيز وتليت فيه
الخطب وأنشدت القصائد. ثم سئل التلامذة في علوم اللغتين العربية والإنكليزية
وسئلوا في التوحيد والتاريخ والحساب وتقويم البلدان والأشياء (المحسوسات من
العلوم الطبيعية) فسمع الحاضرون من حسن الجواب ما سر به أولو الألباب.
وقد استلفت الأنظار واسترعى الأسماع التلميذ النجيب عثمان أفندي فريد نجل
الفاضل أحمد أفندي فريد مهندس المركز حيث فاه بخطاب أحسن فيه الأداء ما شاء
الإحسان , حتى صفق له النادي، ولو أمسك أهله لصفقت الجدران , ثم تلاه تلميذ
آخر فألقى خطبة مفيدة تلقتها النفوس بالقبول- ذكر فيها أنه كان تلميذًا في مدرسة
الأميركان وكانوا يجبرونه على تعلم الديانة النصرانية لأن تعليمها إلزامي , وقال:
إن الذي اضطره وأمثاله للدخول في هذه المدرسة وغيرها من المدارس الأجنبية إنما
هو تضييق الحكومة على مريدي الوصول في مدارسها. قال: (يضيق صدري
ولا ينطلق لساني فإن التعليم في المدارس الأميركانية والقبطية والفرنساوية ظاهره
التهذيب لأبناء الوطن وباطنه صبغ أبناء المسلمين (وبناتهم أيضًا) بصفة دينهم ,
ولكن لاضطراري أنا وأمثالي ولتقاعس المسلمين والحكومة عن تعليمنا الواجب
ننتظم في سلكها. والحمد لله على نجاتي من ورطة الزيغ إلى عالم الإيمان والنور
على يد حضرة الفاضل سيدي محمد عارف أفندي مدير هذه المدرسة- فلحضرته
الفضل ولحضرة الفاضل محمود بك شاهين رئيس الجمعية , وليست هذه بأولى
فضائلهما بل أخرجا كثيرًا من أمثالي من عدة مدارس قبطية، وأميركانية - إلى أن
قال -: ولعدم تعصب هذه المدرسة قد أقبل عليها جميع الطوائف من كل مكان)
إلخ.
ثم مثل التلامذة رواية مبتكرة اسمها (نصر الوطن) ثم ختم الاحتفال بتلاوة
القرآن الكريم والدعاء لمولانا السلطان الأعظم وعزيز مصرنا الخديوي المعظم
فجزى الله مؤسسي هذه المدرسة ومديرها وأساتذتها أفضل الجزاء وكثر في الأمة
من أمثالهم. ولولا ضيق نطاق الصحيفة لنشرنا قصيدة الأستاذ الشيخ سيد فرج أحد
أساتذة المدرسة ومكاتبنا، أو ملخص خطبة حضرة الفاضل الشيخ محمد حافظ
عارف الارتجالية.
__________(3/378)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(الدليل الصادق على وجود الخالق وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري
الخوارق) لمؤلفه الفاضل الشيخ عبد العزيز جاب الله.
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب ويشتمل على 341 صفحة مطبوعًا طبعًا
حسنًا وفيه ستة مباحث:
(1) النظر في الحيوان.
(2) النظر في النبات.
(3) النظر في الأفلاك.
(4) الرياح.
(5) السحاب والمطر وما يتبعهما.
(6) الأرض وما فيها.
وفي كل مبحث من هذه المباحث مطلبان أحدهما في كيفية النظر في هذه
الكائنات للاستدلال بها على الصانع المختار , والثاني في كيفية التفكر فيها على
مقتضى ما تدل عليه الآيات القرآنية، إلا مبحث الأفلاك والكواكب فإن فيه أربعة
مطالب بزيادة مبحث في كيفية ترتيب الأفلاك والكواكب وصورها وحركاتها،ومطلب
في النظر، والتفكر في الليل والنهار , والكتاب يباع في مكتبة (دار الترقي) وغيرها
وثمنه عشرة غروش , فنحث القراء على اقتنائه ومطالعته.
***
(نهضة الأسد)
أهدانا صديقنا الكاتب الفاضل فرح أفندي أنطون منشئ الجامعة جزءًا من
قصة بهذا الاسم معربة بقلمه , وهي من تأليف القصاص الشهير إسكندر دوماس
الفرنساوي. وهذه القصة تشرح الحركة الفكرية الذي كانت سارية في الأمة
الفرنسوية قبل الثورة وروح الاستياء والانتقام من الحكام الظالمين والملوك الجائرين
الذين كانوا مستعبدين لها , وتذكر مبادئ الثورة الهائلة التي كانت مبدأ الانقلاب
العظيم في أوربا , وقد كانت تنشر في الجامعة ولا نقرأها فلما قرأنا الجزء الذي
جمع وطبع على حدته استحببنا تتبع القصة في المجلة. فنحث الذين يحبون
الاعتبار بأحوال الأمم مع الفكاهة واللذة أن يقرأوا هذه القصة وثمنها عشرة غروش
أميرية.
****
(رسالة البيان)
في رد جناية اليد واللسان عن مقام مولانا السلطان
وهي جواب عن سؤال يتعلق بحزب تركيا الفتاة ودعوته للإصلاح تأليف
حضرة داغستلي شمخان زاده عبد الله بك الشهير. صدرت هذه الرسالة وأهديت
إلينا نسخة منها فتصفحناها فإذا هي عذبة العبارة لطيفة الإشارة حسنة البيان قوية
البرهان. وقد سرني جدًّا أنني رأيت نحو نصف الرسالة منقولاً من (المنار) باللفظ
والمعنى , ولكن المؤلف لم ينسب إلى المنار شيئًا من ذلك ولا نعتقد أنه يقصد بذلك
هضم حقنا , ولكن نقول: لعل له عذرًا، فإن للمنار أعداء يسمون مدحه للسلطان
الأعظم ذمًّا ونصيحته غشًّا وخديعة , وحسب المنار شعور صاحبه بالإخلاص وشهادة
قارئيه له من أفاضل الأمة بالخدمة الصادقة اقرأ من (رسالة البيان) ما بين الصفحة
44و89 تعلم أن جميع ما هنالك مأخوذ من المنار بحروفه , واقرأ الخاتمة التي بحثت
عن الداء والدواء للأمة تجد ما بين الصفة 96 والصفحة 107 مأخوذ من المنار
بحروفه. وفيما عدا هذه وتلك كثير من كلام المنار مدغم في الكلام أو متضمن فيه
والرسالة كلها 116 صفحة.
فالحمد لله الذي جعل المنار موردًا للمدافعين عن الأمة وإمامها الأعظم السلطان
عبد الحميد أيده الله بنصره. وحسبنا هذا جزاءً في الدنيا على صدق الخدمة {وَمَا
عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .
__________(3/379)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(الأمنية)
تمنينا في الجزء الماضي لو جعل مولانا السلطان الأعظم أنجاله الكرام
رؤساء اللجان إعانة سكة الحديد الحجازية في الأقطار الإسلامية. وهي أمنية صادرة
عن قلب مخلص يهمه نجاح هذا العمل الشريف ويهمه أن يكون له أحسن الأثر في
تعلق قلوب إخوانه المؤمنين بخليفتهم وأميرهم الأكبر نصره الله تعالى. ولقد أصاب
ذكر الأمنية موقع الاستحسان من نفوس المصريين الصادقين والعثمانيين المخلصين
للدولة العلية فلهجت به ألسنتهم. ولكن الجواسيس السعاة الوشاة المحَّالين القتاتين
النمامين المذّاعين الكذابين الذين اعتادوا على قلب الحقائق وجعل الحق باطلاً
والحالي عاطلاً - قدروا على أن يستنبطوا من الأمنية سعاية غريبة الشكل والوضع
فكتب بعضهم إلى الأستانة شرحًا لها، واستخرج بزعمه مقاصد صاحبها وسيكون
جزاء هذا المحَّال المذاع كجزاء ذلك المحال الذي زعم أنه أبطل المنار ونسخ آيته من
الوجود ... فإن حبل السعاية مع الكذب والاختلاق قصير , وثوب الرياء والغش يشف
عما وراءه وستكون عاقبة الذين أساؤوا السوءى والعاقبة الحسنى للمتقين.
أين هذا مما كتبه رصيفنا العثماني الغيور صاحب جريدة الإخلاص الغراء من
التنويه بهذه الأمنية والاستدلال بها على إخلاص صاحبها للسلطان الأعظم ومن
موافقتنا عليها وجعل الأمنية اقتراحًا فهكذا يكون الذين يأخذون الأشياء بحقيقتها
ويقدرون الخدمة الصحيحة قدرها فجزاه الله خيرًا.
* * *
(بدعة قبيحة)
ما كان يخطر على بال أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن الاستهانة بالدين تصل
بأهله إلى أن يتعمد المنتسبون للإسلام تنجيس الجوامع التي تسمى بيوت الله تعالى
تشريفًا لها وتكريمًا وأن يبولوا بلا مبالاة على جدران المساجد التي أذن الله أن ترفع
ويذكر فيها اسمه. ولكن هذه الغاية من الضلال والاستهانة بالدين قد وصل إليها
بعض سفهاء المصريين، فإذا مر الإنسان بجانب جامع المرداني الذي يجدر بمصر
أن تفتخر به وتباهي غيرها من الأمصار الإسلامية يجد أن جدرانه لا سيما القبلي
منها تكاد تبلى من البول , ولا يسكن تلك الناحية إلا المسلمون فيما أعلم. هذا
الجامع العظيم الذي بعد ما كادت تندرس أطلاله حملت لجنة الآثار القديمة ديوان
الأوقاف على إصلاحه فخصص له اثني عشر ألف جنيه وهي لا تكاد تفي
بالإصلاح المطلوب , وقبل أن يتم تجديده أبلى البوالون ما تجدد منه ببولهم.
وليست هذه الشناعة مقصورة على هذا الجامع بل تتعداه إلى غيره من الجوامع
والمساجد المنحرفة عن الأسواق الغاصة بالناس , وقد خصصناه بالذكر لما له من
الشأن المخصوص وقد استلفتنا إليه بعض جيرانه من فضلاء المسلمين الذين
يحترمون دينهم أشد الاحترام.
ألا يعلم الذين يقترفون هذا المنكر القبيح بأن الفقهاء قد صرحوا بأن من يلطخ
المسجد بالنجاسة يحكم عليه بالردة والخروج من دين الإسلام , وأن المرتد تطلق
امرأته حتى إنه إذا تاب مما أوقعه في الردة وجدد إسلامه يجب عليه تجديد عقد
النكاح مطلقًا عند الحنفية وبشرط انقضاء العدة عند الشافعية؟ وإذا لم يجدد إسلامه
بالتوبة النصوح يموت على كفره، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في
مقابر المسلمين؟ وإذا كان هؤلاء لا حظ لهم من الإسلام، ولا قيمة لمعاهد الدين
عندهم، فيجب على الحكومة أن تردهم عن فعلتهم الشنعاء، وتعاقب من يرتكبها؛
لأن الله - تعالى - يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما ورد , ونستلفت إلى هذا
سعادة محافظ العاصمة الفاضل الهمام، ونرجو أن تبعثه غيرته الملية على أمر
الشرطة (البوليس) والحراس بمراقبة أولئك الفاعلين، والقبض عليهم ليكونوا
عبرةً لغيرهم.
* * *
(حكم عادل)
حكمت محكمة عابدين في جلستها المنعقدة في 26 ربيع الأول (23 يوليو)
تحت رئاسة القاضي الفاضل محمد بك عفت رئيسها حكمًا غيابيًّا على عبد الحليم
أفندي حلمي مراد وزوجته أم صلاح الدين باختلاس أعداد من المنار ملك صاحب
هذه المجلة محمد رشيد رضا وألزمتهما بإحضار النسخ المختلسة أو بثمنها المقدر
بخمسين جنيهًا مصريًّا وبالمصاريف وأجرة المحاماة.
* * *
(سخاء حاتمي)
تبرع الجواد السخي علي بك التونسي أحد عظماء تجار الطرابيش في
الأستانة العلية بمبلغ 110 ليرات لكل كيلو متر من سكة حديد الحجاز فيكون
مجموع ما تبرع به مائتي ألف وتسعة آلاف ليرة , وهذا هو الكرم الحميد , وقد
أنعمت عليه الحضرة السلطانية بالرتبة الأولى من الصنف الثاني فلمثله فلتكن
الرتب أكثر الله في الأمة من أمثاله.
* * *
(وفاة وتعزية)
توفي في أوائل هذا الشهر الطبيب النطاسي البعيد الصيت في البراعة
بالأعمال الجراحية الدكتور محمد دري باشا عن سبعين عامًا فأسف جميع الفضلاء
على فقده وعدُّوه خسارة وطنية كبيرة لما كان له من المكانة بحسن سلوكه ومكارم
أخلاقه فنسأل الله - تعالى - أن يحسن عزاء أنجاله ويجعلهم خير خلف له وأن
يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جنته.
__________(3/382)
21 ربيع الثاني - 1318هـ
17 أغسطس - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
نبذة ثالثة
السبب في تأخر الاشتغال بالعلم الدنيوي عن زمن الراشدين. العلم في الدولة
العباسية. من عضده في الشرق من دونهم. العلم في الأندلس وفي مصر. العلوم
الفلكية عند العرب. التنجيم والكهانة. السبب في اشتغال المسلمين بالتنجيم مع نهي
الدين عنه. العلم قبل الإسلام. الساعة الدقاقة. أخذ العلم للعمل. التحول بالعلم عن
العمل إلى النظريات وسببه. مشاهير الفلكيين. الاكتشافات والاختراعات
الإسلامية.
***
لا يظهر شيء في الكون إلا إذا وجد المقتضي لوجوده مع عدم المانع منه
والدين الإسلامي أعظم مقتضٍ للمدنية الحقة علومها وفنونها وأعمالها المادية والأدبية،
فأما آثاره الأدبية فقد وجدت بوجوده على أكمل الوجوه حتى إن المنتهين إلى
غايات المدنية الحاضرة لا يساوون بل ولا يقاربون أهل القرن الأول الإسلامي في
آدابهم الشخصية ولا الاجتماعية. وأما العلوم الرياضية والطبيعية واكتشاف أسرار
الكون وما يتبع ذلك من الأعمال المادية فلم تظهر في المسلمين إلا بعد تحقق الشرط
الآخر (عدم المانع) فإن المسلمين كانوا في أول ظهور الإسلام خصماء العالم
البشري الذين تصدوا لتهذيبه وترقيته وكانوا مهددين على حياتهم وجلين من انطفاء
نور دعوتهم، فلما أمن الخائف واطمأن الواجف واستقرت من الإسلام دعوته وعلت
كلمته ونفذت شوكته، انفتقت أرض العقول عن نبات ما بذره القرآن من بذور العلم
والعرفان. وقد سبق التنويه بهذا فلا نطيل به.
قام أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يستنهض الهمم ويستنزل الديم ,
ويبعث النفوس إلى إظهار استعدادها بكشف الحجاب عن وجوه مخدرات الطبيعة
وإفشاء أسرار الخليقة , واقتدى به الخلفاء من بعده إلى أن جاء المأمون فكان قطب
الرحا لتلك الحركة بل كان مدار فلك العلم ومطلع كواكبه ومشرق شمسه , وجرى
من بعده من العباسيين على آثاره ولكن بهمة أنزل من همته وحرارة أوطا من
حرارته ولم يضر هذا بالعلم لأن روحه فائضة من الإسلام نفسه , ولذلك بقي قائمًا
على صراطه بعد ما صاح صائح الفتنة بالدولة العباسية وزلزل الخارجون عليهم
ملكهم زلزالاً. نعم إنه كان تارة يسير الوجيف وتارة يتخزل تخزلاً بحسب ضعف
الفتن وشدتها. وكان طاهر بن عبد الله رابع ملوك الطاهرية الذين كانوا أول بلاء
على العباسيين وعضد الدولة وشرف الدولة من البويهية كل يأخذ بعضد العلم
ويمد إليه ساعد المساعدة. وكان شرف الدولة يتلو تلو المأمون في تأليف الجميعات
العلمية لترقية الفنون. ولا ننسى فضل ملكشاه ومحمد شاه من السلجوقيين وأشد ما
مر بالعلم الذي أنار مصابيحه العباسيون عاصفة فتنة التتار فهي التي تداعت لها
أركان مدرسة بغداد وكادت تطفئ كل هاتيك الأنوار. وما كان مثل العلم في الإسلام
إلا كمثل الماء الغمر المتحدر إذا غاض في مكان فاض في آخر , وإذا سدله مجرى
تحول إلى مجرى غيره، فلا تزول بالمرة أثباجه (مجاريه) ولا تنقطع أمواجه.
تحولت قوته من بغداد فأخذت ذات اليمين وذات الشمال وظهرت في دمشق الشام
وفي شيراز وسمرقند وغيرها من الأمصار الإسلامية حتى عم العرب والعجم فكان
من أنصاره التتار أنفسهم ولا ننسى أن العرب ينبوعه الأول ومنهم استقى واستمد
الآخرون.
تلك إشارة إلى شأنه في الشرق وما كان مغرب العالم الإسلامي بأقل من
مشرقه بهاء , ولا فيضانه أقل رِيًّا ورواء فإن العرب وخلفاءهم الأمويين في
الأندلس فجروا أرض الأندلس بالعلوم عيونًا وأنهارًا. ورفعوا للمعارف صرحًا
عاليًا ومنارًا. وأفاضوا على أوربا من شموسهم أنوارًا. فكانت أشبيليه وقرطبه
وغرناطه ومرسيه وطليطله مهبط أسرار الحكمة ومهد الآداب والصنائع. ولقد علا
مد العلوم ثمة ففاض على بلاد البربر فكان في طنجه وفاس ومراكش وسبته من
معاهد العلم ما سامى أصحابه علماء عواصم الأندلس.
وأما مصر وهي صدر البلاد الإسلامية في القديم والحديث فلم يكن حظها من
العلم بعيدًا من حظ الجناحين، فإن العبيديين فيها نصروا العلم نصرًا مؤزرًا فإذا كانت
دار الحكمة قد طفئت أنوارها وعفت آثارها فهذا الأزهر قد صابر الأيام وغالب
الأحوال والأعوام وبقي شاهدًا عدلاً وحكمًا فصلاً ينشد بلسان المعز.
تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
هذا مجمل من خبر مدنية العرب وإن أبيت إلا التفصيل فدونك منه جملاً.
***
العلوم الفلكية
كان عند العرب رشاش من معرفة الظواهر الفلكية مشوبًا بخرافات التنجيم
الموروث عن الأقدمين فحكم الإسلام بمحو ضلالة التنجيم فيما محاه من ضلالات
الكهانة والعرافة وأجاز ما عدا ذلك واستلفت الأنظار إلى الاعتبار به والاستدلال
على حكمة مبدعه ومدبره , ولكن التعليم إذا لم تتربَّ عليه الأمة بالعمل لا يقوى
بمجرد القول على استئصال الأهواء لا سيما إذا كانت موروثةً , وحب الإشراف
على ما في ضمير الغيب من الأسرار وما يجيء به المستقبل من الحوادث من أقوى
الأهواء البشرية وهو الذي فتن الناس بالكهان والدجالين واستعبدهم للعرافين
والمنجمين. لهذا ظل التنجيم في الإسلام مقرونًا بعلم الهيئة الفلكية ومن أسباب
ارتقائه على كثرة ما ورد في التنفير عنه. ومن أسباب تقدمه الحقيقية الاستعانة به
على معرفة سمت القبلة ومواقيت الصلاة , وقد جعل العرب كل واحد من هذين
علمًا مستقلاًّ بذاته عن سائر العلوم الرياضية.
لما ظهر الإسلام كانت العلوم والمعارف متلاشية عند جميع الأمم وكان في
النصارى بقية استعان بهم العرب على ترجمة كتب فلاسفة اليونان كأرسطوطاليس
وسقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم، وقد أحسن المهدي والرشيد
صلة هؤلاء المترجمين وأفاضا عليهم النعم , ثم وجد في المسلمين من يحسن
الترجمة ولم يكن أولئك المترجمون متمكنين من العلوم التي نقلوها إلى العربية ,
ولذلك وقع فيها الغلط الكثير فصححه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب كما
صححوا كثيرًا من غلط اليونانيين أنفسهم، وسنُلِّم ببعض ذلك في تضاعيف الكلام.
أول من نعرفه من النابغين في ذلك العصر من المسلمين (ما شاء الله) الفلكي
المؤلف في الإصطرلاب ودائرته النحاسية وأحمد بن محمد النهاوندي وأول من
أحسن الترجمة حجازي بن يوسف معرب كتاب إقليدس. تناول العرب هذه الكتب
من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من أعلاق الذخائر ومآثر الجيل الغابر ,
ومن كان عنده أثارة من علم فإنما هي لوك الكلمات وترديد العبارات , فكان من
بصيرة العرب أن يأخذوا العلم للعمل عملاً بالحديث الشريف: (من عمل بما علم
ورثة الله علم ما لم يعلم) ولذلك ظهر أثر العمل في عصر الرشيد وناهيك بالساعة
الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شرلمان ملك فرنسا ومصلحها وعظيم
أوربا لعهده , ففزع الأوربيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت
فيها الشياطين وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع.
ولو استقام العرب على هذه الطريقة لبارك الله لهم في ثمرة العلم وكان ذلك داعيًا
لاستمرار الترقي فيه , ولكن صدفت دون ذلك الصوادف وأهمها: مزج الدين بالعلم
وما تبع ذلك من المجادلات والمناظرات التي جعلت وجهة العلم نظرية محضة
فعقمت بعد النتاج وتحول كمالها إلى خداج.
واتل عليهم نبأ المأمون ورقيه بهذه العلوم والفنون. استخرج هذا الإمام لقومه
العلم من أثينا والقسطنطينية بما أحسن من الصلة بينه وبين ملوكها من اليونانيين
وأنفق بسعة على ترجمة الكتب التي اجتلبها من بلاد اليونان ومن بقاياهم في مصر
والإسكندرية فترجمت في عهده هندسة إقليدس، وتيودوس , وأبولوينوس
وإيسيقليس ومينيلوس , وشرحت مؤلفات أرشميه في الكرة والأسطوانة وغيرها ,
وألف يحيى بن أبي منصور زيجًا فلكيًّا مع سند بن علي , وكان هذا قد ألف أرصادًا
مع خالد بن عبد الملك المروزي في سنتي 217 و218هـ، وهذان هما اللذان
قاسا مع علي بن عيسى وعلي بن البحتري خط نصف النهار بين الرقة وتدمر ,
وألف أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب، وحسبوا
الخسوف والكسوف وذوات الأذناب وغيرها والسوادات التي بقرص الشمس
ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي وقدروا ميل منطقة فلك البروج وأصلحوا بأمر
المأمون غلط كتاب المجسطي لبطليموس الذي ترجم على عهد أبيه الرشيد , ورصد
أحمد بن محمد النهاوندي السماويات وألف أزياجًا جديدة ولخص محمد بن موسى
الخوارزمي للمأمون الأزياج الفلكية الهندية , ثم توالى البحث في الشرق مصحوبًا
بالاكتشاف والاختراع , وبرع في الفلك خلق كثيرون منهم محمد وأحمد وحسن أبناء
موسى بن شاكر الذين كملوا الزيج المصحح , وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس
في السنة الفارسية وحددوا ميل وسط منطقة البروج في مرصدهم (رصدخانه)
المبني على قنطرة بغداد , وعرفوا فيه فروق حساب العرض الأكبر من عروض
القمر , وعمل كبيرهم محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة استعملت إلى ما بعد
زمنه وعرب تلميذه ثابت بن قرة (المتوفى سنة 287هـ) كتاب المجسطي ثانية ,
وبين تصحيحات من تقدمه من عهد الرشيد لأغلاط بطليموس وزاد عليها ملاحظات
مفيدة , وممن ألف في الأرصاد والأزياج أبو العباس فضل بن حاتم النيريزي شارح
المجسطي، وقد صحح هذا أغلاطًا في أرصاد الفلكيين المتداولة إلى زمن المأمون ,
وبين في أزياجه الخسوف والكسوف ومحاق الكواكب السيارة وعمل بأزياجه من
بعده مدة قرن واحد , ومن أشهر فلكيي المشرق محمد بن عيسى المهاني ,
والبتناني الذي سماه الإفرنج بطليموس المسلمين (المتوفى سنة 317هـ) .
وهو الذي جمع كليات المعارف المكتسبة في عصره , وألف أربعة أرصاد
في الشمس والقمر ورسالة في الفلك ورصد السماء بالرقة , ومنهم علي بن
أماجور وأخوه، اللذان رصدا السماء وأَلَّفَا زيْجًا عجبيًا وبَيَّنَا طريقة جديدة
لاكتشافات فلكية وفروقًا ظاهرة في حساب حركات القمر كما حسبها اليونان والعرب
من قبل كما بينا أن حدود أكبر عروض القمر ليست واحدة دائمًا ثم جاء من بعدهما
أبو القاسم علي بن الحسين الملقب بابن الأعلم وعبد الرحمن الصوفي اللذين تعلم
منهما الفلك الملك عضد الدولة البويهي ونبغ في عصره وعصر أخيه شرف الدولة
(وقد مر ذكرهما) كثيرون لما كان لهما من العناية بتعضيد الفنون.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/385)
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
__________
الشعر العربي
تتمة
لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى صادق أفندي الرافعي
أما فنون الشعر فما زالت الأيام تلد أخًا بعد أخ من لدن امرئ القيس حتى
وقف أبو تمام في طريق أبنائها فقبض على عشر بأصابعه وقام عليها بحماسته
يعرفها الشعراء فلا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إلا ومنها في أذهانهم ما يفعله
شؤبوب الغادية بالروضة القحلاء وهنالك ضرب بينهم وبين معشش الأبناء (كذا)
بسد فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا.
بينما كان الشعراء في هذا القيد يهيمون في كل واد بين حماسة ومراثٍ وأدب
وتشبيب وهجاء وإضافات وصفات وسير ومُلح ومذمة الجنس اللطيف - كان عبد
العزيز بن أبي الأصبع يستنزل الفنون من شعف القلال إلى سهل الخيال حتى مثلت
لديه ثمانية عشر ليس وراءها مطلع لناظر. فجعلها غزلاً ووصفًا وفخرًا ومدحًا
وهجاءً وعتابًا واعتذارًا وأدبًا وخمريات وزهدًا ومراثي وبشارة وتهانيَ ووعيدًا
وتحذيرًا وتحريضًا ومُلحًا وبابًا مفردًا للسؤال والجواب. على أنه في ذلك لم يخل
من خطل في الرأي , أما وإن لكل من تلك المنازع طريقًا لا يجوزه الشاعر حتى
يتزود بعد إجادة الصناعة مع الأدب الحقيقي قول ابن رشيق المتقدم.
وإن لنكوص العمران على عقبيه تأثيرًا في أذهان الشعراء، فقد وجد منذ عنَّ
قريب فيما جاور البلاد العربية كبغداد والموصل وديار بكر وغيرها، شعراء لا
يميزهم عن أهل الجوابي والبضيع وحومل إلا ضعف الأسلوب، هذا ديوان الشيخ عبد
الغفار الأخرس لو بسط فيه النظر جناحيه حتى يجمع إلى أوله آخره ما خرج الفكر
بمعنى جديد على كثرة ما فيه من الأبيات.
ولقد بقي ذلك البرق يلمع حتى انخدع بخلبه شعراء اليوم في تلك الجهات
وأمثالها. وعجيب أن ينطق بلسانهم المصريون وأمامهم الغور الذي لا يدرك
والبحر الذي لا يخاض , وفي بلادهم ما يأخذ بمعاقد البيان ويغنيهم عن جرعاء
الحمى وحسك السعدان. انتشر في مصر الشعراء كالجراد المنتشر حتى لم تكن
سهمة أكثرهم (قسمته وحظه) من الشعر إلا كالهباءة في الأجواء الثائرة وكيف لا
يكون أكثرهم عالة على الشعر وأهليه والأدب ومنتحليه ما دامت البلاغة (خاوية
الوفاض بادية الانفضاض) .
أذكر أن ليلة جمعتني بعالم يدرس البلاغة فأخبرني أن له في الشعر يدًا وأن
هذا الفن من السهولة بحيث لا يعتبر كغيره من الفنون فحدا بي الشوق أن أرى ما
وراء كلامه فقلت له: إن رأى الأستاذ أن يجيز (ورد الخدود ودونه شوك القنا [1] )
فما هي إلا هنيهة جال فيها بخاطره ثم استرعى الأسماع واستفرغ الأفكار وظهر
عليه الطرب حتى خِلت أن مِن وراء استرعائه ما يُخجل أبا تمام وحزبه، فإذا هو
يقول:
ورد الخدود ودونه شوك القنا ... فذِ يا أخيّ فارحما
فوالله ما تصيب القنافذ بأشواكها ... ما أصاب منا شوك قنافذه
هذه نادرة لم يظفر ابن الأعرابي بمثلها ولم يكن في تاريخ الشعر العربي كله أحسن منها.
ولشد ما لقي الأدب من أولئك! فإنه أكثر مما لقي البازي عند المرأة العجوز [2] .
ألم تر كيف زعم الغربيون ومن يتعصب لهم من أبناء الشرق أن العرب لم
تذق ألسنتهم من البلاغة إلا كما تذوق الأعين من النوم غرارًا ومضمضة. وإن لهم
لعذرًا في ذلك ما دام شعراؤنا بمعزل عما يقوله الشاعرون , وربما ركب هواه من
ليس يعرف مبلغ العرب من الحكمة فارتفع بشكسبير وروبرت وألفرد ده موسييه
وجايتي وأضرابهم إلى الذروة ونزل بامرئ القيس وزهير والمتنبي وأمثالهم إلى
الحضيض واستدرج بأبي العلاء - الذي يلقبه الإفرنج بحكيم المشرق- وعلاء
الدين الوداعي وأنداد هؤلاء من سالفيهم، ولكنه كدم في غير مكدم واستسمن ذا ورم.
لعمري - وما عمري علي بهين - لو كان الملك الضليل [2] في عصر الإفرنج
الذي ينطق الأبكم ويحل عقدة البيان من اللسان، لتهافتوا على أقدامه تهافت الذباب
على الشراب , وما وجدوا إلى شق غباره من سبيل.
هذا الشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي جاء في زجله المجرد من الإعراب
تجريد السيف من القراب بما يضارع أعظم خيالات الإفرنج قاطبة وهو من
المتأخرين لم ينسم من عرف المدنية ما نسموه، حيث يقول في وصف خياط سأله
أن يصفه:
صف جبيني وشعري من تفصيل ... نظمك المبتكر
قلت: خيط الصباح يستفتح ... ذيل الدجى في السحر
قال لي قصرت بل هو ستر الله ... حين علي أسبلوا
حابك الزرقا فاتق الخضرا ... بالهلال كللوا
ولست أرى فيما ينم عن فضل العرب في شعرهم أطيب من قول النعمان وقد
حاجه كسرى في قومه: (وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق
كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالإشارة وضرب الأمثال وإبلاغهم في
الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس) .
إنما العبء على عاتق شعرائنا اليوم. كيف يضيء المغرب ويظلم المشرق؟
فما لنا وللجزع اليماني وهذا اللؤلؤ والمرجان , وما لنا ولحصباء العقيق وهذا العقيق
والعقيان , وما لنا ولماء الغدران ينساب كالحيات وهذه سحب النعيم غاديات
رائحات وأمام العين ما يذكر الجنان ويعلم الإنسان , كيف يكون الشعر في الشعراء
ولا أخال أطروفة ابن الجهم تخفى على أديب.
بقي أن الناس يقولون: إن الشعر العربي كشجرة الدفلى، إذا أكلها مغتر
برونقها أودت به إلى حيث لا يردد أنفاسه وضربت أسدادها بينه وبين السعادة.
ولقد يصيب هذا القول غرضه من الحق ما دامت الدلاء ينهز بها الناس مع الغواة
وما دامت الأمة لا توقظ الأفئدة من سباتها العميق.
هذه حالة أولئك يعدون ما كان من هذا القبيل كأنه حماسة العصر تركها أبو
تمامه. وغير أمتنا جرى شأوًا مغربًا لا يرغبون من الشعراء إلا أن يلقوا بين
أعينهم مجد البلاد وفخر العباد فلا ينظمون غير منثور الآثار ولا يدَعون لسوء
الأحدوثه من قرار وكل منهم كما قال شاعرنا أبو النجم البُستي:
له قلم حده لا يكل ... إذا كان في الحرب سيف يكل
فيوجز لكنه لا يخل ... ويطنب لكنه لا يمل
وهل سبقهم لذلك إلا نابغة بنى ذبيان؟ حُصر أربعين يومًا فانتصر قومه فأخذه
الطرب لمجدهم حتى قال الشعر ونبغ فيه؟
يستشف الناس معائب شعر العرب القديم في عصر التمدن الجديد فلا يجدون
من الشعر ما كان يجده القائلون من قبل وهيهات أن يكون منه في شيء قول امرئ
القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إذا أنشد الناس في الأزبكية مثلاً حيث لا تكركره صبا نجد , ولا تهتف به أجلاف
العرب في سقط اللوى بين الدخول فحومل. وما أحسن الشعر إذا كان ملبسه يشوق
ومنظره يروق لا تلج به الصلابة ولا تملؤه الصبابة يتناول المعنى دونه النجم علوًّا
والنسيم رقة ولطافة , وحبذا أن يكون للشاعر غير البلج والدعج إلخ مما يعيد مجد
بلاده ويرفع ما تأود من عمادها , وأسلوب الشعر المتين أن يكون اللفظ بقدر المعنى
لا زائدًا فيفرط، ولا ناقصًا فيفرّط.
قال خلاد لبشار بن برد: إنك لتجيء بالشيء المتفاوت , فقال: وما ذاك؟
قال: بينما تجيء بالشعر يثير النقع ويخلب القلوب مثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما
إلى أن تقول:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال: لكل شيء وجه وموضع , وهذا قلته في جاريتي ربابة وهو من قولي
عندها أحسن من (قفا نبك) من ذكرى حبيب ومنزل.
وفيما قدمناه ما يكفل للمتأمل أن يمر به في المجلة البيضاء حتى يجيء من
البيان بالسحر ومن الشعر بالحكمة.
__________
(1) صدر بيت لناصح الدين الأرجاني الفقيه المشهور القائل:
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع بالعصر أو أنا أفقه الشعراء
وتمامه (فمن المحدث نفسه أن يجتني) أصلها فيما قيل أنه كان لبعض الملوك باز وكان به مغرمًا فأطلقه يومًا على صيد فذهب ولم يعد وكان قد نزل في بيت عجوز فلما رأت منقاره ظنت أن شكله بدونه يكون جميلاً فقطعته ثم ارتأت ذلك في مخالبه فألحقتها بالمنقار وجزت جناحيه وبينما أتباع الملك يبحثون عنه وجدوه عندها فلما رآه سيدهم أمرهم أن ينادوا عليه أمام الأعين: هذا جزاء من رمى بنفسه عند من لا يعرف مقداره.
(2) هو امرئ القيس لقبه بهذا الإمام علي عليه السلام.(3/391)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية [*]
(الدرس العاشر)
م (31) صفات الكمال:
ثبت منا في الدروس السابقة أن هذا الوجود الممكن الذي نشاهده صادر عن
وجود واجب , وأن واجب الوجود منزه عن مشابهة الممكنات وأنه واحد لا شريك
له وأن هذا الواجب هو إله الخلق المستحق لعبادتهم المسمى بلسان الشرع: (الله -
جل جلاله) وأنه ليس لغيره سلطة ولا تأثير فيما وراء الأسباب التي يتعلق بها
كسب العباد , بل له وحده السلطان الغيبي المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأن
الخضوع الذي يبنى على الاعتقاد بهذا السلطان وهو روح (العبادة) وسرها مهما
تعددت مظاهرها واختلفت أشكالها لا يكون إلا له. وهذا هو التوحيد الحقيقي والدين
الخالص الذي بعث الأنبياء عليهم الصلاة لتقريره عندما فشت الوثنية في الناس.
ونقول الآن: إن هذا الاله الواجب الوجود يدلنا العقل والنقل على أنه متصف بما
يليق به من صفات الكمال لأنه لما كانت ذاته أكمل الذوات لا جرم كانت صفاته
أكمل الصفات. وللناس على اختلاف مللهم مذاهب في فهم الصفات الإلهية أكثرها
يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد والحكم بالممكن على الواجب وبالحادث على
القديم وإلى الأخذ بظواهر الألفاظ التي وردت في الكتب المنزلة وكلام الأنبياء
والمرسلين من غير فهم ولا عقل , ولا يليق بصاحب البصيرة في الدين أن يأخذ
بمذهب من تلك المذاهب أو يتقيد برأي من آراء أربابها بل عليه أن ينظر بعقله؛
ليثبت له بالبرهان ما تتوقف عليه الألوهية من الصفات للواجب ثم ينظر في إثبات
الرسالة وبعد ثبوتها بالعقل يمكنه أن يفهم ما يسنده الرسول إلى الله - تعالى - من
الصفات على الوجه المطابق لما قام عليه البرهان العقلي.
م (32) يقسمون الصفات الثبوتية [1] إلى:
صفات ذات وصفات أفعال , ويقسمونها باعتبار آخر إلى محكمات ومتشابهات
ويقسمون صفات الذات إلى نفسية ومعاني ومعنوية , وقالوا: إن الوجود هو
الصفة النفسية وأنه لا صفة نفسية سواه وهي أغلوطة علمية صدرت من بعض
المتأخرين فتبعه عليها من لا نحصي من أسرى التقليد إلى يومنا هذا كما تبعوه في
إثبات الصفات المعنوية ولكن فضل الله تعالى لم يحرم المسلمين في عصر من
الأعصار من علماء نبهوا على أن هذا الاصطلاح ما أنزل الله به من سلطان ولم
يقم عليه في العقل حجة ولا برهان. والمشهور عن العلماء في القرون الأولى أنهم
كانوا يطلقون لفظ (الصفات) على المتشابهات فقط , وجماهير العلماء حتى اليوم
على إثبات صفات المعاني ولهم فيها تفسير وأحكام لم تعرف عن السلف الصالح.
فلم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة السَّنية ولا في آثار التابعين شيء من هذه
الاصطلاحات (إلا المحكم والمتشابه) ولا أن الصفات عين الذات أو غير الذات أو
لا عين ولا غير أو أنه لو كشف عنا الحجاب لرأيناها. ونحن لا نطعن بعلم
واضعي هذه الاصطلاحات ولا بدينهم بل نقول كما أمرنا الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) وإنما نختار طريقة السلف الصالحين فهي باتفاق
الخلف أسلم وأحكم. ونقول أيضا: إنها أعلم، خلافًا لكثيرين يتوهمون أن هذه
الاصطلاحات في علم العقائد تعطي الباحث بصيرة وتكون أعون له على الفهم
وأقرب إلى البصيرة والبرهان لأننا نعتقد اعتقادًا يؤيده الاختبار والمشاهدة أن الذين
يأخذون عقيدتهم من هذه الاصطلاحات أكثرهم يتخبط في ظلمات الحيرة يأخذها
بالتقليد الأعمى فيضمها إلى التقليد بأصل العقيدة ويضم إليها ما يوردونه عليها من
الحجج تقليدًا على تقليد، فإذا طولب بالبرهان ممن يناقشه في تلك الألفاظ المحفوظة
أو سئل كشف شبهة غشيتها حاص حيصة الحمر واضطرب واضطراب الرشاء
في البئر البعيدة القعر.
طريقة القرآن الحكيم التي استقام عليها الصدر الأول هي الطريقة المثلى وهي
عرض المخلوقات على العقول ومطالبتها بالنظر فيها بأي وجه من الوجوه، فلنرجع
إلى هذه الطريقة ولنثبت بها الصفات التي لا تتحقق الألوهية في العقل بدونها وهي
العلم والإرادة والقدرة، وكذا الحياة على الوجه الذي جرى عليه أستاذنا (في رسالة
التوحيد) وهذا هو الذي اشترطناه في ابتداء إلقاء هذه الدروس وإنما أشرنا إلى
اصطلاحات المتأخرين في الصفات وبينا أن فهم العقيدة أقرب بدونها؛ لأن الذين
تعلموا على الطريقة الشائعة في العقائد - طريقة السنوسي رحمه الله تعالى -
يظنون أن العقيدة التي لم تذكر فيها الصفات العشرون عقيدة ناقصة وربما توهم
الغارقون في الجهل أنها غير كافية في الإيمان؛ لأن الإيمان بالله عندهم إنما يكون
بحفظ الصفات العشرين وأضدادها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , وأما
المتشابهات فقد عقدنا لها فيما مضى درسًا مخصوصًا فليرجع إليه من أراد.
***
حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين
أجل وأوسع ما ألف في المعجزات الشريفة كتاب (حجة الله على العالمين في
معجزات سيد المرسلين) صلى الله عليه وسلم؛ فإن اسمه طابق مسماه، فقد جمع كثيرًا من معجزاته الشريفة وبشائر ودلائل نبوته العظمى بأوضح نقل وأشهره، فهو كتاب نافع جليل الإفادة لا نظير له في بابه , تأليف العلامة العامل والمفضال التقي الكامل حضرة صاحب الفضيلة الشيخ يوسف النبهاني المكرم رئيس محكمة الحقوق ببيروت حفظه الله تعالى. وطبع بالمطبعة الأدبية فيها بأجمل حرف على ورق جيد وجلد تجليدًا حسنًا وهو 896 صفحة مع الرسالة الغراء التي في آخره بعد الفهرسة المسماة (خلاصة الكلام في ترجيح دين الإسلام) وهي غرر ودرر وموعظة حسنة وحكمة نافعة لكل إنسان وفقه الله إلى الهدى , ويوجد بمصر في مكتبة الترقي وسائر المكاتب وثمنه ستة عشر قرشًا صاغًا ما عدا أجرة البريد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحليم أنسي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالأزهر
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) الأمالي دروس كنا نمليها في جمعية شمس الإسلام ثم اقتُرح علينا أن نثبت ملخصها في المنار, وآخر درس منها نشر في الجزء الثالث من منار هذه السنة.
(1) المراد بالصفات الثبوتية ما يقابل الصفات السلبية المستنبطة من معنى واجب الوجود وتنزيهه كالقدم والبقاء وقد تكلمنا عليها في مبحث التنزيه من الدروس السابقة، وتسميتها صفات، وضع اصطلاحي لبعض المتأخرين قلده فيه المؤلفون إلى اليوم.(3/397)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
العيد الفضي وعيد الجلوس السلطاني
في نهاية شهر أغسطس الحاضر يتم لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة
المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان خمس وعشرون سنة على عرش
السلطنة، وقد جرت عادة الأوربيين بأن يقيموا للملك الذي يتم له هذا القدر من
السنين في المُلك احتفالاً يسمونه (اليوبيل الفضي) وستحذو الأمة العثمانية هذا
الحذو وتحتفل بهذا العيد الوطني احتفالاً عامًّا يكون بهجة للناظرين , وقد ابتدأ
المصريون في الاجتماع للاستعداد لذلك وقد جرت العادة بأن الاحتفال بعيد الجلوس
السلطاني يفوق كل احتفال يكون في البلاد العثمانية ما عدا الأستانة العلية , وقد
كتبت الجرائد اليومية ما يفيد أن المشتغلين بالاستعداد للاحتفال قد انقسموا قسمين
وجعلوا الجمعية جمعيتين وهذا فشل يؤدي إلى اختلال العمل، ولا بد أن يزول
قريبًا إن لم يكن مقصودًا… ولا نخاله إلا عارضًا يزول باتفاق العقلاء والمخلصين.
***
وعدنا بأن نكتب في هذا الجزء شيئًا على ما توقفنا فيه من الشاعر المجيد
الشيخ عبد المحسن أفندي الكاظمي ثم رأينا من الصواب أن نكتب إليه نسأله عن
ذلك وننشر ما يجيب به فلينتظر ذلك القراء إلى الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
مولد أبي العيون
كنا ذكرنا أن الحكومة أمرت بإبطال هذا المولد بناء على ما نُمي إلى سعادة
الفاضل حشمت باشا مدير أسيوط من المفاسد التي تكون فيه، ثم صرحت الحكومة
ثانيًا بالإذن بإقامته بعد ما مر وقته العادي، وأخبرنا بعض الأفاضل بأن هذا الإذن
الجديد مبني على عدم ثبوت ما أشيع سابقًا من المنكرات وأن سعادة حشمت على
بينة من هذه البراءة بعد الاختبار. وعسى أن يكتب إلينا بعض من يحضر المولد
في هذه الأيام عما يشاهده فيه لننشره خدمة للحقيقة.
تهنئة
انتخب صديقنا الفاضل العالم المؤرخ المدقق جرجي أفندي يني الطرابلسي
عضوًا في الجمعية العلمية الأسيوية في باريس بتصريح من العلامة كلرمون كاينو
وخير ما يكافأ به العالم من حيث هو عالم أن يقدر قدره ويرفع إلى ما يستحقه من
المراتب والأعمال، فنهنئ صديقنا باعتراف الغرب بفضله كما اعترف الشرق ,
ولكن الشرق على اعترافه لم يرفعه إلى ما هو جدير به بحيث ينفع بعلمه , وهذا
هو الفرق بين الخافقين فنعزي أنفسنا على ذلك بسعي الساعين منا في ترقية الأمة
وكشف الغمة.
دودة القطن
يؤخذ من المقالة التي نشرتها جريدة الإخلاص الغراء ونوهنا بها في جزء
سابق أن الفلاحين يقطعون ورق القطن الذي يرون فيه الدودة، وأن هذا يعرض لوز
القطن للشمس والندى في وقت يضر الشجرة ذلك، على أن هذه الطريقة لتنقية الدود
غير كافية إذ لا يمكن اصطلامه بها ولو أمكن لاحتاج إلى نفقة كبيرة لا يفي بها
ربح الغلة. ثم أشار صاحب المقالة بطريقة، قال: إن الاختبار هداه إليها بعد
عشرين عامًا زاول فيها الأمر بنفسه، وهي: يوجد طير يشبه العصفور الدوري
يأوى إلى الحرث في أيام الصيف. ويختار شجر القطن وما أشبهه ليتقي الحر بظله
ويتغذى من الحشرات التي توجد فيه ومنها دودة القطن. ثم يجيء في شهر
أغسطس (الموافق مسرى القبطي) الطير المسمى عصفور النيل وهو يأكل الدودة
أيضًا ولكن الفلاحين لجهلهم يروعونه ولو بغير الصيد ليفر، فالطريقة أن تُترك هذه
الطيور وشأنها وأن يكون حرث القطن لها حرمًا آمنًا وهي تستأصل دودة القطن
فإنها تتبعها حتى عندما تتغلغل في التراب وقت الهاجرة ولو غاصت إلى بعد 25
سنتيمتر.
أهم الأخبار الخارجية
(اغتيال ملك إيطاليا)
في 30 من شهر يوليو الماضي اغتال فوضوي اسمه بريسي الملك همبرت
عظيم إيطاليا وكان عائدًا من شهود الاحتفال بالألعاب الرياضية في قرية مونزا، ومما
نقل عنه أن قرينته الملكة نهته عن السفر لشهود الاحتفال ولما علمت أنه لا بد له من
حضوره ألحت عليه بوجوب الحذر والتوقِّي من الاغتيال فصرح بأنه مستسلم
للقضاء والقدر الذي يؤمن به. وكان هذا الملك رحيمًا برعيته ومهذبًا في نفسه
ولذلك عظم وقع مقتله في أوربا حتى على كثير من الفوضويين أنفسهم.
(أوربا والصين)
ثارت طائفة من الصين تسمى البوكسر على الأوربيين فاغتالت بعض
المرسلين ثم سفير ألمانيا فاتحدت الدول الأوربية العظمى ذوات الأطماع في الصين
مع دولة اليابان وألفوا جيشًا مختلطًا للتنكيل بالصين لا سيما بعد ما علموا أن
البوكسر حصروا سفراء الدول كلهم في بكين وأشيع أنهم قتلوهم ولم يتحقق ذلك ,
وقد استولت الجيوش المتحدة على مدينة تيان تسين الصينية وهي عازمة على
الزحف على بكين عاصمة الصين ولكنها تخشى منه قتل السفراء واستئصال
الأوربيين وقد انضوت جمهورية الولايات المتحدة إلى أوربا في أمر الصين ويقال
أن الفوغفور (إمبراطور الصين) الذي يعتبر البوكسر ثائرين عليه عابثين بسلطته
طلب من الولايات المتحدة أن تسوي بينه وبين أوربا، والله أعلم بما سينتهي إليه هذا
الأمر العظيم.
(الرياض والمنار)
تنشر جريدة الرياض الهندية الزاهرة نبذًا من المنار تارة بحروفها وتارة
ملخصة تلخيصًا، فيسرنا ذلك منها ولكننا نستلفت محررها الفاضل إلى حقوق
الصحافة والعلم , وأهمها عزو القول إلى قائله وإضافة الرأي إلى صاحبه، فقد
رأينا في آخر عدد ورد إلينا من جريدة الرياض نبذة ملخصة من مقالتنا (فرنسا
والإسلام) وخبر سرقة (الآثار النبوية الشريفة) وغير ذلك وكلها من غير عزو.
__________(3/405)
غرة جمادىالأولى - 1318هـ
27 أغسطس - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
نبذة رابعة
مدرسة بغداد وطريقة علمائها. اعتراف الإفرنجة لهم بالفضل. الأرصاد
المأمونية. أبو الوفاء الفلكي الميكانيكي واختراعاته ومصنفاته. التتار واهتداؤهم
ونصرهم للعلم. مرصد مراغة وامتيازه. الفلك في مصر. ابن يونس والزيج
الحاكمي ومرصد المقطم. اختراع الربع المثقوب وبندول الساعة الدقاقة. الفلك في
الأندلس والمغرب.. ..
ألمعنا في النبذة الماضية باشتغال علماء الإسلام بالفلك وما كان لهم من
الاكتشاف والتنقيح والتصنيف ألا وإن مدرسة بغداد كانت منبع هذا العلم كغيره
ومنها استمد سائر المسلمين الذين استمد من سؤرهم الغربيون بل الذين ترك أبناؤهم
تراثهم للأجانب فاستأثروا به وأنموه وصار مفخرًا لهم وحجة علينا. ولا يزال
فضلاؤهم يعترفون لنا بهذا الحق. قال بعض مؤرخي الإفرنجة: إن العرب
استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد واتبعوا قواعدهم
وهي الانتقال من المعلوم إلى المجهول والوقوف على حقيقة الحوادث الفلكية
والانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب لا يعولون إلا على ما
اتضحت صحته وعرفت حقيقته , ولهذا عَوَّلَ مَنْ بعدهم على مؤلفاتهم واعترف
ثابت بن قرة بأن ما في يده من الأرصاد الموضوعة في زمن المأمون كافية في تقدم
علم الفلك , ومما يقضي بالعجب على الأوربيين أن العرب وصلوا إلى تلك الغاية
من المعارف الفلكية في بغداد من غير مرقب (تلسكوب) ولا إسطرلاب.
ذكرنا أن الذين نبغوا في علم الفلك على عهد عضد الدولة وأخيه كثيرون.
ومن أشهر هؤلاء أبو الوفاء محمد بن محمد الحاسب الذي اعترف بفضله المجمع
العلمي في باريس فقد أتقن هذا مع علم الفلك علم الميكانيكا ورصد ميل وسط منطقة
البروج (الأكليتيك) سنة 385هـ - 995 م برفع دائرة نصف قطرها خمسة
عشر ذراعًا وترجم لأول مرة كتاب ديوفنط وألف معادلة المركز والاختلاف القمري
السنوي أي الذي يحصل في سير القمر سنويًّا , وأظهر في حساب سير القمر
اختلافًا ثالثًا وهو ما حسبه (تيكو براحه) الفلكي بعد ستة قرون من وفاة أبي الوفاء
الذي صحح الأرصاد القديمة حين رأى شرح بطليموس على القمر غير متقن وألف
كتبًا كثيرة أعلاها المجسطي الذي بين العلائق الغامضة بين أشكال الدوائر بما
اخترعه من قواعد الخطوط المماسة والخطوط المتقاطعة التي جرى عليها
المهندسون في حساب المثلثات واقتدى الأوربيون فيها بالعرب إلى هذا العصر ,
وكان علماء العرب قد استبدلوا الجيوب بالأوتار على عهد البتناني الذي تقدم ذكره
وعام وفاته أي قبل أبي الوفاء بقرن كامل. ومن مشاهيرهم البيروني وأبو سهل
الفلكي الذي حدد ثانيًا حركات الكواكب السبعة السيارة.
***
الفلك في أعاجم المسلمين
جلّت عناية الله في الدين الإسلامي واللغة العربية فإن التتار الوحوش الجهلاء
زحفوا على البلاد الإسلامية ليبيدوها فلم يكن بعد انتصارهم إلا ريثما مازجوا
المسلمين المغلوبين على أمرهم وعرفوا شيئًا من لغتهم حتى كشف عنهم الغطاء
فأبصروا نور الإسلام يتلألأ ويضيء الأرجاء فتنكشف به الحقائق وتستجلى الدقائق
دخلوا في الإسلام وكانوا أعوانًا للعلم وأنصارًا بل تسابق العلم والدين إلى عقولهم
فتارةً كان الأول يهدي إلى الثاني , وطورًا كان الثاني يرشد إلى الأول , ولا غرو
فهكذا شأن السبب مع المسبب والعلة مع المعلول. جمع هلاكو خان (وقد اختلف
المؤرخون في إسلامه) العلماء الرياضين والفلكيين وغيرهم واختار منهم نصير
الدين الطوسي فأفاض عليه الأموال فجمع الكتب الفلكية من بغداد، والشام ,
والموصل , وخراسان , وبنى بالمراغة المرصد المشهور وجعل في قبته ثقبًا تعرف
بأشعة الشمس النافذة منه درجات ودقائق سيرها اليومي وارتفاعها في كل فصل
فكان ذلك منه استعمالاً جديدًا للربع المثقوب الذي استعمله العرب من قبله. وجعل
في المرصد دوائر رصدية كبارًا وأرباع دوائر وكرات سماوية وأرضية وجميع
أنواع الإصطرلاب واستعمل فيه كثيرين من العلماء. وبنى ألوغ بيك مرصدًا في
دمشق ولما أتم كوبلاي خان أخو هلاكو فتح الصين نقل مؤلفات علماء بغداد إليها ,
وخلف ابنُ الشاطرِ الطوسيَّ فعمل أزياجًا اعتمد عليها العلماء بعده , ولا ننسى أن
تيمورلنك وأولاده نصروا العلم بعد ذلك العيث والإفساد ومرصدهم في سمرقند كان
مشهورًا.
***
علم الفلك في مصر والأندلس والغرب الأقصى
قضت سنة الله - تعالى - بأن يكون نمو العلوم والفنون على حسب قوة
الدولة وسعة العمران لذلك تقلصت ظلال المعارف من بغداد بعدما أفلت شمس
العباسيين على ما بينا قبل. ولما دالت الدولة إلى الفاطميين في مصر طار
المشتغلون بالعلم في جو السماء يسامرون النجم الثاقب ويسايرون الفلك الدائب
وقد انتهت رياسة هذا الفن في القاهرة إلى ابن يونس الفلكي الشهير صاحب
الزيج الحاكمي ومرصد جبل المقطم المتوفى سنة 389هـ.
جرى ابن يونس هذا على آثار أبي الوفاء الذي نوهنا به آنفًا واتبع خطواته
ونظر في مؤلفات علماء بغداد وغيرهم وانتقد على أزياج النيريزي (الذي نوهنا به
في النبذة الثالثة) بعدم استقصائه في إصلاح أغلاط الفلكيين على أنه اعترف بفضله
واستفاد من أزياجه , وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة وقد
خلف في الشرق كله المجسطي البطليموسي ورسائل علماء بغداد وظهر زيجه في
الفرس من بعده بنحو سبعين سنة. ومن مشاهير الفلكيين الأولين في مصر العتقي ,
وممن جاء بعد ابن يونس حسن بن هيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابًا ومجموعًا
في الأرصاد، وشرح المجسطي وتعاريف مبادئ إقليدس , وقد انتفع بأزياجه
المسلمون من بعده واعتنى نصير الدين الطوسي بالزيج الحاكمي فعمل لتحقيقه
أرصادًا استغرق عملها اثنتي عشرة سنة ولو عملها على الحساب الأول لاحتاجت
إلى 30 سنة.
وأما الأندلس , وبلاد مراكش فقد نبغ فيهما كثيرون في الفلك، وقد اقتبس
منهم الأوربيون أكثر مما اقتبسوا من عرب المشرق وكان الفيلسوف ابن رشد فلكيًّا
ألف في مساحة المثلثات الكروية وعزي إليه شرح على المجسطي، وظن أن نقطةً
سوداء في قرص الشمس يوم عرف من الحساب الفلكي زمن مرور كوكب عطارد.
ومن أشهر فلكيي الأندلس مسلمة المجريطي , وابن أبي طلحة الذي عمل في
ثلاثين سنة أرصادًا مشهورة بالصحة واحتذى مثاله وجرى على أثره أرزاقيل الفلكي
فعمل في تحديد أوج الشمس من الأرصاد 402 وأرصاد أخرى لمبادرة حركة
الاعتدالين وألف الأزياج الطليطلية (نسبة إلى طليطلة إحدى مدائن الأندلس)
والأقوال الفرضية في تباعد الشمس عن مراكز أفلاك الكواكب السيارة , ومنهم جابر
ابن أفلح الشبلي الذي ترجمت رسالته إلى اللغة اللاتينية.
ومن أشهر فلكيي المغرب الأقصى البتراش المعاصر لابن رشد الذي رأى
عدم انتظام دوائر المجسطي المتداخلة والمتقاطعة الدائرة حول مراكز الأفلاك
فاخترع في ترتيب الأفلاك والمراكز مذهبًا جديدًا بناه على رفض الفرضيات الفلكية
الباطلة التي كان يجهلها المتقدمون , ومنهم أبو الحسن صاحب كتاب البدايات
والنهايات الذي طاف شبه جزيرة الأندلس وجزءًا عظيمًا من شمال أفريقية وحرر
ارتفاع القطب الشمالي في 41 مدينة أولها أفرانه على الساحل الغربي من بلاد
المغرب وآخرها القاهرة , فأين تلك الهمم العالية في تحرير مسائل العلوم والعزيمة
الماضية في جوب الأقطار وقطع أجواز البحار؟ أواه إنني أسمع الكون الأعظم
يجاوبني قائلاً: إن هذه الروح قد انتقلت من المسلمين إلى الأوربيين والأمريكيين.
حتى صار الأولون يعجبون من الآخرين. عندما يرونهم سائحين ومؤلفين
ومخترعين ومكتشفين. وقد جهل المسلمون مآثر أسلافهم ولكن حفظها الأوربيون ,
فإنا لله وإنا إليه راجعون
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... مدى الدهر ما أبدوا من الفضل معجما
متى يذكر الأفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/409)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(الدرس 11)
(33) الحياة والعلم والإرادة والقدرة
الحياة عرفوها بأنها صفة تصحح للمتصف بها أن يكون عالمًا مريدًا قادرًا
وقال أستاذنا في (رسالة التوحيد) : صفة تستتبع العلم والإرادة ولا يخفى أن هذه
العبارة آدب من الأولى والذي يتراءى أنها من الصفات السمعية التي لا يدل عليها
العقل بمجرده كما يدل على العلم والإرادة والقدرة إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن
صانعًا يقوم بصنعة بديعة منتظمة وهو لا يعلم ما يعمل أو وهو عاجز عن العمل أو أن
عمله الذي هو بغاية الإتقان والإحكام يصدر منه على سبيل المصادفة والاتفاق من غير
إرادة ولا اختيار. فهذا الكون البديع يدل مباشرة على أن مبدعه عليم حكيم مريد قدير
وأما دلالته على أنه حي فهي بالواسطة لأننا نعلم أن العالم القادر لا يكون إلا حيًّا ولكن
هذا العلم إنما جاءنا مما نعهد في أنفسنا وأمثالنا فوَصْف الله تعالى بالحياة بناء على أنه
عالم مريد قادر يشبه أن يكون من قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث وهو
قياس غير منتج. ولهذا المعنى صرح من صرح من المتكلمين بأن الحياة من الصفات
السمعية التي لم نثبتها إلا لأن الله تعالى وصف نفسه بأنه (الحي القيوم) ولكن أستاذنا
سلك في الاستدلال على ثبوتها بالعقل مسلكًا لم نره لغيره على الوجه الذي قرره فنورده
ههنا وإن كان يعلو عن أفهام الكثيرين قال حفظه الله تعالى:
(الحياة - معنى الوجود وإن كان بديهيًّا عند العقل ولكنه يتمثل له بالظهور
ثم الثبات والاستقرار وكمال الوجود وقوته بكمال هذا المعنى وقوته بالبداهة) .
(كل مرتبة من مراتب الوجود تستتبع بالضرورة من الصفات الوجودية ما
هو كمال لتلك المرتبة في المعنى السابق ذكره وإلا كان الوجود لمرتبة سواها وقد
فرض لها. ما يتجلى للنفس من مثل الوجود لا ينحصر وأكمل مثال في أي مراتبه
ما كان مقرونًا بالنظام والكون على وجه ليس فيه خلل ولا تشويش فإن كان ذلك
النظام بحيث يستتبع وجودًا مستمرًّا وإنْ في النوع كان أدل على كمال المعنى
الوجودي في صاحب المثال.
فإن تجلت للنفس مرتبة من مراتب الوجود على أن تكون مصدرًا لكل نظام
كان ذلك عنوانًا على أنها أكمل المراتب وأعلاها وأرفعها وأقواها.
وجود الواجب هو مصدر كل وجود ممكن كما قلنا وظهر بالبرهان القاطع فهو
بحكم ذلك أقوى الوجودات وأعلاها فهو يستتبع من الصفات الوجودية ما يلائم تلك
المرتبة العليا وكل ما تصوره العقل كمالاً في الوجود من حيث ما يحيط به من معنى
الثبات والاستقرار والظهور وأمكن أن يكون له؛ وجب أن يثبت له. وكونه
مصدرًا للنظام وتصريف الأعمال على وجه لا اضطراب فيه يعد من كمال الوجود
كما ذكرنا فيجب أن يكون ذلك ثابتًا له فالوجود الواجب يستتبع من الصفات
الوجودية التي تقتضيها هذه المرتبة ما يمكن أن يكون له.
فما يجب أن يكون له صفة الحياة وهي صفة تستتبع العلم والإرادة وذلك أن
الحياة مما يعتبر كمالاً للوجود بداهة فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس
الحكمة وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار في تلك المرتبة فهي كمال
وجودي ويمكن أن يتصف بها الواجب وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب
أن يثبت له فواجب الوجود حي وإن باينت حياته حياة الممكنات فإن ما هو كمال
للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة , ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات
ما هو أكمل منه وجودًا وقد تقدم أنه أعلى الموجودات وأكملها فيه.
والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف لو كان فاقدًا للحياة يعطيها
فالحياة كمال له كما أنه مصدرها) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/414)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد)
(13) من أراسم إلى هيلانة في 6 يونيه سنة 185
اعلمي أن أخص ما يجب الرجوع إليه في إنشاء طبع الطفل هو علم وظائف
الأعضاء وإن كانت توجد وسائل أخرى يستعان بها في ذلك لا ينبغي إغفالها.
الوليد يرى في أول أمره محبًّا لنفسه منقبضًا عن غيره لضعفه وعجزه عن
الاختلاط فوظيفة المربي معه هي أن يعمد إلى ما وهبه الله (سبحانه) من الغرائز
المحدودة الكافلة حفظه فيجعلها أصلاً يفرع منه بالتدريج صنوفًا من الوجدان أرقى
وأشرف من محبة النفس والانقباض عن الناس تربطه بأمثاله وتعطف به على
أضرابه , ولا اعتداد عندي بما تسمى به هذه القوى السامية الطبيعية فلنسمها
أواصر أو عواطف مثلاً , وإنما الذي أعتد به ويهمني أن أقوله لك هو أنها ليست
خيالات ولا صورًا ذهنية بل هي حقائق ثابتة لها أصول راسخة في نفوسنا وفي
الخارج , فكل عاطفة من تلك العواطف النفسية لها ارتباط في الخارج بطائفة من
الوقائع فإن الشفقة مثلاً توجد عند رؤية آلام الغير ومصائبه , والشكر يوجد عند
الإحسان وإسداء المعروف , وحب الوطن منشؤه الاعتياد على الثواء بالأمكنة
والانتفاع بما فيها من الأشياء , ومحبة الناس تنشأ وتقوى بحسن المعاملة ولطف
المجاملة.
جميع العواطف الشريفة والسجايا الحسنة توجد في نفس الطفل لكنها تكون
كالنبات في طور البذر فالعالم النباتي مملوءٌ بأنواع من البذور ربما لا تتهيأ لها
ذرائع النجوم والإنبات طول حياتها لما يعوزها من أشعة الشمس والأرض الصالحة
للإنبات والماء بنسب مخصوصة كذلك شأن أصول العواطف والوجدانات الإنسانية
فإنها تحتاج في ظهورها ونموها إلى مستقر ملائم ومؤثر خارجي.
كلنا يعلم أن طبع الطفل ينمو بالمؤثرات الخارجية أكثر من نموه بالبواعث
النفسية فإن ما نفعله أمامه من الأفاعيل وما نرمي به من الأقاويل هو الذي يبعث فيه
الفرح تارة والترح أخرى خصوصًا في أوائل أيامه على أن ما لنا من التأثير في
طبعه مباشرة لا يكاد يكون شيئًا يذكر إلا ما تحوطه به أمه من ضروب العناية وما
تبديه له من أنواع الحنو والرعاية فإنه يدعوه من غير شك إلى حبها ولكن الطبع
كما علمت يتألف من قوى متمايزة كل التمايز يقتضي كل منها باعثًا خاصًّا - لو
وسعني أن أقول ذلك - فليس الإنسان ذاتًا بسيطة بل هو على ما أعتقد أكثر تركيبًا
في نفسه منه في جسده.
المشاعر الباطنة كالمشاعر الظاهرة في كيفية التأثر فالثانية كما تعلمين لا تتأثر
إلا في أحوال وبشروط خارجية مخصوصة؛ لأن مشعر اللمس مثلاً لا يتأثر إلا متى
لاقى أشكال الأجسام وجهاتها , ومشعر الذوق لا ينفعل إلا بما يقع عليه من الطعوم
كذلك الثانية لا تنبعث إلا عند اجتماع أمور واقعية مخصوصة فإن حلول الخطر
مثلاً يولد إحساس الخوف ولكنه لا يبعث وجدان الإنصاف مباشرة , ورؤية الطفل
ما يغمره به أهله من صنوف البر قد تلقي في نفسه وجدان محبتهم والميل إليهم
ولكنها قلما توقظ فيه إحساس الاحتشام والتواضع , والأحوال التي تحرك في النفس
عاطفة المروءة أو الشجاعة لا تؤثر في رقة الطبع كما أن الصوت لا يؤثر في العين
والضوء لا يؤثر في الأذن، فكل مشعر باطني أو عاطفة نفسية تقتضي شيئًا يناسبها
ويلائمها والطفل كالآلة الموسيقية كله أوتار تهتز إذا نقرت ولكنها لا تهتز اهتزازًا
حقيقيًّا إلا بما يقع عليها من الأشياء ولا تتأثر بجميع الأشياء على السواء وإنما لكل
انفعال قلبي طائفة منها تلائمه.
فإذا أردنا مثلاً أن نلقي في نفس الطفل الذي في السابعة أو الثامنة من عمره
وجدان الإحسان إلى الفقراء والزمْنَى فإيانا والخطابة والوعظ لأن أحسن مواعظ
الإنجيل لا تفيده في ذلك شيئًا بل علينا أن نذهب به إلى خص حقير يكون فيه هرم
أبلت الأيام قواه ونهكت الحمى جسمه وقد رقد على حصير ومد يده يسأل عواده قدح
ماء بارد ولننظر ما يكون منه في ذلك الوقت فإذا هو لم يبادر بنفسه إلى ملء جرة
من أقرب مورد وتقديمها بين يدي الرجل المسكين فقد حق اليأس منه وأما إذا تحرك
إلى هذا العمل الخيري فإيانا أن نسأله عن قصده به وعما يرجوه من الثواب عليه
فإن في شوب انبعاثه الصالح إلى البر بمثقال حبة من الفائدة الذاتية إفسادًا له.
قد بانت لك مما قدمته الغاية التي أرمي اليها في قولي وهي أنه إذا كان يوجد
في الطفل قوى كامنة تتنبه بالمؤثرات الخارجية التي تدعوها إلى الشخوص إلى
العمل وكان لهذه المؤثرات ارتباط ببعض الأمور والوقائع الخارجية فالواجب علينا
هو أن ننبه فيه بهذه الأمور تنبيهًا ما عواطف الحفاوة والسخاء واحترام النفس
والناس والنزاهة وغيرها من السجايا الحميدة. فالطريقة في تربية المشاعر الباطنة
لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي بينها علماء وظائف الأعضاء في تربية المشاعر
الظاهرة بل لا يوجد لتربية جميعها إلا طريقة واحدة لأنها كلها تجري على قانون
واحد ليس هناك غيره.
يوجد فرق واحد بين التربيتين، وهو أن الانفعالات في تربية المشاعر الباطنة
وما يولدها من الأشياء تخالف ما يقابلها في تربية المشاعر الظاهرة فإن الشيء الذي
تنفعل العين برؤيته مثلاً لا تنفعل به النفس دائمًا فعلى الأم أن تختار نوع الآثار
التي تريد إحداثها في نفس ولدها وتجعلها صنوفًا وأشكالاً وليس يعوزها في الحقيقة
شيء من الأحوال الملائمة لذلك فإن حياة الإنسان ليست إلا مشهدًا لسلسلة من
الحوادث المؤثرة ترى فيها كل حين آلات تحرك عاطفة الرحمة وعقبات تدعو إلى
التدرع بالشجاعة ومحن أعدت ليبتلى بها الصبر ولكن ينبغي لها أن تكون سليمة
الذوق كثيرة الحذق في اغتنام الفرص التي تُهَيِّئُهَا لها الحوادث , ثم اعلمي أن
الكتب قليلة الجدوى جدًّا في هذا الموضوع فالذي عليك أن ترجعي إليه في سيرتك
مع (أميل) هو قوتك الحاكمة وما يمليه عليك الوجدان من ضروب الإلهام , ولما
كان الطفل لا يلتفت إلا إلى الأشياء التي له فيها عمل كان من الحسن أحيانًا أن تدس
له فيها العراقيب (الحيل) لإثارة عواطفه الذاتية ولكن ينبغي هنا أيضًا الاحتراس
الكلي من ظهوره على ما يتخذ في ذلك من الحيل فإن شعوره بخداع المربي له هو
الخسارة الكلية.
اخترع المربون أنواعًا من الرياضة البدنية موافقةً لإنماء الأعضاء وخاصة
بها , والذي أعرضه عليك أنا هو فن من فنون الرياضة النفسية تقوى به الغرائز
والأخلاق؛ لأن خصائصنا ونقائصنا تقوى بالمراس والاعتياد فالفضيلة تكتسب
بالتعلم ولكن هيهات أن تُتعلم إلا بممارستها والارتياض بها وقد جاء في الأمثال
(بِطَرْق الحديد يصير الإنسان حدادًا) , فكذلك هو لا يكون خيرًا إلا بعمل الخير
فالعملَ العملَ ما دام حيًّا.
أرجىء البحث في قانون الأخلاق الحق لأني لا بد لي من النظر فيه عند
الوصول إلى محله وأكتفي الآن منه بذكر قاعدة في غاية الإيجاز والبساطة وهي أن
الطفل يصلح طبعه وتتهذب نفسه كلما زالت منه غرائز الأثرة وحلت محلها
العواطف التي تأخذ بقياده إلى الصالح العام ولكن هيهات أن يكتنه هذا الناشئ أسباب
سيرته مع غيره خصوصًا معنى الواجب فإنه من الغموض والخفاء بحيث لا ينفذ
إليه ذهنه الضعيف وغاية ما يمكنه إدراكه هو رضاه عن أعماله ورضى الناس عنها
ولما في أعمالنا الصالحة من اللذة التي لا تقل عن لذة أعمالنا السيئة إذا نحن لم
نتربَّ عليها لا يلبث أن يختار الأولى ويرجحها على الثانية متى ساعدناه قليلاً
بتوسيط البواعث الخارجية فإن الأشياء كما يوجد فيها شيطان رجيم على ما علمت
يوجد فيها أيضًا في بعض الأحيان ملك كريم. فإذا كان بعضها يحرك فينا دواعي
الطمع فإن بعضًا آخر يبث فينا وجدان البر والخير.
يجب علينا أن نعين الطفل على تربية مشاعره الباطنة ولكن علينا أيضًا أن
نحترم إرادته ولا نغفلها فلو أني أوتيت القدرة على تدبير ما يَحْتَفّ بـ (أميل) من
بواعث العواطف وعلى مراقبته في سيرته مراقبة تامة وأمكنني بالإجمال اختراع
طريقة للتربية النفسية تسمو بمقاصده حتمًا إلى الكمال لما عولت عليها في إنشائه مهما
كان فيها من الحسن فإني أرجو من صميم فؤادي أن يكون يومًا من الأيام رجلاً خيرًا
لا حيوانًا خيرًا , وأعيذه بالله من فضيلة لا يكون كسبها بسعيه وهمته ومن سعادة لا
يكون هو الذي حصلها لنفسه فإنه إن أوتي عفوًا هذه السعادة التي هي الامتياز التعيس
لمن خلقوا لها يكون قد ابتاعها بثمن غال جدًّا وهو خسارة اختياره. كل فرد من أفراد
المجتمع الذي أعد ولدنا للمعيشة فيه مسوق على الدوام إلى الجلاد والمغالبة في ميدان
الحياة فيجب عليه أن يقاوم مقاومة البسلاء آراء الناس وتأثير الأسى وجميع مؤثرات
العصر الخادعة وإلا خسر معرفته قدر نفسه وأقدار الناس لأن شرف الإنسان وفضله
مشروطان بأن يكون ذا إرادة تصدر عنها أفعاله وما علي إن تكدر بعض الناس من هذا
الشرط اللازم ما دمت أنا مسرورًا به فإنه إذا لم يكن للمرء وجود مستقل ووجدان ففيم
يكون شرف حياته اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/416)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ملاحظة على مقالة الشعر العربي
آفة الدعوة إلى الاصلاح الغلو في القدح في القديم , ومدح الجديد الذي يدعى
إليه ولا يخفى أن حالة العصر الحاضر تقتضي أن تكون الأدبيات موافقةً للشئون
الاجتماعية فيه فنحن في أشد الحاجة إلى الشعراء والمنشئين الذين يصرفون قوتهم
الخيالية إلى جذب وجدان الأمة إلى الفضائل الاجتماعية التي ترتقي بها وتساوي
الأمم العزيزة وتجول في ميادين المعلومات التي انتهت اليها المدنية الحاضرة لأجل
ذلك كما أننا في أشد الحاجة إلى إحياء موات لغتنا العربية الشريفة بالاستعمال لأن
الأمة لا تحيَى بدون لغة فإذا وجد في عالمنا الأدبي من يشتغل بإقامة أحد هذين
الركنين لا ينبغي لنا أن نهضم حقوقه لأنه لم يقم الركنين كليهما معاً.
لهذا نلوم الأديب مصطفى صادق أفندي صاحب مقالة (الشعر العربي) على
هضمه حقوق شعراء العراق المتأخرين الذين عرّف بعضهم وعرّض ببعض وهم
في الطبقة العليا بالنسبة لعصرهم , وليت لنا عشرة في المائة من المشتغلين بالعلم
في الأزهر وغيره يفهمون كلامهم من غير مراجعة معاجم اللغة وإطالة النظر. فإذا
كان الأديب يغمز من لا يأتي بالمعاني الجديدة والاكتشافات العصرية في شعره فنحن
نصلي ونسلم على من يحفظ لنا الألفاظ والمعاني القديمة التي كان يستعملها أجدادنا
في الجاهلية والإسلام وإن كنا لا نكتفي بها كما بيناه في مقالاتنا (الشعر والشعراء)
التي نشرت في المجلد الأول من المنار.
__________(3/422)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أُفْكُوهَة
كان بعض الأفاضل من أساتذة المدارس الأميرية يسعى لحضور درس أحد
العلماء الأعلام في مصر لأنه لم يرَ في الأزهر مجلس علم يستفيد منه ما يستفيد من
مجلس هذا العالم , وكان له صاحب يعذله في ذلك وينهاه عن حضور هذا الدرس
لأنه يسيء الظن بالعالم الذي يلقيه عن غير اختبار ولا بصيرة فلما ظهر الرد على
هانوتو أعجب به هذا الرجل أشد الإعجاب وصار يقرؤه في كل يوم مرات فرآه
ذلك الفاضل عاكفًا على دراسة المقالات فكلمه في ذلك فأطنب بالثناء على كاتبها
وذكر من غيرته ومعارفه ما ذكر وقال للفاضل: لو كنت تقصد درس عالم مثل هذا
لما عذلك أحد لأن مثل هذا العالم تشد إليه الرحال فقال له الفاضل: إنه هو الأستاذ
الذي تعذلني على حضور درسه فتعجب الرجل وسكت.
ما أجدر ذلك الفاضل بالتمثل بقول ذلك العاشق الذي رأى عذولُهُ
معشوقَه يومًا فقال له: لو عشقتَ هذا لما عذلتك ولا عذلك أحد فأنشد العاشق.
أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبلها رآه
فقال لي لو عشقت هذا ... ما لامك الناس في هواه
فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالعشق من نهاه
__________(3/425)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
العيد السلطاني الفضي
أو ثلاثة أعياد في يوم واحد
في مثل يوم الجمعة الآتي الذي هو الحادي والثلاثون من شهر أغسطس سنة
1886م بويع بالخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية مولانا أمير المؤمنين السلطان
الأعظم على جميع العثمانيين عبد الحميد خان أيد الله تعالى دولته وأنفذ شوكته
وأعلى كلمته فيكون قد تم له خمس وعشرون سنة شمسية أي ربع قرن كامل على
عرش السلطنة فهذا هو العيد الفضي على ما هو مشهور وذكرناه في الجزء الماضي
وأما العيد الثاني فهو عيد تذكار الجلوس السنوي الذي يحتفل به العثمانيون في كل
عام وأما العيد الثالث فهو يوم الجمعة عيد الأسبوع في الإسلام الذي تهتف به
الخطباء على المنابر الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها بالدعاء لهذا السلطان
الكريم نصره الله تعالى فلا غرو إذا تمثلنا بقول الشاعر:
عيد وعيد وعيد صرن مجتمعه ... وجه الحبيب ويوم العيد والجمعه
في هذا العيد الوطني الأكبر تحتفل الأمة العثمانية في دار السعادة العلية
ومصر وسائر الممالك المحروسة السلطانية احتفالاً لم يسبق له نظير ولا غرو
فإنه احتفال بسلطان لم يسبق له نظير. يحتفل العثمانيون على اختلاف مللهم
ونحلهم وأجناسهم وأقطارهم ويشاركهم المسلمون في الأقطار التي تحكمها الدول
الغير المسلمة. هؤلاء ومن يماثلهم في الاعتقاد برئيسهم الديني وأولئك برئيسهم
الدنيوي. قلنا ما هو عيد واحد ولكنه أعياد ونقول: ما هو احتفال واحد ولكنها
احتفالات فقد علم الناس أن الاحتفال بالشروع في مشروع سكة حديد الحجاز سيكون
في ذلك اليوم الأزهر والعيد الأكبر وسيحتفل فيه أيضًا بافتتاح كثير من المدارس
والمشروعات النافعة للبلاد والعباد.
ولله درّ المصريين فإنهم السابقون في هذا المضمار ولذلك نراهم منذ أيام قد
أنشئوا يستعدون للزينات العامة والخاصة فرفعت الرايات العثمانية. والأعلام
المصرية. وهيئت المواد النورانية. والمعازف العصرية. ونرجو أن لا يكون
للذين شذُّوا عن جمعية الاحتفال الوطنية التي يرأسها الوجيه الأمثل عزتلو حسن بك
مدكور تأثير في الإقبال العام على حديقة الأزبكية لمشاهدة احتفالها الذي يعلو كل
احتفال فإننا لم نسمع أحدًا من أصحاب الذوق والفهم يستحسن أن يكون الاحتفال
بالعيد السلطاني في فندق معد لنزول مسافري الأجانب فيه كما أن الجميع يستهجنون
أن يجمع في ذلك المكان بين قراءة القرآن الشريف وبين الأغاني والرقص والأكل
والشرب لغرض واحد.
فنرفع التهنئة سلفًا إلى سدة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين بهذا العيد الحميدي
السعيد ضارعين إلى الله تعالى بأن يمنح سلطاننا وخليفتنا عبد الحميد خان من
صنوف التأييد والتسديد والتعزيز والتوفيق ما يصعد بالأمة على يديه إلى أوج العز
والرفعة. وأن يجعل سائر أيامه وأعوامه أعيادًا لها ومواسم إنه سميع مجيب.
المولد الحسيني
قد احتفل في الأسبوع المنصرم بهذا المولد الاحتفال المعتاد فكان أكثر بدعًا
ومنكرات مما سبقه على غير ما كنا نتوقع من مبادرة علماء الدين إلى السعي في
محو هذه الفضائح بالتدريج عامًا بعد عام.
حضرناه في ليلة غير الليلة الكبرى فرأينا وسمعنا ما لم نر ونسمع من قبل.
سمعنا صاحب (الفونغراف) ينادي في السوق بصوت ندي داعيًا للناس مرغبًا في
السماع وذكر فيما ذكره (غناج السرير) ولا يغيب عن فهم القراء أن مما يسمع في
الفونغراف أيضًا القرآن الكريم فما هذا الجمع الذي لم نسمع به إلا في المولد. ومما
شاهدناه من الفضائح عند بعض باعة التماثيل السكرية (التي هي من خصائص
الموالد تذكر من يعلم ويعقل أن هذه الاحتفالات والمواسم من العبادات الوثنية)
صور سرر على كل سرير منها زوجان يمثلان ما يكون في السرير ... ومثل هذه
الأمور كان يجب على الحكومة منعها محافظة على الآداب العمومية.
وأما العباد والذاكرون والذاكرات الذين في المسجد ورحابه وفنائه الذين يحتج
بعض الشيوخ على حل هذه الموالد بهم فربما كان بلاء بعضهم على الدين أشد
بلاء من أولئك المُجَّان والفوانك. وقفنا على زعنفة منهم امتزج نساؤها ورجالها
امتزاج الماء والراح فكان كل (ولي وولية) من الزعفنة يريد يستلفتنا إليه لأجل
الاستجداء باسم الدين فأقبلت بوجهي على رجل يتوسم فيه بعض الخير لشيبته
الرائعة وثيابه النظيفة وعمامته الحمراء فما كان منه إلا أن قال لي إنه هو (يقاول)
أصحاب الحاجات , أي يضمن لهم قضاء حاجهم بأجرة مخصوصة وسألني عن
حاجتي فقلت: كم تأخذ؟ فقال: الذي تعطي , فقلت: عشرين جنيهًا , فقال ما
معناه: رجل كريم وخير عظيم وأنا ضمن قضاء الحاجة. قلت له: وما وظيفتك؟
فقال: (عرص معرّص) يعني أنه لتواضعه يهضم نفسه وضجّ من حوله بالتعظيم
له والتبجيل على أن القذع بالألفاظ الفاحشة لا ينافي الولاية عند جماهير العامة اليوم
وإن ورد في الأحاديث الشريفة أن المؤمن ليس بفاحش ولا متفحش. ثم قلت له:
يسهل على كل إنسان أن يضمن لكل أحد قضاء حاجته بشرط أن يأخذ الجعل إذا
قضيت وأن لا يطالب بشيء إذا لم تقض لأنه إما أن يربح وإما لا يخسر ولا
يمكنني أن أجعل لك شيئًا إلا إذا كنت تضمن لي شيئًا يقابله إذا لم تقض حاجتي ,
فأعرض عن هذا وعَدَّه من فساد اعتقاد الناس بأهل الله.
هذا وإن المسجد كان كما نعهد في الموالد مملوءًا بالأقذار كقشر الفول وغيره
بحيث لا يمكن لأحد أن يصلي فيه إلا إذا كان معه سجادة يفرشها على تلك الأوساخ
ومع هذا كله ترى سادتنا وكبراءنا من العلماء الأعلام يغدون ويروحون هناك يهنىء
بعضهم بعضًا بهذا المولد (الشريف) والموسم العظيم كما تهنئهم الجرائد بذلك
إسلامية ومسيحية. أليس الأجنبي معذورًا إذا اعتقد أن هذه الموالد من لباب دين
الإسلام ومَقَتَ الدين لأجلها.
المدرسة العثمانية في بيروت
الحمد لله رب العالمين والصلاة على أشرف المرسلين. سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين. أما بعد فلما كانت الحاجات تختلف باختلاف الأوقات. وكان هذا
العصر الحميدي السعيد قد تنوعت فيه العلوم واللغات. واشتدت الحاجة إليها
فكثرت فيه المدارس. وبادر كل جماعة وطائفة بافتتاح مكاتب ومدارس خاصة بهم
كي لا ينطبع في أذهان أطفالهم ما يتعذر محوه مما هو مباين لتربيتهم الدينية وكان
يلزم هذه الأمة الإسلامية ما يلزم سواها من المحافظة على تربيتها وأخلاقها الملية
وآدابها العثمانية رأينا من الواجب علينا خدمة للدين المبين وقربى لرب العالمين
ومرضاة لأمير المؤمنين أن نقوم بافتتاح مدرسة إسلامية تكفل لأبناء الملة ما يلزمهم
من العلوم والآداب فوفقنا ولله الحمد لذلك وافتتحنا مدرستنا المسماة بالمدرسة
العثمانية , ولما علم القاصي والداني ما نتج عنها من الفوائد الجمة والمنافع المهمة
تكرر إلينا الطلب وتعددت أنحاؤه من جهات شتى بأن نجعل لها فرعًا داخليًّا يمكن
كل من رام الدخول إليها أن يجتني من ثمارها اليانعة فعزمنا بعد الاتكال على الله
أن نجيب سؤالهم ونلبي طلبهم متضرعين إلى واجب الوجود أن يجعل عملنا هذا
خالصًا لوجهه وأن ينفع به إنه ولي التوفيق.
علوم المدرسة ولغاتها
(1) (العلوم الدينية) القرآن الشريف والتوحيد وعلم الفقه عبادات
ومعاملات وفرائض.
(2) (قوانين الدولة العلية) التجارية والحقوقية والجزائية وما تمس
الحاجة إليه من ذلك.
(3) (اللغة العربية) النحو والصرف وعلوم البلاغة المعاني والبيان
والبديع واللغة وقرض الشعر والإنشاء والتعريب وحسن الخط.
(4) التاريخ والجغرافيا والحساب ومسك الدفاتر والجبر والهندسة والمثلثات
والمنطق والمواليد الثلاثة والكيمياء وحفظ الصحة وعلم خواص الأجسام والتهذيب
المدني.
(5) (اللغة العثمانية) مفردات ومكالمات ونحو وصرف وإملاء وبلاغة
وإنشاء وترجمة وما يلزمها من اللغة الفارسية.
(6) اللغة الإفرنسية النحو والصرف والفصاحة والإنشاء بأنواعه والترجمة.
(الفنون الاختيارية)
اللغة الإنكليزية بآدابها وفروعها والرياضة البدنية وفن الرسم والعلوم المهيئة
لمن يروم الدخول في المدارس الطبية مما فتح له فرع في المدرسة في هذه السنة
والمعارف التي لا يسع التاجر جهلها من علم مسك الدفاتر والتحريرات التجارية
والأقيسة والمكاييل والعملة (النقود) على اختلافها وغيرها مما قد فتح له فرع في
المدرسة أيضًا بحيث يمكن الطالب أن يتعاطاه ولا يمس بأوقات أشغاله.
ما يلزم أولياء التلامذة معرفته من قوانين المدرسة
(1) يجب أن يكون الطالب صحيح البنية أي سالمًا من العلل السارية لا
يقل سنه عن الثامنة ولا يزيد عن الرابعة عشرة.
(2) أن المرتب على كل تلميذ في السنة المدرسية التي هي عشرة أشهر
سبع عشرة ليرة عثمانية يدفع منها في نصف أيلول شرقي (سبتمبر) الذي هو
ابتداء السنة المدرسية عشر ليرات وفي النصف الثاني سبع ليرات ولا يمكن قبول
تلميذ ما إذا لم يدفع القسط ومن تأخر عن دفع القسط الثاني بعد ثلاثة أيام يسرح من
المدرسة.
(3) إذا خرج التلميذ أو أخرجته المدرسة لمخالفة قوانينها لا يسترجع شيئًا
بل يطالب بالمصاريف المستحقة عليه وتحفظ الأمتعة لوفاء المطلوب برمته.
(4) كل تلميذ من خارج بيروت يجب أن يكون له وكيل مسئول بدفع
المعينات والمصاريف المدرسية في أوقاتها إلى المدرسة ويقوم بلوازمه من كسوة
ومصاريف خصوصية وخلافها.
(5) أن الطلبة الذين يرغبون بتعلم بعض الفنون الاختيارية مكلفون بدفع
أجرة أستاذ الفن.
(6) مصاريف التلامذة المعبر عنها بالخرجية يسلم إلى المدرسة ولا يسوغ
لأحدهم حمل الدراهم ولدى الاحتياج وفي أيام التنزه يعطى منها بقدر لزومه ولا
يبتاع شيئًا إلا بمعرفة الناظر والغرض من ذلك منع التلامذة من الإسراف وتناول ما
يَضُرّ بهم.
(7) ثمن الكتب والأدوات الكتابية لا تلتزم بها المدرسة بل تكون على
حساب التلامذة ومن أراد أن يكفل المدرسة في ذلك يدفع أربع ليرات عثمانية في
كل سنة.
(8) يلزم الطالب أن يكون مصحوبًا بلوازمه المنامية والتنظيفية وما يلزم
من أدوات المائدة وجميع ذلك معلوم بداهة.
(9) من أراد من الطلبة أن يكون غداؤه في المدرسة يدفع عشر ليرات
عثمانية لقاء الغداء مع أجرة التعليم.
(10) أن المدرسة تعتني بانتقاء الطعام الموافق للصحة على حسب فصول
السنة بحيث أنها تقدم بالإفطار صباحًا حليبًا أو خلافه , وفي الغداء لونين مع فاكهة
أو نقل , وفي المساء لونين أيضًا، كما أنها تقدم في كل مدة مقتضية لونًا
من الحلوى.
رئيس المدرسة
أحمد عباس الأزهري
محل إدارة المجلة في أول درب الجماميز من جهة باب الخلق
__________(3/426)
11 جمادى الأولى - 1318هـ
6 سبتمبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ميزان الإيمان وسلم الأمم
أو السلف والخلف في الإسلام [*]
الوعود الإلهية بنصر المؤمنين وبأن الأرض يرثها الصالحون. إثبات العزة
للمؤمنين. آيات الوعد محكمة لا تقبل التأويل. صدقها على سلف المسلمين. حالة
الإسلام في الصدر الأول. حال المسلمين اليوم. عدم صدق الآيات عليهم. السبب
فيه تغيير ما بأنفسهم. ما هو التغيير والمتغير؟ ما به تقوم الدول والأمم. علامة
المؤمن الصادق وعلامة المنافق. الوحدة الإسلامية. حث العلماء على القيام بها.
] إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [ (الرعد: 11) , {ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال:
53) .
تلك آيات الكتاب الحكيم , تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ولا يرتاب فيها
إلا القوم الضالون. هل يخلف الله وعده وهو أصدق من وعد وأقدر من وفى؟ هل
كذب الله رسله؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم؟ هل غش خلقه وسلك بهم طريق الضلال؟
نعوذ بالله. هل أنزل الآيات البينات لغوًا وعبثًا؟ هل افترت عليه رسله كذبًا؟
هل اختلقوا عليه إفكًا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها وإشارات لا
يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله. أليس قد أنزل القرآن
عربيًّا غير ذي عوج وفصل فيه كل أمر وأودعه تبيانًا لكل شيء؟ تقدست صفاته
وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. هو الصادق في وعده ووعيده ما اتخذ
رسولاً كذابًا ولا أتى شيئًا عبثًا وما هدانا إلا سبيل الرشاد ولا تبديل لآياته تزول
السموات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه.
يقول الله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) ويقول: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) وقال:
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا} (الفتح: 28) هذا ما وعد الله في
محكم الآيات مما لا يقبل تأويلاً. ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا من ضل عن
السبيل , ورام تحريف الكلم عن مواضعه. هذا عهده إلى هذه الأمة المرحومة ,
ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة ومهد لها سبيل ما وعدها
إلى يوم القيامة وما جعل لمجدها أمدًا ولا لعزتها حدًّا.
هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلاء حتى ثبتت أقدامها
على فتن الشامخات ودكت لعظمتها عوالي الراسيات وانشقت لهيبتها سرائر
الضاريات وذابت للرعب منها أعشار القلوب. هال ظهورها الهائل كل نفس
وتحير في سببه كل عقل واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قوم كانوا مع الله فكان
الله معهم. جماعة قاموا بنصر الله واسترشدوا بسنته فأمدهم بنصر من عنده. هذه
أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر معوزة من الأسلحة وعدد القتال فاخترقت صفوف
الأمم واختطت ديارها ولا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم ولا صدتها قلاع الرومان
ومعاقلهم ولا عاقها صعوبة الممالك ولا أثر في همتها اختلاف الأهوية ولا فعل في
نفوسها غزارة الثروة عند من سواها ولا راعها جلالة ملوكهم وقدم بيوتهم ولا تنوع
صنائعهم ولا سعة دائرة فنونهم ولا عاق سيرها أحكام القوانين ولا تنظيم الشرائع
ولا تقلب غيرها من الأمم في فنون السياسة. كانت تطرق ديار القوم فيحقرون
أمرها ويستهينون بها وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع
أركان تلك الدولة العظيمة وتمحو أسماءها من لوح المجد وما كان يختلج بصدر أن
هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة وتمكن في نفوسها عقائد دينها
وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها لكن كان كل ذلك ونالت تلك الأمة المرحومة
على ضعفها ما لم تنله أمة سواها. نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم
أجورهم مجدًا في الدنيا وسعادة في الآخرة.
هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء مائتي مليون من النفوس [**] وأراضيها آخذة
من المحيط الأتلانتيكي إلى أحشاء بلاد الصين تربةً طيبةً ومنابت خصبةً وديارًا
رحبةً ومع ذلك نرى بلادها منهوبة وأموالها مسلوبة تتغلب الأجانب على شعوب
هذه الأمة شعبًا شعبًا. ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة ولم يبق لها كلمة تسمع
ولا أمر يطاع حتى أن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة ويمسون في
كربة مدلهمة ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء
لهم. هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام يؤدين لها الجزية عن يد وهن
صاغرات استبقاء لحياتهن وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك
الدول الأجنبية. ياللمصيبة ويا للرزية. أليس هذا بخطب جلل؟ أليس هذا ببلاء
نزل؟ ما سبب هذا الهبوط وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالوعود
الإلهية؟ معاذ الله , هل نستيئس من رحمة الله ونظن أن قد كذب علينا؟ نعوذ بالله.
هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد ما أكده لنا. حاشاه سبحانه. لا كان شيء من ذلك
ولن يكون فعلينا أن ننظر إلى أنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها. إن الله تعالى برحمته قد
وضع لسير الأمم سننًا متبعة ثم قال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} (الأحزاب:
62) .
أرشدنا الله في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها ولا بادت
ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على
أساس الحكمة البالغة. إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض
عيش وأمن وراحة حتى يغير أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر
وإشراق البصيرة والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين
جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار ثم الفناء لعدولهم عن سنة العدل
وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة. حادوا عن الاستقامة في الرأي والصدق
في القول والسلامة في الصدور والعفة عن الشهوات والحمية على الحق والقيام
بنصره والتعاون على حمايته. خذلوا العدل ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمته
واتبعوا الأهواء الباطلة وانكبوا على الشهوات الفانية وأتوا عظائم المنكرات.
خارت عزائمهم فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة , واختاروا الحياة في
الباطل على الموت في نصرة الحق فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها وجعل هلاكها
ودمارها في التخلي عنها. سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم ولا تتبدل بتبدل
الأجيال كسنته تعالى في الخلق والإيجاد وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال. علينا أن
نرجع إلى قلوبنا ونمتحن مداركنا ونسبر أخلاقنا ونلاحظ مسالك سيرنا لنعلم هل
نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح هل غيَّر
الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا وخالف فينا حكمه وبدل في أمرنا سنته؟ حاشاه
وتعالى عما يصفون بل صدقنا الله وعده حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه
من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئًا فبدل عزنا بالذل
وسمونا بالانحطاط وغنانا بالفقر وسيادتنا بالعبودية. نبذنا أوامر الله ظِهْريًّا وتخاذلنا
عن نصره فجازانا بسوء أعمالنا ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة سوى التوبة والإنابة
إليه. كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا ويستذلون أهلنا
ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا ولا نرى في أحد منا حراكًًًًا.
هذا العدد الوافر والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن
أوطانهم وأنفسهم شيئًا من فضول أموالهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة كل
واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة وأن كان غذاؤه الذلة وكساؤه المسكنة ومسكنه
الهوان. تفرقت كلمتنا شرقًا وغربًا وكاد يتقطع ما بيننا لا يحن أخ لأخيه , ولا يهتم
جار بأمر جاره , ولا يرقب أحدنا في الآخر إلاًّ ولا ذمة , ولا نحترم شعائر ديننا
ولا ندافع عن حوزته ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا.
أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا
يمس سواد القلوب؟ هل يرضى منهم بأن يعبدوه على حرف فإن أصابهم خير
اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوهم خسروا الدنيا والآخرة؟ هل ظنوا
أن لا يبتلي الله ما في صدورهم ولا يمحص ما في قلوبهم؟ ألا يعلمون أن الله لا
يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب؟ هل نسوا أن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره وإعلاء كلمته لا يبخلون في
سبيله بمال ولا يشحون بنفس؟ فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنًا وهو لم
يخط خطوة في سبيل الإيمان لا بماله ولا بروحه. إنما المؤمنون هم الذين إذا قال
لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم لا يزيدهم ذلك إلا إيمانًا وثباتًا
ويقولون في إقدامهم: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: 173) كيف
يخشى الموت مؤمن وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يرزق عند ربه ممتع
بالسعادة الأبدية في نعمة من الله ورضوان؟ كيف يخاف مؤمن من غير الله , والله
يقول: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) .
فلينظر كلٌّ إلى نفسه ولا يتبع وسواس الشيطان وليمتحن كل واحد قلبه قبل
أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطبق بين صفاته وبين ما وصف الله به
المؤمنين وما جعله من خصائص الإيمان , فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا
واهتدينا. يا سبحان الله! إن هذه أمتنا أمة واحدة والعمل في صيانتها من الأعداء
أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء. يثبت ذلك نص الكتاب العزيز
وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة
بعد صولة ويستولون عليها دولة بعد دولة والمتَّسمون بسمة الإسلام آهلون لكل
أرض متمكنون بكل قطر ولا تأخذهم على الدين نعرة ولا تستفزهم للدفاع عنه
حَمِيَّةٌ؟ . ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه
من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إمامًا لكم في جميع أعمالكم مع مراعاة الحكمة في
العمل كما كان سلفكم الصالح. ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرءوا منه {فَإِذَا
أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (محمد: 20) ألا تعلمون فيمن نزلت هذه
الآية؟ نزلت في وصف من لا إيمان لهم. هل يسرُّ مسلمًا أن يتناوله الوصف
المشار إليه في الآية الكريمة أو غرّ كثيرا من المدعين للإيمان ما زين لهم من سوء
أعمالهم وما حسنته لديهم أهواؤهم {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) أقول ولا أخشى نكيرًا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون
أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان لا يراعي في ذلك عذرًا ولا تعلة وكل
اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله.. .. .. .. .
مع هذا كله نقول: إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا به نبأ
النبوَّة وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضًا يزول ولو قام العلماء
الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله والرسول وللمؤمنين لرأيت الحق يسمو
والباطل يسفل ولرأيت نورًا يبهر الأبصار وأعمالاً تحار فيها الأفكار , وإن الحركة
التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تبشرنا بأن الله قد أعدَّ
النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين ويوحّد بها بين جميع الموحدين ونرجو
أن يكون العمل قريبًا فإن فعل المسلمون ذلك وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله
عليهم صحت لهم الأوبة ونصحت منهم التوبة وعفا الله عنهم {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
المُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152) فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير وهو
الخير كله - جمع كلمة المسلمين - والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم في العمل
{ومَن يَهْدِ الله فَهو المُهْتَدِ ومَنْ يُضْلِلْ فَلن تَجِدَ لهُ وَليًّا مُرْشِدًا} (الكهف: 17) .
(المنار)
ليس المراد بجمع كلمة المسلمين أن يكون لهم سلطان واحد وحكومة واحدة فقد
صرح صاحب المقالة في مقالة أخرى بأنه لا يعني بجمع كلمة المسلمين أن يكون
إمامهم الحاكم واحدًا وقال: إن هذا ربما كان متعذرًا وإنما أعني أن يكون إمامهم
القرآن. وليعتبر بما في المقالة من الآيات البينات على وجوب العناية بأمر الحرب
المسلمون الذين يعدون انتظام أبنائهم في سلك الجهادية من أكبر المصائب ويحتالون
في الهروب منها حتى بإتلاف بعض الأعضاء ويتوسلون إلى أضرحة الأولياء
والصالحين لإنجائهم من ذلك فيا للفضيحة ويا للبعد عن الإسلام. وظاهر أنه لا
يمكن لأمة أن تحفظ وجودها وتصون استقلالها إلا بالقوة الحربية والأمة التي لا قوة
لها ولا استقلال تكون في أسوأ الأحوال سواء كان ذلك في الآداب والفضائل أو في
الأعمال والصنائع النافعة بل لا يمكن دفع مصائب الحرب إلا بالاستعداد الكامل
للحرب.
__________
(*) من مقالات العروة الوثقى الحكيمة والعنوان لنا.
(**) ثبت بالإحصاء الأخير أن المسلمين ثلاثمائة مليون أو يزيدون وما في المقالة كان بحسب
الإحصاء السابق.(3/433)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(الدرس 12)
م (34) العلم
معنى العلم بديهي في نفسه وأعم تعريف له أنه انكشاف الشيء للمستعد له
ويسمى الشيء المنكشف معلومًا ومن انكشف له عالمًا , وإذا كان متعلق العلم كثيرًا
سمي عليمًا وعلامًا , ولم يرد إطلاق لفظ (العالم) على الله تعالى في القرآن إلا
مضافًا إلى المعلوم كقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام: 73) وورد {عَلاَّمُ
الغُيُوبِ} (المائدة: 109) وأما لفظ (عليم) فهو الذي كثر إطلاقه عليه تعالى
بصيغتي التعريف والتنكير لأن وزن فعيل يدل على الصفات الثابتة كما تعلم من
التفسير في الباب الآتي قال تعالى: {وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (يس: 81) وقال:
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 29)
كل فعل يصدر من فاعل يشتق له من اسمه وصف؛ يحمل عليه , وإن من
الأفعال ما له مبدأ خاص ثابت في نفس الفاعل لا يصدر الفعل إلا عنه , ومنها ما
يستند إلى مبدأ عام مثال الأوّل: الرحمة والعطف على البائس , ومثال الثاني:
المشي فإنه يستند إلى القدرة وليس له مبدأ خاص في نفس الماشي. وإن من الأفعال
ما إذا حصل يثبت ويستمر كالعلم ومنها ما ينقطع كالشم والإعطاء , فما له مبدأ
خاص في النفس واستقرار فيها جدير بأن يسمى صفة ذاتية , وما ليس كذلك حقيق
بأن يسمى صفة فعل , والذين دققوا في تفسير الألفاظ قالوا: إن العلم كما يطلق على
انكشاف الشيء للعالم فعلاً يطلق أيضًا على مبدأ هذا الانكشاف ومصدره في النفس
علمت حقيقته أو لم تعلم , وكل هذا ظاهر بالنسبة للإنسان.
أما الذي قام عليه البرهان من علم الله - تعالى - فهو أنه بكل شيء عليم وأن
هذا العلم ثابت له أزلاً وأبدًا فهو المحيط بجميع المعلومات قبل وجودها وبعده وعلمه
بها قبل وجودها يسمى علم الغيب وبعد وجودها يسمى علم الشهادة وهو سبحانه
(عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم) وما زاد على هذا من البحث في أن
لعلم الله تعالى مبدأ قائمًا بنفسه تعالى وتقدس فهو أشبه بقياس الواجب على
الممكن والقديم على الحادث وهو الذي أدى بالمتكلمين إلى الحيرة ومصارعة
الشبهات لأن القول بأن الصفات الذاتية كالعلم والإرادة لها وجود مستقل قائم
بالذات بحيث لو كشف عنا الحجاب لرأيناها (كما قال بعض المجتهدين في تقليد
المتأخرين) يقتضي تعدد الواجب وقد أراد بعضهم الخروج من هذه الشبهة فقال: إن
صفات الذات عين الذات ورُدَّ عليه , والجمهور على أنها ليست عين الذات ولا غير
الذات. ولم يكلفنا الله تعالى بشيء من هذه الأبحاث الفلسفية وإنما كلفنا بأن نعتقد أنه
بكل شيء عليم , والبرهان العقلي يدل على هذا , وقد تعذر على حكماء العالم اكتناه
حقائق الممكنات فكيف نحاول اكتناه صفات الواجب القديم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
م (35) أما البرهان على علمه تعالى
فحسبك ما أرشد إليه الكتاب العزيز بقوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (الملك:
14) بلى فإن العقل لا يتصور أن صانع آلة الساعة ومبدعها غير عالم بها وبكل ما
يتوقف عليه اختراعها وعملها من العلوم والفنون ولا أرى من حاجة للإطالة في
الاستدلال هنا إذ لا يوجد في العالم من يثبت وجود خالق للكون وينكر أن علمه بكل
شيء محيط , والمجال واسع لمن يريد السباق في هذه الحلبة لا سيما لمن له وقوف
على العلوم الطبيعية من جماد وسائل وغاز وحيوان وعلم الهيئة الفلكية فإن جميع
العوالم والكائنات التي يبحث عنها في هذه العلوم قائمة بنظام كامل مبني على أساس
الحكمة ولها سنن ونواميس ثابتة اهتدى الباحثون إلى بعضها فحارت عقولهم في هذا
الإبداع , ودلهم ما علموا منها على صدق قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلا} (الإسراء: 85) فإن الجاهل المطلق لا يخطر في باله ما ينبغي أن يعلم
فيتوهم أنه يعلم كل شيء وكلما اهتدى الإنسان إلى مسألة من مسائل العلوم
الصحيحة؛ تنفتح له بها كوَّة في العالم يشرف منها على كوًى كثيرة يتحقق أن
وراءها مشاهد عظيمة تتوقف على فتحها فيزداد علمًا بجهله ويطلب المزيد , ومن
ثم ورد في الحديث الشريف: (منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال) وقد
لاحظ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - هذا المعنى فقال:
كلما أدبني الدهـ ... ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
وإذا كان الإنسان أكمل المخلوقات عاجزًا عن إدراك كل هذه الحكم والإحاطة
بجميع هذا النظام فهل يصح أن يكون مصدر ذلك من هو دونه في العقل فضلاً عن
(حركة المادة) يهذي بها الماديون وما هي إلا عرض لا يصح في العقل أن يكون
مصدر هذا النظام البديع.
ما أشدَّ غفلة هؤلاء الماديين إذ قالوا: إن حركة المادة هي الفاعلة والمدبرة
لهذه العوالم من النقاعيات (الميكروبات) التي يعيش الملايين منها في نقطة
صغيرة من الماء تسبح فيها وتتغذى وتتوالد على أكمل نظام ولها أعمال تعجز عنها
الرجال فإن جحافلها تكر على الإنسان وغيره فتفتك به ما لا يفتك المكسيم والموزير ,
وتؤثر في كل حيوان ونبات - إلى الحيوان والإنسان الذي حارت الأفكار في حكمة
كل عضو من أعضائه لا سيما المشاعر فإن العين مؤلفة من طبقات ورطوبات ولها
من الرباطات، والأوردة، والشرايين، والأشكال الهندسية، والألوان الموافق كل
ذلك لسنن النور ونواميسه بحيث لو تغير وضع من أوضاعها لاختلت وظيفتها،
وذهب الإبصار فهل هذا كله من فعل حركة المادة أم هو فعل العليم الحكيم؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/441)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
من كتاب
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد)
(14) من هيلانة إلى أراسم في 20 سبتمبر سنة 185
إخالني فهمت طريقتك في تربية النفس وأراني مرتاعة من عظم العمل
المعهود إليَّ به والصعوبات التي تعترضني في سبيل إتمامه لأن أمر الطفل بفعل ما
يجب عليه فعله أهون بكثير من تصفح الأشياء لإيجاد ما يبعثه منها إلى صالح
الأعمال على أني سأحاول العمل على هذه الطريقة فإني على يقين تام من أن الكلام
والنصائح والمواعظ لا تكفي لتهذيب الطبع وتقويمه بل إني قد وصلت من هذا
اليقين إلى حد أن أحدث نفسي بأن في التبكير بتلقين الطفل بعض المواعظ وإيداعها
ذاكرته حطًّا من شأنها ونقصًا من قيمتها مهما كانت حسنة مفيدة فإنه يسهل عليه
بذلك الاعتياد على تلمس الفضيلة من الكلام واعتبار الوجدان أستاذ مدرسة.
على أني إلى الآن لم أبلغ مع (أميل) هذه الدرجة فإنني لو كلمته في علم
الأخلاق لألفيته بلا شك في غاية العجز عن فهم ما أقوله ولكنه على صغره له دين
كما يدل عليه اتخاذه اللُّعب التي يعطاها آلهة يخصصها بفرط محبته، ومزيد عنايته
فلو أني أردت من الآن تغيير الأحوال المقارنة لسنِّه، وفطرته في بضع سنين
لأضعت وقتي عبثًا , ولما نجحت إلا في تبديل تماثيله بأوثان أخرى.
لا تزال عواطف (أميل) في غاية القصور كما رأيت فأصبت في رأيك.
على أن للأطفال مهما كانوا صغارًا حاسة عجيبة يفرقون بها بين الصحيح من أنواع
ميل الناس إليهم وعطفهم عليهم والمموه منها فهم يحبون من يحبهم وقلما ينخدعون
بضروب الرياء والاستمالة وأنواع التدليل والملاطفة , ومما يشهد لذلك أني في
معظم أوقات زيارتي للسيدة وارنجتون ألاقي عندها امرأة ترملت في شبابها وهي
تزعم أنها تعشق الأولاد عشقًا وتقول: لِمَ لمْ يهب لي الله (سبحانه) ولو ولدًا واحدًا
وتدعي أنها كلما فكرت في ذلك كاد يغمى عليها , ولكني في ريب من أن قلبها
كقلوب الأمهات؛ لأن (أميل) لا يطيق النظر إليها.
لا مناص لنا من الانفعال بما يحيط بنا من المؤثرات الخارجية كما تقول ,
وإلا فما السر في أنني أحب التنزه في طريق مخصوص كلما تلقيت مكتوبًا من
مكاتيبك , وكيف أن بعض الأشجار يجذبني إليه ويدعوني إلى تفيئه والجلوس تحته
في حال ثوران أشجاني خاصة وبماذا أفسر ما أجده من الارتباط بين رؤيتي
لصخرة وما أحس به إذ ذاك من نقص في عزمي ووهن في ثباتي , فلا شيء يطابق
جميع حالات النفس ويلائمها سوى البحر على ما أرى اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(3/444)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(عيد الجلوس الفضي)
كان عيد الجلوس الفضي لمولانا أمير المؤمنين من أعظم أعياد الملوك
والعواهل بعثت الدول العظمى فيه البعوث إلى دار الخلافة العثمانية لتهنئة هذا
السلطان العظيم الذي أدهش بسياسته جميع السياسيين وكان المتوقع أن الوفد
المخصوص لا يبعث إلا من قبل إمبراطور ألمانيا ولكن ظهر أن غيره سابقه إلى
هذه الحظوة حتى روسيا وإنكلترا وقد أمرت هذه أسطول البحر المتوسط الراسِي
في مياه لمنوس (أمام الدردنيل) بأن يقوم بالزينة البهية ففعل وذهب أميره مع فرقة
من الضباط إلى الآستانة مخصوصًا لأداء واجب التهنئة.
أما الاحتفالات والزينات في الممالك العثمانية فحدث عنها ولا حرج وأحق
زينات القطر المصري بالذكر زينة قصر رأس التين الخديوي وحسبك أنها من قبل
أمير البلاد أعزه الله تعالى وقد استتبعت مأدبة برئاسة سموه حضرها كبار رجال
الحكومة ووكلاء الدول الأجنبية ثم زينة قصر الغازي مختار باشا وقد أقامها بالنيابة
عن دولته سعادة محسن بك حضر من الآستانة مخصوصًا لهذا الغرض ثم زينة
محافظة مصر ثم الزينة الوطنية الكبرى في حديقة الأزبكية ثم زينة الجامع الأزهر
وكان المناسب أن يكون الاحتفال في الأزهر الشريف بغير زينة لأنها لا تنبغي
للمساجد ثم ما كان في الفنادق (اللوكاندات) والمخازن والأسواق والشوارع
وإدارات الجرائد ومكاتب المحامين , وتبع القاهرة في هذا سائر مدن القطر
المصري وقد احتفلت جمعية شمس الإسلام وزينت مواقع إداراتها في مصر القاهرة
وغيرها , وأبهج زينة واحتفال لها ما كان في فرع الفيوم وقد نوهت به الجرائد
اليومية كالمؤيد والوطن فلا نطل به.
وقد وردت علينا قصائد التهاني السلطانية بهذا العيد الحميد منها ما نشرته
بعض الجرائد المصرية كله أو بعضه كقصيدة الشاعر الأديب أحمد أفندي الكاشف
ومنها ما لم تنشره كقصيدة الأديب حسن أفندي شاكر من نجباء شبان دمياط ومطلعها:
أهلاً بعيد جلوس عاد فضّيًّا ... ممثلاً ربع جيل مرَّ مرضيا
ربع إذا أنصفوه كان أربعة ... أو أربعين وما غالوا إذًا شيا
وقد أطال فيها القول بسكة حديد الحجاز وختمها بقوله:
الله أكبر (يا عبد الحميد) لقد ... أحمدت ذكرًا مدى الأدهار مبقيا
فليس من بعد هذي أنعم كبر ... مرويها فائق ما كان مرئيا
فدمت للدين والدنيا غيائهما ... ودام ملكك بالإسعاد مرعيا
ومنها قصيدة فريدة لحضرة صديقنا الفاضل الشيخ محيي الدين أفندي الخياط
البيروتي الشاعر المشهور، وهي بنصها:
أطلس دائر وأرض سماء ... شهبها النور فهي أرض ضياءُ
طوقتها سلاسلاً من نضار ... وهي بيضاء قبة حمراء
من سهام فوق العلا خافقات ... ساكنات بها الثرى وضاء
ذكرتنا نيازك النار لاحت ... وهي بالأفق أنجم رفلاءُ
أبيض أحمر وصفر وخضر ... قزح القوس أم هي الأضواء
نور زهر لا نور زهر حواه ... روض أفقٍ لا روضة غناء
أيها الأطلس الأثير أيوح ... بالليالي أم الليالي ذكاء
خلل بالمدار فالليل صبح ... لا ظلام به ولا ظلماء
أيها الليل أين منك الدياجي ... أقضت نحبها وتم القضاء
عظم الله أجرنا فيك يا ليـ ... ـل فللبعث بيننا الالتقاء
عصر نور ونور عصر حميد ... فر منه الظلام وهو هباء
لك (عبد الحميد) فيه لواء ... خافق من بنوده الزهراء
يا ابن (عثمان) أي تخت تبوأ ... ت وملك له الملوك فداء
قد صعدت السرير وهو خفوق ... وقبضت الحسام وهو دماء
وفللت الخطوب وهي مواض ... وفتلت الذماء وهو ذماء
فجمعت الأمور والأمر شتى ... وعمرت البلاد وهي بلاء
شِدْتَ فيها مدارسًا هن قبلا ... طلل دارس ورسم عفاء
وربوعًا أرجاؤها آهلات ... قرَّ فيها وفي بينها الرجاءُ
***
أصبحت بالفنون تحكي جنانًا ... تربها التبر درّها الحصباء
يصدح العلم في (صبا) ها (حجازًا) ... فتناغي (عشاقه) الورقاءُ
شدت فيها مصانعًا في مغان ... هي للتجر مغنم وثراء
معهد باذخ بناء عظيم ... مشهد شاهق علاه بناء
وسبيل زلاله سلسبيل ... وبروج هياكل أرجاء
قد ملأت البلاد عدلاً وعلمًا ... أين منك الملوك والعلماء
أي ثغر ما أنت فيه ابتسام ... أي أرض ما أنت فيها ماء
في ربوع الحجاز أومض برق ... منك ودت أسلاكه الجوزاء
في ربوع الحجاز سطرت خطًّا ... تتمنى حديده الزرقاء
أكبرته الأيام فهي أَيامَى ... عنه كانت وعصرك العذراء
أكبرته البلاد فهي عهاد ... عهدتها من جودك الأنواء
أكبرته البلاد فهي ثغور ... كلها ألسن وكل ثناء
أكبرته الأملاك والعالم الغي ... بي والرسل قبل والأنبياء
وقلوب الإسلام حولك حامت ... كحمام وطوقها النعماء
فتبوأ (خلافةً) أنت فيها ... نقطة الباء وهي فيك الباء
عدها القوم عثرة وحزونًا ... للمعالي وهي السهول الفضاء
حملت للأنام نورًا ونارًا ... هكذا العدل شدة ورخاء
حملت للأنام أي علوم ... فهي للعلم راية ولواءُ
أين كانوا أيام كانت ولكن ... سنة الله في الأنام سواء
إنما الدهر من قصور براء ... مثلما الدين من قصور براء
سنن الله في الخلائق طرًّا ... هي فينا المحجة البيضاء
ودَّ قوم للفرقدين افتراقًا ... فاحك يا قطب واسمعي يا سماءُ
لا أغالي بيض الأنوق قريب ... دون هذا والأقرب العنقاء
توأم الملك والخلافة فينا ... أرضعته أم العلا السمحاءُ
قد ملكنا الثرى وجزنا الثريا ... فيهما والزمان ظل وماء
وجنينا من العلوم جناها ... وجنينًا وما جنى الأعداء
لا قنوطًا فالدهر يعطي سجالاً ... إنما الناس كلهم أكفاءُ
وحنانيك إن قصرت يَراعِي ... فهو زُجٌّ لا صعدة صماء
أيطول الزج الغزالة فذًّا ... حيث لا تبلغ الضحى الصعداء
(ربع قرن) نعده ألف عام ... ألف عام جميعها آلاء
وسموه الفضي وهو نضار ... وعليه من الضحى لألاء
دمت للدين ملجأ وملاذًا ... ما استضاءت أرض وضاءت سماءُ
* * *
(تشريف الجناب العالي الخديوي)
عاد من أوروبا بالعز والإقبال مولانا العباس عزيز مصر المعظم بعدما زار
ملكة الإنكليز ولقي منها ومن عظماء دولتها أعظم احتفال يكون لأكابر الملوك
ومنحته وأكابر حاشيته الوسامات والألقاب العالية. وقد جال سموه بعد ذلك في
أوروبا جولة انتهت به إلى أودسا في الروسية وكان هناك كما كان في كل مملكة
ملتقى التجلة والإكرام من القياصرة والملوك فنهنىء القطر بسموه ونسأل الله أن
يزيده ويزيد البلاد به عزًّا وسؤددًا.
* * *
(وفاة عالم)
فاجأت المنية في يوم الثلاثاء الماضي الأستاذ الشيخ محمد البحيري أحد أكابر
علماء الأزهر وأعلامهم. كان رحمه الله طويل الباع في العلوم الأزهرية وأحد
أركان فقه الشافعية دمث الأخلاق متواضعًا جدًّا لم يلبس في عمره (الفرجية) التي
هي من خصائص علماء الدين في عرف الوقت بل كان لبوسه لبوس الطلاب
المجاورين وكان يطالع درس الفقه الذي يقرؤه في الأزهر في مدة سبع ساعات مع أن
وقت إلقائه نحو الساعتين ويطالع درس النحو في خمس ساعات مع أن وقته أقصر
من وقت الفقه. اجتمعنا به مرارًا وذاكرناه في انتقاد طريقة التعليم في الأزهر فكان
يظهر لنا منه الاقتناع بأنه لا ضرورة لتغييرها وكانت تنتهي المناظرة عند الحد
الذي يتوقف إثباته على التجربة والاختبار. رحمه الله تعالى رحمة واسعة وعزى
الأزهر الشريف على فقده.
* * *
(تعزية)
نعزي إمام الأدب , وعلامة لغة العرب الأستاذ المحدث الشيخ محمد محمود
الشنقيطي بولده الوحيد الذي فقده عن نحو سنة ونصف جعله الله فرطًا له وعوضه
خيرًا. وأجدر بهذا الأستاذ أن يتمثل بقول الشاعر:
يقولون:
إن المرء يحيى بنسله ... وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم: نسلي بدائع حكمتي ... فإن لم يكن نسل فإنا بها نسلو
* * *
(أكبر مدفع في الدنيا)
روت الجرائد الإفرنجية أن لدى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مدفع في
الدنيا وطوله 17 مترًا وطول قنبلته قريب من مترين وبالتحديد متر و92 سنتيمًا
ووزنها 1400 كيلو أو 1120 أقة تعلو في الجو ثمانية آلاف متر وتسمع من مسافة
35 ألف متر وثمنها 1320 فرنكًا.
* * *
(دخول بكين)
دخلت العساكر المتحدة من أوربية ويابانية وأميركانية إلى بكين عاصمة
الصين وأنقذوا السفراء وسائر الأوربيين من الضيق الذي كانوا فيه. وجاء في
البرقيات أنهم أطلقوا النار من سلاحهم على القصر الملكي. وجاء فيها أيضًا أن
الفوغفور (الإمبراطور) قد خرج مع أسرته منها قبل دخول الجنود المتحدة فيها
بأيام ولا يزال البوكسر يناوشون الأوربيين في غير ما موضع وقد اقترحت روسيا
الخروج من العاصمة والمخابرة بالصلح مع حكومة الصين.
* * *
(البوير والإنكليز)
لا تزال الحرب بينهما سجالاً في جنوب أفريقيا وقد أذهل العالم كله شجاعة
البوير وثباتهم.
* * *
(إعانة سكة حديد الحجاز)
تفيد أخبار جرائد دار السعادة أن المسلمين في روسيا والهند وجاوه
وسنغافور مستعدون جميعًا لجمع الإعانات لمشروع هذه السكة وكذلك بلاد إيران
وينتظر من مكارم الشاه المعظم أن ينفح لجنة الإعانة في الآستانة مبلغًا عظيمًا عند
زيارته لها في هذه الأيام. وقد قوي رجاؤنا في هذا بعدما علمنا أنه تكرم بمبلغ ألوف
من الفرنكات على فقراء باريس عندما كان فيها فكيف لا يتبرع بألوف من الجنيهات
على مساعدة عمل يسهل على أبناء دينه إقامة ركن من أركان دينهم.
__________(3/450)
21 جمادى الأولى - 1318هـ
16 سبتمبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة حياة الأديان
انتشار الأديان والمذاهب وثباتها وعدمها. موقع الدين من النفوس وأثره.
غيرة المسلمين على دينهم. انتشار المسيحية في أفريقيا والسودان. الحيرة والجهل
في المسلمين. انتشار الأديان. زعم بعضهم أن سببه القوة الحاكمة ورده. قول
الآخرين إن السبب كونها حقًّا ورده. بيان السبب الحقيقي. الإسلام انتشر بالدعوة
لا بالسيف. شأن الدعوة العظيم. المرتدون من الصنف الملقب بالإسلام. إهمال
العلماء.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) , {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) .
قام في العالم الإنساني أديان كثيرة ثبت بعضها وانتشر وانقرض البعض
الآخر , ووجد في هذه الأديان مذاهب متعددة كان شأنها شأن الأديان نفسها في الثبات
والانتشار والعفاء والاضمحلال. ومن الناس من يلتفت إلى هذا الأمر العظيم ولا
يبحث في سببه ومنهم من يحكم فيه بغير هدى ولا عقل منير على أن البحث فيه
بحث في حياة الأديان ومماتها وبقاء المذاهب وفنائها، وللدين في نفوس البشر أعلى
المنازل وموقعه منها أشرف المواقع فلا يرون مفخرًا أسمى من سعة انتشار دينهم
وكثرة سواد متبعيه وعزة أهله وقوة بنيه ولا يرون ذلة أشد إيلامًا ولا مهانة أوجع
سهامًا من تقلص ظلال دينهم ومروق متبعيه منه أو وقوع الحيف والظلم فيهم
وضرب الذلة والمسكنة عليهم. وقوة هذه الوجدانات المؤلمة أو الملائمة وضعفها
يتبعان قوة التمكن في الدين والثقة به والاعتقاد بوجوب تعميمه وشيئًا آخر هو من
الاعتبار بمكان وهو تاريخ الدين وما يقصه على أبنائه من مجد سلفهم السابق
واستعلائهم بدينهم على من سواهم وما نالوا به من سيادة وسلطان. وكل هذه
الشروط متوفرة في المسلمين ولا تكاد توجد كلها أو أكثرها فيمن عداهم ولذلك نراهم
على خذلانهم لدينهم في هذه الأزمنة وتنكبهم طريقه وانحرافهم عن صراطه يتنفسون
الصعداء ويتململون من الألم إذا سمعوا بأن زنجيًّا في أحشاء أفريقيا أو مغوليًّا في
أطراف الصين انتسب بعد الإسلام إلى دين آخر أو استبدل اسمًا من أسماء العلوج
باسم محمد أو أحمد وإن كانوا يعلمون أنه من المسلمين الجغرافيين الذين ليس لهم
من الإسلام إلا الأسماء والألقاب ولكنهم على هذا كله لا يبحثون عن الأسباب
الحقيقية لطي الأديان ونشرها فيستعدوا لاستكمال السبب والعمل به ليمتنع الطي
ويثبت النشر ويزداد امتدادًا.
نشر المؤيد من أيام مقالة عنوانها (الإسلام والمسيحية. في البلاد السودانية)
للرحالة ابن حام مكاتبه الشهير ذكر فيها انتشار النصرانية في أفريقيا بهمة المبعوثين
المسيحيين قائلاً: إن أهالي مستعمرة السنيغال الفرنساوية صاروا كاثوليكًا غالبًا
وأهالي مستعمرة الكونغو البلجيكية كذلك وسكان بلاد أوجندة الإنكليزية صاروا
بروتستانًا , ثم ذكر أنه جاء أم درمان من خمسة أشهر ثلاث حملات عسكرية من
الجنوب الأولى الإنكليزية والثانية فرنساوية والثالثة بلجيكية. رجال هذه الحملات
أفريقيون وضباطهم أوربيون وكلهم مسيحيون وذكر الرحالة أنه رأى في زنوج
أوجنده من يعرف العربية وبعد سؤاله عن اسمه ودينه علم أنه كان مسلمًا تنصر
لكثرة جدال المبعوثين له وعدم وجود عالم يزيل شبههم ولكثرة مواساتهم له
ومعالجتهم إياه في مرض ألم به. ثم ذكر أن في أم درمان الآن ثلاث بعثات مسيحية
أميركانية بروتسنتية ونمساوية كاثوليكية وقبطية أرثوذكسية ولكل بعثة مدرسة
وكنيسة وليس للمسلمين والبلاد بلادهم مدرسة يُعلَّم فيها الإسلام طفل مسلم ولكل
بعثة من هذه البعثات شعبة في جنوبي فشودة توزع الإنجيل (الذي نقلوه إلى لغة
البرابرة حديثًا) وتدعو إلى النصرانية وأكثر دعاتها من أقباط مصر يخدعون
الزنوج ويختلبونهم بقولهم: إن الترك (اسم يشمل المصريين عندهم) كلهم
مسيحيون.. وأكَّد الرحالة هذا بأنه بلغه أن ملك الزنوج في جهات (دارفونج)
اعتنق النصرانية على أنها دين الحكومة الخديوية والدولة العلية ويتوقع أن يصير
أتباعه كلهم بروتستنتًا لأن العبيد على دين ملوكهم كما يقال. وقد رمى الرحالة
الفاضل علماء الأزهر بالتقصير كغيرهم في خدمة الدين والدعوة إليه ورمى الجرائد
الإسلامية بالغش فيما تنشره من ذكر قوة الإسلام وامتداده وانتشاره بنفسه تفريحًا
للناس وإنماءً لكسلهم وتماديهم في الخذلان كما رمى الجمعيات الإسلامية بالتقصير
في عدم التصدي لبعث البعوث للإرشاد وحفظ الإسلام على المسلمين وله الحق في
كل ما قال. نعترف له بالحق لأنه الحق لا لأننا نرجو أن لا تصيب سهامه المنار
الذي يكاد يكون كله إنذارًا للمسلمين بسوء مغبة ما هم فيه من الغرور وبيانًا لتقصير
العلماء في خدمة الدين بما يقتضيه حال العصر وإلحاحًا عليهم بوجوب الإصلاح
العلمي والديني ولم يثننا عن هذا عدم استعذاب كثير من الناس لهذا المشرب لما فيه
من مرارة الحق لرجائنا أن الزمان سيوضح لهم أنه الحق الذي لا محيص عنه وقد
رأينا بوادر هذا فقوي الرجاء بل صار يقينًا.
نشرت مقالة الرحالة فكان لها تأثير عظيم في نفوس المسلمين وألم سرى في
أرواحهم سريان الاعتقاد في مداركهم ولكنه ألم كسائر آلامهم في طورهم هذا لا يزيد
على حزن العجائز وتوجع الزمنى لا يجيء بسعي ولا يبعث على عمل إلا أن تكون
حضانة الحركة الفكرية الإسلامية الحاضرة قد أتمت تربية نفوس نفر من المسلمين
من حيث لا ندري فيندفع بعضهم إلى السعي في رتق الفتق في السودان ومداواة
العلة قبل استحكامها. والذي نعرفه هو ما أثبتناه قبلاً من طفولية الأمة وما فيها من
الحيرة والغمة بحيث لا تدري كيف يمكن تلافي هذا الأمر ومن كان على علم بشيء
من ذلك فإنما علمه رسوم تلوح في الخيال لا أثر لها في الروح والوجدان فتبعث
على العمل وهي أيضًا إجمالية غامضة لا تكفي في هداية من يريد العمل اللهم إلا
أفرادًا لا يصلون إلى منتهى جمع القلة يجب أن يصرف وقت الواحد منهم في تربية
بعض العلماء والفضلاء ليكونوا من المصلحين لا تعليم الزنوج مبادىء الدين. على
أنه لا يهدي العامل كالصدق والإخلاص إذا تكيفت بهما الروح وانفعل بهما الوجدان
انفعالاً. ولله در من قال:
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل
هذا ضرب من الاستشهاد أطلنا به الاستطراد لأن الذي حرك النفس للكتابة
في هذا الموضوع إنما هو كلام الرحالة فلنعد إلى البحث في السبب عن انتشار
الأديان والمذاهب فنقول: يذهب الأكثرون إلى أن القوة الحاكمة هي السبب الوحيد
في ذلك كما أنها السبب في كل إصلاح وإفساد فما شاءت الحكومة كان وما لم تشأ لم
يكن , وقد بارز (المنار) هذا الرأي بالحرب منذ إنشائه وهيهات أن يقتنع بالكتابة
إلا الأقلون على أننا لا ننكر أن القوة الحاكمة تستطيع تأييد السبب الحقيقي وتعزيزه
كما تستطيع خذله وتهديد القائمين به لكي يهنوا ويضعفوا ولكنها ليست هي عين
السبب وإذا هو وجد فلا تستطيع إعدامه وربما كان عملها على طيّه من علل
الانتشار وضغطها على أهله من أسباب الانفجار وما وجد دين ولا مذهب لم تقاومه
القوة وتواثبه الحكومة وقد انتصرت تلك المذاهب والأديان. وخذل من ناوأها من
حاكم وسلطان.
ويقول آخرون: إن العلة الحقيقية في امتداد الأديان وانتشارها هو كونها حقًّا
في ذاتها وعندما يرمى هذا القول على إطلاقه يسهل التسليم به ولا سيما على المسلم
البصير الذي يعلم أن دينه الإسلام ما قام وانتشر بالسيف كما يزعمون وإنما انتشر
بكونه حقًّا صارع الأباطيل فصرعها بالبرهان وظهور انطباقه على مصالح الإنسان
وإذا سئل هذا المسلم عن علة انتشار سائر الأديان يصعب عليه أن يجيب جوابًا فيه
مقنع لنفسه وللسائل لأنه إذا قال: (إن اليهودية والنصرانية إنما انتشرتا بالحق ثم
طرأ عليهما الباطل فظلتا سائرتين بحركة الاستمرار) يقال له: وما تقول في الديانة
الوثنية التي هي أعم الأديان انتشارًا؟ لا جرم أنه يحار في الجواب. ومن أهل
الإسلام طائفة قامت بمذهب بل دين جديد وهو آخذ بالانتشار حتى إن في مجاوري
الأزهر من يدين به ويدعو إليه يحاول هؤلاء أن يثبتوا أن انتشار الأديان والمذاهب
هو الدليل على حقيتها وهؤلاء يدعون أن أصول الديانات الوثنية. كديانة بوذه ,
وبرهما , وزرادشت صحيحة وسماوية أيضًا ليسلموا من هذا الإيراد (هكذا بلغني
عنهم) ولعلهم إذا سئلوا عن السبب في نجاح مذهب البروتستنت وانتشاره مثلاً
يقولون: إنه لم يخرج عن قاعدتنا فإن هذا المذهب إنما دعا إلى ترك التقاليد والبدع
التي طرأت على النصرانية والقرب بها من أصلها الحق , ولكن إثبات حقية الديانة
الوثنية وحقية الأديان والمذاهب الأخرى التي انتشرت وثبتت إلى الآن يتعسر، أو
يتعذر عليهم , والصواب أن هناك سببًا آخر للانتشار هو الذي انتشر به كل دين
ومذهب في العالم سواء في ذلك الحق والباطل , وإنما الفرق بين الحق والباطل أنه
إذا قذف بالأول على الثاني يدمغه وأنهما إذا تساويا في سبب الانتشار الذي نذكره
يثبت الحق ويزهق الباطل كما أرشدنا القرآن الحكيم وبهذا كان للإسلام السلطان
الأعلى على جميع الأديان لا بقوة السيف والسنان. ولو كان الحق ينتشر بذاته لأنه
الحق لما كتب الله علينا (الدعوة) إليه - وهي العلة الحقيقية والسبب الصحيح -
ولما كان من حاجة إلى الأنبياء والمرسلين ووراثهم من العلماء والمرشدين الداعين
إلى دين الله تعالى ولما وصف الله الدعوة إليه بأنها أحسن القول ولما أمر نبيه عليه
الصلاة والسلام بأن يبين للناس أن سبيله وطريقته التي يسلكها هو وأتباعه إنما هي
الدعوة إلى الله على بصيرة.
ما قام دين من الأديان ولا انتشر مذهب من المذاهب ولا ثبت مبدأ من المبادئ
إلا بالدعوة , وما تداعت أركان ملة بعد قيامها , ولا انتكث فتل شريعة بعد إحكامها ,
ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة. فالدعوة حياة كل
أمر عام تدعى إليه الشعوب والأقوام سواء كان ذلك الأمر حقًّا وإصلاحا في نفسه أو
كان باطلاً مموهًا بالحق وإفسادًا مغشى بالإصلاح ومسمى باسمه , ومن راجع
التاريخ يعلم أنه ما وجد أحد يدعو إلى شيء ولم يجد تابعًا , وها نحن أولاء نرى
المذاهب الباطلة تنمو بالدعوة ويعم انتشارها والمذاهب الحقة تتضاءل وتعفى آثارها.
وقد بدأ الإسلام يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم وأهملوا العناية بالدعوة إليه
وإنما طال زمن دور نموه مع كثرة ما صرفه من الموانع لقوته وأصالته في الحق ,
ولذلك ما أمكن لأهل دين آخر أن يردوا مسلمًا يعرف الإسلام عن دينه بل صعب
عليهم أن يردوا المقلدين فيه عنه لوضوح الفرق بينه وبين ما يدعون إليه من
الأديان الأخرى وغاية ما أمكنهم هو أن يفتنوا عددًا قليلاً ممن ليس لهم من الإسلام
إلا أنهم من صنف يُسَمَّى أهلُهُ المسلمين ويسمى دينهم الإسلام كبعض زنوج أفريقيا
وجهال جبال الهند وقفارها الذين لا يعرفون من الإسلام إلا حل أكل لحم البقر الذي
يقدسه مجاوروهم ولو بقي لعلماء المسلمين سؤر من الغيرة لنفروا خفافًا وثقالاً إلى
إرشاد هؤلاء الجاهلين ولكنهم لا يعملون إلا للمال. وقد طال بنا الشرح فأشفقنا على
القراء من الملل , وإننا نرجىء البحث إلى الجزء الآتي نبين فيه شروط الدعوة
وآدابها على ما أرشد إليه قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (النحل:
125) الآية.
__________(3/457)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(الدرس الثالث عشر)
م (36) الإرادة
ما تقدم من البحث في العلم من حيث كونه صفة يأتي في الإرادة وفى غيرها
من الصفات الذاتية. الإرادة صفة يخصص بها الفاعل في فعله بعض الوجوه
الممكنة المتقابلة على بعض بحسب العلم بوجوه التخصيص والترجيح فوظيفتها
بعث القدرة على العمل الذي يجزم العلم بأن فيه المصلحة والحكمة وقد اشتبه على
كثير من الناس فهم الإرادة فمن الناس من يظن أنها بمعنى المحبة والرضى ولذلك
قالوا: إن ضدها الكراهة , والصواب أن ضدها (عدم الإرادة) يصدق بأمور منها
كون الفعل يصدر بالإجبار والإكراه ومنها كونه يصدر بالعلة والطبع والحق أنه ما
شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يشاء الله إلا ما سبق في علمه وإلا لزم الجهل
تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ومنهم من لا يفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة
الإنسان حيث يتوهم أن معنى إرادة الواجب صفة يصح له بها أن ينفذ ما قصده وأن
يرجع عنه , وهذا محال في جانب الواجب كما قال أستاذنا في رسالة التوحيد (فإن
هذا المعنى من الهموم الكونية والعزائم القابلة للفسخ وهي من توابع النقص في العلم
فتتغير على حسب تغير الحكم وتردد الفاعل بين البواعث على الفعل والترك) .
م (37) أما الدليل على إثبات الإرادة للبارئ تعالى؛ فهو لازم لدليل إثبات
العلم لأن من يجزم بأن علم الله تعالى محيط بكل شيء بدليل أنه خالق كل شيء ,
وأنه لا يُعْقَل أن يخلق ما لا يعلم ويعرف مع هذا أن كل هذه المخلوقات يجوز في
العقل أن تكون على غير ما هي عليه بأن يكون الكبير صغيرًا والأسود أبيضًا إلى
غير ذلك من الوجوه الممكنة وما يقابلها يجزم بعد الإحاطة بما ذكر بأن الإرادة هي
التي رجحت بحسب العلم ما كان على ما لم يكن من الوجوه الممكنة.
م (38) القدرة
هى الصفة التى يكون بها الفعل والتأثير والتحويل والتغيير , ودليلها ما بيناه
أولاً من أن جميع الممكنات صادرة عن الواجب تعالى ثم ما بيناه أخيرًا من أن
صدورها عنه إنما هو بتخصيصه المطابق لعلمه , وهل يعقل أن الفاعل بإرادة عن
علم لا يكون قادرًا؟ كلا {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 20) .
م (39) الاختيار والنظام
الاختيار: هو أن يُصدر الفاعل الفعل بقدرته وإرادته الموافقة لعلمه لا
بإيجاب موجب ولا قهر قاهر ولا بالعلة العمياء ولا بالطبع الذي لا شعور معه.
وهذا المعنى لازم لثبوت الصفات الثلاث (العلم والإرادة والقدرة) , ثم إن الأفعال
الاختيارية يكون كمالها ونظامها وإتقانها وإحكامها بحسب كمال العلم وإحاطته بوجوه
المصالح ومواقع الحكمة والنظام. وعلم الله تعالى كسائر صفاته في منتهى الكمال
فأفعاله تعالى في غاية الكمال {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ
يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: 3-4) . فإذا أمكن أن يكون
علمه - تعالى وتقدس - قاصرًا عن الإحاطة بكمال النظام أو أن قدرته قاصرة عن
إنفاذ ما علم أنه الكمال (سبحانه سبحانه) يمكن أن تكون هذه العوالم التي هى أثر
علمه وحكمته وإرادته وقدرته ناقصة وغير تامة النظام ولكن ذلك غير ممكن وما
يترتب عليه ويلزمه أيضًا غير ممكن فثبت قول حجة الإسلام الغزالي (ليس في
الإمكان أبدع مما كان) ولا تستلزم هذه الكلمة نقص القدرة كما توهم بعض أهل
العلم كيف وهى لازمة لكمالها وكمال العلم والإرادة والحكمة. فلا يقال: إن الله
تعالى قادر على فعل الخلل وإفساد النظام لأن هذا محال والقدرة لا تتعلق بالمحال ,
كما لا يقال: إنه ليس بقادر على ذلك لأن الذي يصح أن ينفى هو الذي من شأنه أن
يكون ثابتًا وقد اتفقوا على أن القدرة والإرادة لا تتعلقان إلا بالممكنات وأنه ليس من
النقص في القدرة عدم تعلقها بإعدام الواجب أو ايجاد المستحيل , وقد تقدم هذا
البحث في درس سابق. وجاءَ في فاتحة مقصورتنا في هذا المعنى قولنا:
تبارك البارئ مبدع الورى ... بحكمة تروق أرباب الحجى
براه من حيث رَصَاه فانبرى ... مستحصف المرير مشدود العرى [1]
أنشا من الهباء كل صورة ... فسمك السماء والأرض دحا [2]
ثمت أعطى كل شيء خلقه ... بحسب استعداده ثم هدى
وخلق الأشياء أزواجا وقد ... قضى بناموس تنازع البقا
فابعث رسول الطرف منك رائدًا ... يجوب أجواز البحار والفلا [3]
واسر به للأفق في مراصد ... معراجها يدني إليك ما نأى
وأرسل الفكر رسولاً ثانيًا ... لعالم الأرواح يسعى والنهى
حتى إذا جاسا خلال الدار من ... عوالم الحس وعالم الحجى
سائلهما هل ثَمَّ من تفاوت ... أو خلل في البدء كان أوعرى
أنى وتلك مظهر الحق بها ... قد ظهرت لسماه جل وعلا
من جري هذا قيل لا إمكان في ... أبدع مما كان قبل وجرى [4]
فارجع إليها الطرف كرتين واس ... تجل دناج الأمر من ثني القضا [5]
ترى هناك سننًا حكيمة ... لا يعتريهن العفاء والوهى
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رصاه: أحكمه وأتقنه , والمرير: الحبل , واستحصافه: إحكام فتله.
(2) الهباء: هو المادة التي برأ الله منها الكون الأعظم وإليها الإشارة بقوله تعالى: [أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا] (الأنبياء: 30) على التفسير الذي ينطبق على العلم الحاضر وسمى القرآن هذه المادة دخانًا لأنها تشبهه وذلك في قوله: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً] (فصلت: 11) الآية , ويسمي علماء الطبيعة هذه المادة بالسديم , وسمكها دعمها , ودحى الأرض: سواها ومهدها للسكنى.
(3) الأجواز: الأوساط.
(4) من جري هذا: أى من أجله , ويقال من جرائه أيضًا.
(5) دناج الأمر (ككتاب) إحكامه وإتقانه والثني معروف وتقوله العامة بالتاء المثناة وإذا ثنيت الثوب فجعلته أطواقًا فكل طاق يسمى ثنيًا وهو المراد هنا وجمعها أثناء , ويضاف إلى المعاني تجوزًا فيقال: أثناء الكلام , والمراد بالقضاء ما صدق عليه وهو المقضي والمعنى اطلب جلاء أحكام الكون وإتقانه من مظاهر قضاء الله وهي خليقته كلها.(3/464)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد)
(14) من هيلانة إلى أراسم في 30 أكتوبر سنة - 185
لا يزال (أميل) عاجزًا عن التكلم غير أن كلاًّ منا يفهم مراد صاحبه؛
لأن الأطفال قبل أن يصير في مقدورهم إخراج الحروف من مخارجها بزمن
طويل يعبرون عما يعروهم من الفرح والدهشة والخوف والألم بضروب من
الصياح والصراخ الفطري يندر أن تخطىء الأم في فهم معانيها , وهي إن لم
تكن لسانًا معروفًا فأقل ما فيها أنها لهجة تفصح عما في نفوسهم من الوجدانات
والأفكار , وإني لفي شك من أن الكلام يكون في إعرابه لي عن انفعالات ولدي
أكثر من هذه الأصوات بيانًا على أنني لا أخال أن صورة أخرى من صور
التعبير عما في النفس توافق حالته موافقة هذه لها.
لم يقتصر (أميل) على هذه اللهجة , بل إنه اخترع من بضع أسابيع
طريقة للمحادثة معي فإذا أراد أن يكلمني عن كلب البيت قلد نباحه بقدر ما في
أعضائه الضعيفة من الاستطاعة , وإذا حملته جورجيا وخرجت به للتنزه على
ساحل البحر فإنه عند عوده يخبرني بهبوب الرياح وذلك بأن ينفخ فيحدث
صوتًا مخصوصًا , وإذا صادف في طريقة قطيعًا من البقر أو الغنم؛ قص
عليَّ ما رآه بأصوات أفهم ما يريده بها , وإني على ما أجده في قصصه هذه
من اللذة قد أنشأت أقلق لحالته هذه وأحدث نفسي بأني أفرطت في إغفاله
وإسلامه إلى الفطرة , وأنه ربما كانت عاقبة ذلك حدوث بعض عاهات في قواه
النفسية أكون أنا السبب في حدوثها ولقد استفتيت في هذا الأمر السيدة
وارنجتون وكاشفتها بما أجده من الخوف لأنها لما كانت زوجة طبيب كان لها
هى أيضًا بعض الدراية في الطب فاجتهدت كثيرًا في محو هذا الفكر من نفسي
وفي تسكين روعي , وقالت لي: إن هذا الأمر عام في جميع الأطفال الذين
يربون في الأرياف.
وعلى كل حال فما أدرانا أن هذه الأصوات ليست هى أصل اللغات
الإنسانية؟ أقول هذا وأنا عارفة أنه ربما أضحكك , ولكن ما المانع في أن
الإنسان وهو في زمن طفوليته إذ كان يسكن الآجام والكهوف كان يتلمس
مبادىء الكلام في ألغاط الغابات وأصوات الحيوانات وغيرها من المخلوقات
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/467)
الكاتب: أبو الهدى أفندي
__________
مكتوب من بعض بلغاء مصر
لسماحة أبي الهدى أفندي الشهير
أهم الأخبار التي يتحدث بها الناس في العاصمة أن بعض الوجهاء في مصر
حمل إلى دار السعادة تقارير مختومة بأختام مزورة بأسماء أكابر العلماء كصاحبي
الفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر , وأن وجيهًا آخر ذهب ليكشف
للحضرة السلطانية مؤامرة على حياته الشريفة , وكثر القيل والقال في هذا , وتناقل
الناس أن هؤلاء الوجهاء لقوا هناك ما يستحقه السعاة المحالون لا ما كانوا ينظرون
وكثرت الرسائل ممن تعنيهم هذه الأمور في مصر إلى دار السعادة وقد وقفنا أخيرًا
على رقيم من أحد بلغاء الكتاب الوجهاء في مصر أرسله إلي سماحة السيد أبي
الهدى أفندي الشهير لكنه يرمي فيه صاحب السماحة السيد توفيق البكري شيخ
مشايخ الطريق بأنه ممن خاض الناس فيهم , فنشرناه لما فيه العبرة مع البلاغة
والفكاهة , وإن كنا نصرح بأن الكلام السابق لا ينطبق على السيد البكري لأنه لقي
إنعامًا (دار ووسام لوالدته وإلزام بالإقامة في الآستانة) لا انتقامًا وهو بحروفه:
سيدي ومولاي
(أقبل يدًا خلق باطنها للكرم وظاهرها للقبل. وبعد فقد كثرت الإشاعات عن
سماحة السيد البكري واختلفت فيها الظنون حتى خشيت عليه من صدق بعضها ,
وقد أقرأني بالأمس شاهين بك مكاريوس كتابًا جاءه من صفا أو صفر بخطه
وإمضائه لا يستطيع صديق لمولاي أن يأتي عليه كله لمحتوياته من القذف والسباب
والشتم والهجاء في البيت الرفيع الرفاعي , وقد ذكر السيد البكري فيه ذكرًا لو سمعه
المسكين لكر إلى مصر هائمًا على وجهه أو عائمًا على قفاه , ولترك بلدًا ليس فيه
للقانون سماعون ولا لكلمة الحق واعون , ولا هى كالبادية يحفظ الرجل فيها شرفه
بقوته ولا هى كالحضر يعز الإنسان فيه بحسن سيرته بل كالجحيم كلما دخلت أمة
لعنت أختها. وماذا أقول في بلد لو كان الإنسان يمشي فيه على صرح بلقيس
ويجلس على بساط سليمان ويأكل شواء من كبش إسماعيل , ويشارب الخضر من
عين الحياة، وينادمه مالك , وعقيل ويصرف ختمه الأمر من مصر إلى عدن إلى
العراق , فأرض الروم , فالنوب , وكان معه أمثال هؤلاء يساكنونه فيه وهو عاجز
أن يؤذيهم فيسحقهم، أو يرديهم فيمحقهم لكن المشي على شوك السيال والجلوس
على صخرة في منقطع العمران والأكل من رأس الضب، والشرب من الطحلب،
والحديث مع حسن باشا محافظ بشكطاش والعجز عن تصريف عنز أروح للنفس
وأهنأ للبال.
لن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم
مولاي: إن الصابون يغسل الأجساد ولا يغسل الأعراض إلا الدم , ولهذا قيل:
الجمال أحمر. أتحاكم المؤيد من بعد ألف ميل على كتاب قيل إنه طبع في مطبعته
لا هوَ ألفه ولا كتبه ولا أمضاه ولا نشره وتترك من يؤلف ويكتب ويمضي وينشر
مطلق اليد واللسان وهو منكم بين المخلب والناب. والله إن قلبي يكاد يتقطع نياطه
حين أسمع من الناس هذا الاعتراض وهم يبتسمون في خلاله ابتسامات تبكي لها
عيون الذين يعرفون فضلكم وقدركم.
أكتب لمولاي هذا، وأنا أحدث نفسي التي تنظر إلى نفسكم في علوّها
وارتفاعها نظر السلحفاة إلى الأجدل فوق شرفات المجدل بأنه لو مُدَّ لي طريق
قضبانه من الذهب لا الحديد ومركباته من اليواقيت وسائق آلته جبرائيل ليبلغني إلى
بلد أساكن فيه هؤلاء الأوغاد لفضلت الجلوس فوق الأرض وتحت هذه الشجرة التي
تظلني وأنا أكتب لك هذا الكتاب لا أَظْلِم ولا أُظْلَم.
سيدى إنك ابن من منَّ الله عليه بقوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) فليجعل مولاي همه في الدعاء أن يكرمه الله بما أكرم به جده فيكفيه
هؤلاء المستهزئين الشاتمين القاذفين القادرين على الإقامة معه حيث يراهم ويرونه.
مولاي: اعذرني إذا طغى القلم فإني أخاطبك خطاب المحب الصادق والله
يعلم أني أحبك لعلمك وحلمك ونسبك وأدبك لا لجاهك وذهبك , فأنا الغني بالقناعة
وفى مصر لا أخاف ظلمًا ولا أخشى , وأسأل الله جلت قدرته أن يمتعنا بأخلاقك
وصفاتك نياشين المجد والفخر لا بتلك النياشين التي يساويك فيها نجيب ملحمة ,
فلعنة الله على هذه الدنيا ولعنة الله على الآخرة إن كانت مثلها) اهـ بنصه.
__________(3/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
باب البدع والخرافات والتقاليد والعادات
يعلم القراء أن البحث في هذه المواضيع هو من المقاصد التي أنشىء لأجلها
المنار وأننا كتبنا فيها كثيرًا، وقد اقترح علينا في هذه الأيام الأخ الفاضل المجاهد
العامل محمد علي أفندي كامل صاحب دار الترقي أن نجعل هذه المباحث في باب
مخصوص من المنار وأن لا يقل الكلام فيه عن كراسة من كل جزء ليسهل الرجوع
إليه على من يريده في كل عدد وفي كل مجلد من مجلدات المنار. واقترح أيضًا
طريقة لتعميم نشر المنار وهي أن تخصص مئات من نسخ كل جزء لتوزيع بعضها
مجانًا على طلاب العلم الفقراء الذين لا يستطيعون الاشتراك وبعضها على طائفة
منهم بنصف القيمة أى بخمسة وعشرين قرشًا أميريًّا، وأن يرسل المنار إلى كل من
يطلبه لأجل الاطلاع عليها بغير ثمن ولا أجرة، وقد حلت هذه الاقتراحات منا محل
القبول؛ لأنها موافقة للغرض من إنشائه، وسنوزع المقدار المخصص لطلاب العلم
ونحوهم بمساعدة المقترح بعد التحري والعلم بحالهم ونشترط عليهم شرطًا واحدًا لا
نحل لهم أخذ المنار إلا به وهو قراءته والسعي بنشر ما يرونه حقًّا من مسائله
ومراجعتنا فيما يرونه خطأ أو باطلاً. أما مواضيع الباب الجديد فنقسمها تقسيمًا كما
ترى:
قسم الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة
المصافحة الحبشية. استفتاء وبلاء
كتب إلينا من حضرة الفاضل الشيخ عبد السلام الرفيقي رئيس جمعية رفيق
الإسلام في مقاطعة بنجاب - الهند رسالةً مطولةً يتبعها رقيم يستلفت إلى ما في
الرسالة، ويطلب الجواب السديد عنه.
ملخص الرسالة أنه وقعت في كشمير داهية عجيبة ومصيبة عظيمة،
واضطرمت نار الفتنة وصار يجادل المرء زوجته والابن أباه والأخ أخاه والصديق
صديقه في المسألة التي كانت مثار الفتنة وهى أن بعض الواعظين قرأ على منبر
المسجد الجامع يوم الجمعة في كشمير إنكار المصافحة والصحبة لأبي سعيد الحبشي
من المعمّرين وقال في شأنه: إنه خبيث مع من أقرّه وكذاب وشيطان وسبه ولعنه.
(قال في الرسالة ما معناه) : إن هذا يستلزم تنقيص الأولياء والأصفياء وكونهم
غير محققين لأنهم من المصدقين بهذا الحديث وقال: إن المنكر أفتى العوام بتجديد
الصلوات، وصار مناعًا للخيرات والصدقات لمن صلى خلف المقرين. وذكر أن
المنكر احتج على إبطال هذا بمثل الحديث الصحيح الناطق بأنه لا تبقى بعد مائة
سنة نفس منفوسة ممن كان في ذلك الوقت، وردّ عليه بأن الحديث مختلف في
تفسيره لحياة الخضر وغيره وبما نقل في حاشية رآها صاحب الرسالة عن
(الإصابة في معرفة الصحابة) من أن عثمان بن الصالح مات سنة تسع
عشرة ومائتين. قال: فمع هذه التأويلات والاحتمالات وإقرار أصفياء الله تعالى في
أرضه كسيدنا وسندنا السيد محيي الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه بوجود
المعمرين كإلياس والخضر يقال هذا , ثم ذكر أسماء كثيرين من أهل الطريق والمشايخ والمتصوفة الذين تلقوا حديث هذه المصافحة بالقبول وذكر بعض طرقهم.
ثم ذكر أن المنكر قد أوقع الخلاف بين أرباب الطريقة بزعمه أنه لو صحت
صحابية أبي سعيد الحبشي من المعمرين لكان عسكر سلطان قطب الذي كان واليًا
في كشمير في عهد الأمير السيد علي الهنداني أفضل درجة ورتبة من سيدنا محيي
الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه لأنهم صاروا من أتباع التابعين، وردّ
عليه بأنه لم يراع القرن في حديث (خير القرون قرني) إلخ ولم يراع حال الذين
يرون سيدنا عيسى في آخر الزمان وكونهم يصيرون تابعين أفضل درجة، ومزية
من سيدنا محيي الدين عبد القادر الجيلاني وغيره من الأولياء الكاملين , ثم ختم
الرسالة بقوله:
(فيا أهل العلم والحديث والنهي وأصحاب الشرع والفقه والحجى , وأرباب
الورع والتُّقَى أعينونا بالإنصاف وأغنونا عن الاختلاف وبينوا لنا جوابًا شافيًا
للقرآن والسنة , وما استنبط منها العلماء الراسخون والأتقياء العارفون، فلله دركم
وأجركم والسلام) .
(المنار)
حديث المصافحة الحبشية رويناه عن أستاذنا الشيخ أبي المحاسن محمد
القاوقجي بسنده إلى الأستاذ علي البيومي كما صافحه الشيخ عيسى الطيلوني كما
صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني ح وعن أستاذه الشيخ محمد عابد
السندي كما صافحه الشيخ صالح الفلاني كما صافحه مولاي محمد بن سنّه كما
صافحه مولاي محمد بن عبد الله كما صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني
كما صافحه تاج الدين الهندي كما صافحه عبد الرحمن حاجي كما صافحه الحافظ
علي كما صافحه محمود إستقرازي كما صافحه أبو سعيد الحبشي وهو صافح سيد
الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا: وكتب في مسلسلاته (وأبو
سعيد الحبشي لم يعرف في الصحابة ولعله ممن لم يشتهر) .
ونقول: إن غرام المشتغلين بالرواية في علوّ الإسناد هو الذي يحملهم على
التأويل في الذي لم يثبت وإلا فكيف يتصور أن صحابيًّا يعيش مئات من السنين ولا
يشتهر ولا يعرفه الأئمة والحفاظ , وثم أسباب أخرى لنقل هذه الأحاديث التي لم
تثبت منها حسن الظن ومنها الامتياز بالروايات وكثرة الأشياخ وبمضمون الرواية
إذا كانت كحديث المصافحة الذي قال فيه: (من صافحني أو صافح من صافحني
دخل الجنة) فالذين يعيشون بالصلاح يأخذون هذه الأحاديث على ظواهرها
ويقيمون النكير على من يبحث في نقد سندها أو متنها ويرمونه بالتهاون في الدين،
وأما المشتغلون بالحديث فقلما يسكتون عليها، ولذلك جاء في مسلسلات شيخنا
القاوقجي عن شيخه السندي ما نصه على ما رويناه عنه قولاً وكتابة (وأوهى طرق
هذا الحديث ما تلقيته عن شيخنا علي سلطان قال: من صافحني أو صافح من
صافحني دخل الجنة) إلى أن انتهى إلى أبي العباس الملثم كما صافحه المعمّر،
وهو صافح النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ذكر الشعراني في طبقاته في ترجمة
أبي العباس أحمد الملثم أنه كان له لثام يتلثم به دائمًا، قال: واختلفوا في عمره،
فقال قوم: إنه من قوم يونس عليه السلام، وقال آخرون: إنه رأى الإمام الشافعي
وصلى خلفه، وقال قوم: إنه يعرف القاهرة وهي أخصاص، ثم ذكر عن تلميذه
عبد الرحمن القوصي أنه سأله عن عمره فقال: نحو أربعمائة سنة. توفي في حدود
الستمائة ودفن في الحسينية في القاهرة، وقال ابن حجر بعدما أطال الكلام على هذا
الحديث: (والمعمر شخص من المغاربة اختلف باسمه وهو من الكذابين) ، قال
الشيخ: وقد أوردت هذا الطريق تبركًا بذكر هذه الأشياخ أي لا لأنه يوثق به ,
وصلاح الأشياخ لا يدل على صحته كما توهم في الرسالة.
والحاصل أن الذي أنكر صحابية أبي سعيد الحبشي على منبر الجامع في
كشمير مصيب في إنكاره ولكنه مخطىء في السبّ واللعن , وقد تنازعنا بإزاء هذه
الواقعة عاملان: عامل سرور لاهتمام مسلمي الهند رجالاً ونساءً بأمور الدين حتى
ما كان من قبيل رواية الحديث، وأكثر المسلمين لا يبالون اليوم إلا بالمحافظة على
التقاليد والعادات التي تلبسوا بها باسم الدين، وعامل كدر للغلوّ في الدين المذموم في
القرآن فإذا أنكر أحدنا منكرًا يغالي في الإنكار فينفر المنكر عليهم ويحملهم على
اللجاج والعناد في مقاومته ومنازعته فيضيع الحق بهذه التعصبات والتحزبات،
وهذا الخلق صار موروثًا عند المسلمين منذ قرون حيث فتح على الفقهاء والمتكلمين
باب المناظرة والجدل في المذاهب لا يبتغي أحد إلا تأييد قوله وإثبات مذهبه، وقد
شرح مفاسد مناظراتهم الإمام حجة الإسلام في كتاب العلم من الإحياء.
هذا ما تيسر لنا الآن أن نكتبه ونحن في المطبعة يطالبنا العَمَلَةُ به ورقة فورقة
لأجل جمع حروفه للطبع ونرجو من السادة العلماء المشتغلين بعلم الحديث الشريف
رواية ودراية أن يكتبوا لنا ما عندهم في هذه المسألة إجابة لرغبة إخوانهم الهنديين
والله الهادي.
قسم الموالد والمواسم
نكتفي في هذا الجزء بمقالة نشرت في جريدة المؤيد الغراء ببعض اختصار
وهي:
المولد الأحمدي في
مدينة طنطا
انفض الاحتفال بالمولد الأحمدي في طنطا يوم الجمعة الماضي. ولم ير الناس منذ
سنين احتفالاً مزدحمًا مثله فقد كانت الخيام إلى 15 كيلو مترًا في ضواحي المدينة
صفوفًا متصلة ومتداخلة في بعضها.
وبلغ عدد التذاكر الواردة على محطة طنطا مدة المولد من الجهات المختلفة
مائة وخمسين ألف تذكرة بزيادة 36 ألف تذكرة عن العام الماضي. ويقدر عدد
الذين حضروا من طريق البر على الجمال والدواب بأربعة أمثال هذا العدد على
الأقل فكان زائرو المولد هذا العام نحو ثلاثة أرباع المليون ضاقت مدينة طنطا حتى
كأنها المحشر اجتمع الناس بها في صعيد واحد. لذلك كان الذي يمشي على رجليه
قدر كيلو متر لا يستطيع أن يقطعه في أقل من ساعة زمانية والركوب في مثل هذا
الزحام أكثر عناءً وخطرًا.
أما التجارة العمومية في البضائع المختلفة الواردة على المولد وخصوصًا
المواشي فلم تكن على نسبة هذا الزحام من الرواج، ولكن مقالي الحمص أدت
وظيفتها كالعادة وقد ربحت الربح الوافر من تجارتها هذه لأن زوَّار السيد على
العموم لا يرضى أحدهم أن يخرج (من المولد بلا حمص) .
وبديهي أن ثمانين في المائة من زوار السيد البدوي في مولده أو قصاد المولد
لسيده منساقون إليه بقوة الاعتقاد في هذا الولي الكبير صاحب الكرامات المشهورة.
فكل من له عادة في زيارته يتشاءم إذا قطع عادته حتى لا يقطع السيد معه عوائده،
فلو وجد من يستطيع أن يستخدم هذا الاعتقاد القوي الحسن في نفوس الناس إلى
خيرهم كل سنة لكان المولد كله بركة على القطر. ولكن من الأسف العظيم أن هذا
الاعتقاد في نفوسهم مرتكن أكثره إلى خيالات باطلة وأوهام فاسدة تجعلهم يرقبون
السيد أكثر مما يرقبون الله.
رسخت عندهم أوهام فاسدة أضر غالبها بأخلاقهم وأودى بها لأنها مغايرة
للشرع الشريف وهو أسّ الفضيلة ونموذج الكمالات. فترى مولد السيد بذلك محشرًا
لأصناف الناس على أزياء شتى ومقاصد شتى أكثرها مفسدة للآداب. وأجمع ما
يجمعها الاحتفال الذي يسمى بزفة الخليفة الذي قد كان راكبًا على رأسه تاج الخلافة
الأحمدية مثنيًا عنقه ذات اليمين تارة وذات الشمال أخرى، ولكن خلفه بقيد ذراع
راقصة مشهورة في العاصمة اسمها (شفيقة القبطية) كانت ترقص على الجمل
سائرًا ويقول البسطاء من أولئك الحَسْنَى الاعتقاد: إن بركة السيد هي الحافظة لها
على هذا الحال من السقوط، وإذا رأوا الجمل قد أرغى وأزبد قالوا: إن بركة السيد
قد حفت هذا الحمل وكاد يكون وليًّا من أولياء الله تعالى.
وعلى هذا النحو من خليط الأوهام وحسن الاعتقاد وسوئه وسذاجة العقول
وفساد الآداب. وعلى مثل هذا المزيج من الحسنات والسيئات كان نظام المولد
الأحمدي ونموذج الآداب فيه.
فمن لنا بمصلح للأخلاق يبعثه الله تعالى ليجدد للناس دينهم بل وعقولهم.
نحن لا نطلب ولا نريد أن يبطل احتفال عظيم كالاحتفال بالمولد الأحمدي
الذي يجمع مئات الألوف من المصريين في صعيد واحد يتبادلون الأخذ والعطاء
والسلام والكلام ولكن نتمنى من صميم أفئدتنا أن يكون عقلاء المسلمين فيه هداة
بسطائهم إلى ما يحول وساوسهم الجائلة في نفوسهم إلى عقائد حسنة تصلح بها
آدابهم وأخلاقهم. ولأئمة ديننا الأعلام أولاً ولرجال حكومتنا ثانيًا في مثل هذا القدوة
الحسنة إن شاءوا والله الموفق.
__________(3/474)
1 جمادى الآخرة - 1318هـ
25 سبتمبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة وطريقها وآدابها
مكانة الدعوة. خيبة الدعاة المسلمين. مدعو المهدوية. السنوسي ونجاحه.
مهدي الهند. طريقة الدعوة. الحكمة للخواص والموعظة للعوام. المسلمات
والشعريات والخطابة. غير المحق لا تعمم دعوته في هذا العصر. معرفة لغات
المدعوين. أخلاقهم وعاداتهم. تقاليدهم وعلومهم. استلفات النظر. التلطف
والرفق. اقتناع الداعي بما يدعو إليه. الصبر وسعة الصدر. الرجاء واليأس.
الشواهد القرآنية على هذه الصفات. تمسك دُعَاة النصرانية بها من دون المسلمين.
اقتراح على مشيخة الأزهر. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) .
علمنا الله - تعالى - في القرآن أن طريقة رسله في نشر الدين إنما هي الدعوة
إليه وعلمنا بسننه في شئون الإنسان الاجتماعية أن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى
لنشر المذاهب والأديان لا يضل سالكها عن مقصده مهما عرف منارها وأعلامها.
وراعى آدابها وأحكامها. وسدّد إلى الأغراض سهامها. فخاطب العقل البرهان.
وحرك سواكن الوجدان. وأشرف على النفوس من شرفات التأثير. وبصَّرها
بحسن العاقبة أو سوء المصير.
بينا في المقالة التي نشرت في الجزء الماضي أن الأديان والمذاهب لا تنشر
إلا بالدعوة ولا تطوى إلا بتركها وأن الشرط في انتشارها هو كون الدعوة صحيحة
لا كونها هي صحيحة في نفسها ولا بد من بيان شروط الدعوة وآدابها خدمة لمن
يوفقه الله تعالى من فضلاء المسلمين وعلمائهم وأهل الغيرة والحمية منهم. لإقامة
هذا الركن الأعظم. والقيام بهذا الفرض الاجتماعي المحتم. والتصدي لإرشاد
هؤلاء الملايين الذين يتشدقون بكلمة (الإسلام) ولا يعلمون مسماها. ويتمسكون
بلفظها ولا يفقهون حقيقة معناها. فقد قام فيهم دعاة يهتفون باسم المهدية ,
ومرشدون يدعون سلوك الطريقة الصوفية. ولكنّ أحدًا منهم لم يرع الدعوة حق
رعايتها ويقف من الطريقة على جادتها. فطاشت سهامهم. وخسرت أيامهم ,
وزادوا شمل الأمة تفريقًا , وأديم الدين تمزيقًا , على أن منهم من دعا إلى حق ولكن
بغير حكمة , ولا مراعاة لما تقتضيه سياسة الأمة , وأَمَرَ بمعروف ولكن على غير
المنهج المعروف , ونهى عن منكر ولكن على غير الوجه المألوف , ولم تنجح
دعوة إسلامية مع الثبات إلا دعوة السنوسي في أدنى المغرب الإسلامي والظاهر
أنها دعوة اجتماع لا دعوة إصلاح وسبب نجاحها شخص الداعي وشخص خليفته
القائم الآن من حيث هما شيخان صوفيان وصالحان مرشدان , ولعلها لا تخلو من
مبادىء إصلاح , وليس من موضوعنا الآن البحث فيما يجب أن يدعى إليه
المسلمون من القيام بحقيقة الدين على الوجه الذي يؤدي إلى سعادة الدنيا بحسب
سنن المدنية الحاضرة والمستقبلة وإلى سعادة الآخرة فنخوض في الطريقة السنوسية
هل هي كافية لذلك أم لا؟ وإنما كلامنا في الدعوة نفسها ونجاح هذه الطريقة ظاهره
أنه من قبيل نجاح طرائق التصوف الأخرى , وعسى أن تكون لها قواعد ثابتة لا
تتداعى بموت الداعي ولا تتزلزل بزواله. وفى الهند قائم يدعي المهدوية التي هي
أمنية عامة المسلمين في تجديد دينهم وإعزازه ويظهر أنه قد أحسن الدعوة لأن
متبعيه الآن يزيدون على مائة ألف وقد اهتدى بهم خلائق من الوثنيين إلى الإسلام
وهو الآفة الكبرى على دعاة النصرانية هنالك يناظرهم في المجامع والشوارع
فيبكتهم ويسكتهم , وإننا نستشف من وراء الحجب التي بيننا وبينه أن دعوته لا
تروج عند خاصة المؤمنين الذين وقفوا على العلوم والفنون وعرفوا طبيعة العمران
وأصول الاجتماع البشري ولا يرجى أن تكون عامة. وقد بينا من قبل أن من
أسباب ثبات الدعوة وانتشارها وغلبتها على ما يعارضها كونها حقًّا في نفسها
ومستوفية للشروط التي نقصها عليك الآن فاسمع لما يتلى:
علمتنا الآية الكريمة التي افتتحنا بها هذه المقالة أن للدعوة طريقتين: الحكمة
والموعظة الحسنة. فأما الحكمة فهي لخطاب العقل بالبرهان، وأما الموعظة فهي
لتأثير في النفس بمخاطبة الوجدان , فالأولى للخواص والثانية للعوام، والمقصد
واحد , ولا يحتاج إلى الطريقتين إلا من يدعو إلى حق موافق لمصلحة الناس
الحقيقية ولذلك قام أكثر الدعاة في العالم على الطريقة الثانية ووقفوا على منبر
الخطابة ابتغاء إقناع النفوس بالمسلمات وجذبهم بزمام الوجدان حيث السلطان
الأعلى للقياسات الخطابية والشعرية. لا للحجج البرهانية. وإذا نجح هؤلاء في كل
عصر مضى فلا يدوم نجاحها في هذا العصر لأن العلم الحقيقي الرائجة سوقه فيه
خصم لهم وهو الخصم الذي لا يغالب. والقرم الذي لا يبارز. والقرن الذي لا
يناهز. والناطق الذي لا تدحض حجته. والسالك الذي لا تنطمس محجته.
ذكر الله الطريقتين ثم ذكر كيفية السلوك فيهما، والسير عليهما. وهي المجادلة
بالتي هي أحسن الهادية للتي هي أقوم. ويشترط في هذه المجادلة بل وفي أصل
الدعوة شروط:
(أحدها) : العلم بلغة من يراد دعوتهم ومجادلتهم، ولهذا ترى دعاة
النصرانية يتعلمون جميع اللغات وينقلون إليها كتبهم الدينية، وأما رجال الدين من
المسلمين فيرون في تعلم اللغات إعراضًا عن الدين الذي لا وظيفة لهم إلا القيام
بحفظه ونصرته. ونشره وتعميم دعوته. وقد علمنا أن الداعي الذي في الهند
عارف باللغات المنتشرة هنالك كالأوردية والفارسية والإنكليزية كما هو عارف
بالعربية. والشاهد لهذا الشرط من الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) .
(ثانيها) : العلم بأخلاق الناس وعاداتهم. ومواقع أهوائهم ورغباتهم.
ليخاطبهم بما يعقلون. ويجادلهم بما يفهمون. وأكثر المشتغلين عندنا بعلم الدين
يرون البحث في الأخلاق والعادات من تضييع الأوقات. والتنقيب عن شئون
الدهماء. لا يليق بمقام العلماء! !
(ثالثها) : الوقوف على ما عندهم من المذاهب والتقاليد الدينية، والعلوم
والفنون الدنيوية. ما يتعلق منها بالدعوة ويصلح أن يكون شبهة. ومن جهل هذا
القدر؛ كان عاجزًا عن إزالة الشبهات. وحل عقد المشكلات. ومن فاته هذا الشرط
وما قبله لا يقدر أن يخاطب الناس على قدر العقول والأحلام. كما كان شأن سادة
الدعاة إلى الله عليهم الصلاة والسلام. ولقد علم رؤساء الديانة النصرانية أن ما كان
من جهلهم بالعلوم الكونية ومعاداتهم لها. وتحكيمهم الدين فيها. مؤذن باضمحلالها.
ومفض إلى زوالها. فأخذوا بزمامها , وقادوها بخطامها. وقربوا بين عالمي الملك
والملكوت. وقرنوا بين علمي الناسوت واللاهوت. وبهذا أمكنهم حفظ حرمة الدين ,
وإعلاء كلمته بين العالمين. وديننا هو الذي ربط بين العالمين , ولكننا نقطع
الروابط. وجمع بين العلمين ولكننا نهدم الجوامع. ولهذا جهلنا وتعلموا. وسكتنا
وتكلموا. وتأخرنا وتقدموا. ونقصنا وزادوا. واستُعبدنا وسادوا.
(رابعها) : إلقاء الدعوة بصوت ينبه العقول والفكر. وصيحة تستلفتها إلى
البحث والنظر. وتشوق النفوس إلى غايتها. وتخيفها من مغبة مخالفتها. وهذا
الشرط قد نطق به المتكلمون , ونص بعضهم على أن من لم تبلغه الدعوة على وجه
يستلفت إلى النظر يكون معذورًا إذا بقي على كفره. ولا يمكن تحديد هذا الشرط إلا
ببيان ما يدعى إليه الداعون. ويرشد إليه المصلحون. ومن نظر في تاريخ الملل ,
وأخبار دعاة المذاهب والنحل. يعلم أنه لم ينشر مذهب ولا دين. إلا وكان هذا
الشرط ركنه الركين. ومن شواهده في القرآن العزيز قوله تعالى: {وَقُل لَّهُمْ فِي
أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء: 63)
(خامسها) : التلطف في القول , والرفق في المعاملة. وهذا أوّل ما يتبادر
إلى الفهم من قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) والقرآن
يبين هذا في مواطن كثيرة وآيات متعددة. اقرأ إن شئت قوله عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-25) فما بعد هذا التلطف فَجّ يُسَار فيه. ولا وراء هذا
الرفق غاية ينتهى إليها. والسر فيه أن النفوس جبلت على حب الكرامة. وتربَّتْ
في الغالب على الرعونة. ونشأت على التقيّد بالعادة. فمن رام الخروج بها عن
عادها. وصرفها عن غيها إلى رشادها. ولم يمزج مرارة الحق بحلاوة الرفق ,
ولم يصقل خشونة التكليف بصقال القول اللين اللطيف كان إلى الانقطاع أقرب
منه إلى الوصول. ودعوته أجدر بالرفض من القبول. وإن أردت الدليل الصريح
من القرآن على تأييد هذا البيان. فاتْلُ قوله تعالى: لموسى , وهارون عليهما
السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) فهو ينبئك بأن
لين القول محل رجاء التذكر. والمُعِدُّ للنفوس للخشية والتصبر.
ومن هنا تفهم السر في حماية الأنبياء عليهم السلام من العاهات المنفرة.
وجعلهم أكمل الناس آداباً وأخلاقاً {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) , وقد اهتدى لهذا دعاة المذاهب الناجحة. والأديان المنتشرة
حتى إن دعاة النصرانية في الصين. يلبسون لباس البوذيين. ويحملون أصنامهم
أو يبيعونها منهم. توسلاً إلى عقيدة يلقونها. وتوصلاً إلى كلمة يقولونها أو نفثة
ينفثونها. غلوًّا بإزاءِ غلوّ. وضعة في مقابلة كبر وعتو. فإن الصينيين يغلون في
الدين. ويحتقرون من دونهم من العالمين. وكأين من داع أفسد العنف دعوته.
وأسفل كلمته. اولئك الذين فرقوا الدين الواحد بالخلاف. وألقوا العداوة بين الإخوة
بقلة الإنصاف.
(سادسها) : تلبس القائم بالدعوة بما يدعو إليه بأن يكون موقنًا أو مقتنعًا به
إن كان اعتقادًا ومتخلقًا به إن كان خلقًا وعاملاً به إن كان من الأعمال. فمن لم يكن
موقنًا ولا مقتنعًا فقلما يقدر على إقناع غيره لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ومن حث
على التحلي بفضيلة وهو عاطل منها. أو أمر بالتزكي من رذيلة هو متلوّث بها.
لا يقابل قوله إلا بالردّ. ولا يعامل إلا بالإعراض والصد. وينشده لسان الحال. إذا
سكت لسان المقال:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلاّ لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي العنا ... كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تجذب للرشاد نفوسنا ... أبدًا وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك ينفع ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
وما كان من الدعوة متعلقًا بالأخلاق والأعمال فهو تربية , والتربية النافعة إنما
تكون بالفعل لأنها مبنية على القدوة وحسن الأسوة , لا بمجرد القول. ألم يبلغك
حديث الحلق في الحديبية وكيف لم يمتثل الصحابة عليهم الرضوان أمر النبي صلى
الله عليه وسلم به حتى حلق هو فاقتدوا بفعله أجمعين ومن هنا تفهم السر في عصمة
الأنبياء عليهم السلام.
(سابعها) : الصبر وسعة الصدر. فمن استعجل الشيء قبل أوانه؛ عوقب
بحرمانه , ومن ضاق صدره؛ مل. والملل آفة العمل. وقد جعلنا هذين شرطًا
واحدًا لتلازمهما وجودًا وعدمًا. وحسبك من دليل اشتراطهما في الكتاب قوله تعالى:
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 35)
وقوله عز وجل: {وَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ} (الأعراف: 2)
وقوله تبارك اسمه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ
أَسَفاً} (الكهف: 6) ولا يختص الصبر بعدم استعجال الفائدة قبل وقتها بل
الصبر على الايذاء الذي يبتلى به الدعاة دائماً آكد وألزم. وفضله أكبر وأعظم.
وهو الذي جعله الله تعالى دليل الإيمان والمميز لأهله عن المنافقين
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) .
ولم يعرَ دعاة النصرانية من هذه المزية السامية والمنقبة الشريفة فإن الجرائد
والبرقيات تحدثنا آناً بعد آن بما يقاسون من الإهانة والإيذاء. والمشقة والبلاء. لا
سيما في أحشاء أفريقيا والصين. ولكن علماءنا يشترطون أن يكافئوا على الدعوة
بالتعظيم. والأجر العاجل الكريم. وأن يكفل لهم كافل بأنهم يقابلون بالقبول.
وحصول المأمول. حتى إن منهم من كتب ذلك في جريدة. وصرح بأنه مبني على
أصول العقيدة.
ومما يحسن ذكره ههنا ما بلغني من كيفية امتحان الدعاة وإليك حديث امتحان
منها. درس بعض المستعدين للدعوة علم اللاهوت والعلوم الاجتماعية والتهذيبية
والرياضية والطبيعية وأخذ الشهادات بها ثم طلب امتحان الدعوة من إحدى
الجمعيات الدينية فأحالته الجمعية على رجل في بلد غير الذي هو فيه فلما جاءَه
استأذن عليه معرفًا له بقصده فأجابه خادمه أن انتظره ساعة في هذا المكان من بيته
فمرت الساعة واليوم وخرج الرجل من البيت وعاد إليه ولم يقابله , فلما كان اليوم
الثاني دخل عليه بعد الظهر وقال له: أطلت عليك وأظنك قد جعت فهل تأكل معي؟
فقال: نعم. فحضر الطعام وأكلا , وبعد الأكل كتب له الشهادة من غير أن يسأله
عن شيء , وإنما كتب حكايته معه , وقال: إنه أكل معي من غير انفعال ولا تأثر
ولم أر على وجهه شيئًا من ملامح الامتعاض لسوء المعاملة التي عاملته بها فليقبل.
(ثامنها) : الأمل بالنجاح. والرجاء بالفلاح. مهما عظمت المصاعب.
وانتابت النوائب. فإن اليأس أدوأ الأدواء. الذي لا ينجع مع وجوده دواء. وناهيك
أن القرآن جمعه مع الكفر في قرن. وجعله مع الضلال في كفن. والآيات في هذا
طوافة في الأذهان. فائضة على كل لسان. وأذكر من تلبس دعاة النصرانية بهذا
الشرط ما كنت قرأته في جريدة لهم قالت ما مثاله: إن أوْل بعثة أرسلت إلى الصين
بعد الاستعداد بتعلم اللغة الصينية، وطبع الكتاب المقدس بها مكثت بضع سنين
(وأظنها حددته بثمان) لم يجب دعوتها أحد فاستأذنت من الجمعية الكبرى بمغادرة
الصين لليأس من تنصر أحد من أهله فأجابتهم الجمعية بأنكم لم ترسلوا لتنصير
الناس أو إلزامهم بالنصرانية فترجعوا لعدم حصول المقصود وإنما وظيفتكم الدعوة
إلى آخر الحياة سواء أجابكم الناس أم لم يجيبوكم فثبتوا حتى صار الناس يدخلون
في دينهم بالتدريج. وإنما هدى هؤلاء للقيام بهذا الشرط كغيره الصدق في خدمة
دينهم والحرص على نشره، وقد فقدنا نحن هذا من عهد بعيد، فصرنا نقرأ القرآن
(الذي لم يغادر شرطاً من شروط الدعوة إلا بَيَّنَهُ) للتبرك وشفاء الأمراض الجسدية
أو للطرب في الأفراح وهم الذين قاموا بالعمل به. هل تفكرت يا أخي المسلم بقوله
تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) ،
وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام: 107) ، وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: 45) ، وهل
أطلت الفكرة يا أخي فيمن قام بحقوق هذه الآيات وأمثالها أم تكتفي عند قراءتها
وسماعها بقول (الله الله) سبحان من هذا كلامه كما تلقيت عن عامة الناس؟ ؟ ؟
هذا ما عن لنا الآن من مهمات شروط الدعوة وآدابها فإذا اقترحنا على فضيلة
شيخ الجامع الأزهر أن ينتخب بمساعدة مجلس إدارته طائفة من نجباء المجاورين
للاستعداد للدعوة والقيام بشروطها وآدابها هل ينظر في اقتراحنا ويجيب طلبنا؟ ؟
أم يقول؛: إن هذا ليس من وظيفة الأزهر؟ ؟ وإذا فرضنا أن شيخ الجامع الأزهر
لم يلتفت لهذا الطلب ولم يصغ لهذا الاقتراح وهو الملقب بشيخ الإسلام فهل نطلبه
من المستر دنلوب سكرتير المعارف في مصر والقابض على أزمة المدارس؟ ؟
أجيبونا يا أولي الألباب. ولكم الأجر والثواب. وإلا فلنا يجب قبل كل شيء دعوة
المسلمين إلى الإسلام حتى إذا قبلها الكثيرون يوجد من يغار على الدين ويقوم
بحقوقه ويسعى في إعلاء كلمته. وتعميم هدايته. وهذه هي الدعوة التي لا يمكن
شرحها في الجرائد وإنما توكل إلى عمل العاملين. وسعي المصلحين. والله ولي
المتقين.
__________(3/481)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(الدرس الرابع عشر)
(القضاء والقدر)
م (40) شأن هذه العقيدة
هذه المسألة من توابع البحث في العلم والإرادة وهي الفتنة التي ابتليت بها
الأمم، فوقعوا في بحار الحيرة تدافعهم أمواج الشكوك، ويتلقاهم آذيُّ الشبهات،
(أي: مَوْجُهَا) حتى غرق فيها أكثر الخائضين ونجا الأقلون , ومن عجيب أمرها أن
العامة أعلم بها من أكثر الخاصة , وأن الأميين أقرب إلى اليقين بها من الكاتبين.
وإن شئت فقل: إن الجهل بحقيقتها تابع لسعة العلم بمباحثها فكلما زاد الإنسان نظرًا
فيها؛ زاد عماية عنها لأن الخفاء كما يكون من شدة البعد يكون أيضًا من شدة
القرب ألا ترى أنك إذا وضعت على عينيك صحيفة لا تبصر خطها ولا تراه ولا
تقدر على قراءته وإننا علمنا بالمدارسة والمذاكرة والمناقشة والمناظرة أن ما يعتقده
العلماء فيها هو عين ما يعتقده الجهلاء , ويمتاز الجهلاء بأن نفس اعتقادهم لا
زلزال فيه ولا اضطراب , ولا شبهة تغشاه ولا ارتياب , وأما العلماء فبعد قراءة
الكتب والرسائل وتحرير الحجج والدلائل يقول بعضهم: إن هذه المسألة يجب أن
تؤخذ هكذا بالتسليم أي يجب الرجوع فيها إلى ما عليه العامة , ومنهم من يقول:
إنها لا تنحل إلاّ بكشف الحجاب والارتفاع إلى مقام العارفين بالله تعالى. والمنقول
عن أهل هذا المقام المشهود لهم بالولاية والكشف أن منهم من صرح بأنها لا تنحل
إلا في الآخرة. هذا مجمل أمرها عند المسلمين وما كانت الحيرة فيها عند غيرهم
أقل منها عندهم.
م (41) سبب الخلاف والنهي عن الخوض فيها
لماذا كان شأن هذه العقيدة مخالفًا لسائر العقيدة حتى إن الجاهل أحسن حالاً
فيها من العالم؟ ولماذا كانت سعة العلم فيها من أسباب الجهل بها؟ الجواب عن
هذين السؤالين واحد وهو أنها في نفسها بديهية عوملت معاملة النظريات , والبديهي
كلما زاد البحث فيه؛ بعد عن الإدراك فهو كالشيء بين يديك تتوهمه بعيدًا فتذهب
عنه إلى حيث يقودك الوهم فكلما أوغلت في السير؛ زدت في البعد وصار العناء
في عودتك إليه شديدًا. وإقناعك بأنه وراءك أمرًا بعيدًا , ومن لم يسر هذا السير
يكفيه استلفات النظر ورجع البصر , وهذا هو مرادنا بالجاهل بهذه المسألة وما
أثقلوها به من النظريات والتدقيقات الفلسفية , ولا تفهم منه أن العلم الحقيقي بها
محصور في الجاهلين , فلقد اهتدى إليه كثيرون من العلماء والعارفين , وكان عليه
جماهير الصحابة والتابعين. حتى حدثت بدعة الكلام والخوض في القدر على ما
كان عليه الأمم الأخرى وانفتح على الأمة باب المجادلات النظرية التي كان من
أمرها ما قصصنا عليك بعضه , وهذا هو السر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم
عن الخوض في القدر ونهي الصحابة وأكابر الأئمة عنه أيضًا. روى الترمذي من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما نُقئ في وجنيته حب
الرمان , فقال: (أبهذا أمرتكم أم بهذا أرسلت أليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين
تنازعوا في هذا الأمر. عزمت عليكم عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه) أي أقسمت
عليكم أو أوجبت عليكم ذلك. وروى ابن ماجه نحوه من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده. وفي حديث الخطيب وابن عدي (عزمت على أن لا تتكلموا
في القدر) زاد الثاني: (ولا يتكلم في القدر إلا شرار أمتي في آخر الزمان)
وعند الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك نحوه , ولا حاجة مع هذا لسرد
الآثار في النهي عن الخوض في القدر.
م (42) ماهية الخلاف والمختلفون
الخائضون في المسألة فريقان: فريق حاول الوقوف على سرّ الخلق والإيجاد
وكيفية تسخير الله تعالى قدرة الإنسان وإرادته اللتين وهبهما له لإحداث أفعاله فإنهم
استشكلوا وجود خليفة في الأرض يعمل بقدرة تنبعث عن إرادة تسترشد بعلم بحيث
يكون مختارًا في عمله له مشيئة في العمل والترك ولكنه مع هذا غير خارج عن
مشيئة الله تعالى وعلمه كأنهم رأوا أن هذا النوع من الخلق محال لا يدين لقدرة الله
تعالى فاستنكروه أو كأنهم زعموا أنهم اكتنهوا سر الخلق في سائر الأشياء ولذلك لم
يشتبهوا في النبات من نجم وشجر كيف يأخذ كلٌّ من معادن الأرض وموادها ما
يحتاج إليه لنموه وحفظ نوعه على نسب كيماوية مخصوصة يعجز أعظم الكيماويين
عن تقديرها وتأليفها وإعطائها للنبات على الوجه الذي تأخذه , ولو ثبت لهم أن الله
أعطى النبات شعورًا وقصدًا بهذا العمل؛ لوقعوا في الحيرة وإن كان أدعى إلى نفي
الحيرة. ثم انقسم هذا الفريق إلى خصمين اختصموا في ربهم وفي أنفسهم كان جل
خصامهم في الألفاظ يقول بعضهم: إن استقلال الإنسان في عمله يقتضي أنه خالق
له وهو ذهاب إلى تعدد الآلهة , ويقول الآخرون: إن إنكار اختيار الإنسان وسلب
الإرادة عنه في عمله هروبًا من ألفاظ تستنبط بالاستلزام إنكار للبداهة وسلب
للوجدان , ولا يصح مع نفيها دليل ولا برهان. وفيه تخطئة للشرائع وتكذيب
للوحي , وقول بأن التكليف عبث والجزاء على الأعمال لغو إذا لم نقل ظلم وأمثال
ذلك مما لا نطيل به للنهي عنه من الشارع ولأنه مثار الشبهة ومولد الحيرة.
وفريق آخر لم يبال ببداهة ولا وجدان , ولم يلتفت إلى حجة عقلية ولا برهان
ولم يتأمل حكمة التكليف , ولم ينظر في أكثر نصوص القرآن الشريف , ولم يتدبر
غاية الأمر , ولم يتبصر في عاقبته من النفع والضر؛ فبث في الأذهان حكمًا بل
نفث في الأرواح سمًّا. حيث زعم أن الإنسان مجبور في عمله. مغلوب على أمره
لا أثر لعلمه في إرادته , ولا لإرادته في قدرته , ولا لقدرته في عمله , وغَشُّوا
الناس بأنهم يبالغون في تعظيم الله - تعالى - وتنزيهه وتوحيده وما هو إلا إبطال
دينه ونسخ شريعته وإنكار الأسباب التي أقام بها نظام الكون , واستدلوا على بدعتهم
بآيات وأحاديث تمثل إحاطة علم الله تعالى ونفاذ مشيئته على أنها مع عدم دلالتها
على المقصود يقابلها من الآيات والأحاديث المثبتة للأسباب وعمل العباد أضعاف
أضعافها حتى قال العلامة ابن القيم: إن هذه النصوص تزيد على عشرة آلاف قال:
(ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة) فصح لنا أن نتلو على هؤلاء الجبرية
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) .
أولئك هم الجبرية الذين نزعوا من الأمة روح النشاط والعمل , ورموها في
هاوية الخمول والكسل. حتى داستها بقية الأمم , وكادت تبتلعها بلاليع العدم.
وأصابها الخزي في الحياة الدنيا. وسيرى المفرطون صدق الوعيد في الأخرى.
وما عمت هذه الفتنة في المتأخرين بعد انقراض الذين ابتدعوها إلا بمساعدة
خطباء الفتنة ووعاظ الجهل وسيرة تلك الفرقة التي جعلت البطالة دينًا , واسم الدين
تجارة تدر عليها أخلاف الربح وتفجّر لها ينابيع الثروة وترفع لها أعلام الجاه
والشرف. أما حقيقة المسألة وما يجب اعتقاده فيها، فسنذكره في الجزء الآتي لأن
هذا الجزء ضاق عنه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/490)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
(15) من هيلانة إلى أراسم في 10 نوفمبر سنة - 185
لست أدري أيها العزيز أراسم متى يتيسر لي إيصال بقايا هذا المكتوب إليك
فقد توالت عليَّ الأيام وتعاقبت الشهور في ارتقاب فرصة تمكنني من ذلك ولا ريب
في أن ما أكتبه إليك خلو من كل ما من شأنه أن ينفر الحكومة ويزعجها فإن أخص
موضوع أحب مكاتبتك فيه هو الحديث عن (أميل) وشئونه وأنت تعلم أن (أميل)
ليس من المؤتمرين بالحكومة المغرين بالخروج عليها على أنه لا شيء في
عواطفنا وآمالنا يدعو إلى ملاحظة أو يستوجب مؤاخذة وإني أراعي في مكاتيبي
الحياء والاحتشام حتى إني لأفضل إحراقها على اطلاع غيرك عليها.
هاج غضب (أميل) صباح اليوم هياجًا شديدًا بلا سبب معروف , ولا بدع
في ذلك فإننا مع تبجحنا بالعقل والرزانة لا نعرف على الدوام علة جزعنا وغضبنا
فقد يكفي في إساءة خلقنا أن نرى في السماء غيمًا كريه المنظر , أو في ملبسنا
انثناءً مضايقًا , أو نسمع ذبابة تَطِنّ في أذننا وأيًّا ما كانت علة غضب (أميل) فإن
جورجيا لما رأته في هذا الهياج قدمت له مرآة جعلتها نصب عينيه فأثر ذلك فيه
تأثير السحر بإسكان غضبه كأنه خجل من نفسه أو خاف من صورته.
أنا منجزة ما وعدتك به فتجدني الآن أطالع وأبحث وأعمل لأتمكن يومًا ما من
تعليم (أميل) وإنك لو رأيتني في هذه الحالة لنكرتني لما صرت إليه من الوقار
والرزانة.
أنت تعلم أني ما برحت أميل إلى علم النبات فتراني الآن من بضع شهور
مشتغلة بدرس أزهار الكثبان لأني وجدت من ظروف الأحوال ما ساعدني على ذلك
فإن النباتات الطالعة هنا على رمال الساحل في غاية الكثرة والتنوع على أن لها
بالبحر ارتباطًا كثيرًا ويوجد أيضًا على مقربة من قرية للصيادين مغارة اسمها
نيولين شهيرة بدقة السرخس النابت على جدرانها وجماله , فإن الظل والرطوبة
اللذين فيها يشكلانه بأشكال متشعبة مشوشة تدعو إلى إعجاب المخبرين بأحوال
النباتات ولكن لسان حاله ينطق بتألمه ومرضه فهل من الآلام والأمراض ما يكسو
الصور رونقًا وبهاءً.
بينما كنت راجعةً هذا المساء من نزهة قضيتها ارتيادًا للنباتين المعروف
أحدهما عند النباتيين بالقوريجيول الشاطئي , والثاني بالأرنجيون البحري أو لحية
التيس [1] , بصرت ببنت صياد ملتصقة بإحدى نوافذ بيتها تنفخ في زجاج هذه
النافذة ثم تكتب بظفر أنملتها الصغيرة اسم معشوقها على ما يظهر في صفحة الزجاج
من الكلف فاستمالني ذلك إليها وخاطبتها فعلمت منها أن لها خاطبًا في إستراليا وأنها
تترقب مجيئه ولا تعلم متى يجيء لتحظى بلقائه فعسى أن يكون ذلك قريبًا لأني
أعلم ما يقاسيه الإنسان من مضض الفراق. اهـ.
(16) من هيلانة إلى أراسم في 25 نوفمبر سنة 185
بعد هذا الانتظار كله قد تكلف أحد من تعرفهم فتكفل بإيصال مكتوبي هذا إليك
فأسلمته إليه واستودعته الرياح العاصفة والبحر المضطرب، وحوادث الأيام
الكثيرة؛ لأنه لا محيص من ذلك , ولكني لن أستودعها أبدًا حبك فإنه في حيازة ما
لا يعتريه التحول ولا التقلب اهـ.
بشرى فقد نبت (لأميل) سنَّان اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لحية التيس: نبت كورق الكراث لكن يرتفع.(3/494)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة
(1)
مدعو الصحبة كذبًا
كان وضع الأحاديث أوسع أبواب الفتنة في الإسلام وأفسح مجال للعائثين فيه ,
وقد فتك أعداء هذا الدين فيه بهذه الضلالة فتكًا ذريعًا , وكان لهم من التفنن فيه
غرائب وعجائب أبعدها عن الحق وأدناها إلى ظهور البهتان دعوى الصحبة كذبًا.
وأعجب من ذلك أنه لم يدع أحد شيئًا إلا ووجد من يصدقه , ولم ينعق ناعق بدعوة
إلا ووجد من يجيبه مهما كان كذب الدعوى ظاهرًا وبطلان الدعوة واضحًا.
فَنَّدْنَا في الجزء الماضي زعم من ادعى الصحبة لأبي سعيد الحبشي (1)
صاحب حديث المصافحة ونذكر ههنا بقية ممن وقفنا على أسمائهم من أهل هذه
الدعوى (2) فمنهم (رتن الهندي) قال الحافظ الذهبي: وما أدراك ما رتن شيخ
دجّال بلا ريب ظهر بعد الستمائة وادعى الصحبة وقيل: إنه مات سنة اثنتين
وثلاثين وستمائة , وقد كذب وكذبوا عليه , (3) ومنهم مكلبة بن ملكان
الخوارزمي زعم أن له صحبة وأنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا
وعشرين غزوةً، وكان في حدود أربعين ومائة. قال الحافظان الذهبي وابن حجر
وغيرهما: إنه شخص كذاب أو لا وجود له. وقال الحافظ ابن كثير: (أعجوبة
من العجائب مكلبة بن ملكان أمير خوارزم بعد الثلاثمائة بقليل ادعى الصحبة ... )
إلى أن قال: ولم يرو عنه إلا المظفر بن عاصم العجلي ولست أعرفه , والغالب أنه
نكرة لا يعرف , (4) ومنهم جعفر بن نسطور ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم
دعا له بطول العمر وعاش 340 سنة , قال في الذيل: هو أحد الكذابين الذين
ادعوا الصحبة بعد المائتين , (5) ومنهم سرمالك ملك الهند في بلد قنوج قال: إن
له سبعمائة سنة , وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ إليه حذيفة وأسامة
وصيصبا وغيرهم يدعونه إلى الإسلام فأجاب الدعوة وأسلم , قال الحافظ الذهبي:
هذا كذب واضح وزعم أيضًا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بمكة
ومرة بالمدينة ومات سنة 333 وهو ابن 894 سنة. وهؤلاء من الأعاجم وفيهم من
لقب بالأمير والملك وأصحاب هذه الألقاب أقدر على ترويج الفتن ممن عداهم.
ولم يسلم ضلال العرب من هذه الفتنة بعدما كان للرواية والرواة ما كان لهم
من نباهة الشأن فممن ادعى الصحبة (6) منهم جبر بن الحرث قال الحافظ (ابن
حجر) في اللسان عن الأمير عبد الكريم بن نصر: قال: كنت مع الإمام الناصر
في بعض منتزهاته للصيد فلقينا في أرض قفر بعض العرب فاستقبلنا مشايخهم ,
وقالوا: يا أمير المؤمنين عندنا تحفة هي أننا كلنا أبناء رجل واحد وهو حي يرزق ,
وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وحضر معه الخندق واسمه جبر بن الحرث
فمشوا إليه فإذا هو في عمود الخيمة معلق مثل هيئة الطفل فكشف شيخ العرب عن
وجهه وتقرب إلى أذنه , وقال: يا أبتاه , ففتح عينيه فقال: هذا الخليفة جاء
يزورك فحدثهم , فقال: حضرت مع النبي صلى الله عليه وسلم الخندق فقال:
(احضر يا جبير جبرك الله ومتع بك وأوصاني) وكانت هذه الواقعة في جمادي
الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة , (7) ومنهم جابر بن عبد الله اليماني وهو
كذاب جاهل , (8) ومنهم قيس بن تميم الطائي الكيلاني حدث في مدينة كيلان عن
النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع عشرة وخمسمائة وسمع منه جماعة أكثر من
أربعين حديثًا قال ابن حجر: هو من نمط شيخ العرب ورتن الهندي , (9) ومنهم
عثمان بن الخطاب أبو عمرو البلوي المعروف بابن ابي الدنيا الأشبح , قال الذهبي
في الميزان: ظهر على أهل بغداد وحدث بعد الثلاثمائة عن علي بن أبي طالب
فافتضح وكذبه النقاد ومات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. (10) ومنهم علي بن
عثمان بن خطاب قال الحافظ: حدث سنة إحدى عشرة وثلاثمائة بالقيروان عن
علي بن أبي طالب وزعم أنه رأى الخلفاء الأربعة.
وأنت ترى من تاريخ هؤلاء الكذابين الوضاعين الذين تجرءوا على ادعاء
الصحبة أن باب الوضع فُتِحَ وإفساد الدين ابتدأ مع الاشتغال برواية الحديث لا سيما
في القرن الثالث والرابع والخامس فيجب أن لا يثق الإنسان بحديث يراه في كتاب
أو يسمعه من أي إنسان حتى يكون على بينة من صحته رواية ودراية , وسنوضح
هذا في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/497)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التبرك وشفاء الأمراض
في مصر بئر من الآبار المقدسة يستشفي بها المصدوعون وغيرهم ولها
سادن يتولى الأعمال التي يكون بها الشفاء كتدلية الأطفال فيها , ومسح أعضاء
المرضى بمائها ويأخذ أجره وشيئًا آخر للبئر نفسها يكون تقدمةً كالهدية أو الرشوة أو
الجزاء وهو قطعة كبيرة أو قطع من السكر تلقى في الماء , والإقبال على هذا عظيم
والناس يتنافسون في كثرة السكر الذي يقدم لسادن البئر وناهيك بالنساء , وإذا لم
يحتل السادن على أخذ السكر بأن يجعل في البئر وعاء يقع فيه ثم يستخرجه في
حالة غيبة الناس فيقرب أن يكون ماء البئر صار حلوًا لا سيما إذا كان قليلاً , وإذا
تسنى للسادن أن يبيع منه في هذه الحالة يجمع بين موارد الرزق الروحانية
والمادية.
إن شفاء الأمراض بالوهم الذي يثيره الاعتقاد القوي أمر معروف عند جميع
الأمم , واستخدمه رجال الدين من سائر الملل ما استخدمه الأطباء والحكماء
ويستخدمونه في أوروبا , وأميركا حيث بضاعة الطب رائجة وأسواقه نافقة , ولو
أن سادن البئر يدعي أن فيها خاصية طبيعية تشفى بها الأمراض كما يوجد في
الآبار والينابيع المعدنية والبخارية؛ لما كان لنا أن نندد به وننفر عنه ولا أن نذكره
في الخرافات ونعده من الأباطيل. ولكن إيهام الناس بأن فيه أسرارًا إلهية وقوة
غيبية بها تشفى الأمراض وتزول الأسقام هو ضرب من الاعتقادات الوثنية التي
سرت إلى أهل الأديان السماوية من الوثنيين بالوراثة وبالمعاشرة والمخالطة , ثم
صبغوها بألوان من دينهم وقربوها منه بالتأويل والتحريف.
باب المتولي
ومن قبيل البئر الباب الكبير الذي بجانب جامع المؤيد المشهور المسمى
(بوابة المتولي) ترى الناس نساءً ورجالاً يتمسحون بهذا الباب آناء الليل وأطراف
النهار يلتمسون البركات وتفريج الكربات وشفاء المرضى ودفع المصائب ورد
النوائب. وتراهم يقبلون مسامير الباب الحديدية ويربطون بها الخرق من آثار الذين
يلتمسون شفاءهم من أسقامهم أو عطف قلوب معشوقيهم عليهم , ونحو ذلك مما
سيأتي تفصيل القول فيه بالتدريج , ونبين مفاسده ورد شبهة الذين يروجونه بدعوى
الكرامات وما هو من الكرامات ولكنه من الضلالات والخرافات.
__________(3/499)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الموالد والمواسم
هل يمكن الانتفاع بالموالد؟
أكمل حياة الإنسان الحياة الاجتماعية , فمن يكره أي اجتماع لذاته فهو كاره
لكمال الإنسانية وهذا لا يكون من إنسان , ولا يختلف عاقلان في أن التفرق والتبدد
أولى من الاجتماع على الشرور والاتفاق على الفجور , وإذا كان في الاجتماع خير
وشر ونفع وضر لا يمكن أن يزولا إلا بزواله فالحكم فيه إنما هو بالقاعدة المتفق
عليها شرعًا وعقلاً وهي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ولكن إذا أمكن
إزالة المفاسد أو تحويلها إلى مصالح , وجب ذلك ولا يجوز السعي حينئذ في إبطال
الاجتماع نفسه , وإنما يسعى في تطهيره وتنقيته من كل ما يذم وفي تنمية منافعه
وزيادة فوائده.
وهذه الاحتفالات والاجتماعات المصرية التي تسمى بالموالد شرها أكثر من
خيرها وإثمها أكبر من نفعها بل يمكن أن يقال: إن منفعتها الجزئية محصورة في
مصلحة سكة الحديد وليس للأمة فيها نصيب من حيث إنها أمة لأن الحركة التجارية
الخفيفة التي تكون فيها على اختصاصها بأفراد محصورين لا يقال: إن فيها ترقية
للأمة ومنفعة لها كما هو الشأن في الاجتماعات الكبيرة في بلاد المدنية التي تسمى
بالمعارض بل هي في مصر أقل فائدة تجارية من الاجتماعات الصغرى التي تسمى
بالأسواق. ولا يقال: إن هذا الشيء مفيد للأمة إفادة مادية مالية إلا إذا كانت الفائدة
واردة إليها من بلاد غير بلادها ومن شعوب غير شعوبها , وليس في هذه الموالد
شيء من هذا. وكيف يصح أن يقال: إن هذه الموالد معارض عمومية وينابيع
للثروة إذا كانت الفائدة المادية محصورة في البغايا والراقصات والمشعوذين وبائعي
الحمص , والفائدة الأدبية والدينية تزداد في كل مولد منها اضمحلالاً وتلاشيًا حتى
كاد الدين والأدب ينعدمان بالمرة.
من يقول: إن اجتماعًا يضم المليون والمليونين من الناس في بلد واحد كمولد
السيد الكبير لا يمكن الانتفاع به لو وجد في الأمة رؤساء للدين وللدنيا همهم القيام
والسعي في المصلحة العامة التي ترقي الأمة حسًّا ومعنى؟ ولكن هذه الأمة
المسكينة التي لم يوجد دين اجتماعي كدينها ولا شرعية عمرانية كشريعتها بُلِيَتْ
برؤساء إفراديين في الدنيا والدين عموا عن كل ما في القرآن من الأصول
الاجتماعية حتى لا تكاد تجد في كتب علمائهم - فضلاً عن كلامهم اللفظي - ذكرًا
للأمة كما لا تجد في أمرائهم وملوكهم إلا المستبد فيها بسلطته الشخصية الهادم
لقواعدها الدستورية الشوروية على ما بيناه مفصلاً في المقالات التي نشرناها في
السنة الأولى تحت عنوان قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلاْ} (الأحزاب: 67) .
فإذا كانت الصواعق التي تنقض على رؤوس الأمة ورؤوسهم آنًا بعد آن قد
أيقظت هؤلاء الرؤساء من نومهم المستغرق فلا شك أنهم يمكنهم تحويل مضار هذا
الاجتماع إلى منافع مادية ودينية وأدبية وسنبين ذلك في جزء آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/501)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التهتك في مصر وتلافيه
أظن أنه لا يوجد بلد إسلامي أو غير إسلامي فيه من التهتك ما يداني ما في
مصر لا سيما القاهرة فما فنك النساء فيها إلا بعد ما مسن الرجال واضطروهن إلى
ذميم الفعال.
مر علي زمن في القاهرة لا أرى فيه ما يكون في الأسواق عندما أمر فيها
لأنني كنت قلما أدير لحظي وأرمي ببصري إلى الناس , ثم تكلفت الاختبار فصرت
أرى ما لم يكن يلوح في ذهني أنه يكون - أرى الرجال من جميع الطبقات
يتعرضون لكل من عليها مسحة من الجمال يغازلونها ويناغونها , وإن لم يروا منها
عينًا خائنة أو إشارات شائنة. أرى من الرجال من يمد يده إلى المرأة المتبرقعة في
الشارع كأنما هي حليلته في زاوية بيته. أرى المرأة تطوف في مثل شارع الغوري
فكأنما هي المراد بقول الشاعر:
كرة حذفت بصوالجة ... فتلقفها رجل رجل
رأيت من أيام رجلاً في القهوة التي أمام منزلي في الشارع العام قبض بيده
النجسة على يد امرأة طاهرة نقية فصاحت به: استح أيها الرجل واتركني ,
وتذكرت الآن أنني كنت مارًّا في شارع الخليج قبل العصر في رمضان , وأولاد
المدارس الذين هم رجاء البلاد ورجال المستقبل منتشرون في الشارع منصرفين من
المدارس إلى منازلهم وكان من ورائي فتاة تمشي إلى الجهة التي أمشي إليها فكنت
أتصفح وجوه التلامذة المهذبين فلا أكاد أرى عينًا تقع عليَّ ولا على الأرض بل
كانت العيون كلها طائرة إلى ذلك الغصن الذي يتثنى من ورائي , ويا ليتهم كانوا
يقنعون بالنظر وإن كان سهمًا مسمومًا من سهام إبليس كما ورد , ولكنهم كانوا
يعرّضون للفتاة بأن جمالها أفسد عليهم صومهم ليختلبوا لبها فمشيت الهوينا لتسبقني
فأنظر هل يجد أحد منها انعطافًا أو التفاتًا؛ فما كانت إلا من قاصرات الطرف.
قويمات العطف، لا تلوي على أحد، ولا ترنو إلى ولد. ومثل هذه المشاهد كثيرة
في جميع هذه المعاهد , وهكذا يفسد الرجال النساء , ولكنهم يحصرون فيهن
الإغواء.
فواحسرتا على قوم هذه شنشنتهم وهم ينتسبون إلى دين الإسلام الذي قال نبيه
عليه الصلاة والسلام: (لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء) .
ولكن التربية الدينية دَرَسَتْ رسومها وأقيم على أطلالها بناء التهتك الذي
ينسب إلى الإفرنج لأن سببه الحرية التي انفجرت براكينها من بلادهم لا أنهم
يسيرون على هذه الطريقة فإننا لم نر إفرنجيًّا ولا إفرنجيةً يهتكان حرمة الأدب في
الأسواق، والشوارع على أعين الناس , فإذا كان أكثر الإفرنج مارقين من الدين
فإنهم قد استبدلوا به شيئًا من الأدب الدنيوي , ولكن قومنا إذا مرق أحدهم من الدين
يكون ممن قال الله فيهم: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: 11) .
هؤلاء السفهاء لا يزعهم عن غيهم إلا السلطان والحكم , وقد ألقت الحكومة
المصرية حبالهم على غواربهم حتى علمنا أن محافظة العاصمة أصدرت منشورًا
إلى الأقسام ورجال البوليس والخفراء بأن يقبضوا على كل شخص يتعرض لسيدة
في الطريق أو يحرضها على ارتكاب الفحشاء أو يسبها أو ينسب إليها عيبًا. وهذا
هو الأمر الذي ينتظر من سعادة محافظ مصر كما يوجبه عليه دينه وأدبه , ونرجو
من حزمه وهمته تشديد العناية بالقيام به حق القيام , لا سيما بالنسبة لفساق التجار
فإن إباحة هذا التهتك ينتهي إلى أن لا يبقى في البلد امرأة عفيفة نزيهة , والله لا
يضيع أجر المحسنين.
__________(3/503)
11 جمادى الآخرة - 1318هـ
5 أكتوبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرجال أم المال
الخلاف في أن الإصلاح يتوقف أولاً على الرجال الكاملين أو على
المال. أماني طلاب المال للأصلح. وصف ثلاثة نفر من المصلحين. أماني
بعض الأغنياء البخلاء في الإصلاح. شبهة وجوابها. تضييع ما ترك السلف.
الأزهر. مدرسة خليل أغا. الحسينية. المصلحون ما كانوا أغنياء. لوثر. بوكر
واشنطون. السيد جمال الدين. السيد أحمد خان. وعد مؤكد ومؤجل.
قلنا في مقالة سابقة: إننا إذا ارتقينا في الأسباب التي تحتاجها الأمة لصلاحها
وفلاحها ننتهي إلى السبب الأخير الذي يجب أن يكون أولاً حتى إذا كان يكون به
كل مراد وتوجد به كل رغيبة وتحقق به كل أمنية، وهو الرجال الذين لهم علم
صحيح بمصلحة الأمة الحقيقية , ومعارج ترقيتها الصورية والمعنوية , وعزيمة
ماضية وإرادة قوية. تبعث على القيام بالأعمال الاجتماعية , والثبات في سبيل
المصلحة الملية. لا يصدهم عن ذلك صد , ولا يقفون من سيوف القواطع عند حد.
كتبنا هذا الرأي وعرضناه على من نذاكرهم ونباحثهم مشافهة في مسائل
الإصلاح الذي تحتاجه الأمة فوافقنا فيه بعضهم , وارتأى آخرون أن السبب الأول
الذي يجب أن يكون قبل كل شيء وبوجوده يوجد كل شيء هو المال , وهذا هو
الذي يلهج به الأكثرون من المتكلمين في الإصلاح , والذين توجهوا للعمل بزعمهم
ولكنهم لم يعملوا لأن أيديهم لا تصل إلى المال الكافي للقيام بالعمل الذي يتخيلونه ,
ويشبه أن يكون هذا في الغالب من الأعذار التي يعذر بها الكسالى أنفسهم والتعلات
التي يتعلل بها المغرورون الذين يصور لهم الوهم أنهم من أئمة المصلحين , ولكن
حيل بينهم وبين ما يشتهون , ولو ساعدهم الناس بالأموال , ودانت لهم المصاعب
والأهوال؛ لنهضوا بالأمة نهضة الأسد الرئبال , وعملوا من غرائب الإصلاح ما لا
يخطر على بال. تلك أمانيهم وأحلامهم. ووساوسهم وأوهامهم. وكل من تراه في
بطالة وكسل , أو حيرة وغمة لا يهتدي معهما للعمل؛ فاعلم أنه ليس من الرجال ,
ولا تعلق به أملاً من الآمال , وإن أغدقت عليه سحب الأموال.
نعم إن صاحب العرفان والإرادة عندما تتوجه نفسه للإفادة؛ يرى أن جلائل
الأعمال إنما يستعان عليها بالمال. ولكنه لا يطمع نفسه بالمحال. ولا يطلب بسببه
ما لا ينال. وإنما يرد أقرب الموارد , ويسلك أمثل الطرق. ويدخل البيت من بابه
ويضع الأمر في نصابه. ولقد رأيت مصلحًا حقيقيًّا طلب مبالغ كبيرة من المال
رأى أن الإصلاح يتوقف عليها فأصابها , ولكنه لو وجد بضعة رجال على مذهبه
لأمكنه أن يعمل بهم من الإصلاح أضعاف ما عجزت عنه تلك الألوف من الجنيهات.
وأعرف رجلاً آخر محبًّا للإصلاح أعوزه المال فطلبه من طريقه الطبيعي ,
ولما يصب الحظ الذي يمكنه مما يريد ولنا الرجاء أن سيصيبه. ويكون منه
للإصلاح نصيبه. ومن المصلحين من يعمل بمال قليل يستدره بعمله , وإذا استعان
فإنما يستعين بمال أبيه ومرشده ومربيه على أن أنفع الأعمال لا ضرورة فيه
للمال , وهو ما يعرفه أهله.
ومن الناس من يملك الألوف من الدنانير ويقول: آه لو كان لي في السنة
عشرون ألف جنيه أو خمسون ألف جنيه لفعلت وفعلت , ومنهم من يملك عشرات
الألوف ويزعم أنها لا تقع موقعًا من كفايته ولو بلغت مئات الألوف لأحيا البلاد.
وأسعد العباد. فهؤلاء هم الذين يقولون ما لا يفعلون. ويقطعون أعمارهم بالتمني
وربما كانوا لا يشعرون. ومن لا يعمل بالنزر اليسير؛ لا يعمل بالجم الكثير. على
أن المال لدى هؤلاء كثير ولكنهم يبخلون {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) .
ما استغنت أمة بعد فقر إلا وكان غناها بالرجال فإذا كان المال هو الذي ينتج
الرجال الذين ينقذون الأمة من شقائها وبلائها , وينتاشونها من محنها وفتنها ,
ويرفعونها من ضعتها وسقوطها فمن أين يأتي المال ومن الذي يجيء به؟ وإذا قيل:
إن الأمة مهما ضعفت وتأخرت عن غيرها فلا بد أن يبقى عند أفراد منها بقية مما
ترك سلفها من الثروة إن كان لها سلف مجيد أو مما يكسبه بعض أهل الهمة والنشاط
الذين لا يخلو شعب منهم؛ فلتنفق هذه البقية على تربية الرجال الأكفاء الذين
يقدرون على القيام بالإصلاح العام وبذلك يكون المال هو الذين يُوجِدُ الرجالَ. نقول
في الجواب: إن الأمة في مثل هذا الطور تكون ثروتها في سفهائها - جهالها
ومسرفيها - الذين لا يسمحون بالمال لا للشهوات البهيمية واللذات الحسية. ولا
تذكر الأمراء الظالمين والحكام الجائرين الذين يعلمون أن الإصلاح يقضي على
فسادهم. ويطهر الأرض من بغيهم واستبدادهم فلا يقيمونه بل يقاومونه. ولا
يُعضِّدونه ولكن يَعْضِدونه (يقطعونه) , فإذا أردت الاستعانة على الإصلاح بأموال
أولئك الاغنياء السفهاء الأشحاء فكيف يتسنى لك أن تنفخ روح حب الأمة في قلوبهم ,
وتجعل الإيثار مكان الأثرة من نفوسهم؟ اللهم إن كان يوجد في الأمة من له هذا
السلطان على النفوس وهذا التأثير في الوجدان فأولئك من الرجال الذين يجب
أن يكون وجودهم قبل وجود الأموال.
وأما المال الذي هو بقية مما ترك السلف الصالح فهو أداة , ولا بد للأداة من
عامل , والعمال من الرجال الكملة الذين قلنا: إن الإصلاح لا يوجد إلا بهم - هذه
أوقافهم على المدارس والأعمال النافعة تؤكل إسرافًا وبدارًا. والأمة تزداد جهلاً
وخسارًا وتبارًا ودمارًا. ولا تجد لهم من أهل تلك المدارس مصلحين ولا أنصارًا.
هذا الأزهر العظيم الذي تنفق عليه عشرات الألوف من الجنيهات هل تجد
للأمة رجاء فيمن تربوا فيه واقتصروا على تعليمه بأن يكون نهوضها وإصلاح
شأنها على أيديهم؟ أم هل سمعت أهله يومًا يذكرون الأمة وتقدمها وتأخرها في
درس من دروسهم أو مجلس من مجالسهم؟ أظنك إذا ذكرت واحدًا منهم وقلت: إنه
محل الرجال فإنما تذكر من لا ينطبق عليه الوصفان المذكوران آنفًا , وهذه
(مدرسة خليل أغا) يبلغ ريع أوقافها زهاء عشرة آلاف جنيه ولا يجني المسلمون
من ثمرتها أكثر مما يجنون من سائر المدارس الأهلية التي أنشأها في هذا العصر
بعض الشبان لتكون معاشًا لهم يأكلون من ثمرات ريعها ولا يهمهم أتربي وتعلم من
يدخلها أم لا؟ . ولا تنس المدرسة الحسينية التي خصصت أوقافها الواسعة بخمسين
متعلمًا , وأجري عليهم وعلى أساتذتهم من الأرزاق ما يمكنهم من تحصيل جميع
العلوم والفنون إلى أن يكونوا من أعظم المعلمين والمرشدين. فلو كانت هذه
المدارس تدار بأيدي رجال ممن وصفنا لك؛ لكانت منبع الحياة الطيبة التي يرجوها
الباحثون في حال الأمة الاجتماعية وما يجب لها من الإصلاح.
بعيشك راجع تاريخ الإصلاح في الأمم والشعوب؛ هل تجد مبدأه الرجال
الفقراء أم أصحاب الغنى والثراء؟ هل كان (لوثر) غنيًّا؟ وهل نشر مذهبه
بالمال؟ وهل استرد (بوكر واشنطون) ساعته التي رهنها لأجل استئجاره من يعلم
تلامذة مدرسته شيًّ الآجُرّ حيث احتاج إلى ذلك القسم الصناعي منها؟ وهل أدى
المائة ريال التي اقترضها واشترى بها الأرض التي بنى مدرسته فيها فكانت ينبوع
حياة السود؟
وانظر هل كان السيد جمال الدين الأفغاني الذي نفخ روحًا إصلاحيًّا في مصر
فسرى في جسم الأمة سريانًا لا يزال ينمو ويزداد , وكل ما نحن فيه من البحث
والسعي فهو أثر من آثاره , وقبس من ناره. وانظر هل كان السيد أحمد خان
مؤسس كلية عليكده (في الهند) من الموسرين أم كان من المعوزين؟ فقد سبق
الكلام على غير (لوثر) من هؤلاء المصلحين ولنتحفن القراء بسيرة غيرهم ولو
بعد حين إذا مد الله في الأجل , وهو الموفق لخير العمل.
__________(3/505)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(15)
(تابع القضاء والقدر)
م (43) حقيقة العقيدة
ثبت بالبرهان أن قدرة الله - تعالى - متصرفة في الممكنات عن إرادة
واختيار وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة ووجوه النظام.
وأنه خالق كل شيء {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} (هود: 123) , ومن الممكنات
التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم يعمل بقدرته ما
تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه وهو الإنسان ,
وهذا عند البعض هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله
وبدائع أسراره فيها ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه , ولا
يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آنًا بعد آن ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا
الله تعالى , والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم
السلام , ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك
حاشاه حاشاه. قال البيضاوي في بيان أن كل نبي خليفة: استخلفهم في عمارة
الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به - تعالى - إلى
من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك
لم يستنبئ مَلَكًا كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} (الأنعام: 9) اهـ،
وكذلك إذا قلنا: إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية فعلم من كل من القولين أن
في الإنسان معنى ليس في غيره , فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس؛
لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه فكذلك لا تساعد خلقته وليس
من وظيفتها إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع بها.
ولو كان إيجاد مخلوق على ما ذكرنا في خلق الإنسان غير ممكن لَمَا وجد ,
ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان , وهما أصل كل برهان ,
ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما.
إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت: إحداهما كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة
يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف وهي بديهية , والثانية هي أن الله هو
الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وهي نظرية , ويتولد من هاتين القضيتين
القطعيتين مسألتان نظريتان.
م (44) الأولى
ما الفرق بين علم الله - تعالى - وإرادته وقدرته وبين علم الإنسان وإرادته
وقدرته؟ والجواب من وجوه: أحدها أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له
لذاته , وصفات الإنسان حادثة بحدوثه , وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته.
ثانيها: أن علم الله تعالى محيط بكل شيء {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) ، وأما الإنسان فما أوتي من
العلم إلا قليلاً , وإرادة الله - تعالى - لا تتغير ولا تقبل الفسخ؛ لأنها عن علم تام
بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء، وتفسخ لظهور الخطأ في
العلم الذي بنيت عليه , وتتجدد لتجدد علم لم يكن له من قبل وقدرة الله تعالى
متصرفة في كل ممكن فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة , وقدرة الإنسان لا تصرف لها، ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحة ومنفعة
له وهو لا يقدر على القيام به , ثالثها أن صفات الإنسان عرضة للضعف
والزوال وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية وبالجملة إن المشاركة بين صفات
الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم لا في الجنس كما زعم بعضهم فبطل زعم
من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته
يقتضي أن يكون شريكًا لله - تعالى - {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
م (45) المسألة الثانية
وهي عضلة العقد , ومحط المنتقد. أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى
أو إرادته (قولان) في الأزل بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه
الممكنة , والقدر: وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل , ومن
الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية فإذا كان قد سبق
القضاء المبرم بأن زيدًا يعيش كافرًا ويموت كافرًا فما معنى مطالبته بالإيمان وهو
ليس في طاقته ولا يمكن في الواقع , ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة
مجبور على الكفر في صورة مختار له كما قال بعضهم؟ وقد نظم هذا السؤال
يهودي فقال:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
قَضَاني يهوديًّا وقال: ارض بالقضا ... فها أنا راض بالذي فيه شقوتي
والجواب عن هذا أن تعلق العلم أو الإرادة بأن فلانًا يفعل كذا لا ينافي أنه
يفعله باختيار إلا إذا تعلق العلم بأنه يفعله مضطرًّا كحركة المرتعش مثلاً , ولكن
أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية أى بإرادة فاعليها لا
رغمًا عنهم , وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثًا ولا لغوًا. وثم وجه آخر
في الجواب وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلاً يفعل كذا يستلزم أن يكون
ذلك الفاعل مجبورًا على فعله؛ لكان الواجب تعالى وتقدس مجبورًا على أفعاله كلها
لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك , وكل ما تعلق به العلم الصحيح لابد من وقوعه.
فتبين بهذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم ولم يُسمَّ باسمهم قد غفلوا عن معنى الاختيار.
واشتبهت عليهم الأنظار. فكابروا الحس والوجدان. ودابروا الدليل والبرهان.
وعطلوا الشرائع والأديان. وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره.
ولا فقهوا سر نهيه وأمره. حيث جرأوا الجهلاء على التنصل من تبعة الذنوب
والأوزار. وادعاء البراءة لأنفسهم والإنحاء باللوم على القضاء والمقدار. وذلك
تنزيه لأنفسهم من دون الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان
بالانغماس في الفسوق والعصيان. فياعجبًا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من
الإغراء. وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء. أليس من شأن من لم يفسد الجبر
فطرته ويظلم الجهل بصيرته أن يكون أعظم مهذب لنفسه. ومؤدب لعقله وحسه
اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن. ويظهر ويبطن. وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟
بلى إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وأما الذين
ضلوا السبيل. واتبعوا فاسد التأويل فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك
بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148)
فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل وجعل احتجاجهم من أسباب وقوع البأس
والبلاء بهم , وقوله عز من قائل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه والله عليم
حكيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/510)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(همة الرجال تهد الجبال)
وردت إلينا هذه الرسالة بهذا العنوان من سنغافور فنشرناها مفتخرين بتعلق
قلوب المسلمين بمولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى:
ما سمعنا في ماضينا بمثل ما رأينا من الاتحاد، والاتفاق والتعاون على البر
والتقوى في الاحتفالات التي أقامها أهالي مدينة سنقافوره تذكارًا للجلوس الحميدي
السلطاني في العيد الفضي، أي: مضي 25 سنة لمولانا أمير المؤمنين وخليفة
رسول رب العالمين وحامي حمى الدين خادم الحرمين الشريفين الغازي مولانا
السلطان عبد الحميد خان الثاني ابن المرحوم الغازي السلطان عبد المجيد خان منذ
تولى عرش الخلافة العثمانية أدام الله دولته، وأعلى كلمته وأطال في عمره سنين
عديدةً وأعوامًا مديدةً آمين، ففي نهار 12 ربيع ثاني عام 1318 الموافق 10 أقوس
1900 انعقدت جلسة في الجمعية الإسلامية تحت رئاسة رئيسها السيد عبد الرحمن
السقاف , ومنشى محمد صديق , والإمام محمد يوسف , وأعضائها السيد محمود ,
والشيخ علي بن حيدره , وأحمد بن محمد صالح أنقليا , وسعيد بن أبي بكر ,
والحاج هارون , والشيخ عقيل باحميد , واتفق رأيهم على أن يعلنوا لسائر الجمعيات
الإسلامية في سنقافوره ولجميع الأئمة ولجميع المسلمين عامة بأن الواجب على
جميع المسلمين أن يشتركوا في الاحتفال الذي سيقع نهار الجمعة 5 جُمَادَى الأولى
الموافق 31 أقوس وفي 21 ربيع ثاني الموافق 19 أقوس أولمت الجمعية الإسلامية
وليمة لقراءة المولد الشريف واستدعت مقدار 500 نفس ومن بعد الفراغ من قراءة
المولد النبوي تليت الخطب في حث الحاضرين على أن يتحدوا ويتعاونوا على ما
يجب نفعه للسلطان المعظم وللأمة من إظهار شعائر الإسلام وأن يتمسكوا بأهداب
العرش الحميدي الحامي لدينهم، وأن يقيموا الزينة والاحتفالات في يوم الجمعة 5
جمادَى الأولى للجلوس المأنوس وجميع من حضر استحسن ذلك، وخرجوا من دار
الجمعية شاكرين داعين للسلطان المعظم ولسائر المسلمين ولمن أقام الوليمة وفي 25
ربيع أول طبع أهل الجمعية الإسلامية 3000 صحيفة أعلنوا ذلك فيها بثلاث لغات:
العربية وملايو وشوليا، وفرقوها على جميع المسلمين لأجل الاشتراك في الزينة
والاحتفال، وحالما اطلع المسلمون على الإعلانات شرعوا في الاستعداد بغاية
الفرح والسرور، وكان احتفال الجمعية على هذا الترتيب:
أولاً: المولد الشريف.
ثانيًا: الدعاء لمولانا أمير المؤمنين الغازي عبد الحميد خان الثاني بتأييد
خلافته الإسلامية.
ثالثًا: إرسال التهنئة في البرق لدار الخلافة.
رابعًا: إطعام الطعام لمن حضر من الأعيان.
خامسًا: إطعام الفقراء والمساكين.
سادسًا: إدارة الحلوى والمرطبات على الحاضرين.
سابعًا: الدعاء ممن حضر للحضرة الشاهانية ولجميع أمراء المسلمين ولعامة
المسلمين الأحياء منهم والميتين. وفي يوم الجمعة المذكورة تزينت الجمعية
الإسلامية بالرايات العثمانية، وفي ليلة السبت حضر الاحتفال جميع أهل الجمعية
الإسلامية والمدعُوُّون، وأذن لمن أراد أن يتفرج من جميع الأجناس مسلمين وفرنج
وصينين وإسرائيليين، أما الزينة فكانت بالكهربائي والشموع حتى كان الليل
كالنهار، وكانت موسيقى القلعة الإنقليزية في بيت الجمعية الإسلامية تصدح
وتطرب الحاضرين. وكذلك جميع المساجد والجمعيات الإسلامية وبيوت المسلمين
في جميع شوارع البلد كانت مزينة بالرايات العثمانية، وراية الهلال تخفق على
جميع البيوت، وجميع تجار المسلمين أغلقوا محلاتهم التجارية من يوم الجمعة إلى
مساء السبت، وكان جميع الأجانب مندهشين من عظم الزينة والاحتفال وجميع
عساكر الدول وضباطهم الذاهبين إلى الصين يتفرجون في أنحاء البلد، والزينة
قائمة والمسلمون في فرح واستبشار وبعد صلاة الجمعة أقيمت الخطب في جميع
المساجد في محل مرتفع معد للأئمة وجميع المسلمين يؤمنون على الدعاء بطول بقاء
سيدنا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني، وجميع المحررين من
أهل الجرائد الإنقليزية وقوفًا يكتبون ما شاهدوا، وبعد فراغ الخطب شرع الخطباء
في بيان محاسن الحضرة الشاهانية كالاهتمام بأمور المسلمين شرقًا وغربًا وترقيته
للمملكة العثمانية، وللأمة الإسلامية خصوصًا المشروع الإسلامي الذي يبدأ بمده نهار
الجلوس، وهو السكة الحديدية الحجازية، وبلغت أجرة الرسالة البرقية التي
أرسلتها الجمعية للحضرة الشاهانية مائة وأربعين ريالاً، وعلمنا أن سائر الجمعيات
وبعض تجار البلد من المسلمين أرسلوا تلغرافات التهاني أيضًا، والمرجو من جميع
إخواننا المسلمين المجاورين لبندر سنقافوره مثل أهالي جاوه بتاوى , وسربايه ,
والصولو وصماران وشربون والتقل وباكلنقن وفريانقان وبنجرماسين وفادانق
وفلنبان وفنتيانه واسثي ودلى ومكاسر والتميور أن يقتدوا بإخوانهم المسلمين أهالي
مدينة سنقافوره القليل عددهم الكثيرة بركتهم، والواجب على جميع أكابر المسلمين
مثل رقين 2 وفاتي 2 وكمندانات ومشايخ العرب ومشايخ الجاوه، أي: بيق بيق
المتولين الوظائف الهولندية والعلماء وكل من فيه بقية من الإيمان والنخوة أن يقيم
مثل هذا الاحتفال لأنه شعار المسلمين، ولا مانع إذا قام به أكابر المسلمين مثل
السيد العلامة عثمان بن عبد الله بن يحيى خاصةً، وبقية العلماء عامةً، والله
الموفق للصواب.
... ... ... ... ... ... ... محب الدولة والملة ناصر الدين
***
(أزهر السودان)
اقتضت إرادة الحضرة الخديوية العباسية بناء جامع كبير في مدينة الخرطوم
حاضرة بلاد السودان المصري ليكون كالأزهر في مصر , وأمر ديوان الأوقاف بأن
يصرف عشرة آلاف جنيه لبنائه فقرر الديوان ذلك، وقد احتفلت حكومة السودان
بتأسيس هذا الجامع ودعت لحضور الاحتفال وجهاء السودان من البلاد المتفرقة
وحضرة ضباط الجيشين المصري والإنجليزي هناك، ووضعوا في الحجر الأول
قطع النقود المصرية من الجنية إلى ربع المليم والجريدة الرسمية (الوقائع المصرية)
وضعها قاضي قضاة السودان بيده، وأشهد الناس على ذلك نائب الحاكم العام على
السودان (لأن الحاكم الذي هو السردار ونجت باشا الإنكليزي كان في أوروبا
بالأجازة) مصرحًا غير مرة بأن الذي وضع الأمانة هو قاضي القضاة باسم سمو
الخديو المعظم وخطب هذا النائب خطبة افتتاح الاحتفال وتلاه قاضي القضاة الأستاذ
الشيخ شاكر المصري وإننا ننشر خطبته أثرًا تاريخيًّا مبينًا حقيقة الأمر وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أسس دين الإسلام على أقوى دعائم العمران. والصلاة والسلام
على سيدنا محمد الآمر بعمارة المساجد كما نزل به القرآن. وعلى آله وأصحابه
هداة الدين ومن تبعهم بإحسان (أما بعد) فإن الله تعالى قد من على الأقطار
السودانية. بمحو فتنة المهدية. على يد هذه الحكومة الرءوفة بالعباد. العاملة على
ما فيه الخير والسعادة للبلاد. وكانت همة رجالها الكرام وأمرائها العظام متوجهة
لإحياء ما اندرس من معالم الدين. وإشادة ما انطمس من مآثر المسلمين. ورفع
منار العلوم والمعارف الإسلامية وإقامة الشعائر الدينية، لذلك صدرت إرادة الملك
العادل حامي حمى الأقطار المصرية برجال الإصلاح وماحي ظلم الفتن برايات
النصر والفلاح صاحب السمو والفخامة مولانا الخديوي المعظم (عباس حلمي باشا
الثاني) بإنشاء هذا المسجد في مدينة الخرطوم ليكون محطًّا لرجال العلم والعلماء
وملجأ لطلاب العلوم والمعارف من جميع الأنحاء والأرجاء، وليكون المدرسة
الكبرى للشريعة الإسلامية في الأقطار السودانية كما أن الجامع الأزهر المعمور هو
المدرسة الكبرى للعلوم الدينية في الأقطار المصرية، وقد خصص لبنائه عشرة
آلاف من الجنيهات تبرع بها ديوان الأوقاف المصرية وقد اختير لذلك أن يكون هذا
المسجد في وسط ميدان عباس الذي تبلغ مساحته سبعة وعشرين فدانًا وخصصت
الأماكن القريبة منه لتكون مكاتب لتعليم القرآن للأطفال من أولاد المسلمين أما
مساحة هذا المسجد الجامع والساحة الخاصة به فهي أربعة عشر ألف متر مربع أي
ثلاثة فدادين ونصف فدان وهو مربع الشكل له أبواب ثلاثة في وسط أضلاعه
الأربعة ما عدا الضلع الذي فيه القبلة، وبابه العمومي هو المسامت لقبلته، وساحته
الخاصة به محاطة بسور له أربعة أبواب في وسط أضلاعه الأربعة وقد جعل في
زوايا هذا السور الأربع أربع مدارس لكل مذهب من المذاهب الأربعة مدرسة تكون
مأوى لطلابه يشتغل فيه طلبة العلم بتلقي مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام
مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، وبتلقي علوم
الحديث النبوي وتفسير القرآن والتوحيد وأصول الفقه والعلوم العربية والعلوم
العقلية بجميع أنواعها تحت رعاية شيخ الجامع الذي يكون رئيسًا على مشايخ
المذاهب الأربعة الذين تستدعيهم حكومة السودان لنشر العلوم وبثها في الأقطار
السودانية وتخصص لهم ولتلامذتهم من النفقات ما يقوم بكفايتهم على أحسن حال
وأقوم طريق على النهج المتبع في إدارة الجامع الأزهر المصري، وكما أن الجامع
الأزهر هو ثالث مسجد أسس في مصر وكان الشروع في وضع أساسه في الثاني
والعشرين من شهر جُمادَى الأولى سنة 359 من الهجرة النبوية في أول الدولة
الفاطمية فهذا المسجد هو ثالث مسجد أسس في مدينة الخرطوم في عهد صاحب
المآثر والمفاخر والراية المنصورة مشيد مباني المعالي على دعائم العدل والإنصاف
سعادة الفريق ونجت باشا سردار الجيش المصري وحاكم عموم الأقطار السودانية
أحسن الله أيامه ونضرها وجملها بوجوده وأزهرها، وقد ناب عنه في وضع الحجر
الأول من التأسيس بيده الكريمة صاحب المقام الرفيع والرتبة العلية سعادة اللواء
جكسون باشا نائب حاكم عموم الأقطار السودانية فأمر وفقه الله أن يحتفل بهذه
المأثرة الكريمة احتفالاً بهيًّا يحضره أكابر رجال الحكومة السنية وعظماؤها
ونبهاؤها وأن يكون عيدًا لعموم الأهالي؛ فلبى دعوته أرباب الوجاهة والكرامة
وعظماء الرجال من كل طبقة وطائفة، ولذلك وضع سعادته الآن الحجر الأول من
هذا المسجد المعظم ويعلن في هذا اليوم يوم اثنين وعشرين من شهر جمادى الأولى
سنة 1318 ألف وثلاثمائة وثمانية عشر هجرية الشروع في تأسيسه رسميًّا لتتم
المشابهة بينه وبين الجامع الأزهر في التأسيس وليكون بفضل الله تعالى منبعًا للعلوم
والمعارف على مرِّ الدهور والأعوام يتخرج منه العلماء الأعلام حملة الشريعة وهداة
الدين كما كان الأزهر المعمور منذ تأسيسه إلى الآن، ونحفظ هذا التاريخ ليكون
عيدًا سنويًّا نذكر به فضل الحكومة السودانية على عنايتها بإحياء شعائر الملة
الإسلامية وحسن نيتها نحو الدين الإسلامي ونسأل الله تعالى أن يوفق رجال
الحكومة القائمين بأعبائها إلى ما فيه الخير للبلاد والصلاح للعباد آمين اهـ.
***
(الكلم الروحانية في الحكم اليونانية)
يذاكر القراء أننا كتبنا من عهد قريب نبذتين في المنار من حكم الفلاسفة
ونوادرهم، وعلمنا أنهما وقعتا موقع الاستحسان حتى استزادنا بعض الفضلاء من
ذلك. ونحن الآن ندلهم على الينبوع الذي استقينا منه تلك الحكم وهو كتاب الكلم
الروحانية تأليف الأستاذ أبي الفرج بن هندو المتوفى سنة 420هـ وقد طبع هذا
الكتاب طبعًا متقنًا في مطبعة الترقي الشهيرة بتصحيح ملتزم طبعه الفاضل الشيخ
مصطفى القباني وثمن النسخة منه أربعة غروش أميرية، ويطلب من دار الترقي
وغيرها فنحث الأدباء والفضلاء على مطالعته واقتباس حكمه.
***
(جمعية شمس الإسلام)
كان مجلس إدارة هذه الجمعية الإسلامية الشريفة قرر توقيف الاجتماع
الأسبوعي العمومي كما أعلن في المنار والمؤيد وقد استمر هذا التوقيف مدة أيام
الصيف الشديدة الحر، ولما رحل الصيف وهجرنا هجيره طفق أعضاء الجمعية
الصادقون ومحبو خير الملة يطالبون بإعادة الاجتماع الأسبوعي العام لما فيه من
الفوائد لا سيما عندما رأى هؤلاء الفضلاء غرس الجمعية قد نما وأزهر وأينع منه
الثمر وظهر لهم من صرف أموالهم على فتح المدارس لتربية أولاد المسلمين تربية
ملية وتعليمهم ما يكون مُسْعِدًا لهم في دينهم ودنياهم (إن شاء الله تعالى) أنها بريئة
من كل مقصد سياسي إذ أصحاب تلك المقاصد يدخرون المال ليبلغوا به إلى
مقصدهم. فقد فتحت الجمعية مدرسة في ملوي للذكور ومدرسة في حلوان للبنات
ومكتبًا في بني سويف ومدرسة في الفيوم للبنين وهي شارعة في فتح مدرسة أخرى
فيها للبنات وقد كتب إلينا بعض إخواننا هناك مبشرًا بنجاح الاكتتاب وبأن العمل
سيظهر قريبًا إن شاء الله تعالى. وكذلك علم هؤلاء الأخيار أن الجمعية مخلصة
لمولانا الخليفة والسلطان الأعظم كما يجب على كل مسلم لخليفته وأميره لأن
منهاجها الشرع الأغر الذي يأمر بطاعة أولي الأمر.
هذا ما كان موجبًا للإلحاح بإعادة الاجتماع الأسبوعي عندما ذهب الحر وزال
المانع وهو أمر متحتم بنفسه من غير طلب ولا إلحاح، ولذلك تعلن الجمعية بأنها
جعلت موعد الاجتماع ليلة الجمعة من كل أسبوع بدلاً من ليلة الإثنين فليتفضل أهلها
الصادقون وليبعد السعاة والمنافقون ومحلها في أول شارع درب الجماميز معروف
للجميع.
__________(3/514)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قسم الأحاديث الموضوعة
(2)
الكتب والرسائل الموضوعة
إن الأحاديث الموضوعة تعد بمئات الألوف وألوف الألوف فلا يمكن حصرها
فتنشر ويتحاماها الناس , وقد ذكروا ضوابط يعرف بها الموضوع , وكتب بعض
الفضلاء مقالة في الموضوعات نشرت في مجلة السنة الثانية من المنار وسنزيد
الموضوع بحثًا. ومن غرائب هذا الباب أن المحدثين بينوا أن بعض المصنفات
موضوعة في جملتها وتفصيلها فمنها الأربعون الودعانية التي يقال لها في بلاد
اليمن السبلقية قال الصغاني عند النص على وضعها: وأول هذه الودعانية: (كأن
الموت فيها على غيرنا كتب) , وآخرها: (ما من بيت إلا وملك يقف على بابه
كل يوم خمس مرات) إلخ وفي رواية (ملك الموت) والحديث مشهور سمعته على
المنابر من خطباء الجهل , وقال في الذيل: إن الأربعين الودعانية لا يصح منها
حديث مرفوع على هذا النسق في هذه الأسانيد وإنما تصح منها ألفاظ يسيرة وإن
كان كل كلامها حسنًا وموعظة , فليس كل ما هو حسن حديثًا. ثم قال: وهي
مسروقة سرقها ابن ودعان من واضعها زيد بن رفاعة ويقال: إنه الذي وضع
رسائل إخوان الصفا وكان من أجهل خلق الله في الحديث وأقلهم حياء وأجرأهم على
الكذب. وذكر الذهبي نحو هذا في مؤلفاته غير مرة.
ومنها كتاب (فضل العلم) لشرف الدين البلخي وأوله: (من تعلم مسألة من
الفقه) إلخ. وقد وضع جهال المتفقهة أحاديث في تعظيم الفقه ليعظم بهذا شأنهم مع
أن علم ظواهر الأحكام الذي يسمونه فقهًا لم يكن يسمى بهذا الاسم في الصدر الأول ,
وإنما الفقه هو العلم بأسرار الدين ونفوذ الفهم إلى حكمة الله في الحلال والحرام
والحظر والإباحة كما بينا ذلك في مقالات سابقة.
ومنها وصايا علي كرم الله وجهه التي أولها: (يا علي لفلان ثلاث علامات)
وفي آخرها النهي عن المجامعة في أوقات مخصوصة قال الصغاني: وكلها
موضوعة. وقال في الخلاصة: وصايا علي كلها موضوعة إلا الحديث الأول وهو:
(أنت مني بمنزلة هارون من موسى) فيظهر أنها نسختان قال في اللآلئ
المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: وكذا وصايا علي موضوعة اتهم بها
حماد بن عمرو كذا وصاياه التي وضعها عبد الله بن زياد.
ومنها أحاديث الشيخ المعروف بابن أبي الدنيا الموضوعة بإسناد واحد , وقد
زعموا أن هذا الشيخ أدرك سيدنا عليًّا كرم الله وجهه وعمر طويلاً. ومنها أحاديث
ابن نسطور الرومي وأحاديث بشر ونعيم وسالم وخراش ودينار عن أنس
(رضي الله عنه) كلها موضوعة لا أصل لها.
ومنها أحاديث أبي هداية القيسي , ومنها الكتاب المعروف بمسند أنس
البصري وهو نحو ثلاثمائة حديث يرويه سمعان المهدي عن أنس وأوله: (أمتي
في سائر الأمم كالقمر في النجوم) قال في الذيل: لا يكاد يعرف ألصقت به نسخة
موضوعة قبح الله واضعها. وقال في اللسان: هي من رواية محمد بن مقاتل
الرازي عن جعفر بن هرون عن سمعان , ومنها الأحاديث التي تروى باسم أحمد
قال الصغاني: لا يصح منها شيء. ومنها خطبة الوداع عن أبي الدرداء , وأولها:
(ألا لا يركب أحدكم البحر عند ارتجاجه) . قال في اللآلىء: وكذا الخطبة
الأخيرة عن أبي هريرة , وابن عباس فهي بطولها موضوعة. وقال في الوجيز:
قال ابن عدي: كتبت جملة عن محمد بن محمد بن الأشعب عن موسى بن إسمعيل
بن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي رفعها , وهي نسخة فيها ألف حديث عامتها
مناكير قال الدارقطني: إنه من آيات الله وضع ذلك الكتاب يعني (العلويات) قال
ابن حجر: وسماه السنن وكله بسند واحد. ومنها نسخة من رواية عبد الله بن أحمد
عن أبيه عن علي الرضي عن آبائه كلها موضوعة باطلة. ومنها نسخة وضعها
إسحق الملطي قال ابن عدي: هو وضعها كلها. ومنها النسخة المروية عن ابن
جريج عن عطاء بن سعيد وفيها الوصية لعلي بالجماع وكيف يجامع وكلها كذب.
ومنها كتاب العروس لأبي الفضل جعفر بن محمد بن علي قال الديلمي: كلها واهية
لا يعتمد عليها وأحاديث منكرة. ومنها نسخة أحمد بن إسحق بن إبراهيم بن نبيط
بن شريط عن أبيه عن جده كلها موضوعة. هذه الكتب والنسخ المشهورة بالوضع
عند المحدثين وسنذكر الكتب الموضوعة في التفسير بخصوصه وفي بعض الأدعية
ونسكت عن موضوعات الشيعة بخصوصهم لئلا نتهم بالتحامل.
فهل يصح مع هذا كله أن يثق أحد بكل حديث يراه في كتاب أو يسمعه من
عالم أو خطيب؟ كلا إن التحري في هذا المقام مؤكد الوجوب لئلا يدخل الإنسان
بالتساهل في وعيد الحديث المتواتر: (من كذب عليَّ متعمدًا فيلتبوأ مقعده من
النار) وفي رواية بدون (متعمدًا) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/522)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قسم الموالد والمواسم
كيف ننتفع بالموالد والمواسم
للانتفاع بالموالد طريقتان إحداهما للحكومة وثانيتهما للعلماء والمرشدين. أما
الأولى فهي أقرب منالاً؛ لأن الحكومة على كثرة ما يذمها الناس ويرمونها بالولع
والشغف بإيذاء الرعية هي أقرب إلى القيام بالمنافع الاجتماعية من رؤساء الدين
الذين لا يكاد يلوح في خيالاتهم أنهم مكلفون بعمل ما للأمة بمجموعها إلا أن يسأل
أحدهم عن حكم فقهي، فيجيب عنه بأجر، أو بغير أجر , أو يطلب منهم أحد أخذ
(العهد) فيعطونه بمقابل عاجل أو آجل , وهذا من الأمور الفردية لا نظر فيه للأمة
بمجموعها وكيف تسعد وتشقى وكيف تصلح وتفسد , وساداتنا الكرام لا ينكرون هذا
ولكنهم يعتذرون عنه بأن النظر في المصالح الاجتماعية موكول للحكام دون غيرهم
ولذلك نرى العقلاء الباحثين يائسين من أي إصلاح في مثل هذه الموالد يتوقف على
العلماء , ولهم في هذا كلام كثير لا نحب الإطالة فيه , وحسبك أنهم يتهمونهم بأنهم
يودون بقاء هذه الموالد مهما عم فسادها لما يصيبهم فيها من حظوظ الدعوات
والولائم، ونحن لا نسلم بكل ما يقوله الناس في هذا المقام ونعتقد أنه لا يوجد مسلم
أصاب شمة من علم الدين أو من الإسلام نفسه إلا ويود إصلاح هذه المجتمعات
العمومية , ولكن علماءنا ما تعودوا النظر في الإصلاح الاجتماعي ولو وجهوا
أنظارهم إليه وعلموا كيف يستعملون نفوذهم الروحي وسلطتهم الدينية؛ لبادروا إلى
العمل ولكان لهم من الإصلاح أفضل الأثر وسنبين السبب في إعراضهم عن شئون
الأمة الاجتماعية وعذرهم الحقيقي في ذلك. وأما مشايخ الطرق وهم زعماء هذه
الموالد ومديرو أرحيتها فهم في الغالب من التحوت والهمج الذين لا يرجى الإصلاح
لهم فما بالك بالإصلاح منهم. يجيء أحدهم من البيت أو الغيط بل ومن الحانة
والماخور فيطلب منشور المشيخة فيعطاه بريال واحد ويصير بذلك مرشدًا للأمة
يجلس على سجادة الإمام الجنيد - رضي الله عنه , وقد طال بنا الاستطراد حتى
كدنا نتكلم عن الطريقة الثانية قبل الكلام على الأولى القريبة وهي:
يمكن للحكومة أن تجعل على كل من يحضر المولد ضريبة لا تقل عن قرشين
فيجتمع لها بذلك من موالد السيد الثلاثة نحو الأربعة ملايين إذا فرضنا أن من
يحضرها مليونان فقط , والموالد في مصر تعد بالمئات فيما أظن , ومنها ما يناهز
بمن يحشر إليه مولدًا من موالد السيد أو يزيد على بعضها , وبهذه الملايين الكثيرة
يمكنها أن تعمل أعمالاً كبيرة في إصلاح هذه المجتمعات الصحي والمادي والأدبي
يمكنها أن تبني محل الاجتماع العام. حيث تنصب السرادقات وتضرب الخيام.
فتجعل له طرقًا فسيحة يقل فيها الزحام. ومعاهد مخصوصة لكل صنف من الأنام.
فلا يتقارب الأبرار والفجار. ولا يتجاور أهل القرآن والأذكار. مع أهل الطبل
والمزمار. وتجعل في بعض المواضع مراحيض ومناصع (هى المحلات التي
يتخلى فيها لبول ونحوه) تستوفى فيها الشروط الصحية. إلى غير ذلك من لوازم
المعارض المدنية , ومتى شرعت الحكومة بذلك فهي أدرى بما هنالك. وأما
الطريقة الثانية فهي متوقفة على وجود الرجال المصلحين من العلماء والمرشدين ,
وقد علم القراء مما نشرناه غير مرة أننا ذاكرنا في هذا الموضوع شيخ مشايخ
الطرق سماحتلو السيد توفيق البكري فاعترف بشدة الحاجة إلى إصلاح هؤلاء
وخطر له أن يؤلف كتابًا في كيفية السير التي يجب أن يكون عليها مشايخ الطرق ,
واستحسن أن يكون كاتب هذه السطور هو المؤلف لذلك الكتاب بل أشار بتأليف
كتابين أحدهما يسمى (الشيخ) ويكون في وظائفه وآدابه , وثانيهما يسمى (المريد)
ويكون في وظائفه.
وتأليف الكتب في هذا ليس بالعسير , ولكن العسير إلزام أولئك المشايخ
الجهال بالعمل به إذا قلنا: إنهم يفهمونه بمجرد قراءته ويصلون إلى الغاية منه.
وكيف يعملون باختيارهم عملاً يهدم بناء خرافاتهم , ويدك صروح خزعبلاتهم.
وينضب معين ثروتهم , ويغيض ينابيع معيشتهم. ويفرض عليهم العمل وقد ألفوا
البطالة والكسل , ويحظر عليهم السحت وهو رزقهم البحت. إلى غير ذلك مما
يعرفه الأكثرون في أكثرهم. ولا يجهله أكبرهم في أصغرهم. والرأي الصحيح في
الإصلاح. الذي يقرن به النجاح والفلاح؛ إنما هو استئصال هذه الجراثيم الوبيئة
واختيار طائفة من الشيوخ المهذبين العارفين بالدين والآداب وطرق التهذيب ولو في
الجملة فهؤلاء هم الذين تنفعهم الكتب والإرشادات.
القمار في الكبار والصغار
القمار آفة الكسب وجائحة المال ومفسدة الأعمال وميكروب الكسل ومجلبة
الزلل , ولقد ابتلي به المصريون ابتلاء أفقر أغنياءهم وأذل كبراءهم من أصيب به
منهم. وكل مصري يعلم أن بلاء المضاربات في هذه السنة كان أشد من بلاء
انخفاض ماء النيل ونقص غلة الأرض , وليس من غرضنا الآن شرح مضاره
وبيان خساره , وإنما الغرض التنبيه على أن الفقراء والمساكين قلدوا الأمراء
والأغنياء في هذه الموبقة كما هي سنة الكون فأدخلوا المقامرة في كل الخسائس
والمحقرات حتى تجد باعة الفستق لا يبيعون الآن بالدراهم وإنما يأخذ أحدهم قبضة
ويسأل مريد الشراء: (أزوج أم فرد؟) فإن جاء عددها كما يقول المالك أخذ ثمنها
مضاعفًا وإلا أعطاها مجانًا , وقد شاهدنا هذا بنفسنا وهكذا يجني الكبراء على سائر
الناس وهم الذين يخربون البلاد ويهلكون العباد.
القرافة ومنكراتها
إن شأن المسلمين في مقابرهم لمن أعجب الشئون لا ينطبق على شرع ولا
عقل ولا ذوق. يبنون القصور على القبور ويجعلون فيها الأثاث والرياش والآنية
والماعون وكل ما يحتاجه السكان المقيمون ويقضي الكثيرون منهم أيام العيد فيها
أكل وشرب ولهو ولعب. إلخ إلخ
إذا قرأ هذه الكلمات من لا يعرف عادة هذه البلاد , ولم ير مقابرها والطرق
الموصلة إليها؛ يتخيل أن الطرق إليها وفيها أنظف من طرق المدينة لأنها من جهة
منتزه ومن جهة أخرى لا تستغني طبقة من الطبقات عن السير فيها لتشييع الجنائز
إذ لا يوجد في العالم طريق يمر فيه كل فرد من كل طبقة إلا طريق المقبرة , ومع
هذا نرى طريق قرافة مصر في أسوأ حالة , وسنبين ذلك مع طريقة إصلاحه في
جزء آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/525)
21 جمادى الآخرة - 1318هـ
15 أكتوبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
نبذة خامسة
الإرجاء في مقالات الموضوع الواحد. تاريخ علم الحساب. اعتراف
الإفرنج للعرب بأنهم أساتذتهم فيه. نسبتهم الأرقام الحسابية للعرب. إضافة
العرب المتأخرين لها إلى الهنود خطأ. أقدم كتاب توجد فيه هذه الأرقام. وضع
العرب لعلم الجبر والمقابلة. حظ من سبقهم منه. كيف توضع العلوم. علماء الجبر
وكتبه. الهندسة. استبدال أنصاف أوتار الأقواس بأوتار الأقواس. مساحة
المثلثات. الخطوط المماسة. حساب الأقواس. القانون الخامس لحل مثلثات
الزوايا القائمة. علماء الرياضة المسلمين. العلوم الرياضية عند المسلمين اليوم.
أكثر المواضيع التي نكتب فيها واسعة الميدان. كثيرة الفروع والأفنان. فإذا
أخذنا في موضوع منها يعارضنا في الاسترسال بتحقيقه. ومتابعة السير في طريقه
التفادي من ملل القراء الكرام. وسنوح المناسبة لمقال آخر يقتضيه المقام. ومن
المواضيع التي تركنا الكتابة فيها قبل أن نبلغ منها ما نريد كرامات الأولياء ومدنية
العرب , وقد طال العهد على الأولى وما هو من الآخرة ببعيد. فنعود إلى القريبة
العهد ثم نكر على البعيدة من بعد. وقد كان آخر ما كتبناه عن العرب تقدمهم في
العلوم الفلكية. ونعقبه الآن ببيان شأنهم في الفنون الرياضية. لما بين الرياضة
والفلك من الولاء والحب بل من الإخاء والقرب.
العلوم الرياضية
علم الحساب أو العدد
هذا العلم قديم في البشر لا يعلم واضعه لأنه من الضروريات التي تهدي
الإنسان إليها فطرته , ولا بد أنه كان معروفًا للكلدانيين الذين هم من أقدم الأمم فيما
يعرف من التاريخ لأنهم كانوا على معرفة بعلم الفلك وهو يتوقف على الحساب ,
ولكن لا يعرف للأمم القديمة فيه آثار ومصنفات ترجع إليها الأمم المتمدنة الآن وتعد
تلك الأمم هي المفيدة لها هذا العلم الذي هو سلك عقد الاجتماع البشري ولا يعرف
الإفرنج إمامًا لهم فيه إلا العرب حتى إنهم يسمون الأرقام المستعملة عندهم الآن
الأرقام العربية ويعترفون بأنهم أخذوها عن العرب وهذه الأرقام هي التي تقدم بها
علم الحساب وكانوا قبلها يشيرون إلى الأعداد بحروف المعجم , وهذه الأرقام
الإفرنجية قريبة الصورة من الأرقام العربية واستعمالها أسهل من استعمال الأرقام
الرومانية , بل استعمال الحروف أسهل من هذه , وأهل المغرب الأقصى الإسلامي
يستعملون الآن الأرقام التي يستعملها الإفرنج , ولعل أهل الأندلس كانوا يستعملونها
أيضًا , وعنهم أخذ الإفرنج , ومن الغريب أن العرب من عهد بعيد إلى اليوم يسمون
الأرقام العربية بالأرقام الهندية , والمعروف عند مؤرخي الإفرنج أن الهنود أخذوها
عن أوربا من زمن ليس ببعيد وأن أهل أوربا أخذوها عن العرب كما قلنا آنفًا.
وأقدم مصنف في الحساب استعملت فيه هذه الأرقام هو كتاب الرئيس ابن سينا
الفيلسوف الإسلامي الشهير ويوجد في المكتبة الخديوية بمصر.
الجبر والمقابلة
هذا الاسم عربي ظاهر وهو يدل على أن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم
واخترعوه , وبذلك قال بعض المؤرخين والإفرنج يعترفون بأنهم أخذوه عن العرب
باسمه ومسماه. ومن المؤرخين من فند القول بأن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم
وقالوا: إن ديوفنتوس الإسكندري من أهل القرن الرابع للميلاد هو أول من ألف فيه ,
وكتبه لم تزل موجودة إلى الآن والحق أن هذه الكتب وهى ستة ليس فيها إلا
قواعد استخراج القوات وطريقة حل المسائل , وليس فيها أصول الفن وقواعده
الأساسية التي امتاز بها وصار فنًّا مستقلاًّ. وإنما فعل ذلك العرب وأكثر العلوم
والفنون ما اهتدى واضعوها إلى جعلها علومًا ممتازة وأصَّلوا أصولها واستخرجوا
منها الفروع إلا بعد ما اهتدى قبلهم الناس إلى بعض مسائلها. وينقل عن سيدنا علي
عدة مسائل حلها بالجبر , واعتبر ذلك بفنون البلاغة التي قالوا: إن مؤسسها
وواضعها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني تجد أن العلماء قد سبقوه إلى الكلام في
بعض مسائلها , ولكنهم لم يبلغوا بذلك أن جعلوها علمًا كما جعلها. قال الحكيم
العربي ابن خلدون: إن أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده
أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه , وكتابه في مسائله الست من
أحسن الكتب الموضوعة فيه وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا. وأما موافقة
كتاب محمد بن موسى في الجبر لطريقة أهل الهند فلا يدل على أن العرب أخذوا
الجبر عن الهنود , وأول من ألف فيه من أهل أوربا لوكاس باتشيولوس دي بورغو
الإيطالي (طبع كتابه سنة 1494م ثم سنة 1523) وذكر في مصنفه أن ليونرد
وبوناتشيو التاجر تعلم الجبر في أوائل القرن الثالث عشر من العرب في سواحل
أفريقية والشرق , والعرب هم الذين طبقوا الجبر على الهندسة , ويوجد في كتب
الجبر العربية التي لا مجال للقول بأن أصحابها أخذوا عن الإفرنج استعمال
الحروف في الجبر بدلاً من الأرقام وهو يدل على أن العرب هم الذين سبقوا إلى
هذا الاختراع خلافًا للذين يقولون: إنه من استعمال الإفرنج.
الهندسة والمساحة وفروعها
ذكرنا في النبذة الثالثة أن العرب ترجموا على عهد المأمون هندسة إقليدس
وتيودوس وأبولونيوس وإسيقليس ومينيلوس وشرحوا أيضًا مؤلفات أرشميدس في
الكرة والأسطوانة وغيرها , وذكر المحقق ابن خلدون وغيره أن كتاب إقليدس ترجم
في زمن أبي جعفر المنصور ثم اجتهد العرب في الفن اجتهادًا لم يدع لمن بعدهم إلا
تقليدهم , وأنت ترى أن أهل الغرب ما زادوا على العرب في نظريات الهندسة شيئًا ,
وإنما زادوا في الانتفاع بالهندسة عملاً لكثرة اختراعاتهم الطبيعية.
ومن علماء الرياضة في العرب البتاني الذي تقدم أن الإفرنج يسمونه
بطليموس العرب وهو الذي اخترع استبدال أنصاف الأوتار للأقواس المضاعفة
(وهى جيوب الأقواس المصورة) بأوتار الأقواس التي كان يستعملها اليونانيون في
حساب المثلث وقال: إن بطليموس لم يكن يستعمل الأوتار الكاملة إلا لتسهيل
الإثبات والتوضيح. ووصل إلى معرفة القاعدة الأساسية لمساحة المثلثات الكروية
واستعملها في مواضع كثيرة. واخترع أيضًا عبارة جيب وتمام جيب - ولم يكن
يستعملها اليونان -، والخطوط المماسة للأقواس وأدخلها في حساب الأرباع
الشمسية وسماها الظل الممدود وهو المعروف في كتب المتأخرين بالخط المماس
المستعمل في حساب المثلثات. ثم اهتدى العرب في زمن ابن يونس وزمن أبي
الوفاء (وتقدم تاريخهما في علم الفلك) إلى استعمال الخطوط المماسة في مساحة
المثلثات , واخترع ابن يونس حساب الأقواس التي سهلت قوانين التقويم وأغنت
عن كثرة استخراج الجذور المربعة. وشرح أبو الوفاء مسائل الجيوب واهتدى من
ذلك إلى معرفة خطوط أُخَر تتعلق بمساحة المثلثات واستعملها في كتابه لحل
نظريات في علم الفلك المطبق على الكرة.
ومن علماء الرياضة جابر الفلكي المتوفى سنة 442) الذي وضع القانون
الخامس من القوانين الستة المستعملة في حل المثلثات ذوات الزاوية القائمة ولم يكن
عند اليونان إلا أربعة قوانين. والذين ألفوا في الهندسة وفروعها كثيرون منهم ثابت
بن قرة ويوسف بن الحجاج والرئيس ابن سينا فقد أفرد لها جزءًا من الشفاء ,
وابن الصلت , وابنا شاكر , وابن الهيثم وأبو الحسن علي المهندس الفلكي وغيرهم
وقد عاد المسلمون إلى هذه العلوم بإلزام الحكومة تعليمها في مدارسها لحاجتها
إليها في أعمال كثيرة مدنية وحربية لا تقوم إلا بها , وأما أهل الأزهر الشريف فلا
يزال معظمهم يعاديها باسم الدين ولا بد أن يستدير بهم الزمان حتى يعودوا إلى ما
كان عليه أسلافهم الكرام , أو يلقيهم في زوايا الإهمال، أو الإعدام ويقضي الله أمرًا
كان مفعولاً. ونسأل الله توفيق علماء هذه الأمة، وعامتها إلى ما فيه خيرها
ورشدها إنه سميع الدعاء.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/529)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(أسرار البلاغة)
ما وضع علم من العلوم وصار فنًّا مستقلاًّ يفرد بالتدوين والتصنيف إلا وأخذ
الواضعون له قواعده العامة ومسائله الكلية من المعلومات أنفسها بعد النظر في
جزئياتها بعين الاعتبار والتأمل في عللها وفي اجتماعها وافتراقها واختلافها واتفاقها
وغير ذلك من عوارضها الذاتية. ثم ما اتسعت دائرة علم وتشعبت مسائله وكثرت
فروعه إلا بمثل ذلك لأن العلم هو المرآة التي تنطبع فيها صور المعلومات على ما
هي عليها في أنفسها أو هو نفس الانطباع والمرآة هي نفس العالم. هذا هو الشأن
في العلوم الحقيقية فمن ذهب في العلم مذهب النظر الفكري المحض والبحث في
عبارات المؤلفين من غير ملاحظة المعلومات يضيع العلم ولا تَبْقَى عنده إلا
الجهالات الخيالية التي تتولد عنده من الأبحاث اللفظية أو النظرية العقيمة فتكون
على مرآة العقل كالصدأ الذي يعلو المرآة فيفسدها ويبطل فائدتها. ومن هنا يتجلى
للَّبيب أن ادعاء الفصل بين العلم والعمل باطل فلا يجوز أن يكون أحد عالمًا بفن
كذا متمكنًا منه وليس عنده معرفة بالمعلومات التي تصدق عليها مسائل ذلك العلم
وقواعده بحيث يستعملها استعمالاً صحيحًا على ما هي عليه في أنفسها.
من العلوم الحقيقية التي معلوماتها ثابتة في أنفسها ويجب أن تكون مسائل العلم
منطبقة عليها علوم اللغة مفرداتها وأساليبها , فمن لم تعرض عليه مع تعلم قواعدها
أو قبلها أو بعدها لا يمكن أن يكون عالمًا بها علمًا صحيحًا يقدر به على العمل وهو
الإتيان بالكلام العربي الصحيح قولاً وكتابة على أسلوب العرب أنفسهم وما اهتدى
العلماء الواضعون لهذه العلوم إلى وضعها إلا بعد اطلاعهم الواسع على الكلام
العربي الفصيح والنظر فيه على الوجه الذي قررناه آنفًا. فخلف من بعدهم خلف
جعلوا قواعد هذه العلوم نظرية محضة واشتغلوا بها لذاتها ثم شغلوا عنها أيضًا
بالبحث في أساليب المصنفات التي وضعت بعد فساد ملكة اللغة فأضاعوا العلم
واللغة جميعًا , وصار أحدهم يقضي عمره بمدارسة علوم العربية وبلاغتها ولا يقدر
في نهايته على فهم الكلام البليغ فضلاً عن الإتيان بمثله قولاً أو كتابة. وقد ستروا
على أنفسهم هذا الجهل بقاعدة وضعوها كذبًا من عند أنفسهم وهي (أن العلم لا
يستلزم القدرة على العمل) وفرعوا من هذا الأصل فرعًا مثله كما يبنى الفاسد
على الفاسد فقالوا: (إن فحول علماء البلاغة لم يكونوا بلغاء) ! ! !
هذا المرض العضال لا علاج له إلا الرجوع بالعلوم الإسلامية إلى الوراء
بضعة قرون والأخذ بكتب الأئمة الذين دونوا العلوم ووضعوا الفنون , ومن يقرب
منهم وهو الطريق الذي سار عليه مولانا الأستاذ الأكبر والمصلح العظيم الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية وإن خالفه فيه من علماء الأزهر من يعجز عن فهم
كتب القدماء فضلاً عن تدريسها ويثقل عليه أن يقرن العلم بالعمل لأن ما عنده من
العلم خيالات لا تهدي إلى عمل فبعد أن سعى بطبع البصائر النصيرية في المنطق
وأتم قراءته درسًا في الأزهر وجه نظره الثاقب لطبع كتب إمام البلغاء بل واضع
فنون البلاغة ومؤسسها الشيخ عبد القاهر الجرجاني (سقى الله ثراه) , ولعبد القاهر
كتابان في البلاغة مشهوران ينقل عنهما البلغاء أحدهما: أسرار البلاغة , والثاني:
دلائل الإعجاز. لم يوجد في القطر المصري نسخة من الكتاب الأول , ولكن كان
يوجد نسخة منه في طرابلس الشام فاستحضرتها بأمر الأستاذ وبعدما نظر فيها؛
رأى أن فيها غلطًا نسخيًّا وسقطًا , وعلمنا أن في بعض مكاتب الأستانة العلية نسخة
أخرى فأمر الأستاذ بعض طلاب العلم النبهاء فذهب إلى الأستانة مخصوصًا ,
وقابلها عليها فخرج لنا من النسختين نسخة صحيحة وتولى مولانا الأستاذ تصحيحها
وضبطها بعد ذلك بنفسه وأمرنا بطبعها فباشرنا بالطبع وباشر هو بتدريس الكتاب
في الجامع الأزهر فأقبل على حضور درسه مع المجاورين كثيرون من العلماء
وكبار الموظفين والكتاب والشعراء وأساتذة المدارس الأميرية.
أما عبارة الكتاب فهي في الطبقة العليا من السلاسة والمتانة وأسلوبها عربي
صريح لا عرفي مُعقَّد ككتب السعد فمن دونه , ويكثر فيها من الشواهد والأمثال
ويتفنن فيها بالوصف ويجلي المعاني بأبهج الصور وأحسنها فهو علم وعمل في آن
واحد فأجدر به أن يطبع في النفوس ملكة البلاغة والبيان , وهاك نموذجًا منه (وأما
الحصول عليه فيعلم من الإعلان الذي على غلاف المنار) قال عبد القاهر:
القول في الاستعارة المفيدة
اعلم أن الاستعارة في الحقيقة هي هذا الضرب دون الأول وهي أمَدُّ
ميدانًا، وأشدُّ افتنانًا، وأكثر جريانًا، وأعجب حسنًا وإحسانًا، وأوسع سعة وأبعد
غورًا، وأذهب نجدًا في الصناعة وغورًا، من أن تجمع شعبها، وشعوبها،
وتحصر فنونها وضروبها، نعم وأسحر سحرًا، وأملأ بكل ما يملأ صدرًا [1] ،
ويمتع عقلاً، ويؤنس نفسًا، ويوفر أنسًا، وأهدى إلى أن تهدى إليك عذارى قد
تخير لها الجمال، وعني بها الكمال، وأن تخرج لك من بحرها جواهر إن باهتها
الجواهر مدت في الشرف والفضيلة باعًا لا يقصر، وأبدت من الأوصاف الجليلة
محاسن لا تنكر، وردَّت تلك بصفرة الخجل، ووكلتها إلى نسبتها من الحجر، وأن
تثير من معدنها تبرًا لم تر مثله، ثم تصوغ فيها صياغات تعطل الحُلي، وتريك
الحلي الحقيقي، وأن تأتيك على الجملة بعقائل يأنس إليها الدين والدنيا،
وشرائف [2] لها من الشرف الرتبة العليا، وهي أجلّ من أن تأتي الصفة على حقيقة
حالها، وتستوفي جملة جمالها.
ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبدًا في صورة مستجدة تزيد
قدره نبلاً، وتوجب له بعد الفضل فضلاً، وإنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها
فوائد حتى تراها مكررة في مواضع , ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن
مفرد، وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة موموقة، ومن خصائصها التي
تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ،
حتى تخرج من الصَّدفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعًا
من الثمر، وإذا تأملت أقسام الصنعة التي بها يكون الكلام في حد البلاغة، ومعها
يستحق وصف البراعة؛ وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها، وتقصر عن أن
تنازعها مداها، وصادفتها نجومًا هي بدرها، وروضًا هي زهرها، وعرائس ما لم
تعرها حليها فهي عواطل، وكواعب ما لم تحسنها فليس لها في الحسن حظ كامل،
فإنك لترى بها الجماد حيًّا ناطقًا، والأعجم فصيحًا، والأجسام الخرس مبينة،
والمعاني الخفية بادية جلية، وإذا نظرت في أمر المقاييس؛ وجدتها ولا ناصر لها
أعَّز منها، ولا رونق لها ما لم تزنها، وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما
لم تكنها، إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت
حتى رأتها العيون. وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا
تنالها إلا الظنون، وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها. وإنما ينجلي الغرض منها
ويبين إذا تكلم على التفاصيل، وأفرد كل فنٍّ بالتمثيل، وسترى ذلك إن شاء الله،
وإليه الرغبة في أن نوفق للبلوغ إليه، والتوفّر عليه، وإذ قد عرفتك أن لها هذا
المجال الفسيح، والشأو البعيد، فإني أضع لك فصلاً بعد فصل، وأجتهد بقدر
الطاقة في الكشف والبحث. إلخ إلخ.
***
(كتاب عيون المسائل من أعيان الرسائل)
كتاب يجمع في 250 صفحة ثلاثين علمًا يذكر في كل علم تعريفه ونبذة في
اصطلاحاته ثم بعض مسائله المهمة , ابتدأه بالفنون الأدبية ثم بالعلوم الشرعية ثم
بالعلوم العقلية , وقد تصفحنا بعض صفحاته فأعجبنا تعريفه (الولي) في علم
الكلام بأنه القائم بحقوق الله وحقوق العباد فليعتبر بذلك الذين يتخيلون أن أخص
صفات الولي أن لا يقوم لأحد بحق ولا منفعة وأن يقوم الناس له بجميع حقوقه وبما
ليس من حقوقه. ومن العلوم التي أوردها تدبير المنزل والهيئة الفلكية والحكمة
الطبيعية والطب. ومؤلف هذا الكتاب هو الشريف عبد القاهر بن محمد الحسيني
المكي الطبري وقد وصف في ظهر الكتاب بأنه (إمام أئمة الحجاز) وهو قد أخذ
العلم من الأزهر الشريف ومن شيوخه الشمس الرملي والخطيب الشربيني وهذا
دليل على أن أهل الأزهر كانوا حتى القرن العاشر يقرءون العلوم الطبية والفلكية
والطبيعية التي يعاديها معظم علماء الأزهر اليوم باسم الدين مع اعترافهم بأن من
سبقهم كانوا أعلم منهم بالدين وأشد محافظة عليه! ! ! والكتاب يطلب من ملتزم
طبعه الأديب الشاعر محمد عمر أفندي الحسامي البيروتي ومن المكاتب الشهيرة.
***
(مجلة الهلال)
أعلنت هذه المجلة الغراء بأنها تصدر في عشرة أشهر من شهور السنة فقط
وتجعل شهرين من السنة راحة لمحررها الفاضل يروّض فيها نفسه بالسياحة ,
ويعوّض على المشتركين ما يفوتهم من أجزاء الهلال في الشهرين بإهداء كل واحد
منهم كتابًا من مؤلفاته. وقد زاد في قيمة الاشتراك فجعلها ستين قرشًا أميريًّا في
السنة وهو يستحق ذلك وأكثر منه فلا زال يزداد نجاحًا.
__________
(1) أي املك واكفل.
(2) وفي نسخة: وفضائل بدل وشرائف.(3/539)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسباب وضع الحديث واختلافه
(1)
لوضع الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب:
(أحدها) : وهو أهمها ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشًّا ونفاقًا
وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين. قال حماد بن
زيد: وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث , وهذا بحسب ما وصل إليه علمه
واختباره في كشف كذبها , وإلا فقد نقل المحدثون أن زنديقًَا واحدًا وضع هذا
المقدار قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: (وضعت فيكم أربعة
آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام) ولقد أثر وضعهم في الإسلام أقبح
التأثير ففرق المسلمين شيعًا ومذاهب مع أن الإسلام هو الحق الذي لا يقبل الخلاف
ولا التعدد.
(ثانيها) : الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه فإن المسلمين
لما تفرقوا شيعًا ومذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبه لا سيما
بعدما فتح عليهم باب المجادلة والمناظرة في المذاهب ولم يكن المقصود من ذلك إلا
إفحام مناظره والظهور عليه حتى إنهم جعلوا (الخلاف) علمًا صنفوا فيه
المصنفات مع أن دينهم ما عادى شيئًا كما عادى الخلاف , وهذا السبب يشبه أن
يكون أثرًا من آثار السبب الذي قبله , وقد استشهد لهذا بعض المحدثين الذين كتبوا
في أسباب الوضع بقوله: تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن
تأخذون هذا الحديث فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا , وليس الوضع لنصرة
المذاهب محصورًا في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول بل إن من أهل السنة
المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه، أو تعظيم إمامه سوف
نذكر ونبين الكثير منها في موضعه إن شاء الله , وإليك الآن حديثًا واحدًا وهو:
(يكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس ,
ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي) قالوا: وفي إسناده
وضاعان: أحدهما مأمون بن أحمد السلمي والآخر أحمد بن عبد الله الخونباري وقد
رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعًا، واقتصر على ما ذكره في أبي حنيفة وقال:
موضوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي ثم قال: هكذا حدث به في بلاد
خراسان ثم حدث به في العراق وزاد فيه: (وسيكون في أمتي رجل يقال له:
محمد بن إدريس. فتنته أضر على أمتي من فتنة إبليس) قالوا: وهذا الإفك لا
يحتاج إلى بيان بطلانه. ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهية
شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمة ويسكتون عليه بل يستدلون به
على تعظيم إمامهم على سائر الأئمة وهم مع هذا قدوة الأمة الذين يؤخذ بأقوالهم في
الدين ويترك له الكتاب والسنة لأنهما على قولهم يختصان بالمجتهدين.
(ثالثها) : الغفلة عن الحفظ اشتغالاً عنه بالزهد والانقطاع للعبادة , وهؤلاء
العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة , ولذلك
راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة , وقد عدهم بذلك بعض
المحدثين من أصناف الوضاع , وحاشا الله ما نعتقد أنهم يتعمدون ذلك , وما هو إلا
ما ذكرنا وعلى كل حال يجب أن لا يعتمد على الأحاديث التي حشيت بها كتب
الوعظ والرقائق والتصوف من غير بيان تخريجها ودرجتها. ولا يختص هذا الحكم
بالكتب التي لا يعرف لمؤلفيها قدم في العلم ككتاب (نزهة المجالس) المملوء
بالأكاذيب في الحديث وغيره بل إن كتب أئمة العلماء كالإحياء لا تخلو من
الموضوعات الكثيرة.
(رابعها) : قصد التقرب من الملوك والسلاطين والأمراء كما نص على
ذلك غير واحد من الحفاظ , وكما كذب علماء السوء على الرسول صلى الله عليه
وسلم لأجل السلاطين كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأجلهم , ومن
الأحاديث الموضوعة في هذا الباب ما اشتمل على مدح السلاطين وتعظيم شأنهم
وهو ما يتملق به الجهال للملوك في هذا العصر كما تملقوا لهم فيما قبله.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات
الديانة البهائية وكتاب الدرر البهية
أعظم بدعة ظهرت بين المسلمين في هذا العصر فتنة البابية والبهائية فإن
هؤلاء قد ابتدعوا دينًا جديدًا لا مذهبًا جديدًا كما يتوهم الغافلون , وأساس مذهبهم أن
زعيمهم (بهاء الدين) الإيراني دفين عكا هو الروح الأعظم وهو المعبر عنه
بالمسيح ابن مريم الذي ينتظر أهل الكتاب نزوله من السماء. بل هو الموعود به
في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: 210) ويجرون عليه جميع أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء: 43) وبالجملة إن دينهم
خلاصة المذاهب الباطنية. وهو أقرب إلى المسيحية من الإسلامية وقد كانوا
يدعون إليه سرًّا ولم يطبع لهم كتاب في البلاد العربية قبل كتاب (الدرر البهية)
الذي طبع في هذه الأيام. وفيه إنكار كون القرآن معجزًا ببلاغته وفصاحته وتأويل
آيات القرآن على ما ينطبق على بدعتهم وغير ذلك من الضلال والفتن , وهو أضر
على المسلمين من كتاب (المسيح أم محمد) بل ليس في هذا الكتاب شبهة يلتفت
إليها مسلم مهما كان جاهلاً , وأما كتاب الدرر البهية فإنه فتنة للمسلمين لأنه مملوء
بالآيات القرآنية محرفة ومأوَّلة واسم مؤلفه وألقابه إسلامية وناشره مجاور في
الأزهر ويبيعه في الأزهر نفسه من غير نكير. اللهم إنه وجد عالم واحد غيور
انتهر هذا المجاور وهدده بالطرد من الأزهر , وأرسل الكتاب إلى فضيلة شيخ
الجامع واستلفته إلى ما فيه ولا ندري هل ينكر ذلك كما أنكر على شيخ الجامع
الدسوقي طلب تقرير امتحان الطلبة (كما ترى في النبذة التالية) أم ماذا يكون شأن
الدعوة إلى غير دين الإسلام فوق رأسه في نفس الجامع؟ وهذه الدعوة مبثوثة في
الأزهر منذ تولي مشيخته هذا الأستاذ الحالي أو قبلها بقليل وقد أشرنا إليها في مقالة
(الدعوة حياة الأديان) وانتظرنا أن تنبه تلك الإشارة فضيلة شيخ الجامع فيتلافى
الأمر بالحكمة , وكأنه ذهل عنها أو لم يقرأ المقالة , وحيث قد تنبه للأمر الأستاذ
البصير الذي أشرنا إليه آنفًا ونبه فضيلة شيخ الجامع فإننا نرجو أن يتلافى الأمر
قريبًا وتصطلم هذه الفتنة من الأزهر الشريف.
ثم إن لي كلمة أخرى في هذا الموضوع مع أصحاب المطابع الإسلامية وهي
كيف طبعت كتاب (الدرر البهية) مع أن العهد بالمسلمين أن لا يتجروا بما لا
يبيحه دينهم , فقلما تجد في مصر حانة لمسلم مع أن أكثر أهلها يشربون الخمر
وقلما نرى جريدة إسلامية تنشر إعلانًا عن الخمر أيضًا.
أما نحن فإننا نتتبع آثار أهل هذا الدين الجديد ووعدنا بعض أصدقائنا بأن
يرسل إلينا الكتابين اللذين هما أصل دينهم وهما (البيان) و (الكتاب الأقدس)
ومتى جاءا وقرأناهما ننشر فصولاً متتابعة في تاريخ الباطنية وفرقهم نختمها بهذه
الفرقة التي هي خلاصتهم , ومن تعاليمهم أخذت دينها الجديد , ونسأل الله التوفيق
لخدمة دينه بمنه وكرمه آمين.
***
تقاليد مشيخة الأزهر
تحكم العادات والتقاليد على صنف العلماء كما تحكم على سائر الأصناف ولكن
حكمها على العلماء يتعدى ضرره إلى الأمة كلها لما يكون له من الأثر في تأخر
العلم والتهذيب اللذين هما حياة الأمة.
وقد صار من المعلوم لجميع النبهاء في القطر المصري وغيره أن طريقة
التعليم في الأزهر معوجة ملتوية مشتبهة الأعلام طامسة الصوى والمنار , وأنها
لطولها وكثرة حزونها لا تكاد تؤدي إلى الغاية حتى أن السنة تمضي ولا ينجح من
ألوف الطلاب في الأزهر عدد يتجاوز مرتبة الآحاد. ولا خلاف بين العقلاء
والفضلاء في وجوب إصلاح هذه الطريقة التي لا وجه للمتمسكين بها إلا أن آباءهم
الأقربين ومشايخهم المتأخرين كانوا عليها , ومن المصرين على وجوب البقاء عليها
صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر لهذا العهد فهو لا يلتفت إلى كثرة شكوى
الشيوخ والعلماء الآخرين منها وطلبهم الإصلاح ولو تدريجًا , وفي هذا وقائع
وحوادث كثيرة آخرها ما قرأناه اليوم في المؤيد الأغر من طلب شيخ الجامع
الدسوقي من مشيخة الأزهر إصلاحًا في فرع من الفروع وهاك خلاصته.
كتب شيخ الجامع الدسوقي إلى مشيخة الأزهر الكبرى ما ملخصه:
إن طائفةً من طلبة الجامع الدسوقي لا يحضرون الدروس إلا في أيام المولد
لأجل أن يقاسموا الطلاب ما يأخذونه من النذور التي جرت العادة بتوزيعها عليهم.
وهؤلاء الدخلاء منهم من يحضر كتب الدرجة الثانية بل وكتب الدرجة الثالثة لينالهم
نصيبها وهم ليسوا بأهل لما قبلها. وبالجملة إن النذور على هذا تعطى لمن لم
يستحقها ويمنعها مستحقها أو ينقص نصيبه منها. ثم قال: ولو بقي الحال على ما
هو عليه الآن لضاعت الثمرة من العمل ولا يكون للجامع مستقبل حسن. ولهذا
تطلب مشيخة الجامع الدسوقي من مشيخة الجامع الأزهر الشريفة النظر في وضع
قاعدة لذلك يكون أساسها امتحان من يريد الانتقال من درجة إلى درجة أرقى منها
وثبوت استحقاقه نصيب الدرجة المرغوب النقل إليها) اهـ.
فأجاب صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر عن هذا في 10 ربيع الثاني سنة
1318 نمرة 19 بما نصه:
(علمنا ما ذكر نحوه بإفادة حضرتكم نمرة 24 الواردة في شأن طلبة العلم
بدسوق الذين هم من أهلها , وطلبتم النظر في شأنهم , ووضع قاعدة تكون أساسًا
لامتحان كل من يريد الانتقال من درجة إلى ما فوقها وامتحان أرباب الدرجة الثانية
وهلم جرًّا.
والذي نفيدكم به أن طلبكم هذا لم نسمع له نظيرًا في الجامع الأزهر الذي هو
أشهر مدرسة دينية في القطر والذي أنتم تابعون له ولا في مدرسة من المدارس
الإسلامية.
فعجبنا من هذا الطلب وكنا نود أن لا يكتب من حضرتكم للمشيخة شيء من
ذلك فيه ولم نعلم ما الباعث لحضرتكم على هذا الأمر مع اشتهار أنه تكلم في هذا
المعنى , ثم ما كان بعد الاختبار ما كان عليه الأزهريون في العصور الخالية فإنه
الطريقة المثلى ورفض ذلك بإجماع الأزهريين وأظن أن ذلك بلغكم فكيف تطلبونه
بعد هذا مع علمكم بأن طالب العلم ربما يفتح عليه في حال حضوره الكتب الكبيرة
بغير ما يفتح عليه في غيرها , ولذا لزم تحريره لحضرتكم للمعلومية وعدم إجراء
مثل ذلك) اهـ.
هذا هو جواب رئيس العلماء وكبيرهم , ولا بد أن يكون مدهشة لكل قارىء في
لفظه ومعناه. وعبارته وفحواه. وللكلام مجال واسع فيه من وجوه كثيرة أهمها
أمران:
أحدهما: ادعاء إجماع أهل الأزهر على أن طريقتهم في التعليم هي الطريقة
المثلى وأقرب الطرق للتحصيل , وهذا الإجماع لا وجود له بل لم يجمع أهل
الأزهر على شيء يمكن الخلاف فيه فقد كان يوكل إليهم انتخاب شيخ الجامع , ولم
يتفقوا مرة على انتخاب شيخ. ووقف أحد الاغنياء وقفًا كبيرًا , واشترط أن يكون
الناظر عليه أعلم أهل الأزهر وأصلحهم فعهد إليهم بانتخاب هذا الناظر فلم ينتخبوا
أحداً لأن كل واحد يرى نفسه أحق بذلك وبالانتفاع بالراتب العظيم المخصص
للناظر , وإننا نعرف أن من العلماء من يمقت هذه الطريقة ويعرف عقمها. وكيف
ينكر ذلك من له حس وعقل. وإننا نسمع من اختبار الطلاب الذين قضوا السنين
الطوال في الأزهر من الجهالة ما لا يسمع نظيره في المدارس الابتدائية - طلب من
واحد منهم قضى 15 سنة فيه إعراب (والاسم منه معرب ومبني) فقال: الاسم
مبتدأ ومنه مبتدأ ثان! ! ! ومثل هذا كثير لا محل لشرحه الآن. على أن إجماعهم-
لو فرض حصوله - ليس بالإجماع الديني الذي يحتج به شرعًا كما يتوهم
الجهلاء لأن الإجماع الشرعي هو اتفاق المجتهدين من الأمة وهم قد جعلوا للاجتهاد
بابًا وأغلقوه ومنعوا الناس منه فلا يدعونه لأنفسهم , ومنهم من يزعم استحالة وجوده
في هذا العصر. وإنما يعرف حسن التعليم وقبحه من ثمرته ونتيجته وهي في
الأزهر كما نعلم.
(الثانية) : قوله في تخطئة طلب امتحان من يراد نقله من درجة إلى ما
فوقها في التعليم: (فكيف تطلبونه بعد هذا مع علمكم بأن طالب العلم ربما يفتح
عليه في حال حضوره الكتب الكبيرة بغير ما يفتح عليه في غيرها) يعني أن
الجاهل إذا ابتدأ طلب العلم بحضور حاشية الصبان وحاشية التجريد وجمع الجوامع
فربما يفتح عليه بما لم يفتح عليه بمثله لو حضر الكتب الصغيرة الابتدائية وإلا لم
يصح أن يكون حجة له. ويشبه هذا قول الشيخ راضي البحراوي والشيخ ثابت بن
منصور إنه لا حاجة في الحرب والجهاد إلى معرفة البلاد ولا غيرها من الفنون
العسكرية (لأن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء) كلمة حق أريد بها باطل فالله هو
الناصر والفاتح ولكنه جعل لكل شيء سببًا وسنة تعرف بالاختبار {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
__________(3/547)
غرة رجب - 1318هـ
25 أكتوبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العلم والجهل
مثال للعلم والجهل. سعي بعض عربان مصر بافتتاح المدارس. الانتقاد
عليهم ورده. تعليم الأزهر. ما يحتاجه الأزهر من الإصلاح. ما تحتاجه
المدارس الأميرية. ما يطلب من المدارس الأهلية. مقاصد مؤسسي المدارس في
الغالب. أكل أموال الفلاحين بالربا الفاحش بسبب الجهل. الجمود على التقاليد
والخرافات بسببه. روح استقلال الفكر في التعليم الجديد.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
العلم خير كله والجهل شر كله فلا ينبغي للبيب أن يقول: إن الجهل الكثير
خير من العلم القليل الذي لا يفي بحاجة البلاد لأن هذا تفضيل للشر الكثير على
الخير القليل. العلم سعادة والجهل شقاوة ولا يختار ناصح لقومه الشقاوة على
السعادة إذا رأى أن ما تطلبه من وسائل الإسعاد ناقصًا غير تام أو رآها تختار غير
الأولى منها على ما هو أولى. العلم نور لامع وضياء ساطع والجهل ظلمات
بعضها فوق بعض , ولا يقولن بصير: إن الظلمة الحالكة أفضل من النور الضئيل ,
وإن من فاتته القناديل الكهربائية فليكسر المصابيح الزيتية. كما لا وجه له أن
يقول: إن النور مذموم وضارٌّ لأن الأشرار يتمتعون به بما يتقلبون في السيئات
ويسيرون في خطط الخطيئات , ولولاه لما تمَّ لهم ذلك التمتع فإن الذي يذم النور
بمثل هذا ويذم العلم بأنه يكون شاغلاً للآخذين به عن الأعمال والمكاسب ونحو ذلك
هو كمن يذم العينين لأن من الناس من يسرحهما تسريحًا مذمومًا محرمًا , ويذم
الأذنين لأنه يسمع بهما ألفاظ الهجر والفحش , ويذم العقل لأن من الناس من
يستنبط به المكايد والحيل لهضم حقوق إخوانه.
قام بعض أهل الغيرة من عربان مصر يسعى في إنشاء مدرسة أو مدارس
لتعليم أبناء قومه , فاستنكر هذا الأمر بعض الناس وانتقدوه وذهبوا إلى أنه يفسد
على العربان معيشتهم ويبطل نظامهم , ويكون مجلبة الشقاء والتعاسة لهم حتى
اضطر المقترح للاعتذار ودفع الالتباس. وتبرئة النفس من إرادة الشر أمام الناس.
فيا لله ولهذا الإنسان ما أغرب أطواره. وأعجب أوطاره. وما أبعد فكره. وأفعل
سحره. وما أسحر بيانه وأغوى شيطانه. وما أقوى هواه. وأضعف هداه. يذم
العلم والتعليم. ويريك أنه يهديك إلى صراط مستقيم.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وان ذممت فقل قيءُ الزنابير
مدح وذمٌّ وذات الشيء واحدة ... إن البيان يُرِي الظلماء كالنور
العلم كالعقل والحواس لا تذم بحال. وإنما تبيَّن الطريقةُ المثلى للاستعمال.
ألا ترانا ننتقد دائمًا طريقة التعليم في الأزهر الشريف ولكننا لا نقول: إن
عدم الأزهر أو عدم العلم والتعليم فيه خير من وجوده على ما نعلم في ذلك من
المضرات وقد انتقدنا وغيرنا من الكتاب على المدارس الأميرية ونظارة المعارف
العمومية كما انتقدنا وننتقد المدارس الأهلية وتعليمها وتربيتها (إن كان فيها تربية)
ولا نعني بشيء من ذلك أن الجهل خير من العلم أو أن إهمال التعليم خير من التعليم
الناقص إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا فمن يستطيع الكلام قولاً أو كتابة يجب
عليه أن يتكلم بما يعتقده إصلاحًا وإلا كان خائنًا لأمته وملته وبلاده وعسى أن
يفعل من يستطيع الفعل والله الموفق لمن يشاء من عباده.
نطلب من مشيخة الأزهر إصلاح طريقة التعليم ليقرب التحصيل على
الطلاب فيخرج لنا في كل سنة من المجاورين المعدودين بالألوف مئات أو عشرات
من المرشدين والوعاظ والمعلمين للدين والآداب ونطلب أيضًا ملاحظة التربية مع
التعليم فإن علماء الاجتماع عامة وعلماء البيدلجوجيا (التربية والتعليم) خاصة
مجمعون على أن التربية هي أقوى الركنين وأنفع العنصرين وأن السعادة قد تنال
بتربية من غير تعليم - غير ما تستلزمه هي - ولكن التعليم وحده لا يغني غناءَها
ولا يسد مسدها , ولا توجد في الدنيا مدرسة لملة من الملل لا يوجد فيها للتربية اسم
ولا مسمى كمدرسة الأزهر , وعذر مشيخة الأزهر في هذا أن إلزام طلاب العلم
بالنظافة والأدب والنظام في المعيشة والسيطرة عليهم في سيرتهم الشخصية أمر لم
يجر عليه الشيوخ السابقون وتحكم في حريتهم بغير مسوغ شرعي والجواب عنه أنه
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين بنص الكتاب العزيز وأن المعلم
قيم شرعي كالوالدين فيطلب منه من التربية ما يطلب من الوالدين , وإننا نرى
كثيرين من الشيوخ المدرسين يشتمون المجاورين ويهينونهم لأمور ليست بذات بال
ويتسنى لهم إرشادهم للآداب والفضائل باللين والهداية من غير تحكم يسيء. على
أن هذه الحرية المطلقة هي التي جعلت الأزهر عبرةً للمعتبرين واستعبارًا
للمستعبرين (كما استعبر تلك الكونتة الروسية التي جاءت من بلاد روسيا إلى
مصر لتشاهد عز الإسلام وأعظم مدارسه العالية - الأزهر - فلما دخلت هذه
المدرسة الطائرة الصيت لم تملك عبرتها أن تسيل على خدودها حتى خرجت آسفة
حزينة) .
ونطلب أمرًا ثالثًا مهمًّا وهو أن يكون لطلاب العلم في الأزهر إلمام بمبادئ
العلوم التي عليها مدار المدنية الحاضرة والسعادة الدنيوية , فإن الإسلام ما جاء إلا
ليهب الناس السعادتين والفوز بالحسنيين وذلك كعلم الاجتماع وعلم حفظ الصحة
ومبادئ التاريخ الطبيعي وغير ذلك من الفنون المتداولة بين الناس في هذا العصر
وبذلك يستعدون للدعوة إلى الدين وحفظه ومخاطبة الناس على قدر عقولهم كما
يجب على ورثة الأنبياء.
ونطلب من نظارة المعارف أن تقرن في المدارس التربية الدينية بالتربية
الجسدية والعقلية وأن تزيد عنايتها باللغة العربية لكيلا تتلاشى أمام اللغة الإنكليزية
إذا دامت هذه على تقدمها وتلك على تأخرها.
ونطلب من المدارس الأهلية ما نطلبه من المدارس الأميرية وزيادة مهمة إذا
وجدت كانت هذه المدارس قرة عيون الأمة ومنتهى رجاء البلاد , وهي إشراب
قلوب التلامذة أن ثمرة التعليم والتربية ليست محصورة في وظائف الحكومة وإنما
ثمرتها سعادة الحياة والاستعداد لإتقان أي عمل يتصدى له المتعلم من زراعة
وصناعة وتجارة وإمارة , إذ المطلوب لإسعاد الأمة أن يعم التعليم والتربية جميع
أفرادها وتبقى مع ذلك كل طبقة من الطبقات على عملها وكسبها.
نرحب بالمدارس الأهلية ونثني على مؤسسيها ونلهج بشكرهم وحمدهم
وسخائهم ورفدهم , وإن كنا نعلم أن منهم من لا يقصد بإنشاء المدرسة إلا التجارة
والكسب , ومنهم من يطلب الأحدوثة وحسن الذكر , ولا يهمه بعد ذلك استفاد
المتعلمون ما هي الغاية الحقيقية من التربية والتعليم أم لم يستفيدوا لعلمنا أن الرياء
قنطرة الإخلاص وأن المتعلم أقرب إلى الإصلاح من الجاهل المطلق وإن كان هذا
محل نظر.
أرأيتك هذا الفَلاَّح الذي يلعب به المرابون لعب الصبيان بالكرة فيأخذون منه
الربا أضعافًا مضاعفة , ثم يشترون قطنه بثمن بخس لو كان متعلمًا هذا التعلم
الناقص هل كان يتسنى لهم غشه إلى هذا الحد؟ ؟
أرأيتك هذا العامي الذي أفسدت عقله وروحه ونفسه التقاليد الباطلة والخرافات
القاتلة ولا يفهم لك دليلاً ولا برهانًا. ولا يراجع في تقليده عقلاً ولا وجدانًا؟ لو
تعلم هذا التعلم الناقص ألا يستعد بذلك عقله لفهم الدلائل. والتمييز بين الحق
والباطل. إذا ألقي إليه ذلك ممن يفهمه , وتصدى لتعليمه إياه من يعلمه؟
بلى إنه يستعد بهذا التعليم تعليم المدارس لكل هذا ولما هو أعلى منه، وذلك
أن فيها روح استقلال الفكر ولكن هذا الروح مفقود من الأزهر , وكل ما فيه من
العلم تقليدٌ أعمى لبعض المصنفين من المتأخرين لحسبان أن من يفند قول واحد
منهم يخرج من الدين أو العلم , ولكننا نرى هذا الروح قد رضي عن الأزهر
وطفق يسري فيه بالتدريج، ونسأل الله التوفيق للكمال.
__________(3/553)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(الدرس السادس عشر)
م (46) طول العمر:
هذه المسألة من فروع عقيدة القضاء والقدر والنظر فيها من حيث الأسباب
واتصال المسببات بها لا إشكال فيه؛ لأنه مبني على الظواهر , وللإنسان عمر
طبيعي هو مستعد لأن يبلغه إذا لم تعارضه أسباب أخرى تحول دون ذلك كالقتل
والغرق وكالأمراض التي تفضي إلى سرعة الانحلال وانطفاء سراج الحياة أو
ينقطع عنه مدد النموّ الذي تقوم به الحياة حتى تبلغ الأجل المستعدة لبلوغه في أصل
نظام الفطرة. ومثل الإنسان في هذا سائر الأجسام الحية حتى النبات فإن القطن
مثلاً له أجل محدود في الطبيعة ولكنه لا يبلغه إذا حالت دون ذلك الأسباب العارضة
كأن يقلع بعد نباته بشهر أو شهرين , أو يمنع عنه السقي الذي يغذيه ويمده حتى
يبلغ أجله. فإذا عَدَا عادٍ على حرث قوم فاقتلع بعض هذا القطن , يصح أن نقول:
إنه لو لم يقلعه لبقي حيًّا إلى أن يثمر , كما يصح أن نقول: إن ذلك الشاب لو لم
يغرق لعاش مدة طويلة لأن بنيته مستعدة لذلك , وكذلك لو لم يتعرض للمرض
الفلاني الذي أصابه بالعدوى؛ لكان جديرًا بأن يطول عمره ويعيش عيشة راضية.
كل هذا يصح أن يقال بالاعتبار الذي ذكرناه وهو ما ثبت عقلاً ووجودًا وشرعًا
بالوجه العام المثبت لارتباط الأسباب بالمسببات.
ثم إنهم يطلقون لفظ (الأجل) ولفظ (العمر) على المدة التي يعيشها الإنسان
وغيره بالواقع، ونفس الأمر لا على المدة التي هو مستعد لبلوغها عند انتفاء
الموانع , والأجل بهذا المعنى لا يعرف إلا بالوقوع فمتى مات المرء يعلم أن هذه
المدة التي قضاها هي أجله في الواقع ونفس الأمر , ولما كان الله وحده هو الذي
يعلم ما سيعرض على الأحياء من الفواجع الفجائية. والتهاون بالتدابير الصحية.
فيقطع آجالهم الطبيعية الاستعدادية. أطلق الأجل على علم الله تعالى بالعمر , وبهذا
المعنى قالوا: إن العمر لا يزيد ولا ينقص وهو صحيح إذ لو وقع في الوجود
خلاف ما يعلم الله تعالى أنه سيقع لكان العلم جهلاً وقد فرضناه علمًا وبرهنا عليه.
الدين دين الفطرة والشريعة حنيفية سمحة ليلها كنهارها لا شبهة فيها ولا حيرة
ولكن انتشار الجهالة في المسلمين بعد السلف قذفهم في تيهور الحير وطوّح بهم في
مهاوي المشكلات. وأعظم بلاء حل بهم من قبل دينهم عدم فهم القضاء والقدر على
وجهه المعقول الذي شرحناه حيث خرجوا به إلى الجبر وإنكار أثر الأسباب في
المسببات حتى صار من يطلب الشيء من سببه ويرى أنه يوجد بوجوده وينتفي
بانتفائه يعد من فاسدي الاعتقاد كأن الإنسان عندهم لا يكون مسلمًا صحيح الاعتقاد
حتى يمتلخ عقله وينتزع وجدانه ويكابر حسه وينكر الوجود نفسه , وكأن المسلم
خلق لأن يجهل كل شيء ويترك كل سعي وكسب ويبسط يديه إلى القضاء والقدر
لتفيض عليه الأرزاق والبركات والخيرات بإبطال نظام الكون وتبديل سنن الخليقة
ونواميس الطبيعة التي لا تتبدل ولا تتحول. إذا قال الطبيب: إن مداراة الصحة
على الوجه الفلاني سبب في طول العمر أو يطيل العمر؛ يقول الجاهلون: قد كفر
وإذا صدقه المؤرخ الإحصائي فذكر عدة بلاد وممالك قلت فيها الوفيات منذ
انتشرت فيها المعارف الطبية , وصار تعليم فن حفظ الصحة (الهيجين) عامًّا في
ذكرانها وإناثها؛ يقولون: قد كذب واختلق. أفلا يرون كيف يفتك الطاعون في
الهند كما كان يفتك بأوربا في العصور الغابرة وكذلك الهيضة المعروفة بالهواء
الأصفر سالمت الغرب ولم تزل عدوة فتاكة في الشرق. إذا أوردت مثل هذا؛
يعترضك المتحذلقون الشاكون المشككون بذكر شواذ لا يعرفون أن لشذوذها أسبابًا
وقف عليها الطبيب ونحوه , وإذا لم يقف على بعضها يتلمسه حتى يجده كما وقع
للأطباء وغيرهم من علماء الكون في مسائل لا تحصى.
إذا قال الطبيب: إن كذا يطيل في العمر أو يقصر فهو لا يعني بالعمر ما قدر
الله في سابق علمه لأن وظيفته ليس من موضوعها انكشاف المعلومات لله تعالى أو
عدم انكشافها - على فرض جواز ذلك , وإنما موضوعه بدن الإنسان من حيث
يمرض ويصح وما يكون من أثر ذلك في طول البقاء وعدمه واستمداده من التجارب
التي تنكشف بها سنن الله في الخلق وتعرف بها الأسباب التي أناط الله تعالى بها
الحوادث وجودًا وعدمًا فهو بهذا أعلم منهم بقضاء الله وتقديره لوقوفه على سننه في
هذا التقدير.
كيف ينكر مسلم أن شيئًا من الأشياء. يكون سببًا في بسطة الأجل وطول
البقاء. وهو أمر ثابت في الفطرة , ودينه دين الفطرة وثابت في العقل ودينه مبني
على العقل وثابت بالنقل أيضًا. روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه
وينسأ له في أثره (أي يؤخر له في أجله) فليصل رحمه) وروى ابن ماجه من
حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد
القدر إلا الدعاء , ولا يزيد في العمر إلا البر , وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب
يصيبه) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , والبحث في زيادة الرزق كالبحث في
طول العمر سواء لأن لكل منهما أسبابًا , وعلماء الكون إنما يتكلمون باعتبار
الأسباب , وأما بالنسبة لما في علم الله تعالى فليس من موضوعهم ولا غيرهم لأن
ما في علم الله إنما يعرفه الناس بوقوعه إلا ما له سنن مطردة لا تنازعها سنن
أخرى كسير الكواكب فإننا نعلم أن الشمس تغرب بعد كذا ساعة وتكسف في يوم كذا
ومتى يبتدىء الكسوف ومتى ينتهي. ولما تصدى المسلمون لإدخال الدين في كل
بحث , وخلطوا الكلام في الأسباب الظاهرة بالكلام في العقائد جعلوا لهذه المسألة
مخرجًا سموه (القضاء المعلق) يعنون أن المسببات معلقة في علم الله تعالى
بأسبابها فإذا وقعت الأسباب؛ وقعت معها المسببات لا محالة وإلا فلا , وهو قول
صحيح ولا فرق فيه بين السبب الذي علم بالاختبار والوجود والسبب الذي علم
بالشرع , بل الأول أقوى لأن الثاني يحتمل التأويل فيما إذا لم يكن نصًّا قطعيًّا والله
أعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/558)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشوقيات
ذكرني بالشوقيات صدور أمر مولانا العزيز العباس أيده الله تعالى بالإنعام
على صاحبها الأديب الفاضل أحمد شوقي بك بلقب (شاعر الحضرة الخديوية)
والإذن له بأن يكتب هذا على دواوينه ومؤلفاته.
ذكرني هذا - وما كنت ناسيًا - بأن صاحب الشوقيات تفضل بإهدائها وأنني
لما أقيم بشكر هذه اليد له بالتقريظ الذي تستحقه , وما كان مني هذا عن تعمد
ولكنني نظرت فألفيت أن التقريظ إما إظهار محاسن الكتاب الذي يقرظ للتشويق إليه
والترغيب فيه وإما الانتقاد على مساوئه. فأما إظهار المحاسن لأجل التشويق فما
أغنى غانيات (الشوقيات) عنها وعن لازمها من الإشهار فهي التي جاوزت
الأمصار حتى عمت شهرتها الأقطار.
سارت بها الركبان تطوي نفنفًا ... فنفنفًا وسبسبًا فسبسبًا
ولذلك لجأ الأدباء والكتاب في تقريظها إلى الكلام العام في الشعر ومحاسنه
وتأثير التخييل في الوجدان، والحمل على ما يريد الشاعر منه، والشوقيات لم تدع
في هذا المقام مقالاً لقائل حيث وفته حقه في المقدمة التي شهدت لشوقي بك بالإجادة
في المنثور كالمنظوم، وهي التي لم تتفق - كما قال ابن خلدون - إلا للأقل. نعم
إنه في الشعر أعلى كعبًا وأرسخ قدمًا , وإن روح الشعر اللطيفة تطوف في جميع
منثوره.
وأما الانتقاد فالشوقيات أعصى منظوم العصر على الانتقاد السديد. معان
عالية. وعبارات زاهية. وأفكار دقيقة. في أساليب رشيقة. اللهم إلا ما لا يخلو
عنه كلام المولدين ولا سيما المتأخرين من كلمة لم تنطق العرب بها. أو لفظة
وضعت في غير موضعها. كلفظ (احتار) فقد استعمله شوقي وإنما سرى إليه من
مثل ابن الفارض القائل:
وما احترت حتى اخترت حبيبك مذهبًا ... فواحيرتى إن لم تكن فيك خيرتي
والشيخ عبد الغني النابلسي القائل:
حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار
ومن هنا سمى ابن عابدين حاشيته المشهورة (رد المحتار إلى الدر المختار)
أما ابن الفارض فقد أوقعه في الخطأ الغرام بالتجنيس وتبعه ابن عابدين فيه، وأما
النابلسي فلعلها سرت إليه من استعمال مثل ابن الفارض، وكذلك شأن شوقي بك
وغيره. مثل هذه الهنات لا تذكر في تقريظ الكتب إلا ممن يتصدى لخدمة اللغة
بإظهار أغلاط الخواص كما فعل الحريري ونواب بهوبال وعند ذلك يكون تناول
الشوقيات بيد الانتقاد تعظيمًا لشأنها فإن أكثر شعراء العصر وكتابه لا تحصى
أغلاطهم وخطؤهم وإنما يحصى صوابهم.
للشوقيات أبواب تدخل فيها أنواع القول وفنونه , وضروبه وشجونه من آداب
وأخلاق , وحكم وأمثال , وغزل ونسيب , ومديح ورثاء , وحاشاها من الذم
والهجاء , فقد ضربت آداب (شوقي) بينه وبين الهجو بسور لا باب له فيفتح ,
ولا يخرق ولا يتسلق , فأما حكمه ومواعظه فصوادع , وأما غزله فخلوف رائع ,
وأما مديحه فقد أحله محله , وارتقى به إلى مكانة تليق به , فجعله مقصورًا على
أمراء مصر - إسماعيل , وتوفيق , ومولانا العباس أطال الله حياته. وأما الرثاء
فلم يتجاوز به الأمراء. إلا إلى بعض العلماء والكبراء. ولا تسل عن سائر
الشجون. وما فيها من الفنون والفتون.
وأعلى من هذا كله وهو القول الوحيد الذي أقرظ به الشوقيات أن في الكلام
(روح التأثير) وهو الغاية التي تقصد بالبلاغة فإذا وفق صاحب الشوقيات للنظم في
انتقاد العادات ونحوه من المواضيع الاجتماعية الإصلاحية ينفع أمته نفعًا يحفظه له
التاريخ ويشكره له الله تعالى والناس. وبهذا يكون الشعر من أنفع وسائل التهذيب
وأجل حاجات العمران خلافًا لما في الصفحة 11 من مقدمة الشوقيات من إطلاق
أنها من الكماليات الأدبية فإن قولهم هذا إنما يصح باعتبار صناعة الشعر
وانتحالها لا بالنظر إلى آثارها , ولنا في هذا المقام كلام نرجئه لفرصة أخرى.
__________(3/566)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات
أسباب وضع الحديث واختلافه
(2)
ذكرنا في الجزء الماضي أربعة أسباب للكذب على الرسول صلى الله عليه
وسلم وهي أهم ما ذكره الحفاظ والمحدثون جزاهم الله أفضل الجزاء وبقي أسباب
نذكرها على ترتيب ما قبلها وهي:
(خامسها) : الخطأ والسهو وقع هذا لقوم , ومنهم من ظهر له الصواب ولم
يرجع إليه أنفة واستنكافًا أن ينسب إليهم الغلط , ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم
إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع.
(سادسها) : التحديث عن الحفظ ممن كانت له كتب يعتمد عليها فلم يتقن
الحفظ فضاعت الكتب فوقع في الغلط.
(سابعها) : اختلاط العقل في أواخر العمر , وقع هذا لجماعة من الثقات
فكانوا معذورين دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روي عنهم
في طور الكمال والعقل وبين ما روي في طور الاختلاط والهرم.
(ثامنها) : الظهور على الخصم في المناظرة لا سيما إذا كانت في الملأ ,
وهو غير الوضع لنصرة المذاهب الذي تقدم قال ابن الجوزي: (ومن أسباب
الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله
كما يطابق هواه تنفيقًا لجداله. وتقويمًا لمقاله. واستطالة على خصمه , ومحبة
للغلب , وطلبًا للرياسة , وفرارًا من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره.
(تاسعها) : إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور
مجالسهم الوعظية وتوسيع دائرة حلقاتهم , وقد ألصق المحدثون هذا السبب
بالقصاص وقالوا: إن في الأحاديث الصحاح والحسان مثل ذلك , ولكن الحفظ شق
على أولئك القصاص فاختاروا أقرب الموارد وهو الوضع. ونقول: إن قصاص
هذا الزمان قد اتبعوا خطوات أولئك الوضاع وحفظوا أكاذيبهم لسوء الاختيار فقلما
نرى واعظًا يحفظ الصحاح , وتراهم يكادون يحيطون بالموضوعات التي لا يكاد
يوجد بمعناها حديث صحيح السند لأن معظمها خرافات وأوهام وتجرؤ على
المعاصي بالأماني والتشهي. ولعل ابن الجوزي ما تصدى لتأليف كتابه في
الموضوعات إلا بعدما زاول الوعظ واختبر ما أفسد الوعاظ من دين الناس وقد ذكر
عن نفسه أن الأحاديث الموضوعة كانت ترد عليه في مجلس وعظه فيردها فيحقد
عليه سائر القصاص.
(عاشرها) : شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس , ولعل الذي
سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة هو قول العلماء: إن الأحاديث
الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال وما في معناها مما لا يتعلق بالأحكام والحقوق
وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام وأن قال الله تعالى: {اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3)
ولا تستبعدن هذا أيها المسلم المخلص فإن جميع البدع الدينية التي يسميها الناس
حتى بعض العلماء (بدعًا حسنة) ويعللونها تعليلات يلونونها بلون الدين هي من
الزيادة في الدين , ويا ليتها كانت زيادة في الأعمال فقط ولكنها زيادة في العقائد
أيضًا كاعتقاد وساطة بعض الصالحين الأموات بين الله والناس في قضاء حوائجهم؛
إما بأن يقضوها بأنفسهم لأن لهم سلطة غيبية وراء الأسباب , وإما بأن يقضيها
الله تعالى لأجلهم فتكون إرادة الله تعالى تابعة في ذلك لإرادتهم كما اشتهر من قولهم:
(إن لله عبادًا. إذا أرادوا أراد) وغير ذلك , فإذا قلت لهم: إن هذا شرع لم يأذن
به الله يأتونك بأمثال ينزه الله عنها كتشبيهه بالملوك والأمراء الذين يتقرب إليهم بمن
يحبون ليفعلوا ما لم يكونوا يفعلونه لولاهم , وفاتهم أن إرادة الله تعالى لا تتغير
لأجل أحد لأن تخصيصها وترجيحها إنما يكون بحسب العلم القديم الذي لا تغيير فيه
ولا تبديل.
(حادي عشرها) : إجازة وضع الأسانيد للكلام الحسن؛ ليجعل حديثًا ,
ذكروا هذا سببًا مستقلاًّ وهو يدخل فيما سبقه.
(ثاني عشرها) : تنفيق المدعي للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض
البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحًا أو ضعيفًا أو موضوعًا فيقول من
في دينه رقة وفي عمله دغل: هذا الحديث أخرجه فلان وصححه فلان , ويسند هذا
إلى كتب يندر وجودها ليوهم أنه مطلع على ما لم يطلع عليه غيره أو يخلق للحديث
إسنادًا جديدًا، قالوا: وربما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسئول عنه قبل
السؤال، وهذا نوع من أنواع الوضع شعبة من شعب الكذب على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقد يسمعه من لم يعرف حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسبه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: رواه فلان وصححه فلان كما قال ذلك
المخذول.
هذا ما ذكره المحدثون لم نستنبط منه شيئًا من عندنا لأنهم رحمهم الله ما تركوا
مقالاً لقائل، ومنه يعلم أن ضبط كل ما وضع من الحديث متعذر، وأنه يجب
الاحتياط التام في قبول أي حديث وجد في كتاب أو سمع من رجل حتى يعلم أن
الحفاظ اتفقوا على صحة روايته، فإذا طعن في أحد رجال سنده واحد منهم فالعمل
حينئذ بما قالوه من تقديم الجرح على التعديل بشرطه. ويبقى بعد ذلك البحث في
الحديث دراية فإن خالف شيئًا وجوديًّا في الطبيعة أو أصلاً من أصول الشريعة
الثابتة بالكتاب العزيز أو السنة القطعية أو عمل المسلمين في العصر الأول من
الصحابة والتابعين فهو مردود.
والحاصل أن الثابت من الدين نقلاً بطريق القطع هو القرآن والأحاديث
المتواترة وقليل ما هي وما كان عليه أهل العصر الأول من العمل الذي يتعلق
بالعبادة إذ العبادات وأساسها من العقائد وتهذيب الأرواح هو الذي كمل على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً. وأما المعاملات والأمور القضائية فقد
جاءت الشريعة بأصولها العامة وقواعدها الكلية والجزئيات تجري على ما قال أحد
الأئمة: تحدث للناس أقضية ... إلخ فتأمل هذا ينفعك والله الموفق.
***
واجب الصحافة ومفاسد الانتحال
تكرر منا الانتقاد على الجرائد التي تنقل كلام غيرها ولا تعزوه إلى صاحبه،
وقد يكون هذا من البعض عن عمد فيكون سرقة شرًّا من سرقة الأموال والعروض
لأن في سرقة دينار من رجل ذنبًا واحدًا، وفي سرقة الكلام عدة ذنوب أحدها:
التعدي على حقوق الناس وانتحالها لنفسه، وهو المراد بتسميتها سرقة، وثانيها:
الخيانة في العلم وهو لا ينجح إلا بالأمانة , وهي نسبة كل قول إلى قائله وكل رأي
إلى صاحبه , وثالثها: الكذب وهو ظاهر , ورابعها: التبجح والافتخار بالباطل ,
وقد ورد في الحديث الصحيح: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) , خامسها:
الغش فإن من الناس من إذا علم أن هذا القول لفلان يأخذ به ويقلده لأن التقليد
مبني على الثقة , فإذا نسب القول إلى غير صاحبه يتركه من لو علم صاحبه لأخذ
به وانتفع لثقته به دون من نسب إليه , ويأخذ به من يثق بالمنتحل على أنه له وما
هو له. سادسها: الجناية على التاريخ الذي يبين مراتب الناس وأقدارهم في العلم.
ولا شك أن المحدثين يعتبرون هؤلاء المنتحلين من الوضاع الكاذبين حتى لا يثقون
برواية لهم وكذلك يجب.
كما تكون هذه الجريمة عن عمد تقع في بعض الأحايين سهوًا , وإذا كان
السهو في كتاب وطبع؛ يصعب تداركه وتلافيه. وإلحاق القول بقائله والرأي
بمرتئيه. ولكن التدارك يسهل في الجرائد بأن يصرح أصحابها في الجزء التالي
ببيان ما سهوا عنه في المقدم. ذكرنا في بعض أجزاء المنار أن بعض المؤلفين
انتحل بعض العبارات وبعض المسائل من (رسالة التوحيد) في كتاب له ولم
يعزها للرسالة ولا لفضيلة مؤلفها , وبعضهم نقل منها من غير عزو ولم نذكره ,
ولكننا ذاكرناه وعرفنا السبب في ذلك ولم يتدارك أحد من هؤلاء ما وقع منه ويتيسر
لهم ذلك بإعادة طبع مؤلفاتهم إن أرادوا الحق. وذكرنا عن بعضهم مثل هذا
الانتحال عن المنار.
نشرت مجلة (نور الإسلام) في العدد الصادر في منتصف جمادى الثانية
مقالة (العروة الوثقى) الشهيرة في المقابلة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية
وآثارهما في نفوس المنتسبين إليهما، وأعمالهم , ولكنها لم تعزها إليها، كما
عزوناها نحن حين سبقناها بنشرها في أول السنة الماضية , ونحمل هذا من
رصيفتنا على السهو، وننتظر أن نرى في عددها الذي يصدر في تاريخ هذا الجزء
من المنار (غرة رجب) التصريح بنسبة المقالة إلى العروة الوثقى كما هو واجب
الصحافة , وننبه رصيفينا الفاضلين صاحبي هذه المجلة إلى عزو كل نبذة تنشر في
مجلتهما من (رسالة التوحيد) إلى الرسالة أو إلى فضيلة مؤلفها وعدم الاكتفاء
بالعزو الأول إذ الجرائد يتجدد لها قراء لم يطلعوا على الأعداد السابقة فيكون عدم
العزو تدليسًا بالنظر إليهم وفيه ما علم. هذا وإن عزو الكلام إلى مثل مولانا الأستاذ
الأكبر مفتي الديار المصرية الذي هو حكيم الأمة في هذا العصر مما يجب أن
تفتخر به الجريدة ويزيدها اعتبارًا في نظر من يطلع عليها , وإنما يهرب المرء من
تكرار ذكر من لا يخلو ذكره من غضاضة. ولم نرض لرصيفتنا إلا ما رضيناه
لمجلتنا فإننا نفتخر بعزو التفسير الذي نقتبسه من الأستاذ إليه ونعلم أيضًا أنه أحرى
بأن ينتفع به القراء ويتلقونه بكمال الثقة والقبول.
***
كتاب البهائية وناشره
نشكر لمشيخة الأزهر الجليلة الاهتمام بكتاب طائفة البهائية الذي تكلمنا عنه
في الجزء الماضي، فقد بلغنا أنها عاقبت ملتزم طبعه ونشره بقطع جرايته ومرتبه
من الأزهر إلى مدة أربعة أشهر، وهذا بناء على تنصله واعتذاره بأن مقدمة الكتاب
نشرت باسمه من غير إذنه وأنه هو إلى الآن لم يعلم بما يشتمل عليه الكتاب مما
يخالف دين الإسلام ويثبت الديانة البهائية , وحاصل هذا التنصل والاعتذار أن
البهائية قوم مزورون استخدموا اسم مجاور في الأزهر لخلابة المسلمين وخداعهم
بإيهامهم أن دينهم منتشر في الجامع الأزهر الشريف وكتابهم يباع فيه ولولا أنه حق
لما سكت عليه شيوخ الأزهر ولما أقروا ناشره وبائعه فيه على نشره وبيعه مع أنه
اشتهر عن بعضهم المعارضة في بيع رسالة الردّ على هانوتو فيما خاض فيه من
دين الإسلام بناء على أن البيع في المساجد ممنوع شرعًا.
ومن العارفين بناشر هذا الكتاب من يعتقد أنه دخل في الديانة البهائية، ولكن
اعتذاره هذا طعن فاحش بهذا الدين وأهله يدل على أنه غير موقن به ولا معتقد , إذ
لو كان معتقدًا لما اختار هذا المتاع القليل وهو الجراية على دينه الجديد مع أن العهد
بالداخلين في الأديان عند ظهورها شدة التمسك بها والمحافظة على كرامة أهلها
والله أعلم بالسرائر.
***
منكرات التقاريظ
وكتاب البهائية
للناس في تقريظ الكتب والجرائد منكرات كثيرة تكلمنا عنها في كتابنا
(الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية , والرفاعية) بمناسبة الكلام على
كتب مشحونة بالباطل قرظ عليها بعض العلماء المشهورين من غير اطلاع على ما
فيها ولا ظهور على قوادمها وخوافيها.
ومن هذا النحو تقريظ بعض الجرائد الوطنية الإسلامية لكتاب البهائية فيما
نظن، وإن كان ظاهر التقريظ أن كاتبه اطلع على الكتاب لأنه ذكر أمهات مسائله
ومهمات مواضيعه , ومنها الكلام في المعجزات التي ينكرها البهائية بالمعنى
المعروف عند المسلمين , وينكرون كون إعجاز القرآن ببلاغته كما تقدم في الجزء
الماضي ومنها تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) فقد
نوهت به الجريدة المذكورة مع أنه الأساس الذي يقيمون عليه بناء دينهم , والراية
التي يرفعونها لنشر بدعتهم , والزمام الذي يقودون به المسلمين إليهم. وذلك أنهم
يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس معنى القرآن الحقيقي وأسراره
الخفية وبواطنه المعنوية , ولا بينها الصحابة والأئمة من بعده , وإنما بقيت مجهولة
مبهمة حتى قام (بهاء الله) الأعجمي الفارسي الذي لم يحسن العربية فبينها على
حقيقتها لأن الروح الإلهي حلَّ به فأنطقه بذلك.
رأينا ذلك التقريظ فكان كسهم أصاب الفؤاد وعجلنا إلى تنبيه بعض الأفاضل
لذلك والاستعانة به على تنبيه صاحب الجريدة لتلافي الأمر وتداركه وقد كان.
ولكن التلافي كان بعبارة غير مقبولة عند المنكرين عليها ممن عرف ذلك الكتاب
وفتنته لأنها بنيت على أن المقرظ ذكر اسم الكتاب غلطًا لأنه اشتبه عليه بغيره ,
وإنما يقبل هذا القول لو لم يذكر في التقريظ ما يشتمل عليه الكتاب من المسائل ,
أما وقد ذكرها فما معنى الغلط في اسم الكتاب؟
هذا ما يوقع الشبهة على الجريدة والذي يناجينا به الوجدان أن المقرظ برئ
من تعمد مدح الكتاب مع العلم بما فيه وندفع شبهة ذكر المسائل والمواضيع بأنه
أخذها من الفهرست كما يفعل كثير من المقرظين المتساهلين لا سيما عند ظن الخير
في المؤلف. وعسى أن تكون هذه الواقعة عبرة وموعظة للذين يتهجمون على
التقريظ عن غير بينة فيغشون الناس ويقودونهم إلى الضلال فيكونون ضالين
مضلين والعياذ بالله تعالى.
__________(3/569)
11 رجب - 1318هـ
4 نوفمبر - 1900م(3/)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
الحكومة الاستبدادية
من مقالات حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني
تغمده الله برحمته
إن طول مكث الشرقيين تحت نير استبداد المستبدين الذين كان اختلاف
أهوائهم الناشئ عن تضاد طبائعهم وسوء تربيتهم مع عدم وجود رادع يردعهم
ومانع يمنعهم وقوة خارجية تصادمهم في سيرهم سببًا أوجب التطاول على رعاياهم
وسلب حقوقهم بل اقتضى التصرف في غرائزهم وسجاياهم والتغيير في فطرتهم
الإنسانية حتى كادوا أن لا يميزوا بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع وأوشكوا أن
لا يعرفوا أنفسهم وما انطوت عليه من القوى المقدسة والقدرة الكاملة والسلطة
المطلقة على عالم الطبيعة والعقل الفعَّال الذي تخضع لديه البسائط والمركبات.
ويطيع أمره النافذ جميع المواليد من الحيوان والنبات. وإن امتداد زمن توغلهم في
الخرافات التي تزيل البصيرة وتستوجب المحو التام والذهول المستغرق بل تستدعي
التنزل إلى الرتبة الحيوانية ومداومتهم من أحقاب متتالية على معارضة العلوم
الحقيقية التي تكشف عن حقيقة الإنسان وتعلمه بواجباته وما يلزمه في معاشه ,
وتبين له الأسباب الموجبة للخلل في الهيئة الاجتماعية وتمكنه من دفعها والسعي في
إطفاء نورها بما ورثوه عن آبائهم من سفه القول وسخف الرأي والجدّ في
اضمحلال كتبها وضياع آثارها واستبدالها بما أوقعهم في ظلمات لا يهتدون إلى
الخروج منها أبدًا [1] .
كل هذه الأسباب تمنع القلم عن أن يجري على قرطاس بيد شرقي في البلاد
الشرقية بذكر الحكومة الجمهورية وبيان حقيقتها ومزاياها وسعادة ذويها الفائزين بها
وأن المسوسين بها أعلى شأنًا وأرفع مكانة من سائر أفراد الإنسان بل هم الذين يليق
بهم أن يدخلوا تحت هذا الاسم دون من عداهم , فإن الإنسان الحقيقي هو الذي لا
يحكم عليه إلا القانون الحق المؤسس على دعائم العدل الذي رضيه لنفسه يحدد به
حركاته وسكناته ومعاملاته مع غيره على وجه يصعد به إلى أوج السعادة الحقيقية.
وتصدُّه عن أن يرقم على صفحات الأوراق ما يكشف عن ماهية الحكومة المقيدة
ويوضح عن فوائدها وثمراتها , ويبين أن المحكومين بها قد هزتهم الفطرة الإنسانية
فنبهتهم للخروج من حضيض البهيمية والترقي إلى أوّل درجات الكمال وإلقاء أوزار
ما تكلفهم به الحكومة المطلقة وتطلب مشاركة أولي أمرهم في آرائهم وكبح شره
النهمين منهم الطالبين للاستئثار بالسعادة دون غيرهم. ولهذا أضربنا صفحًا عن
ذكرها , وأردنا أن نذكر في مقالنا هذا الحكومة الاستبدادية بأقسامها فنقول:
إن الحكومة الاستبدادية باعتبار عناصرها الذاتية. وأقانيمها الحقيقية التي هي
عبارة عن أمير أو سلطان ووزراء ومأموري إدارة وجباية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
(القسم الأول) : منها الحكومة القاسية وهي التي تكون أركانها مع اتسامهم
بسمة الإمارة والوزارة والإدارة والجباية شبيهة بقطاع الطريق , فكما أن قاطع
الطريق يقطع طرق السابلة ويسلبهم أموالهم ومؤنهم وثيابهم التي تقيهم الحر والبرد
وسائر مواد حياتهم ويتركهم في البوادي والقفار حفاة عراة جياعًا تقطعت بهم حبال
الوسائل ولا يلاحظ أن فيهم الهرم والصغير والعاجز والضعيف الذين لا يستطيعون
التخلص من المهالك , ولا يقتدرون على النجاة ولا يبالي بموتهم وهلاكهم عن
آخرهم ولا تأخذه في ذلك الشفقة والرحمة. كذلك هؤلاء الأركان يغتصبون ضِيَاع
رعاياهم وعقاراتهم ويستولون على مساكنهم وبساتينهم وينتزعون بالضرب والحبس
والكيّ وغيرها من أنواع العذاب ما بأيديهم من ثمرات اكتسابهم ويدعونهم في
مخالب المصائب معرَّضين للأسقام والآلام وأهدافًا لسهام البلايا التي ترميهم بها
عواصف الرياح الزمهريرية والسمومية , ولا يخشون اضمحلالهم وإبادتهم بالكلية
ومحق حياتهم بالمرة [2] بل يستبشرون بذلك كأنما هم أعداؤهم , ولا يشعرون أنهم
قواد السلطة وأساسها. ومن أفراد هذا القسم الحكومة الإنكليزية [3] والتيمورية
وغيرهما من حكومات التتر [4] . كما تشهد بذلك التواريخ.
(القسم الثاني) : الحكومة الظالمة وأولياء هذه الحكومة تماثل الأخساء
والمترفين الذين يستعبدون أناسًا خلقوا أحرارًا فكما أنهم يكلفون عبيدهم بأعمال شاقة
وأفعال متعبة ويجبرونهم على نقر الأحجار وخوض البحار وفلق الصخور وقلع
الجبال وطي المفاوز وجَوْبِ البلاد في صرّة الشتاء وهجيرة الصيف , ويؤلمون
أبدانهم بالسياط إذا لجأوا آنًا ما إلى الراحة التي تجذبهم الطبيعة إليها ويحجبونهم
بأشغالهم المستغرقة لأيام حياة هؤلاء المظلومين عن مزايا جواهر عقولهم المقدسة
حيث لا يجدون فرصة من دهرهم للنظر في الآفاق وفي أنفسهم كي يرتقوا من
الإحساس البهيمي إلى عرش الإدراك الإنساني ويشاركوا أبناء جنسهم في اللذائذ
الروحية ويجتنوا ثمار عقولهم ليوازروهم بنتائجها من الصنائع البديعة والمخترعات
الرفيعة فيسعدوا مع السعداء. ومع ذلك يحرسون حياتهم ويحرصون على استبقائها
استيفاءً للخدمة منهم بتقديم قوت من أردأ ما يقتات به لسد الرمق , وثياب خشنة رثة
لتحفظهم من أظفار العواصف وبراثن القواصف فلا يكون حالهم مع سادتهم إلا
كحال البهائم والأنعام الأهلية لا يعيشون إلا لغيرهم ولا يتحركون إلا برضاه بل
بمنزلة آلة غير شاعرة بأيدي مستعبديهم يستعملونهم كما يشاءون.
كذلك هؤلاء الولاة مع رعاياهم فإن الرعايا لا يزالون يتحملون المتاعب
والأوصاب، ويكدون أيام سنيهم ويسهرون لياليها مشتغلين بلا فتور بالغرس
والحرث , والحصد والدرس. والندف والحلج. والغزل والنسج. مهتمين بالحدادة
والنجارة , والملاحة والتجارة. ساعين في حفر الأنهر وإنباع المياه وإنشاء الجداول
والجسور متكبدين آلام التغرب في الحر المبيد , والبرد المميت. كي ينالوا (أي
الحكام) أرغد العيش بطيب المطعم والمشرب والملبس والمسكن , ويحوزوا الراحة
والرفاهة , والحظ والسعادة , وهؤلاء الظلمة لا يفترون عن السعي في سلب ما
بأيديهم جبرًا وغصب ثمار مكاسبهم وفوائد متاعبهم رغمًا , ولا يدعون لهم مما
اكتسبوه بكد يمينهم , وعرق جبينهم. سوى ما تقوم به حياتهم الدنيئة حتى تراهم
بعد اقتحام هذه الأخطار وتحمل تلك المصاعب. لا يقتاتون إلا بكسرات خبز رديئة
ناشفة يبلونها بدموعهم المنسكبة من جور ولاتهم الفاتكين , ولا يسترون أبدانهم إلا
بخرق رثَّة مرقَّشة بدمائهم السائلة من سياط حكامهم الجائرين , ولا يسكنون إلا في
الأكنَّة المنخفضة والأخصاص الخسيسة كأنهم أنعام حرمتهم الطبيعة من المزايا
الإنسانية , ولا يشاهدون إلا بوجوه مغبّرة مقشرة , وأبدان مقشفة معفّرة , وتدوم
عليهم هذه الحال الرديئة التي نشئوا عليها , والمعيشة الدنيئة التي اعتادوها. حتى
يقتنعوا بها ولا يتعلقوا سواها , بل يتنزلون بسوء تصرف هؤلاء الولاة عما منحوه
من فضيلة العقل إلى رتبة البهيمية , ولا يحسّون بمعيشة أكمل مما هم فيه ولا
يتألمون إلا بالآلام الجسمانية.
ومن أقسام هذه الحكومة غالب حكومات الشرقيين في الأزمان الغابرة
والأوقات الحاضرة، وكذلك أكثر حكومات الغربيين في الدهور الماضية ومنها
أيضا الحكومة الإنكليزية الآن في البلاد الهندية.
لها بقية
(المنار)
ظفرنا بهذه المقالة في صحيفة عاث فيها العثُّ (الأرضة) فذهب بكلمات
قليلة منها لم تخلّ بالمعنى وإن نقصت بعض الفائدة فمنها ما تركنا له بياضًا ليكتب
فيه الساقط من يظفر به من القراء , ومنها ما وضعنا له كلمة يدل عليها المعنى
ككلمة (صرة) قبل لفظ الشتاء.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) استعمل استبدل هنا بما هو الشائع عند المتأخرين عامة والذي في القرآن العزيز أن الباء بعد استبدل وتبدل تدخل على المبدل منه لا على البدل فلينتبه له الكتاب.
(2) قيل لحاكم شرقي: إن رعيتك يموتون في عمل السخرة الفلاني الذي كلفتهم به فلو رفقت بهم، فقال: (وهل نحن استلمناهم بالعدد فنخشى أن ينقصوا) ؟ .
(3) يريد في الأزمان الماضية ولعله قيدها بذلك في الكلمات الساقطة التي تركنا لها البياض، ويدل عليه استشهاده بالتاريخ وما سيأتي في آخر القسم الثاني.
(4) هنا كلمات ساقطة من الأصل.(3/577)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
من أراسم إلى هيلانة في 11 يونيه سنة 185
قد قطع مكتوبك ولله الحمد جميع العقبات التي كانت تحول بينه وبين الوصول
إليّ وهو الآن بين يديّ أرى فيه شعاعًا من شمس الحرية. قد اتصل بي وها أنا ذا
ألاحظك بفكري في تنزهك على شاطىء البحر وأبصر (أميل) من خلال ما تبدينه
من ضروب التأثر والانفعال وإخالني أعرفه.
رباه كيف أكون والدًا من سنتين كاملتين ولا أتمكن من تقبيل ولدي إلى الآن!
أترك هذا الأسف الذي لا جدوى له وأعاود الحديث معك فيما ينبغي أن يكون
أهم ما يعنينا في هذه الدنيا فأقول: إن من أغلاط المشتغلين بالتربية صرفهم جل
عنايتهم في تقويم القوى والملكات العقلية وقلة التفاتهم إلى غيرها مع أنه لا يسعهم
إنكار ما بينها وبين قوى الإدراك الحسية والنفسية من الارتباط , ولكني في هذا
المكتوب أحب أن أوجه فكرك إلى تربية الإدراك العقلي بنوع خاص.
كأني بك تقولين: هل يتفكر الطفل؟ فأجيبك أن ذلك لازم له لأنه حيّ ولأن
العلم إذا كان كلما نفذ في أسرار حياة النباتات والحيوانات كشف لنا فيها بداية
إحساس بل ربما صح أن يقال: بداية إدراك فكيف يكون الطفل حينئذ أقل حظًّا من
هذه الكائنات التي هي أضعف خلق الله تعالى؟ نعم إني لا أنكر أن مخه في
الأسابيع الأولى من ولادته يكون في نظرنا كالبيداء المظلمة التي وصفها الشاعر
اللاتيني بأنها مملكة العفاريت ولكنه يتدرج في تمييز بعض الأشياء بعضها من
بعض والقياس بينها وانتزاع بعض الأحكام عليها , وإنك لا تكادين تجدين طفلاً في
الشهر الخامس عشر أو السادس عشر من عمره إذا رأى صورة إنسان إلا وهو
يفتكر بأنها لشخص معروف.
من الأسباب التي تعين على إنماء عقل الطفل بعد تربيته بما يحتف به من
الأشياء تعليمه اللسان.
وإني أرجح ما تقولينه من أن الإنسان في عهد طفوليته كان يتلمس مواد الكلام
الأولى في أصوات الكون الميحط به , وقد يدلنا على أن هذه الأصوات هي أصل
اللغات الإنسانية ما نجده في جميعها خصوصًا ما كان منها قديمًا جدًّا من آثار
التوافق الناشىء عن التقليد وما أجلَّ وأعظم كلام الإنسان فمن العبث أن أرضي
نفسي بقولي: إن أسلافنا الغابرين قد جمعوا في بداية نشأتهم الأصوات المبهمة
المنتشرة في جميع أرجاء الكون وصيروها لغة , فإن هذا القول لا يكشف لي جميع
ما في كلام الإنسان من المعاني لأنك تجدين لكل شيء في هذا العالم كلامًا , فالمعدن
يتكلم لأنه إذا نُقر صوَّت تصويتًا يخبر بماهيته نحاسًا كان أو ذهبًا , والحيوان يتكلم
لأنه يدل في كل حين بما يبديه في صوته من الكيفيات المختلفة على حاجاته
ووجداناته وشهواته , والهواء والبحر والرعد تتكلم لأن ألفاظها تنبىء عما يقع بين
الفواعل الكونية من الكفاح والمغالبة , ولكن شتان بين كلام هذه المخلوقات جميعها
وكلام الإنسان ولو كان طفلاً فإن الطفل متى قدر على النطق ببعض الكلمات ولو
مع التلعثم فيها واستطاع مثلاً أن يقول: (أنا) مثبتًا بذلك استقلال الإنسان وقيام
الحياة العامة به رأيت أن جميع ما في الكون أمامه قد دخل في شبه عبودية
وخضوع.
إن أصوات المادة معلولة للحوادث التي تُوجِدها , وأصوات الحيوانات ناشئة
عن الغرائز المستقرة في أنواعها , وأما لفظ الإنسان فهو حتى في حال تمتمة
الطفولية دال على ذات شأنها الحرية والاستقلال.
على أنه لا ينبغي أن نعمى عن الفائدة الحقيقية من أساليب الكلام من حيث
كونه ركنًا من أركان تربية الإدراك. ذلك لأن الطفل لا يتلقى عنا وقت الكلام معه
إلا أصواتًا فمن أجل أن يكون تعليمنا مفيدًا له يجب أن تكون هذه الأصوات التي
يسمعها مقرونة في نفسه بمدلولاتها:
أنت تذكرين تلك الفتاة التي جاءت بها إليَّ والدتها في يوم من الأيام تستفتيني
في أمرها فقد كانت شبيهة بتلك المغارات المقفرة تردد جميع الأصوات غير فاهمة
شيئًا منها , وكنت أعتقد أنها لجمالها الرائع لو كانت شهدت قدماء اليونان لاتخذوها
إلهة لصدى الأصوات لأنها لفرط ما أوتيته من قوة السمع الميئوس من تعديلها
وغريزة التقليد المتعاصية على الترويض كانت على الدوام ترجع ما كنت أوجهه
إليها من الأسئلة فلم يفدها ذلك شيئًا.
فأنا أخشى كثيرًا أن لا يوجد بين هذه البلهاء المسكينة التي لا تفهم شيئًا مما
تردده من الكلام وبين كثير من الأطفال الذين يرددونه على قلة فهمهم إياه أو على
فهمه مقلوبًا إلا فرق خفيف.
على أني أرى أن الميل إلى التكلم بغير فائدة مرض من أمراض العقل عند
الإنسان، فكم من النساء من يجتهدن في إماتة ما يجدنه من الضجر والسآمة بأغاني
ليس فيها شيء من المعاني المعيَّنة , ولقد عرفت مسجونًا كان على قصور إدراكه
جدًّا كلما وضع في السجن المظلم عقابًا له على ما كان يرتكبه من الذنوب يجتهد في
مخادعة العزلة والظلام بأحاديث خالية من المعاني.
وإنه يوجد في الشعائر الدينية القديمة لكثير من الأمم صيغ من العزائم
والتعاويذ هي عبارة عن كلمات أو جمل مرتبة تلتذ بسماعها الأذن , ولكن لو أراد
سامعها البحث عن معانيها لكان محاولاً عبثًا. وما لنا وللرجوع إلى تلك الأزمان
الغابرة نستشهد بما كان فيها على ما نقول , وأمامنا كنائسنا الكاثوليكية نسمع
المؤمنين يدعون الله فيها بأدعية لاتينية لا يفهم معانيها إلا النزر القليل منهم.
ولكن أرى أن عدم صرف اللسان عن هذه الوجهة الفاسدة وإعانته على الجري
في مضمارها من الأمور الشديدة الخطر على العقل فإذا لم يحترس منهما أصبحت
الألفاظ خلوًا من معانيها وصارت عُوَذًا للعقل.
الطفل فيه شيء من خاصية الببغاء ولا وجه للشكوى من ذلك فإنه بهذه القوة
التقليدية يتيسر له الاختلاط بمن حوله ومعاشرتهم , ولكن حلَّ عقدة لسانه أيسر من
فتح مغلق عقله , فليست الألفاظ تؤدي دائمًا إلى فهم الأشياء التي وضعت لها ,
وإني لأرى في لغة الخرس مزية لا توجد في لغتنا معاشر الناطقين ذلك لأن
الإشارات عندهم هي رسوم للمعاني والوقائع , وليس الأمر كذلك في النطق الذي
هو عبارة عن أصوات متنوعة وأجراس مختلفة كما يعلمه كل منا. ثم اعلمي أن
محادثة الأطفال مما لا شك في فائدته فإنها من دواعي ابتهاجهم وانشراح صدورهم
ولكن على شرط أن تكون الكلمات وسيلة إلى انتقال أذهانهم إلى مدلولاتها فيجب
عند تلقيهم للدوال اللفظية أن ينبهوا إلى ما تدل عليه ويفهموا ما بين الدوال
والمدلول من الارتباط , فبهذه الطريقة تعوّد أذهانهم على الاستقرار وعدم التشتت.
لست أدري لماذا نهتم كثيرًا بمقاومة ما يجده الأطفال من اللذة في تقليد
أصوات بعض الحيوانات فما أسعد حظ امرئ يكون فيه من المواهب الإلهية ما
يؤهله لفهم جميع ما يعيش على وجه البسيطة. لا أقصد بقولي هذا أن من يحاول
محاكاة أصوات بعض الحيوانات يفهم معنى لسانها , ولكني أريد به أن مثل هذا
السعي في التقليد يدل على أن صاحبه قد وصل إلى درجة ما من النظر والملاحظة
فالطفل الذي يحاول تقليد صوت الكلب أو الديك مثلاً قد لاحظ أن في هذا العالم
مخلوقات أخرى غيره وأن لها في التعبير عما في أنفسها من الوجدانات طريقة
خاصة بها.
اللغة الإنسانية وإن كانت وضعية فأصولها على التحقيق فطرية. انطري إلى
الأطفال؛ تجدي لهم لغة معروفة في جميع أقطار الأرض وهي وإن اختلفت يسيرًا
من أمة إلى أخرى تتألف في الأصل من أصوات آحادية المقاطع فأصول الكلام
الملفوظ عند جميع الأمم لا تخرج عن حرف ساكن وحرف لين يتكرران بحركة
الشفتين مثل (بابا ماما تاتا دادا) وغيرها ما عدا بعض تنويعات خفيفة , والطفل
يقضي من دور طفوليته زمنًا طويلاً لا يعرف فيه أداة التعريف ولا الضمير وأما
الفعل فلا يدرك منه إلا المصدر , ولا ينفذ ذهنه إلى فهم صيغ الماضي والمضارع
والأمر وغيرها من المشتقات , ولا يعرف من النعوت إلا قليلاً , وأقل منه معرفته
بحروف العطف فلغته شبيهة بلغات الأجيال الأولى.
وقد روى لنا أحد السياح أنه يوجد في أفريقيا قبيلة يتألف لسانها من اثنتي
عشرة كلمة لا غير , وقال: إن أفراد هذه القبيلة على قلة ألفاظ لغتهم إلى هذا الحد
يتفاهمون جيدًا فيما بينهم بإضافة الإشارات إلى الأصوات , وكم يوجد من الأطفال
من يُفهِمُون أمهاتهم ما يريدونه بما هو أقل من كلمات تلك اللغة مثل تحريك الأعين
أو الإشارة أو ما لا يكاد يكون شيئًا يذكر مع إفصاحه عن أفكارهم وإظهاره
لمقاصدهم.
وهناك أمم أخرى تكاد تكون أميّة , ولكنها تبرز علينا في علم ربط الوقائع
بعضها ببعض وانتزاع الأحكام منها , فالعرب القاطنون فيما بين النهرين (الدجلة ,
والفرات) لا يكادون يقرءون شيئًا من الكتب لأنه لا مدرسة لهم سوى الصحراء ,
ولكن من المحقق أن البدويَّ منهم اذا رأى آثار الخُطا على الرمل؛ حكم فورًا إن
كانت آثار إنسان أو حيوان وإن كان إنسانًا؛ عرف قبيلته وكونه عدوًّا أو صديقًا ,
وقدر تاريخ مروره سواء كان قديمًا أو حديثًا , واستنتج ماذا عسى أن يكون قصده
من سفره , وحكم أيضًا ببعض علامات يراها منتشرة في الطريق إن كان البعير
حاملاً شيئًا أو خاليًا , شبعان أو جائعًا , مستجم القوى أو مهزولاً , وإن كان صاحبه
من سكان الحضر أو البدو. فإذا تأملنا قليلاً في سبب وجود هذه المعرفة عند هؤلاء
القوم؛ ظهر لنا أن طريقة البدوي في ربط الوقائع بعضها ببعض وانتزاع الأحكام
منها هي بعينها الطريقة المعروفة في العلوم الصحيحة.
من الجلي أن أحدًا لا يسعه إنكار أهمية اللغات وما لها من الفوائد في تربية
عقل الإنسان , ولكن مما ينبغي الاعتراف به أن الألفاظ إذا كانت تعفي من النظر
في الأشياء وملاحظتها كما هو الشأن فيها غالبًا فهي مضرة بالإدراك لا مفيدة له
فالطفل وإن قدر على تسمية الفرس بخمس لغات مختلفة لا يعرف في نهاية الأمر
إلا حيوانًا واحدًا فلو اتفق أنه لم يره في حياته كان لم يعرف شيئًا.
أراك تذكرين ما اشتهر عند هاملت [1] من تعجبه من تشبث الناس بالألفاظ
حين قال: (ألفاظ ألفاظ ألفاظ) فهذا الأمير كان درس في المدارس , وكأنه بهذا
الاستغراب يتفقد طريقتنا في التربية , فإن المشتغلين بهذه الطريقة يوجبون على
الطفل من أجل كمال تربيته أن يحفظ أفكار غيره ويرددها مع أن الواجب عليهم أن
يسألوه دائمًا عن أفكاره ويبادرونه بالحث على النظر في الوقائع والقياس بينها ,
وتمرين نفسه على الحكم عليها. قد رأيت فيما سبق أن العمل هو اللازم في تربية
العواطف الفاضلة وضروب الوجدان الشريفة فكان الواجب على المربين أن يكون
مرجعهم هنا أيضا إلى العمل لإحياء جرثومة الإدراك في الطفل وتلقيحها لتنتج
الثمرات المطلوبة اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) (هاملت) أمير شبه جزيرة الدنيمارك المسماة جوتلاند تظاهر بالجنون ليأخذ بثار أبيه الذي قتله أخوه.(3/582)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات
ديانة البهائية
لأحد وكلاء المجلة
سيدي الفاضل صاحب المنار الأغر
يا طالما دار في خلدي أن أستفسر منكم عن البدعة السيئة التي ظهرت في هذا
العصر والتصقت بالدين الإسلامي الشريف ألا وهي الديانة البابية البهائية فقد علمت
بها منذ نصف سنة تقريبًا غير أني كنت أقدم مرة وأحجم أخرى ظنًّا مني أن هذه
الديانة ليست مما يصل خبرها إلى مسامعكم لقلة القائمين بها في مصر حتى رأيت
في عدد (23) من المنار نبذة عن هذه الديانة المحدثة وأن لها وا أسفاه مروجًا في
الأزهر من طلبته فلا حول ولا قُوَّةَ إلا بالله. وبما أني قد أطلعت على بعض دخائل
هذه الديانة إطلاعا أظهر لي جلية كنهما ممن اعتنقوها فأشرح لكم الآن ما وصلت
إليه وعثرت عليه فأقول: جمعني وبعض أهل هذه الديانة مجلس , ودار الحديث
بيننا في المهدي المنتظر وشأنه، وما ورد بهذا الصدد من الأحاديث فما كان من
محدثي إلا أن قال لي: اعلم أن المهدي المنتظر قد أتى وتحققت علاماته المسطرة
في الكتب فقلت له: عَلَّكَ تشير إلى مهدي السودان فقال: لا إني لأجلّ من أن
أصدق في هذا أنه كان مهديًّا , فقلت له: إذا لم يكن ذاك فأي مهديّ تعني , قال:
أعني (محمد بن علي) الإيراني ذلك المهدي المنتظر حقيقة , فقلت له: أريد أن
تقص عليَّ خبره فإني لم أسمع بهذا المهدي إلا منك الآن , فقال: لا بأس اعلم أيها
الصديق أن محمد بن علي الإيراني مات أبوه وهو صغير فكفله خاله حتى بلغ أشده
واستوى فقام يدعو الناس إلى اتباعه ويزعم أنه هو المهدي وانضم إليه كثير من
الناس , وبعد زمن سافر إلى البيت الحرام لأداء فريضة الحج فاجتمع عليه أيضًا
خلق كثير وبايعوه بين الركن والمقام واشتهر أمره في الموسم وبعد انقضاء الموسم
رجع إلى بلاد فارس وأتت إليه الرايات السود من خراسان تحملها الرجال (كذا)
وظهر أمره ظهورًا زائدًا فلما علمت حكومة إيران بذلك أمرت واليها في تلك الجهة
بالقبض عليه وقد كان , وأرسل إلى طهران وأفتى العلماء بقتله وكفره فحينما قدموه
إلى الصلب كان هناك 800 جندي كلهم شاكي السلاح حاملو البنادق المحشوَّة
بالرصاص ولما انتظم عقد الاجتماع ورفع ذلك المهدي على الصليب أمرت العساكر
بإطلاق البنادق جميعها دفعة واحدة عليه وقد كان , فبعد أن راق الجو من دخان
بارود 800 بندقية أقبل الناس إلى خشبة الصليب ينظرون ماذا صنع بالمهدي فإذا
هو واقف على الأرض بجوار الصليب ليس به إصابة ما [1] .
ومن صَحِبَ الليالي علمته ... خداع الألف والقيل المحالا
وصيرت الخطوب عليه حتى ... تريه الذرَّ يحملن الجبالا
ثم عمد إلى بعض أتباعه الذين كانوا مشاهدين هذه الواقعة وسلمهم دواته
وقلمه وأمرهم أن يتوجهوا إلى (بهاء الله) ويسلموه هذه المخلفات ,
وأخبرهم أنه سيقتل في ثاني مرة , ثم أخذه الجند فعلقوه ثانيًا وأطلقوا عليه بنادقهم
فبعد أن صفا الجو وأنزلوه عن الصلب رأوا جسده كالشبكة كله ثقوب (ومن يعش ير
صليبًا ينصب ومسيحًا يصلب) ثم قام الجند بحراسة الجثة خوفًا من ضياعها غير
أنه لما أصبح الصباح لم يجدوا الجثة في مكانها ولم يقفوا لها على أثر (علها
صعدت مع أثمان القطن [2] ) , ثم قام بعده بالدعوة بهاء الله , وهذا الأخير
يعزون له من المعجزات ما لو أتينا على ما سمعناه منها لضاقت عنه صفحات
المنار غير أننا نأتي هنا للقراء على بعضها ومنها يعلم باقيها.
ينسبون إلى بهاء الله أنه كان يومًا راكبًا على (حمار) متوجهًا إلى بعض
القرى ومعه بعض أتباعه فعارضه في الطريق رجل من الفلاحين قد حرث أرضه
وهيأها للزرع والبزر ولم ينقصه غير المياه لريّها فقال له: أيها (البهاء) الأعظم
أسألك أن تنزل لي مطرًا لأروي به الأرض التي شققتها فأجابه: سأفعل , وأراد أن
يذهب فلم يدعه الرجل وألحّ عليه , فأجابه ثانيًا: اذهب إلى أرضك تجد المطر قد
سبقك إليها , فتركه الرجل ومضى , قال (راويهم) : فلم نقطع قليلاً من السير
حتى تشققت السماء بالغمام وانهمر المطر حتى تعذر علينا المسير , فقال (البهاء) :
هذا ما كنت أحذره. وغير ذلك من المعجزات التي أضرب عنها صفحًا مخافة
التطويل , ثم مات بهاء الله بعد أن نفي بعكا وقبره الآن فيها واستخلف بعده على
أمته ابنه (عباس أفندي) الملقب (بالغصن الأعظم) وهو الآن بعكا أيضًا , وقد
نقش على خاتمه (يا صاحبي السجن) وهو يجد ويجتهد في نشر ديانته , ويبث
المبشرين في بعض الجهات لذلك.
وأتباع هذا الدين يسمون بالبابيين نسبة إلى (محمد بن علي المهدي) فإنه
كان يلقب نفسه (بالباب) وبهائيين نسبة إلى (بهاء الله) , وقد وضع هذا الأخير
كتابًا وسماه (الإيمان) وهو عندهم بمثابة القرآن عندنا أي يعتقدون أنه وحي إلهيُّ
فضلاً عن اعتقادهم الألوهية في واضعه , ومن يطالع كتبهم يقف على ذلك , وهذا
الكتاب قد رأيته بعيني غير أني لعدم إلمامي باللغة الفارسية لم أفهم منه غير الآيات
القرآنية التي تخلل سطوره وصفحاته. وهذا الكتاب مطبوع ويا للأسف في مطبعة
بعض المجلات الإسلامية بمصر على ورق جيد. وَلِمَ نأسف من طبعه في مطبعة
إسلامية , وقد مدح صاحب مجلة إسلامية تدعي الإرشاد وهداية الأمة (الغصن
الأعظم ودينه بقصيدة رأيتها في ذيل كتاب من كتبهم المطبوعة حديثًا ولنترك ذلك
لحضرتكم فاطلاعكم أوسع وسيفكم أقطع , ولنرجع إلى ما كنا بصدده فنقول:
هذا - إلى ما اطلعت عليه من مؤلفات بهاء الله التي لم تطبع كالتفسير الذي
وضعه على بعض سور القرآن الشريف , وككتابه في الرؤيا , وكتابه المسمى
بالألواح أعني الرسائل التي بعث بها (على ما يزعمون) إلى الملوك الذين كانوا
في عصره يدعوهم فيها إلى الدخول في ديانته , ومن ينظرها ير العجب وكيف
تكون الكتب , ولغصنه الأعظم تصانيف كثيرة وجميع البهائيين يعتقدون أنها إلهامية
ككتب أبيه , وكلها بالكتابة اليدوية لم يطبع منها شيء على ما أظن. ولهذا الدين في
مصر مبشرون قائمون بالدعوة إليه , ورئيس هؤلاء المبشرين رجل إيراني يلقبونه
(بابن التاريخ وأبي الفضل) وقد صنف هذا كتابًا وضمنه كثيرًا من الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية , وأوَّلَها تأويلاتٍ غير الذي يعطيه معناها , وغايته من
ذلك الاستدلال بأن هذه الآيات قد بشرت بمجيء إلاههم وقرب ظهور دينه , ويزعم
أن هذا هو الحق , {َلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون: 71) ولا تسل عن استدلاله بما جاء في كتب بعض الصوفية
كالطبقات للشعراني. أذكر أني كنت في يوم من الأيام أناظر محدثي السالف الذكر
في هذه الديانة وصحتها، فقال: أما اطلعت على كتاب الطبقات للشعراني؟ فقلت:
لا , فقام في الحال وأتى به وقرأ ما ورد في شأن المهدي , واستطرد في القراءة
حتى أتى على قوله: (ويحضر الموقعة الكبرى بمرج عكا التي هي مأدبة الله
الإلهية للطيور والسباع) فسألته قائلاً: وهل تحققت هذه العلامة؟ فبهت ولم يبد
جوابًا , وظهر لي أنه ندم على مباحثتي , ولأتباع هذه الديانة مهارة غريبة في جذب
النفوس واستمالة القلوب ينطلي زخرفها على البسطاء , فإنهم يظهرون لكل أمة من
الأمم أنها على الحق وأن كتبها تنبىء وتبشر بمجيء بهاء الله , فتراهم يقتبسون من
الإنجيل والتوراة آيات , ويجهدون أنفسهم في تطبيقها على إلاههم المزعوم , أما
استنباطهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فهذا شيء فوق ما يتصور. هذا ما
يتعلق بنشأة هذا الدين , أما أحكامه فمنها أنهم لا يصلون في مساجد المسلمين ولا
كصلاتهم , بل لهم معابد وصلوات مخصوصة كما أنهم لا يحجون البيت الحرام بل
يحجون قبر بهاء الله والمهدي، ولا يصومون رمضان بل يصومون تسعة عشر
يومًا ابتداؤها يوم شم النسيم , والسنة عندهم تسعة عشر شهرًا , وبالجملة فلو اطلع
أحد على حقيقة دينهم اطلاعًا تامًّا لعلم أن الإسلام بريء منهم , وأن ما يتصفون به
من قولهم: إنا نحن مسلمون؛ رياء وكذب لا يرضاه الله ولا المسلمون أجمعون.
فيا أيها العلماء , إن دينكم الإسلام يناديكم: ألا هبوا لمحو البدع والمنكرات التي
يلصقها به المارقون , ويا ذوي الغيرة حتام يهان الدين وتطمس أعلامه ويحدث فيه
ما يحدث ولا تنصرونه.
لعمري لقد نبهت من كان نائمًا ... وأسمعت من كانت له أذنان
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. أ
***
مقاومة التهتك والدجل والبدع
انتدب صاحب السعادة محافظ العاصمة الهمام. إلى إنذار جميع الأقسام.
بسوء عاقبة إهمال العواهر المنتشرات في أنحاء المدينة بصفة تنافي الحشمة....
وأمور أخرى سنذكرها في الجزء الآتي. وشدّد الأمر عليهم قولاً وكتابة بمقاومة
هذه الأمور المضرة لا سيما تهتك النساء في الشوارع فبالغوا في التنفيذ حتى قيل:
إن الشرطة ساقوا كثيرًا من النساء إلى الأقسام , فتألم من ذلك الفساق والذين
يتجرون بالأعراض ويبيعون بضاعة الأبضاع ومن صدقهم , فصاحوا حتى وصلت
أصواتهم إلى الجرائد فرددت صداها فكان منها المتهور في إنكار التنفيذ حتى إن
جريدة اللواء الوطنية المفتخرة بعداوة الإنكليز أنكرت التعرض لغير المومسات مهما
تبرجن وأفسدن , وارتأت إلى أن يلجأ إلى جناب مستشار الداخلية الإنكليزي في
حماية شرف نساء المسلمين وحريتهن مما تعرض له محافظ العاصمة , فيظهر أنها
رجعت إلى رأي المقطم في عدم الثقة بالمصريين أو المسلمين , ووجوب إسناد كل
أمر للإنكليز حتى أمور الأعراض وشرف الحجاب. على أن سعادة المحافظ تدارك
الأمر فيه فوكل التنفيذ إلى رجال الدورية من (صف ضباط) فما فوقهم , وأقرت
الداخلية على ذلك , وكان في التشديد الأول حكمة بإرهاب من لا أدب لهنّ.
__________
(1) المنار - الذي عرف واشتهر وكتب في بعض الجرائد والكتب أنهم عندما أطلقوا عليه الرصاص أصابت رصاصة وثاقه فقطعته فوقع وولى هاربًا , ولو ملك جأشه ووقف لتمكن من فتنة الجند , ثم علقوه ثانيًا وقتلوه.
(2) يقول أتباعه: إنها رفعت , ويقول سائر الناس: أكلتها الكلاب.(3/595)
21 رجب - 1318هـ
14 نوفمبر - 1900م(3/)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
الحكومة الاستبدادية
تتمة مقالة السيد جمال الدين الأفغاني
تغمده الله برحمته
(القسم الثالث) الحكومة الرحيمة وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول منها الحكومة الجاهلة ودعائم هذه الحكومة تحاكي الأب الرحيم
الجاهل فكما أنه يحث أبناءه على اقتناء الأموال واكتساب الثروة واستحصال
السعادة والاقتصاد في المعيشة بدون أن يبين طرقها ويمهد لهم سبلها لعدم علمه بها.
ويدعوهم رأفة إلى المجاملة والموادعة ورفع الشقاق والنزاع من بينهم بغير أن يحدد
لهم الواجبات ويقدر الحدود اللازمة للإدارة المنزلية لقصور إدراكه عنها فكأنه
يدعوهم إلى أمر مجهول مطلق لا يهتدون إليه سبيلاً.
كذلك حال هؤلاء الدعائم الرحماء الجهلاء يطلبون من رعاياهم السعي في
المكاسب والصنائع والتمسك بالتجارة والفلاحة والتشبث بالعلوم والمعارف ويغرونهم
على مجاراة الجيران ومباراة أهل العرفان والتعلق بأسباب النجاح والفلاح بلا تشييد
المدارس المفيدة وتأسيس المكاتب النافعة وتسهيل طرق المعاملات وبث فنون
الزراعة جهلاً منهم ويريدون من أولئك الرعايا التباعد عن الشقاق والنفاق ,
والاحتراز عن الاعتداء والاغتصاب , والتجنب عن الفساد والعناد والحيف ,
والميل في الحقوق , والاحتراس عن كل ما يخل بالراحة العمومية بلا تقنين ناموس
عادل حافظ للحقوق معين للحدود فاصل للقضايا قاطع لما يطرأ من النوازل جامع
لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في اجتماعاته المدنية. ومن أفراد هذه الحكومة سلطنة
بعض السلاطين المجبولين على الشفقة المطبوعين على الرأفة الذين كانوا يبكون
على سوء أحوال رعيتهم مع جهلهم بما يصلح شأنها والسِّيَرُ بذلك ناطقة.
القسم الثاني منها الحكومة العالمة، وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول الحكومة الأفينة وأقانميها تضاهي الأب العالم المأفون , فكما أن
شفقة هذا الأب تسوقه إلى العناية بأحوال أبنائه وتقسره عليها , وأن علمه بأسباب
الترف والثروة وعلل المعيشة الهنيئة المرضية يقوده إلى الاهتمام بتأديبهم بأحسن
الآداب , وتعليمهم الفنون وتمرينهم على الحرف , ويجبره على أن يبين لهم قوانين
العشرة ويحدد لهم حقوقهم ولكن بعد ذلك يتركهم وشأنهم لضعف رأيه وقصر نظره
وجهله بأن ملازمة الشبان للآداب , واجتناءهم ثمار معارفهم التي اكتسبوها واجتهادهم
في المكاسب لا تكون إلا بقوة حافظة ما لم تحنكهم التجارب لما جبلوا عليه
من الميل إلى الشهوات والانعكاف على البطالة والتقاعد على الفضائل فيهوون في
هاوية التعاسة وتذهب مساعيه سدى.
كذلك هؤلاء الأقانيم يعمرون بيوت العلم ويشيدون دور المعارف , وينشئون
المعامل ويوسعون نطاق التجارة , ويواظبون على تشريع سياسة مدنية تثبيتًا
للحقوق واستتبابًا للراحة على مقتضى ما أحاطوا به من أحوال رعاياهم , ولكنهم
لعدم تدبرهم في العواقب وعدم تبصرهم بأن افتقار انتظام أحوال العباد وسير
أمورهم على نهج العدل , ونيلهم غاية بغيتهم من مساعيهم إلى العلة المبقية
كافتقارهم إلى العلة الموجدة لا يواظبون على أعمالهم هذه , ولا ينظرون إليها نظرة
ثانية بل ينبذونها ظهريًّا ويتركونها نسيًّا منسيًا فيتطرق إليها الخلل ويعتريها الفساد
ويسري إليها الانحلال؛ لما جبل عليه الإنسان من الحرص والشره والميل إلى
الجور والاعتداء المستلزمة لمخالفة القانون فيقع كل في العطب والنصب والشقاء
والعناء ويستولي عليهم الفقر والفاقة ويصيرون كأرض موظوبة [1] بتوالي تطاول
أيدي جائريهم وتعاقب اعتساف معتديهم ويشبه أن تكون حكومة المأمون وبعض
سلاجقة إيران من أفراد هذا القسم.
القسم الثاني: الحكومة المتنطسة وأساطينها الحكماء تضارع الأب المتدبر
المتبصر الذي لا يبرح ساعيًا في إعداد الأسباب الموجبة لسعادة أبنائه زمن حياتهم
وتهيئة معداتها القريبة والبعيدة , ولا يتجافى آنًا ما عن مواظبة دقائق حركاتهم
وسكناتهم وتفقد شئونهم واستكناه أحوالهم , ولا يتقاعد لمحة عن تأييدهم في سيرهم
بآرائه السديدة وأفكاره الصائبة خوفًا من التواني والكسل والإهمال والفشل , وخشية
من عروض الموانع التي تصدهم عن البلوغ للغاية.
فنجد هؤلاء الحكماء الأساطين يعلمون أن قوام المملكة وحياة الرعايا بالزراعة
والصناعة والتجارة , ويعرفون أن كمال هذه الأمور وإتقانها لا يكونان إلا بأمرين
أحدهما - وهو في الواقع علتهما الأولى - العلوم الحقيقية النافعة والفنون المفيدة
التي لا يمكن حصولها والفوز بها إلا بمدارس منتظمة ومدرسين ماهرين ومتخلقين
بأخلاق فاضلة شفوقين على المتعلمين شفقتهم على أبنائهم. وثانيهما: إعداد آلات
الزراعة وأدوات الصناعة وتسهيل طرق التجارة البرية والبحرية. ويفقهون أن
حفظ أساس المدنية وصون نظام المعاملات وفصل المنازعات وكف أيدي المتعدين
ومنع المدلسين وكبح الأشرار وردع الفجار لا يكون إلا بالمحاكم الشرعية والسياسية
المؤسسة على دعائم العدل والإنصاف , وأنها لا تتحقق إلا بقانون حق لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة - حتى أرش الخدش - إلا محفوظًا بأمناء يقظين محروسًا بعدول
نشطين محفوظًا بعلماء فقهين معززًا بقضاة مقسطين مؤيدًا بحكام أعفاء وأعوان
بررة. ويدركون ببصيرتهم الوقَّادة مصالح العباد. ومناهج تعمير البلاد. ووسائل
درء المفاسد الداخلية. وطرق منع النوازل الخارجية. وأن القيام بذلك لا يكون إلا
بضرب ضرائب عادلة عليهم يجمعها جباة عدول تصرف في منافعهم العامة لدى
الضرورة بلا حيف وميل , وانتخاب طائفة من أبطالهم الموصوفين بالصداقة وعزة
النفس وعلو الهمة لحفظ الأمنية الداخلية ودفع الأعداء الخارجية. ويشعرون بأن
استكمال سعادة المملكة وصيانة استقلالها لا يكونان إلا بارتباطاتها السياسية وعلائقها
التجارية مع الممالك الأخرى , وأنها لا تتم إلا برجال عارفين دهاة متبصرين
محبين لأوطانهم (لا كحسن أفندي فهمي شيخ الإسلام الأسبق في الأستانة الذي كان
يقول لعدو وطنه الجنرال أغناتيف سفير الروسية فيها: إنك عيني اليمنى، وإن
حيدر ابني عيني اليسرى كما ذكره حضرة مدحت أفندي في كتابه المسمى (بأس
الانقلاب) متدربين محنكين بالسياسة عالمين بالحوادث قبل ظهورها , محيطين
بطرق التجارة فيقومون بواجبات ما اقتضته حكمتهم وما أحاطوا به علمًا , ولا
يتهاونون آنًا ما عن أداء حقوق رعاياهم , ولا يفتدون راحة أنفسهم بسعادة أولئك
الضعفاء. وزد على ذلك أنهم يدرون أن غالب أفراد الإنسان طبع على الحرص ,
وفطر على الشر , وجبل على الشهوة , وخلق متهاونًا بواجباته متوانيًا على إصلاح
شئونه , ونشأ على المكر والحيل , وغرز فيه حبُّ الاعتداء على حقوق الغير ,
وعدم الاكتفاء بما ملكته يداه , وغرس فيه بغضُ الشرائع والقوانين حينما يراها سدًّا
يمنعه من سلوك سبيل الغدر , وحاجزًا يردعه عن مقتضيات الشره , وغُلاًّ يكف
يديه عن التطاول. وإنهم يفهمون أن كل ما يقع في العالم الإنساني من المرض
والصحة والفقر والغنى والنصب والراحة. بل كل ما يقتضي الشقاء والسعادة
ويوجب الصلاح والفساد لا بد وأن يكون لإرادة الإنسان وحركاته الاختيارية فيه
دخل تام. ويدركون أن الإنسان ما دام على هذه السجية والغريزة فهو كمريض
تنازعته أمراض خطرة مختلفة لا ينجو منها إلا بتمريض طبيب ماهر يعرف العلل
والعلاج , ويتفقده آناء الليل وأطراف النهار فيهتمون حكمة وشفقة بتتبع أحوال
الرعايا مثل ذلك الطبيب الماهر , ولا يبرحون عن موازنة أعمالهم وأفعالهم
وحركاتهم , ولا ينفكون عن مقايسة آرائهم وأخلاقهم , ولا يفترون عن تعديل
ثروتهم وغنائهم , وتقويم علومهم ومعارفهم وتجارتهم وزراعتهم وإحصاء عددهم
وتعداد أحيائهم وأمواتهم , ولا يتوانون عن مقابلة الصادر والوارد في ممالكهم ,
والمعادلة بين قوة حكومتهم واقتدارها واقتدار الغير وقوته لكي يقتدروا على تدارك
مصالح البلاد قبل تمكن الفساد , ويقدروا على جبر الكسر وسد الثغر ورفو الخرق ,
وإزالة جراثيم الرزايا والمصائب , وإبادة أسباب الخلل والمصاعب , وإذا لم يمكنهم
القيام باستقصاء دقائق التعديل والتقويم وجزئيات الموازنة والمقايسة مباشرة انتخبوا
رجالاً يقظين عارفين بأحوال الدول وقواها متبصرين بشئون الممالك وأسباب
سعادتها وشقائها عالمين بفنون التجارة والزراعة والصناعة ولوازمها مهندسين
محاسبين لأداء هذه المصالح وتسجيلها في السجلات بغاية الدقة والإتقان , وعرض
كلياتها على هؤلاء الولاة الحكماء مع بيان موارد النقص والخلل وإيضاح أسبابها.
وغير خاف أن تسجيل المعادلات وحفظ الموازنات للدول ألزم من تقييد التاجر
معاملاته في دفاتره اليومية , فإنه لا يلزم من إهماله في التقييد والتثبيت إلا أن
يضيع رأس ماله على جهل منه ويصبح مفلسًا , وهذا ضرر خاص به , وأما إهمال
الدول في حفظ المعاملات وتسجيل الموازنات فيوجب خراب البلاد وهلاك العباد ,
ومن أجل هذا تجد للدول الغربية عناية تامة بهذا الشأن المسمى عندهم بالإستاتستيك.
فهاك يا أيها الإنسان الشرقيُّ صاحب الأمر والنهي حكومة رحيمة حكيمة ,
وعليك بها والقيام بشأنها وحفظ واجباتها , وإلا فبحياتك التي أفديتها براحة العالم أن
تعفونا عن تحمل ثقل تشدقك بالرحمة والعدالة والحكمة والفطنة. أتريد أن تظلمنا
ونكافئك بالشكر؟ وتغصب حقوقنا ونجازيك بالثناء؟ أو تظن أنك تقدر أن تغرَّ كل
العالم وتعمي بصائرهم؟ وأن تنزل باطلك عندهم منزلة الحق؟ وأن تجلس جورك
مجلس العدل؟ وأن تقيم سيئاتك مقام الحسنات؟ وأن تقعد رذائلك مقعد الفضائل؟
ولعلك اغتررت بتمجيد وتعظيم المبصبصين وتبجيل المتزلفين أمامك.
ولو كنت تعلم مقامك في النفوس. ومنزلتك لدى أرباب البصائر والعقول
لودعت هذه الدنيا الخئون التي ألهتك وفارقت حياتك العزيزة التي طالما افتديتها
بالمروءة والإنسانية.
وأما أنتم يا أبناء الشرق فلا أخاطبنكم ولا أذكرنكم بواجباتكم فإنكم قد ألفتم
الذل والمسكنة والمعيشة الدنيئة , واستبدلتم القوة بالتأسف والتلهف صرتم كالعجائز
لا تقدرون على الدرء والإقدام والجذب والدفع والمنع والرفع فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
اهـ نقلاً عن العدد 33 من جريدة مصر التي صدرت في الإسكندرية في 22
صفر 1296.
__________
(1) هي التي رعيت مراراً حتى لم يبق فيها كلأ ولا نبات.(3/601)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
(18) من أراسم إلى هيلانة في 11 يونيه سنة - 185
قد يسأل سائل: هل التفكر مما يتعلمه الطفل؟ فأجيبه: إني أعتقد ذلك غير
أنه ينبغي التمييز التام بين ما يتلقاه عن غيره من الأفكار وبين ما يستنتجه هو منها
بنظره إلى الأشياء. ونحن في تخاطبنا معه لا نفعل شيئًا سوى تأدية أفكارنا إليه
على وجه التمام أو النقص مع أن الذي كان يجب علينا أن نصرف همتنا إليه هو
إيقاظ ذهنه واستنباط أفكاره وآرائه. إنك تجدين أذهان من يعاشرون الكبار من
الأطفال محشوة بجمل من الكلام لا يفهمون منها في معظم الأحيان إلا معاني في
غاية التشابه والالتباس , وليس شحن أذهانهم بهذه الجمل مما ينمي فيهم قوى
الإدراك والفهم بحال من الأحوال , ولكنه إبهاظ لها بما ليس من حقه أن يكون فيها
وكم لاقيت في سالف أيامي أطفالاً يشتهرهم الناس بكونهم آيات في الذكاء والفطنة
فرأيت أن كل ما يدعى لهم من العقل ينحصر في انطلاق ألسنتهم بما لا معنى له من
القول , وكنت عند نظري إليهم وهم في تنوقهم وإعدادهم أنفسهم لنوال الشهادات
المدرسية يعروني من انقباض النفس وضيق الصدور ما يعروك لرؤيتك المتصنعين
المدعين بما ليس فيهم , وهو وجدان كان يتولى عليَّ فلا أجد سبيلاً إلى دفعه وكنت
أقول في نفسي: إن المشتغلين بتربيتهم يسلبونهم اليسير الذي آتاهم الله سبحانه من
المواهب الخلقية بتعليمهم إياهم أفانين القول وأساليب الكلام ليسموهم بسمات العقل
الذي لمَّا يبلغوا رتبته. أما والله لو كان لي الخيار لاخترت (لأميل) أن يصدر
عنه فكر ساذج وأن واحدًا فقط يكون منبعثًا عن محض اختياره وكسبه , ولفضلت
هذا على كل ذلك الزخرف القولي والثرثرة التي لا نسبة بينها وبين العقل.
إذا نظرتِ إلى الكون رأيته مملوءًا بأناس يتكلمون بما يوجد في الكتب فإن كل
من يسمعهم يذكر أنه طالع فيها جميع ما يقولونه , والخطأ في هذا الأمر راجع إلى
تربيتهم لأنهم قد تعلموا من نشأتهم أن يرددوا آراء غيرهم.
الأم بالنسبة لولدها هي المجتمع الإنساني بل المثال الحي لآثار السلف ولا
يشك أحد في أنها مكلفة بأن تعلمه كثيرًا , ولكن يجب عليها في تعليمها هذا التلميذ
الصغير أن تكون على غاية الحذر من أن تلقي في نفسه الخضوع للألفاظ
والاستعباد لها. ذلك أن هذا الأمر ليس من شأنه أن يفتح مغلق عقله بل إن فيه
إغاضة لينبوع المعارف الحقة , ولا بدع في ذلك ألا ترين أن الناس قد سموا أعمالاً
كثيرة قدستها العادة فروضًا مع رفض العقل إياها وعدم تسليمها , وأن الحق قد دمغ
جميع الأباطيل على التعاقب , وأن القوة في كل زمن تسلب الحق ما له من
موجبات الشرف والاعتبار. فمن لم يبلغ به علمه إلى الاحتراس من غرور القول
وباطله والسير في ظلمات اللغة الإنسانية على هدى , فذلك الذي يعيش دهره مفتونًا
بزخرفها أسيرًا في ربقتها.
فالذي يجب علينا للطفل هو تعريفه بحالة الكون المحيط به (تعريفًا يكون بلا
شك في غاية القصور على الظواهر والاقتصار على ما لا بد له من معرفته) فإن
الكون كله معان. أريد بذلك أن كل شيء مؤثر من شأنه أن يفعل في عقل الإنسان
ويولد منه فكرًا , ومن ظن أن الأطفال بعد انقضاء سنتين أو ثلاث من عمرهم لا
يكونون مفكرين فقد ظلمهم وحط من قدرهم , نعم إن أفكارهم ليست كأفكارنا في
جميع الأحوال وذلك مما يدعونا أيضًا إلى اعتبارها وعدم إغفالها , وقلما يوجد طفل
لا يهتدي بنفسه إلى ما يعلّمه القائمون عليه إياه إذا هم تكلفوا إقامته على طريقه فعليهم
أن يستعينوا بالتجربة والتمرين على إزالة بعض ما تقع فيه مشاعره من الأغلاط وأن
يحثوه بالإشارة والكلام على النظر والملاحظة , فإذا فعلوا ذلك؛ سهل عليه بما يجريه
من الأقيسة ربط الحوادث بعضها ببعض وإرجاع بعضها إلى بعض كإرجاع استطالة
ظل الرمح مثلاً إلى انحدار الشمس عن أوجها , وأصبح القياس بهذه الطريقة ملكة
راسخة في نفسه على ما يفيده إياه من العلوم الأولية فإن في إسناد الحوادث بعضها إلى
بعض تعلمًا للحكم عليها. اهـ.
(19) من أراسم إلى هيلانه في 10 يوليه سنة - 185.
قد هم المسجونون بالهرب من سجن ... وشرعوا في ذلك فعلاً فانكشف أمرهم
وستقرئين في الصحف تفصيل هذه الواقعة. كانت الأحوال كلها مساعدة لنا على
هذا الهرب , وناهيك بليل غاب بدره , وريح اشتدت عواصفه , ومطر انهمرت
سيوله على جدران السجن , ولكننا أخفقنا بعد أن قطعنا أصعب العقبات وأشدها ,
وأوشكنا أن نفوز بالنجاة.
فليت شعري ماذا عسى أن تكون عواقب هذه الحادثة. أرى بحسب ما يبدو
لي أن سيكون من نتائجها زيادة التشديد في مراقبة المساجين , وأن المراسلات مع
ما كانت محتفة به من العوائق ستكون على خطر مدة طويلة , ولست أدري إن كان
هذا المكتوب يصلك أم تحول دونه الحوائل , وإني أرجو أيتها العزيزة هيلانة أن لا
يُوجِدك عليَّ هذا الأمرُ , فإني لم أستطع أن أصم أذني عن نداء الفطرة التي
تدعوني إليك وإلى ولدنا اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/607)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فخر نساء العرب
خرجت العجفاء بنت علقمة السعدي مع ثلاث نسوة من قومها , فاتَّعدن
بروضة يتحدثن فيها، فوافين بها ليلاً في قمر زاهر، وليلة طلقة ساكنة، وروضة
معشبة خصبة , فلما جلسن قلن: ما رأينا كالليلة ليلةً ولا كهذه الروضة روضة
أطيب ريحًا ولا أنضر , ثم أفضن في الحديث , فقلن: أيُّ النساء أفضل؟
قالت إحداهن: الخرود الودود الولود [1] .
قالت الأخرى: خيرُهنّ ذات الغناء، وطيب الثناء، وشدّة الحياء.
قالت الثالثة: خيرهنّ السَّمُوع الجَموع النفوع غير المنوع.
قالت الرابعة: خيرُهنَّ الجامعة (لأهلها) الوادعة الرافعة، لا الواضعة.
قلن: فأيُّ الرجال أفضل؟ قالت إحداهن: خيرهم الحظيُّ الرضيُّ غير
الحظال ولا التبال [2] .
قالت الثانية: خيرهم السيد الكريم , ذو الحسب العميم , والمجد القديم.
قالت الثالثة: خيرهم السخيُّ الوفيّ الرضي الذي لا يغير الحُرَّة. ولا يتخذ
الضرّة.
قالت الرابعة: وأبيكنَّ إن في أبي لنعتكنَّ كرم الأخلاق، والصدق عند التلاق،
والفَلَج عند السباق، ويحمده أهل الرفاق، قالت العجفاء عند ذلك: (كل فتاة
بأبيها مُعجبة) فسيرتها مثلاً يضرب في إعجاز المرء برهطه وعشيرته وسائر ما
ينسب إليه.
وفي بعض الروايات أن إحداهن قالت: إن أبي يكرم الجار، ويعظم النار،
وينحر العشار بعد الحُوار، ويحمل الأمور الكبار [3] .
فقالت الثانية: إن أبي عظيم الخطر، منيع الوزر، عزيز النفر، يحمد منه
الورد والصدر [4] .
وقالت الثالثة: إن أبي صدوق اللسان، كثير الأعوان، يُروي السنان عند
الطعان.
وقالت الرابعة: إن أبي كريم النزال، منيف المقال، كثير النوال، قليل
السؤال، كريم الفعال، ثم تنافرن إلى كاهنة في الحيّ فقلن لها: اسمعي ما قلنا
واحكمي بيننا واعدلي , ثم أعدن عليها قولهن، فقالت لهن: كل واحدة منكن ماردة،
على الإحسان جاهدة، لصواحباتها حاسدة، ولكن اسمعن قولي: خير النساء
المبقية على بعلها، الصابرة على الضراء مخافة أن ترجع إلى أهلها مطلقة، فهي
تؤثر حظ زوجها على حظ نفسها، فتلك الكريمة الكاملة. وخير الرجال الجواد
البطل، القليل الفشل، إذا سأله الرجل؛ ألفاه قليل العلل، كثير النفل [5] ، ثم قالت:
كل واحدة منكن بأبيها معجبة.
(المنار)
إذا قابلنا بين هؤلاء النساء وبين المتعلمات من نسائنا اليوم نعلم الفرق العظيم
بين الجاهليات الأميات وبين المسلمات المتعلمات , لا أقول في الفصاحة فقط ولكن
في الأدب وسمو الفكر.
__________
(1) الخرود: المرأة الحيية والبكر لم تمس.
(2) الحظال: المقتر الذي يحاسب أهله بما ينفق عليهم , والتبال: صاحب التوابل وبائعها وليس بظاهر , ولعله مبالغة من تبله بمعنى ذهب بعقله أو أسقمه وأفسده أو من تبلهم الدهر أي أفناهم.
(3) العشار بالكسر: جمع عشراء كنفساء وهي الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر أو هي كالنفساء من النساء , والحُوار بالضم: ولد الناقة من حين يرضع إلى أن يفطم ويفصل.
(4) الخطر كالشرف وزنًا ومعنى , والوَزَر بالتحريك: الملجأ والمعقل وأصله الجبل المنيع.
(5) النفل بالتحريك: الهبة ومن معانيه: الغنيمة.(3/611)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(صحافي هندي)
أنسنا في هذه الأيام بلقاء رصيفنا الفضائل الهمام محبوب عالم أفندي صاحب
جريدة (بيسه أخبار) التي تصدر في مدينة لاهور عاصمة قسم كبير من الهند في
الزمان الماضي. وهذه الجريدة هي أعم الجرائد الهندية الإسلامية انتشارًا يصدر
منها نسختان إحداهما يومية , والأخرى أسبوعية , والمشتركون فيهما يبلغون 20
ألفًا.
تفضل بزيارتنا قبل أن نعلم بقدومه إلى مصر لما بيننا من التعارف بمبادلة
الجريدتين، وكان حظنا من الاجتماع به كبيرًا بالنسبة لقصر مدة إقامته في القاهرة
وأفضنا في المذاكرة معه في شئون المسلمين وإصلاحهم فعلمنا منه أن إخواننا في
الهند يظنون أن النهضة الإسلامية في مصر والأستانة أرقى منها في الهند , وأنه
ظهر له في سياحته هذه أن الأمر بالعكس. ونحن نحمد الله تعالى على عدم خيبة
آمالنا في إخواننا الهنديين ونسترجع ونحوقل لخيبة آمالهم فينا. وما دامت ضالتنا
حياة الأمة الإسلامية فلا فرق عندنا بين الأعضاء التي تنفخ فيها نسمة الحياة أوّلاً.
ساح الرجل للاعتبار والاستفادة كما هو شأن مثله فجاء أوربا وطاف بعض
عواصمها وكبار مدنها وجاء الأستانة العلية والديار الشامية , وختم السياحة بمصر.
ومن الأسف أن مدة إقامته فيها كانت قصيرة ولكنه زار فيها أعظم معاهدها كالأهرام
والعاديات المصرية في قصر الجيزة والمكتبة الخديوية والأزهر الشريف. أما
مدرسة الأزهر فإنها كانت موضع رجائه ومحط رحال آماله.
حتى إذا قابلها استعبر لا ... يملك دمع العين من حيث جرى
وقال: إنني لا أتصور كيف يُرْجَى الخير للمسلمين إذا كان منبت علمائهم
ومرشديهم ومربيهم بهذه الدركة عن الوساخة والمهانة وخشونة العيش وفقد النظام.
ووقف بالإجمال على سعي بعض أهل الغيرة الدينية في إصلاح هذا المكان وعلى
معارضة المعارضين في ذلك. ولا نطيل في هذا فقُرَّاء مجلتنا أعلم منه به , ولكنا
نذكر أهم ما استفدناه منه في الكلام على النهضة الإسلامية في الهند.
السبب الذي ذكره في هذه النهضة معروف في الجملة، وهو أن المسلمين بعد
أن تمكنت السلطة الإنكليزية في بلادهم حملتهم عداوة الإنكليز على معاداة لغتهم
وجميع علومهم والفرار من مدارسهم , وأقبل الوثنيون على ذلك؛ فسادوا على
المسلمين بالثروة، والوظائف بعد أن كان المسلمون هم السائدين عليهم في كل شيء ,
وكان أوّلُ مَنْ استيقظ منهم من نوع الغفلة والغرور أفرادًا أعظمهم قدرًا وخطرًا
وأشدهم نفعًا وأحسنهم أثرًا السيد أحمد خان مؤسس (مدرسة عليكدة الكلية) التي
هي ينبوع هذه النهضة (وقد ذكرنا مجمل خبره وخبرها في المجلد الأول من المنار
فلا نعيده) , ومما يجب التنبيه عليه أن سنة الله - تعالى - في المصلحين أنهم
يساء فيهم الظن ويرمون بسوء القصد وفساد النية وبمثل هذا كان يتهم السيد أحمد
خان؛ كان يتهم بأنه مغرًى من الحكومة الإنكليزية بإفساد تعاليم المسلمين وعقائدهم
وبث العقائد الطبيعية فيهم لأن الإنكليز لم يروا وسيلة لإفنائهم إلا هذه الوسيلة ,
ومن العجيب أن مثل هذه التهمة كان يصدقها الفيلسوف العظيم السيد جمال الدين
الأفغاني وكان يعادي السيد أحمد خان ويطعن فيه غيرةً على الدين وحذرًا على
المسلمين , فتبين الآن أنه لا رجاء للمسلمين باسترجاع شيء من مجدهم إلا بمدرسة
السيد أحمد خان وتلامذته ومن تلا تلوهم واحتذى مثالهم , ولولا شدة بغض السيد
جمال الدين للإنكليز لما خابت فراسته بالسيد أحمد خان , ولقد كانت الشبهة على
السيد أحمد خان قوية فإنه لم يسع في تأسيس هذه المدرسة إلا بعد سياحته في بلاد
إنكلترا وإكرام الإنجليز له , أما سبب هذا الإكرام فقد أخبرنا عنه صديقنا محبوب
عالم أفندي , وهو أنه في أثناء ثورة الهنود على الإنكليز أجار بعض ضباطهم
ووجهائهم وحماهم من القتل , وما ذاك إلا عن عقل وبعد نظر في العواقب رحمه
الله تعالى وجزاه خيرًا.
وأعظم بشارة بشرنا بها ضيفنا الكريم هي أن أبناء النهضة الحديثة في الهند
قد جمعوا بين علم الدين وآدابه وأخلاقه وبين علوم الدنيا وأعمالها , وأن جميع
المدارس الحديثة مبنية على أساس الوحدة الدينية , بمعنى أن المسلمين من جميع
الفرق والمذاهب يتعلمون تعلمًا واحدًا لا فرق بين ابن السني وابن الشيعي , ولا بين
ولد الحنفي وولد الشافعي , فلا مثار فيها للتفرق الديني والمذهبي , وهذا هو الركن
العظيم الذي اقترحناه في مقالات الإصلاح الديني في السنة الأولى من المنار
ولا قوام للمسلمين بدونه.
وبشرنا بأن الشبان الهنديين الذين تعلموا العلوم الغربية وجروا في ميادين
المدنية العصرية لم يفش بينهم السكر والفجور والميسر كما فشت في شبان
المصريين أرباب المدنية الوهمية الكاذبة فأضاعت ثروتهم وأفسدت صحتهم
وتركتهم في ظلمات لا يهتدون معها لطريق السعادة. كما بشرنا بأن المتعلمين لا
يقصرون أنظارهم على وظائف الحكومة كما هو الشأن الضار في مصر , بل إن
ميلهم إلى التجارة يفوق ميلهم إلى الوظائف.
ومن آثار النهضة الإسلامية في الهند أن قامت قيامة المسلمين عندما صدر
أمر الحكومة الإنكليزية بأن تكون لغة الهندوس (الوثنيين) لغة رسمية كلغة
الأوردو (لغة مسلمي الهند) في ولاية (بنجاب) وولاية (أضلاع غربي شمالي)
وهالهم هذا الأمر، ولا يزالون يسعون في إبطاله , وقد عقدت لذلك لجان
مخصوصة , وكان من الأعضاء فيها محدثنا محبوب عالم أفندي , وقد كثرت
شكوى جرائد الهند الإسلامية من هذا ورددت صداها الجرائد الإسلامية في مصر
وسوريا والأستانة , ولكن الأمر اشتبه على هؤلاء فظنوا أنه عام في البلاد الهندية
كلها , ومنهم من توهم أن لغة الهندوس صارت الرسمية من دون اللغة الأوردية ,
والصحيح ما ذكرناه أوّلاً كما تحققناه منه بمراجعة القول مرارًا خلافًا لما نقلته عنه
بعض جرائد الأستانة فسوريا. وقد سافر في مساء يوم الخميس الماضي وتفضل
بقبوله وكالة مجلتنا (المنار) في عموم الأقطار الهندية فهي تُطْلَب من إدارة
جريدته وعلى المشتركين في الممالك الهندية أن يقدموا له قيمة الاشتراك إذا لم
يرسلوها إلينا رأسًا. رافقته السلامة في الحل والترحال.
***
(الجمعية الخيرية الإسلامية)
أقوى الجمعيات أساسًا وأثبتها وأنفعها , وما زال مولانا الأستاذ الحكيم الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية ركنًا من أقوى أركانها , وقد انتخب في هذه الأيام
رئيسًا لها فنهنئها بذلك.
__________(3/613)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات
موضوعات رجب
كتبنا في شهر رجب من السنة الماضية نبذة في المنار في (بدع رجب)
ذكرنا فيها بعض الأحاديث الموضوعة في صيام رجب وفضله لا سيما ما يقوله
الخطباء على المنابر، وكل ما ورد في صوم رجب موضوع وواه لا أصل له،
وذكرنا صلاة الرغائب وصلاة شعبان ونُقُول العلماء في كونهما بدعتين مذمومتين.
ونبهنا على المنكرات التي يأتيها الناس في المقابر في أوَّل جمعة من رجب
ونورد الآن بعض الأحاديث الموضوعة في فضائل رجب تذكرة للمؤمنين.
فمنها حديث: (أكثروا من الاستغفار في شهر رجب , فإن لله في كل ساعة
منه عتقاء من النار , وإن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب) .
قال في الذيل: في إسناده الأصبغ ليس بشيء. ومنها حديث: (في رجب
يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة؛ كان له من الأجر كمن صام مائة سنة)
إلخ. قال: في إسناده هناج تركوه. وأما ما ورد في صيام يوم منه أو يومين فقد
قال في الذيل: إسناده ظلمات بعضها فوق بعض وفيه وضاع. ومنها حديث: إن
الله أمر نوحًا بعمل السفينة في رجب , وأمر المؤمنين الذين معه بصيامه موضوع.
أما صوم أوّل خميس من رجب فقد نقل في الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة أنه مما أحدثه العوام من البدع , فيظهر منه أنه ليس فيه حديث
موضوع فضلاً عن ضعيف أو قوي , وأن أحدًا من العلماء لم يقل باستحبابه ,
ولكنني أتذكر أنني رأيت فيه شيئًا في بعض الكتب أو سمعته في بعض الخطب ,
وأنني كنت أصومه لذلك , فلعل بعض المتأخرين من أهل الجراءة على الله ورسوله
رأى العوام على ذلك؛ فخلق لهم فيه حديثًا , فإن كل زمان لا يخلو من وضاعين ,
وإننا نرى في كتب المتأخرين الذين يدعون العلم والتصوف أحاديث لا شك في أنها
موضوعة وأنهم هم الواضعون لها كحديث: (يفسد هذا الدين عالم وابن ولي) أراد
به بعض المنتسبين للطريق إهانة آخرين من أهل طريقة أخرى فحسبنا الله
ونعم الوكيل.
***
كرامة وهمية بمحو شريعة قطعية
ما رزيء الدين برزيئة إلا وتجد أهل الفتنة حسنوها بالتأويل. فأضلوا كثيرًا
وضلوا عن سواء السبيل. وقد نَمَى الينا عن أحد أكابر مشايخ الأزهر أنه ذهب
مرة إلى جامع السيد البدوي (رحمه الله تعالى) في أيام المولد فأراد الوضوء ,
ولكنه رأى أن ماء الميضأة متغير من الأقذار والنجاسات تغيرًا يحدث الخبث ولا
يزيل الحدث قال الراوي: (فطبقها على قواعد الشريعة فلم تنطبق) فرجع أدراجه ,
فما كان إلا أن جُذب جذبة وأخذ عن نفسه أخذة فرأى أنه في أرض صحراء ملأى
بالنجاسات والأقذار تنبعث عنها الروائح الكريهة فعلم أن تلك كرامة السيد جعلها
عقوبة له على اعتراضه في سره على ميضأته وتقذره من الوضوء منها.
فكان من مقتضى هذه الكرامة أن السيد يغار على ميضأته النجسة ما لا يغار
على الشريعة المطهرة , وأنه يعاقب من يرغب عنها عملاً بدين الله تعالى واحترامًا
لشريعته. ولا شك أن الولي ما كان وليًّا إلا بالعمل بالشريعة والغيرة عليها
والاحترام لها وترجيحها على جميع أهوائه وحظوظه عملاً بحديث: (لا يؤمن
أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) وإذا صح عن ذلك العالم هذا القول
فعلى الدين والإسلام السلام.
***
عبرة من صغير
رأيت غلامًا يبلغ من العمر بضع سنين يرقص في الطريق بكيفية مخصوصة
فسألته: من تحاكي بهذا فقال (زي اللّي يلعبو بالذكر) فأثرت في نفسي كلمة هذا
الغلام وعلمت أنه سمى رقص أهل الطرق الذي يهمهمون فيه الهمهمة التي يسمونها
الذكر (لعبًا) بإرشاد الفطرة السليمة، فإنه فهم من الاستعمال العام معنى اللعب
الكلي ولما رأى ما عليه أولئك القوم علم أنه جزئي من جزئيات ذلك الأمر الكلي
فأطلق اسم اللعب عليه , وكأنك بالتربية الفاسدة والأوضاع الخاطئة وقد أفسدت عليه
فطرته وحملته على أن يسمي اللعب (عبادة) , وإذا أتاح الله له تربية صالحة يظل
على اعتقاده حتى يفهم معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} (الأعراف: 51) الآية , ويعلم أن هؤلاء اللاعبين نسخة من أولئك مصداقًا لقوله
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لتركبن سنن من قبلكم شبراً بشبر
وذراعاً بذراع) .
***
عذر جريدة الأفكار في ذنبها
ربما يعجب من يرى هذا العنوان في باب البدع ... ممن يقرءون جريدة
الأفكار الغراء ويقولون في أنفسهم: ما بال المنار يتصدى لهذه الجريدة الموافقة له
التي تنقل كثيرًا من نبذه مع الاستحسان وما هو ذنبها لديه؟
نشر في عدد مضى من هذه الجريدة مقالة أساء كاتبها الأدب فحط من كرامة
من كرم الله وجهه أمير المؤمنين علي ربيب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمه،
وفضل عليه يزيد الذي اختلف العلماء في لعنه وكفره، ولم يختلفوا في شقاوته
وفسقه. ولم يكن صاحب الجريدة هو الذي كتب تلك المقالة الأثيمة بل كتبها محرر
كان عنده، ولا أظن أنه اطلع عليها إلا بعد طبعها، ولذلك بادر إلى فصل ذلك
المحرّر وإخراجه من إدارة جريدته. وهذا هو السبب في سكوتنا عن الرد على
الجريدة والتنفير عنها والتحذير منها , ولولا أن كتب إلينا حتى من سوريا الاستلفات
إلى تلك الكتابة الخاطئة الكاذبة واللوم على السكوت والحث على الرد لما كتبنا هذه
الكلمات الآن وإنما كتبناها إظهارًا لعذرنا في السكوت عن أهم واجب من الواجبات
التي أنشىء المنار للقيام بها , وإظهارًا لعذر صاحب الجريدة الفاضل الذي أساء به
الناس الظن , وحسبوا أنه من النواصب الذين يبغضون الإمام عليه الرضوان
والسلام حتى هَمّ بعض أهل الغيرة من أشراف البلاد الشامية أن يكتب لمولانا
السلطان الأعظم يطلب صدور إرادته للحكومة المصرية بمعاقبة صاحب جريدة
الأفكار.
***
كتاب البهائية وكتاب المسيح أم محمد
كتاب (المسيح أم محمد) لم يلتفت إليه مسلم ولا يخشى أن يتنصر به مسلم.
وقد قامت عليه قيامة الجرائد الإسلامية , وهوّلوا فيه الأمر حتى أوهم كلام
المتطرفين منهم أنه ربما تحدث فتنة في البلاد حتى صدر أمر الحكومة بجمعه وبقي
يباع إلى الآن في المكتبة الإنكليزية ولا يرغب فيه المسلمون ولا يبتاعونه لاعتقادهم
أنه كفر يجب أن لا ينظر فيه , وأما كتاب البهائية فقد نشر بينهم بأسماء إسلامية ,
ومبدوء ببسم الله الرحمن الرحيم , ومكتوب عليه أن ناشره من أهل الأزهر وأنه
يباع فيه , وقرظته جريدة إسلامية كانت أشد الجرائد لهجة في انتقاد كتاب النصارى
ولذلك راج فيهم وانتشر بينهم واعتقد مبتاعوه أنه من كتب الإسلام المسلمة عند
علمائه الأعلام. ولما رأى بعض من اشتراه كلام المنار فيه؛ أحرقه وطفق يحرق
الأرّم من سعى في بيعه ونشره , وحاول جمعه من الأيدي فلم يتيسر , ومن أين
يصل المنار إلى كل من اشترى ذلك الكتاب الضار.
فنقترح الآن على فضيلة شيخ الجامع الأزهر أن يطلب من الحكومة جمعه،
وأن يعلن في الجرائد أن هذا الكتاب فيه ما يخالف الدين ويؤيد البدعة. وأن
المجاور الأزهري الذي نشر الكتاب باسمه قد تبرأ منه على أنه عوقب على
تصديه لنشره، وأنه لا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشتري هذا الكتاب
ولا أن يقرأه إلا أن يكون عالمًا راسخًا في عقائد الإسلام ينظر فيه بقصد الرد عليه
والتنفير عنه , وأنه ينبغي لمن ابتلي بشرائه من غير أهل العلم أن يرده إن أمكن
وإلا فليحرقه. ولا ضرورة لذكر اسمه في الإعلان بل يكتفي بوصفه.
__________(3/617)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقاومة التهتك والدجل والبدع
كتبنا نبذةً للجزء الماضي تحت هذا العنوان ضاق عنها الجزء كما ضاق عن
نشر منشور سعادة محافظ مصر للأقسام، فاضطررنا إلى تشذيبها والحذف منها
حتى لم يبق منها إلا كلمات في التهتك مع أن المنشور شدد النكير على سائر البدع
والدجل كما ترى وها نحن أولاء نثبت المنشور وهو بنصه:
منشور محافظة مصر للأقسام
تحرر في 23 اكتوبر سنة 1900 نمرة 115
الموضوع
(أولاًّ) : ترك العمل بمقتضى نصوص قانون العقوبات ولائحة المتشردين
فيما يختص بلاعبي الميسر بوسائل متنوعة , والدجالين المحترفين بالتكهن وإظهار
البخت في الطرق والأماكن العمومية مع إتيانهم أعمالاً مضرة بالنظام العام.
(ثانيًا) : عدم اتباع القرار الصادر من المحافظة بتاريخ 12 مارس ستة
1894 المصدق عليه من الجمعية العمومية بمحكمة الاستئناف المختلطة وغض
النظر عن استعمال الدّراجات (عربات الرجل) في الطرق العمومية بدون منبه أو
فانوس أو السير على الترتوارات ونحو ذلك.
(ثالثًا) : التغاضي عن العمل بلائحة نظارة الأشغال المنوّه عنها بمنشور
النظارة نمرة 1 الصادر في 26 يناير سنة 1899 وترك الأهالي الذين يمرون
بمواشيهم بجوار شريط السكة الحديد أو يعبرونه بدون رادع يردعهم , مع العلم بما
يترتب على من يخالف ذلك من العقاب القانوني المنصوص عنه في تلك اللائحة.
(رابعًا) : عدم اتخاذ الوسائل الفعالة لمنع انتشار العاهرات بأنحاء المدينة
بحالة خارجة عن حد الاحتشام , وإغراء المارين على الفسق والفجور.
(خامسًا) : ترك الذين يقرءون القرآن الشريف في الطرق والشوارع
والمواضع القريبة من القاذورات مع العلم بما جاء به منشور المحافظة رقم 29
فبراير سنة 900 , وغض الطرف عن الذين يدقون الزار مع علمكم بمخالفتهم
للقانون وما ينتج هذا الفعل الشنيع من المضار , وإهمال الشحاذين حتى صاروا
يجولون في شوارع المدينة بدون رادع ولا رقيب.
بكل أسف قد تبين للنظارة الملحوظات المسطرة بعاليه , وأن اللوائح
والمنشورات المنوه عنها بها قد تركت في زوايا الإهمال , وما كانت تجدي نفعًا ,
ولطالما استنهضنا همتكم وألقينا التنبيهات المشددة عليكم تباعًا , ونددت بعض
الجرائد بكم وما كان ذلك يغني فتيلاً. وها نحن نعيد الكرة مرة أخرى ونستلفتكم إلى
ما سبق إرشادكم عنه مرارًا بقصد اتخاذ الطرق الفعالة منعًا من حصول هذه الأمور
الخطيرة وأمثالها وإعارتها قلوبًا واعية محافظة على النظام العام , وحسمًا من
تكرار المكاتبات بدون جدوى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محافظ مصر ...
(المنار)
هذا هو المنشور , وكل ما فيه إصلاح يحمد عليه صاحب السعادة محافظ
العاصمة الهمام , ويجب أن يحتذى مثاله في كل البلاد , وقد ظهر ولله الحمد الأثر
الصالح في التنفيذ لأننا علمنا أن سعادته في مراقبة مستمرة على المنفذين , فقلما
نرى أثرًا للدجالين الذين كانت الطرقات مضرسة بهم نساءً ورجالاً. البعض للخط
على الرمل , والبعض لطرق الحصا والودع وحب الفول , والبعض لورق اللعب
تستخرج النساء به البخت وتعرف المغيبات.
أما المتسوّلون والشحاذون فلا يزالون على كثرتهم. وأما لاعبو الميسر فإنهم
يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله لأنهم لا يعرفونه , ولكن منهم الفقراء
باعة الفستق ونحوه يقامرون جهرًا في الطرقات والملاهي (القهاوي) , ويمكن
للشرطة اختبارهم بأن يعهدوا إلى بعض الناس بمقامرتهم وهم ينظرون عن بعد ,
ومتى أخذ بعضهم بجريرته؛ ينزجر الآخرون في الغالب إذ لا يربي الأشرار شيء
كالعقوبة بالفعل كما جرى في أمر المتهتكات , وما دامت عناية سعادة المحافظ
منصرفة إلى (الطرق الفعالة) فإننا نرجو أن تتلاشى المجاهرة بهذه الخبائث
بالتدريج , بل لا يصعب على الهمة الصادقة تربية المستخفين كأَهْل الزار والقمار.
عندما يطلع على نصّ المنشور الذين تهوّروا في التعريض بسعادة المحافظ
يعلمون أن كلامهم ساقط من نفسه , ويبقى على المحافظ عندهم ذنب واحد وهو أنه
اهتم فعلاً بمنع تهتك النساء وتبرجهن تبرج الجاهلية الأولى بناءً على أن العناية
التي سموها شدة في التنفيذ إنما منشؤها غيرة سعادته , ولكن ليس لهم عليه حجة
رسمية في ذلك.
وقد فات هذا المنشور شيء واحد وهو الاستلفات إلى ملاهي الحشيش فإن
بالقرب من إدارة هذه المجلة ملهى منها يشق علينا الجلوس في غُرَفه التي من جهة
الشارع ليلاً لقبح رائحة دخان الحشيش الذي يتصاعد منها , فعسى أن توجه العناية
إلى ذلك أيضًا والله الموفق.
* * *
كتاب البهائية وكتاب المسيح أم محمد
كتاب المسيح أم محمد لم يلتفت إليه مسلم ولا يخشى أن يتنصر به مسلم وقد
قامت عليه قيامة الجرائد الإسلامية وهولوا فيه الأمر حتى أوهم كلام المتطرفين منهم
أنه ربما تحدث فتنة في البلاد حتى صدر أمر الحكومة بجمعه وبقي يباع إلى الآن في
المكتبة الإنكليزية، ولا يرغب فيه المسلمون ولا يبتاعونه؛ لاعتقادهم أنه كفر يجب
أن لا ينظر فيه. وأما كتاب البهائية فقد نشر بينهم بأسماء إسلامية ومبدوء ببسم الله
الرحمن الرحيم ومكتوب عليه أن ناشره من أهل الأزهر وأنه يباع فيه، وقرظته
جريدة إسلامية كانت أشد الجرائد لهجة في انتقاد كتاب النصارى ولذلك راج فيهم
وانتشر بينهم واعتقد مبتاعوه أنه من كتب الإسلام المسلمة عند علمائه الأعلام , ولما
رأى بعض من اشتراه كلام المنار فيه أحرقه وطفق يحرق الأرّم من سعى في بيعه
ونشره وحاول جمعه من الأيدى فلم يتيسر ومن أين يصل المنار إلى كل من اشترى
ذلك الكتاب الضار.
فنقترح الآن على فضيلة شيخ الجامع الأزهر أن يطلب من الحكومة جمعه وأن
يعلن في الجرائد أن هذا الكتاب فيه ما يخالف الدين ويؤيد البدعة، وأن المجاور
الأزهري الذي نشر الكتاب باسمه قد تبرأ منه على أنه عوقب على تصديه لنشره وأنه
لا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشتري هذا الكتاب ولا أن يقرأه إلا أن
يكون عالمًا راسخًا في عقائد الإسلام ينظر فيه بقصد الرد عليه والتنفير عنه وأنه
ينبغي لمن ابتلي بشرائه من غير أهل العلم أن يرده إن أمكن وإلا فليحرقه. ولا
ضرورة لذكر اسمه في الإعلان بل يكتفي بوصفه.
__________(3/621)
غرة شعبان - 1318هـ
23 نوفمبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام وأهله
يقظة بعض المسلمين. حال الباقين. تفصيل ما ظهر للمستيقظين. من شقي
ومن سعد. الاتباع والإبداع. الفرق بين الماضي والحاضر. آيات تحصيل العلوم.
إنما أوقع المسلمين في الشقاء رؤساء الدين والدنيا. طريق الخلاص. اتباع سنة
الراشدين في الدين وسنة الأمم العزيزة في الدنيا. استعداد المسلمين لهذا الإصلاح.
الاجتهاد والتقليد. الحاجة إلى وضع حدود للإصلاح. من تصدى لذلك. استلفات
للعلماء.
نحمد الله أن ليل الإسلام قد عسعس، وصبحه قد تنفس، وطفق أهله يهبّون
من رقادهم، ويمسحون النوم عن أعينهم، ولما يستيقظ إلا نفر قليل. وأما الباقون
فمنهم من هو مستغرق في سباته يغط مما ثقل عليه النوم، وما أطال نومه هذا إلا
تلك الأوزار والأوقار التي حملها من البدع والتقاليد، والأثقال والأحمال التي ناءت
به من الظلم الشديد، ومنهم من وقع عليه الكابوس فمنعه من القيام. فلا هو في
يقظة ولا في منام.
ماذا فعل المستيقظون؟ رأوا الناس في طور جديد، {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 105) ، فالسعيد قد غلب وساد، وحكم العباد، واستولى على ثروة البلاد،
وأما الشقي فهوالذي رضي وخضع، وذل وخنع، وقلّدَ واتبع.
رأوا أن هذا الزمن زمن الاجتهاد والاختراع، والإحكام والإبداع، وتغيير
الأوضاع، إلا ما لا يمكن تغييره، ولا يتأتى تحويله من شريعة محكمة توافق كل
زمان، وسنة كونية لا يحكم عليها الأوان.
رأوا مدنية هذا العصر مخالفة لمدنية العصور الخوالي، رأوا أنه لا يمكنهم
أن يكونوا فيه على عادات أجدادهم الأوالي، رأوا أن السيوف الهندية، والرماح
الخطية، لا تقابل المدفع والبندقية، والنسافات الديناميتية، رأوا أن العزة والقوة
بالعلم والمال. وأن العلوم بالأعمال، لا بالقيل والقال، وكثرة الجدال، وإنما آية
العلوم اللغوية بلاغة القلم واللسان، والقدرة على إيصال المعاني للأذهان، والتأثير
بإصابة مواقع الوجدان، وآية العلوم الكونية الثروة الواسعة للأمة، والسلطة النافذة
للدولة، فالثروة بالزراعة والتجارة والصناعة، والسلطة بالحكومة الشوروية،
والعدل في الرعية، وآية العلوم الدينية تطهير العقول من الاعتقاد الباطل، وتزكية
النفوس من الرذائل، والوقوف على جادة الاعتدال، في كل عمل من الأعمال.
رأوا كل هذا وما يتبعه ويحتف به , وعلموا بالمشاهدة والعيان أن جميع
المنتسبين للإسلام أمسوا وراء الأمم كلها. وعلموا أن هذا التأخر لم يكن ناشئًا عن
تقصير الطبقات الدنيا مع الأمة لأن زمامها لم يكن في أيديهم. وإنما الشقاء والبلاء
كله من قادة العقول والأفكار، والمتصرفين في النفوس والأرواح، وهم العلماء
والمرشدون. ومن قواد الجيوش والعساكر، والمتصرفين في الدنانير والدراهم،
وهم الملوك والحاكمون، وعلموا كما يعلم كل من نظر في هاتين المقدمتين
البديهيتَيْنِ - تأخُّرِ الأمة الإسلامية وكون السبب في ذلك الرؤساء - أن صلاح هذه
الأمة وانتياشها من هذا الشقاء لا يمكن إلا بمعرفة الفساد الذي طرأ على أولئك
الرؤساء منذ تولدت جراثيم الخلل والضعف في الأمة إلى اليوم , وتلافي ذلك
والتَّفصي من عُقُله والانطلاق من قيوده والسير في طريق جديد يوافق ما عليه سلف
الأمة أيام الخلفاء الراشدين من حيث الدين , وما عليه الأمم العزيزة القوية من حيث
الدنيا , ورمي كل ما عدا هذا وراء الظهر وعدم الالتفات إليه وإن لوّن بلون الدين
وأوهم أنه منه , وعدم الالتفات إلى قائليه ومروّجيه وإن كان لهم من الألقاب
الضخمة ما يختلب عقول العوام، ويوهم الغافل أن مخالفتهم جناية على الإسلام.
هذه النتيجة موضع اتفاق بين الباحثين في إصلاح المسلمين ولكنهم في العلم
بها على درجات. وجميع المتعلمين على الطريقة الجديدة والواقفين على أحوال
البشر مستعدون لموافقتهم في رأيهم فكلما صدرت من واحد منهم كلمة؛ تنتشر بين
هذا الصنف من الناس بسرعة غريبة حتى كأن القائل ألقاها إليهم بالأسلاك
الكهربائية وكأن كل رجل من ناقلها سارية من سواري السلك البرقي. ولا يعبئون
بإنكار الغافلين عن أحوال العصر والجاهلين بعلم الاجتماع من أصحاب العمائم إذا
أنكروها لأنهم يعتقدون أنهم ما أنكروها إلا لأنها تمس أرزاقهم التي يتناولونها باسم
الدين وتخفض شيئًا من جاههم العلمي العتيق الذي لا يطابق ما كان عليه الصدر
الأول من سلامة اللغة وبساطة الدين وسهولته ولا ما يقتضيه العصر من تعزيز
الإسلام وإعلاء كلمته. أرأيت ما قاله أحمد بك شوقي شاعر الحضرة الخديوية
الفخيمة في نصيحته لولي عهد الحكومة المصرية بالأَخذ بالدين:
وخذه من الكتاب وما يليه ... ولا تأخذه من شفتي فقيه
نشر هذا القول في المؤيد أعم الجرائد العربية انتشارًا وطبع في ديوان
(الشوقيات) وترنم به الناس وقبلوه حتى لم نسمع أن أحدًا أنكره لا قولاً ولا كتابة مع
أنه كلام شبيه بالرسمي , والمخاطب به من أعظم أمراء الإسلام بل سمعنا من قال:
إن هذا خير ما قاله شوقي وأنفعه.
هذا ما عليه السواد الأعظم من متعلمي المسلمين وخواصهم في العرب والعجم
إما حصولاً وإما قبولاً ومن عداهم من الخواص كالمتعلمين على الطريقة العتيقة
يحتجون عليهم بأن هذا يقتضي فتح باب الاجتهاد وهو مسدود من مئين من السنين
ونحو هذا الكلام الذي لا يقبله أولئك لأنهم يرونه تقليدًا للمقلدين. والمقلد لا يصح
تقليده كما أن المجتهد لا يقلد مجتهدًا بالإجماع. يقولون: من سدّ باب الاجتهاد وهل
هو مجتهد أم مقلد؟ فإن كان مجتهدًا فمن هو؟ وكيف اجتهد هو ومنع غيره من
الاجتهاد؟ وإن كان مقلدًا فكيف تعدى على مقام الاجتهاد وتحكم في أهله؟ وكيف
يصح لنا أن نأخذ بقوله هذا وهو مقلد لا قول له؟ وللآخرين أجوبة سنشرحها في
مقالة أخرى ونبين رأينا فيها ونقول الآن بالإجمال: لا يريد عاقل من الباحثين في
الإصلاح الإسلامي أن يكون الناس في الدين فوضى يذهب كل واحد إلى ما يزين
له هواه ولا يريد أحد منهم أيضًا أن يبقى المسلمون مقيدين بكتب الخلف من الفقهاء
وغيرهم لأن هذا رضى بما عليه المسلمون لا سعي بإصلاح حالهم.
لا بد من وضع قواعد وحدود للإصلاح الديني تتبع عملاً , وقد كتبنا شيئًا من
هذا في السنة الأولى للمنار وسنعيد الكلام فيه. ونقلنا في الجزء الماضي عن
حضرة زميلنا محبوب عالم أفندي أن إخواننا مسلمي الهند سبقونا إلى هذا الإصلاح
بالعمل , ولم نزل نحن في طور الفكر وقد كتب بعض الفضلاء منا نبذًا متفرقة لم
يتحرر بها الموضوع تحريرًا. وقد نشرت رفيقتنا (ثمرات الفنون) الشهية عشر
قواعد لأحد العلماء الأفاضل سدّد فيها وقارب ولكنه لم يجلّ الغيابة ويبصّر الغاية ,
فانبرى له بعض أهل الجمود والخمود يردّ عليه ويحتم على المسلمين أن لا يخرجوا
أرجلهم من المقاطر التي وضعها العلماء المتأخرون على ما فيها من الخلاف
والنزاع والإبهام والإيهام والخرافات والضلالات , ولقد عجب كل من رأيناه من
الفضلاء الذين اطلعوا على الثمرات كيف نشرت هذه الجريدة النافعة هذا الردّ
المعسلط الذي لا نظام له.
ونحتم القول باستلفات علمائنا الكرام إلى العناية بالوقوف على أفكار الأمة
وأمانيها لا سيما المتعلمين والكتاب , وأن يجعلوا من أوقات فراغهم الطويلة جزءًا
للبحث فيما عليه الأمة ونسبتها لسائر الأمم والمذاكرة في ذلك ليبصروا مجرى
الأفكار أين يتوجه فيكونوا على بصيرة من محافظتهم على طريقتهم التي هم عليها
أو من السعي في السير على طريقة أخرى تكون أنفع لهم وللأمة وبالله التوفيق.
__________(3/626)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب أسرار البلاغة
قلنا: إن هذا الكتاب يعطي صاحبه البلاغة علمًا وعملاً , وإننا نذكر مثالاً
لتأييد قولنا جزءًا من الفصل الذي وضعه الإمام عبد القاهر في مواقع التمثيل وتأثيره
في النفوس لأن التمثيل أعظم أركان البلاغة، ولا نكاد نجد في كتب البيان التي
نتداولها شيئًا مما كتب هذا الإمام كأن مواقع التمثيل ومواضعه والبحث في تأثيره
في النفوس وهزّه للوجدان ليس من هذا العلم , وما هو إلا روح العلم الذي لولاه لم
يكن للناس من حاجة به. وقد توسعنا في أمثلة ضروب التمثيل في الهامش زيادة
على ما ذكره المصنف؛ لأن الأمثلة هي أمثل طرق التعليم , ولا نكاد نجد في
الكتب التي نتدارسها إلا مثل: (ما لي أراك تقدم رجلاً، وتؤخر أخرى) فلنعرض
عما أمات العلم من الكتب ولنرجع إلى كتب الأئمة الذين قرنوا العلم بالعمل وإمامهم
في فنون البلاغة الشيخ عبد القاهر قال رحمه الله تعالى:
فصل
في مواقع التمثيل وتأثيره
واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو
برزت هي باختصار في معرضه [1] ، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته
كساها أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبَّ من نارها، وضاعف قواها
في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة
وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا.
فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف،
وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح،
وأقضى له بغُرّ المواهب والمنائح، وأَسْيَر على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه
القلوب وأجدر [2] .
وإن كان ذمًّا كان مسُّهُ أوجع، وميسه ألذع، ووقعه أشد، وحدُّه أحدّ [3] .
وإن حجاجًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر [4] .
وإن كان افتخارًا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألدّ [5] .
وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ،
ولغرب الغضب أفل، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث [6] .
وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه
والزجر، وأجدر بأن يجلّي الغيابة، ويبصّر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي
الغليل [7] .
وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه [8] ،
وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تقل الحاجة فيه إلى التعريف، ويستغنى في
الوقوف عليه عن التوقيف، فانظر إلى نحو قول البحتري:
دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جدّ قريب [9]
وفكر في حالك وحال المعنى معك وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني
ولم تتدبر نصرته إياه، وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه، ويؤدي إليه
ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بُعد ما
بين حالتيك، وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك، وتحببه إليك، ونبلهُ في
نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لى بالصدق فيما قلت، والحق فيما ادعيت [10] .
وكذلك فتعهد الفرق بين أن تقول: فلان يكدّ نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم
منها شيئًا وتسكت. وبين أن تتلو الآية [11] وتنشد قول الشاعر:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيّدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر
والفصل بين أن تقول: (أرى قومًا لهم بهاء ومنظر، وليس هناك مخبر،
بل في الأخلاق دقة، وفي الكرم ضعف وقلة) وتقطع الكلام. وبين أن تتبعه نحو
قول الحكيم: (أما البيت فحسن وأما الساكن فرديء) .
وقول ابن لنكك:
في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر
وقول ابن الرومي:
فغدا كالخلاف يورق للعيـ ... ـن ويأبى الإثمار كل الإباء
وقول الآخر:
فإن طُرَّة راقتك فانظر فربما ... أمَرَّ مذاق العود والعودُ أخضر
وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر، ويفتر ثغره
ويبسم، وكيف تشتار الأرْي من مذاقته [12] ، كما ترى الحسن في شارته وأنشد قول
ابن لنكك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجًا ... رأيت صورته من أقبح الصور
وتبين المعنى واعرف مقداره ثم أنشد البيت بعده:
وهَبْك كالشمس في حسن أَلَمْ تَرَنَا ... نفرُّ منها إذا مالت إلى الضرر
وانظر كيف يزيد شرفه عندك وهكذا فتأمل بيت أبي تمام [13] :
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
مقطوعًا عن البيت الذي يليه، والتمثيل الذي يؤديه، واستقص في تعرّف
قيمته على وضوح معناه، وحسن مزيته [14] ثم أتبعه إياه:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وانظر هل نشر المعنى تمام حلته، وأظهر المكنون من حسنه وزينته،
وعطَّرك بعرف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من مطلع سعوده،
واستكمل فضله في النفس ونُبله، واستحق التقديم كله، إلا بالبيت الأخير، وما فيه
من التمثيل والتصوير.
وكذلك فرق في بيت المتنبي:
ومن يك ذا فم مُرّ مريض ... يجد مُرًّا به الماء الزلالا
لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع
يتصور المعنى بغير صورته ويخيل إليه في الصواب أنه خطأ. كنت تجد هذه
الروعة؟ وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه [15] وقمعه وردعه والتهجين له
والكشف عن نقصه ما بلغ التمثيل في البيت وينتهي إلى حيث انتهى [16] .
وإن أردت اعتبار ذلك في الفن الذي هو أكرم وأشرف فقابل بين أن تقول:
إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره. وتقتصر عليه , وبين أن
تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه)
ويروى: (مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) . وكذا فوازن بين قولك
للرجل وأنت تعظه: (إنك لا تجزى على السيئة حسنة فلا تغر نفسك) وتمسك.
وبين أن تقول في أثره: (إنك لا تجني من الشوك العنب، وإنما تحصد ما تزرع)
وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول: لا تكلم الجاهل بما لا يعرفه ونحوه. وبين أن
تقول: (لا تنثر الدرّ قدَّام الخنازير) . أو (لا تجعل الدر في أفواه الكلاب) وتنشد
نحو قول الشافعي رحمه الله: (أأنثر درًّا بين سارحة الغنم) , وكذا بين أن تقول:
(الدنيا لا تدوم ولا تبقى) . وبين أن تقول: (هي ظل زائل , وعارية تسترد،
ووديعة تسترجع) وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من في الدنيا ضيف،
وما في يديه عارية، والضيف مرتحل والعارية مؤداة) وتنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بدّ يوماً أن ترد الودائع
وقول الآخر:
إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار
__________
(1) يقول: إن للتمثيل مظهرين , ويتجلى للأنظار في ثوبين: أحدهما: أن يجيء المعنى ابتداء في صورة التمثيل - وهو النادر القليل ولكنه على قلته في كلام البلغاء كثير في القرآن العزيز فمنه قوله تعالى: [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً] (البقرة: 17) الآية وقوله بعدها: [أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ] (البقرة: 19) الآية وقوله عز وجل: [وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً] (البقرة: 171) وقوله تبارك وتعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً] (العنكبوت: 41) الآية وقوله تبارك اسمه: [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ] (الرعد: 17) الآية وغير ذلك.
(وثانيهما) : ما يتأثر المعاني ويجيء في أعقابها لإيضاحها وتقريرها في النفوس , وإيداعها التأثير المخصوص وهو الذي جعله المصنف أولاً ومثاله من القرآن قوله تعالى: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 29) فقد أورده بعدما قرر أمر التوحيد من أول السورة وشنع على الذين اتخذوا من دونه أولياء يقربونهم إليه زلفى , ونصب الدلائل على نفي هذا الشرك وذكر الجزاء ومثاله من الشعر ما يجيء في ضروب الكلام الآتية.
(2) مثاله من القرآن قوله تعالى في وصف الصحابة: [وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ] (الفتح: 29) ومن الشعر قولنا في المقصورة:
وإن قسا وديده لان وإن ... ... يكدر عليه راق وردًا وصفا
لم يخش منه الطيش في شرته ... والحلم والإغضاء منه يرتجى
تواضع عن شمم ورفعة ... ... ورقة من غير عجز وونى
ألم تر الهواء في رقته ... ... ولطفه لديه شدة القوى
يزاحم النجوم في أفلاكها ... عُلًى وكم يمسي يصافح الثرى
والمراد بمزاحمة النجوم المبالغة في الارتفاع ومنها قول بعضهم:
فتًى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا.
(3) مثاله من القرآن قوله تعالى في الذي أوتي الآيات فانسلخ منها: [فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث] (الأعراف: 176) وقوله تعالى: [إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] (يس: 8-9) ومن الشعر قوله:
رأيتكم تبدون للحرب عدّة ... ولا يمنع الأسلاب منكم مقاتل
فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه ... ولا يمنع الخراف ما هو حامل
ومنه المثال:
ولو لبس الحمار ثياب خزٍّ ... لقال الناس: يا لك من حمار.
(4) مثاله من القرآن ما تقدم من الآيات في بيان طريقتي التمثيل، ومن الشعر قول أبي العتاهية:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
وقول غيره:
ونارٍ لو نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد
ومن الأمثال (إن العوان لا تعلِّم الخمرة) و (كدابغة وقد حلم الأديم) , أي: أفسده الحلم وهو دود صغير.
(5) ما يجيء في القرآن من بيان عظمة الله تعالى وكماله لا يسمى افتخارًا , ومثال هذا الضرب من الكلام العزيز وإن اختلفت التسمية قوله: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] (الزمر: 67) ومثاله من الشعر قول عبد المطلب:
لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل.
(6) الاعتذار لا يوجد في القرآن إلا حكاية عن أصحاب المعاذير الكاذبة ليكون الاعتذار حجة عليهم، فهو اعتذار في الظاهر واحتجاج في المعنى وأثره ما ذكر في الاحتجاج دون ما ذكر هنا كقوله تعالى: [وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ] (فصلت: 5) وأما أمثلته في الشعر فكثيرة منها:
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب ... فالطير يرقص مذبوحًا من الألم
ومنها في الاعتذار عن صدود الحبيب:
بأبي حبيبًا زارني في غفلة ... فبدا الوشاة له فولى معرضا
فكأنني وكأنه ... وكأنهم ... أمل ونيل حال بينهما القضا
ومن الاعتذار بذكر التمثيل ما وقع لأبي تمام في قصيدة يمدح بها أحمد بن المعتصم قيل: إنه كان ينشده إياها فبلغ قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
فلامه بعض الناس قائلاً قد شبهت ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم بأجلاف العرب (أو ما هذا معناه) فأطرق هنيهة , وقال ولم يكونا من القصيدة:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
ومما يصلح للاعتذار من الأمثال قولهم: (كل امرئ في بيته صبي) يعتذر به عن الدعابة والاسترسال في المباسطة في الخلوة وقولهم: (لو ترك القطا ليلاً لنام) .
(7) مثاله من القرآن الكريم قوله تعالى في وصف نعيم الدنيا: [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً] (الحديد: 20) الكفار: الزراع لأنهم يكفرون الحب أى يسترونه بالتراب وقوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ] (الزمر: 21) الآية وقوله تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب: 72) وقوله عز وجل: [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الحشر: 21) وقوله سبحانه: [فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ] (المدثر: 49-51) وقوله: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ] (البقرة: 261) وقوله في الآية الأخرى: [كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ] (البقرة: 265) وقوله: في تمثيل من يحبط عمله الصالح بالإيذاء أو الرياء: [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ] (البقرة: 266) وفي معناه قوله تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ] (إبراهيم: 18)
ومن الأمثال حديث: (إن المنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى) وحديث: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) ومن الشعر قول ابن النبيه:
الناس للموت كخيل الطراد ... فالسابق السابق منها الجواد
وقول غيره:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض.
(8) يشير المصنف إلى سائر مناحي الكلام كالغزل والرثاء والوصف والشكوى وهي مع الذي ذكر وشائج متشابكة وأمشاج متمازجة وأعمها الوصف فهو الطويل الذيل المتدفق السيل ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] (فصلت: 11) ومثله قوله تعالى: [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي] (هود: 44) الآية ومن ذلك الرؤى فإنما تمثيل للواقع الذي تعبر به كالرؤى المذكورة في سورة يوسف عليه السلام ومنها قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا] (إبراهيم: 24-25) وقوله بعدها:
[وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ] (إبراهيم: 26) وهكذا الحق يثبت والباطل يزهق ومثاله من الشعر قول ابن النبيه:
والليل تجرى الدراري في مجرته ... كالروض تطفو على نهر أزاهره
وقول بعضهم في وصف الكاس يعلوها الحباب والساقي: (أو هذا من تعدد التشبيه) :
وكأنها وكأن حامل ... كاسها ... إذ قام يجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء
وفي وصف الأمير والجيش:
يهز الجيش حولك جانبيه ... ... كما نفضت جناحيها العقاب
ومن قولنا في المقصورة في وصف الوفاق:
لم نختلف في مبتدا مسألة ... إلا وكان للوفاق المنتهى
كمن على المحيط من دائرة ... أنَّى تفارقا فبعدُ ملتقى
ومنها في وصف روضة:
والشمس تبدو من خلال دوحها آونة تَخْفَى وطورًا تجتلى
كغادة وضاحة قد أتلعت من خلل السجوف ترنو والكوى
تلقي على الروض نثير عسجد ... فتحسب الروض عروسًا تجتلى
ومنها:
والباسقات رفعت أكفها ... تستنزل الغيث وتطلب الندى
ثبت في العلوم الطبيعية أن الأشجار تكون سببًا لنزول المطر فمثلت هنا بحال المستسقين يجاب دعاؤهم وقول ابن دريد في وصف النوق:
يرسبن في بحر الدجى وفي الضحى ... يطفون في الآل إذا الآل طفا
ومن أحسن ما يدخل في باب الغراميات قول المجنون:
وقد كنت أعلو حبّ ليلى فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا
وقوله:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
وقول بعضهم:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وَقْع السهام ونزعهن أليم
وقول الآخر:
إني وإياك كالصادي رأى نهلاً ... ودونه هوة يخشى بها التلفا
رأى بعينيه ماء عز مورده وليس يملك دون الماء منصرفا
ومن الأمثال التي تدخل من باب الشكوى: (ليس لها راع ولكن حَلََبَة) حلبة بالتحريك جمع حالب والمثل يضرب للأمة المظلومة و (لو كويت على داء لم أكره) يضرب لمن يعاقب على غير ذنب.
(وسال بهم السيل وجاش بنا البحر) .
(9) أي بالغ الغاية في القرب.
(10) مثال المدح ويتلو مثال الذم.
(11) يريد قوله تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً] (الجمعة: 5) .
(12) الأري: العسل، واشتياره: اجتناؤه.
(13) شروع في مثال الحجاج.
(14) وفي نسخة بزّته.
(15) وقم الرجل قهره وأذله ورده عن حاجته أقبح الرد والوقذ الضرب ويسند للكلام تجوزًا.
(16) شروع في أمثلة الوعظ ولم يمثل للافتخار والاعتذار.(3/639)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
الشعر العصري
من نظم نابغة العصر في النظم والنثر حافظ أفندي إبراهيم في المقابلة بين
(دولة السيف والرمح ودولة المدفع) .
يا دولة القواضب الصقال ... وصولة الذوابل الطوال
كم شدت بين الأعصر الخوالي ... ممالكًا عزيزة المنال
قامت بحد الأبيض الفصَّال ... وسن ذاك الأسمر العسال
راحت بها الأيام والليالي ... وأصبحت كالبرديّ البالي
وخلفتها دولة الجلال ... مملكة المدفع ذات الخال
قامت بحول النار والزلزال ... فأرهبت أفئدة الأبطال
أرهبها مزعزع الجبال ... ومفزع الليوث في الدحال
وقاطع الآجال والآمال ... وخاطف الأرواح من أميال
يثور كالبركان في النزال ... فيتبع الأهوال بالأهوال
ويرسل النار على التوالي ... ويبعث الحديد للصلصال
فيحطم الهام ولا يبالي ... ما كوكب الرجم هوى من عال
فمر كالفكر سرى بالبال ... على عنيد مارد محتال
مسترق للسمع في ضلال ... من عالم التسبيح والإهلال
أمضى وأنكى منه في القتال ... إذا سرت قنبلة الوبال
من فمه المحشوّ بالنكال ... ينذرهم في ساحة المجال
بالرعد والبرق وبالآجال ... ولم يكن كذلك الختال
يحز في الهام وفي الأوصال ... صامت قول ناطق الفعال
رأيته كالقوم في المثال ... مالوا عن القول إلى الأعمال
... ... ... فامتلكوا ناصية المعالي
وله هذه المقاطيع تعريبًا بلا تصرف عن جان جاك روسو:
يا أيها الحب امتزج بالحشى ... فإن في الحب حياة النفوس
واسلُلْ حياةً من يمين الردى ... أوشك يدعوها ظلام الرموس
***
خلقت لي نفسًا فأرصدتها ... للحزن والبلوى وهذا الشقاء
فامنن بنفس لم يشبها الأسى ... لعلها تعرف طعم الهناء
***
تمثلي إن شئت في منظر ... يا جوليا أنكر فيه الغرام
أو فابعثي قلبًا إلى أضلع ... راح به الوجد وأودى السقام
***
غضي جفون السحر أو فارحمي ... متيمًا يخشى نزال الجنون
ولا تصولي بالقوام الذي ... تميس فيه يا مناي المنون
إني لأدري منك معنى الهوى ... يا جوليا والناس لا يعرفون
__________(3/648)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
(21) من هيلانة إلى أراسم في دسمبر سنة - 185
كتبت للحكومة ثلاث مرات أستطلعها شيئًا من أخبارك فصدر في كل واحدة
منها أمر رسمي بإجابتي أنك بخير وذلك تهكم وسخرية.
أنا لا أطيق هذا السكوت الذي طال أمده بيننا ثمانية عشر شهرًا فإنه قد
أمضَّني وأحرج صدري , ولكني أراني قد اهتديت إلى حيلة لإيصال مكاتيبي إليك
سنرى حتمًا ما يكون من نجاحها , وسواء عليّ أفلحت فيها أم لم أفلح فإني لن آلو
جهدًا في ملازمة جدران سجنك ومحاصرتها على النحو الذي أعرفه.
انقضت كل هذه المدة ولا سلوان لي عن همي إلا في (أميل) . أوَّهْ إني
لأبذل أنفس ما عندي لمن يأتيني بك الساعة لتراه يغدو ويروح في البستان مكشوف
الساقين إلى نصفهما عاري الذراعين مرسل الشعر فإن شهر دسمبر هنا كما أخبرتك
فيما سبق غاية في اعتدال الإقليم ويقول صديقك الدكتور: إن شدّ أعضاء الأطفال
وتقويتها بتعريضها لهواء الجو يعود بالفائدة عليهم في أبدانهم. ثم اعلم أن (أميل)
غلام متعب فإنه كَلِفٌ بلمس كل شيء يقع بصره عليه فهل ينبغي منعه من ذلك؟
وليتك ترى ما يحدثه كل يوم في البستان من ضروب الإتلاف التي كان قوبيدون في
بداية الأمر يتوجع منها ويشكو. فلما أعيته الحيل انتهى بالضحك عجزًا ويأسًا.
ذلك لأن ولدك له في الاشتغال طرق شتى هو مخصوص بها فهو يقلب الأرض
بمقلب صغير من الخشب ويغرس الأشجار (أستغفر الله) بل أظنه يبني أيضًا
ولعلك تقول: إنه يبني له قصورًا في أسبانيا [1] كلا وإنما هو يقيم بالحصى منارات
وكهوفًا ثم إن الذي يضحكني ويسليني منه أنه يسمي تلك الألاعيب شغلا وهي
تسمية تشير إلى أن الأطفال مجبولون على تعظيم أعمالهم في أنفسهم وتقديرها بأكثر
من قيمتها. على أن ما يصدر عن سذاجتهم وسلامة طباعهم من أنواع هذا التقدير
ليس بجملته باطلا بطلانًا تامًّا فإن ثمرة البلوط مثلا إذا سقطت على الأرض من يد
صبي صغير لم يحسن القبض عليها لا ينافي ذلك أن تصير يومًا ما شجرة عظيمة
(فكيف إذا هو غرسها في الأرض) اهـ.
(22) من هيلانة إلى أراسم في 12 يناير سنة - 185
قد اتخذ (أميل) له خليلةً، ولهذه المناسبة ينبغي أن أقص عليك حادثة وقعت
عندنا فارتعنا جميعًا بسببها ارتياعًا عظيمًا.. ذلك أن قوبيدون لما كان قليل الثقة
بشرطة الحكومات المتمدنة في حفظ الأنفس والأموال لما هو لاصق بذهنه من أفكار
متوحشي أفريقيا قد عثر من حيث لا أدري على كلبة ضخمة طويلة إلا أنها من أشد
أنواع الكلاب توحشًا فسميناها (الدبة) وهو اسم ينطبق عليها كمال الانطباق في
شعرها الأسود وقوتها العظيمة وغرائزها العدائية , وقد وضعت منذ شهرين خمسة
جراء تماثلها إلا أنها من حين ولادتها بدت عليها سمات الدمامة والبشاعة فأسكناها
في بيت الدجاج وكان من وراء وضعها أن زاد توحشها الفطري بسبب حنوها الأمي
كما يحصل ذلك غالبًا من الحيوانات الضارية فقد تخيلت أن تخفي جراءها في
سقيفة كانت تحرس مداخلها وتمنعها بنفسها لظنها بلا ريب أننا نأخذها منها , وقد
كنت أمرت بأن لا يدخل (أميل) بيت الدجاج بعد سكناها فيه؛ لأني كنت أخشى
عليه مقابلة هذا الحارس الجهنمي ولكن كيف السبيل وهو مع كونه لم يتجاوز
التهادي في مشيته يتسلل ويتدخل في كل مكان. ففي عصر ذات يوم افتقدناه في
البيت والبستان فلم نجده فأرسلت قوبيدون في طلبه ثم رأينا بيت الدجاج مفتوحًا فلم
يبق في نفوسنا ريب في أنه دخله , ولكن ضاع بحثنا فيه سدى فأوَّل خاطر مرَّ بفكر
الزنجي هو أن الكلبة افترسته وهو خاطر فيه ريح التوحش حقًّا.
لم تكن دهشة قوبيدون بأقل من ذعره إذ دخل السقيفة، مخاطرًا بنفسه فرأى
(أميل) وقد رقد على الدّبة وأخذ بأذنيها الطويلتين المتدليتين يجذبهما إليه , وأكثر
من هذا خروجًا عن مألوف العادة وأبعد منه عن معهودها أن ذلك الحيوان كان
يتسامح له فيما كان يفعله به ويحتمل منه لجاجته في محكه بشهامة وعلو نفس لا
يتصف بهما إلا الآخذون بطريقة زينون [2] فلم يلبث قوبيدون أنْ فهم وهو مندهش
أن الكلبة قد اتخذت (أميل) خليلاً وأكرمت وفادته فقبلته بين أولادها لكنها لم تمنح
الزنجي شيئًا من هذه المراعاة لأنها لما رأته أنشأت تهرّ وتكشر عن أنيابها زجرًا له
فرأى من الحزم الفرار من أمامها فخرج داعيًا (أميل) إلى اللحاق به فتبعه جذلاً
مبتهجًا غافلاً عما كان قد اقتحمه من الخطر , من هذا الحين انعقد التعارف بين
(أميل) وبين الدبة وكأَنها توهمته جروًا صغيرًا لم تحسن أمه لحسه فكانت من أجل
ذلك تعتبره ممن تجب لهم حمايتها , وتلحس ما انكشف من أعضائه بلسانها
العريض , وعلى كل حال قد ظهر لي أنها حميدة المقاصد فلم يبق لي من
موجب للخوف منها على ولدي.
لم يقتصر (أميل) على مصادقة الدبة بل إن له أصدقاء غيرها فجميع سكان
بيت الدجاج معارفه , ومن العجيب أن تراهم في غاية الائتلاف والوئام ولست أخفي
عنك أني مهتمة بهذا العالم البيتي الصغير ومشتغلة بشأنه كل الاشتغال.
يوجد على القرب من بستاننا بركة فيها وشل (ماء قليل) يزداد بما ينصب
فيها من ماء المطر المتحلب من سطوح المنازل فخطر ببالنا أن نضع فيه بطًّا
وتعهد بذلك قوبيدون فاشترى ثلاث بطات من كفر مجاور لنا وأصبحنا نتسلى برؤية
ريشها الأخضر الجميل الممثل لفلذ المعادن , ونبتهج بما تبديه لنا من ضروب
المرح واللعب في الماء وبما تسمعنا من البطبطة وترينا من الائتلاف الصحيح الذي
جمعتها وشائجه , ولكن الزنجي لم يلبث أن لاحظ عدم التناسب والتلاؤم في تآلف
هذه الجماعة فإنه وجد فيها ذكرين لأنثى واحدة مع أن البط على ما يظهر يميل إلى
تعدد الزوجات على نحو ما عليه الترك بتزوج السلطان الواحد كثيرًا من النساء ,
فمن أجل مداواة هذه العلة التي جزم قوبيدون بمخالفتها لمقتضى الفطرة [3] قد
اشترى زوجًا آخر من هذا النوع بعد أن تأكد هذه الدفعة من أنوثته وتحراها كما
ينبغي وبذلك أصلح الخطأ الأول بعض الإصلاح وبقي أمر ما كان يخطر لنا على
بال قبل شراء هذا الزوج فانعكس فيه تقديرنا وخاب حسباننا وهو استقبال البطات
القديمة لهذا الزوج , فإنها بمجرد أن رأته ولته ظهورها مصرة على مجانبته , وكلما
حاول القرب منها نهرته وأوسعته نفرًا فأردنا التوسط في الصلح بين الفريقين فلم
يجد ذلك نفعًا لأننا ما كدنا نفارقهما حتى عقدت الثلاث القديمات مجلسًا للشورى
بينها بمعزل عن الحديثتين وأنشأن يبطبطن طويلاً ولم أعرف ما دار بينهن من
التداول والتشاور بنصه لعدم معرفتي لسانهن ولكن معناه كان ظاهرًا فكأنهن كن يقلن:
(إننا قد سكنا هذا المكان قبلهما ولنا الحق من أجل ذلك أن نعتبرهما دخيلتين
فأجدر بنا أن نُشْوَى على السفود شيًّا أو أن نجهز باللفت طعامًا للآكلين من أن
نقبلهما في جماعتنا فنحن بط وأما هما فليستا إلا من السقط) .
لما لاحظ قوبيدون أن أحد أفراد هذه الجماعة وهو ذكر أبيض ذو قنزعة
طويلة كان أشدها لجاجة في النفور صمم على ذبحه على نصب الوفاق فداء للاتحاد
والتآلف فلما فعل؛ أنتج هذا القربان مع أسفي عليه أثره المطلوب , فأخذ كل فريق
يتدرج في التقرب من الآخر حتى انتهيا بأن صارا جماعة واحدة وإن كانت البطة
القديمة هي السلطانة الحظية. فما رأيك في ذلك الشمم والترفع في هذا الجنس
الحيواني؟ أترى أن الميل للسؤدد والشرف هو الأصل الثابت في الفطرة , وأن
المساواة بالمعنى الذي نفهمه منها أمر عارض عليها اكتسبه الإنسان بالعدل.
لو شئت لقصصت عليك أيضًا وقائع كثيرة في عوائد الحمام وأخلاقه هي
بالنسبة إلي جديدة. فقد تبيّن لي من النظر في معيشته في برجنا أن أموره لا تجري
تمامًا على ما تصفه الكتب من جعله في الجملة مثالاً للصداقة والوفاء بعقد الزوجية
لأني رأيت ذكرًا عتيقًا متزوجًا بحمامة فتيّة كان حظه معها حظ أولئك الشيوخ
الضعاف الذين تمثل الروايات الهزلية خضوعهم وتسليمهم قيادهم لمن يخالطونهم.
فتركته في يوم من الأيام واستبدلت به ذكرًا فتيًّا متصلفًا استمالها منه بلا ريب رقيق
كلامه وجميل تحيته وسلامه , وكأني بك تقول: أي الزوجين كان مخطئًا آلزوجة
لأنها طائشة وسريعة التحول والانقلاب , أم الزوج لأنه أغفلها ولم يراعها كما
ينبغي؟ فأجيبك أنه ينبغي الحذر من المجازفة في الأحكام على غير علم ومن أجل
ذلك فأنا قبل كل شيء أمسك عن الحكم , وأقول: إن الزوج المخون على كل حال
قد تلقى سقوط حرمته بعلو نفس يدل على الشجاعة الحقيقية فكان إذا اتفقت مقابلته
لزوجته الخائنة في طريق يمر بجوارها بدون أن يظهر عليه أنه رآها وأن يبدي
أقل أمارة على حنقه عليها إلا أنه لم يكن ألبتة على هذا التسامح مع من اغتصبها
منه لأنهما عندما كانا يتقابلان يتبادلان النقر الأليم الوقع كما كان منيلاس وباريس
يتبادلان الطعن والضرب في حومة الوغى [4] , ولما قضت الحمامة المطلقة زمن
العشق وحان وقت الحضانة على البيض لم تحسنها لأنها ورفيقها كانا من فرط
انشغالهما بدواعي الحب بحيث لم يكن ليتيسر لهما أن يكثرا من التفكر في فروض
البيت , ولم تعزب هذه الحالة عن ذهن الزوج المهجور فإننا رأيناه ذات يوم
يخرجهما من إحدى المحاضن حيث كانا مشتغلين بتربية أفراخهما , وهما - والحق
يقال - ما كانا يأتيان بها على وجهها وكأنه كان يقول لهما وقت إخراجهما: (أفًّا
عليكما أنتما لا تعرفان من التربية شيئًا فخلّيا مكانكما) فلم يكن إلا أن خلياه بعد
مقاومة ضعيفة , وجعل هو يحسن العناية بشأن أدعيائه , وسمة الظفر والفخر بادية
على وجهه. فنبهت فكري هذه السيرة الشريفة إلى أمر من المحتمل أن يكون هو
سبب شقائه بزوجته وهو أن صفة الأبوّة فيه غالبة على صفة الزوجية.
(أميل) كما لا يعزب عن فكرك يجهل كل هذه الاعتبارات المختلفة التي
لاحظتها في معيشة الطيور , وبودّي أنه لا يفهم كل ما فيها , وإنما الذي أعجب به
هو ما استقر بينه وبين معظم سكان بيت الدجاج من الألفة والارتباط. هذا وإننا
كثيرًا ما تساءلنا عن السبب في أن تأنيس الحيوانات كاد ينقطع من عهد أن وجدت
المجتمعات المدنية. لا شك في أن علته ذلك ليست هي إعواز الحيوانات المتوحشة
فإن في الصحراء كثيرًا من أنواعها النافعة التي يكون من فائدتنا الظفر بها لو زال
المانع من ذلك , فإذا كان الأمر كما أقول؛ ألا يكون السبب في وشك انقطاع
التأنيس هو كون الإنسان في عصرنا الحاضر لم يبق فيه من سذاجة الفطرة ما يكفي
لثقة الحيوانات المتوحشة به , وأن صفات الطفولية هي اللازمة لذلك؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مثل يضربه الفرنساويون لمن يتشبث بالأماني الوهمية ويغتر بالخيالات الكاذبة.
(2) هوالمسمى بزينون السيتيومي نسبة إلى سيتيوم مدينة في جزيزة قبرس ولد في سنة 338 ومات في سنة 560 قبل المسيح وهو صاحب مذهب مخصوص في الفلسفة أساسه الصبر على المكاره.
(3) يدل هذا القول على جهل الأوربيين بحال المسلمين وقول قوبيدون إن التعدد مخالف للفطرة إنما سرى إليه من سيدته وأمثالها , فغفل عن الفطرة في قومه وفي البط , وإنما هي فطرة أراد الإنسان المدني تهذيبها.
(4) منيلاس هو ابن أتريه وأخو آغا ممنون صار ملكًا لإسبارطة بتزوجه بهيلانة بنت بندار وباريس هو ابن بريام وعقيبه وكان السبب في انتشاب حرب ترواده الشهيرة بخطفه هيلانه زوجة منيلاس ملك اسبارطه وقتل في هذه الحرب أشيل وقتل هو أيضًا بسيف بيروس.(3/650)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قسم الأحاديث الموضوعة
العلم والعلماء
من الجلي الظاهر أن وضاع الحديث من صنف العلماء وقد وضعوا أحاديث
كثيرة لتعظيم شأن أنفسهم؛ ليعظمهم الناس ويعتقدون تفوقهم واستعلاءهم , ثم
استنبطوا فروعًا فقهية في هذا التعظيم لأنفسهم انتهى بهم الغلوّ فيها إلى أن حكموا
بالكفر على من يهين أحدًا من العلماء حتى قال بعضهم: من قال لبابوج العالم:
بويبيج؛ كفر , أي من صغر الحذاء المضاف إليه في اللفظ؛ يكفر حتى كأنه أشرك
بالله واعتقد أن لأحد غيره سلطة غيبية يضرّ بها وينفع ويتصرف في الأكوان فيما
وراء الأسباب , بل كثيرًا ما يتساهل المتساهلون في جزئيات من مثل هذا
ويروّجونها بالتأويل , ولا يتساهلون فيما يمس أشخاصهم أو منافعهم ولا أعني بهذه
المقدمة أن إهانة العلماء جائزة , حاشا لله أن أجيز إهانة من دونهم , ولكنني أنكر
على الغالين الذين جعلوا دين الله آلة لمنافعهم حتى كذبوا على رسوله صلى الله عليه
وسلم مع علمهم جميعًا بأنه قال: (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)
دون من أظهروا الحق.
فمن الأحاديث الموضوعة في العلم والعلماء حديث: (إذا كان يوم القيامة
وضعت منابر من ذهب , عليها قباب من فضة , مفضضة بالدر والياقوت والزمرد
مكللة بالديباج والسندس والإستبرق , ثم ينادي منادي الرحمن: أين من حمل إلى
أمة محمد صلى الله عليه وسلم علمًا يحمله إليهم يريد به وجه الله؟ اجلسوا عليها ثم
ادخلوا الجنة) . رواه الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا وفي إسناده كذاب.
ومنها حديث: (خير الناس المعلمون , كلما خلق (مثلث اللام ومعناه بلي)
جدَّدوه , أعطوهم ولا تستأجروهم فتخرجوهم , فإن المعلم إذا قال للصبي: بسم الله
الرحمن الرحيم فقال الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم؛ كتب الله براءةً للصبي
وبراءةً لوالديه وبراءةً للمعلم من النار) . وهو موضوع.
ومنها حديث: (اللهم اغفر للمعلمين , وأطل أعمارهم , وبارك لهم في كسبهم
) رواه الخطيب عن ابن عباس وهو موضوع.
ومنها حديث: (اللهم اغفر للمعلمين لا يذهب القرآن وأعز العلماء لا يذهب
الدين) . وهو موضوع.
ومنها حديث: (من علم عبدًا آية من الكتاب فهو له عبد) قال الحافظ ابن
تيمية: هو موضوع , وقد رواه الطبراني.
ومنها حديث: (الأنبياء قادة , والفقهاء سادة , ومجالستهم زيادة) قال الصغاني
: موضوع , ونقول: إنه زاد في مدح الفقهاء على مدح الأنبياء , وظاهره أن
الواضع يريد المشتغلين بعلم الأحكام الظاهرة , ولم يكن يسمى هذا فقهًا في
العصر الأول كما أنه لم يكن يومئذ في المسلمين صنف يلقبون بالفقهاء.
ومنها حديث: (سأل النبي صلى الله عليه وسلم سائل عن علم الباطن: ما هو
؟ فقال: سألت جبريل عنه , فقال: يقول الله: هو بيني وبين أحبائي وأوليائي
وأصفيائي أودعه في قلوبهم , لا يطلع عليه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل) . ذكره
في الذيل عن حذيفة مرفوعا. قال الحافظ ابن حجر: هو موضوع. ونقول: إن فيه من
الضلالة أن الله يهب لهؤلاء الأولياء المعارف التي لا يهبها للأنبياء والملائكة على
الإطلاق , والظاهر أن واضعه من مشايخ الطريق الدجالين.
ومنها حديث: (من خرج في طلب العلم؛ حفته الملائكة بأجنحتها ,
وصلت عليه الطير في السماء والحيتان في البحار , ونزل في السماء منازل سبعين
من الشهداء) . قالوا: في إسناده كذاب.
ومنها حديث: (من تعلم بابًا من العلم ليعلمه الناس ابتغاء وجه الله؛ أعطاه الله
أجر سبعين نبيًّا) . قالوا: في إسناده متروك. ونقول: قاتل الله أمثال هذا الواضع
, فإنهم لم يزاحموا إلا الأنبياء عليهم السلام.
ومنها حديث: (إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء) إلخ ما هو مذكور في
الإحياء وغيره , قال الحافظ الذهبي في الميزان: إنه موضوع.
ومنها حديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة , وطلب العلم يومًا خير
من عبادة ثلاثة أشهر) . في إسناده كذاب , وكأنه أراد أن يعتذر عن عدم عبادته.
ومنها حديث: (إذا جلس المتعلم بين يدي المعلم؛ فتح الله عليه سبعين بابًا
من الرحمة) إلخ , وهو موضوع.
ومنها حديث: (من زار العلماء فقد زارني، ومن صافح العلماء فقد صافحني،
ومن جالس العلماء فكأنما جالسني، ومن جالسني في الدنيا أجلس إليّ يوم القيامة) في
إسناده كذاب.
ومنها حديث: (الشيخ في قومه كالنبي في أمته) . جزم ابن حجر وغيره
بأنه موضوع. ومنها الحديث المشهور الذي يعلقه كثير من العلماء فوق رؤوسهم
بالخط العريض تنبيهًا للناس على علو مقامهم وهو: (علماء أمتي كأنبياء بني
إسرائيل) . قال ابن بحر الزركشي: لا أصل له.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/657)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسيح الهند
ما أكثر الذين استخدموا اعتقاد الناس بأن رجلاً يسمي (المهدي) أو يلقب
بالمهدي يظهر لإعادة الإسلام إلى شبابه , فظهروا يدعي كل واحد منهم أنه ذلك
المنتظر , وكان ما كان من ظهورهم من الفتن والبلاء على الإسلام. لأنهم لم
يحسنوا ذلك الاستخدام. بأن يقوموا به على طريقة يقبلها الخاص والعام. ويسيروا
به في سنن الكون التي لا يقوى على معارضتها الحكام. وأما استخدام الاعتقاد
بظهور المسيح فلم يفتن به المسلمون هذه الفتنة. ولم يمتحنوا فيه من قبل بمثل هذه
المحنة. وذلك لأسباب منها: أن ظهوره لا بد وأن يكون مسبوقًا عندهم بظهور
المهدي , حتى قام في هذا العصر من ادعى هذه الدعوى كما تقدم في مقالة (الدعوة
حياة الأديان) , وذكرنا ثَمَّ أن رجلاً آخر في الهند يدعي أنه (المهدي) , وألمعنا
إلى بعض ما بلغنا من خبره ومن عنايته بالدعوة إلى الإسلام , ثم أرسل إلينا صديق
فاضل بعض كتبه من الهند فإذا به يدعي فيه أنه هو (المسيح عيسى ابن مريم)
بعينه وأن أتباعه ينشرون دعوته في الحجاز وغيرها. ويذكر أن بعض أتباعه ألف
رسالة في تأييد دعوته سماها: (إيقاظ الناس) وهو الشيخ محمد سعيد النشار
الحمداني الطرابلسي الشامي , وإننا نعرف هذا الشاب ونعرف أنه كان ذهب هائمًا
إلى الهند قبل الدخول في سنة العسكرية , ثم شاع عنه في طرابلس أنه تشيع أو
دخل في مذهب جديد.
نذكر نبذًا من رسالة هذا المسيح المعروف في الهند بالقادياني المسماة (حمامة
البشرى إلى أهل مكة وصلحاء أمّ القرى) قال يخاطب تلميذًا له فيها بعد كلام يذكر
فيه بعض خواص أتباعه ويشكو من عمال السلطان الذين يفتشون الكتب في الطريق
ويقرءونها (ويحرقونها بأدنى ظن) لأنهم تركوه في حيرة لا يهتدي إلى طريقة
أمينة يرسل فيها السائل إلى مكة؛ قال ما نصه:
(وإن بعض علماء هذه الديار لم يزالوا يبتغون بي الغوائل , ويريدون بي
السوء , ويتربصون عليّ الدوائر , ويتطلبون لي العثرات , ويكتبون فتاوى
التفكيرات. وكنت أقول في نفسي: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .
فألهمني ربي مبشرًا بفضل من عنده وقال: إنك من المنصورين , وقال: يا أحمد
بارك الله فيك {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) , {لِتُنذِرَ
قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} (يس: 6) , {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} (الأنعام:
55) , وقال: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} (هود: 35) , {هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) , {لاَ
مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (الأنعام: 34) {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95)
وقال: أنت على بينة من ربك رحمة من عنده , وما أنت بفضله من مجانين.
ويخوفونك من دونه إنك بأعيننا سميتك المتوكل يحمدك الله من عرشه. {وَلَن
تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى} (البقرة: 120) , {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} (الأنفال: 30) فأدخل سبحانه في لفظ اليهود معشر علماء
الإسلام الذين تشابه الأمر عليهم كاليهود , وتشابهت القلوب والعادات والجذبات
والكلمات من نوع المكائد والبهتانات والافتراءات , وإن تلك العلماء قد أثبتوا هذا
التشابه على النظارة بأقوالهم وأعمالهم وانصرافهم واعتسافهم وفرارهم من ديانة
الإسلام ووصية خير الأنام صلى الله عليه وسلم , وكونهم من المسرفين العادين) .
(وكنت أظن بعد هذه التسمية أن (المسيح الموعود) خارج , وما كنت
أظن أنه أنا حتى ظهر السر المخفي الذي أخفاه الله عن كثير من عباده ابتلاءً من
عنده وسماني ربي (عيسى ابن مريم) في إلهام من عنده وقال: {يَا عِيسَى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: 55) إنا جعلناك عيسى ابن مريم , وأنت
مني بمنزلة لا يعلمها الخلق , وأنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي , وإنك اليوم لدينا
مكين أمين) .
(فهذا هو الدعوى الذي يجادلني قومي فيه ويحسبونني من المرتدّين ,
وتكلموا جهارًا , وما رجوا لملهم الحق وقارًا , وقالوا: إنه كافر كذاب دجال
وكادوا يقتلونني لولا خوف سيف الحكام , وحثّوا كل صغير وكبير على إيذائي
وايذاء أصدقائي , والله يعلم تطاول المعتدين. وبعزة الله وجلاله إني مؤمن مسلم ,
وأومن بالله وكتبه ورسله وملائكته والبعث بعد الموت , وبأن رسولنا محمد
المصطفى صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وخاتم النبيين. وإن هؤلاء قد افتروا
عليّ وقالوا: إن هذا الرجل يدعي أنه نبي ويقول في شأن عيسى ابن مريم كلمات
الاستخفاف ويقول: إنه توفي ودفن في أرض الشام , ولا يؤمن بمعجزاته , ولا
يؤمن بأنه خالق الطيور ومحيي الأموات وعالم الغيب وحي قائم إلى الآن في السماء ,
ولا يؤمن بأن الله قد خصّه وأمه بالمعصومية التامة من مس الشيطان ومن كل ما
هو من لوازم اللمس , ولا يقرّ بأنهما مخصوصان متفردان في العصمة المذكورة لا
شريك لهما فيها أحد من الرسل والنبيين. ويقولون: إن هذا الرجل لا يؤمن
بالملائكة ونزولهم وصعودهم , ويحسب الشمس والقمر والنجوم أجسام الملائكة ,
ولا يعتقد بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ومنتهى المرسلين لا نبي
بعده. فهذه كلها مفتريات وتحريفات , سبحان ربي , ما تكلمت مثل هذا , إن هو
إلا كذب , والله يعلم أنهم من الدجالين , وقد سقطوا علي , وما أحاطوا معارف
أقوالي , وما فهموا حقائق مقالي , وما بلغوا معشار ما قلنا , وخانوا وحرفوا البيان ,
ونحتوا البهتان , ووقعوا في حيص بيص , وظنوا ظن السوء , فويل لتلك الظانين.
والله يعلم أني ما قلت إلا ما قال الله , ولم أقل قط كلمة يخالفه , وما مسها قلمي في
عمري) اهـ بحروفه.
ثم أنشأ يرد عليهم تفصيلاً وسنذكر بعض ذلك فيما سيأتي إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/660)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإفراط والتفريط
السهم الذي يتجاوز الغرض كالسهم الذي لا يصل إليه فيصيبه كلاهما طائش
ومن أهل الأديان من انتهى به الغلوّ في الدين إلى الخروج منه , ولذلك قال الله
تعالى: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) , ومن هؤلاء الغالين من عظم
رؤساء الدين من الأنبياء والصلحاء تعظيم إطراء , فزعم أنهم عند الله كالحجاب
والوزراء عند السلاطين يتوسلون إليه بإيذاء من يغاضبهم أو يناصبهم أو يقصر في
تعظيمهم , وبنفع من يتقرب منهم , ويتخذهم شفعاء أو نصراء , مع أن الثابت في
أصول العقائد أن أفعال الله - تعالى - إنما تكون بإرادته , وإرادته إنما تكون
بحسب علمه , وأن علمه قديم متعلق في الأزل بكل ما يفعله الله تعالى في الأبد.
وهذا الغلو إنما يكون على أشده في العامة الجهلاء الأميين لا سيما أهل البادية
ومن في معناهم من أهل القرى الصغيرة. ثم إن هؤلاء إنما أخذوا الدين على
ظواهره بالتقليد , فإذا اقتضت الأحوال أن يقلدوا بترك الدين؛ يغلون في التقليد
الثاني كما غلوا في الأول , فيكونون في كل حال من الأحوال أشد الناس كفرًا
وضلالاً , وهذا هو معنى قوله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا
حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (التوبة: 97) وأما أهل المدن والحضارة
والمتعلمون فإنهم أرق طباعًا , وأقرب إلى الاعتدال , وأبعد عن الغلو في ضلالهم
وهداهم.
يفتتن أهل الثروة في الأرياف بتقليد المترفين من المفتونين بالمدنية الغربية
من أهل المدن فيسبقونهم في كل مفسدة. ومن ذلك أن أحد هؤلاء الأغنياء حاول
إلزام ولده بأن لا يصوم في رمضان فلم يطعه , فجاء يشكوه إلى ناظر مدرسته في
مصر ويستعين به على إلزامه بالإفطار متوهمًا أنه يعظم بذلك في عين الناظر ,
ولكنه صغر وتضاءل وأهين. ومنهم من جلس أمام (بار) في رمضان , وطلب
قدحًا من الكنياك , فسأله مسيحي في البار عن دينه , فقال: مسلم فأهانه وشتمه
وطرده , وقلما تجد متعلمًا حضريًّا بهذا التهتك.
__________(3/663)
16 شعبان - 1318هـ
7 ديسمبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورات بين المصلح والمقلد
المحاورة الأولى
في حالة المسلمين العامة
السلف والخلف في الإسلام. أيّ سيرتيهما تختار للإصلاح. الإنسان المدني
والإنسان المنطقي. شقاء المسلمين في دنياهم. الدليل على ذلك. الثقة بكتب تقويم
البلدان والجرائد. رواية الكافر. التواتر. قرب قيام الساعة وفساد الزمان. الريب
فيما يروونه في أشراط الساعة. سبب مرض الأمة ترك الشريعة. استحالة إصلاح
المسلمين إلا بالمهدي. متى تقوم الساعة. إنكار المهدي. الإصلاح بإبطال
المذاهب.
نقص على القراء حديث محاورات بين شاب من مريدي الإصلاح الذاهبين
إلى وجوب خروج الأمة مما هي فيه من التقاليد الحادثة في الملة , والرجوع بالدين
إلى بساطته الأولى حيث كان يتناوله رعاء الشاء من كثب بالاقتصار على هدي
الكتاب وصحيح السنة وسيرة السلف , وحذف كل ما زاده الخلف من الغلو في الدين
وتكثير التكاليف , وإبرازها بصور تعتاص على الأذهان , وبين شيخ من
المحافظين على التقاليد التي عليها الأمة من قرون طويلة المعتقدين أن الأخذ
بالكتاب والسنة مخصوص بالمجتهدين , وأنهم قد انقرضوا، ويستحيل وجود
غيرهم , وأن كتب المتأخرين من أموات العلماء خير من كتب المتقدمين وأجمع،
وأفيد في التحصيل وأنفع، ونكتفي بما يرد في المحاورات من بحث الاجتهاد
والتقليد عن الكتابة فيه استقلالاً فنقول:
اجتمع أحد الشيوخ المتفقهين، وأكابر الوعَّاظ المدرسين، بشاب من الناشئة
الجديدة الذين جمعوا بين العلوم العصرية والدينية كما جمعوا بين المال والجاه
بجدهم وكدهم , ولولا ذلك لم يتنازل الشيخ لمحاورته.
نظر الشيخ إلى الشاب فألفاه ضجرًا متبرمًا تلوح عليه مخايل الحزن كأنما
أصابته مصيبة في نفسه أو أهله وماله , فقال له (الشيخ) : ما بالك [1] فإنني أراك
على غير ما أعهد , وإنني أعجب أن أرى مثلك يهتم لشيء من الأشياء , فالحمد لله
خير كثير وصحة جيدة , والله قد وفقك للبر والتقوى والصدقات والمبرات , والكريم
لا يضام.
(المصلح) : مهلاً أيُّها الأستاذ فإنني إنسان ومعنى (إنسان) خلق اجتماعي
يشعر بأنه عضو من أمة يسعد بسعادتها ويشقى بشقائها , وإنني أرى أمتي أشقى
الأمم وأتعسها , فكيف أكون أنا سعيدًا ناعم البال في أمة هذا شأنها من الخذلان
والنكال.
(المقلد) : ما هذا الذي أسمع منك؟ فإنك قد أخطأت خطأً منطقيًّا , وخطأً
دينيًا. أما الخطأ المنطقي فإنك قد عرفت الإنسان بغير تعريفه الذي أجمع عليه
علماء المنطق وهو: (حيوان ناطق) , وأما الخطأ الديني فهو أنك اغتبت
المسلمين جميعًا , وجعلت أمة النبي صلى الله عليه وسلم شقية , بل جعلتها أشقى
الأمم وخالفت الكلمة المجمع عليها بين المسلمين وهي: (أمة محمد على خير) .
(المصلح) : إننا لسنا بصدد تحديد ماهيات الأنواع والأجناس فنذكر تعريف
المنطقيِّ للإنسان وإنما نريد الكلام في موضوع اجتماعي فإذا لم يصح ما قلته في
الإنسان عند المنطقي فهو صحيح عند أهل علم الاجتماع , وأما الغيبة فلا تظهر هنا؛
لأنني لم أحتقر إنسانًا بخصوصه. وأما كون الأمة الإسلامية أشقى الأمم في هذا
العصر فلا يشك فيه إلا من لا يعرف من أحوال العالم شيئًا , ولا يعرف بلاد
المسلمين ومن يحكمهم , وما هم عليه من الجهل والفقر والذل , وكيف يسامون سوء
العذاب في جميع الأقطار وهم وادعون ساكنون. غارُّون آمنون. كأنهم عجماوات
لا يعقلون , أو جمادات لا يحسون ولا يشعرون فهل من العقل وصحة الفكر التي
استفدناها من المنطق أن نكذب المحسوسات اليقينية لكلمات كاذبة سميناها
إجماعية؟
(المقلد) : أنت لم تشاهد أحوال جميع المسلمين فيصح حكمك عليهم , ولم
لا يجوز أن يكون في البلاد البعيدة عنا من له منهم دولة قوية وعز وسؤدد؟ . هذا
إذا سلمنا لك جدلاً أن المسلمين في هذه البلاد أقل من غيرهم من أهل الملل الأخرى
علمًا ومالاً. وكيف نسلم بهذا وإننا نرى المسلمين أغنى من القبط , وأما العلم فليس
عند غير المسلمين علم مطلقًا.
(المصلح) : إن علم تقويم البلدان والجرائد السيارة قد مثلت لنا ما لم
نشاهده من بلاد المسلمين وغيرها حتى كأننا نشاهده دائمًا لا يغيب عنا منه شيء ,
ولكنني أراك غير محيط بعلم ما بين يديك من حال ثروة المسلمين هنا وعلمهم , ولا
أناقشك فيه الآن , فإن غرضي أن تقتنع بأن المسلمين في شقاء؛ ليكون هذا أساسًا
وقاعدة للكلام بيني وبينك.
(المقلد) : كيف أقتنع بكلام لا حجة لك عليه إلا كتب تقويم البلدان وكلام
الجرائد , وكلاهما كذب لا يوثق به فإن مصادره كلها كفرية , والكافر لا تقبل
روايته.
(المصلح) : إن الكافر لا تقبل روايته في موضوع كفره وما يتعلق بإثباته
وإبطال ما يخالفه. وأما ما ليس له غرض في الكذب فيه , وإنما غرضه ومنفعته
في الصدق به؛ لأن فيه فائدته وفائدة قومه فإن العقل يقضي بأنه يتحرى الصدق
فيه لئلا يغش نفسه وأمته , ومن هذا النحو: علم تقويم البلدان , وثم وجه آخر
يجلي لنا تحريهم الصدق في مثل هذا الموضوع , وهو أن كل كاتب يعلم أن
كتابته تنتشر بالطبع , ويطلع عليها أهل العلم بموضوعها فيسلقونه بألسنة الانتقاد
الحداد , والأقوى من هذين الوجهين أن معظم المسائل التي أستند عليها في حكمي
على المسلمين من المتواتر الذي يفيد اليقين , فإن معظم مسائل علم تقويم البلدان
وأخبار الجرائد الشهيرة متفق عليه بين الشركات البرقية والمراسلات البريدية في
جميع بلاد المدنية , ولا يخفاكم أن التواتر لا يشترط في رواته الدين , وإنما آيته
حصول العلم اليقيني به لمن بلغه كما في كتب الأصول.
(المقلد) : يشترط في التواتر أن يؤمن تواطؤ الرواة على الكذب , ولا
يتحقق هذا الشرط إلا إذا لم يكن لأولئك الرواة غرض وهوًى فيما يروونه , فإذا
تحقق هذا الشرط بالنسبة لمسائل علم تقويم البلدان على ما قلت فلا يتحقق في أخبار
الجرائد البرقية ولا البريدية؛ لأن لرواتها ومذيعيها أهواءً وأغراضًا سياسية.
(المصلح) : أنا لا أقول: إن كل ما يروونه حق وصدق , ولا أبرئُهم من
الهوى والغرض مطلقًا , ولكن لا تتوهم أن أهواءهم تخفي الحقيقة , وإنما قصاراها
أن تتصرف فيها بعض التصرف. كالاعتذار والتلطف. كما نرى في برقيات
شركة روتر الإنكليزية في هذه الحرب الترانسفالية , فقد كانت تخبرنا بجميع
انكسارات قومها الإنكليز , وهذا هو الشأن في الاعتماد على رواة شركة واحدة فيما
تتهم فيه فما بالك بما ترويه رواة شركات مختلفة الأهواء والأغراض , وتتفق فيه
مع رواة البُرُد الذين يراسلون الجرائد المختلفة المشارب والمذاهب؟
(المقلد) : إنني بصرف النظر عن صدق الجرائد وغيرها أسلم لك بأن
المسلمين في حال سيئة على الجملة , فإن هذا آخر الزمان , وكل هذه الأحوال من
علامات قيام الساعة , وهي كائنة لابد منها , وستزداد يومًا بعد يوم حتى لا يبقى إلا
لكع بن لكع , وعليهم تقوم الساعة , فلا ينبغي أن نهتم بهذا الأمر ولا أن نحزن له
لأنه مصداق إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ويستحيل زواله.
(المصلح) : هذا بعض ما أريد مذاكرتك به , فإن عندي ريبًا في كثير مما
يروونه في الكتب من علامات الساعة , وما سيكون قبلها أقوى من ريبك في أخبار
الجرائد وعلم تقويم البلدان , ولا يسعنا في هذا المجلس أن نبحث في متونها
وأسانيدها , ونبين ما يقبل منها وما لا يقبل , ولكننا لا ننكر على أي حال أن لكل
شيء وقعنا فيه سببًا , وأن لكل مرض علاجًا , فإن الهيئة الاجتماعية كالهيئة
الشخصية تمرض بسبب , وما دام فيها رمق من الحياة لا يأس من شفائها , فما
رأيك أيها الأستاذ في أسباب مرض الأمة الإسلامية العام وما رأيك في علاجه؟
(المقلد) : أما سببه فهو ترك الشريعة عملاً وحكمًا , وليس له علاج؛ لأن
قيام الساعة قريب , وهي لا تقوم إلا على شرار الخلق كما قلت لك إلا أن الملوك
والحكام الذين أفسدوا الدين والدنيا إذا حكموا بالشريعة , وألزموا الناس بالعمل بها؛
يندمل جرحهم وينشعب صدعهم ويصلح شأنهم , وما هم بفاعلين حتى يظهر المهدي
وقد بشرني بعض الصالحين بأنه يظهر في هذا القرن , والساعة تقوم في أول
القرن الخامس عشر واستدل على هذا بقوله تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187) فإن حروف بغتة تبلغ بحساب الجمل 1407 وبحديث: (إن
أساءت أمتي فلها يوم , وإن أحسنت فلها يوم ونصف) واليوم عند الله ألف سنة ,
وقد أحسنت ولله الحمد , ولذلك جاوزت الألف , وفي أواخر النصف تقوم الساعة.
(المصلح) : أما قولك: إن ترك العمل بالدين والحكم بالشريعة هو سبب
ضعف المسلمين فهو مسلّم عندي , ولكن لي فيه فهمًا ربما كان غير ما تريد. وأما
قولك: إن رجوعهم إلى الشريعة لا يكون إلا بقوة المهدي المنتظر فأنا لا أعتقد
بصحة هذا بل أقول: إن هذا الاعتقاد من أدوأ أدواء المسلمين وأقتل أمراضهم ,
وإن كان فيما قالوه عنه كلمة إصلاح وهي إبطال المذاهب وجعل المسلمين على
طريقة واحدة كما هو أصل الإسلام , وأغرب من هذا استدلالك على قيام الساعة
بالآية فإن هذه الطريقة من الاستدلال ليست معروفة في الأصول , وكذلك الحديث
لا أراه يصح , ثم انصرفا على أن يعودا للكلام بعد أيام.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تتحامى في مراجعة القول ما اعتيد من ألقاب التعظيم كحضرتكم وفضيلتكم.(3/665)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(الدرس السابع عشر)
] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [[*]
(47) السمع والبصر
قام البرهان على أن واجب الوجود الذي استمد منه وجوده كل موجود، لا
يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وأنه يعلم خائنة الأعين
وما تخفي الصدور. ومن المعلومات ما يسمّى العلم به سمعًا , ومنها ما يسمى العلم
به بصرًا , ولهذا سمّى الله نفسه سميعًا بصيرًا كما سمى نفسه عالمًا وعلامًا وعليمًا ,
ولا يمكن أن يكتنه العقل كيفية علم الله تعالى بالمسموعات والمبصرات كما
يستحيل أن يكتنه كيفية علمه بسائر الأشياء إليه. بل الإنسان عاجز عن اكتناه علمه
وسمعه وبصره وعقله , وهي أقرب الأشياء وبها يدرك ويحكم , ويقول الفلاسفة:
إنه عاجز عن اكتناه أيّ شيء من الأشياء كما قررناه من قبل. ولكن الذين ساروا
في تقرير العقائد على طريق قياس الغائب على الشاهد , والقديم على الحادث قالوا
في صفتي السمع والبصر نحو ما تقدم في صفة (العلم) أي أنهم لاحظوا أن لفظي
السميع والبصير يطلقان على من يسمع ويبصر بالفعل , وعلى من له قوة بها يدرك
المسموعات وهي ما يسمى السمع , وقوة يدرك بها المبصرات وهي ما يسمَّى
البصر , فقالوا: إن لله تعالى صفتين قائمتين بذاته تعالى يدرك بهما المسموعات
والمبصرات وهما: السمع والبصر.
ثم اضطروا إلى التفرقة بين الحادث والقديم فقالوا: إن سمع الله تعالى بغير
أذنين , وبصره بغير عينين , ولا يشترط فيهما ما يشترط في الصفتين الحادثتين ,
وإن ما ورد في الكتاب من إضافة العين والأعين إليه تعالى في قوله: {وَلِتُصْنَعَ
عَلَى عَيْنِي} (طه: 39) وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:
48) فهو من المتشابه , وفيه المذهبان المعروفان. وبالغ بعضهم في التحكم
بالتفرقة فقال: إن سمع الله تعالى وبصره يتعلقان بجميع الموجودات , بمعنى أنه
تعالى يسمع الأجسام نفسها وجميع أعراضها من لون ومقدار وطعم وريح , كما
يسمع الأصوات ويبصر الأصوات كما يبصر سائر الموجودات , وجرى أكثر
المؤلفين بعد صاحب هذا القول على تقرير قوله , وجعلوه من أصول العقائد وأسس
الدين. ثم غلوا في هذه الفلسفة , وزاد بعضهم صفة أخرى سموها (الإدراك) ,
وطفقوا يدققون في الإيرادات وأجوبتها , والذي استقر رأيهم عليه أن الله تعالى يعلم
الشيء الواحد على ما هو عليه بعدة صفات , وأن علمه به بواسطة كل صفة منها
غير علمه به بواسطة الأخريات. مثال ذلك أن الله تعالى يعلم صوتي بصفة العلم
وبصفة السمع وبصفة البصر وبصفة الإدراك عند من يقول بها منهم , وأن أنواع
العلم وطرقه مختلفة والمعلوم واحد.
أوجبوا على الناس أن يعتقدوا بهذه الفلسفة الدينية والتحكم النظري. وإن كان
لم يشهد لهما كتاب ولا سنة ولا لغة , ولم يقل بهما أحد من سلف الأمة مع اعتراف
هؤلاء كلهم بأن صفتي السمع والبصر من الصفات السمعية التي لا وظيفة للعقل
فيها إلا حملها على معنى غير محال أن يوصف به واجب الوجود. على أن اللغة
تنافيها. والعقل لا يقتضيها، إذ لو كانت من أصول الإيمان لما سكتت عنها السنة
والقرآن. الذي نعتقد أنه لم يفرط فيه من شيء يتعلق بأصل الدين. لا سيما ما
يجب لرب العالمين.
(48) الواجب اعتقاده
هو الوقوف عند ما جاء في الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وهو أن
الله تبارك وتعالى سميع لأقوال العباد بصير بأعمالهم وأحوالهم من غير بحث في
كنه هذا السمع وهذا البصر , وكيف يحصلان , وهل هما بصفتين زائدتين على
الذات أو داخلتين في مفهومها أو غير ذلك , ومن غير مقارنة بينهما وبين العلم ,
ولا بحث في النسبة بين الأمرين فإن الله تعالى عندما أخبرنا بسمعه وبصره ابتدأ
بتنزيهه عن مشابهة أيّ شيء من الأشياء , فقال عز من قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) , وهذا الاعتقاد يسهل فهمه وقبوله على
الجهول والعليم والعاميّ البليد والفيلسوف الحكيم. وأما تلك التحليلات والتعمقات
فإنها تتعاصى على أفهام العامة. وتكون مثار الشبهات عند الخاصة. ولا يليق هذا
بدين الفطرة والحنيفية السمحة.
(49) الاعتبار
من أراد أن يطيل الكلام في مثل هذا المقام؛ فالأولى له أن يستعين بهذا
الاعتقاد على إنذار الغافلين من العباد. فيستثير العبرة من أعماق القلوب , ويستزل
العبرة من سماء العيون , وينبه النفوس إلى الحياء من الله تعالى أن يراها حيث
نهاها فيكون عندها أهون الناظرين , وأن يسمع منها ما لا يرضاه , فإنه لا يحب
الجهر بالسوء من القول. ذلك ما كان يفهمه العرب من إطلاق هذه الصفات القدسية ,
وهذا هو التأثير الذي كان يودعه في قلوبهم , وهذا الذي يليق بحكمة الله تعالى
وجلاله , ويجعل دينه مصلحًا للنفوس ومثقفا للعقول. بتذكيرها بمراقبته , وحملها
على خشيته. ولم يكن بناء دينه على نظريات أرسطو وأفلاطون. والله يعلم وأنتم
لا تعلمون.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) (الشورى: 11) .(3/675)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الطاعون والفأر
لا نلمس هذا الموضوع من حيث علاقته بفن الطب , ولا نبحث فيه من حيث
إصابة قطرنا المصري بذلك الداء إصابة المحموم بالحمى المتقطعة ولا من حيث
تحيّفه الألوف من سكان الهند , ولا من حيث وسائل الوقاية والعلاج منه , فإن ذلك
خصيص بالمجلات الطبية البحتة. وإنما نبحث فيه من وجهة الحوادث الملازمة له
كظنون بعض الناس فيه وغير هذا مما هو أليق بصحيفة أدبية أن تنشره على
قرائها استتمامًا للفوائد وتقييدًا لبعض الأوابد.
شاع على أثر انفضاض معرض باريس أن الطاعون لا بد من انتشاره في
أوربا كما انتشرت فيها الإنفلونزا أي الحمى الوافدة عقب انتهاء معرض عام 1889 ,
وهو قول لا يؤخذ به , ولا يعول عليه؛ لأننا إذا جعلناه قاعدة يقاس عليها لزم أن
يكون الداءُ الذي يخشى من تفشيه بعد المعرض الأخير الإنفلونزا لا الطاعون , ثم
على فرض صحة ذلك القول , ووجوب الأخذ به فليس ثمت ما يدعو إلى قلق
الخواطر واضطراب الأفكار لأن جرثومة الطاعون اكتشفها الأطباء فاستنبطوا
الطرق العلاجية له , وقرروا القواعد الصحية الواقية منه بحيث صار دخوله إلى
أوربا متعسرًا جدًّا. ولقد حاول أن يلتمس طريقًا إليها من الإسكندرية وفيينا
وأوبورتو (في أسبانيا) وجلاسكو (في إنكلترا) فأرتجت دونه الأبواب , وسيلبث
كذلك ما دامت القواعد الصحية مرعية والوسائل الواقية مأخوذًا بها.
ورب معترض يقول: إن الطرق التي استنبطها الأطباء لعلاج الطاعون أو
الوقاية منه غير وافية بالمرام كشأنها في كل داءٍ عضال كالسل الرئوي والدفتيريا ,
ويرد هذا الاعتراض بما ساقه الأستاذ كيتوزاتو الياباني الذي شاطر الدكتور يرسين
الفرنسوي الفضل في اكتشاف جرثومة الطاعون من الأدلة على تأثير الوسائل
الواقية في حصر هذا الداء ومنع سريانه في اليابان في أخريات العام الغابر حيث
قال: (في أكتوبر سنة 1899 دخل الطاعون في كوبه وأوزاكا من بلاد اليابان
متطرقًا إليهما من جزيرة فرموزة وعدد سكان المدينة الأولى 200000 نسمة
والثانية 750000 فلم يصب منهم فيهما سوى 69 نفسًا شفي أغلبهم) , ولا ريب
في أن أضعاف هذا العدد من أهالي باريس مثلاً يصابون بالحمى التيفوسية أو
غيرها من الأمراض العادية.
وقد تمهدت للأستاذ كيتوزاتو من دخول الطاعون في اليابان فرصة للبحث عن
تأثير الفيران في انتشاره فرأى في 16 إصابة من الإصابات التي حدثت بمدينة كوبه
بمنازل المصابين أو بجوارهم فيرانًا ميتة بذلك الداء , ثم وجدت فيران ميتة
بالطاعون في جمرك المدينة , فحدث بعد هذا الاكتشاف باثني عشر يومًا أن طفلاً
أصيب بالطاعون , وتوفي به , وكان منزل أهله لا يبعد عن مركز الجمرك
بخمسمائة متر , واتضح من توالي البحث وجود فيران كثيرة ميتة بالطاعون بين
منزل الطفل والديوان.
عندئذ قرر المجلس البلدي في مدينة كوبه واقتدى به مجلس مدينة أوزاكا
مكافأة من يأتي اليهما بفأر حي أو ميت بما يوازي من النقود المصرية أربعة مليمات ,
فبلغ ما قتله الناس من الفيران في المدينة الأولى 15000 , وفي المدينة الثانية
20000 وذلك في أثناء شهر دسمبر 1899 فقط. وبان من البحث أن نسبة
المطعون من الفيران في كوبه كنسبة واحد إلى خمسة , وفي أوزاكا كنسبة واحد إلى
عشرة , وأن أغلبها أخذ من الجهات التي لم يظهر فيها الطاعون في تلك الجهات
وفتك بالكثيرين من أهليها.
ومن الأمور المقررة عند الأطباء , ويخشى الناس بأسها ضرر البصاق على
الأرض , حتى إنك لترى في مركبات السكك الحديدية والترمواى والأمنيبوس ,
وفي كل مزدحم للناس في أوربا إعلانات رجاء بأن لا يبصقوا خشية الإضرار
بغيرهم , ونحن لا نخالف آراء أولئك الأطباء فيما قرروه من أذى البصاق وضرره ,
ولكن ألم تكن العطسة أو السعال أكثر ضررًا من البصاق بالمجاور للعاطس أو
الذي تأخذه الحدة في الكلام ويسبق لسانه جنانه في التعبير بحيث يتناثر البصاق من
فيه رذاذًا فيصيب أفواه سامعيه؟ لا ريب في أن العاطس أو المتكلم أو الخطيب
الذي هذا شأنه أولى بأن يتجنبهم مجاوروهم من الباصق الذي لا يضر بصاقه إلا
بعد الجفاف , فالبصاق كما ترى أخف ضررًا من العطسة أو السعال أو من الأحوال
الملازمة للمتكلم بسرعة.
ولا حاجة إلى إقامة الدليل على ما تقدم فقد أثبته تجارب العلماء إلا أن الأستاذ
كنيجر لم يكتف بها , ولذا أخذ على نفسه أن يحدد مدة وجود الذرات التي تخرج من
الأفواه في الهواء قبل سقوطها على الأرض ويعين الاتجاه الذي تتبعه لدى خروجها ,
والمسافة التي تجتازها فرأى بعد تجارب قضى فيها زمنًا طويلاً أنه إذا كان هواء
القاعة ساكنًا لا تلبث تلك الذرات معلقة في الفضاء أقل من نصف ساعة , وأما إذا
كان متحركًا فلا يلزم لها أقل من ساعة ونصف ليرسو على الأرض , وأن العاطس
تنبعث ذرات عطسته إلى مسافة تختلف من خمسة أمتار إلى ستة متجهة إلى الأمام ,
ولكن منها ما يرجع إلى جانبيه أو خلفه بحيث تكنفه من جميع الجهات.
ويختلف عدد الذرات أو الجراثيم التي تخرج من الفم باختلاف كيفية الكلام من
وضوح أو إبهام في النطق , وارتفاع أو انخفاض في مقام الصوت , فالجهوري
الصوت مثلاً تكون الذرات أو الجراثيم المتناثرة من فيه كثيرة وموجبة للقلق
والخوف. والأغرب من هذا أن للحروف المتحركة والساكنة تأثيرًا في قلة الجراثيم
الخارجة من الفم أو كثرتها عند النطق بها , وللحروف الشفوية والتي مصدرها
اللسان والأسنان امتياز على باقي الحروف في كثرة الذرات المصاحبة للنطق بها
وعلى الخصوص حروف التاء والراء والكاف والباء والزاي والفاء ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م م
__________(3/678)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(الواسطة بين الخلق والحق ورفع الملام عن الأئمة الأعلام)
رسالتان جليلتان نافعتان من تأليف شيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام الحافظ
أبي العباس أحمد بن تيمية طبعا معًا في مطبعة الآداب والمؤيد , وسنبسط الكلام
عليهما في القسم الديني , ونكتفي الآن بأن نقول: ينبغي لكل مسلم بل ولكل محب
للعلم أن يطلع عليهما , وثمن النسخة الواحدة أربعة قروش , وتطلب من إدارة
المؤيد بمصر.
***
(دفاع بلفنا)
التاريخ كله عبر وفوائد , وأحقه بالدراسة وأجدره بالعناية ما يمثل لك حال
أمتك التي تنسب إليها , ودولتك التي تستظل برايتها. وأجدر أقسام التاريخ بالذكر.
وأحراها بالمجد والفخر القسم الحربي الذي تظهر به براعة الدولة في ميادين القتال
ومواطن النزال. ولقد كانت دولتنا العلية - ولا تزال - في مقدمة دول العالم
بالمهارة في فنون الحرب , والثبات في مواقع الطعن والضرب. وإنما كانت
حروبها الهائلة التي شابت لها النواصي. ودكت لها الحصون والصياصي. مع
الدولة الروسية. التي تهابها جميع الدول القوية. وأشهر وقائع حربهما الأخيرة
واقعة (بلفنا) الشهيرة , فلقد أفردت بالتأليف في لغات شتى إلا اللغة العربية. التي
كانت أولى وأحق بهذه الآثار النافعة. وقد لاحظ هذا صديقنا الهمام سليل الأمراء
الكرام حقي بك العظم أحد المدرسين في مدرستي التوفيقية والنصرية , فوضع كتابًا
في هذه الواقعة سماه (دفاع بلفنا) استمد مسائله من الكتب التركية والفرنسوية مع
التحري والتدقيق , وطبع الكتاب وألحق به خريطة البلاد التي فيها الدفاع , وطبعه
في مطبعة الترقي على ورق جيد ناعم , وجعل ثمن النسخة ستة قروش أميرية ,
وهو ثمن بخس أريد به تسهيل اقتناء الكتاب على كل أحد , وعسى أن هذا الكتاب
يروج جدًّا في هذه البلاد المحب أهلها للدولة العلية وفي سائر البلاد العربية.
***
(القوة الكهربائية)
كتاب بهذا الاسم صنفه صاحبنا الفاضل محمد زكي أفندي العريشي وكيل
تلغراف أَصوان. وجعله ستة فصول - الأول كلام عام على الكهربائية والاكتشاف
فيها , والثاني في البطاريات الكهربائية , والثالث في المغناطيسية , والرابع في
السيال الكهربائي وآلات التلغراف , والخامس في التليفون والمكروفون والفبراتور
والأجراس الكهربائية , والسادس في الموازين الكهربائية.
أما منهاج الكتاب فبيان الأعمال المقصودة من العلم والعمليات موضحة
بالرسوم في جميع الفصول. وأما عبارته فسهلة واضحة , وقد وقف صاحب هذه
المجلة على تصحيحه قبل الطبع , وقد روعي ذلك التصحيح لدى الطبع في الجملة ,
وربما لم يعدل عن شيء منه عمدًا إلا ما قصد به الوقوف عند الاصطلاحات
المشهورة مراعاة لسهولة الفهم. وأما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي
وعلى أجود الورق فيها. وثمن النسخة منه عشرون قرشًا , فنحث محبي العلم على
قراءته , والاعتبار بهذه القوة التي ظهرت بها الخوارق , ودخل العالم في طور
جديد ولو مثلت للأمم الهمجية لوصفوها بالربوبية؛ لأنها أعظم ما في الأرض من
المظاهر الإلهية فسبحان الخلاق العليم.
***
(شقاء الأمهات)
أسطورة عذبة العبارة حسنة الموضوع كانت تنشر علاوة لمجلة أنيس الجليس
معربة بقلم صاحبة المجلة رصيفتنا الفاضلة ألكسندرة أفرينوه وناهيك باختيار عقائل
السيدات للقصص المتعلقة بالأمهات. والقصة مطبوعة على ورق جيد كورق مجلة
أنيس الجليس وثمن النسخة منها عشرة قروش فنحث الأدباء والأديبات بوجه أخص
على مطالعتها.
***
(زهرة الحب)
ثلاث رسائل غرامية من عاشق فرنساوي اسمه (سان بروه) إلى معشوقته
جوليا وثلاث رقاع من جوليا له أجاب عن ثنتين منها , ولا تبلغ رقعة، أو جواب
منها ثلاثة أسطر , وقد سمى المجموع (رواية) , والكاتب لها في الأصل جان
جاك روسو الشهير , وقد عربها الأديب اللبيب أحمد أفندي نجيب وطبعت من عهد
قريب.
***
(تحفة حميدية)
احتفل بالعيد الفضي لمولانا السلطان الأعظم في كثير من بلاد الهند العظيمة ,
ونظم الأدباء القصائد في مدحه وتهنئته , وقد جمع بعض أهل الغيرة كثيرًا من هذه
القصائد والخطب باللغات العربية والأوردية والإنكليزية ناسبًا كل قول إلى جماعة
المسلمين القائمين بالاحتفال في البلد المرسل منه القول , فنشكر لإخواننا مسلمي
الهند تعلقهم بالدولة العلية , ونسأل الله تعالى أن يوفق الفريقين للانتفاع من هذه
السلطة المعنوية والرابطة الدينية.
***
(المناظر)
لم ينس القراء أن هذا اسم لجريدة عربية سورية في البرازيل وهي أدبية
المنهج معتدلة السير، وتصدر في كل سنة مجلة في 6 سمبتر (أيلول) تذكارًا
لصدور الفرمان السلطاني بما يسمونه (استثناء لبنان) وتسميه هي (استقلال لبنان)
تودعه القصائد الرنانة في الموضوع , وكثيرًا من الفوائد الأدبية والتهذيبية , وإننا
نعترف بأن هذه الجريدة نافعة لقارئيها , ونشكر لها ولرفيقاتها العناية بإحياء اللغة
العربية الشريفة في تلك البلاد , ونثني على أصحابها أطيب الثناء.
بيتان في بيتين ... وثالث لثالث الصفيين
اغتالت التقاريظ صفحات كنا أعددناها للنبذ الأدبية , وأنَّى لنا بقليل يغني عن
كثير؟ تفكرت في هذا فتذكرت بيتين لو وزنتهما بشعر العرب كله لرجحا في
نظري لواقعة لهما مخصوصة. وأثارة في الأدب منصوصة. وردا فيها مورد
التمثيل. من عالم جليل.
ذلك أن إمام اللغة والأدب ومفخر العجم والعرب. الأستاذ الشيخ محمد محمود
الشنقيطي تفضل بزيارتي في 28 من شهر ربيع الثاني سنة 1317 , وأنشدني
البيتين الآتيين لأعرابية عشقت فتى في مكة , وحدثني أنه أنشدهما للشريف الأمير
عبد الله باشا عون عندما عاتبه في مكة على عدم زيارته فقال له الأستاذ: بيتكم
عندي هو البيت الثاني كما قالت الأعرابية:
للناس بيت يديمون الطواف به ... ولي بمكة لو يدرون بيتان
فواحد منهما لله أعظمه ... وآخر لي به شغل بإنسان
وقال لي الأستاذ بعد ذلك: وبيتك عندي هو البيت الثاني في مصر والبيت
الأول هو بيت الأستاذ الشيخ محمد عبده.
فحسبي هذه الكلمة فخرًا أنها من رجل هو بقية السلف في الصدق والبعد عن
التملق والنفاق. وأرجو أن يسمح لي القراء بهذين السطرين اللذين كتبتهما عن
نفسي فلي سطران أو أسطر ولهم المجلة كلها , ولا غبن ولا تغرير إن شاء الله
تعالى.
__________(3/681)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
(23) من هيلانة إلى أراسم في 14 يناير سنة - 185
قد لاحظت أن (أميل) كلما صحبني إلى دار السيدة وارنجتون , ووجد هناك
نسوة من المدينة اصطفى لمعرفته منهن عادة أحسنهن خلقًا , وربما دل ذلك على أن
للجمال تأثيرًا في نفوس الأطفال.
وقد بدا لي منه أيضًا أنه يحب الشيوخ , ولعل السبب فيه احتياج الأطفال إلى
كثرة التعلم. وميل الشيوخ إلى الإكثار من التكلم.
لكن لا يدعونك هذا إلى أن تتصور فيه أنه مثال لأترابه على أنني لا أريد أن
أفتات عليك بالحكم في هذا الأمر فأدعه لك تحكم فيه بنفسك.
أنا ألوم نفسي وأبكتها على استمتاعها دونك بما تجده في منتآي من السكينة
والدعة , وقد عزمت من أجل هذا أن أبذل نفسي لك كما بذلت من نفسك ,
فاستأجرت مخدعًا في سفينة ستقلع من بنزانس إلى ... فعليك إذن أن ترتقب لقانا.
اهـ
(24) من أراسم إلى هيلانة في 20 منه
ترددت حينًا في الكتابة إليك لأني لم أجد في نفسي من الإقدام ما يبعثني على
إخبارك بآخر بلاء أصابني , وإني على ما أعلمه الآن من أنك قد تطالعين خبر هذا
البلاء في الصحف أفضل أن أنبئك به على كل حال ذلك أنه قد صدر من حيث لا
أدري أمر بنقلي إلى....
ليس شأني كما تعلمين شأن المقضيّ عليه بعقاب , فهو يذوق عذابه لأن هذا
في قبضة القانون , وأما أنا ففي قبضة القوة تصرفني كيفما شاءت , فلست أدري
من ذا الذي قضى عليّ , وأمر اتهامي سرٌّ يعلمه الله , وأنا سألت: ماذا يراد بي؟
ومتى وأين ينتهي عقابي؟ وهل هذا النقل الحديث آخر مرحلة من مراحل سفري
الأليم الممض , فلا أجد جوابًا لواحد من هذه الأسئلة.
على أنه لا ينبغي أن ترتاعي لهذه المحنة الجديدة , فإن البحار تعرفني وأنا
أعرفها , وقد عشت في أقاليم مختلفة فأصبح في استطاعتي احتمال حرارة الشمس
ورطوبة السواحل.
وعليك الآن أن تكفي عن التمسك بأمل اللقاء , فإن بيننا بحرًا كالصحراء
وأرضين وبيئة , وأن تبذلي نفسك في سبيل تربية ولدنا , وعلينا جميعًا أن ندأب
في عملنا , وأن نتلقى كل ما يعترضنا من العقبات بعزيمة صادقة وقصد ثابت.
أرجو موافاتي بأخبار (أميل) متى تيسر لك ذلك.
إن فيما انطوت عليه أحشائي أمرين لو اجتمعت قوى البشر على أن تسلبني
إياهما لردت بالخيبة والخسار , ألا وهما: فكري وحبُّكِ فيكفيني ما لدي من البراهين
اليقينية على أني محق في تقويتي على احتمال ما ابتليت به من الاضطهاد والظلم ,
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/685)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم في مدارس الحكومة
التعليم في هذه المدارس أمثل تعليم في القطر لا يقاس به تعليم الأزهر , ولا
تعليم المدارس الأهلية , والارتقاء فيه ظاهر من نتائج الامتحانات السنوية , ولكننا
منذ جئنا هذا القطر نسمع الناس يشكون من نظارة المعارف , ويقولون: إن التعليم
في مدارسها سيفضي إلى اضمحلال الدين واللغة العربية رويدًا رويدًا. ومما كان
يلوح في الذهن أن سوء ظن الناس بنظارة المعارف وكل أعمال الحكومة إنما تولد
من اعتقادهم أنها في أيدي المحتلين يديرونها كما يريدون , وأن هؤلاء لا يعملون
إلا لمصلحتهم , ومصلحتهم إنما هي في إعدام مقومات الجنس الذي يتسلطون عليه
ووضع مقومات جنسيتهم موضعها وإحلالها محلها. وهو رأي قريب , ولكنه من
النظريات التي يمكن النزاع فيها. وقد سألنا بعض كبار الموظفين في المعارف عن
سير تعليم الدين وفنون العربية في المدارس فأكد لنا القول المؤيد بالأوراق الرسمية
بأن ما يجري على الألسنة غير صحيح , وأن الأوقات المخصصة لتعليم الدين في
المدارس بحسب البروجرام لا يمكن أن يقرأ فيها شيء آخر؛ لأن المفتشين لا
يلبثون أن يطلعوا على ذلك فينال العقوبة من يشغلها بغير وظيفتها من المعلمين.
ويؤكد لنا الجماهير من الناس أن المعلم الذي يشغل وقت تعليم الدين بتعليم آخر
يكون مقربًا , ويرجى له الترقي , وأن هذا الأمر مقرر عند سائر المعلمين , وأن
ضعاف الدين موتى القلوب منهم يشغلون هذا الوقت بتمرينات نحوية وغير ذلك.
وأنت ترى أن هذا الكلام كله من النظريات إلا هذا القول الأخير إذا ثبت وتحقق.
لا يقوى على الدلائل النظرية إلا البرهان الوجودي الواقع عملاً , ويذكر
المنتقدون على ديوان المعارف مسائل واقعة كثيرة. منها أن تعليم الدين والعربية لا
وجود لهما مطلقًا في المدارس العالية كالمهندسخانة والطب والزراعة والصنائع ,
ولا وجود للدين في المدارس التجهيزية مطلقًا , وكل هذا حصل بعد الاحتلال.
ومنها أن الفاضل حسن أفندي صبري عندما جعل ناظرًا لمدرسة (محمد علي)
وخالف سنة النظار باختياره تعليم الدين دون اللغة الإنكليزية التي يختار تعليمها
سائر النظار؛ ليكون إقبال التلامذة عليها أكثر - اضطهد حتى اضطر إلى الاستقالة
وخسرت به المعارف خير كفؤ حسن الإدارة والتعليم. ومنها أنهم يجعلون ترتيب
الدروس بحيث لا يمكن التلامذة من أداء الصلاة في المدرسة , وأن من ذنب حسن
أفندي صبري أنه طلب من الديوان أن يقرَّ ترتيبًا جديدًا وضعه هو يمكن التلامذة
من صلاة العصر جماعة كصلاة الظهر. ويقال: إن طلبه هذا هو الطلب الوحيد
الذي بقي في الديوان من غير جواب لأن في السلب خشونة , وفي الإيجاب
إغضاب المحتلين. ومنها عدم الرضى عن ناظرة المدرسة السنية السابقة؛ لأنها
ساعدت التلميذات على القيام بفرائض الدين وألزمت الديوان بأن يوزع عليهن
الأقنعة لستر رءوسهن إلى غير ذلك من فضائلها , واستبدلوا بها ناظرة إنكليزية
أخرى كان من سيرتها أن اضطر الأستاذان الفاضلان الشيخ حسن منصور والشيخ
محمد عز العرب إلى الاستقالة , وقد كانا من حسن التعليم والتهذيب بحيث يستحقان
المكافأة ورفع الدرجة كما شهد بذلك الأستاذ الكبير الشيخ حمزة فتح الله المفتش
الأول للتعليم العربي , والأستاذ الفاضل الشيخ محمد شريف ويقال: إن المستر
دنلوب استاء من طلبهما المكافأة لهما وارتاب , فأرسل حضرة الفاضل عاطف
أفندي للتفتيش فشهد لهما بالبراعة كسابقيه , ويروى أنه قال: إنه لم ير في المدارس
مثل التعليم في المدرسة السنية , وإنه رأى فوق ما كان يظن. وهذه الشهادات ,
وطلب المكافأة أو الترقي مسجلة في الديوان.
استقال هذان الأستاذان البارعان , وما كان سبب استقالتهما إلا أن راتب كل
منهما أربعة جنيهات , فلو اضطر أن يسكن بعيدًا عن المدرسة , ويركب إليها
العربية غدوًّا ورواحًا لكان مغبونًا , وقد حسبا أوّلاً أن ارتقاءهما يكون سريعًا بإتقان
عملهما والتبريز فيه , وبعد اليأس من هذا بما ذكرناه آنفًا حاولا أن يلتمسا شيئًا من
الرزق بطريقة لا تعارض التعليم في المدرسة السنية فشعرت بهذا الناظرة الإنكليزية
فغيرت ترتيب التعليم في المدرسة تغييرًا قطع عليهما هذا الطريق فالتمسا منها أن
لا تمضي هذا الترتيب (البروجرام) وأعلماها بحقيقة الأمر فكبر عليها أن يراجع
مصريٌ إنكليزية , وأنذراها بالاستقالة فأصرت , فاستقالا في تفصيل لا
حاجة لذكره.
هذا مثال المعاملات التي يستدل بها الطاعنون على ديوان المعارف، ويقولون
إن مثارها المستر دنلوب الذي لا يعلو أمرَهُ أمرٌ. وإذا رجعنا إلى منشورات
الديوان لا سيما الأخير منها , وقابلناها بالعمل؛ يظهر لنا أن أمانة التعليم الديني
واللغة العربية مقصودة بالذات.
ذلك أن للوظيفة فيها ثلاثة أدوار الأول يسمى (ظهورات) ومدته سنتان ,
ولكن معلمي العربية يلزمون بثلاث سنين. الثاني يسمى (صفة مؤقتة) ومدته في
حكم القانون المالي سنة واحدة , ولكن المعلم العربي يجبر فيه على سنتين. الثالث
التوظف الحقيقي بصفة دائمة , وحينئذ يدخل في حكم المنشور , ويصلح للترقي
ويكون معاش المعلم العربي فيه أربعة جنيهات , يختزل منها في السنتين الأوليين
عشرها فيكون الراتب في الشهر نحو 360 قرشًا , وبعد عشر سنين يقضيها في
هذا الدور - أي خمس عشرة سنة من ابتداء تدريسه - يرتقي إلى ستة جنيهات ,
وهي أقل ما يعطى لمعلمي اللغات الأجنبية عند خروجهم من المدرسة إلى دور
الظهورات. ثم إنهم يشترطون في الارتقاء من درجة إلى أخرى أن يعمل الموظف
عملاً نفلاً يكلفه به الديوان فيحسنه , ولكنهم لا يطلبون من معلمي العربية عمل
شيء.
وأما معلمو اللغات الأجنبية فيعطون في دون الظهورات ستة جنيهات , وفي
دور التأقيت ثمانية , ومتى دخلوا في الدور الدائمي الحقيقي يرتقون حتى يكونوا
نظارًا , وأقل راتب للناظر 12 جنيهًا , وأعلى ناظر وطني يأخذ الآن ستين جنيهًا
ً في الشهر , ومن النظار الأجانب من يأخذ ألف جنيه في السنة , ولا يمكن
أن يكون معلم العربية ناظرًا! ! !
هذا إجمال من القول الذي يتراجعه الخواص في أنديتهم وسمَّارهم , ولم نورده
بقصد الغميزة بالنظارة تشفيًا منها أو مرضاة لبعض الناس , وإنما هو بحث في أهم
المصالح وأعظمها في الإصلاح. وإننا مستعدون لنشر ما نعلمه في الموضوع
بشرط أن يكون بحثًا في الحقائق الثابتة الصحيحة سواء كان للنظارة أو عليها.
ومن رأينا أن الأولى للإنكليز أن يساعدوا المسلمين على الإصلاح الحقيقي بالتعليم
الذي يحيي لغتهم. والتربية التي توافق ملتهم. وبذلك تخطب إنكلترا مودتهم.
وتكون في المدنية هي وجهتهم. ولا يخشى أن ينتقضوا عليها إذا استرجعوا قوتهم.
فإن قوة يستغنون فيها عن موالاة أية دولة أجنبية مرام بعيد لا يصلون إليه إلا بعد
قرون , وماداموا محتاجين إلى موالاة دولة قوية غنية فإنهم يرجحون من يحسن
معاملتهم منذ الآن , وربما نزيد هذا المقام وضوحًا بعد.
__________(3/687)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية)
المواسم على ضربين دينية ووضعية فالدينية يجب أن يوقف بها عند حدود
الدين فمن زاد موسمًا في الدين , وجعله شعيرة من شعائره فقد زاد في الدين ,
والزيادة فيه كالنقص منه جناية عليه لا يقدم عليها عامدًا من يعتقد أن الدين من الله
تعالى المحيط علمه بكل شيء وكل مصلحة لا سيما إذا كان كتاب ذلك الدين ينادي
بلسان عربي مبين {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
وأما الوضعية فللبشر أن يضعوا من ذلك ما يرونه نافعًا لهم في دنياهم بقدر
الحاجة بشرط أن لا يجعلوا لها صبغة دينية لئلا تكون مصالحهم الدنيوية جانية على
دينهم , ولهذا نعجب من كثرة المواسم الدينية التي زادها المسلمون في دينهم (راجع
باب البدع) وعدم المواسم الوضعية التي تمس حاجتهم إليها , وقد أحسنت الجمعية
الإسلامية بإقامة احتفال سنوي في حديقة الأزبكية صار كموسم وضعي مدني لأهل
القاهرة يحضره الجماهير من جميع الطبقات من الأسرة المالكة إلى آحاد السوقة
والصنّاع , بل إن الجناب العالي الخديوي أعزه الله تعالى يشرفه بحضوره. فيا له
من موسم يجمع مظاهر السرور والابتهاج , ويجليها للناس في مقابل قليل من المال
يبذله الناس بطيب نفس لأن لهم فيه لذتين لذة حسية ولذة معنوية , وهي معرفتهم
بأن هذا المال يصرف في أفضل ما يجب صرف المال له , وهو إعانة فقراء المسلمين
وتربية أولادهم وأيتامهم , وتعليمهم ما يستعينون به على صلاح دينهم ودنياهم.
وسيكون احتفال هذه السنة في آخر ليلة من شعبان فنحث الجميع على الإقبال
عليه إعانة لهذه الجمعية الشريفة.
***
(أهم أخبار جزيرة العرب)
إن الأمير عبد الرحمن الفيصل اغتنم فرصة كون الأمير عبد العزيز الرشيد بن
متعب اغتصب إمارة نجد بقتله الأمير عبد الله الرشيد أميرها السابق منذ نحو سنتين
وغير مرضيّ عنه , فتحالف مع أمير الكويت وأخيه أمير البحرين وأمراء عنزه ,
وطي على استرجاع إمارة نجد التي غصبها آل الرشيد من آل فيصل فاجتمع من
هؤلاء نحو أربعين ألفًا ما بين فارس وهجان , وزحفوا على بلاد نجد , فتثاقل
الأمير عبد العزيز عن ملاقاتهم لعلمه بأن قومه ناقمون عليه , وتحصن في بلدة حائل
التي هي قاعدة الإمارة، وجمع نحو ثلاثين ألفًا معتمدًا على جودة أسلحته فإن عنده
بطاريتين من المدافع كان أهداهما إلى الأمير محمد الرشيد السلطان عبد العزيز
وكثيرًا من بنادق مرتين. وقد علمنا أن الزاحفين أوغلوا في البلاد فقطعوا نحو
ثلاث عشرة مرحلة لم يلقوا فيها إلا يسيرًا من المناوشات , واستولوا على مدينة
الرياض التي كانت قاعدة الإمارة على عهد آل فيصل , ويرجح العارفون بأحوال
البلاد وأهلها أن الأمر ينتهي بسقوط إمارة آل الرشيد ورجوع الإمارة إلى آل فيصل.
ويرون أن هذا أصلح للبلاد أيضًا لأن الأمير عبد الرحمن فيصل هذا من أعلم
أمراء الجزيرة , فهو واقف على عقيدته على مذهب السلف , عارف بالمذهب
الحنبلي , مطلع في الحديث والأدب , بصير بأحوال الزمان , خبير بالسياسة فإنه
سبقت له سياحات طويلة في العراق والأستانة العلية والهند , وكانت إقامته منذ
بضع سنين في البصرة تارة وفي الكويت أخرى , وكان له راتب من الحضرة
السلطانية قدره 65 ليرة عثمانية في الشهر , ومقدار من الأرز والتمر يعطى من
ريع الأراضي السنية في ولاية البصرة كما أن لإمارة نجد مرتبًا من الأرز والتمر
يصرف لها في كل سنة.
أما أهالي إمارة نجد فمجموعهم يبلغ نحو المليونين التابع منهم لابن الرشيد
نحو مليون ونصف , والباقي تابع للإمارات المحاربة من آل فيصل وآل صباح ,
ومن فضائل أهل نجد أنه لا يوجد فيهم أحد جاهل بدينه. ولهم مشاركة في الآداب
حتى إن الراعي والأجير يحفظ نصف ديوان المتنبي على الأقل.
__________(3/691)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قسم الموالد والمواسم
مولد الإمام الشافعي رضي الله عنه
لما اخترع المسلمون مولد النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يحتفلون له كبر
ذلك على بعض العلماء الذين كانوا على طريقة السلف وعدُّوه ابتداعًا في الدين
وشرعًا لم يأذن به الله ذاهبين إلى أن الله تعالى لو أراد أن يكرم نبيه بذلك لشرعه
لنا , ولو أن لأحد أن يشرع مثل هذه الزيادة في الدين لفعلها الصحابة والتابعون
والأئمة المجتهدون عليهم الرضوان لأنهم أعلم بمقام النبوة وما ينبغي له , فما بال
هذه العناية بتعظيمه لم تظهر إلا بعد ضعف الدين , وما بال أكثر المحتفلين بها من
أهل البدع والمعاصي المسرفين لأنهم لم يجدوا شيئًًا من هزئهم ولعبهم يخدعون به
أنفسهم ويسولون لها أنها على شيء من الدين إلا هذا , وممن أقام النكير على هذه
البدعة صاحب كتاب المدخل رحمه الله تعالى.
وأضر البدع وأشدها إغواءً وضررًا ما يحضره صنف علماء لأن هذا يكون
غشًّا للناس يجعلهم يعتقدون بأن البدعة شعيرة دينية , ولهذا ضربنا صفحًا عن
الموالد الكثيرة التي عملت بعد المولد الحسيني كالبيومي والرفاعي والعفيفي والسيدة
زينب ونبهنا بهذه الكلمات على مولد الشافعي لأن هذه الموالد يحضرها بعض
العلماء , وأما مولد الإمام فهم الذين يحتفلون به , فيحتج الجهلاء بهم على إماتة
السنة وإحياء البدعة , وهذا أسوأ ما كان يسيء الإمام في دار الدنيا لأنه رضي الله
عنه لم يكن له من عمل إلا إحياء السنة , فما بالك ولقد لقي الحق وأمسى في جواره
ونحمد الله أن كثيرًا من سائر الأصناف تنبهوا لفساد هذه الأعمال , وربما كانوا
هم الذين يقوّمون العلماء.
***
ليلة نصف شعبان
احتفل بليلة المعراج , ولم نكتب فيه شيئًا اكتفاءً بما كتبناه في عام مضى ,
وسيصدر هذا الجزء من المنار في إثر الاحتفال بليلة النصف من شعبان , وهو من
مواسم البدعة التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه كما قال العلامة ابن الحاج في
ابتداء القرن الثامن. وقد فصل هذا المرشد الجليل ما يكون من البدع والمحرمات
في الاحتفال بهذه الليلة وليلة المعراج وليلة الرغائب فنلخص من كلامه ما يأتي:
(1) تكلف النفقات الباهظة وهو إسراف يعملونه باسم الدين وهو بريء
منه.
(2) (الحلاوات المحتوية على الصور المحرمة شرعًا) , وأطال في هذه
البدعة وهي في مصر مخصوصة بالموالد.
(3) (زيادة وقود القناديل وغيرها , وفي زيادة وقودها إضاعة المال لا
سيما إذا كان الزيت من الوقف , فيكون ذلك جرحًا في حق الناظر لا سيما إذا كان
الواقف لا يذكره , وإن ذكره لم يعتبر شرعًا. وزيادة الوقود مع ما فيه من إضاعة
المال ما تقدم سبب لاجتماع من لا خير فيه , ومن حضر من أرباب المناصب
الدينية عالمًا بذلك فهو جرحة في حقه إلا أن يتوب , أما إن حضر ليغير وهو قادر
بشرطه فياحبذا) اهـ بحروفه.
(4) حضور النساء وما فيه من المفاسد............. ..
(5) إتيانهم الجامع الأعظم واجتماعهم فيه , وذلك عبادة غير مشروعة.
(6) ما يفرشونه من البسط والسجادات وغيرها.
(7) أطباق النحاس فيها الكيزان والأباريق وغيرهما كأن بيت الله تعالى
بيتهم , والجامع إنما جعل للعبادة لا للفراش والرقاد والأكل والشرب.
(8) ومنها السقاءون وفي ذلك من المفاسد جملة. وعد منها البيع والشراء
لأنهم يأخذون الدراهم , وضرب الطاسات وسماها نواقيس , ورفع الصوت
في المسجد وتلويثه , وتخطي رقاب الناس وكلها منكرات.
(9) اجتماعهم حلقات كل حلقة لها كبير يقتدون به في الذكر والقراءة ,
وليت ذلك لو كان ذكرًا أو قراءةً لكنهم يلعبون في دين الله تعالى , فالذاكر منهم في
الغالب لا يقول: لا اله إلا الله , بل يقول: لايْلاَهِ يلَّلَّهْ (فيجعلون عوض الهمزة
ياء , وهي ألف قطع جعلوها وصلاً. وإذا قالوا: سبحان الله يمططونها ويرجعونها
حتى لا تكاد تفهم. والقارئ يقرأ القرآن فيزيد فيه ما ليس منه , وينقص منه ما هو
فيه بحسب تلك النغمات والترجيعات التي تشبه الغناء والهنوك التي اصطلحوا عليها
على ما قد علم من أحوالهم الذميمة. هذا ما قاله وهو منكر يحتف به عدة منكرات.
(10) قال: ثم فيها من الأمر العظيم أن القارىء يبتدىء بقراءة القرآن ,
والآخر ينشد الشعر أو يريد أن ينشده , فيسكتون القارىء أو يهمون بذلك أو
يتركون هذا في شعره وهذا في قراءته لأجل تشوف بعضهم لسماع الشعر , وتلك
النغمات الموضوعة أكثر. فهذه الأحوال من اللعب في الدين أن لو كانت خارج
المسجد منعت فكيف بها في المسجد سيما في هذه الليلة الشريفة , فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
(11) حضور الولدان الصغار وما يتبع ذلك من لغطهم وتنجيسهم المسجد.
(12) إهانة الأموات بفعل المنكرات بجانب قبورهم. وذكرها في خروج
النساء إلى القبور.
(13) اللغو في المسجد وكثرة الكلام بالباطل , وهو منكر شديد.
(14) جعل المسجد كأنه دار شرطة لمجيء الوالي والمقدمين والأعوان
وفرش البسط ونصب الكرسي للوالي ليجلس عليه في مكان معلوم , وتوقد بين يديه
المشاعل الكثيرة في صحن الجامع , ويقع منها بعض الرماد فيه , وربما وقع
الضرب بالعصا والبطح لمن يشتكي في الجامع , أو تأتيه الخصوم من خارج وهو
فيه - هذا كله في ليلة النصف من شعبان.
(15) إهانة الليلة الشريفة التي يستحب قيامها وصيام نهارها , وإنما القيام
بالعبادة الصحيحة.
هذا ما لخصناه من هذا الكتاب الجليل , وكل هذه البدع كانت في زمنه , وقد
زادت في زمننا هذا أمور منها الطبول والدفوف والرقص في الذكر , ومنها الدعاء
المعروف الذي يطلب فيه من الله تعالى أن يمحو من أم الكتاب شقاوة من كتبه شقيًّا
إلخ , ولا ندري من وضع هذا الدعاء , ومنها الاجتماع لقراءته بالطريقة
المعروفة وجعل ذلك شعيرة من شعائر الدين وغير ذلك. إلا أن الوالي لا يجلس
على كرسي في كل البلاد , وقد ساعدت المدنية الأوربية على الاستغناء عن المشاعل
بالأنوار الكهربائية والغازية زيادة على الشموع. وقد شبه رحمه الله كثرة الأضواء
بعبادة المجوس فقال: (وقد تقدم التعليل الذي لأجله كره العلماء رحمهم الله تعالى
التمسح بالمصحف والمنبر والجدران إلى غير ذلك أن ذلك كان السبب في ابتداء
عبادة الأصنام , وزيادة الوقود فيه تشبه بعبدة النار في الظاهر , وإن لم يعتقدوا
ذلك إلخ) ما أطال به جزاه الله عن الدين خيرًا ووفق علماءنا وأمراءنا لإماتة
البدعة وإحياء السنة عسى أن تبعث من مرقدها هذه الأمة التي أماتتها هذه البدع
وتحيا حياة طيبة وما ذلك على الله بعزيز.
__________(3/694)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأحاديث الموضوعة
في العلم والعلماء
(تابع)
ومنها حديث: (من أراد أن يؤتيه الله علمًا بغير تعلم وهدى بغير هداية
فليزهد في الدنيا) . قال في المختصر: لم يوجد , ونقول: إنه مناقض للواقع
وللحديث المعقول وهو (العلم بالتعلّم والحلم بالتحلم) .
ومنها حديث: (الصلاة خلف العالم بأربعة آلاف وأربعمائة وأربعين صلاة) .
قالوا: وهو حديث باطل. ونقول: كأن واضعه كان يصلي إمامًا وأحب أن
يجذب إليه الناس لأنه يلبس لباس العلماء فويل لمثله من المصلين.
ومنها حديث: (إن لم يكن العلماء أولياء فليس لي وليٌّ) . قال في المقاصد:
لا أعرفه حديثًا , وروي بلفظ: (إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فما لله
ولي) . نقول كما قلنا من قبل: إن لفظ ولي وأولياء بالمعنى الذي يفهمه الناس من
هذا القول لم يكن مستعملاً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم , وإنما كان اللفظ
يستعمل في معناه اللغوي وهو الناصر والمُوالي , ونزيد الآن أنه لما حدث في
المسلمين الاعتقاد بأن في الناس صنفًا يسمّون الأولياء لهم شئون غيبية , ووظائف
في الدولة الروحانية , وتصرفات في العوالم العلوية والسفلية , وكان من علامتهم
عندهم إظهار التقشف والزهد في الدنيا وزيادة عبادات في الدين وغير ذلك - كبر
هذا الاعتقاد على العلماء , فمنهم من قاومه بالطرق العلمية كما يليق بالعلماء ,
ومنهم من حسد الصوفية والمتصوفة الذين تخصهم العامة بهذا الاعتقاد , فآذوا
الصادق منهم والكاذب والصالح والمنافق , ثم حاولوا إقناع الناس بأنهم هم الأولياء
فوضعوا لهم مثل هذا الحديث الآتي. ولا شك أن العلماء العاملين هم أولياء الله
وأنصار دينه.
ومنها حديث: (حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف عابد) . ذكره
ابن الجوزي في الموضوعات. وفي معناه أحاديث كثيرة اعتنوا بها وأكثروا من
تناقلها فكثرت رواتها حتى اغتر بعض المحدثين فقال: إنها ضعيفة غير موضوعة.
منها حديث: (ما عند الله شيء أفضل من فقه في دين , وفقيه واحد أشد على
الشيطان من ألف عابد , ولكل شيء عماد , وعماد هذا الدين الفقه) . ولا تغتر
بقول المختصر أو المقاصد: إن أسانيد الحديث ضعيفة فحسبك عبارته دليلاً على
أن وضعه كان بعدما تنوعت العلوم الدينية في الملة , وصارت العناية منصرفة إلى
ما سموه (علم الفقه) , وهو علم الأحكام الظاهرية التي تنافسوا فيها وأكثروا من
التأليف ابتغاء المناصب والتقرب إلى الأمراء والسلاطين كما أوضحه الإمام حجة
الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى. وينقل عنه أنه بعدما تصوف وانتهى إلى مقام
الكمال أراد أن يحرق جميع كتبه التي ألفها في الفقه , ولكنها كانت انتشرت في
الناس وقال: إننا ألفناها لغير الله , ويحكى أن بعضهم قال له: (فأبقها لله) , وقد
أوضحنا غير مرة أن الفقه بهذا المعنى هو أقل ما في الدين ولذلك لم يحتفل به
القرآن , ولم يرد منه في السنة الصحيحة أيضًا إلا القليل ولكنهم اعتنوا بجمعه فكثر.
وإنما عماد الدين وقوامه هو الاعتقاد الصحيح وتطهير العقول من لوث الخرافات
والأوهام وتزكية النفوس من أدران الرذائل والآثام لتكون أهلاً للقرب من الله تعالى
ومجاورة الروحانيين في الملكوت الأعلى ومقام القدس الأسمى. وما وضعت
الشريعة القواعد العامة لأحكام التشريع التي يسمّونها فقهًا إلا لتكون كاملة لا يحتاج
الآخذون بها في مدنيتهم التي يمنحها إياهم دينهم إلى قوانين الأمم الأخرى , ولا
يقاسون العناء في تعريبها وتطبيقها على مصالحهم , ولتكون أحكام القوانين
باستنادها على أصول الدين مسلطة على الضمائر. وحاكمة على السرائر. لا على
مجرد الظواهر. فيكون صلاح حال الناس بها أكمل , ومراعاتهم لها أتم. ولولا
ذلك لَمَا بَعُدَ أن يبيح النبي للمسلمين أن يأخذوا بأي قانون في أمور الدنيا لأن
المقصود الأهم من الدين وراء هذه الظواهر , ألا ترى أن من أصول الشريعة
تحكيم العُرف، واعتبرْ بحديث البخاري: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقد سبح بنا
القلم في موضوع كان يجب أن يكتب فيه بالاستقلال.
ومنها حديث: (إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء إلى يوم
القيامة) . لم يثبت وقيل: إنه من كلام علي كرم الله وجهه , ولا أراه صحيح
النسب إليه إذ معناه غير صحيح , لأن موت العالم ثلمة يسدها وجود عالم آخر مثله
أو خير منه والإسلام إسلام.
ومنها حديث: (النظر إلى وجه العالم عبادة) . رواه الديلمي بلا سند وهو
كما ترى.
ومنها حديث: (مداد العلماء أفضل من دام الشهداء) . قال في المقاصد:
هو من قول الحسن البصري. ورواه ابن عبد البر عن أبي الدرداء مرفوعًا بلفظ:
(يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء) وروى الخطيب عن ابن عمر:
(وزن حبر العلماء بدم الشهداء فرجح عليهم) , وفي إسناده متهم بالوضع وروى
لفظه من رواه: (دواة عالم أحب إلى الله من عرق مائة ثوب شهيد) قال في الذيل:
موضوع. والاعتبار فيه كما في حديث الأولياء.
ومنها حديث: (صرير الأقلام عند الأحاديث يعدل عند الله التكبير ... )
إلخ قال في الميزان: هذا باطل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/698)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد مسيح الهند على الطاعنين
نورد بعض ما كتبه في رد المطاعن التي سبقت في الجزء الماضي للاعتبار ,
ولأن بعض كلامه حق وبعض ما نقله عن العلماء الطاعنين به غير معروف عند
علماء المسلمين , قال في حمامة البشرى ما ملخصه مع حفظ عبارته:
(وما قولهم: إن المسيح كان خالق الطيور , وكان خلقه كخلق الله تعالى
بعينه, وكان إحياؤه كإحياء الله تعالى بعينه بلا تفاوت [1] , وكان معصومًا تامًّا
ومحفوظًا من مس الشيطان. وليس كمثله في هذه العصمة نبينا صلى الله عليه
وسلم [2] فهذا عندي ظلم وزور {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} (الكهف: 5) ,
وإنهم في هذه الكلمات من الكاذبين (ثم رد عليهم ما نسبوه إليه من إنكار الملائكة
وقال: نعم إني قلت وأقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام قد توفي كما أخبرنا
القرآن العظيم والرسول الكريم فكيف نرتاب في قول الله ورسوله , وكيف نؤثر
عليه أقوالاً أخرى أأختار الضلالة بعدما هداني الله تعالى والقرآن حكم عدل بيني
وبين المخالفين؟ - وبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ألم يكف لهم ما قال رب
العالمين - ولكنهم ما يقبلون شهادة القرآن ويتكئون على أقاويل أخرى التي لا
يدرون حقيقتها , فليت شعري إلى أيّ أمر يدعونني , أيدعونني إلى الجهل والعمى
بعدما كنت من المتبصرين , والله إني على بصيرة من ربي , وعندي شهادات من
الله وكتابه وإلهامه وكشفه) إلى أن قال: (وإني أرى أنهم لا يعتقدون بأن القرآن
كلام حيٌّ , وإمام صادق ومهيمن ومعيار كامل , بل يحقرونه ويضعونه تحت أقدام
الأحاديث [3] ويجعلون الأحاديث قاضية عليه من قبل أن يفتشوا الآثار حق تفتيشها ,
ويثبتوا موازنة القطعيات بالقطعيات , بل هم يأمرون تحكمًا ويقولون ظلمًا: إن
الأحاديث بجميع صورها الظنية والشكية أحق قبولاً من القرآن وحاكمة عليه [4] ,
وإن هو إلا ظلم وزور تكاد السموات يتفطرن منه , ولا يوجد في القرآن وحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماض إلى ذلك , ولا إيماء إلى هذه البهتانات , بل
الصحابة كانوا يقدمون القرآن في كل حال ولا يتركونه لأثر من الآحاد) ثم أشار
إلى ما ثبت في الصحيح من تقديم عائشة القرآن على الحديث وكذلك الصحابة
رضي الله عنهم. ثم ذكر الإلهامات من الله بأنه المسيح عيسى ابن مريم بمثل ما
تقدم في الجزء الماضي , وردّ على العلماء المنكرين وقال: (ولو كانوا عاقلين
منصفين طالبين للحق مفتشين للحقيقة لتفكروا في قول قد كتب من قبل وطبع
وأشيع في زمان ما كان أثر هذه الدعاوى فيه , ولتفكروا في سوانح عمري , وقد
لبثت فيهم عمرًا من قبل , ولتفكروا في رأس المائة وضرورة المجدد بما وعد الله
ورسوله [5] , ولتفكروا في مفاسد الزمان وبدعاتها (كذا) ونسل النصارى من كل
حدب , فيا حسرةً عليهم إنهم ظنوا ظن السوء بغير فكر وتحقيق وإمعان , وما كان
لهم أن يتكلموا في المؤمن إلا بحسن الظن) إلى أن قال:
(وأما ما قلت في وفاة المسيح فما كان لي أن أقول من عند نفسي بل اتبعت
قول الله تعالى , وآمنت بما قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: 55) فانظر كيف شهد الله على وفاته في كتابه المبين،
ومعلوم أن الرفع وتطهير ذيل المسيح من إلزامات اليهود وبهتاناتهم , وغلبة أهل
الحق وضرب الذلة على اليهود , وجعلهم مغلوبين مقهورين تحت النصارى
والمسلمين. لقد وقعت هذه الأنباء والمواعيد كلها , وتمت وظهرت, وما وقعت إلا
على صورتها وترتيبها , وقد انقضت مدة طويلة على ظهورها ووقوعها , فكيف
يعتقد عاقل بالغ ذو عقل سليم وفهم مستقيم بأن خبر التوفي الذي قدم على هذه
الأخبار في ترتيب الآية الموصوفة هو غير واقع إلى وقتنا هذا , وما مات عيسى
ابن مريم إلى هذا الزمان الذي فسد بضلالات أمته بل يموت بعد نزوله في وقت
غير معلوم ولا يخفى سخافة هذا الرأي على المتفكرين) .
(والقائلون بحياة المسيح لما رأوا أن الآية الموصوفة تبين وفاته بتصريح لا
يمكن إخفاؤه جعلوا يئولونها بتأويلات ركيكة واهية , وقالوا: إن لفظ التوفي في آية
{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: 55) كان مؤخرًا في الحقيقة من كل هذه
الواقعات , يعني من رفع عيسى وتطهيره من البهتانات ببعث النبي المصدق ,
وغلبة المسلمين على اليهود , وجعل اليهود من السافلين - ولكن قدم لفظ (المتوفي)
على لفظ (رافعك) وعلى لفظ (مطهرك) وغيرها مع حذف بعض الفقرات
الضرورية رعاية لصفاء نظم الكلام كالمضطرين - وكان اللفظ المذكور يعني إني
متوفيك في آخر ألفاظ الآية فوضعه الله في أولها اضطرارًا لرعاية النظم المحكم ...
والآية بزعمهم كانت في الأصل على هذه الصورة يا عيسى إني رافعك إليّ
ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ,
ثم منزلك من السماء , ثم متوفيك , فانظر كيف يبدلون كلام الله ويحرفون الكلم عن
مواضعه , وليس عندهم برهان على هذا , إن يتبعون إلا أهواءَهم , وما كان لهم أن
يتكلموا في القرآن إلا خائفين - وأنت تعلم أن الله منزه عن هذه الاضطرارات ,
وكلامه كله مرتب كالجواهرات (كذا) , والتكلم في شأنه بمثل ذلك جهالة عظيمة
وسفاهة شنيعة , وما يقع في هذه الوساوس إلا الذي نسي قدرة الله تعالى وحوله ...
وما قدره حق قدره , وما عرف شأن كلامه , بل اجترأ وألحق كلام الحق بكلام
الشاعرين) .
له بقية
__________
(1) لا يقول مسلم بهذا فإما أن يكون قد زاد هذه القيود ليتمكن من الرد على المنكرين عليه بأنهم جعلوا مثلاً لمن (ليس كمثله شيء) , وإما أن يكون المنكرون عليه من الجهلاء.
(2) لا شك أن عصمة الأنبياء في مرتبة واحدة , وأما المعنى المعبر عنه بمس الشيطان فهو شيء آخر.
(3) في هذه العبارة من سوء الأدب ما إثمه على قائله.
(4) لم يقل أحد من المسلمين بهذا القول , نعم إن منهم من سلم بالأحاديث , وإن خالفت القرآن , ولكن بضرب من التأويل والتحريف , وإنما الذنب بتأويل القرآن وإرجاعه للحديث دون العكس.
(5) إن الله لم يعد بهذا ولا رسوله إلا الحديث المشهور على الألسنة وفي الكتب , وهو ضعيف ولم يحصل مضمونه إذ لم يقم مجدد في الأمة من عدة قرون وما كان أحوجها إليه.(3/701)
غرة رمضان - 1318هـ
23ديسمبر - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورات بين المصلح والمقلد
المحاورة الثانية
الاستدلال على قيام الساعة بالقرآن. طرق هذا الاستدلال وإبطالها. عدم
قبول قول بغير دليل. قطعية أدلة المسائل الاعتقادية. منعهم الاجتهاد إنما هو في
الفروع دون الأصول. الوقوف عند إجماع السلف. ادعاء المقلدين الاجتهاد في
العقيدة. الخلاف في إيمان المقلد. حديث إن للقرآن ظهرًا وبطنًا. حكاية سيدنا
عيسى مع المؤدب. الاستدلال على قيام الساعة بحروف أوائل السور. الطعن في
هذه الاستدلالات , عدم الثقة بأكثر ما يروى عن ابن عباس في التفسير. حكاية أو
ثنتان عن بعض الشيعة في الاستنباط من أوائل السور.
عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى الكلام. وفاء بما تعاهدا عليه من بضعة
أيام. وافتتح الشيخ المحاورة. واستأنف المناظرة , فقال (المقلد) : لم أترك
الجواب عن كلامك في مجلسنا الماضي لعجز , ولا لكونه مقنعًا , وإنما رأيت في
بعضه إبهامًا وغموضًا لا بد لي من استيضاحه قبل الخوض فيه , وهو قولك: إن
لك فهمًا في كون ترك الشريعة هو العلة الأولى أو كما يقولون علة العلل لضعف
المسلمين , ربما كان غير ما أريد مع أن هذا أمر واضح لا يصح أن يكون محلاًّ
للاختلاف في الفهم. ورأيتك أنكرت المهدي ولم ينكره قبلك أحد من المسلمين إلا
من لا يعتد بإنكاره كابن خلدون فقد كنت سمعت عن المرحوم علي باشا مبارك أن
هذا الرجل أنكر المهدي وطعن في أسانيد الأحاديث المروية فيه. وهو لم
يكن عالمًا وإنما كان مؤرخًا. ثم إنك أنكرت قرب قيام الساعة مع أنه صار من
البديهيات التي يعرفها الصبيان والنسوان , ولم ترض بدلالة الآية والحديث عليها
كأنك تنكر أن في الكتاب والسنة أخبارًا عن المغيبات , ولم ترض بهذا كله حتى قلت
تلك الكلمة الكبيرة التي لو مزجت بماء البحر لمزجته وهي (إبطال المذاهب) وجعل
المسلمين على طريقة واحدة , ولم أفهم معنى هذه الطريقة التي تنافي المذاهب ,
والمعروف أن أهل طرائق التصوف كلهم متبعون للمذاهب الأربعة بل الأقطاب
الأربعة رضي الله عنهم كانوا كلهم شافعية , إلا أن الشيخ عبد القادر رجع إلى مذهب
الحنبلية أخيرًا لأجل إحيائه لأنه كاد يندرس , وإن اعترضت عليّ بقول القطب
الشعراني: إن هؤلاء الأقطاب قد اطلعوا بالكشف على عين الشريعة , وصاروا
مجتهدين. فاعتراضك يكون حجة عليك لأنهم باطلاعهم على عين الشريعة رأوا أن
جميع أئمة المذاهب مصيبون , وأن اختلافهم رحمةٌ , ولذلك لم يتركوا المذاهب
بعد هذا الاطلاع , ولا أمروا الناس بتركها. فكل كلمة من كلماتك تحتاج إلى
شرح طويل , ولذلك اخترت تأخير المناظرة لأراجع الكتب , وأستحضر النقول
للرد عليك وإرجاعك عن هذه الشبه المتمكنة منك.
(المصلح) : إنني أشترط في مناظرتنا هذه شرطًا لابد منه , ولا يظهر
الحق إلا به وهو أن لا يقبل أحدنا للآخر مناقضة ولا معارضة إلا بسند قوي ,
وبرهان جلي. ولا ينهض برهان شرعي على مسألة اعتقادية إلا إذا كان نصًّا
قطعيًّا لآية قرآنية أو حديث متواتر لأن أخبار الآحاد - وإن صحت - فهي ظنية
الدلالة , والظن في الاعتقاد ضلال. قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ
شَيْئاً} (يونس: 36) وقال: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس: 32) .
وإذا كانت الأحاديث الصحيحة غير المتواترة لا يحتج بها في المسائل الاعتقادية
بالاتقاق فما بالك بكلام العلماء وبشارات الصلحاء أليست أجدر بعدم القبول؟
(المقلد) : لقد قلت قولاً أصوليًّا لا ينكر , ولكن العمل به من وظيفة
المجتهدين ويظهر لي أنك تدعي الاجتهاد , وإنني أخشى على دينك من هذه الدعوى
فمن استبد برأيه زل , والله تعالى يقول: {فَإِن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 209) وهو تهديد عظيم.
(المصلح) : الآية حجة عليك لأنها مصرحة بأن الوعيد إنما ينتظر من
جاءته البينات , ولم ينظر فيها ويهتد بها فهي تتناول المقلد كما تتناول المعطل
والجهول المهمل , ثم إن الذين منعوا الاجتهاد إنما منعوه في الفروع , وأما المقلد
في أصول الدين فأهون ما قالوا في شأنه: إن إيمانه مختلف فيه , وبعضهم ينقل
الإجماع على عدم صحة إيمانه , وإذا كان بحث الاجتهاد والتقليد من أهم المسائل
التي نتناظر فيها , فإلزامك إياي بالتقليد من غير دليل هروب من المناظرة وترك
لها.
(المقلد) : أنا لست مقلدًا في عقيدتي , ولا آمر أحدًا بالتقليد فيها , وإنما
أقول: يجب على المجتهد أن يوافق بعض الأئمة في اجتهاده كالأئمة الأربعة ,
والإمامين الأشعري والماتريدي وأتباعهم من العلماء وإلا كان كافرًا أو مبتدعًا أو
ضالاًّ فاسقًا.
(المصلح) : عجبًا لمن يدعي أنه غير مقلد , ويشترط في الاجتهاد التقليد ,
ولو قلت: يجب أن لا يخرج عما وقع الإجماع من السلف على أنه من الدين
لسلمت لك تسليمًا لأن الاجتهاد المؤدي إلى الخروج عما كان عليه الصدر الأول
عامة اجتهاد فيما وراء الإسلام , وإنما كلامنا في الاجتهاد في الدين الإسلامي ,
ووجود الخلاف بين الأئمة المهتدين في مسألة؛ دليل على أنها غير مجمع فيها على
شيء , ومتى كانت كذلك يجب أن يأخذ الناظر فيها بما يقوم عليه الدليل عنده من
غير ملاحظة موافقة أحد أو مخالفته , ولا معنى لكونه متبعًا للدليل إلا هذا , وإن
كثيرًا من المشتغلين بالعلم الديني يغشوّن أنفسهم بدعوى معرفة العقيدة بالدليل
والبرهان , ويحسبون أنهم بقراءة ما كتبه السنوسي وأضرابه من الأدلة على مسائل
الاعتقاد قد سلموا من الخلاف في إيمانهم أو مما حكاه السنوسي وغيره من الإجماع
على كفر المقلد.
(المقلد) : إنني أحب قبل الخوض في تحرير مسألة الاجتهاد والتقليد أن
أقف على رأيك في الاستدلال على قيام الساعة بحساب الجمل ونحوه من الإشارات
القرآنية , ومن دلالة الحروف في أوائل السور فإني تنسمت من كلامك السابق أنك
من أهل الجمود على الظاهر المخالفين لأهل الكشف الذين يعتمدون على هذه
الدلالات بل هم الذين استخرجوها من القرآن بصفاء باطنهم ونورانية قلوبهم.
وإنني أقبل شرطك إذا أنت سلمت لي بهذه الدلالات.
(المصلح) : إن شرطي يشمل هذه الدلالات أيضًا فإذا نهضت لك حجة
عليها فإنني أخضع لها لا محالة.
(المقلد) : أما الإشارات القرآنية فقد ورد في الحديث (إن للقرآن ظهرًا
وبطنًا وحدًّا ومطلعًا) ,وأما دلالة الحروف فقد كانت معروفة عند الأنبياء السابقين
فإنني رأيت في قصص الأنبياء أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام أخذته
والدته لما كان له سبعة أشهر من العمر إلى الكتاب ليتعلم , ولا يخفاك أنه تكلم في
المهد. فقال له المؤدب: قل: أبجد , فقال عيسى للمعلم: هل تدري ما أبجد؟
فعلاه بالدرة ليضربه , فقال: يا مؤدب لا تضربني , وإن كنت لا تدري فاسألني
حتى أفسّره لك. قال: فسره لي. فقال عيسى عليه السلام: الألف آلاء الله ,
والباء بهجة الله , والجيم جمال الله , والدال دين الله. هوّز - الهاء هول جهنم ,
والواو ويل لأهل النار , والزاي زفير جهنم. حطي - حطت الخطايا عن
المستغفرين. كلمن - كلمات الله لا مبدل لكلماته. قرشت - قرشهم فحشرهم. فقال
المؤدب: خذي ولدك أيتها المرأة فقد علّم ولا حاجة له بالمؤدب. ولا شك أن هذا
تعليم إلهي يجب قبوله.
وقد ورد في ديننا ما يؤيد هذا , روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
في تفسير (الم) : الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه. وقال في تفسير (الر)
و (حم) و (ن) :إن مجموعها اسم الله (الرحمن) , وروي عنه أيضًا أنه قال
في تفسير (الم) : أنا الله أعلم. وهذا يدل على أن الحرف يجوز أن يكون مأخوذًا
من أوساط الكلمات وأواخرها , كما يجوز أن يكون مأخوذًا من أوائلها. وروي عنه
أيضًا أن (الألف من الله واللام من جبرائيل والميم من محمد) أي أن القرآن منزل
من الله تعالى بلسان جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم. وأما حساب الجمل
فـ.... .
(المصلح) : مهلاً حتى نفرغ من الإشارة ودلالة الحروف المفردة , أما
حديث (إن للقرآن ظهرًا وبطنًا) ويروى ظاهرًا وباطنًا , فلا أنكر أنه رواه من
أصحاب السنن ابن حبان وقد كان متساهلاً في الجرح , ولذلك طعنوا في كثير من
رجاله , وإن من الناس من يعتقد أن هذا الحديث من موضوعات الباطنية , وما كل
صحيح رواية يصح في الواقع. على أن العلماء فسروا الظاهر باللفظ أو التلاوة ,
والباطن بالتأويل أو الفهم , وبعضهم قال: الظاهر الإخبار بهلاك الأولين , والباطن
وعظ الآخرين. وقال ابن النقيب: (إن الظاهر هو المتبادر للعلماء من معنى
الألفاظ , والباطن أسراره التي تظهر لأهل الحقائق) يشير إلى حديث: (إلا أن
يؤتي الله رجلاً فهمًا في القرآن) ولا دليل على أن ذلك يكون بغير الطرق
المضبوطة في الدلالة. وقالوا: إن الحد أحكام الحلال والحرام , والمطلع الإشراف
على الوعد والوعيد , أو الحد منتهى ما أراد الله من معناه , والمطلع ما يتوصل به
إلى معرفته , ولم يقل أحد: إن الحديث يدل على ما ذكرت. وأما حديث سيدنا
عيسى مع المؤدب فلا يصح.
وأما ما روي عن ابن عباس في التفسير فأكثره موضوع لا يصح لأنه مروي
من طريق الكذابين الوضاعين كالكلبي والسدي ومقاتل بن سليمان ذكر ذلك الحافظ
السيوطي وسبقه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بل إن رواية هؤلاء وأضرابهم التفسير
عنه هي المقصودة من قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (ثلاثة كتب ليس لها
أصل: المغازي والملاحم والتفسير) قالوا: إنه أراد كتبًا مخصوصة في هذه
المعاني الثلاثة غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها , وزيادة القصاص فيها , وذكروا
منها تفسير هؤلاء , بل نقلوا عن الإمام أنه قال في تفسير الكلبي: (من أوله إلى
آخره كذب لا يحل النظر فيه) .
وقالوا: إن كل من ينقل في تفسيره الأحاديث الموضوعة لا يوثق بتفسيره
بالمأثور , من هؤلاء الثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي.
وقد نص المحدثون في كتب الموضوعات على أنه لم يثبت في تفسير القرآن
بالحروف نقل , ومثلوا له بما وضعه المبتدعة بعد وقوع الفتن في الملة كقولهم في
تفسير (حم عسق) : إن الحاء حرب علي ومعاوية , والميم ولاية المروانية ,
والعين ولاية العباسية , والسين ولاية السفيانية , والقاف قدرة المهدي. وقولهم: إن
العين عذاب الله , والسين السنة والجماعة , والقاف قوم يقذفون آخر الزمان.
وقالوا: إن هذا كله موضوع باطل.
نكتفي بهذا في إبطالها من حيث الرواية , وأما من حيث الدراية فكيف تصح
دلالة الاقتطاع والاختزال , وليس لها حد ولا رسم تعرف به إذ يمكن أن تجعل كل
حرف مأخوذًا من أية كلمة فيها ذلك الحرف؟ إذ لا ضابط للأخذ من وضع أو عقل
أو طبع , وحينئذ يصح أن يستدل بهذه الحروف على الكفر كما يستدل بها على
الإيمان. وأن يشار بها تارة إلى الفلاح وطورًا إلى الخسران. وأنت ترى أن هذا
من الهذيان. الذي يجب أن ينزه عنه القرآن.
(المقلد) : أحسنت وأصبت في هذه , وثم طريقة أخرى للأخذ من من
حروف أوائل السور , وهي أن تجمع هذه الحروف , ويركب من مجموعها كلام أو
مما يبقى بعد حذف المكرر , ومن الناس من استنبط أمورًا غيبية من مهملها أو
معجمها, ولا أطيل عليك في هذا فإنك من سعة الاطلاع فوق ما كنت أظن , فما
قولك في هذا؟ .
(المصلح) : هذه الطريقة كسابقتها في الفساد , وأذكر فيها واقعة لطيفة
حدثت في بلاد الشام وهي أن بعض غلاة الروافض استنبط من هذه الحروف بعد
حذف المكرر هذه الجملة (عليّ حق صراط نمسكه) , واستدل بها على أن عليًّا
كرم الله وجهه كان أحق بالرسالة من محمد عليه الصلاة والسلام. وقد نميت هذه
الجملة إلى أحد أمراء العسكرية فضاق بها ذرعًا , وحاول تحويلها إلى ما يوافق
مذهب السنة فلم يجد إلى ذلك سبيلاً حتى هداه أحد الوجهاء إلى بعض العلماء
الأذكياء [5] فكتب إليه ذلك العالم الفاضل ما نصه:
(بلغني أن بعض الرافضة عبث بأوائل الكتاب المجيد فغير مألوفه. ونكَّر
معروفه. وقدَّم وأخَّر. فقتل كيف قدّر. ثم استنبط منها (علي حق صراط نمسكه)
مستدلاًّ بذلك على رأيه الفاسد. ومعتقده الكاسد. أن عليًّا هو الأحق بالرسالة.
فنقول حيث ارتضيت أوائل السور بيننا حكمًا. واستخرجت منها في زعمك حِكَمًا.
فلتنصرن أوائل السور الأخيار منا على الأشرار. ولتميزن بين أصحاب الجنة
وأصحاب النار. هذه أوائل السور تقول بلسان حالها في خطاب القرآن. وما فيه
من البلاغة والتبيان (يحقّ لسامعك نصر طه * ناصر طه مسك على حق * ما
سعي لحق كنصر طه * لطه كم سعى نصار حق) .
ولم يرض من مثل هذه الجمل إلا بعشر وجعل الجملة الأخيرة مطلعًا لأبيات
نظمها في المسألة وهو:
لطه كما سعى نصار حق ... فها أنا ذاك من نصار طه
وهذا الاستنباط للشيعة قديم وإنما يستدل به المعتدلون منهم على أحقية عليّ
بالخلافة لا بالنبوة. قال العلامة الألوسي في تفسير {الم} (البقرة: 1) :
(ومن الظرائف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف لخلافة الأمير علي
كرم الله تعالى وجهه , فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يستخرج منه
(صراط عليّ حق نمسكه) ولك أيها السنيُّ أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد
الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابًا للشيعي , وتذكيرًا له بما ورد
في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو (طرق سمعك النصيحة)
وهذا مثل ما ذكروه حرفًا بحرف. وإن شئت قلت: (صح طريقك مع السنّة)
ولعله أولى وألطف) اهـ.
(المقلد) : أحسنت في هذه أيضًا , ولا أراك تقوى على إبطال حساب
الجمّل لأنه استعمال قديم. روي عن أبي العالية رضي الله عنه أنه كان يرى أن
أوائل السور تدل على مُدد أقوام وآجالهم مستدلاًّ بحديث اليهود. وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم قرأ على اليهود لما جاءوه الم البقرة فحسبوه وقالوا: كيف
ندخل في دين من مدته إحدى وسبعون سنة , فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
فقالوا: فهل غيره؟ فقال: المص والر والمر , فقالوا: خلطت علينا فلا ندري
بأيها نأخذ , ووجه الدلالة أنه أقرهم على استنباطهم بعدم الاعتراض وبتلاوته
لـ {المص} (الأعراف: 1) وما بعدها على هذا الترتيب.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يريد بأحد الوجهاء المرحوم أحمد باشا الصلح وكان يومئذ ترجمان الوالي وبالعالم المجيب المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الغني الرافعي الشهير وكان عائدًا من المجاورة في دمشق إلى بلده
طرابلس الشام.(3/705)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة زيد وزينب
إيضاح وخلاصة
رد شبهة مسيحي فاضل
لقد كان لما كتبه مولانا مفتي الديار المصرية في هذه المسألة , ونشرناه في
الجزء 27 أجمل وقع. وأجمل نفع. فتقشعت به سحب الشبهات. وانحلت عقد
المشكلات. وسكتت حركة الشكوك التي كان يثور عجاجها. وتتلاطم أمواجها.
وينهمر ثجاجها. وتتدفق أثباجها. وشفيت أمراض أعيا الأطباء علاجها. وقطعت
من شخوص المطاعن حلاقيمها وأوداجها. وهكذا يقذف بالحق على الباطل. فيدمغه
فإذا هو زاهق وزائل.
إلا أن كلام الأستاذ في علوّ أسلوبه وبديع تأليفه وتركيبه. ورسوخ عرقه في
الفصاحة. وبُعْد غوره في البلاغة. لم تتجلَّ جميع مقاصده لجميع الأذهان. ولم
تتجل عرائس حسنه لكل من له عينان. ومن الناس من أعشاه نوره. وراعت فؤاده
حوره. فاشتبه عليه سلطان البرهان. بسحر البيان. فتوهم أنه مسحور الوجدان.
لا مقتنع العقل والجنان. وتخيل أنه مختلب بعبارة القلم واللسان. لا مجتذب
ببراعة الحجة إلى قرارة الإقرار والإذعان. أعني بهذا وما قبله من استزادنا في
المسألة بيانًا. ليزداد الذين آمنوا إيمانًا. ومن قال من فضلاء المسيحيين: إن
الشبهة لم تنكشف عن غير المسلمين , وإنما غشيها من فصاحة الأستاذ وبلاغته ,
وبراعته في عبارته نور علا ظلمتها , وشغل النظر عن تشويه صورتها. وأن من
يضع على عينيه منظارًا ملوَّن الزجاج ينكسر به شعاع البلاغة الوهاج يمكنه أن
يبصر الطريقة ويدرك الحقيقة. قال هذا وأنشأ ينتقد كلمات للأستاذ رأى أنها إقناعية
وليست حقيقة واقعية. منها قول الأستاذ: " ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى
الله عليه وسلم لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في رُوَائِه (بالضم وضبط في
الأصل بالكسر سهوًا) ونضرة جدته " إلخ , وذهب هذا المعترض في نقض هذه
المسألة إلى أن من البنات من تكون دميمة في طور البكارة حتى إذا ما تزوجت
اكتست حلل الحسن والبهاء. والجمال والرواء. فيحتمل أن السيدة زينب كانت من
هذا القبيل. وإن كان في الوجود أقل القليل.
ومنها قول الأستاذ: " لم يُعرف في مألوف البشر أن تعظم شهوة القريب
وولعه بالقريب خصوصًا إذا كان عشيره من صغره " إلخ قال المعترض: إنه يحفظ
وقائع متعددة تعلق فيها الأقرباء بعضهم ببعض حتى كان من ذلك ما لا خير فيه.
وكذلك شأن من أشرب قلبه إنكار شيء , أو إثباته يتعلق بالشذوذ , ويتشبث
بالاستثناء , ويترك القواعد العامة لا يحفل بها. وعهدي بأذكياء المسيحيين أنهم
يرون أقوى اعتراض لهم على المسلمين في احتجاب النساء أن الحجاب والمنع من
أسباب ازدياد الرغبة. وقوة الداعية إلى التطلع والرؤية. وأن في الاختلاط أنسًا
ينتهي بالملل والزهادة. كما هو المطرد في العادة , لا سيما بالنسبة للأقربين.
ورأيت من المسلمين من يستدل على صحة هذا القول بكون النفوس إلى
النساء المسلمات المتحجبات أميل منها إلى النساء الأوروبيات. وأكثر تشوقًا , وأشدُّ
تطلعًا. مع أن الأوربيات في الجملة أجمل. وزينتهن أكمل. وما ذلك إلا أنهن
معروضات على الأنظار. مألوفات للأبصار. وكل معروض مهان. والمألوف لا
يعظم به الافتتان.
منعت شيئاً فأكثرت الولوع به ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
ولنلو عنان النظر عن هذا وذاك , وننظر إلى تلك الواقعة من غير
ملاحظة أن من مقتضى الطباع السليمة ومن شأن النفوس الكبيرة - التي لا
ينكر مناظرنا المسيحي الفاضل أن نفس محمد (صلى الله عليه وسلم) منها وإن
أنكر نبوته - أن لا يقع منها الشذوذ بشدة العشق للقريب المألوف بحيث ينتهي إلى أن
صاحب النفس الكبيرة المتصدي لتأسيس دين وشريعة يزاحم عبدًا من عبيده على
امرأة زوَّجه بها لعشقه لها بعد زهده فيها , وأن يدخل ذلك في الشريعة التي
يؤسسها. ثم يظهر للملأ أن الله تعالى أنَّبه على ذلك بمثل قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) . ولو كانت الواقعة كما يتوهم القوم ,
وكان محمد هو واضع القرآن ومؤلفه لما جعل نفسه ملومًا , وأظهر أنه إنما
أبطل التبني في دينه لحظ نفسه وإرضاء شهوته , وجعل هذه الفضيحة مسجلة عليه
في الكتاب الذي أمر بكتابته دون سائر كلامه , وبشر بأنه ينتشر في مشارق
الأرض ومغاربها , وأنه يبقى مقروءًا متبعًا ما دام الناس في هذا العالم.
قال مناظرنا: إن الأستاذ كتب للمسلمين , وكلامه مبني على التسليم بنبوة
محمد , وهو لا ينهض حجة على النصارى الذين ينظرون في المسألة نظرًا تاريخيًّا
وقد ألمعنا إلى هذا من قبل , ولذلك بنينا الكلام على أن محمدًا رجل مصلح باسم
النبوّة تنزلاً جدليًّا , وإن كان الذين يعتقد فيهم صاحبنا وقومه النبوّة ليس لهم من
الأثر الإصلاحي الديني عشر معشاره. أما كونه مصلحًا فلا ينكره منهم عاقل , وقد
قال لي الدكتور فانديك الشهير: إن مبدأ الاصلاح الذي وضعه محمد هو أعظم
المبادىء وأقواها , وهو الوحدة في الاعتقاد والاجتماع ... ورأيت بعض من كتب
في تاريخ العرب من الإفرنج جعل تاريخهم قسمين قسمًا سماه (ما قبل الإصلاح
المحمدي) , وقسمًا سماه (ما بعد الإصلاح المحمدي) وكل هذا من البديهيات
فلنرجع إلى أصل المسألة.
المخالف موافق لنا في شيء واحد , وهو أن الآيات الواردة في المسألة
متضمنة لإبطال التبني الذي كانت العرب تدين به , ولكنه يدعي أن إبطال هذه
البدعة لم يكن مقصودًا أولاً وبالذات , وإنما كان حيلة للتوسل إلى تزوج محمد
بزينب بعد أن تزوجها عتيقه ومتبناه زيد بن حارثة ورآها عنده قد زادت حسنًا عما
كان يعهد. ولو كان الغرض إبطال التبني وما يترتب عليه من الأحكام الجائرة
والمفاسد الضائرة؛ لعهد بتنفيذ ذلك إلى غيره من أتباعه. ونجيب عن هذا من
وجوه تضمنها كلام الأستاذ أو استلزمها.
(الأول) من المشهود المعهود في البشر أن العادات والتقاليد متى صارت
عامة يصعب على النفوس أن تتركها لمجرد أمر مصلح لا سيما في أول زمن
الدعوة إلى الإصلاح , ولا يقدم على الابتداء بخرق العادة وتمزيق حجب التقليد إلا
أصحاب العزائم الكبيرة , وهم المصلحون الذين يستهدفون لسهام الانتقاد العام
ويتحملون في سبيل الإصلاح كل إهانة وسخرية من الدهماء وجماهير الناس؛
ليكونوا قدوة لغيرهم في ذلك. وقد اتفق علماء التربية على أن ملاكها وقوامها
الاقتداء والتأسي لا القول والإرشاد اللفظي. وكذلك كان شأن النبي (صلى الله عليه
وسلم) في كل ما أبطله من اعتقاداتهم وتقاليدهم وعاداتهم يبدأ بنفسه ثم بأقرب
الناس إليه. وقد مثلنا للأول في هامش مقالة الأستاذ بمسألة الحلق في الحديبية
وكيف خالف النبيَّ جميع الصحابة حتى حلق بالفعل فاقتدوا به , ومثَّل الأستاذ
بإبطال الربا. وليفرض المخالف أنه دخل في دين جديد مقتنعًا به ومعتقدًا صحته ,
وأن القائم بالدعوة إلى هذا الدين أمره بأن يتزوج بأخته لأن دينه يحكم بذلك أليس
يصعب عليه الامتثال أشد الصعوبة بحيث يرجح مخالفته. هذا وإننا نرى أهل كل
دين قد خالفوا بعض أحكام دينهم اتباعًا للعادات التي صارت عامة , ويصعب عليهم
الرجوع إلى الأصل. وإذا كان الأمر بهذه الدرجة من الصعوبة لا يقدم العاقل على
تكليف الناس به بمجرد القول خوفًا من اضطرارهم إلى مخالفته التي تفسد العمل
وتؤدي إلى خلاف المقصود.
(الثاني) لو أنه (صلى الله عليه وسلم) عمد إلى تنفيذ هذا الحكم بغيره
لاحتاج إلى الأمر بعدة أمور بعضها أشد من بعض , ومنها ما هو خلاف تعاليمه
الدينية.
(أحدهما) أن يأمر بعض من تُبُنِّيَ بأن يتزوج , وربما كان يقل في
المسلمين عدد الأدعياء الذين عندهم الاستطاعة الشرعية للتزوج مع أن الذين تبنوهم
مسلمون وفي سن قابل للزواج , وربما يقع الأمر لغير المستطيع من حيث لا يعلم
لأنه لم يكن عارفًا بجميع شئون الناس الخصوصية والمنزلية. على أن من شأن من
يحب أن يطاع في كل أمر أنه لا يتعرض للأمور الخصوصية المباحة إلا بالنسبة
لأقرب الناس إليه بل هذا شأن جميع العقلاء , وهذا الوجه أهون مما بعده.
(ثانيها) أن يأمره بعد الزواج بالطلاق , والأمر بالطلاق منكر , وإنما
أباحه الشرع للضرورة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في التنفير منه: (أبغض
الحلال إلى الله الطلاق) رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ثم
إن هذا المتزوج لا يبعد أن يحصل بينه وبين من يتزوج بها من الألفة والمحبة ما
يصعب معه الفراق. ويتعاصى به الخضوع لأمر الطلاق.
(ثالثها) أن يأمر من كان تبنى هذا المطلق بأن يتزوج بالمطلقة. ويتوقع
في هذا الأمر أمور منها أن هذا المتبني قد تنفر نفسه منها لذاتها بأن يستبشع
صورتها , أو يكون عارفًا من طباعها ما لا يمكنه معه معاشرتها , وقد يكون
متزوجًا بغيرها , ولا يستطيع الجمع بين امرأتين ثم إن هنا ملاحظة أهم من كل ما
ذكر وهو أن تعدد الزوجات مشروط في القرآن بعدم الخوف من ترك العدل بين
الزوجات , ولا شك أن الذي يريد التزوج بامرأة متبناه لمجرد الامتثال لأمر النبي
صلى الله عليه وسلم يخاف من عدم العدل بين الزوجة الجديدة التي يأخذها كارهًا ,
وبين الأولى التي كان آلفًا لها ومستأنسًا بمعاشرتها , وعند ذلك لا يصح النكاح.
(رابعها) أنه قد يرضى هو ولا ترضى هي لأنها فتية وهو شيخ مثلاً , ولا
يخفى شيء من هذه الأمور على ذلك الرجل العظيم الذي جاء بتعاليم وأعمال قلبت
هيئة الأرض , وغيرت نظام الأمم سواء كان نبيًّا (كما هو الواقع) ، أو لم يكن
(كما هو رأي المخالف) .
(الوجه الثالث) أن هذا المصلح الحكيم اختار صورة لإبطال تلك العادة
الدينية الجاهلية خالية من كل المحظورات المشروحة في الوجه الثاني , وذلك بأن
يزوج متبناه بامرأة يقضي العقل بأنه يختار هو وإياها الفراق عن رضى لعدم
الكفاءة , ثم يتزوجها هو ولا شك أنها ترضاه لما هو معلوم من القرابة والجمال
والكمال وكذلك كان.
(الوجه الرابع) أن الذي يدل مع ما تقدم على أن هذا الأمر مقصود للنبي
(صلى الله عليه وسلم) منذ خطب زينب لزيد (رضي الله عنهما) إلحاحه فيه
وعنايته الكبرى به , وقد خطب هو نساء , ولم يتزوج بهن وتزوج بعدة نساء , ولم
يذكر في القرآن شيء من ذلك لأن القرآن كما قلنا لم يذكر فيه إلا أهم المهمات في
الدين حتى إنه لم يذكر فيه هيئة الصلاة ولا عدد ركعاتها ولا تحديد أوقاتها , فعدم
مبالاته بإبائها وتمنعها وإباء أخيها لا يمكن أن يكون لمصلحتها ولا لمصلحة زيد لأن
العقل قاض بأنه لا ينعم له معها بال مع هذا النفور والإباء وما هو معلوم من أنفة
أشراف العرب كبني هاشم وبني المطلب وهي من صميمهم , وكانت لا ترى لها
كفؤًا إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يبق لهذا إلالحاح والتحتيم عليها بالرضى
به إلا قصد إبطال تلك البدعة الذميمة بأقرب الوجوه وأبعدها عن الضرر والضّرار.
(الوجه الخامس) أن السورة التي ذكرت فيها القصة جاء في فاتحتها {وَمَا
جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ *
ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (الأحزاب: 4-5) الآية. وجاء فيها بعد هذا وقبل ذكر القصة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) فقد أبطل التبني بالقول , ولم
يعمل بمقتضاه أحد قبله (صلى الله عليه وسلم) فهذا التمهيد. مع ذلك التشديد.
برهان كافٍ على ذلك القصد الحميد. ومناف لزعم الزاعمين أن قصد النبي صلى
الله عليه وسلم التزوج بزينب كان بعدما رآها في بيت زيد رضي الله عنه. وفي
هذا كفاية لغير المعاند والله أعلم.
__________(3/714)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكمة الصيام
من باب تفسير القرآن العزيز
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*]
لا نذكر الآن ملخص ما أحصيناه من كلام مولانا مفتي الديار المصرية في
تفسير هذه الآية وسائر آيات الصوم , بل ندع ذلك حتى يجيء وقته في الترتيب إذا
أمهلنا الزمان , وإنما نذكر بعض الفوائد مما ذكره في حكمة الصيام التي تضمنها
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21) قال حفظه الله تعالى ما مثاله ملخصًا:
كان الوثنيون يصومون؛ لتسكين غضب آلهتم إذا عملوا ما يغضبهم , أو
لإرضائهم واستمالتهم إلى مساعدتهم في بعض الشئون والأغراض , وكانوا يعتقدون
أن إرضاء الآلهة والتزلف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة الجسد , وانتشر هذا
الاعتقاد في أهل الكتاب , وجاء الإسلام يعلمنا أن الصوم ونحوه يعدنا للسعادة
بالتقوى , وأن الله غني عنَّا.
قلنا: إن معنى (لعل) الإعداد والتهيئة , وإعداد الصيام نفوس الصائمين
لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنًا , وأنصعها برهانًا , وأظهرها
أثرًا , وأعلاها خطرًا (شرفًا) أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه
إلا الله تعالى , وسرٌّ بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه وتعالى , فإذا
ترك الإنسان شهواته ولذاته التي تعرض له في عامة الأوقات لمجرد الامتثال لأمر
ربه , والخضوع لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة ملاحظًا عند عروض كل
رغيبة له من أكل نفيس وشراب عذب بارد وفاكهة يانعة وغير ذلك أنه لولا اطلاع
الله تعالى عليه ومراقبته له؛ لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها. لا جرم
أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى
والحياء منه سبحانه وتعالى أن يراه حيث نهاه. وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان
بالله تعالى , والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس ومؤهل لها لسعادة
الروح في الآخرة.
كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا
أيضًا. انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم؟
هل يسهل عليه أن يراه الله آكلاً لأموالهم بالباطل؟ هل يحتال على الله في منع
الزكاة وهدم هذا الركن الركين من أركان دينه؟ هل يحتال على أكل الربا؟ هل
يقترف المنكرات جهارًا؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله أستارًا؟ كلا
إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله
تعالى. وإذا نسي وألمَّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة
الصحيحة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) إنما روح الصوم وسره في هذا القصد والملاحظة التي
تُحدث هذه المراقبة , وهذا هو معنى كون العمل لوجه الله تعالى وقد لاحظه من
أوجب من الأئمة تبييت النية في كل ليلة [1] .
ثم شرح الأستاذ حال أولئك الغافلين عن الله وعن أنفسهم الذين يفطرون في
رمضان عمدًا , وذكر بعض حيل الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله
كالأدنياء الذين يأكلون ولو في بيوت الأخلية حيث تأكل الجرذ , والذين يغطون في
الجداول والأنهار ويشربون في أثناء ذلك. وما قذف بهؤلاء وأمثالهم ومن هم شر
منهم كالمجاهرين بالفطر إلا تلقينهم العبادة جافة خالية من الروح الذي ذكرناه ,
والسر الذي أفشيناه فحسبوها عقوبةً كما كان يحسبها الوثنيون من قبل , وما كل
إنسان يتحمل العقوبة راضيًا مختارًا.
وههنا شيء ذكره بعضهم ويشمئز الإنسان من شرحه وبيانه وهو أن الصوم
يكسر الشهوة فتضعف النفوس ويعجز الإنسان عن الشهوات والمعاصي. وفيه من
معنى العقوبة والإعنات ما كان يفهمه الكثيرون من جميع مطالب الدين وراثة عن
آبائهم الأولين من أهل الديانات الأخرى. وإذا طبقنا هذا القول على ما نعهده وجودًا
ووقوعًا؛ لا نجد له واقعًا لأن المعروف أن الإنسان إذا جاع يحصل له ضراوة
بالشهوات , وتقوى نهمته ويشتد قرمه , وآثار هذا ظاهرة في صوم أكثر المسلمين
فإنهم في رمضان أكثر تمتعًا بالشهوات منهم في عامة السنة , فما سبب هذا وما
مثاره؟
ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى أن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتًا
فيحمله التذكر على الرأفة والمرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة وقد وصف الله
تعالى نبيه بأنه رءوف رحيم ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلى الله
عليه وسلم ولذلك أمرهم بالتأسي به.
مهما تعددت وجوه فائدة الصوم فلا يبلغ شيء منها مبلغ الوجه الأول , وهو
إنما يكون لمن يصوم لوجه الله تعالى كما هو الملاحظ في النية على ما قدمناه [2]
ومن آية الصيام بهذه النيّة والملاحظة التحلي بتقوى الله تعالى وما يتبعها من أحاسن
الصفات والخلال وفضائل الأعمال.
قال: أنا لا أشك في أن من يصوم على الوجه الذي أقوله يكون راضيًا
مَرْضيًّا مطمئنًا بحيث لا تجد في نفسه اضطرابًا ولا انزعاجًا. نعم ربما يوجد عنده
شيء من الفتور الجسماني وأما الروحاني فلا. أعرف رجلاً لا يغضب في رمضان
مما يغضب له في غيره , ولا يمل من حديث الناس ما كان يمله في أيام الفطر
وذلك لأنه صائم لوجه الله تعالى [3] .
أين هذا كله من الصوم الذي عليه أكثر الناس وهو ما تراهم متفقين على أن
من آثاره السخط والحمق وشدة الغضب لأدنى سبب , واشتهر هذا بينهم وأخذوه
بالتسليم حتى صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعي للصوم , وهو وهم استحوذ على
النفوس فحل منها محل الحقيقة وكان له أثرها. ومتى رسخ الوهم في النفس
يصعب انتزاعه على العقلاء الذين يتعاهدون أنفسهم بالتربية الحقيقية دائمًا فكيف
حال الغافلين عن أنفسهم المنحدرين في تيار العادات والتقاليد الشائعة لا يتفكرون في
مصيرهم ولا يشعرون في أية لجة يقذفون.
قال الأستاذ: إن عندي وهمًا من أوهام الصوم , وإنني لعلمي به أجتهد في
مصارعته ولا أقدر على صرعه وإزالته إلا بعد مضي أيام من أول رمضان. منشأ
ذلك الوهم أن من عادتي أن لا أعمل شيئًا في صبيحة كل يوم إلا بعد تناول طعام
الفطور , فإذا كان رمضان آخذ القلم في الصباح لأكتب مثلاً فلا أدري ماذا أكتب
ويتعاصى القلم أن يجري بسهولة , حتى إنني لولا معرفة السبب لتركته , ولكنني
أزال أعالجه حتى يجري ويغلب سلطان الحقيقة على سلطان الوهم.
إن أكثر الناس يلاحظون في صومهم حفظ رسم الدين الظاهر وموافقة الناس
فيما هم فيه حتى إن الحائض تصوم وترى الفطر في نهار رمضان عارًا ومأثمًا.
ولا بأس بهذا الصوم من غير الحائض لحفظ ظاهر الإسلام وإقامة هيكل شعائره
ولكنه لا يفيد المسلمين شيئًا في دينهم ولا في دنياهم لخلوّه من الروح الذي يُعدهم
للتقوى ويؤهلهم لسعادة الآخرة والدنيا. ثم شرح ما عليه الناس من الاستعداد لأكل
رمضان وشربه بحيث ينفقون فيه على ذلك ما يكاد يساوي نفقة سائر السنة. (قال)
حتى كأنه موسم أكل , وكأن الإمساك عن الطعام في النهار إنما هو لأجل
الاستكثار منه في الليل. وهذا هو الصوم المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (كم
من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) رواه النسائي وابن ماجه , ولا
نطيل بشرح ما عليه الناس فهم يعلمونه علمًا تامًّا , وفيما كتب كفاية لمن يريد
معرفة حقه من باطله , والله الموفق.
(تنبيه) لا ينافي ما ذكرناه هنا عن الأستاذ في كسر الشهوة بالصوم ما
ذكرناه في رمضان الماضي من أن من فوائد الصوم تأديب الشهوة وكسر سورتها؛
لأننا بنيناه على أن ترك الشهوات لأجل الدين يطبع في النفس ملكة الترك فيكون
زمام النفس بيد صاحبها , وذكرنا قبل هذا أن الصوم يقوي البدن , وأنه كتضمير
الخيل فليرجع إليه من أراد يجده موافقًا لقول الأستاذ.
__________
(*) (البقرة: 183) .
(1) يؤيد ما قرره الأستاذ الأحاديث المتفق عليها كقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) قالوا أي من الصغائر وقوله في الحديث القدسي: (يدع شهوته وطعامه من أجلي) .
(2) يؤيده مع الأحاديث التي أشرنا إليها في الحاشية الأولى ما يذكرونه في صيغة النية وهو: (نويت صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة إيمانًا واحتسابًا لوجه الله الكريم) .
(3) يؤيد هذا حديث: (وإنما الصوم جُنَّة فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل) إلخ رواه البخاري ومسلم.(3/721)
الكاتب: نقلا عن مجلة طبيب العائلة
__________
الإسعافات الوقتية عند وقوع أي حادث فجائي [*]
بادر قبل كل شيء باستدعاء الطبيب , وامنع التجمهر حول المصاب
وإزعاجه بالصراخ , ثم اعمل بالنصائح الآتي ذكرها إلى أن يحضر الطبيب.
الرض والخلع والملخ
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب وضع المواد المهيجة والقذرة مثل البول والبصاق.. إلخ ودود العلق.
واجتنب خصوصًا نصائح الدجالين وتداخلهم.
(ما يلزم عمله)
لف الموضع المرضوض أو المخلوع أوالمملوخ بمكمدات نظيفة مبللة بالماء
البارد واربطها برباط خفيف من غير ضغط.
الجرح
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب لمس الجرح وجسَّه بالأصابع , ولا تدخل أية آلة فيه. ولا تضع عليه
أربطة قذرة أو نسالة أو قطع قماش غير نظيفة أو منديل مستعمل أو حجر مدقوق أو
أي شيء آخر غير نظيف. وإذا تجمد الدم على الجرح فإياك من نزعه.
(ما يلزم عمله)
نظف الجرح بلطافة بقماش أو بمنديل نظيف ثم صب عليه ماءً تكون غليته
ثم أبقيته حتى صار فاتراً فإن لم يتيسر هذا الماء فاستعمل الماء المقطر. والأفضل
أن تضيف إليه في الحالتين قليلاً من حمض البوريك. ولا بأس من استعمال
مسحوق البن النظيف. ثم ضع على الجرح قماشًا آخر مبلولاً بمحلول حمض
البوريك أو قطعة من الشاش الرفيع المشبع بالصالول , وضع فوقه قليلاً من القطن
النظيف واربطه برباط لطيف.
النزيف
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب محاولة قطع النزيف باستعمال بيركلورور الحديد أو الخل أو التراب
أو بوضع نسيج العنكبوت , ولا تضع على محل النزيف خرقاً قذرة , ولا تحرك
الجريح ولا تنقله من مكانه قبل مجيء الطبيب. وإذا تجمد الدم على الجرح فإياك
من نزعه.
(ما يلزم عمله)
ضع على محل النزيف قماشًا نظيفًا مطويًّا طيات عديدة أو منديلاً نظيفًا ,
واحفظه على المحل بضغط محكم شديد بطرف الأصابع أو باليد كلها. وإذا استمر
النزيف بعد ذلك استعن بربط العضو من فوق مكان الجرح ربطًا مناسبًا إذا كان
النزيف في أحد الأطراف. وضع رباطًا من الكاوتشوك قاطعًا للنزيف؛ إذا تيسر
لك ذلك وإلا فاربط العضو بأنبوبة من الكاوتشوك المستعملة في الحقن أو بالحمالات
اللستك المستعملة للبنطلون أو بقماش العمامة , وارفع العضو المجروح إلى الأعلى ,
ولا بأس من استعمال مسحوق البن النظيف وتجربة صب الكؤول المضاف إليه
الماء.
ولإيقاف نزيف الأنف؛ ارفع دفعة واحدة الذراع القريب من جهة النزيف
وأَبْقِهِ مرفوعًا بضع دقائق. وضع مكمدات باردة على الجبهة , وأدخل في الأنف
قطعة من القطن النظيف واضغط عليها برهة وأرح المريض وضعه في هواء
لطيف نقي.
الشنق
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب كل سبب يؤدي إلى تأخير قطع الحبل.
(ما يلزم عمله)
بادر بقطع الحبل حالاً ثم أنم المريض ورشَّ ماءً باردًا على وجهه , ودعه
يستنشق منبهات مثل الخل والبصل والنوشادر , وافرك جسمه واستعمل له التنفس
الصناعي , وإذا كان وجهه محمرًّا أو محتقنًا ضع ثلجًا على رأسه وضع ورق الخردل
(المسترده) على أعضائه السفلى (الأفخاذ وسمانة الرجلين) .
الفتق المختنق
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب كل حركة فجائية , وإرجاع الفتق إلى مكانه بضغط زائد أو عنيف.
(ما يلزم عمله)
لا تسعى في إدخال الفتق المختنق إلاَّ بكل لطف , ولا تفعل ذلك إلا مرة
واحدة , ثم أدخل المصاب في الحمام الفاتر أو الساخن , وبعد خروجه ضع ثلجًا
على مكان الفتق.
الاختناق بدخان وأبخرة الفحم (المنقد) وغاز الاستصباح
أو غير ذلك
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب وضع المريض على فراش سخن وتعريضه للشمس واستنشاقه الأبخرة
المهيجة. وإذا كان سبب الاختناق تراكم غاز الاستصباح في غرفة مقفولة لا تدخل
فيها، وبيدك شيءٌ من النور، أو النار (شمعة. لمبة. سجارة. جمرة. إلخ) .
(ما يلزم عمله)
ضع المريض في الهواء المطلق , وانزع عنهُ ثيابهُ وافرك جسمه ورش ماءً
على وجهه بمنديل أو بفوطة واستعمل لهُ التنفس الصناعي.
الصرع
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب تليين الأعضاء المتخشبة , ولا تعط أي شراب للمريض أثناء النوبة.
(ما يلزم عمله)
ألق المريض على الأرض أو الفراش وفك ثيابه , ولاحظه حتى لا يجرح
نفسه.
الإغماء الحقيقي
الدوخة والسقوط مع اصفرار الوجه
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب إجلاس المريض ورفع رأسه.
(ما يلزم عمله)
أنم المريض على مسطح أفقي , واجعل رأسه إلى أسفل ثم ارفع ذراعيه وفك
ثيابه ولا سيما ما كان منها حول العنق , ودعه يستنشق هواءً باردًا , ورش ماءً
باردًا على وجهه , وضع خلاًّ أو إثيرًا أو بصلاً معصورًا تحت أنفه , واضربه على
جسمه بمنديل أو بفوطة , واستعمل له التنفس الصناعي.
السكتة (النقطة)
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب إعطاء الأدوية المقال بأنها مضادة للسكتة.
(ما يلزم عمله)
ألق المريض على ظهره في غرفة هاوية ورأسهُ مرفوعًا, وفك ثيابهُ , وضع
على رأسهِ مكمدات ماء بارد أو مثلج.
وضع ورق الخردل على أعضائه السفلى (الأفخاذ وسمانة الرجلين) .
واحقنهُ حقنة مسهلة , وركب دود العلق على باب البدن.
النوبة العصبية أو الريح والتشنج الموجبان لاستعمال الزار عند العوام
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب استعمال كل رائحة قوية لأنها قد تطيل النوبة العصبية.
(ما يلزم عمله)
ألق المريض على ظهره على الأرض أو الفرش , وفك ثيابهُ خصوصًا ما
كان حول العنق والصدر (كالمشد والحزام) ولاحظهُ حتى لا يجرح نفسه.
السكر
(ما يلزم عمله)
ساعد السكران على التقيؤ بوضع الأصبع في حلقه وإعطائه ماءً فاترًا ,
واسقهِ كل بضع دقائق قليلاً من الماء الممزوج بالسكر المضاف إليه ملعقة قهوة من
خلات النوشادر. ولا بأس من تناوله القهوة.
التسمم
(ما يلزم اجتنابه)
لا يبرح عن الذهن أن الطبيب وحده عليم بالأدوية المضادة للسم التي يجب
استعمالها لكل نوع من السموم.
لا تعط المسموم صفار البيض , ولا فائدة من إعطائه منقوع قرن الخرتيت
ولا من استعمال حجر البنزهير.
(ما يلزم عمله)
ساعد المريض دائمًا على التقيؤ , وأعطه لبنًا أو مشروبات غروية مثل
شراب الصمغ أو زلال البيض. وإذا كان السم قويًّا ومن أصل نباتي كأن يكون:
أفيونًا أو حشيشًا أو بلادونًا أو ديجيتالاً أو فطرًا (عيش الغراب) ساعد المريض
على التقيؤ , وأعطه منبهات وقهوة , وضعْ ورق الخردل على ساقيه , واضربه
على جسمه بمنديل أو بفوطة واستعمل له التنفس الصناعي.
الولادة
(ما يلزم اجتنابه)
امنع وجود المتفرجين , ولا تدع أحدًا ليس لهُ إلمام بطرق الوضع يساعد
الحامل على الولادة , ولا تكشف عنها الغطاء إلا نادرًا.
(ما يلزم عمله)
الأفضل أن يكون المساعد في أحوال الولادة امرأة , وينبغي عدم شد الحبل
السُّري (حبل الخلاص) بعد خروج الولد من بطن أمه. وألق الولد على ظهره
ورأسه عند أقدام والدته. ولا يجب قطع الحبل السري بمجرد تمام الوضع , بل
يلزم الانتظار مدة خمس أو ست دقائق ثم ربط الحبل على مسافة خمسة أو ستة
سنتيمترات من السرة وبعد ذلك يصير قطعه , وضع الوالدة على الفراش بلطف.
الكسر
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب كل حركة عنيفة , ولا تحاول معرفة ما إذا كانت أجزاء العظم
المكسور متحركة أم لا.
(ما يلزم عمله)
ضع المريض على الفراش وضعًا أفقيًّا , ولا تحرك أبدًا العضو المكسور.
وضعْ مكمدات مبللة بالماء البارد على موضع الألم.
الحرق
(ما يلزم اجتنابه)
لا تفتح الفقاقيع المسببة عن الحرق. واحترس من وضع سوائل مهيجة مثل
الحبر (وأخصه الملون) أوالنبيذ إلخ. وامنع البرد عن المحروق.
(ما يلزم عمله)
ضع على الحرق ماءً باردًا أو زيت الخروع أو الزيتون. ثم ضع عليه شاشًا
مغليًّا بالجليسيرين أو الزيت , أو ضع مقدارًا من الفازلين البسيط الممزوج بحمض
البوريك وهو الأفضل إذا تيسر.
الأجسام الغريبة في العين
(ما يلزم اجتنابه)
لا تفرك العين ولا تسمح لأحد بإخراج الجسم الغريب بشيء له أطراف محددة.
(ما يلزم عمله)
ارفع الجفن وانفخ في العين لطرد الجسم الغريب إلى جهة الأنف أو إلى جهة
الأذن ثم اغسل العين بالماء البارد. فإذا كان الجسم منظورًا اجذبه إلى الخارج بكل
لطف بجسم لين أو مستدير مثل طرف منديل نظيف أو دائرة الخاتم أو الدبلة بعد
تنظيفها أو ما أشبه ذلك.
الأجسام الغريبة في الأذن
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب إخراج الجسم الغريب بأية آلة كانت.
(ما يلزم عمله)
استعمل حقنًا ملينة في الأذن من الزيت ثم من الماء النظيف الفاتر ونم على
جهة الأذن التي فيها الجسم الغريب.
الأجسام الغريبة في القناة الهضمية
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب كل واسطة عنيفة لإخراج الجسم الغريب.
(ما يلزم عمله)
أعطِ المريض زيتًا ليشربه , واجتهد في حصول القيء , ولا بأس من
الضرب براحة اليد على ظهره برفق بعد إحناء رأسه إلى الأسفل إذا كان الجسم
الغريب قريبًا من الحلق.
ضربة الشمس
(ما يلزم اجتنابه)
لا يجوز أبدًا استعمال المفتاح أو ربط الرأس بالصوف أو عض الجبهة ولا
أخذ الشمس بالطريقة العامية.
(ما يلزم عمله)
ضع المريض في الظل وفك ثيابه. وضع مكمدات ماء بارد على رأسه.
وافرك جسمه , ولا بأس من وضع الماء البارد ممزوجًا بالملح في الآذان.
الغرق
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب تعليق الغريق من رجليه بحجة تصفية الماء الذي ابتلعه , ولا تستعمل
الحقن والتباخير بالدخان , واجتنب كل تحريك عنيف للمريض , ولا تعطه أي
شراب قبل أن يعود التنفس إلى حالة جيدة.
(ما يلزم عمله)
انزع ثياب الغريق عنه , ونظف فمه وحلقه من المواد المخاطية اللزجة بشاش
ملفوف على أصبعك أو بريشة فرخة ناعمة , وأعد له تنفسه ودفئه بفرك جسمه أو
بوضع أغطية سخنة عليه , واستعمل له التنفس الصناعي.
العقرب [1] أم أربعة وأربعين [2] وبعض أنواع العنكبوت
(ما يلزم اجتنابه)
اجتنب وضع الأشياء القذرة على الموضع الملسوع , ولا فائدة من وضع ما
يسمى بحجر أو فص العقرب على الجرح.
(ما يلزم عمله)
اربط العضو من فوق الموضع الملسوع إذا كان اللسع في أحد الأعضاء.
وشرّط الجرح ثم استعمل الحجامة بوضع كأس هواء على الجرح لامتصاص ما
دخل فيه من السم مع الدم. ولا بأس من مصّ الجرح بواسطة أي شخص كان
بشرط أن لا يكون غشاءُ فمه مجروحًا أو مخدوشًا. واغسل الجرح بالماء النظيف
ومسه بالنوشادر أو بمحلول هيبوكلوريت الجير وهو الأفضل.
الحية [3]
(ما يلزم اجتنابه)
لا فائدة من استعمال حجر البنزهير.
(ما يلزم عمله)
أولاً: بادر بربط العضو الذي فيه الموضع الملسوع حالاً وسريعًا فوق الجرح
أي بين الجرح وأصل العضو إذا كان اللسع في أحد الأطراف. والربط يكون
بأنبوبة من الكاوتشوك أو بقماش عمامة أو بحبل أو بالصوف.
ثانيًا: اغسل الجرح حالاً بالماء النظيف أو بمحلول هيبوكلوريت الجير أو
ببرمنغانات البوتاسا بنسبة واحد إلى مائة من الماء.
ثالثًا: شرّط الجرح واستعمل الحجامة بواسطة كأس هواء على الجرح نفسه
بعد تشريطه. أو مصّ الجرح إذا لم يكن فمك مجروحًا أو مخدوشًا [4] .
رابعًا: احقن الجرح إذا أمكن بمحلول برمنغانات البوتاسا بنسبة واحد إلى
مائة ومن الضروري أن يكون في المنازل (المحتمل وجود حيات فيها وفي أوقات
الحر الشديد والحصيد) كلورور الجير (وهو بخس الثمن وبسيط) بنسبة 1/12 ثم
أضف إليه عند اللزوم خمسة أضعاف مقداره ماء واغسل به الجرح واستعمله حقنًا
تحت الجلد حول الجرح بمقدار 8 إلى 10 غرامات. وهذا المركب يبطل فعل سم
العقرب بل وسم الحية أيضًا إذا استعمل في الوقت اللازم.
خامسًا: إذا سرى السم في الجسم فيستعمل المصل المضاد للسم تركيب
كالميت Calmette إذا أمكن أو المصل المضاد للتيتانوس بالحقن تحت الجلد بمقدار
30 إلى50 غرامًا. وهذا الدواء له فعل قوي جدًّا وينجع غالبًا في نجاة الملسوع من
الموت ولو سرى السم في جسمه من زمن يسير ولذلك يلزم المبادرة باستعماله بكل
سرعة.
التنفس الصناعي
ألق المريض على ظهره , وضع وسادة تحت كتفيه حتى يكون صدره مرتفعًا
قليلاً ثم قف عند رأسه وأمسك ذراعيه عند الجزء العلوي القريب من الكتف
واجذبهما إليك ثم أعدهما إلى محلهما وكرر هذه العملية من 15 إلى 28 مرة في
الدقيقة وبطريقة منتظمة فيعود التنفس. اهـ.
__________
(*) فوائد طبية نافعة قدمتها إدارة مجلة (طبيب العائلة) الغراء إلى الصحافة المصرية فنشرناها
بعبارتها على ما فيها من الكلمات والتراكيب العامية شاكرين لحضرة صاحب هذه المجلة الفاضل
الدكتور عيد خدمته النافعة.
(1) لا خطر في الغالب على الحياة من لسع العقرب إلا عند الأطفال.
(2) لا خطر على حياة الإنسان من لسع أم أربعة وأربعين.
(3) لسع الحية شديد الخطر على الحياة خصوصًا إذا كان في العنق أو في الكتف.
(4) ومما يجب معرفته أن مرور السموم الحيوانية في القناة الهضمية لا يؤثر عليها إذا لم يكن بشيء منها جرح أو خدش.(3/726)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القسم الأدبي
رواية حقيقية في واقعة عربية
ذكر بعض أهل الأدب والتاريخ قال: لما كان من أمر عبد الرحمن بن الأشعث
الكندي ما كان قال الحجاج: اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي في الأسرى أو في
القتلى , فطلبوه فوجوده في الأسرى فلما دخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال:
شهاب بن حرقة. قال: والله لأقتلنك. قال: لم يكن الأمير ليقتلني. قال: ولم
ويلك؟ قال: لأن فيّ خصالاً يرغب فيهنّ الأمير. قال: وما هنّ؟ قال: ضَرُوب
بالصفيحة. هزوم للكتيبة. أحمي الجار. وأذبُّ عن الذمار. وأجود في العسر
واليسر. غير بطيء عن النصر. قال الحجاج: ما أحسن هذه الخصال! !
فأخبرني بأشدّ شيء مر عليك. قال: نعم أصلح الله الأمير:
بينا أنا أسير ... ومركبي وثير [1]
في عصبة من قومي ... في ليلتي ويومي
يمضون كالأجادل [2] ... في الحرب كالبواسل
أنا المطاع فيهم ... في كل ما يليهم
فسرت خمسًا عومًا ... وبعدُ خمسًا يومًا [3]
حتى وردت أرضًا ... ما إن ترامُ عرضًا
من بلد البحرين ... عند طلوع العين
فجئتهم نهارًا ... ألتمس المغارا
حتى إذا كان السحر ... من بعد ما غاب القمر
إذا أنا بِعِير ... يقودها خفير
موقورة متاعًا ... مقبلة سراعًا
فصُلْتُ بالسنان ... مع سادة فتيان
فسقتها جميعًا ... أحثها سريعًا
أريد رمل عالج ... أمعج بالعناجج [4]
أسير في الليالي ... خرقًا بعيدًا خالي [5]
وقد لقينا تعبًا ... وبعد ذاك نصبًا
حتى إذا هبطنا ... من بعد ما علونا
عنّت لنا سدانه ... قد كان فيها عانه [6]
فرمتها بقوسي ... في مهمهٍ كالترس
حتى إذا ما أمعنت ... في القفر ثم درمت [7]
وردت قصرًا منهلاً ... في جوفه طام خلا [8]
وعنده خُيَيْمة ... في جوفها نعيمة
غريرة كالشمس ... فاقت جميع الإنس
فعجت مهري عندها ... حتى وقفت معها
حيَّيْت ثم ردت ... بلطف وحيَّت
فقلت: يا لعُوبُ ... والطَّفلة العروب [9]
هل عندكم قراء ... إذ نحن بالعراء [10]
قالت: نعم برحب ... في سعة وقرب
إربع هنا عتيدًا ... ولا تكن بعيدًا [11]
حتى يجيك عامر ... مثل الهلال الزاهر
فعجت من قريب ... في باطن الكثيب
حتى رأيت عامرًا ... يحمل ليثًا خادرًا [12]
على عتيق سابح ... كمثل طرف اللامح
قال: وكان الحجاج متكئًا فاستوى جالسًا , وقال: دعني من السجع والرجز ,
وخذ في الحديث. قال: نعم أيها الأمير , ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة
وأوقد عليها نارًا , وشق عن بطن الأسد , وألقى مراقّه في النار [13] فجعلت أصلح
الله الأمير أسمع للحم الأسد تشديدًا. فقالت له نعيمة: قد جاءنا ضيف , وأنت في
الصيد. قال: فما فعل؟ قالت: هاهو ذاك بظهر الخيمة , فأومت إليّ فأتيتها فإذا
أنا بغلام أمرد كأن وجهه دائرة القمر فربط فرسي إلى جنب فرسه (مبالغة في
الحفاوة) ودعاني إلى طعامه , فلم أمتنع من أكل لحم الأسد لشدة الجوع , فأكلت أنا
ونعيمة منه بعضه , وأتى الغلام على آخره. ثم قام إلى زق فيه خمر فشرب
وسقاني فشربت , ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره , فبينما نحن كذلك سمعنا
وقع حوافر خيل أصحابي فقمت وركبت فرسي وتناولت رمحي وسرت معهم.
ثم أقبلت وقلت: يا غلام خل عن الجارية ولك ما سواها. فقال: ويحك
احفظ الممالحة. قلت: لا بد من الجارية , فالتفت إليها وقال لها: قفي. ثم قال: يا
فتيان هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس , فبرز إليه رجل من أصحابي , فقال له:
من أنت؟ فلست أقابل إلا كفؤا. فقال: أنا عاصم بن كلبة السعدي. فشد عليه
وأنشد يقول:
إنك يا عاصم بي لجاهل ... إذ رمت أمرًا أنت عنه ناكل
إني كميٌّ في الحروب بازل ... ليث إذا اصطك الليوث باسل
ضرَّاب هامات العدى منازل ... قتال أقران الوغي مقاتل
قال: ثم طعنه طعنة فقتله. ثم قال: يا فتيان هل لكم في العافية وإلا فارس
لفارس. فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام: من أنت؟ قال: أنا صابر بن
حرقة السعدي فشدّ عليه وأنشد يقول:
إنك والإله لست صابرًا ... على سنان يجذب المقابرا [14]
ومنصل مثل الشهاب باترًا ... في كف قرن يمنع الحرائرا [15]
إني إذا ما رمت أن أقامرا ... يكون قرني في الحروب خاسرا [16]
ثم طعنه طعنة فقتله , ثم قال: هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس. فلما
رأيت ذلك هالني أمره وأشفقت على أصحابي , فقلت: احملوا عليه حملة رجل
واحد. فلما رأى ذلك أنشأ يقول:
الآن طاب الموت ثم طابا ... إذ تطلبون رخصةً كعابا
ولا نريد بعدها عتابا ...
فركبت نعيمة فرسها , وأخذت رمحها فما زال يجالدنا ونعيمة حتى قتل منا
عشرين فارسًا. فأشفقت على أصحابي , فقلت: يا غلام قد قبلنا العافية والسلامة ,
فقال: ما كان أحسن هذا لو كان أوّلا ونزلنا وسالمنا.
ثم قلت: يا عامر بحق الممالحة من أنت؟ قال: أنا عامر بن حرقة الطائي ,
وهذه ابنة عمي , ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ما مرَّ بنا إنسي غيركم. فقلت
من أين طعامكم؟ قال: حشرات الطير والوحش والسباع. قلت: من أين
شرابك؟ [17] قال: الخمر أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين. قلت: إن معي مائة من الإبل موقورة متاعًا فخذ منها حاجتك. قال: لا حاجة لي
فيها [18] ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه , فارتحلنا عنهم منصرفين.
قال الحجاج: الآن طاب قتلك يا عدوّ الله لغدرك بالفتى. قال: قد كان خروجي
على الأمير أصلحه الله أعظم من ذلك , فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني
بغيره. فأطلقه ووصله ورده إلى بلاده.
***
جريدة المؤيد
دخلت هذه الجريدة في السنة الثانية عشرة وهي ثابتة في منهاجها مغذة في
سيرها , وثقة الناس بها تزداد بزيادة فوائدها وظهور النفع من إرشادها حتى إن
أعاظم كتاب المسلمين ينفحونها بنفثات أقلامهم وسوانح أفكارهم , فهي الآن الخطيب
الأكبر لقراء العربية يبلغ صوتها إلى ما لا يبلغه صوت عربي. فنهنئ صديقنا
الأستاذ الفاضل الشيخ علي يوسف صاحبها ورئيس تحريرها بهذا التوفيق في خدمة
الأُمة الإسلامية والدولة العلية والبلاد المصرية ونرجو لجريدته زيادة الانتشار.
__________
(1) الوثير: الوطيء ويروَى (ومركبي يسير) وليس بشيء.
(2) جمع أجدل وهو الصقر.
(3) العوم: سير الابل أي سرت خمس ليال مقدرة بسير الأبل ويروى (وبعد خمس يوما) .
(4) معج أسرع ومرّ مرًّا سهلاً ومعج في الجري تفنن وسار في كل وجه , وذلك من النشاط , وكل هذه المعاني تصح هنا وأما العناجج فهي مخففة من العناجيج وهي جياد الخيل والإبل وأحدها عنجوج أو محرفة عن النواعج وهي الإبل السراع.
(5) الخرق بالفتح القفر.
(6) السدان كسحاب الستر , فلعل السدانة مؤنثه , وربما كانت الكلمة محرفة والعانة القطيع من بقر الوحش.
(7) درمت قاربت الخطأ في عجلة.
(8) قوله: قصرًا أي عشيًّا يقال: جئته قصرًا ومقصرًا (كمقعد ومجلس) أي عند العشي وفي الأساس عند دنو العشي قبل العصر والشطر التالي غير ظاهر , وأقرب ما عندي فيه أن الضمير في (جوفه) راجع للفقر وأن ظام (بالمعجمة) خبر لمبتدأ محذوف أي وأنا ظمآن خال.
(9) الطفلة بالفتح الناعمة والعروب المتحببة إلى زوجها.
(10) ويروى هكذا:
هل عندكم لي من قرى ... إذ نحن منكم بالعرا
والعراء: الفضاء لا يستتر فيه بشيء.
(11) ارْبَعْ كاعلم أي: تمهل وانتظر.
(12) الأسد الخادر هو المقيم في خدره يريد أنه اصطاده من عرينه.
(13) مراقّ البطن بالتشديد: ما رق منه واحدها مرق أو لا واحد لها.
(14) ويروى (يجلب المقادرا) .
(15) المنصل كمنخل السيف.
(16) يروى (أقاسر) بدل أقامر , والمقامرة: المراهنة ويرجح هذه الرواية وصف القرن بالخسارة.
(17) يلاحظ إفراده الشراب مع ما ذكره أولاً من أكل نعيمة وعدم ذكره شربها فهو يدل على أنها لم تكن تشرب الخمر.
(18) وفي رواية: لا أرب.(3/735)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات والتقاليد والعادات
رمضان
هذا هو شهر الرياضة الروحية للمسلمين يكثرون فيه الصلوات والصدقات
وتلاوة القرآن الشريف ومدارسة العلم والإكثار من مجالس الوعظ. ولكن لم تسلم
عبادة من هذه العبادات من البدع والمنكرات كما سنشرحه , ولكننا ننبه الآن على
أهمها وأعظمها ضررًا , وهو انتشار الوعاظ الجهال في المساجد ينفثون سموم
التعاليم الفاسدة في أرواح العوام فيزيدونها مرضًا على مرض حتى تكون حرضًا أو
تكون من الهالكين. فنقترح على الأستاذين الكبيرين اللذين من وظيفتهما تلافي هذا
الأمر - شيخ الجامع الأزهر وشيخ المسجد الحسيني - أن يمنعا الجاهلين والدجالين
من الوعظ. ومن كان أمره مستورًا؛ يراقب من بعض أهل العلم بأمرهما حتى إذا
خلط وأساء يمنع. ونقترح على أفاضل العلماء أن ينتشروا في المساجد مذكرين
ومعلمين حتى لا يدعوا سبيلاً للقصاصين.
***
بدعة تعظيم القبور
معصية أم كفر
حديث أحمد والبخاري ومسلم في لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
مشهور. وفي رواية لهم أخرجها النسائي أيضًا أنه قال عليه الصلاة والسلام:
(أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك
الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ومن عجيب أمر المسلمين في
التلاعب في دينهم أنك في كثير من بلادهم (كهذا القطر) لا تكاد تجد مسجدًا إلاّ
وفيه قبر لأحد الصالحين ولكن الذين يلبسون لباس الدين يهوّلون أمر الصور وإن لم
تكن فيها أدنى شبهة تتعلق بالدين والعبادة ويؤولون للذين اتخذوا القبور أوثانًا وإن
عبدوها عبادةً حقيقيةً كما كان يعبدها الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم والتاريخ
شاهد عدل على ذلك , والأحاديث في لعن الذين يتخذون قبور الصالحين مساجد
والنهي عن ذلك كثيرة , ومنها في حديث الطبراني: (ألا وإن الأمم قبلكم كانوا
يتخذون قبور أنبيائهم مساجد وإني أنهاكم عن ذلك اللهم إني بلغت (ثلاث مرات)
ثم قال: اللهم اشهد (ثلاث مرات) .
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن
عباس رضي الله عنهما: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور
والمتخذين عليها المساجد والسرج. وأنت ترى لا سيما في هذا الشهر شهر العبادة
الشموع والسرج الغازية تزهر على القبور التي شيدت عليها المساجد والقباب وترى
النساء والرجال حتى بعض العلماء منهم يطوفون بها ويصلون إليها. سبحان الله ما
أقوى سلطان العادات الرديئة على الإنسان يستبيح ما يحظره دينه ويسميه بدعة
حسنة ثم يجعله من نفس الدين ثم يطعن في دين من يقف عند نصوص الدين
الصحيحة ويتمسك بعقائده الرجحية.
تساهل بعض الفقهاء بإنكار هذه الفتن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم
يكرر النهي عنها في مرض الموت ويلعن فاعليها فأدى ذلك إلى جعلها من مهمات
الدين.
(1) اتخاذ القبور مساجد.
(2) إيقاد السرج عليها.
(3) اتخاذها أوثانًا.
(4) الطواف بها.
(5) استلامها.
(6) الصلاة إليها.
ست بدع سماها ابن حجر في الزواجر كبائر مع أن بعضها من الشرك , وقد
بحث فيها بعد إيراد الأحاديث الصحيحة الواردة في حظرها بحثًا نذكره حجة على
المخذولين الذين يقترفون هذه الموبقات , ولا يقبلون نصوص الكتاب والسنة في
التشديد فيها زعمًا منهم أن المقلد لا يأخذ إلا بقول الفقهاء. قال هذا الفقيه الشهير
رحمه الله تعالى ما نصه:
(عَدُّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية , وكأنه أخذ ذلك مما
ذكرته من هذه الأحاديث. ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من
فعل ذلك بقبور أنبيائه وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم
القيامة ففيه تحذير لنا كما في رواية (يحذر ما صنعوا) أي يحذر أمته بقوله لهم
ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا , واتخاذ القبر مسجدًا معناه
الصلاة عليه أو إليه , وحينئذ فقوله: (والصلاة إليها) مكرر إلا أن يراد باتخاذها
مساجد الصلاة عليها فقط. نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر مُعَظَّم من نبي
أو ولي كما أشارت إليه رواية (إذا كان فيهم الرجل الصالح) , ومن ثم قال
أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا. فاشترطوا
شيئين أن يكون قبر معظم , وأن يقصد بالصلاة إليه - ومثلها الصلاة عليه -
التبرك والإعظام. وكونُ هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت.
وكأنه قاس على ذلك كل تعظيم كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به. والطواف
به كذلك. وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرّح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من
اتخذ على القبر سرجًا. فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به
تعظيمًا وتبركًا بذي القبر.
وأما اتخاذها أوثانًا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تتخذوا
قبري وثنًا يعبد بعدي) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه.
فإن أراد ذلك الإمام بقوله: واتخاذها أوثانًا هذا المعنى اتجه ما قاله من أن ذلك
كبيرة بل كفر بشرطه. وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن به كبيرة ففيه
بُعْد [1] .
نعم قال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركًا بها عين
المحادّة لله ورسوله , وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثمَّ إجماعًا فإن أعظم
المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناؤها عليها. والقول
بالكراهة محمول على غير ذلك , إذ لا يليق بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي
صلى الله عليه وسلم لعن فاعله. وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على
القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك , وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة
وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر , ولا يصح وقفه ونذره انتهى) .
هذا ما جاء في الزواجر بحروفه , وفيه إلجام لمنافقي هذا الزمان الذين
يسهلون على الناس هدم دينهم وحمل لعنة النبي صلى الله عليه وسلم , بل يوقعونهم
في خطر المروق من الإسلام ومحادة الله ورسوله (معاداتهما) لأجل قليل من
الحطام الذي ينالهم من النذور فيأكلونه سحتًا {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا
عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (التوبة: 9) .
__________
(1) قوله ففيه بُعْد هو البعيد عن الصواب لأنه يدخل في مفهوم قوله تعالى [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] (الشورى: 21) ولذلك استدرك عليه بما ذكره عن الحنابلة.(3/741)
16 رمضان - 1318هـ
7 يناير - 1901م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورات بين المصلح والمقلد
المحاورة الثالثة
تأثير الاعتقاد بقرب الساعة , أخذ العرب حساب الجمل عن غيرهم
الطريق المضبوط في استعماله , تاريخ الأئمة الأربعة , إنكار ذلك في القرآن
مناظرة سنيّ وشيعيّ , البحث في حديث اليهود السابق , وعدم صحته , إنكار
المتكلمين ذلك الحساب في أوائل السور , السريانية ولغة الملائكة , الاتفاق
في صحة ذلك الحساب , كشف الأولياء في الساعة ومقدماتها , جغرافية الآخرة
وخرائطها , الأحاديث في الساعة وشرائطها , عمر الدنيا , الأحاديث الموضوعة
والمنكرة في ذلك , وغرض واضعها. تحرير المقال في ذلك.
عاد الشيخ الواعظ , والشاب المصلح إلى المحاورة متفقين على أن لا يقبل
أحد منهما قولاً للآخر إلا بدليل صحيح , واستأنفا الكلام في مسألة قرب قيام الساعة
وطرق الاستدلال عليها؛ لأن هذه المسألة قد أضرت بالمسلمين , وكانت مكسلةً لهم
عن العمل , وموطنة نفوسهم على الرضى بالضيم , والذل لما يلغط به الوعاظ
الجهلاء في كل عصر من قرب قيامها , ومن أنه لا بد أن يتقدمه ضعف الدين ,
وتلاشي المسلمين , وابتدأ الشاب الكلام فقال:
(المصلح) : لا أنكر أن هذا الشيء الذي يسمونه الجمّل قديم , وأنه انتقل
إلى العرب من السريانيين , والعبرانيين , ولكن دلالته ليست عقليةً , ولا طبيعيةً ,
وإنما تكون بالمواضعة والاصطلاح , ولم يتفق للعرب , ولا لغيرهم اصطلاح
يصحح أن تؤخذ أيّة كلمة , وتحسب ويُحْكَم بعددها على أنه تحديد لزمن أمة من
الأمم في وجودها , أو استقلالها , بل لا يوجد في اللغة رموز حسابية , أو غير
حسابية تدل على الحوادث المستقبلة , وقصارى ما يمكن أن يستفاد من هذا الحساب
بطريقة وضعية اصطلاحية يفهمها كل من يعرف الاصطلاح الوضعي فيها هو نحو
ما جرى عليه الناس من التأريخ بها بأن تذكر كلمة , أو كلام يعيّن بوقوعه بعد لفظ
مخصوص كالألفاظ المركبة من مادة (أرخ) , ويجعل ما يحصل من حروفها
بالجمل بيان سنة حدث فيها شيء يراد توقيته , ومعرفته , ولا بد من ذكر ذلك
الشيء بعبارة يفهم منها كل من تلقى إليه ما يراد منها , ومن هذا النحو قول بعضهم
في بيان تاريخ مولد الأئمة الأربعة المجتهدين , ووفاتهم , ومدة حياتهم , وهو:
تاريخ نعمان يكن سيف سطا ... ومالك في قطع جوف ضبطا
80 150 70 ... 90 179 89
والشافعي صين ببر ند ... وأحمد بسبق أمر جعد
150 204 54 ... 164 241 ... 77
فخذ على ترتيب نظم الشعر ... ميلادهم فموتهم فالعمر
فلولا البيت الأخير الذي أرشد إلى المراد لما اتضح لقارئه وسامعه وحينئذ لا
تكون دلالته صحيحة , ولا يصح أن يقصد العاقل ما ليس بصحيح لأنه لغو فكيف
يصح أن يكون مثل هذا اللغو مضافًا إلى كتاب الله تعالى وهو نقص ومناف للبيان
الذي وصف الله به القرآن بمثل قوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ} (الشعراء: 1-2) وقوله عز وجل: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ} (الزخرف: 1-
2) فلو كانت هذه الحروف رموزًا ومُعَمَّيَات لما وُصلتْ بهذا الوصف الشريف الذي
هو من أخص أوصاف القرآن. وقد أنكر علماء الكلام أن يكون في القرآن كلام
غير مفهوم للناس , واستدلوا على ذلك بالنقل والعقل فلا يصح للمقلد أن يترك
كلامهم , وهم حماة العقائد , وأنصار الدين لكلام القصاصين , والدجالين , وأذكر
لك لطيفة جرت مع بعض الأدباء في دلالة الكلمات بالتحكم في حساب الجمل , وهو
أن شيعيًّا اسمه حَمَد ناظر أحد الأدباء فاحتج عليه بحساب الجمل , وموافقة بعض
كلمات القرآن فيه لما أراد على نحو ما ذكرت لي في الاستدلال على قيام الساعة
سنة 1407 للهجرة بقوله تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187) فقال
له ذلك الأديب: هل تقبل مثل هذا الاستدلال؟ قال: نعم. قال: إذن أنت كلب؛
لأن حرف حمد 52 في هذا الحساب وحروف كلب كذلك. فقال حمد: إن اسمي
الصحيح أحمد قال الأديب: إذن أنت أكلب فخجل وانقطع عن المناظرة.
وأما ما روي عن اليهود وذكرته في مجلسنا الماضي فلا يصح , وقد أخذه
المفسرون الذين لا يتحرَّون في النقل من كتب السير والمغازي كسيرة ابن إسحق
وأكثر ما في تلك الكتب لا يعتمد عليه كما علمت. وقد رأيت في شرح الإحياء ما
نصه: (وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر
للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال الحافظ ابن حجر: وهذا باطل لا يعتمد عليه ,
فقد ثبت عن ابن عباس النهي عن (أباجاد) والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر ,
وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة) , ولو سلمنا صحته رواية لكان لنا
أن نبحث فيه من حيث الدراية بمثل ما ذكرناه مختصرًا وأطال فيه بعض المتكلمين
والمفسرين كالإمام الرازي على أنه لا يدل على ما ذكرت , إذ يجوز أن يكون ما
أجاب به صلى الله عليه وسلم ياسرًا , وحيًّا ابنَيْ أخطب مرادًا به إبطال دلالتهما
ودحض شبهتهما لعلمه بأنهما يقصدان التلبيس والإيهام فاضطرهما إلى التصريح
بالتلبيس حيث قال حيٌّ: (قد لبّس علينا أمرك يا محمد) .
(المقلد) : إن في بعض كلامك حجة عليك وهو قولك أن أباجاد الذي هو
أصل حساب الجمّل مأخوذ من اللغة السريانية وهي لغة الملائكة فأي مانع يمنع أن
يكون في القرآن شيء من لغة الملائكة يدل على الأمور الغيبية ويكون فهمه
مخصوصًا بالخواص الذين يعرفون كلام الملائكة كالأنبياء والأولياء؟ فقد روي عن
سيدي القطب الغوث الشيخ عبد العزيز الدباغ قدس الله سره العزيز أن أهل الديوان
الباطني لا يتكلمون إلا بالسريانية لاختصارها فإن الحرف الواحد منها يدل على
معانٍ كثيرة لا سيما حروف أوائل السور ولعلك اطلعت على هذا في كتاب
(الذهب الإبريز) .
(المصلح) : إنني لم أعن بقولي: (السريانيين) الملائكة , وإنما أعني
جيلاً من الناس أمرهم معروف في التاريخ كانوا يسمون يوم السبت أبجد , ويوم
الأحد هوّز , والإثنين حطي , والثلاثاء كلمن , والأربعاء سعفص , والخميس
قرشت , والجمعة العروبة , وقد وضع السريان هذه الكلمات مشتملة على حروف
الهجاء عندهم , وأخذها العرب عنهم وأضافوا إليها كلمتين مؤلفتين من باقي حروف
الهجاء العربية التي لا توجد في اللغة السريانية وهما: ثخذ وضظغ وسموها
الروادف أي اللواحق , ووافقوا السريان أيضًا في ضبط مراتب الحساب بها
وزادوا عليهم بما في لغتهم من الحروف الزائدة بجعل كل حرف يزيد على ما قبله
100، فالثاءُ 500، والخاء 600 إلخ وساعدهم الجدُّ أن وافق الحرف الأخير (غ)
آخر مراتب العدد عندهم وهو الألف , وزعم بعض المؤرخين أن العرب كانوا
يسمون أيام الأسبوع بما ذكرناه عن السريان أيضًا.
أما الملائكة فاعتقادي فيهم أنهم عالم روحاني غيبي وأن قياسهم على عالم
المادة الذي يتفاهم عقلاؤه بأصوات تكيفها الحروف قياس غير صحيح , أو كما
يقول الأصوليون قياس مع الفارق , وأن كل ما غاب علمه عن الناس ولم ينله
كسبهم لا يقبل فيه إلا قول عالم الغيب , وليس عندي نص قطعي في تفاهم الملائكة
وتخاطبهم. وأما ما ذكرت عن أهل الديوان الباطني فلا أخوض فيه الآن بل أدعه
للبحث التفصيلي في أمراض الأمة الإسلامية أن دخلت معي فيه , وأكتفي الآن بأن
أقول إن ما ذكرت عنهم لا تقوم عليه حجة مرضية ولا بينة شرعية , فإن خالفتني
طالبتك بالنص.
(المقلد) : إنني أعلم منك تعظيم شأن الوقائع الوجودية وكثيرًا ما سمعتك
تقول: إن الذي لا ينطبق على ما في الوجود ولا يمثل حقيقة الواقع فهو خيال
ووسواس من وساوس النفوس وأوهامها يجب طرحه وإهماله وتسميته جهلاً وإن
سماه المبتلون به علمًا إلا ما أخبر به المعصوم من علم الغيب فيسلم به من غير
بحث فيه ولا قياس عليه بشرط واحد وهو أن يكون جائزًا في نظر العقل. وإنني
أحتج عليك بهذا فقد كان لي تلميذ في الأزهر دخل مدرسة دار العلوم وتعلم فيما
يتعلمون فيها التاريخ , وولع به حتى كنت أنهاه عن الإيغال فيه إذا اتفق لي
الاجتماع به لقول بعضهم: إن مطالعة كتبه تؤدي إلى التشيع وبغض سيدنا معاوية
رضي الله عنه. ولما رأيتك تحتج بالتاريخ وتعتبره حتى كأنه فقه جئته في هذه
الأيام وسألته: هل يوجد في التاريخ أن أحدًا استدل على بعض الأمور بحساب
الجمل وأصاب؟ فقال: نعم استخرج بعضهم من قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: 1-2) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة 583 فكان كما قال
ومنذ سمعت هذه الواقعة خطر لي أن أحتج عليك بها , ولكنني كنت أتوقع الرد
عليَّ بأن كلام المؤرخين لا يحتج به على رأيي أنا حتى ذكرت ذلك لبعض علماء
الحنفية فقال: إن هذه الرواية مذكورة في البحر, وعبارته هكذا - وأخرج الشيخ
من جيبه ورقة وقرأ فيها ما نصه - (كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي
عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي
أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 1-4)
افتتاح المسلمين بيت المقدس معينًا زمانه ويومه , وكان إذ ذاك بيت المقدس قد
غلبت عليه النصارى , وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح , وأنه بعد
موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم) فتعين الاعتماد على
هذا والأخذ به.
(المصلح) : أراك نسيت أننا اتفقنا على أن لا يقبل أحدنا من الآخر دعوى
بدون دليل , وليس من الدليل في شيء ذكر الدعوى في أحد الكتب وتسليم أحد
العلماء بها. وما استخرجه أبو الحكم يجري عليه حكم قولنا من قبل أنه لا يعرف له
وجه مضبوط في الدلالة , فلا تلجئني إلى التكرار. نعم إن العلم الصحيح هو ما
أثبته الوجود , وإن التاريخ هو الذي يحكي عن علم الإنسان ولكن التاريخ إنما يثبت
لنا الوقائع الجزئية ونحن نحكم عليها بما يعطينا العقل من القواعد العامة , فإذا
صحت رواية أبي الحكم فصحتها لا تثبت لنا قاعدة عامة وهي على ما هي عليه من
الإبهام والغموض بل هي إلى الاتفاق الذي يسمونه (الصدفة) أقرب.
(المقلد) : وماذا تقول فيما ثبت بالكشف عن الأولياء؟
(المصلح) : أقول بقول العلماء الأصوليين وهو أنه حجة على من قام عنده
لا يصح الاحتجاج به على غيره. ثم إننا إذا نظرنا فيما نقل عن أهل الكشف من
الأخبار عن الملاحم وما يجري في العالم من الحدثان نرى أقوالهم متضاربة
متعارضة وقد ظهر كذب أكثره.
(المقلد) : إذا سلمنا لك هذا فيحتمل أن يكون ما ظهر كذبه لم يصح عنهم,
أو أنه مما نقل عن الذين اشتهروا بالصلاح والولاية ولم يصلوا إلى مقام الكشف
الكامل أما مثل الإمام الشعراني الذي اطلع على الموقف والجنة والنار مثل شيخه
الخواص والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فلا أظن أنهم أخبروا بشيء إلا
وظهر كما قالوا إن كان قد جاء وقته وإلا فسوف يظهر.
(المصلح) : نحن لم نطلع على الآخرة فنطبق عليها ما ذكره الشعراني من
جغرافية الموقف وما فيه , وما رسمه من الخرائط للصراط والميزان والجنة والنار
مما لا نعرف له دليلاً من كتاب ولا سنة ولا عقل ولا حكمة , ومن العجيب أن أكثر
شيوخهم يرغبون عن جغرافية الدنيا المشهورة النافعة وينكرونها ويرغبون في
جغرافية الآخرة المغيبة ويسلمون بها تسليمًا.
وأما ما جاء في كتبه من الإخبار عن الفتن والملاحم وما يكون قبل الساعة
فجله أو كله منقول عن كتب الشيخ محيي الدين بن عربي , وقد صرح هذا بأن
المهدي كان موجودًا في زمنه وذكر وقائعه معه. وفي كلامه عنه إشارات ورموز ,
ومما اشتهر منها قوله: إنه يظهر بعد مضي ج ف خ وهي بحساب الجمّل 683 أي
أن ظهوره يكون قبل انتهاء القرن السابع , ونحن الآن في القرن الرابع عشر. وإذا
لم تقتنع بهذا الشاهد فإنني أعززه بكثير من الأمثال.
(المقلد) : انني أغض النظر عن كل هذا إلا الأحاديث المروية في الكتب
المعتبرة فإنها وإن لم تكن متواترة بحيث يجب اعتقادها على كل مسلم ويكفر
منكرها فإن من يصح عنده الحديث ويطمئن قلبه له يكون بالنسبة إليه كالمتواتر ,
ولا يسعه إلا الاعتقاد بمضمونه ولما رأيتك مطلعًا على كتب الحديث ولا تقبل منها
إلا ما تصح روايته اضطررت إلى المراجعة عن حديث تأخير الأمة إلى يوم
ونصف من أيام الآخرة فوجدت أن أبا داود روى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم) قيل لسعد: وكم
نصف اليوم؟ قال: خمسمائة سنة , وأما حديث: (إن أساءت أمتي فلها يوم , وإن
أحسنت فلها يوم ونصف) فلم أقف على تخريجه إلا أنني أتذكر أنني تلقيته عن
بعض العلماء الصالحين , وأرجو أن أجد له سندًا صحيحًا.
(المصلح) : إن أبا داوود يروي أحيانًا للضعفاء , وقد طعن في كثير من
رجاله وإذا سلمت لك صحة هذا الحديث من حيث السند فما قولك بمخالفته للواقع؟
وقد قالوا: إنها من آيات الوضع لأن الكلام الذي لا يطابق الواقع هو الكذب ,
والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم عن الكذب , فإن قلت: إنما يكون مخالفًا
للواقع إذا لم يمكن التأويل وهو ممكن لأن العدد لا مفهوم له كما تقرر في الأصول.
أقول: إن هذا التأويل يبطل استدلالك بالحديث كيفما روي.
(المقلد) : جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أجلكم
في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشمس) فإذا كانت مدة الدنيا
من عهد آدم إلى عهد نبينا عليهما الصلاة والسلام 5500 سنة كما هو منصوص في
بعض كتب التفسير وفي قصص الأنبياء فثلثها يكون قريبا من ألف وتسعمائة وما
بين العصر والمغرب ينقص عن الثلث لا سيما إذا اعتبرنا أن أول النهار الصبح
كما هو مقتضى الشرع في الصوم وغيره من الأحكام الكثيرة , فإذا قلنا: إن مدة الدنيا
سبعة آلاف سنة كما ورد أيضًا في الكتب المذكورة آنفًا يقتضي أن يضاف إلى
الخمسة آلاف وخمسمائة سنة ألف وخمسمائة أخرى وهي مقدار ما بين العصر
والمغرب تقريبًا يكون المجموع سبعة آلاف سنة , فيوافق بعضُ النصوص بعضًا ,
وربما كان ما قلنا إنه تقريبي تحديديًّا عند الله تعالى ويقويه موافقة النصوص فيه.
ويصح أن يكون هذا مؤيدًا لاستنباط ذلك العالم الصالح الذي لا يبعد عندي أن يكون
من أهل الكشف , ويكون المراد من إتيان الساعة بغتة أي سنة 1407 إتيان
مقدماتها وأشراطها الكبرى كالمهدي وانتشار الضلال ويصح قولي الأول.
(المصلح) : اعلم أيها الأستاذ - ولا تؤاخذني بقول اعلم - أن من أهل
الملل من دخل في الإسلام في العصر الأول عن غير بينة ولا اعتقاد , وتظاهروا
بالتمسك به لأجل أن يوثق بهم وتقبل رواياتهم فيما قصدوه من إفساد عقائده وإدخال
الدخائل التي تثير الفتن وتفسد الأخلاق في تعاليمه , وقد اعتنى بعضهم بإقناع
المسلمين بأن دينهم قصير الأمد ومدة بقائهم في الدنيا قليلة؛ ليوقعوا هذه الأمة في
هاوية اليأس ويثبطوا هم أفرادها عن السعي في الفتوح ومد ظل السيادة والسلطة
على رءوس الأمم أو يشككوهم في دينهم فابتدعوا طريقًا جديدة في الاستدلال
بالكتاب والسنة وهي ما بينا إبطاله , ووضعوا أحاديث كثيرة في ذلك يناقض بعضها
بعضًا اهتدى المحدثون المحققون رضي الله عنهم إلى وضع بعضها ودخل عليهم
الغش في بعض آخر لتظاهر رواته بالصلاح.
فمما صرحوا بوضعه أو ضعفه حديث: (عند رأس المائة سنة يبعث الله
ريحًا باردة طيبة تقبض روح كل مؤمن) . قال بعضهم: إنه باطل قد كذبه الوجود
وقال ابن عدي: فيه بعض الضعف ولكن الحاكم أخرجه في المستدرك وصححه.
وفي معناه حديث مسلم عن أبي سعيد مرفوعًا: لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض
نفس منفوسة اليوم , ورواية أخرى له عن جابر مؤكدة بالقسم. وهذا أقرب إلى
التأويل , فقد قالوا: إن المراد به انقضاء الجيل.
ومما قطعوا ببطلانه حديث: لا يولد بعد المائة مولود لله فيه حاجة قال الإمام
أحمد: ليس بصحيح , كيف وكثير من الأئمة ولد بعد ذلك. وحديث: زينة الدنيا
سنة خمس وعشرين ومائة قالوا: هو موضوع. وحديث: إن دين النبي صلى الله
عليه وسلم لا يبقى بعد وفاته إلى القيامة ألف سنة قال الإمام النووي: باطل لا
أصل له. وأنا لا أعتقد بصحة حديث فيه تحديد قيام الساعة؛ لأن القرآن مصرح
بأنه مما استأثر الله بعلمه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ
رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِ لاَ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:
187) فلو كان المراد بلفظ (بغتة) تحديد وقتها لما كان للحصر قبله وبعده معنى.
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما حديث الصحيحين فهو يدل على أن ما بقي من عمر الدنيا يعد بالألوف
أو بالملايين لأن ما ذكرت من تحديد عمر الدنيا بسبعة آلاف سنة هو من
الإسرائيليات التي لا ثقة بها , وإنما يوثق بما ثبت بالبحث العلمي في طبقات
الأرض وآثار الإنسان فيها , وهو مقدر بالملايين من السنين لا بالألوف. ولا ينافيه
حديث: بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى لأن المراد به التقريب
النسبي.
(المقلد) : وماذا تقول بحديث مسلم: لا تقوم الساعة إلاَّ على شرار الخلق
مع ملاحظة فساد أخلاق المسلمين وإعراضهم عن العمل بدينهم.
(المصلح) : لِمَ تذكر هذا وتنسى ما رواه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى
يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه وحتى تعود أرض العرب مروجًا
وأنهارًا وفي روية أخرى له قال: (تبلغ المساكن إهاب أو يِهاب) وإهاب بقعة
خارج المدينة المنورة يعني أن العمران يتسع فيبلغها. فأين استعداد جزيرة العرب
لهذا اليوم , ومتى أخذت به فمتى يتم؟ ثم انصرفا على موعد سنشرح ما يكون فيه
إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/745)
الكاتب: أحد الفضلاء
__________
عقوبة الإعدام
يحملنا على البحث في هذا الموضوع تطبيق هذه العقوبة على شخصين في
القاهرة في أقل من أسبوع. وليس بحثنا فيه من الوجهة القانونية وإنما من حيث
مزاعم بعض العلماء في حالة من يقضى عليه بالإعدام بعد موته. وقبل الخوض في
البحث نأتي بلمعة من تاريخ عقوبة الإعدام عند بعض الأمم فنقول:
يظهر من استجلاء صفحات التاريخ أن عقوبة الإعدام كانت تناسب في
قسوتها وفظاعتها حالة الأمم من التوحش والجهالة. فقد كان المجرم في بيت
المقدس يمثّل الأهالي به في الطرقات أفظع تمثيل إلى أن يموت , وفي إسبارطة
إحدى عاصمتي بلاد اليونان في العهد الغابر كانوا يتركون المحكوم عليه بالإعدام
يموت جوعًا أو يلقونه في جب , واخترعت في العصور الوسطى آلات كثيرةٌ
للتعذيب مبالغة في إيذاء المجرم منها ما كان يصلح لسمل العينين أو نزع الأظافر
إلى غير ذلك من الوسائل التي يقشعر البدن لذكرها.
أما في فرنسا فكانت عقوبة التعذيب شائعة إلى عهد قريب ولم تبطل إلا في
عام 1791 حيث قامت مقامها العقوبة بآلة قطع الرأس المعروفة بالجيوتين
Guillotine , ولبقية الأمم الأوروبية عادات خاصة بها في عقوبة الإعدام , ففي
أسبانيا الحلقة الحديدية التي توضع حول الرأس ثم تضيق شيئًا فشيئًا حتى تتكسر
عظام الجمجمة وهي أفظع عقوبة فيما نعلم , وفي إنكلترا الشنق عن المثال المعهود
في مصر لعامة الناس , وفلق الرأس بسلاح يشبه الفأس الذي يفلق به حطب
الحريق للنبلاء والأشراف , وأما بقية الدول كالروسيا وإيطاليا ورومانيا واليونان
والبرتغال وهولانده وجمهورية سانمارين وبليجيكا و12 مقاطعة من مقاطعات
سويسرة البالغ عددها 22 مقاطعة فقد محت آثار تلك العقوبة من القوانين ففاتتها
بذلك الحكمة البالغة التي تسطع أنوارها الباهرة من آية {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ
يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 179) . وكما شرع الإسلام القصاص بمقتضى
الحكمة شرع درء الحدود بالشبهات , وحرّم التمثيل عملاً بمقتضى الرحمة. وفي
الحديث الشريف: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة , وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة , وليحدّ
أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) والمراد ذبح الحيوان كما هو ظاهر.
أما الجيوتين فهي سكين ثقيلة جدا مائلة الحد مثبتة بين عمودين في الخشب
توضع رقبة المحكوم عليه بين طرفيهما الأسفلين بينما تكون السكين معلقة بين
الطرفين العلويين فإذا أسقطها الجلاد قطعت الرقبة في مدة وجيزة جدًّا.
وقد بحث الكثيرون فيما إذا كانت هذه الآلة تكفي المحكوم عليهم مؤنة الألم
وقت التنفيذ أم لا؟ فأجمعت آراؤهم على ذلك وأن الرأس تلبث عقب فصلها عن
الجثة دقيقتين أو ثلاث دقائق خاضعة لكثير من التأثيرات والانفعالات التي تشاهد
منها قبل الحياة كاختلاج العينين وتحرك الشفتين والفكين لأنهم اعتبروا هذه
الانفعالات من الحركات الانعكاسية التي لا دخل لإرادة الإنسان فيها ولا شعور له
بها.
وذهب الكثيرون إلى أن الرأس المقطوعة تعض ما تصادفه مستدلين على
صحة هذا الزعم بأن رجلاً قطعت رأسه في مدينة برست من أعمال فرنسا لذنب
أتاه فوضع أحدهم قلم رصاص في فمه فانطبق فكاه عليه انطباقًا شديدًا أفضى إلى
كسره قطعتين. وروى آخرون أن طبيبًا اسمه لابومراي صدر الحكم عليه بالإعدام
فحضر إليه صديق من زملائه في مهنة الطب ورجا منه أن يخصص نفسه لتجربة
علمية عقب قطع رأسه لمعرفة ما إذا كانت الحياة والإحساس يبقيان بعد قطع الرأس؛
فأجابه الطبيب المحكوم عليه إلى طلبه. فقال له صديقه: إذن سأسألك همسًا في
أذنك (يامسيو كورتي دي لابومري: هل تستطيع بحياة علائقنا الودية القديمة أن
تطبق جفني عينك اليمنى ثلاث مرات بحيث تبقى عينك اليسرى مفتوحة كما هي؟)
فوعده الطبيب المحكوم عليه إلى طلبه.
ولما كان يوم تنفيذ الحكم تلقى الطبيب رأس صديقه من يد الجلاد وأدنى أذنها
من فمه وأعاد ذلك السؤال فأغمضت الرأس عينها اليمنى مرة واحدة وبقيت العين
الأخرى مفتوحة تنظر إليه. ولكن العلم لم يسلم بهذه التجربة؛ لأن الدكتور فلبو
وهو ذلك الصديق لم يشر إليها بكلمة في مؤلفاته العديدة.
ولنشرح الآن حقيقة ما يتفق للمقتول بآلة الجيوتين عقب هبوط السكين على
رقبته وقطعها لها في أقل من ثلث ثانية فنقول: إن قطع السكين للرقبة يزعزع
النخاع المستطيل والغدد فتقف في الحال وظائفها , ويحصل الإغماء الحقيقي الذي
ينشأ عنه الموت وانقطاع العلائق العضوية بين القلب والمخ. أما إذا لم تكن صدمة
السكين للرقبة مصحوبة بتأثير يؤدي إلى قطع عروق الرقبة وشرايينها التي ينزل
دم الجمجمة منها فمن الممكن بقاء يقظة المخ ونهوض الفكر على حالهما وفي هذا
من التعذيب الشنيع ما لا يخفى.
وحقيقة قسوة الحكم بالإعدام تنحصر في يقظة المحكوم عليه من نومه عالمًا
بما يصير إليه أمره في يومه وأنه سيساق إلى دائرة التنفيذ.
وكثيرًا ما يفقد رشده في هذه الأثناء , ويغمى عليه فيباشر الجلاد في إعدام شخص
معدوم الحياة تقريبًا.
... ... ... ... ... ... م. م
__________(3/759)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محاورة الماء والنار في توليد البخار
لأحد الفضلاء
وضع الماء البرود في المرجل , والتهب العشب تحته واشتعل وهو يستجير
من النار , ولا مستجيب لمن استجار , ويستغيث , ولا مغيث , قد تطاير من الغيظ
شراره , وأحاطت بالدهماء ناره , وسرى الحرور , في جسم التأمور [1] , ولم يقو
حجاب المرجل الكثيف , على رد ذلك الساري اللطيف , كأنما تحالفا على تصعيد
الأباب [2] لسبب من الأسباب , وبينما تتساءل جواهر الماء , عما حل بها من
اللأواء , إذ خف الجزء الملامس لأسفل الإناء , وصعد مسرعًا كأن له حاجة في
السماء , فأمسك به سائر السلسال , ومنعه من الرقي في الحال , وخلع عنه ثوب
سُعاره [3] , وبرَّد حر ناره , وما لبث الحزء الذي حل محله , أن صار مثله , وكلما
نزل شيء من الأباب إلى القرار , صب عليه الجَوْب سوط عذاب فلجأ إلى
الفرار [4] فكثر الهيج والاضطراب , والأنين والانتحاب , وفكر كل في ساعة الفراق
ولمّا تقع , فبكى وتوجع , كأن ابن المعتز عناه بقوله:
وإذا فكر في البين بكى ... ويحه يبكي لما لم يقع
فقال الماء بلسان أزيزه للعشب , قولاً يفهمه ذو اللب , أيها الولد العاق لوالده
لم كويتني بنيرانك؟ ولولاي ما ذقت لذة الوجود فكيف قابلت إحساني بكفرانك , أما
أنا السبب في نموك ونضرتك , وبي اكتسبت حلل جمالك وبهجتك , فتبًّا لك على
هذا الجزاء , وبُعدًا لك يا عديم الوفاء , فأجابه العشب بلسان لهبه , وهو يتميز من
غضبه , أيها الجاني على نفسه بنفسه , والباحث على حتفه بظلفه , والأحمق الذي
لم يعر المستقبل نظره , ولم يجل فيه فكره , لا تنطق ببنت شفه , واعلم أنك من
الهلاك على شفا. نعم كنت أنت السبب في وجودي ولكن لشقائي وتعذيبي. فكيف
تفخر علي وما تراني فيه هو منتهى نصيبي , فأنا الآن أنتقم منك بما قدمت يداك ,
وأوقعك فيما أوقعتني فيه والدنيا شراك , ثم ما لبث الماء أن فار وغلى , وطلب
الصعود إلى العلى , فأخذت جواهره تودع بعضها , وتتطاير بخارًا ساكبة دمعها ,
تبكي على أيام قضتها في الراحة والطمأنينة , حيث لا نزاع ولا ضغينة , وقد فسح
الهواء لمرورها طريقًا , بعد أن ضيق عليه بضغطه تضييقًا. فذهب في وسط بارد
خلعت فيه ثوب حرارتها. ورجعت إلى قديم حالتها , وانقلب السخين سلاسلا [5] ,
وعاد المسيط [6] هلاهلا [7] اهـ.
__________
(1) التأمور: الوعاء , وأراد بالحرور مطلق الحرارة , وهو في الأصل حر الشمس والحر الدائم والنار والريح الحارة.
(2) الأباب بالفتح الماء.
(3) السعار (كغراب) الحرّ وكأنه بهذا الاعتبار أطلق على الماء الحار لفظ السلسال وهو الماء البارد أو العذب السائغ.
(4) الجوب: الكانون والموقد.
(5) السلاسل بضم المهملة الأولى وكسر الثانية السلسال وتقدم تفسيره آنفًا.
(6) المسيط: الماء الكدر يبقى في الحوض.
(7) بوزن (سلاسل) الماء الكثير الصافي.(3/762)
الكاتب: بومبئ (ش. أ. ج.)
__________
إلى الله المشتكى
عفى الديار ديار الحكم والحكم فقد الرجال رجال السيف والقلم وغادر الأرض أرض الدين مجدبة ... قحط الكرام وموت الجود والكرم
حيث المشاعر مضروب لها مثلاً ... (بئر معطلة دار بلا إرم)
حيث الشعائر أمست وهي منتكسٌ ... أعلامها كانتكاس الظلّ للقدم
حيث المدارس طرًا وهي دارسة ... أضحت مرابض للأنعام والغنم
الله يعلم أنّ الدين أوهنه ... تغلبًا دوله الأوغاد والقزم
(فلا رعى الله قومًا لا عهود لهم ... ولا ديانة خوّانين للذمم)
(من كل متبع الأهواء منهمك ... في السكر بالشر والإشراك معتصم)
(لا مدّ بحر جرت فيه سفائنهم لا بالشرائع بل بالنار والضرم)
(جاءوا جياعًا لحوم الجيف قوتهم ... تمسي النسور لهم لحمًا على وضم)
(يذلّلون سراة عزّ مشربهم ... ويولغون كلابًا في حياضهم)
سبحانه تلك أيام يداولها ... في الناس وفق أصول العدل والحكم
ولا يغيّر ما بالقوم ربهم ... إلا بتغييرهم ما في نفوسهم
فإن هم رفعوا للعلم رايته ... يرفعهم لسماء العز في الأمم
وإن هم خفضوه فهو يخفضهم ... في هوّة الذلّ والإنكاد والعُدُم
بالعلم قد جاءَنا الإسلام منتصرًا ... فأخرج العرب من إشراك شركهم
والروم في لُجّة غاصت سفينتها ... والفرس من فتنة صماء في ضرم
وقد محا جهلهم سيماء نوعهم ... وكاد يفصل عنهم فصل جنسهم
حتى أنار الورى فانجاب ظلمته ... شروق دين الهدى في الأعصر الدهم
دين غدا ناسخ الأديان قاطبةً ... وآية الشمس تمحو آية الظلم
مؤلفًا بين أشتات القلوب كما ... يؤلف الناظم النحرير في الكلم
أصوله كأصول الشمّ راسخة ... فروعه علت الأفلاك في الشمم
أين الذين شاعوا في البلاد علو ... م النقل والعقل والأحكام والحكم
أحيوا علوم أرسطاليس دارسة ... كما ابن مريم أحيا دارس الرمم
وهذبوا من خرافات دفاترها ... ودوّنوا درسها في سائر الأمم
في البيض والسمر والسودان نورهم ... تراه يلمع لمعَ البرق في العتم
أمسى الرياضيّ روضًا من رياضتهم ... وأينعت نخله من جود فضلهم
وأحرزوا قصبات السبق من حرف ... ومن فنون صناعات ومن حكم
كم في السياحة رايات لهم نشرت ... وفي الفلاحة آيات لغرسهم
وفي العمارة آثار لهم رفعت ... تلوح مثل النجوم الزهر في الظلم
هذا الضياء الذي باهى الزمان به ... حضارة وثراء عكس نورهم
ممن تنورت الآراء ملهبة ... بالعلم مشبهة نارًا على علم؟
ممن غدت هذه الأقوام رائجة ... أسواقها في فنون البيع والسلم؟
إنا لفي شغل والدهر في شغل ... والغرب في نغم والشرق في صمم
هيهات عدنا إلى ذل ومتربة ... من الجهالة وانحلت عرى الهمم
حتى غدت شوكة الإسلام شاكية ... من بعد سلطتها في العرب والعجم
دين نما بنمير العلم باسقه ... لم يبق منه سوى ساق بلا قدم
قوم قد كان رأس المال علمهم ... ويل لهم إذا أضاعوا رأس مالهم
فودعت لوداع العلم ثروتهم ... ووزعت ملكهم أعداء دينهم
هل زادهم شرفًا أن زاد عدهم ... إلا زيادة نكص فوق نقصهم
لا خير في عدّة إن قل عُدتها ... لا خير في سمن إن كان من ورم
أمسى الشراب سرابًا من جهالتهم ... إذ أصبح الماء غورًا من عيونهم
وأصبحت دارهم قفرًا بلا سُرُج ... والشمل من بعد جمع غير منتظم
تشعبوا شيعًا حتى رعى هملاً ... كل بمرعى بلا راع ولا لَزِم [1]
قد جزّءوا بالهوى ذا الدين تجزئة ... والدين جوهر فرد غير منقسم
كل له غرض يرى به غرضًا ... ويجعل الدين منه عرضة التهم
كل له مذهب يبغي به ذهبًا ... بئس الحطام الذي يفضي إلى الحطم
فشا النزاع فأمسى الأمن منتزعًا ... كذا الأمانة من حلّ ومن حرم
أليس من حاكم ترضى حكومته ... في الحل والعقد عند الخطب أو حكم
بلى فإن رسول الله أسوتنا ... خير المحامين محيي ميت النسم [2]
إليك نشكو رسول الله ذلتنا ... والذّل من بعد عزّ أصعب النقم
إن كنت ترضى بما أمسى المحيط بنا ... إحاطة الدجن في داج من الظلم
فنحن راضون أيضًا بالذي كتب الـ ... خلاّق من سابق الآزال في القسم
إن كان حبل الرجا في الدهر منفصمًا ... فحبلنا منك حبل غير منفصم
وأنت أحييت أسلافًا لنا كرمًا ... فلا تضع خلفًا في آخر الأمم
يا رب أنزل علينا رحمة أبدًا ... كما رحمت نبيًّا طاهر الشيم
وأصلح الله أخلافًا لأمته ... حتى يباهي غدًا أسلافهم بهم
صلى الإله على طه وعترته ... ما حنّ قلب إلى جيران ذي سلم
... ... ... ... ... ... ... ... ... بومبئ (ش. ا. ج)
__________
(1) اللزم ككتف الفيصل وهو القاضي والحاكم مطلقًا لأنه يفصل بين الأمور كالسيف.
(2) المراد إحياء الأرواح بالمعرفة والتهذيب لأن النسيم (بالتحريك) لا يطلق إلا على الحي وهو في الأصل نفس الروح ويدل عليه (وأنت أحييت) الآتي.(3/764)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
(25) من هيلانة إلى أراسم في 6 مايو سنة - 185
كانت عاقبة جدي في السعي أن فزت بوصل حبل المراسلة من وراء ما بيننا
من المسافات الشاسعة بعد طول انقطاعه ولست أعد من الترسل ما تناوبناه منذ
ثلاث سنين من المكاتيب [1] غير المهمة التي كان دأب كل منا فيها الإقلال من
القول جهده فأنا محتاجة في تخاطبي معك إلى مناجاة قلبك بفكر تام الاختيار
وضمير كامل الحرية.
لا أرجع إلى ما مضى من الحوادث فالكلام فيه عديم الجدوى وإنما أقول: إني
قد عراني لخبر نقلك من سجنك إلى غيره من الألم ما لج بي في التصميم على
اللحاق بك لجاجة لم أحس بمثلها من قبل ولم يمنعني من المضيّ معها سوى ما
غلبني من الإحساس بوجوب طاعة أمرك وسماع نصائح صديقك الدكتور ورعاية
مصلحة ولدنا فانصعت لذلك الإحساس آسفة مرتقبة تحقق أملي في اللقاء.
علمت مما سبق من رسائلي ما عليه (أميل) من صحة البدن وأريد الآن أن
أحدثك عن تقدمه في اكتساب العلم فأقول: ليس ولدنا بدعًا في الأطفال (وهو أمر
أعترف به وأنا في غاية الاستكانة والغضاضة) بل إن الناس هنا يجدون فيه شيئًا
من توحش سكان أطراف العالم , ولكني أحبه كما هو؛ لأني أرى جميع ما فيه
منبعثًا عن الفطرة ولم أعن حتى الآن بتعليمه مواضعات المعاشرة وآداب الاختلاط
لأن جل عنايتي كان مصروفًا إلى النظر في أخلاقه وأحوال نفسه والاجتهاد في
تقويم طبعه وتربية إدراكه , وسأسرد لك عن تجاربي معه ما تحكم به على مبلغ
نجاحي في ذلك.
قد لاحظت أن فيه نهمة وهي عامة في جميع الأطفال فأي واحد منهم سلم منها؟
ولكن قد أتت علي معه ساعة ارتعدت فيها فرائصي خوفًا عليه من تلوث نفسه
برذيلة أفظع من النهمة وأشنع منها كثيرًا ألا وهي الكذب. ذلك أن جورجيا كانت
تخبز ذات يوم قرصًا فطيرًا فلما استوى أخرجته من الفرن ووضعته ساخنًا على
الخوان ثم دعتنا شئون مختلفة للخروج إلى البستان فتركناه وخرجنا إلا (أميل) فقد
لاحظت منه أمرًا دهشت له وهو اجتنابه الذهاب وراءنا فلما عدنا إلى المطبخ لم
نجد للقرص أثرًا فاستولت علي ريبة شديدة في أمره ولكنني تجاهلت السارق
والتفت إلى جميع الحاضرين مظهرة أني أخاطب الكل , فقلت: ليت شعري من ذا
الذي أخذ القرص من فوق الخوان؟ فأما قوبيدون , وجورجيا فإنهما لم ينبسا بكلمة
لعلمهما البراءة من نفسيهما، وأما (أميل) فلما لم يكن شأنه كذلك لم يسعه إلا أن
خجل وصاح قائلا: (الدُّبَّة هي التي أخذته)
فلما سمعت منه هذا الجواب انجرح فؤادي غمًّا , وقد علمت من أحد مكاتيبي
السالفة أن الدبة هي كلبة البيت ولما أعلمه بينه وبينها من الألفة والارتباط رأيت أن
هذه فرصة سنحت لإيقاظ وجدان العدل في نفسه فصممت على اغتنامها وقلت: إن
كانت الدبة هي الآثمة فلا بد من جلدها , وأشرت إلى قوبيدون بتنفيذ هذا الحكم ,
وكنت في كل هذه المدة أتأمل في وجه (أميل) وأحس بأن فؤادي يطير شعاعًا ولا
غرو فأي شيء كنت أرجوه منه إذا كان أصر على الكتمان وإنكار الحق؟ أدرك
الزنجيُّ بلا ريب موجب جزعي وفهم ما قصدته , فتقدم إلى الدُّبة المتجنى عليها
تلوح عليه سمات جلاد ممن تمثلهم الروايات المحزنة , وكانت قد بدت عليها منذ
حين علائم الأنس بمن في البيت والسكون إليهم لفراغها من أداء واجب العناية
والحماية لجرائها , وكأنها أدركت جميع ما حصل لأنها كانت تنظر إلى (أميل)
نظر المستعطف الآمل ولسان حالها يخاطبه بقوله: (أهكذا تدعني أعاقب ظلمًا)
فاضطرب الغلام من هذا المنظر ثم أجهش بالبكاء واستلقى بين يديَّ قائلاً: كلا
ليست الدبة هي التي أخذته بل أنا الآخذ.
عند ذلك تسرى عني ما كان أبهظ نفسي من تراكم الكدر , ولكني رأيت أن
من الواجب عليّ في هذا المقام الثبات وعدم التعجل في إظهار الحنو , فصحت قائلة
له: من حيث إنك تجنيت على الدبة ما لم تجنه فهي التي ينبغي الرجوع إليها في
طلب العفو. ففهم أنه في الحقيقة قد فرط منه في حقها هفوة يجب الاستقالة منها ,
فعمد إلى جيب صدرته فأخرج منه نصف القرص لأنه لم يكن تيسر له أكله كله ,
ومد يده به إليها قائلاً: خذي. فتدللت عليه في بداية الأمر ولكنها لما رأت أن
استماحة العفو منها صادرة عن قلب سليم ازدردت تلك اللقمة اللذيذة وسمات الرحمة
والشره بادية على وجهها فبعثنا ذلك على أن قهقهنا جميعًا.
أنا وإن كنت لا أقوّم طاعة الأطفال لوالديهم بأكثر مما تراه فيها أجدني في
بعض الأحيان مضطرة اضطرارًا شديدًا إلى قمع أهواء (أميل) والحيلولة بينها
وبين الوصول إلى ما قد يضره , ورأيت أن من الواجب عليَّ أن أستعين في هذا
الأمر باستعداد فطري يوجد قطعًا في جميع الأطفال على السواء ذلك أن (أميل)
لمَّا يحصل في ذهنه من حوادث العالم الخارجي إلا صورة مبهمة , فتراه يعتبر ما
يتعاصى عليه من الأشياء ولا يوافي رغبته ذا قوة متمردة وإرادة متصرفة. خذ
لذلك مثلاً وهو أن له كَلَفًا بأن يقلب مربعًا من البستان بمقلب صغير فإذا باشر هذا
العمل سلاني وأضحكني منه أن أراه يسحق ما يخرج من المدر برجليه الضعيفتين
مبديًا دلائل الابتهاج بالظفر كأنما في كل مدرة منها عدو له قد أرغمه وأذله وإذا
اخترق الأسوجة النباتية فأصابه فرع منها في وجهه تناوله بيده وجعل يهزه ويعبث
به ولسان حاله يخاطبه موبخًا له بقوله: (علام تؤذيني أيها الغصن الحقير) وإني
لأخاله يجلد البحر إذا أغرق مركبه الصغير على نحو ما فعل به كزرسيس [2] .
هذه الشكاسة التي في الأشياء - وإنما أسميها بذلك موافقة لأفكار الأطفال -
تدعو (أميل) إلى إظهار الطاعة للكبار الذين يعلمون من نواميس الكون وسننه
أكثر مما يعلم , فإن خضوع العالم لتلك النواميس والسنن هو الذي ألزم الإنسان
المحافظة على رعاية أحكام التجربة واقتفاء آثار السلف , ولذلك قد اتفقت مع
قوبيدون على طريقة بها يعاقب (أميل) كلما عصى أوامري وأغفل الأخذ
بنصائحي بحيث إني لا أتولى عقابه بنفسي بل أَكِلُهُ للجمادات المحيطة به فإنه بذلك
يعتاد على أن يلتمس في الطاعة جُنَّة تقيه شر ضعفه وشر ما للفواعل الكونية من
الطغيان والعتو.
وقد جريت معه على هذه الطريقة بعينها في ضرب آخر من ضروب سيرته
وإني وإن لم أصل بها في جميع الأحوال إلى النجاح المقصود إخالني على
الطريقة الموصلة إليه. ذلك أني رأيته شغفًا بالاندلاق من البيت , وكثيرًا ما
أنذرته بأن في خروجه منه وحيدًا ضررًا عليه فلم يجد ذلك نفعًا , فلما رأيت منه قلة
الإصغاء إلى نصائحي في هذا الأمر أوعزت إلى قوبيدون بأن يغري به بعض
أطفال القرية فكانوا كلما رأوه في الخارج تظاهروا له بأنهم يحسبونه وليدًا ضل بيته
وقبضوا عليه وردوه إليَّ قهرًا فأدرك من ذلك الحين الموعظة التي أردت أن أعظها
إياه وهي أن الانقياد والطاعة أمثل من القسر.
على أنني رأيتني قد عرفت فيه أنه لم يخلق لأن يعيش وحيدًا , ولا لأن
يقضي جميع زمانه مع الكبار لأنه ما دام ذا عقل وقُصِرَ على مخالطتنا يشيخ قبل
بلوغه زمن الشيخوخة , وأما إذا اختلط بلداته وعاشر أترابه أشرق في وجهه نور
الفرح بابتهاجهم وسرى إلى نفسه روح السرور منهم , ولهذا رأيت من مصلحته أن
يتخذ له رفقاء من أطفال القرية جعلت أمر اصطفائهم موكولاً إليَّ حتى لا يكون له
فيهم أُسًى سيئة , ولم ألاق في هذا الأمر صعوبة لأن الناس هنا لاشتغالهم طول
النهار بتحصيل رزقهم يرون في تسليم أطفالهم لمن يقوم بشأنهم تخفيفًا من حملهم ,
وقد أصبح بيتنا من هذه الجهة شبيهًا بملجأ من ملاجئ الأطفال فأذكر لك من أخصاء
(أميل) اثنين فقط وهما: غلام اسمه وليم يكاد يساويه في سنه أعني أنه في
الخامسة أو السادسة من عمره , وفتاة في السابعة من عمرها عليها مخايل الحسن
تسمى إزابلي , ولكن الناس يختزلون هذا الاسم اختزالاً لا شبهة في وجه مناسبته
فيدعونها بلِّي (كلمة تليانية معناها جميلة)
أخص ما أعنى به في شأن أولئك الأطفال الثلاثة هو إيجاد رابطة اختلاط
وعشرة بينهم فتراني إذا صرَّحت لهم بالانطلاق إلى التنزه أوزع عليهم ثلاثة
أصناف من الطعام ولكني أراعي في هذا التوزيع أن يكون الخبز كله لواحد منهم
واللحم البارد مثلاً للثاني والفاكهة للثالثة فإذا حانت لهؤلاء المبتطلين ساعة اشتهاء
الأكل وهي قلما تتأخر لأنهم يأكلون أكل صغار الذئاب دعا من نال الخبز منهم
رفيقيه إلى مقاسمتهما إياه على شرط أن يقاسماه أيضًا ما معهما من اللحم والتفاح
مثلاً فتقبل منه هذه الدعوة على طيب نفس لأن لكل منهم مصلحة فيها وبهذه
الطريقة يتعلمون بالغريزة الجري على سنة المعاوضة التي هي على ما أدري حقيقة
معنى المساواة.
من أصول الرذائل الخبيثة التي أصرف في استئصالها من نفس أميل جل
اهتمامي الأثرة. فإن الأطفال مجبولون على الاستئثار بكل شيء , وهذا الاستعداد
الفطري مبني في الغالب على الشره والحرص ذلك ما أراني قد لاحظته فيهم وأود
أن أكافحه وأغالبه وقد رأيت أنه لا ينجع فيه زخرف القول وبلاغة المنطق وأن
الواجب عليَّ كما رأيت فأصبت أن أستخلص لولدي ما أسوقه له من العبر في
الأعمال. ولعلك سائلي عما فعلته للوصول إلى هذه الغاية فأقول: إنني انتقيت من
بين الأشجار المثمرة في بستاننا ثلاثًا جعلت لكل من غلماني واحدة منها مدة السنة ,
ولكوني أنا التي توليت توزيعها عليهم قد أعطيت (لأميل) كرزة ولوليم خوخة
ولبلي إجاصة طعَّمها قوبيدون ولمَّا تثمر واحدة منها لتأخر فصل الصيف , وإني-
والحق أقول- في شك من وفرة إحمالها هذه السنة , وعلى كل حال أرى أن هؤلاء
البستانية الصغار الثلاثة مهتمون بملاحظة ما وضعوا عليه أيديهم , وقلما يفترون
عن ذود الدود وغيره من الحشرات المهلكة عنه , وليس يبعد على (أميل) في إبان
الكرز أن يأكل جنى شجرته جميعه دون أن يعطي منه شيئًا لرفيقيه. إن فعل ذلك
فصبرًا لأنه لابد أن يأتي يوم مقايضة الجزار بمثله ذلك أنه متى أنشأ الخوخ
والإجاص ينضجان ذكر وليم وبلَّي معاملة (أميل) لهما وقابلاه بنظيرها ما لم يكونا
أكرم منه نفسًا وأسخى كفًّا فيرضيا مقاسمته ما لهما على ما فيه من الميل مع الأثرة
وفي كلتا الحالتين عقوبة له.
للمكتوب بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لم نورد تلك المكاتيب التي ذكرتها لأننا لم نر فيها مصلحة للقارئ فإن أكثر فائدة فيها إنما هي تكميل عدد الرسائل.
(2) كزرسيس هو ابن داريوس الأول أحد ملوك الفرس خلف أباه في سنة 485 ق م ومات في سنة 472 ق م أراد إتمام فتح البلاد اليونانية الذي كان شرع فيه والده فأرسل أسطوله إليها فاضطرب البحر وأغرق قنطرة كان اتخذها من السفن فأمر بجلده ثلاثمائة جلدة كما يعاقب الأسير العاصي.(3/767)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجامع الأزهر
وقفنا على مقالة ضافية في جريدة (بيسه أخبار) الهندية الإسلامية كان بعثها
صاحب هذه الجريدة الفاضل من مصر عندما جاءها في سياحته التي تكلمنا عنها في
جزء مضى. يصف فيها مصر وصفًا تاريخيًّا سياسيًّا أدبيًّا علميًّا جاء فيه بالفتيل
والنقير: وتكلم حتى عن راكبي الحمير. وشبه الحكومة المصرية بالشطرنج يلعب
به اللورد كرومر.. . وأطال الكلام على الجامع الأزهر فنلخص من كلامه فيه ما
يأتي:
قال: دخلت الجامع الأزهر الذي هو أشهر المساجد في العالم من حيث التعليم
وأما من حيث السعة والزخرف فيوجد ما يفضله في القاهرة وغيرها - ثم تكلم
بالمناسبة على جامع القلعة وغيره وقال - أنا أدع الكلام على هذه المساجد العظيمة
كجامع السلطان حسن وابن طولون والمؤيد والغوري وأتكلم على الأزهر لأن كل
المسلمين يعرفون اسمه ولا سيما قراء جريدتنا.
هو أكبر المدارس الجامعة في الدنيا وقد جئته مرات متعددة في أوقات مختلفة
من ليل وصباح وظهيرة ومساء من نهار وهو مخصوص للتعليم لا للصلاة فلا
يجيئه الناس من الخارج للصلاة , ومتى أذّن المؤذن من مناراته الأربع (هي خمس)
يقوم بعض طلاب العلم فيه وفي أروقته للصلاة. ولكنهم يصلون متفرقين.. .
وبعضهم يبقى مشغولاً بالقراءة والمطالعة وبعضهم بالأكل والاضطجاع.. .
(قدرت الذين يتعلمون فيه بزهاء عشرة آلاف، والأساتذة بمائة، أو يزيدون
(الصواب أنهم مئات) وسن الطلاب يبتدىء من 7 سنين إلى سبعين سنة.. .)
ثم تكلم عن الرواتب وأنها قليلة جدًّا إلا راتب شيخ الجامع فإنه كثير جدًّا
وتكلم عن الجراية وعن الإدام ما هو , وكيف يكون الأكل , وعن الأروقة وتعدد
الأمم والشعوب فيه بما لا حاجة لنقله إلا قوله (والتعليم فيه يبتدئ من قراءة
القرآن للأطفال إلى أعلى العلوم الإسلامية , ويقرأ بعض الأستاذين لطالب واحد
وبعضهم لجماعة كثيرة) ثم قال ما ترجمته بالحرف:
(أنا أبدي رأيي في الأزهر وإن تألم له كل مسلم يراه وهو أن معرفتي بهذا
المكان الذي هو دار العلوم الإسلامية الكبرى ما أورثني إلا التأسف. قلما يخرج من
هذه المدرسة عالم ينفع الملة والأمة , وإن المتخرج منها يأخذ عمامة الفضيلة (يريد
درجة التدريس) بعد دراسة 12 سنة إلى 24 سنة.
أصحاب الجرائد الإسلامية يمدحون طريقة إصلاح التعليم الجديدة في الأزهر
ويذهبون إلى أنها ضرورية لا بد منها , ولكن علماء الأزهر (أي بعضهم) يقولون:
إنها بدعة وإن الطريقة القديمة خير منها.
سألت لطيف باشا سليم عن علماء الأزهر النابغين فأجابني بما رجعت معه
يائسًا وهو أن قال: إنه لم يتخرج من الأزهر عالم يستحق أن يخرج اسمه من
مصر ويطوف البلاد الأخرى.
يريد علماء المسلمين أن يكونوا كأنبياء بني إسرائيل , ولكن هؤلاء العلماء لم
يصلوا في الحقيقة إلى مرتبة العلماء فكيف يعرجون إلى أفق الأنبياء؟ ! ترى من
العلماء من يأمر بالمعروف ولا يأتمر , ويَنْهَى عن المنكر ولا ينتهي) , وهنا ذكر
الكاتب بيتين من الشعر الفارسي معناهما أن الخطيب على المنبر يقرع الأسماع
بزواجر الوعظ في الجلوة ويعمل بخلاف ذلك في الخلوة. يأمرون الناس بالتوبة
ولكنهم هم لا يتوبون فهلا وعظوهم بأفعالهم كما يعظونهم بأقوالهم فإن العمل أقوى
تأثيرًا. اهـ المراد منه.
***
تعيين أمين
علمنا أن مجلس إدارة الأزهر قد اختار الأستاذ النزيه الشيخ أمين أفندي
السحيمي وكيلاً لرواق الأتراك لعجز شيخه بالمرض والكبر عن النظر في شؤونه ,
وهو تعيين أصاب أهله ووقع موقعه؛ لأن هذا الفاضل يرجى أن يصلح به حال
الرواق ويرتقي أحسن ارتقاء , فنهنئ صديقنا الشيخ أمين أفندي بهذه الخدمة الجليلة
ونرجو له التوفيق بالقيام بشئونها خير قيام.
__________(3/773)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عيد جلوس الخديوي المعظم
العيد الوطني السعيد
أدام الله تعالى حكم الحضرة العباسية العليَّة , وأقرَّ بها عيون هذه الأمة
المصرية , وأنبت ولي عهدها أحسن نبات , وحفظه من جميع الملمات لتكون
الآمال قرينة الأميال. بحفظ الاستقلال في الحال والمآل.
بعد غد تحتفل الحكومة المصرية , ويشاركها جميع أصناف الرعية. بتذكار
جلوس مولانا عباس حلمي باشا على عرش الخديوية. نائبًا مطلقًا عن الحضرة
السلطانية. فترتفع الرايات على دور المواقع الرسمية. من ملكية وعسكرية..
وتقتدي بها في ذلك المعاهد الأجنبية. التابعة للدولة الأوربية وغير الأوربية. وقد
أعدّت لنا في هذا العام. لجنة الاحتفال العام. التي يرأسها عطوفتلو عبد القادر باشا
حلمي. ويتولى أمانة سرها سعادة أحمد بك زكي. ويتألف أعضاؤها من جميع
النحل والشعوب. التي حكمها هذا الأمير المحبوب. زينة لم يسبق لها مثال. في
حول من الأحوال. مما فصلت القول فيه الجرائد اليومية. فلم يبق لنشر ما ورد
علينا من اللجنة مزية. إلا أننا نستلفت الأنظار إلى زينة الأزبكية. وننبه الأفكار
إلى كون هذا الاحتفال أعلى مجالي الوطنية. التي ترتبط بها جميع أصناف الرعية
. فليكن الإقبال. على هذا الاحتفال. من آيات حبهم لسمو الأمير. وإخلاصهم
للعرش والسرير.
فنرفع فرض التهنئة إلى مولانا العزيز بعيد تذكار السنة الثامنة من ملكه
ونسأل الله تعالى أن يمد في أيامه ويمده بالتوفيق. ويكون له خير عون ورفيق.
__________(3/776)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأحاديث الموضوعة
في رمضان والصوم
منها حديث: (افترض الله على أمتي الصوم ثلاثين يومًا وافترض على
سائر الأمم قلَّ أو كثر وذلك أن آدم لما أكل من الشجرة بقي في جوفه مقدار ثلاثين
يومًا فلما تاب الله عليه أمره بصيام ثلاثين يومًا بلياليهن وافتُرِضَ على أمتي بالنهار
وما يؤكل من الليل ففضل من الله تعالى. رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا وقال:
محمد بن نصر البغدادي (من رواته) غير ثقة , وهو يحدث عن الثقات بالمناكير
ونحن نقول: مثل هذا الحديث الباطل قد اغتر به بعض المفسرين وحكموه في
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة:
183) وظنوا أن التشبيه من كل وجه , ولم يساعدهم على ذلك نقل. والظاهر أنه
تشبيه أصل الكتابة علينا بالكتابة عليهم من غير نظر إلى المكتوب في مقداره
وكيفيته ولا إشكال فيه كما سيأتي في باب التفسير إن شاء الله تعالى.
وفي الحديث أيضًا تعليل الصوم وبيان الحكمة فيه , وأنها أكل آدم من
الشجرة, وهو يقتضي أن الصوم عقوبة , وقد تقدم في الجزء الماضي فساد هذا
الرأي وبيان أنه اعتقاد وثني مع بيان الحكمة الصحيحة المنصوصة في القرآن.
ورأيت الشعراني في ميزانه توسع في بيان التكاليف التي فرضت علينا بسبب أكل
آدم من الشجرة حتى عدَّ من ذلك جميع نواقص الوضوء حتى في المذاهب المندرسة
وقال: إن سببها كله يرجع إلى الأكل إلخ ما أطنب فيه وهو نزغة نصرانية.
والمعلوم من الكتاب والسنة أن التكليف رحمة لا عقوبة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220) وأن الأبناء لا تعاقب بذنوب الآباء. بل قال الله تعالى: {أَمْ لَمْ
يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 36-39) الآيات وهي شريعة العدل
التي كان عليها أصحاب الشرائع السماوية خلافًا لما في أسفار العهد القديم في
البعض مما لا ثقة لنا بروايته.
ومنها حديث: (لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى
ولكن قولوا: شهر رمضان) . رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعًا وفي إسناده
محمد بن أبي معشر عن أبيه وليس بشيء. وقد أخرجه البيهقي في سننه وضعفه
بأبي معشر. ورواه غيرهما كذلك.
ومنها حديث: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادى الجليلُ رضوان
خازن الجنان فيقول: لبيك وسعديك) وفيه: (أمره بفتح الجنة وأمر مالك بتغليق
النار) . وهو حديث طويل يذكر في كتب الوعظ والرقائق وبعض الخطب وقد
صرح المحدثون بأنه موضوع وفي إسناده أصرم بن حوشب كذّاب.
ومنها حديث: (لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان
السنة كلها) إلخ ما هو مشهور. رواه أبو يعلى عن ابن مسعود مرفوعًا , وهو
موضوع آفته جرير بن أيوب. قال الإمام الشوكاني بعدما أورد هذا عقيب ما قبله:
وسياقه وسياق الذي قبله مما يشهد العقل بأنهما موضوعان فلا معنى لاستدراك
السيوطي لهما على ابن الجوزي بأنهما قد رواهما غير من رواهما عنه ابن الجوزي
فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة اهـ.
ومنها حديث: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إلى خلقه
الصوَّام, وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذبه أبدًا) . وفيه: (فإذا كان ليلة النصف..
وإذا كان ليلة خمس وعشرين..) . إلخ الحديث , وهو موضوع , وفيه مجاهيل
والمتهم بوضعه عثمان بن عبد الله القرشي.
ومنها حديث: (إن الله تعالى في كل ليلة من رمضان عند الإفطار يعتق ألف
ألف عتيق من النار) . روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو لا يثبت
عنه , ورواه ابن حبان من حديث أنس بلفظ (ستمائة ألف) بنقص أربعمائة ألف
عن الرواية السابقة وقال: باطل لا أصل له. وقد رواه البيهقي من طريق أخرى
عن الحسن وقال البيهقي: هكذا جاء مرسلا - ومراسيل الحسن عندهم ليست
بشيء - ورواه أيضًا من حديث أبي أمامة بلفظ: (إن لله عند كل فطر عتقاء
من النار) . وقال: غريب جدًّا. ورواه أيضًا من حديث ابن مسعود بلفظ: (لله
تعالى عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء ستون ألفًا فإذا كان يوم الفطر
أعتق مثلما أعتق في جميع الشهر) . ورواه الديلمي باللفظ الأول. وهو وإن
كان يروي للضعفاء إلا أن اضطراب الحديث في رواياته وما فيه من التغرير
وتجريء العوام على انتهاك الحرمات واقتراف السيئات ومن الغلو في المبالغة الذي
هو من علامات الوضع , ومن فساد المعنى بالنسبة لأشهر الروايات وهما رواية
ألف ألف ورواية ستمائة ألف ولم يكن الذين يصومون رمضان في عهده صلى الله
عليه وسلم يبلغون عدد عتقى ليلة واحدة - كل ذلك يدلنا على أن تعدد الروايات لا
ينافي وضع الحديث واختلاقه. فبعدًا لخطباء الجهالة الذين يقرأونه على المنابر
يغرّون به الناس.
ومنها حديث: (لو أذن الله لأهل السموات والأرض أن يتكلموا لبشروا
صوَّام رمضان بالجنة) . رواه العقيلي عن أنس مرفوعًا وقال: إسناد مجهول
وحديث غير محفوظ. وهو مما يذكره الخطباء.
ومن الأحاديث الواهية التي يذكرها الخطباء على المنابر حديث: (نوم
الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله مضاعف ودعاؤه مستجاب وذنبه مغفور) ,
رواه البيهقي والديلمي وابن النجار من حديث عبد الله بن أبي أوْفى الأسلمي. قال
البيهقي عقيب إيراده: معروف بن حسان - أي أحد رجاله - ضعيف , وسليمان
بن عمر النخعي أضعف منه. وقال العراقي: سليمان النخعي أحد الكذابين.
ونقول: يا لله العجب من هؤلاء الذين ألفوا دواوين الخطب الجمعية كيف تحرَّوْا
الأحاديث الموضوعة والواهية , ومن أين جمعوها , ولمَ عادوا الأحاديث الصحيحة
واجتنبوها؟ !
ومنها حديث: (إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق
فهو لليلتين) . رواه ابن حبان عن ابن عمر مرفوعًا وقال: لا أصل له.
ومنها حديث: (ثلاثة لا يسألون عن نعيم المطعم والمشرب - المفطر
والمتسحر وصاحب الضيف , وثلاثة لا يسألون عن سوء الخلق المريض والصائم
والإمام العادل) . قال في الذيل: فيه مجاشع يضع. أي فهو مكذوب.
ومنها حديث: (أنه يسبح من الصائم كل شعرة وتوضع للصائمين
والصائمات يوم القيامة تحت العرش مائدة من ذهب) إلخ في إسناده أبو عصمة
وضّاع. ومنها حديث: (صوموا لتصحوا) . قال الصغاني: موضوع , وقال في
المختصر: ضعيف.
ومنها حديث: أن أنسًا أكل البَرَد وهو صائم وقال: إنه ليس بطعام فقرره
صلى الله عليه وسلم على ذلك. قال في الذيل: فيه عبد الله بن الحسين يسرق
الحديث.
ومنها حديث: (إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب , وإن فيه ثلاث ليال
ليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين من فاتته فاته خير كثير ,
ومن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أيّ شهر يغفر له) . قال في الذيل: في
إسناده زياد بن ميمون كذّاب.
ومنها حديث: (أن الله أوحى إلى الحفظة أن لا تكتبوا على صوام عبيدي
بعد العصر سيئة) . رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا. قال الدارقطني: إبراهيم بن
عبد الله المروزي ليس بثقة حدّث عن قوم ثقات بأحاديث باطلة هذا منها. ونقول:
هو إباحة للمعاصي في ذلك الوقت قاتل الله واضعه ما أشد إغواءه وإضلاله.
ومنها حديث: (إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم رمضان سلمت
السنة) , رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة مرفوعًا , وفي إسناده عبد العزيز بن
أبان وهو كذاب. ووراه أبو نعيم في الحلية بإسناد آخر فيه أحمد بن جمهور وهو
متهم بالكذب.
ومنها حديث: (من أفطر على تمرة من حلال زيد في صلاته أربعمائة
صلاة) , رواه تمام في فوائده عن أنس مرفوعًا , وفي إسناده موسى الطويل كان
يضع الحديث.
ومنها حديث: (من تأمل خلق امرأة حتى يبين له حجم عظمها وراء ثيابها
وهو صائم فقد أفطر) . رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع فيه كذابان.
ومنها حديث: (خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء الكذب والنميمة والغيبة
والنظر بشهوة واليمين الكاذبة) . قال في اللآلي: موضوع , سعيد - يعني ابن
عنبسة - كذاب والثلاثة فوقه مجروحون. أقول: وله طرق أخرى فيها وضاعون
أيضًا إلا طريق داود بن رشيد فهو متقارب ليس فيه من رمي بالكذب لكن فيه محمد
بن حجاج ضعيف , وأورده الإمام الغزالي في الإحياء بناء على أنه ضعيف يعمل
به في التنفير عن الرذائل التي لم يشرع الصوم إلا لاتقائها.
ومنها حديث: (من أفطر يومًا من رمضان فليهد بدنة , فإن لم يجد فليطعم
ثلاثين صاعًا من تمر للمساكين) , رواه الدارقطني عن جابر مرفوعًا وفي إسناده
مقاتل بن سليمان كذاب , والحارث بن عبيدة الكلاعي ضعيف.
ومنها حديث: (من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة ولا عذر كان
عليه أن يصوم ثلاثين يومًا , ومن أفطر يومين كان عليه ستون يومًا ومن أفطر
ثلاثًا كان عليه تسعون يومًا) . رواه الدارقطني عن أنس مرفوعًا وقال: لا يثبت ,
عمر بن أيوب المفضل لا يحتج به , ومحمد بن صبيح ليس بشيء.
ومنها حديث: (من فطر صائمًا على طعام وشراب من حلال صلت عليه
الملائكة) رواه ابن عدي عن سليمان مرفوعًا. قال ابن حبان: لا أصل له ,
وفي إسناد ابن عدي متروكان , وفي إسناد ابن حبان متروك.
***
بدع رمضان ومنكراته
الصوم عبادة خفية بين العبد وربه كان من شأنها أن توجد ولا تعرف , ولكن
يحتف بها أعمال وشئون صارت بها من أظهر الشعائر الدينية جملة وتفصيلاً. وما
أجمل المسلمين وأكملهم إذا جلسوا على موائدهم قبيل المغرب وأشهى الطعام
والشراب الحلال بين أيديهم وهم في أشد الحاجة إليهما ولا يمكن لأمير ولا لسلطان
ولا لعالم ولا لجاهل أن يمدَّ يده فيتناول شيئًا حتى تأتي تلك اللحظة التي يتساوون
فيها في التناول كما كانوا متساوين في الإمساك. لكن أكثرهم أمسوا لا يعرفون من
هذه العبادة إلا حفظ شعيرة العبادة الظاهرة من غير التفات إلى سرها وحكمتها وهو
ملاحظة مراقبة الله - تعالى - وتحصيل ملكة ترك المنكرات والشهوات التي
حرّمها عليهم , ولو لاحظوا هذا المعنى لأدركوه , ولو أدركوه لما رأيتهم يغادرون
المائدة إلى اللهو واللعب فمنهم من لا يصلي المغرب , والصلاة أفضل من الصوم
بالإجماع, ومنهم من يذهب إلى الحانات والبِيَر والمراقص. وهكذا شأن الدين في
ضعفه وتلاشيه يجهل الناس أولاً أسراره الروحانية وحكمه المعنوية حتى لا تبقى
لهم إلا الصورة الحسية. ولذلك نسر بما بقي من شعائر الدين الظاهرة عسى أن
ينفخ في شبحها روح الحياة مرة أخرى بتوفيق من بقي عنده سر الدين من علمائه
للإرشاد الصحيح. وإذا نفخت هذه الروح وحلت الحياة الحقيقية في هذا التمثال
يصير خلقًا حيًّا تصدر عنه أعمال الأحياء.
(الوعظ)
هو أفضل الشعائر التي يمتاز بها رمضان في الأكثر ولكنه وُسِّدَ إلى قوم لا
شك أن الجهل المطلق خير من تعليمهم وإرشادهم. سمعت أمثل من رأيت منهم
يتكلم على العامة في الوحدانية فيقول: إن الوحدانية التي هي أصل الدين وأساسه
هي عبارة عن الاعتقاد بنفي خمسة كموم على مذهب الجمهور وستة كموم على
مذهب آخر , وهي الكم المتصل والكم المنفصل في كل من الذات والصفات
والأفعال.. . ثم إنه استدل على الوحدانية بدليل واحد وهو أنه لو وجد إلهان
لاحتاج كل إلى الاستعانة بالآخر وذلك يوجب الدور أو التسلسل وكل منهما محال.
كذا قال , ونعوذ بالله من الجهل والإضلال , ومنهم من يعلم الناس أدعية تكفر بها
جميع المعاصي وتنال بها الدرجات العلى ويبيعهم ذلك في قراطيس ثمن الواحد
(قرش تعريفة) , ومنهم من يعلمهم الزهد في الدنيا وهو جاهل أنه لم يبق لهم ما
يزهدون فيه , وقد استدل أحد وعاظ هذا الفريق في المسجد الحسيني على تفضيل
الفقر على الغنى بأن الفقر قديم والغنى حادث , وفاته أن الغنى من صفات الله وهو
القديم الأزلي حقيقة والفقر من صفات الناس الحادثين، ومنهم من يعلم الناس غرائب
النوادر التي يفتتحون الكلام عليها بقولهم (لا عيب في الحلال) ولا يمكننا التمثيل
لها - إلى غير ذلك مما ننبه على ما نعلمه منه في الدرس الذي نلقيه في المسجد
الحسيني.
(تلاوة القرآن الكريم)
هي بالصفة المعهودة من شعائر رمضان. ومن منكراتها في المساجد أنهم
يجتمعون لها لأجل التلذذ بالتلحين والتغني بالقرآن ولذلك لا يجلسون إلا إلى صاحب
الصوت الحسن. ومنها أن القراء يرفعون أصواتهم فيشوشون على المصلين.
ومنها أنهم يأتون بالحركات والأصوات التي اعتادوها عند سماع المعازف والأغاني
الغرامية. وما كان أجدرهم بالخشوع والبكاء والتذكر والاعتبار عند سماع الكلام
الذي وصفه الله - تعالى - بقوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً
مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:
21) ولو تفكروا وخشعت قلوبهم لخشعت جوارحهم. ومن منكراتها في الدور
والقصور أن القراء يجعلون في محالّ الخدم وأنهم لا يصغون لتلاوتهم بل يشتغلون
عنها باللهو الباطل إلخ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/777)
غرة شوال - 1318هـ
21 يناير - 1901م(3/)
الكاتب: محمد عبده
__________
كتب المغازي وأحاديث القصاصين [1]
لفضيلة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية
سألني سائل عن الرأي في ما يوجد بأيدي الناس من كتب الغزوات الإسلامية
وأخبار الفتوح الأولى , وعما حشيت به تلك الكتب من أقوال وأعمال تنسب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كبار أصحابه رضي الله عنهم , وهل يصح
الاعتماد على شيء منها , ثم خص في السؤال كتاب الشيخ الواقدي الموضوع في
فتوح الشام وذكر لي أن بعضًا من معربدة هذه الأيام المعتدين على مقام التصنيف قد
جعلوا هذا الكتاب عمدة نقلهم ومثابة يرجعون إليها في روايتهم؛ ليتخذوا منه حجة
على ما يروّجونه من تشويه سيرة المسلمين الأولين وليسلكوا منه سبيلاً إلى إذاعة
المثالب ونشر المعايب.
وأن بعضًا آخر من ضعفة العقول من المسلمين ظنوا هذا الكتاب من أنفس ما
ذخر الأولون للآخرين وأنه جدير أن يحرز في خزائن الكتب السياسية وحقيق أن
ينقل من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات فأجبت السائل بجواب أحببت لو ينشر
على ظن أن تكون فيه ذكرى لمن يتذكر.
لم يرزأ الإسلام بأعظم مما ابتدعه المنتسبون إليه. وما أحدثه الغلاة من
المفتريات عليه. فذلك مما جلب الفساد على عقول المسلمين. وأساء ظنون غيرهم
فيما بني عليه الدين. وقد فشت للكذب فاشية على الدين المحمدي في قرونه الأولى
حتى عرف ذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم , بل عهد الكذب على النبي
صلى الله عليه وسلم في حياته حتى خطب في الناس قائلاً:
(أيها الناس قد كثرت عليَّ الكذابة ألا من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) أو كما قال.
إلا أن عموم البلوَى بالأكاذيب حق على الناس بلاؤه في دولة الأمويين , فكثر
الناقلون وقل الصادقون , وامتنع كثير من أجلة الصحابة عن الحديث إلا لمن يثقون
بحفظه خوفًا من التحريف فيما يؤخذ عنهم , حتى سئل عبد الله بن عباس رضي
الله عنه لِمَ لا تحدث؟ فقال: لكثرة المحدثين , وروى عنه الإمام مسلم في مقدمة
صحيحه أنه قال: (ما رأيت أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث) , ثم
اتسع شر الافتراء وتفاقم خطب الاختلاق وامتد بامتداد الزمان إلى أن نهض أئمة
الدين من المحدثين والعلماء العاملين ووضعوا للحديث أصولاً , وشرطوا في صحة
الرواية شروطًا , وبينوا درجات الرواة وأوصافهم ومن يوثق به ومن لا يوثق به
منهم , وصار ذلك فنًّا من أهم الفنون سموه فن الإسناد وأتبعوه بفن آخر سموه فن
مصطلح الحديث فامتاز بذلك الصحيح من الفاسد , وامتاز الحق من الباطل وعرفت
الكتب الموثوق بها من غيرها , وثبت علم ذلك عند كل ذي إلمام بالديانة الإسلامية.
وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه كان قد كتب كتابه الموطأ حاويًا
أربعة عشر ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع حديث (قد كثرت
عليَّ الكذابة فطابقوا بين كلامي والقرآن فإن وافقه وإلا فاطرحوه) عاد إلى تحرير
كتابه فلم يثبت له من الأربعة عشر ألفًا أكثر من ألف. ومن راجع مقدمة الإمام
مسلم علم ما لحقه من التعب والعناء في تصنيف صحيحه , واطلع على ما أدخله
الدخلاء في الدين وليس منه في شيء.
لم يخف على أهل النظر في التاريخ أن الدين الإسلامي غشى أبصار العالم
بلامع القوَّة. وعلا رءوس الأمم بسلطان السطوة. وفاض في الناس فيضان السيول
المنحدرة. ولاحت لهم فيه رغبات. وتمثلت لهم منه مرهبات. وقامت لأولي
الألباب عليه آيات بينات. فكان الداخلون في الدين على هذه الأقسام قوم اعتقدوا به
إذعانًا لحجته واستضاءة بنوره وأولئك الصادقون وقوم من ملل مختلفة انتحلوا لقبه
واتسموا بسمته إما لرغبة في مغانمه أو لرهبة من سطوات أهله أو لتعزز بالانتساب
إليه فتدثروا بدثاره لكنهم لم يستشعروا بشعاره. لبسوا الإسلام على ظواهر أحوالهم
إلا أنه لم يمس أعشار قلوبهم , فهم كانوا على أديانهم في بواطنهم ويضارعون
المسلمين في ظواهرهم وقد قال الله في قوم من أشباههم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل
لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14) .
فمن هؤلاء من كان يبالغ في الرياء حتى يظن الناس أنه من الأتقياء فإذا
أحس من قوم ثقة بقوله أخذ يروي لهم أحاديث دينه القديم مسندًا لها إلى النبي صلى
الله عليه وسلم أو بعض أصحابه ولهذا ترى جميع الإسرائيليات وما حوته شروح
التوراة قد نقل إلى الكتب الإسلامية على أنه أحاديث نبوية إلا أن أئمة الدين عرفوا
ذلك فنصوا على عدم صحتها ونهوا عن النظر فيها. ومنهم من تعمد وضع
الأحاديث التي لو رسخت معانيها في العقول أفسدت الأخلاق وحملت على التهاون
بالأعمال الشرعية وفترت الهمم عن الانتصار للحق كالأحاديث الدالة على انقضاء
عمر الإسلام (والعياذ بالله) أو المطمعة في عفو الله مع الانحراف عن شرعه أو
الحاملة على التسليم للقدر بترك العمل فيما يصلح الدين والدنيا , وكل ذلك يضعه
الواضعون قصدًا لإفساد المسلمين وتحويلهم عن أصول دينهم ليختل نظمهم ويضعف
حولهم.
ومن الكاذبين قوم ظنوا أن التزيد في الأخبار والإكثار من القول يرفع من
شأن الدين فهذروا بما شاءوا يبتغون بذلك الأجر والثواب ولن ينالهم إلا الوزر
والعقاب وهم الذين قال فيهم ابن عباس: ما رأيت أهل الخير في شيء أكذب منهم
في الحديث ويريد بأهل الخير أولئك الذين يطيلون سبالهم , ويوسعون سربالهم
ويطأطئون رءوسهم ويخفتون من أصواتهم ويغدون ويروحون إلى المساجد بأشباحهم
وهم أبعد الناس عنها بأرواحهم. يحركون بالذكر شفاههم ويلحقون بها في الحركة
سبحهم ولكنهم - كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -: منقادون لحملة
الحق لا بصيرة لهم في إحنائه ينقدح الشك في قلوبهم لأول عارض من شبهه جعلوا
الدين من أقفال البصيرة ومغاليق العقل , فهم أغرار مرحومون يسيئون ويحسبون
أنهم يحسنون. فهؤلاء قد يخيل لهم الظل عدلاً والغدر فضلاً فيرون أن نسبة ما
يظنون إلى أصحاب النبي مما يزيد في فضلهم ويعلي من النفوس منزلتهم , فيصح
فيهم ما قيل: (عدوّ عاقل خير من محب جاهل) ومن هؤلاء وضاع كتب المغازي
والفتوح وما شاكلها.
أما الشيخ الواقدي فكان من علماء الدولة العباسية ولاه المأمون القضاء في
عسكر المهدي وكان تولَّى القضاء في شرقي بغداد. قال ابن خلكان: وضعفوه في
الحديث وتكلموا فيه اهـ , أي: عدوه ضعيف الرواية ليس من أهل الثقة ولهذا
نص الإمام الرملي من علماء الشافعية على أنه لا يؤخذ بروايته في المغازي فإن
كان هذا الكتاب المطبوع الموجود في أيدي الناس من تصنيفه فهذه منزلته من
الضعف عند علماء المسلمين على أني لو حكمت بأنه مكذوب عليه مخترع النسبة
إليه لم أكن مخطئًا.
وذلك لأن الواقدي كان من أهل المائة الثانية بعد الهجرة , وكان من العلم
بحيث يعرفه مثل المأمون بن هارون الرشيد , ويواصله ويكاتبه , وصاحب هذه
المنزلة في تلك القرون إذا نطق في العربية فإنما ينطق بلغتها , وقد كانت اللغة لتلك
الأجيال على المعهود فيها من متانة التأليف وجزالة اللفظ وبداوة التعبير , والناظر
في كتاب الواقدي ينكشف له بأول النظر أن عبارته من صناعات المتأخرين في
أساليبها وما ينقل فيها من كلام الصحابة مثل خالد بن الوليد , وأبي عبيدة وغيرهم
رضي الله عنهم لا ينطبق على مذاهبهم في النطق , بل كلما دقق المطالع في أحناء
قوله يجد أسلوبه من أساليب القصاصين في الديار المصرية من أبناء المائة الثامنة
والتاسعة , ولا يرى عليه لهجة المدنيين ولا العراقيين , والرجل كان مدنيَّ المنبت
عراقيَّ المقام , ولولا خوف التطويل لأتيت بكثير من عباراته وبينت وجه المخالفة
بينها وبين مناهج أبناء القرون الأولى في التعبير على أن ذلك لا يحتاج إلى البيان
عند العارفين بأطوار اللغة العربية.
فهذا الكتاب لا تصح الثقة به , إما لأنه مكذوب النسبة على الواقدي وهو
الأظهر , وإما لضعف الواقدي نفسه في رواية المغازي كما صرَّح به العلماء فلا
تقوم به حجة للمتحذلقين , ولا يصلح ذخرًا للسياسيين , ومثل هذا الكتاب كتب
كثيرة كقصص الأنبياء المنسوب لأبي منصور الثعالبي , وكثير من الكتب المتعلقة
بأحوال الآخرة أو بدء العالم أو بعض حقائق المخلوقات المنسوبة إلى الشيخ
السيوطي وقصص روايات تنسب إلى كعب الأحبار أو الأصمعي ومن شاكلهما ممن
عرفوا بالرواية , فأولع الناس بالنسبة إليهم من غير تفريق بين صحيح وباطل ,
فجميع ذلك مما لا اعتداد به عند العلماء ولا ثقة بما يندرج فيه , والعمدة في النقل
التاريخي كتب الحديث كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح ويتلوها كتب
المحققين من المؤرخين كابن الأثير , والمسعودي , وابن خلدون وأبي الفداء
وأمثالهم , وعلى أي حال فلا يستغني مُطالِع التاريخ عن قوة حاكمة يميز بها بين ما
ينطبق على الواقع وما ينبو عنه. هذا ما أردنا اليوم إجماله فإن دعا إلى التفصيل
داع عدنا إليه والله الموفق للصواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ع
__________
(1) نشرت هذه المقالة في جريدة ثمرات الفنون الغراء منذ 15 سنة عندما كان الأستاذ في بيروت وأعادت نشرها في العدد 1313 الصادر في 9 من رمضاننا هذا.(3/785)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أأحسن الشعر أكذبه أم أصدقه
نموذج آخر من أسرار البلاغة
قال عبد القاهر بعد كلام: وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة أن يجعلوا
اجتماع الشيئين في وصف علة الحكم يريدونه وإن لم يكن في المعقول ومقتضيات
العقول , ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحح كون ما جعله أصلاً وعلة كما ادعاه فيما يبرم
أو ينقض من قضية , وأن يأتي على ما صيره قاعدة وأساسًا بينة عقلية , بل تسليم
مقدمته التي اعتمدها بينة كتسليمنا أن عائب الشيب لم ينكر منه إلا لونه , وتناسينا
سائر المعاني التي لها كُرِهَ ومن أجلها عِيبَ. وكذلك قول البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكم ... في الشعر يكفي عن صدقه كذبه
أراد: كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا
فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به،
ويلجئ إلى موجبه، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد، وإياه عمد، إذ يبعد أن يريد
بالكذب إعطاء الممدوح حظًّا من الفضل والسؤدد ليس له، ويبلغه بالصفة حظًّا من
التعظيم يجاوز به من الإكثار محله؛ لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية،
والقوانين العقلية، وإنما يكذب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما
وصف به، والكشف عن قدره وخسته، ورقته أو ضعته، ومعرفة محله ومرتبته،
وكذلك قول من قال: (خير الشعر أكذبه) فهذا مراده لأن الشعر لا يكتسب من
حيث هو شعر فضلاً ونقصًا وانحطاطًا وارتفاعًا بل يَنْحَل الوضيع من الرفعة ما هو
منه عار، أو يصف الشريف بنقص وعارٍ، فكم جواد بخله الشعر , وبخيل سخَّاه ,
وشجاع وسمه بالجبن , وجبان ساوَى به الليث , وذي ضعة أوطأه قمة العيُّوق [1] ,
وغبي قضَى له بالفهم، وطائش ادعى له طبيعة الحكم، ثم لم يعتبر ذلك في الشعر
نفسه حيث تنتقد دنانيره وتنشر ديابيجه، ويفتق مسكه فيضوع أريجه.
وأما من قال في معارضة هذا القول: (خير الشعر أصدقه) كما قال:
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دل على حكمة يقبلها العقل، وأدب يجب به
الفضل، وموعظة تروّض جماح الهوى، وتبعث على التقوى، وتبين موضع القبح
والحسن في الانفعال، وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد ينحى بها
نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه.
والأول أولى لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر.
فمن قال: خيره أصدقه كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق
والتصحيح، واعتماد ما يجري من العقل على أصل صحيح أحبَّ إليه، وآثر عنده
إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال:
أكذبه؛ ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها، وينشر شعاعها، ويتّسع ميدانها،
وتتفرع أفنانها، حيث يعتمد الاتساع والتخييل، ويدّعى الحقيقة فيما أصله التقريب
والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق
في المدح والذم والوصف والبث والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض ,
وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد، ويبدي في اختراع الصور ويعيد،
ويصادف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا ويكون كالمغترف
من غدير لا ينقطع والمستخرج من معدن لا ينتهي.
وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المدانى قيده، والذي لا تتسع كيف شاء
يده وأيده، ثم هو في الأكثر يورد على السامعين معاني معروفة وصورًا مشهورة،
ويتصرف في أصول هي وإن كانت شريفة فإنها كالجواهر تُحفظ أعدادها، ولا
يُرجى ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تنمى ولا تزيد، ولا تربح ولا تفيد،
وكالحسناء العقيم، والشجرة الرائعة لا تمتع بجنًى كريم.
هذا ونحوه يمكن أن يتعلق به في نصرة التخييل وتفضيله , والعقل بعد على
تفضيل القبيل الأول وتقديمه، وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره،
والتحقيق شاهده، فهو العزيز جانبه، المنيع مناكبه، وقد قيل: الباطل مخصوم
وإن قضي له , والحق مُفْلِجٌ وإن قضي عليه [2] هذا ومن سلم أن المعاني المعرقة
في الصدق، المستخرجة من معدن الحق، في حكم الجامد الذي لا ينمى،
والمحصور الذي لا يزيد، وإن أردت أن تعرف بطلان هذه الدعوى فانظر إلى قول
أبي فراس:
وكنا كالسهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصابا
ألست تراه عقليًّا عريقًا في نسبه، معترفا بقوة سببه , وهو على ذلك من
فوائد أبي فراس التي هو أبو عذرها، والسابق إلى إثارة سرها [3] .
واعلم أن الاستعارة لا تدخل في قبيل التخييل؛ لأن المستعير لا يقصد إلى
إثبات معنى اللفظة المستعارة , وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك فلا يكون مخبره
على خلاف خبره. وكيف يعرض الشك في أن لا مدخل للاستعارة في هذا الفن
وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى كقوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم: 4) ثم لا شبهة في أن ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهرًا , وإنما
المراد إثبات شبهه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن)
ليس على إثبات المرآة من حيث الجسم الصقيل، لكن من حيث الشبه المعقول،
وهو كونها سببًا للعلم بما لولاها لم يعلم لأن ذلك أعلم طريقه الرؤية , ولا سبيل إلى
أن يرى الإنسان وجهه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصقيلة , فقد جمع
بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة وهي أن المؤمن ينصح أخاه ويريه الحسن من
القبيح كما تُرِي المرآة الناظر فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه. وكذا قوله
صلى الله عليه وسلم: (إياكم وخضراء الدمن) معلوم أن ليس القصد إثبات معنى
ظاهر اللفظين , ولكن الشبه الحاصل من مجموعها وذلك حسن الظاهر مع خبث
الأصل.
وإذا كان هذا كذلك بان منه أيضًا أن لك مع لزوم الصدق والثبوت على
محض الحق الميدان الفسيح والمجال الواسع , وأن ليس الأمر على ما ظنه ناصر
الإغراق والتخييل الخارج على أن يكون الخبر على خلاف المخبر من أنه إنما
يتسع المقال ويفتن وتكثر موارد الصنعة ويغزر ينبوعها، وتكثر أغصانها وتتشعب
فروعها، إذا بسط من عنان الدعوى فادعى ما لا يصح دعواه، وأثبت ما ينفيه
العقل ويأباه.
وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ههنا ما يثبت فيه الشاعر فيه أمرًا هو
غير ثابت أصلاً , ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها , ويقول قولاً يخدع فيه
نفسه ويريها ما لا ترى. أما الاستعارة فإن سبيلها سبيل الكلام المحذوف في أنك إذا
رجعت إلى أصله وجدت قائله وهو يثبت أمرًا عقليًّا صحيحًا , ويدعي دعوى لها
شبح في العقل. وستمر بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرًا في البعد عن
الحقيقة تكشف وجهًا في أنه خداع للعقل وضرب من التزويق فتزداد استبانة
الغرض بهذا الفصل , وأزيدك حينئذ إن شاء الله كلامًا في الفرق بين ما يدخل في
حيز قولهم: خير الشعر أكذبه. وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في اتساع وتجوز
فاعرفه. وكيف دار الأمر فإنهم لم يقولوا: خير الشعر أكذبه وهم يريدون كلامًا
غفلاً ساذجًا يكذب فيه صاحبه ويفرط , نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة
ويقول للبائس المسكين: إنك أمير العراقين، ولكن ما فيه صنعة يتعمل لها
وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة للصواب. وأعود إلى ما كنت فيه من
الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي اهـ النموذج المراد.
__________
(1) العيوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها , وقمة الشيء أعلاه.
(2) المفلج (اسم فاعل) الفائز الظافر يقال فلج (كنصر وضرب) , وأفلج لازم ويتعدى بعلى فيقال فلج وأفلج على خصمه أي استظهر وانتصر.
(3) يقال: (هو أبو عذر هذا الكلام) أى هو أول من اقتضبه واخترعه ويقال: (ما أنت بذي عذر هذا الكلام) أي لست بأول من اقتضبه والعذر هنا بالضم مخفف من العذرة وهي البكارة بحذف التاء لجريه مثلاً.(3/796)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
بقية المكتوب (25) من هيلانة إلى أراسم
من السهل كثيرًا على الأطفال أن يدركوا معنى الملك في حق أنفسهم , ولكن
من الصعب جدًّا إقناعهم بأن للغير ملكًا يجب احترامه.
يشهد لذلك ما سأقصه عليك وهو أن مما يزرع في إنكلترا الراوند , وهو نبات
بهي المنظر شديد النمو يعرف في مزارعه بعرض أوراقه وعلو سوقه يدخله أهل
هذه البلاد لندرة الفواكه عندهم في عمل أقراص ومربيات يغالون بها كثيرًا سواء
أخطأوا في هذه المغالاة أو أصابوا , فترى أطفال القرى بسبب بقاء أذواقهم على
حالها الفطرية كلفون بأكل هذا النبات حتى إنهم لا يحتاجون في تعاطيه إلى تسويته
بالنار ولا إلى إدخاله في الأقراص , بل إنهم يأكلون سوقه الغضة فجة ويجدون لها
طعمًا مزًّا. من أجل هذا حصل أن تلامذتي (لأني أعتبرهم كذلك) بينما كانوا
يتنزهون وحدهم في ضواحي بنزانس لمحو حقلاً من حقوله فحركهم إليه كما حرك
حمار الأسطورة [1] دعوة الفرصة لهم إلى اغتنامها , وعضوضة النبات وطراءته,
وبعض نزغات الشيطان فلم يكن إلا أن تخطوا ما يحيط بالحقل من الحواجز الواهية ,
ثم انقضوا بقوتهم على بعض أشجار منه رأوها أطرى من غيرها فأكلوا منها
كفايتهم , ولكن لم يلبث وجدانهم بعد هذا أن أخذ يناجيهم فيما ارتكبوا فقال (أميل)
وقد بدا خجله: أتحسبان أننا قد أحسنا فيما فعلنا؟ فاضطر رفيقاه إلى الاعتراف
بأنهم جميعًا قد أساءوا.
ثم استأنفوا الكلام فقال وليم قول القدريّ الرزين: لقد كان ما كان فلم يبق في
قدرتنا إصلاحه. فأجابته بلَّى وهي لكونها أكبر منهما سنًّا أعرف بطرق المعاملات
منهما: (بلى إن لنا سبيلاً للخروج عن تبعة هذا الخطأ لأنه يصح لنا في كل حال
أن ندفع ثمن ما أتلفناه) فكان لما قالته لرفيقَيْها لمعة ابتهاج أشرق بها ضميرهما لأنهما
عوّلا على إصلاح التلف وبذلك يئوبون إلى بيتهم هادئي البال.
ولكنهم لم يلبثوا أن وقعوا في حيرة عظيمة لأنه لم يكن مع وليم وبلَّى من
النقود فلس واحد. وأما (أميل) فإنه كان غنيًّا بوجود بنى (عشر سنتيمات) في
جيب صُدْرَته , ولم يتردد في إخراجه ليدفعه ثمنًا لما أكلوه , ولما لم يروا في
الحقل أحدًا يقوم مقام مالكه في قبض الثمن أدتهم سذاجتهم إلى أن وضعوا قطعة النقد
على ورقة عريضة من أوراق الراوند وانصرفوا.
علمت بتفصيل هذه الواقعة من بدايتها إلى نهايتها من الجناة أنفسهم لأني لما
كنت لا أعاجلهم بالعقاب على ما يقترفونه كانوا يحسبونني كأحد معلمي الاعتراف؛
فيقرون لي بما يقترفونه من الذنوب طيبة به أنفسهم , ولما خفت أن يكون ما تركه
الأطفال من الثمن غير كاف في تعويض ما أتلفوه تراضيت مع المالك على قيمته
ودفعتها له على أنها لم تكن كثيرة , وبذلك حسمت هذه المسألة بنفقات قليلة , وإنني
كنت أبذل كل ما يطلب مني في مقابلة ما أشرق في بصائر أولئك النهابين الصغار
من بريق العدل في الوقت المناسب له. ولو كان (أميل) هو الذي صدرت منه
فكرة رد قيمة ما سلب لكان سروري بذلك أعظم كما لا أخفي عنك وفرحي به أكبر ,
ولكنه له فضل بذل ما كان معه على قلته. كيف يكون تفهيم الأطفال أن كل ما
ينبت على وجه الأرض ليس مباحًا لجميع الناس؟
أرى أن من أحسن مدارس الأخلاق للصغار الذين هم في سن (أميل)
المدرسة الخلوية فإنه قد تعلم فيها من نظره إلى ما ينهمك فيه أهل القرى من
الأشغال الشاقة أكثر مما يتعلمه بجميع البراهين الممكنة؛ لأنه يرى في كل يوم أن
القمح لا ينبت إلا إذا بذرت الناس حبوبه , وأن أجود أرض لا تصلح للزراعة إلا
إذا قلبت وحرثت.
ثم إن الحيوانات أيضا تعلمه اختصاص كل منها بما يملك. أذكر من ذلك مثلاً
فأقول: إنه يوجد في ضواحي بنزانس على شاطئ جدول يجري بعض أميال ثم
ينصب في البحر لفيف من الأشجار يحوم على واحدة منها في غالب الأوقات طائر
يقل وجوده في هذه الناحية وهو المسمى عند الإنجليز بملك جوارح الطير وعند
الفرنساويين بالخطاف الصياد (لعله الذي يسمى بالعربية الزُّمَّج) . اسْتَلْفَت هذا الطائر
الجميل أنظار أولادنا في أول الأمر ببهاء لونه ولكني نبهتهم إلى أن شهرته بالمهارة
في كسب قوته ليست بأقل من شهرته بجمال سرباله ذلك لأن هذا المسكين يكد في
كسبه وينصب فإنه يجثم ساعات كاملة في مكانه أي وراء غصن من الأغصان يحجبه
عن الأعين - ولا يعترض بصره حيث يراقب كما تعلم بعينيه اليقظاوين اللتين لا
يفوتهما فائت مرور السمك في الماء , فإذا سنحت له واحدة منها؛ انقض عليها
انقضاض السهم واصطادها , ثم ارتفع بها معلقة في منقاره القويّ إلى محله , وبعد أن
يمزقها كل مُمَزق ويلتقمها يعود إلى ما كان فيه من الترقب الشاق لعلمه أن الحظوظ
نادرة , وأن شهوة الطعام حاكمة عليه. وقد شهد الأطفال ذات يوم قتالاً عجيبًا وقع
بينه وبين جارح آخر أراد أن يختلس ثمرة صيده , فلم يلبث (أميل) أن فهم أن هذا
الطائر الثاني هو السارق لأنه أراد أن يسلب خصمه ما كسبه بجده وسعيه.
من العواطف التي أريد أيضًا أن أغرسها في نفس ولدنا احترام ما يصيب
الناس من العاهات , وقد رأيت أن إلقاء المواعظ عليه في ذلك مما يضيع به الزمن
عبثًا , ولاحظت أيضًا أن كثيرًا من الآباء والأمهات يخطئون بتمثيلهم عيوب الخلقة
وضروب التشوه الفطري لأولادهم في صورة عقوبات إلهية. ومن الأمثال على
ذلك أن فتاة تسكن المنزل الذي أنا فيه شبت على هذه الأوهام الشنيعة فكانت تعتقد
اعتقادًا راسخًا في عجوز من جيراننا شوهاء قوساء أن الشيطان يسكن حدبتها.
فالذي أريد إقناع (أميل) به هو عكس ذلك بالمرة فإني أريد أن أفهمه من غير
إفراط في تنبيه عاطفة الشفقة فيه أن من سلبهم الله من عباده محاسن الخلقة قد
عوضهم منها مواهب لم تقسم لغيرهم , وقد علمت بأنه يوجد على مقربة من قرية
مرازيون غلام أكمه يعيش من ثمرة كد والديه اللذين هما من صلحاء الفلاحين ,
فرأيت فيه فرصة حسنة لتجربة الفكر الذي تصورته , وطلبت من تلامذتي الثلاثة
أن يقبلوه رفيقًا لهم فرضوا بذلك لأنه متى كان المقصود للأطفال التسلي والانشراح
لا يعتبر عددهم كثيرًا بالغًا ما بلغ , وقد يكون لرضائهم بصحبته سبب آخر , وهو
أن الإنسان لا يكره مطلقًا أن يكون له رفيق يظهر علو درجته عليه لعلة فيه ,
ككونه محرومًا من بصر يضيء له سبيله , وإن كان ذلك الرفيق في الحقيقة أشد
منه قوة وأكبر سنًّا , فإننا كثيرًا ما نشوب حُنُوَّنا بشيء من الكبر والصلف ,
والأطفال مثلنا في ذلك وإن لم يكونوا عالمين به. على أنه لا حاجة بي إلى استقصاء
أسباب أعمالهم.
يتسلى عرمة الأطفال هنا في فصل الربيع باصطياد طائر من الطيور الخاصة
بكرنواي وهو الغراب الأعصم [2] ولكون هذا الطائر نفورًا في حالته الفطرية تراه
لا يسكن غالبًا إلا الأماكن المهجورة , ولعلمه بشدة رغبة الناس فيه لندرته يدعوه
إدراكه إلى أن يتخذ وكنه في وسط ما لا يكاد ينال من الصخور [3] , ولكن الصغار
البحاثين المنقبين لا يفلت شيء من أيديهم , فبعضهم مدفوع في بحثه بما فيه من
حب الاستطلاع , وبعضهم يحركه إلى ذلك طمعه في الربح لأن هذا الغراب غالي
القيمة , ثم إن أكثر وجوده في ضواحي بنزانس بالشعاف الوعرة المنتشرة حول
خليج الجبل حيث يعتصم في صخور الصوان المتصدعة المنقلبة بسبب ما انتابها
في غابر الأزمان من الرجفات والزلازل , ويوجد بالقرب من هذا المكان المنعزل
الوعر قرية للصيادين تدعى (موس هول) ومعناه جحر الفأر، وإنما سميت كذلك
لتعلقها على الساحل كأنها جحر فأر في حائط.
أنا لا أستحسن بحال صيد هذا الطائر لأسباب مختلفة ولكنني ربما توهمت أن في
التعجيل بإظهار مذهبي في ذلك لتلامذتي خروجًا عن مقتضى السياسة والحزم؛ لأنهم
يرون لهم أُسًى في أطفال القرية تحركهم إلى هذا الفعل , ومن أجل ذلك لم أمنعهم من
الذهاب للصيد فانطلقوا في بكرة ذات يوم يصحبهم الأكمه , ويتبعهم قوبيدون مسافة
بعيدة من البيت , وكان أصعب ما عليهم في ذلك الوقت تمييز طريقهم الذي صعدوا
الجبل منه , فلما رآهم قوبيدون في هذه الحيرة اشتدت رغبته في أن يظهر لهم ويسكن
روعهم ولم يمنعه من ذلك إلا إخلاصه في اتباع ما أرشدته إليه فانتظر حتى يرى كيف
يتخلص هؤلاء التائهون من ورطتهم.
أتدري أنه لما جن عليهم الليل انعكس الأمر فيهم كل الانعكاس , فأمسى
الأكمه بصيرًا لأنه بما حفظت ذاكرته ودقة لمسه (التي هي من خواص العمي)
من مواقع الطريق قد ميز الشعاب التي مر بها في الصباح كل التميز فبات قائدًا بعد
أن كان مقودًا , فلما رآه الأطفال على هذه الحالة يسترشد في الطريق بأطراف
أصابعه كأن له فيها أعينًا كادوا يعتبرونه في ذلك الوقت أرقى منهم , فهم في ذلك
كالمتوحش يسهل انتقالهم من شعور متجاوز حده إلى شعور آخر ليس أقل منه
خروجًا عن الحد. ألا يدلنا هذا على أن عبادة بعض الشعوب القديمة لذوي العاهات
من الناس مبنية على مثل هذا السبب.
على أن ميل (أميل) ورفيقيه إلى الإتيان بمثل ما أتى به ذلك الأكمه قد بعث
فيهم روح الاستطلاع , فالموهبة التي أوتيها الأعمى قد يصح لغيره من البصراء أن
يكتسبها بالتمرن لأنك ترى الأطفال قد دلهم حدسهم الفطريّ على بعض طرق من
شأنها أنها تنمي فيهم قوة السمع ودقة اللمس أكثر من غيرها فمن ذا الذي اخترع
اللعبة المسماة بالمَسَّة [4] لا إخال إلا أن مخترعها هو حاوي [5] أو غيره من أعضاء
المجتمع العلمي (أكديميًا) فإن هذه اللعبة التي يسميها الإنكليز هنا جلدة الأعمى
ليست إلا تعاميًا تتعرف به الطرق التي للأعمى في معرفة ما حوله. أنشأ (أميل)
ورفيقاه يمارسون فيما بينهم كثيرًا من الألعاب وطرق التدريب التي تقتضي الالتفات
وأعينهم مغطاة , ومع كون الفضل كله للإبصار بالعينين كانت أثرتهم التي هيجها
فيهم ما رأوه من فعل الأكمه توحي إليهم بأن النظر الدقيق هو النظر باللمس , وإني
لفي شك من أنهم ينالون من هذه الجهة بكسبهم ما للأعمى من النظر الطبيعي ولو
قضوا في مزاولة ذلك طول حياتهم , غير أنه من فائدتهم أن يتعلموا في اللعب ما
بين المشاعر من التعاون , وقيام أحدها محل الأخرى , وإني لا أنسى ما كنت
تقوله لي كثيرًا من أنه لا يعرف طرق السمع والبصر حق المعرفة إلا من تعاوره
الخرس والعمى.
يجب عليَّ الآن أن أعود إلى ما كنت بصدده من حكاية اصطياد الغراب
الأعصم فأقول: لم يعثر الأطفال على وكن واحد في الصخور , وذلك لأن (أميل)
ووليم لا يزالان من الضعف بحيث إنهما لا يستطيعان الوصول إلى الشعاف الوعرة
التي يلجأ إليها ذلك الطائر , وأما بلى فلكونها بنت رجل يدين بمذهب المرتجفين [6]
ترى أن استلاب أفراخ الطير من أمها من فعل الشر. هذا المذهب الديني كما لا
يخفى عليك يورث أصحابه ميلاً عظيمًا للإحسان إلى الحيوانات, ولكون قوبيدون
أقل تحرجًا منها في هذا الأمر , وأحرص دائمًا على فعل ما يرضي (أميل) كان
أمهر منهم أو أسعد حظًّا في بحثه؛ لأنه بتلك الخفة في التسلق التي تمثل إنسان
الآجام في شخصه كان قد اصطاد من بين القنن الصوانية والأدغال زوجًا من هذا
الطائر صغيرًا نبت ريشه , لكن أجنحته لما تطل ليستطيع الطيران , فلما رأى
الأطفال الزنجيّ دهشوا دهشة عظيمة لأنهم ما كان يخطر لهم على بال أنه بهذا
القرب منهم يتدخل في كل مكان , وهو كالليل في السكون , فابتهجوا برؤيته
وزادتهم فرحًا رؤية الفرخين اللذين كانا شبيهين بكرتين من الزغب ركب فيهما
منقاران أحمران حتي إن بلَّى نفسها أبدت من البشر والارتياح في هذه الساعة ما دل
على أنها نسيت أصول مذهبها القويم.
ولما كنت أعلم ما يعامل به الأطفال الطيور عادة إذا وقعت في أيديهم بقيت
وحدي غير مشاركة لهم في هذا الابتهاج العام الذي ولده اصطياد هذين الفرخين ,
ولكن ماذا كان في وسعي أن أفعله أو أقوله , فلو أني قلت لهم: خلوا سبيل أسيريكم
لأطلقوهما ولكن مع الكراهة والأسف. من أجل هذا رأيت أن الأمثل بي الرجوع
إلى طريقة أخرى , وهي أني وضعت الفرخين في حجرة سفلى من حجرات البيت
كنا نضع فيها أدوات البستان فاتخذتها بيتًا للطيور , ثم أخذت أبين (لأميل) أنه
يجب عليه أن يتولى بنفسه تعذيتهما لأنهما أصبحا محرومين من أمهما التي كانت
تعولهما , وبالغت له عن قصد فيما يستلزمه ضعفهما الشديد من ضروب العناية
ليقوم ذلك مقام ما كان يكنفهما من رعاية وليهما الطبيعي , فكان من ذلك أن حبس
نفسه جزءًا من النهار في بيت الطيور , ولم يلبث بهذه الطريقة أن عرف أنه قد
أصبح أسيرًا لأسيريه وصارت كراهته لهذه الوظيفة أمرًا محتمًا , والذي استفاده
فيها من العبرة هو أنه لا يتأتى للإنسان حرمان غيره من حريته إلا بفقد جزء من
حرية نفسه , ولذلك لم تمض بضعة أيام حتى جاءني راجيًا إطلاق الفرخين ليمضيا
في سبيلهما.
لما رأيتني قد نجحت في سوق العبرة (لأميل) في الأكمه صممت على
الاستمرار في تجاربي , فعلمت أن في ضواحي قريتنا راعيًا صغيرًا مشهورًا بالبله
يسخر منه جميع عرمة الأطفال في القرية , ويهزءون بسذاجته , وكنت أرتعد
خشية أن يفعل (أميل) فعلهم لأن القدوة شديدة العدوى والضحك مما ينبغي الرثاء
له واحترامه هو من ضروب القسوة التي في الأطفال , ولكن قد أعانني - ولله
الحمد - على ما كنت بسبيله ما أعملته من الفكر , وما سنح لي من الفرصة. ذلك
أني قابلت هذا الراعي الصغير ذات يوم في الحقول فتبينت فيه أنه يميز كل شاة من
شياهه على حين أن قطيعه كله لم يكن في نظري وفي نظر (أميل) إلا شاة واحدة
مكررة مائة مرة , فتلك إذن مزية له علينا عاهدت نفسي عهدًا أكيدًا على الانتفاع
بها في سياستي (لأميل) , فعرضت عليه في اليوم التالي لتلك المقابلة أن يصحبني
إلى الكثبان حيث علمت بوجود ذلك الراعي هناك , فلما رآه قال: وَيْكَأَنِّي به
المجنون. وهو الاسم الذي يطلق هنا على السخفاء والبله , فتظاهرت له بعدم
الالتفات إلى ما قال , ووجهت نظره إلى خصيصته في تمييز شياهه بعضها من
بعض بمجرد نظره إليها على ضعف عقله مع تشابهها علينا كثيرًا , فكان ذلك باعثًا
لدهشته وموضوع محادثة مع ذلك الأبلة تبين لنا منها أنه على علم تام بأسنان شياهه
وطباعها بل بأقل الشيات الظاهرة فيها , فتسنى بذلك (لأميل) أن يقتنع في نفسه
بأن هذا الجاهل المسكين أعلم منا في بعض الأمور الخاصة به , ولكي أستفيد من
هذا الاقتناع طلبت من الأبله قبول ولدي في مدرسته بضعة أيام يعلمه فيها ما أوتيه
من العلم فقبل ذلك طيبة به نفسه منتظرًا من ورائه مكافأته , بل ربما كان أيضًا
معللاً نفسه بحسن ظن الناس بصلاحيته لبعض الأمور , وكان هذا بحسب ما ظهر
لي من حاله أول إكرام ناله في حياته.
وأما أميل فإنه كان على ما يظهر لي أقل ارتياحًا منه بكثير لهذا الأمر لأنه
بسبب حبه لنفسه وعجبه كان يتألم من أن يكون تلميذًا لشخص يعتبره هو ورفقاؤه
أحمق , ويرى أن في ذلك غضًّا من كرامته , ولكني لم أجد وسيلة أخرى للوصول
إلى مقصدي على أنه لا شيء عليه في ذلك , فلشدَّ ما سيفتخر على أقرانه بإبداء ما
علمه لهم وإن قل , ويظهر لهم من الشمم به مثل ما كان للأحمق عليه , وقد استفدت
من هذا التعليم فائدتين فيه: أولاهما أن ملكة تمييز أدق الفروق التي بين أفراد
القبيل الواحد لا تقتصر على استعمالها في الغنم , بل إنها متى حصلت يصح أن
تتعدى إلى جميع ما تكلم عنه علم التاريخ الطبيعي من صنوف الموجودات , والفائدة
الثانية - وأراها أنفس من الأولى - هي أن يعلم بأننا على الدوام محتاجون إلى
التعلم حتى من أضعف الناس عقلاً.
يتوهم (أميل) أنه لا يكون رجلاً إلا إذا لعب كما يلعب الجندي , ولذلك
تراني أبيح له شيئًا من هذا اللعب موافاة لميله ومراعاة لسنه. ولكني منذ بضعة أيام
رأيت منه في أثناء هذا اللعب ما راعني وأطار لبي؛ إذ رأيت فتيان القرية
منقسمين إلى فئتين وهو في وسطهم يحمل لهم اللواء.
نعم إنهم كانوا يقتتلون بسيوف من الخشب , ولكن لو أنها من الصلب ,
وكانت هذه الأيدي الصغيرة العاملة بها ذات أعصاب قوية لتمثل أمامي قطعًا مشهد
من مشاهد تلك المذابح الفظيعة التي تصبغ أديم الأرض بالدماء , ويسميها الناس
حروبًا , فقمت أنا بما كان يعمله قدماء السابينيين [7] أعني أننا توسطنا بين
الفريقين المتحاربين , وحجزنا كلاً منهما عن الآخر , فرأى (أميل) مني حتمًا
أنني تألمت لهذه الحادثة لأنه لما رآني شحب لونه وألقى بنفسه بين يدي طالبًا
مسامحته.
إني في الحقيقة - ولا أخفي عليك - قد انجرح قلبي لهذا المنظر وإن كنت
أعلم أنك في يوم ما ستُعَلِّمه - من غير شك - أن هناك حروبًا مبنية على الحق
والعدل , وأن من أجمل ما يتصف به الإنسان ويحمد عليه الذود عن حوزة بلاده
والموت في سبيل الدفاع عن رأيه , ولكنه في السن الذي هو فيه الآن لا يفهم هذه
الدقائق , ولا يرى في الكفاح على أي حال إلا ما يراه معظم الناس من كونه وسيلة
للشهرة والتمايز وذريعة إلى ظلم الأكفاء والنظراء. وسواء اتخذ الأطفال لواءهم من
الورق أو الخرق البالية تراهم كالجنود منقادين إلى وجدان واحد لا تقوى فيه ولا
إيمان فتبعثهم غرائزهم الوحشية على أن يرفعوا أيديًا لا ينقصها من أول نشأتها إلا
قوة القتل ليضربوا بها إخوانهم. إذا كانت الحروب تنتشب بين الحكومات , فليس
ذلك إلا لأن غريزتها قد سكنت قلب الإنسان من أمد بعيد. وكيف لا تسكنه ونحن
نرى القائمين على الأطفال يصرفون عنايتهم الكبرى في إعلاءِ شأن صدى الإنسان
إلى شرب الدم الذي يجعلنا كالوحوش الضواري. فأي اسم من الأسماء الجميل
ظاهرها كالشرف والظفر وحب الوطن لم يقرن بذلك الميل الذي تعبده الناس كما
يعبدون وثن ملوخ [8] وإني أستعيذ بالله من أن يكون قلب ولدي مغرسًا لهذه الشهوة
التي كلها كذب وقسوة.
لما انتهى أمر هذه الواقعة أخذت (أميل) بيده وانطلقنا , فاتفق أن رأيت في
طريقي تلك الساعة كلبين ضئيلين يقتتلان , ويعض كل منهما الآخر على عظمة قد
قرض نصفها , فقلت له: تأمل , فتلك صورة جميع ميادين القتال , ولست على
يقين من أنه أدرك هذه المرة معنى ذلك الكلام , ولكن أقل ما في الأمر أنه فهم سبب
تأثري , لأنه - وربك - كان بالغًا مني مبلغًا عظيمًا.
أنا مع اعتقادي بما في تقبيح هذه الأوهام السيئة في نظر (أميل) وتشهيرها
من الفائدة له لا أرضى أن يكون جبانًا , ولو أعطيت في ذلك ما في الأرض جميعًا،
وإن الوالدين في الجملة يفرطون أثناء تربية أبنائهم في إساءة التصرف بما فيهم
من وجدان الخوف , فإنهم يجتهدون في إرهابهم بكل ما في وسعهم من طرق
الإرهاب فيخوفونهم من السماء بحجة أن سحبها تُقِلُّ صواعق الانتقام , ومن
الأرض بقولهم: إن الله سبحانه قد لعنها وغضب عليها بسبب خطيئة آدم , ومن
الحياة لأن أعمالهم فيها ستعرض على حاكم يحصيها جميعها , ومن الموت بجعله
محفوفًا بمخاطر لا تنقضي إلى الأبد.
هذه التربية التي أساسها الإرهاب والتخويف إنما تلائم الأرقاء تمام الملاءَمَة ,
ولكني في شك مريب من أنها تنشئ رجالاً أحرارًا. فإذا كان لا بد (لأميل) أن
يرتاع ويفزع فليكن ارتياعه وفزعه من وجدانه وسريرته , ولكني خلافًا لأولئك
المربين أجتهد في تطمين قلبه وتسكين روعه من هذه المخاوف المبهمة الخيالية التي
كثيرًا ما تلازم أذهان الأطفال , وأود لو أراه شجاعًا جريئًَا على الأشياء وديعًا
مخفوض الجناح للناس فالواجب أن تكتسي الشجاعة حلة الشرف الحقيقي لا أن
تتحلى منه بالبهرج الكاذب.
رأيت (أميل) كغيره من الغلمان الذين في سنه يخاف من الليل ومن كل ما
ليس معروفًا له فيوجد في أقصى البستان روضة من شجر البندق المتوسط في الكبر
لا يجرؤ على دخولها وحده بعد غروب الشمس كأنه يخشى أن يؤكل فجأة , وعلى
أيّ حال ليس في الأمر ما يدعو إلى الإفراط في الاستغراب , فإن الأطفال لم يكونوا
ليشتغلوا بأحدوثة الأصيبع [9] كل هذا الاشتغال الذي نعلمه منهم لو لم يبق فيهم أثر
من الإنسان الوحشي الذي كان يعيش محوطًا بجميع ما في الكون من الأغوال ,
وربما أن الذي يمنع (أميل) من الدخول في تلك الروضة مساءً هو إشفاقه من أن
يقابله فيها ذئب القبيبعة الحمراء [10] . وبالجملة فهو نفسه لا يعرف أن يعبر عما
يرهبه , والحقيقة أنه يخاف من ذلك الشيء الذي يسمع عنه بأنه يجول في الظلام.
لما رأيت أن آثار الخوف ألصق بالنفس من جميع الآثار والانفعالات , وأن
التظاهر بمقاومتها لا يزيدها إلا ثباتًا اقتصرت على أن حسنت (لأميل) دخول
الروضة المذكورة مستصحبًا الدبة لأنها لا ترهب شيئًا ولاستعدادها في كل وقت
لاقتفاء أثره , فلما رأى بهذه الواسطة أن له رفيقًا لم يمتنع من الدخول , ولم يلبث
أن عرف أن الذي كان يشوش ذهنه إلى تلك الساعة إنما هو وحشة المكان وخلوه
من الأنيس , ولم تفتني الاستفادة من هذه العبرة أنا أيضًا لأنني قد فهمت بها جميع
ما قد زاد في نفس الإنسان من القوة بسبب اختلاطه بالحيوانات المستأنسة في
أعصره الأولى.
أنا إلى اليوم ملتزمة مع (أميل) عدم الخوض في المسائل الدينية موافاة
لرغبتك , ولكن قد حصلت بيننا واقعة في الأسبوع الماضي ينبغي أن أقصها عليك،
ذلك أننا رأينا في عصر ذات يوم من ذلك الأسبوع هيدبًا من السحاب رصاصيّ
اللون كان أول ما رأيناه قزعًا , ثم تراكم حتى صار مكفهرًّا , ثم اختلط فصار قطعة
واحدة مظلمة أناخت على الماء بكلكلها , وكنا نرى شعاعًا أكدر من أِشعة الشمس لا
يزال يخترق هذا الستار الحدادي في بعض جوانبه , ولم يكن إلا قليل حتى غاب
في شبه دجنة مخيفة منذرة بالمطر , ثم انقطع هبوب الريح فلم يبد منه أقل نفحة ,
وقلما كنا نسمع من بعد تنفس الخليج بأمواجه وهي تعلو وتنخفض بثقل كأنها صدور
المكروبين اللاهثين , ونظرنا إلى الشاطئ فلم نر فيه عود حشيش واحد يتحرك
فكان الكون في سكونه هذا كالمشدوه الغائب عن رشاده يتوقع حصول أمر عظيم له ,
ثم لم يكن إلا أقل من ساعة حتى عصفت العاصفة بعد كمونها , ثم صدع البرق
قبة السحاب المتراكب صدعًا مُتَمِّجًا , وقصف الرعد لأول مرة فاهتز له جميع
البيت فارتعدت فرائص (أميل) وأسرع إلي محتمياً بي مستندًا إلى صدري كأن في
قدرتي أن أمنعه من هياج الفواعل الكونية , ثم تعاقبت البروق والصواعق وأنشأ
ماء الخليج يغلي وهو أكدر مزبد كالسكب (البرنز) صهر في مرجل ثم أخذ الريح
بعد ارتفاعه فجأة يبدد سيول المطر مزمجرًا , وكنا نسمع هزيم الرعد في السحاب
من بعيد , ونرى وميضًا فجائيًّا متتابعًا , ثم تبع ذلك كله الهدوء والسكون.
ولما كان (أميل) أكثر من في الأرض مسألة قد سألني وهو متأثر قائلاً:
(أماه ما هذا الذي ثار غضبه فوقنا) فحرت هذه المرة حيرة شديدة في إجابته لأني لو
قلت له: إن ذلك هو الله لكنت قد ألقيت في ذهنه معنًى سخيفًا لذلك الذات الكامل
القدرة البالغ الحكمة المبرَّأ عن الانفعالات, فاقتصرت على أن فسرت له بأحسن
عبارة مناسبة لفهمه سبب هذه الظواهر التي أزعجته , ولكن الغلام قد أدرك بحدسه
من هذه الأصوات الشديدة التي سمعها من العاصفة ومن هذا الجوّ الممتلئ
بالمفزعات الإلهية , بل وربما أنه أدرك أيضًا من عيني اللتين كانتا على رغمي
أكثر من لساني كلامًا. نعم أدرك من كل ذلك أن من وراء هذه الآثار شيئًا آخر ,
وذلك حق لأن الله سبحانه ليس ظاهرًا للعيان فيشار إليه بالبنان , ولكنه موجود
يحس به الوجدان ويعرفه الفكر والجنان. من أجل ذلك قمت أنا (وأميل) وأدينا
فرض العبادة لذلك المريد الذي لا حدَّ لإرادته القادر الذي بيده مقاليد السموات
والأرض , وإن كان عقلنا لا يصل إلى إدراك كُنْه ذاته.
أنا في كل يوم تبدو لي صعوبة العمل الذي شرعت فيه فإن طريقة التربية
بالعمل التي أسير عليها تقتضي أن يكون في المربي معارف أنا خلو من كثير منها ,
ولكن هذا لم يمنعني من اعتقاد أنها هي الطريقة الوحيدة في تقويم خلق (أميل) ,
ثم اعلم أن حياتي بدونك إنما هي فراغ أجتهد في ملئه بالقيام بذلك الفرض العظيم ,
ولم يبق لي من غرق سفينة آمالي إلا ولدنا الذي أتثبت به تثبت الغريق بلوح النجاة ,
وأحبه لذاته , ولكن على أن بعض هواجس مشئومة تمرّ بخاطري من حين إلى
حين فتكدر صفاء ما في قلبي له من نفيس عواطف الحب. ذلك أني أقول في نفسي:
ماذا يكون الحال إذا كان هذا الطفل بعدما بذلناه له من صنوف العناية يخون في
مستقبل أيامه عهود والده وينكر مبادئه ويدوسها تحت قدميه ولا يكترث بما عراه من
الآلام طول حياته؟ إذًا لأقتلنه.. كلا بل أقتل نفسي , ولكن تحقق هذه الهواجس من
المستحيل , وأرجو أن يصلني كلمة منك تزيل عني هذه المخاوف المكدرة التي بلغ
تشويشها إلى أعماق نفسي.
* * *
(تنبيه ورجاء)
قد انقضت سنة المنار الثالثة فلم يبق منها إلا عدد واحد فنرجو من المشتركين
الكرام التفضل بإرسال قيم الاشتراك حوالة على البوسطة , وليعتمد أهل ملوي
ونواحيها حضرة الفاضل الشيخ محمد إسماعيل وكيلاً للمنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تشير إلى حكاية الحمار والكلب وهاكها منظومة من كتاب العيون اليواقظ:
عطارنا واسمه فلان ... قد خانه الدهر والزمان
سافر من داره بجحش ... واسم ذا الجحش مرزبا
واتخذ الكلب حين ولى ... والكلب هذا اسمه أمان
فحصلوا غابة فحطوا ... مراحة زانها المكان
ونام مولى الجميع لما ... رأى مروجًا بها الأمان
أما الحمار اعتراه جوع ... وحوله الند واللبان
فصار يرعى وما توانى ... وآن من حظه الأوان
قال له الكلب يا حبيبي ... الخبز في الخرج والدهان
ارقد على الجنب منك حتى آكل فالجموع لي هوان
فاطَّرح القول ثم ولى ... ولم يطاوعه مرزبان
ولم يدم أن أتاه ذيب ... له للطع الدما لسان
فقال للكلب قم إليه ... ... فإنني معك لا أهان
قال له الكلب كيف هذا ... لا فاتك الضرب والطعان
أحرمتني الأكل في نهاري ... والجوع لا شك ترجمان
ذق غصة الموت وامض عني فالموت أولى به الجبان
واغتاله الذئب وهو يجري ... ولم يدافع ولا أمان
وهكذا في الأصول قالوا ... كما يدين الفتى يدان
(2) الغراب الأعصم هو الأحمر الرجلين والمنقار , وقيل الذي في جناحه ريشة بيضاء.
(3) الوكن بالفتح: عش الطائر في جبل أو جدار أو مقره في غير عش (ج) أَوْكُن ووكن بالضم , ويسمى الوكن وكنة بالتثليث وبضمتين (ج) كغرف وغرفات , ووكنات بفتح الكاف وسكونها ويقال أكنة وموكن ووكن الطائر (كضرب) دخل الوكن والبيض حضنه فهو واكن ووكون.
(4) المسة لعبة للأعراب يقال لها: الضبطة فإذا وقعت يد اللاعب من الرجل على بدنه أو رأسه أو كتفه فهي المسة , وإذا وقعت على رجله فهي الأسن - كذا في معاجم اللغة ويظهر أن هذه اللعبة طبيعية توجد عند جميع الأمم لها كيفيات وأسماء كثيرة.
(5) حاوي واسمه والنتين هو عالم فرنساوي ولد في سنة 1745 ب م ومات في سنة 1822 ب م استبدل بالحروف الخطية الحروف المجسمة لتعليم أحداث العميان القرآن والكتابة , وأسس مدرستهم المشهورة في باريس.
(6) المرتجفون لقب لجماعة الإخوان في إنكلترا وهم طائفة من رجال الدين أنشأها جورج فوكس المولود في سنة 1624 ب م وأول من لقبهم به هو جورج بنيت في دربي (من أعمال إنكلترا) لأن جورج فوكس المذكور خاطبه وخاطب من حضروا معه بقوله: ارتجفوا إذا سمعتم كلام الله هكذا جاء في جريدة جورج فوكس نفسه.
(7) السابينيون أمة قديمة كانت تقطن الجزء المتوسط من إيتاليا أقام قسم منها في رومية مع تاتيوس وبقي القسم الآخر في الجبال حتى أخضعه توريوس دانتاتيوس.
(8) ملوخ هو معبود الفينيقيين والقرطاجيين وكانوا يقدمون له الأطفال قرابين.
(9) أسطورة الأصيبع إحدى أساطير شارل برولت الكاتب الفرنساوي الشهير المولود سنة 1628 والمتوفى سنة 1703 ق م) التي وضعها للصغار , وسماها أساطير الجن وملخصها: أن حطابًا ضاقت به الحال لأن زوجه كانت نثورًا أقل حملها التوأم فاجتمع له سبعة ولد لأكبرهم عشر سنين , ولأصغرهم سبع , وولد هذا ضيئلاً كالأصبع فسمي (الأصيبع) وكان غصة لوالديه مهضومًا عندهما على أنه أذكى إخوته , وأدهاهم أصابتهم سنة شهباء اضطرت الوالدين إلى التواطؤ ليلاً على إضلال الأولاد في غابة لكيلا يشاهدا موتهم جوعًا فسمعها الأصيبع فبات مسهدًا , وبكر إلى شاطىء فملأ جيوبه حصى أبيض , وكان يلقي كل بضع خطوات من طريقهم إلى الغابة حصاة , ولما أضل الوالدان الأولاد , وعادا طفقوا يصرخون فهداهم الأصيبع الطريق وسلموا ثم تواطأ الوالدان أخرى , ولكن لم يتمكن الأصيبع من الخروج لأخذ الحصى , ولكنه ادخر الكسرة التي أصابته من الخبز ففتتها وألقاها في طريقهم إلى الغابة ولكنه لم يهتد إليها بعد الإضلال لأن الطير أكلها فصعد إلى شجرة فآنس بصيص نار في الظلام فأمه بإخوته , فإذا هو بيت الغول فقبلت زوجه ضيافتهم في غرفة بناتها , فجاء الغول وشم ريحهم , وحاول اغتيالهم فاستمهلته إلى الصباح , وسمع الأصيبع فاستبدل تيجان البنات الذهبية بقبعاتهم , فاشتبه الأمر على الغول وذبح بناته ليلاً , وتسلل الإخوة لواذًا , ثم تبعهم بنعله ذي الفراسخ فأووا إلى كهف أدركه الغول من الغد , فنام فوقه ليستريح فسرق الأصيبع النعل وعاد به إلى زوجه قائلاً: إن اللصوص قبضوا عليه وطلبوا منه الفداء فأرسله بالنعل ليحضر له جميع ماله فصدقت العلامة , وعاد بالمال إلى إخوته , فحملوه إلى البيت وحسنت به حالهم وموعظة الكاتب المقصودة أن الناس يكرمون الجميل من ولدهم ويمتهنون الدميم مع أنه قد يكون سبب سعادة جميع أهله.
(10) يشير إلى أسطورة أخرى من أساطير ذلك الكاتب ملخصها: أن جارية بارعة الجمال ألبستها أمها قبيبعة حمراء زادتها جمالاً فعرفت بها وأرسلتها يومًا جدتها , وكانت مريضة بقرص وصحفة زبدة , فصادفها الذئب في الطريق , ولكن صده عن افتراسها حطاب فاستبان الذئب مقصدها فدلها على طريق بعيد وسلك القريب إلى جدتها فأكلها ونام في فراشها , فلما جاءت الجارية دعاها إلى النوم معه مقلدًا صوت جدتها ففعلت , وراعتها أعضاء جدتها التقليدية فقالت: أي جدتي ما أطول يديك! قال: ذاك لأحسن معانقتك فقالت: وما أطول ساقيك! قال: ذلك لأحسن العدو فقالت: ما أكبر أذنيك! قال: لأجيد السماع: فقالت: ما أعظم عينيك! قال: لأجيد النظر فقالت: ما أطول أنيابك! قال: خلقت كذلك لآكلك وافترسها قصد الكاتب أن الأطفال الحسان ولا سيما البنات مخطئون في الإصغاء إلى كل من يكلمهم ولا غرو أن يأكل الذئب كثيرًا منهم وما كل ذئب ذئب القبيبعة الحمراء , فإن من الناس ذئابًا يبصبصون ويتملقون للفتيات , ويغازلونهن متبعين خطواتهن في الأزقة والشوارع ولكنهم على ما يظهرون من اللطف والحب أضر عليهن من جميع الذئاب.(3/801)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وعظ رمضان والمسجد الحسيني
اقترحنا في الجزء الذي صدر في غرة رمضان على الأستاذين الكبيرين شيخ
الأزهر وشيخ الجامع الحسيني منع الوعاظ الجهلاء من التصدي لتعليم الناس فلم
يلتفتا إلى الاقتراح , وكان المسجد كعادته كما أومأنا إلى ذلك في الجزء الماضي.
ومن الناس من يظن أن الأستاذ السيد الشيخ علي الببلاوي ترضيه التعاليم الخرافية
لأن العوام إذا تنبهوا وعرفوا الحق يمتنعون عن تقديم النذور والهدايا لصندوق المقام
الحسيني الذي هو أمينه وللشيوخ والخدم فيه الذين يتقاسمون ذلك معه ولكننا نقول:
إننا ذاكرناه في عام مضى بوجوب تطهير هذا المكان الشريف المعظم من البدع
والخرافات التي أقبحها تعظيم عمود الرخام تعظيمًا دينيًّا , فوعدنا بذلك وأثنينا عليه
لهذا الوعد في منار السنة الماضية , وراجعناه الكلام في ذلك , ولكنه اعتذر عن
المبادرة إلى العمل بقوله: إذا قيل لهؤلاء العوام: إن تعظيم الأحجار والطواف
بالقبور ونحو ذلك ليس من الدين يخشى أن يختل اعتقادهم بأصل الدين لأن هذا
عندهم من أهم مهماته فلا بد من التدريج. وقد قبلنا في أول الأمر هذا الاعتذار ثم
أردنا أن نختبر ذلك بنفسنا ونتبينه بالتجربة فتصدى الفقير في العام الماضي وفي
هذا العام للوعظ والتعليم في المسجد الحسيني وغيره فرأيت عامة المصريين أكثر
الناس قبولاً للإرشاد الصحيح, وأشدهم استعدادًا لقبول الحق. ولقد كان إقبال الناس
على مجلسي عظيمًا حتى كانوا ينصرفون عن سائر الوعاظ إلي , وما ألقيت إليهم
مسألة إلا وتقبلوها بقبول حسن , ولكن هذا الدرس ساء الذين يمس التعليم الصحيح
شيئًا من رزقهم الذي ينالهم بإذاعة الخرافات وبيع (الغفرانات) فحملوا بعض ذويهم
على أن يشيعوا بين الناس الذين لم يسمعوا درسي أنني أنكرت الأولياء وكراماتهم
وأنكرت الشفاعة , وقلت: إن سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه كالصنم {كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف: 5) , وغير ذلك من
الإشاعات التي أسمع في كل يوم من الناس منها ما لم يخطر على بالي في يوم من
أيام حياتي. وكان حظهم من النجاح في هذا الإفساد أن الثناء العام على درسي
وقول الناس: (يا ليت لنا مثله كذا وكذا عددًا.. ..) وأمثال ذلك قد صار مشوبًا
بالإنكار , وأنه لا بد أن يتغلب القول القبيح وإن كان باطلاً على الحسن وإن كان حقًّا.
وفاتهم أن خرافاتهم كانت مقبولة عند البسطاء نائمة في قلوب السذج فاستيقظت
بحركتهم هذه , وكل من يتكلم بالإنكار لا بد أن يجد ممن عرف الحق من يرشده إليه
ولو بعد حين , وبذلك تتلاشى بدعهم وخرافاتهم , وينسد عليهم باب الأكل بالدين
كالذين قال الله تعالى فيهم: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ
سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (التوبة: 9) .
أما هذا الفقير فلا يسرُّه من كلام المادحين إلا أن الحق مقبول. ولا يسيئه من
تقول القادحين إلا أن الحق عندهم مخذول. ولا يبالي فيما وراء ذلك بمدح ولا ذم؛
لأنه لا يطلب على الأول من أربابه أجرًا. ولا يخاف من الآخرين ضرًّا.
ولست أبالي من رماني بريبة ... إذا كنت عند الله غير مريب
ولو كنت أرجو من الناس شيئًا لاتبعت أهواءهم وأشرفت عليهم من مواقع
رغباتهم بتسهيل سبل الشهوات واللذات. وتلقين ألفاظ لا تضرّ معها الفواحش
والمنكرات. وترويج هذا البهتان باسم الدين. كما يفعل سائر الدجالين. ولو كنت
أخافهم لما فاجأتهم في أكبر مجتمعاتهم وأجمع مساجدهم بإنكار ما شاع فيهم من
المنكرات. وتزييف ما ألصقوه بالدين من البدع والخرافات كالاعتقاد بأن عمود
الرخام في المسجد الحسيني يضر وينفع وأنه يتبرك به , وكذلك باب المتولي عند
جامع المؤيد والشجرة التي أمام جامع السلطان الحنفي وغير ذلك من أضاليل. إن
معلمي الفتنة سهلوا على الجهلاء تعظيم هذه الجمادات تعظيمًا دينيًّا (وذلك عين
العبادة) بأكاذيب نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم زورًا وبهتانًا كقولهم: (لو
اعتقد أحدكم على حجر لنفعه) وقد هالهم أنني صرحت بأنه لم يقل أحد من العلماء
إن هذا حديث على أن معناه فاسد لأن ظاهره أن الأحجار تضر وتنفع بسلطة غيبية.
وأسرار وراء الأسباب الطبيعية , وأن هذا النفع يلتمس منها , وهذه هي حجة عباد
الأصنام. بل إن من هؤلاء من حكى الله تعالى عنهم بأنهم كانوا يجعلونها قربة
ووسيلة تشفع لهم عند الله تعالى كالذين عبدوا الأنبياء والملائكة بهذه الشبهة. قال
تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) الآية. وهذا التقرير هو الذي حولوه وزعموا أنني
قلت: إن سيدنا الحسين صنم أو كالصنم حاشا لله كذب المذاعون وضلوا ضلالاً
بعيدًا.
بعد كتابة ما تقدم سمعت من بعض الناس أن مما أذاعه المرجفون زعمهم أني
قلت: (إن قبر سيدنا الحسين كقبر النصراني - وفي رواية - كقبر بطرس) فدلني
هذا على أن قول بعض علماء الأخلاق والاجتماع في المصريين: (إن كذبهم
محصور في التحريف والزيادة والنقص وليسوا بارعين في الاختلاق) قول لا يخلو
من حسن الظن أو أنهم ارتقوا في هذه الأيام إلى ما لم يعهده بهم من قبل. ولا أراه
إلا سيرجع عن ذلك القول فيهم كما رجع عن قول آخر لاختلاف حالهم عن الوقت
الذي قاله فيه.
ذلك أنه كان قال: (إن مصر ستبقى للمصريين لأنهم لا يفتئون يتناسلون ,
وإن تحكم فيهم الاستبداد. واستحوذ عليهم الذل والاضطهاد. وبلادهم الزراعية لا
تنتج إلا بعملهم , ولا مندوحة لمن يمتلكها عن استعمالهم فيها لأنهم يرضون من
الأجر القليل ما لا يرضاه غيرهم فالبلاد لا تستغني عنهم , والذي يحكمهم من غير
جنسهم إما أن يضطر إلى تركهم وشأنهم , وإما يتجنس بجنسيتهم ويكون منهم) ثم
بعد أن فشا السكر والزنا في كل بلدة من بلادهم وكل قرية من قراهم وأقبل
وجهاؤهم على التفرنج القبيح رجع عن قوله وقال: إن هذه السموم الكحولية التي
يشربونها من غير عقل مع فشو الداء الزهري بانتشار الفاحشة لا بد أن تكون من
أقوى عوامل تقليل النسل وضعف المواليد كما هو الشأن في فرنسا التي يراعي
أهلها في هاتين الآفتين (السكر والزنا) قواعد الطب في الجملة ولا يعرف
المصريون شيئًا من ذلك. ثم إن التفرنج علمهم الترف والتنعم حتى إنك لترى في
القرى الصغيرة والمزارع من الإسراف نحو ما تراه في المدن العظيمة ونتيجة هذا
كله أنهم إذا لم يتداركوا هذه الآفات قبل تعميمها فلا يبعد أن ينقرضوا كما انقرض
هنود أميركا وإن بقيت فإنها تدغم في الأمة المتغلبة عليهم وتتجنس بجنسيتهم اهـ.
هذا قول عالم حكيم ولكن هذه الأمة منيت برؤساء من الطامعين الجاهلين
الذين ينالون المال والجاه بجهل الأمة , ولذلك ينفرونها من كل مرشد ناصح يحملها
على العمل النافع الصالح. وهي تسمع لهم لأنهم يحملونها على ما تألف من
الجهالات. وتحسين الخرافات.
وإنني أقول لمن لا يفهم البرهان، ويقدم قول الدجالين على السنة والقرآن:
إذا أردت أن تعرف أنني ناصح لك ومحق في نهيك عن التمسح والتبرك بأعمدة
الرخام وبالأبواب والأقفاص وبالآبار والأشجار والتماس الخير من ذلك فانظر إلى
أكابر العلماء كشيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية والأستاذين الشيخ
عبد الرحمن الشربيني والشيخ محمد بخيت والشيخ محمد أبي خطوة وأضرابهم أو
من هم دونهم في العلم كشيخ الجامع الحسيني نفسه هل تجد واحدا منهم فعل ذلك؟
أليس لك عقل يدلك على أن هذا لو كان من الدين أوكان فيه نفع في الدنيا أو الآخرة
لسبقوك إليه لأنه سهل لا كلفة فيه عليهم. فإن زرت القبور فزرها كما يزورون؛
يكن لك عذر لأن للعلم بالدين والعمل به مرتبتين: العلم بالدليل والبرهان , وتقليد
العلماء الموثوق بهم لمن يعجز عن فهم دينه بالدليل. وكل ما أنكرناه فإنما يقلد فيه
جهلاء العامة بعضهم بعضًا. فحسبنا الله ونعم الوكيل.
***
مسجد عمرو
هذا المسجد أقدم مساجد القاهرة تأسس في إثر الفتح , وهو الآن في طرف
العاصمة الذي يسمونه مصر العتيقة , ولا تقام فيه الصلاة إلا آخر جمعة من
رمضان لأن أمير مصر يصلي هناك. ولم نحضر هذه الصلاة إلا في هذا العام ,
والعوام يرون أن الصلاة فيه يومئذ موسم من مواسم الملة كالعيدين لا سيما وهم
يرون أن سمو الخديو المعظم يحضره بصفة رسمية فتطلق المدافع عند إشراف
موكبه الحافل على الجامع , وعند خروجه منه وتصدح الموسيقى الخديوية بأنغامها
الشجية. ولذلك يؤمونه من جميع أنحاء العاصمة , فيحضر بعضهم الصلاة ويبقى
خلق كثير خارج المسجد من رجال ونساء ما بين أهلين وأجانب. والذين كانوا
داخل الجامع يناهزون المائة ألف.
ومن البدع فيه أنهم يستحضرون الأشجار الصغيرة والرياحين فيضعونها أمام
المصلين لا سيما في جانب المحراب والمنبر. ومنها ازدحامهم بعد الصلاة على
عمود من الرخام بقرب المحراب يضربه بعضهم بالنعال والأيدي ويتبرك به
آخرون. أما سبب الضرب فهو زعمهم أن جميع الأعمدة التي هناك جاءت من
الحجاز تسعى بنفسها وعمرو بن العاص يسوقها وأن هذا العامود كان قد عصى
وامتنع لولا أنه أرغم على المجيء. وكأن الخديو السابق خاف أن يسقط العمود
لشدة ما يضرب فجُعِلَ عليه حاجز من الحديد بأمره وأما التبرك فلأنهم يزعمون أن
فيه أثر يد النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. والصواب أن تلك الأعمدة هي
من أنقاض مدينة (منف) الشهيرة وقد رمم مرارًا. ومنها أن في الجانب الأيسر
محرابًا صغيرًا يقولون: إنه المحراب الأصلي يدخله الناس فيمسحون استاههم فيه
لأجل التبرك , وهذا أقبح ما رأينا من ضروب التبرك , ومنها أنهم جعلوا فيه قبرًا
كسائر مساجد مصر يزدحم الرجال بالنساء للتبرك به , ومنها بدعة يقال إن
مجاوري الأزهر هم الذين سنوها وهي كتابة الناس أسماءهم على الأعمدة معتقدين
أن صاحب المسجد يحصيها ويدخل أصحابها الجنة كما سمعناه مشافهة.
__________(3/819)
16 شوال - 1318هـ
6 فبراير - 1901م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورات بين المصلح والمقلد
المحاورة الرابعة
أسرار الحروف والزايرجة والجفر. اقرأ تفرح جرب تحزن. هل أسرار
الحروف محصورة في المسلمين وحروفهم. دفع الله الناس بعضهم ببعض.
اختلاف الخطوط العربية وفي أيها السر. مبتدع هذه الأمور طائفة الباطنية. رسالة
كشف الحقائق في أصول عقائد الدروز المبنية على أشكال الحروف وأعدادها.
غرائب وعجائب في ذلك. الباطنية والصوفية. تجربة منفعة الحروف. أسباب
النفع. الولع بالغرائب. الوهم. تأثير النفس. فائدة التاريخ.
رجع الشيخ والشاب إلى الحوار. ومبادلة الأفكار. وأراد الشاب أن يتكلما في
مسألة مرض المسلمين الاجتماعي وعلاجه , ويشرح للشيخ رأيه في الاجتهاد
والتقليد وكون الإسلام طريقة واحدة لا ينبغي الاختلاف والتفرق فيه على ما تقدم له
الإلماع إليه. فلما علم الشيخ منه ذلك استأناه قائلاً
(المقلد) : فاتني أن أذكر لك في محاوراتنا السابقة أسرار الحروف وفعلها
في شفاء المرضى وقضاء الحاجات , وهي مبنية على التجربة الصحيحة الواقعية
فلا يسعك إنكارها لأنك تقول دائمًا: إن العلم الصحيح هو ما يشهد له الوجود وتؤيده
التجربة الصحيحة. وكذلك الجفر والزايرجة أخبر العارفون بهما بأمور فكانت كما
قالوا , ولقد سكتُّ عنهما من قبل لأنني لم أكن أعلم أن لهما طرقًا علمية مضبوطة
فخشيت أن تقول فيهما ما قلت في حساب الجمل , وبعد المفارقة رجعت إلى شيخين
جليلين عالمين بالزايرجة وأسرار الحروف والأوفاق وقد استغنيا من هذه المعرفة
أحدهما مغربي والآخر مصري , وسألتهما عن ذلك فأخبراني أن لهذه العلوم أصولاً
صحيحة مضبوطة لاستخراج المجهولات ومعرفة المغيبات لا كحساب الجمل الذي
ليس له قاعدة مضبوطة إلا المعروفة في التأريخ به كما ذكرت.
(المصلح) : إن كثيرًا من الناس قد اغتروا بمثل هذا الكلام , وصدقوا بأن
ما يقال في الأفواه والكتب من أن هذه الأوفاق والحروف مجربة صحيح فجربوا
بأنفسهم ما كتبه الديربي وغيره فكانت نتيجة تكرار التجربة أن وضعوا لها هذه
القاعدة التي سارت مثلاً وهي (اقرأ تفرح جرب تحزن) وأنا أعتبر التجربة مؤيدة
للعلم إذا كانت مطردة لا تتخلف إلا لسبب معلوم ولو في الجملة ولا بد أن يكون العلم
بها متيسرًا لكل أحد وإننا نراها هنا على قدم العهد بها محصورة في نفر قليل من
الدجالين الذين يحتالون على أكل أموال الناس بالباطل. ولو كان لها طريق علمي
صحيح لارتقت بارتقاء العلوم وتقدمت بتقدمه , ولكننا نراها تتدلى كلما ارتقى العلم
الصحيح وتتأخر حيث تتقدم المعارف الحقيقية حتى تلاشت من أكثر بلاد أوروبا
وأميركا الشمالية وهي من فروع علم السحر والطلسمات.
(المقلد) : مه فإن هذه العلوم والأسرار محصورة في الحروف العربية
ومخصوصة بالمسلمين ولذلك لا تصح إلا على أيدي الصالحين , فإذا لم توجد في
أوربا وأنكرها أهلها فلا يصح لمثلك إنكارها. وأما الذين جربوها فلم تصح معهم
فسببه أنهم لم يقوموا بشرطها وهو إما الرياضة المخصوصة التي يعرفها أهلها ,
وإما الإذن من شيخ أعطاه الله تعالى هذا السر , وهذا الكلام ينطبق على شرطك في
وجوب اطراد التجربة وعدم تخلفها إلا بسبب وهذا هو السبب. وهل يسعك إنكار
التواتر في صحة هذه التجارب في جميع البلاد الإسلامية؟ لا أتذكر أن هذا الأمر
ذكر في مجلس إلا وسمعت الشهادات من الكثيرين بوقوع شيء منه لهم إما شفاء
مرض , وإما قضاء حاجة , وإما دفع عاهة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) .
(المصلح) : أرى أنه لم يبق لكم من الاجتهاد إلا وضع آيات القرآن في
غير مواضعها فإن قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} (البقرة: 251) الآية نزلت
في سياق حرب داود عليه السلام لجالوت وانتصاره عليه كما نزل قوله تعالى:
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ
فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج: 40) في الإذن للمسلمين بالجهاد والمدافعة عن
أنفسهم لمن يحاربونهم لأنهم مسلمون. ولا يجيء هنا اعتبار عموم اللفظ دون
خصوص السبب؛ لأن مسألة أسرار الحروف ليست مما نحن بصدده في شيء.
وإذا كان لها وجه إليه صحيح فهو دفع مثلي لهذه الاعتقادات الخرافية التي تفسد
عقول الأمة وأخلاقها وأعمالها. ولنعد إلى الموضوع.
أما قولك إن هذه الأسرار مخصوصة بالحروف العربية فهو يقتضي أن السر
محصور في هذه الأشكال المعروفة للحروف , وهي مختلفة الآن فخطوط أهل
المشرق من عرب وترك وفرس مغايرة لخطوط أهل المغرب , ولا يشبه شيء من
خطوط أهل هذه القرون خطوط القرون الأولى زمن الصحابة والتابعين كالخط
الكوفي بأشكاله. ومن يعلم مثار هذه البدع في الملة لا يعجب من دعوى أن لأشكال
الحروف أسرارًا , ولو كنت مطلعًا على التاريخ لكفيتني مؤنة التطويل بهذه
البديهيات عند العارفين.
هذه البدعة من فتن طائفة الباطنية التي هي أشد الطوائف عبثًا في الإسلام
وإفسادًا له حتى إن بلاءها لا يزال ينمو ويتجدد إلى الآن , وآخر فرقهم البابية
والبهائية. وقد راجت بدعتهم هذه كأكثر بدعهم في سوق التصوف للتشابه بل
والاشتباه بين غلاة المتصوفة وبين الباطنية , وهذا هو منتزع قولك إن هذه الأسرار
لا تظهر إلا على أيدي الصالحين أو من أذنوا له بها. أصاب المسلمين رشاش من
تلك البدع فأفسد فيهم ما أفسد , وأما الباطنية أنفسهم فليست الحروف وأشكالها
وأعدادها وتناسبها وتخالفها وطبائعها معدودة من أسرار الدين وقواعده الأساسية.
وقد مزجوا الكلام عليها بعلم الحساب والنجوم كما فعل حسن الصباح رئيس
الإسماعيلية وغيره.
أنا لم أكتف بما رأيت في كتب التاريخ العربية من أخبار طوائف الباطنية بل
وقفت أيضًا على كثير مما اكتشفه مؤرخو أوروبا وزدت على هذا أن وقفت على
بعض الكتب الخطية لطائفة الدروز والنصيرية. وهذه الكتب من بنات الحقاق
ومخبآت الصناديق لا يجوز عندهم طبعها ولا اطلاع أحد غير رؤساء الدين عليها.
(المقلد) : أرجو أن تطلعني على شيء من هذه الكتب السرية.
(المصلح) : لا أسمح بإعارة هذه الكتب لأحد , ولكنني أقرأ لك منها جملة
أو جملتين؛ لتزداد يقينًا. ثم فتح درجًا من منضدته وأخرج منه رسالة وقال: هذه
الرسالة الموسومة بكشف الحقائق. وهي في أصول مذهب الدروز وقلب منها
أوراقًا وقرأ ما يأتي: (وقد ذكرنا لكم في السيرة المستقيمة بأن آدم الصفاء هو
العقل , وكان اسمه شطنيل , واسم إبليس حارَت وإنما ذكرناهما في وقت ظهور
الصورة البشرية وهو تمام سبعين دورًا , وكذلك قلنا حارت أربعة أحرف (ح)
ثمانية (أ) واحد (رت) ستمائة ساقط يبقى من جملة الاسم تسعة. والتسعة إذا
كتبتها كانت أربعة أحرف (ت س ع هـ) والاسمان حارت وإبليس إذا حسبتهما
يبقى منهما أربعة أحرف؛ لأن بقية اسم حارت تسعة وبقية اسم إبليس سبعة تسقط
اثنا عشر يبقى أربعة أحرف سوى , فقد حسبنا اسمه بالطول والعرض ومزدوجًا
وفردًا فوجدناه أربعة أحرف , ووجدنا التاء التي في آخر الاسم حارت أول حروف
التسعة دليل على ناموس الناطق وزخرفه في كل عصر وزمان وأن أول النطقاء
هو آخرهم , وإنما يتصور في الأقمصة بالتكرار كما أن الولي قائم في كل عصر
وزمان. فبهذا السبب أهل الشرائع يرون محبة الأعداء كافة ولا يرون محبة رجل
موحد ولا يكون في الحجة أوضح من هذا ولا أبين منه.
ثم رجعنا إلى العقل فوجدناه ثلاثة أحرف , والنفس ثلاثة أحرف لكنهما
يفترقان في حساب الجمل الكبير. وكذلك جهال الشيعة ينظرون إلى العقل والنفس
بعين الدعوة لا غير وهما يتفاضلان في المنزلة لأن العقل هو الذكر والنفس بمنزلة
الأنثى , والذكر هو المفيد , والأنثى هو المستفيد والعقل إذا حسبناه في حساب
الجمل الكبير وجدناه مائتين , والنفس مائة وثلاثين فوجدنا اسم العقل زائدًا عن اسم
النفس سبعين درجة وهم حدود الإمامة والتوحيد.
وأنا أعدهم لكم بمشيئة مولانا سبحانه حتى لا تشركوا به أحدًا من خلقه.
فأولهم (النفس) واثني عشر حجة له في الجزائر وسبعة دعاة للأقاليم السبعة كما
قال: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 30) , و (الكلمة) واثني عشر حجة
وسبعة دعاة للأقاليم السبعة لأن للكلمة نظير النفس. و (السابق) واثني عشر حجة
لا غير , و (التالي) واثني عشر حجة لا غير لأن له مثل ما للسابق. و (الداعي)
المطلق وله مأذون ومكاسران فصاروا الجميع سبعين حدًّا منهم تفرعت جميع
الحدود العلوية والسفلية , وهم كلهم من قبل العقل , وهو الإمام المؤيد من قبل
مولانا سبحانه وتعالى يسقط منهم من يريد , ويرفع درجة من يريد بتأييد مولانا
العلي الأعلى سبحانه وإرادته كما قال في القرآن: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ
لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 82-
83) .
فهؤلاء الحدود السبعون الذين ذكرناهم هم أذرع السلسلة الذي قال في القرآن
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (الحاقة: 30) أي ضد الإمام إذا بلغ غايته وتمت نظرته خذوه
بالحجج العقلية وغلوه بالعهد وهو الذبح الذي قالوا بأن القائم يذبح إبليس الأبالسة
{ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ} (الحاقة: 31) أي غوامض علوم قائم الزمان الذي تتحجم
العلماء والفهماء عند علمه أي يصمتوا ويتحيروا {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ
ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة: 32) أي ميثاق قائم الزمان الذي هو سلسلة بعضها في
بعض وهم سبعون رجلاً في دعوة التوحيد {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ} (الحاقة: 33) أي الضد الروحاني ما كان يقر بإمامة شطنيل وفضيلته) إلخ.
(المقلد) : قد ضاق صدري من هذا الكفر الذي لا أساس له إلا هذه الشبه
الحسابية , وإني أرى لفظه فاسدًا كمعناه , ولا أدري لِمَ لمْ تصلح عبارته. ثم إن ما
قرأته ليس فيه شيء يدل على اعتبار أشكال الحروف وصورها.
(المصلح) : إنني كتبت هذه الرسالة كما وقعت إلي من بعض الجنود
العثمانية الذين حاربوا دروز حوران في الفتنة الأخيرة ولم أصلح شيئًا في عبارتها
ولا في إملائها؛ لأنني سمعت أن هذا الغلط عندهم علامة على الصحة , وعدم
وقوع الكتاب في يد أجنبي. وأما اعتبارهم أشكال الحروف مع أعدادها فاسمع ما
أقرؤه عليك فيه. ثم قلب أوراقًا وقرأ ما نصه:
والألف والباء والتاء والثاء يتشابهون بعضهم ببعض (كذا) غير أن الألف
يكتب بالطول والباء والتاء والثاء تكتب بالعرض فالألف دليل على العقل وهو
الإمام, والألف قائم بلا نقطة فوقه ولا علامة تحته , والباء دليل على النفس وهي
الحجة , وتحته نقطة واحدة لأن بينه وبين العقل حدًّا واحدًا وهو الضد الروحاني
فصارت نقطة الباء من تحت حيث عصى الضد أمر باريه , ونافق على إمامه
وهاديه , ولو كان الضد طائعًا لكانت نقطة الباء من فوق , فلما سبق الضد صار
حزبه أكثر من حزب النفس , والتاء دليل على الكلمة , وفوقها نقطتان دليل على
الحدين اللذين فوقه , والثاء دليل على الجناح الأيمن وهو السابق رابع الحدود الذين
فوقه في المرتبة وكُتبتُهم (هكذا ضبط في الأصل) بالعرض دليل على طاعتهم
للإمام الذي هو العقل وقبولهم منه) وذكر في الرسالة ههنا كلامًا ثم قال:
(ثم نرجع إلى الحروف ومعانيها على الترتيب فالجيم والحاء والخاء في
الصورة شيء واحد لكن بينهم فرق كثير في الحقيقة؛ لأن الجيم دليل على شريعة
الناطق الظاهرة , والنقطة التي تحتها دليل على شريعة الأساس التي هي تحت
الظاهرة مستورة فيه إلى أن قال - (والحاء في حساب الجمل ثمانية , وكذلك قائم
الزمان احتوى على علم الثمانية الذين هم حملة العرش كما يقال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17) وهو توحيد مولانا العلي الأعلى سبحانه
وعبادته. وكذلك الميم والواو والراء والزاي والنون شيء واحد , وهذه صورتهم
عند نزولهم م ور ز ن لكن الميم شكلته من خلفه مدورة , والواو شكلته قدامه ,
وهذه صورتهما , والنون يبقى على حاله لكن فوقه نقطة , والميم دليل على محمد ,
والواو دليل على وصيه , وشكلتيهما دليل شريعتيهما , وشكلة الميم من خلفه مدورة
كذلك شريعة الناطق ظاهرة , وشكلة الواو قدامه كذلك شريعة الأساس باطنة , ولولا
الشكلتان اللذان على الميم والواو لما كان يعرفان. وكذلك محمد وعلي لولا ظاهر
الشريعة وباطن التأويل لما كان يقع عليهما اسم الناطق والأساس) إلخ إلخ.
(المقلد) : لقد بغضت إلي هذه الحروف بهذا الكلام الهذيان , ولولا ما
ذكرت لك من التجارب الصحيحة على انتفاع الناس بفوائدها لوافقتك على القول
بعدم تلك الفائدة , والحمد لله الذي جعلنا من أهل السنة والجماعة الذين لا إفراط
عندهم ولا تفريط.
(المصلح) : إن أهل الحق الذين سلموا من الغلو في الدين ومن الإفراط
والتفريط هم السلف الصالحون الذين كانوا على هدي الراشدين رضي الله عنهم.
فإن الذين يسمون أنفسهم أهل السنة في هذه القرون المتأخرة لم يسلموا من بدع
الباطنية وغيرهم , ولكنهم سموها بأسماء أخرى , ولو قابلت بين كلام الباطنية
وكلام الصوفية من أهل القرن الرابع فمن بعدهم لم تجد إلا فرقًا يسيرًا. على أن
فقهاء هذا العصر يتعصبون لهذه الحروف ويطعنون في دين من يقول بلزوم تبديلها
لما فيها من المعايب التي يعسر معها التعليم , ويكثر التحريف. وأما ما ذكرت من
التجارب فغير منضبط ولا متحقق بحيث يعلم أن يكون من التأثير في بعض
التجارب هو من الحروف. وإنني أنا جربت بنفسي شيئًا من ذلك فأفاد وعاشرت
من اشتهروا بأن تعاويذهم وتمائمهم لا يختلف تأثيرها وصدقوني الخبر فيما يكتبون.
كان من هؤلاء شيخ من الأشراف يقصده المسلمون والنصارى من بلاد كثيرة
ليكتب لهم ما يستشفون به الأمراض أو يستعطفون قلوب من يعشقون إلى غير ذلك
من الأغراض. وقد أخبرني أنه يكتب للمسلمين آيات من القرآن ولغيرهم هذه
العبارة (رز باللبن. عافية على البدن. رز بحليب. كلما برد يطيب) وكانوا
ينتفعون بذلك , والسبب في غالبه الوهم الذي يحدثه الاعتقاد على أن أكثر ذلك لا
ينفع ولا يفيد , ولكن الناس ينسونه ويحفظون ما تحدث عقيبه الفائدة المطلوبة ,
وإن كان حدوثها لسبب آخر خفي عنهم , بل يعمون عن السبب وإن كان ظاهرًا
لأنهم مع اتخاذ هذه الوسائل الغريبة الغيبية يأخذون بالأسباب الظاهرة الطبيعية ,
وإنما ولعهم بالغرائب هو الذي يذهلهم عن السبب الظاهر ويحملهم على إضافة الأثر
للوسيلة الغريبة غير الطبيعية.
ومن الناس من أعطي استعدادًا للتأثير بنفسه إذا هو وجهها إلى الشيء بهمة
قوية وعزيمة صادقة , وقد وجد في كل أمة أفراد من هؤلاء فكانوا فتنة للناس ,
والبحث في هذا التأثير من أدق مسائل علم النفس , ومن علماء الفلسفة من ينكره
ولا سعة معنا في الوقت للخوض فيه.
(المقلد) : لقد سمعت اليوم ما لم أسمع بمثله من قبل وظهر لي أن من
يطلع على التاريخ يمكنه أن يورد شبهًا على علوم الدين لا يمكن دفعها لغير المطلع
عليه اطلاعًا واسعًا , ولا أرى المشايخ الذين يقولون بكراهة قراءته ويزعمون أن
الاطلاع عليه يضعف العقل إلا في ضلال مبين. ولكنني أرى أنه يشترط أن يكون
المطلع عليه كالمطلع على الفلسفة والمنطق كامل القريحة راسخًا في العقيدة أو كما
قال الأخضري:
ممارس السنة والكتاب ... ليهتدى به إلى الصواب
(المصلح) متبسمًا مستبشرًا: أحمد الله تعالى على اقتناعك بفائدة علم
التاريخ فإنه مغذي العقل ومربي الأمم وينبوع علم الاجتماع الذي هو أفضل العلوم
الكونية وأنفعها , وإذا أردت مطالعة كتبه فابدأ بمقدمة ابن خلدون , وها أنا ذا أقدمها
لك هدية فاقرأها بإمعان فإنها مفخر الأمة الإسلامية على الأمم الغربية فإنها أستاذهم
الأول في فلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع البشري (السسيولوجيا) وأصول السياسة
وعلم التربية والتعليم (البيداجوجيا) وهي مترجمة إلى جميع لغاتهم , ولكنهم
توسعوا في العلوم التي استفادوها منها حتى نقضوا كثيرًا مما أبرمت. وهدموا
بعض القواعد التي بنت.
فتقبل الشيخ الهدية شاكرًا , وانصرفا على أن يعودا إلى البحث في الجفر
والزايرجة قبل الخوض في بحث الاجتهاد والتقليد وعلاقة ذلك بإعادة مجد الإسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/825)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أماليّ دينية
(الدرس 17 في العقائد)
كلام الله تعالى
م (50)
كل قضايا الدين تعرف من الوحي إلاَّ الإيمان بالواجب الذي يسند
إليه كل موجود من الممكنات , ويكون هذا الواجب ليس من جنس الممكنات , ولا
يشابهها في صفاتها , وبأن ما يصدر عن قدرته الكاملة منها يصدر بإرادة واختيار
عن علم وحكمة. ثم إن الوحي الذي به علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كيف
يرشدون الناس سماه الله تعالى كلامًا وأضافه إليه بمثل قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ
المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: 6) .
والعقل يشهد أن رجلاً بلغ أربعين سنة لم يصدر عنه فيها شيء يؤثر من علوم
الاجتماع والشرائع والأخلاق والسياسة المدنية والحربية وغير ذلك لا يمكن في
العادة أن تصدر عنه هذه المعارف والعلوم بعد ذلك فضلاً عن القيام بها تعليمًا
وعملاً على وجه يكون له أعظم أثر في العالم , بل المعهود في البشر أن الذين
يتعلمون الفنون السياسية والاجتماعية في المدارس لا يحسنون سياسة البشر عملاً
إذا لم يتمرنوا عليها بالتدريج , ولذلك يرشحون الذين يتصدون لسياسة الأمم بالتعليم
أولاً , ثم بتطبيق العلم على العمل بالوظائف الصغيرة كمأمور ومدير , ثم بما فوقها
حتى ينتهون إلى الوزارة والإمارة. ونتيجة هذا أن ما جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم من التعاليم ليس من عند نفسه , وإنما هو مفاض عليه وموحى إليه من العليم
الحكيم, فهو كلام الله تعالى لا كلامه؛ لأنه لم يعهد منه مثله لا في أسلوبه وبلاغته.
ولا في مغزاه وحكمته. وقد أشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو
مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48)
وقوله عزّ وجل: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) .
م (51)
هذا ما يجب اعتقاده على كل مؤمن , وهو الحق الأبلج الواضح المنهج. وهو ما
كان عليه أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم حتى حدثت البدع
والفتن التي كان من أضرها الكلام في القرآن ومعنى كونه كلام الله تعالى , والبحث
في أنه مخلوق أو غير مخلوق. فتنة افْتَحَوَهَا المعتزلة [1] وابتلي بها أئمة العلم
وتلاعبت أهواء بعض الخلفاء من بني العباس ثم محيت طائفة المعتزلة من لوح
الوجود , ولم تمح أقاويلهم من ألواح الكتب فكل من كتب في العقائد يذكرها للرد عليها
وتطرف قوم في الرد حتى قالوا بقدم المحسوسات. من الحروف والأصوات. توسعوا
في هذه المباحث وأطالوا القول فيها حتى قيل: إن هذا العلم إنما سمي (علم الكلام)
لأن أهم مسائله كلام الله تعالى.
سلك المعتزلة في جدلهم مسلك الفلسفة في حقائق الأصوات والحروف
ومفهوماتها , فقابلهم المتكلمون بفلسفة كفلسفتهم , وقرروا مسألة الكلام على النحو
الذي انتحوه في صفة العلم والسمع والبصر , فقالوا: إن الكلام في اللغة يطلق على
قوة في النفس عنها يصدر الكلام اللفظي , واختلفوا في أي الكلامين - النفسي
واللفظي - هو الحقيقة وأيهما المجاز. واستدلوا على الكلام النفسي بمثل قول الناس:
(حدثتني نفسي بكيت وكيت , وقلت في نفسي كيت وكيت) ومنه قول سيدنا عمر
رضي الله عنه: (زوَّرت في نفسي كلامًا) وقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقالوا بناءً على قاعدتهم في قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث
التي سبق تقريرها في الكلام على العلم الإلهي: إن لله كلامًا نفسيًّا هو صفة قديمة
قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل ما علمه تعالى تعلق دلالة وانكشاف , وكلامًا لفظيًّا
كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن , وأن هذا يسمى كلامًا لله بمعنى أنه يدل على
الكلام النفسي أو على بعض ما يدل عليه الكلام النفسي , وأنه ليس لغير الله فيه
صنع إلى آخر ما أطالوا به مما لم يكلفنا الله تعالى به. وقد ناقش فيه بعضهم أن
بيت الأخطل لا يصح الاحتجاج به في موضوع ديني لأنه كان نصرانيًّا ويدخل في
نظمه المعاني والأفكار التي أخذها من تعاليم دينه , وقول آخرين إن البيت ليس له
وإن الرواية الصحيحة فيه: إن البيان لفي الفؤاد , وكبحث بعضهم في حديث النفس
وتسميته كلامًا بأن تزوير الكلام في النفس (تهيئته وتدبيره) هو عبارة عن تصوره
وإذا عبر الإنسان عن تصور شيء يسميه باسمه لأن ما في النفس هو صورة ما في
الخارج , فالحديث النفسي هو صورة الحديث اللفظي المسموع بالآذان عندما يؤديه
اللسان.
وسواء صح هذا القول أو صح مقابله فلا ريب أن القرآن كلام الله تعالى ,
وقد مر في المسألة السابقة دليله , ومن البدعة - لا من السنة - أن نزيد على ذلك
بقياساتنا وفلسفتنا , وقد أراحنا الله من فتن الغالين من المعتزلة وغيرهم فلا نعيد
شبههم وأوهامهم , وحسبنا ما كان عليه الصحابة وأكابر التابعين والمجتهدين.
رضي الله عنهم أجمعين.
م (52) أقوال الأئمة في الكلام
نقل عن الأئمة الأربعة المجتهدين وأهل الحديث من السلف الصالحين.
رضوان الله عليهم أجمعين القول بتحريم الخوض في (الكلام) . قال يونس بن
عبد الأعلى: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول يومًا وقد ناظر حفصًا الفرد -
وكان من متكلمي المعتزلة-: لأن يلقى الله تعالى العبد بكل خطيئة ما خلا الشرك
خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام , ولقد سمعت من حفص كلامًا ما أقدر أن
أحكيه. وحكى حسين الكرابيسي أن الشافعي سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال
سل عنه هذا - يعني حفصًا الفرد - وأصحابه أخزاهم الله. وقال محمد بن عبد
الله بن الحكم: سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا
منه فرارهم من الأسد. وقال ابن كثير: كان محمد بن اسماعيل الكرابيسي يقول:
قال الشافعي: كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجد وما سواه فهو الهذيان.
وأخرج ابن عبد البر في كتاب العلم عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال: سمعت
الشافعي يقول: إذا سمعتم الرجل يقول الاسم غير المسمى , أو الاسم المسمى
فاشهدوا عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له. وقال أبو علي الحسن الزعفراني:
قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في
العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وفي رواية:
حكمى في أهل الكلام كحكم عمر في صبيغ (تقدمت قصته في مجلد السنة الأولى
من المنار) .
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى فيما أخرجه اللالكائي في السنة عن مصعب:
الكلام في الدين كله أكرهه , ولم يزل أهل بلدنا - يعني المدينة المنورة - ينهون
عن الكلام في الدين , ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل , وأما الكلام في الله
فالسكوت عنه. وأخرج أيضًا من رواية الحسن بن عليّ الحلواني قال: سمعت
إسحق بن عيسى يقول: قال مالك بن أنس: أكلما جاءنا رجل تركنا ما نزل به
جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. وأخرج أيضًا من رواية محمد بن
حاتم بن بزيع قال: سمعت ابن الطباع يقول: جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله
عن مسألة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا , فقال: أرأيت لو كان
كذا؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يفلح صاحب الكلام أبدًا ولا
تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه غل. وصنف الحرث المحاسبي أستاذ
الشيخ أبي القاسم الجنيد رحمهما الله تعالى كتابًا في الرد على المبتدعة ذكر فيه شيئًا
من الكلام يرد فيه على المعتزلة فهجره الإمام أحمد على زهده وورعه. قال أبو
القاسم النصرباذي: بلغني أن الإمام أحمد هجره بهذا السبب , ولما أنكر عليه تلك
المقالات وأجابه الحرث بأنه إنما ينصر السنة ويرد البدعة قال أحمد: ويحك ألست
تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدع
فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟ . وقال: علماء الكلام زنادقة.
وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فيما أخرجه
اللالكائي في السنة والذهبي في التاريخ والخطيب في شرف أصحاب الحديث:
من طلب المال بالكيمياء أفلس , ومن طلب الدين بالكلام تزندق. وفي رواية بشر
بن الوليد زيادة: من تتبع غريب الحديث كذب. وكلام السلف في هذا كثير.
والجمع بينه وبين مسلك علماء الخلف الذين أوغلوا في صناعة الكلام والجدل أن
هذا يطلب لضرورة إقناع الخصوم وردّ شبه المنكرين , والضرورة تقدر بقدرها
وتختلف باختلاف الزمان وأنواع الشبهات , فمن العبث المذموم أن تعاد شبه
المعتزلة والفلاسفة الأولين في دروس الكلام وكتبه , وتعد من الفروض اللازمة
وتترك شبه الفلاسفة المعاصرين وغيرهم من أعداء الدين تتلاعب بالعقول , فلا
يقدر الذين يتعلمون على طريقة الأزهر ردها ولا فهمها بل يكتفون بتكفير من يسأل
عنها. وفقهم الله للعلم النافع لتحيا بهم هذه الأمة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) افتحر الكلام ابتدعه من عند نفسه ولم يتابعه أحد عليه.(3/840)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الباب الثاني (الولد) من كتاب
(26) من أراسم إلى هيلانة في 30 يوليو سنة - 185
أنا أيتها العزيزة هيلانة أعرف فرط حبك لي وجميل انعطافك نحوي ,
وأقدرها حق قدرها , ولكني لست معك فيما يخامر قلبك من المخاوف في شأن
مستقبل (أميل) , فإني وإن كنت والده لا أرى لي حقًّا بحال من الأحوال في
إيجاب أن يكون تلميذًا لي , فمن الذي يصح أن يتبجح بأنه قد وصل إلى الحق
المطلق وإن حسنت منه النية في البحث عنه , وأعتقد أنه يذوق المكروه من أجله.
نعم إنه ليؤلمني ألمًا شديدًا أن أراه في مستقبل حياته مخالفًا لي في آرائي غير آخذ
بمعتقداتي , ولكني أكون أنا المخطىء الملوم في ذلك دونه لأنه قد يكون سببه عدم
حذقي في إيصال أفكاري إلى نفسه , أو حكمه على هذه الأفكار بما عسى أن يكون
هو الحق فيها أعني أنها أغلاط عقل صادق في بحثه عن الصواب مخلص في
تلمّسه طريق الرشد.
على أنه لا فائدة في الاشتغال بالمستقبل فإن الذي يعنينا هو الوقت الحاضر.
تقولين إن أميل محب للاستطلاع كثير المسألة فأبشرك أن هذه أمارة حسنة على
نجابته ولكني أنصح لك أنه إذا سألك عن شيء تجهلين حقيقته فعليك أن تعترفي له
بجهلك اعترافًا خالصًا من المواربة , وإن كان ذلك مخالفًا لما عليه معظم الوالدين
ومعلمي المدارس الذين هم مصداق ما ورد في الأمثال: (لكل فتق رتق , ولكل
مسألة جواب) فكأنهم يتوهمون أنه يكون لهم بهذا نوع من السلطان على عقول
تلامذتهم , وأنت بحمد الله في غنى عن التذرع بهذه الذريعة الخطرة لإثبات ولايتك
على (أميل) . أقول: إنها خطرة ولا أحول عن وصفها بذلك , فإن في تعويد
الطفل على اعتقاد أن لكل شيء معنى محققًا يمكن أن يتناوله من غيره بسهولة
إخمادًا لقوة البحث والتفقه ومدعاة للكسل لأنه متى سبق إليه الوهم بأنه يوجد في
الناس علم كافل بإزالة جميع الشكوك التي تعترض الذهن في فهم معاني الأشياء لا
يجد موجبًا لتكلف البحث والملاحظة , وأما إذا اعترفت (لأميل) بأنك لم تمعني
النظر فيما يسألك عنه إمعانًا يكفي لإبداء رأيك فيه فإنك تكونين قد عجلت بتعليمه
أن إصابة الحق هي ثمرة عمل الجاد ونتيجة بحثه , وأيّ جواب يساوي هذه
الموعظة؟
ثم ليحذر الوالدون والمعلمون أن يكون في ادعائهم لأنفسهم نوعًا من العصمة
في العلم استدبار للغاية التي يسعون إليها. ذلك أن الناشئ إذا كَشَفَ له المستقبلُ
بغتة ما يقع فيه أولئك المصرفون لعقله من الأغلاط تزعزع اعتقاده فيهم مرة واحدة,
وزالت من نفسه الثقة التي أرادوا أن يجعلوها محلاًّ لها , وليس ما أخشى مغبته
على (أميل) من أنواع الريب هو الحذر النافع الذي يكون فيمن تعلموا من
صغرهم البحث في الأمور وعدم التسليم بها قبل اتضاح وجه الحق فيها , وإنما
الذي أخافه عليه هو مرض زوال الاعتقاد.
مما ينبغي التصريح به أن الصبغة الاعتقادية التي نراها في طريقة التعليم
عندنا ناشئة من جميع مقومات أوضاعنا الاجتماعية , فإنه متى اعتبر أن القائمين
على الدين وعلى السياسة قد فكروا في مصلحة الأمة؛ لزم بطريق البداهة أن طائفة
من العلوم مقررة تنزل من سماء علاهم فيفرض على عقول الأحداث قبولها بلا نظر
ولا مناقشة فأنت تجدين في التعليم الديني أسرارًا يتعاصى على عقل الإنسان
اكتناهها , وأعمالاً وعادات ليس في مقدور أحد من الناس تغيير شيء منها, وأحكامًا
لا تقبل العرض على محك النظر , بل تفيد قوة الإدراك إلى الأبد فلا تجد سبيلاً إلى
الجولان فيها [1] وأما التعليم السياسي فهيهات أن يكون ما يلقيه فيه الأستاذ على
تلامذته أقل مما ذكر إلزاما لأن الأستاذ لما كان أجيرًا للحكومة كان بالضرورة صدى
يردد أصوات أحكامها فبخ بخ لهذا الكلام الذي لو لم يكن مؤديًا إلى استعباد النفس
لما رأيت لي وجهًا في انتقاده , وإنما كان مؤديًا إلى ذلك لأنه بما له من الأثر في
إماتة عزيمة الناشىء يحصر فائدة التعليم في مجرد تمرين الذاكرة. فوا رحمتاه
لذلك المسكين الذي هو كالبعوضة حملت من تواريخ القرون الماضية وعلومها
وأقوال الثقات فيها ما أبهظها فعاقها عن الطيران.
على أنه يندر- والحق يقال- أن يصل أرباب هذا الحصر والتضييق النفسي إلى
تمام الفوز الذي كانوا يؤملونه من ورائه فإن تأثير الزمان الذي يعيش فيه الطفل أو
ما يوجد في طبعه أحيانًا من المقاومة والمعارضة أو ما يتلقاه من آراء أهله الذين
يتربى بينهم يخلف في كثير من الأحوال ظنون القائمين على التعليم الرسمي ويأتي
بعكس ما كان في حسابهم , ولكن لا بد من الاعتراف بأنه لا ينجو من وحدة هذا
القالب الذي تصاغ فيه الأجيال الناشئة على الشكل المطلوب إلا العدد القليل وأما
السواد الأعظم فإن مدار تعلمه يكون على التسليم والاعتقاد والوقوف عند حد ما تلقاه
عن معلمه الذي يعيد عليه ما أخذه عن أساتذته فالتربية في مثل هذه الأحوال سلاح
ذو حدين يتسنى به استعباد العقل كما يتسنى به تحريره ومرجع الحكم في ذلك إلى
المصادفة والاتفاق , وإني لن أرضى أن أَكِلَ مستقبل (أميل) إلى قذفات اتفاق
ومصادفات الحق والباطل وتعتورها الحرية والاسترقاق , ولو أوتيت في ذلك أنفس
شيء في العالم كله.
على أني أعوذ بالله أن أجحد ما لآثار السلف من المزايا والفوائد إلا أن في
الأخذ بهذه الآثار كما في الأخذ بغيرها من الأمور حدًّا وسطًا يصعب تمييزه ,
فالطفل الذي لا يتلقى شيئًا من المجتمع الذي يعيش فيه يصير إما متوحشًا وإما
أحمق , وأما الرجل الذي يتلقى منه كل شيء بالتسليم مرتكنًا على ثقته به مجتنبًا
مشقة النظر فيما تلقاه منه بدعوى أن من سبقوه قد كفوه مؤنة ذلك وكانوا أصح منه
نظرًا فإنه لا يكون أبدًا إلا ضعيف العقل معجلاً بوقف نفسه على جميع ضروب
الاستعباد. ثم اعلمي أن معظم أغلاطنا ومعتقداتنا الباطلة مبني على آراء يتداولها
الناس , ويرون تسليمها واعتبارها حقائق معصومة من تطرق الباطل إليها أسهل
عليهم بكثير من استقصائها واستجلاء الصواب فيها بنور العقل. فمثل هذه الآراء
تسري على نفوسنا من أول نشأتها وينتهي أمرها إلى أن تكون من الامتزاج بها
بحيث يلزم لاستئصالها في المستقبل بذل جهد عظيم في أعمال القوة الحاكمة
والاستعانة بشيء من الإقدام، والبسالة. نعم إنه لمن الصعب جدًّا أن لا يعلق بنفس
(أميل) شيء من تلك الأفكار الفاسدة ولكن الذي يهمنا أن يكون ما يتصل به منها
أقل ما يمكن وأن يجد في مستقبله من حرية نظره وسيلة لتمييزها والخلاص منها.
وجملة القول أن طريقتك في تربية (أميل) قد نالت من رضائي واستحساني
أكمل حظ ووقعت من قلبي أجلّ موقع , فإن التربية عمل ملاكه بذل النفس وقوامه
الحب وإني أعرف من كبار الرجال من دأبهم الاحتراس والانقباض في معاشرة
الأخصاء ومخالطة الأصفياء , فأمثال هؤلاء لا ينبغي أن يعهد إليهم بتربية الأحداث
لأنه يشترط فيمن يتولونها أن يكون فيهم من انبساط النفس ما يأخذ بقلوب الناشئين
إليهم , وأن يكونوا من المحدَّثين فيها المبعوثين عليها ببعض البواعث الفطرية
فمربي الطفل ومعلمه الحقيقي المستكمل لهذه الشروط إنما هو أمه.
ثم إني مستحسن كذلك ما رأيته من إدامة الدرس والمطالعة ليتيسر لك القيام
بهذا الغرض الذي قدر لك , ولكني أعظك بأن تجعلي هذه الحقيقة دائمًا نصب
عينيك ألا وهي: ليس أول شرط في التربية أن يكون المربي عالمًا وإنما هو أن
ينسى جميع ما تعلمه ليعود إلى تعلمه مرة أخرى مع الطفل اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) إنما دعا أراسم لتوجيه هذا الانتقاد إلى التعليم الديني كونه من غلاة أهل النظر , وله ولأمثاله بعض العذر في هذا الانتقاد لما دخل على الأديان من الفساد مما دعى إلى اختلاط الحق بالباطل , والدين الحق لا يخالف النظر العقلي لأن الإسلام يعلمنا أن أساس الدين العقل وما أخبر به الكتاب الإلهي من أمور الغيب ليس فيه شيء ممنوع في نظر العقل ومن لم يصدر إلا بما يراه لا يمكنه أن يثق بقول مؤرخ ولا طبيب ولا كيماوي ولا طبيعي إذا قالوا واكتشفوا شيئًا حتى يراه بعينه ويكتشفه بنفسه وذلك يدعو إلى أن يكون كل إنسان أجهل الجاهلين.(3/845)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المرأة الجديدة
كتاب جديد لحضرة العالم الفاضل قاسم بك أمين المستشار في محكمة
الاستئناف بمصر جعله تتمة وإيضاحًا لمباحث كتاب (تحرير المرأة) - الذي نشر في
العام الماضي , فكان له من التأثير ما لم يعهد لكِتاب سواه - وردًّا على الكُتَّاب
الذين انتقدوا ذلك الكتاب، وهو في آياته الباهرة، وأساليبه الساحرة مع الذي تقدمه
كالصنوان، وفرسي الرّهان، ولا غرو فهما فائضان عن ذلك الينبوع العذب،
وفرعان من دوح ذلك النبع أو العذب (نوعان من الشجر) ولذلك رأينا
لهذا من التأثير مثل ما كان لأخيه. فقد اشتغلت الأقلام بمدحه وبالطعن فيه. وكل
إناء ينضح بما فيه.
فمن المقرظين صاحب العطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس النظار ,
وأصحاب الجرائد اليومية المعتبرة , ومن المنتقدين باعتدال بعض أساتذة المدارس
الأميرية , ومن القادحين أصحاب الجرائد الصغيرة غير المنتشرة. وأكثر هؤلاء
سخفًا. وأبينهم ضعفًا. من زعم أن تربية النساء على الطريقة الأميركانية التي
يمدحها صاحب كتاب (المرأة الجديدة) يضر هذه البلاد ولا ينفعها - لا لاختلاف
القطرين , ولا لاحتلاف الدين , ولا لاختلاف المصالح والمنافع - ولكن لاختلاف
(الأميال والعوائد) فما هذه الأميال والعوائد التي يقدسها هذا الكاتب , ويفضل البقاء
عليها على التربية التي أساسها الاستقلال والاعتماد على النفس؛ ليقتدر المربي
على القيام بشئون نفسه وشئون بيته , وكفالة من يكلفه الشرع والطبع بكفالتهم. فإن
الأيامَى والخلايا من النساء مكلفات بأنفسهن شرعًا ومكلفات بالكفالة والنفقة لمن لا
كافل ولا عائل له من أصولهن وفروعهن بشرطه. الأميال تتبع العادات ولو كانت
عاداتنا حسنة وميلنا مصروفًا إلى الخير لكنا من الأمم العزيزة القوية , ولَمَا شكا
عقلاؤنا وفضلاؤنا من ضعفنا وتأخرنا وتقدم الأقوياء علينا. وهل جاءنا هذا البلاء
والشقاء حتى صرنا وراء الأمم كلها بعد أن كنا في مقدمتها إلا من فساد العادات؟
إذا لم يقل ذلك الكاتب إنه من العادات فلا مندوحة له أن يقول إنه من الدين. كما
يقول أعدى أعداء المسلمين.
يتألف كتاب (المرأة الجديدة) من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.
أما المقدمة ففي تعريف المرأة الجديدة , وأنها ثمرة العلوم والاكتشافات
العصرية والتعريض بالذين ردوا على كتاب تحرير المرأة , والتصريح بأن المؤلف
لا يكتب لينال تصفيق الجهلاء , وإنما يكتب (لأهل العلم وعلى الخصوص للناشئة
الحديثة) .
وأما الفصل الأول ففي (المرأة في حكم التاريخ) وأهم مسائله: (1) حكم
الكنيسة في المرأة الهاضم لحقوقها , و (2) تأثير الاستبداد في فساد حال المرأة ,
و (3) الشواهد الواقعية على نجاحها في أعمال الحكومة مع عدم الإخلال بشؤون
البيت , و (4) أدوار حياة المرأة الأربعة , وذلك خلاصة بحثه التاريخي , وهي:
الأول: الحرية في العصور الأولى عندما كانت الإنسانية في مهدها , والثاني:
الاستعباد الحقيقي عندما تشكلت العائلة , والثالث: الاعتراف لها بشيء من الحق
مع خضوعها لاستبداد الرجل عندما قامت الإنسانية على طريق المدنية , والرابع:
الحرية التامة عندما بلغت الإنسانية مبلغها من المدنية. ثم ذكر أن المرأة المصرية
اليوم في الدور الثالث من حياتها التاريخية. والكتاب ناطق بأنها لا بد أن تبلغ الدور
الرابع إذا ارتقى المصريون في المدنية الحاضرة كما هي سنة الترقي الواقعة ,
وإنما طلب مساعدة هذا الترقي بما يقتضيه حال الأمة ولا معنى للتربية الحقيقية إلا
هذا.
وأما الفصل الثاني ففي (حرية المرأة) ومهد له فيما قبله بالفرق بيننا وبين
الأوروبيين في ذلك , وأهم مسائله: (1) الحرية الإنسانية وخطأ الفلاسفة فيها
وحال النساء فيها قديمًا , و (2) تداخل الحكام في المعيشة الخاصة , و (3)
مراد المؤلف بحرية النساء , و (4) بحث علمي في المفاضلة بين الرجل والمرأة ,
و (5) الحجاب والعفة , و (6) المقابلة بين منافع الحجاب ومضاره ,
و (7) الحرية وأثرها والتدريج الطبيعي فيها.
وأما الفصل الثالث ففي (الواجب على المرأة لنفسها) وأهم مباحثه: (1)
تقسيم أعمال الإنسان إلى ثلاثة أنواع: ما يحفظ حياته وما يفيد عائلته , وما يفيد
الوجود الاجتماعي , وصرح بأنه يطالب المرأة بالأعمال والمعارف التي تتعلق
بالأولين لا بالثالث , و (2) الحكم في حقوق النساء ووظائفهن وواجباتهن
بالخيالات والنظريات, والحكم بالاختبار والوقائع , و (3) انتقاد عادات العرب في
امتهان النساء , وبيان أن سببه كون معيشتهم من الحرب والنهب وأن تلك العادات
أثرت في المسلمين , ثم بيان الفرق بين نساء العرب والنساء المصريات في
المعيشة ولوازمها المقتضي تغيير الحكم والعمل , و (4) احتياج المرأة لمعرفة
وجوه الكسب وارتفاع المكانة والاستدلال على ذلك بالإحصاء الأخير , و (5)
النقل عن العالم الأزهري وغيره من الذين ردوا على كتاب (تحرير المرأة) أن
المرأة لا تمنع من كشف وجهها للعمل ومباشرة أعمال الرجال والاختلاط بهم إذا لزم
ذلك لكسب عيشها. ويبني المؤلف على هذا أن تستعد المرأة لذلك قبل وقوعه ,
ويقول: إنه يجب أن يكون عامًّا لا مخصوصا بحال الضرورة , و (6) تمنى لو
يتعلم النساء حرفة تربية الأولاد وصناعة الطب للاستغناء عن تطبيب الرجال لهن.
وأما الفصل الرابع فهو في (الواجب على المرأة لعائلتها) وأهم مسائله:
(1) القول باتفاق الناس على أن زمام العائلة بيد المرأة , و (2) تربية الأولاد ,
وفيه أن من جهل النساء كثرة موت الأطفال قال: (وقد اطلعت على إحصائية
مصلحة عموم الصحة التي نشرت في هذا العام، فوجدت أن عدد المتوفين من
الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم خمس سنين هو في مدينة القاهرة 145 في الألف ,
ويقابل ذلك في مدينة لوندره 68 في الألف) , ثم قال: (إن الأمهات الجاهلات
يقتلن في كل سنة من الأطفال ما يربو على عدد القتلى في أعظم الحروب , وكثير
منهن يجلبن على أولادهن أمراضًا، وعاهات مزمنة تصير بها الحياة حملاً ثقيلاً
عليهم طول عمرهم) , و (3) إشراك الأباء مع الأمهات بالجهل بالتربية ,
و (4) بيان أن غاية التربية الفضلى (أن يحكم المرء نفسه) وهو ما عبرنا عنه
آنفًا بالاستقلال , وأن التربية إنما تكون بالاقتداء , وأن قدوة الأطفال في الطور
الأول من الحياةِ الأمهاتُ , وهذا الطور هو الذي تنطبع فيه الأخلاق ويتربى
الوجدان وهما مبعث جميع الأعمال. فلا بد أن تكون القدوة فيه مثال الكمال. في
أصلي الفضيلة والاستقلال , و (5) تعظيم شأن النساء المهذبات والاستشهاد بذكر
نوابغ منهن , و (6) البحث في علاج ضعف الأمة الإسلامية , وبيان أن سببه إما
الإقليم , وإما الدين , وإما (العائلة) ثم منع الأولين وحصر السبب في الثالث الذي
مداره على المرأة. ونحن معه في أن فساد التربية سبب مباشر لضعف الأمة
ولكننا نقول: إن من أسباب هذا السبب فهم الدين على غير وجهه , والابتداع فيه ,
والدليل على هذا أن الجماهير من المسلمين يحتجون على منع تربية النساء ,
وتعليمهن بالدين , ولهذا جعلنا جل عنايتنا في المنار مصروفة إلى الإصلاح الديني
بعد أن قلنا في بيان منهاج الجريدة في العدد الأول منها ما نصه: (وغرضها الأول
الحث على تربية البنات والبنين) , و (7) الرد على الزاعمين أن الأوربيين
يشكون من حرية نسائهم , وبيان أن الشكوى من بعض نتائج الشيء النافع لا
يتضمن الحكم بإبطاله كحرية الطباعة مثلاً من نتائجها تطاول بعض الجهلاء ,
وإبطالها لمنع التطاول دواء أمرّ من الداء وأضرّ.
وأما الفصل الخامس ففي (التربية والحجاب) وسنتكلم عنه وعن الخاتمة في
الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/850)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(السلك البرقي الحجازي)
وصل هذا السلك إلى المدينة المنورة في شهر رمضان المعظم , وورد منها
رسالة برقية على دولة الغازي مختار باشا تهنئه بشهر الصوم تصريحًا وتبشره
بوصول الخط تضمينًا. ويا لها من مأثرة تزين تاريخ مولانا السلطان الأعظم ثم
تاريخ حاجبه الأمين الذي تولى هذا العمل الجليل وأنجزه بأقرب وقت ألا وهو
صاحب السعادة الفريق صادق باشا العظم أكثر الله تعالى في الدولة من أمثاله.
***
(الإذن بالحج لمسلمي الجزائر)
قرأنا في جريدة المبشر الغراء (وهي الجريدة الرسمية لولاية الجزائر)
الصادرة في 21 رمضان أن والي الجزائر العام أصدر إذنه في 11 يناير لمسلمي
الجزائرية بالحج بناء على أن الحالة الصحية في النواحي الشرقية تحسنت , وأن
المحجر الصحي في الطور بلغ درجة مرضية. ولا شك أن سيتلو هذا الإذن إذن
آخر لمسلمي تونس لأن العلة في المنع الرسميّ واحدة , وبذلك تدحض حجة الذين
يقولون: إن فرنسا تمنع رعاياها ومن تحت حمايتها من المسلمين من أداء الحج
بباعث التعصب الديني وقصد محو الشعائر الإسلامية.
***
(البوير والإنكليز)
عادت الحرب إلى شبابها، أو شبوبها بعد ما ظن الناس أنها خمدت نارها
ووضعت أوزارها , ورجع القائد العام للجنود الإنكليزية إلى إنكلترا وكثير من الجند
أيضًا , ويظهر أن هؤلاء البوير الذين أدهشوا العالم ببسالتهم ودهائهم لما رأوا من
عدوّهم كثرة الزحوف ومئات الألوف علموا أنه لا قبل لهم بمصادمتها فخلوا السبيل
بينهم وبين عاصمة بلادهم (بريتوريا) بعدما أخفوا السلاح وذهبوا بالخيول فلما
اغتر الإنكليز بدخول العاصمة ورأوا أن الرئيس كروجر المدبر العظيم خرج من
بلاده متظلمًا إلى أوروبا , وأعلنوا امتلاكهم لجمهوريتي الترانسفال وأورانج , وكان
من أمر قائدهم ما ذكرنا وفرقوا قوتهم في البلاد التي احتلوها - قلب البوير لهم
ظهر المجن , وأظهروا قوتهم الكامنة وزحفوا على مستعمرة الكاب الإنكليزية
يثيرون ثائرة إخوتهم في الجنس الهولندي من رعايا الإنكليز على مساعدتهم ,
وأنشأوا يناوشون الإنكليز من مواضع مختلفة فيحالفهم النجاح في الغالب ويقطعون
السكك الحديدية الإنكليزية وينهبون ما فيها , وظهر للإنكليز أن قائد البوير (دي
ويت) شيطان مارد لا نظير له عندهم ولا عند غيرهم وأن السلاح والخيول عند
العدوّ كثيرة جدًّا , وأن خيول البوير مضمرة ومعلمة بحيث تشبه خيول التتار الذين
أغاروا على المسلمين فمزقوا شملهم , فاضطر اللورد كتشنر إلى طلب الخيول
والجيوش من بريطانيا , وقد صار الحكم على هذه الحرب أحوج من قبل إلى كثرة
التروي وإلى الله تصير الأمور.
***
وفيات
(سعد الدين باشا القباني)
في يوم الجمعة 27 رمضان وافت هذا الشيخ الجليل منيته عن 88 سنة قضى
معظمها في خدمة الدولة العلية ما بين عسكرية وملكية. وهو كبير بيت القباني
الكريم في بيروت وشقيق زميلنا الفاضل الشهير صاحب السعادة عبد القادر بك
القباني صاحب جريدة ثمرات الفنون الغراء ورئيس البلدية في بيروت , فنعزي
شقيقه وسائر آله على فقده ونسأل الله تعالى أن يتغمد فقيدهم برحمته ويسكنه فسيح
جنته آمين.
(جمال الدين أفندي قاضي مصر)
في يوم عيد الفطر نزل القضاء الإلهي بهذا الرجل الفاضل الجليل بعد مرض
طويل , وكان من أصحاب رتبة قاضي عسكر التي هى أعلى الرتب العلمية في
الدولة العلية , وتولَّى منصب القضاء في بيروت وغيرها قبل مصر فكان مثال العفة
والاستقامة، ومكارم الأخلاق كما كان في السنين العشر التي قضاها في قضاء
مصر , ولا غرو فهو من بيوتات المجد المشهورة بالفضائل في الأستانة العلية ,
مات عن نحو ستين سنة تغمده الله تعالى برحمته وغفرانه وعوَّض مصر عنه خيرًا
بتوفيق مولانا السلطان الأعظم لتولية قاض عادل فاضل لمصر يقيم القسط، ويحفظ
شرف الشريعة.
***
(فكتوريا ملكة الإنكليز)
في اليوم الثاني من شوال و22 يناير الماضي قضت نحبها هذه الملكة العظيمة
وفارقت ملكها الكبير ذا الشأن الخطير عن ثلاث وثمانين سنة ثلاثة أرباعها بل أكثر
على عرش الملك والعظمة ومستقر العز والقوة فقد كانت مدة حكمها 64 سنة. أما
تاريخ حياتها وما نالته من السعادة , وعظم السيادة , فلا تفي به المجلدات. بله هذه
الورقات , ولا بد من إجمال قليل إذا لم يمكن التطويل بالتفصيل.
(مولدها ونشأتها)
هي ألكسندرينا فيكتوريا بنت دوق كنت بن الملك جورج الثالث ملك إنكلترا ,
وحفيد الملك جورج الثاني ابن الملك جورج الأول الألماني الأصل لأنه كان أمير
هنوفر. ولدت في 24 مايو 1819 ووالدتها (لويزا فيكتوريا) بنت دوق ألماني
وأخت ليوبولد الأول ملك بلجيكا. ومات والدها وهي في السنة الثانية فقامت والدتها
بتربيتها أحسن قيام أهَّلها لإدارة ذلك الملك الواسع , وإذا قلت لإدارة كرة الأرض لم
تكن مغاليًا , وقد استعانت والدتها على تربيتها بمربية بارعة اسمها البارونة لهزن
لها معها شئون مدونة في الكتب يقرؤها الإنكليز للاقتداء والفكاهة والافتخار. ولما
تم لها 11 سنة كانت تعلمت اللغات الألمانية والفرنساوية والإيطالية واللاتينية مع
آداب اللغة الإنكليزية , وتعلمت الموسيقى والرسم والتصوير وبعض الأشغال
اليدوية ونظرت في الفنون الرياضية وكان لها مزيد عناية بالدين. وكانت حسنة
الأخلاق لطيفة المعاشرة كاملة الآداب. وكانت والدتها ومربياتها عارفات بأن ملك
إنكلترا سيئول إليها لأن عمها جورج الرابع مات من غير ولد فخلفه عمها وليم
الرابع وكان له بنتان ماتتا في عهدها وهو حيٌّ فتلطفت معلمتها البارونة بإعلامها
أنها ولية العهد بالمواطأة مع والدتها بأن وضعت لها شجرة بيت الملك في كتاب
كانت تطالعه فلما رأتها قالت: إنني أقرب إلى الملك مما كنت أحسب. ثم قالت:
إن الملك عظيم ومجده كبير ولكن أعباءه أكبر. وقالت لمعلمتها: الآن فهمت سبب
إلحاحك عليّ بإتقان اللغة اللاتينية.
(جلوسها)
مات عمها ملك إنكلترا في 20 يونيو سنة 1837 بعد نصف الليل فأسرع
رئيس الأساقفة ومركيز كوننهام وأحد الأطباء الذين حضروا موته إلى قصر الأميرة
فيكتوريا فلما أيقظت وأعلموها طلبت من الأسقف أن يصلي ثم كتبت إلى امرأة
عمها كتاب تعزية لقبتها فيه بجلالة الملكة حتى لا تكون أول من يسلبها هذا اللقب.
وتلك نهاية الأدب. ونودي بها في اليوم التالي ملكة على الإنكليز وبعد سنة وثمانية
أيام احتفل بتتويجها أعظم احتفال.
(تتويجها)
توّجت الملكة في كنيسة وستمنستر كما هي العادة المتبعة عند ملوك الإنكليز ,
فزينت الكنيسة الزينة التي تقتضيها عظمة الملك, وكان أول العمل أن وقفت أمام
رئيس الأساقفة ووضعت يدها على التوراة راكعة , وحلفت أنها تحكم البلاد بحسب
دستور مجلس الأمة (البارلمنت) وقوانين البلاد مع العدل والرحمة , وأنها تحافظ
على حقوق خدمة الدين , ثم قدم لها لورد ملبرن سيف المملكة , وافتداه بعد ذلك
بخمسة جنيهات حسب التقاليد , وألبست حلة الملك وخاتمه وأعطيت الكرة
والصولجان ودهنت بالدهن المقدس , وألبسها رؤساء الكهنة التاج وأجلست على
عرش الطاعة , وجثا أمامها رئيس الأساقفة , وقبل يدها وتلاه سائر رؤساء الكهنة
ثم خضع لها عمَّاها دوق سسكس ودوق كمبردج ثم سائر الأمراء. وكان ذلك اليوم
مطيرًا فاتفق أن تقشعت الغيوم وبرزت الشمس عند وضع التاج على رأسها فوقع
شعاعها عليه فتألقت جواهره وتلألات حتى كادت تخطف الأبصار فكان ذلك فألاً
حسنًا للحاضرين.
(زواجها)
كان الأمير ألبرت ابن خالها ليوبولد ملك البلجيك زار إنكلترا ورأته الأميرة
فيكتوريا فأعجبها جماله وكماله وعزمت على الاقتران به , ثم شغلها الملك وحقوقه
عن ذلك وما ذكرها به إلا زيارته لها في إنكلترا , وكان أهلهما يتوقعون اقترانهما؛
فكان. وبعد مشاورتها مجلس الأمة وإقراره على الزواج احتفل به في 10 فبراير
سنة 1840 في كنيسة قصر سنت جمس. ومما يحسن ذكره هنا أن من التقاليد
عندهم أن يقرأ عند صلاة الاقتران فصل من الكتاب المقدس تؤمر فيه المرأة بطاعة
الرجل , فسأل الأسقف الملكة: هل تبيح له ذلك وتأذن به؟ فأجابته جواب العاقل
الحكيم: (إنني أقترن امرأة لا ملكة فلا تحذف شيئًا من كلام الكتاب) ، وكذلك
كانت تعامل زوجها بعد، وكان لها كما كانت له خير عون وظهير. وكانا تِرْبَين؛
لأن ولادته كانت في شهر 5 أغسطس (آب) ، أي: بعد ولادتها بنحو 3 أشهر
وعاش معها 21 سنة
(ستأتي بقية الترجمة)
***
أخبار الهند
(جريدة وطن)
وافتنا الأعداد الأُوَل من هذه الجريدة الإسلامية الجديدة التي تصدر في مدينة
لاهور من الهند لمنشئها الكاتب الفاضل محمد إنشاء الله محرر جريدة (وكيل)
سابقًا المشهور بمقالاته النافعة واقتراحاته المفيدة التي منها: مشروع سكة حديد بين
بورسعيد والبصرة الذي تكلمنا عنه في العدد الأول من المنار. ولهذا نراه في
جريدته الجديدة يحث مسلمي الهند على إعانة سكة حديد الحجاز بالمال حتى جعل
من لا يساعد هذا العمل بشيء من المال ممن لا حظ لهم في الإسلام , ولا ينبغي أن
يعد من المسلمين.
ومن أهم أخبار هذه الجريدة بل من بشائرها السارة أن أمير الأفغان المعظم
أعزه الله وأطال عمره أصدر أمرًا بتعميم التعليم الإجباري في المدارس , وأن لا
يكون التعليم بالإرهاب والغلظة لأن ذلك يطفىء نور الفطرة ويذهب بقابلية التعليم ,
وإنما يكون التعليم بالتعقل والتلطف. ومنع ضرب التلامذة منعًا قطعيًّا وجعل عقوبة
الضارب إدخاله في سلك الجندية.
(جريدة بيسه أخبار)
نشر الفاضل صاحب هذه الجريدة الكبرى فصلاً آخر فيما شاهده بمصر ذكر
فيه المطابع والجرائد فأثنى على مطبعة الترقي بالاتفاق الذي عرفه كما نعرفه نحن
وذكر المؤيد وما له من المكانة في نفوس العظماء، والوجهاء حتى ذكر أنهم
يخافونه , ووصف صاحبه الفاضل وصفًا صوريًّا معنويًّا حتى قال: إنه لا يعرف
اللغات الأجنبية ولكن عنده من يعرفها ويترجم له. وذكر اللواء شيئًا من سيرة
صاحبه منها قوله: (إنه شاب يلبس اللبس الأفرنجي ويعرف الفرنسوية وعنده
حميّة على وطنه وشهرته أكبر منه) , وذكر المقطم وتعقُّبه للمؤيد في الطعن
بالإنكليز , وقال: إنه يأخذ على ذلك أجرًا.
ثم ذكر المجلات فوصف الهلال وأثنى عليه ولم يذكر المقتطف , وأطال في
ذكر المنار ما لم يطل في ذكر غيره فقال ترجمته ملخصًا.
(صاحب جريدة المنار رشيد أفندي شاب عالم فاضل , وكثيرًا ما كنت أرى
في الجرائد الهندية مقالات مترجمة عن المنار. وكتابته في المسائل الإسلامية في
الدرجة العليا , وهو يحاول الرجوع بالمسلمين في دينهم (أي لا في دنياهم لأن
أحوال الدنيا تختلف باختلاف الأزمنة والأطوار) إلى سيرة الصحابة الكرام عليهم
الرضوان) ، ثم قال:
(واجتمعت بالسيد محمد أفندي عبده مفتي الديار المصرية بواسطته وفي
داره وهو أجل الفضلاء في العلوم الدينية , وليس بغافل عن أحوال الزمن الحاضر
وشؤون العصر. وهو ركن من أركان كثير من مجالس الحكومة ومحب للنفع العام
بحمية صحيحة متقدة في قلبه) اهـ.
***
(المدنيتان الإسلامية والأوربية)
نقلت الجرائد أن الجيش الأوروبي المختلط في الصين قد خرج عن القواعد
الموضوعة في الحرب فهتك الأعراض ومثَّل بالقتلى وفتك بمن لا تجيز القوانين
الفتك به كالنساء , ولا بدع في هذا فإن الأوروبيين لا يحترم بعضهم بعضًا إلا
لتكافؤ القوى ومبادلة المنافع ودرء المضار وهم إلى الآن لم يصلوا إلى عشر معشار
الآداب الإسلامية في أول نشأتهم حيث حرم الدين عليهم مقاتلة من لا يقاتلهم كالنساء
ورجال الدين والأطفال والشيوخ وحرم عليهم التمثيل وهتك الأعراض. وما أباح
لهم سبي النساء والتسري بهن إلا ليكون لنساء القتلى ونحوهم كافل شرعي يقوم
بشؤونهن كنفسه , وإذا رأى الإمام المصلحة بخلاف هذا يأمر به فليس الاسترقاق
من فروض الدين.
ألا إن المدنية الصحيحة قوامها الدين ولولا ما دخل على المسلمين من البدع
والانحراف عن صراط الإسلام لدخل فيه معظم الغربيين , وسيكون هو المحقق
أمنية فلاسفة الاجتماع بوحدة البشر وكمال مدنيتهم ولو بعد حين.
***
(تهنئة الوطن)
نهني لواء طرابلس الشام بإغاثة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى)
لهم حيث أصدر إرادته السنية بعزل متصرفهم السابق بدري باشا الذي كان
يسومهم سوء العذاب حتى كاد يهلك هو وجنوده الحرث والنسل وبأخذه مهانًا تحت
الحفظ إلى الأستانة ليذوق وبال أمره وعاقبة استبداده حيث لا تنفعه سماحة ظهيره
ونسيبه الشيخ أبي الهدى أفندي ولا تغني عنه من عدالة مولانا الخليفة شيئًا.
ثم أنعم عليهم بمتصرف جديد محا معالم ذلك الاستبداد. وطمس رسوم ذلك
الفساد. ألا وهو صاحب السعادة الهمام عبد الغني باشا العابد شقيق أخلص
المخلصين. لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين. عطوفتلو أحمد عزت بك العابد أشد
رجال المابين اجتهادًا في تحقيق رغبة مولاه في مشروع سكة حديد الحجاز وكفى
بها منقبة.
***
(سكة حديد الحجاز)
أرى المصريين قد فترت دون هذا المشروع العظيم هممهم. وتراخت
عزائمهم. وخمدت حميتهم. والمسلمون في جميع أقطار الأرض يزدادون همة
ونشاطًا في جميع الإعانات لإحياء البلاد المقدسة وتسهيل سبيل بيت الله على
قاصديه.
ما هو عذر المصريين وهم مشهورون بالسخاء وحب المباراة في المجد؟
عذرهم أنه لم يقم برياسة هذا العمل المبرور رجل عظيم كما قام صاحب الدولة
رياض باشا برياسة لجان الإعانة العسكرية الشاهانية. ولكن لماذا لا يبذل
المصريون المال إلا إذا كان طلبه تحت رياسة رجل عظيم؟ ثم ألا يوجد في كل
مديرية وجيه يوثق به فيدعو إلى هذه الإعانة؟ سنجيب عن هذا فيما يأتي إن شاء
الله تعالى.
__________(3/855)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة سنة المنار الثالثة
بهذا الجزء تمت سنة المنار الثالثة بتوفيق الله ومعونته. وفضله وحسن
هدايته. وقد رأى القراء أننا زدنا حسنًا. في الصورة والمعنى. فقد كان مجلد
السنة الثانية 768 صفحة , ومجلد هذه السنة 864 صفحة فالزيادة 96 صفحة وهو
أحسن ورقًا وطبعًا , والفضل في هذا لمطبعة الترقي العامرة التي أسست لترقية هذه
الصناعة في القطر المصري.
ونعد القراء بأننا سنزيده مادة وإتقانًا في السنة الآتية حيث تكون صفحاته
960 بزيادة نحو مائتي صفحة عن السنة الثانية. وسنوسع فيه دائرة المباحث
العلمية والأدبية والتاريخية.
أما ما يدعو إليه المنار من الإصلاح الديني وأنه شرط في كل اصلاح فإننا
نرى الاقتناع به يزداد وينتشر بالتدريج الطبيعي الذي ترجى فائدته , وجميع العقلاء
والفضلاء في القطر المصري وغيره راضون عنه ومنشطون عليه. نسمع ذلك من
عقلاء المصريين مشافهة , ويبلغنا من غيرهم بالمكاتبة فإذا كان وزير مصر الأكبر
دولتو رياض باشا يقول لنا في كل مجلس نحضره: إن ما يكتب في المنار نافع جدًّا ولا نجاح للمسلمين إلا به. فإن شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني مدرس العلوم
العالية في كلية عليكده في الهند لا يكتب لنا مكتوبًا إلا ويقول فيه: (إن العالم
الإسلامي مديون لكم بهذه الخدمة) , وأمثال ذلك. ومثل هذه الأقوال والمكاتبات من
عظماء المسلمين كثيرة.
والفضل في هذا كله لنصير العلم والدين وحكيم الإسلام والمسلمين مولانا
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية الذي هو مرشدنا الأول إلى
هذا المشرب , ولا نزال نستقي من ينبوعه ونقتبس أنوار القرآن من مجالس تفسيره.
وسنكمل في السنة الآتية المباحث التي ابتدأناها في هذه السنة وما قبلها
كمبحث الكرامات والخوارق , ومبحث مدنية العرب. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا
لما فيه الخير والفائدة , ويقينا عثرة القلم وزلة القدم , وينصر سلطاننا ويؤيد أميرنا
ويسعد أمتنا وبلادنا , وسلام على المرسلين , والحمد لله رب العالمين.
__________(3/863)
المجلد رقم (4)(4/)
غرة ذو القعدة - 1318هـ
20 فبراير - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد، وعلى كل عبد مصطفى.
وبعد، فإن المنار يدخل بهذا الجزء في العام الرابع من حياته وقد نما النمو
الطبيعي المقدَّر له من أول نشأته، وساعد حركة الإصلاح بصوته الضعيف، ولقي
صاحبه من الألاقي بعض لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا
والله مع الصابرين.
من كان الله معه لا يضره كيد الكائدين، ولا يُحبط عمله إرجاف المرجفين،
وإن عظمت مظاهرهم وألقابهم، وعلت منازلهم وأحسابهم، بل جرت سنته تعالى
في خلقه بأن الضعيف ينتصر بالحق على القوي، والرشيد يغلب بالصدق والثبات
على الغويّ {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .
ما لقيتْ دعوة الحق من المعارضة بعض ما لقيت من الانتشار، ولا صادفت
من التدسية والإخفاء مثلما صادفت من التزكية والاشتهار، وما كان إلا ما كان في
الحسبان، وليس في الإمكان أبدع مما كان، ومن حاول الخروج بالكون عن سنته،
وتكليف عالم الاجتماع ما ليس في طبيعته، كان جديرًا بالخذلان، وبذلك خاب فلان
وفلان، وخفي هذا على بعض الناس فكانوا من القانطين، وضل آخرون في فهم
قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
الحق ثقيل ولا سيما على المبطلين، والجدُّ مملول ولا سيما من الهازلين؛
ولذلك أشار علينا بعض الناصحين من محبي الإصلاح بأن نضم إلى المقالات
الإصلاحية والعلمية شيئًا من النبذ الأدبية، وأن نضيف إلى انتقاد التقاليد والعادات
بعض الأخبار والملح والفكاهات؛ لأن هذا أدعى إلى ترويح النفس، وتوفير الأنس
ولهذا وسَّعنا المجلة فزدنا في صفحاتها، ونوَّعنا موضوعاتها؛ ولكننا لم نزد في
الثمن، كما زدنا في المثمن؛ لأن بضاعة العلم والدين لا تزال عندنا على قلتها في
كساد، وبضاعة الشهوات واللذات في رواج وازدياد، فيسهل على أكثر المتعلمين
منا أن ينفقوا البِدَر في سبيل الهوى، ويصعب عليهم أن يبذلوا النزر اليسير في
سبيل الهدى، فما بالك بغيرهم الخالي من مثل غيرتهم، والمحروم من الشعور
بحميتهم (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون) ووفقهم لمعرفة أنفسهم ومن معهم
لعلهم يرشدون، اللهم و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .
... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(4/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الداء والدواء
خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بضروب من التكريم، خلقه
من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، خلقه جاهلاً لا يعلم شيئًا، ثم منحه
هدايات الحواس والعقل والنبوة، خلقه فقيرًا محتاجًا إلى كل شيء، وسخَّر له
بفضله كل شيء، فالأكوان تعمل به وهو يعمل في الأكوان، ويظهر ما انطوت
عليه من الإبداع والإتقان، مستعينًا بتلك الهدايات الموهوبة، على أعماله المكسوبة
حتى يصل كل من الإنسان والأكوان إلى ما أُعد له، ويبلغ الكتاب فيهما أجله،
وأعني بالكتاب كتاب الغيب المكنون، {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل: 65-66) .
جلَّت حكمة الله جعل حياة الإنسان الفردية مثالاً ونموذجًا لحياته القومية،
يرتقي الفرد منه بالتدريج ويتربى متأثرًا بحالة الأكوان، وما تعرضه عليه شؤون
أخيه الإنسان، فمنه ما ينمو ويرتقي باطراد، ومنه ما يعرض له المرض والفساد
فتوقف سيره قبل أن يتم دوره، فإما شقاء وارتقاء، وإما موتًا وفناءً، وكذلك الأمم
في أطوارها، والشعوب في أدوارها، وهذه قصصها وأخبارها، ما سعدوا إلا بما
كانوا يعملون، وما حل بهم الشقاء إلا بما كانوا يكسبون {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 33) .
استعان أناس بالحواس على الحسنات، واستعان بها آخرون على اجتراح
السيئات، ووصل قوم بالعقل إلى أحاسن الأعمال، واستعمله آخرون في سيئ
الفعال، واهتدى بالدين أمم إلى الصراط المستقيم، ووقع به آخرون في العذاب
الأليم {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ،
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213) ،
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
غرَّ أمةً ممن كان قبلنا دينهم، فحسبوا أن انتسابهم إليه هو كافلهم وضمينهم،
وناصرهم ومعينهم؛ فقصروا في الأعمال، واستبدلوا النقص بالكمال، فحل بهم
الخزي والنكال، وما أغنى عنهم الانتساب إلى الأنبياء، والاعتماد على الأصفياء،
والاستمداد من الأولياء، ولا أفادهم قولهم: نحن شعب الله، الذي فضَّله على العالمين
واصطفاه، وحملة كتابه التوراة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:
23-24) .
الغرور في الدين، هو الجرثومة التي تولدت منها جميع أمراض المسلمين،
كما حل بمن كان قبلهم، وحُذِّروا أن يكونوا مثلهم، فقد جاء في الحديث المتفق على
صحته: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) ، والمسلمون يعترفون
بهذا إجمالاً؛ ولكنهم ينكرونه عند التفصيل، فإذا عدَّدت لهم البدع والتقاليد التي
فتنوا بها، وحرَّفوا معاني كتاب الله تعالى وأوَّلوه برأيهم لترويجها، يلوون ألسنتهم
إنكارًا، ويُنغضون رؤوسهم إعراضًا وازورارًا، وإذا وصفت بهذا الغرور بعض
رجال الدين، من شيوخهم وآبائهم الميتين {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا
يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} (الأنفال: 6) .
هذا الغرور في الدين، الذي أصبنا به من بعد الخلفاء الراشدين، هو نقيض
الغرور الذي رُمي به الذين سبقونا بالإيمان، والذي قال فيه القرآن: {إِذْ يَقُولُ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} (الأنفال: 49) فإن ذلك
الغرور هو تصدي ثلاثمائة ونيف من المؤمنين، لزُهاء ألف من المشركين، من
ورائهم ألوف وزحوف من الفرسان، وليس وراء أولئك المؤمنين إلا النساء
والضعفاء والصبيان، وهذا الغرور هو خذلان ثلاثمائة مليون من المسلمين،
ووقوعهم بين أنياب الحوادث، ومخالب الكوارث، لا يحمون حقيقتهم، ولا
يدافعون عن حوزتهم؛ ولكنهم يستنجدون بالقبور ولا يُنجدون، ويستنصرون
بأرواح الموتى ولا يُنصرون {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
تولدت جراثيم هذا الغرور بالدين في العصر الأول عندما فتح المسلمون البلاد
ودوَّخوا العباد، وجلسوا على كرسي السيادة، وضموا عليهم قطرَيْ السعادة،
فحسبوا أنهم غمروا بهذا الإنعام، لمجرد انتسابهم للإسلام، ثم دلهم القياس الفاسد
على أن هذا اللقب (مسلمون) يعطيهم سعادة الآخرة، كما أعطاهم سعادة الدنيا،
وكان لهم من الأحاديث الموضوعة وسوء فهم الصحيحة ما يؤيد القياس، ويمد
الوهم والالتباس، فقصروا فيما أمرهم الدين من الإصلاح للدنيا، كما قصروا في
عمل الصلاح للأخرى، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ
القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) [1] .
ويا ليتهم إذا عُذِّبوا بسلب سعادة الدنيا رجعوا إلى قياسهم، وخافوا أن يحرموا
سعادة الآخرة أيضًا إذا هم استرسلوا في هذا الغرور، ولم يخرجوا من هذا الديجور
ثم رجعوا إلى أنفسهم، وبحثوا عن أسباب سعادة سلفهم، وتبينوا أنها الأعمال، لا
الأماني والآمال، ثم استنوا بسنتهم، واستقاموا على طريقتهم، ولم يتكلوا على
شفاعتهم، ويجعلوها مناط سعادتهم، واعتبروا بقول خليل الرحمن عليه الصلاة
والسلام إذ قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} (الممتحنة: 4) وبما كان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه
أبي طالب، وبحديث الصحيحين: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل
عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: (يا معشر قريش،
اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم
من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت
محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) نعم، وإن اعتقاد الخلف
أنهم يسعدون في الدنيا بأمداد سلفهم تكذيب للحس والعيان، واعتقاد أنهم بهم
ينجون في الآخرة إعراض عن السنة والقرآن، فالاحتجاج بعد هذا بقول فلان
وورد فلان جنون {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) .
ما وقف المسلمون بغرورهم في دينهم عند حد، بل عم عندهم كل شيء حتى
حكموه بالعلم الذي يرشد إليه، فجعلوه صادًّا عنه، وبالدنيا التي يأمر بعمرانها،
فحسبوه مؤذنًا بخرابها، وبالعقل الذي بُني عليه، فجعلوه عدوًّا له، ولما نزلت بهم
عقوبة غرورهم يئسوا من كل شيء أن ينالوه بأنفسهم، وسجلوا على أنفسهم هذا
اليأس وختموه بختم الدين وطبعوه بطابعه، حيث زعموا أنه من أشراط الساعة،
وأن الضعف إذا وقع بالمسلمين لا يرتفع إلا ما يكون من النهضة على يد المهدي
المنتظر القصيرة المدة؛ وإنما تكون بالخوارق والكرامات لا بالاستعداد والعصبية
القومية، ثم هي كإيماضة الخمود للذبال لا تلبث أن تزول سريعًا وتزول الدنيا في
أثرها بعد قليل، وقد مر في المنار تحقيق الحق في هذه التقاليد وبيان ضررها،
وأن الساعة مغيَّب عنا أمرها {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) .
فعلمنا مما تقدم أن أمراض المسلمين الاجتماعية التي جعلتهم وراء الأمم كلها
حتى التي كانوا يسودونها ترجع إلى داء واحد، وهو الغرور في دينهم وفهمه على
غير وجهه، وإن شفاء هذا الداء ليس بمحال ولا متعذر؛ وإنما المتعذر إصلاحهم مع
بقائه، وإن الدواء الذي يذهب به هو السير بالتربية والتعليم على سنن الكون وأصول
الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر المقالة، وإقناعهم بأن ارتقاء المسلمين بدينهم في
القرون الأولى لم يكن لسر خفي في الدين، ولا لحب الله تعالى لذوات الذين تسمَّوا
بالمسلمين؛ لأن الله منزه عن عشق الذوات والأعيان، وأفعاله لا تعلل بالأغراض
كأفعال الإنسان، وإنما ارتقوا به لأنه أرشدهم إلى سنن الارتقاء، وهداهم إلى الصفات
والأفعال التي بها السمو والاعتلاء، فهو كما تقدم هداية أُخذت على وجهها وحقيقتها،
فأدت إلى غايتها وأنتجت نتيجتها، فلما اختلفت الكيفية، انعكست القضية، كما
يهتدي بالحواس والعقل أقوام ويضل آخرون {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ
عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 22-23) .
أول أركان الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص الذي يصقل العقول من
صدأ الخرافات والأوهام، ويفك الإرادة من أسر الدجالين، ويعصم النفوس من حيل
المحتالين، ثم الإذعان بأن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فمن سار عليها
وصل ومن تنكبها هلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) حكم عام للآخرة والأولى، ثم
الاعتقاد بأن كل عمل ينافي مصلحة الأمة أو يحول دون منفعتها موجب لسخط الله
تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم تصدي طائفة للاحتساب قولاً وعملاً والدعوة
إلى ما به حياة الأمة من علم وعمل ومباراتها للأمم العزيزة إلى غير ذلك مما فصَّلنا
القول فيه من قبل، وسنعيد البحث فيه إن شاء الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
ولنا الثقة بأن الكون وما فيه من الآيات، وما اكتشفه الناس من أسراره وما
يكتشفونه فيما هو آتٍ، كل ذلك خدمة لإظهار دين الفطرة على كل دين {وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وإن دعوة الحق ستكون هي الفضلى، وطريقة
الإصلاح هي الطريقة المثلى؛ ولكن لا يمكن تعيين الزمن بالتحديد {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} (فصلت: 53) ، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) ،
{لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .
__________
(1) الأمم بالشرك إذا كانوا مصلحين، وهذا مشاهد وناهيك بالمسلمين واليابان.(4/3)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القسم الديني [*]
القسم الثاني من الأمالي الدينية في النبوات
(الدرس الثامن عشر)
الحاجة إلى الوحي والنبوة
تكلمنا في العدد الماضي عن الوحي من حيث إضافته إلى الله تعالى وكونه
كلامه، والاستدلال على ذلك بالعقل والنقل على الوجه الذي كان عليه الصحابة
وأئمة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ولذلك جعلناه في قسم (الإلهيات) ،
وكان مقتضى الترتيب المعقول أن يكون هذا المبحث برمته في قسم النبوات؛ لأن
النبوة إنما تكون بوحي الله وبكلامه، ونتكلم الآن عن الوحي من حيث حاجة البشر
إليه وحال من جاؤوا به.
المسألة (53) : الأرواح الخالدة
الاعتقاد بأن للبشر أرواحًا تبقى بعد الموت، ولها حياة أخرى بعد هذه الحياة
الدنيا هو الأساس الذي قام عليه بناء الدين المطلق، فلولاه لم يكن للدين معنى ولا
فائدة، بل لم يوجد أصلاً، وكل فائدة أفادها الدين للبشر من وثنيين وموحدين
فمصدرها هذا الاعتقاد، ما علّم قدماء المصريين صناعة البناء، وما يتبعها ويلزمها
من الهندسة وجر الأثقال، حتى بنوا مثل الأهرام وغير ذلك من العلوم والصناعات
إلا الاعتقاد بخلود النفس، وكذلك قل في الكلدانيين والصينيين والهنود واليونانيين
والرومانيين والفرس والإسرائيليين والعرب.
هذا الاعتقاد فطري في البشر، ولذلك وجد في كل جيل من أجيالهم في كل
طور من أطوارهم فليس هو من استنباط الأفكار، ولا من التخيلات والتصورات
فتتحكم فيه الأنظار، نعم لما ولع الناس بالعلوم النظرية ابتلوا بالتشكيك في كل
شيء، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، ومنهم من أنكر الروح، ولكن هذا
الإنكار لم يلتفت إليه إلا نفر قليل من المستعبدين لنظرياتهم؛ لأنهم يقربون من
السفسطائية الذين أنكروا كل شيء حتى أنفسهم وحتى إنكارهم، وقد وُجد - والحمد
لله - من النظار من رد على منكري الروح بنظريات موجبة أقوى من نظرياتهم
السالبة، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك؛ لأننا نخاطب في دروسنا قومًا لم
يبتلوا بإنكار أنفسهم وأرواحهم.
هذه مقدمة تمهيدية لبيان الحاجة إلى الوحي وإرسال الرسل، ولا بد منها في
إثبات كون الوحي هو الذي يبين طرق السعادة في الحياة الآخرة، وهذا هو جزء
الغرض وتمامه أن نبين أننا محتاجون إلى الوحي في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة
جميعًا؛ لأننا نعتقد أن في اتباع الدين سعادة الدارين كما بيناه في المسألة الأولى من
الدرس الأول.
م (54) الحاجة إلى الوحي في الدنيا
لا نزاع في أن الإنسان خُلق ليعيش مجتمعًا، أو كما يقول الحكماء:
(الإنسان مدني بالطبع) ، ولم يعط من الإلهام الفطري ما يغنيه عن التعلم
والتربية بل خلقه الله محتاجًا لكل شيء وعاجزًا عن كل شيء بنفسه، ولذلك
أعطاه خالقه استعدادًا غير محدود، وجعل رغائبه وأمانيه غير محدودة، ابتلاه
بشهوات تسوقه إلى تحصيل رغائبه، وأعطاه قوى يستعين بها على ذلك ويدافع بها
من ينازعه أو يصده عنه، ولا شك أن هذه الرغائب والشهوات تكون مثارات
للتنازع بين ذويها؛ إذ ليس في فطرة الإنسان ولا في طبيعة الأكوان ما يوقف كل
إنسان عند حد من حظوظه لا يتعداه، نعم إن نوع الإنسان يتربى بالعلم؛ ولكن هذه
التربية ما كانت كافية له في جيل من أجياله للوقوف عند حد يعيِّن لكل فرد من
أفراده حقوقه وواجباته على وجه ملزم له بالوقوف عنده إلا بالدين، وكل دين
تصلح به شؤون البشر فهو حق منبعه الوحي الإلهي، وإن كنا نجهل مبدأ كل دين
عُرف في التاريخ أنه أحدث إصلاحًا، وكيفية طروء التحريف والتغيير عليه
حتى صار إصلاحه مشوبًا بإفساد.
يبلغ البشر بالاستفادة من التربية الكونية بالتدريج الطويل مبلغًا عظيمًا، ثم
يكونون على ما أوتوه من علم وحكمة أبعد عن التهذيب والإصلاح، وهم في
نهايتهم من أهل الدين في بدايتهم، وأعظم عبرة أمامنا الأمم الأوربية؛ فإن العلوم
الكونية قد ارتقت عندهم ارتقاء لم يُعْرَف له مثل في تاريخ الإنسان وقد صلح بها
وبما بقي من آثار الدين عندهم حالهم الدنيوي؛ ولكنهم لا يقاربون في هذا الصلاح
ما كان عليه المسلمون في العصر الأول عندما كان صلاحهم بالدين وحده غير
مدعوم بالعلوم الكونية والتربية العالمية، هل بلغ ملك أوربي في العدل والرحمة
وسائر الفضائل مبلغ أحد الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل الإسلام وحوشًا ضارية
يفترس بعضها بعضًا، فرباهم الدين على الكبر تربية تعجز عنها العلوم الكونية
بدون تعليم الوحي الصحيح، وإن مخضها الدهر بضع قرون، انظر إلى فظائع
أبناء القرن العشرين في الصين، وراجع تاريخ أهل القرن الأول من المسلمين،
انظر كيف ساوى عمر بن الخطاب بين صهر الرسول عليه الصلاة والسلام وابن
عمه وبين رجل من آحاد اليهود، وكيف أن دول أوروبا لا ترضى بمساواة أحقر
صعلوك من بلادها لأعظم أمير شرقي في الحقوق، انظر كيف افتتحت تلك الشراذم
من المسلمين بلاد الروم والفرس والفراعنة فكان أهلها راضين بحكمهم مفضلين لهم
على قومهم وأبناء ملتهم؛ حتى ترك معظمهم لغته ودينه طائعًا مختارًا من غير دعاة
تناديهم ولا مدارس تربيهم، وكيف أن الأوربيين يدخلون البلاد فلا يرون من أهلها
إلا كراهة ومقتًا يتضاعف ويزداد بازدياد أيام حكمهم، مع أنه ما تسنى لهم دخول
أرض إلا بعدما جار أهلها عن صراط الدين واستهانوا بالعدل، انظر كيف كان
المسلمون في بداوتهم يدخلون البلاد، فيطهرونها من الأرجاس الظاهرة والباطنة،
وكيف أن الأوربيين ما دخلوا قرية إلا وأفسدوا أخلاق أهلها وآدابهم بالخمر والفحش
والميسر ولا سعة معنا في هذا الدرس لتمام المقابلة بين مدنية المسلمين في القرن
الأول ومدنية أوروبا في القرن العشرين، أو القرن الخامس من قرون ترقيها في
الحضارة - سنبسط الكلام عن المدنيتين في غير هذه الدروس من أجزاء المنار
الآتية إن شاء الله تعالى.
نعم إن المسلمين انحرفوا عن صراط سلفهم فأدبهم الله تعالى بسلب كثير مما كان
أعطاهم، ولذلك ذهب بهاء دينهم قبل أن تكمل مدنيتهم المادية، ونرجو أن يكون ما
حل بهم من العقوبة كافيًا لإنابتهم ورجوعهم إلى رشدهم، وعند ذلك إذا قالوا يسمع
لهم، وإذا افتخروا يشهد العالم بصدقهم في فخارهم فهم الآن حجة من لا دين له على
كل دين؛ لأن دينهم إذا لم يكن طريقًا لسعادة الدنيا فلا يمكن أن يكون سواه، وإن
قررت القوة خلاف ما قررناه.
للكلام تتمة
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ضاق هذا العدد عن نشر تفسير القرآن لفضيلة مفتي الديار المصرية.(4/9)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رواية عربية
أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي فقال: بلغني أنه
كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك فَتَّاكًا شجاعًا قد أغار على أهل
حجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه
بتلاعب جحدر به ويأمره بالاجتهاد في طلبه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى
فتية من بني يربوع فجعل لهم جُعْلاً عظيمًا إن هم قتلوا جحدرًا، أو أتوا به أسيرًا،
فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبًا منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به
فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرة شدوه كتافًا وقدموا به على العامل،
فوجه به معهم إلى الحجاج فلما أُدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا
جحدر بن مالك. قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان وجفاء
السلطان وكَلَب الزمان. قال: وما الذي بلغ منك فجرأ جنانك؟ قال: لو بلاني
الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، ولوجدني من أنصح
رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسًا قط إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا. قال له
الحجاج: إنا قاذفون بك في حائر فيه أسد عاقر ضار فإن هو قتلك كفانا مؤنتك،
وإن أنت قتلته خلينا سبيلك. قال: أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة.
قال الحجاج: فإنا لسنا تاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد. فأمر الحجاج فغُلت
يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن، فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة:
تحمل عني شعرًا. وأنشأ يقول:
تأوَّبني فبت لها كنيعًا ... هموم لا تفارقني حوان [1]
هي العوَّاد لا عوَّاد قومي ... أطلن عيادتي في ذا المكان
إذا ما قلت قد أجلين عني ... ثنى ريعانهن عليَّ ثان [2]
فإن مقر منزلهن قلبي ... فقد أنفهنه فالقلب آن [3]
أليس الله يعلم أن قلبي ... يحبك أيها البرق اليماني
وأهوى أعيد إليك طرفي ... على عدواء من شغل وشان [4]
ألا قد هاجني فازددت شوقًا ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غَرَب وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحذو ... ببعض الطير ماذا تحذوان
فقالا الدار جامعة قريبًا ... فقلت بل أنتما متمنيان
فكان البان إن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني
بلى وترى الهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني
فما بين التفرق غير سبع ... بقين من المحرم أو ثمان
فيا أخوي من جشم بن سعد ... أقلا اللوم إن لم تنفعاني
إذا جاوزتما سعفات حجر ... وأودية اليماني فانعياني
إلى قوم إذا سمعوا بنعيي ... بكى شبانهم وبكى الغواني
وقولا جحدر أمسى رهينًا ... يحاذر وقع مصقول يماني
يحاذر صولة الحجاج ظلمًا ... وما الحجاج ظلامًا لجان
ألم ترني عددت أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مِجنّ جان
فإن أهلك قرب فتى سيبكي ... على مهذب رخص البنان
ولم أك ما قضيت ذنوب نفسي ... ولا حق المهند والسنان
قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسد ضار عاتٍ يجر
على عجل، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به، فجعل في حائر [5]
وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر، فأُتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى
عنقه، وأُعطي سيفًا، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم فلما نظر جحدر إلى الأسد
أنشأ يقول:
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك
وشدة في نفسه وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك
فهو أحق منزل بترك ...
فلما نظره الأسد زأر زأرةً شديدةً، وتمطى، وأقبل نحوه، فلما صار منه
على قيد رمح وثب وثبةً شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط
ذباب السيف لهواته، فخرَّ الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على
ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبَّر الحجاج والناس جميعًا وأكرم
جحدرًا وأحسن جائزته. وأخرجه ابن بكار في الموفقيات بطوله من طريق آخر
عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، ولجحدر في الأسد قصيدة
بديعة نذكرها في جزء آخر.
__________
(1) تأوبني: أتاني ليلاً، وكنيعًا: من كنع إذا خضع ولان، والحواني: فُسر بأنه من الحين بالفتح، وهو الهلاك فهو إذن مقلوب أصله حوائن جمع حائنة، وهي النازلة المهلكة.
(2) ريعان كل شيء: أوله.
(3) أنفهه: أتعبه وأعياه، والآني: المتناهي الحرارة.
(4) العُدَواء بضم ففتح: المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه، وعدواء الشغل: موانعه.
(5) الحائر: شبه حوض يجمع فيه ماء المطر.(4/13)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
بين يدينا الآن 14 مصنفًا من المطبوعات الحديثة بعضها من المؤلفات القديمة
وبعضها من الحديثة، ولم نوفق لمطالعتها فننتقدها؛ ولكننا ننوه بها في الجملة
مكتفين بتصفح بعض صفحاتها.
(إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق)
كتاب جليل وسفر كبير ألفه السيد أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني أحد
مجتهدي القرن الثامن الهجري، وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية في مطبعة
الآداب والمؤيد بالإتقان والنظافة المعهودين في الكتب التي تطبعها، الكتاب في
أصول العقائد، وقد اقتصر فيه على ما نطق به الكتاب والسنة غالبًا، وترك الخوض
في النظريات الفلسفية التي زادوها في علم عقائد الدين؛ ولكنه توسع كغيره فيما
توسع فيه المتكلمون كمسألة خلق الأفعال، ومسألة الصفات، ونقل كثيرًا من كلام
النظار، والمزية الكبرى التي امتاز بها كتابه على كتب العقائد المتداولة أنه لم
يتعصب لمذهب مخصوص، ولم يخف اللائمة في تقرير ما يعتقده إن كان مخالفًا
لما عليه الناس؛ لأنه آثر الحق على الخلق، وهو أقرب إلى أهل الأثر منه إلى
أهل النظر، وعهدنا بأكثر المتكلمين التقصير في علم الرواية، ويمكننا أن نقول:
ينبغي لكل مشتغل بعلم الدين الاطلاع على هذا الكتاب.
***
(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)
يذكرنا التنويه بهذا الكتاب كل مصنف تطبعه هذه الشركة؛ فإنه كان نادر
الوجود، وهو من أجلّ الكتب الإسلامية ومؤلفه العلامة شمس الدين محمد بن قيم
الجوزية وهو يُطلب كسابقه من إدارة المؤيد، ومن جميع المكاتب بمصر.
***
(الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية)
كتاب ألفه ونشره بالطبع حديثًا صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي فريد
وجدي واسمه يدل على موضوعه، بحث فيه مباحث دينية عصرية على طريقته
الجديدة في هذه المباحث، وتكلم فيه عن الإنسان والإيمان، وعن الإيمان في دور
الفطرة، ودور الفلسفة، ودور العلم، وانتقل من هذا إلى شُبه ملاحدة الماديين
وإبطالها، ثم عقد فصلاً آخر في المادة وما وراءها، وبيان انتهاء دور الإلحاد،
وأطال في هذا الفصل الكلام في مسألة استحضار الأرواح، ثم تكلم عن الإيمان في
الدور الرابع وهو رجوع الإنسان إلى دور الفطرة الأولى، وبيان أن الإسلام هو
دين الفطرة وهذا خاتمة الكتاب، أما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي،
وعلى أحسن ورق فيها، وثمنه ثمانية قروش، فنحث القراء على الاطلاع عليه،
ولا سيما أبناء المدارس النظامية الذين يدرسون العلوم العصرية، ولعلنا نوفق للعود
إلى الكلام فيه بعد تمام مطالعته.
***
(تاريخ آداب اللغة العربية)
لما علم الكاتب الأديب محمد بك دياب المفتش الثاني للغة العربية في نظارة
المعارف أن بعض علماء ألمانيا عنوا بالتأليف في تاريخ آداب لغتنا الشريفة هزته
الأريحية العربية إلى إجابة اقتراح صديق له في تأليف هذا الكتاب تاريخ آداب اللغة
وقد أصدر منه بالطبع جزآن، طُبع أولهما في مطبعة جريدة الإسلام، والآخر في
مطبعة الترقي المتقنة، وفي كل جزء منهما ما لا يستغنى عن الوقوف عليه من
الفوائد، كالكلام في نشأة اللغة وترقيها، وتاريخ الكتابة العربية والخط وتاريخ
المصنفات، وتاريخ الفنون والإنشاء فهذه الموضوعات تفتح للمشتغلين بهذا الفن
أبوابًا واسعة في البحث والتحرير.
ولا يسلم الكتاب من نقد، لا سيما في المباحث المبتكرة فقد فتحته لهذا
الغرض، فجاء أمامي الكلام على كتاب (أساس البلاغة) للزمخشري فرأيت
المصنف ذهب في الكلام عليه مذهب من يرى أنه معجم من معاجم اللغة فإنه قال:
(والكتاب ليس قاصرًا على إفادة اللغة، بل يرشد أيضًا إلى مناهج الإنشاء لكثرة ما
فيه من السجع والشواهد والأمثال) ، فجعل إفادة معاني الكلم هو الغرض الأول،
والإرشاد إلى مناهج الإنشاء أمرًا عرضيًّا وثانويًّا، ثم قال: (ولحسن ترتيبه يسهل
على الطالب الكشف منه على معاني الكلم؛ لكن ربما أبطأ به عن نوال (كذا)
المطلوب اقتصار المؤلف في الغالب على وضع الكلمات في التراكيب دون ذكر
معانيها صراحًا اعتمادًا على فهم المطالع، واستنباطه معنى الكلمة من الجملة، فلهذا
ربما يصح أن يقال: إنه كتاب مطالعة لا مراجعة، وههنا قارب الصواب، وهو أن
الكتاب إنما وضع لبيان التراكيب المختارة، والأساليب البليغة في جميع ضروب
القول ومناحيه، فهو كتاب دراسة ومطالعة حتمًا، وتدل خطبته على ذلك، فليرجع
إليها من شاء، وسننشر شيئًا من مختارات الكتاب في جزء آخر.
***
(أنيس الجليس)
هي - ولا أزيد القراء معرفة بها - المجلة النسائية العربية الوحيدة المعروفة
بحسن الاختيار للمواضيع الأدبية والتهذيبية الجديرة باطلاع السيدات عليها، وقد
دخلت في سنتها الرابعة، فنهنئ منشئتها الفاضلة البارعة ألكسندرة أفرينوه بنجاحها
ونرجو لمجلتها الغراء زيادة الاشتهار ودوام الانتشار.
__________(4/16)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
الطريق القويم للتربية والتعليم [1]
(27) من أراسم إلى هيلانة في 2 أغسطس سنة 185
أذكر أن رجلاً فاضلاً من أصدقائي كان قد وجد في نفسه انبعاثًا إلى التربية،
فأوجب عليها الاشتغال بها، ثم إنه انتُدِب لإدارة مدرسة كان غيره أنشأها، فألفى
نظام التأديب فيها بالغًا من الشدة غايتها؛ إذ رأى فيها أفرادًا من التلامذة يُخصون
بالعقوبة دون غيرهم، فيقضون ساعات الاستراحة في فنائها كل يوم جثيًّا أو قيمًا
في مواقف الجزاء، ولم يكن يعوزها شيء مما تشرف به من طرق العقاب
كالتكليف بمضاعف العمل والحبس والمنع من الخروج؛ لأنها كانت سائرة على
الأصول القديمة القويمة، فما لبث صديقي هذا أن أبطل كل ذلك النظام التعذيبي
دفعة واحدة لعلمه بأنه لا يرهب إلا الجبناء، ولا ينشأ عنه أثر للتهذيب في نفوس
المتعلمين، وقال للتلامذة: أنا أعلم من سيعاقبكم بعد الآن إن أنتم أسأتم؛ ذلك هو
وجدانكم الذي لا ينجو من سوط عذابه من أعفي من ضرب العصا.
كان شعار هذا المربي في تعليمه: (لا قلنسوة لعالم، ولا لحمار) [2] .
وكان التلامذة قبل وجوده في المدرسة لا يتسنى لهم أن يخطوا خطوة في
دهاليزها الطويلة وفي عرصاتها وقاعاتها الفسيحة إلا وهم مصطفون مثنى مثنى
تحت رعاية كبير لهم، كانوا يسمونه ضابط الرجالة تهكمًا به، ويكرهونه من
صميم أفئدتهم ولا يفترون عن مماحكته وابتلائه بضروب الحيل والخبث، فجمعهم
المعلم الجديد ليلقي عليهم نبأ عظيمًا، فقال لهم: اعلموا أنكم من الغد أحرار، لا
سيطرة لأحد عليكم، وأنه لن يرعاكم في سيركم وسيرتكم سوى عين الواجب الذي
تشعرون به. ولا أراني بعد هذا في حاجة إلى القول بأن كلاًّ منهم بمجرد سماعه
هذا التنبيه قد اعتبر طاعة النظام من أمس الأمور به وألزمها له.
وبينما كان في يوم من الأيام مجتازًا حديقة المدرسة بصر بتلميذ تسلق عريشة
كرم ممتد على جدار عتيق، يتدفق من فوقه ضوء الشمس، وأنشأ يأكل من قطوفه
أكلاً لمًّا، فتظاهر له بالغفلة عن فعله، ورجاه أن يلتمس له أمين المدرسة، فأتاه من
فوره يتبعه الغلام النهاب والريبة تدب إلى نفسه، فقال المدير للأمين: كيف يصح
أيها السيد أن لا يعطى هذا الغلام من الطعام كفايته؛ فإنه لم يكد يخرج من قاعة
المائدة حتى جاء إلى الكرم وطفق يجني قطوفه خلسة، فأرجو أن تأخذه الآن بنفسك
وترده إلى المطعم ليأكل ما يكفيه.
كان هذا المربي أقل الناس شبهًا بمديري المدارس، وكان من أجل ذلك
محبوبًا لتلامذته، فإني كثيرًا ما رثيت لحال معلم الأطفال الذي هو شهيد الشهداء
لمقتهم إياه مع إحسانه إليهم، وعلى كل حال لست أدري إن كنت مخطئًا في ذلك،
أو مصيبًا، وإني لا أخال الطفل كفورًا بنعمة معلميه؛ ولكنهم هم الذين أرادوا أن
يطعموه من باكورة العلم صابًا وعلقمًا، كيف لا وفي التعلم سعادة المتعلمين، وفي
التمرين والتدريب حياة لكل قوة من قوى الإنسان، ولا شيء إلا وهو يطلب الوجود
والظهور والنمو، وهكذا شأن التلميذ؛ وإنما القهر هو الذي يحيل فرحه إلى ترح،
ومرحه إلى خمود؛ فإنه يجيء إلى المدرسة وللحياة فيه دوي كدوي النحل، فيجد
مديرها عابس الوجه متمسكًا بالكتب، واثقًا بها ثقة الظالم الغاشم، فيا له من تنشيط
للأحداث وترغيب لهم في التعليم! !
الكتاب الذي ينبغي أن يتعلم منه الحدث هو صحيفة الموجودات، والمدارس
خلو منها.
إنك إذا دخلت غرفة من غرف المدارس لا تجدين فيها سوى مكاتب ملطخة
بالمداد، ومقاعد من الخشب غير مستوية القوائم، وجدرانًا أربعة عارية من الزينة
وسقفًا مرفوعًا على خُشب غليظة خشنة، يمتد بينها نسيج العناكب التي هي
عوامل الضجر المحزنة، فإذا نظرت خارج تلك الغرفة من نوافذها المفتوحة رأيت
الطيور مطلقة السراح مغردة في الجو كأنها تسخر من التلامذة؛ فإن الكون
الخارجي كله أصوات وأضواء وأشكال وألوان تدعو الطفل إلى التعلم بواسطة
مشاعره، وأما هذه الغرفة فلا شيء فيها يستلفت نظره، فقلما يوجد فيها صورة
وشيء من خرائط تقويم البلدان، وما عساه يوجد من الصور فدميم قبيح، ومن
الخرائط فهو يشبه خط قدماء المصريين في غموضه وتجرده من الرونق وقصوره
عن تمام البيان، فأقسم بالله على المتولين أمر التربية أن يدخلوا في هذه المقابر
التي أعدوها للأحداث نفحة من نفحات العالم الخارجي، وشعاعًا من أشعة الحياة.
كل أمة تُعنى بالتربية حق العناية ينبغي أن لا تخلو مدرسة من مدارسها من
نظارة معظمة (ميكروسكوب) لمضاعفة أجرام الأشياء التي لا تُرى بمجرد النظر
ومن مِرْقَب (تلسكوب) تسهل به رؤية أشكال أقرب الكواكب إلى الأرض، ومن
كرة جوفاء تمثل في باطنها أقسام الدنيا (جيوراما) ، ومن مَرْبى للحيوانات
والنباتات المائية، ومرآة للصور الماثلة (أستيريوسكوب) ، وبالجملة يجب أن
يوجد فيها جميع الأدوات اللازمة لتحصيل معنى الكون وآياته الكبرى في أذهان
الناشئين.
اعلمي أن اللفظ والخط طريقتان قاصرتان جدًّا عن إيصال العلوم إلى نفس
الحدث، وأن اللازم له إنما هو رؤية الأشياء، فلمربيه توجيه فكره ولو قبل تعليمه
القراءة إلى أمور كثيرة لا تخرج بحال عن متناوله وإدراكه، ورأيي فيما عليه
المربون الآن هو أنهم يفرطون في التعجيل بتعليمه بعضًا من فروع العلم كان حقها
التأجيل، وفي تأجيل بعض آخر كان أولى بالتعجيل، وكان يجب عليهم في اختيار
العلوم وترتيبها أن يرجعوا إلى درس القوانين التي يجري عليها الإنسان في نمو
جسمه ونفسه وعقله.
قولهم: (لما يجيء وقتي) ، كلمة تصدق على معظم قوى الإنسان في ساعة
ما من عمره، فالطفل يدرك من الأشياء أبعادها وعلاماتها الظاهرة؛ ولكن عقله في
غاية القصور عن الإحاطة بما بينها من الروابط، فهو أشد قصورًا عن النفوذ فيما
تجري عليه من القوانين، وعن تتبع سلسلة الأسباب التي نشأت عنها خصوصًا،
واليافع يتأثر بالقضايا الشعرية وترتاح نفسه إليها، ولا يميل إلى القضايا المنطقية
والأصول الحكمية، ومن حاول استمالته إليها فقد عبث؛ والسبب في هذا أن
ضروب الاستعداد المناسبة لهذه العلوم العقلية لما توجد فيه، أو أنه لم يوجد منها إلا
جراثيمها، فالإدراك لفظ عام يدخل في مفهومه عدة قوى متمايزة كل التمايز لا تنمو
إلا بالتدريج، ولكل منها طور كمون، ثم تظهر تابعة في ذلك لجملة من الحوادث
تتغير بتغير الأشخاص وما يحيط بهم؛ ولكنها على التحقيق محدودة بنواميس الكون
والزمان، فأفكارنا ووجداناتنا لها أعمار كأعمارنا.
الشيء الواحد يقتضي أن يتعلمه الإنسان عدة مرات ومن وجوه مختلفة، خذي
لك مثلاً: الطفل لا يرى في الوردة بادئ بدء إلا وردة، ثم إذا نمت فيه قوة الإدراك
قليلاً انتزع من شكلها ولونها ورائحتها مثالاً عقليًّا ممتازًا يعرف به الوردة كلما
وقعت في يده، وهو في هذا الطور من الحياة لا يهتم بمرتبتها التي عينها لها علماء
النبات في ترتيبهم، ولا بتركيبها ومعيشتها، فتلك طائفة من الشؤون والأفكار يجب
على مربيه الاحتراس التام من الخوض معه فيها إذا كان يعنيه أن لا يُضل مدركته
وكذلك الشأن في جميع الموجودات.
إذا أردت أن أعلم (أميل) علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) مثلاً، وهو
العلم الذي يعتبره العارفون أبا العلوم، فإني أنبهه أولاً إلى ما يوجد في الأحجار،
بل في حصا الطرق من أشكال المخلوقات العضوية المنطبعة عليها؛ فإن حبه
للاستطلاع وميله للاستئثار بالمعرفة مع مساعدة الفرص يعودانه في أقرب وقت
على تمييز أهم العلامات التي توجد في دفائن الأرض من بقايا تلك المخلوقات،
فجميع ذلك مناسب لسنه أو قريب منه، ثم بعد ذلك ببضع سنين أدعوه إلى أن
يقيس ما يكون قد جمعه من هذه النموذجات بعضه ببعض، وأن يرتبها على حسب
ما بينها من التشابه، وفي هذا الوقت دون غيره أتلطف في تسريب معنى أطوار
الأرض وعهودها إلى ذهنه، وأقص عليه تاريخها مستعينًا بتلك الحصا والحجارة،
فقد قال شكسبير: (إن في الحجارة لموعظة وذكرى) ، وأنا أقول: إن فيها ما هو
أسمى من ذلك، فهي وحي يعلمنا كيف خلقت الأرض، ثم إذا بلغ إميل الثامنة
عشرة أو التاسعة عشرة من عمره؛ أي: صار في سن يؤهله لفهم كل ما أقوله له
حق الفهم استعنت بعلم طبقات الأرض على تعليمه حكمة التاريخ، فهو أمثل مقدمة
لها.
فيما كاشفتك به من أفكاري هذه غناء عن تعريفك أننا لا ينبغي لنا في تعليم
إميل أن نعول على شيء من المؤلفات الموجودة، فالوجيزة منها والصغيرة والكتب
المدرسية التي بين أيدي الأطفال جميعها وضعت لغير الوجهة التي نقصدها؛ فإنها
مختصرات علمية توهم واضعوها أنها تكون ملائمة لإدراك الأحداث بسهولة
عباراتها، وليس العيب ههنا في شكل الكتب، وإنما هو في أصل وضعها؛ فإن
أول شيء يتسنى للطفل إدراكه من نظام الكون هو ما يدركه منه الإنسان في أول
نشأته قبل تقدم العلوم وتقسيمها، فالمعلمون لا يفتؤون ينسون أن التعاريف والتقاسيم
والقوانين لم توجد إلا بعد التجارب، كما أن علوم اللغة متأخرة عنها في الوجود،
وكذلك علوم الدين. ويغيب عن أذهانهم أن علوم الإنسان لم تتكون ألبتة بالصورة
التي يتعلمها عليها الأحداث الآن؛ فإن الإنسان لم يصل إلى إيجاد طائفة من العلم
محدودة إلا بالانتقال من حادثة جزئية إلى أخرى، ومن سلسلة من الحوادث مرتبطة
بعضها ببعض إلى غيرها، وبعد أن وجدت له طائفة منها نشأ يستنبط لها القوانين
التي تضبطها، ثم تفرعت دوحة المعارف وتمايزت فروعها وانفصل كل علم عن
الآخر.
فالجري في تعليم الطفل على غير هذه الطريقة قلب لنظام عقل الإنسان،
فالمعلمون إنما يلقون عليه نتائج العلوم وخلاصاتها قبل أن تؤسس قوته الحاكمة
بمبادئها، وتدعم بمقدماتها، فترينهم ينحدرون مرة واحدة من الذروة التي رقى إليها
العلم في عصرنا بعمل الأجيال الماضية إلى ما هو فيه من حضيض الجهل، والذي
يستحسن أولئك المعلمون تسميته مبادئ العلوم إنما هو في حق الطفل من ثمرات
العقل المبالغ في تحضيرها، ومن نتائج ربط الأشياء بعضها ببعض.
أنا لا أجري على هذه الطريقة في تعليم (أميل) فإني أود قبل أن أعلمه
تاريخ الموجودات أن أعرفه بما في الكون، فأجعل له به أنسًا بأن أوجه نظره إلى
حوادث الحرارة والوضوء والكهرباء قبل تعليمه قوانين علم الطبيعة، وأعلمه شيئًا
من أوصاف أشكال الأجرام السماوية ومواقعها من قبة الفلك قبل الخوض معه في
علم الهيئة، بل إن قصدي إلى أن أشرح له في المستقبل ما أعلمه من نواميس
الكون أقل بكثير منه إلى إيقاظ وجدان الملاحظة فيه؛ فإن تعليم الطفل ليس بشيء
يذكر، وإنما الأمر الخطير هو أن يؤتى وسيلة التعلم بنفسه وتحرك فيه دواعي
الإقبال عليه، فدروسي لإميل كلها لا يكون فيها إلا ما كان له شأن في تنبيه عقله
وتقويته؛ لأنه مرجع جميع علومنا على اختلافها.
قد رأيت مما قدمته لك أنه قد قضي عليك أن تكوني (لأميل) كتابًا يأخذ عنه
علمه، فلا تستعيني بشيء من صغار الكتب وموجزاتها ومختصراتها، وعليك أن
تلتمسي له أبسط المعاني وأليقها بحالة إدراكه مع التدرج في ذلك بحسب ارتقائه في
الفهم، وأن تجعلي تعليمك مطابقًا لأحوال سنه اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معرب من كتاب (أميل القرن التاسع عشر) .
(2) القلنسوة في نظام التعليم الأوروبي شارة العلماء ينالها من أتم دراسته وأدى الامتحان فيها.(4/19)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المرأة الجديدة - تتمة التقريظ
وأما الفصل الخامس ففي التربية والحجاب، وأهم مسائله:
1- قوله: إن الحجاب جعل المرأة في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملاً
ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شؤونها المعاشية بكفاءة مساوية
لكفاءة الرجل، وإن ضرره الأعظم أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.
2- وإنه ينبغي أن تربى كتربية الرجل في جسمها وآدابها وعقلها.
3- وقوله: (متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها
الجسمية وملكاتها العقلية وبلغت الخامسة عشرة من عمرها، ينبغي أن تطلق لها
الحرية في مخالطة الرجال؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل
يستدعي قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل
المادية بينه وبين النقائص، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية؛ وإنما تتولد
بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها، فمزاولة الأعمال
ومشاهدة الحوادث واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب كل هذه
الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة حتى تبلغ
أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتهبط إلى أسفل الدركات) اهـ.
4- وذكر قول معترض حض على النظر إلى مدنيتنا القديمة التي ذكر من
أصولها احتجاب النساء، وقال: إنها نفس الكمال: والرد عليه بوجوب أخذ الأهبة
لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، وذلك
بالالتفات إلى المدنية الإسلامية، ووزنها بميزان العقل والتدبر في أسباب ارتقاء
الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، واستخلاص قاعدة من ذلك يمكننا أن نقيم عليه
بناء ننتفع به اليوم، أو في ما يستقبل من الزمان.
ثم ذكر ظهور الإسلام في جزيرة العرب وفتوحاته، وأخذ العلوم والصنائع
ممن فتح المسلمون بلادهم، وما كان من النهضة العلمية، وقال بعد ذلك ما نصه:
(على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية الأساس الديني الذي كوَّن من القبائل
العربية أمة واحدة خاضعة لحاكم واحد ولشرع واحد، والأساس العلمي الذي ارتقت
به عقول الأمة الإسلامية وآدابها إلى الحد الذي كان في استطاعتها أن تصل إليه في
ذلك العهد) ، ثم ذكر أن قوة العلم كانت ضعيفة في ذلك العصر وأكثر أصوله ظنية
وأن الفقهاء تغلبوا على رجال العلم ورموهم بالكفر والزندقة حتى نفر الناس من
دراسة العلم، قال: (ثم غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم
الدينية نفسها: إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. فقرروا أن ما
وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا
من قواعد الدين أن تُسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين) ، ثم عقب هذا بكلمة
جليلة ذكر بعدها ما كان من ارتقاء العلم في أوربا وهي: (هذا النزاع الذي قام بين
أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول: بين الدين والعلم لم يكن خاصًّا بالأمم الإسلامية،
بل وقع كذلك عند الأمم الأوربية) ، ثم ذكر بعض الاكتشافات الحديثة في العلم،
وتغلب أهله على رجال الدين واستنتج من ذلك قوله:
(فإذا كان التمدن الإسلامي بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول
العلوم كما بيناه، فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان (نموذج الكمال البشري)
يهمنا أن لا نبخس أسلافنا حقهم، ولا ننقص من شأنهم؛ ولكن يهمنا مع ذلك أن
لا نغش أنفسنا بأن نتخيل أنهم وصلوا إلى غاية من الكمال ليس وراءها غاية، نحن
طلاب حقيقة إذا عثرنا عليها جهرنا بها مهما تألم القراء من سماعها، لذلك نرى من
الواجب علينا أن نقول: إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف
على ظواهره وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب
عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكمَّلت به ما كان ناقصًا منها في
بعض أدوارها؛ ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام
معيشتنا الاجتماعية الحالية) اهـ.
وقد بيَّن السبب في عدم هذا الإمكان من جهة العلوم الكونية قبله، وبين بعد
سبب ذلك من جهة النظامات السياسية، وانتقد السلطة المطلقة التي جرى عليها
الخلفاء والملوك، وما كان فيها من الاستبداد الذي ساعد عليه عدم تحديد الفقهاء
للعقوبات، بل تركوا أنواع التعزير مفوضة للحاكم، ثم بيَّن أنه لم يكن عندهم شيء
من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى إن ابن خلدون لم يذكر في كتابه،
- وهو الكتاب الوحيد الذي وضع عند المسلمين في الأصول الاجتماعية - كلمة
واحدة في العائلة، ثم بين أن الحالة العائلية كانت خالية من كل نظام، ثم بيَّن ذلك من
جهة الآداب، فذكر أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة فيها، وأما عملهم بها
فذكر أن التاريخ يشهد على أن كل عصر لا يخلو من الطيب والرديء، وأشار إلى
أهم ما يُنتقد على المسلمين كتمزيق الدولة العربية بالمنازعات الداخلية، وكشرب
بعض الأمراء والعظماء الخمر جهرًا في مجالس الجواري والقيان وغير ذلك، ثم قرر
بعد ذلك الرد على من قال: إن المدنية الإسلامية كانت (نموذج الكمال البشري) ،
وإن المسلمين كانوا حائزين جميع أنواع (الكمالات الأخلاقية الصحيحة) ، وقرر أن
الحجاب إذا كان عادة من عاداتهم التي لم تكن كلها كاملة فلا ينافي ذلك أنه لا يليق في
عصرنا، ثم قال ما نصه بالحرف: (وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدنية
الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنائع
والآداب والعادات التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها، ذلك لأن
عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية، فهو على ما به من
قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرًا مناسبًا لدرجة عقول وآداب الأمم التي
سبقت، ثم حتم بوجوب بناء مدنيتنا على العلوم العصرية التي بنى عليها الأوربيون
مدنيتهم) .
والمسألة (5) من مهمات هذا الفصل البحث في زعم الذين يعترفون بتقدم
الغربيين علينا في الصنائع وإنكار تقدمهم في الآداب، ولم يُبق الإسهاب في المسألة
الرابعة مجالاً لتلخيص شيء منها، وإنما أطلت في هذه لأنها أهم مسائل الكتاب في
الحقيقة؛ ولأن الناس يلغطون فيها قولاً وكتابة على غير بصيرة، بل يكذبون على
المؤلف ويتهمونه بأنه طعن بالدين الإسلامي نفسه، وقال: إنه غير كاف لمدنية
المسلمين في هذا العصر. ونحو ذلك مما يرمي به من لا قيمة للصدق ولا للدين في
نفوسهم، نعم إن كلامه في هذا الموضوع لا يسلم من استدراك وانتقاد سنبينه في
بقية مقالاتنا في مدنية العرب، وأما خاتمة الكتاب فسنكتب عنها شيئًا في الجزء
الآتي إن شاء الله تعالى.
رأي الناس في الكتاب
ورأينا فيه
قلنا في تقريظ كتاب (تحرير المرأة) ما أعدنا معناه في تقريظ المرأة الجديدة
من أننا لم نر في مكتوب العصر شيئًا أثَّر في مسلمي مصر مثل هذين الكتابين،
وكنا قد استبشرنا لهذا التأثر لدلالته على أن في الأمة ذماء ورمقًا من الحياة يهيج
إحساسها للنفور من الضار في اعتقادهم، وإن لم يرتق إلى العناية بالنافع في الأخذ
به؛ ولكن هذا الاستبشار غير صافٍ من الكدورة، ولا محل هنا لبيان السبب في
ذلك؛ إذ لا يفي به إلا مقالة أو مقالات في شعور الأمة ووجدانها وتأثيره في أعمالها.
قلنا في الجزء الماضي: إن من الناس من قرَّظ كتاب المرأة الجديدة، ومن
انتقده، ونذكر ههنا أن المنتقدين هم الأكثرون بحسب ما يظهر لنا من كتابتهم في
الجرائد ومحاوراتهم في الأندية والسمار، يقول هؤلاء المنتقدون: إن هذا الكتاب
وسابقه ما أُلفا إلا لإقناع المسلمين بأن يعطوا نساءهم الحرية المطلقة بمعاشرة من
يردن من الرجال، وأن يكن كنساء الإفرنج مكشوفات الوجوه والرؤوس يختلفن إلى
الملاهي والمراقص، ويذهبن في التهتك كل مذهب. هذا ما يلهج به الجماهير
يتلقفه بعضهم من بعض وأكثرهم لم يقرأ الكتاب، ومنهم من يزيد على ذلك مسألة
المدنية الإسلامية والمدنية الغربية، وقد ذكرنا طعنهم فيها آنفًا.
إن كان الكتابان أُلفا لهاتين الغايتين، أو اشتملا عليها، فنحن وجميع المسلمين
بل وجميع العقلاء نقول: إنهما باطلان جديران بالمقت والرفض؛ لأن ذلك يجر إلى
فتنة في الأرض وفساد كبير، ويكون به خيار نسائنا في التهتك والتبذل أبعد غورًا
من شر نساء الإفرنج؛ لأن لهؤلاء من التربية والعلم الذي لم يصلن إليه إلا بعد عدة
قرون ما ليس لنا شيء منه، ونحن لما نبتدئ بالتربية ابتداء؛ ولكن هل الكتابان
كما يقولون؟ الجواب ما قلناه في تقريظ كتاب تحرير المرأة في العام الماضي من
أن المؤلف غالى في بيان مضار التشديد والمبالغة في الحجاب، وبالغ جدًّا في
جعل نجاح المسلمين متوقفًا على إزالة الحجاب المعهود في الأذهان، والموجود أثره
في الأعيان، بحيث إن هذه المغالاة والمبالغة المصوغة في قالب الأسلوب الكتابي
المؤثر تذهب بوجدان القارئ إلى وجوب تمزيق هذا الحجاب؛ لأنه لم يحجب إلا
العلوم والفضائل عن نصف الأمة.
وقد رأينا من أفاضل المعتدلين في الإنكار على كتاب المرأة الجديدة من قال: إن
هذا هو الضرر الحقيقي من قراءة الكتاب، وقال: إنني كنت أقرأه فأشعر بوجداني قد
تغير واعتقادي بوجوب بقاء الحجاب قد تزلزل واضطرب، فأترك القراءة ليثوب إليّ
وجداني الأول، ويسكن اعتقادي فيه، ثم أعود إليها. فقلت له: ربما تكون هذه
المغالاة مقصودة للمؤلف؛ لأن الداعي إلى شيء ينبغي له لأجل إرجاع من يدعوهم
إلى الاعتدال الذي هو الحق أن يقف على الطرف المقابل لما هم فيه، فإن كانوا في
جانب التفريط يقف في جانب الإفراط؛لينتهي التجاذب بينه وبينهم إلى الوسط، ولو
وقف في الوسط وجذبهم وجذبوه يخرج كل منهما عنه، أو يبقى في محله ولا فائدة في
ذلك، ومن هنا يقول الناس: لا بد من شيء من الباطل لأجل الوصول إلى الحق.
وقد قال الإمام الغزالي: إن وعد القرآن ووعيده مبني على هذه القاعدة فمثل قوله
تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) إنما يعالج الذين غلبت عليهم خشية الله،
والخوف من عذابه، وأفرطوا فيها حتى كادوا يقنطون من رحمته تعالى، وأما
الذين غلب عليهم التهاون وأدى بهم الإفراط في الرجاء إلى الغرور وكادوا يأمنون مكر
الله وعذابه وتجرؤوا على المعاصي، فيجب أن يُعالجوا بمثل قوله تعالى:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) وإذا ذكروا تلك الآية ذُكِّروا بمثل قوله
تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82)
وهكذا يجب أن يكون المرشد كالطبيب يعطي كل مريض ما مست إليه حاجته ويناسب
حاله.
ثم إن من فوائد هذه المبالغة أن أثارت أفكار الناس للبحث، وكل الباحثين أو
جلهم موافق له على سوء حالة المرأة المصرية والمسلمة، ووجوب تربيتها وتعليمها،
وقد كان المانع الأكبر منهما عند الجماهير هو الحجاب؛ ولكنهم يخالفونه في توقف
التربية والتعليم في كمالهما على تخفيف الحجاب أو منعه، فإذا انتهت هذه المناقشات
بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، ويكون
الفضل الأكبر في ذلك لقاسم بك يعترف له بعض المنصفين الآن، ويحفظه التاريخ
إلى آخر الزمان.
استفتاء البابلي في المرأة الجديدة
من أعجب ما أحدثه كتاب (المرأة الجديدة) في نفوس الناس أن محمد أفندي
عبده البابلي كتب إلى فضيلة مفتي الديار المصرية كتابًا مفتوحًا وزَّعه على الناس
ونشره في الجرائد يسأل فيه: (هل رفع الحجاب عن المرأة وإطلاقها في سبيل
حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب المرأة الجديدة يسمح به الشرع الشريف
أم لا؟) ، ثم طبع استلفاتًا إلى هذا الكتاب المفتوح، ووزَّعه في الأزقة والشوارع،
وأرسله إلى الجرائد قبل أن يرسله إلى فضيلة المفتي المخاطب به، حتى إن الإستاذ
المفتي لم يعلم به إلا بعد أن أطلعته أنا عليه، ونحن نجيب هذا السائل المستلفت
فنقول:
(1) إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود في مثله، ولم يفهم أحد من
العقلاء معنى توزيع السؤال مطبوعًا على الناس، لا سيما قبل إيصاله إلى المسؤول
بل أنا في شك من إرساله إليه قياسًا على الاستلفات الذي رآه عندي لأول مرة،
ولا يقال: إن الغرض الفائدة؛ لأن الفائدة إنما تكون في الجواب، وربما كان أكثر
الذين وُزِّع عليهم الكتاب المفتوح والاستلفات من خالي الذهن عن كتاب المرأة
الجديدة، فيظهر أن للسائل غرضًا غير الإفادة.
(2) لا يخفى على السائل وغيره أن الاستفتاء عن كتاب يستلزم أن يقرأ
المفتي ذلك الكتاب كله، وذلك تكليف الشطط؛ لأن أصحاب الأعمال الكثيرة كمفتي
القطر المصري يجب أن يختصر في الأسئلة التي تلقى إليهم؛ لأن كثرة أعمالهم لا
تسمح لهم بقراءة الأسئلة المطولة والجواب عنها الذي يستدعي التفصيل والتطويل
غالبًا، وإننا نعلم أن الأسئلة التي ترفع إلى شيخ الإسلام في دار الخلافة لا يكتفون
فيها بالاختصار حتى يذكرون الجواب، ويسألون عنه، فيكتب شيخ الإسلام كلمة
(أولور) إذا كان الجواب بالإيجاب، وكلمة (أولماز) إذا كان سلبًا.
والسائل يعلم أن مفتي الديار المصرية هو رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية
التي هي أعظم جمعية للمسلمين في البلاد العربية كلها، وهو أيضًا عضو عامل في
مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف الأعلى، وله أعمال أخرى في نظارة
الحقانية، وهو شيخ رواق الحنفية الذي هو أعظم رواق في الأزهر وناظر على
أوقاف كبيرة، وعضو في مجلس إدارة الأزهر، ويؤلف ويقرأ في الأزهر درسًا في
علم البلاغة، ودرسًا في تفسير القرآن الشريف، ولا يخفى ما يستلزمه هذا الدرس
من المطالعة والمراجعة، ويعلم أنه من الدقة في أعماله بحيث إذا رُفع إليه استفتاء من
المحاكم عن قتل جانٍ، يقرأ جميع أوراق القضية، وإن كانت تعد بالمئات، ويعلم
أيضًا أنه مقصود من الناس بقضاء المصالح، فلا يخلو يوم من عدة أشخاص يطلبون
منه قضاء مصالحهم، فهل مثل هذا يستفتى عن كتاب، ويكلَّف بقراءته ليبين رأيه
فيه؟ كلا، إنه يجب على شيخ الجامع الأزهر أن يؤلف بمعرفة المفتي ومساعدته
لجنة من العلماء لانتقاد الكتب التي تنشر بين المسلمين، يكون أفرادها من البارعين
في جميع الفنون، بحيث ينتقد كل صنف ما هو عالم به، ثم ينشر ذلك في الجرائد؛
فإن في الكتب المنسوبة للمتقدمين ما ينشر، وفيه من الإفساد في الدين والدنيا فوق ما
يتصوره كل منتقد على كتاب المرأة الجديدة.
(3) إن الفتوى في الكتاب لا يمكن أن يفهمها أحد إلا إذا اطلع على السؤال،
والسؤال يدخل فيه الكتاب كله، فيحتاج كل من اطلع على الفتوى أن يقرأ الكتاب
أولاً، فإذا كان ضارًّا تكون الفتوى سببًا في إذاعة الضرر.
(4) إذا أفتى مفتي الديار المصرية في الكتاب، فلا شك أن فتواه تكون
بمقتضى مذهب الحنفية الذي عينته الحكومة ليفتي به، فإذا لم توافق فتواه غرض
صاحب الكتاب يمكنه أن يقول كما قال في كتابيه: إن إصلاح شؤون المسلمين يتوقف
على عدم التقيد بقول إمام واحد، بل يجب أن ينظر في المصلحة وتطبق على قول
أي إمام، ولا يخفى أنه نقل عن بعض الأئمة في تحرير المرأة جواز كشف الوجه
والكفين، وجواز معاملة الرجال في غير خلوة، وهذا كل ما يطلبه من إبطال
الحجاب.
كل هذا يدلنا على أن السائل أخطأ في السؤال، وأنه لا يلقى جوابًا.
__________(4/26)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قسم الأحاديث الموضوعة
الموضوعات في العلماء والزهاد
ذكرنا في الجزأين 27 و 28 من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة
في تعظيم العلماء وإطرائهم، وبقي علينا بقية منها، وأن نذكر الأحاديث
الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل، وانتقاد العباد بغير علم، وأكثر
الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين
تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية
وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم
لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من
عصم ربك من المخلصين؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد
فيها الجهل، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين
بالصلاح، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به؛ لئلا
يتهموا وتنحرف عنهم العامة، فيفوتهم الانتفاع منها، ولا تنس استثناء المخلصين،
وقليل ما هم.
فمن هذه الموضوعات حديث: (يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس
في الآخرة ولا يرغبون، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينبسطون عند
الكبراء، وينقبضون عند الفقراء، وينهون عن غشيان الأمراء (أي: زيارتهم
والتردد عليهم) ولا ينتهون، أولئك الجبارون عند الرحمن) وفي إسناده نوح بن
أبي مريم أحد المشهورين بالكذب، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن، فتستدل
به على صحته؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق، وما كل صحيح المعنى يصح
رواية.
ومنها حديث: (يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا، ويغار
بعضهم على بعض كتغاير التيوس) ، في إسناده متهم بالوضع، وإن صح معناه.
ومنها حديث: (من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع) ، وهو
موضوع.
ومنها حديث: (هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشرار الشرار شرار
العلماء، وخيار الخيار خيار العلماء) ، لم يوجد وإن صح معناه.
ومنها حديث: (لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض) ، قالوا: إسناده
لا يصح.
ومنها حديث: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة
الأوثان) ، وهو موضوع، وقال ابن حبان: باطل. وفي إسناده من يتهم بالوضع،
وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء.
ومنها حديث: (المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة، ما اتخذ الله من ولي
جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه) ، قال ابن حجر: ليس بثابت. قلت: كانوا يحتجون به
على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح،
وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على
قاعدة بسمارك، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء،
وكان لم يره، وبلغ الولي ذلك، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة، فابتدر الولي
العالم بقوله: (اتخذني وعلمني) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا؛ لأن
كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين، وهذا العلم الذي يسميه
الصوفية (اللدني) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه
الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون
بالأحاديث الموضوعة؛ إذ لم يكونوا من المحدثين؛ ولكن أين من يعقل ويفهم؟
ومنها حديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في
الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علمًا، فانتفع به من سمعه منه دونه) ، قال ابن
عساكر منكر.
ومنها حديث: (من نصح جاهلاً عاداه) ، قالوا: لم يرد مرفوعًا، أي لم
ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كلام بعض السلف، أقول: إذا
أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ
وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة، وفي ذلك محو الدين بالمرة.
ومنها حديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا معشر العلماء إني لم أضع
علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم، قوموا فإني قد غفرت لكم) ، رواه ابن عدي عن واثلة
ابن الأسقع مرفوعًا، وقال: هذا منكر، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه
الثقات. وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا، وقال: في
إسناده طلحة بن يزيد متروك، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل.
ومنها حديث: (إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي
فيه بين المشرق والمغرب، كما يضيء الكوكب الدري) ، رواه أبو نعيم والخطيب،
قال في الميزان: هذا خبر باطل.
ومنها حديث: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر،
فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن
أصحاب الحديث، فيقول الله تعالى: ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم
تصلون على نبيي في دار الدنيا) ، قال الخطيب: موضوع، والحمل فيه على الرقي
يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، وقد ذكره الذهبي في الميزان، وقال: إنه
وضع هذا الحديث. أقول: حيَّا الله تعالى علماء الحديث.
ومنها حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا
عالمًا) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه؛ ولكن قال صاحب الذيل: هو من أباطيل
إسحق الملطي. وقال في المقاصد: طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة
قادحة. وقال البيهقي: هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح. أقول: وسبب
شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح
سنده.
وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض، واحتج بها
آخرون، منها حديث: (شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين
يأتون العلماء) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف. وروي بلفظ (العلماء
أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل
فاحذروهم واعتزلوهم) ، قيل: هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك. وتعقب
ذلك.
وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث، وما
ورد في معناه؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى
مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ
من عطاياهم شيئًا، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك، وقد انقلب
الأمر الآن؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم
والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من
الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف، فلا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها حديث: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) ، رواه أحمد والطبراني،
والقراء: العلماء، والله أعلم.
__________(4/35)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
انتقاد الأخلاق والعادات
لمعري العصر في فلسفة الشعر محمد أفندي حافظ إبراهيم
لحاظك والأيام جيش أحاربه ... فهذي مواضيه وهذي كتائبه
وهمين ضاق القلب والصدر عنهما ... غرام أعانيه وعيش أغالبه
وليل كمطل القوم كابدت طوله ... وأيقنت أني لا محالة صاحبه
كأن دياجيه صحيفة ملحد ... تخط بها أعماله ومثالبه
قريت به جيش الصبابة والأسى ... وأنزلته صدرًا تداعت جوانبه
وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح ... بما فعلت بين الضلوع قواضبه
تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي ... رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه
رجائي في قومي ضعيف كأنه ... جنان وزير سودته مناصبه
ودائي كداء الدين عز دواؤه ... وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه
فياليت لي وجدان قومي فأرتضي ... حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه
ينامون تحت الضيم والأرض رحبة ... لمن بات يأبى جانب الذل جانبه
يضيق على السوري رحب بلاده ... فيركب للأهوال ما هو راكبه
فما هي إلا أن تجشمه النوى ... وما هو إلا أن تشد ركائبه
ويحرج بالرومي مذهب رزقه ... فتفرج في عرض البلاد مذاهبه
أقاسم إن القوم ماتت قلوبهم ... ولم يفقهوا في السِفْر ما أنت كاتبه
إلى اليوم لم يُرفع حجاب ضلالهم ... فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه
فلو أن شخصًا قام يدعو رجالهم ... لوضع نقاب لاستقامت رغائبه
ولو خطرت في مصر حواء أمنا ... يلوح محياها لنا ونراقبه
وفي يدها العذراء يسفر وجهها ... تصافح منا من ترى وتخاطبه
وخلفهما موسى وعيسى وأحمد ... وجيش من الأملاك ماجت مواكبه
وقالوا لنا رفع الحجاب محلل ... لقلنا نعم حق ولكن نجانبه
__________(4/39)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ثناء
قد حذت جريدة طرابلس حذو المنار بالكلام في الموضوعات، فاستحقت بذلك
الثناء.
__________(4/39)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
ضاق هذا الجزء عن هذا الباب، وسنثبته في الجزء الآتي ويدخل فيه باقي
ترجمة ملكة الإنكليز وغير ذلك.
__________(4/40)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصحيح
ذكرنا في الصفحة 862 من الجزء الماضي أن سعادتلو عبد الغني باشا العابد هو
شقيق صاحب العطوفة الشهير أحمد عزت بك العابد الكاتب الثاني لمولانا السلطان
الأعظم، وكان ذلك سبق قلم، والصواب أنه ابن عمه لا شقيقه.
__________(4/40)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
من الإدارة
من ينقصه شيء من أعداد سنة المنار الثالثة، أو فهرس المجلد الثاني، فليطلبه
يُرْسَل إليه، وأما فهرس المجلد الثالث فسيوزع مع الجزء الآتي إن شاء الله تعالى،
ونرجو من غيرة المشتركين الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك أن يتفضلوا بإرسالها،
ونخص بالذكر أهل تونس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، ولهؤلاء الخيار في
إرسال القيمة حوالة على إدارة البوسطة، أو على أحد البنوك في القاهرة.
__________(4/40)
16 ذو القعدة - 1318هـ
7 مارس - 1901م(4/)
الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى
__________
الفضائل والرذائل [1]
] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[2]
قالوا: للإنسان كمال مفروض عليه أن يسعى إليه. وقالوا: إنه عرضة لنقص
يجب عليه الترفع عنه. وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في
التلوث برذيلة من الرذائل. فما هي الفضائل؟ وما هي الرذائل؟
الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها
كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل؛
فإن من سجية كل منهما البذل في الحق والمنع إذا اقتضاها الحق، فكل يعرف حده
فيقف عنده، فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفَّاء لا
يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة
وفي طبيعته الإيثار بالرغائب، وهكذا إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب
من الصفات الفاضلة تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها
في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في
شخصين مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها،
ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة فيهما، وعلى هذا النحو يكون الأمر في
الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة
الاتحاد بين الآحاد تميل بكل منهما إلى الآخر، وتجذب الآخر إلى من يشاكله حتى
يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته
غاية واحدة.
مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع
الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله لا يتجاوزه بما يمس حقًّا للآخر، فبه
يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه
العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع وهو في
هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازًا عن
بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع حتى
يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد، والأفراد فيها كأعضاء تختلف
في الوظائف والأشكال؛ وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير
حظها من الوجود ليعود إليه نصيب من عملها الكلي، كما أودع الله في أعضاء
أبداننا وبنيتنا الشخصية، والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في
كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته كاليد بها البطش
والتناول وليس بها الإبصار، والعين بها الإبصار وتمييز الأشكال والألوان وليس
من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة وإن شئت قلت: الفضائل في عالم
الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام
الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحُفظت
النسبة بينه وبين الكواكب الأخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز
العليم؛ حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها، كذلك شأن الفضائل في
الاجتماع الإنساني بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود، ويثبت البقاء
النوعي إلى أن يأتي أمر الله.
أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارس والوازع، والجالب والدافع،
وجميع من يدبر أمورها، ويسوسها في شؤونها؛ إنما هم أفراد منها من هاماتها،
أو من لهازمها (من الأعلياء والأوساط بل وسائر الأطراف) ، ويكون كل واحد
منها قائمًا بحق الكل، ولا يختار مقصدًا يعاكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية
تميل به عن غاية الكل، ولا يهمل عملاً يتعلق بالأمة حتى يكون الجميع كالبنيان
المتين لا تزعزعه العواصف، ولا تدركه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة
قوة تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار فهي
الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.
إن أمةً هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد،
فمثلهم في اختلاف الأعمال كمثل المتدابرين على محيط دائرة، يتفارقان في مبدأ
السير؛ ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مآخذهم لجلب منافعهم
كجاذبي طرف خيطة واحدة (حبل واحد) كل آخذ بطرف مع تعادل القوتين، ففي
جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر
فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك
الأفراد من هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم تكون كأنصاف دائرة مركزها
حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وأنهم في
جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.
يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية، وتمتاز بالميل إليه عن
سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن نواله
إذا توافر للأمة حظها من هذه المزايا، فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة
أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن
فرد من أفرادها، فضلاً عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من
آلات عمله، وقطع سببًا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدًا من الآحاد، ولا
يزدري بعمله ويحسب الشخص من الأمة، وإن كان صغيرًا بمنزلة مسمار صغير
في آلة كبيرة لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.
عليك أن تنظر في حقائق هذه الصفات الفاضلة لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر
الذي بيَّناه - التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والعفة والسخاء
والقناعة والدماثة (لين الجانب) والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم
والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس) ، والنجدة والسماحة والصدق
والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية
وحب العدالة والشفقة - أترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم، أو
غلبت في أفرادها يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام العام؟ هل يوجد مثار للخلاف
والتنافر بين عاقلين حُرين صادقين وفيَّين كريمين شجاعين رفيقين صابرين حليمين
متواضعين وَقُورين عفيفين رحيمين؟
أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتًا
لأحيتها، أو قفرًا لأنبتتها، أو جدبًا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله
عليها، ولا قامت لها من الوحدة سياجًا لا يُخرق وحرزًا منيعًا لا يُهتك، وإن أولى
الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: (إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق) ، الفضيلة حياة الأمم تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة وتحفظها
من الانحلال المؤدي إلى الزوال {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117) .
أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس من طبيعتها التحليل والتفريق
بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) ، والبذاء (التطاول على الأعراض
بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام) ، والسفه والبله والطيش والتهور والجبن
والدناءة والجزع والحقد والحسد والكبرياء والعجب واللجاج والسخرية والغدر
والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان، ألقت
بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في
الوفاق؛ فإن طبيعة كل منهما، إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما
السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب لمن يشاركه في الجنسية أو الملية
أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل، والإنسان مجبول بالطبع على
النفرة ممن يتعدى على حقوقه، أو يمنعه حقًّا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين
سفيهين جبانين بخيلين (كل منهما يمنع الآخر حقه) شرهين حاقدين حاسدين
متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه) لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين،
هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته
قاضيًا بانتباذ كل من صاحبه، وإن لم تكن داعية؟ وكفى بخلقه وصفته باعثًا قويًّا
للتنابذ.
هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها، ونثرت أعضاءها، وبددتها
شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي أن تسطو على هذه الأمة
قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر؛ فإن حاجاتهم
في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، ولا بد من قوة خارجة
تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة، هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم
صار بأسهم بينهم شديدًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض
أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ويفتخرون بالانتماء إليهم،
يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم،
ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحًا، وكل جليل منهم حقيرًا، إذا نطق أجنبي
بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم، ونفائس الحكم، وإذا غاص
أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق، وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه
من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف
ومن المحال أن يوجد بيننا خبير. ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب،
ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها، يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت
على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من
أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم وجمع كلمتهم،
ويقعدون له بكل سبيل يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار،
تراهم بتضارب أخلاقهم، وتعاكس أطوارهم، كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم
لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم،
فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه
الأخلاق يجعلهم منبعًا للشر، ومبعثًا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكَلِب أول
ما يبدأ بِعَضّ صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق أول ما يفتك بمربيه
ومهذبه، ثم يثني بطبيبه ومعالج دائه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من
نحو الجزام، والآكلة يمزقون الأمة قطعًا وجذاذات، بعدما يشوهون وجهها،
ويشوشون هيئتها، أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسايس؛ لتغلب النذالة
على سائر أوصافهم، فيتَنفَّجُون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلاً عن
عليتهم، وبهذا يمكِّنون الذلة في نفوسهم لمن دونهم، ويطبعونها على الخضوع
للغرباء، بل الأعداء الألداء من طبقة إلى طبقة، حتى تضمحل الأمة وتُنسخ هيئتها
وتفنى في أمة أو ملة أخرى سنة الله في تبدل الدول وفناء الأمم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) أعاذنا الله من هذه
العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من الصير إلى هذه النهاية.
بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتُمحَّص النفوس من الرذائل
حتى تستعد الجمعيات البشرية إلى الاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد، كل
مولود يولد على الفطرة، مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل
ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها، وقد كانوا ناشئين
على مثل ما نشأ عليه وليدهم، يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول
الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل
بآثارها إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به، فيصيبوا حظًّا
وافرًا مما يرشدنا إليه، فيتمتعوا بحياة طيبة وعيشة مرضية، إلا إذا قام رؤساء
الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول
ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها، وتذكير الساهين عن
هديها، أما إذا أهمل خَدَمَة الدين وظائفهم، أو تهاونوا في تأدية أعمالها ضعف
اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر
بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان
الاختيار مع الهوى، فحشرت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة
العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقًا.
هذه علل الخراب في كل أمة، ولقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددًا من
بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل آثار بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل
بعدما بدَّلوا وغيّروا كما في طائفة (الدهيرومنك) من سكنة الأقطار الهندية
المعروفين عند الأوربيين بطائفة (ياريا) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} (الروم: 42) فالدين هو السائق إلى السعادة في الدنيا
كما يسوق إليها في الآخرة.
تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من
الأرض، وسلبهم تيجان عزهم، وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع
طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا
يكون ناشئًا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه
بحكم قول الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد يكون ذلك وربما لا ينكر الآن أن كثيرًا من عامة المسلمين وإن
صحت عقائدهم من حيث ما تعلق به الاعتقاد، إلا أنهم لا ينهجون في بعض
أعمالهم منهاج الشريعة الغراء، وهذا مما يُحْدِث ضعفًا في الأمة بقدر الميل عن
جادة الاعتدال في الفضائل والأعمال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) .
إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم، ولهم
حسن الإذعان لما جاء به شرعهم، وكتاب الله متلوّ على ألسنتهم وسنة نبيهم
يتناقلونها رواية ودراية وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على
صفحات نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة
الشرع وما تسبب عنه من الضعف في القوة إلا عرضًا لا يبقى، وحالاً لا يدوم.
انظر نظرة إنصاف إلى ما أودعته آيات القرآن من غرر الفضائل وكرائم
الشيم، وإلى حرص المسلمين على احترام كتابهم وتبجيله، تجد من نفسك حكمًا باتًّا
بأن علماء الديانة الإسلامية لو نشطوا لأداء وظائفهم المفروضة عليهم بحكم وراثتهم
لصاحب الشرع والمحتومة على ذمتهم بأمر الله الموجه إلى الذين يعقلونه وهم هم
في قوله الحق: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وبالحض الإلهي المفهوم من
قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} (التوبة: 122) (المؤمنين) {طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) ولو قاموا يعظون العامة بما ينطق به القرآن ويُذَكِّرونهم بما
كان عليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الناهجون على سنته من
الأخلاق المحمودة والأعمال المبرورة؛ لرأيت الأمة الإسلامية ناشطة من عقالها
متضافرة على إعادة مجدها وصيانة ولايتها العامة من الضعف، وبيضة دينها من
الصدع كل ذلك في أقرب وقت، ولن تكون إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
ولا ريب أن الراسخين في العلم من أهل الدين الإسلامي يعلمون أن ما أصيب
به المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة إنما هو مما امتحنهم الله به جزاء على بعض
ما فرطوا، وليس للناس على الله حجة، فالرجاء في هممهم وغيرتهم الدينية
وحميتهم الملية أن يوجهوا العناية إلى رتق الفتق قبل اتساعه، ومداواة العلة قبل
استحكامها، فَيُذَكِّروا أبناء الملة بأحكام الله، ويحكموا بينهم روابط الأخوة والألفة
كما أمر الله في كتابه وعلى لسان نبيه، ويبذلوا الجهد لمحو اليأس والقنوط الذي
ملك أفئدة البعض منهم، ويقنعوهم بأنه لا ييأس من لطف إلا الذين في قلوبهم
مرض، وفي عقائدهم زيغ، ويسيروا بهم في سبيل يجمع كلمتهم ويوحد وجهتهم
ويقوي فيهم إباءة الضيم والنفرة من الذل، ويحرك فيهم روح الأنفة حتى لا تسمح
نفس أحدهم أن يأتي الدنية في دينه، ويكشفوا لهم حقيقة وعد الله ووعده الحق في
قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
__________
(1) مقالة من العروة الوثقى والعنوان لنا.
(2) (الذاريات: 55) .(4/41)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورات بين المصلح والمقلد
أصل الجفر ومعناه، إضافته إلى الشيعة، إنكار نسبته لجعفر الصادق،
الرواية والمروي، الباطنية وعصمة آل البيت وعبادتهم، ادّعاء الحاكم الألوهية،
المتكلمون وردهم على المعتزلة دون الباطنية ونحوهم، سبب الجدل بين الفقهاء،
المنار والعلماء والأولياء، إسناد الجفر إلى سيدنا علي ورده، معنى الجفر
وموضوعه، ملحمة ابن عربي، التصوير والصور، صدق الجفر والملاحم وكذبها،
الجفر والأمراء والملوك، الزايرجة والرمل والمندل والبروج.
المحاورة الخامسة
الجفر والزايرجة
لما عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى المحاورة، والمضي في المباحثة
والمناظرة، بدأ الأول بإعادة الشكر والثناء على الثاني لإهدائه مقدمة ابن خلدون
وإظهار الاغتباط بها وقال:
المقلد: إنني نظرت في فهرس المقدمة قبل المطالعة فرأيت ذكر الجفر
والزايرجة، فكان هذان البحثان أول شيء قرأته في هذا الكتاب؛ ليكون لي منهما
مادة من جنس مادتك أناظرك بها، فأما الجفر فألفيت مؤلفها يميل إلى إنكاره،
ويذكر أن هارون بن سعيد العجلي رأس الزيدية - فرقة من الشيعة - هو الذي يروي
كتاب الجفر عن جعفر الصادق رضي الله عنه، وأنه كان مبينًا لما سيقع لأهل
البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص بحسب ما أعطاهم الكشف
الذي يقع لمثلهم من الأولياء، قال: وكان مكتوبًا عند جعفر في جلد ثور صغير،
فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر
في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه
تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وبعد
هذا أنكر ابن خلدون صحة الرواية في ذلك مع أنه أثبت الكرامة لجعفر وآله عليهم
الرضوان، ولا إخال إلا أنك تبعت هذا الرجل في إنكار الجفر، وإن كان عدم
صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي في الواقع ونفس الأمر، وأما كلامه
في الزايرجة فلا أخفي عنك أنني لم أفهمه.
المصلح: إنني أود لو تطَّلع على كل ما اطَّلعت أنا عليه مما نتكلم فيه لما في
ذلك من الاقتصاد في زمن المناظرة، ومن سهولة الإقناع والاقتناع، ولا يختلجن
في نفسك أنني أقلد ابن خلدون أو غيره في شيء مما أقول؛ وإنما أطَّلِع على ما
نقله هو وغيره، وأعتقد ما يترجح عندي بعد النظر الطويل، وأما قولك: إن عدم
صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي فلعلك تريد به أن عدم العلم بصحتها لا
يقتضي أن المروي غير واقع لجواز وقوعه مع عدم تصدي الثقات لنقله وروايته؛
ولكن لا يسعك أن تنكر أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا
بالرواية الصحيحة، فإذا لم توجد لا يسمح لنا الدين ولا العقل أن نقول بثبوته، وإذا
أنكرناه بناء على أن الأصل عدمه لا نُعذل ولا نُلام فكيف إذا وجد من التهم ما يقتضي
الإنكار، وهو ما يقصه علينا التاريخ من سيرة فرق الشيعة المنتحلين لهذه البدع، لا
سيما في عهد العبيديين الذين روجوا مذهب الباطنية الذي زلزل دين الإسلام زلزالاً،
وخرج بمسلمي الشيعة من الاعتقاد بعصمة آل البيت وإلحاقهم في ذلك بالأنبياء إلى
عبادتهم والقول بألوهيتهم فإذا كان شاعر المعز يقول في مظلته:
أمديرها من حيث دار لشد ما ... زاحمت تحت ركابه جبريلا
ويقول:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
فإن الحاكم لا يزال يُعبد إلى اليوم، وكل ما قرأته عليك في وصف الله تعالى
من رسالة دين الدروز في محاورتنا الماضية؛ فإنهم يريدون به الحاكم العبيدي،
وكذلك النصيرية يعبدونه، وهم أشد الناس عناية بتعرف علم الغيب من الجفر
والنجوم.
المقلد: إني لأعجب لعلمائنا من المتكلمين والفقهاء كيف يسكتون عن هؤلاء
الضالين المضلين، ولا يزال يرد الأولون على المعتزلة، وقد انقرضوا وانقرض
مذهبهم، ويرد الفقهاء بعضهم على بعض وكلهم من أهل السنة والجماعة.
المصلح: إن أكثر ما تراه من الجدل والرد والإنكار من العلماء بعضهم على
بعض ناشئ عن الأهواء؛ فإن المعتزلة هم السبب في وجود علم الكلام، خاضوا
في أمور لم يخض فيها السلف الصالح فانبرى آخرون لمناضلتهم، وبعد ذلك
تداعت دعائم العلم والنظر، ولما يبق للمقلد من المتأخرين إلا حكاية ألفاظ المتقدمين
وإن ذهبت فائدتها بذهاب وقتها، والاكتفاء بالسكوت عن البدع والضلالات التي
حدثت بعد أولئك الأئمة كالأشعري وأصحابه وتكفير من يسأل عنها وتضليله، إلا
أن تنشر وتُلوَّن بلون الدين، ويوجد لها أتباع وأنصار كبدع أهل الطريق، فحينئذ
يناضلون عنها بالتحريف والتأويل، ويعكسون الحكم فيرمون منكرها بالكفر أو
التضليل، كما هو مشاهد في كل جيل وقبيل، وأما الفقهاء فقد بيَّن حجة الإسلام
الغزالي في كتاب العلم من إحياء علوم الدين أن السبب في مجادلاتهم ومناضلاتهم
هو التزلف إلى الأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، ولذلك تجد
الوطيس لم يحم إلا بين الحنفية والشافعية؛ لأن المناصب كانت محصورة فيهم،
على أن الحكم عليهم بالسكوت لا يصح على عمومه، فلا بد في كل عصر من فرد
أو أفراد ينصرون الحق ويخذلون الباطل؛ ولكن غلبة الجهل على الأمة تسوّل لها
الباطل وتزينه في نفوسها فتعمى عن الحق ولا تبصره، وقد نُشر في الجزء الثالث
من منار السنة الثالثة نبذة في حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم نقل فيها
عن الفقيه ابن حجر الهيتمي أن الاشتغال بالروحانيات هو الذي أضل الحاكم
العبيدي حتى ادَّعى الألوهية وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة، فأحب أن تقرأ تلك
النبذة.
المقلد: إن المنار جريدة ضارة تهين العلماء، وتنكر الأولياء، فلا أحب أن
أراها، بل أحمد الله أنني لم أطلع عليها قط.
المصلح: سبحان الله، كيف يصح لك وأنت من أهل علم الدين أن تحكم على
ما لم تر، والله يأمرك أن تتبين وتتثبت فيما يجيئك من الأنباء عن الفساق الذين
يغتابون الناس، ويسعون بينهم بالنميمة، لا توجد عندنا جريدة تُعلي من قدر
العلماء كالمنار؛ لأنها تجعل في أيديهم زمام الأمة، وتنيط بهم أمر إصلاحها،
وإرجاعها إلى مجدها الأول بإصلاح التربية والتعليم، ولا يذمه منهم إلا من يشعر
من نفسه بالقصور عن القيام بشيء من هذا الإصلاح، وأما الأولياء فالمنار لا
ينكرهم؛ وإنما ينهى عن إطرائهم والغلو فيهم بأن يُدْعَون مع الله تعالى، ويطلب
منهم ما لا يطلب إلا منه سبحانه، ولولا خشية الخروج عن موضوعنا لقرأت لك
بعض كلامه في ذلك.
المقلد: كنت أسمع أن الجفر مأخوذ عن سيدنا علي كرم الله وجهه، وينسبون
للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس سره جفرًا يسمونه الشجرة النعمانية،
ويقولون: إنه يحتوي على جميع الحوادث العظيمة إلى يوم القيامة.
المصلح: نعم إن من الناس من يزعم ما ذكرت كالجرجاني، وقال ابن طلحة:
الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي وهو يخطب على المنبر في
الكوفة؛ والآخر أسرَّ به إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتدوينه فكتبه علي
حروفًا متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر فاشتهر بين الناس؛ لأنه وجد فيه ما
جرى للأولين والآخرين. أقول: وكانوا يزعمون أن الجفر إخبار عن المغيبات
صريحة أو رموزًا، ولما أرادوا أن يجعلوه علمًا أدخلوه في علم الحرف والعدد الذي
هو بعد الروحانيات في المرتبة، واختلفوا في وضعه وتكسيره فمنهم من كسره
بالتكسير الصغير، وزعموا أنه جعفر الصادق، ومنهم من يضعه بالتكسير المتوسط
وهو الذي توضع به الأوفاق الحرفية، ومنهم من يضعه بطريق التركيب الحرفي
أو العددي، ومن الناس من خلط بين الجفر والتنجيم وسمى كل ما كتب في الملاحم
والحدثان جفرًا، وإن كان مبنيًّا على القرانات.
ومنهم من يعتقد أن الجفر لا يكون إلا عن كشف، وأن الرموز الحرفية والعددية
وغيرها لم يضعها الشيخ محيي الدين بن عربي في جفره، إلا لأجل الإبهام لكيلا يطلع
الناس على الغيب، فتفسد شؤونهم، وقد اطلعت أنا على الشجرة النعمانية، فإذا هي
رموز لا يُفهم منها شيء، وبالجملة لم يثبت أن لهذا الجفر أصلاً علميًّا يُرجع إليه في
معرفة الغيب، وإلا لارتقى وتسنى تحصيله لكل أحد، ولم يعط الله تعالى علم الغيب
لأحد إلا ما أخبر به بعض الأنبياء عليهم السلام من أحوال الآخرة والملائكة والجن مما
ثبت في الوحي فنصدق بالقطعي منه إيمانًا وتسليمًا، نعم لا ننكر أن في الناس محدَّثين
وملهمين يخبرون بشيء أن سيقع فيقع كما قالوا، لكن هذا نادر ومخصوص
بالجزئيات، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى
مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .
المقلد: رأيت في مقدمة ابن خلدون أنه وقف على ملحمة منسوبة لابن
العربي الحاتمي الذي هو الشيخ الأكبر فيها أوفاق عددية، ورموز ملغوزة، وأشكال
حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة، وقد أنكرها ابن
خلدون، وقال: الغالب إنها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة
ولا غيرها، وكان الأولى أن ينكر نسبها للشيخ الأكبر لوجود الصور والتماثيل فيها؛
لأن التصوير حرام يجل عنه ولي من أكابر الأولياء.
المصلح: ربما يعتقد ابن عربي وابن خلدون أن الصور المحرمة هي ما لها
علاقة بالدين كصور الأنبياء والأولياء؛ لأنها ربما تُعَظَّم تعظيمًا دينيًّا، فتكون أوثانًا
تعبد عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فالنهي عن التصوير كالنهي عن بناء القبور
وتشريفها واتخاذ المساجد عليها، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين، فقد لعن النبي
صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بها، وأما الصور التي لا علاقة لها بالدين ولا
هي مظنة التعظيم فلا تدخل في علة النهي، أما قرأت في صحيح البخاري وغيره
حديث القرام (الستار) المصور الذي كان عند عائشة رضي الله عنها، وكيف أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه؛ لأنه كان منصوبًا كالصور التي كانت تُعْبَد في
الكعبة وطمسها، ثم لما زالت صفة التعظيم باتخاذ القرام وسادة كان عليه السلام
يتكئ عليها مع بقاء الصور فيها.
المقلد: هذا تعليل مخالف لكلام الفقهاء، وأُجِلُّ الشيخ الأكبر عن القول به.
المصلح: أما علمت أن الشيخ الأكبر غير مقلد للفقهاء ولا لغيرهم، وأنه
صرح في فاتحة الفتوحات بأنه لا يتقيد بمذهب سني ولا معتزلي ولا غير ذلك،
وصرح بأن ليس كل ما يقوله المعتزلي باطلاً ... إلخ، وعلم أن بعض الناس ينسبه
إلى مذهب ابن حزم الظاهري فأنكر ذلك وأنشد:
ويعزوني إلى قول ابن حزم ... ولست أقول ما قال ابن حزم
المقلد: لقد صح من أخبار الجفر شيء كثير، وذلك كقول الشيخ الأكبر في
الشجرة النعمانية على ما يقولون: (إذا دخل س في ش ظهر قبر محيي الدين)
وقد كان كذلك؛ فإن السلطان سليمًا هو الذي أظهر قبر الشيخ عندما دخل الشام وبناه
وأجرى عليه الأوقاف.
المصلح: يوجد في هذه الجفور الرمزية وغير الرمزية أخبار تقع، وقد
رأيت في جفر منسوب إلى الإمام علي كرم الله وجهه (ويل للإسكندرية من
الأساطيل البحرية) ، وفي موضع آخر (ويل للقاهرة من العاهرة) ، وذلك أن من
يخبر بأشياء كثيرة من شأنها أن تقع لا بد أن يصدق بعضها، ولو كان الجفر حقًّا
لوقع كل ما أخبر به، وأما الرموز فمجال التضليل فيها واسع وميدانه فسيح؛ لأن
هذه الحروف تصدق على أشياء كثيرة وتنطبق عليها من غير أن تكون موضوعة
لها، ولم يوضع ذلك إلا لخداع الأمراء والملوك لابتزاز أموالهم وابتغاء الزلفى
عندهم، وما أراك إلا قد قرأت قصة الدانيالي في مقدمة ابن خلدون [1] ، وما ذكره
عن ملحمة الباجريقي الصوفي [2] ، وقد ذكرت لك من قبل أن كلمة تصدق تخدع
الجهلاء، فيظنون أن الكلام كله صحيح.
المقلد: نعم قرأت ذلك، وإني أخبرك بخبر من هذا القبيل جرى لصاحبي
الشيخ المصري العالم بالزايرجة والحرف؛ ولكنه من الأسرار التي لا أسمح لك أن
تذكرها عني، ذلك أن الأمير.. . تنازع هو وحرمه في أمر ذي بال لا ينبغي
التصريح به، وإنما يقال في الجملة: إنه ارتكب ما يوجب حدًّا شديدًا، فعاقبته عليه
بجناية ساءته وإن كانت خيرًا له، وأنكرت عليه أن العقوبة من قِبَلَها، فاستحضر
الشيخ ليكشف له الحقيقة بالزايرجة، فلما وقف على القصة بالإجمال والتمويه علم
أن المصلحة والمنفعة في تبرئة الحرم المصون مما يتهمها به الأمير، فزعم بعد
إعماله وحسابه أن الأمر جاء من طبيعته لا من قبلها وانصرف بمال كثير.
المصلح: انظر إلى أمراء المشرق وملوكه الذين تروج عندهم هذه
الخزعبلات كيف يزدادون تعاسة وشقاء عامًا بعد عام، فمستقبلهم دائمًا شر من
ماضيهم، وانظر إلى ملوك أوروبا الذين يستعدون للمستقبل بما تعطيهم العلوم
الصحيحة وسنن الكون كيف يزدادون قوة وعزة وارتقاء.
المقلد: هل الرمل من قبيل الزايرجة والجفر؟ فإني أراك درست هذه الأشياء.
المصلح: الزايرجة ضرب من أعمال الحساب وتكسير الحروف يُقصد به
معرفة الغيب، وعدَّه ابن خلدون من فروع السيمياء، والرمل من قبيل الزايرجة،
قال ابن خلدون: استنبطه قوم من عامة المنجمين وسموه خط الرمل نسبة إلى المادة
التي يضعون فيها عملهم، وفصل القول في محصول صناعتهم الباطلة، ولعلك
قرأته فهو صناعة، والغيب لا يمكن أن يعرف بصناعة، ومن آية بطلان هذا العمل
أنه لا يروج إلا في سوق الجهالة كما قال ابن خلدون في أهله وهو: (ولقد نجد في
المدن صنفًا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه
فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه، فتغدو عليهم
وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم
في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل،
ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا
والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في
الشريعة من ذم ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب) ... إلخ ما قرأت، وأنت
ترى أنهم زادوا في هذا الزمان أمورًا أخرى كالنظر في ورق اللعب، والنظر في
الكف، ومن ذلك كتاب البروج لأبي معشر وغيره يحسبون اسم الرجل واسم أمه
بالجُمَّل، ويسقطون من المجموع اثني عشر مرة بعد أخرى حتى لا يبقى إلا اثنا
عشر أو دونها، فينظرون في الباب الذي يوافق العدد الباقي، ويتعرفون منه تاريخ
ذلك الرجل في جميع شؤونه، وحسبك في فساد هذا أن المتفقين في اسم الأب والأم
تكون شؤونهم متحدة، وإننا لنشاهد فيهم السعيد والشقي والغني والفقير والمالك
والمملوك فحسبنا يا مولاي بحثًا في هذا الهذيان، ولنتكلم في الجد الذي هو أصل
موضوعنا، فقبل الشيخ منه ذلك، وانصرفا على موعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قال ابن خلدون: حكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر (الخليفة) وراق ذكي يعرف بالدانيالي يبل الأوراق، ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريده منهم من
الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره م مكررة ثلاث مرات، وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر فقال له: هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدولة ونصب لذلك علامات يموه بها عليه، فبذل له ما أغناه به، ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً، فجاءه بأوراق مثلها، وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها، وأنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء، وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدنيا في أيامه، وأوقف مفلحًا على هذه الأوراق، وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النوع مما وقع، ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأُعجب به مفلح ووقف عليه المقتدر، واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سببًا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز اهـ.
(2) وقال قبل ذلك: ووقفت بالمشرق أيضًا على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي، وكلها ألغاز بالحروف، وذكر منها أبيات منها بعد ذكر رجل يسمى الأعرج الكلبي يأتي من المشرق:
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من الـ ... ـزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكًا وينفق أموالاً بلا ثمن
ثم ساق حكاية الدانيالي وقال:
والظاهر أن هذا الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع، ولقد سألت عنها أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفًا بطرائقهم فقال: (كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية، وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف يومئ إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف بعينها في ضمنها لمن يراه منهم، وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها، فتنوقلت عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة وهو أمر ممتنع؛ إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف
قبله ويوضع له، وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه) ، فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/51)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة أساس البلاغة
(خير منطوق به أمام كل كلام، وأفضل مصدَّر به كل كتاب، حمد الله
تعالى ومدحه بما تمدّح به نفسه في كتابه الكريم، وقرآنه المجيد، من صفاته
المجراة على اسمه لا على جهة الإيضاح والتفصلة، ولا على سبيل الإبانة والتفرقة؛
إذ ليس بالمشارك في اسمه المبارك {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) وإنما هي تماجيد لذاته المكونة
لجميع الذوات، لا استعانة ثم بالأسباب، ولا استظهار بالأدوات، وأولى ما قُفّي به
حمد الله الصلاة على النبي العربي المستل من سلالة عدنان، المفضل باللسان،
الذي استخزنه الله الفصاحة والبيان، وعلى عترته وصحابته مَدَارِهِ العرب وفحولها
وغرر بني معد وحجولها.
هذا - ولما أنزل الله كتابه مختصًّا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي
تقطعت عليها أعناق العتاق السبق، وَوَنَت عنها خُطا الجياد القرَّح، كان الموفق
من العلماء الأعلام أنصار ملة الإسلام، الذابّين عن بيضة الحنيفية البيضاء
المبرهنين على ما كان من العرب العرباء، حين تحدوا به من الأعراض عن
المعارضة بأسلات ألسنتهم، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم، من كانت مطامح
نظره، ومطارح فكره، الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور
على مناظم الفصحاء، والمخايرة بين متداولات ألفاظهم، ومتعاورات أقوالهم،
والمعايرة بين ما انتقوا منها وانتخلوا، وما انتفوا عنه فلم يتقبلوا، وما استركوا
واستنزلوا، وما استفصحوا واستجزلوا، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه
الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم
احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حَظِيّ، وفهمه فيه جاحظيّ.
وإلى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير إليه محمود بن عمر الزمخشري عفا
الله عنه في تصنيف كتاب (أساس البلاغة) وهو كتاب لم تزل نعام القلوب إليه
زفافة، ورياح الآمال حوله هفافة، وعيون الأفاضل نحوه روامق، وألسنتهم بتمنيه
نواطق، فلبَّت له العربية وما فصح من لغاتها، وملح من بلاغاتها، وما سمع من
الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحلل في نواديها، ومن قراضبة نجد في أكلائها
ومراتعها، ومن سماسرة تهامة في أسواقها ومجامعها، وما تراجزت به السقاة على
أفواه قُلُبها، وتساجعت به الرعاة على شفاه علَبها، وما تقارضته شعراء قيس
وتميم في ساعات المماتنة، وتزاملت به سفراء ثقيف وهذيل في أيام المفاتنة، وما
طولع في بطون الكتب ومتون الدفاتر من روائع ألفاظ مفتَّنة، وجوامع كلم في
أحشائها مجتنة.
ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى
تحت استعمالات المفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها من التراكيب
التي تملح وتحسن، ولا تنقبض عنها الألسن، لجريها رسلات على الأسلات،
ومرورها عذبات على العذبات، ومنها التوقيف، على مناهج التركيب والتأليف،
وتعريف مدارج التركيب والترصيف، بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددًا،
ومتناظمة لا طرائق قِدَدًا، مع الاستكثار من نوابغ الكلم الهادية إلى مراشد حر
المنطق، الدالة على ضالة المنطيق المفلق، ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب
الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة والكناية عن التصريح.
فمن حصل هذه الخصائص، وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان
أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة الواضع وقسطاسها، وأصاب ذروًا من
علم المعاني، وحظي برَسٍّ من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة
وسليقة سليمة، فحُل نثره، وجزل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدمين،
ويخاطر المقرمين، وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً،
يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير
أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا
بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه، والله سبحانه وتعالى
الموفق لإفادة أفاضل المسلمين، ولما يتصل برضا رب العالمين.
(المنار)
نشرنا هذه الخطبة لتكون هادية لطلاب البلاغة إلى منهاجها ومرشدة مريدي
الفصاحة إلى ينابيعها وأثباجها، ولم نفسر ألفاظها الغريبة، ونشرح مغازيها العجيبة
لنبعث همة التلامذة إلى المراجعة والمكاشفة، ونحملهم على المباحثة والمشارفة،
وننصح لهم أن يحفظوها، ثم يقلدوها ويحتذوها، فهكذا فليكتب الكاتبون، وهكذا
فليسمع الساجعون، وإلا فلا.
__________(4/61)
الكاتب: جحدر
__________
قصيدة جحدر في الأسد
ذكرنا في الجزء الماضي أن جحدرًا لما قتل الأسد أنشد قصيدةً، وهذه هي:
يا جمل إنك لو رأيت بسالتي ... في يوم هيج مردف وعجاج [1]
وتقدمي لليث أرسف نحوه ... عنى أكابره عن الإخراج [2]
جهم كأن جبينه لما بدا ... طبق الرحا متفجر الأثباج [3]
يرنو بناظرتين يحسب فيهما ... من ظن خالهما شعاع سراج
شَثن براثنه كأن نيوبه ... زرق المعاول أو شباة زِجاج [4]
وكأنما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو خَلَق من الديباج [5]
قرنان محتضَران قد ربَّتهما ... أم المنية غير ذات نتاج [6]
وعلمت أني إن أبيت نزالة ... إني من الحجاج لست بناج
فمشيت أرفل في الحديد مكبلاً ... بالموت نفسي عند ذاك أناجي
والناس منهم شامت وعصابة ... عبراتهم لي بالحلوق شواجي
ففلقت هامته فخرّ كأنه ... أطم تقوض مائل الأبراج [7]
ثم انثنيت وفي قميصي شاهد ... مما جرى من شاخب الأوداج
أيقنت أني ذو حفاظ ماجد ... من نسل أملاك ذوي أتواج [8]
فلئن قذفت إلى المنية عامدًا ... إني لخيرك بعد ذاك لراج
علم النساء بأنني لا أنثني ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
__________
(1) المردف: من أردف القوم إذا دهمهم.
(2) الرسف والرسفان مشي المقيد.
(3) الجهم: بالفتح الوجه الغليظ المجتمع في سماجة، ويقال: جهم ككتف وجهيم كأمير، وصاحبه أجهم ويوصف به الأسد، والثبج: مجرى الماء ووسط الشيء ومعظمه وأعلاه، ومن الحيوان ما بين الكاهل إلى الظهر ويختلف الاستعمال، يقال: ركب ثبج البحر أي معظمه، والجمع أثباج وثبوج.
(4) الشثن: الغليظ، والمعاول جمع معول كمنبر: الفأس العظيمة ينقر بها الصخر، ووصفها بالزرقة كما يصفون النصل إذا كان صافيًا، والشباة: الحد، والزجاج بالكسر جمع زج، وهو بالضم: الحديدة في أسفل الرمح.
(5) البرقاء: اللامعة، أو التي اجتمع فيها بياض وسواد أو صفرة، والخلق: العتيق.
(6) يعني بالقرنين نفسه والأسد.
(7) الأطم: بضمتين الحصن، والأبراج: هنا الأركان.
(8) جملة أيقنت جواب (لو رأيت) في البيت الأول، والأملاك: الملوك، والأتواج، التيجان، والخطاب في البيت بعده للحجاج.(4/64)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المنار الأنور
واقتراح طلاب الأزهر
جاءنا من بعض المشتغلين بعلم الأدب في الجامع الأزهر تحت هذا العنوان ما
يأتي:
حضرة مولانا الأستاذ
إني إذا كتبت إليك فإنما أهدي لبحرك دُرَّه، ولغيثك قطره، وأقدم لك بعض
ما اقتبسته منك، فلو كنتُ خطيب إياد، أو ابن زياد، أو الكاتب الذي تعقد ذؤابة
قلمه بالسماك ونجمه، وتسير معانيه كالفلك الدوار بما فيه، وأتيت بما فات الأوائل،
ولم تستطعه الأواخر، لقلت: إن لساني في بيانك شحذته، وقلمي من بنانك أخذته،
على أنَّا قد آوينا منك إلى ركن شديد، وهيهات أن نستضيء بغير المنار أو نهتدي
بغير الرشيد.
وتالله إني لا أجد عبارة أصوّر بها ما في القلوب من إطلاعكم الحق مطالعه،
وإلزامكم الباطل مضاجعه، وتقدم المنار حتى دخل في السنة الرابعة؛ فإن التصوير
شيء ما ألفناه، والتعبير عن الوجدان مثال ما احتذيناه، ومنا من يخال أنه
كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه.
فإذا كان المنار قد حمل إلى الأقطار نفحة سارت بها الرياح، وطلع على أهلها
طلوع الصباح، فلينهج لأهل الأزهر منهاجًا في الأدب يسلكونه، وليضع لهم مثالاً في
الإصلاح يحتذونه، حتى يكون تصوير الشعور عندنا من الشعائر، ونقتدر على
وصف جليات الظواهر وخفيات الضمائر، فنكون من حملة الأقلام، وتؤدي بدايتنا
إلى الغاية المطلوبة والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد سعيد الرافعي ...
(المنار)
نشكر للكاتب الأديب حسن ظنه بنا، ولولا شغفنا باشتغال الأزهريين بالكتابة
والأدب، واغتباطنا بما نراه من نجابتهم لما خالفنا سنتنا بنشر هذا التقريظ.
أما المنهاج الذي أقترحه فأحيله وإخوانه المشتغلين بالأدب على قراءة خطبة
أساس البلاغة المنشورة في هذا الجزء، واتباع ما ترشد إليه، وأزيدهم الحث على
مطالعة كتاب الأغاني وكتاب نهج البلاغة والجزء الثالث من إحياء علوم الدين، إن
لم يطالعوا الكتاب كله، ثم العمل بكتابة المقالات في الموضوعات المختلفة
وتعريضها للانتقاد فمن لا يَنتقد ولا يُنتقد، ولا يناظر الفضلاء ويساجل الأدباء، لا
يسلم من الخطأ والخطل، ولا يتنبه لتجنب الزيغ والزلل، وإن شئت فقل: لا يكمل
له علم ولا عمل، وإننا نقترح عليهم أن يتناظروا في المواضيع الآتية:
1- هل غاية طلب العلم تحصيل ملكة الفهم، أم تحصيل ملكة العلم؟
2- فوائد قراءة الحواشي ومضارها.
3- هل يُطلب من علماء الدين معرفة علوم الكون ولو إلمامًا أم لا؟
4- هل يجب على علماء الكلام استبدال الرد على فلاسفة هذا العصر ومبتدعته
بالرد على قدماء الفلاسفة والمبتدعة الذين انقرضوا أم لا؟
5- هل انتشر الدين الإسلامي بكونه حقًّا يلائم حال البشر أم بالقوة والسيف؟
6- هل أفادت الجرائد البلاد العربية أم أضرت بها؟
7- هل نفع الشرقيين دخول الأجانب بلاد الشرق أم أضر بها؟
فهذه سبعة مواضيع متى رأينا أقلامهم تجول فيها نقترح عليهم غيرها،
والمنار مستعد لنشر مناظراتهم بشرط الاختصار في النبذ، وإن تعددت في موضوع
واحد، والنزاهة التامة في التخاطب.
(س) من حضرة القانوني البارع صاحب الإمضاء بحروفه:
لا أرى ختم الكتابة بحرف أو حرفين من اسم صاحبها لا يُفهم أو لا يُفهمان،
ولا أرى لذلك معنًى عامًّا ذا شأن في كل الأحوال، فكثيرًا إن لم يكن في الأغلب
يختتم الكاتب كتابته بحرف أو حرفين من اسمه إن لم يبالغ في التستر والتخفي،
فلا يرمز حتى ولا بما يعرف بالنقطة.
لماذا؟ هذا لا يبغى ولا نريد أن تكون العلة عيبًا في الكتابة لوجه من الوجوه
التي ترمي إليها؛ فإن الكاتب لا يقصد لنفسه هذا العيب حتى يضطر إلى التخفي
عن معرفة الناس، أو لا يرضاه لنفسه فيعمل، وإن عمل فما أنا بالمعترض عليه هنا
لرمزه أو لعدم الرمز مطلقًا، وإنما لكتابته مع ذلك، وإنما الذي أعنيه بإنكاره إخفاء
نفسه مطلقًا صاحب الكتابة التي لا عيب فيها مطلقًا، بل التي هي مفيدة، وأوجه
الإفادة كثيرة، وهذا هو الأغلب في ما أراه من الكتابات ذات إخفاء الاسم كله، أو إلا
ما هو في حكم الكل.
هذا تعجب مني، لذلك طلبت إليَّ نفسي مني مرات إظهاره، وعلى لسان
مناركم الوضَّاح لأهتدي منه إلى الحقيقة، فلعلي مخطئ إلى أن أنفذت الإرادة هذه
المرَّة، وحسبكم اختياري لكم وما أنتم بأولي الحاجة وعليكم السلام في الأول، وفي
الختام، 23 فبراير سنة 1901
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مراد فرج
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحامي بمصر
جواب المنار
من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد كأساتذة المدارس وبعض
الموظفين، ومن الناس من لا يحب إظهار اسمه إذا كتب، إما ترفعًا؛ لأن الجرائد لم
تزل غير مقدورة قدرها عندنا، وإما خوفًا من الحكم على كلامه بما يعتقد الناس من
مشربه؛ لأن الأكثرين يعرفون حق القول وباطله بقائله لا بذاته، ويريد هؤلاء أن
يعودوا الناس على خلاف ذلك، ومن هؤلاء من يرمز إلى اسمه بالحروف أو يختار
لقبًا مصنوعًا يُعرف بهذا أو ذاك بين خاصته وتلك فائدة خاصة، وللرمز فوائد
أخرى عامة منها: عدم اشتباه الكاتبين الذين لا يصرحون بأسمائهم لا سيما إذا
تكررت الكتابة في موضوعات مختلفة، ومنها أن يميز الناس بين المقالات فيعرفوا
رأي صاحب هذا الرمز من رأي غيره ويعرفوا مقصده وغرضه، فيقبلون عليه أو
يعرضون عنه، واعتبر ذلك بمقالات (أسباب ونتائج) ، ومقالات (حكم ومواعظ)
التي نشرت في المؤيد من بضع سنين، فقد عُرف صاحبها بسداد الرأي حتى
اعتنى الفاضل محمد علي كامل صاحب دار الترقي وبجمعها وطبعها لتعم فائدتها،
وإن قيل: إن العناوين في مثل هذا كافية للتمييز ومعرفة وحدة المصدر أو تعدده.
فنقول: إن العناوين مباحة لكل أحد، ولا يكاد يتفق كاتبان على رمز واحد لاسمهما،
وإن الكاتب الواحد يكتب في مواضيع مختلفة لا يصح أن يلتزم لها عنوانًا واحدًا،
ومن الفائدة في الرمز سهولة التعريف عند إرادته، فإذا قلت لك: إن ما كان يكتب
في المؤيد منذ سنتين بإمضاء (م ر) هو لي، والمراد بالحرفين محمد رشيد أمكنك
أن تتذكرها إن كنت قرأتها، ولا يمكنني أن أعرفها بعناوينها.
__________(4/65)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(الحيوان والإنسان أو خاتمة رسائل إخوان الصفا)
هذه الرسائل مشهورة عند أهل العلم والاطلاع، فمنهم من يتنافس فيها لما
احتوت عليه من الفلسفة والتصوف وغرائب العلوم، ومنهم من يحظر النظر فيها
لذلك، وقلّ من يعرف مؤلفيها وهم على ما نُقل عن أبي حيان التوحيدي: زيد ابن
رفاعة، وأبو سليمان محمد بن مشعر البستي، وأبو حسن علي بن هارون الزنجاني،
وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي وآخرون، ومرادهم بتأليفها إلباس الفلسفة لباس
الدين؛ ليقبلها أو يقبل عليها منكروها من جماهير المسلمين، وأسلوبهم في كتابتها
غريب تلذ قراءته، وتستملح عبارته، وعذرهم في هذا الطريق الوعر، والمركب
الخشن، أنهم فُتنوا بفلسفة اليونان، ورأوا أنه لا بد منها للإنسان، ورأوا المسلمين
يناصبون المشتغلين بها ويناهضونهم، ويضللونهم ويكفرونهم، وحسبوا أن هذا
الملك لا يُعارض، وصاحبه ينهض ولا يُناهض، فخاب الأمل، وحبط العمل،
وكانوا عند تأليف رسائلهم بثوها في الوراقين، لتنتشر بسرعة في العالمين، وربما
كانوا في أنفسهم مخلصين؛ ولكن ما عتَّم أن عتمت، وبطنت عقيب أن ظهرت،
إلى أن أحيت الطباعة رفاتها، والأمور مرهونة بأوقاتها.
طُبعت الرسائل في الهند فراجت حتى لا تكاد توجد نسخها، وطُبع منها في
مصر الجزء الأول، ولم يتسن لطابعه إتمامها، وفي هذه الأيام تصدى النشيط
الفاضل، محمد علي أفندي كامل، لطبع الجزء الأخير الذي هو زبدة الرسائل
وخاتمتها في مطبعة دار الترقي المتقنة بشكل لطيف، على ورق نظيف.
وهذا الجزء يصف تداعي الحيوانات على الإنسان، لدى ملك الجان، وما
جرى بينهم من المحاورات، والمناظرات والمجادلات، ونتيجة ذلك حكم ملك الجان
بأن تكون أنواع الحيوان، في تصرف الإنسان، فنحث أهل العلم والفضل،
وذوي الذكاء والنبل، على الاطلاع على هذا الأسلوب الساحر، مما ترك الأول
للآخر، ولكن رأينا أن لا تُحتذى هذه الرسائل بمزج الفلسفة بالدين، فذلك مضيعة
للأمرين.
***
(تاريخ دولة آل سلجوق)
من إنشاء الشهير عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني، واختصره
الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني رحمهما الله تعالى، والكتاب كله سجع
مما يسمونه السهل الممتنع، والوقوف على تاريخ هذه الدولة الإسلامية العظيمة لا
يستغني عنه من يهمه الوقوف على شؤون المسلمين ومعرفة أحوالهم الاجتماعية،
وقد طُبع على نفقة شركة طبع الكتب العربية في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا
على ورق جيد وثمنه عشرة قروش أميرية.
***
(تتمة البيان في تاريخ الأفغان)
كان السيد جمال الدين الأفغاني الفيلسوف الإسلامي الشهير كتب رسائل سماها
(البيان في الإنكليز والأفغان) كان لها وقع شديد في البلاد الإنكليزية عندما نُشرت
في الجرائد المصرية التي أنشأها تلامذة السيد في مصر بإرشاده، وردَّت عليها
الجرائد الإنكليزية معظمة شأن السيد معجبة به، ولم يكن قد اشتهر اسمه في أوربا
فتصدى هو للرد عليها؛ حتى إن المستر غلادستون اضطر إلى الرد على السيد
بنفسه، ثم سأل السيد تلامذته أن يملي عليهم تاريخ الأفغان فأملى عليهم مقالات
نشرت في جريدة مصر التي كانت يصدرها في الإسكندرية فقيد الأدب والصحافة
أديب بك إسحاق، وسمى مجموعها تتمة البيان في الإنكليز والأفغان، وذكر فيها
محاربة الإنكليز للأفغان والاستيلاء على بلادهم، ثم إخراج الأفغان لهم منها بالقوة
وفيها ذكر أصل الأفغان وتاريخهم وعاداتهم وسائر شؤونهم، وقد عثر على هذا
التاريخ الأديب النشيط علي أفندي يوسف الكريدلي صاحب ومحرر جريدة العلم
العثماني، وطبعه في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا على ورق جيد وصدَّره برسم
أمير الأفغان الحالي الأمير عبد الرحمن وأهداه إياه، وفيه أيضًا رسم السيد جمال
الدين، وثمن النسخة منه خمسة قروش أميرية، ويباع في جميع المكاتب الشهيرة
في القاهرة.
***
(وردة)
أسطورة علمية تاريخية تمثل أخلاق المصريين وعاداتهم في عهد رمسيس
الثاني، وترسم للقارئ نظام حكومتهم وما وصلوا إليه من التقدم في العلوم والمعارف،
أبرزها من الآثار القديمة وأوراق البردي الدكتور جورج إيبرس الألماني، ونقلها إلى
العربية صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الغراء
ونابغي الناشئة المصرية في هذا العصر، وقد كان سبقه إلى تعريبها من حيث لا يعلم
الدكتور العالم الشهير يعقوب أفندي صروف محرر مجلة المقتطف، ولم يطبعها؛
لأنه لم يستأذن بطبعها من مؤلفها؛ ولكن محمد أفندي مسعود استأذن قبل أن يُعَرِّب،
وقد طُبع الجزء الأول منها وهو يزيد على ثلاثمائة صفحة بالحرف الصغير، وتُطلب
من مُعَرِّبها في إدارة المؤيد بمصر، فنحث جميع القراء على مطالعتها.
***
(تنبيه مهم جدًّا)
لدينا مقالة لفضيلة مفتي الديار المصرية في أعظم شبهة على الدين في كتب
المسلمين، وهي مسألة الغرانيق، وتفسير الآية التي استدل بها عليها، وستنشر في
باب التفسير من الجزء الآتي.
__________(4/69)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مهاجر أزهري
من أيام جاء إلى محل الإفتاء في الجامع الأزهر رجل إنكليزي اسمه المستر
هستنج، وطلب مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية، وعند مقابلته ابتدره بقوله: جئت ثلاث مرات لمقابلة حضرتكم فلم
أجدكم هنا وهذه الرابعة، والغرض أن أعرض لكم أن لي أملاكًا في جهة ممباسة
في أفريقة سكانها مسلمون؛ لكنهم لا يعرفون من دينهم إلا قليلاً، ولما علموا
برحلتي هذه إلى مصر طلبوا مني قبل السفر أن أحضر لهم عالمًا دينيًّا يعلمهم أحكام
دينهم، قال: ويمكنني أن أساعد من يسافر معي لهذه الغاية بأن أنقله على نفقتي من
ساحل زنجبار إلى المحل الذي نقصده، وأتكفل هناك بنفقة أكله وأعطيه بيتًا يسكنه،
وعليه أن ينفق على نفسه من هنا إلى ساحل زنجبار، ولا بد له هناك من الإقامة
زمنًا يتعلم فيه لغة القوم ليتمكن من إرشادهم. فعهد إليه فضيلة المفتي أن يراجعه
بعد أيام في ذلك.
وقد وقع هذا الطلب على الأستاذ وقعًا شديدًا لعلمه بأن العلماء المتخرجين من
الأزهر يأبون الوظائف في بلاد السودان بالرواتب الكثيرة؛ ولأنه إذا لم يوجد في
الأزهر وهو أكبر المدارس الإسلامية وأشهرها من يسهل عليه أن يهاجر إلى الله
تعالى لمجرد الإرشاد ونشر الدين، فذاك أكبر عار على هذه المدرسة، بل على
المسلمين كلهم الذين نشر أسلافهم الدين في كل مكان، ثم هو الآن يضمحل
ويتلاشى ولا يغار عليه أحد من علمائه الذين لا عمل لهم إلا قراءة علومه، فرأى
بعض الحاضرين أثر الحيرة في الأمر باديًا على الأستاذ، فقال له: أنا أعرف رجلاً
من النابغين في الأزهر المتصدرين لامتحان التدريس أرجو أن يقبل الهجرة لهذه
الخدمة الإسلامية، وهو الشيخ محمود عزوز. وكان الأمر كذلك.
وفي أثناء هذه المدة تقدم الشيخ محمود هذا للامتحان فنجح فيه، وأعطي
درجة العالمية من الدرجة الثالثة بالاستحقاق كما علمناه من المصدر الصحيح، وقد
استحضره فضيلة المفتي وذكَّره بسيرة سلف الأمة وكبار الأئمة رضي الله تعالى
عنهم، وكيف كانوا يهاجرون لأجل حديث واحد يتلقونه أو نشر للدين عند قوم
يقبلونه، ودعاه إلى الرحلة لممباسة ابتغاء وجه الله تعالى، وثقة بوعده، فلبى
وأجاب، ثم عرض الأستاذ المفتي خبره على ولي النعم مولانا الخديو المعظم وذكر
لسموه ما رآه من إخلاصه فسُرَّ حفظه الله سرورًا عظيمًا، وجادت مكارمه بمبلغ من
المال إعانة له على سعيه المشكور كما هو دأبه في تعضيد كل عمل ينفع الدين
والأمة، ويقال: إن المبلغ الذي أعطي له مائة جنيه جزى الله تعالى سموه أفضل
الجزاء.
ثم إن فضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر أعطى لحضرة الشيخ محمود
المذكور منشورًا يخاطب به مسلمي البلاد التي يهاجر إليها، يوصيهم فيه بالثقة
بحامل المنشور والاعتماد عليه في فهم الدين وتلقي أحكامه الشريفة النافعة، وقد
سافر بالفعل في ليلة الثلاثاء الماضية، وودعه في محطة مصر كثيرون من إخوانه
الأزهريين وغيرهم، وزوَّده أكابر شيوخه في الأزهر الشريف بالدعوات الصالحة،
وكان نسي أخذ إجازة السفر، فكتب صاحب السعادة محافظ العاصمة رسالة برقية
إلى محافظة السويس بالوصية به، وإعطائه باسبورت السفر، فنسأل الله تعالى أن
يُسَهِّل أمره، وينفع به، ويجعل رحلته فاتحة خير وقدوة صالحة للأزهريين،
فيوفقون للانتشار في الأرض لنشر الدين آمين.
__________(4/72)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عريضة استرحام مسلمي بنغالة
نشرت جريدة وطن الهندية صورة عريضة عن لسان مسلمي أيالة بنغالة في
غربي الهند الذين يبلغون زهاء أربعين مليونًا (كذا) إلى مولانا السلطان الأعظم
عبد الحميد خان يطلبون فيها أمرين جليلين، أحدهما: تعيين قنصل للدولة العلية في
مدينة كلكتة عاصمة هذه الأيالة يمثل الدولة العلية في عظمتها، والخلافة الإسلامية
في جدتها، ويرجع إليه المسلمون في الشؤون التي تقوي الرابطة بينهم وبين
مسلمي السلطنة العثمانية، ويفضون إليه بالحقوق والمصالح المتعلقة بخليفتهم،
ومن ذلك أنهم جمعوا مبلغًا عظيمًا لإعانة سكة حديد الحجاز، ويحتاجون إلى من
يرشدهم إلى كيفية إرساله، وذكروا من فوائد هذا الأمر امتداد التجارة العثمانية؛
لاعتقادهم أن ما يتجر به في بلادهم من الطرابيش ونحوها هو من بلاد الدولة ومنه
فائدة لها.
والأمر الثاني: أن يصدر أمره المطاع بإدخال لغة مسلمي الهند (الأوردو) في
دار الفنون التي أسست في دار الخلافة الإسلامية يوم عيد الجلوس الفضي، وجعلها
من اللغات التي تُعَلَّم جبرًا لا اختيارًا، وذكر في العريضة بعض فوائد رابطة اللغة
وهي فوق ما ذكر، ثم التمست جريدة وطن من أصحاب الجرائد الإسلامية الشهيرة
في مصر والشام ودار السعادة أن يضموا أصواتهم إلى صوت صاحبها بهذا الطلب
إن استحسنوه، وذكرت المنار فيما ذكرته منها.
ونحن نستحسن هذا الطلب ونقول:إن منافعه جليلة جدًّا في كلا الأمرين؛ أما
تعيين قنصل للدولة في كلكتة كما عينت في بومباي وكراش بندر ومدراس مما لا
تُقَدَّر منافعه إذا كان أولئك القناصل من الرجال الأكفاء الذين يقدرون سلطة الدولة
العلية الروحية قدرها، ويعرفون كيف يستفيدون منها، وحسبك ما جاء في عريضة
الاسترحام من أهل بنغالة نساء ورجالاً وأطفالاً يعتقدون أن للسلطان عبد الحميد خان
سلطة غيبية وراء الطبيعة والأسباب، فيتوسلون إلى الله عند الحاجة لدفع ضر أو
لجلب خير باسمه الشريف؛ وذلك لأنهم يعتقدون أن ما يقرؤونه في الجرائد التركية
والعربية من مدائحه وفضائله وفواضله ومعارفه وعوارفه وصلاحه وإصلاحه، وكل
ذلك من خوارق العادات الدالة على أنه (ولي من أولياء الله تعالى جعله الله في هذا
الحين رحمة للعالمين) واستخدام هذا الاعتقاد بالحكمة له شأن لا يكتنه الفكر كنهه،
وأما تعلم لغة الأوردو فمن الضروري أن تعلم أيضًا في مصر والشام ومراكش لأفراد
كثيرين يكونون وصلة بين الشعوب الإسلامية في الجملة، أما الاتصال الحقيقي الذي
يرجوه طلاب الوحدة الإسلامية فلن يكون إلا بتعميم اللغة العربية كما بيناه في المجلد
الأول من المنار.
__________(4/74)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الأمير عبد الرحمن خان
نقلت الجرائد الهندية فصولاً ضافية من تاريخ حياة الأمير عبد الرحمن خان
الذي ألفه بلغة (البشتو) ؛ أي: لسان الأفغان، وتُرجم إلى الإنجليزية و (الأوردو)
فأحببنا تعريبها ملخصة، وإثباتها على صفحات المنار تفكهة للقراء الكرام، ولما
انطوت عليه من الكلمات الحماسية والإشارات السياسية سيما أن الكلمة إذا صدرت
من محلها وأربابها كان لها من الامتزاج بأجزاء النفوس والوقع على الأسماع ما لا
يكون لغيرها، وقد اعترف بفضل هذا الأمير وسياسته وشدة تيقظه جميع الدول
الغربية (والفضل ما شهدت به الأعداء) ، نشرت تلك الجرائد نقلاً عن الكتاب
المذكور ما تعريبه:
إن أطواري وشؤوني التي جبلت عليها لا تلائم كثيرًا مما عليه بعض ملوك
زماني؛ وذلك لأن أحدهم إنما همه التمتع بالملاذ ولبس التاج، والقناعة من الملك
بالتحية والألقاب، وإناطة مهام السلطنة بالوزراء والولاة، وإغفال أمور الرعية
والاحتجاب عنهم، وأما أنا فلست ممن يغتر بتلك الترهات والخزعبلات، ويلقي
بزمام مملكته إلى غيره، ويقنع من الملك بالاسم واللقب بعد أن كنت أعلم أن الأمة
إنما ولتني أمرها لما تعلمه في من الكفاءة والسهر على مصالحها، والذب عن
حوزتها، فأنا المسؤول عن ذلك لا غيري؛ إذ كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فلهذا لا
أَكِل أمرًا من الأمور إلى أحد من أمرائي وأركان دولتي، بل أنا الذي أدير شؤون
المملكة وأحكم نظامها وأشيد دعائمها؛ وإنما عمالي وأمرائي آلة أديرها بيدي كيف
أردت وشئت.
وإن بعض الملوك يرى أن مباشرة الأعمال باليد والمشي على الأقدام مخل
بآداب الملوك، وعندي أن مباشرة أمور الرعية والمشي في مصالحها والتردد إلى
المحال المقدسة كالجوامع والزيارات ومجالس العلم، والذهاب إلى بعض المحاكم
والدوائر ولو سعيًا على الأقدام مما يكتب في صحائف حسنات الملوك، ويحيي به
ذكرهم بعد موتهم، وكيف أستنكف عن ذلك وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة
والسلام لا يستنكفون عنه؟ وهذا سيد البشر قد كان يعين أهله في أمور المنزل، فإذا
كنا مسلمين فلم لا نقتدي به وهو سيد الأولين والآخرين؟
ومن المعلوم أن كل إنسان ميال بالطبع إلى شيء تألفه نفسه في هذه العاجلة،
وأنا ميال إلى التعب والعناء فيما به قوام مملكتي، وأرى أن ذلك التعب هو في
الحقيقة عين الراحة، وقد تدربت عليه حتى صار لي طبعًا، ولهذا تراني مع ما
يعتورني من الأمراض والآلام الشديدة لا أنفك مصروف الأفكار والحواس إلى تدبير
أمور الأمة ورأب صدعها ولم شعثها، ولا أدع قلوب الناس معلقة بغيري، بل أنا
الذي أتصفح عرائضهم سطرًا سطرًا، فأوقع عليها بخط يدي، ولذلك لا يكاد يوجد
أحد من الأفغان إلا وعنده أوراق عليها كتابة قلمي، وقد أحطت علمًا بأحوال
رعيتي فقيرها وأميرها، فلا تخفى علي منهم خافية إلا ما تكن صدورهم وتنطوي
عليه قلوبهم.
وإن لي في كل بيت عينًا أبصر بها جميع أعمالهم وأطوارهم، وبابي مفتوح
وبري ممنوح للصادر والوارد، وإني مستعد لمواجهة كل أحد وقضاء حاجته وسماع
دعواه، ومن كانت له عندي حاجة ومنعه عن الحضور لدي عذر فليكتبها ويرسلها
إلي، وليجعل العنوان على الظرف هكذا يصل إلى الأمير؛ فإنه لا يتجرأ أحد على
فضها حتى أكون أنا الذي أفضها وأقرأها وأرد جوابها بيدي، ومن أراد مواجهتي
فصدَّه بعض الحاشية، فليكتب إلي بذلك، ويكاشف به بعض عيوني؛ أي:
(الشرطة السرية) ؛ فإني أعاقب له خصمه ولا عذر لمن يتأخر من رعيتي عن
مقابلتي لحاجة أو زيارة؛ فإني لا أحتجب عن أحد.
وتصب في معاملي أنواع الأسلحة الجديدة، وقصري مدجج بالأسلحة حتى
محل منامي وقاعة جلوسي، ويوجد تحت وسادتي مسدسان وذو شطوب يماني
وبندقيتان من الطراز الجديد، كل ذلك أعددته لطوارق الحدثان، ونوائب الزمان،
وفرسي الأدهم لا يزال أمام عيني مسرجًا ملجمًا عليه حقيبة مشحونة نضارًا أحمر،
وجنودي الجرارة أبناء الموت وليوث الحرب على أهبة وتعبئة مستعدة لأدنى إشارة
تصدر مني، وإني لأعلم أنه وإن كانت الكثرة تغلب الشجاعة، إلا أن القلة قد تغلب
الكثرة أيضًا إذا كان أمرها واحدًا ورأيها مجتمعًا، وإن الرجل الشجاع الحازم قادر
على التحفظ بما لديه والذب عن حماه، وشر الملوك من يكون طالعه على قومه
ورعيته مشؤومًا، فلا أحب أن أكون ذلك الرجل، وقد كان يخطر في بالي أن أتخلى
عن الملك وأنزوي في بعض الكهوف والمغائر لإعداد الزاد ليوم لا ينفع فيه مال ولا
بنون، وأدع قومي يخوضون غمار الفتن ويصطلون أوزار الحروب ويتساقون
كؤوس المنون؛ ولكني خشيت أن يسألني رافع السماء وباسط الأرض عندما أوقف
بين يديه وحيدًا فريدًا: لماذا أغفلت أمور عبادي ونمت عن إصلاح شؤونهم؟ فهذا
الذي يصدني عن ذلك، ويحملني على رؤية مصالحهم قائمًا وقاعدًا ومتكئًا ومستلقيًا
على فراشي، وربما أخذتني السُنة والأوراق في يدي وعلى صدري وقد شغلت بذلك
عن جميع شؤوني الذاتية، وأصبحت لا أتمكن من الدخول إلى الحرم أكثر من مرتين
في العام بعد أن كنت أزورهن في الأسبوع مرتين، وإن لكل من ولدي نصر الله خان
وحبيب الله خان ثلاثة آلاف روبية في الشهر للنفقات الضرورية، وهذا علاوة على
ما هو مقرر لهما من المآكل والملابس، وما هو مرتب لحرمهما وحشمهما، وتبلغ
رواتب حرمي من خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف روبية في الشهر مع ما يلزمهن من
النفقات.
وإنه يسوءني ما أراه من تقدم الأمم الغربية، وتقاعس المسلمين عامة، وقومي
خاصة، وأود لو يستفيق المسلمون من سباتهم الذي أربى على سبات أصحاب أهل
الكهف، ويسترجعون أيامهم ويحافظون على مآثر أسلافهم ومفاخر آبائهم وأجدادهم
الذين وطَّدوا لهم الملك ودوَّخوا لهم البلدان، وهيهات هيهات ذلك؛ لأن الداء إذا
أعضل عز دواؤه.
بيد أني لا آلو جهدًا في إحكام دعائم مملكتي وإصلاح شؤونها وتربية الأمة
الأفغانية، وإني لأعلم أن بعض الناس يتربصون بي الدوائر ويتمنون لي الحمام
الذي لا بد منه، ويرون حياتي شجًى في حلوقهم، وقذًى في عيونهم، وما أظن أن
أحدًا من الملوك نعته ألسنة الجرائد مرارًا وهو حي يرزق غيري اهـ.
هذا وإن الأمير يحيا كل الليل في مصالح العباد، وسماع التواريخ وسير
الأوائل، وسياسات الملوك ومسامرة أرباب الفضل والكمال، ولا يزال هكذا إلى
الفجر، فيتوضأ ويصلي الصبح جماعة، ويقرأ ورده وما تيسر من كتاب الله المجيد
وهو مستقبل القبلة إلى ارتفاع الشمس، فيضطجع على سريره، وربما نام في
بعض الأحيان على كرسيه الجالس عليه أو على الحصير الذي هو مصلاه، فينام
إلى الساعة السابعة من النهار، ثم يهب من نومه فيدخل عليه الحكماء والأطباء
فيجسون نبضه، ثم يدخل مغتسله فيغتسل ويبدل ثيابه، ويشرب الشاي، ويتناول
ما تيسر من الطعام، ثم يدخل الأطباء فيجسون نبضه، ثم يدخل عليه وزراؤه
وأمراؤه وأرباب الحوائج، فيأمر وينهى ويقضي بما تقتضيه سياسته، وبعد
المغرب يدخل عليه سماره من الأمراء والعلماء وأرباب البيوتات وأهل الكمال في
كل فن على اختلاف طبقاتهم، ولا يخلو مجلسه من أعلى الناس إلى أدناهم حتى
(البنكية) وهم الذين يرفعون القاذورات من الكنف والشوارع، ولا يزال على ما
ذكر إلى الصبح، فيفعل ما فعل بالأمس وهلم جرًّا.
والأمير مسلم متمسك قوي الاعتقاد مثابر على العمل بالكتاب والسنة وأقوال
السلف والخلف؛ حتى إنه ليعتقد بوهميات الأمور؛ من ذلك ما حكاه في كتابه المتقدم
الذكر وترجمته:
(قد كنت في عنفوان الشباب أعتقد أن التمائم والعوذ لا تجدي شيئًا، وأظن
أن ما كتب في خواصها ترهات لا أصل لها، إلى أن هديت إلى تميمة كتبها بعض
الصلحاء بزعم أنها تقي من الرصاص فما صدَّقت بذلك، وظننت أنها حيلة ساسانية
ثم خطر لي أن أجربها، فربطتها في دراجة وأطلقت عليها الرصاص مرارًا
عديدة، وفي كل مرة تخطئه يدي حتى إن الرصاص كاد يحرق ريشها ولم يصبها،
فزال من فكري ما كنت أتوهمه، وربطت تلك التميمة بعضدي. وكان الأمير يقرأ
مرة في القرآن المجيد فبلغ قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) فكرر الآية مرارًا وأطال فيها
الفكر، ثم قال: عسى أن يرشدني ربي إلى عمل ينفعني في ذلك اليوم ويقيني حر
جهنم.
(المنار)
صريح هذا الكلام أن حكومة الأمير مطلقة مفوضة لإرادته؛ ولكنه يسلك بها
مسلك الإصلاح، فليست عيونه وجواسيسه لمصلحة شخصه؛ ولكنها لمصلحة البلاد
والأفغان قوم أشداء أولو عصبية، ولولا حزم الأمير واحتياطه لما تمكن من الإصلاح
الذي قام به؛ ولكنه إذا لم يؤسس حكومة شوروية يُخشى أن يزول من بعده هذا
الإصلاح وتُضعف أمته العصبيات والتحزبات المعهودة فيها.
وأما مسألة تميمة الرصاص فلعله أذاعها لييأس أعداؤه من اغتياله، وإلا فإن
التجربة برمي طائر الدراجة بالرصاصة وعدم إصابته غير كافية في إثبات منفعتها؛
لجواز أن يخطئ الرامي الجمل فما بالك بالطائر، وظاهر أن الاعتقاد بالتمائم ليس
من الدين كما بيناه في المجلد الثاني والثالث من المنار.
__________(4/75)
غرة ذو الحجة - 1318هـ
21 مارس - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة الغرانيق وتفسير الآيات
تمهيد، مصارعة الحق والباطل، رفع الإسلام مقام الأنبياء وحكمه بعصمتهم،
عيث عشاق الروايات وإفسادهم في الدين، الروايات واختلافها في مسألة الغرانيق،
مخالفة المحققين لها، الرجوع إلى أهل العلم الصحيح في إزالة الحيرة، الطعن في
رواية تفسير التمني بالقراءة، الطعن في حديث الغرانيق رواية، الطعن فيه دراية،
عصمة الأنبياء، الوجوه الدالة على بطلان حديث الغرانيق، تفسير الآيات على
الوجه الموافق لأسلوب القرآن وفيه المقابلة بين الآيات وآيات سورة آل عمران في
المحكمات والمتشابهات، التفسير الثاني، أماني الأنبياء، سنة الله فيهم وفي أقوامهم،
تأويل ثالث، وسواس الشيطان، اللغات في الغرنوق ومعانيه، عدم ملائمة معانيه
لوصف الآلهة، انتفاء نقل ذلك عن العرب، الجزم بأن الحديث من وضع الأعاجم.
***
حديث الغرانيق صار مشهورًا عند المتأخرين لوجوده في كثير من كتب
التفسير التي تتناولها الأيدي، ولو صح لكان أكبر شبهة على الدين؛ ولكن المقلد
البحت الذي لا نظر له لا يبالي بالشبه ويقبل كل نقل، وإن كان الفرع فيه ينفي
الأصل، وطلاب العَنَت يتشبثون بأهداب الشبه، فيجعلونها معاول تهدم الأركان
الثابتة، وتنفي القضايا المبرهنة، ولذلك كثر الطعن في هذه الأيام بدين الإسلام،
من دعاة النصرانية، وبعض المفتونين بالشبه المادية، وأقوى تكأة لهؤلاء الطاعنين
ما قاله بعض المفسرين في مسألة زيد وزينب، وفي مسألة الغرانيق، ومسألة
أخرى، ولما كان كشف الشبهات وتخليص الحق من شوائب الباطل على وجه تثق به
النفوس، وتطمئن إليه القلوب، من وظائف أئمة الدين، وأكابر العلماء الراسخين،
لجأ قوم إلى حكيم الإسلام في هذا العصر، وإمام المسلمين في كل بادية ومصر،
مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، في أن يجلي لهم الحق
في المسألة الأولى، فأجاب بما هو الحكمة وفصل الخطاب، ونشرناه في المنار،
ليشتهر في الأقطار، ثم سأله آخرون في هذه الأيام عن الثانية، فأجاب بما أزال
الالتباس، ومحص ما في صدور الناس.
جعل المسألة أولاً موضوع درس في الأزهر حضره الجماهير، والجم الغفير،
ثم كتبها لتُنشر في المنار، وتتناقل في الأمصار، وهاك ما جاء من فضيلته، بنصه
وعبارته:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا
يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 52-55) .
قد يجد الباطل أنصارًا، فيتبوأ من نفوسهم دارًا، ويتخذ له منها قرارًا،
وتذهب على ذلك الأيام بعد الأيام، وتمضي عليه الأعوام إثر الأعوام، وهو يلعب
بأهله، ويغلب أهواءهم بحيله، حتى يقصروا نظرهم عليه، ولا يجدوا ملجأ منه
إلا إليه، فإذا أوتوا من ناحيته رضوا، وإذا عرض لهم الحق أعرضوا، ولا يزالون
كذلك إلا أن تنحل به عراهم وتفسد بعلله قواهم، والحق لا يزال يعرض نفسه،
يستخدم مرة لينه وأخرى بأسه، وهو الشاب الذي لا يهرم، والعامل الصبور الذي
لا يسأم؛ وإنما يُعرِض بوجهه عن الأغبياء، ويُولِّي ظهره الأشقياء، ثم لا ينفك
يرحمهم، ولا يبرح يتعهدهم، يسفر عليهم محيّاه، ويرسل إليهم أشعة من سناه،
فإذا وافاهم وقد وهنت مُنَنَهُم [1] ، ومَرهت عيونهم [2] ، وحلك ليلهم، واشتد خبلهم،
صاح بهم منه صائح، ورَمحهم من جنده رامح [3] ، فقِلق بالباطل مكانه، وزُلزلت
من حوله أركانه، وفزع يطلب النصير، وثار يلتمس المجير، فلا يجد إلا أسبابًا
تقطعت به، وأعضادًا فُتَّ فيها بسببه [4] ، وقد رنَّقَ قومه [5] ، وعبس يومه،
فيحملق إلى الحق يأخذه ببصره، ويستنزله بنظره، ولكن خاب الظن، وبطل الفن
ثم لا يلبث وهو الباطل أن يتحول عنده اليأس أملاً، ويجد من اليبس بللاً، فيظن
وهو هو أن الحق ناصره، وأن ستقوى به أواصره، فسيتنصر بجنده، ويطلب
النجدة من عنده، وأقرب ما يكون خصم إلى الهلكة إذا اطمأن إلى عدوه، وأمل
الخير في دنوه، هذا شأن الباطل وأهله، مع تقلبه في ملله ونحله.
يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء
والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر في
الفضائل وصالح الأعمال، وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم، وما نسبه إليهم
المعتقدون بأديانهم، ولا يخفى على أحد من أهل النظر في هذا الدين القويم أنه قد
قرر عصمة الرسل كافة من الزلل والتبليغ والزيغ عن الوجهة التي وجه الله
وجوههم نحوها من قول أو عمل، وخصَّ خاتمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فوق
ذلك بمزايا فُصِّلت في ثنايا الكتاب العزيز.
عصمة الرسل في التبليغ عن الله أصل من أصول الإسلام، شهد به الكتاب
وأيدته السنة وأجمعت عليه الأمة، وما خالف فيه بعض الفرق فإنما هو في غير
الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه، ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان
حق لا يرتاب منه مليٌّ يفهم ما معنى الدين.
مع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانًا يعملون على هدمه وتوهين ركنه، أولئك
عشاق الروايات وعبدة النقل، نظروا نظرة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ
مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} (الحج: 52) الآية، وفيما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ، والأمنية القراءة؛ فعمي عليهم وجه التأويل الحق
على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في
زعمهم، فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختل طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق
في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا
عنه وجفاه قومه وعشيرته؛ لعيبه أصنامهم، وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من
إعراضهم ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم،
لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ما
تمناه حتى نزلت عليه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1) وهو في نادي
قومه.
وروي أنه كان في الصلاة وذلك التمني آخذ بنفسه، فطفق يقرأها فلما بلغ
قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20) {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل
السهو والغلط فمدح تلك الأصنام، وذكر أن شفاعتهن ترتجى، فمنهم من قال: إنه
عندما بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20) سها فقال: تلك الغرانيق العُلى
وإن شفاعتهن لترتجى، ومنهم من روى (الغرانقة العلى) ، ومنهم من روى (أن
شفاعتهن ترتجى) بدون ذكر الغرانقة والغرانيق، ومنهم من قال: إنه قال: (وإنها
لمع الغرانيق العلى) ومنهم من روى (وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن
لهي التي ترتجى) ففرح المشركون بذلك، وعندما سجد في آخر السورة سجدوا معه
جميعًا.
قال ابن حجر العسقلاني: وتعدد الطرق وصحة ثلاثة منها وإن كانت مرسلة
يدل على أن للواقعة أصلاً صحيحًا، وهذه الأسانيد الصحيحة - في رأيه - وإن
كانت مراسيل يحتج بها من يرى الاحتجاج بالحديث المرسل، بل ومن لا يراه
كذلك؛ لأنها متعددة يعضد بعضها بعضًا اهـ، ولولا خوف التطويل لأتيت بجميع
تلك الروايات ما صح عنده منها وما لم يصح، ولكن لا أرى حاجة إليه في مقالي
هذا.
روى ذلك ابن جرير الطبري وشايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع
النفس أُلْف الغريب، والتهافت على العجيب، فولعوا بهذه التفاسير واتخذوها عقدة
إيمانهم حتى ظنوا - وبعض الظن إثم - أن لا معدل عنها، ولا سبيل في فهم الآية
سواها، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها، وذهب إليه الأئمة في بيانها،
حتى ثارت ثائرة الشبه هذه الأيام في نفوس كثير منهم، وهم يزعمون أنهم مسلمون،
وأحسوا أن ذلك الضرب من التفسير لا يتفق مع أصل العصمة في التبليغ، وأن
فيه من الحجة للعدو ما لا سبيل إلى دفعه فلجؤوا إلى أهل العلم الصحيح يلتمسون
منهم بيان المخرج مما سقطوا فيه، وتوهموا أنهم يقررون لهم ما ألفوا، ثم ينقذونهم
من الحيرة مع ثباتهم على ما حرَّفوا، ولكن ضل رأيهم، وخاب ظنهم، وسيقامون
على المنهج، ويرون الحق ناصعًا أبلج.
في صحيح البخاري: وقال ابن عباس في {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي
الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال: أمنيته قراءته (إلا أماني) يقرؤون ولا يكتبون.
اهـ. فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعدما فسرها بالحديث رواية
عن ابن عباس، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين، فما يدَّعيه الشراح أن
الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة، ثم حكايته تفسير
الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) : يفيد أنه غير معتبر عنده.
وقال صاحب الإبريز: إن تفسير تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة
مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواها علي
ابن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه
اهـ، هذا ما في الرواية عن ابن عباس، وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن
المحققين يضعفون راويها.
وأما قصة الغرانيق فمع ما فيها من الاختلاف الذي سبق ذكره جاء في تتميمها
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطن لما ورد على لسانه، وأن جبريل جاءه بعد
ذلك فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين، قال له: ما جئتك بهاتين، فحزن لذلك
فأنزل الله عليه {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الآيات تسلية له كما أنزل لذلك قوله:
{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ
خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ
وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 73-75) وفي بعض
الروايات: أن حديث الغرانيق فشا في الناس حتى بلغ أرض الحبشة فساء ذلك
المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52)
الآية، قال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير
واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة اهـ
وكفى في إنكار حديث أن يقول فيه ابن إسحاق: إنه من وضع الزنادقة مع حال ابن
إسحاق المعروفة عند المحدثين.
وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا
رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون
بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ثم نقل عن أبي بكر ابن
العلاء ما يدل على سقم الرواية واضطراب الرواة فيها، وما يقضي عليها بالوهن
والسقوط عن درجة الاعتبار، وقال الإمام أبو بكر بن العربي - وكفى به حجة في
الرواية والتفسير -: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له.
قال القاضي عياض: والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ {وَالنَّجْمِ} (النجم: 1) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن
والإنس اهـ، وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها، ثم قال
القاضي: قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم
ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة
غير الله وهو كفر، أو أن يتسود عليه الشيطان ويشبّه عليه القرآن حتى يجعل فيه
ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى
يُفهمه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل نفسه عمدًا، وذلك كفر أو سهو، وهو
معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم
من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدًا ولا سهوًا، أو أن يشبه عليه ما يلقيه
المَلَك مما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا
عمدًا ولا سهوًا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} (الحاقة: 44-46) ،
وقال: {إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 75) .
(ووجه ثانٍ) : وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعرفًا؛ وذلك أن هذا الكلام لو
كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل
التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين،
وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف
بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟
(ووجه ثالث) : أنه علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضَعَفَة
القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى
الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة [6] ،
وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه
القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها
على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في
قصة الإسراء، قال: ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي
حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت [7] ، وما ورد عن معاند فيها كلمة، ولا عن
مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلها واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض
شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على
ضعفاء المسلمين.
(ووجه رابع) : ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ
عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الإسراء: 73) الآيتان، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي
رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، ولولا أن ثبته لكاد يركن
إليهم شيئًا قليلاً، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم
يركن إليه قليلاً فكيف كثيرًا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون
والافتراء بمدح آلهتهم وأنه صلى الله عليه وسلم قال: افتريت على الله وقلت ما
لم يقل، وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى
في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ
وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} (النساء: 113) قال
القشيري: ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه
الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الأنباري:ما قارب رسول الله
ولا ركن. انتهى المطلوب من كلام القاضي رحمه الله، وقد أورد بعد ذلك كثيرًا من
القول في توهين الرواية وتكذيبها.
أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رُويت مرسلة من ثلاث طرق على شرط
الصحيح، وأنه يحتج بها ... إلخ ما سبق فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز: إن
العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين، فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها لا
يقبل على أي وجه جاء، وقد عدَّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من
الأخبار التي يجب القطع بكذبها، هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟
وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به فيما هو من قبيل الأعمال
وفروع الأحكام، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالرسل وما جاؤوا به فهي
هفوة من ابن حجر يغفر الله له.
هذا ما قاله الأئمة جزاهم الله خيرًا في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل
لها، ولا عبرة برأي من خالفهم، فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير وإن بلغ
أربابها من الشهرة ما بلغوه، وشهرة المبطل في بطله لا تنفخ القوة في قوله، ولا
تحمل على الأخذ برأيه.
تفسير الآيات
والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتمله ألفاظها وتدل عليه
عباراتها والله أعلم:
لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئًا من القرآن أن قوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} (الحج: 52) الآيات، يحكي قدرًا
قُدِّرَ للمرسلين كافة لا يعدونه، ولا يقفون دونه، ويصف شنشنة عُرفت فيهم وفي
أممهم، فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين
قد سلط الشيطان عليهم، فخلط في الوحي المُنَزَّل إليهم؛ ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ
الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته ... إلخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في
اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه، فلندع هذا الهذيان
ولنعد إلى ما نحن بصدده.
ذكر الله لنبيه حالاً من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ليبين له سنته فيهم،
وذلك بعد أن قال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ
إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ} (الحج: 42-44) إلى آخر الآيات، ثم قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} (الحج: 49-52) ... إلخ، فالقصص السابق كان في تكذيب
الأمم لأنبيائهم، ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه:
إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم، وأما
الذين سعوا في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ليحولوا عنها
الأنظار، ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا
بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ أي: يسابقونهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن
القول، وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها كما يقع عادة من أهل الجدل
والمماحكة، هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم، وأعقب ذلك بما يفيد
أن ما ابتُلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات قد ابتُلي به
الأنبياء السابقون، فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل
والتحريف ويضادون أمانيه ويحولون بينه وبين ما يبتغي بما يلقون في سبيله من
العثرات، فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا يجب أن تفسر الآية
وذلك يكون على وجهين:
(الأول) : أن يكون تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة وهو معنى قد
يصح، وقد ورد استعمال اللفظ فيه، قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله
عنهما:
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حِمَام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله أول ليله ... تمنى داود الزبور على رسل
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل المعنى المفهوم من
قولك: (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد
أراده أو نسبت إليه ما لم يقله تعللاً بأن ذلك الحديث يؤدي إليه، ونسبة الإلقاء إلى
الشيطان؛ لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر
من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول
ولا نبي إلا إذا حدَّث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أُنزل إليه فيه هدًى لهم قام في
وجهه مشاغبون يحوِّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه، ويقولون عليه ما لم يقله،
وينشرون ذلك بين الناس؛ ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق
ويبطل الباطل، ولا يزال الأنبياء يصبرون على ما كُذِّبوا وأوذوا، ويجاهدون في
الحق، ولا يعتدَّون بتعجيز المعجزين، ولا بهزء المستهزئين، إلى أن يظهر الحق
بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة، فينسخ الله تلك الشبهة، ويجتثها من
أصولها، ويثبت آياته ويقررها، وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث
من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض - وهم ضعفاء العقول - بتلك الشبه
والوساوس، فينطلقون وراءها، ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة
فيتخذونها سندًا يعتمدون عليها في جدلهم، ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم،
ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلموا أنه الحق من ربك، فيصدِّقوا به
فتخبت وتطمئن له قلوبهم.
والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقر
بالعقل في قرارة اليقين، وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم،
وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين، وسواء
أرجعت الضمير في (أنه الحق) ، إلى ما جاءت به الآيات المحكمة من الهدى الإلهي
أو إلى القرآن وهو أجلها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين.
هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا، وهم الذين هداهم الله إلى الصراط
المستقيم، ولم يجعل للوهم عليهم سلطانًا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم، وأما
الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل
وقساة الطباع الذين لا تلين أفئدتهم، ولا تبش للحق قلوبهم، فأولئك لا يزالون في
ريب من الحق أو الكتاب لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات
شؤونهم إليه، حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم، أو إن
امتد بهم الزمن، ومادَّهم الأجل، فسيصيبهم {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 55)
يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر، ويقذفون إلى مطارح الذل
وقرارات الشر، فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان
لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته.
ما أقرب هذه الآيات في مغازيها إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُوَ
الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} (آل عمران: 10) ثم قال:
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ} (آل عمران: 12)
... إلخ الآيات، وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى، فالذين في قلوبهم
زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، والراسخون في العلم هم الذين
أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم فيقولون: آمنا به كل من
عند ربنا. فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم، وأولئك هم الذين
يفتنون بالتأويل، ويشتغلون بقالٍ وقيل، بما يلقي إليهم الشيطان، ويصرفهم عن
مرامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان، وما يتكئون عليه من الأموال
والأولاد لن يغني عنهم من الله شيئًا، فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم أعمالهم، فإن لم
يوافهم الأجل على فراشهم، فسيغلبون في هراشهم [8] .
وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم رفع الله
الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يستبقيه وما يذهب ببقائه،
وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران لا مدخل لها في آيات سورة الحج.
هذا هو الوجه الأول في تفسير آيات {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) إلى آخرها على
تقدير أن تمنَّى بمعنى قرأ، وأن الأمنية بمعنى القراءة والله أعلم.
(الوجه الثاني في تفسير الآيات)
إن التمني على معناه المعروف، وكذلك الأمنية وهي أفعولة بمعنى المنية
وجمعها أماني كما هو مشهور، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني حديث
النفس بما يكون وبما لا يكون، قال: والتمني سؤال الرب، وفي الحديث (إذا تمنى
أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه) وفي رواية فليكثر، قال ابن الأثير: التمني تشهي
حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر:
تمنيت الشيء؛ أي: قدرته وأحببت أن يصير إلي. وكل ما قيل في معنى التمني
على هذا الوجه فهو يرجع إلى ما ذكرنا ويتبعه معنى الأمنية.
ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قومًا إلى هدًى جديد، أو شرع سابق
شرعه لهم، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولاً، أو جاء به
غيره إن كان نبيًّا ليحمل الناس على اتِّباع من سبقه إلا وله أمنية في قومه، وهي
أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا ممن دائهم بدوائه، ويعصوا
أهواءهم بإجابة ندائه، وما من رسول إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته،
وتصديقهم برسالته - منه على طعامه الذي يطعم، وشرابه الذي يشرب، وسكنه الذي
يسكن إليه، ويغدو عنه ويروح عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك
في المقام الأعلى، والمكان الأسمى، قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف: 6) وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ
وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) وقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) وفي الآيات ما يطول سرده مما يدل على أمانيه
صلى الله عليه وسلم بهداية قومه وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه إلى نور ما جاء
به.
وما من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ألقى الشيطان في
سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات، ووسوس في صدور الناس،
وسلبهم الانتفاع بما وُهبوا من قوة العقل والإحساس، فثاروا في وجهه، وصدوه
عن قصده، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد
يقهرونه، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع
ضعيف الأنصار - ظنوا الحق من جانبهم، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما
عمد إليه فتنة لهم.
غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم، أو من المستضعفين
فيهم؛ ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان، وليكون الاختيار
المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله، ولكيلا يشارك الحق الباطل في
وسائله، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله، أنصار الباطل في كل زمان هم
أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور
بالزخارف، والزهو بكثرة المعارف، وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في
الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم، وتصرف نظرهم عن سبيل
رشدهم، فإذا دعا إلى الحق داعٍ عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفتن،
وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله بخلوصها من هذه الشواغل،
وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة، فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه
على دعوته قام أولئك المغرورون يقولون: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ
اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ
كَاذِبِينَ} (هود: 27) .
فإذا استدرجهم الله على سنته وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالاً، افتتن
الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم؛
ولكن الله غالب على أمره، فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه
الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها، ويثبت دعائمها، وينشئ من
ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة
الشيطان هي السفلى، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ} (الرعد: 17) .
وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين تسلية لنبينا
صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه، وعدٌ له بأن سيكمل له دينه، ويتم
عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن
يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) ، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:
214) هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية ويدل عليه ما سبق من الآيات ويرشد
إليه سياق القصص السابق في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} (الحج: 42) ... إلخ، وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى
الصحيح، وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز وإني أنقله بحروفه وما هو
بالبعيد عن هذا بكثير، قال بعد ذكر أماني الأنبياء في أممهم وطمعهم في إيمانهم،
وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه
الثاني:
(ثم الأمة تختلف كما قال تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن
كَفَرَ} (البقرة: 253) فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له
في الرسالة الموجبة لكفره، وكذا المؤمن أيضًا لا يخلو أيضًا من وساويس؛ لأنها
لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة وبحسب
المتعلقات، إذا تقرر هذا فمعنى تمنى أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير
والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبي، وإلقاء الشيطان فيها يكون
بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساويس الموجبة لكفر بعضهم، ويرحم الله
المؤمنين،فينسخ ذلك من قلوبهم ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة،
ويبقي ذلك عز وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به، فخرج من هذا أن
الوساويس تُلقى أولاً في قلوب الفريقين معًا غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على
الكافرين) اهـ، وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه تتبين الأحق
بالترجيح.
لو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي، وانتقض الاعتماد
عليه كما قاله القاضي البيضاوي وغيره، ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في
المنسوخ يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية
وهو العصمة، وما يقال في المخرج عن ذلك ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل،
على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العُلى لم يرِد لا في نظمهم ولا في
خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريًا على ألسنتهم إلا ما جاء في
معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح، وهذا يدل على أن القصة من
اختراع الزنادقة كما قال ابن إسحاق، وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت، ولا
يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسمًا لطائر مائي أسود وأبيض،
أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه، والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسَمْوأل
وفردوس وقرطاس وعُلابط) معناه الشاب الأبيض الجميل، وتسمى الخصلة من
الشعر المفتلة الغرنوق، كما يسمى به ضرب من الشجر، ويطلق الغرنوق
والغرانق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات، ويقال: لِمَّة غُرانِقة
وغُرانِقِية؛ أي: ناعمة تفيئها الريح، أو الغرنوق: الناعم المستتر من النبات ... إلخ
، ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام، حتى يُطلق عليها في فصيح القول
الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام، فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات
الأعاجم ومختلقات الملبسين ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء
الأحلام، فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية، {رَبَّنَا لاَ
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) .
***
(الحديث المرسل) هو الذي سقط من سنده من بعد التنابعيي، والجمهور
يتوقفون عن الاحتجاج به لجواز أن يكون الساقط غير الصحابي.
__________
(1) المنن: جمع منة بالضم، وهي القوة.
(2) مرهت العين: خلت من الكحل أو فسدت لتركه.
(3) رمحه: طعنه بالرمح، والرامح ذو الرمح.
(4) الفت: الدق والكسر بالأصابع ويقولون (فت في عضده) إذا كسر قوته وفرق عنه أنصاره.
(5) رنق القوم بالمكان (بتشديد النون) : أقاموا، وفي الأمر خلطوا، والطائر خفق بجناحيه ورفرف ولم يطر.
(6) الفينة: كالعيلة الساعة والحين.
(7) التشغيب: تهييج الشر.
(8) الهراش: المواثبة والمخاصمة، الحديث المرسل: هو الذي سقط من سنده من بعد التابعي، والجمهور يتوقفون عن الاحتجاج به لجواز أن يكون الساقط غير صحابي.(4/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مضار اللَّثْم والتقبيل
أمريكا مصدر العجائب، ومعدن الغرائب غير أن العجائب والغرائب فيها
فُقِدَتْ بتجاوزها حدود التواتر الصفات اللاصقة بالشواذ، والنوادر؛ لأنها حلت عند
أهلها محل الأشياء العادية عند غيرهم.
ومن أعجب ما أتحفتنا به من غرائبها ما قرره حاكم ولاية نيوجرزي إحدى
ولاياتها من منع أشهى الأشياء إلى الإنسان، وموضوع تغزل الشعراء في كل زمان
وأول ما ينبعث إليه بعامل الغريزة كل عاشق ولهان، وأقوى مؤكد للألفة في قلوب
الأحباب، وهو: (لثم الثغور أو رشف الرضاب) .
القارئ لهذا الخبر يحكم من أول وهلة أن الآمر بالمنع مصاب بخبل في عقله،
ولكن الأطباء أجمعوا على حسن صنعه؛ لأن جراثيم الأمراض المعدية كالحمى
الوافدة مثلاً مقرها المنخران والفم، فإذا لثم واحد آخر في ثغره وكان أحدهما
مصابًا بهذا الداء أصيب الثاني به في الحال بالعدوى من الأنف أو الفم، فالأولى
بمن يريد وقاية نفسه من الأمراض أن لا يعرك مارن أنفه بمارن أنف من يُقَبِّل ثغره
كما يفعل المتوحشون سكان بعض سواحل المحيط الهادي، بل يحسن به أن يصافح
من يريد السلام عليه باليد؛ فإن اليد خير وسيلة لتبادل التحية بين المهذبين.
ولا يخلو الحال من أن ينتقد قصار العقول على حاكم نيوجرزي؛ لكونه أصدر
قرارًا لا يمكنه القيام بالرقابة على تنفيذه، ويسخر به، والسخرية في مثل هذه
الأحوال أقرب ما يتدرع به الجهال؛ ولكن كم ألوف من المنشورات والقرارات التي
لو عمل بنصوصها لاتقيت المعاطب، ودُرئت المصائب لم تلبث ممثلة في حيز
خواطر الحكام إلا ريثما يجف مدادها، ثم اندرجت في طي النسيان ودخلت في خبر
كان.
فقرار حاكم نيوجرزي لم يكن والحالة هذه مظهرًا من مظاهر الجنون، ولا
عملاً قصد به مجرد التحكم في مرؤوسيه من الأهالي؛ إذ لم يسلم عقل عاقل أن
رجلاً تعهد إليه أمور ولاية بأسرها، وينقاد لأوامره جميع سكانها، يقضي شهورًا
وأيامًا في تشييد معالم قراره على أساسات متينة من الأسانيد العلمية بدون أن يأنس
ميلاً من الأهالي إلى إبطال عادة التقبيل الواضحة الأضرار بتأثيرها المادي في
صحة الإنسان.
فإن الرجل شاهد من القوم في إبان الأمر تذمرًا شديدًا من إبطال عادة قديمة
شائعة بينهم، وهي تقبيل الإنجيل بعد حلف اليمين أمام القضاة، وتتبع آثار
المناقشات التي قامت بين القضاة والشهود بسبب ما كان يراه الفريق الأول من
وجوب التقبيل، وما كان ينزع إليه الفريق الثاني من الامتناع عنه، واعتبر بما
جنح إليه الشهود من الإصرار على الإباء وتفضيلهم دفع الغرامة المقررة قانونًا في
مثل هذه الأحوال على تقبيل كتاب لمسته شفاه ألوف غيرهم من قبل، وليس
الغريب في الحادثة كلها تعنت فريقي القضاة والشهود وتمسكهما بما ذهب كل منهما
إليه، وإنما الغريب اتحاد السلالة السكسونية في النزعات والأميال؛ فإنه ما شاع
خبر الشروع في منع التقبيل بنيوجرزي، حتى قامت قيامة الميكروبيين في إنكلترا
وكندا وأستراليا ورفعوا أصواتهم مطالبين بمنع تقبيل الكتاب المقدس أمام القضاة،
وحدثت بينهم وبين هؤلاء حادثات أفضت إلى مثل النتيجة التي أدى الخلاف إليها
بين الفريقين في ولاية نيوجرزي.
وكما يعود إلى الأمريكيين الفضل في اقتراح إبطال تقبيل الإنجيل، يعود
إليهم فضل حل هذه المشكلة على أحسن الطرق، حيث قرروا تجليد هذا الكتاب
بمادة السلولوئيد (مادة من السلولوز القاعدة في تركيبها النثر والكافور) ، بدلاً عن
الجلد؛ لأنه بحالته الجديدة يمكن غسله وتطهيره بالمواد المطهرة عقب كل قبلة.
ولكن مسألة القبلة بوجه العموم كانت قد أخذت دورًا مهمًّا في المناقشات بين
الناس، واتسع خرقها، ولم يكن تجليد الإنجيل بالسلولوئيد حاسمًا لها؛ إذ تألفت في
الحال عصابة من الأهالي دعت نفسها (عصابة منع التقبيل) ، وسلمت مقاليد
زعامتها لأحد نطس الأطباء، فأثارت حربًا عوانًا على اللثم والتقبيل، وأبانت
بالبراهين القاطعة مقدار ضررهما بالصحة، ومن هذه الأدلة: أن اليابانيين يجهلون
عادة التقبيل، ولذا كانت جسومهم أبعد من جسوم غيرهم عن الأمراض، وقد
ناقضه في هذه الدعوى طبيب أمريكي عاش طويلاً بمدينة طوكيو عاصمة اليابان
حيث قال: إن اليابانيين لا يجهلون عادة التقبيل العامة في جميع الشعوب، وغاية
الأمر أن حكومتهم منعت من تقبيل الأطفال خوفًا من وصول الأمراض إليهم
بالعدوى.
ومهما يكن من الأمر فقد استدرجت العصابة إلى حزبها كبار الأطباء، وثقات
العلماء، وقرروا إصدار منشور ببيان ما يدعو إلى التخلي عن عادة التقبيل المضرة؛
فإن القبلة تنقسم إلى قسمين: قبلة يقصد بها مجرد الشهوة وهي لا يختلف اثنان في
ضررها، إذ امتزاج اللعابين بارتشاف الرضاب أقوى موصل للجراثيم من المريض
إلى السليم، وقبلة اصطلاحية وهي التي اتفق الناس عليها لإظهار شوق، أو
الاعتراف بصنيع حسن، وتكون عادة في الوجنة أو اليد، ولسنا نرى أن ترك أثر
من لعاب الفم قد يكون مشحونًا بجراثيم الأمراض المعدية عليهما يعد من مظاهرات
الشوق، أو دلائل الشكر إذا كان مصير ذلك الأثر أن يكون مركزًا تنبعث منه
جراثيم العدوى إلى الكثيرين بواسطة من وسائط الانتقال التي يضيق المقام عن
حصرها، ولذا ننصح القراء بترك تلك العادة القبيحة فوق ضررها، ونرجو أن
يقوم بيننا أمثال والي ولاية نيوجرزي؛ ليرشدونا إلى الصواب في أخص أمورنا
وأجلها وأنفعها لنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. م
__________(4/100)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحنين إلى الوطن
قال في المسامرة: حدثنا أبو مصعب بن محمد بن مسعود الخشني الخطيب
الأديب قاضي كورة حيان بمسجد الأخضر بمدينة أشبيلية قال: لما حُملت نائلة بنت
الفرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه كرهت فراق أهلها، فقالت
لضب أخيها:
ألست ترى بالله يا ضب أنني ... مرافقة نحو المدينة أركُبا
أما كان في أولاد عمرو بن عامر ... لك الويل ما يغني الخباء المحجَّبا
أبى الله إلا أن أكون غريبة ... بيثرب لا أم لدي ولا أبا
قال: وأنشدني ابن سكر بها بمسجد الشهداء:
ألا يا حبذا وطني وأهلي ... وصحبى حين تذكرني الصحاب
بلاد من غرانقة كرام ... بهم حلَّى تميمتي الشباب
وما عسل ببارد ماء مزنٍ ... على ظمأ لشاربه يشاب
بأشهى من تلقيكم إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب
وأنشدتني خديجة بنت عبد الوهاب بن هبة الله الصوفي القصار قول
الأعرابية التي كان يهواها بعض خلفاء بني العباس، فتزوج بها، فلم يوافقها هواء
البلاد، فلم تزل تنحل وتعتل وتتأوه مع ما هي عليه من النعيم واللذة والأمر والنهي
فسألها عن شأنها فأخبرته بما تجد من الشوق إلى البراري، وأحاليب الرعاء،
وورود المياه التي تعودت، فبنى لها قصرًا على رأس البرية بشاطئ الدجلة سماه
المعشوق، يقابل مدينة سامرا من الجانب الآخر، وأمر بالأغنام والرعاء أن تسرح
بين يديها وتتراءى أمامها، فلم يزدها ذلك إلا اشتياقًا إلى وطنها، فمر بها يومًا في
قصرها من حيث لا تشعر بمكانه، فسمعها تنتحب وتبكي حتى ارتفع صوتها وعلا
شهيقها، وكبد الخليفة يتقطع رحمة فسمعها تقول:
وما ذنب أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت
تمنت أحاليب الرعاة وخيمة ... بنجد فلم يقض لها ما تمنت
إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه ... وبرد حصاه آخر الليل حنت
لها أنة عند العشاء وأنة ... سحيرًا ولولا أنَّتاها لجُنَّت
فخرج عليها الخليفة وقال: قد قضي ما تمنيت، فالحقي بأهلك من غير
طلاق، فما مر عليها وقت أسرَّ من ذلك، وسرى ماء في وجهها من حينها، فعجب
الخليفة، والتحقت بأهلها بجميع ما كان عندها في قصرها، وكان الخليفة يهواها
ويغشاها في أهلها إذا تصيد اهـ.
أقول: ومن هذا الباب قول بعضهم:
وحبَّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
__________(4/103)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)
كتاب جديد ظهر في عالم الطباعة، جديد في وجوده، جديد في مباحثه
ومسائله، جديد في حكمته وفلسفته، وإرشاده وسياسته، حملت به فكرة عالم عامل،
ومحنك عاقل، حلب الدهر شطريه، وعرف ما له وما عليه، ولما تم حمله وأراد أن
يظهر في الوجود فضله، وضعته تلك الفكرة الوقَّادة، والقريحة النقادة، في أرض
الحرية، من هذه البلاد المصرية، فكانت جريدة المؤيد أول مهد له تمهد، ثم لم يلبث
أن تم فصاله، وظهر في إثر ولاده كماله، وتم له استقلاله، وعم القارئين نواله.
أطال هذا الرجل النظر في الاستبداد، فرأى أنه هو المخرب للبلاد، وتبصر
مليًّا في الاستعباد، فعلم أنه هو المهلك للعباد، فدرس من هذين الأمرَين الأمرَّين
طبائعهما، وتعرف مصارعهما، ثم أتحف ناشئة قومه بنتيجة علمه، وثمرة عقله
وفهمه، فوضع لهم بدر التمام، على طرف الثمام، وقرب إليهم ما كان على بعد
سنين وأعوام، فجعله على مسافة يوم وأيام.
يشتمل الكتاب على خطبة في سبب تأليفه وإهدائه للناشئة، ومقدمة في علم
السياسة والدعوة للكتابة في الاستبداد، ويليه فصول في تعريف الاستبداد وذويه،
والاستبداد والدين، والاستبداد والعلم، والاستبداد والمجد، والاستبداد والمال،
والاستبداد والأخلاق، والاستبداد والتربية، والاستبداد والترقي، والاستبداد
والتخلص منه، وفي هذا الفصل 25 بحثًا من أهم المباحث السياسية والاجتماعية
ذكرها المؤلف، (تذكرة للكُتَّاب ذوي الألباب، وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها
بترتيب) ، وهذا الفصل الأخير وما فيه مما لم يُنْشَر في المؤيد.
أشار المؤلف لاسمه برمز (الرحالة ك) ليحكم الناس على القول بذاته لذاته،
وللناس شغف بمعرفة الفضلاء النابغين من أمتهم، وحفظ أسمائهم وألقابهم في ألواح
القلوب ودفاتر التاريخ، فأما الذين يعرفون شخص الأستاذ الهمام السيد الشيخ
عبد الرحمن أفندي الكواكبي الحلبي وفضله، فيقولون: أجدر بهذا الكتاب أن يكون
له، وأما الذين لا يعرفونه فليحفظوا هذا الاسم الذي يطابق الرمز إلى أن يجيء يوم
يستبدل فيه هذا الرحالة التصريح، بالرمز والتلميح.
والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد بشكل كتاب (المرأة الجديدة) ،
وصفحاته 183، وثمنه خمسة قروش، ويباع في مكتبة الترقي، ومكتبة هندية،
ومكتبة الهلال، ومن يدفع سبعة قروش أميرية يرسل إليه الكتاب مضمونًا حيث
كان، والطلب يكون بهذا العنوان (القاهرة صندوق البوسطة نمرة 517 محمد
أفندي الوكيل) ، فنحث كل قارئ على قراءته، ونرجو من مؤلفه أن يكتب لنا كتابًا
آخر في المباحث 25 التي وضعها تذكرة للكتاب، فلا يوفيها حقها غيره.
***
(تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام)
كتاب جديد اسمه يدل على شرف موضوعه وفائدة مباحثه، من إنشاء صديقنا
الكاتب الفاضل رفيق بك العظم الشهير بغيرته وإجادته بما لا يجيد فيه إلا الأقل من
كتابنا، والكتاب مؤلف من تسع مقالات، خمس منها نُشرت في مجلة الموسوعات،
فكانت في المكانة الأولى مما يُنشر فيها، وقد وُشِّي ذيل هذه المقالات بهوامش
زادت في فوائدها، وأجدر بالذين يبحثون في هذه الأيام عن المدنية الإسلامية كيف
كانت، ولم زالت، وكيف ينبغي أن تكون، وما النسبة بينها وبين المدنية الغربية أن
يقرؤوا هذه المقالات ويتدبروها، ويتوسعوا في مسائلها بحثًا وحوارًا وكتابة وخطابة
ودعوة إلى العمل وقيامًا به، وسنُتحف قراء المنار بشيء منها عند سنوح الفرصة،
وعسى أن يسبقونا إلى قراءتها برمتها، وهي تُطلب من صاحبها ومن مكتبة الترقي
وغيرها.
***
(دليل الحيران في الكشف عن آيات القرآن أو (ترتيب زيبا))
لا يوجد مسلم يشتغل بالكتابة والعلم إلا ويحتاج للمراجعة والكشف عن آيات
من القرآن في أوقات كثيرة، ومثل المسلمين من يشتغل بعلوم دينهم ولسانهم العربي،
فمن لم يكن حافظًا يُضيع وقتًا طويلاً في طلب كل آية يحتاج إلى الوقوف عليها؛
ولذلك مست الحاجة إلى طريقة تُسَهِّل المراجعة على طالبها، وقد سبق المتقدمون
إلى اتخاذ طرائق لم نعرف منها إلا ما عرفنا به الطبع فمنها كتاب (نجوم الفرقان
في أطراف القرآن) ، وهو يذكر جميع كلمات القرآن مرتبة على حروف المعجم،
ويذكر في جانب كل كلمة رقم السورة أو السور التي وقعت فيها، ورقم الآية أو
الآيات بالعدد، وقد طُبع في ألمانيا، وجعلت أرقامه إفرنجية، ومنها (ترتيب زيبا)
للحاج صالح ناظم ومعناه (الترتيب الجميل) ، وهو مرتب على حروف المعجم
بحسب أوائل الآيات غالبًا، فمتى عرفت أول الآية تكشف في فصل الحرف
المبدوءة به تجدها، وقد جعل الفصول لأكثر الحروف على أنواع؛ لكل كلمة مما
يكثر في الكلام نوع، فالآيات المبدوءة بكلمة (إن) نوع، والمبدوءة بكلمة (إذا)
نوع، والمبدوءة بأدوات الاستفهام على أنواع، وعلى ذلك فقس، وكان هذا الكتاب
قد طُبع في الآستانة العلية، ونفدت نسخه، فانبرى في هذه الأيام الفاضل الهمام
إبراهيم بك رمزي، فأعاد طبعه على نفقته في مطبعة التمدن المتقنة؛ ولكنه غير
اسمه بما ذكر في العنوان، وثمن النسخة منه 10 قروش، وهو يُطلب من المطبعة
المذكورة بجوار إدارة المؤيد بمصر.
__________(4/105)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
التعليم الفطري والمدارس [1]
(المكتوب 48) من أراسم إلى هيلانة في 15 أغسطس سنة 185.
لو أني عُهِدَ إليّ ببناء مدرسة كبرى للناشئين في أمة من الأمم العظيمة،
لبذلت وسعي في أن أبث في جدرانها من العلم روحًا وعقلاً.
ذلك لأن القائمين على التعليم لم يزالوا في سبات من الغفلة عما كان لمعاهدة
التربية من التأثير في خيال المتعلمين خصوصًا في سنيهم الأولى، ولقد كان القدماء
أنفذ منا إدراكًا في سر التعليم بالمشاهدة، وجروا في ذلك على نواميس الفطرة
الإنسانية الحقة.
ليست المعابد والبِيع عند جميع الأمم إلا مدارس اتخذها الكهنة والقسيسون في
الأديان القديمة والحديثة صحفًا لمجموع عقائدهم ومذاهبهم، بما وجدوه لذلك من
الوسائل الكبرى في فن العمارة، ونحت التماثيل، وصناعة التصوير، وبقاء
العبادات إلى الآن يدلنا على درجة انتقاش الرموز والصور الاعتقادية في أذهان
العامة؛ فإن مخترعات الخيال التي يبرزها الرسم للوجود الخارجي في صور فخيمة
تبقى شائعة بين الناس بعد فناء الفكرة التي أنتجتها بعدة قرون، يشهد لذلك بقاء
مظاهر المعتقدات الجمادية، مع أن الأمم قد كفت من عهد بعيد عن توهم أنها لا
تزال على عادتها في عبادتها.
إذا كنا قد رفعنا هياكل للآلهة الباطلة كالحرب والروع والظفر بالأعداء وجميع
بلايا الإنسان ومصائبه، فما لنا لا نرفع للعلم هيكلاً؟ وأي كلفة في هذا العمل على
أمة عظيمة؟ لا يقال: إن أول عائق دونه هو قلة المال وغلاء المواد اللازمة
لإقامته؛ لأني أرى أننا في غنى عن الذهب والمرمر والخشب النفيس، وفي مقدورنا
أن لا نتعرض في إنشائه لشيء من صنوبر لبنان، ولا من نفائس المعادن التي تم بها
العظم والجلال لهيكل سليمان؛ فإن في الجبس، بل في الورق المقوى غناء عن ذلك
كله في سبيل التربية، إذا وجد له أناس صُنُع اليدين يهيئونه ويستخدمونه في الدلالة
على المعاني، وقد أصبح اليوم من الميسور تحصيل أهم مثل الأشياء الخلقية
والصناعية بنفقات زهيدة، وذلك بفضل ما اخترع من إفراغ صب المواد في
القواليب، وإن فيما يوجد بمعاهد التمثيل عندنا من تماثيل الزينة وصورها لبرهانًا
ناطقًا بأن في قدرة المصور أن ينقل الرائي إلى رومة [2] وأثينا [3] ومنفيس [4] ببعض
جولات يتحرك بها قلمه، وبشيء من المغالطات البصرية؛ لأنه متى أتقن تمثيل ما
يمثله من الأشياء في شكله ولونه، كاد أن يُحْدِث في الخيال ما يُحْدِثه أصله من الأثر،
فلا عبرة بالمادة، وبما يُتخذ من الوسائل لبث الروح فيها ما دامت الصورة تنبه
المشاعر وتؤدي إلى العقل معنى صحيحًا لما يُراد تعريفه إياه.
كل دين إذا استكنهناه رأيناه يرجع إلى فهم ما ذهب إليه أربابه من الآراء في
خلق العالم ونظامه؛ لكن فهم هذه الآراء هو في الغالب غاية في الصعوبة، وإنه
لولا الاستعانة بالرموز في إدراكها لنبت عنها عقول الكافة نبوًّا كليًّا، وأما الهيكل
الذي أقصد رفعه للعلم، فهو معرض تتجلى فيه الحوادث على الناشئين، بل هو
تاريخ حي محسوس للعالم الذي يعيشون فيه مواده كلها موجودة؛ لكنها متفرقة فيما
عندنا من المتاحف والمكتبات والمجموعات، ونحن عنها غافلون، فليس من الحق أن
يُكَلَّف اليافع بالتماسها في أماكنها؛ لأن ما في هذه الأماكن من العظام النخرة،
والحيوانات المصبرة، وجذاذ الأوثان المكسرة؛ إنما يفيد العلماء، وأما الأحداث
فاللازم لإفادتهم إيجاد مشهد تجتمع لهم فيه المُثل الحية الكبرى للإنسان وغيره من
المخلوقات على صورة جاذبة لنفوسهم.
هذه معارضنا العامة التي تقام في باريس ولوندرة قد تعلم منها الجهلة (وهم
في كل أمة سوادها الأعظم) من مناشئ الصناعة وتوزع الأجيال على سطح
الأرض، وأحوال الترقي في الأمم المختلفة أكثر مما يتعلمونه من جميع الكتب التي
وضعت في التدبير السياسي وتقويم البلدان، فكيف إذا عزَّزت مشاهدة الأشياء،
وكملت بتعليم خاص؟ تلك المعارض لا يتسنى إقامتها مسانهة، وهي فوق ذلك لا
تحتوي إلا على طائفة من الوقائع والأمور المخصوصة، وإذا كنت قد نوهت بها؛
فإنما قصدت بذلك أن أبين لك ما يعود على الأحداث من الفائدة، إذا أقيم لهم معهد
آخر للعلوم تمثل لهم فيه صورها.
أصبح علم الكرة الأرضية خلوًا مما يستميل نفوس المتعلمين مورثًا للسآمة
والضجر بمين ما رسمناه له من الخرائط وألفناه فيه من الكتب، أفلا يكون الحال
على خلاف ذلك لو أن هذه الخرائط استعيضت بقماش تصور عليه الأرض وما
فيها تصويرًا إذا جال النور في أرجائه ضاعف مغالطة بصر الطفل، فخيَّل له أنه
على الجانب الآخر للمحيط مثلاً؟ وليس يلزم لذلك إلا مصور صادق في عزيمته
باذل نفسه من أجل البلوغ إلى غايته.
قام بفكر أمريكي شجاع اسمه جون بانفارد يومًا من الأيام أن يصور مجرى
نهر المسيسبي [5] ، فركبه وحده في قارب مكشوف مصرًّا على إنفاذ فكره، غير مبالٍ
بما كان يعترضه من الصعوبات الكثيرة، ويعتريه من الآلام الشديدة، فيبست يداه
وخشنتا بسبب استعمال المجذاف، واحترق جلده بحر الشمس، فصار عما قليل
كواحد من هنود أمريكا في لونه، وقضى أسابيع كاملة، بل شهورًا لم يصادف فيها
إنسانًا يكلمه، ولم يكن له رفيق سوى قرينته، بلى كانت هذه الرفيقة تتكلم بأعلى
صوت كلامًا حقًّا لا خطأ فيه يُفْهِم بعض طيور النهر والأجمة، وكان يخرج في كل
مساء من قاربه إلى البر ويوقد نارًا، فيشوي عليها ما يصطاده، ثم يرقد ملتفًّا في
غطائه مكفئًا فوقه القارب؛ ليكون له جُنة دون الحيوانات الوحشية، وسقفًا يقيه طل
الليل، وكان عند شروق الشمس يهب من نومه ويمضي عامة يومه في اجتياز
النهر من شاطئ إلى آخر على التوالي طلبًا لمنظر جديد، فكان يسترعي طرفه في
مكان خليج عميق، وفي آخر أسراب من الطيور، وتستلفته في ثالث جزيرة
صغيرة علتها خضرة نضرة، وهو لا يفتر عن تسويد ما يلاحظه فلم يغادر شيئًا مما
يستحق التصوير إلا رسمه خطفًا واختلاسًا، ولما فرغ من تقييد إشاراته وملاحظاته
اتخذ له في المدينة المسماة لويسفيل بولاية كنتوكي [6] بيتًا من الخشب، حيث أنشأ
يصور ما قيده على القماش وما كان أطوله، فقد بلغ ذرعه ثلاثة أميال.
لا شك في أن ذلك المصور كان أهلاً لأن يأتي بطرفة من الطرف، وإن كان
رسم مناظر المسيسبي ليس في الحقيقة إلا حكاية صادقة لسفره خطها قلم الرسم خطًّا
بطيئًا، ونحن على كل حال نرجو الله سبحانه أن يقيض لنا من يحتذي مثال جون
بانفارد من المصورين، وأن يهبهم من الإقدام والإخلاص للعمل ما وهبه؛ فإنه لو
تحقق ذلك لأصبحنا بسطح الكرة التي نسكنها أعلم مما نحن الآن بكثير.
وليت شعري: أي مانع يحول دون إنفاذ عمل كهذا يكون تاريخًا للأرض ومن
يقطنها من الأمم؟ ربما قيل: إن ذلك هو ما يقتضيه من إنفاق المال الكثير. فأقول:
هذا مُسَلَّم؛ ولكنا ننفق في تبديل سلاح بآخر، أو طريقة من طرق القتال بغيرها أو
في بناء بارجة، أو إقامة حكومة جديدة متوسطة مدة بقائها ثمانية عشر شهرًا على
الأكثر - أضعاف ما تقتضيه منا طريقة التربية المؤسَّسة على نواميس الفطرة
الإنسانية.
لا شأن لنا في ذلك، وعلينا التسليم والامتثال؛ فإن هيكلاً كالذي وصفته
تتجلى فيه الوقائع والمعاني إنما هو صورة من صور الخيال لا وجود له في الخارج
ولن يوجد بلا شك، فيجب علينا إذن بناؤه في المستقبل في ذهن (إميل) بمواد
أخرى اهـ.
(المنار)
إن ما قاله المؤلف في الأديان غير مُسَلَّم على إطلاقه، ويظهر أنه لم يطلع على
الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة، والمرشد إلى سنن الفطرة في التربية والتعليم،
وإن كان يستنير بأشعة شمسه من حيث لا يشعر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مُعَرَّب من باب الولد من كتاب إميل القرن التاسع عشر.
(2) رومة هي عاصمة إيتاليا الآن وكانت في غابر الأزمان عاصمة مملكة الرومانيين، ثم عاصمة لولايات السلطنة الروحية، ومقرًّا للبابا كما أنها مقره الآن.
(3) أثينا هي مدينة شهيرة من القدم في بلاد اليونان، وهي الآن قاعدة حكومة تلك البلاد.
(4) منفيس مدينة كانت عاصمة لمصر في الأزمان الغابرة أطلالها قريبة من القاهرة.
(5) المسيسبي نهر عظيم في أمريكا الشمالية يصب في خليج المكسيك بالقرب من مدينة نوفل أورليانس وطوله 5500كيلو متر.
(6) كنتوكي هي إحدى الولايات المتحدة بأمريكا الجنوبية سكانها 1855450 نفسًا وعاصمتها فرنكفورت.(4/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ملكة الإنكليز
تقدم في الجزء الثاني والثلاثين من السنة الثالثة ذكر مولد هذه الملكة العاهلة
ونشأتها وجلوسها وتتويجها وزواجها، ونلم هنا بباقي سيرتها.
أخلاقها ودينها:
تقدم في مطاوي الكلام ما يُشْعِر بدماثة أخلاق الملكة فيكتوريا وتهذيبها،
ويُؤْثَر عنها شدة التمسك في مذهبها البروتستانتي؛ ولكنها كانت تُظهر الاستياء من
التحامل على رعاياها الكاثوليك، ومما يُؤثر عنها في المحافظة على يوم الأحد أن
أحد الوزارء أراد أن يعرض عليها أوراقًا ذات بال في مساء السبت، فرأى الوقت
يضيق عن النظر فيها، فاستأذنها بأن يحضر لعرضها في صباح اليوم التالي فقالت:
إن غدًا الأحد يا حضرة اللورد. فقال: إن مصلحة البلاد لا تسمح بالتأجيل.
قالت: إذن لا بأس. وفي صبيحة ذلك اليوم حضر ذلك الوزير سماع الوعظ في
الكنيسة مع الملكة كعادة أمثاله، وكان الوعظ في (الواجب على المسيحي يوم الأحد)
فلما انتهى قالت الملكة للوزير: (هل أعجبك الوعظ؟) قال: كثيرًا يا جلالة
الملكة. قالت: (لا أخفي عنك أنني أنا التي أوعزت إلى الخطيب بهذا الموضوع
فعسى أن يؤثر كلامه فينا) ، ثم أمرته أن يحضر في اليوم التالي لعرض الأوراق
ففعل، ويُؤثر عنها أنها قالت: (إن السر في عظمة إنكلترا هو الكتاب المقدس.
وقالت: إن التجارة وحدها لا تجعل الأمة عظيمة وسعيدة، وإنكلترا إنما بلغت ما
بلغت من العظمة والسعادة بمعرفة الإله الحقيقي)
نعم إن الإنكليز أشد تمسكًا بالدين، وأقل تعصبًا على المخالفين من جيرانهم
الفرنساويين، ولذلك تقدموا عليهم؛ ولكن البوير أشد تدينًا من الإنكليز؛ ولذلك
انتصروا عليهم وقاووهم إلى الآن، ولا يزال الحرب بينهما سجالاً مع أنهم في الإنكليز
كالشامة في جلد البعير، فليعتبر شبان المصريين الذين يتوهمون أن المدنية إنما تكون
بالكفر والتعطيل، واتباع الشهوات البهيمية، والغرور بالزخارف الظاهرية.
سياستها:
الممالك إنما تنهض وترتقي برجالها ووزرائها المسؤولين المحنكين، ودولة
إنكلترا أغنى الدول بالساسة، وقد رزقت الملكة فيكتوريا بأنصار منهم نهضوا
بالبلاد في عهدها نهوض الأسود وهم: واللورد ملبرن، والسر روبرت بيل، واللورد
جون رسل، واللورد بامرستون، واللورد بيكنسفيلد، وأرل دربي، وأرل إبردين،
والمستر غلادستون، واللورد روزبري، واللورد سالسبري، هؤلاء هم الذين تولوا
الوزارة الكبرى على عهدها، ولهم من سائر الوزراء والنواب والحكام أعوان
وأنصار على شاكلتهم؛ لأنهم نتائج تعليم وتربية واحدة، ويظن كثيرون أن الملكة
لم تكن إلا آلة صماء لا عمل لها بذاتها، ولا إرادة لها في حكومتها، والصواب أنها
كانت تنظر الأشياء الكلية وتبدي رأيها فيها، ومن الشواهد على هذا أن اللورد
ملبرن حاول إقناعها بالأدلة الخطابية بأن تُصَدِّق على مشروع مهم، وكان يخاف أن
لا ينجح في ذلك، فنوه بأمر المشروع ما شاء أن ينوه، وقال: إنه يا جلالة الملكة
عظيم الأهمية. فقالت له: (إن أعظم المسائل وأهمها عندي الآن هو أمر التوقيع
على مشروع لم أقتنع به) .
وقد اتسع عمران الدولة البريطانية على عهدها، فقد كانت مساحة البلاد
الإنكليزية ومستعمراتها يوم تولت عليها 8329000 ميل مربع، وعدد سكانها
168 مليونًا، وما تولت عنها إلا ومساحتها تزيد على 11250000 ميل مربع،
وسكانها يزيدون على 400 مليون، وكان دخل الحكومة الإنكليزية حين وُليت 50
مليون جنيه من بلادها، و25 مليونًا من الهند، وبلغ قبل أن وَلَّت 120 مليونًا من
بريطانيا وحدها، ونحو 70 مليونًا من الهند، وثلاثين من أستراليا و20 مليونًا من
سائر المستعمرات.
وكان للملكة نفوذ شخصي عظيم في أوربا لكونها امرأة، ولكبر سنها،
ولوشيجة الرحم المشتبكة بينها وبين أعظم ملوك الأرض كعاهل الألمان، وقيصر
الروس، فكانت تحل بكتاب تخطه بيمينها ما لا تحله النفاثات في عقد السياسة منه
بواقع الرجال، ولذلك يُظن أن بريطانيا قد فقدت بفقدها شمس المجد ونجم السعد،
وأنها لن تكون بعدها كما كانت، والله علام الغيوب.
* * *
(تهنئة واستماحة) : نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك وبمناسبة العيد
وترك عمال المطبعة العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة
فنرجوهم السماح.
(وسام الافتخار المرصع) أنعم مولانا السلطان الأعظم أيده الله تعالى على
أخلص المخلصين لذاته الكريمة عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي
الشأن الذي هو جدير به، فنهنئ عطوفته بذلك.
__________(4/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات
والتقاليد والعادات
السنيون والشيعة في حمص
كتب إلينا الأديب المهذب الحاج محمد طه السكاف الحمصي رسالةً مطولةً
يشرح فيها أمورًا تقع في بعض القرى التابعة لحمص من الخلاف والنزاع والتفرّق
والشقاق بين الفريقين الذين يدعون أهل السنة، والذين يدعون الشيعة، وذكر
بعض المسائل الخلافية التي يكثرون فيها الجدال والمراء كمسح الرجلين في
الوضوء، والمتعة، والمفاضلة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن أعجب
ما ذكره قوله: إن العلماء في حمص يُكَفِّرُون الشيعة بمسألة مسح الرجلين، ويمنعون
الناس من أكل ذبائحهم مع أنها مسألة اجتهادية، ويشهد لمذهب الشيعة فيها ظاهر
القرآن؛ فإن إعراب {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) على قراءة
النصب بالعطف على المحل، أقرب من إعرابها على قراءة الجر بأن الأرجل
مجرورة بالمجاورة، بل هذا غير معروف عن العرب في مثل هذا التركيب، ولا
ينافي صحة المسح ثبوت الغسل في السنة؛ فإنه مسح وزيادة، ولذلك أرجحه بالعمل
مع الاعتقاد بمقابله، وعهدنا بالعلماء الراسخين أنهم يتوقفون عن تكفير من يخالفهم
في الأصول الدينية إذا كان متأولاً، وإن كان مما يكفرون به غير المتأول.
وذكر الكاتب مسألة فظيعة جدًّا، وهي أن رجلين أحدهما الملازم مصطفى أغا
والثاني أحمد بن علي الداغستاني شتماه ولعناه وضرباه على وجهه بالنعال، حتى
كاد يموت؛ ذلك بأنهما اتهماه ببغض سيدنا الصِّدِّيق رضي الله عنه وشتمه، وما كان
الصديق شتامًا ولا لعانًا ولا معتديًا ولا راميًا للناس بالبهتان، وقد كانا سألاه عن
الصديق فذكره بالخير واستمطر له الرضوان من الرحمن، فلم يعبآ بقوله، ولكن بما
نم عليه الفاسقون، ثم إنه ثبتت براءته عند القاضي الشرعي بعدما لبث في السجن
سبعة عشر يومًا.
هؤلاء الناس يزعمون أنهم على هدى الإسلام، وسنة النبي عليه الصلاة
والسلام، الذي أُمر أن يخاطب عبادة الأصنام، بمثل {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ
فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-
25) ولولا هذه الطريقة الإلهية المثلى لما أَلَّفْتَ قلوبهم
{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) .
هؤلاء المتحمسون المتعصبون وأمثالهم هم الذين فرَّقوا كلمة هذا الدين،
وجعلوا أهله شيعًا حتى صار بأسهم بينهم شديدًا، وذهبت ريحهم، وخبت
مصابيحهم، وتقوضت صياصيهم، وتمكن العدو من نواصيهم، وذاقوا مرارة
الخلاف، وآن لهم أن يعودوا إلى الائتلاف، فعسى أن يكون العلماء أول من يسعى
بجمع كلمة المسلمين ووحدتهم.
***
بعض البدع في زيارة قبور الأولياء
قال العلامة الآلوسي في باب الإشارة من تفسير سورة النور ما نصه: قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء
أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه
بالاستئناس؛ فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره
ذلك. واطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله
تعالى أسرارهم، فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من
الأدب، ويجمع حواسه، ويعتمد بقلبه طالبًا الإذن، ويجعل شيخه واسطة بينه وبين
الولي المَزُور في ذلك، فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني
فليدخل وإلا فليرجع. وهذا هو المعنيُّ بأدب الزيارة عندهم، ولم نجد ذلك عن أحد
من السلف الصالح، والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي
أحدهم: أأدخل يا أمير المؤمنين، أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أو نحو ذلك، ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين، وهو
أيضًا مما لم نعرفه عن أحد من السلف، ولا ذكره فقهاؤنا، وما أظنه إلا بدعة، ولا
يعد فاعله إلا مضحكة للعقلاء، وكون المَزُور حيًّا في قبره لا يستدعي الاستئذان في
الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور،
كما يتأدب معه حيًّا كما لا يخفى.
وقد رأيت بعد كتابتي هذه في (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم)
صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه: قال بعضهم: وينبغي
أن يقف - يعني الزائر - بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء.
انتهى، وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى.
ومنه يُعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم
مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى، فاحفظ ذاك، والله يعصمنا من البدع
وإياك اهـ.
***
الموالد
جاء في جريدة الوطن الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:
حضرات القراء أو المشتركين من عوام المسلمين وعلمائهم وفقرائهم
وأغنيائهم، لا تتوهموا أني مسيحي أو إسرائيلي أو بوذي، لا وشرف الإسلام وذويه
ما أنا إلا رجلاً مسلمًا (كذا) أبًا وأمًّا وجدودًا، قد كنت في شبيبتي جاهلاً،
والشباب جنون لا أدري ما هو الدين ولا ما هي الفضيلة، كنت أغضب إذا أرشد
العالم إلى الحقيقة، وأجاري الجهلاء في تسميته (فيلسوف) أي: غير مسلم حسب
زعمهم، مع أن المعنى بضد ذلك، وأفرح وينتعش فؤادي من خزعبلات الجهلاء
التي ما أضر العوام إلا الإصغاء إليها، ولا أوقف الدين في أحرج المواقف إلا
تقاعس العلماء وتركهم هؤلاء الجهلاء يخوضون صفوف الدين، ويهددون حصونه
بترهاتهم الكاذبة حتى مَنَّ الله عليّ بذرة من العقل، وأبلغني من العمر التاسعة
والعشرين، وأرشدني إلى الطريق القويم، فذهبت إلى طنطا في المولد الرحبي هذا
العام، ونظرت الموكب الذي يقوم به رجال الطرق والأشاير نظرة أفقدت حواسي
من شر ما لاقيته من الخرافات التي أفضت بالدين الإسلامي في البلاد المصرية إلى
هذه الدرجة، لقيت اللصوص والمتفقهين يذكرون الله بألسنتهم وعيونهم تتغازل مع
النساء، وأفواههم ترسل واسع التقبيل إليهن.
لقيت الفقهاء يرتلون آيات القرآن في الطريق، لقيت الطبل والزمر يشنفان
الآذان، لقيت المغنيين ينشدون (عزيز حبك) ، و (كان عقلك فين) ، لقيت
النساء حاملات أولادهن على أكفهن خلف المواكب يزغرتن كأن السيد يزف للختان
أو للتأهيل.
هل أصل الموكب يا حضرات العلماء كان كما نراه الآن؟ وهل كانت هذه
الخرافات موجودة فيه في الزمن السابق، أم كان بخلاف ذلك؟ وهل هذه البدع من
ضمن واجبات الدين والسيد محتاج إليها أم لا؟ أسئلة نوجهها إلى حضراتهم
ونرجوهم الإجابة عليها، وعن الباعث لتغاضيهم عن إبطال هذه العادات الخبيثة
حتى نكتفي مؤنة تضاحك الغير علينا ولهم جزيل الفضل اهـ بحروفه.
... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل يسري
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالقرشية
***
النعل المعبودة
إن في مقام الشيخ الكلشني المشهور بالولاية نعلاً عتيقة منسوبة لهذا الشيخ،
يعتقد عوام المصريين أن فيها سرًّا عجيبًا، وهي أن نقاعتها تطفئ نار العشق، وتُبَرِّد
حرارة الغرام، وأنها على العاشقين برد وسلام، وأن لها فوائد أخرى، وهي دائمًا
منقوعة في الماء، فيأتي النساء والرجال ويشربون من مائها للتبرك به، ومن كانت
تتهم زوجها أو غير زوجها ممن يهمها شأنهم بالعشق تسقيه شيئًا من هذا الماء ولو
بحيلة لا يشعر بها، كأن تجعل الماء الذي تجتلبه من نقاعة النعل في سقائه أو
تمزجه بشرابه، سمعت هذا من كثيرين، وسأقصد مشاهدته بنفسي إن شاء الله
تعالى، أما كون هذه عبادة فسيأتي بعد.
__________(4/116)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تهنئة واستماحة
نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك، وبمناسبة العيد وترك عمال المطبعة
العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة، فنرجوهم السماح.
__________(4/116)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وسام الافتخار المرصع
أنعم مولانا السلطان الأعظم أيّده الله تعالى على أخلص المخلصين لذاته الكريمة
عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي الشأن، الذي هو جدير به، فنهنئ
عطوفته بذلك.
__________(4/116)
غرة المحرم - 1319هـ
20 إبريل - 1901م(4/)
الكاتب: محمد عبده
__________
الانتقاد
من مقالات مولانا الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية
ما وعظك مثل لائم، وما قوَّمك مثل مقاوم
الانتقاد نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر تظهر في مناطقهم سوقًا
للناقص إلى الكمال، وتنبيهًا يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به،
الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب، وتنفتق به الألسنة لتقريع الناقصين
في أعمالهم، ودفع طلاب الكمال إلى منتهى ما يمكن لهم
جعل الله للحياة قوامًا ... وقوام الحياة بالإدراك
إنما الإنسان كون عقلي، سلطان وجوده العقل، فإن صلح السلطان ونفذ حكمه
صلح ذلك الكون وتم أمره، إن الله لم يهمل العقل من ناصرين عزيزين حاذقين
أحدهما له والثاني له وعليه، أما الأول فما قرن الله به من غريزة الميل للأفضل،
والاصطفاء للأمثل، وأما الثاني فما ألزمه الصانع من الانقباض عن الدون،
والنفور عن منازل الهون، فذاك يحدوه وهذا يسوقه، وذاك يزين له الطلب، وهذا
يزعجه إلى الهرب، وكل منازل العقل صعود إلا أدناها فعجز يقف بأهله على
شفير العدم، وكل منزلة بعد الأدنى دنو من الكمال، غير أن ما يسمو إليه العقل،
أشبه بما ينبسط إليه الوجود، يمتد إلى غير نهاية، ويرتفع دون الوقوف عند غاية،
فليس يصل منتجع الكمال إلى مقام إلا ويرمي بطرفه إلى أبعد منه، ومساقط العجز
وبيئة المقام كثيرة الآلام، تستوكرها أفاعي الهموم، وغائلات الغموم، وقد جعلها
الله من وراء العقل كلما التفت إليه راعه هول منظرها فتحفز عنها، إلى منجاة منها،
ولا يزال يزجيه الخوف وتطير به الرغبة حتى يدنو من رفرف السعادة الأعلى.
ولكن كلال البصائر البشرية قد يقف بها عند مظاهر غرارة، وظواهر ختارة
فتخالها طلبتها، وتحسبها منيتها، ولا تدري أن بها هلكتها وفيها منيتها، فمثلها مثل
الطير ينظر إلى الحب المنثور وَيَغْبَى عن الفخ المنصوب، فإذا سقط للالتقاط وقع
في يد الحابل، أو مثل المفترس يلوح له لائح الفريسة ولا يشعر بما أعد له صائده،
فإذا وثب عليها أتاه الصائد من مقتله، وأعجله عن مأكله.
لهذا وكَّل الله بالعقل منبهًا لا يغفل، وحسيبًا لا يمهل، وكالئًا لا ينام، يزعج
الواقف، ويحثحث المتريث، ويمسك الراجف، ما سكن ساكن إلى حال، ولا قنع
قانع بمنال، إلا هتف به: إن ما تطلب أمامك. ولا أوغل موغل فيما لا ينفعه، ولا
أوضع موضع إلى ما يضره إلا صاح به: تعست الجدود، وأضرعت الخدود،
فخفض من سيرك، وقوّم من سيرك وإلا فالذل مقيلك، والهلكة مصيرك. ذلك
الواعظ الحكيم والمؤدب العليم هو (الانتقاد) ينبث في الفؤاد، ثم يتجلى في البيان
على أسلة اللسان، فيفقهه العالمون، ولا يهمله العاملون {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) أودع في كل ناطق بصرًا بشأن غيره أشد إحاطة
من بصره بشأن نفسه، ومكَّن كلاًّ من تمييز أحوال الآخر حسنها من قبيحها،
وفسادها من صحيحها، ثم دفعه للنطق بما ألهمه، والقضاء بما أحكمه فكان لكل
إنسان أبصار بعدد الناظرين إليه، والعارفين بما عليه عمله، كلها كبصره تريه
الخير فيطلبه، وتكشف له الشر فيجتنبه، وجعل الله الناقدين أقسامًا، فمنهم ناظر
إلى الفضل لا يعدوه فهو يذكر المنقبة، ويغض عن المثلبة، ومن هذا القسم
المفرطون في الوفاء من الأصدقاء، ومنهم رقباء النقائص وجواسيس العيوب
يروون المساءات، ويسكتون عن الحسنات.
وفيهم الحسَّاد، وأهل الأحقاد، ومنهم ناظرون بالعينين، عارفون بالوجهين،
يذكرون للكمال نبله، ويلزمون النقص ويله وهؤلاء في أعلى المنازل، وفيهم
الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، ومن الناقدين
فاسقون يكتمون ما يعرفون، ويهرفون بما لا يعلمون، وهم في أخس المنازل، وليس
في الناس إلا من تجتمع هذه الأقسام له أو عليه، وما جعل الله بشرًا يسلم منها،
ويحرم من بعضها، فكأنها التي قال فيها: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (مريم: 71)
وكلها صدى صوت الكمال الإلهي الأعلى ينادي الكاملين أن يستزيدوا، والناقصين أن
يستجيدوا.
هل لجاحد أن يصغِّر قدر هذا الحسيب على أي وجه كان حسابه؟ أو لجاهل
أن ينكر حكمة الله في تقييضه لنا؟ أو لواهم أن يذهب إلى أنه ليس من نظام
الفطرة؟ وإني أحيلك على خواطر نفسك إذا بلغك وأنت غربي مثلاً أن ملك الصين
غدر بأحد أوليائه، أو استصفى أموال رعيته، أو كلفهم ما لا يطيقون احتماله، أو
أهمل في مصلحة بلاده، حتى تجرأ عليها أعداؤها، أو جَبُن عن دفع حادث ألمّ به
وكان يستطيع دفعه، ألا ترى من قلبك امتعاضًا عليه ومن نفسك إزراءً بعمله،
وفي لسانك لهجة بلومه وهو منك على بعد المشرقين؟ ولئن وصلت إليك روايات
عدله ورعايته حقوق بلاده، وحفظه لذمامه وجدت إليه من فؤادك ميلاً، ومن رأيك
لعمله استحسانًا، ومن لسانك عليه ثناءً.
ولو شئت حاكمتك إلى مذاهب ميلك عندما تنظر في تاريخ لمن سبقك؛ فإن
مثَّل لك النظر فضلاً في سيرة، أو خزية في جريرة، ألست تجد من ميلك انبساطًا
إلى فواضل الغرر، وانقباضًا عن مخازي العرر، ثم انطلاقًا إلى نشر ما وجدت،
ثم رأيت عضدًا منك لأحدهما كأنه قائم يستنصر فأنت تنصره، وتغيظًا على الآخر
كأنما يدعوك لعونه فأنت تخذله.
لا جرم أن النقد نائرة غريزية تقدح شررها على السابقين واللاحقين، وكل
نقد فحشوه لوم، حتى ما كان منه قاصرًا عند بث المحمدة والإقرار بالفضيلة؛ فإن
حمد الكامل عذل للناقص على التقصير، وإزعاج للمحمود وزجر له عن ملابسة
الإعياء، فكأني وصاحب الثناء يقول: ألا أيها القاعدون انهضوا، ويا أيها
المبرزون اركضوا، واحذروا الوقفة فإنها بداية القهقرى، تلك أقلام الحق، في
ألسنة الخلق، لا يصم عن ندائها إلا أصم، ولا يغبى عن إنذارها إلا أيهم.
على ذلك قام النظام الإنساني فلولا الانتقاد ما شب علم عن نشأته، ولا امتد
ملك عن منبِته، أترى لو أغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم
أكانت تتسع دائرة العلم، وتتجلى الحقائق للفهم، ويعلم المحق من المبطل؟ أو لو
أغمض الأعداء والأولياء عن سياسة السائس، وتدبير الحاكم، وهجروا النظر في
قوة الملك، ولم يقرعوا كل عمل بمقارع النقد، أكانت تستقيم محجة، وتعتدل حجة
وتعظم قوة؟ كلا بل كان يتحكم الغرور، وتتحكم الغفلة، ويعود الصواب خطلاً
والنظام خللاً، تلك سنة الله في الأولين، وهي كذلك في الآخرين.
فالمغبوط في حاله من يستمع قول اللائمين، ويستطلع خواطر المعترضين،
ويتصفح وجوه المنكرين، ذلك روح الحياة فيه يطلب حاجاته، ويتحفظ من آفاته،
وليس فيما يملك الحازمون أنفس لديهم، من الإنحاء عليهم، بما ينبههم إذا غفلوا،
ويعلمهم إذا جهلوا، ويهديهم إذا ضلوا، وينعشهم إذا زلوا، وكما توجد نفائس
الإرشاد هذه عند الأولياء، توجد عند الأعداء، بل هي عند هؤلاء أجود، فإنهم
يرفعون للمعايب أعلامًا بينة حتى لا تعود فيها شبهة لناظر، وأحجى بالعقل أن لا
يمج من الانتقاد شيئًا حتى أكاذيب أهل الضغينة، ورجوم ذوي السخيمة على
مخالفتها للحقيقة؛ فإن أباطيل اللوم تكون للعقل بمنزلة المسالح تقام في الثغور زمن
السلم حذرًا مما عساه يطرقها من عدوان المغيرين عليها، وأقل ما يكون من العاقل
فيها أن يقول: قيل فينا ولم نعمل فكيف بنا لو عملنا؟ فهي إن لم تهده إلى مطلب
ضل عنه، ولم تَرُّد إليه فائتًا كان ينفلت منه، فقد تحفظه من السقوط فيما يجعل
الكذب صدقًا والباطل حقًّا، فمن فسق لسانه، وخالف بيانه جنانه، وجاء يغير
الحق في ثلب غيره، فقد أفسد نفسه لصلاح عدوه، ولله ما يقول بعض الصوفية:
جزى الله الأعداء عنا كل خير فلولاهم ما نزلنا منازل القرب، ولا حللنا حظائر
القدس.
هذا وقد كفر قوم نعمة الانتقاد فظنوا الله فيه عبثًا - نعوذ بالله - فوقروا عنه
آذانهم، وعطَّلوا من ناحيته سمعهم، وجعلوا أصابعهم في صماليخهم [1] ، من صواعق
زجره، وقواصف نهيه وأمره، وضربوا بينهم وبين أهل النقد حجبًا، وأقاموا دونهم
أستارًا، وخيل لهم الجهل أن صممهم عنه يقيهم منه، وأن قبوعهم في أُهُب الغفلة [2]
يدرأ عنهم سهام اللوائم، كأنهم لا يعلمون أن ذلك وقوع في أشد مما خافوا، واندفاع
إلى شر مما رهبوا، فمثلهم كمثل بعض الطيور إذا رأى الصائد غمس رأسه في الماء
ظنًّا منه أنه متى أغمض عن طالبه أغمض الطالب عنه، فيكون بذلك قد يسر للصائد
صيده، وسهل عليه كيده.
ومن ثم تجدهم في عمى عن شؤونهم، وتخبط في أعمالهم قد لزموا خطة من
الهون لو أبصر عقلهم بعض أطرافها لماتوا جزعًا من هول ما فيها، كل ذلك وأسلات
الألسن وأسنة الأقلام لا تألو في تقريعهم، بل وصوت الحق الصريح يناديهم من
عمائق ضمائرهم، بئس ما اشتريتم لأنفسكم لو كنتم تعلمون. وليُّهم عاتب، وعدوهم
عائب، وهم في غفلة من هذا، بل لا يشعرون.
أولئك الذين ختم الله على سمعهم، وطبع على قلوبهم فمرقوا من ناموس
الفطرة الإلهية فهم أموات الأرواح، مضطربو الأشباح، ولا تنشق عنهم قبور
الخمول حتى ينشرهم الله في حياة أخرى يخضعون فيها للأحكام الكونية، ويعملون
على السنن الإلهية، فلينتظروا إنا معهم من المنتظرين.
__________
(1) الصماليخ: ج صملاخ وصملوخ، وهو داخل خرق الأذن ويطلق على وسخها.
(2) الأُهُب بضمتين جمع إهاب ككتاب، وهو الجلد الذي لم يدبغ أو أعم.(4/121)
الكاتب: أحد علماء حلب
__________
الطلاق في الإسلام [1]
إن إباحة تفارق الزوجين هي نقطة متوسطة بين التغالي في الإطلاق
الموجودة في الزنا الذي هو صحبة ساعة، وبين التغالي في القيد الذي هو التزام
عدم انفكاك الاقتران مدى العمر، وحد وسط بين طرفي الإفراط والتفريط كما هو
مشرب المنهج الإسلامي في كل الأمور، وفيه تسهيل للزواج والمناكحات الرادعة
عن الالتجاء للزنا يستصعب الزواج إذا لم يمكن الفراق، وإننا لا ننكر ما في
التفارق من المضار التي ربما تحدث عنه؛ ولكنها لا ترجح عما فيه من المنافع
التي تستلزمه عند الموازنة الصحيحة، ولا يخفى أن ما تساوى طرفاه نفعًا وضررًا
فالشأن فيه الإباحة التي هي الأصل في كل أمر، وجانب الإطلاق مرجح عن جانب
القيد إذا تساويا.
هذا وإن الطلاق كذلك إذا لم يكن لعذر، أو إلجاء ضرورة فليس بمباح تمامًا
كسائر المباحات في الشرع الإسلامي، بل هو من قسم المكروهات التي لا
يستحسنها الشرع الإسلامي، ويُعتبر الطلاق شأن السفهاء؛ لأن الشرع الإسلامي
ينهى عن الجفاء بكل أنواعه، ويحث على الشفقة والإنصاف والمروءة وحفظ الوداد
والعهد، وإنما الطلاق لا بأس به إذا لم يمس بشيء من هذه المذكورات؛ أي: إذا لم
يكن فيه مخالفة للإنصاف والمروءة ... إلخ، فلا يكون الطلاق حينئذ إلا كناية عن
فَرَج، ومخرج من ضنك المعيشة التي ربما تحدث بين الزوجين، ولا مناص عنه إلا
بافتراقهما واستغناء كل منهما عن الآخر، أو استعواضه من هو خير له منه؛ إذ
ربما يبقيان على كره منهما أو أحدهما، فيكون نكد العيش الدائم لولا الطلاق.
أترى إذا كان الرجل عنينًا والمرأة شابة حسناء، وصار هو يحب الانفراد
والانزواء، وصارت هي تميل لإتيان ما تأتي النساء، ولم يكن لأحدهما حاجة
بالآخر، فعلام نلزمها بالتزام ما لا يلزمهما من الحجر الدائم عن مبتغاها؟ أرأيت
إذا تباغضا لأسباب ما؛ فعلام نلزم كلاًّ منهما بالتزام صحبة بغيضة مدى عمره؟
أرأيت إذا علم الرجل أن امرأته زانية وأراد أن يفارقها بدون أن يفضحها، ويثبت
عليها ما يخل بشرفها، أرأيت إذا عجز عن إثبات ما علمه من إتيانها الزنا فكيف
نجبره على هذا الضيم؟ ولقد رأينا كثيرًا في بلادنا ممن يتدينون بتحريم المفارقة
بدون ثبوت الزنا، يعلمون الزنا من نسائهم ولا يقدرون على إثبات ما علموه،
فيمكثون على هذا الضيم مدى عمرهم، كاتمين غيظهم بالرغم عنهم، فلمثل هذه
الحكم إباحة الطلاق لا لأجل محض الشهوة.
ولذلك لا ترى من أهل الإسلام المتربين على فضائل الأخلاق الإسلامية من
يطلق زوجته لغير عذر مقبول من مثل هذه الأعذار، فإن قيل: (فعلى هذا ينبغي أن
يكون إبطال عقد الزواج متوقفًا على رضا كل من الطرفين معًا كسائر العقود، أو بيد
كل منهما؛ فأيهما لم يطب عيشه لدى صاحبه يفارقه، لا أن يكون الرجل هو المالك
لذلك دون المرأة) فنقول: ليست أصول تفارق الزوجين في نظام الإسلام كما يتوهمه
الغالط، بل إن تفارق الزوجين إما أن يكون بإبطال عقد الزوجية وفسخ المقاولة بحيث
يرد كل منهما ما تملكه بالعقد، فتسترد المرأة ما ملكته للرجل من إباحة نفسها له دومًا
واختصاصه بها، ويسترد الرجل ما جعل لها من المال بمقابلة هذه الإباحة الدائمة كله
أو بعضه بحسب ما يتراضيان عليه حين التفاسخ، فهذا التفارق بالتفاسخ يتوقف على
رضاء الطرفين كسائر العقود ويسمى هذا النوع بالخلع أو المخالعة، وإما أن يكون
تفارق الزوجين على صورة الطلاق، وهي أن يترك الرجل حق استباحته الدائمة
للمرأة مع استكمال المرأة كل ما جعل وشرط لها من المال والنقد، فهذا أمر موكول
للزوج إلا إذا شرط في أصل عقد الزواج بينهما أن يكون للمرأة أيضًا حق تطليق
نفسها من الزوج، فيراعى هذا الشرط.
وحينئذ متى شاءت طلقت نفسها واستردت تمليك بُضعها الدائم لزوجها بدون
أن يسترد هو شيئًا، أو أن يمتنع عن تأدية ما شرط لها حين العقد، وبذلك تعلم أن
أصول المفارقة بين الزوجين منظور فيها لصورة أصل عقد الازدواج وصورة
نقضه وانفكاكه، وأن ما شرط في أصل العقد مرعي وليس للزوج إلا الرجحانية
على المرأة بأنه إذا لم يشترط في العقد شيء كان أمر الطلاق بيده دونها، وحيث
كان هذا أمرًا معلومًا مشهورًا بين سائر أفراد الملة الإسلامية، فيمكن لكل امرأة أن
تشترط في زواجها أن يكون أمر طلاقها بيدها، فتساوي الرجل في هذا الاستحقاق؛
وإنما كان أكثر النساء لا يشترطن ذلك لعدم الثقة منهن أن يتثبتن كتثبت الرجال
على محافظة بقاء الزوجية؛ لأنهن بمقتضى تركيبهن الطبيعي أقل احتمالاً وتصبرًا
وأشد خفة وطيشًا من الرجال، وأسرع تأثرًا بالغضب لرقة بشرتهن ونقاوة عصبهن،
وكثيرًا ما يستفزهن الغضب من سبب جزئي لإيقاع الطلاق بدون استيجاب السبب
له، فيوقعن الطلاق في حال استيلاء الحدة عليهن، ثم يندمن على ما فرط منهن،
فلو اُشترط الطلاق لهن دائمًا لفشا وقوعه، وكثر توقعه، مع أن كثرة وقوعه بغير
السبب الداعي يستوجب الندامة، وكثرة توقعه مخل بانتظام الراحة والتئام الألفة
الروحية، وهو متوقع من جانبهن أكثر من توقعه من جانب الرجال.
ولذلك كانت الأرجحية للرجل على المرأة في الطلاق بأن الأصل فيه أن يكون
بيده دونها إذا جرى العقد على غير اشتراط شيء، وللمرأة ما يقابل هذه الرجحانية
التي للرجل، وهي كون المهر الذي هو كالثمن يلزم من جانبه لها لا من جانبها له،
وكذلك كل ما يقضي لها من النفقة أسوة أمثالها والمصارف البيتية عائدة عليه دون
أن تكلف هي بأدنى شيء، حتى إن عليها أن يقدم لها الطعام مطبوخًا مهيئًا بدون
أن تتكلف بطبخه، وليس له أن يكلفها بشيء من الخدم الشاقة أو السافلة مع أنه
مكلف بتكبد المشاق في سبيل الكسب لأجل النفقة عليها إلا إن سامحته ببعض نفقتها
أو سايرته بالتزام ما لا يلزمها من بعض خدمتها، وعليه كل نفقة ما يولد لهما من
الأولاد حتى ليس له أن يجبرها على إرضاع ولدها، بل عليه أن يستأجر له
مرضعًا غيرها إذا امتنعت هي عن إرضاعه.
ولا يخفى أن الأرجحية التي أعطيت للمرأة هي الأنسب بضعفها، والأرجحية
التي أعطيت للرجال هي الأنسب بقوة تثبتهم، لا سيما وأنه قد دفع المهر الأول،
ثم يلزمه عند المفارقة دفع المهر المؤخر، فقل أن يسمح الرجل بتضييع هذه
الأموال التي يدفعها في المهر الأول والمهر الثاني بدون سبب ملجئ وداع قوي،
وحيث كان الأصل في نظام الزوجية أن يدفع الرجل للمرأة ما يرضيها من المهر
أسوة أمثالها، وأن يشترط لها عند المفارقة مهرًا ثانيًا كان الأصل في المفارقة التي
تقتضي خسارته في هذه الأموال دونها أن تكون موكولة إليه، ولا يخفى على
المنصف المتبصر مناسبة الأصلين في الجانبين ولياقتهما بحال الطرفين، فلا يقال:
لماذا لم يكن الأصل في الزواج أن يكون المهر من المرأة والرجحانية لها في أمر
المفارقة؟ أو أن يكون بدون مهر ولا رجحانية لأحدهما على الآخر في شأن الطلاق،
بل أي منهما أراد الطلاق أوقعه؛ لأن المرأة إذا ملكت أمر الطلاق كذلك أكثرت
إيقاعه رغمًا عن الزوج، وليس كذلك الرجل، ولذلك لا تكاد ترى من يطلق زوجته
إلا بعد نفورها، وطلبها الطلاق، أو تسببها له، كما أن الرجل بحسب ما فيه من
زيادة الاستعداد الطبيعي للكسب ينبغي أن يكون هو المعيل للمرأة، فلذلك كان عليه
المهر والنفقة.
نعم قد يكون الأنسب بحال الطرفين بالنسبة لبعض الأفراد مخالفة هذا الأصل،
وحينئذ يمكن الجري على خلافه بواسطة الاشتراط؛ وإنما كان هذا الأصل بالنظر
لما هو الأصلح بالنسبة لحال الأكثر، ثم إن من لم تشترط الطلاق لنفسها، ولا
يمكنها مفارقة زوجها عن أمرها إذا ظلمها حقها بعدم إيفاء ما يترتب عليه لها، أو
كلفها فوق ما يترتب له عليها ترفع أمرها للحاكم، فينهى الزوج، فإن لم ينته يجبره
على طلاقها، أو يفرق بينهما مع تغريم الرجل كل ما أعطاه وشرطه لها حين العقد،
فيكون حكمها كحكم من اشترطت الطلاق لنفسها فلا يتمكن الرجل من ظلم المرأة،
ولا المرأة من ظلم الرجل ولا يجبران على ضيم بكل حال، ثم إنهما مهما تفارقا
فلهما أن يتلافيا ما فرط منهما ويتراجعا اهـ. بالحرف.
(المنار)
نشرنا المقالة بحروفها على ما فيها من الخطأ اللغوي لما هي عليه من الصواب
والسداد في المعنى والإبانة عن محاسن الحنيفية السمحة. لله در كاتبها الفاضل، وقد
كنا نتذاكر في مسألة الطلاق مع صاحب الدولة رياض باشا فقال: زاد علينا الإفرنج
المنتقدون في التوسع بالطلاق؛ حتى قرروا أخيرًا أن يستقل به كل من الرجل والمرأة
بعدما كان مشروطًا عندهم باتفاقهما.
__________
(1) المقالة لأحد علماء حلب وجاءت في رسالة مكاتب المؤيد في الآستانة العلية.(4/127)
الكاتب: كمال الدين المرغناني
__________
الفقه الإسلامي
كتب بعض الشيوخ من أهل العلم الواقفين على أحوال العصر المتألمين من
تأخر المسلمين وضعفهم مكتوبًا مطولاً إلى صديق له في القاهرة ينتقد فيه كتب العلم
الإسلامية كلها، ويبرِّئ الدين من الفنون المنسوبة إليه كالكلام وأصول الفقه وفروعه،
ويقول: إنها كلها علوم ضارة ذهبت ببساطة الدين وسهولته، وشغلت عن علوم
الدنيا التي تعطي أصحابها القوة والعزة. فكتب إليه صديقه وهو من الكتاب الفضلاء
الباحثين في الشؤون الإسلامية مكتوبًا رد فيه بعض ما جاء في المكتوب، وسلَّم
بالبعض، فأحببنا أن يطلع علماؤنا لا سيما أهل الأزهر الشريف على بعض ما يدور
بين نبهاء المسلمين من البحث؛ ليعلموا بالإجمال أن صراخنا ونداءنا إياهم طالبين
إصلاح كتب التعليم وطريقته في غاية الاعتدال، فاخترنا الجواب؛ لأن صاحبه لم
يغلُ فيه غُلوّ الأول في الإنكار، وإن كان لا يخلو مما ينكره عليه الفقهاء وها هو
بحروفه:
كتابك أيها الفاضل ينبئ عن توغل الفكر في مرامي بعيدة مدى الغاية، وما
استخرجه من الحقائق من خبايا التاريخ أمور يوافقك على بعضها أخوك، وبعضها
نظريات تحتاج إلى دقيق تأمل ويضيق عن الإلمام بأطراف المناقشة فيها هذا الكتاب،
فأرى إرجاءها إلى فرصة الاجتماع - إذا تيسّر - أَوْلى.
وإنما هناك مسألة أحب أن لا يفوتني الآن النظر فيها رغبة في تعديل ما في
نفسك من جهتها وإيقافًا لك على فكري الصراح فيها، عسانا نجمع طرفي الرأي
إلى دائرة واحدة نتلاقى فيها عند نقطة الحقيقة التي لا خلاف فيها.
ذهبت إلى أن علم الفروع إنما هو مجموع قوانين وضعها البلخية والكرخية ...
إلخ من سميت، وأن هذه القوانين ليست من علوم الدين، وربما حملتها على محمل ما
سردت من العلوم التي رأيتها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، وأرى في هذا مغالاة
في الفكر فيها نظر يظهر لك ظهورًا جليًّا فيما يلي:
أنا أعتقد وأنت تعتقد أن لا بد لكل أمة قذفت بنفسها إلى مضمار الحياة من
قانون جامع لجزئيات الحوادث تحفظ به نظامها، وتمهد سبل الترقي لمجتمعها،
والإسلام وإن جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية والحياة الاجتماعية، إلا أن ما
جاء به إنما هو قواعد كلية، وليس من شأنه وشأن الأديان عامة أن تحيط
بالجزئيات التي لا تتناهى في جانب الترقي والاجتماع؛ وإنما كانت الإحاطة
بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل من الأمة؛ في وضعها عند الحاجة،
وإرجاعها إلى تلك القواعد والأصول على طرق معروفة اصطلح عليها علماء
الأصول من المسلمين، وقد فعل علماؤنا ما يجب عليهم من هذا القبيل وأحاطوا
بكثير من الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم منها من تحديد
بعض العقوبات، وترتيب المحاكمات، والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق
الشخصية تفريقًا يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة خصمًا
وحكمًا فيها في آن واحد، ولهذا أسباب كثيرة لا يسهل بيانها إلا بعد معاناة صعوبة
الاستقصاء، وليس هذا محله.
هذا والحق أولى أن يقال ويتبع، ومثلك أيها الصديق مَنِ انقاد للحق وظَاهَرَ
أهله؛ فإن علماءنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين يكاد
لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها، إلا أنه مشوش بكثرة ما
اختلفوا فيه حتى على المسألة الواحدة، ومنشأ هذا على ما أرى انفراد الآحاد
بالتشريع [1] حتى من المخرجين والمرجحين، بحيث يجوز الواحد منهم ما يمنعه
الآخر وبالعكس، وسببه التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى
يتناولها من شاء، ومن ليس بمعصوم من الأفراد، وهي السلطة العظيمة التي لم
تسلمها أمة متمدنة قبل المسلمين للآحاد منفردين قط؛ وإنما كانت تُسَلَّم إلى ثقات كل
أمة مجتمعين لا منفردين.
لو فهم المسلمون منذ استفحل أمرهم وعظمت للقوانين الجامعة لفروع
الحوادث حاجتهم معنى ما يسمى عند علمائهم الإجماع، وأن من قواعد دينهم الكلية
التكافل العام على مصالحهم العامة، وأن كل مصالحهم في الحقيقة إنما هي مرتبطة
بأُسّ المصالح وحياة الوجود ألا وهو القانون الكافل لراحة الجميع وسعادتهم -
لاستفادوا من هذا إلى الآن فوائد لا يستقصيها العقل، ولما تركوا أمر القوانين
فوضى لا يعتمد فيه إلا على قال فلان وأفتى بخلافه فلان، بل لكانوا عهدوا بتفريع
الأحكام واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس
الحاجة في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان.
ولكن لمّا لم يفهموا هذه القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين؛ هل
يجوز تركهم هملاً؟ كلا لا يجوز. إذن فوضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع الذي
ذهبت إلى أنه مجموع قوانين وضعها فلان وفلان لازم، وهم المتفضلون ودهماء
المسلمين هم الملومون.
ولا يخفى على فهمك أن تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد ليس فيه من
حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما شاء من
الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك، وهو الأحوط أيضًا في الدين
والدنيا، والفرق بين ما يضعه الواحد وبين ما يضعه الجمع عظيم جدًّا لا يخفى
على بصير؛ إذ إن ما يشعر به الواحد في نفسه من الحاجة أو يبلغه من العلم قد
يشعر الآخر بخلافه أو يحيط بما لا يحيط به ذاك، ولا تتمحص حقيقة الحاجة
العامة إلا باشتراك جماعة عظيمة بمثل هذا الشعور، واحتكاك الأفكار بطول
التجارب لهذا، ولكي يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى فائدة تبادل الفكر وأصول الشورى
خصوصًا في المصالح العامة - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باستشارة
أصحابه بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) أي: في
الشأن، وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب كما قرره الأصوليون، ويتلو هذا في مرتبة
التعليم حديث التأبير المشهور وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبروا فأنتم
أدرى بأمر دنياكم) .
من هذا نعلم الفرق بين ما تمحصه العقول من الأمور ذات الشأن فلا تصدر
إلا عن علم الجميع بمصلحتهم عامة، وعلم كل فرد بمصلحته المستمدة من تلك
خاصة، فما بالك به في التشريع خصوصًا، وأن الإجماع فيه يدعو إلى ارتباط
الأحكام برباط الاتفاق عليها من جمهور المتشرعين، والعمل بها عند سائر الناس،
ويندفع بهذا خطر الفوضى القانونية التي يتخبط فيها المسلمون منذ أجيال كثيرة؛
لكثرة الخلاف بين الأئمة والمخرجين من علماء كل مذهب على مسائل المعاملات،
فضلاً عن العبادات، وما أراني إلا معترفًا لك بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام
المعاملات بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت، وباضطراب
اعتقادك بفوائدها نوهت.
وأما ما قلته من أن علم الفروع ليس من علوم الدين، وإنما هو مجموع
قوانين وضعها المتقدمون، فليس ذلك كذلك، بل رأيي فيه أنه من علوم الدين
باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه داخل تحت
حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث حدثت بعد
للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين.
والذي أراه أن إطلاق علم الدين على الفروع لازم من لوازم البقاء والاستمرار
لأحكام الإسلام، وباعث على احترام هذا العلم احترامًا ينفع المسلمين كما ينفع كل
أمة تحترم الشرائع والقوانين، وإذا حملته على محمل ما ذكرته من العلوم من حيث
كونك تراها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، فيكفي في تعديل فكرك من هذا
القبيل إمعان نظرك فيما سبق بسطه لديك لتعلم - وأنت أعلم به - مني أن مسوغ
الاجتهاد الذي هو تشريع في الفروع ميسور لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة
الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من العصور، ومنه يتضح لديك تيسر جعل
الفروع موافقة لحالة كل زمان ومكان إذا نهض أهل العلم والفضل للنظر في هذا
الأمر، وشرعوا بوضع كتب خاصة بأحكام المعاملات يتفق على اعتبارها دستورًا
للعمل جمهور أهل المذاهب، وهذا وإن كان يتوقف على ما يسمونه التلفيق إلا أنه
لا يمنع من التوفيق؛ لأن التلفيق جائز عند فقهائنا في العبادات فما بالك به في
المعاملات.
لا جرم أن علماءنا في هذا بين أمرين كلاهما لا يمنع من تحرير علم الفروع
وجعله صالحًا لحالة الزمان والمكان؛ وذلك أنهم إما أن يعتبروا أن كل ما حرَّره
الأئمة وقرروه هو من الدين الذي هو حق لا ريب فيه، فيلزمهم في هذه الحالة
التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة
لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب خاص ليس فيه أدنى شائبة من
مثارات الخلاف؛ ليكون أشبه بقانون عام شامل لسائر حاجات الاجتماع يعمل به
المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما حرره الأئمة من الدين، بل
يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة اختلافهم في الأحكام منعًا
وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال يجوز لهم الاجتهاد كما
جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا في العصر مراعى
فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع فيها الآن من ضروريات
الحياة الاجتماعية، وعليها بُني ترقي الحكومات والأمم الغربية ترقيًا لم تكن تحلم
به الأمم من قبل، لا سيما وأن الذي جوَّز للسلف التوسع في الأمور السياسية عندما
مست الحاجة إليها حتى وضعوا لها كتبًا خاصة مستندة إلى أصول الشريعة كالأحكام
السلطانية والخراج وغيرها، يجوز للخلف التوسع فيما تمس إليه الحاجة الآن
وتقتضي التوسع فيه حالة الزمان.
على أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح أمر القوانين الاجتماعية عند المسلمين قد
دب في العقلاء دبيب البرء في الأطراف، ولا بد أن يعم سائر الجسم، فنرجو الله
سبحانه وتعالى أن ينبه علماءنا الكرام إلى تلافي أمر هذه الحاجة صونًا لعلم الفروع
من أن يُهْجَر، وحرصًا على علوم الشريعة من أن تصبح العناية بها أقل من العناية
بالقوانين الوضعية التي ألجأت الحاجة بعض الحكومات الإسلامية إلى استعمالها
دون القوانين الأساسية، ويراها بعضهم أجمع لحاجات الاجتماع، وهي وإن لم تكن
كذلك ألبتة إلا أنها بسلامتها من مثارات الاختلاف وتقيد الحاكم والمحكوم بقيود
خاصة منها لا تترك مجالاً للرأي، ومكانًا للقيل والقال - قد جعلت الرغبة إليها أميل
والطريق إلى انتظام الشؤون العامة بها أسد.
هذا فكري في النقطة التي اخترت أن أتجاذب وإياك أطراف البحث فيها الآن،
وقد رأيت ما احتاج إليه النظر فيها من التطويل الممل، فلو تناول البحث سائر ما
في كتابك لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير، فالله نسأل أن يوفقنا وإياك لخدمة الأمة
والدين ويجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم آمين.
(المنار) :
إن كثرة الخلاف في الفقه، والاضطراب في التصحيح والترجيح المؤدي إلى
الاختلاف في الفتوى والقضاء، وما في هذا من الضرر واختلال المصالح، ثم ما
في كتب الفقه من الصعوبة في الترتيب والتبويب، كل ذلك أشعر المسلمين من
زمن بعيد إلى الحاجة إلى إصلاح كتب الفقه ووضع كتاب، أو كتب في الأقوال
السديدة التي تنطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر على وجه قريب التناول
سهل الفهم، ثم قوي الفكر في الإصلاح حتى انتهى إلى القول بأن كتب الفقه التي
بين أيدينا مضرة، وأن أكثر ما فيها من مخترعات عقول الناس الذين أكثرهم من
الأعاجم، كما جاء في كتاب الشيخ المردود عليه بهذا الجواب.
وأكثر المعتدلين في الشرق والغرب على الوجه الأول، وقد كتب إلينا بعض
الفضلاء في الجزائر من مدة بما يأتي:
رأيت مقالة تناسب مشرب مجلتكم المفيدة، فأحببت أن أبعث بها إليكم
لتدرجوها فيها إن شئتم بعد تمهيد ترتبط به:
في الجزء الثاني صفحة 24 من رحلة العلامة الشهير المرحوم الشيخ أبي
سالم عبد الله العياشي المسماة بماء الموائد المطبوعة في حاضرة فاس أواسط جمادى
الثانية عام 1316 ما نصه:
(إني كنت أود لو أن الله قيض لهذه الأمة من يجمع أربعة من محققي علماء
كل مذهب من هذه المذاهب الأربعة الموجودة، ويختار لكل واحد جماعة من أهل
مذهبه يستعين بهم في المطالعة وتحقيق ما يشكل عليه من فروع الديانات، فيأمر
الأربعة بالاجتماع في محل واحد في وقت مخصوص من ليل أو نهار بقصد تأليف
ديوان في فروع الفقه، ويتخذ لهم كُتَّابًا مهرة يستعينون بهم، ويجري على الجميع من
الجرايات ما يكون سببًا لفراغ بالهم لما هم بصدده، وبعد مراجعة كل واحد منهم مع
أصحابه ما يحتاج إليه من كتب مذهبه في المحل الذي يؤلفون فيه - يجتمعون،
فيتتبعون فروع الديانات الجزئيات من أول مسألة مدونة في الفقه على قدر طاقتهم
إلى آخرها، فيذكر كل واحد مشهور مذهبه في كل نازلة، فإذا علموا مشهور
المذاهب في كل مسألة مسألة نظر من تصدى للكتابة والتأليف عندهم إلى المسائل
المتفق عليها بينهم، فأثبتها ولا يحكي شيئًا من الخلاف فيها، ثم المسائل المختلف
فيها يقتصر فيها على قول ثلاثة منهم إن اجتمعوا، ويحذف قول الرابع، ثم إن قال
اثنان بقول واثنان بقول جعلها ذات قولين مشهورين، ثم إن تباينت آراؤهم في
النازلة وهو قليل حكاها بلا تشهير، وتكون مسألة خلاف ويقدم ما كان منها مستندًا
إلى كتاب، ثم ما استند إلى سنة، ثم ما استند إلى أثر صحابي قوي، ثم ما أخذ من
الاجتهاد، فإذا أُلِّف الديوان على هذا الوصف، وحمل الناس على اتِّباعه - كان أقرب
لضبط الانتشار الواقع الآن، وكثرة الخلاف الواقع بين أهل المذاهب والتعصبات
الفاحشة المؤدية إلى تضليل بعضهم بعضًا ... إلخ، انتهى ما تعلق بنقله الغرض
بنصه وفصه.
... ... ... ... ... ... ... ... كمال الدين المرغناني
من الجزائر في 23 من شوال سنة 1318
(المنار)
أما رأينا في الفقه فموافق لما جاء في المحاورة بين المصلح والمقلد، وقد
ضاق عنها هذا الجزء وما قبله، وستُنشر في الجزء الآتي إن شاء الله.
__________
(1) حيثما جاء التشريع هنا فالمراد به التفريع فاحترس.(4/132)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(الدرس 19)
الحاجة إلى الوحي والنبوة
بيَّنا وجه حاجة الإنسان إلى الوحي لسعادته في الحياة الدنيا، من حيث إنه
نوع اجتماعي أودع في طبيعة أفراده من الرغائب والحظوظ ما يقتضي التباين
والتنازع، كما أُودِع فيها من حب الاجتماع والعجز عن تحصيل معظم ما تطالبها به
الفطرة ما يدعو إلى التعاون، الذي يعارضه التخالف والتغابن، ولا يتم للنوع
ارتقاؤه - بل ولا بقاؤه - مع هذه الغرائز المتعارضة؛ فمن ثَمَّ كان محتاجًا إلى إرشاد
يوافق بين آثار هذه الغرائز وعوارضها، بما يذهب بتعارضها، ويعرف كل فرد من
الأفراد حدّه، ويجعل له من نفسه وازعًا يوقفه عنده، ولم تكمل له هذه الحاجة إلا
بالدين.
ويرد على هذا القول ثلاث شبهات إحداها: أن الإنسان لا يتربى إلا بالكون وما
يعرض عليه من شؤونه وأطواره، فالذي تثبت له الوقائع الكونية أنه ضار يرغب
عنه ويجتنبه، والذي تثبت له أنه نافع يرغب فيه ويجتلبه، ولذلك لم تنتفع الأمم
والشعوب بهدي الأديان، إلا بمقدار ما أعدتها له الأكوان، وقد أجبنا عن هذه الشبهة
في الدرس السابق من غير أن نقررها، ولم يكن الجواب ناقضًا لمسألة الاستعداد، فقد
ورد أن الأنبياء أُمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وما منح الله تعالى الإنسان
الدين إلا بعدما ارتقى استعداده لفهمه {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213) ... إلخ.
وقد ارتقى هدي الدين وإرشاده بارتقاء الإنسان حتى كمل بالإسلام على ما
بينه أستاذنا الأكبر في رسالته، وسيرتقي أهله وهم العالم الإنساني كله بالنسبة إلى
الدعوة حتى يفهموه حق فهمه، وذلك بعدما ترتقي علوم الفطرة والطبيعة أكمل
ارتقاء كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الحَقُّ} (فصلت: 53) .
الشبهة الثانية: هي أن الحكماء والعقلاء يمكنهم أن يضعوا للناس قوانين
وحدودًا تغنيهم عن الوحي والشرائع السماوية، والجواب عنها أنه إذا فرض أن في
استطاعة الحكماء أن يستقلوا بهذا الوضع، فهل في استطاعتهم أن يحملوا الناس
جميعًا على قبوله والعمل به بغير وازع الدين؟ فإن قيل: إن الحكماء يضعون
القوانين والحكام يلزمون الناس بالعمل بها؛ نقول:
لا ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
والوازع الدين وازع نفسي؛ لأن مبدأ الدين من الإلهامات الفطرية في نفوس
البشر، وأما وازع القوة فلا سلطان له إلا على الظواهر، فمتى أمن أهل البغي
والتعدي من اطِّلاع الحاكمين يرتكبون ما شاء البغي، ويجترحون ما أحبت الشهوة من
التعدي على الأموال والأعراض وراء الحجب والأستار، وحيث لا تمتد أعين
الشهداء ولا تصل معارف القضاة والأمراء، ثم إن القضاة والحكام أنفسهم إذا كانوا
على غير دين ينتهكون الحرمات، ويقترفون السيئات، ويساعدون الجناة ويشاركون
الجباة.
والحاصل أن الإنسان لا يستغني في حياته الاجتماعية عن حدود عادلة يقف
أفراده عندها في معاملتهم ومعاشرتهم، وأن هذه الحدود لا تُحْتَرم ويوقف عندها،
إلا إذا كانت على موافقتها للمصلحة العامة مضافة إلى تلك السلطة الغيبية التي فُطِر
الناس على الاعتقاد بها والخضوع لها، وهذا عين حاجتهم إلى الوحي لسعادة الدنيا،
وقد تقدم المثال العملي في إثبات هذه النظرية في الدرس السابق.
الشبهة الثالثة: لقائل أن يقول: إن أمم أوربا التي تحكم بالقوانين الوضعية،
هي أسعد من الأمة الإسلامية، وإن الحكومات الإسلامية التي أخذت ببعض هذه
القوانين كمصر والدولة العلية أحسن حالاً ممن لم يأخذ بشيء منها كحكومة مراكش.
والجواب يعرف مما كتبناه في الدرس الماضي من المقابلة بين المسلمين في
نشأتهم الأولى، وبين الأوربيين في نهايتهم، مع أنهم لم يمرقوا كلهم من الدين الذي
بني على وجوب طاعة الحكام، وقد صرحنا مرارًا أن المسلمين صاروا حجة على
دينهم، بل قلنا في المقابلة المذكورة: إنهم حجة من لا دين له على كل دين.
(المسألة 56) :
الحاجة إلى الوحي لسعادة الآخرة: خلق الله للإنسان حواس ومشاعر،
ووهبه عقلاً وفكرًا يهتدي به إلى مصالحه ومنافعه في الدنيا كما قال: {أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) وعلمنا أن هذه المواهب لم تكن كافية له
لسعادته الدنيوية، لولا الدين؛ فما بالك بحياته الأخرى الغيبية التي يقصر عن
تناولها حسه، ولا يحيط بشيء من كنهها عقله، وإنما يشعر بها وجدانه شعورًا
مجملاً مبهمًا؟ وقد بيَّن أستاذنا في (رسالة التوحيد) هذا الشعور أحسن
بيان، واستنتج منه وجه الحاجة إلى الوحي بأجلى برهان، والأفضل أن نقتبسه
بلفظه ومعناه؛ لئلا يضيع شيء من فحواه، قال حفظه الله:
اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين مليين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن
على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء،
وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في
تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق
الاستدلال عليه؛ فمِن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومِن
ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال:
إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذتها، أو ما به
شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية،
وكان اختلاف المذاهب في كنه السعادة والشقاء الأخرويين وفيما هو متاع الحياة
الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم، وتضارب آراء الأمم
فيه قديمًا وحديثًا مما لا تكاد تحصى وجوهه.
هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة المنبث في جميع الأنفس عالمها
وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن
يكون ضلة عقلية أو نزغة وهمية؛ وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا
النوع، فكما أُلْهِم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا، وإن
شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى
أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا أن لا
وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وأنهم شاكون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن
شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما
ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول، وأشعرت
النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان
ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا في طور آخر،
وإن لم يدرك كنهه، ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء يُشْعِر كل نفس أنها
مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إلى لذائذ غير
محدودة، ولا واقفة عند غاية مهيئة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب
والغايات، معرضة لآلام من الشهوات، ونزعات الأهواء، ونزوات الأمراض على
الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عد
ولا تنتهي عند حد، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما
قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف،
فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن
يكون بقاؤه قاصرًا على أيام أو سنين معدودات.
شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي وما عسى أن تكون عليه
متى وصلت إليه، وكيف الاهتداء وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل؟
شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا
في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد وقضاء
الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان،
وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب لا ندري
متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة لا نعلم متى ننتهي إليها.
هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم
بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد معالم نهتدي بها إلى الغائب؟
وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها،
وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها؛ ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما
أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه أو إلى
معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى
اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في
غاية الغموض بالنسبة إليك؟ كلا، فإن الصلة بين العالمين تكون منقطعةً إلا فيك
أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة، لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم
المستقبلة.
أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد
والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب
للتراسل، أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدلها بمحض فضله بعض
من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ
بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون
سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته
وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه،
ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين نهاية الشاهد، وبداية الغائب،
فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها،
ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته
الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قُدِّر أن يكون له مدخل في سعادتهم
الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه
بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة
تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم ما هو مناط سعادتهم
وشقائهم في ذلك الكون المُغَيَّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق
ضمائرهم في إجماله، وتدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة
وباطنة، ثم تؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات حتى تقوم بهم الحجة ويتم
الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين؟
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد
على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرًا ولا جليلاً من خلقه
يكونون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام
المواهب التي اختص بها غيره أن ينقذه من حيرته ويخلصه من التخبط في أهم
حياتيه، والضلال في أفضل حاليه.
يقول قائل: ولِم لمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها
الانقياد إلى العمل وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا
النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل
والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنساني، ذلك النوع على ما به وما دخل
في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب
الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن
يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات
لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيوانًا آخر كالنحل والنمل، أو ملكًا من الملائكة
ليس من سكان هذه الأرض) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/140)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العشق وحرية العرب
دخل يزيد بن معاوية على أبيه في أيام حكمه مستأذنًا بقتل أبي دَهْبَل وهب بن
زمعة الجمحي؛ لأنه أكثر التغزل في أخته عاتكة، واشتهر بعشقها، وسارت
بأشعاره الركبان، وتغنى بها الناس، فقال معاوية: وماذا قال؟ فأنشده يزيد أبياتًا من
قصيدة أبي دهبل النونية وهي:
طال ليلي وبت كالمجنون ... ومللت الثواء في جيرون
وأطلت المقام بالشام حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون
فبكت خشيت التفرق جُمْل ... كبكاء القرين إثر القرين
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ ... اص ميزت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون
فلما أنشد هذا البيت وما قبله، قال له معاوية في إثر كل واحد منهما: هي كذلك
يا بني، ولقد صدق. فلما أنشد:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ ... راء تمشي في مرمر مسنون
قال معاوية: كذب في هذه يا بني. وبعد البيت:
قبة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجًا عن يميني
ولقد قلت إذ تطاول سقمي ... وتقلبت ليلتي في فنون
ليت شعري أمن هوى طار نومي ... أم براني الباري قصير الجفون
وهذا البيت من الحسن بالمكان الذي تراه.
وعزم معاوية أن يكلم أبا دهبل في الأمر، فتربص به حلمه حتى إذا كان في
يوم جمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل، فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل
الخروج فامنعه واردده إلي، وجعل الناس يسلمون وينصرفون، فقام أبو دهبل
ينصرف، فناداه معاوية: يا أبا دهبل إلي. فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به، ثم قال
له: ما كنت ظننت أن في قريش أشعر منك حيث تقول: (ولقد قلت إذ تطاول
سقمي) إلى آخر البيتين، غير أنك قلت: هي (زهراء) - البيت والذي بعده -،
والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، وأي
شيء زدت في قدرها؟ ولقد أسأت في قولك: (ثم خاصرتها) البيت. فقال: والله يا
أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قيل على لساني. فقال له معاوية: أما من جهتي فلا
خوف عليك؛ لأنني أعلم صيانة ابنتي نفسها، وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن
يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه، وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار
يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك. فحذر أبو دهبل
وخرج إلى مكة. ويقال: إن معاوية أراد ذلك لتنقضي المقالة عن ابنته.
أما سبب عشق أبي دهبل لعاتكة فقد روي فيه أنها لما حجت نزلت من مكة
بذي طوى، فبينما هي ذات يوم جالسة في وقت الهاجرة، وقد اشتد الحر وانقطع
الطريق، أمرت جواريها فرفعت الستر وهي جالسة في مجلسها، وعليها شفوف لها
(ثياب رقيقة) تنظر إلى الطريق، فمر أبو دهبل فوقف طويلاً ينظر إليها، ويمتع
نظره بمحاسنها وهي غافلة عنه، فلما فطنت له شتمته، وأمرت بإرخاء الستر،
فقال:
إني دعاني الحين فاقتادني ... حتى رأيت الظبي بالباب
يا حسنه إذا سبني مدبرًا ... مستترًا عني بجلباب
سبحان من وقفها حسرة ... صبَّت على القلب بأوصاب
يذود عني إن تطلبتها ... أب لها ليس بوهاب
أحلها قصرًا منيع الذُّرى ... يُحمى بأبواب وحجاب
ثم أنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه، فشاعت بمكة وتناشدها الناس،
وغنى بها المغنون، وسمعتها عاتكة إنشادًا وغناءً، فضحكت وأعجبتها، وبعثت إليه
بكسوة، وجرت الرسل بينهما، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فكان
ينزل قريبًا منها، وكانت تتعاهده بالبر واللطف حتى وردت دمشق وورد معها،
فانقطعت عن لقائه في بيت الإمارة والملك، ولم يعد يراها، فمرض مرضًا طويلاً
وأنشد القصيدة النونية المذكورة آنفًا.
ولما عاد إلى مكة خوفًا من يزيد كان يكاتب عاتكة، وبينما معاوية ذات يوم
في مجلسه؛ إذ جاءه خصي له، فقال: يا أمير المؤمنين لقد سقط إلى عاتكة اليوم
كتاب فلما قرأته بكت، ثم أخذته فوضعته تحت مصلاها وما زالت خائرة النفس منذ
اليوم.فقال له: اذهب فالطف بها حتى تحتال على أخذ الكتاب. ففعل الخصي وأتى
بالكتاب وإذا فيه:
أعاتك هلا إذا بخلت فلا تَرَيْ ... لذي صبوة زلفى لديك ولا يُرقى
رردت فؤادًا قد تولى به الهوى ... وسكنت عينًا لا تملُّ ولا ترقا
ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى ... ولم أر يومًا منك جودًا ولا صدقا
أتنسين أيامي بربعك مدنفًا ... صريعًا بأرض الشام ذا جسد ملقى
وليس صديقي يرتضى لوصية ... وأدعو لدائي بالشراب فما أسقى
وأكبر همي أن أرى لك مرسلاً ... فطول نهاري جالس أرقب الطرقا
فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس ... فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى
رأيتك تزدادين للصب غلظة ... ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقا
فلما قرأه معاوية بعث إلى ابنه يزيد، فأتى ووجده مطرقًا فقال له: ما هذا
الأمر؟ فقال: أمر أقلقني وأمضني وما أدري ما أعمل في شأنه. قال: وما هو؟
قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية فما
ترى فيه؟ قال: الأمر هين، عبد من عبيدك يكمن له في أزقة مكة فيريحنا منه.
فقال معاوية: أفٍ لك، والله إن تقتل رجلاً من قريش هذا حاله صدَّق الناس قوله،
وجعلونا أحدوثة أبدًا. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها
أهل مكة وسارت حتى بلغتني وأوجعتني وحملتني على ما أشرت به. فقال:
ما هي؟ فأنشد:
ألا لا تقل مهلاً فقد ذهب المهل ... وما كان من يَلْحى محبًّا له عقل
لقد كان في حولين حالا ولم أزر ... هواي وإن خُوِّفْتُ عن حبها شغل
حمى الملك الجبار عني لقاءها ... فمن دونها تخشى المتالف والقتل
فلا خير في حب يخاف وباله ... ولا في حبيب لا يكون له وصل
فوا كبدي إني اشتهرت بحبها ... ولم يك فيما بيننا ساعة بذل
ويا عجبًا أني أكاتم حبها ... وقد شاع حتى قطعت دونها السبل
فقال معاوية: قد والله رفهت عني؛ لأني أرى أنه يشكو عدم الوصل فالخطب
فيه يسير، قم عني. فقام يزيد، وحج معاوية في تلك السنة، ولما انقضت أيام الحج
كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعراءهم وكتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم
ففرق الصِّلات الجزيلة، فلما قبض أبو دهبل صلته وقام ينصرف، دعا به معاوية،
فرجع إليه فقال له: يا أبا دهبل، ما لي رأيت يزيد ساخطًا عليك في قواريض تأتيه
عنك، وشعر لا تزال تنطق به، وأنفذته إلى أخصامنا وموالينا؟ فطفق أبو دهبل
يعتذر ويحلف أنه مكذوب عليه، فقال له معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك
عندنا فهل تأهلت؟ قال: لا. قال: فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة. قال:
زوجتكها وأصدقتها ألفي دينار، وأمرت لك بألف دينار أخرى. فلما قبضها، قال:
إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو لي عما مضى، فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق
مني فقد أبحت به دمي، وفلانة التي زوجتنيها طالق ألبتة. فسُرَّ معاوية بذلك،
وضمن له رضا يزيد عنه ووعده بإدرار ما وصله به في كل سنة، وانصرف إلى
دمشق، قالوا: ولم يحج معاوية في تلك السنة إلا لأجل ذلك.
(المنار)
في القصة فوائد لمن يتأمل ويستفيد منها حرية العرب، وتساهلهم في العشق
وغيره مع أولادهم وغير أولادهم، وفي لوازمه ما لم ينتهك العرض وتُلْمَس العفة
وتبتذل الصيانة على أن العشق والعفة لا ينفكان في قرن كما سنبينه، ألم تر إلى
معاوية كيف أجاب يزيد حين قال له: إن أبا دهبل يقول في ابنتك:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ ... اص ميزت من جوهر مكنون
بقوله: لقد صدق يا بني إنها لكذلك. ثم لما قال له: إنه قال: (ثم خاصرتها)
البيت: قال لقد كذب. ألم تر أنه لم يعاتب ابنته، ولم ينصحها؛ لأنه يعلم أن العشق
طور من أطوار النفس يغري به العذل والتثريب، ولا ينجع فيه الوعظ والتأديب؟
ألم تر أنه قال لأبي دهبل: (أما من جهتي فلا خوف عليك؛ لأني أعلم صيانة
ابنتي نفسها وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن يقولوا النسيب) ... إلخ.
ومنها الطريقة المثلى في تربية الفتيان والفتيات في طور العشق والحب، إذا
علم الجاهل الأخرق أن ولده عشق وساءه ذلك وخشي مغبته يبادر إلى إطفاء لوعته
باللوم والتعنيف، والعذل والتوبيخ، وذم المحبوب، وانتحال المثالب والعيوب،
وما هذا اللوم إلا عين الإغراء، وما ذلك الإطفاء إلا إضرام وإذكاء.
كالذي طأطأ الشهاب ليطفى ... وهو أدنى له إلى التضريم
والعليم الحليم يبادر إلى قطع الصلات، وإبطال المعاملات، بخفي العمل،
ولطائف الحيل، كما فعل معاوية في إخراج أبي دهبل من الشام أولاً، ثم في
تزويجه وإكرامه بحيث ألجأه إلى أن يعطي العهد من نفسه على ترك التشبيب
بعاتكة، ويؤيد ذلك بإبانة زوجه وإباحة دمه من غير أن تعلم عاتكة بذلك.
ومنها: الفرق بين حلم معاوية، وسفه يزيد وميله إلى الظلم وسفك الدم،
وكيف صده أبوه عن اغتيال أبي دهبل بقوله: إن في ذلك إثباتًا للتهمة واشتهارًا
بالفضيحة، ولم يأته من قبل الدين وحرمة الدماء المعصومة، والظاهر أنه كان يعلم
أن ما قاله له هو الذي يؤثر فيه.
ومنها: الحرية العامة عند العرب يومئذ، فقد كانوا يتغنون بشعر يشبب فيه
ببنت أمير المؤمنين من غير مؤاخذة ولا نكير، ولا توقع مؤاخذة، ولا خوف
عقوبة.
ومن وجوه الاعتبار: الفرق بين عظمة الملوك وتجبرهم اليوم، وبساطتهم
يومئذ.
***
العشق والعفة
العشق - كما قلنا - حليف العفة وقرينها، وحب الفساد المقلوب لا يسمى
عشقًا، وقد كان أبو دهبل عفيفًا نزيهًا، وعاتكة أعف وأنزه، روي أنه خرج يريد
الغزو فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتابًا فقالت له: اقرأ لي هذا الكتاب.
فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصرًا، ثم خرجت إليه فقالت: لو تبلغت القصر فقرأت
الكتاب على امرأة كان لك فيه أجر إن شاء الله؛ فإنه من غائب لها يعنيها أمره. فبلغ
معها القصر، فلما دخلا إذا فيه جوارٍ كثيرة فأغلقن عليه القصر، وإذا فيه امرأة
وضيئة، فراودته عن نفسه، فأبى فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وكان يُطعم
ويُسقى قليلاً حتى ضعف وكاد يموت، ثم دعته إلى نفسها، فقال: لا يكون ذلك أبدًا؛
ولكني أتزوجك. قالت: نعم. فتزوجها، فأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه
نفسه، فأقام معها زمانًا طويلاً لا تدعه يخرج، حتى يئس منه أهله وولده، وتزوج
بنوه وبناته، وتقاسموا ماله، وأقامت زوجه تبكي عليه حتى عمشت ولم تقاسمهم
ماله، ثم إنه قال لامرأته الجديدة: إنك قد أثمت فيَّ وفي ولدي وأهلي، فأذني لي
أطالعهم وأعود إليك. فأخذت عليه أيمانًا أن لا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها، فخرج
من عندها بمال كثير حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجه وما صار إليه ولده،
وجاء إليه ولده فقال: والله ما بيني وبينكم عمل، أنتم قد ورثتموني وأنا حي، فهو
حظكم، والله لا يشرك زوجي فيما قدمت به أحد، ثم قال لها: شأنك به فهو لك كله.
ولما حان الأجل وأراد الخروج إلى الجديدة جاءه خبر موتها فأقام.
ومن حديث العفة وأخبار أبي دهبل أنه كان يهوى امرأةً جزلةً يجتمع إليها
الرجال للمحادثة وإنشاء الشعر، وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع
إليها، وكانت هي أيضًا محبةً له، وكانت توصيه بحفظ ما بينهما وكتمانه، فضمن
لها ذلك، واتصل الوداد بينهما، فوقفت عليه زوجه وكانت غيورًا عليه، فدست إلى
عمرة امرأة داهية من عجائز قومها، فجاءتها فحادثتها طويلاً، ثم قالت لها في عرض
حديثها: إني لأعجب لك كيف لا تتزوجين بأبي دهبل مع ما بينكما؟ قالت: وأي
شيء يكون بيني وبين أبي دهبل؟ فتضاحكت وقالت: أتسترين عني شيئًا قد تحدثت
به أشراف قريش في مجالسها وسوقة أهل الحجاز في أسواقها، والسقاة في مواردها؟
فما يتدافع اثنان أنه يهواك وتهوينه. فوثبت عمرة عن مجلسها، واحتجبت، ومنعت
كل من كان يجالسها من المصير إليها، وجاء أبو دهبل على عادته فحجبته، وأرسلت
إليه بما كره، فقال في ذلك شعرًا كثيرًا منه:
يلومونني في غير ذنب جنيته ... وغيري في الذنب الذي كان ألوم
أَمِنَّا أناسًا كنت تأتمنينهم ... فزادوا علينا في الحديث وأوهموا
وقالوا لنا ما لم نقل ثم كثروا ... علينا وباحوا بالذي كنت أكتم
ومنها البيت التي يتمثل به وهو:
أليس عجيبًا أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلم
ويروى (أليس عظيمًا) ومن شعره اللطيف في ذلك:
تطاول هذا الليل ما يتبلج ... وأعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
وبت كئيبًا ما أنام كأنما ... خلال ضلوعي جمرة تتوهج
فطورًا أمنّي النفس من عَمْرَةَ المنى ... وطورًا إذا ما لج بي العشق أنشج
لقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
أخطط في ظهر الحصير كأنني ... أسير يخاف القتل ولهان مفلج
فانظر كيف أن عمرة ما كانت ترى مجلسها معه ومع الأدباء لامسًا للعفة، ولا
ماسًّا بالصيانة، حتى علمت أن الناس يتحدثون بأن الأمر خرج عن المعتاد،
ويرون أن لها شأنًا مع بعض الأفراد، فضربت دون زوارها الحجاب، ومنعت
الهوى أن يدخل عليها من الطاق أو الباب، وكان بنو جمح يزعمون أن أبا دهبل
تزوج بعمرة، ويزعم غيرهم أنه لم يصل إليها، ولم يزن هو ولا هي بكلمة قبيحة.
كان أبو دهبل من سادات بني جمح وأشرافهم، وكان جميلاً ظريفًا وشاعرًا
عفيفًا، وكان يحمل الحمالات ويعطي الفقراء ويُقري الضيوف، ومات في سنة ثلاث
وستين.
__________(4/147)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(المرأة في الإسلام)
مجلة علمية تهذيبية تبحث في ترقية شأن المرأة في الإسلام، صدرت في
أوائل شهر ذي الحجة الماضي لمنشئها الفاضل إبراهيم بك رمزي، وهي تصدر
في الشهر مرتين في 16 صفحة كبيرة، وقيمة الاشتراك 30 قرشًا تُدفع سلفًا، وقد
بيَّن في العدد الأول منها المباحث الكلية التي وضعت المجلة لها وهي:
1- المرأة واستعدادها وحقوقها الشرعية ومكانتها البيتية والاجتماعية.
2- تدبير المنزل والتربية.
و3- الأخلاق والعادات.
و4- سير شهيرات النساء.
5- أخبار النساء.
6- العائلة وتكوينها وحقوق وواجبات أفرادها من زوج وزوجة وآباء وأبناء،
فنسأل الله تعالى أن يوفقه للصواب فيما يكتب وينفع به.
ولا شك أن هذه الحركة المحمودة والعناية بشأن النساء هو أثر من آثار
الصيحة الشديدة، والصاخة القوية التي صدرت من حضرة الفاضل قاسم بك أمين،
ولو أنه خاطب الناس بما يعرفون ويألفون لما أحدث أثرًا ولا حرك قلمًا ولا فكرًا
وحركة الفكر تتقدم العمل دائمًا، وهو الذي يُظهر للناس النافع والضار، وبه تتم
السعادة، ويبلغ الإنسان مراده.
***
(مجلة المجلات العربية)
صدر العدد الأول من مجلة بهذا الاسم شهرية علمية صناعية أدبية سياسية
ذات 24 صفحة، لصاحبها الهمام محمود بك نسيب، وقيمة الاشتراك فيها سبعون
قرشًا أميريًّا في السنة، وقد صدر منها العدد الأول مزينًا برسم سمو الخديو المعظم،
وفي الأخبار السياسية رسم ولي عهد مملكة الإنجليز، وذكر الاحتفال به في
بورسعيد، وفي باب أشهر الحوادث وأعظم الرجال رسم يوسفُ (فردي) الموسيقي
الإيطالي الشهير الذي مات من عهد قريب وترجمته، إلى غير ذلك من الفوائد
والأخبار العلمية والتاريخية، فنرحب بهذه الرفيقة الجديدة أيضًا، ونسأل الله لها
التوفيق والانتشار.
__________(4/156)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينية
في فرنسا
اتفق لي أنني عندما زرت في العيد صاحب الفضيلة الأستاذ شيخ الجامع
الأزهر المعظم حدثته بالجمعيات الدينية الأوربية، لا سيما الفرنسوية كالجزويت
والفرير، وذكرت له أولاً ما كان من معاداة رجال الدين المسيحي للعلم في العصور
التي يسمونها المظلمة، وكيف انقلب الحال بعدما ظفر رجال العلم، وسُلبت السلطة
السياسية من البابا، فصارت أَزِمَّة العلوم بأيدي الجمعيات الدينية، حتى إن
الجزويت الذين هم أشد الفرق تعصبًا للدين هم الذين غيَّروا نظام التعليم في أوربا
فارتقى بسعيهم إلى الدرجة التي هو فيها، وذكرت لفضيلته ثروة جمعية الجزويت
ومسالكها في التعليم الديني والدنيوي، وأن غايتها هي وأمثالها إرجاع السلطة
السياسية لرجال الدين كما كانت، وأنها تعلم كما يعلم كل بصير بأحوال الكون أنه
لا يمكن أن يكون مثل هذا الانقلاب إلا بالعلوم العصرية والثروة المالية التي هي
حليفة العلم، وانتقلت من هذا إلى بيان كون الديانة المسيحية ليست ديانة سلطة
بخلاف الديانة الإسلامية التي يجب فيها أن يكون الخليفة فيمن دونه من الحكام
عالمين بالدين في كلام طويل نتيجته أن حفظ الدين الإسلامي وحفظ كرامة أهله
وإعادة سلطته يحتاج فيه إلى العلوم الكونية والجمعيات المالية، وأن هذا ما يدعو
إليه المنار.
لم تمض على حديثنا أيام حتى جاءتنا البرقيات، ثم الجرائد بخبر معارضة
الحكومة الفرنسوية للجمعيات الدينية ورجال الدين عامة، واتهامها إياهم بالسياسة
وعداوة الحكومة الجمهورية، والسعي التمهيدي في نكث فتلها وحل عراها، وقد
اقترحت الحكومة على مجلس البرلمان أن يصدق على قانون قدمته له، ملخصه على
ما في رسالة المؤيد الأغر:
إنه يجب على كل جمعية دينية أن تعرض قانونها على الحكومة، وتأخذ منها
إجازة رسمية وإلا فإنها تنحل وتبطل، وإنه لا يجوز لأعضاء الجمعيات التي تنحل
أن يزاولوا صناعة التعليم مطلقًا، وإِنْ في مدارس الجمعيات المأذونة. وإن
الحكومة تستولي على ما تملك الجمعية المنحلة من عقار ونحوه وتبيعه، وتنشئ بثمنه
صندوق إعانة لعملة الشيوخ والمتقاعدين، وقد قدرت الحكومة قيمة ما للجمعيات
غير المأذونة من ذلك بمليار فرنك (ألف مليون فرنك) فهاج ذلك الاشتراكيين،
وطفقوا يقولون: إن من الجناية على الأمة أن يحتكر صنف من الناس هذا المال
الكثير، ويكنزه ويحول بين الناس وبين استثماره والانتفاع به.
وقد صدَّق المجلس على هذا القانون بعد مناقشات أثبت فيها الموافقون
للمعارضين - وهم الأقل - أن الرهبان يعلّمون الشعب في مدارسهم وكنائسهم أن
الحكومة الجمهورية حكومة فساد واختلاس وقرارة أقذار، وأنه يجب تقويض
أساسها، ومن الشواهد التي أوردها الباحثون على ذلك أن الموسيو لايك أظهر أن
الكتب التي يتعلم بها تلامذة المدارس الدينية تحرف الكلم بما تقلب به الحقائق ليوافق
مشربها، ومنها أن الموسيو برجو لما كان رئيسًا لِلَجْنَةِ جوائز تلامذة المدارس في
المعرض أرادوا منح الجائزة الكبرى لأكثر التلامذة مهارة، فوجدوا أن الذين
يستحقونها هم تلامذة مدارس الفرير؛ ولكنهم وجدوا في كتاباتهم دلائل كثيرة على
بغضهم للحكومة الجمهورية ونظاماتها، واعتبارهم من يخالفهم في المذهب من سائر
الناس أعداء لهم، فلذلك حُرم من هذه الجائزة تلامذتهم في أوربا، وأعطيت لتلامذتهم
في الشرق؛ لأنه لم يوجد في كتاباتهم مثل ذلك، ومنها أنهم يعلِّمون النساء في أوقات
الاعتراف تعليمًا مخلاًّ بالآداب؛ كالكذب على الزوج لإخفاء ما يأتينه من البهتان بين
أيديهن وأرجلهن، كأن تقول المرأة لزوجها: ما زنيت. وتنوي في نفسها تتمة للقول
مثل: لأقول لك، وتقول: ما سرقت، وتنوي: قبل ولادتي أو نحو ذلك، إلى غير
ذلك من الشواهد.
وقد تقرر الآن أن تعليم جميع الجمعيات الدينية لا بد أن يكون تحت مراقبة
الحكومة، ولا شك أن خوف الحكومة في محله، وأن هذه الجمعيات تنوي الانقلاب
الذي حذرته الحكومة، وهي سائرة إليه من طريقته المثلى، وهي طريقة التربية
والتعليم. فليعتبر رجال الشرق عامة وعلماء المسلمين خاصة الذين فقدوا كل شيء
وما بقي عندهم إلا حثالة ما أُلِّف من قبلهم من الكتب يتلهون أو يتعيشون بالبحث في
أساليبها وترديد ألفاظها، ولا يخطر على بالهم السعي في دوامها وحفظ كرامة أهلها
فضلاً عن السعي بالارتقاء وإعادة أحكام الدين ومجده السالف، ومن ينبههم على
ذلك يتخذونه عدوًّا ويمضغون لحمه بالغيبة ويسلطون عليه عقارب السعاية؛ وإنما
يبحثون عن حتفهم بظلفهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________(4/157)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(العام الجديد)
هذا اليوم فاتحة سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة الشريفة، نسأله تعالى
أن يجعله عام إصلاح وفلاح للأمة، ويهنئ أهله بكشف الغمة.
***
(الأعياد والمواسم)
كان الشهر المنصرم شهر أعياد ومواسم لجميع الملل، عيد الأضحى الكبير
للمسلمين، وعيد الفصح الكبير للنصارى، وعيد الفطر لليهود، وموسم شم النسيم
المشترك بين جميع الطوائف والملل من سكان القطر المصري، نسأله تعالى أن يديم
النعمة والسرور على الجميع في ظل الحضرة الخديوية الظليل.
***
(تركيا الفتاة)
أكثرت الجرائد في هذه الأيام من الكلام في الحزب الذي يسمونه تركيا الفتاة،
فأعلاها مكانة يطعن فيه وبعضها يدافع عنه، والصواب أن هذا الحزب ليس له شأن
في العالم إلا بسؤال مولانا السلطان عنه واهتمامه بشأنه، فإن أهمله أُهمل وأُغفل،
وما دام يبالي به ويحزبه أمره؛ فشأنه كبير لا تؤثر فيه الجرائد ولا يزعزعه الكلام،
وإنما تأثير الجرائد في المابين فالمدح والقدح عاملان متساويان في التأثير هناك، بل
ربما كان القدح والذم أشد تأثيرًا في الاهتمام به.
أما صاحب الدولة محمود باشا داماد ونجلاه الأميران النجيبان فليسا من حزب
تركيا الفتاة؛ ولكن لهم شأن مخصوص بهم.
وقد انتقدنا على جريدة مصباح الشرق الغراء بعض ما كتبته في أسباب الحرب
الروسية العثمانية، والقانون الأساسي من الوجه التاريخي، وسننشر ذلك في العدد
الآتي إن شاء الله تعالى.
__________(4/160)
16 المحرم - 1319هـ
5 مايو - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورات بين المصلح والمقلد
المحاورة السادسة
الاجتهاد والتقليد
لما عاد الشيخ والشاب للمباحثة، والمثافنة للمنافثة، قال الأول:
المقلد: إنني من يوم سمعت منك تلك الكلمة الغريبة، وأنا لا أنفكّ مشتغلاً
بالمطالعة في باب الاجتهاد من كتب الأصول استعدادًا لهذا اليوم، وأعني بالكلمة ما
لم تنسه من قولك: إن فيما قالوه عن المهدي كلمة إصلاح وهي إبطال المذاهب وجعل
المسلمين على طريقة واحدة كما هو أصل الإسلام، وإنني أعتقد كما يعتقد كل من
يعرف الإسلام وعلومه أنه لولا الأئمة الأربعة لضاع الدين بالمرة، وأن لهم رضي
الله تعالى عنهم المنة في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة، وأن الخروج عن مذاهبهم
مروق من الدين، والعياذ بالله تعالى.
المصلح: لا أنازعك في مدح الأئمة رضي الله تعالى عنهم، ولا أنكر شيئًا
من فضلهم؛ ولكنني أقول كلمة تعرف بها بطلان قولك الأخير، وهي أن الإسلام
قبلهم كان خيرًا من زمنهم، وكان في زمنهم الذي لم يقلدهم فيه إلا قليل من الناس
خيرًا منه فيما بعده من الأزمنة التي أقامهم الناس فيها مقام الأنبياء، بل إن من
أتباعهم من قدمهم عليهم عند تعارض كلامهم مع الحديث الصحيح؛ فإنهم يردون
كلام النبي المعصوم مع اعتقادهم صحة سنده لقول نقل عن إمامهم، ويتعللون
باحتمالات ضعيفة كقولهم: يحتمل أن يكون الحديث نسخ، ويحتمل أن عند إمامنا
حديثًا آخر يعارضه، ولا شك أن هؤلاء المقلدين قد خرجوا بغلوهم في التقليد عن
التقليد؛ لأنهم لو قلدوا الأئمة في آدابهم وسيرتهم وتمسكهم بما صح عندهم من السنة
لما ردوا كلام المعصوم لكلام غير المعصوم الذي يجوز عليه الخطأ والجهل بالحكم،
وكانوا يأمرون بأن يترك قولهم إذا خالف الحديث، بل تسلق هؤلاء الغالون بمثل
ذلك إلى القرآن نفسه وهو المتواتر القطعي والإمام المبين، وتجرأ بعضهم على
تقرير قاعدة البابوات في الإسلام، وهي أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ دينه من الكتاب؛
لأنه لا يفهمه، وإنما يفهمه رجال الدين، فيجب عليه أن يأخذ بكل ما قالوا وإن
خالف الكتاب، ولا يجوز له أن يأخذ بالكتاب إذا خالف ما قالوا، بل لا يجوز له أن
يتصدى لفهم أحكام دينه منه مطلقًا، ومثل هذا ما قال بعض فقهائنا قال: لا يجوز
لأحد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ لأن الله قال كذا، ولأن رسوله قال كذا، بل
لأن فلانًا الفقيه قال كذا، وهذا مصداق قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لتتبعن
سنن الذين من قبلكم ... ) الحديث، وفي آخره قالوا: يا رسول الله، اليهود
والنصارى؟ قال: (فمن؟) .
المقلد: ليس كل ما فعله اليهود والنصارى باطلاً، فيكون اتباعهم فيه باطلاً،
على أن الاتباع المذموم هو ما كان عن قصد، ولم يقصد المسلمين قط اتباع البابوات
وغيرهم من النصارى؛ وإنما اتبعوا في ذلك الدليل الذي قام عندهم على وجوب
التقليد على من يعجز عن الاجتهاد، ومن كان عاجزًا لا يجوز له أن يتحكم بفهمه
الضعيف، بل عليه أن يأخذ بأقوال الثقات الذين يثق بفهمهم الدين حق فهمه.
المصلح: المذموم في ذاته يذم فاعله مطلقًا، فإن افتحره افتحارًا كان الذم
عليه وحده، وإن سنه واتبعه عليه غيره فعليه إثمه وإثم من عمل به، وإن كان فيه
مقلدًا فهو أخسّ، وأحرى بالتعس، ولا أطيل الآن فيما أخذه المسلمون عمن سبقهم؛
فإنه يشغلنا الآن عن جوهر البحث، وإنما أقدم لك مسائل في بحث التقليد تكون
مقدمات للأصل الذي أريد تقريره في الوحدة الإسلامية ونسبة المذاهب إليها فأقول:
المقدمة الأولى: إن العلوم الكسبية التي توجد بوجود الحاجة إليها تنقسم
مسائلها إلى قسمين: قسم يسهل فهمه من دليله أو بدليله على كل واحد من الناس،
وقسم يعسر أخذه من الدليل على الأكثرين وينهض به في كل عصر أفراد مجتهدون
يتفرغون له، ويستقلون ببيانه، ويتبعهم من يحتاج إلى ذلك من سائر الناس، ولم
يوجد علم من العلوم الحقيقية تعلو جميع مسائله عن تناول عقول الدهماء، ويستقل
بها أفراد من وقت من الأوقات ويعجز سائر البشر عنها، ومتى وُجد العلم في أمة
فإنه ينمو ويكمل بالتدريج، وسنة الله تعالى في ذلك أن المتأخر يكون أرقى من
المتقدم؛ لأن بداية الآخر من نهاية الأول ما لم يطرأ على الأمة من الأمراض
الاجتماعية ما يوقف سير العلم فيها.
وفي هذه الحالة لا يقال: إن سنة الله تبدلت أو بطلت؛ لأن سنة الله تعالى في
المرضى غير سنته في الأصحاء، فإننا إذا غرسنا شجرة أو وُلد لنا ولد، ومر عليه
في طور النمو زمن ولم ينم فيه؛ لا يصح لنا أن نستدل بذلك على إنكار سنة النمو في
النبات والحيوان، بل علينا أن نبحث عن مرضه الذي عارض النمو ونعالجه ليعود
إلى الأصل.
المقلد: من أين جئت بهذه القاعدة التي لا تنطبق على علم الدين؛ فإنني لم
أرها في كتاب ولا سمعتها من أحد من مشايخنا، وما أراك إلا مفتحرًا لها فإن لم
يكن لك فيها نقل صحيح لا أسلم لك بها.
المصلح: إنني أخذت هذه القاعدة من الوجود وهو أرشد المعلمين، وقد
سلمت لي من قبل أن العلم الصحيح هو ما يشهد له الوجود، ولا يستثنى من هذه
القاعدة إلا العلوم المعدودة المسائل، المحدودة الدلائل إذا استقصيت مسائلها، أو
أُحصِيَ منها قدر تتعذر الزيادة عليه، وذلك كاللغة فإننا إذا أحصينا مفردات لغة قوم
أو أحصينا بعضها وانقرضت الأمة بعد ذلك، يتعذر على المتأخر أن يزيد على
المتقدم الذي أحصى، فإذا قلت: إن علم الدين من هذا القبيل. فقد منعت الاجتهاد
على الأولين والآخرين إلا ما يتعلق بنقل الدين عمن جاء به وهو الشارع صلى الله
عليه وسلم، ومنعت التقليد أيضًا؛ لأن الراوي لا يسمى مقلدًا لمن روى هو عنه؛
لأن التقليد هو أخذك بقول غيرك أو رأيه لذاته لا لمعرفة دليله بحيث لو رجع
لرجعت.
المقلد: لا أقول: إن جميع مسائل الدين مروية عن الشارع بالتفصيل،
والمروي إنما هو الأصول الكلية وبعض الجزئيات، والاجتهاد يكون باستنباط سائر
الجزئيات بالقياس وغيره، وبفهم النصوص والتمييز بين ما يصح الاحتجاج به وما
لا يصح، وبوجوه الترجيح عند التعارض، وغير ذلك مما هو مشروح في علم
الأصول.
المصلح: إذن تصدق قاعدتي في علم الدين، فالمسائل التي يسهل على كل
أحد فهمها بدليلها هي ما نُقل عن الشارع، لا سيما إذا كان النقل بالعمل أو بين
إجماله بالعمل، وأدلة هذه المسائل هي كونها مروية عن الشارع؛ لأن جميع ما ورد
عنه يجب أن يؤخذ بالتسليم من كل من اعتقد بالرسالة، ويبقى التفاضل بين
العارفين بهذه المسائل والأحكام في الفقه بها بمعرفة حكمها وأسرارها، وسأبين
منزلة هذه المسائل من الدين، ومنزلة ما يؤخذ من استنباط المجتهدين، بعد بيان
المقدمات التي بدأت بها.
المقلد: إذا تسنى لكل أحد أن يفهم ما نقل من الدين عن الشارع بالعمل ككيفية
الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات، فلا يتسنى لهم أن يفهموا ما نقل بالقول إلا
بواسطة المجتهد.
المصلح: إن من المقدمات التي أردت سردها ما هو جواب عن قولك هذا،
وليكن (المقدمة الثانية) وهي أن فهم القرآن والسنة أسهل من فهم كتب الفقهاء؛
لأن كلامهما عربي مبين، وأسلوبهما فصيح لا شائبة للعجمة فيه، فمن تعلم العربية
ووقف على مفرداتها وأساليبها لا يعاني في فهمها عشر معشار ما يعانيه في فهم
كتب الفقهاء لاختلاف أساليبهم وبعدها في الأكثر عن أسلوب اللغة الفصيح، ولكثرة
اصطلاحاتهم وخلافاتهم، ولاضطراب الكثير منهم في الفهم، ومن ينكر أن الله
تعالى أعلم بدينه من الفقهاء، وأقدر على بيان ما علمه منهم، أو ينكر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أعلم بمراد الله من سائر خلقه وأقدر على بيان ما علمه، وأنه
قام حق القيام بأمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن
لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) .
المقلد: إن المجتهدين بيَّنوا مراد الله ورسوله لمن لم يستطع فهم كلامهما،
والفقهاء بيَّنوا مراد المجتهدين لمن لم يستطع فهم كلامهم.
المصلح: لقد أكثرت الوسائط وغفلت عن قولي الأول، وهو أن الله ورسوله
أقدر على البيان ممن عداها، وأن القول بأن بيان الرسول لم يكن كافيًا للأمة قول
بأنه لم يبلِّغ رسالة ربه؛ ومن يقول بهذا؟ أما تعلم العربية فمن أسهل الأمور على كل
عاقل، ألم يهد لك كيف نبغ فيها الأعاجم عندما كانت داعية الدين سائقة لهم إليها؟
وهل هي إلا لغة من أحسن اللغات أو أحسنها، وإننا نرى الأطفال يتعلمون في
المدارس عدة من اللغات التي هي دون العربية في التهذيب وسلامة الذوق وسهولة
النطق.
المقلد: إن أذهان الناس وعقولهم في هذا الزمان أضعف مما كانت عليه في
أزمنة المجتهدين ومَن بعدهم كالزمخشري والشيخ عبد القاهر الجرجاني والسكاكي
وأضرابهم، والدليل على هذا أن أحدنا يمكث في الجامع الأزهر عشرين سنة، ولا
يقدر أن يفهم من كلامهم حق الفهم إلا ما تلقاه عن المشايخ الذين تلقفوه عمن قبلهم.
المصلح: بعيشك لا تلجئني إلى التكرار في القول، فقد قلت لك آنفًا: إن هذا
مرض اجتماعي عارض يجب أن نعالجه، ومتى أصبنا علاجه الحقيقي يزول
وتظهر في أبناء عصرنا سنة الله في ترقي الإنسان كما هي ظاهرة في غيرنا من
الأمم الذين يرتقون في لغتهم وجميع علومهم، وإن خمس سنين كافية لأن يتعلم
الطالب العربية فيخرج كاتبًا وخطيبًا يفهم جميع كلام البلغاء إذا وجد من يعرف
طريقة التعليم المثلى، ولكن أهل الأزهر لا يعرفون هذه الطريقة ولا يقبلون من
يعرفها من غيرهم، وإذا لم تصدِّقوا فجربوا، وأنا الذي أقوم بذلك أو أدلكم على من
يقوم به.
المقلد: إني لا أستطيع أن أنكر عليك ذلك، ولا أن أسلم لك به فدعنا منه،
واذكر لي بقية مقدماتك، فإني أراك تخلق لي مسائل غير ما أتعبت نفسي في مطالعته
عدة أشهر، وأرجو أن تجيء مناسبة في النتيجة.
المصلح: (المقدمة الثالثة) : لو أن أكثر الناس يعجزون عن فهم الدين مما
يبلغ الرسول من كتاب يكتب ويتلى وسنة يعمل بها، لما كلفهم الله به.
(المقدمة الرابعة) : إن الله أمر الناس بأن يكونوا على بصيرة في دينهم فقال:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)
(المقدمة الخامسة) : إن الله تعالى ذم التقليد، ونعى على أهله ووبخهم في
آيات منها قوله تعالى بعد الاحتجاج على المشركين وبيان أنه لا حجة لهم: {بَلْ
قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ
فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *
قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 22-24) فقد احتج على المقلدين بأنه يجب عليهم النظر واتباع ما هو
أهدى، ولم يعذرهم بالتقليد، فدل على أنه غير مقبول عنده، ولو كان التقليد عذرًا
لأحد لكان جميع الكفار والمشركين معذورين عند الله تعالى في عدم اتباع الحق
بحجة أنهم ليس لهم نظر يميزون به بينه وبين الباطل.
المقلد: إن التقليد ليس عذرًا في أصول الدين وعقائده بخلاف الفروع.
المصلح: إن فهم فروع الدين بأدلتها أسهل من فهم أصوله وعقائده بالبرهان؛
لأن أدلة الفروع هو نقلها بطريقة تثق بها النفس، ولكن العقائد لا بد فيها من
براهين عقلية، فكيف يكلفهم بالشاق ويعذرهم بما لا مشقة فيه، نعم إن استنباط
المسائل النادرة بالقياس والرأي أصعب من فهم العقيدة ببرهانها؛ ولكن هذه المسائل
مما يعذر الفقهاء الجاهل بها إذا لم يرعها في عمله وسيأتي بيان ذلك، وأنت تعلم أن
ما علم من الدين بالضرورة من مسائل الأعمال حكمه حكم العقائد كالصلاة بالكيفية
المعروفة وعدد ركعاتها، وكالصوم والزكاة والحج، وكل هذا منقول بالعمل تواترًا لا
كلفة على أحد في فهمه، وإنما موضع البحث في المسائل الشاذة والنادرة.
(المقدمة السادسة) : إن الله تعالى أيد الأنبياء بالآيات الدالة على صدقهم؛
ليكون متبعهم على بصيرة وبينة في دينه، ولم يؤيد المجتهدين بمثل ذلك فمن أخذ
بقولهم لا يكون على بصيرة، ومن كان كذلك فهو على غير سبيل الرسول بحكم
النص.
(المقدمة السابعة) : إننا نهينا عن السؤال عما لم يبين لنا، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)
وفي صحيح مسلم: خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: (يا أيها
الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل - هو الأقرع بن حابس -: أَكُلَّ
عام يا رسول الله؟ فسكت عليه الصلاة والسلام، حتى قالها ثلاثًا، فقال صلى الله
تعالى عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما
تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا
منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) وذكر ابن حبان أن الآية نزلت لذلك،
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الله قد فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد
حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير
نسيان فلا تسألوا عنها) رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه،
وأورده النووي في الأربعين وحسنه، وصححه ابن الصلاح، ورواه آخرون.
كل هذا كان قبل إكمال الدين، أفلا يكون بعد إكماله آكد وأولى؟ ولكننا لم نمتثل
كل هذه الأوامر والنواهي، وأنشأنا نفرض مسائل ونخترع لها أحكامًا نستدل عليها
بضروب من الآراء والأقيسة الخفية أو غير الخفية، وهي تتعلق بأمور العبادات التي
لا مجال للعقل فيها، فوسَّعنا الدين بذلك، وجعلناه أضعاف ما جاء به الرسول صلى
الله عليه وسلم، وأوقعنا المسلمين في الحرج والعسر المنفيين بنص القرآن، ولا حجة
لنا في هذا إلا تقليد بعض الفقهاء الذين فرضتم علينا اتباع ما يقولون، وإن خالف
صريحًا ما يقول الله ورسوله.
المقلد: أعوذ بالله، أعوذ بالله، ما أراك يا هذا إلا ظاهريًّا تنكر القياس، وهو
من أصول الدين وتزعم أن الأئمة زادوا في الدين ما ليس منه.
المصلح: مهلاً مهلاً ! أنا لا أنكر القياس بالمرة؛ ولكنني أقول كما قالوا: إن
الأمور التعبدية لا قياس فيها، وأقول: إن العبادات كلها قد تمت وكملت في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم كالعقائد، فليس لأحد أن يزيد في الدين شيئًا يتعلق
بالعبادة، كما لا يزيد شيئًا يتعلق بالعقائد؛ لأن الاعتقادات والعبادات هي الدين الذي
قال الله تعالى فيه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وأما القياس والرأي الذي تسميه الحنفية استحسانًا
فينبغي أن يكون مخصوصًا فيما يختلف باختلاف الزمان والمكان كالمعاملات
والأقضية، وأما الاعتقاد والعبادة اللذان يرضاهما الله تعالى فلا يختلفان باختلاف
الزمان وهذه هي.
(المقدمة الثامنة) مما أردت تقديمه على بيان رأيي في الوحدة الإسلامية مع
احترام الأئمة والاعتراف بفضلهم والاهتداء بهديهم.
(المقدمة التاسعة) : هي أن الأئمة أنفسهم نهوا عن التقليد، وحرموه،
وسأتلو عليك أقوالهم فيه، وأما النتيجة فهي ...
المقلد: أنظرني فقد كَلَّ ذهني، وسمعت ما لم يكن يخطر لي ببال، أنظرني
حتى أرجع إلى تفسير الآيات التي أوردتها، وشروح الأحاديث التي سردتها،
وسأعود إليك قبل عيد الأضحى لإتمام المناظرة، وإن كان الوقت قصيرًا، وكان
في عزمي أن أقضي أيام العيد في الأرياف.
المصلح: لك ذلك، وإنني أنتقد على الناس لا سيما الوجهاء منهم مغادرة بيوتهم
في أيام العيد الذي يُستحب فيه الفرح والسرور مع الأهل والأقارب، إلا من كان
أهله خارج مصر، وكان موظفًا يتربص مثل هذه الفرصة لزيارتهم. ثم انصرفا
على أن يعودا عن قريب.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة دينية وأجوبتها
فضل سيدنا محمد على سائر الأنبياء
(س) : حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الأغر
رجل يدَّعي بأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن نبينا
محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًّا، وخاتم الأنبياء صدقًا؛ لكنه لا يصدق
بأنه سيد الأنبياء والمرسلين إلا بالدليل القطعي الذي لا شبهة فيه، وهو كتاب الله
عز وجل.
وإذ كانت جريدتكم الغراء هي الوحيدة في خدمة الدين والملة لزم ترقيمه
لحضرتكم راجيًا إيضاح الحجة القوية قطعًا لألسنة المعارضين من أمثال ذلك الغر
الجهول، وخدمة للدين القويم، وأن يكون ذلك إن استحسنتم مسطورًا على صفحات
جريدتكم الغراء؛ إذ فيه هدى لقوم لا يشعرون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد المجيد محمد
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بمصر
ج (المنار)
ليس في القرآن نص صريح في تفضيل سيدنا محمد على سائر الأنبياء عليه
وعليهم الصلاة والسلام بلفظ السيادة أو التفضيل، وذكر اسمه الصريح، ولكن فيه
آيات كثيرة صريحة في معنى التفضيل لا تنطبق على غيره عليه الصلاة والسلام،
والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة وأشهرها حديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا
فخر، وما من نبي؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) وفي رواية للبخاري وغيره:
(أنا سيد الناس يوم القيامة) نعم هذه الأحاديث لا تفيد القطع؛ لأنها رواية آحاد
غير متواترة، إلا أن من لا شبهة له في روايتها يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم
قالها، ومتى صدَّق بالرواية تعين عليه الإيمان بمضمونها؛ لأن دلالتها قطعية لا
تحتمل التأويل.
أما الآيات التي استدلوا بها على تفضيله عليه أفضل الصلاة والسلام فكثيرة،
منها آية العهد والميثاق وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم
مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) ولم يجئ رسول يصدق عليه ما ذكر غير محمد صلى الله
عليه وسلم، ومن ثم اتفقوا على أنه هو، ومنها الآيات الدالة على عموم بعثته
وكونه خاتم النبيين ورحمة للعالمين كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، وقوله: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:
40) وأحسن بيان لوجه التفضيل من كونه خاتم النبيين ما جاء في رسالة التوحيد
لفضيلة مفتي الديار المصرية لهذا العهد؛ فإنه بيَّن أن الأديان ارتقت بارتقاء البشر،
وأن الأديان السابقة إنما منحها الله تعالى لنوع الإنسان عندما كان النوع في أوائل
طور التمييز، وأنه لما بلغ رشده منح الإسلام الذي هو دين الفطرة ومبدأ المدنية
الكاملة.
وأما وجه التفضيل من كونه دينًا عامًّا باقيًا ما بقي العالم فلا أراه يحتاج
إلى بيان، ولا يلتفت إلى دعوى المسيحيين أن دينهم عام؛ فإن الإنجيل الذي في
أيديهم ينطق بلسان السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بقوله: (لم أبعث إلا إلى
خراف إسرائيل الضالة) وهو حصر لا ينافيه قول إنجيل يوحنا: (واكرزوا
بالإنجيل في الخليقة كلها) ؛ لأن اللام في الخليقة لا يصح أن تكون للاستغراق؛
لأنه يدخل فيها حينئذ الحيوان الأعجم والنبات والجماد، فيتعين أن تكون للعهد ولا
معهود إلا (خراف إسرائيل الضالة) ، وبهذا يرتفع التناقض، ومنها قوله تعالى:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) الآية، وتفضيل الأمة
يستلزم تفضيل نبيها؛ لأن خيريتها ما جاءتها إلا من هدايته، ومن كانت هدايته
خيرًا كان خيرًا وأفضل، ومنها قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) فقد قالوا: إن هذا
البعض هو محمد صلى الله عليه وسلم، نعم إن اللفظ ليس نصًّا معينًا؛ ولكن
القرائن الحالية الوجودية تعينه، والمقام يحتمل التطويل وفي هذا القدر كفاية، والله
أعلم.
__________(4/177)
الكاتب: مهذب الدين بن منير الطرابلسي
__________
الشيعة وأهل السنة
اختلافهما
كان الشيخ مهذب الدين بن منير الطرابلسي شيعيًّا أديبًا وشاعرًا بليغًا، وكان
هاجر إلى بغداد لمدح الشريف الموسوي نقيب الطالبيين والاتصال به، فلما جاء
بغداد أرسل إلى الشريف هدية مع مملوكه، بل معشوقه (تتر) الذي سارت
الركبان بغرامه فيه، فجعل الشريف الغلام من الهدية فكاد يُجن ابن منير، وأرسل
إلى الشريف وإلى تتر هذه القصيدة:
عذَّبت طرفي بالسهر ... وأذبت قلبي بالفكر
ومزجت صفو مودتي ... من بعد بُعدك بالكدر
ومنحت جثماني الضنى ... وكحلت جفني بالسهر
وجفوت صبًّا ما له ... عن حسن وجهك مصطبر
يا قلب ويحك كم تخا ... دع بالغرور وكم تُغَر
وإلامَ تكلف بالأغنّ ... من الظباء وبالأغر
ريم يُفَوِّقُ إن رما ... ك بسهم ناظره النظر
تركتك أعين تُرْكها ... من بأسهن على خطر
ورمت فأَصْمَتْ عن قسـ ... ـيٍّ لا يُناط بها وتر
جرحتك جرحًا لا يُخَيَّـ ... ـط بالخيوط ولا الإبر
تلهو وتلعب بالعقو ... ل عيون أبناء الخزر
فكأنهن صوالج وكأنهن لها أُكر
تخفي الهوى وتسرّه ... وخفيُّ سرك قد ظهر
أفهل لوجدك من مدى ... يُفْضَى إليه فينتظر
نفسي الفداء لشادن ... أنا من هواه على خطر
رشأ تحاوله الخوا ... طر إن تثنى أو خطر
عذل العذول وما رآ ... هـ فحين عاينه عَذر
قمر يزيّن ضوء صبـ ... ـح جبينه ليل الشعر
تُدمي اللواحظ خدَّه ... فيرى لها فيه أثر
هو كالهلال ملثمًا ... والبدر حسنًا إن سفر
ويلاه ما أحلاه في ... قلبي الشقيّ وما أمر
نومي المحرم بعده ... وربيع لذاتي صفر
***
بالمشعرين وبالصفا ... والبيت أقسم والحجر
وبمن سعى فيه وطا ... ف به ولبى واعتمر
لَئِنِ الشريف الموسوي ... بن الشريف أبي مضر
أبدى الجحود ولم يرد ... إليَّ مملوكي تتر
واليت آل أمية الطـ ... ـهرالميامين الغرر
وجحدت بيعة حيدر ... وعدلت عنه إلى عمر
وإذا جرى ذكر الصحا ... بة بين قوم واشتهر
قلت المقدم شيخ تيـ ... ـم ثم صاحبه عمر
ما سل قطُّ ظِبًى على ... آل النبي ولا شهر
كلا ولا صد البتو ... ل عن التراث ولا زجر
وأثابها الحسنى وما ... شق الكتاب ولا بقر
وبكيت عثمان الشهيـ ... ـد بكاء نسوان الحضر
وشرحتُ حسن صلاته ... جنح الظلام المعتكر
وقرأت من أوراق مصـ ... ـحفه البراءة والزمر
ورثيت طلحة والزبيـ ... ـر بكل شعر مبتكر
وأزور قبرهما وأز ... جر من لحاني أو زجر
وأقول أم المؤمنيـ ... ـن عقوقها إحدى الكُبَرْ
رَكِبَتْ على جمل لتصـ ... ـبح من بنيها في زُمر
وأتت لتصلح بين جيـ ... ـش المسلمين على غَرَر
فأتى أبو حسن وسل ... حسامه وسطا وكر
وأذاق إخوته الرَّدى ... وبعير أمهم عقر
ما ضره لو كان كفَّ ... وعف عنهم إذ قَدَر
وأقول إن إمامكم ... ولّى بصفِّين وفر
وأقول إن أخطا معا ... ويةٌ فما أخطا القدر
هذا ولم يغدر معاو ... يةٌ ولا عمرو مكر
بطل بسوءته يقا ... تل لا بصارمه الذَّكر
وجنيت من رُطب النوا ... صب ما تَتَمَّر واختمر
وأقول ذنب الخارجـ ... ـين على عليٍّ مغتفر
لا ثائر لقتالهم ... في النهروان ولا أثر
والأشعريُّ بما يؤ ... ول إليه أمرهما شعر
قال انصبوا لي منبرًا ... فأنا البريء من الخطر
فعلا وقال خلعت صا ... حبكم وأوجز واختصر
وأقول إن يزيد ما ... شرب الخمور ولا فجر
ولجيشه بالكف عن ... أبناء فاطمة أمر
والشِّمرُ ما قتل الحسيـ ... ـن ولا ابن سعد ما غدر
وحلقت في عشر المحرَّ ... م ما استطال من الشعَر
ونويت صوم نهاره ... وصيام أيام أُخر
ولبست فيه أَجَلَّ ثَوْ ... بٍ للملابس يُدَّخر
وسهرت في طبخ الحبو ... ب من العشاء إلى السحر
وغدوت مكتحلاً أصا ... فح من لقيت من البشر
ووقفت في وسط الطريـ ... ـق أقص شارب من عبر
وأكلت جرجير البقو ... ل بلحم جونيّ الجفر
وجعلتها خير المآ ... كل والفواكه والخضر
وغسلت رجلي كله ... ومسحت خفي في السفر
وأمين أجهر بالصلا ... ة بها كمن قبلي جهر
وأسن تسنيم القبو ... ر لكل قبر يحتفر
وإذا جرى ذكر الغديـ ... ـرأقول ما صح الخبر
وسكنت جلّق واقتديـ ... ـت بهم وإن كانوا بقر
وأقول مثل مقالهم ... بالفاشريَّا قد فشر
مصطيحتي مكسورة ... وفطيرتي فيها قصر
بقر ترى برئيسهم ... طيش الظليم إذا نفر
وخفيفهم مستثقل ... وصواب قولهم هذر
وطباعهم كجبالهم ... خبثت وقدت من حجر
ما يدرك التشبيب تغـ ... ـريد البلابل في السحر
وأقول في يوم تحا ... ر له البصائر والبصر
والصحف ينشر طيها ... والنار ترمي بالشرر
هذا الشريف أضلني ... بعد الهداية والنظر
ما لي مضل في الورى ... إلا الشريف أبو مضر
فيقال خذ بيد الشريـ ... ـف فمستقركما سقر
لواحة تسطو فما ... تبقي عليه ولا تذر
والله يغفر للمسي ... ء إذا تنصل واعتذر
فاخش الإله بسوء فعـ ... ـلك واحتذر كل الحذر
وإليكها ... بدوية ... رقت لرقتها الحضر
شامية لو شامها ... قس الفصاحة لافتخر
وروى وأيقن أنني ... بحر وألفاظي درر
حبرتها فغدت كزهـ ... ـر الروض باكَرَه المطر
وإلى الشريف بعثتها ... لما قراها وانبهر
رد الغلام وما استمرّ ... على الجحود ولا أصرّ
وأثابني ... وجزيته ... شكرًا وقال لقد صبر
(المنار)
لا يخفى أن بعض ما قال لا خلاف فيه، وبعضه عادي محض.
__________(4/183)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقاريظ
(دائرة المعارف)
صدر المجلد الحادي عشر من هذا الكتاب المفيد، أو كما عرَّفه واضعه الأول
بقوله: (قاموس عام لكل فن ومطلب) ، ويبتدئ الجزء الحادي عشر بلفظ الصُّلبَة
من حرف الصاد، وينتهي بالكلام على الدولة العثمانية من حرف العين، والكلام
في الدولة يبتدئ من الصفحة 717 وينتهي بالصفحة 752، وهذا ما عدا تراجم
السلاطين؛ فإن ترجمة كل سلطان مذكورة على حدتها بحسب الحروف.
وفي هذا المجلد من مباحث العلوم: الكلام على الصوت والطيف الشمسي،
ومن مباحث الصناعة أشرفها - أعني - صناعة الطباعة، ويسهل على الذكي أن
يعرف أكثر ما فيه من المباحث والتراجم، والكلام على الحيوان والنبات والبلاد
بالتفكر فيما بين الصاد مع اللام، وبين العين مع الثاء من الأسماء، فنشكر لصديقنا
العالم الفاضل سليمان أفندي البستاني عنايته بإتمام هذا العمل النافع، ولمساعديه
الفاضلين نجيب أفندي، ونسيب أفندي البستاني، ونحث أهل العلم وأنصاره على
إسعادهم بالإقبال على الكتاب.
***
(ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر)
كتاب جديد التأليف والطبع، بل والأسلوب والوضع، وهل هو كتاب توحيد
وتنزيه، أم كتاب أخلاق وآداب، أم كتاب فكاهة ونزاهة، أم كتاب طبيعة ونبات،
أم هو تفسير آيات بينات؟ من قرأ وصف، ومن ذاق عرف، مؤلف الكتاب
صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري معلم البلاغة والإنشاء في المدرسة
الخديوية، وقد حذا به حذوًا يحكي أسلوب (رسائل إخوان الصفا) المشهورة في
مزج العلوم الكونية بالآيات القرآنية، والمؤاخاة بين المنازع الفلسفية والمشارع
الدينية، إلا أنه نزهه من الحكايات الخرافية، والسفسطات النظرية، ولم يقصد من
الكتاب تحرير فن مخصوص ببيان مسائله، وتحرير دلائله؛ وإنما هو أفكوهة
علمية دينية فيه فائدتان لصنفين من الناس: صنف عكف على فنون العربية والفقه
ومثل السنوسية والجوهرة من كتب العقائد، فهو يتوهم أن علوم الكون بعيدة عن
الدين ومذاهبه، وصنف اشتغل بمبادئ الفنون العصرية على الطريقة الأوربية التي
لا تستلفت الذهن من الصنعة إلى الصانع، ولا تعرج بعقله من الكون إلى المكون،
فهذا الكتاب يهديه إلى ذلك، وقد سبق الإمام الغزالي إلى هذه الطريقة في كتاب
التفكر من الإحياء، واستن صاحبنا بسنته، هذا ما لاح لي من مطالعة صفحات منه
متفرقة ومطالعة خاتمته، وقد التزم طبع الكتاب صديقنا الأستاذ المرشد، والمسلم
الموحد الشيخ علي أبو النور الجربي، ووكل أمر نشره إلى مريده الفاضل عبد
الحميد بك الطوبجي ويُطلب منهما، ومن المطبعة المتوسطة، ومن مكتبة المدارس
بالصليبة، وثمنه عشرة قروش.
***
(تقويم المؤيد لسنة 1319)
ما زال الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود يزيد هذا التقويم إتقانًا عامًا فعامًا،
وهذه سنته الرابعة قد زادت على السنة الماضية في كل ضرب من ضروب الزيادة،
زيادة الصفحات، وزيادة السطور فيها، وزيادة المواضيع العلمية والأدبية،
وزيادة الجودة في الورق والتجليد، ومن لطيف اختراع واضعه أن اتفق مع بعض
كبار التجار الذين يحتاج كل أحد إلى سلعهم على أن يبيعوا من عنده هذا التقويم
بأقل مما يبيعون من سائر الناس بمقدار مخصوص في المائة، بأن وضع في كل
نسخة من التقويم أوراقًا تقدم إلى المحل التجاري، فتكون المراعاة بها، وبهذا
الاختراع يكون التقويم كالقراطيس المالية المضمونة الربح، وقد اشتهر التقويم عند
جميع طبقات الناس، وصار سمير الأدباء في السهر، ورفيقهم في السفر، وهو
جدير بذلك.
***
(دعاوى وضع اليد)
جرت سنة الارتقاء في العلم بأن يتولد من العلم الواحد عند اتساع دائرته علوم
متعددة تُفرد بالتأليف؛ ليسهل على طلابها الإحاطة بها وإحصاء جزئياتها، فقد كان
علم الطب والعلاج علمًا واحدًا، ثم انقسم إلى علوم متعددة كعلم وظائف الأعضاء،
وعلم التشريح بأقسامه، وعلم الصيدلة ... إلخ، بل أفرد علماؤه الأمراض العصبية
بالتأليف، وكذلك أمراض العيون وأمراض الأذن، بل وأمراض الأظافر، وكذلك
كان علم العربية واحدًا، ثم انقسم إلى نحو وصرف واشتقاق ووضع ... إلخ، ومن
الارتقاء في علم الحقوق والتأليف فيه بالعربية ما نراه يظهر من المؤلفات من
فروعه، ومن ذلك كتاب المحاماة الشهير لسعادة أحمد فتحي بك زغلول رئيس
محكمة مصر، وكتاب (دعاوى وضع اليد) الذي نشره من أيام المحامي البارع
والقانوني الشهير مراد أفندي فرج أحد المحامين في محكمة الاستئناف بمصر، ولم
تسمح لنا الشواغل بمطالعته؛ ولكن اجتهاد مؤلفه في فنه، وانصراف همته إلى
التأليف في هذا النوع بخصوصه يعطياننا أملاً ورجاء في توفية الموضوع حقه.
***
(احتجاب)
رسالة لطيفة في حكم احتجاب النساء في الشريعة الإسلامية، ألّفها باللغة
التركية العلامة الشيخ عبد الله جمال الدين أفندي قاضي مصر السابق، تغمّده الله
تعالى برحمته، وعرَّبها الأديب الفاضل الشهير بلقب (أصمعي) بإذن المؤلف،
وطبعها بإذن ورثته، ويظهر من مقدمة الرسالة أن المؤلف كانت تحدثه نفسه
بوضعها من زمن بعيد، ثم قويت العزيمة عندما رأى رسائل تدعي (أن أسباب
تأخر الإسلام في الترقي العصري والمدنية هو بقاء نساء الإسلام أسيرات في أيدي
الرجال المتحكمين عليهن وعدم خلاصهن من قيود التستر والحجاب) ، هو إذن يرد
على أصحاب تلك الرسائل؛ ولكن يا له من ردٍّ أدبي نزيه، وكيف لا وهو لمن
يصح أن يكون في آدابه قدوة في عصره لكل فقيه؟ وقد أورد في الرسالة على
اختصارها زبدة ما قاله المفسرون والفقهاء وشراح الحديث في وجوب عفة النساء
وتحجبهن، ولولا أن الجرائد اليومية سبقتنا إلى نشره لأوردنا شيئًا منه، وقد
راجت الرسالة حتى إن ناشرها أخبرنا بأن نسخها نفدت، وما ذلك إلا لشهرة مؤلفها
بالفضل، رحمه الله تعالى وجزاه على حسن نيته خير الجزاء.
__________(4/188)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسباب الحروب الروسية العثمانية
إن مقاصد أوربا في الممالك الشرقية عامة، والدولة العلية خاصة معلومة
للقراء، بل لم تعد تخفى على طبقة من طبقات الناس، وأشهر تَعِلاّتهم في الافتئات
على الدولة والتعدي على حقوقها الخاصة حماية النصارى، ووقايتهم من الظلم رغبة
في إصلاح شؤونهم، وشغفًا بالإصلاح العام، وكان من تقاليد الروسية التي وضعها
بطرس الأكبر أنه يجب أن لا تمر عشرون سنة من غير حرب تضرم نارها بأسلوب
من أساليب تلك التعلة؛ ولكن القيصر الحالي والقيصر الذي قبله علما أن غنائم
الحرب غالية الثمن، مغبون فيها الغالب والمغلوب، فكانا قيصرا هدون وسلام.
ولقد جرت الحرب الأخيرة بين الدولتين على أصل تلك التعلة التقليدية،
وذلك أنها هزت سلاسل جمعياتها الدينية الثوروية السرية، فاهتزت، وحملتها على
إشعال نيران الثورة في بلاد الصقالبة ففعلت، فكان رجال الجمعية يضرمون النار
ويصيحون: الحريق الحريق، إن الدولة العثمانية متعصبة تحاول أن تحرقنا
وتجعلنا رمادًا. وأنشأ القيصر يتوجع لأوربا مما أثرت في وجدانه الشفقة والرأفة
وعاطفة الرحمة، يحرك أشجانها، ويخرج أضغانها، حتى أقنعها بأنه لا بد من
تأديب الدولة العثمانية بحرب، فأرادت الدول العظام أن تكون الحرب سياسية؛
لتكون منفعتها لهم عمومية، فأجمعوا كيدهم بعد تشاور في الأمر على أن يغتالوا
استقلال الدولة، ويفتئتوا عليها في إدارة بلادها الداخلية بأن يكون سفراؤهم
ووكلاؤهم وقناصلهم مسيطرين على الولاة والحكام في العاصمة وسائر البلاد،
وبذلك يمتلكونها من غير أرواح تزهق، ولا أموال تنفق، ولا سيوف تسل، ولا
نفوس تسيل.
فكان أولاً ما كان من مؤتمر الآستانة الباحث في فتنة البوسنة والهرسك
والبلغار وتقديم تلك اللائحة التي جاء في الفصل الرابع عشر منها ما نصه نقلاً عن
مجموعة الجوائب:
(تجري الإصلاحات بإعانة قوة كافية من العساكر حتى لا يقع اضطراب
ونظارة إجرائها تكون لجمعية مختلطة من الأجانب، وأعضاؤها يكلفون جمعية
أخرى لتلاحظ الإجراء من قريب، بحيث إنه في ظرف شهر من السنة يتم
الانتخاب والإدارة ونظارة الأحكام، واختلاط هذه الجمعية يكون من وكلاء الدول
العظام وأعضاء يرسلهم الباب العالي وأعيان النصارى، ويجوز أن تضم إلى ذلك
وكلاء أرباب ديون الدولة العثمانية، وتستعين هذه الجمعية المكلفة بالنظر والإجراء
بجمع من الضباط مركب من متطوعي الدول الحائدة تحت أمر الوالي الذي صرح
في الفصل الأول باشتراط كونه نصرانيًّا، لابسين لباس الترك؛ أي: كسردار
الجيش المصري وضباطه الإنكليز ومصروفهم على بيت مال الولاية، وهذا الجمع
من المتطوعين تؤيد به فرقة الضبطية الأهلية) اهـ.
ولقد كان رجال الدولة العلية يعرفون أن وكلاء الدول في تلك الولايات
سيكونون كما كانوا بعد في تكريت، فكان من البديهي أن لا يبيعوا استقلال دولتهم
لأوربا، وأن لا يعطوها إياها غنيمة باردة؛ ولذلك لم يقبلوا هذا، وما كان هو
المفضي للحرب حتمًا؛ ولكن المفضي إليها هو رفض البروتوكول الذي وقع عليه
وكلاء الدول الست في لندره القاضي على استقلال الدولة كلها قضاءً حتمًا، الذي جاء
فيه ما نصه نقلاً عن الجوائب أيضًا:
(قام بخاطر الدول أن لها أسبابًا تحملها على أن ترجو أن الباب العالي
يستفيد من هذه الفترة الحاضرة، فيبذل همته في اتخاذ الوسائل التي يحصل بها
تحسين أحوال النصارى التي اتفقت الدول على وجوبها لأجل بقاء السلامة
والطمأنينة بأوربا، فإذا أخذت في هذا المشروع يكون معلومًا عنده أن شرفه ونفعه
أيضًا يوجبان المحافظة عليه بالوفاء والإخلاص والإنجاز، فمن رأي الدول والحالة
هذه أن تكون مراقبة بواسطة سفرائها بالآستانة وعمالها في الولايات للمنوال الذي
ينجز به مواعيد الدولة العثمانية، فإذا خابت آمالها مرة أخرى، ولم تحسِّن حال
رعية السلطان على وجه يمنع من إعادة الارتباكات التي تتعاقب في الشرق، وتكدر
موارد السلم فيه، ترى من الصواب أن تعلن أن مثل هذه الأمور لا يوافق مصلحتها
ومصلحة أوربا عمومًا، ففي مثل هذه الحالة تستبقي لنفسها أن تنظر بالاتفاق في
اتخاذ الوسائل التي تراها الأصلح لتأمين خير النصارى، ولإبقاء السلم عمومًا)
انتهى المراد منه، ولم نذكر ما يتعلق بالولايات التي كانت ثائرة كالجبل الأسود
والصرب والبوسنة والهرسك ... إلخ، وليس وراء هذه المراقبة والسيطرة إلا أن
تحتل كل دولة ولاية تنفذ فيها الأحكام تنفيذًا؛ ولذلك قامت قيامة الدولة العلية عندما
بُلِّغت هذا البروتوكول.
أود أن أشرف على الغيب ساعة من زمان، فأعرف ما يجول في خواطر
القراء عندما يطَّلعون على هذه الجملة الوجيزة، وماذا يرتؤون من الصواب أن
تجاب به الدول، وليعلم من لم يكن عالمًا أن الدولة العلية كانت حينئذ مشتغلة بحشر
العسكر وتعبئة الجيوش مجاوبة للروسية، وأنها تعلم أن الحرب واقعة لا محالة إلا
أن ترضخ للدول صاغرة، وتسلم قيادها إليهن تسليمًا.
أليست الطريقة المثلى أن تقنع الدولة الدول بأنها عازمة عزمًا صحيحًا على
إصلاح عامّ تساوي فيه بين النصارى وغيرهم من رعاياها، وتقوم فعلاً بمبادئ
الإصلاح بصورة مقنعة؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيبهن بأنه لا يمكن لها أن
تساوي بين المسلمين والنصارى كما يوهمه كلام اللائم؟ وهل كانت تنجو بهذا من
الحرب؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيب مطالبهن وتحكِّمهن في استقلالها،
وتوليهن إدارة بلادها كلها أو بعضها؟ ذهبت جريدة مصباح الشرق الغراء إلى أن
وعد الدولة للدول بإجراء الإصلاح في رعاياها بالمساواة في الحقوق التي وضع لها
القانون الأساسي كان نزغة من نزغات مدحت باشا المضرة، وأن رفض مطالب
الدول أيضًا مما انفرد به هو ومن أغواهم كوكيل الأرمن، والصواب أن هذا
الرفض كان إجماعيًّا، وأن العلماء والصفتة كانوا أشد طلبًا للحرب ممن عداهم،
وأن مدحت باشا كان أشد توقيًا وتحريًا في الموضوع من سائر رجال الدولة كما
تنطق به المداولات التي وصفها المصباح بالأفن والخطأ والخطل، كما يُعلم مما
نورده في الجزء الآتي بيانًا للحقائق التاريخية، لا انتصارًا لمدحت ولا للذين
يسمون أنفسهم (رون ترك) فإن المنار معروف بمقتهم والرد عليهم منذ أنشئ.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/192)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون في أفريقيا
قرأنا في جريدة الإكلير فصلاً طويلاً مدبجًا بيراع الموسيو أندره مافيل يتعلق
بأحوال مسلمي المستعمرات الفرنسوية وغيرهم من الوثنيين القاطنين في تلك
الأراضي.
وقد خبط هذا الكاتب خبط عشواء في بعض المسائل الإسلامية ظنًّا منه أن
عقيدة المسلم الأبيض تختلف عن عقيدة المسلم الأسود، وحيث إنه أجنبي عن الدين
الحنيف فلا لوم عليه إذا غلط في بعض أموره؛ وإنما اللوم عليه في تعرضه لما لا
يعنيه ولما لا معرفة له به، ونحن نأخذ من كلامه بعض فقرات؛ ليعلم القارئ اللبيب
ما وصلت إليه أحوال الإسلام في أفريقيا الفرنسوية.
قال: إن المسألة الإسلامية تهم جدًّا مستقبل أفريقيا الفرنسوية؛ ولذلك يتعين
علينا النظر فيها بكل تدقيق والبحث عن شؤونها إفرادًا وإجمالاً.
ولا ريب أن الإسلام انتشر منذ عدة سنين انتشارًا عظيمًا في مستعمراتنا في
أفريقيا، فإذا ذهبت إلى هناك أخبرك الأهالي أنه منذ عشر سنوات كانت الناحية
الفلانية والمقاطعة الفلانية تعبد الأوثان، أما الآن فقد صار الجميع مسلمين، ولا
ريب أن تقدمًا مثل هذا يجب الاعتناء به والنظر إليه، وإذا نظرنا إلى حال الوثنيين
فلا نجدهم إلا أقوامًا سقطوا في هوة البهيمية؛ لأنهم لا خلاق لهم، وليس فيهم من
اشتم رائحة المدنية إلا الذين كانوا في البلاد الواسعة التي انتشرت فيها الوثنية (كذا)
مثل الأشانتي , والداهومي، ولسوء الحظ فإن مدنيتهم ممزوجة بعادات بربرية
وأمور وحشية مثل ذبح البشر، وتقديمهم ضحايا للأوثان.
على أن مدنية هؤلاء الأقوام لا يمكن بوجه من الوجوه أن تقاس بمدنية الإسلام
في وادي النيجر؛ فإنها لمعت كالشهب وأنارت أفكار أصحاب هذا الدين وأخرجتهم من
هوة الخشونة التي كانوا فيها قبل أن يعتنقوا هذا الدين الإسلامي، فإذا تقرر أن
العنصر الإسلامي هو من العناصر الموجبة للحضارة والمدنية، فيتعين علينا أن لا
نجعل في سبيل تقدمه العثرات، ولا أن نعارضه في شيء، وعلى فرض أننا قصدنا
معارضته والوقوف دون تقدمه فإن جميع مساعينا تذهب سدى؛ لأنه يستحيل علينا أن
نقف دون أمواجه العظيمة المتعالية كالجبال والمتدفقة كالسيول، وعندي أننا إذا
حاولنا ذلك كنا غير عادلين من جهة مسلمينا السودانيين لا سيما إذا أسأنا فيهم الظن؛
لأننا نراهم من أشد رعايانا خضوعًا، ومن أعظمهم غيرة وحمية، أما رأيتم كيف أن
السنغاليين الذين هم من أخلص رعايانا وأتباعنا فتحوا بإرادتنا غربي السودان؟ أليس
هؤلاء القوم من المسلمين الذين استلمنا زمام أمورهم، وجعلناهم فرنسويين مثلنا؟
ولما حاربنا رباحًا أتوا بأعمال خطيرة، وأبلوا بلاء حسنًا، مع أن رباحًا وجماعته من
المسلمين مثلهم، ومن كان في ريب مما نقول فليسأل القومندان جانتيل عن حسن
سلوكهم، وصدق إخلاصهم، وما أبدوه من دلائل الشهامة والغيرة، ولا أظن أن
أولياء أمورنا يحاولون نشر المسيحية في أفريقيا؛ لأن هذه الديانة لا سوق لرواجها
هناك، وإننا في تلك البلاد في موقف مشرف على ثلاث ديانات: الإسلامية،
والمسيحية، والوثنية، والغلبة في ذلك للإسلامية، ولا أمل لي أن الوثنيين يتقدمون
في مستعمراتنا الإفريقية؛ فإن تمدنهم امتزج بالمسكرات، وما رأيت في حياتي شعبًا
ابتلاه الله بالمسكرات مثل هذا الشعب الدنيء، فقد رأيت أفرادهم في بمبوك ,
ومالنكس يشربون أقداح الأبسنت القتالة كما نشرب نحن الحليب، وذلك مما تقشعر
منه فرائص الإنسانية.
أما في شاطئ العاج فالمسكر شائع بين أهل الوثن الذين يصرفون منه كميات
وافرة، ومن النادر أن لا ترى عند الوثنيين ميلاً لأكل البشر، ففي الكنج يفاخرون
بأكل الناس، وهذا الأمر شائع وذائع هناك رغمًا عن حلول عساكرنا، ورغمًا عن
أوامرنا ومقاومتنا لمثل هذه العادات القبيحة، وأنا أراهن بأنك لا تمشي نحو 50
كيلو متر عن بلدة ليبرفيل حتى تشاهد أكل لحوم الناس شائعًا، فلا تكاد تدخل بيتًا
من بيوت الوثنيين وتكشف الأغطية عن طواجنه في المطابخ حتى تراها ملأى
باللحوم البشرية التي تعد عشاء للعيلة، ومثل ذلك يقال في الشعوب الساكنة في
جهات جنوب السودان على حدود ليباديا مما لا يمكن الإقلاع عنه إلا بعد مر السنين
الطوال.
أما أنا فعندي أن أعظم شيء تخفق له القلوب جزعًا وحنانًا مرأى البشر
يذبحون ضحايا للأوثان بسيوف الجهالة والحمق تبعًا لعادات قبيحة، يتعين علينا
إبطالها مهما كلفنا أمرها، وهذه العادات ناشئة عن اعتقاداتهم الدينية وعقولهم
القاصرة، فالمالنكس مثلاً وهم قبائل وثنية لا يعتقدون بشيء إلا بالشيطان، فهم
يقولون: إنه قادر على كل شيء، وعندهم أن هذا الخبيث؛ أي: الشيطان يترصدهم
ويراقب أعمالهم وحركاتهم، فهو يكمن أحيانًا بين الأدغال، وفي الجبال ويطوف
فيها، ويختبئ أيضًا في الجنائن والبيوت، وفي الليل يخرج منها ويطوف لأجل الأذى
والأعمال الفظيعة، والوثنية في شاطئ العاج والداهومي منشورة جدًّا، وأهلها
يعبدون الوجوه الممسوخة وتماثيل الحيوانات، وفي أحد الأيام كنت بينهم، فكان ذلك
اليوم أثقل على قلبي من عبادة الوثن؛ فإني شاهدت الأهالي يصبغون وجوههم بلون
أصفر احترامًا لأصنامهم، وكان ذلك اليوم عيدًا عندهم، أما عندي فكان يوم بؤس،
وكل أهل الوثن يتطيرون بالنحوس، وعندهم أن الإنسان غير مخير في عمله، فهو
يرتكب أعظم الفظائع بما قدرته عليه آلهته.
أما الدين الإسلامي الذي نحسبه بعيدًا عنا وننفر منه بحكم العادة، فيجب علينا
اعتباره وإنزاله في منزلته؛ لأنه دين يعلم أصحابه عبادة الله تعالى، وله جاذبية
تستميل الناس إليه، فهو إذن مالك زمام أفريقيا بأسرها، وعدا عن ذلك فإن كيفية
التدين فيه لها عند شعوب أفريقيا احترام عظيم لو نظرناه - نحن الإفرنج - لما مكثنا
غير مكترثين به، إلى أن قال: فيجب علينا والحالة هذه أن نعيش بما أمكن من
المسالمة وحسن المجاملة مع أهل الإسلام، وأن نحترم دينهم فإنهم يسرّون منا
سرورًا عظيمًا، ولو راجعنا أغلاطنا الماضية منذ فتحنا أفريقيا علمنا حق العلم بأننا
كنا غير عادلين مع المسلمين، ولا ريب أن الاستمرار على عدم العدل يقوض
أركان ملكنا في تلك البلاد، على أن الدين الإسلامي وتعاليمه ليست من التعاليم التي
تهددنا بالخطر والخوف، فإن المسلم رقيق الجانب، أنيس المعشر، يبدي سلامه
بلطف وابتسامة، فهو في كل الوجوه أفضل من سواه، وإننا لنخطئ جدًّا إذا اعتقدنا
بأن هؤلاء المسلمين ينهضون يومًا لأجل الجهاد بقتالنا، فقد مضى في أفريقيا
الغربية زمن الحاج عمر ومحمد وغيرهما.
هذا بعض مما قاله هذا الكاتب المجيد، وقد قابل في آخر كلامه بين الإسلام
والمسيحية، وأظهر أن نشر الإسلامية هناك أسهل بكثير من نشر المسيحية، ثم
ختم كلامه بحض أهل البعثات المسيحية على الذهاب إلى البلدان الوثنية لأجل
إدخال العقائد المسيحية في عقولهم، وقد أبدى للمبعوثين ملاحظات كثيرة، ونبههم
إلى أن لا يدخلوا البلدان الإسلامية؛ لأنه يستحيل أن مسلمًا يخرج من دينه ليعتنق
دينًا آخر اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
__________(4/196)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استلفات لإزالة شبهة
جاء في العدد 150 من جريدة مصباح الشرق الغراء في سيرة سقراط
الفيلسوف اليوناني هذه الجملة بنصها: (ولسنا نقول: إن في قدرة كل إنسان أن
يصل إلى درجة سقراط في الجمع بين القول والفعل على حسب أصول الفضيلة، تلك
عليا مراتب الأنبياء) ، ولا يخفى ما يتبادر منها إلى الفهم من إلحاق سقراط بأصحاب
المراتب العليا من الأنبياء كأولي العزم وتفضيله على من سواهم من الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام، مما يمتنع أن يكون مرادًا لسعادة صاحب المصباح المنير، فنرجو
من سعادته كتابة ما يرفع الوهم ويزيل الالتباس عن قراء جريدته.
__________(4/200)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصحيح غلط
كلما أجلنا الطرف فيما طُبع من المنار نرى فيه أغلاط طبع مدركة بالطبع
كلفظة (مخازن) في السطر العاشر من الصفحة 124 من الجزء الرابع،
وصوابها (مخازي) ، ومثل لفظ (هي) الذي سقط من السطر التاسع عشر من
الصفحة 166 من هذا الجزء، ومحله قبل الكلمة الأخيرة، ومثل (المقدمة السابعة)
في السطر الأول من الصفحة 170، و (المقدمة الثامنة) من السطر الثالث منها،
وصوابه يُعرف من ترتيب العدد قبله، فليصحِّح مثل هذا من تنبه له.
__________(4/200)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيه
لا بد أن تثقل أقوال المصلح في المحاورة المنشورة في هذا الجزء، والتي
ستُنشر فيما بعده على بعض أهل العلم؛ ولكننا نرى حججه قوية، فمن كان عنده رد
أقوى من ردّ محاوره المقلد، فليتفضل علينا به لننشره لتحرير البحث.
__________(4/200)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين على الإسلام
اطَّلعنا على صحيفة كبيرة لأحد المشتغلين بقراءة الكتب التي نشرتها البعثات
النصرانية في الطعن بدين الإسلام، يسأل فيها كاتبها كشف شبهات علقت في ذهنه
في مطالعة تلك الكتب، ومن الواجب أن نجيب عن هذه الشبهات؛ لأن المدافعة
عن الدين أهم ما أنشئ له المنار؛ ولكن سنتنا التي جرينا عليها من أول يوم هي
مسالمة المخالفين لنا في الدين لا سيما المسيحيين، بل السعي في إزالة الأحقاد،
والاتفاق على ما فيه نجاح البلاد، ونود أن لا يطعن أحد في دين الآخر لا قولاً ولا
كتابة؛ ولكن المسيحيين لا يوافقوننا على هذا كما يوافقنا المسلمون؛ ولذلك نراهم
يعقدون الجمعيات للطعن اللساني في الإسلام، وينشرون الجرائد (كراية صهيون)
ويؤلفون الكتب للطعن الكتابي، وإننا نصبر على هذا التعدي، ونكتفي بكشف
شبهات السائلين من أهل ديننا مع مراعاة الأدب فنقول:
إننا قد عجبنا لهذا المسلم المطالع كتب المسيحيين، كيف اكتفى بمطالعتها من
غير أن يطالع الكتب الإسلامية التي تقابلها بالمثل وتدفع شبهاتها وتورد عليها ما لا
دافع له، ككتاب (إظهار الحق) ، وكتاب (السيف الصقيل) وغيرها؟ فأول
جواب نجيبه به أن عليه أن يطالع تلك الكتب، وبعد مطالعتها والموازنة بينها وبين
كتب المسيحيين التي طالعها يسأل عما يشتبه عليه إن بقيت له شبهة؛ لأن الجريدة
التي طلب أن تنشر فيها الأجوبة عن شبهاته لا يمكنها استيفاء الكلام في مواضيعها؛
لأنها تستلزم الطعن الذي تتحاماه، خلافًا لما جاء في آخر صحيفته، ثم إن شبهاته
تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
(أحدها) : مخالفة بعض نصوص الدين الإسلامي لما ورد في كتب اليهود
والنصارى.
(ثانيها) : ورود أشياء في القرآن لم ترد في تلك الكتب، وإن تعجب،
فعجب اشتباه هذا المسلم في هذا النوع؛ فإن السكوت عن الشيء لا يُعد إنكارًا له،
فكيف يشتبه بما يعتقد أن الله أخبر به؛ لأن أولئك المؤرخين لم يذكروه؟ ! !
(ثالثها) : ورود أشياء في الكتاب والسنة مخالفة للواقع، أو لما ثبت في
العلوم الحديثة بزعم من تلقى عنهم، وإننا نجيب عن القسمين الأول والثالث،
وحسبنا في الجواب عن الثاني ما ذكرنا من أنه لا وجه للاشتباه به، ونبدأ الجواب
بمسألة وجيزة في اعتقاد المسلمين بالتوراة والإنجيل فنقول:
إن السائل يحتج على كون التوراة والإنجيل من عند الله تعالى بالقرآن تبعًا
لدعاة النصرانية، الذين ولع بسماع كلامهم وقراءة كتبهم، ولعمري إنه لا تقوم على
ذلك حجة إلا شهادة القرآن، فشهادة القرآن حجة على أن الله تعالى شرع على لسان
موسى عليه السلام شريعة سماها التوراة، وهذه الشهادة شبهة على القرآن؛ لأنها
شهادة بحقية شيء يشهد العقل والعلم والوجود ببطلانه، بل يشهد هو ببطلان نفسه،
أما شهادته ببطلان نفسه فبما فيه من التناقض والتعارض، وأما شهادة العقل والعلم
والوجود فبمخالفة تلك الكتب التي تسمى عند القوم توراة لها، وإذا أراد السائل أن
يعرف هذا تفصيلاً فليطالع ما كتب فيه من الإنسكلوبيديا الفرنسوية الكبرى وغيرها
من الكتب التي ألفها علماء أوروبا، ومثل إظهار الحق من كتب المسلمين.
وأما الجواب عن هذه الشبهة الذي يُظهر صحة شهادة القرآن، فهو أن التوراة
التي يشهد لها القرآن هي كتاب شريعة وأحكام، لا كتاب تاريخ مقتبس من
ميثولوجيا الآشوريين والكلدانيين وغيرهم، فنبالي بتكذيب علم الجيولوجيا وعلم
الآثار العادية له، أو موافقة هذا لبعض ما ورد فيه، ولا تاريخ طبيعي فنبالي
بتكذيب ما ثبت بالتجارب الوجودية من مخالفته كثبوت كون الحيات لا تأكل التراب،
وإن جاء في سفر التكوين أن الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) ،
فضلاً عما فيه من نسبة ما لا يليق بالله إليه تعالى ككونه ندم على خلق الإنسان
ونحو ذلك، فالتوراة حق، وهي الشرائع والأحكام التي كان يحكم بها موسى ومن
بعده من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وأحبارهم كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) ولم يشهد القرآن لهذه الكتب الكثيرة التاريخية التي
منها ما لم يُعلم مؤلفه وكاتبه، وكلها كتب بعد موسى صاحب التوراة بزمن طويل،
وبهذا الجواب تصح شهادة القرآن وتبطل أسئلة المشتبه في الخلاف التاريخي بين
القرآن وكتاب حزقيال وأشعيا ودانيال وغيرهم؛ لأن هذه الكتب لم يشهد لها
القرآن.
ولا تغترن بتسمية القوم لجميع كتب العهد بالتوراة، فذلك اصطلاح جرى
على سبيل التغليب، بل إننا نرى النصارى كثيرًا ما يسمون مجموع كتب العهدين
العتيق والجديد التوراة عندما تكون مجتمعة.
وأما الإنجيل فهو في اعتقاد المسلمين ما أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح
عليه الصلاة والسلام من المواعظ والحكم والأحكام، وكان يعظ به ويُعَلِّم الناس،
وما زاد على ذلك من هذه الكتب التي يسمونها إنجيلاً فهو في نظر المسلمين من
التاريخ، إن كان خبرًا وإن كان حكمًا أو عقيدة فهو لمن قاله، وأنت تعلم أن
النصارى يسمون مجموع كتب العهد الجديد إنجيلاً، ويعترفون بأنها كُتبت بعد
المسيح بأزمنة مختلفة، وليس لها ولا لكتب العهد العتيق أسانيد يحتجون بها.
والقرآن يشهد على النصارى بأنهم لم يحفظوا جميع ما وعظهم به المسيح من
الوحي المسمى بالإنجيل حيث قال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) والإنجيل يطلق على بعض ذلك الوحي،
كما يُطلق لفظ القرآن أو قرآن على بعضه، تقول: كان فلان يقرأ القرآن، ومثل
هذا الاستعمال معروف حتى في الكتاب والسنة، وكان القرآن يسمى قرآنًا قبل تمام
نزوله.
ولما كانت أحكام التوراة وحكم الإنجيل موجودة عند اليهود والنصارى بلا
شبهة، كان القرآن يحتج عليهم بعدم إقامتها ولا يمنع من هذا الاحتجاج مزجهم إياها
بالتاريخ؛ ولكن هذا المزج هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم) ؛ أي: عندما يعرضون عليكم شيئًا من كتبهم؛ وذلك لأنه
ليس عندنا فرقان نميز به بين الأحكام الأصلية الموحى بها، وبين ما مُزج بها في
التأليف، نعم إننا نرجح بعقولنا أن الأحكام المسندة إلى سيدنا موسى في سفر الخروج
وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية كلها أو جلها من التوراة؛ لأنها إن لم تكن هي
فأين هي؟ ونرجح مثل ذلك في وعظ المسيح على الجبل كما في تاريخ إنجيل مَتَّى
وغير ذلك من المواعظ كما رجح بعض العلماء في أوربا والشرق أن جزءًا كبيرًا من
الإنجيل الحقيقي دخل في كتاب أشعيا، وأما الأخبار التي عند القوم فما خالف منها
القرآن نقطع بكذبه ولا غرو، فالله يصدق والمؤرخون يكذبون، وهو معنى قوله
تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) وإننا نكتفي الآن بهذا القدر وموعدنا الجزء الآتي، وإن كان للسائل
شبهة فيما كتبنا فليكتب إلينا نزيده إيضاحًا، وكنا نحب أن يجيئنا إلى إدارة المنار،
ويأخذ الأجوبة الشفاهية؛ لأن حرية اللسان أكبر من حرية القلم، ولولا أن فقهاءنا
يحكمون بكفر من يعلم أن مسلمًا شاكًّا في دينه، وهو قادر على إزالة شكه ولم يفعل
لما كتبنا شيئًا مما كتبنا؛ لأننا خطباء وفاق ووئام، وطلاب مودة والتئام، ولكن ديننا
أوجب علينا هذا لا سيما وأن السائل كتم اسمه، وطلب أن يجاب في المنار فتعين
علينا ذلك.
__________(4/179)
غرة صفر - 1319هـ
19 مايو - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السخاء والبخل
خلق الله الإنسان يمقت الرذيلة بالطبع، ويُزري بالمتلبس بها، ويحب
الفضيلة ويلهج بإطراء صاحبها، وإذا استقرينا سجايا الإنسان وما قاله ويقوله الناس
في الفضلاء من الثناء والمدح، وما رموا به الرذلاء من سهام الذم والقدح، يتسنى
لنا أن نحكم بأن السخاء أرفع الفضائل منزلة في القلوب، وأعلاها وقعًا في النفوس،
وأبعدها طيرانًا في جو الخيال، وأبدعها افتنانًا في فنون السحر الحلال، وأكثرها
دورانًا في الشعر، وأقواها سلطانًا على الفكر، وأحسنها تصريفًا للأقلام، وتسخيرًا
للعقول والأحلام، وأن الأسخياء أشرف الناس عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأطيبهم
نفوسًا، وأضوأهم شموسًا، وأعزهم نفرًا، وأبقاهم أثرًا، وأوسعهم صيتًا وذكرًا،
وأسمعهم حمدًا وشكرًا، وإن شئت حكمت بأنهم أوسع الناس وجودًا، كما أنهم
أوسعهم جودًا، ونحكم بضد ذلك كله، وبضد ما لم نحكه من نعوتهم وصفاتهم،
وآياتهم وكراماتهم، على أضدادهم البخلاء، وبضدها تتميز الأشياء.
ما هو السخاء؟ وبم تعرف الأسخياء؟ وما هو البخل؟ وبم تتميز البخلاء؟
وهل يشتبه الضدان فنحتاج إلى التعريف والفرقة، أو يتشابه المتباينان فنزيل بينهما
بالإبانة والتفصلة؟ نعم إن أكثر الناس لا يفقهون تحديد صفة السخاء والجود،
وصفة البخل والشح، بل ولا يميزون بين الأسخياء والبخلاء تمييزًا حقيقيًّا، فكثيرًا
ما يَسِمُون السخي الكريم، بسمة البخيل اللئيم، وأكثر من هذا أنهم يُسَمُّون الأشحة
اللؤماء، أجاود كرماء، وهذا مما يثير دفائن العجب من النفوس، ويستخرج بقايا
الدهشة من أعماق القلوب؛ لأن المعهود في الإنسان أنه يغفل عما لا شأن له عنده،
ولا مكانة له من نفسه، ويحيط علمًا بدقائق الأمور، ويكتنه خفايا الشؤون، إذا كان
لها سلطان قوي على روحه، وتأثير مؤلم أو ملائم في وجدانه، حيث الداعية إلى
العلم، والباعث إلى الفقه والفهم، وقد أشرنا إلى مكانة الأسخياء الشريفة العليا،
ومنزلة البخلاء الدنيئة السفلى.
أستغفر الله: لقد ظلمت الإنسان؛ إذ ألصقت بمجموعه أو جميعه ما هو خاص
بالشعوب الجاهلة، والأمم التي ضعف في أفرادها معنى الإنسانية، ونزلت عن
مراتب المدنية، فامتلخت أحلامهم، وسادت أوهامهم، يحكمون بالنظرة الحمقى لا
يسبرون الأغوار، ولا يغوصون البحار، فأنى يظفرون بدرر الحقائق، ويقفون
على خفيات الدقائق.
من هو السخي عند هؤلاء؟ ، وبم يعرفون السخاء؟ ، السخاء عندهم هو
التمتع بالمال، ولو بما زاد على قدر الحال، أكل وشرب، ولهو ولعب، وأثاث
ورياش، وسرير وفراش، وخيول ومركبات، ومراكب ذهبيات، واستطابة
الألوان، للوجوه والأعيان، واستعداد في كل آن، لإطعام من يلمّ من الإخوان،
ممن على شاكلة السخي في وظائفه ورتبه، أو على مقربة منه في فضته وذهبه،
وفاتهم أن هؤلاء هم الذين قال في مثلهم القرآن: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم
مُّجْرِمُونَ} (المرسلات: 46) والسخاء محمود عند الله، ممدوح عند الناس
فكيف يكون صاحبه مجرمًا؟
ومن الأسخياء، في عرف هؤلاء الأغبياء من يُهْدِي ليُهْدَى، ويُعْطَى أكثر مما
أعطى، إن لم يكن من نوع ما بذله وجنسه، فمما هو أنفس في نفسه، فإن لم
يتقاض طعامًا بطعام، ويتبادل مُدامًا بمدام، فهو يشتري الجاه العريض الطويل،
بالعرض النزر القليل، فدرهمه دينار، كما هو شأن دهاقين التجار، ومن يقول
فيمن يطعمك قليلاً من اللحم، أو يُهدِي إليك منًا أو منوين من السمن، ليستخدم
جاهك عند الحكام في الحصول على رتبة أو وسام، أو في دفع مظلمة نزلت به
بوادرها، أو الاستعانة على غنيمة ترجى غاياتها وأواخرها -: إن هذا جواد كريم،
وسخي عظيم؟ أليس قد قال تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) وهل
ينهى الله تعالى عن الجود والكرم وهو الجواد الكريم؟
أرأيتك هذا استسمنت وَرَمه، واستغزرت ديمه، هل أهدى وبذل، إلا لذلك
الأمل، فهو مكتسب يستدر أخلافًا، ودائن يأكل الربا أضعافًا، أما كان لولا هذا
العطاء، لهذا الجزاء، يبذل بدَرَ الدنانير، وهو صاغر حقير، يطيل مع التنفس
إحصاءها وعدَّها، ويرجو على الحرص قبولها ويخشى ردَّها، ويرى لآخذها -
وهي روحه - من الفضل عليه، مثلما رأى له بالهدية والدعوة من الفضل عليك،
نعم إنه دعا أو أهدى وهو يعلم أنه يربح بذلك امتلاك قلبك (أولاً) وامتلاك قلوب
الناس الذين يرونه بذلك جوادًا كريمًا (ثانيًا) وإعدادك لقضاء حوائجه (ثالثًا) وفي
هذا الثالث من التوفير ما أشرنا إليه آنفًا، فهو على كونه يمن ليستكثر ويأكل الربا
أضعافًا مضاعفة غاش طامع، وراشٍ مخادع، ولو علم حاجتك إلى صلة منه ليس
لها منك عائد، ولا تأتي بشيء من هذه الفوائد، لما قابلك إلا بالرد، ولما وصلك
إلا بالإعراض والصد، فما بالك إذا كان يَدُعُّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين،
ويمنع الماعون، ويشكو حرصه الجيران والأقربون، ولا يؤدي الزكاة الشرعية،
ولا يساعد الجمعيات الخيرية، ولا يعضد المشروعات العلمية والعملية.
ومن الناس من لا يَعُدّ مثل هذا في الأسخياء، ويرى أن السخي الكريم هو
الذي يرمي بالمال هكذا وهكذا، يضرب به في كل فج وينفقه في كل سبيل، في
سبيل الله تارة، وفي سبيل الشيطان تارة أو تارات، متبعًا في ذلك خطرات الوساوس
ونزعات الهواجس، ولا ينافي ذلك عندهم تعديه على حقوق الناس، وأكله
أموالهم بالباطل كأنواع الرشوة وضروب الضرائب إن كان حاكمًا أو زعيمًا، أو
صاحب مكانة من الأمراء المستبدين، والسلاطين الجائرين، وكأنواع الاحتيال
والتزوير إن كان من غيرهم، يقولون: فلان لا يُضام؛ لأنه من الكرام، لا يُرَدُّ
سائله، ولا يمنع أحدًا نائله، قد أغنى زيدًا، فصار له يدًا وأيدًا، (أي قوة) وعمر
بيت عمرو، بعدما هدمه الفقر، فجعله من أنصاره، يستعين به على أوطاره وتبرع
على جمعية كذا بمبلغ من النقود، في يوم احتفالها المشهود، وقد عيَّن لعدة من
الجرائد الوطنية والأجنبية، رواتب شهرية أو سنوية، إعانة لأصحابها على إذاعة
المعارف الرافعة، ونشر الأفكار النافعة، فهي دائمًا تعطر المشام بعرف نشره وتشنف
الآذان بحلي ذكره، فإن قيل: إنه إنما يبذل لجرائد الكدية التي ليس لها رأي ولا
مذهب، ولا لها مشرع ولا مشرب، إلا جمع المال بالإطراء والمدح، أو بالإزراء
والقدح، ولا يشترك بجريدة لا يرجو منها الثناء، ولا يخاف منها الإزراء يحار
المنصف فلا يحير جوابًا، ويكذب المتعسف في التشيع له كِذَّابًا، وقد يفضي السرف
والمخيلة بهذا الصنف من المغرمين بالإنفاق، لاقتطاف ثمار التعظيم والتبجيل من
جنات النفاق، إلى أسوأ حالات الفقر والإملاق، وذلك إذا قصرت يد سلطتهم،
وخضدت شوكة سطوتهم، أو كسدت أسواق حيلتهم، ونضب معين ثروتهم، ثم لا
يجدون ممن اصطفوهم صانع معروف، ولا باذل آحاد من تلك الألوف؛ لأنهم لا
يصطفون كريمًا شكورًا {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً} (الإسراء: 27) .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/201)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحاورة السابعة بين المصلح والمقلد
الاجتهاد والوحدة الإسلامية
قد كان كلام الشاب المصلح في المجلس الماضي مؤلمًا للشيخ المقلد؛ لأنه لم
يكن في حسبانه أن يتعدى البحث إلى ما تعدى إليه، فلم يغب إلا يومًا واحدًا راجع
فيه الآيات والأحاديث التي أوردها الشاب في الاستدلال على مقدماته، وعاد في
مساء اليوم الثاني وملامح الامتعاض والتبرم بادية على وجهه وقال في أول كلامه:
المقلد: لقد اهتديت إلى ما يبطل رأيك في أن الاختلاف في المذاهب كان
سببًا في ضعف الأمة، وهو أن المذاهب كانت أيام كانت الأمة في ريعان شبابها
وكمال قوتها، وكذلك نرى الأمم الأوربية في قوة وبأس شديد وهي مختلفة في الدين
ومتفرقة إلى مذاهب، وإذا بطل هذا الرأي تبطل نتيجته وهي الوحدة في الدين
على رأيك، ونكفى مؤنة الخوض في ذلك وما تبعه من فتح باب الاجتهاد الذي
يؤدي إلى تطويل، وقال وقيل، فقد راجعت الآيات والأحاديث التي ذكرتها في
مجلسنا الماضي، وظهر لي وجوه للنزاع في دلالتها على مرادك فهل لك في إقفال
هذا الباب؟
المصلح: من شأن المرض أن يطرأ في إبان الصحة، وكم من مرض تتولد
جراثيمه في طور الحداثة أو الشباب، فتدافعها قوة المزاج زمنًا، ثم تتغلب عليها
في طور آخر، إما بنفسها وإما بمساعدة جراثيم مرض آخر، وهذه القاعدة مشاهدة
في الأشخاص عند علماء الطب، وفي الأمم عند علماء الاجتماع، وإن شئت
فصَّلت لك القول في هذا تفصيلاً، ولو كنت مطلعًا على التاريخ لكفيتني ذلك؛ فإن
فتنة التتار التي هي أشد صدمة زلزلت القوة الإسلامية، لم تكن إلا بسبب تعصب
الشافعية والحنفية، وأما أوربا فقد أخذت حظها من ضعف التفرق في الدين أيام
كانت تُحَكِّم الدين في السياسة، وقد عالجت هذا الضعف بالفصل بين السياسة
والدين، فليس له الآن شأن في سياستها وأحكامها إلا الاستعانة بدعاته على
الاستعمار في الشرق وأفريقيا، وما زال رجال السياسة يطاردون رجال الدين،
ويغضون من صوتهم في عدة ممالك، أما قرأت في الجرائد ما حصل أخيرًا في
أسبانيا وفرنسا وغيرهما؟ فهل يروق في نظرك أن تحذو الحكومات الإسلامية في
هذا حذو الحكومات الأوربية؟ أما أنها ستفعل ولو بعد حين إلا أن تبادروا وأنتم
رجال الدين بالإصلاح الديني الذي تسير به سنن الشريعة على سنن الطبيعة؛ فإن
الله أقام سنن الطبيعة بالاضطرار عنا، ووكَّل إلينا إقامة سنن الشريعة بالاختيار منا
فإذا لم نوفق باختيارنا بين السنتين يثبت الاضطراري، ويبطل الاختياري {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا
مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) ففي هذه الآيات الكريمة أهم أركان الإصلاح الديني الذي نطلبه
وكما لاحت لك وجوه للمناقشة في مقدماتي السابقة - بعد انصرافك من مجلسنا
السابق - لاحت لي أيضًا مسائل ومقدمات أخرى إذا أذنت لي سردتها عليك.
المقلد: قد عِيل صبري من المقدمات والمناقشات فيها، وأحب أن أقف على
مقصدك أولاً، فاذكره لي وانتظر في سائر مسائلك المناسبات.
المصلح: أحسن علماء المناظرة صنعًا باصطلاحهم على ترك البحث عن
مقدمات الدلائل لما يستلزمه من انتشار البحث وذهابه إلى غير غاية، وأحب أن
تسمح لي بذكر مقدمتين ذهلت عنهما في مجلسنا السابق ولا بد منهما وهما:
(المقدمة العاشرة) : إن الشارع لم يسلك في بيان الأحكام الدينية مسلك
الفلاسفة وعلماء النظر في وضع الحدود الجامعة المانعة لمسائل علومهم؛ وإنما بيَّن
الأحكام العملية بالعمل، وما بيَّنه بالقول وكَّله إلى أفهام المخاطبين وعرفهم، ولذلك
قال: الحلال بيِّن والحرام بيِّن. وما احتيج في العمل به إلى اجتهاد ورأي وكَّله إلى
اجتهادهم ورأيهم كاستقبال القبلة في السفر، وكان الصحابة والتابعون على هذا حتى
حدثت المذاهب، فأخذ بعض المجتهدين بإطلاقات الشارع في بعض الأحكام،
ووضعوا الحدود والتعريفات المنطقية للبعض الآخر، وكان هذا التحديد أعظم
أسباب الخلاف في المذاهب؛ ولكن لم يلزم أحد من الأئمة بأن يأخذوا بتحديده ولم
يحكم بخطأ من خالفه فيه لعلمهم بأن الشارع فوَّض ذلك إلى أفهام الناس، ووسَّع
الأمر فيه توسيعًا، وأنه لو سلك مسلك الفلاسفة في التحديد لأوقع الناس في الحرج،
ولما صح أن يكون دينه دين الفطرة، ولا أن يكون عامًّا، ولا أن يظهر في أمة
أمية، ولا أن توصف شريعته بالحنيفية السمحة، بل كان دينًا خاصًّا بطائفة من
أهل الفلسفة النظرية، وهكذا جعله علماء المسلمين بعد الصدر الأول، إذا تكلموا
في توحيد الله تعالى يذكرون الكم المتصل والكم المنفصل، ويذكرون الجوهر
والعرض والدور والتسلسل، وإذا تكلموا في الأحكام يذكرون الحدود الجامعة المانعة،
ويكثرون من التقسيم واختراع الأقسام الفرضية التي تمضي الأعمار ولا تقع، بل
يذكرون المحال أيضًا، حتى قال بعض علماء الحنفية: يحتاج من يريد أن يكون
فقيهًا حنيفيًّا إلى الانقطاع لمدارسة الفقه عشرين سنة على الأقل. وأنت تعلم أن هذه
المدة هي مدة التشريع، وفيها نزل الدين كله عقائده وأخلاقه وآدابه وسياسته
وإرادته وأحكامه، ولم تكن المدة كلها ولا عُشْرها مصروفة لبيان الأحكام الظاهرة
التي يسمونها الآن فقهًا.
ويشهد لهذه القاعدة إجازة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المختلفين في فهم
إطلاق النصوص فيما يتعلق بأعمالهم الشخصية، روى النسائي عن طارق (أن
رجلاً أجنب، فلم يصلّ فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال:
(أصبت) فأجنب رجل فتيمم وصلى، فأتاه فقال نحو ما قال للآخر (أصبت) .
وروى البخاري عن عمران بن حصين أنه قال للرجل الذي اعتزل فلم يصل في
القوم: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك
بالصعيد فإنه يكفيك. وأجاز عمرو بن العاص فيما فهم من قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) من جواز التيمم للجنب إذا خاف على نفسه
من البرد. والمروي عن عمر وابنه وابن مسعود أن الجنب لا يتيمم. لأنهم كانوا
يفهمون من قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) أنها الجس باليد،
والآثار في هذا كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك عن التابعين والأئمة
المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين.
كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى الوضوء من الفصد والحجامة والرعاف
فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال:
كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان الإمام مالك أفتى
هارون الرشيد بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى
خلفه الإمام أبو يوسف ولم يعد، واغتسل أبو يوسف في الحمام، وبعد صلاة الجمعة
أخبر أنه كان في بئر الحمام فأرة ميتة فلم يعد، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل
المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا. والفقهاء من المتأخرين يُرْجِعُون هذا إلى
قواعدهم المنتزعة كجواز التقليد بعد الوقوع، ومنهم من يؤول ذلك بتغير الاجتهاد
ولو ساعة من زمان، ومن ذلك خلافهم في أن العبرة برأي المأموم، وأنت تعرف
هذا تفصيلاً فلا حاجة إلى الإطالة به.
(المقدمة الحادية عشرة) : إن أصول الدين الأساسية هي العقائد الصحيحة
وتهذيب الأخلاق وأدب النفس وعبادة الله تعالى على الوجه الذي بينه وارتضاه،
والقواعد العامة للمعاملات بين الناس كحفظ الدماء والأعراض والأموال، وكل هذه
الأصول قد كملت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل عليه في حجة
الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فأما العقائد والعبادات فقد كملت بالتفصيل بحيث لا تقبل الزيادة ولا
النقص، ومن يزيد فيها أو ينقص منها فهو مغير للإسلام وآتٍ بدين جديد، وأما
أحكام المعاملات فبعد تقرير أصول الفضائل كوجوب العدل في الأحكام والمساواة
في الحقوق، وتحريم البغي والاعتداء والغش والخيانة وحد الحدود لبعض الجرائم،
وبعد وضع قاعدة الشورى فوَّض الشارع الأمر في جزئيات الأحكام إلى أولي الأمر
من العلماء والحكام الذين يجب شرعًا أن يكونوا من أهل العلم والعدل يقررون
بالمشاورة ما هو الأصلح للأمة بحسب الزمان، وكان الصحابة عليهم الرضوان
يفهمون هذا من غير نص عليه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يُعلم من
حديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن، فإنه هو الذي قال ابتداءً أنه يحكم برأيه فيما
لا يجد فيه نصًّا في الكتاب ولا في السنة، وأجازه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
بل نقل أنهم كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به، وإن خالف السنة
المتبعة كأنهم يرون أن الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة، لا بجزئيات الأحكام
وفروعها، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، فقال عمر: إن الناس قد
استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. ومن قضاء النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: طلق ركانة امرأته ثلاثًا في مجلس، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها؟) قال: طلقتها ثلاثًا، قال: (في
مجلس واحد) قال: نعم. قال: (فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت) فراجعها.
والشواهد على هذا كثيرة، والحنفية لاحظوا هذا، فقدموا القياس الجلي على خبر
الواحد، والرأي الذي يسمونه الاستحسان مقدم عندهم على القياس والمراد
بالاستحسان ما ثبت أن فيه المصلحة للأمة، هكذا أفهمه خلافًا لما قاله المتأخرون من
فقهائهم: إنه قياس خفي. وإنما قالوا هذا؛ فرارًا من تشنيع المحدثين وسائر العلماء
عليهم بزيادة أصل في الدين، وبتقديم الرأي على السنة، ولو كان قياسًا لما شنعوا
عليهم بالرأي، ولما صح تقديمه وهو خفي على القياس الجلي، وكان الأولى أن
يحتجوا عليه بعمل عمر وإجازة الصحابة له رضي الله تعالى عنهم.
المقلد: لا أستطيع السكوت لك على هذه، فقد غلوت فيها غلوًّا كبيرًا، وقد
أوَّل الفقهاء حديث عمر رضي الله عنه وأجابوا عنه بعدة أجوبة، قال العلامة
السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ، فكانوا أولاً يصدقون في إرادة
التأكيد لديانتهم، فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع
الثلاث. وأجاب ابن حجر وغيره بأن الأحسن أن يقال: إنه ظهر لعمر ناسخ.
المصلح: لِمَ لَمْ تذكر رد ابن حجر على السبكي وأنت مطلع عليه؟ أتريد أن
تختلبني بكثرة التأويل؟ ألم يرد عليه بأن مذهبهم تصديق مدعي التأكيد وإن بلغ في
الفسوق ما بلغ؟ وأما قولهم باحتمال الناسخ فينافيه لفظ (فلو أمضيناه عليهم) ؛ لأنه
صريح في أنه رأي واجتهاد كما يدل قول ابن عباس في أول الحديث، على أن الحكم
الأول كان سنة متبعة، أو إجماعًا لا خلاف فيه، وأصرح منه في هذا حديث
طاووس عند أبي داود والبيهقي، وهو أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء. كان كثير
السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن
يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر
وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: (بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل
أن يدخل بها جعلوها واحدة، إلى أن قال: فلما رأى - أي عمر - الناس قد تبايعوا
فيها قال: أجيزوهن - أي الثلاث - عليهم) ، فقولهما: (جعلوها) دليل على أنه
إجماع، وقول عمر: (أجيزوهن) يفيد أنه اجتهاد منه كما تدل عليه أيضًا عبارة
السبكي، ولا التفات إلى التقييد بغير المدخول بها لجواز أن السؤال لواقعة كانت
كذلك، بدليل حديث ركانة في المدخول بها، وإطلاق الحديث الصحيح، وما زعمه
بعضهم من أن حديث طاوس لا يدل على أن الجاعل هو النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم، وأنه يحتمل أن ذلك لم يقع إلا في الأطراف النائية فيجتهد فيها من
أوتي علمًا، فهو زعم سخيف واحتمال ضعيف؛ لأن اللفظ يأبى قبوله، وحديث
ركانة يقوض أركانه وأصوله، وليس عندهم لفظ أظهر في دعوى الإجماع منه.
المقلد - بحدة وغضب -: هل أداك اجتهادك إلى القول بأن عمر رضي الله
تعالى عنه قدم رأيه واجتهاده على السنة والإجماع؟ لقد راودتني نفسي أن أترك
الكلام معك؛ ولكن لا بد لي من سبر غورك، واستخراج كل ما في صدرك،
والوقوف على ما تتخيله من الإصلاح في الدين، وجمع كلمة المسلمين، وما أرى
هذا الإصلاح إلا نار سعير، سيكون لها فتنة في الأرض وفساد كبير.
المصلح وادعًا ساكنًا: استوقف سربك، واستفت قلبك، واترك المقلدين
المؤولين سدى، وافتح عينيك تجد على النار هدى، واعلم أنني لم أقل عن عمر من
نفسي شيئًا، وإنما هو قول ابن عباس الذي صحت روايته وأخذ به الأئمة الأربعة
وغيرهم، وأما تأويل الفقهاء فسببه أنهم وضعوا أصولاً وقواعد أسندوها إلى أئمتهم،
وحكَّموها في الكتاب والسنة وهدي الصحابة كأنها فروع لأصولهم، والأمر عندي
بخلاف ذلك، وكذلك كان عند الأئمة رحمهم الله تعالى، وما أكثر هذه الأصول إلا
قواعد نظرية استنبطها الأصوليون من أقوال أئمتهم، وطبقوها على مذاهبهم إلا ما
نُقل عن الإمام الشافعي الواضع الأول للأصول، ويعجبني ما قاله العلامة ولي الله
الدهلوي في هذا المقام.
المقلد: قله لي إن كان مختصرًا، وأرشدني إلى الكتاب الذي يوجد فيه إن
كان مطولاً.
المصلح: إنه مختصر وأخذ رسالة من مكتبته وقرأ ما نصه:
(واعلم أني وجدت أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي حنيفة
والشافعي رحمهما الله تعالى على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه؛
وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم، وعندي أن المسألة القائلة بأن
الخاص مبين ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة نسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وأن
لا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب
الرأي، وأن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلاً، وأن موجب الأمر هو
الوجوب ألبتة، وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنها لا تصح بها
رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه، وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما
يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطهم كما يفعله البزدوي وغيره - أحق من
المحافظة على خلافها والجواب عما يرد عليه.
مثاله: أنهم أصلَّوا أن الخاص مبيِّن فلا يلحقه البيان، وخرَّجوه من صنيع
الأوائل في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الحج: 77) ، وقوله صلى الله
عليه وآله وسلم: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)
وحيث لم يقولوا بفرضية الاطمئنان لم يجعلوا الحديث بيانًا للآية، فورد عليهم
صنيعهم في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: 6) ومسحه صلى الله
عليه وآله وسلم على ناصيته حيث جعلوه بيانًا، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا} (النور: 2) الآية، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (المائدة: 38) الآية، وقوله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة: 230)
وما لحقه من البيان بعد ذلك، فتكلفوا للجواب كما هو مذكور في كتبهم، وأنهم
أصلَّوا أن العام قطعي كالخاص، وخرَّجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى:
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) حيث لم يجعلوه مخصصًا، وفي قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (فيما سقت العيون العشر) الحديث، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) حيث لم يخصوه به ونحو ذلك من المواد
ثم ورد عليهم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} (البقرة: 196) وإنما هو
الشاة فما فوق ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتكلفوا في الجواب، وأصلَّوا
أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب الرأي، وخرَّجوه من صنيعهم
في ترك حديث المصراة، ثم ورد عليهم حديث القهقهة، وحديث عدم فساد الصوم
بالأكل ناسيًا فتكلفوا في الجواب، وأمثال ما ذكرنا كثير لا يخفى على المتتبع،
ومن لم يتتبع لا تكفيه الإطالة فضلاً عن الإشارة) اهـ، وظاهر أن أكثر القواعد
إنما وضعت لتصحيح كلام الأئمة، وردَّ كل حزب على مخالفه والاعتذار عن ترك
العمل بالكتاب والسنة، فهذه هي أصول فقه مقلديك، فهل يصح أن نسلم بجميعها؟
المقلد: إن هذا الرجل عالم أصولي؛ ولكنه متعصب على الحنفية.
المصلح: هو حنفي الأصل؛ ولكنه أعمل نظره بالإنصاف، ولم يجمد على
التقليد الأعمى، فانفتح له باب العلم، فكان عالمًا أصوليًّا بصيرًا في دينه، ورسالته
هذه اسمها (الإنصاف في أسباب الخلاف) .
المقلد: كلما عزمت على ترك البحث في مقدماتك تجيئني بنغمة جديدة تفسخ
العزيمة، وقد طال المجلس فلا أسمح لك ولا لنفسي بكلام قبل بيان مقصدك،
والإفصاح عن نتيجة مقدماتك بعد إبطال الثقة بعلمي الفروع والأصول، وهل هي
إلا الفوضوية الدينية التي قلت من قبل أنك لا تريدها.
المصلح: أريد أن يكون المسلمون على ما كان عليه أهل الصدر الأول في
زمن الراشدين الذين أمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتمسك بسنته
وسنتهم، والعض عليها بالنواجذ، وترك كل ما أُحْدِثَ في الدين مما يخالف
طريقتهم كما قال: (وإياكم ومحدثات الأمور) الحديث، فأما العقائد فالقرآن برهان
على نفسه، وعلى رسالة من جاء به، ويضاف إليه سيرة النبي عليه السلام في
أخلاقه وآدابه وعلمه وعمله.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
ومتى ثبتت النبوة والقرآن فإننا نأخذ عقائدنا من القرآن من غير فلسفة فيها،
ونستدل عليها بالطريقة التي سلكها في الاستدلال؛ فإن الذين أرادوا معرفة الله
تعالى بالعقل وحده كفلاسفة اليونان زلوا وضلوا، وبهذا نفهم معنى كون الإسلام دين
الفطرة، وأنه لا يمكن أن يخالف في أحكامه أحكام الخليقة، ولا في سنته سنن
الطبيعة؛ لأن كلاًّ من الله تعالى كما تشير إليه الآية السابقة، ونعذر من خالفنا فيما
لا إجماع على أنه كفر لا يعد صاحبه من المسلمين حتى يفيء، وأما الأخلاق
والآداب فحسبنا ما في الكتاب والسنة من بنائهما على قاعدة الاعتدال ولا نلتفت إلى
إفراط بعض المتصوفة في الروحانيات والغلو في الزهد والتواضع والسخاء؛ حتى
انتهوا إلى الكسل والذل وإهانة النفس وتعذيبها والإسراف بإنفاق كل ما تصل إليه
اليد ونحو ذلك، فالقرآن ينادي بلسان عربي مبين بالأمر بالعمل وبعزة النفس
وكرامتها بالاقتصاد، كما لا نلتفت إلى تفريط بعض المتفقهة الذين لم يجعلوا للروح
حظًّا في عملهم.
وأما العبادات فما بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق
حتى صار معلومًا من الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم، وما
اختلفوا فيه منه كالجهر بالبسملة أو قراءتها ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه
وعدم ذلك، وكتكبيرات صلاة العيد فهو غير واجب، وإن عدَّ بعضه الفقهاء واجبًا
وهو على التخيير، فمن ترجح عنده شيء بدليل أو بموافقة لحاله أخذ به، ولا
يجب عليه البحث عن وجوه الترجيح؛ لأن اختلاف المسلمين فيه عملاً دله على أنه
ليس من ضروريات الدين وفرائضه، ولا يعيب من خالفه بما ترجح عنده من فعل
أو ترك؛ لأنه على التخيير، وما كان مثل صلاة العيد والوتر فالأول أن يتبع المأموم
فيه الإمام، وأن لا تتعدد الأئمة في مسجد واحد في وقت واحد لأجل الخلاف، نفعل
ما ثبت عنهم فعله، ونترك ما ثبت عنهم تركه، ونتخير فيما اختلف فيه النقل مع
الاحتياط وعدم الميل مع الهوى، ونسكت عما سكتوا عنه فلا نُجري فيه قياسًا، ولا
نُعمل فيه، رأيًا وكيف نزيد عليهم وهم خيار الأمة، وقد أحسن الإمام مالك وأصاب
في الاحتجاج بعمل أهل المدينة لعهده، وكذلك يعمل كل أحد بما صح عنده من
الأحاديث القولية، ولا يجعل ذلك مثارًا للخلاف في الدين؛ لأنه من قسم المخير فيه
ولو كان محتمًا لما ترك العمل به الصحابة والتابعون، ولو عملوا به لكان ثابتًا
بالعمل، وقد تقدم حكمه.
المقلد: إن عندي موعدًا قرب وقته، وأحب أن أنصرف الآن، وأعود غدًا
إن شاء الله تعالى. وانصرفا على ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(4/205)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة الدينية وأجوبتها
(1) من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل الاجتهاد
المطلق فرض عين على كل مسلم ومسلمة؟ أم فرض كفاية؟ أم لا هذا ولا ذاك؟
وما هو الدليل النقلي الذي لا يحتمل التأويل؟
(ج) الاجتهاد المطلق الذي يستعد ذووه لمعرفة الأحكام الشرعية في كل
باب فرض كفاية؛ لأن المصلحة تقوم فيه بالبعض، ومن الحرج الشديد أن يُكَلَّف
به أحد، وقد اشترطوا في القاضي والمفتي الاجتهاد؛ لأن وظيفة الأول الحكم،
ووظيفة الثاني البيان لما يعرض من الأقضية والمسائل التي لا نص فيها، فلا بد
أن يكونا قادرين على استنباط الأحكام لئلا تتعطل المصالح، وهذا واضح لا غبار
عليه، وترون الكلام في الموضوع مفصلاً في محاورات المصلح والمقلد، فتتبعوها
إلى آخرها، وإن رأيتم فيما كُتب إلى الآن بعض إجمال أو شذوذ عما عرف عن
الفقهاء في بعض الجزئيات، هذا إن كنتم تريدون بالدليل الدليل في المسألة كما هو
الظاهر، وإن كنتم تريدون مطلق الدليل النقلي الذي يفيد القطع، فهو ما كان نصًّا
في معناه لا يحتمل غيره متواترًا في لفظه كالقرآن.
***
(2) ومنه: من الذي قال من المجتهدين أو المقلدين بحرمة أو كراهة تعلم
العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية وبالإجمال كافة العلوم المجردة من الإلحاد سواء
كانت عصرية أو غير عصرية؟ وهل إذا قصَّر بعض علماء المسلمين في عدم
تعلم وتعليم هذه العلوم ينسب ذلك التقصير إلى علم الفروع الفقهية؟ أم إلى نفس
ذلك المقصر؟ وما هو الدليل؟
(ج) لمَّا حدث في المسلمين علم الكلام والجدل في الدين مقته وذمه غير
واحد من الأئمة المجتهدين كما رأيتم في الجزء 22 من منار السنة الماضية، ولمَّا
ظهرت الفلسفة اليونانية فيهم ومزجوها بمباحث العقائد كان بعض العلماء يقول
بوجوب تعلمها للمدافعة عن العقائد، وبعضهم يحرِّم ذلك ويقول: لا حاجة إليها في
إثبات العقائد، حتى كان في الفقهاء من حرَّم المنطق، ولا يمكن حصر هؤلاء
بأسمائهم ولا حاجة إليه، وحسبك ما قاله الإمام حجة الإسلام في العلوم التي ليست
بشرعية - أي: لم تؤخذ عن الأنبياء عليهم السلام - قال رحمه الله تعالى:
(فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم،
وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب،
وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس فريضة، أما فرض
الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا [1] كالطب؛ إذ هو ضروري
في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري
في المعاملات وقسمة الوصايا
والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل
البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين [2] ، ولا يتعجب من قولنا:
إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض
الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة [3] ؛ فإنه لو خلا البلد
من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك؛ فإن الذي أنزل
الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض
للهلاك بإهماله.
وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير
ذلك مما يستغنى؛ ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه [4] ، وأما المذموم منه
فعلم السحر والطلسمات، وعلم الشعبذة والتلبيسات [5] ، وأما المباح منه فالعلم
بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار [6] وما يجري مجراه) اهـ.
ومنه يعلم أن المقصِّر في العلوم النافعة تبعة تقصيره عليه.
***
(3) ومنه: هل أحكام الفروع الفقهية في المذاهب الأربعة أو غيرها من
مذاهب المجتهدين أصلح في العمل لنظام المجتمع أم القوانين الوضعية؟ وما هو
الدليل؟ .
(ج) الأصلح لنظام المجتمع ما قام به العدل والمساواة بين الناس في
الحقوق، والأحكام الفقهية تفضل القوانين عندنا معشر المسلمين، وهي أصلح
لمجتمعنا من القوانين؛ لاعتقادنا بوجوب العمل بها، فهي مصحوبة بقوة تنفيذية في
قلب الإنسان، ووازع نفسي يحمله على مراعاتها سرًّا وجهرًا؛ ولكن اتباع مذهب
واحد فيه حرج وإخلال بالمصلحة في بعض المسائل، كما أن الخلاف وتعدد
الأقوال ينافي المصلحة، ولا تقوم مصلحة المسلمين بهذه الأحكام إلا إذا أُلِّف كتاب
منقح خالٍ من الحشو والتعقيد والخلاف يفي بحاجة الأمة، ويؤخذ من كتب جميع
الأئمة على ما بيناه في مقدمة تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح
المحاكم الشرعية المنشورة في المجلد الثاني من المنار.
(4) ومنه: هل تلقين العهود وسلوك طريق الآخرة والإرشاد إليها وزيارة
الصالحين الأحياء والميتين مشروع أم منكر؟
(ج) الظاهر أنكم تريدون بتلقين العهود ما عليه القوم الذين يُسَمَّون أهل
الطريق، وهو أمر لم تَرِدْ به سنة صحيحة، وأما ما كان مثل مبايعة النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات فلا وجه للسؤال عنه، وأما سلوك طريق
الآخرة فإن كان بالعمل بالكتاب والسنة والاهتداء بهدي الراشدين، فهو الدين القيم،
والإرشاد إليه واجب بما أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه،
وما زاد على ذلك فهو منكر وشرع لم يأذن به الله، وأما زيارة الصالحين الأحياء
فهي تدخل في عموم الأمر بالبر والصلة والحب في الله كما تدخل زيارة قبور
الميتين في عموم حديث (فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فزيارتها على هذا الوجه
مشروعة، وما يزيده الجهال من تقبيل الأعتاب والطواف والاستعانة على قضاء
الحاجات فهو من البدع المنكرة، كما فصلناه مرارًا في المنار.
__________
(1) يدخل في هذا الضابط الهندسة والميكانيكا؛ لأن الآلات الحربية والصناعية لا تقوم بدونهما في هذا العصر، وعلم تقويم البلدان لضرورته في الأعمال الحربية وغيرها، وعلم الكيمياء لتوقف تركيب الأدوية عليه الآن، وعلم الطبيعة لتوقف الصنائع عليه كالوابورات البرية والبحرية، وغير ذلك من العلوم التي يسمونها عصرية لقيام مدنية هذا العصر بها، وبتركها ضعف المسلمون وصاروا عيالاً على خصمائهم الطامعين في بلادهم.
(2) إنما يصح هذا إذا وفى ذلك الواحد بحاجة البلد، وأما إذا لم يوف بها فلا تسقط االفريضة بالواحد، بل بما تقوم به المصلحة.
(3) إنما عَدَّ الحجامة فريضة بسبب اعتقاد أطباء زمانه، وعدم الاستغناء عنها، وكذلك كان، وأما اليوم فلا.
(4) ومثل هذا علم الجيولوجيا ونحوه من الفنون التي لا تتوقف عليها مصالح البشر؛ ولكنها مزيد كمال في العلم.
(5) عَدَّه السحر علمًا يفيد أنه ليس من خوارق العادات، وهو ما يدل عليه القرآن، ومعنى كونه مذمومًا أنه محرم لما فيه من خداع الناس وإيذائهم بالخداع والتمويه وبعض الأعمال الخفية أسبابها عنهم.
(6) إنما يكون العلم بالأشعار والأخبار مباحًا إذا كان الغرض منها التسلي والتفكه، وأما إذا قصد بالأشعار تعلم البلاغة وضبط اللغة، وأريد بالأخبار الاحتجاج بها في السياسة التي منبعها التاريخ ونحوها؛ فإنهما يكونان من الفرائض حينئذ.(4/221)
الكاتب: الشيخ محمد إسماعيل
__________
إظهار المدفون من تمثال فرعون
لحضرة الفاضل الشيخ محمد إسماعيل
وكيل المجلة في ملوي
في ضواحي بلدتنا (ملوي) قرية تبعد عنها نحو ساعة تدعى الأشمونين،
وكانت تسمى قديمًا (هرموبوليس) وهي من أشهر مدن الفراعنة التي اتخذوها
عاصمة لملكهم في بعض الأزمان الغابرة، وفيها الآن من المباني العتيقة والآثار
القديمة ما يشهد بسابق حضارتها التي كانت عليها، ومدنيتها الفائقة التي حُفِظَتْ
بحفظ آثارها المخبوءة في بطون آكامها وأطلالها الدارسة التي يبلغ مقدار مساحتها
1200 فدان، وهي على ما هي عليه الآن من الخراب والعفاء لا تزال مطمح
أنظار السائحين الباحثين عن الآثار على اختلاف نحلهم ومللهم، وما زالت الأيام
تُظْهِر بعض تلك الآثار التي تبهر العقل، وتأخذ بالألباب، وفي هذه الأيام عثر
بعض مستخرجي السماد (السباخ) في أثناء حفرهم على أعظم تمثال وأجلّ أثر،
ألا وهو تمثال الملك منفتاح، أو منفطا الأول الذي يقول بعضهم: إنه فرعون موسى.
عُثر عليه في بعض آكام تلك القرية، وهو مصنوع من حجر الجرانيت الأحمر،
موضوع على قاعدتين إحداهما متصلة به وهي من نوع حجره، والأخرى منفصلة
عنه، وهي من الحجر الأبيض مزينة بالكتابة والنقوش، ومقدار ارتفاعه يبلغ خمسة
أمتار، موليًا وجهه شطر المشرق، مقدمًا رجله اليسرى، ومؤخرًا اليمنى، قابضًا
على ملف من الورق مكتوب عليه اسمه وألقابه الملوكية، وعلى جنبه الأيسر قد
رسمت صورة ولده (سيني الثاني) المكتوب عنه أنه ولي عهده ورئيس الكتاب
وقائد جيوش أبيه الملك منفتاح، وعلى كتفه راية العدل مكتوب عليها (الحق) ،
وهذا التمثال يمثل الملك وهو مؤتزر بجلد النمر تحت سرته، قد كتب على ظهره
ما معناه: الذهب الإبريز ابن الشمس، الثور الأعظم، مالك التاجين، صاحب
البرين - أي: الوجه القبلي والبحري - وقد فسر بعض رجال الآثار تقديم رجله
اليسرى وتأخير اليمنى بالخضوع والخشوع للآلهة، وأرى أن هذا التفسير ربما كان
بعيدًا عن الإصابة، فإني أول ما رمقته بنظري وكان معي بعض الأذكياء فهمت أن
ذلك منه رمز إلى الشجاعة والإقدام، وإنه لدى الإمعان يظهر جليًّا أنه كمن يريد
البراز، فهو يتحفز للوثبة بحالة تدل على الكبر والإعجاب، لا الخشوع والخضوع
ولقد راجعت التاريخ فإذا به يقول ما نصه: (منفتاح أو منفطا الأول هو الذي
كان في أيامه خروج بني إسرائيل من مصر تحت رئاسة موسى عليه السلام، ولم
يرث عن أبيه سوى الكبرياء والعظمة، وأجمع المؤرخون على أن قسوته كانت
سببًا في قصر أجله، وعدم طول بقائه في ملكه) اهـ بالحرف.
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
فسبحان الذي نجَّاه ببدنه ليكون آية لمن خلفه، وأظهر تمثاله الآن عبرة لمن
بعده، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
هذا وما انتشر نبأ اكتشافه بين الناس حتى هرع الكثيرون منهم على اختلاف
نزعاتهم لمشاهدته؛ حتى إنه لا يخلو وقت من ازدحام الوافدين عليه، وكل معجب
بحسن وضعه ونسق هندامه، مما يدل صراحة على ما كان بمصر من العلوم
والصنائع
في الغابرين الأوليـ ... ـن من القرون لنا بصائر
وهو لعمر الحق جدير بأن يؤمه محبو الآثار، وذوو الشغف بصنائع الأقدمين،
غير أننا نأسف على ما أصابه أثناء استخراجه حيث أفلتت ضربة من أحد الحفار
أصابت تاجه من أعلى فكسرت قطعة صغيرة منه، كما أنه حينما أرادوا إنزاله من
أعلى القاعدة التي كان واقفًا عليها انصدع فخذه فانكسر، لكن بغير انفصال، ولم
يُخِلّ هذا ولا ذاك بحسن التمثال وجميل شكله، هذا وقد شاهدنا بعد انصرافنا من
هذا المشهد تمثالاً آخر قريبًا منه؛ لكنه أكبر جِرْمًا ومقطوع الرأس وبعض الصدر،
وهو على هيئة شخصه جالس على كرسي، ويقال: إن رجال الآثار كابدوا المشقات
في استخراجه فأعياهم.
ثم عرَّج بنا الخرِّيت الذي استصحبناه معنا إلى مسجد هناك قديم، قد تداعت
حيطانه، وخر سقفه، ولم يبق منه غير عُمُد من الرخام قائمة، وهي على طول
عهدها لم يطرأ عليها ما يذهب برونقها، فضلاً عن ما حواه هذا المسجد أيضًا من
الآثار التي قل أن يوجد نظيرها، فزادنا منظره على هذه الحالة أسفًا على أسف، ولم
نقدر أن نمسك ألسنتنا عن الحوقلة، اللهم إلا بالترحم على السلف الصالح الذين بذلوا
كل مرتخص وغالٍ في فتح البلاد، وشيَّدوا للإسلام فيها أرفع عماد، كما أننا لم نملك
خواطرنا التي أخذت تلوم مصلحة آثار الأوقاف التي تركت هذا المسجد وما حواه في
قرية لم يزل أهلها يضيِّعون ما ادخره الأقدمون لجهلهم، مما لو كان لدى غيرهم
لعضوا عليه بالنواجذ، لعلمهم أن ذلك أعلى وأغلى قيمة من الركاز، ولقد شاهدت
بعض أعمدة هذا المسجد ملقاة خارجة عنه على طلل بالٍ، بحيث لا يُؤْمَن ضياعها؛
فلذلك نستلفت أنظار حكومتنا إلى مكافأة من يعثر على الآثار بعد التحري والوقوف
على أنه هو العاثر الحقيقي على ذلك، فقد نما إلينا أن بعض الفلاحين يعثر على شيء
من ذلك، فيخبر أولي الشأن الذين يرفعون الخبر إلى الحكومة، ثم تُصْرَف المكافأة
إلى غير مستحقها، فيشكو الأخير سوء حظه، ويندب سوء حاله، ويأخذ على نفسه
العهود أنه لو عثر على مثل هذا مرة ثانية ليهشمنه وليكسرنه انتقامًا لنفسه من ضياع
أتعابه سدى.
هذا وقد علمت أخيرًا أنه ظهر وراء الحفرة التي كان بها التمثال هيكل منقوش
على جداره (صورة سيتي) بن منفتاح على هيئته التي تولى فيها الملك بعد أبيه
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ
مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر:
82) .
__________(4/225)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طُرَف الأعراب ونوادرهم
أبو النجم الفضل بن قُدامة العجلي الراجز من فحول المتقدمين في الإسلام
يتمثل بكلامه وهو الذي يقول:
أنا أبو النجم وشعري شعري ... لله در ما يجن صدري
وفد على هشام بن عبد الملك وقد طعن في السن، فقال له هشام: حدثني يا أبا
النجم. فقال: أعَنِّي أم عن غيري؟ فقال: بل عنك. فأنشأ يحدثه وهو يضحك
وصار يختلف إليه، وكان طرده هشام حين أنشده أرجوزته التي يمثلون في الكلام
على الفصاحة بمطلعها (الحمد لله العلي الأجلل) وفيه مخالفة القاعدة الصرفية في
الإدغام. وذلك أنه لما بلغ أطرف تشبيه فيها وهو (والشمس في الأفق كعين
الأحول) فطن قبل أن ينطق بالكلمة الأخيرة؛ لأن هشامًا كان أحول، فلم يقلها فلما
وقف، قال هشام: أجز. فقالها، فطرده.
وضاق صدر هشام في ليلة، فقال لأحد الخدم: اطلب لي محدثًا أعرابيًّا
شاعرًا، فخرج الخادم إلى المسجد، فإذا هو بأبي النجم وكان ينام فيه بعد طرده،
فضربه برجله وقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: إنني أعرابي غريب. فقال:
إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله. فانطلق به حتى أدخله القصر،
وأغلق الباب، فظن أبو النجم الشر والانتقام، ثم مضى به فأدخله على هشام، فإذا
هو في بيت صغير، والشمع يزهر بين يديه، وإذا هو قد ضرب بينه وبين نسائه
سترًا رقيقًا، فلما رآه هشام قال: أبو النجم؟ قال: نعم، طريد أمير المؤمنين.
فأذن له بالجلوس، وسأله عن منزله ومبيته مباسطة، ثم قال له: ما لك من الولد؟
قال: ثلاث بنات وبُني اسمه شيبان. فقال: هل أخرجت من بناتك أحدًا؟ قال:
نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة. قال: وما أوصيت به
الأولى؟ فقال:
أوصيت من (بَرَّة) قلبًا حُرَّا ... بالكلب خيرًا والحماة شرا
لا تسأمي ضربًا لها وجرَّا ... حتى ترى حلو الحياة مرَّا
وإن كستك ذهبًا ودرَّا ... والحي عميهم بشر طرَّا
فضحك هشام وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت:
سبي الحماة وابهتي عليها ... وإن دنت فازدلفي إليها
وأوجعي بالنهز ركبتيها ... ومرفقيها واضربي جنبيها
وظاهري النَّذر لها عليها ... لا تخبر الدهر بها ابنتيها [1]
فضحك هشام حتى سقط على قفاه وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب عليه
السلام ولده. فقال: ولا أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين. قال: فما قلت للثالثة؟ قال:
قلت:
أوصيك يا بنتي فإني ذاهب ... أوصيك أن تحمدك الأقارب
والجار والضيف الكريم الساغب ... لا يرجع المسكين وهو خائب
ولا تني أظفارك السلاهب ... لهن في وجه الحماة كاتب [2]
والزوج إن الزوج بئس الصاحب ...
قال: وكيف قلت هذا ولم تتزوج؟ وأي شيء قلت في تأخر تزويجها؟ قال:
قلت:
كأن ظلاَّمة أخت شيبانْ ... يتيمة ووالداها حيانْ
الرأس قمل كله وصيبان ... وليس في الساقين إلا خيطان
تلك التي يفزع منها الشيطان ...
فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه، وأمر له بثلاثمائة دينار، وقال:
اجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.
__________
(1) المظاهرة: المعاونة، والنذر معروف، وبمعنى الإنذار.
(2) تني: تقصر، والسلاهب: الطوال.(4/229)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسباب الحرب الروسية العثمانية - تتمة
عُلم مما نشرناه في الجزء الماضي أن الدول الأوربية اغتنمت فرصة إشعال
روسيا الفتنة في بلاد البلقان العثمانية لأن تجعل لها حقًّا رسميًّا في زلزلة استقلال
الدولة العلية بمشاركتها في أحكامها وإدارتها، ولو في بعض الولايات، وأن تُصَدِّق
الدولة على ذلك؛ لتقوم الحجة عليها في كل آن، وأن هذا هو السبب في رفض
مطالب المؤتمر، وقد كان مدحت باشا أبصر رجال الدولة بعاقبة الحرب التي تتوقع
من رفضها، كما كان أعلمهم بضرر قبولها، وإننا ننشر المذاكرة والمشاورة في هذا
الأمر مما كتبته الجوائب عن المجلس الأميّ الذي أمر به مولانا السلطان يومئذ وهو:
(قال مدحت باشا: إذا رفضنا مطالب الدول أدى ذلك إلى فسخ المؤتمر،
فربما يعلن بعض الدول بحربنا، والمترجح عندي أن دولتي إنكلترا وفرنسا يبقيان
على الحيادة، أما الروسية التي هي أصل اقتراح هذه المطالب، فيُحتمل أنها تجري
إيجابها علينا بالسيف، وأما أوستريا فحيث إن من رعيتها 17000000 من
الصقالبة، فمن الصعب علينا أن نجزم بما يتأتى لها أن تفعله، فإذا كان سكانها من
المجر يتساهلون معها، فلا يبعد أنها تتحد مع الروسية وتعلن بمحاربتنا، فيمكنها
والحالة هذه أن تستولي على بوسنة وهرسك إلى مدة غير معلومة، أما سكان
الصرب والمملكتين (الأفلاق والبغدان) والجبل الأسود فالأقرب إلى المعقول أنهم
يكونون أضدادًا لنا، فليس من المحتمل أن نتكل على مساعدة أحد من الخارج، فإذا
اعتبرتم هذا كله فلا نخفي على أنفسنا أن أحوالنا في بحران.
فقال صبحي باشا: إن الصقالبة من سكان أوستريا ليس عندهم من القوة ما
يكون به خطر علينا. فطلب مدحت باشا أن يعرف على الحقيقة ما هي قوة الدولة
العلية، فقال بعض العلماء: إن ما يلزم للمملكة أن تفعله هو أن تتكل على المولى
سبحانه وتعالى، وتُقبل على الحرب.
فقال مدحت باشا: إذا رمنا الإعلان بالحرب لزمنا بالضرورة أن تكون لنا قوةً
عسكرية مكافئة، فإذا غلطت في ذكر مقدار قوتنا العسكرية، فناظر الحربية الحاضر
الآن بيننا ينبهني على غلطي، فأقول: إن عدد عساكرنا الآن يبلغ من 500000 إلى
600000 وبحمده تعالى وبعناية مولانا وسلطاننا المعظم قد أمدَّت هؤلاء العسكر
بالسلاح الكافي، فصاروا مستعدين للقتال، وقد أوصينا من أميركا على مقدار وافر
من قراطيس البارود؛ ولكن إذا صار الإعلان بالحرب يحتمل أن يقع القبض عليها
قبل وصولها إلى الآستانة، ولا يخفى عليكم أيضًا أنَّا الآن لا درهم لنا ولا دينار،
وأبواب الصيارفة وأصحاب المعاملات المالية مقفولة دوننا (كذا في الأصل
والصواب مقفلة) ولا يمكننا إبقاء جيش بدون دراهم.
فقال رءوف بك (ابن المرحوم رفعت باشا) : نعم إن لنا من الأسباب ما
يخيفنا من الحرب؛ ولكن إذا قبلنا لائحة المؤتمر لم يبق ريب في انقلاب السلطنة،
فالحرب كداء الحمى يمكن لنا أن نتخلص من رزئه؛ ولكن لائحة المؤتمر كداء
الرئة عاقبته القبر لا محالة، فغاية ما يلزمنا فعله هو أن نلبس الصوف ونوقد
الشمع الأحمر ونغالب العدو.
فقال مدحت باشا: إن قوائمنا (أوراق) المالية في بخس، ويحتمل أنها تزيد
بخسًا، وقد عهد أنه أتى على فرنسا زمان بلغت فيه قيمة الحذاء إلى 27000 فرنك
(سبعة وعشرين ألفًا) فمن ذا الذي يدري ما يصيبنا إذا أقدمنا على الحرب،
فيحتمل أنه بعد مدة قصيرة يعوزنا القوت، فتتمنى الناس أن نكون قد قبلنا
اقتراحات المؤتمر.
فقال محمد رشدي باشا (الصدر الأسبق) : إن ما قاله جناب الصدر الأعظم
صحيح، إلا أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم سلطنتنا السنية من الاستقلال،
والحرمان من الاستقلال يشبه الاضمحلال.
فقال شيخ الإسلام: إني على رأي الصدر الأعظم؛ ولكني أرى أن رفض
الاقتراحات أولى. فقال شيخ الإسلام السابق: إن الواجب علينا واضح جلي، وهو
رفض هذه الاقتراحات؛ لأنها تسلب منا الاستقلال.
فقال عابدين بك (مدير البورس) : إن أربعين مليونًا من العثمانيين يختارون
الحرب على ضياع حقوقهم وشرفهم، فَأْمرونا بالقتال فإنا مطيعون.
فقال الصدر: إن كنت قد اطلعت على أفكار أهل المجلس أيقنت بأنهم يرون
أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم الدولة العلية من الاستقلال. فأجاب سائر الأعضاء
بقولهم (نعم نعم) هذا رأيهم. ثم قال عدة من العلماء: هل تداخلنا نحن في حقوق
دول أوروبا الذين لهم رعايا من المسلمين، فكيف يمكننا أن نسمح لهم بأن يتداخلوا في
مصالح دولتنا؟ فقال مدحت باشا: يبعد عن التصور أننا إذا رفضنا هذه الاقتراحات
يكون ذلك باعثًا على حرب عمومية، ولكن ينبغي لنا أن نعلم أن الأفكار العمومية في
أوربا كلها ضدنا، والأفكار العمومية هي أقوى شيء في أيامنا هذه كما لا يخفى. فقال
جميل باشا: إذا حامينا عن شرفنا فإن الأفكار العمومية تميل إلينا. فقال عابدين بك:
إننا نفتخر بأن نفكر بأن جوابنا السلبي يوجب سفر ستة سفراء من الآستانة في آن
واحد، فهو يذكرنا فخر الملة العثمانية ومجدها، فقد عزمنا على أن نجاوب هؤلاء
السفر جوابًا واحدًا. ثم قال البعض: نعم إن تهييج الأفكار العمومية مما يُتأسف منه؛
ولكن ماذا نفعل بعدما أخبرنا الدول بالصدق عن مقاصدنا، وحقيقة شأننا في هذه المدة
الأخيرة الطويلة فرفضوا رأينا وعولوا على رأيهم، فإذا توكلنا على الله تعالى وحامينا
عن شرفنا واستقلاليتنا، فلنا أمل في أن أفكار عموم الناس في نهاية الأمر تكون معنا
لا علينا، وخصوصًا أن القانون الأساسي الجديد قد شمل غير المسلمين من رعية
دولتنا بالحقوق التي شمل بها المسلمين سواء. فقال صوا باشا: إذا كان سفر سفراء
الدول الست في آن واحد من شأنه أن يهيج علينا الأفكار العمومية يلزم أن لا يبرح من
بالنا أن هذه الوسيلة هي الوسيلة الوحيدة لصون شرف السلطنة العثمانية، وكل
العثمانيين يعنيهم هذا الأمر، ويهمهم، فإن اخترنا الموت على إهانة شرفنا، فالأفكار
العمومية في أوربا تثني على اختيارنا، ولا شك أن الأفكار العمومية في أوربا أقوى
من دولها.
فقال مدحت باشا: لا ريب في أن شرف الأهالي منوط بشرف الدولة،
فالدولة العلية إن لم تعرف كيف تحافظ على استقلاليتها فلا تستحق أن تسمى مملكة.
فقال ياور باشا (ناظر البوسطة والتلغراف) : لو فرض أن تلك المطالب اقترحت
على شخص لكان يرفضها لا محالة، فكيف لا ترفضها مملكة.
ثم ألقى وكيل بطرك الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في عدم لزوم قبول
اقتراحات المؤتمر، ثم قال حاخام الإسرائيليين: إن أبناء ملتي عازمون على أن
يبذلوا أرواحهم للمحافظة على استقلال السلطنة العثمانية. (سرور من الحاضرين
عمومًا) ، ثم قال يانقوسكياديس أفندي - أحد أعضاء شورى الدولة وهو من طائفة
الأروام -: كلنا نفتخر بأن نكون من رعية سلطان شمل قومه بقانون أساسي، كالذي
أنعم علينا به مولانا السلطان المعظم، وإنا مستعدون لأن نموت محافظة على هذا
القانون وبحب وطننا [1] . ثم قال الصدر الأعظم (إذ ذاك مدحت باشا) : المملكة
التي تنعم على رعاياها بالحرية والاستقلالية جديرة بأن تطلب لنفسها أيضًا الحرية
والاستقلالية. ثم قال محمد رشدي باشا: إن القانون الأساسي وإن كان قد نُشر
أخيرًا إلا أن مولانا السلطان المعظم وعد بامتيازات عظيمة في الخط الهمايوني الذي
أصدره يوم جلوسه على سرير السلطنة السنية، وكان صدوره قبل عقد المؤتمر
فالفضل في إصدار هذا القانون عائد إلى مولانا السلطان، وليس هو من تشدد
المؤتمر على مولانا [2] .
ثم قال وكيل بطرك الروم الأرثوذكسيين: إنني أستحسن ما قاله صوا باشا
بالنيابة عن أبناء ملتي. ثم قال وكيل البروتستانط: إن القانون الأساسي شمل سائر
الرعايا بحقوق واحدة، فكلنا عثمانيون، وكلنا نكره تداخل الأجانب، وقد صدق
الصدر الأعظم في قوله: إن هذه المسألة خطيرة لا يلزم إنهاؤها على عجل، فيُحتمل
أنه يوجد سبيل لإصلاحها بدون قتال، والظاهر أن الأولى أن نترك لمجلس الوكلاء
أن ينهي هذه المسألة لصون شرفنا بأنفسنا. (ضحك في المجلس) ، ثم صرخ أحد
الحاضرين قائلاً: نعم إنا نحافظ على شرفنا بأنفسنا، فقد مضت تلك الأيام التي كنا
نوكِّل فيها وكلاءنا - أي: الوزراء - بأن يحافظوا على شرفنا. ثم قال حالت باشا -
ناظر التجارة إذ ذاك -: أنا أيضًا مستعد لأن أحافظ على شرفنا؛ ولكن مرادي
أن لا يقترن ذلك بسفك دم، فينبغي لنا أن نسعى في إصلاح هذه المسألة بدون
حرب، فالأولى عدم الإعلان بالحرب بالمرة. وعند ذلك حصلت ضجة في
المجلس، فصرخ السامعون قائلين: (غير ممكن غير ممكن لا بد من الحرب) ،
ثم قال وكيل بطرك الأرمن: غير واجب على الأرمن أن يصرخوا بمتابعة بقية
الرعايا العثمانية في جميع مقاصدهم؛ فإن البطرك الآن منحرف المزاج؛ لكنه
أرسلني لأقول: إن الأرمن كانوا دائمًا صادقين في طاعة الدولة العلية في الأيام
السالفة، فهم عازمون على أن يبقوا كما كانوا وهم يَدْعُون الآن بقية أبناء الوطن
لأن يتحدوا معهم للمحاماة عن شرف السلطنة واستقلاليتها. (أظهر المجلس سرورهم
من هذا المقال) .
ثم قال الصدر الأعظم: هل لي أن أفهم مما ذكرتموه أنكم رفضتم مطالب
المؤتمر، وهي تشكيل لجنة مختلطة كيفما كان تشكيلها؟ (صراخ من أهل المجلس:
نعم نعم) قال: وترفضون الاقتراحات المعتدلة التي عرضها السفراء؟ وهل
تنبذون بدون شرط سائر المطالب المختلفة التي عرضها علينا المؤتمر؟ وهل أنتم
عازمون وجازمون بهذا الرفض، وإن كان رفضكم هذا كما لا يخفى عليكم يوجب
سفر السفراء من الآستانة؟ فقال أهل المجلس: (نعم نعم قد رفضناها) ، ثم قال:
(من كان يخالفنا في هذا الرأي فليقم عن كرسيه؟) فلم يقم أحد، ثم قال إبراهيم
باشا: لا يوجد أحد على غير هذا الرأي سواء كان في هذا المجلس أو في خارجه.
ثم قال فائق باشا: (دلاسد طلياني الأصل) : أنا على رأي المجلس، ولكن لا
بأس في أن أذكركم أن رفض مطلبين من مطالب المؤتمر يكون سببًا في سفك الدماء،
أما إذا قبلنا فإنا نكون في السلم، (فحصل ضجة في المجلس) .
ثم قال الصدر الأعظم: إذا أردنا المصالحة والاتفاق مع مرخصي المؤتمر؛
فإن ذلك من شأنه أن يقذف بنا في مهواة، والله أعلم أن يقذف بنا، فالظاهر أن
الحرب أولى، ومع هذا فإني أدعوكم لأن تترووا في قبول بقية مطالب المؤتمر،
أما المطلبان الأخيران فالأرجح رفضهما، فقال سيدنا شيخ الإسلام: (إن لائحة
المؤتمر كلها خطر على بلادنا فعلينا الآن أن نرفض المطلبين الأهمين) .
ثم بعد مذاكرة قصيرة في عرض القانون الأساسي على الدول قال محمود
باشا الداماد: علينا أن نرفض المطلبين الأهمين من مطالب المؤتمر، فإذا كانت
الدول بعد ذلك تريد أن تعرض علينا سائر المطالب على صورة أخرى أمكننا أن
نجتمع مرة أخرى في هذا المجلس، ثم خُتمت الجلسة بعد أن استقر الرأي على
رفض اقتراحات المؤتمر بأسرها) اهـ.
هذه هي مداولات (المجلس الأمي) الذي اجتمع قبل مجلس المبعوثان للنظر
فيما يتعلق بشأن لائحة المؤتمر والحرب التي تتوقع من رفضها، وقد ذهب مصباح
الشرق الأغر إلى أن مدحت باشا هو الذي كان مصممًا على رفض مطالب الدول
التي يرى المصباح أن الصواب في قبولها، وأنه هو الذي أوحى إلى أهل المجلس
وجوب رفضها، وقد رأيت أن مدحت باشا كان أصوب أهل المجلس رأيًا، وأشدهم
حذرًا، وأبعدهم في العواقب خطرًا، ويليه في الحذر حالت باشا، ثم وكيل دولة
البروتستانت، وأنه لم يجنح أحد إلى قبول سيطرة الدول على الدولة العلية
ومراقبتهم أحكامها التي تتضمنها المطالب، إلا ذلك الطلياني المسمى فائق باشا،
وأن سائر أهل المجلس كانوا متفقين على تفضيل الحرب على قبول مطالب الدول،
فإذا كانوا يعتقدون أن الصواب في قبول ذلك، وأنه هو الذي ينجي الدولة ويرضي
السلطان، فهل يتصور أن جميع أولئك الوزراء والعلماء والوجهاء ورؤساء الأديان
وهم خاصة المملكة قدموا طاعة هوى مدحت باشا على استقلال عقولهم وأفكارهم،
وعلى مرضاة الهمم وموافقة سلطانهم ونجاة أوطانهم؟ إن كان هذا صحيحًا فهو دليل
على أنه لم يكن في الدولة إلا رجل واحد شرير هو مدحت باشا، وكل من عداه فهو
عدم، وأن أمة هذا شأنها وهؤلاء رؤساؤها وقادتها لا يمكن أن تستقل مع عدم
مراقبة أعدائها وسيطرتهم عليها، فكيف إذا كانت تحت مراقبتهم! ! !
__________
(1) أنت ترى أن المسيحيين وحاخام اليهود ما نطقوا إلا بعدما رأوا إجماع أهل المجلس على رفض الاقتراحات، فما كان عن رأي وصدق فهو من أثر القانون الأساسي، وما كان غير ذلك فهو مصانعة لئلا يُتهموا بأن لهم ضلعًا مع أوربا التي تدعي الانتصار لهم.
(2) أراد رشدي باشا نفي تهمة كانت تلعب بالنفوس، وهي أن السلطان أعلن القانون الأساسي لخداع أوربا والتمويه عليها بإرضاء النصارى؛ لتكف عن التعرض للدولة.(4/231)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوفد الإسلامي إلى الصين
قال صديقنا الفاضل الكامل محمود بك سالم عندما حدثت فتنة أوربا مع الصين:
إن هذه الفتنة وتحرّش أوربا بالصين مما يظهر مكانة مسلمي الصين العالية،
ورفعة شأنهم وقوتهم المادية والأدبية. أو ما هذا معناه. وما زالت الأيام تُظهر
صدق قوله؛ حتى رأينا مُسَعِّر نار هذه الفتنة عاهل الألمان، وداهية أوربا في هذا
الزمان، قد قدّر هذه القوة قدرها، وأراد الاستفادة منها بصديقه السلطان الأعظم
للمسلمين الذي يعترف له مسلمو الصين بالخلافة الدينية، ويخطبون باسمه على
منابرهم، فطلب منه أن يرسل وفدًا إسلاميًّا تكون وظيفته الظاهرة العمومية نهي
مسلمي الصين الأشداء الأغنياء أن يساعدوا الثوار الصينيين على المسيحيين،
وفائدته الخصوصية الخفية إعلام أولئك المسلمين بأن عاهل الألمان صديق خليفتهم
وحليفه؛ لتستفيد ألمانيا بذلك مثلما كانت تستفيد إنكلترا في الهند من قبل؛ فإنها ما
رسخت قدمها في تلك الممالك إلا بنفوذ الدولة العلية الديني، حيث كانت تقنع
مسلمي الهند بأنها حليفة الدولة العلية.
أجاب مولانا السلطان أيده الله تعالى دعوة العاهل غليوم، وأرسل وفدًا مؤلفًا
من ستة نفر، منهم عالمان من علماء الآستانة، ورئيسه من قواد الجيش العثماني،
وسيكون هذا الوفد آلة بيد الألمان الذاهبين؛ لأنه لا يعرف اللغة الصينية، فالألمان
هم الذين يبلغونه ويبلغون عنه، ولهذا نُقل إلينا أن الروسية كان مستاءة معارضة
في إرسال هذا الوفد، وقد مر منذ أيام من السويس بلَّغه الله السلامة، وجعل رحلته
مفيدة نافعة في تخفيف الشر واستبدال الخير به.
__________(4/238)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زيارة القبور والمدرس المغرور
حدَّثنا غير واحد عن شيخ يقرأ كتاب (الدر المختار) درسًا أنه بلغ من أيام
الكلام على زيارة القبور من كتاب الجنائز، فخبط في الكلام خبط عشواء في
مدلهمة ظلماء؛ إذ أنشأ يأوِّل للعوام ما يأتونه من البدع والمنكرات عند زيارة قبور
الصالحين، من ذلك أنه أوَّل دعاءهم إياهم في المساجد لقضاء الحوائج، ودفع
المكاره، واستعانتهم بهم في المهمات، وإن كانت من الموبقات، بأن هذا من باب
طلب الدعاء منهم. قال: (كأنهم يقولون: نحن ندعو الله تعالى وندعوكم لأن تدعو
معنا) . ولو كان كل عامي فقيهًا بحيل الحنفية، وقاضيًا في المحكمة الشرعية،
لأمكنه أن يهتدي إلى هذا التأويل، عندما يضل سواء السبيل، وإن لم يعتقد بقلبه،
أنه ينفعه عند ربه، لأنه تعالى يقول: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18)
ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولم يرد في الكتاب، ولا
في السنة، ولا في سيرة سلف الأمة أن الدعاء يطلب من الموتى، وحديث البخاري
في الاستسقاء بالعباس حجة على بطلانه.
وإذا علم القراء أن هذا المدرس هو الذي دارت بيننا وبينه المناظرة في هذا
الموضوع في المسجد الحسيني المنشورة في العدد الخامس من المجلد الثاني،
وتذكَّروا أن مبدأ المناظرة أن الشيخ المدرس عندما رأى الزائرين يطوفون بقفص
قبر سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان، ويقبِّلونه قرأ قوله تعالى: {مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم؛ لعجبوا من تلوّن
الشيخ ومخاطبته كل أحد بما يظن أنه يقبله ليعظم في نفسه ويكبر في عينه، وإذا
علموا بعد هذا أنه كان رئيس محفل ماسوني يزول ذلك العجب؛ لأن الناس لا
يعجبون من ألوان الحرباء. وإذا علموا أنه هو الذي كتب في المؤيد يذم علوم
الحساب والهندسة وتقويم البلدان، وجعل توقيعه (ثابت بن منصور) وتذكروا
كيف فنَّد مزاعمه أحد المجاورين - يعلمون درجته في العلم، وأنه فيه غير ثابت ولا
منصور، بل لو علم حاضرو درسه كل ما تقدم لما اكتفى بعض نبهاء الطلاب بالرد
عليه في وجهه.
وقد كتبنا هذه الكلمات تنبيهًا له على قدر نفسه، ونهيًا له عن المنكر من غير
تصريح باسمه، عساه ينتهي عن ذلك التدليس، ويترك ذياك التلبيس، ويأخذ
بطريقة السلف الصالحين، ويترك الخوض بأهل الحق واليقين؛ فإنهم لهم الثابتون
المنصورون {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا
تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .
__________(4/239)
16 صفر - 1319هـ
3 يونيو - 1901م(4/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السخاء والبخل - تتمة
أَتَعَجَّبُ من ضلال عامة الناس في فهم حقيقة السخيّ، على ما له من نفوسهم
القدر العليّ، وإلباسهم البخلاء الشحاح، لبوس أهل الجود والسماح، أليس هذا
الخطأ من أهل العلم والأدب أجدر بنبث بئار العجب، بعدما رفع الله تعالى في
القرآن من ذكر أهل البر والإحسان، وجعل بذل المال في سبيله آية الإيمان،
وإمساكه آية الكفر والخسران؟ اقرأ إن شئت قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الماعون: 1- 3) ، وقوله جل علاه: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وارجع إلى سورة الحجرات، واتل ما ورد في
الأعراب من الآيات، فقد بينت حقيقة المؤمنين بعد إنكار دعوى الإيمان على
أولئك المسلمين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
وناهيك بما ورد من الوعيد الشديد لمن يكنز المال، ووعد المتصدقين بمضاعفة
الأعمال، وبعدما جعل الشرع في أموال المسلمين وكسبهم من حرث ونسل وتجارة
ذلك الحق المعلوم، وفرض عليهم القيام بالنفقات الضرورية على من يعجز عن كسب
يذهب بضرورته، ويسدُّ من خلته، سواء كان من المسلمين، أم كان من الذميين،
وما هذا الإلزام بالبذل، إلا لتزكية النفس من رذيلة البخل، وتعويدها على الجود،
مما يسمح به الوجود، وقد ورد في معنى هذه الآيات أحاديث كثيرة من أشدها وعيدًا
حديث البخاري في الأدب، والترمذي في صحيحه وهو: (خصلتان لا يجتمعان في
مؤمن: البخل، وسوء الخلق) وفي رواية لغيرهما: (البخل والكذب) وحديث ابن
أبي شيبة وهناد والنسائي والحاكم والبيهقي وهو: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب
عبد أبدًا) .
هذا شأن السخاء والبخل في نظر الدين، وما سلم رجال الدين معه من
الخلاف في تعريفهما عندما أنشؤوا يضعون الحدود الجامعة المانعة للاصطلاحات
الشرعية لبعد العهد باللغة وما يتبادر منها، فقالت طائفة: إن البخل هو منع الواجب
من نحو زكاة ونفقة قريب. وهدم بعضهم هذا الحد قائلاً: إن الذي يعطي عياله ما
يفرضه القاضي من النفقة، ثم يضايقهم في لقمة زادوها، أو ثمرة من ماله أكلوها
يُعَدُّ بخيلاً، ومن كان بين يديه طعام فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه فهو
بخيل، وكذلك من يَرُدَّ اللحم إلى القصَّاب، والخبز إلى الخباز لنقصان حبة أو
نصف حبة يوصف بالبخل كما وصفوا مروان بن أبي حفصة.
وقال قوم: إن البخيل من يستصعب العطية في نفسه، وردّ هذا القول لإطلاق
لفظ العطية؛ فإن السخي الجواد قد يصعب عليه أن يبذل جميع ما يملك أو ما هو
في أشد الحاجة لنحو وفاء دين أو نفقة من تجب عليه نفقته، بل السخي الحقيقي
يستصعب وضع المال في غير موضعه، وإعطاءه لغير مستحقه كمن يعلم أنه ينفقه
في معصية، أو يستعين به على مفسدة.
واختلفت أقوالهم في السخاء والجود، فقال بعضهم: هو عطاء بلا مَنّ،
وإسعاف من غير رؤية. وهو قول غير مرضي؛ لأن البخيل قد يعطي لغرض من
الأغراض التي شرحناها في النبذة الأولى، ولا يمن لئلا يحبط عمله ويخيب سعيه
وقد يُسْعِف ولا يرى نفسه مُسْعِفًا لعلمه بأنه يمنُّ ليستكثر، ويُسْعِف لِيُسْعَف، وقيل:
هو العطاء من غير مسألة. وهو كما ترى. وفصل القشيري في رسالته بين
السخاء والجود، وفصل بينهما وبين البخل نقلاً عن أستاذه الدَّقاق، فقال: من
أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه
شيئًا فهو صاحب جود، ومن لم يبذل شيئًا فهو صاحب بخل. وهو قول مردود
غير محيط الحدود، وقيل: الجود: بذل الموجود. وهو قول من لا يميز في العطاء
بين التبذير والسخاء.
والحد الصحيح الذي يشهد له النص الصريح، هو أن السخاء أريحية،
وصفة نفسية، تقف بصاحبها في وسط، بين تفريط القبض وإفراط البسط، بحيث
يبذل المال بارتياح، إذا حَسُنَ في الشرع والعقل البذل والسماح، فإن بذل بغير
ارتياح فهو متكلف محمود؛ لأنه يربي نفسه على الجود، ولا يلبث أن يزول
التكلف فيكون سخيًّا، وتأنس نفسه بالبذل فيكون جوادًا حقيقيًّا، والبخل كيفية من
كيفيات النفس الخبيثة، وخلق من أخلاقها الرديئة، إذا عرض لصاحبه موجب البذل
في معروف، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة جمعية خيرية، أنشئت للمنافع الملية -
ينقبض صدره، وينقبض لصدره كفه، فيبخل بالدرهم والدينار، ويجود بالتعلات
ويسخو بالأعذار.
فمن أعذار البخلاء، الإحالة على المشيئة والقضاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ويقولون: لو أراد الله بهؤلاء الفقراء خيرًا لأعطاهم،
ولو اقتضت حكمته أن يكونوا أغنياء لأغناهم. ولا يقولون: إن الله تعالى فضلنا
عليهم، فَلْنُفْض بشيء من فضل نعمه إليهم، وجعل بعضنا لبعض فتنة، فلنصبر
على منحتهم النوال كما صبروا على المحنة، وحسبنا أن اليد العليا خير من اليد
السفلى.
ومن أعذارهم أن أكثر السائلين، يظهرون على الغني بأخلاق المساكين،
فصلتهم ليست من البر، ولا يعود على المرء منها أجر، ومن أعذارهم أن إنفاق
المال في غير مقابلة عمل يغري الناس بالبطالة والكسل؛ ولذلك يذمه الأوربيون
وهم في ذلك محقون، وبذل المال وإمساكه هو سبب خسراننا وفلاحهم، وعلة
خذلاننا ونجاحهم.
فإن قيل لهؤلاء وأولئك: إن كنتم صادقين في اعتذاركم، وممسكين لما ذكرتم
من تعلاتكم وأعذاركم، ومُسْتَنين بسنة الأوربيين؛ لأنهم في نظركم من المصيبين،
وليست أيديكم بسلاسل البخل مغلولة، ولإبداء الشح الذميم مشلولة، فامسكوا عن
السائلين، وامنعوا الكسالى والبطَّالين، فالشريعة قد ذمت السؤال، وورد: إن الله
يكره العبد البطَّال؛ ولكن ما تقولون في العجزة والضعفاء، واليتامى والفقراء؟ هل
تجدون لكم عذرًا في تركهم سدى، أو تجدون على نار تقليد الأوربيين هدى؟ وما
تقولون في الإنفاق على المدارس العلمية، والجمعيات الدينية، التي بها نجح
الأوربيون، لا بالبخل والشح كما تزعمون؟ فلماذا لا تتلون فيها تلوهم، ولا
تحذون حذوهم؟ ألم يأتكم في كل يوم أنباء بذلهم الألوف والملايين على معاهد العلم
والصناعة والدين [1] ؟
ولا تحسبن أيها القارئ الكريم، الذي لم يكتنه خُلق الشَّحَاح اللئيم، أن هذه
الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة، تقطع لسانه أو تمحو بهتانه، فتكون للسانه
خير عقال، وتحل يديه من السلاسل والأغلال، كلا إنه بعد بيان الآيات، ليتعذر
بعدم الثقة بالجمعيات، فإن كانت مؤسسة لإعانة العجزة والبائسين، يقول: إنما نحن
في حاجة إلى تربية أولاد الفقراء والمساكين. وإن كان من موضوعها التربية الملية
يقول: نحن أحوج إلى المدارس الصناعية، وإن كان من موضوعها ذلك، وقيل له:
إنه لا يتم إلا بمساعدة أمثالك. يقول: ليس عندنا استعداد للقيام بما يكون به الإسعاد
ولا يسمع لمن يقول: يجب إذن أن نسعى في إيجاد ذلك الاستعداد، ولا يتم ذلك إلا
بالبذل والإمداد؛ لأنه يرى أن إضاعة المال أن يدخل في غير الصندوق، أو يخرج
لغير الاستغلال، ويصح أن يقال في هؤلاء الأشحاء، ما قيل في الجبناء؛ لأن
الجبن والشح من جب واحد.
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وأختم القول بأنه لا عذر لمسلم في دينه، ولا لوطني في وطنه، ولا لإنسان
في إنسانيته أن يرى أمته تتلاشى وتنحلّ، وملته تذوب وتضمحل، وهو يعلم أن
حياة الأمم في هذا العصر بالمال؛ لأنه هو الذي يرقي العلوم والفنون، وهو الذي
يربي النفوس والأخلاق، وهو الذي يوجد الصناعة، وينمي التجارة ويثمر الزراعة
وهو الذي ينهض بالدولة ويعطيها القوة والصولة، بل هو كل شيء؛ إذ لا يتم
بدونه شيء، يعلم هذا كله ثم لا يجود لإنقاذها بشيء من فضل ماله، لا سيما في
هذه البلاد المصرية، وفيها مثل الجمعية الخيرية، القائمة على خير أساس، ينفع
البلاد والناس، ومثل جمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي المشكورة، وغيرهما
من الجمعيات الدينية الأدبية كجمعية شمس الإسلام، وجمعية مكارم الأخلاق،
وجمعية شمس المكارم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليساعد هذه الجمعيات
كلها أو بعضها، أو ما يوافق مشربه منها بحسب الاستطاعة {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن
سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .
__________
(1) آخر أنباء المنح الكبيرة نبأ المثري الكبير كارنجي الإسكتلندي الذي وهب مدارس وطنه مليوني جنيه، وثروة هذا الرجل تقدر بخمسين مليون جنيه، ولم ننس ذلك اليوناني العظيم الذي توفي في السنة الماضية عن مليوني جنيه اكتسبها من القطر المصري، وأوصى بثلاثين ألف جنيه؛ منها ألف جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية بمصر، وهي هبة لم تر مثلها الجمعية من أغنياء المسلمين، ولو كان في مصر ألف كريم كهذا اليوناني (ليلا بوبلو) يُعَضِّدون هذه الجمعية لأنشئت في القطر مدارس صناعية، بل ومدرسة كلية تكون منبعًا لنهضة جديدة، ومن العار على كل غني في مصر أن لا يكون لهذه الجمعية مثل هذه المدارس، ولو شئنا أن نسرد ما نشرته الجرائد العربية لا سيما المقتطف من أخبار الهبات العلمية في أميركا وأوربا لاحتجنا إلى عدة مقالات.(4/241)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدرس العشرون
الوحي وأقسامه
م (60) إمكان الوحي:
تقدم أن إثبات النبوة يتوقف على إثبات كون الإنسان مركبًا من جسد وروح،
وأن الروح ليست من عالم الملك المادي المشهود؛ وإنما هي من ملكوت أعلى
مغيب بحقيقته عنا، وقد عرفنا أرواحنا بآثارها، لا بكنهها وأسرارها، وكما يمتاز
أفراد من الناس بالقوة الجثمانية على سائر أهل قطرهم، أو على سائر الناس
كقيصر روسيا السابق إسكندر الثالث الذي كانت تلين في يديه المعادن، حتى إن
كان ليغمز الريال الروسي من وسطه بأصبعه، فيصير مجوفا كالفنجانة، ويضع
فيه زهرة ويعطيها لإحدى عقائل النساء في مجلسه ذاك، كذلك يكون لبعض
الأناسي قوة روحانية يفوقون فيها سائر البشر، فإذا كان من أثر القوة الجسدية ما
ذكرنا عن قيصر روسيا السابق؛ فإن من آثار قوة الروح في البشر ما هو أظهر من
ذلك وأبعد في التفاوت بين أفراد الناس.
آثار القوة الروحية سعة العقل والعرفان وشدة العزيمة والإرادة المساعدة على
العمل بما يحيط به العقل من المعرفة بالمصالح، حتى إننا نرى الرجل الواحد يحيي
أمة أو أممًا بعد مماته، ويجمع شملها بعد شتاتها، ويعمل ما تعجز عنه الملايين
كعمل السلطان صلاح الدين، في قهر ملوك أوربا وإعادة سلطة المسلمين، وكعمل
بسمرك في الوحدة الألمانية، وواشنطون في تحرير البلاد الأميركانية، حتى إن
بعض أهل الزيغ والجحود توهموا أن ما أعطيه الأنبياء من سياسة البشر وإصلاح
شؤونهم وتقويم مدنيتهم هو نحو ما ذكرنا عن هؤلاء الملوك والسياسيين، وما أبعد
ما يتوهمون؛ فإن هؤلاء الرجال ظهروا في أمم لها أديان تهديها، وشرائع وقوانين
تحكم بها، وجيوش منظمة تحمي حقيقتها، وتدافع عن حوزتها؛ ولكنها أساءت
استعمالها، أو رزئت بإهمالها، فأرشدوها إلى الانتفاع بما وهبت فعملت بإرشادهم
وأسعدوها بالرأي الصحيح فسعدت بإسعادهم، فأين هذا من حال الأنبياء
والمرسلين، الذين بُعثوا في أقوام وثنيين، يدعونهم إلى ترك ما هم عليه من
الاعتقادات، ونبذ ما ألفوه من التقاليد والعادات، ولم يكن لهم في إبان ظهورهم قوة
مُلك يعتمدون عليها، ولا شرائع يقتبسون منها، وهل قياس هؤلاء بأولئك، إلا
كقياس الحدادين بالملائك، وإنما ضربنا بهم المثل لبعد المسافة بينهم وبين سائر
الناس، كما أن المسافة بينهم وبين الأنبياء في البعد على نحو تلك النسبة أو أبعد
منها.
م (61) ضروب الوحي وأنواعه:
الوحي في اللغة اختصاصك أحدًا بكلام، أو إعلام تخفيه عن غيره، وأصله
الإشارة السريعة كما قال الراغب. ووحي الله إلى الأنبياء عبارة عما يختصهم به من
المعارف التي يريد أن يعملوا بها، وأن يبلغوها الناس للاهتداء بها؛ بحيث يكونون
على بينة من ربهم، وثقة تامة بأن ذلك من لدنه سبحانه وتعالى، ولا يعلم كنه
الوحي وحقيقته إلا من اختصهم الله تعالى به. وقصارى ما يصل إليه علمنا أن
نعرف بالدليل أنهم صادقون في دعوى الوحي وتبليغنا عن العليم الحكيم الرحمن
الرحيم ما مست حاجتنا إليه، وسبق التنبيه عليه، وأن نفهم ما ورد عنهم في ذلك
الوحي من بيانه، ورسومه وأقسامه.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51) فالآية
الشريفة ناطقة بأن طرق كلام الله لأنبيائه ثلاثة: أحدها: الوحي بلا واسطة، وقد
غلَّب هذا الإطلاق في العرف والاصطلاح؛ وإنما تكون للنبي تلك الأنواع أو بعضها
بالقوة الروحانية الفائقة التي فطره الله تعالى عليها.
من وظيفة تلك القوة وآثارها تمزيق الحجب المادية التي حجبت الروح عن
معالمها، وكسر المقاطر الحسية [1] التي عاقتها عن العروج إلى عالمها، فتعرج
بإذن الله تعالى إلى الملكوت، وتتصل بمن شاء الله تعالى من عماره المقربين،
تتصل بالمَلَك المسمى بروح القدس والروح الأمين {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ
أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) .
يتلقى النبي بهذا العروج الروحاني عن الله تعالى من المعارف التي لا ينالها
الناس بكسبهم ما هم في أشد الحاجة إليه في نظام جمعياتهم، وإصلاح أحوال
معيشتهم؛ ولتطهير عقولهم من أدران الشرك والجهل بالله تعالى، وتنظيف نفوسهم
من لوث الأخلاق الذميمة والسجايا الرديئة، وتحليتهم بالعقائد الحقة والأخلاق
الفاضلة والآداب الصحيحة والعبادات البدنية المرضية التي تمدّ العقائد والأخلاق
والآداب، وتُسْتَمَدُّ منها؛ لأنها كالبريد بين العقل والنفس، وبين الجسد والحس.
وهذا التلقي قد يكون بالإلهام، وعبرت عنه الآية بالوحي المطلق، وهذا الحرف
مستعمل في القرآن بمعنى الإلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ
اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً} (النحل: 68) ... إلخ، وقال جل ذكره: {وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية، وليس كل موحى إليه بالإلهام
الصحيح نبيًّا مرسلاً، بل النبي هو الموحى إليه بالدين الذي يُرشد به الناس،
وكذلك يقال في مكالمة المَلَك التي وقعت للسيدة مريم عليها السلام، وهي ليست
بنبية على الصحيح الذي عليه الجمهور، والرؤيا الصادقة من هذا القسم، وكانت
أول وحي نبينا عليه الصلاة والسلام كما ورد في حديث البخاري المشهور، وأدخل
بعضهم الإلقاء في القلب في معنى وحي الإلهام، واستدلوا عليه بقول عبيد ابن
الأبرص:
وأوحى إليّ الله أن قد تآمروا ... بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي
نعم إنه يريد بالوحي أن الله خلق في قلبه علمًا بذلك لا يعرف مصدره، وهذا
هو الإلهام. ولكن ورد في الحديث ذكر الإلقاء والنفث في الروع مضافًا إلى روح
القدس، فيدل على أنه يكون من القسم الثالث وهو الوحي بواسطة الرسول، والكل
وحي، وهذا الأول ما يكون بغير واسطة.
هذا النوع من التلقي عن الله تعالى يحصل في روح النبي دفعة واحدة من
غير أن تكون الروح متعلقة بشيء من الأشياء التي تشغلها عن الحس؛ لتجتمع
الهمة ويتم الانسلاخ عن العالم المادي، والاتصال بالعالم الروحاني، وهو الوحي
بدون واسطة مطلقًا، وأما النوع الثاني فهو ما يقيض فيه للنبي ما تتعلق به نفسه
ويشتغل به حسه، حتى تجتمع الهمة ويصح توجه الروح وتبلغ الكمال في قوتها
العقلية، بعد الانقطاع عن الشواغل الكونية، فيكون ذلك حجابًا له بين عالم الغيب
وعالم الشهادة، ويأتيه الوحي من وراء هذا الحجاب، ومن ذلك النار التي رآها
موسى عليه السلام في الشجرة فطار إليها لبه، وعلق بها قلبه، وانحصرت في
مشكاتها روحه، فكان منها فتوحه، وجاءه منها العلم والحكم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيماً} (النساء: 164) وكل كلامه تعالى يسمى وحيًا، ولذلك قال عز وجل:
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طه: 13) .
وبقي التلقي عن الله تعالى بواسطة المَلَك المسمى بالروح، وهو القسم الثالث
المُعَبَّر عنه في الآية بقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ} (الشورى: 51)
إلى النبي ويُعَلِّمه بما يلقيه في قلبه بإذنه تعالى ما يشاء سبحانه أن يوحيه كما قال:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ} (الشعراء: 193-
194) فهذه الآية تدل على أن المَلَك يُلْقِي ما يريد الله إلقاءه للنبي في القلب، فهو
خطاب للروح لما يكون بينهما من الاتصال، وقد ورد في الصحيح أن المَلَك كان
يتمثل بهيئة الإنسان ويؤيده قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً
سَوِياًّ} (مريم: 17) وهل يكون كلامه حينئذ ككلام البشر كما في حديث الإيمان
والإسلام والإحسان، أم هو مناجاة روحية على كل حال كما هو ظاهر قوله تعالى:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أم يكون تارة
هكذا، وتارة كذلك؟ الله ورسوله أعلم.
م (62) الوقوف عند النصوص:
علينا أن نفهم النصوص وما لنا أن نزيد فيها ولا ننقص منها؛ لأن هذا مما لا
يُعْرَف إلا بالقياس، ولا مجال في حقيقته للعقل ولا للحواس، وما اختلف المختلفون
وفرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا همُّ كل فرقة الرد على الأخرى، إلا لتسمية هذا الوحي
بأنواعه كلام الله تعالى، وإيحائه تكليم الله عز وجل، ولو لم يرد إلا لفظ الوحي
والإيحاء، والتعليم والإنباء، كقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} (النساء: 113) وقوله تبارك اسمه: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: 3) لما
كان لهم أن يقولوا ما قالوه في الصفة النفسية والصفة اللفظية، ولا أن يثبتوا له
سبحانه صوتًا وحروفًا إلى غير ذلك مما نمسك عن الخوض فيه عملاً بهدي
الراشدين، وفي الحديث الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أحيانًا
كصوت السلسلة على الصفوان) ، ولعل ذلك حجاب كنار موسى، وقد علمنا من
الآية أن القرآن الكريم أطلق لفظ التكليم على الوحي الذي بمعنى الإلهام، ورؤى
المنام، والذي بواسطة الحجاب، والذي بواسطة الروح الذي ينزل على القلب،
وظواهر الآيات تنأى بك عن قياس التمثيل، وتربأ بنفسك عن القال والقيل، والله
يقول الحق وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المقاطر: جمع مقطرة، وهي خشبة فيها ثقوب توضع فيها أرجل المحبوسين.(4/251)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة الدينية
(1) من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: من أين أخذتم
وتأخذون الأحكام التي أجبتم وتجيبون بها على أسئلتنا عدا ما نقلتموه عن الغزالي؟
أهي باجتهاد منكم خاصة أم من مذاهب الأئمة المجتهدين أم خليط من هذا وذاك؟
اهـ بنصه.
(ج) لا نكتب جوابًا على إطلاقه إلا إذا قام عندنا دليل على صحته توصلنا
إليه ببحثنا واجتهادنا، ولم نكتب جوابًا مخالفًا لمذاهب الأئمة المجتهدين.
***
(2) ومنه: هل يصح للمناظر أن يستدل بأقوال الأصوليين والمتكلمين
والمحدِّثين والمفسرين والفقهاء المجتهدين والصوفية طبقة بعد أخرى؟ أم لا بد أن
يكون الدليل من الكتاب والسنة ليس إلا؟ وهل الإجماع والقياس من أصول الدين
كالكتاب والسنة في الاستدلال أم لا؟ وهل الآحاد لا يجوز العمل والاستدلال
بروايتها إذا ثبتت صحتها؟ وإلا فما الفائدة منها؟ اهـ بنصه.
(ج) إنما يستدل المناظر بما تقوم به الحجة على خصمه، فمن كان يناظر
من يحتج بكلام هؤلاء العلماء، يصح له أن يحتج عليه بكلامهم لأجل الإلزام كما
هو معلوم من فن المناظرة، وأما الإجماع والقياس فالجماهير يعدونهما من أصول
الاستدلال في الفقه على خلاف ترونه في محاورات المصلح والمقلد الآتية، وبهذا
تعلمون أنهما ليسا محل وفاق كالكتاب والسنة، وأما أحاديث الآحاد الصحيحة فيحتج
بها في كل ما يُكتفى فيه بالظن كالأحكام، وأما ما يُطلب فيه القطع كالاعتقادات فلا
يُستدل عليه بالآحاد، هذا ما اتفقوا عليه في جملته. وفي التفاصيل والجزئيات
خلاف الحنفية في ترك أحاديث الآحاد التي تخالف القياس الجلي.
***
(3) ومنه: ما نقلتموه عن الغزالي من تقسيم العلوم إلى محمود ومذموم
ليس غرضنا؛ وإنما مرادنا هل قال أحد من المجتهدين بمنع تعلم وتعليم العلوم
النافعة في الدنيا والآخرة الخالية من الإلحاد والمفسدة، حتى يمكن أن يقال: إن
مذاهبهم فيها ما يمنع الترقي المادي والمعنوي؟ وهل علم الكلام وعلم التصوف
وتدوينهما فنًّا مستقلاًّ كغيرهما من العلوم الحادثة بحدوث الإسلام على ما ذهب إليه
أئمة الهدى، ومصابيح الدجى من جمهور أهل السنة والجماعة يُعَدُّ مفسدة في الدين
والدنيا؟ وإذا كان كذلك فما حكم من عمل بهما من المسلمين؟ وإلا فما معنى انتقاد
تدوينهما والأخذ بأحكامهما؟ اهـ بنصه.
(ج) ما كان يخطر في بالنا أن أحدًا يسأل السؤال الأول، فكيف يسأله من
يُعلم من توقيع مكاتبيه أنه (خادم العلوم والآداب) ، وكيف يمنع مجتهد في العلم
تعليم ما ينفع في الدنيا والآخرة ولا ضرر فيه مطلقًا! ! ! أما العلوم النافعة في
الدين فهي علوم المجتهدين الذين تعنيهم، وأما العلوم الكونية التي يرجى أن ترتقي
بها مدنية المسلمين وترتقي دنياهم فلم تنتشر فيهم إلا بعد الأئمة الأربعة، وقد شنَّ
الغارة على أصحابها علماء مذاهبهم وذموا علومهم وحرموها، ورموا المشتغلين بها
بالكفر والإلحاد كابن سينا وابن رشد والفارابي والغزالي وكمال الدين بن معية
وأضرابهم.
وما زالوا يطاردونهم ويستعينون بالأمراء عليهم حتى اضمحلوا وتلاشت
علومهم، ثم عادوا إلى الاعتراف بفضل بعضهم كالإمام الغزالي الذي حكموا بإحراق
كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب حتى كان يُحرق في أسواق القاهرة
أكداسًا أكداسًا، وما أجمعوا على فضله بعد موته إلا لأنه زهد في الدنيا، وقضى
سائر عمره في التأليف في الأخلاق والرقائق، وقد كان من تأثير هذه الغارة أن
المسلمين تركوا تلك العلوم حتى الطب منها، وقد شكا الغزالي في إحيائه من فقد
الأطباء المسلمين، ومما كذَّب به مزاعم الفقهاء الذين يزعمون أنهم يشتغلون بدقائق
الفقه؛ لأنه فرض كفاية أنهم لو كانوا صادقين لأحيوا فن الطب؛ لأنه من فروض
الكفايات المتروكة بخلاف الفقه، ولا يزال فقهاؤنا إلى اليوم يذمون علوم الدنيا مع
علمهم بأن الدين لا يحفظ إلا بالدنيا، وأن القوة فيها موقوفة في هذا العصر على هذه
العلوم والفنون.
ولعل السائل لم ينس المقالات التي كتبت في المؤيد منذ نحو سنة في ذم الحساب
والهندسة وتقويم البلدان، فالمنتقدون في هذا المقام ينتقدون أمثال هؤلاء الذين يعتقد
عامة المسلمين أنهم حفظة الدين، لا أنهم ينتقدون الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي
وأحمد رضي الله تعالى عنهم.
وأما علم الكلام فقد حدث في الملة على عهد الأئمة، فحرَّموه وذمَّوه، وقد
نقلنا أقوالهم في ذلك في المسألة (52) من الدرس السابع عشر من الأمالي الدينية
المنشور في الجزء الأخير من مجلد المنار الثالث، وقد جمعنا ثمة بين أقوالهم،
وبين ما ذهب إليه الخلف من استحسان علم الكلام والقول بلزومه، فراجعه.
وأما علم التصوف فهو على قسمين: القسم الأول ما يتكلمون فيه على تهذيب
الأخلاق وتأديب النفوس بآداب الدين، ومحاسبتها على الإخلاص لله تعالى،
ومطالبتها بكمال التوحيد الذي لا يشهد صاحبه فعلاً لغير الله تعالى، ويرى الخلق
مسخرين في قبضته، مع عدم الغفلة عن الأسباب التي اقتضتها الحكمة وتم بها
النظام، وهذا هو لباب الشريعة، ورجاله رجال الرسالة القشيرية وأضرابهم رضي
الله تعالى عنهم، وكان هؤلاء على طريقة الصحابة والتابعين في أخلاقهم وآدابهم
وزادوا عليهم الكتابة والتأليف - ونعمت الزيادة - والمبالغة في ترك الدنيا وذمها
زهدًا فيها، وقد كان لهذا أثر بيّن في كسل المسلمين وتقاعدهم عن الترقي في الدنيا،
وقد بيَّنا عذرهم في بعض ما كتبنا، ولعلنا نذكره في المنار بعد، وهذا القسم من
التصوف يسمونه التخلق.
والقسم الثاني: يسمونه التحقيق، وعلمه علم الأسرار، ويتكلمون فيه عن
الأذواق والمواجد، وعما وراء الحس من عوالم الغيب، وعن الذات الإلهية
والصفات العلية ووحدة الوجود، وهنالك المهامه الفيح، والجبال الشاهقة، والبحار
المغرقة التي تاه فيها الأدلاء، وغرق فيها الملاحون، وكان التأليف فيها طامة
كبرى ومصيبة عظمى، ولقد كان الشيوخ الأجلاء يُنْكِرُون الكلام فيها، فما بالك
بالتأليف حتى إن الأستاذ الجنيد أفتى مع الفقهاء بقتل الحلاج، أما منبع هذه الطريقة
فهو الصين، ثم انتشرت في الهند، وانتقلت وساوسها إلى اليونان، ولما امتدت
الفتوحات الإسلامية، وامتزج المسلمون بجميع أمم الأرض مزجوا علومهم بما
أخذوه عن تلك الأمم، وصبغوه بصبغة الدين، ولوَّنوه وذهبوا فيه مذاهب شتى،
وكان أشد تلك المذاهب فتكًا في الإسلام مذهب الباطنية وله شُعَب وفروع، وقد راج
كثير من مسائله على كثيرين من أهل السنة باسم هذا القسم الثاني من التصوف،
وقد شرحنا هذا في أجزاء من المنار وسنفصله بعد تفصيلاً، وقد شن الغارة
المتكلمون والفقهاء على أهل هذا القسم من المتصوفة، وأفتوا بكفرهم، وساعدهم
عليهم الأمراء بالقتل والنفي، وأتذكر أنهم سلخوا جلود عدد كبير منهم في مصر
القاهرة في يوم مشهود، وربما أُخذ البريء بجريرة الأثيم، وقُتل الصادق بذنب
المارق.
والحاصل أن الميزان الذي يُعرف به الحق والباطل والراجح في دين الله
والمرجوح هو كتاب الله المعصوم والسنة النبوية الشريفة المبينة له، وسيرة أهل
الصدر الأول العاملين به على أكمل الوجوه، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويُردّ عليه،
إلا المعصوم كما نُقل عن الإمام مالك رضي الله عنه.
وقد طال الكلام وسنجيب على بقية الأسئلة التي تفيد الأمة في الجزء الآتي
إن شاء الله تعالى.
__________(4/256)