الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ وانتقاد
(التاريخ الأثري من القرآن الشريف)
كُتَيّب ألفه حديثًا الكاتب الأديب مصطفى أفندي الدمياطي المشهور فضله بما له
من الآثار القلمية في الجرائد، ويدل اسمه على أنه جمع ما جاء في القرآن الكريم
من قصص الأنبياء وأحوال الأمم، وبيَّنها بما لا يخرج عن معنى القرآن، وذكر في
فاتحة الكتاب أن الذي حمله على هذا التأليف هو مساعدة أهل النهضة العلمية
الحديثة على التربية الدينية، فقد قال فيها بعد تعظيم شأن الدين ما نصه: (فضلاً
عن ذلك، فقد قص المولى سبحانه وتعالى قصصًا شتى في الكتاب العزيز تكفي
لتربية العقول وتأصيل الاعتقاد به وبصفاته الكمالية، فكم في قصص الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام من مرشد إلى حسن أخلاقهم وقوة جأشهم، وسعيهم في هداية الخلق
وتعليمهم أساليب التوحيد بما يحث على التمسك بالفضائل، ويحض على الكمالات
ذلك هو السبب الذي حملني على جمع هذا الكتاب بمثل هذا الأسلوب النافع، لعلي
أقوم ببعض الواجب علىّ نحو وطني العزيز) اهـ
وهذا الغرض كما ترى من أشرف الأغراض لو وفَّاه الكُتاب حقه، وأذكر أنني
ما قرأت القرآن من بضع سنين إلا وتمنيت لو كان له تفسير يجمع الآيات المنزلة
في كل مقصد على حدتها ويفسرها؛ فيكون للتوحيد والعقائد باب، وللأخلاق
والمواعظ باب، وللأحكام باب، وللقصص باب، ويذكر في كل قصة جميع ما جاء
فيها، ويبين الحكمة في تكرار المكرر إلخ ما لا محل هنا لشرحه، ولقد كنت عندما
تناولت هذا المؤلف الجديد حسبت أنه وفَّى ببعض مطلبي، ولما تصفحته ألفيته على
خلاف الحسبان، بل وجدت أن اسمه لم ينطبق على مسماه، وأنه ما وفَّى بالغرض
الذي أشار إليه في فاتحته، فإن الآيات التي أوردها لم يفسرها ويبين بعض ما فيها
من الحكم ووجوه الاعتبار، إلا أنه فسر بعض المفردات في ذيول الصحائف، وما
كان في الكتاب من كلام المؤلف فأكثره مأخوذ من الإسرائيليات وكتب القصص التي
لا يعول عليها عند المسلمين، وقد عاب العلماء المحققون كتب التفسير التي تشتمل
على هذه القصص، وحظروا قراءتها وكتابتها، وقد حوى هذا الكتاب على
اختصاره جميع ضروب الخطأ التي في تلك الكتب المطولة، فمن ذلك: ... ...
(1) تحديده تاريخ الخليقة والأنبياء، وزعمه تبعًا للإسرائيليات أن تاريخ
الخليقة يبتدئ من سنة 4963 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وهذا الزعم يكذبه
القرآن بمثل قوله: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (الكهف: 51) ويكذبه علم الجيولوجيا الذي يدل على أن العالم وجد منذ ملايين
كثيرة من السنين، ويكذبه علم الآثار القديمة أيضًا، ومنه:
(2) ما ينافي العقيدة الدينية، كقوله في الصفحة 48: (وأمات الله أولاد
أيوب عن آخرهم، وابتلاه بالمرض، إلى أن انتثر لحمه، وامتلأ جسده دودًا،
وجفاه الناس، وأخرجه أهل القرية إلى الخلاء، ولم يطق أحد شم ريحه إلا زوجته
فصبر وشكر) اهـ
والذي عليه المسلمون، لا سيما أهل السنة منهم، أن الله تعالى حفظ الأنبياء
من العاهات المنفرة للطباع؛ لأنها منافية لحكمة التبليغ، وقالوا: (إن هذا من
أصول الإيمان الواجب اعتقادها وتكذيب من خالفها) ومنه:
(3) قوله في صفحة 78: (وعلم يونس بالأمر، فذهب مغاضبًا ربه)
والصواب أنه غاضَب قومه، لا ربه، ومنه:
(4) إيراد ما لا يصح في السنة كحديث إن هذا أخي ووصيي وخليفتي
فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، يعني عليًّا رضي الله عنه، انظر صفحة 92.
وفي الكتاب خطأ وغلط وراء ما ذكرنا، وغير الأخبار التاريخية التي لا دليل
عليها من القرآن ولا من السنة، وهذه الأخبار كثيرة ربما تناهز المائة، كقوله في
صفحة 31 في إسماعيل عليه السلام: (تزوج بامرأة من جُرهم، وأولادها
أولاده الذين كانت منهم العرب) والصواب أن العرب أمة قديمة كانت قبل
إسماعيل، ويقال لأولاد إسماعيل منهم العرب المستعربة.
وكإدخاله في آية قرآنية ما ليس منها حيث كتب في صفحة 76 ما صورته
(وأذن سليمان بإحضار العرش، فلما رآه مستقرًّا عنده قال: هذا من فضل ربي
ليبلوني أأشكر إذ آتاني به قبل أن يرتد إليّ طرفي) اهـ
فما بعد لفظ (أأشكر) ليس من الآية، وكأنه كان يكتب الآيات من كتاب
تفسير امتزج عند هذه الآية فيه الأصل بالتفسير، أو نسي أن يضع شبه الضمتين
عند انتهاء كلمات القرآن، وكإيهامه بأن الصرح هو الذي اشتبه على ملكة سبأ
بعرشها، حيث قال بعد العبارة المذكورة آنفًا في أول صفحة 77 في ابتداء كلام ما
نصه: وأمر سليمان ببناء صرح للملكة، فبنوه من قوارير {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا
عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُو} (النمل: 42) ثم قال بعد هذا في ابتداء كلام: (وأذن
لها بدخول الصرح) إلخ، وكان ينبغي أن يقدم آية (فلما جاءت..) على قوله:
وأمر سليمان ببناء صرح إلخ لينتفي اللبس من الكلام.
هذا وإننا لم نقرأ الكتاب كله بالتدقيق، ولم نحاول إحصاء كل ما ينتقد فيه،
وإنما توسعنا بعض التوسع في انتقاده لأمرين، أحدهما: أن مثل هذه الكتب التي
من شأنها أن تقرأ وينتفع بها إذا كانت نافعة يجب أن تنقح وتمحص، وآلة
التمحيص هي الانتقاد دون سواه، ثانيهما: أننا نعلم أن حضرة المؤلف من الرجال
المهذبين الذين يقدرون الانتقاد حق قدره، فيكون باعثًا لهم على زيادة الكمال،
والمنتظر من عاقل مثله أن يعد انتقادنا من العناية بكتابه، وأن يكون باعثًا له على
تهذيبه وتشذيبه، وما يتذكر إلا أولو الألباب.
***
قصيدة من مديح الأستاذ صفوة المحققين ونابغة اللغويين، الشيخ محمد محمود
التركزي الشنقيطي من نظم الأديب محمود أفندي خاطر أحد موظفي نظارة المالية:
مثلت بالعرب جدًّا ... ونلت بالجد جدًّا
وما عرفناك إلا ... إمام علم مبدّى
وما سمعنا لسانًا ... يقول قولك قصدًا
وما رأينا صحاحًا ... بغير إذنك تهدى
ولا قرأنا عبابًا ... يمد مثلك مدًّا
وأن نعمة ربي ... لصفوة الخلق تسدى
وقد سرى لك منها ... جمع به صرت فردًا
لا في العراق نظير ... تراه يومًا تبدى
ولا ببغداد، كَلاّ ... يلتمس الناس ندًّا
وليس يأوي ببصرى ... وليس يسكن نجدًا
أهل الحجاز جميعًا ... فاهوا بحمدك جدًّا
أمير مكة فخرًا ... قد عد علمك مجدًا
أيام لم يجدن فيها ... لك في العلم بدًّا
أيام أبرزت علمًا ... على ذوي الجهل ردًّا
في كل قطر ومصر ... يفوح مدحك ندًّا
بالحق ما أنت إلا ... جسم من العلم يندى
أرسل علومك تبغي ... من الأماجد جندًا
يأتوك طلاب علم ... ولن يخافوا مردًّا
ومن تصدى لعلم ... أفنى الليالي كدًّا
يستسهل الصعب حتى ... ينال بالسعي سعدًا
وشيخنا التركزي قد ... مهد للعلم مهدًا
فلا يصغِّر خلاًّ ... ولا يُصَعِّر خدًّا
ولا يحقر قولاً ... ولا يصدن صدًّا
فما علمنا عليه ... شيئًا لذلك ضدًا
وقد سردنا قليلاً ... من مكرماتك سردًا
أما الكثير فشيء ... كالنمل والرمل عدًّا
وأنت في البر بحر ... لم نستبن لك حدًّا
__________(2/410)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(الجيش العثماني)
ينقسم الجيش العثماني على حسب ترتيبه الحالي الذي هو من عمل جلالة
السلطان عبد الحميد إلى ثلاثة أقسام كبيرة وهي (الأول) القسم الموظف العامل،
وهو يتألف من قسمين: أولهما القسم النظامي، أي الموجود تحت السلاح، وثانيهما
القسم العامل المأذون. (الثاني) الرديف: القسم الاحتياطي من الجيش، وهو يتألف
أيضًا من قسمين. (الثالث) المحافظ، ومدة الخدمة العسكرية محددة بعشرين سنة،
هاك بيانها: للجيش العامل ست سنوات، أربعة منها للقسم الأول منه، واثنتان
للقسم الثاني، وللجيش الاحتياطي ثماني سنوات لكل من قسميه أربعه، وللجيش
المحافظ ست سنوات، ولا يُقبل في الخدمة العسكرية سوى المسلمين من رعايا
الدولة، وأما غير المسلمين فحق أداء الخدمة العسكرية يستعاض عنه برسم يدفعونه
يُسمى البدل العسكري، فكل ذَكَر من الرعايا العثمانيين غير المسلمين يدفع مسانهة
من حين ولادته هذا الرسم المسمى ضريبة الدم، وهذه الضريبة تجبيها كل طائفة
على حدتها، وتدفعها مسانهة للخزينة.
قد قرر قانون تشكيل القرعة العسكرية الصادر في سنة 1889م وجوب تأدية
الخدمة العسكرية على كل مسلم في المملكة العثمانية واستثنى من ذلك سكان العاصمة؛
بسبب وجود امتيازات قديمة لهم، وثلاثة أصناف لا تحسب من الجيش وهي
(1) رجال الشرطة في العاصمة والولايات و (2) الجنود غير المنتظمة و (3)
ما يلزم تقديمه من العساكر على خديوي مصر. حدد سن القرعة من سنة 1886م
بواحد وعشرين سنة وحدد من يلزم اقتراعهم في السنة بعدد بين الخمسين والستين
ألفًا، القسم الذي لا يطلب من المقترعين لأداء الخدمة متجزئ جزئين، أحدهما:
يحسب في صف الجنود، ويلزمه أن يبقى تحت التعليم العسكري في كل سنة من شهر إلى ستة، بل إلى تسعة شهور بحسب درجة أهمية المكان الذي يقيم فيه العساكر
المؤلفون له، وثانيهما: لا يلزم بالتعليم إلا مرة في الأسبوع يوم الجمعة بعد الصلاة.
في زمن الحرب نرى في تحريك الجيش هذه الأعداد وهي:
(أ) 350000 من الجيش العامل بقسميه النظامي والمأذون. (ب) 450000
من الجيش الاحتياطي (الرديف) . (ت) 200000 من الجيش المحافظ، فترى
أن الجيش في زمن الحرب يبلغ نحو مليون مع 1512 مدفعًا سهليًّا، و330 مدفعًا
جبليًّا، وجميع القوى العسكرية للمملكة العثمانية منقسمة إلى فيالق، يرأس كل فليق
منها مشير أو قائد فرقة (فريق) ويدير مجلس التعليمات العسكرية بكل فليق
(أركان حرب) نظام الحركات العسكرية، أما مجلس الشعبة لكل فيلق فعليه النظر
في الأمور الإدارية.
وعدد الفيالق المذكورة سبعة، مراكز إداراتها في هذه الجهات هي،
القسطنطينية: فيها الفيلق الأول وهو فيلق الحرس الشاهاني. أدرنه: فيها الفيلق
الثاني. موناستير: فيها الفيلق الثالث. أزرنجان فيها الفيلق الرابع. دمشق: فيها
الفيلق الخامس. بغداد فيها الفيلق السادس. اليمن: فيها الفيلق السابع.
ويلزم أن يضاف على هذه الفيالق الفرقة العسكرية في طرابلس الغرب وفرقة
الحجاز.
نظارة الحربية أو السر عسكرية هي تحت أوامر جلالة السلطان الذي هو
رئيس الجند، وهو يديره ويراقبه بمساعدة المجلس الحربي الأعلى المسمى بدار
الشورى العسكرية، وهذا المجلس يتشكل من مشير وستة قواد فرق، وبمساعدة
مجلس الطوبجية المسمى بمجلس الطوبخانة العامرة، ولما كان رئيس الطوبجية معينًا
من قبل جلالة السلطان، ومتعلقة أعماله بجلالته وبنظارة الحربية بلا واسطة -
كان له بطبيعة وظيفته التي تجعل له اليد العليا على الطوبجية والمهندسين من
الاختصاصات ما يكاد يساوي في درجة أهميته اختصاصات ناظر الحربية.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/414)
10 جمادى الأولى - 1317هـ
16 سبتمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خوارق العادات
والخلاف في الكرامات
عرَّف الجمهور الكرامة بأنها الأمر الخارق للعادة يظهر على يد العبد الصالح،
وهو مَن يقوم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد، والأمر الخارق للعادة إما أن يكون
خرقه لها بمجيئه على خلاف سنن الكون المعروفة ونقيض ما تقتضيه، أو بكونه لم
تعرف له سنة طبيعية يندرج فيها، وإن كان في الواقع ونفس الأمر مندرجًا تحت
ناموس طبيعي غير معروف عند كافة الناس، مثال الأول العلم والتهذيب اللذين كان
عليهما نبينا عليه الصلاة والسلام مع كونه لم يتعلم ولم يتربَّ، وكانت نشأته في قوم
هم أبعد الناس عن العلوم التي جاء بها، كعلم التوحيد وعلم الشرائع وعلم الاجتماع
والسياسة المدنية والحربية، ومنه إحياء الموتى لسيدنا عيسى وعصا سيدنا موسى
عليهما الصلاة والسلام، ومثال الثاني المكاشفات ومعرفة بعض الأمور قبل وقوعها؛
فإن للنفوس البشرية والأرواح الإنسانية استعدادًا لهذا الأمر، ولله تعالى فيه سنة
روحية مخصوصة كسائر السنن الكونية، ولكن هذه السُّنَّة لم تزل من الأمور
الغامضة التي لم يهتد إليها أكثر الناس، وإن كثيرًا ممن كان لهم نصيب من الكشف
ومعرفة بعض ما يجيء به الغد لم يعرفوا حقيقة السبب في كشفهم، وأنه هو ما
اشتغلوا به زمنًا من تصفية الباطن وتقوية سلطان الروح بحيث يقدر صاحبه على
صرفه من عالم الحس وشواغل الجسد المتشعبة الكثيرة وتوجيهه إلى أمر واحد،
وإن من خواص الروح أن ينطبع في مرآته ما يتوجه إليه هذا النوع من التوجه.
وقد عرف هذه السنة الإلهية بعض الناس، ولكن طريقها لم يزل مشتبه
الأعلام، قاتم الأعماق، لا يستطيع قطعه كل سالك، وربما يجيء يوم ينجلي فيه
قتامه، وتظهر فيه أعلامه، فيذهب الالتباس، ويسهل سلوكه على أكثر الناس، وقد
بينَّا كون ما جاء به نبينا من العلم خارقًا للعادة في كتابنا (الحكمة الشرعية) عند
الكلام على معجزة القرآن العظيم، فنورده هنا إتمامًا للفائدة، وهو:
القرآن هو أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وإعجازه ليس مقصورًا
على أسلوبه البديع، وارتقائه أسمى درج البلاغة، وعلى إخباره بالمغيبات المستقبلة،
وسرده قصص الماضين من غير اطلاع عليها، بل فيما اشتمل عليه من العلوم
والمعارف في تهذيب البشر وبيان مصالحهم في أمور معاشهم ومعادهم - أعظم خارق
لحجب العوائد، لا سيما بالنسبة لمن ظهر على يديه، وإلى ذلك أشار البوصيري
رحمه الله تعالى بقوله:
كفاك بالعلم في الأميّ معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
وبيان ذلك أنه قد جرت عادة الله تعالى في خلقه بأن العلم لا يحصل للإنسان
إلا بالتعلم، لا سيما العلم الذي يتعلق برعاية الأمم؛ فإن القائم به يحتاج لمعرفة
أحوال البشر في بداوتهم وحضارتهم، واختلاف شؤون الشعوب في مذاهبهم
وعوائدهم، ويتوقف هذا على الوقوف على سير الأولين والحاضرين، مع دقة
النظر في موارد الأشياء ومصادرها، وعلل الحوادث في صعودها وهبوطها،
وغير ذلك من أحوال طبيعة العمران البشري، وإننا نرى المُبرّزين في علم
الاجتماع ومعرفة طبيعة العمران البشري وشرائع الأمم من أهل هذا العصر ما بلغوا
مبلغهم من العلم إلا بالنظر في معارف المتقدمين عليهم وضمها إلى ما اختبروه
بأنفسهم واستنبطوه من نظرهم وتجربتهم، وهم مع هذا كله عاجزون عن الإتيان
بقانون كافٍ وافٍ يضبط مصالح البشر في معاملاتهم فحسب، بل نراهم مع أخذهم
ببعض ما استنبطه علماء الإسلام من القرآن العزيز والسنة النبوية لا يستقيمون على
قانون مدة من الزمان إلا ويرجعون عن كثير من أحكامه ومسائله، ويستبدلون بها
غيرها مما يظهر لهم أنها خير منها، ولو أخذوا بأصول الشريعة الإسلامية وراعوا
قواعدها العامة لوجدوا فيها ما يطلبون، ونالوا منها ما يرغبون. وإن كان كثير من
أهلها عن ذلك غافلون.
فهل من المعهود في البشر والمألوف من عادهم أن يأتي بمثل هذه الشريعة أو
بما هو دونها رجل أمي نشأ وتربى بين الأميين، فلم يقرأ شيئًا من العلم على أحد
من الناس، ولا اطلع على سير الأمم السالفين؟ وقد أشار القرآن إلى ذلك فيما
تحدى به الناس بقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) بناء على
أن المراد بالمِثل: النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد تقرير المعجزة على أكمل وجه، وإلا فقد عجز عن الإتيان بالسورة القارئون والكاتبون، والناس كلهم
أجمعون.
فإن قلت: أراك قد جعلت القرآن هو الأصل في أحكام الشريعة كلها، وهو إن
كان مبينًا لجميع ما يجب اعتقاده في الدين ولأصول التهذيب، فليس مبينًا لجميع
أحكام العبادات والمعاملات التي تدور عليها مصالح البشر، بل أكثر هذين القسمين
قد أخذ من السنة واستنباط الأئمة، أقول في جوابك: إن القرآن أصل السنة وينبوع
الاستنباط، وإليه يرجع الدين كله، وجميع ما فاض على لسان النبي صلى الله عليه
وسلم مستمد منه، وكل هاتيك الأنوار العلمية مقتبسة من شمسه المضيئة، ولقد كان
يفهم منه مالا يفهمه سواه، ولا ريب أن له طريقًا في الأخذ منه غير الطرق
المعروفة عند العلماء، وهو فيها على بينة من ربه، ومعصوم من الخطأ في الفهم
والأداء لها، قال تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ
اللَّهُ} (النساء: 105) وقال تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى} (النجم: 3-4) وربما كان ذلك الطريق هو الإلهام، وهو غير تعليم
الملَك المعروف، وقد صرح الأئمة وأهل الأصول بأن السنة مبينة للقرآن وشارحه
له، وقد انتهر سيدنا عمر رضي الله عنه مَن تكلم في حضرته كلامًا رغب فيه عن
سماع السنة اكتفاءً بالقرآن، واستبان منه معرفة الصلوات الخمس من القرآن، فكان
جوابه العي والحصر، وإذا تسنَّى لفهمه تناول كونها خمسًا من نحو قوله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: 78)
ومن قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: 17-18) فمن أين يتسنى له معرفة
كون الصبح ركعتين، والمغرب ثلاثًا والباقيات أربعًا أربعًا؟ وقد أرشد القرآن
إلى اتباع الرسول، واتباع سبيل المؤمنين، وإلى استنباط أولي العلم، وهذه هي
القواعد الثلاث التي يتفرع منها كل ما لم يؤخذ مباشرة من القرآن من أحكام الدين،
وظاهره أن المراد بسبيل المؤمنين هو ما يتفق أهل الاجتهاد والنظر الصحيح منهم
على أن فيه مصلحة أو درء مفسدة، وهو المسمى في الاصطلاح الأصولي
بالإجماع، وللعلماء في الاستنباط من القرآن طرقًا دقيقة المسلك، مَن تأمل فيها لم
يستبعد رجوع أمهات الأحكام إليه بلا واسطة، وذلك كاستنباطهم قاعدة (إن وكيل
الوكيل بإذن الموكل وكيل للموكل لا ينعزل بعزل الوكيل) من قوله تعالى في أهل
القرية: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} (يس: 14) حيث أسند تعالى الإرسال إليه،
وإنما كان من سيدنا عيسى -عليه الصلاة والسلام - بإذنه.
ومَن تأمل ما يتبع هذه القاعدة المستنبطة من هذه الآية من الأحكام، وما تفرع
عنها من المسائل التي لم تكن تخطر -عند تلاوتها- بالبال لم يستبعد كون جميع
الشريعة راجعة إلى القرآن، وكون السنة مستمدة من بحر كتاب الله الذي لم يفرط
فيه من شيء يتعلق بمهمات الدين، لا سيما بعد العلم بأن لمن أنزل عليه فهم خاص
بمراد الله منه، والله بكل شيء عليم. اهـ باختصار.
ولا ريب أن معجزة العلم من الأمي في مجموع الكتاب والسنة أظهر منها في
الكتاب وحده، سواء كانت السنة مبينة للكتاب فحسب، أم كان فيها مع البيان زيادة
علم سكت عنه القرآن إثباتًا ونفيًا، تفصيلاً وإجمالاً، بحيث لا يستند إليه إلا بالأمر
العام بطاعة الرسول واتباعه.
أما الخلاف في جواز الكرامات ووقوعها، فليس من أصول الدين وقواعده
الاعتقادية، ولذلك لم يكفر العلماء الأئمة من أنكرها، وهم المعتزلة والأستاذ أبو
إسحاق الإسفرايني والعلامة الحليمي من أكابر علماء أهل السنة، قال في (المواقف)
وشرحه ما نصه:
(المقصد التاسع: في كرامات الأولياء وأنها جائزة عندنا خلافًا لمن منع
جواز الخوارق (واقعة خلافًا للأستاذ أبي إسحاق والحليمي منا، وغير أبي الحسين
من المعتزلة) قال الإمام الرازي في الأربعين: المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء
ووافقهم الأستاذ أبو إسحاق منا، وأكثر أصحابنا يثبتونها، وبه قال أبو الحسين
البصري من المعتزلة. اهـ ملخصًا بحروفه.
وأما حجج المنكرين فهي خمس أوردها التاج السبكي في الطبقات الكبرى
وأجاب عنها، واستدل بعد ذلك على الإثبات بحجج خمس ترجع إلى اثنتين،
وسنبين ذلك في العدد الآتي، إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/417)
الكاتب: أبو حامد الغزالي
__________
حقوق الأخوة
(4)
ومن حق الأخ على أخيه وصديقه في اللسان أن يسكت عن إفشاء سره الذي
استودعه إياه، وله أن ينكره وإن كان كاذبًا، فليس الصدق واجبًا في كل مقام، فإنه
كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب، فله أن
يفعل ذلك في حق أخيه [1] فإن أخاه نازل منزلته، وهما شخص واحد لا يختلفان إلا
بالبدن، هذه حقيقة الأخوة، وكذلك لا يكون بالعمل بين يديه مرائيًا وخارجًا عن
أعمال السر إلى أعمال العلانية، فإن معرفة أخيه لعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق،
وقد قال عليه السلام: من ستر عورة أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة [2] وفي
خبر آخر: فكأنما أحيا موءودة. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وقال عليه
السلام: إذا حدّث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة [3] . وقال: المجالس بالأمانة إلا
ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام،
ومجلس يستحل فيه مال من غير حله [4] . وقال صلى الله عليه وسلم: المتجالسان
بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على الآخر ما يكره (هو مرفوعًا ضعيف،
مرسلاً جيد) وقيل لبعض الأدباء: كيف حفظك للسر؟ قال: أنا قبره، وقد قيل:
(صدورالأحرار قبور الأسرار) ، وقيل: إن قلب الأحمق في فيهِ، ولسان العاقل
في قلبه، أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري،
فمن ههنا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم، بل عن مشاهدتهم. وقد قيل
لآخر: كيف تحفظ السر؟ قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، وقال
آخر: أستره، وأستر أني أستره، وعَبَّر عنه ابن المعتز فقال:
ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه ... فأودعته صدري فكان له قبرًا
وقال آخر وأراد الزيادة عليه:
وما السر في قلبي كثاوٍ بقبره ... فإني أرى المقبور ينتظر النشرا
ولكنني أنساه حتى كأنني ... بما كان منه لم أُحط ساعة خُبرا
ولو جاز كتم السر بيني وبينه ... عن السر والأحشاء لم أعلم السرا
وأفشى بعضهم سرًّا له إلى أخيه ثم قال له: حفظت؟ فقال: بل نسيت، وكان
أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه، ثم دس عليه من
يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيرًا أو كتم سرك فاصحبه، وقيل لأبي يزيد:
مَن أصحبُ مِن الناس؟ قال: مَن يعلم مِنك كما يعلم الله، ثم يستر عليك كما يستر
الله. وقال ذو النون: لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصومًا، ومن
أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة
كلها، وقال بعض الحكماء: لا تصحب مَن يتغير عليك عند أربع: عند غضبه
ورضاه، وعند طمعه وهواه، بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتًا على
اختلاف هذه الأحوال، ولذلك قيل:
وترى الكريم إذا تصرم وصله ... يُخفي القبيح ويُظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضى وصله ... يُخفي الجميل ويُظهر البهتانا
وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل (يعني عمر) يقدمك على
الأشياخ، فاحفظ عني خمسًا: لا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا يجربن
عليك كذبًا، ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، فقال الشعبي: كل
كلمة من هذه الخمس خير من ألف.
ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك، قال ابن
عباس: لا تُمارِ سفيهًا فيؤذيك، ولا حليمًا فيقليك، وقال صلى الله عليه وسلم: (من
ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتًا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو
محق بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة) (حسنه الترمذي) هذا مع أن تركه مبطلاً
واجب، وقد جعل ثواب النفل أعظم؛ لأن السكوت على الحق أشد على النفس من
السكوت على الباطل، وإنما الأجر على قدر النصب، وأشد الأسباب لإثارة نار
الحقد بين الإخوان المماراة والمناقشة؛ فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التناطع يقع
أولاً بالآراء، ثم بالأقوال، ثم بالأبدان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تدابروا،
ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو
المسلم، لا يظلمه، ولا يحرمه، ولا يخذله، بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه
المسلم [5] . وأشد الاحتقار المماراة، فإن من رد على غيره كلامه فقد نسبه إلى الجهل
والحمق، أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه، وكل ذلك استحقار
وإيغار للصدر وإيحاش، وفي حديث أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى، فغضب وقال: ذروا المراء لقلة خيره،
وذروا المراء فإن نفعه قليل، وإنه يهيج العداوة بين الإخوان [6] . وقال بعض السلف:
مَن لاحى (خاصم) الإخوان وماراهم، قلَّت مروءته وذهبت كرامته وقال عبد الله
بن الحسن: إياك ومماراة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم، وقال
بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من
ظفر به منهم، وكثرة المماراة توجب التضييع والقطيعة وتورث العداوة، وقد قال
الحسن: لا تَشْتَرِ عداوة رجل بمودة ألف رجل.
وعلى الجملة: فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بمزيد العقل والفضل
واحتقار المردود عليه بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار، والإيذاء
والشتم بالحمق والجهل [7] ولا معنى للمعاداة إلا هذا، فكيف تضامَّه الأخوة
والمصافاة، فقد روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمارِ أخاك
ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه (رواه الترمذي بسند ضعيف) وقال عليه
السلام إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بَسطَُ وَجهٍ وحُسْنُ خُلُقٍ
(حسنه أبو يعلى، وصححه الحاكم، وضعفه ابن عدي) وقد انتهى السلف
في الحذر من المماراة، والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أيضًا،
وقالوا: إذا قلت لأخيك: قم، فقال: إلى أين؟ فلا تصحبه، وقالوا: بل ينبغي أن
يقوم ولا يسأل، وقال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في
النوائب، فأقول: أعطني من مالك، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته
ذات يوم، فقلت: أحتاج إلى شيء، فقال: كم تريد؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي،
وقال آخر: إذا طلبت من أخيك مالاً، فقال: ماذا تصنع به؟ فقد ترك حق الإخاء،
واعلم أن قِوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة، قال أبو عثمان الحيري:
موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم، وهو كما قال. اهـ بتصرف
نقول: إن بُعدنا عن أخلاق ديننا وآدابه، صَيَّر سيرة سلفِنا في نظرنا من
الأعاجيب التي لا تكاد تصدق، وأين الذين يُنسَبون للإسلام اليوم؟ وأحدهم يعادي
أخاه في النسب، بل يقتل الأم والأب لأجل قليل من الحُطام - من أولئك الذين كانت
(الجامعة الإسلامية) كافية عندهم لأن يلقي أحدهم كيسه للآخر يأخذ منه ما شاء،
فلنرجع إلى الآداب، ولنُرَبِّ أولادنا عليها؛ يرجع إلينا مجد آبائنا الأولين، وإلا فإن
الأماني ودعوى الإسلام لا تغني عنا شيئًا، والسلام.
__________
(1) الكذب مفسدة من أضر المفاسد، والقاعدة الشرعية العقلية هي: (ارتكاب أخف الضررين عند تعارضهما) ومهما وجد إلى كتمان السر سبيلاً لا كذب فيه، وجب عليه سلوكه وحرم عليه الكذب.
(2) الحديث في الصحيحين بلفظ (من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة) ورواه غيرهما بألفاظ أخرى.
(3) أي التفاته بمنزلة استكتامه قولاً، والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي، واختلف في تصحيحه.
(4) رواه أبو داود وسكت عليه؛ فدل ذلك على حسنه عنده، وقال غيره: في سنده مجهول ومتكلم فيه.
(5) تقدم بعض هذا الحديث في نبذة الجزء الماضي بلفظ آخر، وكل رواياته في الصحاح.
(6) رواه الطبراني والديلمي وإسناده ضعيف.
(7) وهذا هو الفرق بين المماراة وبين المذاكرة بالحسنى ومراجعة القول لإظهار الحقيقة والاعتقاد بالإنصاف، وكل هذا من الفضائل التي لا يعرف قيمتها ويقدرها قدرها إلا الفضلاء، وقد قلت في أحد أخوافي أوحدهم من قصيدة طويلة:
يرنو بعين الانتقاد إن رأى ... صفا وإلا فبعيني الرضى
متى رأى فضلاً أذاع وروى ... وإن رأى ميلاًًً أجنّ وطوى
إن الذي يرضيه كل خلق ... منك خليق أن يعد في العدا
والخل من ينتقد الخلال كي ... يثني على الحسنى وينكر الفغا
بل هو مرآة يريك نورها ... منكسًا عنك الذي لست ترى.(2/422)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوثنية في الإسلام
جاءنا الكتاب الآتي من حضره الرحالة الشهير، والكاتب الفاضل السيد سيف
الدين اليمني نزيل سنكافور لهذا العهد فنشرناه برمته؛ لأن فيه عبرة لمن يعتبر،
وذكرى لمن يذَّكر وهو.
قال بعد رسوم المخاطبة:
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ولا زلتم في نعيم مقيم، لم أزل
كثير الإعجاب بما ترقمونه على صفحات (المنار) من النصائح المرشدة للمنهج
السوي والطريقة المثلى، وما توردونه من الحجج القاطعة الدامغة لشبه الملاحدة
المدلسين، أو الجهلة المغفلين وما جاءوا به مضادًّا للشريعة السمحاء من عند أنفسهم،
فإنهم استخدموا دقائق الحيل في هدم قواعد الإسلام {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30) حتى لقد أوهموا ضعاف العقول أنهم يحيون ويميتون، ويخلقون
ويرزقون، ولقد رأيت من بعض من تجله العوام أمورًا مضحكة يتلقاها عنه أقوام
من الأغبياء الأغنياء بالقبول على أنها شطحات من الكرامات، وأمور من وراء
طور العقول إلى غير ذلك مما يضيق نطاق الشرح عنه، وقد نشطني لرقم هذه
الكلمات الركيكة ما رأيته في جريدة المعلومات في أعدادها الأخيرة مما يصلح أن
يكون صدًا لما في (المنار) وهو نغمة جديدة ومظهر لم نعهده من تلك الجريدة.
فلنبتهل إلى المولى أن يجعل التوفيق لنا خير رفيق، ويكفينا جميعًا شر من يتعيشون
بترويج الترهات، وشر أنفسنا، وشر كل ذي شر، بمنّه وكرمه. على أن ما أشارت
إليه تلك الجريدة من شأن الموالد ليس أول مطر أصاب ذئب الفلاة. ولا أول أذان
أقيمت عليه الصلاة، وأن أمر البدع في الموالد والزيارات ومواسمها لخطب جلل،
سيما في البلاد الهندية، وعلى كثير من القبور وعلى سدنتها بالهند سيَّما بالممالك
الإسلامية أوقاف عظيمة تذهب غلتها الجسيمة طعمة لطغام مضرين للأنام، ولو
صرف ذلك في مدارس نافعة لكان فيه سداد من عوز، وقد شافهت بهذا الأمر
حضرة وقار الأمراء بهادر كبير وزراء الدولة النظامية بالهند، فلم يصادف قولي
قبولاً، ولقد جارى جهالُ مسلمي الهند مشركيها في كثير من العوائد الخسيسة،
فتراهم يسجدون للقبور وللدجالين كما يسجد مواطنوهم للأصنام، وقد شاهدت هذا
الأمر من عدد وفير وجم غفير، وأنكرت عليهم، فما كان جوابهم لي إلا قولهم:
ذلك وهابي ذو جدل، وقد رأيت بعض من يسمونه عالمًا يعتذر لهم ويقول: إنهم لم
يقصدوا السجود وإنما قصدوا تعفير الجباه ولثم التراب و ... ومن عجيب ما رأيت
أني دخلت على رجل من مشايخ الطريق عندهم له جاه وصيت عظيم، وقد صف
تلامذته بحذائه، وكان منهم رجل لي معه بعض معرفة، وكنت أظن صلاحه، فما
هو إلا أن خروا لشيخهم ساجدين، فخرجت من عندهم مهرولاً محوقلاً، ولما لقيني
صاحبي عذلته على فعلته، فكان من جوابه قوله: إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم
لسرٍّ هو بعينه الآن موجود في الشيخ، وقد علمنا ذلك بالذوق، فنحن نسجد له كما
سجد الملائكة لآدم لئلا نطرد كما طرد إبليس، أما مَن يعتقد منهم وحدة الوجود
والإباحة إلى غير ذلك فهم كثير، وليس اعتقاد إحدى الطائفتين ببعيد من اعتقاد
الأخرى، أي أهل الأصنام وأرباب الضريح.
وفي شرقي الهند أي ما بين مدراس ومليبار كثير من المشاهد، وهي عبارة عن
بناء يبنونه على اسم شخص مشهور، ثم يزورونه ويقيمون له سدنة، وينذرون له،
ويعملون له موسمًا، ويبنون له هيكلاً من خشب مزخرف على نحو هياكل
الأصنام، ثم يطوفون به وقت الموسم بالنيران والزمر والطبول، كما يطوف
المشركون بأصنامهم حذو النعل بالنعل، وبسنقافور منها بعض أبنية، ويسجدون لها،
ويوقدون عليها السرج ليلاً ونهارًا كما يفعل الوثنيون، وترى المعظَّم عندهم من
يختلق لهم رؤيا كاذبة في شأن تلك المشاهد، ويكثر الاعتكاف عندها،
ويحرضهم على ما هم فيه، نعوذ بالله من ذلك.
ولما وصلت بلد ناقور الكائنة بين ناقفتام وكاريكال الفرنساوية (محل بشرقي
الهند) وجدت هناك مسجدًا كبيرًا يقيم به طوائف من أهل الكسل بجوار قبر شخص
يسمونه شاه الحميد - إن سمح لي الزمان شرحت لكم شيء من أخباره - وقد
أوقدوا على ذلك القبر سرجًا كثيرة عديدة نهارًا، وبقربه رجال ونساء كثير بين
راكع وساجد، بعضهم من جهلة المسلمين، وبعضهم وثنيون، والسدنة يمسحونهم
بالدهن من تلك السرج، وينفضون على رؤوسهم ووجوههم الغبار بالمكانس التي
يكنسون بها ذلك المكان، فوقفت على مقربة من أولئك القيام، فأتى إليّ أحد السدنة
ليوسخ ثيابي بالدهن، فزجرته، فقال لي: ألست زائرًا؟ قلت: لا، بل متفرج،
فقال لي: ما مذهبك؟ قلت: الإسلام، فهز رأسه وقال: وهابي، وكان ناظر ذلك
المسجد قريبًا، فبصر بي وبنكوص السادن عني، فجاء واستفهم منه، وكان الرئيس
يحسن من العربية مقدار ما أحسن من الهندية، فاستفهمني فأخبرته أن ما يعملون
مضاد للشريعة السمحة، فأخذ بيدي وقال لي: افقه، ليس المقصود إلا جمع
الربيات، وبما ترى من الوسائط نستغل سنويًّا أكثر من مائة ألف روبية، وما
نبالي بما هدمنا إذا حصلنا …
وأمثال هذا كثير، والمحذر معدوم خوفًا من نفرة العوام، أو لأجل حظ من
الحطام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
في 15 ربيع أول سنة 1317هـ
__________(2/425)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقسيم أوربا الجديد
ذكرت (الحاضرة) الغرَّاء تحت هذا العنوان عن بعض الجرائد الأوروبية أن
سفير ألمانيا في باريز ذاكر الموسيو دلكاسة ناظر خارجية فرنسا بأن الإمبراطور
غليوم يرى أن الخطر الذي يتهدد السلم إنما يجيء من طمع إنكلترا وربما تتبعها
الولايات المتحدة، ثم قال: وظهر للإمبراطور أنه لا بد في إلزام إنكلترا باحترام بقية
الملل، وكفالة السلم من إجراء تقييم جديد للممالك الأوربية على قاعدة معقولة
المعنى، وهي أن تفسخ المحالفة الثلاثية وتمحى من لوح الوجود، وتتآلف الدول
على أساس طبيعي بحسب جنسيتها الأصلية، بين صقالبة وألمان ولاتين، فيكون
جميع شعوب الصقالبة تحت حكم دولة واحدة من جنسهم، وهكذا الألمان واللاتينيون،
ويكون فسخ عقدة التحالف الثلاثي في مدة غير بعيدة، نهايتها انتقال الإمبراطور
فرنسو جوزف إمبراطور النمسا بالموت، حيث توالت عليه المصائب، وطعن في
السن، وحينئذ ينتقض ملك النمسا والمجر حيث كانت هذه السلطنة مؤلفة من
عناصر شتى، مختلفي الأجناس والمذاهب، لا يفترون عن معاركة بعضهم بعضًا،
ويتم ذلك التقويض لملك النمسا بدون إزعاج، فتنخرط مملكة النمسا والولايات التي
سكانها من الألمان في سلك الممالك الجرمانية المتحدة وتضاف لها مملكة هولندا
والولايات الفلمنكية التابعة لمملكة البلجيك فتُمْحى دولتا هولندا والبلجيك من لوح
الوجود، وتستقل الروسية بجميع مملكة بولونيا ومملكة ترانسيلوانية وبوكوين، ثم
تستولي على الجبل الأسود فالصرب فرومانيا، وتستأثر فرنسا ببلاد والونيه
وولايات البلجيك التي سكانها يتكلمون باللسان الفرنسوي، كمداين لياج ومونس
وشارلروا وغيرها، وتتألف منها الممالك المتحدة اللاتينية بانضمام إيطاليا وأسبانيا
والبرتغال إليها، وبهذه الصورة تتألف ثلاث دول متحدة الجنس من الصقالبة والألمان
واللاتينيين، فتربطها روابط وثيقة العُرى قادرة بالتئامها على إلزام إنكلترا بحفظ
السلم.
قال الراوي: فلما أتم السفير كلامه، هتف جناب مسيو دلكاسي وزير خارجية
فرنسا قائلاً: ولكن ما القول في ولايتي الإلزاس واللورين، فأجابه السفير قائلاً:
إنني مأذون بأن أعلمكم أنه لما كان تشكيل الأمم وتقسيمها مؤسسًا على قاعدة الجنسية،
فلا يخطر ببالنا أن نرجع لكم الإلزاس، حيث كانت مملكة ألمانية يسكنها الألمان،
ولكن لكم ولاية اللورين، وتضيفون إليها مملكة لوكسانبورغ المتاخمة لولايات
البلجيك الفرنسوية، فتدخل في مشمولات حدودها طبعًا، ويرى متبوعي الأعظم أن
هذه المسألة من أدق المباحث التي شملها مشروعه، ولذلك لما كانت فرنسا حليفة
الروسية أراد أن تكون المذاكرة الأولى بباريز، ثم قال السفير: ويرى الإمبراطور
أنه لا يصعب إبراز هذا الغرض من القوة إلى الفعل بمجرد انتقال إمبراطور النمسا
كما هو في الحسبان، وبعد تأسيس دول أوروبا على هذا الأساس - أساس الوفاق
الصادق - يمكن إلغاء التجهيزات الحربية المهلكة مع إجراء الطرق السياسية
واستعمال قوة النفوذ في جميع أصقاع العالم سواء كان ذلك في آسيا أو في أفريقيا
لصد الأطماع وكبح الغوائل التي تظهر في الوجود؛ فيسود بذلك العدل، ويرتفع
شأن الحرية بين الأقوام، وتتوطد أركان السلم العام.
هذه خلاصة ما فاتح به سفيرُ ألمانيا جنابَ وزير خارجية فرنسا بالنيابة عن
متبوعه الإمبراطور، وعليه فيكون جناب مسيو دلكاسي قد توجه لعاصمة الروسية
على حين غفلة لمذاكرة رجال دولة القيصر حليف فرنسا في هذا الشأن، ويقال: إنه
وجد نفس جلالة القيصر مرتاحة كل الارتياح لموافقة ابن خالته إمبراطور ألمانيا في
هذا الرأي، وإن الدول الثلاث العظام يتذاكرون الآن في ما جادت به قريحة غليوم
الثاني من الرأي الخطير. اهـ
__________(2/428)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نجاح الجمعيات الإسلامية
يسر كل مسلم وكل إنسان يحب الفضائل وترقي أبناء نوعه ما نالته جمعية
(شمس الإسلام) وجمعية (مكارم الأخلاق) من الترقي والانتشار، أما الأولى فقد
كان احتفالها الباهر بعيد جلوس مولانا السلطان الأعظم - نصره الله تعالى - سببًا
في زيادة الإقبال عليها وطيران صيتها، ومن توفيق الله تعالى لها على حداثة
نشأتها في هذه الديار أن حضرة الفاضل الشيخ محمد نور مؤسس المدرسة
التحضيرية المشهورة وأحد أعضاء الجمعية قد تنازل لها عن هذه المدرسة بجميع
أدواتها، وتلامذتها ثلاثمائة ونيف، فنقلت المدرسة من البغالة إلى محل الجمعية في
أول شارع درب الجماميز، وقد شرع أعضاء إدارتها ومنهم كاتب هذه السطور بتنظيم
شؤونها، وجعل التربية والتعليم فيها على منهاج الدين وسننه القويمة مع عدم
الإخلال بما يقتضيه سير المدارس الأميرية، وعزمت الجمعية على إنشاء مدرسة
أخرى لتعليم البنات، وكأنكم بالعمل قد ظهر وبهر بفضل الله وتوفيقه.
قد ساء هذا النجاح الباهر أعداء الإسلام من المارقين والطغام فحاولوا إطفاء
نور الله بأفواههم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) ، أشاع
أصحاب الجرائد الضلالية الذين تأبى النزاهة ذكر أسمائهم، أو أسماء
جرائدهم، أن الجمعية لا ترضي الحضرة السلطانية، فقالوا كذبًا وخلقوا إفكًا، وزعموا أنه قد كان ما لم يكن، وحسبنا أن الجم الغفير وفي مقدمتهم فضيلة شيخ
الأزهر وسعادة محافظ العاصمة يعلمون أن ما قيل كذب إن كان قد بلغهم، ويكفينا أن
(المؤيد) أصدق الجرائد في حب الدولة قد ذكر خبر الاحتفال كما شاهده
صاحبه الفاضل ونشر معظم خطبة منشئ هذه المجلة، وفيها الثناء على مولانا الخليفة
نثرًا ونظمًا، ولسنا نقصد بهذه الكلمات الرد على الجرائد الضلالية؛ لأنهم أقل من أن
يرد عليهم، ولكن نحب أن يعلموا أن الجمعية لم تحتفل بعيد الجلوس، وتجتهد في خدمة الأمة والملة لأجل جزاء تتوقعه من مولانا السلطان فيهمها سعايتهم
وأكاذيبهم، وإنما هي مندفعة إلى خدمة الملة بدافع الواجب الديني، وابتغاء مرضاة
الله تعالى.
وأما جمعية مكارم الأخلاق، فقد زرتها في اجتماعيها الأخيرين، وكنت شغلت
عن زيارتها طائفة من الزمن، وفي الاجتماع الأخير اقترح عليّ أن أخطب، فألقيت
خطبة ارتجالية في بيان ما يجب علينا أن نعمل، وهو تهذيب أنفسنا ونسائنا،
وتربية بناتنا وأبنائنا، وبينت ما يجب الأخذ به في ذلك، وأما الاجتماع الذي قبله
فقد افتتحه رئيس الجمعية المنطيق الذليق، واللسن المفوه بتلك الخطبة المؤثرة التي
يقابل فيها بين الشرقي والغربي، ويصف فيها المنكرات الشائعة وصفًا بليغًا، وهي
الخطبة التي كلما كررها الأستاذ تحلو في الأسماع، وترتاح لها الطباع، ثم تلاه
الأستاذ الواعظ، الشهير بالبراعة في التصوف الشيخ علي أبو النور الجربي،
فخطب خطبة مطولة، استغرقت نحو ساعة من الزمن، جاء فيها بضروب القول
في الوعظ والتذكير من حث وتنفير، وترغيب وترهيب، وتوحيد وأخلاق، وآداب
ورقاق، وأعطى الخطابة حقها من الإشارات والتمثيل، والمحاكاة والتخييل، حتى
أدهش الحاضرين، فنسأل الله تعالى الثبات ودوام الارتقاء لهذه الجمعيات؛ ليعم
نفعها إن شاء الله تعالى.
__________(2/430)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع الجيش العثماني)
قد اشتهرت عساكر المشاة العثمانية في كل زمان بقوة مقاومتها، وبشدة بأسها
في الهجوم على عدوها، فإذا هجمت عليه بأطراف الحراب كانت كصواعق آدمية
لا يتأتى دفع انصبابها إلا بقوةٍ تفوقها بكثير، وإذا دافعت عن حصن ترى العسكري
منها ملازمًا على الدوام لموقفه، كالصخرة ثباتًا ورسوخًا.
عدة العساكر المشاة العثمانية هي أبسط أنواع العدد وأكثرها نفعًا، فملابسها
هي مؤلفة من سترة وسراويل (بنطلون) ورباط الساق، وكلها باللون الأزرق القاتم
وطربوش، ويُستثنى منهم أورط الحرس الشاهاني؛ فإن لباسهم السترة الزواوية
(زواوة: قبيلة إفريقية تزيَّت بزيها الجنود الفرنساوية) والسراويل، ولا يمضي زمن
كبير حتى تتسلح المشاة ببنادق (موزر) ذات الطلقات السريعة التي قطر الواحدة
منها تسعة ملليمتر ونصف، والتي قررت الحكومة العثمانية في سنة 1887م
استعمالها بدلاً من بنادق (مرتيني هنري) وبنادق (رومنتون) التي كانت مستعملة إلى
ذلك الحين، وقد أبرمت الحكومة العثمانية مع شركة (موزر) اتفاقًا مُؤَدّاه تعهد هذه
الشركة بأن تورد لهذه الحكومة خمسمائة ألف بندقية من ذات الطلقات العديدة
للمشاة، واثنين وخمسين ألف منها للفرسان، وبدئ بتنفيذ هذا الاتفاق في سنة
1881م، وقد قاربت أقساط التسليم أن تتم.
إن الفرسان العثمانية تفوق كثيرًا الفرسان الأوروبية؛ بسبب أنها يمكن أخذها
من أمة معتادة من مهدها على ركوب الخيل، على حين أن هؤلاء العساكر في
أوروبا حيث يؤخذون من كل طبقة يكثر أخذهم من طبقات العمال والزراع كما
يؤخذون من الطبقات المعتادة على الركوب، ولما كانت الخدمة العسكرية للفرسان
أربع سنين لا ثلاثًا كما في فرنسا وألمانيا، كان في العساكر الفرسان العثمانية بسبب
طول مدة الخدمة مزايا لا ضرورة لإيضاحها؛ لأنها غنية عن ذلك، وقانون التعليم
العسكري وإن غير تغييرًا تامًا، الأحوال التي يجب أن تكون عليها تمرينات
الفرسان إلا أنه لم يقلل أهمية هذا القسم من الجيش بطريقة ما.
لم يبق موجب لاستعمال حشد الجيوش في ساحة القتال وللجهات الكبرى
للجيش برمته مع وجود البنادق ذات الطلقات السريعة والمدافع البعيدة المرمى، أما
الفرسان فهم عيون الجيش، وستاره الذي يختفي وراءه أثناء إجراء حركاته،
وحينئذ فاللازم في تشكيل الجيش تشكيلاً صحيحًا أن يكون فيه عدد عظيم من
الفرسان، وعدد الفرسان العثمانية خمسة وثلاثون آلايًا، كل منها مؤلف من خمس
أورط، وهذا العدد ربما ظهر للقارئ قليلاً بالنسبة لحالة تركيا الحربية، ولكن
جلالة السلطان قد وجد في حب رعاياه المخلصين لأوطانهم طريقة في مضاعفة هذا
العدد، بل في جعله ثلاثة أمثاله في زمن الحرب، وسلاح عساكر الفرسان العثمانية
يتركب من سيوف منحنية قليلاً، وبنادق صغيرة القطر، وبعض الآلايات لها رماح،
والمظنون أنها ستوزع على جميع العساكر الفرسان، وكسوة هؤلاء العساكر تتألف
من سترة بسيطة بصف واحد من الأزرار، وسراويل سنجابي اللون، ونعال
بروسيه، أما خيلهم فهي في الغالب من الجنس التركي الفارسي، أو العربي
الهجين (المختلط النسب) وهذه هي الخيل التي يغلب فيها القصر والضمور،
والمزاج العصبي، ومرونة السوق، والصبر على المشاق، وهي عظيمة الإدراك
والانقياد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/431)
17 جمادى الأولى - 1317هـ
23 سبتمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ماذا نعمل؟
كثر الخوض في هذه الأيام في شؤون المسلمين والإسلام، فكتب في الجرائد
الكاتبون، وخطب في محافل الجمعيات الخاطبون، أما الجرائد فقد غلب على كل
منها ما يناسب وجهتها ويوافق مشارب ذويها، و (المنار) لم يختلف رأيه في هذه
الأثناء - أثناء خوض الجرائد في مباحث الجامعة الإسلامية - عن رأيه الأول الذي
قام يدعو إليه منذ أنشئ، وهو أنه لا يعود للإسلام مجده ويرجع إلى أهله عزهم إلا بتعميم التعليم الصحيح والتربية العملية على ما يرشد إليه هدي الدين الذي كان عليه السلف الصالح، وأن هذين الأمرين يتوقفان على أمور كثيرة منها إزالة
البدع، والرجوع إلى كتب الأئمة الأولين في اللغة والدين، والأخذ بكتب أهل هذا
العصر في العلوم الدنيوية، وقد بيّنا في السنة الماضية أن الإصلاح المطلوب لا بد
لتعميمه من وجود جمعية إسلامية عامة، يكون مقرها في مكة المكرمة، ولها شُعَب
في سائر البلاد الإسلامية، وبينا وظيفة هذه الجمعية وأعمالها، مبادئها وغايتها،
وقلنا: إن الرجاء فيها ضعيف الآن، ولكن لا بد أن توجد متى استعدت الأمة
لإيجادها، وزالت الموانع التي تحول دونه، ومن الأسف أن هذا الفكر قد لعب في
الأذهان، فتلاعبت به الخيالات حتى أبرزته في صورة غريبة، فطفق الكُتََََََّاب
يطلبون إنشاء مؤتمر إسلامي في الأستانة العلية، وزعموا أن مجد الإسلام وحياته
تناط بهذا المؤتمر، ولا يقول هذا القول إلا من انفصل عن عالم الوجود، فلم يعلم ما
يجوز وما لا يجوز، وزَجَّ بنفسه في عالم خيالي يجوّز المحال، ويصور نيل ما
لا ينال، ولا حاجة للاستدلال على أن إنشاء المؤتمر في الأستانة لا يكون، ولئن
كان فإنه يضر ولا ينفع، وإنما نقول شيئًا واحدًا، وهو أن سيدنا ومولانا السلطان
الأعظم لا يرضى بإنشاء هذا المؤتمر في عاصمته تحت رئاسته، ومما يصح أن
يستدل به على هذا عدم وجود دعوة جرائد الأستانة إليه واستحسانها له، مع علمها بما
كتبت الجرائد الأخرى فيه، وأسأل حضرة الكاتب الذي ما فتئ ينوّه به ويشيد، ويبدئ
القول ويعيد، أن يكتب مقالة في المسألة لإحدى جرائد الأستانة المعتبرة؛ ليعلم ما يكون من شأنها فيها.
وأما الجمعيات، فالمشهور منها في مصر ثنتان: جمعية (شمس الإسلام)
وجمعية (مكارم الأخلاق) وهناك جمعيات أخرى تقتضي حالها عدم التنويه بها،
فأما جمعية (شمس الإسلام) فقد ابتدأت بالتربية الصحيحة والتعليم القويم، فضمت
إليها المدرسة التحضيرية التي أسسها أحد أعضائها كما ذكرنا هذا من قبل، عهدت
إلى كاتب هذه السطور بقراءة درس ديني عام للأعضاء (انظر باب التربية
والتعليم) وأما جمعية (مكارم الأخلاق) فلم تزل وعظيّة محضة، يحشر إليها
الناس في كل ليلة جمعة يسمعون الخطب التي تشرح لهم مجد الإسلام الغابر،
وهوان أهله الحاضر، وتزجرهم عما فشا فيهم من الفواحش والمنكرات، وتحثهم
على عمل البر والمحافظة على الصلوات، لا يقال: إن هذه الأمور معلومة للجمهور،
فالكلام فيها لا يفيد غير التحبيذ لذي الفصاحة، والتأفف من صاحب العي والفهاهة،
فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وللخطابة شأن في نفوس السامعين، نعم لا مندوحة
لمن يتكلم في أدواء الإسلام عن شرح العلاج الحقيقي العام، وقول أولئك الخطباء:
عليكم بالاتحاد والإخاء، واعتصموا بالوفاق والوئام، واحذروا من التنازع والخصام،
وما أشبه هذه الأقوال التي يلوكها كل قوَّال هي كلمات مجملة، وفي نظر الجمهور
كالمهملة؛ لأنها لا ترشد إلى عمل معروف، ولا تهدي إلى الوقاية من مصارع
الحتوف.
ذكرت في (المنار) الذي قبل هذا أنني خطبت القوم في تلك الجمعية
خطبة في التربية، وما حملني على إجابة دعوة الداعي إلى الخطابة إلا أن أحد
الخطباء تكلم عن فساد الأمة، وأطنب في شرح حال الفحش وتهتك النساء في الشرق
بعد انتشار الغربيين في بلاده، ثم قال: وأما علاج هذا البلاء ودواء هذه الأدواء
فكلكم تعرفونه، والصواب أنهم إنما يعرفون الداء الذي شرحه؛ لأنهم هم المتلبسون
به كما قال، ولو عرفوا الدواء لعرفوا أن فيه سعادتهم، ومن عرف معرفة صحيحة
أن في شيء ما سعادة له، فإن إرادته تبعثه للعمل به طبعًا كما بيناه في مقالة
(تأثير العلم في العمل) وقد أحببت أن أكتب ملخص ما بقي في ذهني من تلك
الخطبة إجابة لطلب من استحسنها، وهو:
(أيها الإخوان، تكلم الخطباء الأفاضل في أمراضنا الروحية، وأدوائنا
الاجتماعية، فلم يدعوا مقالاً لقائل، ولا مجالاً لجائل، مثلوا الداء للأنظار حتى كاد
يحس، وصوَّروه حتى تخيلت أنه يلمس، فبقي علينا أن نتكلم في العلاج، ونشرع له
أقرب منهاج (أشرع الطريق: بيِّنه) وليس من قصدي الخطابة وإنما أحب أن أقول
كلمات ثلاث أبين بها ماذا يجب علينا أن نعمله لإرجاع مجدنا، أثار هذه الكلمات في
نفسي قول الخطيب الثاني: (كلكم تعرفون الدواء) وربما يكون قالها لتوجيه
نفوسكم للبحث في هذه المسألة المهمة، أو لعدم إيقاعكم في وهدة اليأس ولا أخاله
يعتقد أن علاج الأمم. يأخذه الكافة من أَمَم (قرب) يصاب أحدنا بوجع في
إصبعه، أو يخرج دمل في عضو من أعضائه، فيحار هو والناس في معالجته،
فماذا عسى أن يقال في معالجة أمة عظيمة يزيد عديدها عن الثلاثمائة مليون، وقد مر
عليها ثلاثة عشر قرنًا ونيف، وتبوأت كل أرض، وتكلمت بلغات كثيرة،
وحكمت من أمم ودول متعددة، وطرأ عليها من البدع والأهواء ما لم يطرأ على
سواها، فهل يقال: إن إرجاع مجدها إليها يعرفه كل أحد؟ كلا، إن علاج مثل هذه
الأمة أمر كبير لا يعرفه إلا الحكماء والراسخون في العلم، وقليل ما هم، كتبنا وكتب
الكاتبون، وقلنا وقال آخرون , والبحث لم يزل في أوله، والجماهير لم تزل
تتخبط في دياجير الحيرة، وتهيم في أودية المشكلات، يقال لكم: عليكم بالإخاء،
عليكم بالاتحاد، وما أشبه هاتا، وهذا كلام إجمالي يخرج كل سامع له غير عالم بما
يُطلب منه، وما يجب أن يأخذ به، ولهذا أحببت أن أختصر القول بثلاث كلمات
ليعيها الواعون، ويعمل بها الموفقون، وهن بيان ما لما أجمله الخطباء والكتاب في
قولهم: إننا لا يرجع إلينا مجدنا إلا بالدين.
الكلمة الأولى: كيف نربي أنفسنا تربية دينية صحيحة؟ والثانية: كيف نربي
نساءنا؟ والثالثة: كيف نربي أولادنا؟ فهذه هي الفرق التي تتألف منها الأمة.
تربية الكبير أمر عسير جدًّا؛ لأن مناشئ العمل من العقائد والأخلاق والصفات
تكون راسخة فيه بالعمل يصعب اقتلاعها وانتزاعها، وبيان هذا أن الإنسان إذا
عمل عملاً يحدث لعمله أثر مخصوص في مركز مخصوص من دماغه، وكلما أعاد
العمل يقوى الأثر حتى يصير المركز العصبي هو الذي ينبه لذلك العمل ويزعج
الأعضاء لفعله كلما جاء وقته، أو عرض سببه، فيندفع الإنسان لفعله بلا رويّة ولا
تكلف، وهذا هو الذي يسمى الخُلُق والمَلَكة.
ثبت هذا التدقيق في الفلسفة الجديدة، ويشير إليه الناس بقولهم: العادة طبيعة
خامسة، الأعمال هي التي تطبع الملكات والأخلاق في النفوس، والأعمال التي
يندفع إليها المرء بطبيعته من غير تكلف إنما تنبعث عن الملكات والاعتقادات
الراسخة الممتزجة بالنفس، وهي التي عليها مدار السعادة والشقاء، لولا أن الإنسان
خُلِق قادرًا على التكلف بالعمل على خلاف ما يقتضيه خلقه وعادته لكانت تربية
الكبير متعذرة، ولاستحال أن يصلح من خلل أو يرجع عن زلل، ولكن العاقل إذا
ثبت عنده شرعًا أو عقلاً أن شيئًا مما اعتاده وتخلق به مضرٌّ له في دينه أو دنياه،
يمكنه أن يتكلف ترك العمل الذي ينشأ من تلك العادة أو الخلق، ويتكلف العمل
بضدها، وإذا واظب على هذ التكلف زمنًا طويلاً يضعف الخلق الأول، وينشأ له
خلق جديد، لا أنكر أنه لا يقدر على هذا العمل كل إنسان، لا يقدر عليه إلا أرباب
الفطرة الزاكية، والهمة العالية، والعزيمة الصادقة، ولابد من الاستعانة عليه
بأمرين، أحدهما كثرة المذاكرة في قبح القبيح الذي يريد تركه، وحسن الحسن الذي
يحاول استبداله به، وثانيهما أن يجعل بعض أصدقائه مهيمنًا ورقيبًا عليه، ويأذن له
بأن يذكره إذا نسي، ويؤنبه ويعنفه إذا أخل بما التزمه من ترك الرذيلة والتلبس
بالفضيلة، مَن يرضى منا أن يوصف بضعف الاستعداد الفطري للخير؟ من يرضى
أن يرمى بوهن العزيمة؟ من يرضى أن يغمز بقلة الهمة؟ لا يرضى أحد مِنَّا بهذه
المثالب، فعلى كل منا أن يجعل مرمى نظره، وقبلة عزيمته تهذيب نفسه وتزكيتها،
وإلحاقها بنفوس الكَمَلة، إن صح منك الهوى أرشدت للحيل، متى شرعنا في العمل
يفتح في وجهنا باب العلم بنفوسنا ومصالحها، فكلما أصلحنا شيئًا يلوح لنا غيره
فنشتغل بإصلاحه، وهذا هو معنى الحديث الشريف: من عمل بما علم ورثه الله
علم ما لم يعلم. يجب أن يبدأ كل منا بالرجوع عن كبائر ذنوبه، وبمعالجة أسوأ
أخلاقه، وهذه العظائم لا تخفى على أحد منا، الحلال بَيّن والحرام بَيّن، وإنما
يجهل الكثير من الناس الشبهات، ولا يتقي الشبهات إلا من اتقى الفواحش
والمنكرات.
(لها بقية)
__________(2/433)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(الدرس الأول)
قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) باتفاق الآراء انتداب هذا العاجز
منشئ (المنار) لإلقاء دروس دينية في الاجتماع العمومي الأسبوعي للجمعية،
فتلقيت أمر المجلس بالامتثال، بل أديت فرضًا عليّ لأمتي وملتي، وكان إلقاء
الدرس الأول في ليلة الاثنين الماضية، وبعد الفراغ منه اقترح عليّ وكيل الرئيس
أن أنشر ملخص هذه الدروس في (المنار) ليكون تذكرة للإخوان، ولينتفع به من
لم يحضره، لا سيما شُعَب الجمعية في خارج القاهرة، ورأيت الحاضرين ارتاحوا
لهذا الاقتراح، فتلقيته بالقبول، وهاؤم اقرءوا ملخص الدرس الأول.
(الدرس الأول - تمهيد ومقدمات)
ابتدأت بالبسملة والحمدلة والتصلية والدعاء، ثم قلت:
(1) الدين: لم يبق سمع لم يطرقه الكلام في الشكوى من حال الإسلام،
وأن علاج ما نحن فيه من البلاء المبين هو الأخذ بتعاليم الدين، مقتفين آثار
أسلافنا الأولين، فما هو الدين؟ عرَّف الدينَ علماؤنا بأنه وضع إلهي سائق
لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه نجاحهم في الحال وفلاحهم في المآل،
فهل ينطبق علينا هذا التعريف؟ هل نحن ناجحون في الدنيا؟ كلا إننا أمسينا وراء
جميع الأمم والشعوب، فاليهود الذين لا سلطة لهم يفوقوننا بالعلم والثروة
وارتباطهم بالإخاء المِلِّي، والوثنيون في الهند سابقون للمسلمين في الفنون
والصنائع، والأخذ بزمام الأحكام، ولقد كانت السيادة للمسلمين عليهم في كل
شيء مع كونهم أقل منهم عددًا، وإلى الآن لا يقدر الوثنيُّ على بلوغ شأو المسلم
إذا هو جاراه، ولو صرخ مسلم بمائة وثني لَوَلَّوا منه فِرَارًا ولَمُلِئوا منه رعبًا؛
بسبب ما بقي له من آثار وراثة أسلافه، من العجيب أنه لا يوجد شعب إسلامي
ناجح مع أن النجاح داخل في مفهوم دينه. عدم انطباق تعريف الدين علينا يدل
على أننا لسنا على الدين، لا أقصد بهذا أن كل من ينتمي للإسلام ليس على
الإسلام، وإنما أريد به ما تدل عليه المشاهدة من أن مجموع المسلمين منحرفون
عن تعاليم دينهم القويمة التي تؤدي بطبيعتها إلى النجاح، وتستلزم الفوز والفلاح،
كما وقع لأسلافنا الذين سبقونا بالإيمان.
صرَّح التعريف بأن الدين يوصل ذويه إلى سعادة الدنيا والآخرة، فعدم
وصولنا لإحدى السعادتين دليل على أننا لا نصل إلى الأخرى أيضًا؛ لأنه
ناشئ عن عدم أخذ الدين على وجهه الصحيح، القياس جلي ظاهر، وسنزيده
تفصيلاً عند الكلام على فروع العبادات والحكمة فيها، ككون الصلاة المَرضية
عند الله تعالى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكفوائد الزكاة الاجتماعية، وغير
ذلك (توسعنا بهذه المسألة في الدرس) من التعاليم الفاسدة الزائغة بيننا، قول
عامتنا وخاصتنا فينا وفي المخالفين لنا في الدين: لهم الدنيا ولنا الآخرة، وهذا
مخالف لصريح القرآن، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) فقد جعل الله الزينة والطيبات للمؤمنين
بالاستقلال، ولولا أن قال: {خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) لما
عُلِم أن غير المؤمن يستحق شيئًا منها، أليس من الجهل الفاضح أن نزعم أن
ديننا هو الذي قضى بحِرْمَانِنا من سعادة الدنيا، أي جناية على الدين أشد من
رجوع أهله به إلى ما هو أشبه بحالة الرهبانية الأولى من الإفراط في الزهادة
والخمول ومخالفة القرآن؟ إن الديانة الإسلامية وعزة الدنيا وسلطانها توأمان،
ارتفعا معًا وانْحطَّا معًا، ولا يمكن لنا أن نحفظ ديننا إلا بالثروة وبسطة العلم
والسلطان، وأن تلك التعاليم المخالفة لهذا المنهاج القويم هي التي أوقعتنا في
الرجز الأليم.
(2) التعليم: إنما يؤخذ الدين بالتعليم، كذلك تلقاه النبي عن الروح
الأمين، وكذلك تلقاه عنه الصحابة وهكذا، كان التعليم بالقول والعمل، ثم
صار بعد ذلك صناعة، والصناعات تقوى بترقي العمران، وتضعف بتدليه،
وقد ضعف عمراننا؛ فضعف تعليمنا حتى كاد يكون فهم الدين منه متعذرًا، إن
دين الإسلام هو دين الفطرة، وهو أسهل الأديان تعقلاً، وأقربها مثالاً،
وأسهلها على النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعثتُ بالحنيفية السمحة،
ليلها كنهارها، وكان الأعرابي يتعلم الدين من صاحبه في مجلس واحد، وإننا
نرى اليوم الذين يقدمون لتأدية امتحان التدريس في الأزهر، يخرج الكثير منهم
مجروحًا في العقائد والفقه والتفسير، ويكون قد قضى في الأزهر نحو عشرين
سنة ولم يفهم الدين، فإذا كان التعليم محصورًا في الطريقة الأزهرية، فمتى
يتأتى تعميمه بين المسلمين؟ ترون في الجرائد آنًا بعد آن خلقًا كثيرًا قد
دخلوا في الديانة الإسلامية، وأن سبب دخولهم فيها هو سهولتها وتعقل عقائدها
وأحكامها، سبب متفق عليه بين الجرائد الأوروبية والجرائد الإسلامية، هذا
وإن الدين لم يبق على سذاجته الأولى؛ لأن أحكامه امتزجت بمسائل الفنون
الحادثة في المِلَّة، ووجد في كتبه ما يتبرأ الدين منه، فما بالكم لو كان الدين
وأهله في هذا الزمن الذي اتصل به العالم بعضه ببعض على ما نعلم من حالهما
في النشأة الأولى.
(3) البصيرة في الدين: لا يؤدي الدين إلى غايتيه اللتين ذكرناهما ما لم
يكن الآخذون به على بصيرة فيه، فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه
وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:
108) ولا يكون الإنسان على بصيرة فيه إلا إذا كان موقنًا بعقائده لأخذها
ببراهينها، ومذعنًا بأن أحكامه وآدابه موافقة لمصلحته ومصلحة الأمة كلها
إذعانًا يمازج روحه، ويخالط وجدانه بحيث يصدق عليه قوله تعالى: {أَفَمَن
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) ولا يتناوله
الويل المشار إليه بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ} (الزمر: 22) العلم بالدين على هذا الوجه لا نصيب منه لأهل التقليد
الذين يعتقدون لأن قومهم اعتقدوا، ويعملون لأن أباهم أو شيخهم عمل، وقد
عاب الله تعالى في كتابه هذا الفريق من الناس في آيات كثيرة، فإن قيل: إنك
تحاول بهذا أن يكون كل فرد ولو أميًّا عالمًا دينه بالدليل والبرهان، وهذا لم
يحصله إلا القليل ممن انقطع للعلم الديني، فكيف يحصله بتعليمك حتى الصناع
والزراع؟ أقول: إن المنقطعين للعلم إنما يتناولون الدين من كتب يتوقف فهمها
على إتقان علوم وفنون كثيرة لا يتقنها إلا قليل منهم، لسوء أساليب التعليم،
بل إنهم أهملوا المهم منها، كالتفسير والأخلاق، وعلم النفس والاجتماع،
وتركوا تطبيق العلم على ما في الوجود، إذا أنا قرأت لكم العقائد بالبراهين
المنطقية فلا شك في أنه لا يستفيد منها إلا نفر قليل، ما لي وللقياس الاقتراني
والاستثنائي، ولبرهان التطبيق والخلف، أنا أحب أن أشرح المسائل بعبارة
يفهمها كل سامع، وأقيم عليها الأدلة الواضحة التي تتقبلها العقول، وتشربها
القلوب، وتسكن إليها النفوس بحيث يكون متناولها على نور من ربه، فلا
يرجع عنها ولو رجع جميع العالمين، وبهذا القدر يخرج من مضيق التقليد
المذموم الذي هو الأخذ بقول الغير بغير بصيرة.
(4) قواعد الدين: شرع الله الدين لتصحيح العقائد وتهذيب الأخلاق
وإصلاح الأعمال، فمقاصد علوم الدين ثلاثة، أما علم العقائد فخصصوا
مباحثه في ثلاث قواعد (1) ما يعتقد في الله تعالى و (2) ما يعتقد في الأنبياء
والرسل و (3) ما يعتقد تفصيلاً في عالم الغيب، أي ما جاء به الدين من
الأخبار التي لا تعرف إلا بالسمع، كوجود الملائكة والجنة والنار إلخ، يجب
الاعتقاد بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعُلِم من الدين بالضرورة
غير مختلف فيه، كوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والخمر، والحسد
والكبر، فمن كان لا يعتقد بهذه الأشياء لا يكون مسلمًا، وإنما قصروا علم
العقائد على القواعد الثلاث؛ لأن سائر ما يجب اعتقاده يبحث عنه في العلوم
التي تبين أحكامه بالتفصيل، وسيأتي كل شيء في محله إن شاء الله تعالى.
هذا مجمل الدرس ومن حضره يتذكر منه التفصيل، والله الهادي إلى سواء
السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/438)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون في روسيا
قدم على هذا القطر من عهد قريب العلامة الفاضل أحمد جان أفندي أحد كبار
علماء قزان من أعمال روسيا وقد اجتمعنا به فرأينا منه أفضل رجل، وأكمله علمًا
وعقلاً، وبصيرة ونبلاً، وذاكرناه في شؤون المسلمين في تلك البلاد، فعلمنا منه أن
حالهم أحسن من أحوال المسلمين في البلاد التي نعرفها بالخُبْر والخَبَر، وقد كان
صاحب جريدة (ثمرات الفنون) المفضال اجتمع به في بيروت قبل قدومه إلى هذه
الديار، واستعرف منه شؤون المسلمين في روسيا، وكتب في جريدته الغرَّاء
خلاصة ما اقتبسه منه في شأن النهضة العلمية، فرأينا أن نأخذ ذلك من (الثمرات)
نفسها، لا من حيث أخذت، اعترافًا لها بحق السبق، وحيث قد اعترفت هذه
الجريدة بأنها كتبت بعض ما استفادته من حضرة أحمد جان أفندي، واعترف هو
بذلك بعد اطلاعه عليها، فربما نزيد قرَّاءنا بيانًا في نبذة أخرى، قالت الجريدة:
(يبلغ اليوم عدد المسلمين في روسية عشرين مليونًا من الأنفس أو يزيدون،
وفي الجغرافية القديمة ثلاثة عشر مليونًا، وهم على جانب عظيم من التقوى وقوة
الإيمان، والتربية الحسنة، والغيرة والحمية، وقد شاهد البيروتيون أثناء الحج
السابق كثيرين منهم يتكلمون بلسان التتار، أي التركي القديم، فيهم عدد وافر من
العلماء يعرفون العربية كتابة وقراءة، ويتكلمون فيها بلسان فصيح، ويعرفون كذلك
التركية والفارسية، ولهم في ولاية أوفا من أعمال الروسية محكمة شرعية كبرى
هي مرجع المسلمين في جميع قضاياهم وشؤونهم الخاصة، فيها ثلاثة قضاة موظفين
من قبل الحكومة، راتب كل منهم في السنة ستمائة روبل (ريال) ومُفْتٍ واحد
وراتبه ضعفا ذلك، وهي تقيم في كل بلدة من البلاد التي يقطنها مسلمون إمامًا أو
إمامين ومؤذنًا يصلون بالناس في المساجد الصلوات الخمس والجُمَع والأعياد، وفي
كل جمعة يأمر الخطيب بالمعروف وينهى من المنكر، ويحض على التسابق في
الخيرات، والتعاون على البر والتقوى، وأكثرهم يمتثلون ذلك، ولهذا قلَّما تجد
مسلمًا في ملهى أو منتدى عمومي، بل ترى كلاًّ منهمكًا في شغله، فالتاجر في
تجارته، والصانع صناعته، والزارع في زراعته، وهلم جرًا، وأبغض الأشياء
إليهم تمضية الوقت عبثًا باللغو واللهو، ولهم في أكثر الولايات جمعية أو جمعيتان
تستدر الخيرات من أولي البر والإحسان، وتعين البائس الفقير، وللخاصة منهم
شغف في مطالعة الجرائد، خصوصًا الصادقة اللهجة، البعيدة عن الإطراء والمدح،
إذ يرونها أمرًا معيبًا مسقطًا للجرائد، مشينًا لها، قلَّما تجد امرأة في السوق، بل
يَقْررن في بيوتهن، ينظرن في شؤون منازلهن، وتربية أبنائهن، وللمسلمين لباس
خاص يمتازون به عن غيرهم، وأكثره من نسجهم، كالأجواخ والأصواف،
خصوصًا ألبسة الرأس والرجل، فإنهم لا يحتاجون في اصطناعهما إلى الأجانب قط.
ولهم في التجارة اليد الطولى، والقدح المعلَّى، سيما تجار قزان وقاسيم
وبنزه، ومنهم من يقيم في الصين ومنهم في الهند وبخارى والعجم والأستانة ومصر
وباريز ولندرا وبعض الثغور الأميركية والإيطالية، وهم مشهورون بالأمانة وحسن
المعاملة والبر، حتى إنه إذا عقد تاجران أو أكثر شركة تجارية يشترطون بادئ بدء
إنفاق الخمس من الربح أو أقل على المدرسة الفلانية أو غيرها من بيوت العلم،
وهي لعمري مزية حسنة امتاز بها التجار الروسيون على غيرهم، وللمثرين منهم
عدا ما تقدم ذكره مبرات جمة، كتأسيس المساجد والجوامع، وإشادة (كذا)
المدارس والمباني الخيرية وغيرها، وفي مدينة قزان وحدها 14 مسجدًا، وسكانها
المسلمون يبلغون نحو الخمسة والعشرين ألفًا، والحكومة الروسية تتداخل بالظاهر
في شؤون المسلمين الدينية، وهم يتقاضون القضايا الجزائية والجنائية في محاكمها
التي ليس لهم فيها أعضاء، غير أن القوم استيقظوا من سباتهم وانتبهوا من غفلتهم،
وأيقنوا أن لا قيام ولا قوام لهم إلا بالعلوم والمعارف، وأخذ كثير منهم يدرس اللغة
الروسية، وفتحت الحكومة لهم ثلاثة مكاتب في ولاية قزان لتعليم هذه اللغة لمن
يشاء منهم؛ إذ هي التي تخولهم الحق في مناصب الحكومة ومجالسها ومحاكمها؛
وهذه المكاتب الثلاثة خاصة بالمسلمين، وأقامت في كل مكتب معلمين مسلمين،
أحدهما لتعليم اللغة، والثاني للأمور الدينية، وبالجملة فإن القوم قد قاموا بنهضة
علمية جديرة بالذكر، ورجل هذه النهضة العلامة الأستاذ الغيور الهمام عالم جان
أفندي البارودي مؤسس المدرسة المحمدية في ولاية قزان التي سيأتي ذكرها، فإنه
- حفظه الله وأبقاه - عدا اهتمامه العظيم بترقية هذه المدرسة الكبرى والنهوض بها
في مدارج التقدم والنجاح تراه متجولاً من بلدة إلى أخرى، باثًّا في قومه روح الهمة
والنشاط، راقيًا بهم في مراقي الحضارة والعمران، حاضًّا لهم على التعاضد
والتعاون، وجمع شتات الكلمة، والتفاني في تحصيل العلوم والفنون، والانكباب
على إتقان الصناعات والزراعات، إلى غير ذلك من أسباب الإصلاح ووسائل
النجاح، وإليك بعض معلوماتنا عن المدرسة المحمدية التي على نظامها يُقاس أكثر
مدارس المسلمين في روسية:
أسس هذه المدرسة وشيد بنيانها الرجل الكبير والمحسن الشهير محمد جان بن
بنيامين علييف والد العلامة عالم جان أفندي المشار إليه، وهو من أكابر تجار قزان،
وعيون أعيانها، وذلك في سنة 1300 هجرية، أي منذ سبع عشرة سنة، وقبل
أن نخوض عُباب البحث عن هذه المدرسة الكبرى نرى من اللائق أن نلم ولو بشيء
يسير عن مؤسس بنيانها ومشيد أركانها، إذ يجدر - لعمري - بأمثاله من مثري
المسلمين وأغنيائهم الاقتداء به والنسج على منواله، فتحسن الحال ويعم النوال.
الرجل ذو همة علية عجيبة، وحسبك دليلاً على هذا أنه لما رأى البلاد في أشد
الحاجات إلى العلم الذي هو لها بمثابة الروح للجسم أشغل من أولاده الأربعة ثلاثة
في طلبه، فنشأوا بحسن نيته علماء صلحاء، أكبرهم عالم جان أفندي المنوه بذكره،
ثم صالح جان أفندي وهو الآن مُدرس في مدرسة إسلامية أخرى في قزان، وفيها
مائتا طالب، ثم عبد الرحمن أفندي وهو اليوم مدرس في المدرسة المحمدية السابق
ذكرها، وقد أسس هذه المدرسة من ماله الخاص، وصرف عليها أموالاً طائلة،
وأقام لها مديرًا شبله الأكبر الأستاذ عالم جان أفندي الذي حقق آمال والده بما اختصه
الله به - مع حداثة سِنِّهِ - من سعة العلم ووفور العقل، وعلو الهمة وفائق الغيرة،
فنعم الأب ونعم الابن، وهكذا تكون الآباء، بل هكذا تكون الأبناء، ورتب المدرسة على أبدع نظام وأحسن ترتيب، وقسم طلبتها إلى ثلاثة أقسام:
الأول قسم الفقراء الذين لم يك لهم من مكتسب يتعيشون به سوى المسألة،
فأغناهم عنها، وهم يقربون من مائة تلميذ، وعين لهم معلمين، الأول لتعليم مبادئ
القراءة والكتابة، والثاني للصناعة، وخصص كل تلميذ يوميًّا باثنتين وستين بارة
ونصف، وهم يقيمون كل يوم أربع ساعات يتعلمون فيها على مرتين ثنتين القرآن
الكريم والضروريات الدينية والدنيوية، والكتابة ومبادئ الصناعات، والنفقات التي
تنفق على هؤلاء يقوم بها أغنياء البلدة، منهم من يتكفل بتلميذ واحد، ومنهم باثنين،
ومنهم بخمسة وهكذا، فينشأ هؤلاء وقد تلقوا مبادي القراءات والصناعات،
يعبدون الله على علم ذوو تربية حسنة تخولهم معرفة التعيش برضاء وهناء.
القسم الثاني لتعليم الطبقة الوسطى، وهم يقربون من ثلاثمائة تلميذ يؤخذ من
المستطيع منهم راتب يتفاوت بتفاوت غناء آبائهم وذويهم، فمنهم من يؤدي روبلة
واحدة في الشهر، أي اثني عشر قرشًا ونصفًا صاغًًا، ومنهم نصف ذلك أو ربعه أو
ضعفه أو أربعة أضعافه إلى عشرة أضعاف، ومنهم من لا يؤخذ منه شيء، ومدة
تعليم هذا القسم سبع سنين، ثلاث ابتدائية، وأربع رشدية (تجهيزية) حتى إذا
أتموها أصبح لكل منهم الخيار في الاشتغال بالتجارة أو الصناعة أو الزراعة، أو
غير ذلك مما يصلح لهم، أو يدخل الطبقة العالية في المدرسة، وهي القسم الثالث
منها، يشتمل هذا القسم على نيف وثلاثمائة طالب، وتارة يبلغون الأربعمائة،
وأكثرهم من البلاد الشاسعة النائية، يقرأون النحو والصرف والمنطق، والمعاني
والبيان والبلاغة، والحساب والحكمة، والتاريخ والجغرافيا، والأصول والحديث
والتفسير إلى غير ذلك من أنواع العلوم العربية كلها، فيخرج الطالب إمامًا أو
مدرسًا في قرية أو بلدة.
ولهذا القسم الذي هو الركن الأعظم للمدرسة المحمدية عشرون مدرسًا سوى
رئيس المدرسين الأستاذ عالم جان أفندي الذي يدرس فيها مرتين في اليوم أيضًا،
ولكل مدرس منهم درسان أو ثلاثة في اليوم، حسب البرنامج (البروغرام) المتفق
عليه من هيئة المدرسين، وهذه الهيئة تجتمع خمسة أو ستة أيام متوالية في آخر
شهر آب (أغسطس) من كل عام، أي قبيل افتتاح المدارس، وقد تجتمع
أيضًا بضع مرات بعد افتتاحها، فإذا انتظم عقد الهيئة يعرض الرئيس عليها رأيه
كتابة في بيان العلوم والفنون التي يجب أن تدرس في العام المقبل في المدرسة،
وكذلك الطرق التي ينبغي أن تسير عليها في تعاليمها مبينًا ذلك مسألة بعد أخرى،
فتوضع هذه اللائحة موضع المذاكرة والمداولة، فإذا وافقت الهيئة عليها، إما
بالإجماع أو بالأكثرية يبين الرئيس الكتب التي يناسب إقراؤها، فتذاكر الهيئة بذلك
أيضًا ولكل عضو من أعضائها الحرية التامة في بيان الرأي الأصلح والأخذ به،
ونبذ غير الموافق منه، فإذا أتمت الهيئة وظيفتها هذه يوضع البرنامج ويسير
المدرسون على منهاجه السنة كلها، إلا إذا رؤي خلال السنة لزوم لتبديل شيء أو
تغييره، فيكون بالاتفاق من هيئة المدرسين على ما بَيَّنا.
أما نفقات هذه المدرسة فبعضها من العقارات الموقوفة عليها من الأغنياء،
وبعضها يتبرع به المحسنون سنويًّا، والباقي يجمعه الأستاذ رئيس المدرسة، فيدعو
لناديه أغنياء البلدة مرة في السنة، ويبين لهم حالتها ودخلها وخرجها فيتبرع كل بما
يلهمه الله به، وفي هذا المجتمع ينتخب خازن المدرسة ومعاونه، فالخازن يأخذ
ويعطي، ويقوم بلوازم المدرسة كلها، ويعمر ما اندرس منها، ويصلح ما فسد حتى
إذا تمت السنة يعرض حسابه على الهيئة، ولا يأخذ تلقاء ذلك أجرة لا هو ولا
معاونه، وهما إنما يكونان من أكابر البلدة، معروفين بالأمانة والصداقة والثراء،
ويفتخران بهذه الخدمة أيما افتخار، وكثيرًا ما يؤثرانها على أشغالهما وتجارتهما،
ولا بد أن يزورا المدرسة في كل يوم، يفتقدان حالتها ونظافتها، وحسن ترتيبها،
ومذاكرة القادم إليها والنازح منها، ويبحثان عن حالة المرضى، ويحضران لهم
الطبيب إن احتيج إليه ونحو ذلك، وبالجملة فإن كل ما يقتضي للمدرسة وطلبتها،
سوى التعليم والامتحان فهو منوط بالخازن ومعاونِه، وكثيرًا ما يستشيران رئيس
المدرّسين أو الهيئة بتمامها إذا رأيا احتياجًا ولزومًا.
والامتحان العمومي للمدرسة إنما يكون في شهر نوار (مايو) من كل عام، أي
بعد أن يجري اختيار الطلبة - مدة شهر، فتوزع بطاقات (الدعوة) على أرباب
المدارس والمكاتب، والعلماء والوجهاء، فيحضر السواد الأعظم منهم، وكثير من
المعلمين ما ينظر إلى الامتحان بعين الانتقاد أو الاستحسان، وفي الانتقاد الصحيح من
الفوائد الجمة ما لا يخفى، حتى إذا تم الامتحان وزعت الجوائز على مستحقيها، ثم
يجتمع الوجوه من الحضور والأساتذة وغيرهم، فيشكرون الله تعالى وأرباب النعم
والخيرات من المدرسين والمحسنين، ثم يتضرع بعضهم إلى المولى تعالى بإخلاص
وخشوع، ويدعو بالتوفيق والنجاح فيؤمِّن السامعون، وببركة هذا الاجتماع يصبح
الناس على قلب رجل واحد، فيعقد كل منهم النية على عمل شيء ينال فيه رضاء
الله، إما بتعلم أو تعليم، أو وعظ أو تحرير، أو تجارة أو صناعة أو زراعة،
ونحو ذلك، ويهيئون أنفسهم لخدمة الدين، ولا يرون في أنفسهم ومالهم حقًّا لهم،
بل عباد الله وخَدَمة لدينه، لا يبذرون في مأكل أو مشرب أو ملبس، ولا يمضون
أوقاتهم في اللهو واللغو، ويعدونهما خيانة في حقوق الله وإخلالاً بالواجب عليهم.
هذا بعض ما علمناه من الأخ بالله العالم القزاني عن أحوال إخواننا المسلمين
في روسية والمدرسة المحمدية الكبرى في قزان التي فيها خمس مدارس أخرى،
وعليها تقاس سائر مدارس المسلمين في ولايات لوقا وأورنبوغ وحيستابول
وترويسكي وسمير وضامار وبنزة ويوا وجابق وقارغالي واسترلي تماف
وغيرها من الولايات والمتصرفيات، ولا نزيد بعد هذا كلمة في بيان فضائل
التعاضد والتعاون وجمع الكلمة، إذ فيما تقدم كفاية ومقنع بما ينتج عن ذلك للأمة من
أسباب النجاح والفلاح، والعروج بالبلاد في معرج الحضارة والعمران، ولا عبرة
بما يتشدق به اليوم بعض من تطفلوا على مباحث فضلاء الأمة وكتابها بالجامعة
الإسلامية، والله سبحانه الموفق والمعين، هو حسبنا ونعم الوكيل.
__________(2/442)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة
البرنسس نازلي هانم أفندي
بلغنا أن وزير خارجية حكومة المغرب الأقصى قد استعلم من الحكومة
الفرنساوية عن الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أفندي وذلك
عندما بلغ حكومته أنها قاصدة زيارة بلادهم، فورد له الجواب بأنها لم تزل في
الجزائر، ومتى توجهت لمراكش يطير إليه الخبر في البرق، وستلقى هذه الأميرة من
الحكومة المراكشية الحفاوة التي تليق بها.
__________(2/447)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع الجيش العثماني)
يتألف معسكر الطوبجية من 252 بطارية، لكل بطارية ستة مدافع، وجميع
عدد الطوبجية المعسكرة والقلاعية ومنها المدافع وملحقاتها يستحضر من معامل
كروب في آسين ولكن بعض المدافع أيضا يصنع على شاكلة مدافع كروب في
المعامل الكبيرة للطوبجية بالقسطنطينية، أعني في الطوبخانة.
والبطاريات الجبلية جديرة حقًّا بتنويه خصوصي من حيث الحذق البديع الذي
يُرى في تحريكها، فالمدفع وذخيرته تحمله أربعة بغال ترفع أحمالها، ويعد المدفع
للعمل في أقل من دقيقتين، وكسوة الطوبجية عبارة عن دولمان أزرق قاتم وقرج
أسود، وسراويل سنجابي، ونعلين، وعوضًا عن الطربوش الذي تلبسه المشاة
تلبس الفرسان والطوبجية قبعة من شعر أسود شبه بالذي كان يلبسه قبل سنة 1870م
الصيادون الفرسان، وفرقة الفرسان الفرنساوية المسماة بالهوسار، تؤخذ فرقة
الضباط من (الصف ضباط) وتلامذة المدارس الحربيين في قومبر خانة وبنغالدي
والأولى للعلوبجية، والثانية للمشاة والفرسان وأركان حرب، لم تكن فرقة أركان
حرب أنشئت في تركيا حتى الحرب الأخيرة (حرب الروسيا) ويمكن أن ينسب بلا
شك لعدم وجودها تأثير عظيم في نتيجة الوقائع الحربية، فشكرًا لجلالة السلطان عبد
الحميد إذ قد سد هذا الخلل، فإنه قد أنشأ من سنة 1884م في مدرسة بنغالدي قسمًا
لأركان حرب يقابل للمجمع الحربي في ألمانيا والمدرسة العالية الحربية في فرنسا،
تدخل التلامذة مدرسة الطوبجية والمهندسين في الخامسة عشرة من عمرهم،
ويمكثون أربع سنين في القسم التجهيزي، وسنتين في القسم التالي، ثم يرقون إلى
وظيفة ملازم ثانٍ، وبعد أن يقضوا سنة في إتمام دروسهم يخرجون من المدرسة
برتبة ملازم أول.
أما في مدرسة بنقالدي فيمكث التلامذة ثلاث سنين، ثم يخرجون برتبة ملازم
ثانٍ، والفائقون منهم لإخوانهم المعدون للدخول في فرقة أركان حرب يقضون في
المدرسة ثلاث سنين أخرى، ثم يخرجون بوظيفة يوزباشي.
نظام هاتين المدرستين العظيمتين لا يعوزه من الكمال شيء من حيث التربية
والتعليم النظري والعملي، وتعليم اللغات الأجنبية فيهما أكثر تقدمًا منه في المدارس
الحربية للبلاد الأخرى، ويوجد تحت مدرستي قمبرخانة وبنقالدي مدارس تجهيزية
تسمى بالمكاتب الإعدادية الحربية بكل من أدرنه ومناستير وبروسه وأرضروم
ودمشق وبغداد وقبيلي وفي ضواحي القسطنطينية على الجنب الأسيوي للبوسفور
ويدير هذه المدرسة الأخيرة أميرلواء، أما المدارس الأخرى فيديرها قائمو مقام، أو
رؤساء طوابير ويدخل التلامذة هذه المدارس في سن الثانية عشرة ويقضون فيها
ثلاث سنين.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/447)
24 جمادى الأولى - 1317هـ
30 سبتمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجج منكري الكرامات
أتينا في جزء سابق على ذكر الخلاف بين المسلمين في الكرامات، ووعدنا
بذكر حجج المنكرين والمثبتين والنظر فيها، ونبدأ بذكر حجج المنكرين الخمس التي
أوردها العلامة السبكي مع ردها وسمَّاها شُبَهًا، ولا يقتضي تسميتنا إياها حججًا،
اعترافنا بحقيتها ولا عدمه؛ فإن بعض الحجج داحضة.
(الحجة الأولى) قالوا: إن تجويز الكرامة يفضي إلى السفسطة إذ يقتضي
تجويز انقلاب الجبل ذهبًا إبريزًا، والبحر دمًا عبيطًا، وانقلاب أوانٍ تركها الإنسان
في بيته أئمة فضلاء مدققين، قال السبكي: والجواب من وجوه، الأول: إنا لا نسلم
بلوغ الكرامة هذا المبلغ كما اقتضاه كلام الإمام القشيري، الثاني: نسلم
(جدلاً) لكن نمنع اقتضاءه سفسطة؛ لأنه بعينه وارد عليكم في زمن النبوة،
الثالث: أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم العقلية، وجواز تغيرها بسبب
الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها. اهـ
أقول: كلام السبكي - كغيره - صريح في أن الكلام في جواز الكرامة لا
في وقوعها، ومعلوم أن العقل يجوِّز ما دون المحال، وإنما المحال العقلي هو اجتماع
النقيضين أو ارتفاعهما، وأكثر الناس يطلقون لفظ المحال العقلي على كل مستبعد غير
مألوف، وفيما أظهرته الصناعة والعلوم الطبيعية الكثير من تلك الأمور المستبعدة
التي كان يجزم الناس باستحالتها لو لم تقع فعلاً، كالتلغراف وغيره.
ومن الأمور التي تستبعد العقول وقوعها إذا هي تصورتها ما يكون له سبب
طبيعي مجهول يوجد بوجوده، واهتداء الناس إليه ومنها ما ليس كذلك، وكلا
القسمين جائز الوقوع في نظر العقل، ولكن ما كل جائز عقلاً يقع فعلاً، وقوله: إن
الكرامة لا تبلغ هذا المبلغ، هو التحقيق، وإن كان الجمهور على خلافه، وسيأتي
بيانه.
(الحجة الثانية) قالوا: لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة، فلا تدل
المعجزة على ثبوت النبوة، قال السبكي: والجواب منع الاشتباه لقرن المعجزة
بدعوى النبوة دون الكرامة، فهي إنما تقرن بكمال اتباع النبي من الولي، وأيضًا
فالمعجزة يجب على صاحبها الإشهار والكرامة مبناها على الإخفاء، ولا تظهر إلا
على الندرة والخصوص، لا على الكثرة والعموم، وأيضًا فالمعجزة يجوز أن تقع
بجميع خوارق العادات، والكرامة تختص ببعضها كما بيناه من كلام القشيري وهو
الصحيح. اهـ.
أقول: أين هذا مما هو مستفيض بين الناس في هذه الأزمنة من أن الكرامات
صارت عند الشيوخ من الأمور الاعتيادية بحيث ينقلون عن الواحد منهم الألوف
منها، أو كما قال الأستاذ مفتي الديار المصرية في رسالة التوحيد فيهم: (يظنون
أن الكرامات وخوارق العادات أصبحت من ضروب الصناعات، يتنافس فيها
الأولياء، وتتفاخر فيها همم الأصفياء، وهو ما يتبرأ منه الله ودينه وأولياؤه وأهل
العلم أجمعون) وستقف على توضيح هذا.
(الحجة الثالثة) قالوا: لو ظهرت لولي كرامة لجاز الحكم له بمجرد دعواه
أنه لا يملك نحو فِلس لظهور درجته عند الله، المانعة له من الكذب في هذا النزر
القليل، لكنه باطل بالإجماع المؤيد بخبر البينة على المدعي، قال: والجواب أن
الكرامة لا توجب عصمة الولي ولا صدقه في كل الأمور، ونقل إن الجنيد سئل؛
هل يزني الولي؟ فقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) ، ثم
قال السبكي: وهَبْ أن الظن حاصل بصدق دعواه إلا أن الشارع جعل لثبوت
الدعوى طريقًا مخصوصًا، ورابطًا معروفًا لا يجوز تعديه ولا العدول عنه، ألا
ترى أن كثيرًا من الظنون لا يجوز الحكم بها لخروجها عن الضوابط الشرعية.
(الحجة الرابعة) قالوا: لو جاز ظهور خوارق العادات على أيدي الصالحين
لما أمكن أن يستدل على نبوة الأنبياء بظهورها على أيديهم لجواز أن تظهر على يد
الولي سرًّا، فإن من أصول معظم جماعتكم أن الأولياء لا يظهرون الكرامات ولا
يدعون بها وإنما تظهر سرًّا وراء ستور ويتخصص بالاطلاع عليها آحاد الناس،
ويكون ظهورها سرًّا مستمرًّا بحيث يلتحق بحكم المعتاد، فإذا ظهر نبي وتحدى
بمعجزة جاز أن تكون مما اعتاده أولياء عصره من الكرامات، فلا يتحقق في حقه
خرق العادة، فكيف السبيل إلى تصديقه مع عدم تحقق خرق العوائد في حقه؟
وأيضًا تكرر الكرامة يلحقها بالمعتاد في حق الأولياء، وذلك يصدهم عن
تصحيح النظر في المعجزة إذا ظهر نبي في زمنهم.
وقال في الجواب: لأئمتنا وجهان: (الأول) منع توالي الكرامات واستمرارها
حتى تصير في حكم العوائد، وإنما يجوز ظهورها على وجه لا تصير عادة،فلا يلزم
ما ذكروه، و (الثاني) - وهو لمعظم أئمتنا - قالوا: إنه يجوز توالي الكرامات على
وجه الاختفاء بحيث لا يظهر ولا يشيع ولا يعتاد؛ لئلا تخرج الكرامات عن كونها
كرامات [1] ثم قالوا: الكرامة وإن توالت على الولي حتى ألفها واعتادها فلا يخرجه
ذلك عن طريق الرشاد ووجه السداد في النظر إذا لاحت له المعجزة، إن
وافقه التوفيق، وإن تعداه التوفيق سلب الطريق ولم يكن بولي على التحقيق.
والمعجزة تتميز عمن تكررت عليه الكرامات بالإظهار والإشاعة والتحدي
ودعوى النبوة، فإذا تميزت الكرامة عن المعجزة لم ينسد باب الطريق إلى معرفة
النبي.
قال العلامة السبكي: ومن تمام الكلام في ذلك أن أهل القبلة متفقون على أن
الكرامات لا تظهر على أيدي الفسقة الفجرة [2] وإنما تظهر على المتمسكين بطاعة الله
عزَّ وجل، وبهذا لاح أن الطريق إلى معرفة الأنبياء لا ينسد، فإن الولي بتوفيق الله
تعالى ينقاد للنبي إذا ظهرت المعجزة على يديه، ويقول معاشر الناس: هذا نبي
فأطيعوه، ويكون أول منقاد له ومؤمن به، قال: ثم ما ذكره الخصوم من اشتباه
النبي صلى الله عليه وسلم بغيره، فقد تبين لك وجه الانفصال عنه، وأنا أقول:
معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامة تكررت على يد ولي، بل لا بد أن يأتي النبي بما لا
يوقعه الله على يد الولي، وإن جاز وقوعه فليس كل ما جاء في قضايا العقول واقعًا،
ولما كانت مرتبة النبي أعلى وأرفع من مرتبة الولي، كان الولي ممنوعًا مما يأتي
به النبي على وجه الإعجاز والتحدي أدبًا مع النبي. اهـ.
أقول: وللشيخ الأكبر في هذا المعنى كلام في الفتوحات اتّفق فيه مع السبكي،
وظاهر أن الكلام كله في التجويز العقلي، ولو كان ذلك واقعًا ما اختلف فيه، وقد
صرح السبكي بما قلنا من أنه ليس كل جائر واقعًا، ثم ذهب إلى أن هذه النظرية
ممنوعة بالنسبة لهذه الأمة؛ لأن نبيها خاتم الأنبياء، ومعلوم أن الكلام في النظريات
يكون عامًّا ومطردًا.
(الحجة الخامسة) قالوا: لو كان للكرامات أصل لكان أولى الناس بها
الصدر الأول، وهم صفوة الإسلام، والمفضلون على الخليقة بعد الأنبياء، عليهم
السلام. وقد أجاب السبكي عن هذه الحجة بسرد الكرامات المأثورة عن الصحابة
عليهم الرضوان بعد مقدمة أثبت فيها أن الكرامة لا يجوز إظهارها إلا لسبب ملزم
وأمر مهم، وبين لكل كرامة ذَكَرها سببًا في إظهارها , وإننا نعد لك تلك الكرامات
عند ذكرحجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو رَدًّا، وأما البحث في إخفاء الكرامة
فسنخصه ببحث نذكر فيه كلام السبكي وغيره.
هذا ما أورده السبكي من حجج منكري الكرامات، وهناك حجتان هما أقوى
من هذه الحجج كلها، وهما مخصوصتان في حال كون الكرامات أمورًا خارقة
لنواميس الكون، ومخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، ولا يردان على من يقول: إن
الكرامة هي الأمر الخارق للعادة دون السنن الكونية، كالمكاشفة وشفاء المريض
بالرقى، ونحوهما مما له أسباب نفسية وسنن روحية اختص بها بعض العباد من
دون الكافة كما ألمعنا إلى هذا في بيان الخوارق والكرامات، ونلحق الحجتين بما
مضى في العدد وهما:
(الحجة السادسة) أن الله تعالى قد أقام نظام هذا الكون على سنن ثابتة
مطردة كما بيناه في المقالة الأولى من هذا البحث، وقال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) وهذا نص قطعي لا
يعارَض إلا بقطعي مثله من مشاهدة - وهي إنما تكون حجة على المشاهِد فقط - أو
تواتر صحيح، والمثبتون يدعون هذا التواتر، وستعلم ما فيه.
(الحجة السابعة) : عقلية، وتقريرها أن غاية ما يقال في خوارق العادات أنها
ممكنة عقلاً بالإمكان الخاص، والممكن ما يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها،
فمن قال: إن شيئًا يوجد بدون سبب، فقد أخرج الممكن عن معناه، وكذب المشاهد
من نظام الكون، فإن قيل: إن الله الذي جعل لكل شيء سببًا قادر على أن يوجد
الكرامة بدون سبب كما أوجد المعجزة التي ثبتت قطعًا، نقول: نعم إنه قادر وأوجد
المعجزات على غير المعروف في نظام الكون، ولكن مثل هذا الأمر الذي جاء على
خلاف الأصل لا يقاس عليه، والسر في المعجزة ظاهر، فلا ينافي الحكمة والنظام
مجيئها بغير سبب، بل ذلك مما اقتضته الحكمة، ومن فوائده تقرير أن النبوة لا
تنال بالاكتساب , ولا يتوصل إلي آيتها بالأسباب، فإن قيل: إن الحكمة في الكرامة
في معنى الحكمة في المعجزة، نقول: كلا، فقد كان كلما طال الأمد على أمة بعد
بعثة رسول فيها، يرسل الله تعالى إليها رسولاً آخر، فلا يحتاج إلى كرامة الولي
لإذعان النفوس وخضوعها لسلطان الدين، وأما خاتم النبيين فإن معجزته باقية إلى
آخر الزمان، ومهما منحُ الأولياء من الكرامات لا يُمنحون مثل القرآن، وكيف
يحتاج القرآن وما تواتر من حالة النبي التي كانت من أعظم الخوارق وأظهرها إلى
التعضيد بخارقة يجب سترها؟ هذا ملخص الحجة وما يقال فيها، وإذا أمكن إثبات
الكرامات بدليل قطعي كالتواتر الصحيح، أو النص القرآني الصريح، فهناك حجة
الإثبات الناهضة التي تدع كل حجة على الإنكار داحضة، والموعد لبيان هذا
الجزء التالي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تبين من هذين القولين أن بعض أئمتنا يمنع توالي الكرامات وتكرارها، ووافقهم من أئمة الصوفية الشيخ الأكبر قُدس سره، وبعضهم يجوِّز تواليها تجويزًا عقليًّا وهو ما لا ينبغي فيه الخلاف، والكل متفقون على أنها تكون خفية بحيث لا تظهر ولا تشيع، فالذين يشيعون من الكرامات عن الشيوخ والأولياء ما هو أكثر من المطر وورق الشجر، مخالفون لأئمة المسلمين وصنيعهم، هذا قادح في المعجزات، ومخرج للكرامات عن كونها كرامات.
(2) بهذا تعرف أن ما في كتب الباجوري وغيره من المتأخرين أن الخوارق تظهر على أيدي الفساق، بل والكفار، ولكن لا تسمى كرامات، غير صحيح؛ لأنه يفضي إلى الطعن في المعجزات ولا دليل عليه أصلاً.(2/449)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القسم الثاني
من خطبتنا في التربية
(مكارم الأخلاق)
وأما تربية النساء فهي أعسر الأمور، ومن أجدرها بالعناية؛ لأن هناء العيش
في الحال وسعادة الوطن في الاستقبال؛ إنما يكونان بتدبير المنزل ونظامه،
وبتربية الأولاد، ومقاليد ذلك بيد النساء؛ لأن المرأة هي ربة البيت المنوط بها
إصلاحه ونظامه، وهي التي تخط في ألواح نفوس الأولاد المبادئ الأولى التي
تكون جراثيم للخيرات أو للشرور، قلنا: إن تربية الكبير عسيرة جدًّا وإنها لا
تتسنى إلا لأرباب النفوس الزاكية، والهمم العالية، والعزائم الصادقة، وهذا الكلام
مخصوص بتربية الإنسان لنفسه، أما تربية غيره فلابد فيها مع ذلك من الحكمة
والبصيرة من جانب المربي، وإذا أضيف إليها الحب والاحترام له ممن يحاول هو
تربيته كان الرجاء في حصول المقصود أتم، وحيث كانت هذه الأمنية غير متحققة
عندنا بالنسبة للكافة كنا صادقين في قولنا: إن تربية النساء أعسر الأمور.
لا نطيل الشرح في المسائل النظرية والقواعد الكلية؛ لأن الإجمال قلما يفيد
غير الحكماء الذين يتذكرون به ما انطوى في نفوسهم من التفصيل، لا يصح أن
نيأس، فلكل مجتهد نصيب، وعلينا أن نأخذ النساء بالرفق، ونعاملهن بالحكمة
واللطف، لا بالقسوة والعنف، وأن نستعين عليهن بدقة شعورهن، ونستميلهن إلى
الخير برقة عواطفهن، ونثنيهن عن الشر بزمام حيائهن، شبههن النبي عليه السلام
بالقوارير، والضغط على الزجاج غايته التكسير، أضرب من المثل ما يقاس عليه،
ويصح أن يرمي المربي إليه، إذا جئت من دكانك أو ديوانك، ووجدت بعض
ماعون البيت في غير موضعه المعد له، فلا تنبز ربة البيت بالألقاب، ولا تقابلها
بالشتم والسباب، ولكن قل لها: لا شك أن الست [1] كانت مشغولة بأمر مهم صرف
نظرها أو أنساها أن هذا الماعون أو الثوب موضوع في غير موضعه، ولذلك ما
أرجعتْه إلى مكانه أو لم تأمر الخوادم بذلك، يختلف التعبير باختلاف الطبقات؛
لأن أهل الثراء والبسطة إنما تدير نساؤهم نظام المنزل بالرأي وإرشاد الخوادم إلى
الأعمال، ونساء سائر الطبقات يباشرن الأعمال بأنفسهن، وهن المسئولات على
كل حال وفي كل طبقة من الطبقات.
وإذا كنتَ صاحب همة وأردتَ إتمام الحكمة، فبادر بنفسك إلى وضع ذلك
الشيء في موضعه قائلاً: يمكنني الآن أن أقوم بهذا العمل نيابة عن الست، وإن كنت
تعبان محرورًا (أقول هذا بالنسبة لغير الطبقات العالية الذين يكتفي أحدهم بالنيابة عن
الست بالأمر دون العمل، ولكل مقام مقال) وعند ذلك لا بد أن تسابقه فتسبقه إلى ما
نهض إليه، إلا أن تكون لا خلاق لها، ولكل من المعاملة اللطيفة ما يليق بها،
وبتكرار مثل هذه المعاملة ترجع عن قريب، فيزول الخلل، ويمنع الخطل [2] . ... ... ...
وإذا علم أن بعض الفاسدات الأخلاق والآداب تزور منزله، وتعاشر قرينته،
فينبغي أن لا يبادر إلى نهيها عن قبولها وأمرها بطردها، فإن مثل هذا الأمر
إغراء، لا سيما مع التحكم والاستعلاء، وإنما يسعى أولاً بقطع رجل تلك المرأة
بأساليب لا تشعر بها امرأته، هذا وإن الوقائع الجزئية لا تحصى، واللبيب تكفيه
الإشارة، ومن أحس من نفسه العجز عن هذه السياسة فعليه أن يستشير من يثق
به من أهله وإخوانه مع ملاحظة أن التهذيب والتربية بالإلزام والإشراف على المرأة
بالأمر والنهي من شواهق القوة والسيادة، كل ذلك مما يفضي إلى النفور
والبغضاء، واستثقال المرأة كل ما يأمر به الرجل، وتعمدها مخالفته ومنصابته،
إذا فقد الحب الصادق الذي هو روح الحياة الزوجية، وملاك السعادة المنزلية،
فلا بد من المداراة وتكلف المجاملة، وإلا ساءت الحال، وتفاقم خطب الاختلال.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذه الكلمة ليست عربية بهذا المعنى، ولكنها لقب التعظيم المستعمل، فلا مندوحة عن ذكرها.
(2) تذكرت هنا كلمة كنت قلتها في إحدى دروسي في المسجد الحسيني، وهي أن المرأة تتربى في بيت زوجها تربية جديدة، لا سيما إذا تزوجت في طور الحداثة، وكانت بكرًا، فيجب على الزوج أن يبدأ بتربيتها على ما يحب من الليلة الأولى، فإذا أحب أن تكون مصلية، فليسألها عند الخلوة بها هل صلَّتِ العشاء؟ فإن لم تكن صلت - كما هو الغالب - يحملها بعبارات اللطف والمجاملة على أن تصلي، والأولى أن يصلي معها - وإن كان قد صلى - ويستمر معها على هذه المعاملة، يراها في مدة قريبة لا تتهاون بالصلاة قط، وهكذا يعاملها في شأن تدبير المنزل.(2/455)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(2)
(أمالي دينية - الدرس الثاني - تمهيد ومقدمات)
(5) الدين والعقل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ*
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) العقل مشرق أنوار
الدين، والإيمان هو تصديق العقل بأن جميع ما جاء به النبي حق، فالدين الإسلامي
والعقل توأمان، وقد أجمع أئمتنا على أنه ليس في الدين شيء يمنعه العقل أو يحيله،
وأن من علامة الحديث الموضوع، أي المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم
استحالة معناه عقلاً، ومن المقرر عندهم أن ما عساه يوجد من النقول الصحيحة
مخالفًا في ظاهره للعقل، فلا بد من تأويله وتخريجه على وجه صحيح يقبله العقل،
وإلا استحال الإيمان به، القرآن لا يخاطب إلا العقل، لا سيما في قضايا الإيمان
ومسائل الاعتقاد التي يطلب فيها العلم، ويرفض الظن وإن كان راجحًا، فقد قال
ناعيًا على المشركين تمسكهم به: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ
جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} (النجم: 23) {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ
يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) وقد أناط الصدق في الإيمان بإقامة البرهان،
فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
الآيات القرآنية التي تنيط الدين بالعقل هي من الكثرة بحيث لا يمكنني
استحضارها، وما منكم إلا من يقرأها أو يسمعها كل يوم، افتتحنا الكلام بآية منها،
وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (الأنفال:
22) وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:
62) وقال عز من قائل: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} (يس:
68) وقال تبارك وتعالى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) وقال تبارك اسمه: {إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمران: 190) وقال: {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه: 54) ومثل هذه الآيات كثيرة جدًّا، وأكثر ما
ترد بعد وصف ما في الطبيعة من مظاهر القدرة والحكمة، وسرد أحوال الأمم
والشعوب، وظاهر أن الألباب والنهى هي العقول، وكذلك ذكر العلم والتفكر في
مثل هذه المواضع كثير جدًّا، ولقد قرأت الكتب المقدسة عند بعض الملل الأخرى، فما وجدت فيها شيئًا من هذا، إن أمة هذا كتابها وأصل دينها، حقيقة بأن تكون
أبعد الأمم عن الأوهام والخرافات، وأشدها تمسكًا بالحقائق، لا تأخذ إلا باليقين ,
ولاتلتفت لما لا تقوم عليه البراهين، ولكن لما فسد التعليم، وغلبت الجهالة، وصار
القرآن يتلى للتغني لا يتدبره متدبر، ولا يعتبر به متفكر - هجمت علينا زحوف
الأوهام والخرافات من الأمم التي جاورناها ومازجناها، ففتكت بنا كما فتكت بهم،
وهبطت بعقولنا ومداركنا كما فعلت بهم من قبل، حتى ضعفت الأنظار واختل
نظام الأفكار، فطوحت بنا الطوائح، واجتاحت عمراننا الجوائح، ولقد شفي بعض
من سرت إلينا عدواهم، ونحن لا نزال مرضى، وانتظمت مدنيتهم ونحن ما فتئنا
فوضى.
(6) الاجتهاد والتقليد: تكلمنا في الدرس الماضي عن البصيرة في الدين،
وبيَّنا أنها من أصول الإسلام، وأنه لا يؤدي إلى غايتيه - سعادة الدنيا وسعادة
الآخرة - إلا بها، وبينا أن الكتاب العزيز ذم التقليد وأهله، ونزيد المسألة وضوحًا
ليعرف خطر التقليد من لم يعرفه، فيزيد نشاطًا في فهم دينه، ويتبين الحق أخونا الذي
زعم أنه رأى في بعض الكتب أن المقلد أفضل من المجتهد (وكان بعض أعضاء
الجمعية وقف خاطبًا فقال هذه الكلمة) .
ولا أعلم أن أحدًا من العلماء الذين يُعْتَد بقولهم قال هذه الكلمة، ولو كان هذا
القول صحيحًا لكان هؤلاء السوقة والغوغاء أفضل من الأئمة المجتهدين، كلا، إن
هذا القول مصادم للنقل والعقل، ومحقر للعلم، ومفضل للجهل.
إن العلماء قد اختلفوا في صحة إيمان المقلد، فذهب أكثر المحققين - لا سيما
المتقدمين - إلى أن إيمان المقلد لا يصح ولا يعتد به، ونقل بعض العلماء
الإجماع على هذا القول، واستدلوا عليه بالآيات القرآنية الكثيرة، كقوله تعالى:
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) وقوله {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ
شَيْئا} (يونس: 36) أي فيما يطلب فيه العلم، كالاعتقاد، وقوله: {قُلْ
هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) وقوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ} (البقرة: 4) قال البيضاوي: اليقين إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عن
نظر واستدلال وليس للمقلد من ذلك نصيب. وبالآيات التي تأمر بالنظر والاستدلال،
كقوله تعالى: {قُلِ انظُرُوا} (يونس: 101) وقوله: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) وبالآيات التي تذكر
المقلدين في معرض التوبيخ والتقبيح، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) وقوله عز وجل: {وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) والآيات في هذه الأنواع الثلاثة كثيرة
جدًّا، ومنها جميع ما أوردناه آنفًا في مخاطبة العقل وإناطة الدين به، هذا ما أرشد إليه
القرآن، وإذا وَلَّيْنا وجهنا شطر الاختبار ألفينا أن إيمان المقلد عرضة للزلزلة
والاضطراب؛ بل وللزوال والانقلاب، ألم تر إلى السحرة الذين آمنوا بموسى
عن برهان لتفرقتهم بين السحر والمعجزة كيف هددهم فرعون بما حكى الله بقوله:
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا
لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ
الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه: 71-72) إلخ الآيات، فانظروا كيف عرَّضوا
أنفسهم لأشد العذاب ولم يضطرب إيمانهم، وانظروا إلى بني إسرائيل الذين سلموا
لموسى لأنه منهم، وخلصهم من العذاب لا لأنهم فهموا ما جاء به من الآيات،
كيف عندما {أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} (الأعراف: 138) فهذا هو الفرق بين
الإيمان بالدليل، والإيمان بالتقليد.
قال قائل: إننا نرى العامة لا يرجعون عن شيء من الدين مهما أورد عليهم من
الشكوك، فقلت له: إن العاميّ لا يقبل كلام مثله فيما أخذه باسم الدين، وإن كان
باطلاً ليس من الدين في شيء، ولكن إذا شككه من يعتقد بعلمه أو صلاحه فإنه لا
يلبث أن يشك ويرتاب، قال القائل: لا يمكن أن يشك العاميّ في وجود الله تعالى
وإن شككه جميع العلماء والصلحاء، فقلت له: سيأتي معنا أن الاعتقاد بوجود الله
تعالى هو من الإلهامات الفطرية للإنسان، حتى قال كثير من العلماء: لا حاجة
للاستدلال عليه مطلقًا، ولكن أي عامي ألقيت عليه من صالح أو عالم عقيدة فاسدة
يتلقاها بالقبول لا سيما إذا كان لها شبهة مما عليه المسلمون، كأن يقول له: إن الله
تعالى قد جعل فلانًا النبي أو الولي وكيلاً له في الأرض، وصرفه في خلقه بحيث
صارت إرادته كإرادة الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ} (يس: 82) [*] أو أن الله تعالى حل فيه، أو أنه قاعد على العرش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه كما يرى بعضنا بعضًا وسمع كلامه بصوت
وحرف، أو أنه تعالى قد وجد قبل العالم بألف ألف سنة مثلاً، فإنه يعتقد
هذا كله، ولا يشك فيه، وقد جربت هذا بنفسي فيهم.
لمَّا فشا الجهل في المسلمين رأى العلماء المتأخرون أن القول بكفر المقلد في
الإيمان يفضي إلى تكفير معظم المسلمين، فأفتوا بصحة إيمان المقلد بشرط أن يأخذ
العقيدة على حقيقتها، ويجزم بها جزمًا قاطعًا بحيث لا يشك فيها مهما شُكك، ولا
يرجع عنها، وإن رجع مقلده وجميع العالمين، قال في الجوهرة:
إذ كل من قلد في التوحيد ... إيمانه لم يخل من ترديد
ففيه بعض القوم يحكي الخلفا ... وبعضهم حقق فيه الكشفا
فقال: إن يجزم بقول الغير ... كفى وإلا لم يزل في الضير
ولكن لا خلاف بين العلماء في وجوب النظر والاستدلال على من يقدر عليه،
وفي عصيان من يتركه مع القدرة ويكتفي بالتقليد، فتلخص أن المقلد إما كافر وإما
عاصٍ بترك النظر، اللهم إلا إذا كان ضعيف العقل بعيد الفهم، غير قادر على
النظر والاستدلال.
المنتسبون للإسلام ينقسمون إلى أربعة أقسام (القسم الأول) المجتهدون
الذين يقدرون على إقامة البراهين على كل مسألة من مسائل الاعتقاد، ويُردُّون كل
شبهة تَرِد على العقيدة أو على الدليل ومقدماته، ولا يشترط أن يكون هذا على
طريقة أهل النظر، ومن هؤلاء من يهبه الله نورًا في بصيرته، فيرتقي علمه بالله
تعالى وبدينه إلى درجة تحاكي المشاهدة للمحسوسات، ويعطيه لسنا وحذقًا في
صناعة الحجة بحيث يقدر على الإقناع والإلزام، ويبوء مناظره بالحصر والإفحام.
(القسم الثاني) العلماء الذين يتعلمون العقائد ببراهينها، فيفهمون الدليل
بحيث تطمئن قلوبهم، ويكونون في بعد عن الشبهة والريب، ولكن لا يقدرون على
إقامة البراهين من عند أنفسهم، وهؤلاء مقلدون في الدليل والمدلول معًا، وهم في
مأمن من الشكوك ما بعدوا عن مَهابِّ الأهواء ومجاري تيارات الشبهات، فإذا
تعرضوا لذلك فلا يسلم إلا من أيده الله تعالى بمعونته، (القسم الثالث) المقلدون
الذين يأخذون العقائد الصحيحة عن العارفين بها من غير دليل ولا برهان إلا الإقناع،
وما يقرّب المسائل للفهم من الأمثلة والشواهد الظاهرة، ومن هؤلاء من يفهم
الدليل إجمالاً على بعض العقائد دون كلها، وهؤلاء إيمانهم تابع لإيمان غيرهم، فإن
كانوا بحيث لو رجع من قلدوه عن اعتقاده لا يرجعون وإذا شُككوا لا يشكون، كانوا
من المؤمنين على ما علمت من الراجح عند المتأخرين، (القسم الرابع) هم الذين
لا يعرفون من الإسلام إلا الظواهر والأقوال والأفعال التي يسمعونها ويرونها من
الذين تربوا بينهم، فلا يأخذون العقائد عن العلماء العارفين، وهم عرضة لشكوك
المشككين وإيهام الواهمين، وما أولئك بالمؤمنين، لا أعني بهذا أن هؤلاء الغوغاء
من العامة الذين يغشون مجالس العلم كلهم كفار لا يعاملون معاملة المسلمين، بل لا
أكفر أحدًا بخصوصه ما لم أر أو أسمع منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح بالتصريح
الذي لا يحتمل التأويل، ولكنني أعلم بالاختبار والوجدان وبالنقل الصحيح أنني لو
سألت الألوف منهم عن اعتقادهم بصيغة الشك ما اهتدوا إلى الجواب الصحيح، لا
لضعف في اللسان، بل لمرض في القلب والجنان، وهو مرض الجهل الفاضح،
واعلم أن هذا الجهل في النساء أشد منه في الرجال، إذ لا يوجد في النساء عالمات
بالدين يمكن أن يقتبس منهن - ولو في أثناء المحاورة والمسامرة - غير
المتعلمات، والرجل الذي لا يأتي المساجد والمدارس متعلمًا قد تضمه مجالس الأندية
والسّمار (مجالس السهر) فيقتبس منهم شيئًا من دينه، وإذا أكثر من مثافنة الخيار
منهم المغرمين بإفادة الناس ربما يأخذ منهم ما فيه غناء له في دينه، وأنى للنساء
بذلك.
إننا نشكو من جهل نسائنا بالأمور الاجتماعية، ونغفل عن جهلهن بأصل الدين،
وإن من نتائج هذا الجهل عدم صحة نكاح المرأة التي لا تعرف عقيدتها على الوجه
الصحيح، وإذا لم يصح نكاحها كان غشيانها من الزنا في الحقيقة (وفي الظاهر
وطء شبهة أو نكاح صحيح) وكان أولادها منه (أولاد حرام) وناهيك بهذه
المفاسد وما يحتف بها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم: 6) هذا أمر الله لكم فأطيعوه، فقد أورد الإمام الغزالي في (الإحياء) أن
أول من يتعلق بالرجل يوم القيامة من خصمائه نساؤه وأولاده يقولون: يا ربنا خذ لنا
بحقنا منه، فإنه كان يطعمنا الحرام وكان لا يعلمنا ما نجهل، وقال الفقهاء: يجب
على الرجل أن يُعَلم امرأته ما تحتاج إليه من أموردينها، فإن عجز عن ذلك وجب
عليه أن يبعث بها إلى العلماء لتسأل منهم، ويحرم عليه منعها من ذلك.
تطلبون عفة النساء وكمالهن وقيامهن بشؤون منازلكم، ولا تنالون شيئًا من
هذه الأمنية إلا بتعليمهن الدين، وإشعار قلوبهن خشية الله تعالى ومراقبته بكثرة
التذكير والوعظ فعلى كل من سمع هذه النصيحة أن يعطيها جانبًا كبيرًا من العناية،
ويبدأ بتعليم أهله ما يعلم من هذا اليوم، إنني سمعت بعض شبان النصارى الذين لا
يعتقدون بالدين يقولون: إذا حضر نساؤنا مجلسنا، ونحن ننتقد رجال الدين أو
بعض أحكامه وقضاياه، نلجأ إلى الصمت لئلا يفسد اعتقادهن، ومتى فسد اعتقاد
المرأة فسدت عفتها، ولو ضرب عليها ألف حجاب، فالدين الدين، لقنوهن إياه
بالتربية والتعليم، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) في عامة كتب الرفاعية الحديثة أن الشيخ الرفاعي كان يقول: إن الولي يصل إلى مرتبة تكون في إرادته شعبة من الإرادة الإلهية بحيث يقول للشيء كن فيكون، فإذا سمع العامي هذا في كتاب إسلامي يصدقه؛ لأن العامة تعتقد أن جميع ما في الكتب حق، لا سيما إذا كان منسوبًا للأولياء (حاشاهم) .(2/457)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(العمارة البحرية العثمانية)
إن العمارة البحرية العثمانية وإن كانت قد أبلت أحسن بلاء في حرب سنة
1877-1778م إلا أنها قد خرجت منها بعد أن وضعت أوزارها متضعضعة مختلة
النظام بعض الاختلال، واقتضت حالتها هذه تجديدها أيضًا، كما اقتضت التجديد
أيضًا حالة الجيش، وقد عملت جلالة السلطان على هذا التجديد حتى تم الآن
(مبالغة) بما أوتيته من بُعد النظر في عواقب الأمور، وصدق العزيمة الذي
يقارن تنفيذ جميع مشروعاتها الإصلاحية، فلم يبق إلا مجرد الاختبار النهائي الذي
يعقب تحريك العمارة تفصيلاً، وهو أمر تابع لأصول الإصلاح التي وضعت،
أصبحت العمارة العثمانية اليوم تشتمل كما في الإحصاء الأخير لسنة 1894م هذه
السفن وهي:
من المدرعات سبع بوارج كبيرة وثلاثة يخوت ملوكية، وثلاث سفن صغيرة
وواحدة وعشرون من النسافات (التوربيد) وقد تضاعف هذا العدد الآن،
وسفينتان غواصتان من طراز فوردنفيلد تسع جميعها 69697 طونولاتو وقوتها
الاسمية قدرها 39946 حصانًا بخاريًّا، وفيهما 360من مدافع كروب واسترونج
وفوردنفيلد، وعدة عساكرها5420جنديًّا يديرهم 505 ضباط، واثنتي عشرة من
السفن الخشبية التجارية، وثلاث بوارج، وسبع سفن صغيرة، و 12 سفينة من
حافظة الشواطئ و18 من ذات الدقلين، فجملتها أربعون سفينة تسع 40912
طونولاتو وقوتها الاسمية 1913 حصانًا بخاريًا، وفيها 318 مدفعًا مختلفة
الأقطار، وعدة عساكرها 7454 جنديًا يديرهم 695 ضابطًا، من السفن الشراعية،
واحدة من السفن الجارة وأخرى من ذات الدقلين، وواحدة من السفن المستطلعة،
و30 من السفن النقالة، وجميعها تسع 8275 طونولاتو، من البوارج المدرعة
يجب أن نذكر البارجة الحميدية التي ركبت البحر في سنة 1885م من معمل
الأميرالية في القسطنطينية وهي سفينة فاخرة تدل على أن الأتراك في صناعة
البوارج البحرية يقدرون على مجاراة الدول الأخرى ذات القوى البحرية، تشتمل
الآن المعامل العثمانية في القسطنطينية وأزمير بإصلاح عدد من السفن الكبيرة
والصغيرة، وتجربتها لجعلها ملائمة للحركات العصرية.
قد اختارت حكومة جلالة السلطان للمدافعة عن شواطئ المملكة وتسليح
مدرعاتها المواد النسافة، وذلك لبساطة تركيبها وعظيم أثرها، فلو أن عمارة أجنبية
حاولت الهجوم على بوغاز الدردنيل لتدخله، لصبت عليها مصائب عظمى من
الخسائر، فإنها تكون محصورة بين نيران الحصون التي على الشاطئين- الأوروبي
والآسيوي - ومعرضة في كل دقيقة لنسف النسافات (التوربيد) التي بتوالي
صفوفها تقطع عليها طريقها، ولا تمكنها بحال من الأحوال من وصولها إلى
رأس نجارا، ومع ذلك لو أن بعض السفن الحربية الأجنبية نجحت بقوة التيار
في اجتياز هذا المعقل الأول، فلا بد لها أن تصادف السفن الحربية العثمانية،
وتكون ملاصقة له، فتحطم منها هذه في أقرب وقت بمساعدة القلاع المتواصلة
على الشاطئ ما بقي سليمًا بعد اجتياز ذلك المعقل، وفضلاً عن ذلك فإن من
يملك بوغازالدردنيل فهو الذي يملك الشاطئ الأوروبي؛ لأن الشاطئ الأسيوي أقل
منه أهمية، فأي محاولة من العدو في إنزال جنوده عليه - إما في شبهة جزيرة
غاليبولي أو غربها - لا بد أن تؤدي به إلى هزيمة فاضحة، وبعد أن تطحن جنودَه
قوى الجيش العثماني المراقب الفائق عليه يبلغ به العجز إلى حد أنه لا يمكنه أن يجد
سبيلاً للالتجاء إلى مراكبه، ويضطر بلا شك إلى تسليم أسلحته.
مدة الخدمة في العمارة البحرية اثنتا عشرة سنة، خمسة منها في القسم العامل
(النظام) وثلاثة في القسم الاحتياطي لهذا القسم، وأربعة في القسم الاحتياطي
الحقيقي (الرديف) .
لا ينقص فرقة الضباط التي تخرج من مدرسة حلقى البحرية شيئًا تحسد عليه
ضباط فرنسا وإنكلترا البحريين، قد شغفت جلالة السلطان بأن تمنح للعمارة التجارية
ما يلزم لانتشارها من وسائل التشجيع والتنشيط، فالفضل لحكومتها الحالية في إسداء
تركيا المدرسة التجارية البحرية التي أسست في حلقى من أربع سنين، وهي
تربي رؤساء السفن (القبودانات) الكبيرة والصغيرة التي يتجر بها على الشواطئ،
كما تخرج رؤساء السفن المعدة للاتّجار في البلاد البعيدة الذين سيكون لهم خدم مشهورة
في التجنيد البحري، يتعلق بنظارة البحرية أيضًا من مشاة العساكر البحرية ما عدده
5000 أو 6000 عسكري، تستحق النظر هنا لأنها مختارة من أحسن جنود
المملكة العثمانية.
تنقسم تركيا من حيث ترتيب العمارة البحرية إلى تسعة مراكز بحرية وهي:
القسطنطينية وأسكودار وتشيو وبريفيزا وسالونيك وكريت وطرابلس الغرب
والبصرة وفيها خليج العجم، وجدة وفيها البحر الأحمر، قد قضت فرنسا بعد مصائب
حرب 1870و 1871 عشرين سنة في إصلاح خلل نظامها الحربي، وإعادته إلى
ما كان عليه، أما تركيا فقد نجحت في إتمام هذا العمل نفسه في نصف هذا الزمن،
وهو أحسن مدح يمكن للإنسان أن يمتدح به الدولة العلية ومليكها القادر (مبالغة) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/462)
2 جمادى الآخرة - 1317هـ
7 أكتوبر - 1899م(2/)
الكاتب: أحد الفضلاء
__________
رد على باحث في كتاب
سر تقدم الإنكليز السكسونيين
(لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء)
قامت نهضة الأقلام في هذه الأيام الأخيرة تكيّف الداء الذي ألمَّ بحال الأمة
وتُتبعه بوصف العلاج الناجع لها، وقد دارت أبحاثها على أن الدواء الصحيح
لشفائها من هذا الضعف القَتَّال هو الرجوع إلى الدين، وهذا ضياء في القلوب قد
سطع، ويشرح قلب المؤمن الغيور على أمته، ولكننا نأسف كل الأسف من أن هذا
الشعاع الذي ظهر ما أوشك أن يتم نوره حتى خالطه غيم في الأفكار، واختلاط في
الشعور، وإفراط في النزعة.
فقد ينزع بعض الكاتبين إلى التشديد على كل فكر يبديه صاحبه في إصلاح
الأمة إذا لم يفتتحه باسم الدين، ولم يعلق كل مقدمة منه بنص من نصوص الدين،
وإلا نقد كل مؤلف عرضت فيه سنن الله في خلقه، وشؤونه في عباده متى لم يذكر
فيه اسم الدين، وإن كان جلّ ما فيه من مخ الدين، كما فعل الباحث في كتاب (سر
تقدم الإنكليز السكسونيين) الذي نقله سعادة أحمد بك فتحي زغلول إلى لغتنا العربية
الشريفة في مقالته التي نشرت في العدد الأخير من جريدة (الموسوعات) الغرَّاء
حيث بنى نقد الكتاب وترجمته على أنه لا يرجى للأمة الإسلامية خيرٌ إلا من
الدين حتى يخيل لقارئه أن جميع ما في الكتاب يناقض الدين مع أنه لا شيء مما
يوهمه مقاله بمتوهم.
نعم، الدين خير الوسائل لإصلاح الأخلاق وتقويم النفوس وتطهير الأرواح،
وهو المرشد الأول إلى النظر في دقائق الكون وما أودعه الله من سر ارتباط
الأسباب بمسبباتها، وقد دعانا إلى أن ننظر في أحوال الأمم الغابرة، ونحيط بما
حولنا من شؤون الأمم الحاضرة، ونتأمل في تاريخ هذا الوجود وفي أطواره، وفي
تصرف الله في شؤونه، وفتح لنا مجال الأفكار وميدان الإدراك، وأمرنا بالتفكر
والاعتبار، كل هذا لنزداد في عقائدنا قوة، وفي يقيننا ثباتًا ومتانة، وفي أمرنا
رشادًا، ولنتقي ما عساه يصل إلينا ممن يطمع فينا، أو يعدو ببغيه علينا.
وهذا قرآننا الشريف غالب آياته عبر وروايات عن حوادث الشعوب الأولى،
ومرآة للتواريخ الماضية قد ساقها الله لنا في خلال أوامره ونواهيه؛ لتكون أقرع
في الحجة وأوقع تأثيرًا في القلوب الحيَّة.
وقد مثل لنا كتاب (سر تقدم الإنكليز) حال أمة رقت في المدنية درجة رفيعة
عرفها لها أعداؤها، وبهذه المدنية نفسها أصابنا منها ما نشكو إلى الله عواقبه،
ونلوم أنفسنا على ما جرَّ بِنا إليه، وقد جعلت من أهم أصول التربية عندها من القوى،
ووجهت عنايتها لغرس الوطنية الصادقة في القلوب مع تنظيم أماكن تعليمها،
وترقية زراعتها وصناعتها، ثم قابل بينها وبين أمة تركت الاعتماد على العمل،
وأهملت كثيرًا من تلك الوسائل في سيرها إلى الغاية التي تسير إليها الأمم، وكانت
النتيجة سيادة الأولى وانحطاط الأخرى.
أليس يجب أن يكون هذا الكتاب خير موعظة تهدى للاعتبار، وخير ذكرى
تقدم لأمة من أصول دينها النظر في الموجودات؛ لتزداد بصيرة في قدرة الله
وتدبيره في خلقه، ولتحتاط لنفسها بالعمل على ما تراه من سنن الله في غيرها وفيها،
والمقابلة بين السنتين والنظر في سبب تباين الطورين مع الرجوع في ذلك كله إلى
أصول دينها.
وقد قصد سعادة المترجم بكتابه هذا تنبيه الأفكار إلى معنى جليل ربما لم يخطر
على بال الباحث، ولكنه يخطر على بال المتأمل، قصد أن يثبت لأمته أن الأخلاق
الفاضلة والتربية الصحيحة أينما حلت في أمة رفعتها لذروة السعادة، وصعدت بها
في معارج السيادة، فكيف بنا إذا أخذناها عن ديننا، وهي من أخص مزاياه؟ لا
شك أن تأثيرها يكون فينا أعظم، وفعلها في طباعنا أنجح.
أي تنديد يسمح به دين الباحث يصح توجيهه إلى مثل سعادة المترجم، وقد
أهدى أمته مرآة عِبَر يرى في أحد وجهيها أمة راقية أوج المدنية ببركة التمسك
بالعوامل السليمة، وأخرى هابطة من رفعتها بسبب إهمالها تلك العوامل،
خصوصًا إذا اعتبرنا أن روح الترقي وهو الاستقلال الشخصي هو بعينه روح الدين
الإسلامي، والإسلام هو أول دين أفضى بالعبد إلى ربه مباشرة بلا واسطة رئيس
ولا نائب، وهو الذي دعا إلى العمل بالأسباب، وقضى بأن لا سبيل إلى السعادة إلا
بالعمل بعد الاستعانة به وحده.
وكأني بالباحث يميل إلى القول بأن سعادة المترجم لا يروق في نظره تهذيب
الدين وآدابه، ولهذا اختار النصح لأمته من الطريق الذي سلكه، ولكن هذا سَبْق
نظر أو سوء ظن بدون قرينة عليه، ومن يطلع على كتابات سعادة المترجم، أو
يتلو شيئًا من كتاب (الإسلام) الذي نقله إلى العربية يعلم قوة إخلاصه في دينه
وغيرته على يقينه، وهذا كتاب (سر تقدم الإنكليز) قد ختم بفصل في الكلام على
الدين، وبيّن أن سعادة الأمم بصلاح الدين، وشقاءها بفساده.
وقد ذهب حضرة الباحث في مقالته إلى أن حب الخير وحده ليس كافيًا في
سعادة الأمة، بل لابد من بث الرغبة أو الرهبة أو كليهما في الناس، وتلك الرغبة
أو الرهبة إن لم تكن من الله تعالى فمن السلطان، وهذا لا نخالفه فيه، وسعادة
المترجم لا يطالب الناس بالانسلاخ عن دينهم والابتعاد عن الله تعالى، ولا مخالفة
السلطان عند مطالعة كتابه، وأعجب من هذا أن حضرة الباحث قال في مقالته:
(لو أراح المؤلف نفسه من عناء التحرير والتحبير، ودعا الناس إلى أخذ علم الدين
والأخلاق عن أهله وعلمائه، لأفاد وأجاد، وفينا بحمد الله تعالى من علماء الدين
وأطباء النفوس من يعدون بالمئات) .
وإنا نسأله بحق دينه أن ينبئنا بأسماء عشرة من تلك المئات حتى ندعو الناس
إلى دروسهم، وليخبرنا بدروس الأخلاق والآداب التي يلقونها وأوقاتها، ولا شك أن
سعادة المترجم وغيره من أهل الغيرة ينهضون لحث الناس للتربع في حلقات
دروسهم.
فإن كان من تؤخذ عنه الآداب المصعدة للأمم في درجات الترقي يبلغون هذا
العدد، فَلِمَ لَمْ يؤلفوا بأنفسهم الجمعيات لدعوة الناس إلى تلقي الآداب وسماع المواعظ
عنهم؟ ولِمَ لَمْ يبدءوا على الأقل بإصلاح خطب أيام الجمعة، ووضعها في عبارة
تفهمها العامة، وإيداعها معاني تنفذ في أفئدتهم ويظهر أثرها في عملهم، وأما الجامع
الأزهر فإنَّا نسأل الله أن ينبه في علمائه عين الدين، ويوقظ في أرواحهم النظر إلى
مصالحه، بل ومصالح أنفسهم.
وليت شعري علام عمت الشكوى من المحاكم الشرعية، وحار المصريون في
إصلاحها، وما الذي بعث الأجنبي على التداخل في شؤونها، وحمل جميع الكاتبين
على الإقرار بوجود الخلل والفساد فيها، وإنما لاموا الأجنبي في الهجوم عليها،
وطلبوا منه أن يدع الأمر لأهله، وأن يَكِل إصلاحها إلى أهل الدين حتى يكون قوام
الإصلاح هو الشرع القويم.
هل قال أحد بأن الشرع قائم في محاكمه؟ هل اعترف أحد بأن العدل غالب
على القضاة في تلك المحاكم؟ بل هل أقر أحد بأن النصف من عددهم قائم بالعدل
في أحكامه، بعيد عن الهوى في مذاهبه وآرائه؟ فإن لم نجد الصلاح في أولئك
القضاة غالبًا، وهم منتخبون من علماء ذلك الجامع المعمور، فهل نجد من يسمع
قولنا إذا دعونا العالم لحضور مجالس من تلقوا عنهم. إنهم تلقوا وغيرهم يتلقون
دروس الفقه، وشيئًا من دروس العربية، يحضرون تلك الدروس على أنها
صناعات، بل على أنها عبارات يجب على الطالب أن يفهمها؛ لأنها ألفت في كتبها
لا لأجل أن ينتفع بما دلت عليه كما هو معلوم، أما الآداب السامية فهي في بطون
الكتب التي لا يقرءونها، ويعدها الكثير منهم من سقط المتاع، فهل من واعظ يعظ
من يحق لهم أن يعظونا؟
تكلم الكاتب على النظافة - نظافة الظاهر ونظافة الباطن - فهل نجد بها عناية
في ذلك المحل الذي يجدر به أن يكون أنظف مكان وأقدسه وأشرفه، إلا أننا نستجير
بمثل الكاتب في إرشاد أهله ومتولي شؤونه أن يجعلوه ومن فيه قدوة في النظافة
ظاهرًا وباطنًا.
إن الكاتب لم يذكر إلا شخصًا واحدًا من أهل العلم ألَّف جمعية (مكارم
الأخلاق) فنعم الصنيع صنيعه، ونسأل الله أن يرشده إلى أقوم السبل فيما هدي إليه
وأن يقيه شر العجلة واستسهال نيل الغاية حتى يظهر لعمله من الأثر ما نحبه
لعامتنا.
فهذا كله يحملنا على أن ننظر في سِيَر غيرنا لنعلم كيف وصلوا إلى السيادة
على غيرهم، فإذا رأيناهم وصلوا بالعمل لا بالقول، ورجعنا إلى ديننا فوجدناه قائمًا
على رؤوسنا ينادينا بقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة:
105) استحينا وخجلنا، وقلنا: ما كان أجدرنا بأن يعمل كل منا بما هو ميسر له،
وما كان أولانا بالجد وترك الهزل، وما أحقنا بالنظر إلى الغايات دون النظر في
تحقيق العبارات.
وإني أرى من الواجب على حضرة الباحث وهو أعلم منا بمعاهد التربية
ودروس الآداب أن يبدأ بتأليف جمعية من الشبان إن كان شابًّا، ومن الكهول إن كان
كهلاً، ومن الشيوخ إن كان شيخًا، فنذهب إلى تلك الدروس ونتلقى من الآداب ما
يعيد إلى الأمة ما فقدته من دينها، ويحيي فيها ما أماتته التقاليد من عقائدها، وعليه
أن يعلن ذلك، فأكون أول الساعين معه إليها، وأنا في انتظار ذلك إن شاء الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ح. ع)
__________(2/464)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القسم الثاني
من خطبتنا في التربية
وأما تربية الأطفال العملية فهي التربية النافعة الحقيقية، وبها تناط سعادة الأمة
والبلاد إذا هي سارت على نهج الحكمة والرشاد، لنا من نفوس هؤلاء الأطفال
ألواح صقيلة قابلة لكل نقش، ومن أدمغتهم قراطيس بيضاء نظيفة مستعدة لكل رسم،
فعلينا أن ننقش فيها آيات الحكمة والفضيلة، ونرسم فيها تعليم المبادئ التي تؤدي
إلى الغايات الجليلة، علينا أن نعوِّدهم على الصدق في القول والعمل، وعلو الهمة
وإطراح الإهمال والكسل، إلى غير ذلك من الأعمال النافعة والخصال الرافعة؛
لتنطبع في نفوسهم الملكات الشريفة على الوجه الذي بينّاه أولاً.
تقرؤون في الجرائد الإسلامية، وتسمعون في المجامع الدينية أن نجاح
المسلمين لا يكون إلا بالرجوع إلى تعليم الدين، وأن المدارس الأميرية قد نسخت
الدين ومسخت العربية، والمدارس الأهلية تحذو حذوها وتقتفي أثرها، فماذا
نعمل؟ وكيف السبيل إلى بلوغ المأمل وهذه المدارس لا غناء عنها؛ لأن الموظفين لا
يكونون إلا منها؟
وتعليم الأزهر مقصور على كتب مخصوصة، قصاراها فهم أحكامها
المنصوصة، لا تجمع بين الدنيا والدين كما هو الواجب على المسلمين.
يسهل على الغني منا أن يتخذ لأولاده أستاذًا مخصوصًا يعلمهم الدين، ولكن
هل يكفي هذا لحصول الغرض الذي نبتغيه؟ كلا، لا بد من تعميم التعليم،
ولا بد من التربية بالعمل، أما تعميم التعليم على المنهاج الديني فلا بد له من تأليف
الجمعيات الإسلامية وها أنتم أولاء قد بدأتم بهذا العمل الشريف، فأنشئت فيكم
جمعيتان إحداهما هذه (مكارم الأخلاق) التي كنا نخطب فيها، والثانية جمعية (شمس
الإسلام) أما شمس الإسلام فقد شرعت بالتربية والتعليم بالفعل، وأما هذه الجمعية
فإنها تنتظر من حميتكم الملية، وغيرتكم القومية أن تمدوها بالمساعدة المالية للقيام
بتحصيل هذه الأمنية، وكأني بالدعاء وقد أجيب، وبالعمل قد ظهر عن قريب. وأما
التربية العملية فهي الركن الأول، وعليها الاعتماد والمعول، ولكن أنَّى لنا بمن
يحسنها ويقوم بها.
كتبت في مقالة أننا إذا نظرنا في ضعفنا وبحثنا في علاجه نرى أننا في حاجة
إلى أشياء كثيرة، وإذا ارتقينا في الأسباب ننتهي إلى شيء واحد إذا وجد أوجد كل
شيء ألا وهو الرجال العارفون بطرق المعالجة معرفة صحيحة تبعث على العمل،
إذا كنا نرى الأساتذة والمعلمين لا يحسنون التربية التي بها نرجو الحياة السعيدة فمن
عساه فينا يحسنها؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، ولولا أن فينا بعض قوم من
العارفين نرجو أنْ يُزْهِقَ حقُّهم الأباطيلَ ويمحو نورُهم هذه الظلماتِ لغلب الخوف
على الرجاء، واستحوذ اليأس على الأمل.
ما لا يدرك كله لا يترك قِله، فعلينا أن نوجه العناية التامة إلى تربية أبنائنا
وبناتنا بكل ما في استطاعتنا. البحث في هذه التربية طويل الذيل، متدفق السيل،
وإنما وقفت لأبين بالاختصار ما يجب أن نتوجه إليه، ومتى صح القصد وصدق
العزم نهتدي إلى سواء السبيل، فالعمل يمد العلم، والعلم يقوّم العمل، ولكن لا بد من
تنبيه وجيز يسهل على كل أحد تعقله والأخذ به، أهم شيء أنبه إخواني عليه أن
التربية لا تكون بالقول بل بالمعاملة، لو كان الإنسان يتربى ببيان الرذائل له، وقولنا
له: اتركها، وسرد الفضائل له وقولنا له: الزمها، لكان الأجدر بها العقلاء الكبار
دون الأطفال الصغار؛ لأن الكبير أوعى للقول وأفهم للخطاب، لا يكاد أحد من
الجماهير المجترحين للسيئات - لا سيما الكبائر - يجهل أنها محرمات، وما عساه
يوجد من جاهل بها، فحسبه أن يعلم معظمها في حضور مثل هذا الاجتماع، وإنما
التربية المثلى تكون بالمعاملة الحسنى، فإذا أردت أن يكون وليدك أو تلميذك صادقًا
مثلاً، فعامله بالصدق، وحُلْ بينه وبين الكاذبين لا سيما من أخدانه وأترابه؛ فإن
الصغير يقلد كل ما رآه، ويقتبس من كل من عاشره، وتتكيف نفسه بكل ما يرد
عليها من أي طريق جاء. سبحان الله ما أشد غفلتنا، يكذب أحدنا على ولده من
أول النشأة بالقول والفعل، ولا يمنعه من معاشرة الكذابين والمجرمين؛ فتنطبع في
نفسه ملكة الكذب حتى إذا ما شب ورأى والدُه مضرة ذلك ومعرّته فيه قال: يا بنيّ لا
تكذب؛ فإن الكذب حرام، فأنّى تمحو هذه الكلمة ما رسخ في نفسه بكرور السنين،
وصار صفة من صفاته؟ إن فشوّ وباء الرذائل جعل التربية عسيرة على العارف
بها والبصير بدقائقها، فكيف حال الغافل الجاهل؟ ربما يتيسر للغني حجب ولده عن
قرناء السوء من أترابه، وأن ينتقي له أصدقاء مهذبين، ويتخذ له ولهم في داره من
الألاعيب والألاهي ما فيه غنية عن الرياضة في خارج الدار، ولكن أنّى يتسنى
للفقير مثل ذلك، لا يزيل هذه العقاب والعواثير من طريق التربية إلا العزيمة
الصادقة المنبثقة عن العلم بأن بوجود هذه التربية حياتنا، وفقدها موتنا وهلاكنا.
جماع ما يؤخذ به في تربية الأولاد: (1) المنع عن قرناء السوء، فإن الولد
يستفيد من مثله أكثر مما يستفيد من أبيه وأمه؛ لأن أفكار تِرْبِه في درجة أفكاره،
ورغباته من جنس رغباته، وأعماله من قبيل أعماله (2) الحيلولة بينه وبين كل
ما يضره الاطلاع عليه أو التلبس به في جسده أو عقله ونفسه، ولكن من حيث لا
يشعر؛ إذ أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، والمحبوب مطلوب والنهي عنه إغراء
به، و (3) أن يحمل على كل ما يطلب منه بالعمل، وأن يكون الباعث له على
العمل التشبه والاقتداء، ولذلك كان بعض شيوخ الصوفية يرتاض مع مريديه حتى
كأنه سالك مثلهم، و (4) أن يرجح الترغيب على الترهيب. هذا ما يجب أن نأخذه
بقوة واجتهاد {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29) .
اهـ.
هذا ملخص الخطبة، وقد كتبت منها أكثر جملها وتركت بعضها عمدًا؛ لكونها
جاءت في (المنار) من قبل، أو لعدم فائدتها، وما كتبته فهو قريب مما قلته في
اللفظ والفحوى، ومن عادة الرئيس أن يتعقب كل خطيب بكلام يثني عليه به ويلم
بمعنى ما تكلم به إجمالاً، وقد جاء في تعقبه إياي بكلمات أبان فيها عن ارتياب في
كون الأولاد يقتبسون العادات والأخلاق من معاشريهم، وحصر ذلك في الآباء
مستدلاًّ بالقول المشهور (الولد سر أبيه) وصرح بأنه يكتفى في تربية الولد
التربية الصالحة أن يرى أباه يعمل الصالحات، وهذه غفلة من حضرة الأخ الفاضل
الشيخ زكي الدين عن الوجود؛ لأننا نرى أكثر أولاد الصالحين فساقًا لاشتغالهم
بأنفسهم عن تربية أولادهم، ومن الأمثال المشهورة في هذا (خبث الرجل الصالح
في منيه) وهو تعليل شعري، والعلة الصحيحة هي عدم التربية الصحيحة، أما
قول (الولد سر أبيه) فهو إشارة إلى الوراثة، وللوراثة أثر لا ينكر في الاستعداد
والقابلية، ولكنّ الاعتماد على التربية فهي التي لا يغلب سلطانها، وليست التربية
إلا العملية كما قلنا. وألمَّ أيضًا بما قلته من أن المرأة يثقل على طبعها أن يحملها
الرجل على ما يريده بالقوة والإلزام، وأن الأولى أن يأخذها بالرفق واللين، وسبق
إلى فهمه أن هذا منافٍ أو مناقض لقولي، ينبغي لمن يحاول تربية نفسه أن يستعين
على ذلك ببعض آخوانه وأصدقائه، بأن يجعله مسيطرًا عليه ومنتقدًا له، يذكّره إذا
نسي ما التزمه من ترك المنكر وعمل المعروف، ويعاتبه بل ويؤنبه إذا هو نقض
العهد عمدًا.
وصرحت حضرته في التعقيب بأنه كيف يثقل على المرأة إشراف زوجها
عليها بالأمر والنهي من سماء السلطة، ولا يثقل على الرجل مثل ذلك من صديقه
وليس له عليه من السلطة مثلما للرجل على المرأة؟ والجواب عن هذا ظاهر من
وجوه (أحدها) أن ما يكون من الصديق لصديقه لا استعلاء فيه؛ لأنهما كفئان فلا
يثقل على النفس. (ثانيهما) أننا قلنا: إن ذلك ينبغي أن يكون بالمواطأة بينهما،
وأنه هو الذي يجعل صديقه رقيبًا عليه، ومهيمنًا على أعماله، ومن يثقل عليه هذا
لا يأتيه، وإذا وجدت امرأة عاقلة تواطأت مع زوجها على أن يؤنّبها إذا هي قصرت
بما يطلب منها، فيكون حكمها حكم الصديق. (ثالثها) إن النساء أسرع من الرجال
انفعالاً، وأقل منهم احتمالاً، ولذلك شبههن النبي صلى الله عليه وسلم بالقوارير،
ولو أنه ذاكرنا في المسألتين قبل أن ينتقد لانجلت الحقيقة، ويمكنه بعد ذلك إيضاحها
للجمهور، ولكنه تعجل في بيان ما اعتقده عملاً بأثر (خير البر عاجله) وحيث ألقى
الكلام للجمهور اضطررنا أن نبينه لهم بهذه الكلمات لئلا تكون الشبهة علقت ببعض
الأذهان فتصد أصحابها على العمل الذي حملناهم عليه، ولم نشأ أن نتعقبه بالقول
في محل رئاسته أدبًا معه، ولئلا نحفظ قلبه، فإن وداد مثله من الفضلاء نعده من
أعلاق الذخائر.
إذا تأمل هذا الذين لم يفهموا قولنا الذي نكرره دائمًا: (إن العلم اليقيني الذي
يمتزج بالنفس هو الذي يحملها على العمل جزمًا) يتجلى لهم السبب في عدم عمل
الناس بالنصائح التي يسمعونها، فإنها إذا كانت مجملة كاتحدوا واتفقوا، واتركوا
المحرمات وتمسكوا بالصالحات، لا ترشد سامعها إلى ما يجب أن يعمله، وإذا كانت
مفصلة يعرض للتفصيل مثل هذه الشَََُّبَه التي عرضت لرجل من أمثل وعاظنا، فما
بالك بالشُّبَه العامة التي ذهبت بالجزم على الوعيد من النفوس كقول بعض العلماء:
يجوز أن يخلف الله تعالى وعيده، وكالاعتقاد بالمكفرات والشفاعات إلخ ما بيناه في
مقالة (تأثير العلم بالعمل) وعسى أن يحمل حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين
كلامنا على الإخلاص فيتلقاه بالقبول، فالحكمة ضالة المؤمن، والعصمة في تبليغ
الحق إنما هي للأنبياء دون سائر البشر، والسلام.
__________(2/470)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(3)
(أمالي دينية- الدرس الثالث)
(7) الدين توحيد: بسم الله الرحمن الرحيم {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى: 13)
دين الله تعالى واحد يجب أن لا يكون فيه تفرق ولا اختلاف؛ لأنه إنما وضع
لإسعاد البشر، والسعادة إنما تكون في الاجتماع والتوحيد، لا في التفريق والتعديد
ومن فهم معنى الإنسان وشاهد تصرفه في الأكوان علم أنه خلق ليعيش مجتمِعًا لا
منفردًا، ومؤتلِفًا لا مختلِفًا، وهذا هو معنى الكلمة المشهورة: (الإنسان مدني الطبع)
فإذا جاء الدين على خلاف ما تقتضيه الفطرة كان شقاء لا سعادة، ومحنة لا
منحة، وأي جهول يجرؤ على أن يرمي دين الله بهذه النقيصة الكبرى والمَعَرَّة
الشنعاء؟
أول اجتماع بشري هو اجتماع الأسرة (العائلة) المؤلفة من أبينا آدم وأمنا
حواء - عليهما السلام - ومن أولادهما، وقد كان آدم نبيًّا يتلقى عن الله من الدين ما
يسوس به ذلك الاجتماع الصغير، وقد فسق بعض ولد آدم عن هدي والده فقتل أخاه
فكانت بذلك مخالفة الدين سُنَّة في الإنسان باقية إلى ما شاء الله، ثم اتسعت دائرة
الاجتماع فكانت الشعوب والقبائل والأقوام والأمم، وكان الله تعالى يرسل إلى كل
قوم نبيًّا {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) يعلّم التوحيد ويدعو إلى
ما يتم به نظام الاجتماع من التهذيب والتأديب، وكانت آفة كل دين شرعه الله تعالى
لعباده اختلاف أهله فيه وتفرقهم إلى مذاهب متعددة يضلل أهل كل مذهب أتباع
المذهب الآخر، وينصرون مذهبهم ولو بالتأويل والتحريف، وينتهي ذلك
باضمحلال الدين وذهاب فائدته بالكلية، بصيرورته مشقيًا لذويه، مخزيًا لمجموع
متبعيه.
ولما استعد النوع الإنساني بمقتضى سُنة الارتقاء لاجتماع جميع أممه وشعوبه
واتصال بعضهم ببعض، وهبه الله تعالى الدين الأخير الذي ترشد تعاليمه إلى نظام
هذا الاجتماع الكبير، فجاء كتابه (القرآن) ينهى العالمين عن الاختلاف والتفرق
في الدين حيث كان ذلك هو الذي شتت شمل الغابرين، وجعلهم سلفًا ومثلاً للآخرين
سمعتم الآية الكريمة التي افتتحنا بها الدرس، وكيف صرحت بأن دين الله تعالى
على لسان جميع الأنبياء واحد لا ينبغي التفرق فيه، والمراد به أصول الدين
وقواعده العامة في الإيمان والتهذيب واجتماع الكلمة، وكون الأعمال الشخصية
دائرة على محور المنافع الشخصية، والمعاملات دائرة على محور المصالح
العمومية، وأما قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48)
فهو بيان للواقع، ومخصوص بفروع الأحكام التي تختلف باختلاف المصالح
والمنافع التي تتغير بحسب الأزمنة والأمكنة، بل مثل هذه الأحكام تتغير في
الشريعة الواحدة بمثل هذا التغير والاختلاف، ولذلك كان من أصول الشريعة
الإسلامية تحكيم العرف الذي تجري عليه الناس، ومثل هذا لا يعد اختلافًا وتفرقًا؛
لأنه تغيير في الصورة والعرَض لا في الحقيقة والجوهر، وفي المعنى اتفاق على
اجتناب المضار واجتلاب المنافع، وما هذا إلا لُباب الدين الذي تزداد به المحبة
وتنمو الألفة، ويكون أهله جسمًا واحدًا لا شيعًا مختلفة، وإنما نهى الله تعالى عن
التفرق الحقيقي الذي يجعل أهل الدين الواحد شيعًا مختلفة يتباغضون ويتحاسدون،
يتلاعنون ويتقاتلون، ويزعمون أنهم ينصرون بذلك الدين، ودين الله بريء منهم
أجمعين، بالغ القرآن في ذم هذا التفرق حتى قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} (الأنعام: 159) وحسبك تبرئة الله تعالى رسوله منهم
في كل شيء دليلاً على بعدهم عن دينه وتنائيهم عن مرضاته، وقال تعالى: {وَلاَ
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} (آل عمران: 105)
كان الخلفاء الراشدون وعلماء الصحابة وأكابر أئمة السلف يحافظون أشد
المحافظة على عِقد الدين أن يتناثر بالخلاف والشقاق، ويحذرون على وحدة الإسلام
أن تثلم بالتمذهب والافتراق، فما ظهر للبدعة نبت إلا حصدوه، ولا نَجَم في
رءوس الفتنة قرن إلا قلعوه، وناهيكم بما فعل سيدنا عمر بصبيغ التميمي، وما كان
الأئمة يجيبون به من يسأل عن المتشابه وتأويل القرآن من الزجر والنهر حتى رزئ
الإسلام بفتنة الخلافة التي كانت ينبوع الفتن وبركان الإحن.
فعمَّ البلاءُ الخلفاء والعلماء والملوك والأمراء، وانقسم المسلمون إلى مذاهب،
وظهر فيهم تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض} (الأنعام: 65) وغلا بعضهم حتى صاروا أبعد عن الدين من سائر المشركين،
واشتعلت بينهم نيران الحروب فكانوا عونًا لأعدائهم على امتصاص دمائهم وتمزيق
أشلائهم، وهدم بنياتهم وأضعاف سلطانهم، وأخص بالذكر الفرقتين العظيمتين أهل
السنة والشيعة اللتين لا ينظر في تاريخهما عارف بحقيقة الدين وغيور على
المسلمين إلا ويتفطر فؤاده من الغم، ويرسل الدمع ممزوجًا بدم؛ لأن مثار الخلاف
بينهما مسألة فرعية ذهب وقتها وذهبت فائدة ظهور الصواب فيها بحيث لا مبعث
للتنازع ولا مجال للتقاطع لو أنصف الفريقان وتعاملوا معاملة الإخوان التي يوجبها
عليهم القرآن الذي يذعن له الاثنان. اشتد كل فريق في مجادلة الآخر ومجالدته،
ومناهضته ومواثبته، ولو سلكوا طريق القرآن لوضح الحق واستبان.
أمر الله نبيه أن يحاج المشركين بمثل قوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا
أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-25) أين هذا التلطف في الدعوة إلى
الحق الذي أسند به النبي - بأمر الله - الإجرام إلى نفسه والمؤمنين مجاراة
للمشركين وحكاية لألفاظهم، وسمى به شركهم عملاً، ولم يصفه بكلمة ذم لئلا ينفروا
من سماع الحق؟ أين هذا مما جرى عليه المسلمون مع إخوتهم في الدين حيث
يسمع أحدهم عن الآخر كلمة يريها إياها فهمه السقيم أو السليم خطأ فيملأ عليه
الدنيا تشنيعًا، ويؤلف الكتب في الرد عليه وتضليله أو تكفيره، فيضطره إلى مقابلته
بالمثل، ويعمى عن الحقيقة إن كان مبطلاً، وينتصر لكل منهما المنتصرون فتعظم
الفتنة وتعم المحنة؟ هذا ما كان وهذا ما هو كائن فالطف اللهم بنا فيما سيكون.
أمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب بمثل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) وأن
يلاطفهم بمثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) بل ووعدهم بأنهم إذا دخلوا في الإسلام يؤتون أجرهم
مرتين، وإذا ظلوا على دينهم كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وندافع عنهم بما ندافع
عن أنفسنا.
فهل يصح لأهل هذا الدين أن يجادل بعضهم بعضًا بالتي هي أسوأ، والله
تعالى يقول لهم: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46)
أما وسر الحق لو أن قومنا ساروا على منهج القرآن في مقارعة البدع لما اتسع
الخرق على الراقع، وقد كان شأن قومنا في ذلك كما قال أستاذنا الأكبر في رسالة
التوحيد وهو: بقيت علينا جولة نظر في تلك المقالات الحمقى التي اختبط فيها القوم
اختباط إخوة تفرقت بهم الطرق في السير، إلى مقصد واحد، حتى إذا التقوا في غسق
الليل صاح كل فريق بالآخر صيحة المستخبر، فظن كل أن الآخر عدو
يريد مقارعته على ما بيده، فاستحرَّ بينهم القتال، ولا زالوا يتجالدون حتى تساقط
جلهم دون المطلب، ولما أسفر الصبح وتعارفت الوجوه رجع الرشد إلى من بقي
وهم الناجون، ولو تعارفوا من قبل لتعاونوا جميعًا على بلوغ ما أمَّلوا، ولوافتهم
الغاية إخوانًا بنور الحق مهتدين.
كتب الأستاذ هذا بالنسبة لمسألة واحدة وهي تصدق علينا في كل مسألة مما
اختلفنا فيه، فكنا به شيعًا ومذاهب، وإلى الآن لم نتعارف ولم نطلب الأخوة
الإيمانية الصحيحة، وإنما يكون ذلك بتعميم التعليم الذي نريده، وهو مبني على أن
الإسلام ضد التمذهب؛ لأنه جاء لجمع الملل وتوحيدها، والتمذهب إنما كان لتفريق
الملة الواحدة وتعديدها، فالاعتقاد الذي نعلمه هو ما أجمع عليه الذين يعتد بإسلامهم
وكل ما اختلفوا فيه لا يتوقف الإسلام عليه ويجب أن يكون الاختلاف فيه كالاختلاف
في سائر المسائل العلمية لا يثير شغبًا ولا يحدث مذهبًا، مثلاً: إن المسلمين مجمعون
على أن الله عالم لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، ومختلفون
في ذلك العلم هل هو صفة وجودية زائدة على الذات، أو هي عين الذات، أو لا
عين ولا غير، ولا شك أن هذا البحث أقرب إلى الفلسفة منه إلى الدين، وهو لم
يذكر في القرآن ولا في السنة، ولا ورد في آثار السلف الصالح، وكذلك مسألة
الخلافة التي كانت علة العلل لجميع الانحراف والزلل، فإنها ليست من أركان الدين
وأصوله كما قلنا آنفًا.
لا أذكر في دروسي هذه من مسائل الخلاف إلا ما عساه يتوقف عليه فهم
المتفق عليه، ولا أخوض في شُبَه المبتدعة لئلا يعلق منها شيء في الأذهان
الضعيفة فيفسدها ويميتها، فقد علمنا ما فعل ذلك بمن قبلنا ممن كانوا خيرًا منا علمًا
وعملاً بحيث لا تقاس علماؤنا في الغالب بعامتهم، فضلاً عن أن نقيس دهمائنا
بدهمائهم، ونسائنا بنسائهم، بل لا يجوز لأحد سرد تلك الأقاويل المفرقة والشُّبَه
المضللة على العامة، من أحب الوقوف على مسائل الخلاف فعليه أن يتبع قوة
الدليل إن كان من أهل النظر، وإلا فليقلد الجمهورالأكبر، ولا يكفرن من خالفه فيما
اعتقده، ولا يجعلن الخلاف مانعًا من أخوته الإيمانية، وإذا ذاكره أو كاتبه في ذلك
فليسلك معه مسالك الإخوة في مذاكرتهم بمصالحهم ومنافعهم.
السنيّ والشيعي والمعتزلي والوهابي إلخ كلهم مسلمون، وإمامهم القرآن،
ونبيهم محمد - عليه السلام - فيجب أن يكونوا إخوة، فمن شذ عن هذه الأخوة
يجب أن نتلطف بجذبه إليها لا أن نعاديه وننفر منه، هذا هو صراط المؤمنين إذا
سلكناه نجونا، وإلا ازددنا هلاكًا ودمارًا، ولا نجد لنا من دون الله أنصارًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/475)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شذرات
احتفلت الحكومة أمس بمولد سمو العزيز أفندينا عباس حلمي باشا الخديوي
المعظم، فنسأل الله تعالى أن يعيد على مصر أمثال هذا الاحتفال، وسمو الأمير في
كمال عز وإقبال ما تعاقبت الأعوام والأحوال.
***
أخّرنا مقالة (حجج مثبتي الكرامات) لنشر المقالة الافتتاحية التي جاءتنا من
أحد الأفاضل، فأغنتنا عن الرد على ذلك الباحث الذي اشتبه عليه الأمر، فاشتبهت
بكلامه الحقيقة على كثير من الناس لما في كلامه من المسائل الدينية التي هي
صحيحة في ذاتها، ولكنها وضعت في غير موضعها، والمسائل التي يحقّر بها
الإفرنج وهي غير صحيحة، كقوله إنهم يبتدئون التربية في السنة السابعة للولد وأن
اشتباه هذا الأمر على مثله كاشتباه تينك المسألتين على رئيس جمعية (مكارم
الأخلاق) التي هي موضع رجائه في إسعاد الأمة - يدلنا على أننا في أشد الحاجة
إلى علم واسع واختبار تام لا نجدهما في كتبنا، ولا في دروسنا وجمعياتنا، لا سيما
ما يتعلق بشؤون عصرنا الذي اختلفت فيه طرق المعيشة وأساليب العمران عن
عصور أسلافنا، وفُتن سادتنا وكبراؤنا - إلا قليلاً - بزخرف مدنية أوروبا وتركوا
محامدها وفضائلها؛ فصرنا محتاجين لإرجاعهم إلى القيام بمصالح العامة من
الطريق الذي له مكانة عليا في نفوسهم، فجزى الله سعادة أحمد فتحي بك أفضل
الجزاء على تصديه لذلك، والله لا يضيع أجر المحسنين.
***
حكم على ديفوس بالسجن عشر سنين، ثم عفي عنه لأن الحكم عليه كان
سياسيًّا لا قضائيًّا عادلاً، وهذا دليل على براءته التي أفصحنا عن اعتقادنا إياها في
ابتداء الفتنة.
زار سفير فرنسا في الأستانة العلية سماحة شيخ الإسلام من مدة، وقد ذكرت
الجرائد هذا الخبر الغريب؛ لأنه لم يسبق للسفراء من قبل زيارة مشايخ الإسلام،
ويظن أن ذلك لأمرٍ مهم لم يظهر سره لأحد.
***
صدرت مجلة (الجامعة) في شكلها الجديد، شكل المجلات المعتادة، وقد زيد
فيها ثلاثة أبواب: (1) تدبير الصحة و (2) نشر صفحات مطوية، ويذكر فيه
منتخبات من كلام كبار الكُتَّاب الذي لم يشتهر (3) صدى المجلات، ويذكر فيه ما
تشتمل عليه المجلات العربية من المواضيع إجمالاً، وحق على أصحاب هذه
المجلات أن يعترفوا لهذه المجلة بالفضل على هذا ويشكروه لها، ومن الشكر أن
ننبه قراء مجلاتنا على فائدة (الجامعة) ونرغبهم في قراءتها، فنهنئ صديقنا
الفاضل منشئها، ونرجو له مزيد النجاح والفلاح.
***
أرجف المرجفون بأن سفر الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم
أفندي إلى بلاد المغرب يقصد به السعي في إنشاء الخلافة العربية، فانتقِم اللهم من
هؤلاء المفسدين الذين يصورون المحال وينفثون سموم الفتنة بين أمراء المسلمين
وملوكهم، آخر ما علمناه من أخبار دولة الأميرة الواردة منها إلى بعض ذويها في
مصر أنها تصل في 9 أكتوبر إلى طنجة وبعد أن تقيم هناك أيامًا تعود إلى مصر
عن طريق مرسيليا لأن إجازة الصيف قد انقضت، والأميرة- فيما نعلم - أعقل
أميرات المسلمين، ومخلصة للخلافة الحميدية أشد الإخلاص، ولكننا بُلينا بقوم
يدفعهم ذلك الشيطان إلى إشاعة الزور والبهتان.
فما راشنا بالسوء إلا لسانه ... وما خرَّب الدنيا سوى ما أشاعه
***
في يوم الإثنين الماضي عصفت في الإسكندرية ريح زعزع أهاجت البحر
واقتلعت كثيرًا من الأشجار، وعقبها غيث مدرار.
وفي ليلة الأربعاء لاح في سماء القاهرة سحاب مركوم، ثم غلظ واكفهر
وتبوجت فيه البروق وارتعجت (اضطربت وكثرت متتابعة) وقصفت فيه الرعود
وهدهدت، ثم انبعق بالوابل الهتان نحو ساعة من الزمان، فكان منه سيل جارف
دمَّر في القاهرة وضواحيها المساكن والدور، لا سيما في عزبة الزيتون، واخترق
المطر سقوف أكثر البيوت حتى قصور القاهرة العظيمة فأتلف الكثير من أثاثها،
وانقضَّت صاعقة على حديقة دار عطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس النظار،
واتصلت بغرفة مكتبه فاشتعلت النار باتحاد كهربائيتها بكهربائية المكان؛ فأحرقت
جميع ما في المكتب من الأسفار والأوراق والرياش، ويقال: إن ثمن الكتب فيها
نحو ألف جنيه، ولولا إسراع رجال لمطافئ بطفئها لأحرقت الدار كلها , ولا شكَّ
أن المطر كان في بعض الجهات أقوى منه في غيرها، فكل ما نزل في جوار
المرصد الفلكي بالعباسية نحو عقدة، ولكن السيل بقي في ضواحي القاهرة بعد
انقطاع المطر نحو ساعتين، ويقول الشيوخ: إنهم لم يعهدوا فاجعة كهذه في حياتهم
قط.
__________(2/479)
9 جمادى الآخرة - 1317هـ
14 أكتوبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجج مثبتي الكرامات
ذكرنا في مقالة سابقة حجج منكري الكرامات، وبحثنا فيها، ونذكر في هذه
المقالة حجج المثبتين وننظر فيها، وهي خمس على ما استقصاه السبكي.
(الحجة الأولى) هي ما عبر عنها بقوله: (أحدها) وهو أوحدها ما شاع
وذاع، بحيث لا ينكره إلا جاهل معاند من أنواع الكرامات للعلماء والصالحين، وفي
هذه الحجة أن ما نقل من الأمور التي سموها كرامات على ضربين:
(أحدها) ما فيه خرق لنواميس الكون ومخالفة لسنن الخلق التي ثبت في القرآن
وفي العلم الطبيعي أنها لا تتغير ولا تتبدل، وهذا النوع قليل جدًّا ولا يكاد يثبت منه
شيء برواية صحيحة توجب الظن إلا قليلاً، والظن في هذا المقام لا يغني فتيلاً
لمعارضته للقطعي (ثانيهما) ما ليس كذلك، كمكاشفة وشفاء مرض وقضاء حاجة،
وهذا النوع هو الذي شاع وذاع وملأ الأسماع، وطاف في سائر البقاع، وكما يكثر
هذا ويقل ما قبله فيما نقل عن صالحي هذه الأمة، كذلك الشأن فيما نقل عن سائر الأمم، وسيأتي بيانه.
(الحجة الثانية) قصة مريم من جهة حبلها من غير رجل، وحصول
الرطب الطري لها من الجذع اليابس، وحصول الرزق عندها في غير أوانه من
غير حضور أسبابه، كما أخبر الله تعالى عنها بقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37) ، وبين السبكي بعد ما أورد هذا
أنها لم تكن نبية، فتعين أن يكون ما جرى لها من الكرامة، ونقول ننحن في هذا
المقام: إن لله تعالى في خلقه آيات تدل على أن قدرته تعالى، حاكمة على سنن الكون
لا محكومة بها , وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50)
فحبلها على غير النحو المعهود في الخلق ليس لها فيه كسب ولا عمل بوجه ما،
بل كانت كارهة له، فإن كان يعدّ مما نحن فيه فقصارى ما يدل عليه جواز وقوع
مثله، وهذا هو مراد السبكي وغيره بالاستدلال به وبنحوه مما يأتي، أما الوقوع
بالفعل فلا يثبت إلا بدليل قطعي، كالمشاهدة وكنص القرآن أو الخبر المتواتر تواترًا
حقيقيًّا مستندًا إلى الحس الذي لا شبهة فيه.
قال بعض المحققين: لو كان ما ينقله قومنا من الكرامات التي لا تُحصى واقعًا
حقيقة لما احتاجوا في إقناع المعتزلة إلى الاستنباط من الآيات بالوجوه الخفية التي لا
تفيد المطلوب، ولا تثبت المدعى وهو أن الخوارق واقعة فعلاً على أيدي
الصالحين، بل كانوا يفقئون أعينهم بكرامة واحدة من تلك الكرامات التي لا
تحصى، وإن المتأخرين ليعدون أولياء تلك الأزمنة التي حمي فيها وطيس الجدال
بين سلفهم والمعتزلة بالألوف، أما وجه الآية في ابن مريم النبي وأمه المختلف في
نبوتها فهو أن الأقسام العقلية في خلق الإنسان أربعة: (الأول) ما كان بغير
واسطة ذكر ولا أنثى وقد خلق الله تعالى آدم أول البشر كذلك. (الثاني) ما كان
بواسطة ذكر فقط وكذلك خلق أمّنا حواء. (الثالث) ما كان بواسطة ذكر وأنثى
وهو الناموس العام والسنة الإلهية المطردة، ولما نفذت قدرته تعالى في الأقسام
الثلاثة أراد أن ينفذها في القسم (الرابع) وهو ما كان بواسطة أنثى فقط ليعلم من بلغه
ذلك بالخبر الصادق أن قدرة الله تعالى حاكمة على نواميس الكون لا محكومة بها وأن
الله على كل شيء قدير، فلا يعتمد فيما وراء الأسباب الظاهرة التي أناط بها الأمور
إلا عليه وحده، فانجلى بهذا أن هذه الآية الإلهية ليست مما نسميه كرامات الأولياء،
فلا تصدق أنثى غيرها بمثله.
وأما حصول الرطب الطري من الجذع اليابس فهو ليس في القرآن، وإنما
المذكور في القرآن قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ} (مريم: 25) وهو يصدق بالنخلة المثمرة، بل هو المتبادر ولو كان الجذع
يابسًا لوصف باليبس لإ ظهار الآية، ومثل هذا يقال في مسألة الرزق، فإن قولهم:
إن زكريا كان يجد عند مريم فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف
ليس في القرآن ما يدل عليه وإنما فيه أنه كان يجد عندها رزقًا، وقد سألها: {أَنَّى
لَكِ هَذَا} (آل عمران: 37) حيث كان هو الكافل لها والقائم بالإنفاق عليها
{قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 37) ومثل هذا الجواب معتاد من
المؤمنين، فما من أحد منا إلا وقد رأى في بيته في وقت ما رزقًا لم يكن يتوقع
وجوده، وسأل عنه فأجيب من أهله بمثل: (الله بعثَه) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ
مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37) لا يستلزم ما ذكروه لأنه يصدق
بالهدية والهبة من حيث لا تنتظران، وقد قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب} (الطلاق: 2-3) وهو يصدق بتهيئة
الأسباب التي لم تكن في حسبان الإنسان أيضًا، وليس المعنى أن يرزقه بالكرامات
وخوارق العادات، ومن المفسرين من قال: إن معنى الحساب في الآية الاستحقاق،
هذا وإن وجود فاكهة الصيف في الشتاء ليس من الخوارق كما لا يخفى على الخبير،
رب معترض يستدل بقوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38) على أن ما رآه عند مريم كان
من خوارق العادات، ولذلك طلب من الله تعالى أن يمنحه كما منحها، ويهب له
الذرية على كبر سنه ويأس أهله، ونقول في الجواب: ما كان لمؤمن أن يقول أن
نبيًّا علم جواز خرق العادة من ولي أو ولية، فحمله ذلك على طلب مثله لنفسه، وإن
كان يقتضيه كلام طائفة من المفسرين، ويكفي لإثارة ذلك الدعاء في نفس سيدنا
زكريا - عليه السلام- عند مريم سماعه إسنادها الرزق لله تعالى والثناء عليه بلطفه
بعبده حيث يرزقه بغير حساب، فإن المؤمن الكامل كلما سمع ذكر الله والثناء عليه
تنمو عظمته في قلبه، وكلما رأى إنعامه على خلقه يزيد رجاؤه في فضله وكرمه،
وحسبنا في هذا الجواب بيان أن الدعاء لا يقتضي أن يكون ما رآه من الخوارق،
وإن كان لا ينفيه أيضًا، وسيأتي الكلام على ما روي في تفسير الآيات؛ لأن كلامنا
الآن في الدليل القطعي.
اعترف بعض منكري وقوع الكرامات بأن ما وقع لمريم - عليها السلام - من
الخوارق، وأجابوا عنه بجوابين: (أحدهما) أنها كانت نبية، ونقل السبكي عن
القاضي أنه قال: (لم يقم عندي من أدلة السمع في أمر مريم وجه قاطع في نفي
نبوتها أو إثباتها) وأنّى يقوم له الدليل وهو على رأي من يقول: ما جاز أن يكون
معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، وهؤلاء لم يجعلوا فاصلاًًًًً بين النبي والولي
إلا دعوى النبوة والتحدي بالخارقة، وإلا فخطاب الملائكة لمريم وأمرهم إياها عن
الله بالركوع والسجود أوضح دليل على نبوتها، فإن هذا تشريع، وقد قالوا: إن
النبي هو من أوحي إليه بشرع يعمل به، فإن أمر بأن يعلمه الناس كان نبيًّا ورسولاً
وإذا لم تكن مريم نبية كما هو رأي الجمهور الذين يشترطون في النبي الذكورة،
فكرامتها الحقيقية هي كلام الملائكة، وهذا ليس من خرق السنن الإلهية، ولكنه من
خرق العوائد بالنسبة لمجموع البشر؛ لأنه مما اختص الله تعالى به طائفة من خلقه
أهَّلها له باستعداد روحاني مخصوص، والله يختص برحمته من يشاء، و (الجواب
الثاني) : إن ما وقع لمريم كان إما معجزة لزكريا وإما إرهاصًا لعيسى - عليهما
السلام - والإرهاص عندهم ما يتقدم بعثة النبي من الخوارق؛ لتُعد النفوس لقبول
الرسالة وتصديق الدعوة، وأجيب عن الشق الأول بأن المعجزة للنبي هي ما يصدر
على يده لا على يد غيره، وعن الثاني بمثل هذا وهو ليس بسديد؛ لأن ما يحصل
للأم يصح أن يكون تمهيدًا لتصديق دعوة الابن، لا سيما إذا كانت الخوارق محتفة
بحمله وولادته ومتعلقة بشؤونه، وقولهم: (لو جاز هذا لجاز أن تكون كل معجزة
لنبي إرهاصًا لنبي آخر يأتي بعده، فيمتنع الاستدلال بها على نبوته) ممنوع، فإنه
إنما يتحدى بها مستدلاًّ على صدقه فيما يبلّغه عن الله تعالى، وعجيب من السبكي
وأمثاله كيف غفلوا عن هذا.
قال السبكي: وقريب من قصة مريم قصة أم موسى وما كان من إلهام الله إياها
حتى طابت نفسها بإلقاء ولدها في اليَم إلى غير ذلك مما خصت به. قال إمام
الحرمين: ولم يصر أحد من أهل التواريخ ونقلة الأقاصيص إلى أنها كانت نبية
صاحبة معجزة. اهـ. ونحن لا نرتاب في أن الإلهامات الصادقة هي مما يكرم الله
تعالى بها أصحاب الأرواح الطاهرة والنفوس الزاكية من عباده، وهذا من خوارق
العادة بالنسبة إلى الجمهور، ولكنه ليس خارقًا للنواميس الطبيعية، ولا مخالفًا للسنن
الكونية، وهكذا تكون الكرامات الحقيقية.
(الحجة الثالثة) التمسك بقصة أصحاب الكهف، قال السبكي: فإن لبثهم في
الكهف ثلاثمائة سنة أو أزيد من غير آفة مع بقاء القوة العادية بلا غذاء ولا شراب
من جملة الخوارق، ولم يكونوا أنبياء، فلم تكن معجزة فتعين كونها كرامة،
وادّعى إمام الحرمين اتفاق المسلمين على أنهم لم يكونوا أنبياء، وإنما كانوا على
دين ملك في زمانهم يعبد الأوثان فأراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام ولم
يكن ذلك عن دعوة داعٍ دعاهم ولكنهم لما وفقوا تفكروا وتدبروا ونظروا؛ فاستبان
لهم ضلال صاحبهم، ورأوا أن يؤمنوا بفاطر السموات والأرضين ومبدع الخلائق
أجمعين، ثم أسهب في بيان أنهم لم يكونوا أنبياء، وفي هذه الحجة أبحاث (1) إن
أصحاب الكهف كانوا من آيات الله تعالى لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ
أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} (الكهف: 9) وقوله تعالى بعد
ذكر حالتهم في الكهف: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} (الكهف: 17) فليس هذا مما نحن
فيه كما سبق القول في حَبَلِ مريم عليها الرضوان، ويوضحه البحثان التاليان له
(2) إن قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (الكهف: 25) هو من حكاية أقوال المختلفين فيهم، صرح بهذا المفسرون،
ويرجحه على قول من قال: إنه إخبار من الله تعالى أمران: (أحدهما) أن الله
تعالى عندما قص نبأهم بالحق قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ
عَدَداً} (الكهف: 11) قال البيضاوي وغيره: وهذا يحتمل التكثير والتقليل، وإنما
ذكر التحديد في العدد في سياق حكاية أقوال الخائضين في قصتهم و (ثانيهما) أنه
عقب على هذا القول بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْض} (الكهف: 26) وهو كالصريح في أنه غير صحيح (3) قلنا
في كتابنا (الحكمة الشرعية) : إن مقتضى كلام إمام الحرمين أنهم كانوا مشركين،
ثم هداهم النظر إلى رفض الشرك واعتقاد توحيد الله تعالى كما هو ظاهر القرآن،
وعلى هذا، هل تتحقق في حقهم الكرامة التي اشترطوا فيمن تظهر على يديه أن
يكون مؤمنًا ظاهر الصلاح، وعرفوا الصلاح بالقيام بحقوق الله تعالى وحقوق
العباد؟ وهذا لا يعرف إلا بالشرع، لا سيما عند الأشاعرة، وإمام الحرمين من أجَلّ
أئمتهم، والسبكي من أكبر علمائهم الذاهبين إلى أنه لا حكم قبل الشرع لا في
الأصول ولا في الفروع.
(4) يروى عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنهم كانوا بعد الإيمان
على شريعة سيدنا عيسى - عليه السلام - وليس عندنا دليل على أنهم كانوا بعد
عيسى أو في زمنه، وأكثر ما ينقل عن ابن عباس في التفسير لا يصح عنه، وربما
كانوا في زمن تختلف أحواله الطبيعية عن هذه الأزمنة والله أعلم.
(الحجة الرابعة) مما أورده السبكي: التمسك بقصص شتى مثل قصة آصف
ابن برخيا مع سليمان - عليه السلام - في حمل عرش بلقيس إليه قبل أن يرتد إليه
طرفه على قول أكثر المفسرين بأنه المراد بالذي عنده علم من الكتاب، وما قدمناه
عن الصحابة [1] وما تواترعمن بعدهم من الصالحين وخرج عن حد الحصر. اهـ.
أقول: كان من حقه أن يجعل ما استنبطه من قصص الكتاب حجة واحدة،
وما ورد في غيره حجة واحدة؛ لأن التعدد إنما هو في الجزئيات، ولكنه أراد
التكثير ليجعل حجج الإثبات بعدد حجج الإنكار، والشق الثاني من هذه الحجة هو
عين الحجة الأولى، أما قصة الذي عنده علم من الكتاب فلا تنهض حجة لاحتمال
أنه كان نبيًّا، أو أن الإتيان بالعرش معجزة لسليمان أثبت بها نبوته لملكة سبأ ولا
ينافي هذا أنه جاء على يد غيره؛ لأن ذلك الغير من أتباعه وهو الذي أمره به فكان
آية من الآيات التي أعطاه الله إياها قد استتبعت آية أخرى، ويدل على أن الإتيان
بالعرش من نعم الله على سليمان عليه السلام شكره لله تعالى عليه {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ
عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر} (النمل: 40) فلا يأتي هنا
قولهم: إن المعجزة لابد أن تظهر على يد النبي نفسه، قال البيضاوي في تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل:
38) ما نصه (أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب الدالة على
عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوة) ومن المفسرين من قال: إن الذي عنده علم
من الكتاب هو سليمان نفسه، قال البيضاوي: فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على
شرف العلم، وأن هذه الكرامة كانت بسببه، وقال: إنه جبريل أو ملك آخر.
فتلخّص مما تقدم أن قصارى ما يحتج به من الآيات الكريمة أن الله أكرم أم
موسى بالإلهام الصحيح، وأكرم السيدة مريم بكلام الملائكة، وليس في شيء من
هذين الأمرين مخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، وأن لله تعالى في خلقه آيات لا
تنطبق على سنن الكون المعروفة، كحبل مريم وولادتها من غير اقتران برجل،
وكالضرب على آذان أهل الكهف سنين عددًا، فأما الإلهام فإنه لا يزال يقع في كل
عصر لأصحاب النفوس العالية، فهو كرامة اختُصوا بها من دون سائر الناس،
وأما كلام الملائكة للناس فلم يثبت لغير الأنبياء بوجه قطعي إلا لمريم، فإن كانت
غير نبية فهو كرامة قطعية لها تدل على جوازه لغيرها، وورد في آثار ظنية وقوع
ذلك لغيرها، ولعل كلامهم لغير الأنبياء من قبيل الإلهام، وقد وفينا هذا البحث حقه
في كتابنا (الحكمة الشرعية) وأما الآيات الأخرى فإنها توجد في كل عصر
ويسميها الفلاسفة (فلتات الطبيعة) والمؤمن يستدل بها على قدرة الله تعالى، ولا
يستنكر أن يكون لها أسباب خفية لم يطلع الله تعالى عليها عباده: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ
العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو ما أشرنا إليه في الحجة الخامسة من حجج المنكرين، ووعدنا بسرد تلك الكرامات التي أسندها إليهم والبحث فيها عند ذكر حجج الإثبات، ولكن قد طالت هذه المقالة فاضطررنا إلى تأخير ذلك لمقالة أخرى.(2/482)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
عبد العزيز محمد
ورد إلينا ما يأتي من حضرة الكاتب الفاضل عبد العزيز أفندي محمد وكيل
النيابة في محكمة الزقازيق، فتلقيناه بالقبول مُقرِّين بفضله شاكرين له سعيه وهو:
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة (المنار) المفيدة:
لما رأيت أن مجلتكم التي هي مجنى الفوائد العلمية وملتقى الشوارد الحكمية
قد وسعت في صفحاتها مكانًا لنشر ما يختص بالتربية والتعليم، ورأيتكم تنتقون من
ذلك أقوم الطرق وأجلها أثرًا - رجوت أن تتفضلوا عليّ بتخصيص موضع وإن
صغيرًا منها أُقدم فيه لقراء هذه المجلة كتابًا جليلاً في التربية العملية، أنا مشتغل
بنقله من الفرنساوية إلى العربية، وأود نشره فيها تباعًا، الكتاب من تصنيف الحكيم
المربي ألفونس أسكيروس سمّاه (أميل القرن التاسع عشر) عارض به الحكيم
الشهير جان جاك روسو في كتابه المؤلف في التربية المسمى (أميل القرن الثامن
عشر) .
هذا الكتاب النفيس حكى فيه مؤلفه حكاية زوجين فرنساويين قضى عليهما الله
بالتفرق لسجن الزوج في فرنسا بسبب جريمة سياسية على ما يظهر، واغتراب
الزوجة في إنكلترا، وقد شعرت الزوجة في أوائل أيام الفراق أنها حُبلى، فأخذت
تكاتب زوجها ويكاتبها في طرق التربية اللازم اتباعها في شأن الولد، وقد تضمَّنتْ
هذه الرسائل من تلك الطرق أصحها وأكفلها بوصول الإنسان إلى السعادة، ولا أريد
أن أطيل في وصفها ففي الاطلاع عليها غناء.
وفي هذا المقام يجب عليّ أن أخلص الشكر لحضرة الأستاذ الأكبر صاحب
الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية؛ فإنه - حفظه الله - هو الذي
نبهني إلى هذا الكتاب المفيد، وحثني على ترجمته ونشره كما هو شأنه في الإرشاد إلى كل ما ينفع الأمة والوطن، فجزاه الله عنهما خير الجزاء.
وها أنا ذا مقدم لحضرتكم ما تيسر لي الآن تعريبه، وواثق منكم بقبول ما
طلبته، ولكم مني ومن الناس خالص الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد العزيز محمد)
(أميل القرن التاسع عشر)
(الباب الأول)
(الأم)
من الدكتور أراسم إلى زوجته في 3 يناير سنة -185 [1]
قد مضى عليّ يا عزيزتي هيلانة ثمانية أيام طوال، عجزت فيها عن الكتابة
إليك، وأعوزتني العبارة التي أرضاها لوصف ما أعانيه من مضض الألم، ليس ما
يقاسيه الأسير من عذاب الأسر هو الحرمان من الغدو والرواح، والعجز عن الشيء
مطلق السراح، بل عذابه الأكبر هو ضيق الصدر وابتئاس النفس، تلك القباب التي
تواجه المسجون نفسها، وتلك الأعمدة ذاتها، وتلك الدهاليز بعينها هي التي تبلبل
منه الأفكار وتوقعه في الدوار حتى يقذفه هذا العناء في مهواة الفناء، وهذه
الأحجار- أحجار البناء - تمسخه فتحيله حجرًا مثلها.
في أول عهدي بالسجن كنت صنمًا لا أرجع للناس قولاً، ولا أملك لهم ولا
لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، وكدت أعدم حركة الفكر وبقايا الشعور، بل كان يخيل لي
أني فقدت وجودي، وفنيت عن نفسي، وانتقلت حياتي إلى السجن نفسه لحصره
إياي في دائرة من الوجود مشؤومة صناعية لا جولان للفكر فيها، وإني أؤكد لك أن
مَنْ هذه حاله يلزمه عمل كبير للرجوع إلى وجوده، وهذا العمل قد قمت أنا به،
والآن قد ثابت إليّ نفسي وأصبحت مالكا لحسي، لا ترجنّ مني أن أصف لك....
فإن المسجون قلّما يعرف ما يسكنه من المحال، وإني قد نقلت من.... في غروب
الشمس، ولما وصلنا إلى السجن كان الليل قد أرخى سدوله، ولم يبق لي من
الضياء إلا بقية لا أكاد أميز بها غير الأشباح السوداء لبروج السجن الصغيرة،
وأسهمه وأسنته الحجرية المتطاولة إلى السماء المظلمة، وكان يخيل لي أن البناء
قصر شيد بالظلمات، نزلنا من العجلة وصعدنا مشاة إلى طريق مدرّج منحوت في
الصخر ومؤدٍ إلى سجن الحكومة، وكنت أمشي وأراني كأني في حلم، ومع هذا فقد
راعني منظر شيئين، وهما الجمال الباهر في بناء السجن المتوج لقمة الجبل المظلم،
والبحر التي تصطخب أمواجه وتضطرب، وقمة هذا الجبل ليست إلا قطعة من
الصوان برزت من صحراء رملية، ورمل هذه الصحراء يمتد إلى البحر وعليه
علائم الكآبة والحزن، وكنت أميز المحيط من بعد في ضوء الصفائح المائية
المضطربة، وليس الحال كذلك في جميع الأوقات؛ لأن المحيط في إبان المد يغمر
الساحل ويعلو ويصطخب ويحدق بالجبل من كل جانب فتتكسر عليه أمواجه.
يصل النور إلى مخدعي من السجن - وهو مقابل للمحيط - من كوة صغيرة
ككوى الأسلحة النارية في المعاقل، أو كالذي يسميه المهندسون (بربخًا) فكانت
على ضيقها مسرحًا للنظر لا نهاية له، وهي من الارتفاع بحيث لا أشاهد منها
سطح البحر إلا قائمًا على أطراف أصابع الرجلين، فإذا جلست لا يبقى لي ما أُمتع
به نظري إلا السماء، ولا بأس في ذلك علي، أليس لي بمشاهدة السماء جزء من
الكون؟ ! إني أشاهد في ساعات كاملة طائفة من ظواهر هذا العالم لم تكن
تستلفتني إليها إلى هذا العهد وهي ألوان الضوء المتغيرة والصاعقة، وحبوب الثلج
المتناثرة، والضباب والجمال الخيالي المظلم للأحداث الجوية، غيري من الناس
يحب أن يشاهد السماء في البحر حيث تنظر في مرآته السحب إلى نفسها، أما أنا
فعلى العكس منها، فإن البحر بالنسبة إلي هو الذي ينعكس على السماء فأراه في
مرآتها.
قد رأيت مما ذكرت أن لي منفذًا أشاهد منه العالم، فما الذي يمنعني من أن
أتخيل في السحب سلاسل جبال، وفي سهول الأثير أريافًا ومزارع زرقًا، تلك
المناظر الخلوية المعلقة في الهواء ليست كما أعلم إلا ظلالاً طافية لأفكاري وما أتذكر
من معلوماتي، تبعث الإنسان وحدته على البحث في خياله عن صور الأماكن التي
عرفها، والأشخاص الذين أحبهم، فأنا الآن بسبب استحضار مرائي ماضي الجميلة
في حيز من النور قد انفتح فوق رأسي، وفي هذا الحيز أراك، هل أقدر على أن
أصير خياليًّا؟ إن كان ذلك فهذا آخر عقاب لعقل لم يشتغل منه عشرين سنة بغير
العلوم الحقة على أنني لست أشكو من شيء، فطوبى لمن يمكنه عند سقوطه أن
يرتكن على فكرة أنه دافع عن حوزة القانون، وكان سبب دفاعه حقًّا، وإذا كنت أتألم
فليس ذلك إلا لأني كنت سببًا في تألمك. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) عن يمين رقم (5) في الأصل الفرنساوي نقط لإبهام السنة، والاكتفاء بأن ذلك في النصف الثاني للقرن، وقد جعلنا بدل النقط خطًّا عرضيًّا.(2/489)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(كتاب الوجيز)
يَعلم القرّاء أن جمعية تألفت في القاهرة لطبع الكتب العربية النافعة لما في هذا
العمل من المساعدة على نشر العلوم وإحياء تصانيف سَلَفِنا الأولين الذين نقتبس من
أنوارهم ونفتخر بآثارهم، وقد كان باكورة عملها طَبْع كتاب (الوجيز) في فقه
مذهب عالم قريش الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي صنفه حجة الإسلام الإمام
الغزالي رحمه الله تعالى، وإن نسبته إلى هذا الإمام كافية في تقريظه؛ لأن المشتغلين
بالفقه يعلمون أنه هو الذي حرر المذهب، وجمع شوارده وقيد أوابده، وأن كتب
الشيخين الرافعي والنووي مأخوذة من كتبه، ولكن لا بد في التقريظ من
بيان أمر تعرف به قيمة الكتاب، وهو أنه كان من رأي الإمام أن يؤلف في كل علم
وفن ثلاثة كتب: مختصر ومتوسط ومطول، يذكر في المختصر أمهات المسائل التي
لا بد منها لمحتاج ذلك العلم، وفي المتوسط ما يحتاج إليه من يريد أن يكون عالمًا به
من بسط المسائل وإيضاحها بالأدلة والشواهد، ويكون المطول جامعًا للنوادر
مستقصيًا أتم الاستقصاء ليكون مرجعًا عند الحاجة، وقد ألف كتبه الفقهية
الثلاثة (الوجيز والوسيط والبسيط) طبق هذا الرأي، وأشار بأن يكون المتعلمون
ثلاث طبقات: مبتدئون يقرأون الوجيز، ومتوسطون يقرأون الوسيط، وأن يكون
البسيط بمراجعة العلماء المنتهين.
ولا تحسبن الوجيز من الكتب المختصرة اختصارًا مخلاًّ التي قلنا من قبل أنها
كانت مبدأ ضياع العلم وفساد التعليم، والسبب في وضع الشروح والحواشي والتقارير
المضرة، كلا إنه سهل العبارة، وقد طبع في مجلدين، وكان الإمام المؤلف استطاله
على المبتدئين فألف لهم الخلاصة، وإن فيه كثيرًا من الفروع النادرة والمسائل التي
تكاد تقع، ولو أنه ألف هذه الكتب في نهايته بعد تأليف (الإحياء) ووقوفه التام على
مقاصد الشريعة لأدخل الفقه في طور جديد من الإصلاح، فإن انتقاده على الفقهاء
بالتوسع وغيره يصيب بعض ما في كتبه الفقهية، ولولا هذا ما اهتدى إلى ذاك، ومن
فوائد الوجيز: الإشارة بالرموز إلى خلاف الإمامين أبي حنيفة ومالك وخلاف
المزني من أكابر أصحاب الشافعي رحمهم الله أجمعين، وإلى الوجوه البعيدة
للأصحاب، والكتاب مطبوع في مطبعة الآداب والمؤيد بحرف جميل على ورق
نظيف وثمن النسخة عشرون قرشًا.
***
(المسامرة شرح المسايرة)
أما (المسايرة) فمتن في العقائد اختصر فيه العلامة الكمال بن الهمام الحنفي
الرسالة القدسية للإمام الغزالي، وزاد عليها مسائل كثيرة، فكان كتابًا مستقلاًّ،
وشرحه تلميذه العلامة الكمال بن أبي شريف الشافعي شرحًا لطيفًا، وكتب عليها
حاشية تلميذه المدقق الشيخ زين الدين قاسم، وقد طبع كتاب (المسايرة) مع شرحه
وحاشيته بمعرفة الفاضل الشيخ فرج الله زكي الكردي في المطبعة الأميرية
المصرية، فجاء المجموع كتابًا تزيد صفحاته على 350 صفحة بالقطع الصغير،
والكتاب من أحسن المختصرات التي ألفت في العقائد تحقيقًا وتحريرًا، فنحث
المشتغلين بالعلم على الإقبال عليه.
***
(تهذيب الأخلاق)
إن الكتب العربية لدينا كثيرة في جميع العلوم والفنون التي ألف فيها سلفنا إلا
ما نحن في أشد الحاجة إليه، ولا نحيا الحياة الإنسانية الحقيقية إلا به، وهو
تهذيب الأخلاق، بل إن هذا العلم قد كان حظه أقل من حظوظ سائر العلوم في أمتنا
أيام كانت أمة عزيزة (إذا الناس ناس والزمان زمان) فكيف يكون شأننا
اليوم؟ ويسرنا أن نرى النهضة العلمية الحديثة قد نبهت فينا الشعور بجميع
ضروب الإصلاح الذي نحتاجه، ومن ذلك طبع كتب الأخلاق والتربية، فقد
طبع حديثًا الكاتب الفاضل عبد العليم أفندي صالح المحامي (كتاب تهذيب الأخلاق
وتطهير الأعراق) للفيلسوف الإسلامي أحمد بن مسكويه من علماء القرن الرابع
الهجري، وهذا الكتاب أحسن ما رأيت في لغتنا الشريفة في فلسفة الأخلاق (الحكمة
العملية) وقد عشقته عند اطلاعي عليه فطالعته غير مرة وانتفعت به، وقرأته درسًا
لبعض طلاب العلم، ولا أزال أحض كل مشتغل بالعلم ومحب للفضيلة على مطالعته
المرة بعد المرة، ومن فوائده أنه يعطي مطالعه مادة للكتابة، وعبارته بليغة يستفيد
المطالع من لفظها كما يستفيد من معانيها، وقد طبع في مطبعة الترقي ذات
الحروف الجميلة والإتقان المشهور، وفي مقدمته مقالة مفيدة للكاتب البليغ الأستاذ
الفاضل الشيخ عبد الكريم سلمان أحد الأعضاء في المحكمة الشرعية العليا في
القاهرة وفي مجلس إدارة الأزهر الشريف بَيَّن فيها وجه شدة الحاجة إلى مثل هذا
الكتاب، وتليها مقالة من إنشاء ملتزم الطبع في مقاصد المؤلفين، ونبذة في ترجمة
المؤلف، وثمن النسخة 15 غرشًا، وهي ليست بشيء في جانب فائدة الكتاب.
__________(2/492)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(المعارف العمومية والمدارس)
كان تعليم المسلمين بتركيا - فيما سبق - محصورًا كله في المساجد، وكان
لمدارس القسطنطينية شهرة عامة، وذلك بسبب هذا الحديث (طلب العلم فريضة على
كل مسلم ومسلمة) فكان يوجد في ذلك العهد نوعان من المدارس وهما المكاتب أو
المدارس الابتدائية المعهود بإداراتها لأئمة المساجد في الجهات المختلفة،
والمدارس أو معاهد تلقي علوم الكلام والفقه والفلسفة، وهي ملحقة بالمساجد الكبرى،
وجميعها تنفق عليها إدارة الأوقاف، ولم يكن في تركيا مدارس وسطى، فكانت التلامذة لهذا السبب تنتقل من المدارس الابتدائية إلى المدارس العليا بدون استعداد
كافٍ يؤهلها للاستفادة من دروسها، وقد أصبح التعليم في مدارس الحكومة بديلاً من
التعليم في المساجد بسبب خروج أمر التعليم العام من يد علماء الدين إلى يد
الحكومة، إلا المدارس الدينية العليا فإنها لا تزال في دائرة اختصاص مشيخة
الإسلام، ومثل هذا التغير لم يتم دفعة واحدة، فإنه من الضروري في تنفيذ
مقتضى ما يكتب في الأوراق من أوامر الإصلاح من مضيّ زمن تحصل فيه التجربة
والاختبار، فالقواعد النظرية إن لم تصحبها طريقة مثلى للعمل بها كانت مقضيًّا عليها
بالعقم وإن كانت من أسمى القواعد، تلك الطريقة المثلى هي التي كانت تعوز الحكومة
العثمانية ولم يتأت لهذه بما بذلته من الثبات والهمة الوصول إلى النتائج المطلوبة.
قبل سنة 1876م كانت المعارف العمومية فيما يختص بالمسلمين قد وصلت
إلى دائرة ضيقة جدًّا ما عدا بعض مدارس للتعليم العالي أبقتها الحكومة في
القسطنطينية، فالمدارس الابتدائية بسبب أنها كانت مؤسسة على نظام قديم جدًّا لم
يكن صغار التلامذة المسلمين يحصِّلون فيها إلا تربية في غاية النقص؛ إذ كانوا لا
يتعلمون هناك إلا مجرد القراءة والكتابة خصوصًا في مدارس الأقاليم حيث كان
درسا التاريخ والجغرافية مهملين لا حظ لهما من العناية، ولم يكن التعليم الثانوي
والتعليم العالي أحسن حظًّا وأوفر عناية من التعليم الابتدائي، ثم إنه لا ينكر أن
الشبان في القسطنطينية من الطبقات الممتازة من الأمة كان لديهم من الوسائل ما
يمكنهم من دخول مدارس الحكومة الخصوصية أو المدارس الأجنبية إلا أن هذا
يختص بما عدا المدارس الابتدائية.
أما الآن فقد تغير الحال تغيرًا كليًّا، فالمعارف العمومية قد سطعت شمسها في
سماء تركيا فقشع ضوؤها ظلام الجهل، ووصل إلى أبعد أرجاء المملكة، فإن جلالة
السلطان عبد الحميد لما كان معتقدًا أن في نشر العلم زيادة لصولته وتأييدًا لدولته
عمل بمقتضى الحديث الشريف (اطلبوا العلم ولو في الصين) وسار بالمملكة
العثمانية في هذا الطريق حتى أحلها المحل الأول في التربية العقلية (مبالغة) قسم
القانون الأساسي للمعارف العمومية المدارس تقسيمًا نظريًّا إلى قسمين وهما:
المدارس الأميرية التي تتعلق إدارتها بالحكومة دون غيرها، والمدارس الخصوصية
التي ليس للحكومة عليها إلا مجرد المراقبة، وهي التي يؤسسها ويديرها بعض
الأفراد والطوائف (ومن هذا القسم المدارس الدينية الإسلامية، والمدارس غير
الإسلامية) إلى ثلاث درجات وهي التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي والتعليم العالي.
(التعليم الابتدائي)
يشمل التعليم الابتدائي ثلاثة أنواع من المدارس وهي مكاتب الصبيان التي
يمكن تشبيهها بمعاهد تربية الأطفال في أواسط أوروبا والمدارس الابتدائية أو
المدارس الابتدائية الحقيقية والمدارس الرشدية أو المدارس العالية الابتدائية،
فالابتدائية مدة التعليم فيها أربع سنين، ومواده هي مبادئ التهجية للغة التركية وحفظ
آيات من القرآن والقراءة التركية، والخط ونحو اللغة التركية والحساب والجغرافية
والتاريخ. التعليم الابتدائي في حق المسلمين مجاني وإجباري فيجب على رؤساء
العقارات على حسب ما يقضي به القانون أن يتقدموا إلى رئيس بلدية المحلة التي
يقطنونها المسمى (بالمختار) لأجل أن يسجلوا لديه أسماء أولادهم ذكورًا وإناثًا متى
كانوا في السادسة من عمرهم في سجلات الصبيان، أو الأبدانية ما لم يُثبتوا أن
لديهم وسائل للتربية الابتدائية المنزلية.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/494)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار وآراء
روى مكاتب (الستندرد) في الأستانة أن جلالة السلطان قد اهتم أخيرًا
اهتمامًا عظيمًا بأمر حكومة شبه جزيرة العرب، وأنه عازم على إنشاء
حكمدارية فيها تشبه خديوية مصر (كذا) فتنقسم ولاية اليمن إلى ثلاث
عمالات يتولى حكومتها دولتلو حسين حلمي باشا الذي نال منزلة سامية في
عين جلالته، ويكون له الحق قي تعيين رجال الأحكام الذين يريدهم، ولكن
بعد موافقة الباب العالي على تعيينهم، ويكون القائد العسكري في الولاية
خاضعًا للحاكم العام رأسًا، وربما استقدم القائد الحالي دولتلو المشير عبد الله
باشا وعَيَّن قائدًا آخر بدلاً منه، وستوضع أيضًا خطة جديدة للجيش تقضي
بتجنيد قبائل العرب، وتأليف ستين إلى مئة فرقة من الخيالة على النمط المتبع
في تشكيل الفرق الحميدية، ويكون أكابر ضباطها كلهم من الأتراك، وتنظم
الضرائب تنظيمًا جديدًا بحيث يصبح دخل الدولة العلية منها ستة ملايين ليرة
عثمانية، قال الكاتب: وإن الحزب العربي في المابين الذي يرأسه سمحاتلو
السيد أبو الهدى أفندي الصيادي الرفاعي مجمع على استحسان هذا التغيير،
وأنه يحض جلالة السلطان على إجرائه، وأنه إذا تم هذا الإصلاح الجديد
اضطرت الدول ذات المصالح في المسألة الشرقية إلى زيادة الحذر والمراقبة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام)
***
يتوقع الناس في كل يوم نشوب الحرب بين إنكلترا وجمهورية الترنسفال
التي يبلغ أهلها نحو سُبع أهالي لندرة عاصمة بريطانيا العظمى السائدة على
نحو ثلث العالم، والأخبار البرقية الأخيرة أفصحت عن وقوع ما يتوقع , ولما
ظهرت بوادر الحرب وآياته المنذرة، اشتغل بها العالم المتمدن، فمن عاذل
لإنكلترا أو غامز لها على طمعها الذي ألجأت به الترنسفال إلى مناصبتها،
ومن متعجب من إقدام هذه الشرذمة الصغيرة على مناهضة هذه الأمة الكبيرة،
وسنبين في الجزء الآتي أنه لا لوم على الأولى، ولا عجب من الثانية؛ لأن
كلاًّ منهما لم تخرج عما اقتضته طبيعة عمرانها.
***
زلزلت الأرض زلزالاً شديدًا في مدينة (آبدين) دَمَّر الألوف من المباني في
أقل من دقيقة واحدة، وتصدع كثير من المباني القوية، وتداعى للسقوط،
وحصل خسف في بعض الجهات، وكان من شدة الزلزال أن شعر به في
جزيرة ساقزومتلين، وتعدَّى أثره في الخراب إلى القرى المجاورة للمدينة،
والخسائر عظيمة جدًّا، وقد أنعم مولانا السلطان الأعظم على المصابين بمبلغ
عظيم من المال، وصدرت الأوامر بجمع الإعانات لهم، فبوشر بذلك وعسى
أن يقدم بعض كرام المصريين بتأليف لجنة لإعانة إخوانهم المنكوبين، فهم أهل
المكرمة.
***
صدرت الإرادة السنية بإنشاء أربعة مستشفيات في مكة المكرمة والمدينة
المنورة وينبع وجدة لأجل معالجة الحجاج الذين يمرضون في السفر، فلا
زال مولانا أمير المؤمنين عونًا لهم على ممر السنين.
__________(2/496)
16 جمادى الآخرة - 1317هـ
21 أكتوبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فلسفة الحرب الحاضرة
حكومة صغيرة ينقص عدد رعاياها عن مليون واحد تهضم حقوق دولة عظيمة
رعاياها ثلاثمائة مليون أو يزيدون، ثم تنذرها بالحرب ثم تبدأها بالقتال ويكون لها
الظفر غير مرة؟ إن هذا لشيء عجاب! ! أما هضم الحقوق فهو دعوى بريطانيا
العظمى على الترانسفال الصغرى ويقول الساسة من غير الإنكليز: إنه لا ذنب
للترانسفال إلا الإباء من ضيم إنكلترا والمحافظة على استقلالهم في جوارها، وإن
الإنكليز خلقوا للترانسفاليين ذنبًا ليتخذوه حجة لهم أمام أوروبا على اضطرارهم
للإيقاع بهم وعدم خروجهم عن سنن التمدن والإنسانية في إلزامهم بإجابة ما يطلبون،
وإن غرض الإنكليز الحقيقي الأخذ بثأر الدكتور (جمسون) الذي نكل به
الترانسفاليون من قبل، والتمهيد لمشروع (سسل رود) في جعل القسم الشرقي من
إفريقية مستعمرة إنكليزية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية.
ومهما يكن من الأمر فحسب الترانسفال أن معاملتها مع بريطانيا العظمى في السلم والقتال معاملة الأكفاء والأقتال.
الجرائد في الغرب والشرق تصف الإنكليز بالطمع والجشع، ويرى ساستها
أنه ليس لهذه الدولة حجة قيّمة في التعدي على الترانسفال، ويقولون: إن
البريطانيين المقيمين في تلك الجمهورية للتجارة واستخراج المعادن لا يشكون من
حكوماتها ولا يبالون بحقوق الانتخاب؛ لأنهم لا ينوون الإقامة فيها واتخاذها وطنًا،
وإن حكومتهم هي التي حملتهم على التبرم والشكوى؛ لتتخذ ذلك ذريعة لمناصبة تلك
الجمهورية، كما صرح بذلك بعض من عاد إلى أوروبا منهم في هذه الأيام، ونحن
نقول: إنْ هذه الحجة إلا كسائر الحجج التي تحتج بها الدول الأوروبية في فتوحاتها
تمويهًا للعدوان وإرضاءً للتمدن بالبهتان، كنشر لواء الحرية واستبدال التمدن
بالهمجية، وإبطال الاسترقاق، وتعميم المعارف في الآفاق، اتحد المعنى وتعددت
العبارات، والصيد واحد والشباك مختلفات.
وإنما يعذل الأوروبيون بعضهم بعضًا بالخروج عن التعلات المعتادة، حسدًا
من عند أنفسهم للدولة السابقة في ميدان الاستعمار، وما الاستعمار إلا فتوح وتغلب
بالحيلة والخداع مهما أفادا، وإلا فبالحرب والجلاد، وما كانت الحرب غاية يلجأ
إليها بعد فراغ جراب الحيل إلا لأجل الاقتصاد في المال والرجال، لا كما يقولون:
إنها شفقة على الإنسانية، وأدب من آداب المدنية، فقد كان تنكيل الإنكليز بدراويش
السودان مما تقشعر له الأبدان، ويدل على أن الأوروبي لا يرى غير قومه من نوع
الإنسان، هذا والإنكليز أبعد الأمم الأوروبية من الضراوة بالحرب، وأقربها إلى
اختيار السلم.
هذا مجمل ما يقال في انتقاد الأوروبيين على الإنكليز وفي حقيقة أمرهم، وأما
هذه الجرائد الشرقية فهي تُرجع صدى أقوالهم وتضيف إليها ما شاءت السياسة من
ذم الإنكليز وتنكبهم صراط العدالة وانحرافهم عن سنن الفضيلة، وأما نحن فنقول:
إن إنكلترا ما جاءت في المدنيّة أمرًا فريًّا، فإن طبيعة الاجتماع البشري كطبيعة كل
موجود حي، ألم تر إلى كل جسم حي من نبات وحيوان كيف يطلب التغذية من
الخارج ما دام حيًّا، وما يدخل في بنيته من الغذاء ينميه ويمده في بعض الأطوار
ويحفظ عليه وجوده وقوته في طور آخر، حتى إذا ما أذن بارئ الكون بانحلاله
وعدمه يعجز عن تناول الغذاء الكافي لحفظ وجوده، فتفتك فيه عوامل الانحلال حتى
يصير إلى الفناء والاضمحلال؟
وقد تتعطل وظائف التغذي في الجسم لعلة عارضة ثم تزول تلك العلة بسبب
من الأسباب كالمعالجة، فترجع إلى الجسم صحته؛ فيعود متغذيًا يطلب المدد لقوام
حياته من الأجسام الأخرى التي من شأنها أن تكون غذاء له.
هذا الذي نشاهده في أشخاص الحيوان والنبات في الأدوار الثلاثة: النمو
والوقوف والانحلال الذي يعقبه الفناء، هو بعينه مشاهد في الأمم والدول، وهو فيها
اضطراري لا اختياري، وإن كانت جزئيات الأعمال تؤتى من الأفراد بالاختيار،
فليس في طاقة الدولة القوية ذات الأمة العزيزة أن تمتنع عن طلب السيادة على
غيرها وتوسيع دائرة نفوذها في الأمم الضعيفة كما أنه لا طاقة للأفراد من الإنسان
وغيره من الأحياء على ترك الغذاء بالمرة؛ لأن مصادمة الطبيعة ومقاواتها لإبطال
عملها مما لا يستطيعه الناس، نعم يقدر الإنسان على تأخير الغذاء عن وقته أو
تقديمه عليه ويفضل غذاء على آخر مما في استطاعته تناوله، والترجيح في هاته
الأحوال تابع للعلم بالمصلحة والمنفعة، ولكنه لا يترك الغذاء بالمرة مع الاستطاعة
عليه إلا لعلة في الجسم أو النفس.
وكذلك شأن الدول في الفتوح والاستعمار لا تتركهما إلا بعلة العجز ولكنها
تختار بلادًا على أخرى، وقد تتعجل بشيء من ذلك أو تؤخره عن الوقت المناسب
إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما تؤكل الفاكهة قبل بدوّ صلاحها والطعام قبل نضجه
إما لشدة الجوع وإما خشية أن يحال بينها وبين الأكل، وكما يؤكل اللحم قديدًا حيث
لا يوجد غريضًا طريًّا. لا جرم أن تعدي إنكلترا على الترانسفال ومحاولة التهامها
من الابتسار (أخذ الشيء قبل أوانه) ولكن الشديد القرم يأكل اللحم النيئ وربما
حملته الضراوة على نهش لحوم الأحياء.
لا يرتاب أحد في أن شعب هذه الجمهورية شعب حيّ حافظٌ لوجوده متمتعٌ
بجميع ما تتمتع به الأمم الحية من المزايا الصورية والمعنوية، ومن طبيعة الجسم
الحي المتمتع بالمزاج المعتدل الصحيح أن يدافع ما يعرض لمزاجه ويقاوي ما يعدو
على حياته، ولا يستسلم لعوادي البلاء ويستهدف لعوامل الفناء، ومَن يقول: إن
طبيعة الأشلاء كطبيعة أولي القوة من الأحياء، فما ظهر من كل من إنكلترا
والترنسفال هو ما اقتضته طبيعة عمرانها، فلا لوم على الأولى ولا تثريب، وليس
ما جاءت به الثانية بالأمر العجيب، وهذا هو ما وعدنا ببيانه في (المنار) الماضي.
يقال: إن بين الإنسان وبين سائر الأحياء فرقًا، فهو يعمل منفردًا ومجتمعًا
بالاختيار لا بسائق الفطرة فقط، ويوصف بالاعتدال في أعماله ومناشئها من
أخلاقه وسجاياه فيمدح، ويرمى بالتفريط أو الإفراط في ذلك فيذم، وهو مكلف بأن
يعدل في تصرفه بالطبيعة ويقف في تحصيل مطالبها عند الحدود المشروعة
والمعقولة، وإننا نرى الترنسفال في المدافعة أقرب إلى الإفراط من إنكلترا في
التعدي والمهاجمة، بل إنها هي التي ألجأت إنكلترا للحرب بإنذارها الشديد المعلوم،
فكأنما هي التي ابتدأت الحرب، بل هي التي ابتدأتها حقيقة.
نقول: إن هذا الكلام صحيح، وإن حكومة الترنسفال قد تهورت ولكن لها
عذرًا في التعجل بالحرب؛ لأنها علمت أن ذلك واقع ما له من دافع، وأن الفائدة في
التأخير إنما هي لعدوتها حيث تستكمل جمع القوة اللازمة لإبادتها، على أنها تُلام
على عدم التساهل في الدفع بالتي هي أحسن قبل أن تكتب إنكلترا الكتائب وتسوق
الجنود إلى الحدود، اللهم إلا أن تكون على بينة من أن تلك المطالب تعبث
باستقلالها، فإنها حينئذ يصدق فيها قول الشاعر:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا ... فلا يسع المضطر إلا ركوبها
فكيف بها إذا شعرت بأن غاية هذه المطالب محو وجودها القومي وإدغامها في
المستعمرة الكبرى التي تَجِدُّ بريطانيا العظمى في إنشائها، وقد تجاوزت في التمهيد
لها من الشمال الخرطوم وأم درمان وتعلم (أي الترنسفال) أنها هي العقبة الكؤود
التي لا بد من تمهيدها في الجنوب؟ أليست جديرة في هذه الحال بأن تتمثل بقول أبي
الطيب:
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تعيش جبانًا
بلى، الجبن والاستبسال هما عاملا الفناء والزوال، وعاقبة الشجاعة والإقدام،
إما الظفر وإما ميتة الكرام، وليس استبسال شعب البويرس واستماتته لأجل الأمر
الثاني (ميتة الكرام) كما يظن أكثر الناس، بل هو يطمع بالظفر بعدوّه ويرجو أن
يكون له الغلب عليه لأسباب منها إعجابه بنفسه واستهانته بخصمه، لا سيما بعد
الظفر بحملة الدكتور (رجمسون) الإنكليزي، فإن البويرس يعتقدون بأنفسهم
أنهم أشجع الخلق وأبسلهم، والباسل لا يستبسل، ومنها أن التعليم العسكري عام فيهم،
ومتى دخل العدو بلادهم فإنهم يتألبون عليه كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالاً حتى
يظفروا به فيفنوه أو يبيدهم عن آخرهم، وبمثل هذه المزية تحفظ الشعوب
الصغيرة استقلالها، وبتركها حَل الدمار بأقوى الأمم وأعظمها، ومنها أن لهم من
ولاية الأورانج الحرة حليفًا وظهيرًا، ومنها أنهم مدافعون وخصمهم مهاجم، ومنها
أنهم يتوقعون أن يثور أبناء جنسهم في مستعمرة الرأس على خصمهم إذا لم يُبقوا فيها
حامية كافية لمنع الثورة، وإبقاء الحامية مفرق لقوتهم ومضعف لهم، والظاهر أن
بريطانيا العظمى على عظمتها إنما تقدر على التنكيل بالترانسفال بالمطاولة
لا بالمناجزة، ولا عار على أمة أن تغلبها أمة يزيد عدد رعاياها على عددها أكثر من
ثلاثمائة ضعف، ولها الفخر الأكبر والشرف الأعلى في الشجاعة إذا هي طاولتها
في القتال، أو كانت الحرب بينهما سجال، فكيف إذا هي ظفرت ولو في بعض
الأحوال؟ !
هذا خير مثال للأمم الحية والأمم التي تعد في الموتى، وبه يفهم قول اللورد
سالسبري: إن الأمم الحية تزداد حياة والمائتة تزداد موتًا، ولكننا بَيَّنا أن الأمم التي
ظهر فيها الانحلال يجوز أن ترجع إلى صحتها بإزالة العوارض التي طرأت عليها
فغَلَّبت التحليل على التركيب، فعسى أن يكون في كلامنا موعظة وذكرى {وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .
__________(2/498)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(2) من أراسم إلى هيلانة في 6 يناير سنة -185م.
حدث بالأمس بين الساعة العاشرة والحادية عشرة صباحًا ضباب كثيف غمر
الشاطئ كله، والعادة في مثل هذه الحالة أن تدق الأجراس إيذانًا بالخطر، فلذلك
طفقت أجراس القرية القريبة من السجن تطنطن، وتيسر لي أن أفهم المقصود من
هذه الإشارة، الساحل المحدق بنا ممتلئ بالأخطار لأن الرمال المتحركة
ومستنقعات الماء الراكد والمد والجزر كلها حبائل تترقب اصطياد السائح الضال،
كامنة له تحت أستار الضباب، لذلك تناديه أصوات الأجراس وتحذره من الوقوع
في الخطر، وترشده بمصدرها إلى الطريق الذي يلزمه سلوكه ليصل إلى سفح
الجبل أسرع ما يكون، وقد سألت في مساء هذا اليوم سجانًا لنا يسكن أهله القرية
عما حدث، فأخبرني بأن طفلين مسكينين قد فاجأتهما أمواج البحر في إبان المد
فأحاطت بها وكادا يغرقان لولا ما بذله من الجهد والهمة صيادو الشاطئ من ذوي
النجدة والبسالة في إنقاذهما من مخالب الموت غير مبالين بالخطر الذي كاد يذهب
بقواربهم، من هنا ترين أنني على بعدي عن العالم وحرماني من معرفة ما يحصل
فيه قد قدرت أن أتحفك بهذا الخبر السار. اهـ
(3) من أراسم إلى هيلانة في 8 يناير سنة - 185م
أنا في السجن تتعاقب عليّ الساعات، وكلها متشابهة لا اختلاف بينها، فليست
الحياة هنا إلا يومًا واحدًا بسبب ما يحرج الصدر ويضيق على النفس من توحد
الأشياء وتشابه الأطوار وعدم تغير شيء منها، آه لو عادت إليّ نعمة العلم بما يقع
في الخارج، وليتني أعرف شيئًا من أخبارك، قد منحتني إدارة السجن الحق في أن
أخرج من مخدعي للتنزه كل يوم ساعة أو ساعتين على رصيف مرتفع للسجن، فأنا
أصرف هذا الزمن في إجالة نظري والسياحة به فيما حولي من الأشياء لأتعرفها،
فإني للآن ما كنت أعرف شيئًا في هذا المكان، بل كنت أجنبيًّا منه بالمرة إذ كنت
كمَيتٍ أُلقي في مكان لا يدري أين هو، وقد ابتدأت منذ أسبوع أن أعرف أين
مستقري، فتجدينني الآن أهتم بتعرف شكل الأماكن المحيطة بي تعرفًا صحيحًا،
يبعثني على ذلك وجدان لا أشك في أنه عام في جميع المسجونين، لا ينفك ناظراي
عن اكتشاف ما لم أكن رأيته حال دخولي في السجن، وأخالني قادرًا على أن
أرسم في الورق صورة ما أحدثه البحر في الشاطئ من التقطع؛ فنشأت عنه الخلجان
والرؤوس التي تمتد كالألسنة امتدادًا أفقيًّا، وصورة الصخور التي تظهر قممها
أحيانًا في ضوء الشمس ويختفي نصفها أحيانًا في ظلام الضباب البعيد، وقد عرفت
أيضًا رسم البناء الذي يحويني، وأوضاعه الهندسية الجميلة، وتنظيماته الحربية،
ومعاقله الطبيعية ومنحدراته، ومناطق أسواره، لم يكن اهتمامي بمعرفة ذلك مبنيًّا
على تدبير حيلة للهرب، كلا، فقد حاول ذلك غيري من المسجونين وردوا
بالخيبة؛ لأننا إذا أمكن أن ننجو ممن يقومون على حراستنا من العساكر والسجانين
الذين يتعسر أن نخدع يقظتهم والتفاتهم، فإننا لا ننجو من المحيط والرمال
الخاتلة بوعوثتها، والعقبات الكثيرة الأخرى، وإنما أنا أبحث في ذلك عن طريقة
أُسلي بها نفسي وأشغل بها فكري، فلا شيء مني يريد الهروب والتخلص من
السجن سوى عقلي. اهـ.
(4) من أراسم إلى هيلانة في 10 يناير سنة -185م
أتعلمين ما للسجن عليّ من الفضل؟ إنه ليعلمني أن أكون حرًّا ويرشدني إلى
معرفة أن الإنسان عاجز عن الاستيلاء على إنسان مثله، فإني أحس بذلك كلما
تعاقبت عليّ الأيام فيه، وأجد في نفسي نوعًا من الفرح مشوبًا بمرارة عندما أشعر
من نفسي أنها أكبر وأقوى من أن يبهظها ثقل وطأة الظلم، ليست أسوار السجن
الصوانية وأغلاقه الحديدية وحفظته الأيقاظ إلا هباء في طريق العقل، لا حوائل
تحبسه وتمنعه من الجولان، بل إن أشعة نوره تتخطى كل هذه العوائق ولا تقف
عند شيء منها، إن عزيمة المسجون لتقاوم عزيمة ساجنه ومصفده، وأنه مهما جدّل
وصرع فلا يستسلم، وأنه إذا كان على شيء من العدل والحق فهو أشرف وأسمى
مكانًا من غالبه، عبثًا يحاول هذا الغالب، فالفكر كالهواء لا يدخل في قبضة أحد،
إنه ليتيسر له أن يشد وثاق مسجون، فليصل بعد إلى أعماق قلبه، وليأسر ما هنالك
من عزة نفسه ومنعة وجدانه إن كان ذلك في قدرته، هيهات هيهات تلك المنعة التي
أجدها في نفسي تدعوني إلى الثقة العظيمة بالمستقبل، لا أقسم بمخادع السجن
الضيفة المظلمة ولا بأشباح أولئك الذين ماتوا هنا في زوايا النسيان (مخادع في
السجن مسماة بهذا الاسم معدة للمحكوم عليهم بالسجن طول الحياة) أو في أقفاص
الحديد، فإن الحق والحرية سيكون لهما النصر والظفر في هذه الدنيا.
(5) من أراسم إلى هيلانة في 12 يناير سنة -185م
قد اهتديت بعد العناء إلى طريقة إيصال هذا المكتوب إليك، فسيصلك على يد
الذي تفضل عليّ بأن يكون رسولاً بيننا، على ما في ذلك من المخاطرة بنفسه، هذا
يدلك على أن الإنسان إن كان يحتف به في حالة الرخاء الجلساء المتملقون، فهو لا
يعدم في الشدة أن يرى حوله أحيانًا أصدقاء خاملين يخلصون له الود.
وأختم قولي بأنى لك طول حياتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/502)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(4)
(أماليّ دينية - الدرس الرابع)
(8) أحكام العقل: الإيمان هو تصديق العقل بقضايا الدين جزمًا في البعض
وظنًّا في البعض الآخر، وقد قلنا في درس سابق أن العقل مشرق أنوار الدين، وأنه
يجب أن لا يكون في الدين ما يجزم العقل بامتناعه، وأكثر كتب التوحيد التي يعلم
بها في المساجد والمدارس مبنية على أن العقيدة الإسلامية هي معرفة ما يجب لله
تعالى وما يستحيل في حقه وما يجوز له، وما يجب ويستحيل ويجوز في حق
الأنبياء عليهم السلام، وما ثبت بالسمع من أحوال عالم الغيب الجائزة عقلاً،
والتصديق الذي فسرنا به الإيمان حكم من أحكام العقل، والوجوب والاستحالة
والجواز التي بنيت عليها كتب العقائد التي أشرنا إليها هي أنواع الحكم العقلي التي
ترجع إليها جميع الجزئيات، ولذلك أراني مضطرًّا لبيانها وإن كنت أخذت على
نفسي أن أجلي لكم المسائل الدينية غير متقيد بالاصطلاحات العلمية.
قال إمام الحرمين: من لم يعرف أنواع الحكم العقلي ويفرق بينها فهو ليس
بعاقل، أبين مفهوم هذه الكلمات الثلاث بعبارة سهلة أرجو أن يتناولها فهم كل سامع
سالكًا مسلك السنوسي في جعلها أقسامًا للحكم العقليّ لا للمعلوم كما جرى عليه بعض
العلماء، فقد حقق أستاذنا الأكبر في رسالة التوحيد أن المستحيل لا حقيقة له فَتُعْلَم،
وإنما يسمى معلومًا مجازًا، وبين هذا بما لا محل لشرحه هنا لما فيه من الدقة التي
تنافي ما توخيناه من التسهيل، أبدأ بالبديهي من ذلك وأوضحه بضرب المثال
فأقول:
(9) الوجوب والواجب: لا ريب أن الإنسان لا يستطيع أن يتصور جسمًا
غير متحيز أي آخذ مقدارًا من الفضاء الموهوم بقدره، فحكم العقل بالتحيز للجسم
الذي في يدي مثلاً حكم جازم لا يقبل الانتفاء، وهذا النوع من الحكم العقلي هو الذي
يسمونه الوجوب العقلي، والمحكوم به يسمى واجبًا، فالتحيز للجسم واجب عقلاً لا
يمكن انتفاؤه، ولا يتصور في العقل عدمه.
(10) الاستحالة والمستحيل: إذا قيل لكم: إن هذا الجسم متحرك وساكن في
حالة واحدة، فإن عقل كل واحد منكم يحكم بأن هذه الدعوى كاذبة لا تقبل لذاتها
الثبوت؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور جسمًا متحركًا وساكنًا في آنٍ واحد، كما لا
يستطيع أن يتصور شيئًا موجودًا ومعدومًا في آن واحد، وهذا النوع من الحكم
يسمى الاستحالة، والمحكوم عليه بالاستحالة يسمى مستحيلاً ومحالاً عقليًّا.
(11) الإمكان والممكن؛ إذا قلت: إن في جيبي الآن تفاحة، فلا شك أن كل
عاقل يحكم بأن مفهوم هذا القول يجوز أن يكون ثابتًا متحققًا، ويجوز أن يكون
منتفيًا لا حقيقة له، وهذا الحكم هو الذي يسمى الإمكان، فوجود التفاحة في جيبي
ممكن قطعًا.
(12) البديهي والنظري: لا يرتاب فيما ذكرنا ذكي ولا بليد؛ لأن الأمثال
التي ضربناها بديهية، ولا يحتاج في فهمها إلى نظر واستدلال، ومن هذه الأحكام
ما لا يعرف إلا بالنظر العقلي والاستدلال، ولكن الدليل الصحيح لا بد أن ينتهي إلى
البداهة المعلومة بالضرورة بعمل فكري كثير، بل يحكم العقل بالتفاتة واحدة
باستحالة الترجيح من غير مرجح.
(13) الترجيح بلا مرجح: هذه الكلمة تدور على ألسنة المتكلمين في
الاستدلال على وجود الله تعالى وتنزيهه عن الحدوث، ومشابهة المحدثات،
ويعدونها من البديهات في العقليات، كما هي في الحسيات، فإن الميزان إذا تساوت
كفتاه لا يمكن أن ترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح كجسم يقع فيها أو هواء
يحركها، ومن هنا يجيء المثال الذي لا بد فيه من عمل فكري كثير، ولنجعله
حدوث العالم.
(14) حدوث العالم: من العالم ما نشاهد حدوثه بأعيننا كأشخاص الحيوان
والنبات، وما لم نشاهد حدوثه، فإننا نلقيه إلى العقل ليحكم عليه بأحد أحكامه
الثلاثة، أما الاستحالة فلا تأتي ههنا؛ لأن المستحيل ما لا يتصور وجوده، وهذا
موجود قطعًا، ولا سبيل للحكم عليه بالوجوب؛ لأن الواجب هو ما لا يتصور العقل
عدمه، ولا موجود في هذا العالم يمنع العقل عدمه، وكل ما تساوى في نظر
العقل وجوده وعدمه فهو ممكن، فإذا وجد الممكن فلابد من مرجح لوجوده على عدمه
المتساويين؛ لأننا أثبتنا أنهما متساويان، ورجحان أحدهما ينافي التساوي، فيلزم
أن يكونا متساويين وغير متساويين في آن واحد، وهذاهو التناقض المحال، فثبت
أنه لابد من مرجح لوجود العالم على عدمه والمسبوق بالترجيح حادث لا محالة بل لا
معنى للحدوث إلا هذا، ولك أن تقول: إن الترجيح فعل، وهو لا يعقل إلا حادثًا ومتى كان حادثًا فمفعوله حادث، فالعالم حادث لا محالة، وللاستدلال على هذا
الحدوث طرق أخرى لا حاجة لبيانها هنا.
(15) حكم الواجب والمستحيل: يشترك الواجب والمستحيل العقليان في أنهما
لا تتعلق بها قدرة الله تعالى؛ لأن وظيفة القدرة الإيجاد والإعدام، والواجب
وجوده لذاته فهو قديم ويستحيل عدمه، والمستحيل منتف لذاته ولو أمكن أن يوجد لم
يكن مستحيلاً، فلا يُقال: إن الله تعالى قادر على إعدام الواجب كذاته تعالى وتقدس،
أو إيجاد المحال كجعل الشيء موجودًا ومعدومًا، أو ساكنًا ومتحركًا في آنٍ واحد،
ولا يقال: إنه ليس بقادر إذ ليس هذا من وظيفة القدرة فيثبت لها أو ينفي عنها،
وقد غفل الجلال السيوطي عن هذا فقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 120) هذه العبارة (وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر)
وفاته أن العموم في كل شيء بحسبه، فإذا قلت: إنني أبصر كل شيء في هذا
المكان لا يدخل في عموم قولي الأصوات والروائح؛ لأنها ليس من شأنها أن تبصر،
ولا يعد هذا نقصًا في القدرة الإلهية، كما لا يعد عدم إدراك الأصوات والروائح
نقصًا فيها.
(16) العقليّ والعاديّ: يشتبه على كثير من الناس المُحال العقلي بالمُحال
العادي، ولا يكاد يسلم من هذا الاشتباه إلا الذين درسوا العلوم العقلية بالإتقان، ثم
سألت القوم: هل يجوز في العقل أن تثمر شجرة النخل تفاحًا أم يستحيل؟ فأجاب
طائفة من أمثل الحاضرين (يستحيل) فقلت لهم: إن العقل كما يتصور ظهور
الثمرة التي تسمى بلحًا من هذه الشجرة يتصور أيضًا أن تظهر منها الثمرة التي
تسمى تفاحًا، ولكن هذا إنما يمتنع في العادة دون العقل، أرأيتم إذ قلت: هل يقدر
الله تعالى على إخراج التفاح من شجرة النخل، فما أنتم قائلون؟ فأجاب أنه قادر
على ذلك، فقلت: وهل يقال إنه قادر على جعل النخلة موجودة ومعدومة في آنٍ
واحد، فقالوا: كلا، فقلت: قد اتضح الفرق، وليس لنا أن نقول: إن هذا الشيء
مُحال عقلاً إلا إذا كانت استحالته بديهية أو عليها دليل ينتهي إلى البداهة كالجمع بين
النقيضين، وما عدا ذلك مما لم تجر العادة بوجوده إما لعدم وجود سبب وعلة
تقتضيه، أو لأنه مخالف لسنن الكون - فهو ممكن في نفسه مُحال في العادة، كما
اهتدى الإنسان إلى جعل الشجرة تأتي بثمرة شجرة أخرى من فَسيلتها بالطريقة
المعروفة، يجوز أن يهتدي إلى طريقة طبيعية أخرى في الأشجار التي ليست من
فصيلة واحدة كالنخل والتفاح، إن هذا الأقرب في نظر العقل من وصول الأخبار
إلينا من الصين وأميركا في نحو دقيقة واحدة بآلة التلغراف، ومن مخاطبة أهل
الأنحاء الشاسعة بعضهم بعضًا بآلة التليفون، لولا الجمع بين النقيضين وما في معناه
أو يؤدي إليه لكان من الصواب ما قال نابليون الأول أن يحذف لفظ المستحيل من
معاجم اللغة، وفي هذا القدر من البيان غناء لقوم يتفكرون.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/505)
الكاتب: أحد الأفاضل في بتاوي الجاوه
__________
الشكوى من ظلم هولندا
لأحد الأفاضل في بتاوي الجاوه
لقد سرَّني وسرَّ جميع المسلمين في هذه البلاد ما نشرته جريدة (معلومات)
في عددها131 المؤرخ في 23 ربيع الآخر من هذه السنة جوابًا عن الرسالة الواردة
إليها من جاوه بتاوي وقد أصابت الغرض الذي نرمي إليه، وجميع المسلمين واثقون
بقولها ومرتقبون لنتيجة ما كتبته في عدد 94 في شأن التابعية العثمانية، وما تقرر
بين دولتنا العلية وهولندا، ويلهج بقرب وفاء الوعد النساء والأطفال فضلاً عن
الرجال، أما هولندا فقد زادها عُتوًّا ونفورًا، وأنشأت تموه وتعلن أن ما جاء في عدد
94 من معلومات قول لا يقصد به الفعل وأمين بك شهبندر الدولة العلية ساكت على
ذلك فاعتُبر مُقِرًّا له، وفي الشهر الماضي كتبت جريدة (بنتغ بتاوي) في عددها
188 المؤرخ في 18 (أكوس) سنة 1899م كلامًا أساءت فيه الأدب مع الحضرة
الشاهانية اقشعرت له قلوب العالم الإسلامي في هذه البلاد، وكتبوا عرائض الحال
للشهبندر أمين بك وقَدّموا له عدد الجريدة المشتمل على الطعن.
نشكر لجريدة (المنار) ما كتبته في عدد 25 المؤرخ في 26 ربيع الثاني
جوابًا على الرسالة الواردة إليها من (بتاوي - جاوه) وما ذكرت من العقبات التي
أمام دولتنا العلية -أعزها الله إلى آخر الدوران- المانعة لها من إنقاذ المسلمين من
ظلم هولندا، احتج (المنار) واعتذر عن الدولة العلية أولاً بأن أسطولها ناقص
يعوزه زيادة المدرعات، وثانيًا بأن هولندا بعيدة في البر عن حدود الدولة العلية،
وأنها لو كانت قريبة لدمرتها بمثل ما دمرت اليونان، ونحن معاشر الجاويين
المسلمين نظهر في (المنار) وبواسطة كل من له غيرة على المسلمين، أنه إذا
أرادت الدولة العلية إنقاذنا من ظلم هولندا ارتجّ لها العالم بأسره، ونطلب من الدولة
بمرأى ومسمع من معتمدها أمين بك أولاً أن تحارب هولندا بالحجة والإقناع، ثانيًا
أن باب المندب ليس ببعيد عن دولتنا العلية، وحياة هولندا وموتها هناك، ثالثًا
الضغط على رعاياها في الممالك المحروسة وإبطال امتيازات قناصلها حتى لا يبقى
لقنصل هولندا إلا المحافظة على بنديرة (عَلَم) دولته كما هو شأن قنصل الدولة
العلية في بتاوي، فإنه لا يفوه ببنت شفة أمام الهولنديين دفاعًا عن رعايا دولته
وحفظًا لحقوقهم.
فإننا تحت ظلم هولندا يكال ويوزن لنا بالموازين والمكاييل الناقصة، وقد
فضلت الهرباوين واليابان علينا في الموازين أعني القوانين والامتيازات. ونحن
نعتقد أن دولتنا العلية أقوى في جميع الوجوه من اليابان، وإن اليابانين منذ عهد
قريب حازوا الامتيازات من هولندا، وكانوا يعاملون مِثلنا ولمّا رفعوا شكواهم إلى
(الميكادو) أغاثهم حالاً وأنذر هولندا بأنها إذا لم تعامل رعاياه كمعاملة الهرباوين يعلن
عليها الحرب حالاً، وعندما وصل الإنذار إلى والي بتاوي أمر حالاً بأن يعامل
اليابانيون في جميع مستعمرات هولندا كمعاملة الهرباوين في جميع الامتيازات.
وأخيرًا نستلفت أنظار دولتنا العلية أن ترحمنا وترق لما نحن فيه من الظلم
وأن ترسل إلى مياهنا ولو سفينة حربية اقتداء بالدول كي تقرّ أعين المسلمين وتطمئن
قلوبهم برؤية الهلال والعساكر الأهلية وما ذلك عليها بعسير؛ فإنها هي المسئولة
عن ذلك بين يدي الله عز وجل بما لها من القوة في الوقت الحاضر، وجميع
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها متمسكون بالسدة الملوكية، والمرجو من
حضرات محرري الجرائد التركية والعربية، والفارسية والهندية، ومن له غيرة
على المسلمين أن ينادوا ويحرروا ويعلنوا ما نحن فيه من الظلم والاعتساف من
هولندا؛ حتى يُسَخِّر الله لنا مَن يُحامي عنّا وأجر الكل على الله وحده، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محب الدولة والملة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ناصر الدين
(المنار)
لو أن قناصل الدولة العلية في بلاد جاوه من الرجال المُحَنكين في السياسة،
الصادقين في الخدمة، لأمكنهم أن يُخففوا البلاء على المسلمين هناك، ويحملوا
حكومة هولندا على إعطائهم حقوقهم كلها أو بعضها، ولكننا بُلينا بقوم خونة يكون
أحدهم وكيلاً للدولة العلية ليحافظ على حقوق رعاياها فيتفق مع الحكومة المحلية
على أن يكتم عن دولته الحقيقة، ويخبر عما يجري بخلاف الواقع، يشتري بذلك ثمنًا
قليلاً {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُون} (البقرة: 79) أما
الوجوه التي ذكرها الكاتب فهي مما يُقال ويخطر بالبال، ولكن هولندا تجيب الباب
العالي إذا هو احتج عليها بضياع حقوق رعيته أو سائر المسلمين في جاوه بأن أخبار
الجرائد كاذبة، وأن الصحيح ما يقول القنصل الرسمي، وقد علمنا أن القنصل يكتب
لدولته ما تحب الحكومة الهولندية وترضى، وإذا وصل للدولة العلية خبر رسمي
صحيح ينطق بثبوت تلك المظالم واحتجت به تقابلها هولندا بالوعود الكاذبة حيث
هي آمنة من الإلزام بالقوة، وأما التعرض لمراكب هولندا في باب المندب فهو لا
يجوز إلا إذا وقعت بين الدولتين حرب رسمية، ولا مجال للحرب لما ذكرنا قبلاً
من بُعد بعض البلادين عن بعض وضعف أسطولنا، وأما الضغط على رعايا
هولندا في الممالك المحروسة فهو يفيد لو كان لهولندا رعايا في بلاد الدولة العلية،
ولكن هولندا دولة صغيرة إذا خرج بعض أهلها من بلادها للاتجار والكسب،
فإنما يقصدون مستعمرتهم أو أرضًا غنية أخرى يسكنها قوم من جنسهم كجنوبي
إفريقيا، ولا يوجد منهم في بلاد الدولة العلية إلا قليل، على أنه يصعب على
هولندا أن تحرمها الدولة العلية الامتيازات الممنوحة لغيرها من دول
أوروبا لما فيه من الإهانة لها، ولا نخال أن الدولة تفعل هذا، وأما اعتقاد الكاتب
وغيره أن دولتنا أقوى من دولة اليابان فهو إن صح لا يلزم منه أن تعامل الدولة
العلية كما تعامل اليابان؛ لأننا مُقِرّون بأنه لا سبيل للدولة إلى حرب هولندا للبعد في
البر وعدم استعداد أسطولنا لحرب البحر على أن بحرية هولندا ضعيفة أيضًا.
ونحن نرى أن يستصرخ إخواننا الجاويون العالم المتمدن بالكتابة في الجرائد
عامة والأوروبية خاصة بأن يبينوا فيها مظالمهم من غير تحامل، ويحددوا فيها
مطالبهم تحديدًا وأخال أنه يوجد فيهم من يحسن الكتابة في اللغتين الإنكليزية
والفرنسوية.
ومع هذا فإننا لا نأتلي أن نستصرخ لهم مولانا السلطان الأعظم، ونستنجد
عواطفه الشريفة، ونستغيث بمراحمه، ونستجدي مكارمه، ونرغب إلى سائر
الجرائد الإسلامية بمساعدتنا على ذلك، عسى أن يوفقه الله تعالى لحل هذا الإشكال
بطريقة لا تخطر على البال، فتتحقق بجلالته وبدولته الآمال، وعلى الله الاتكال.
__________(2/508)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تهاني الجرائد
نهنئ صديقنا الكاتب الفاضل، المؤرخ المدقق جرجي أفندي زيدان بإكمال
مجلته الهلال الأغر سبع سنين، بلغت فيها بجده واجتهاده وحسن اختياره
للمواضيع المستعذبة مبلغًا في الانتشار سبقت فيه جميع المجلات العربية فيما نعلم
بحيث صار هلالها بدرًا كاملاً، فلا زالت بسعيه مشرفة على الأقطار، مشرقة
بأنوار المعارف التي هي أنفع من أنوار الأهلة والأقمار.
***
ونهنئ الكاتب الأديب عوض أفندي خليل صاحب مجلة (السمير الصغير)
باستقبال مجلته السنة الثالثة بشكل المجلات الكبرى؛ فارتقت من أربع صفحات
إلى 16 صفحة كبيرة، وبذلك زادت فوائدها، فنحث أبناء المدارس على زيادة
الإقبال عليها.
***
ونهنئ جريدة (السلام) الغرّاء ببروزها من حجابها، وعنايتها بعده بالمباحث
الإسلامية، مستلفتين أنظار من يحررها إلى عدم التحامل في الانتقاد على العلماء،
فقد اتخذتهم في إحدى مقالاتها هزؤًا وسخريًّا، ولا ننكر أننا ربما كنا أول من فتح
باب الانتقاد عليهم في شؤون العلم والتعليم، ولكننا لم نمس كرامتهم الشخصية،
وعلى أن مجلتنا علمية دينية، ونحن من الصنف، وبهذا ربما يقبل منا ما لا يقبل
ممن ليس كذلك، ولا يتوهم أننا نقصد حجر هذه الأبحاث على غير (المنار) فإننا
- يعلم الله - نحب أن توافقنا كل الجرائد وتساعدنا فيما نحن فيه، وإننا قد سُررنا
بمشرب (السلام) الجديد، ولكنا نرجو أن تكون فيه على بينة واعتدال , وأن
تتحري في المديح الشخصي كذلك فلا تطلق الألفاظ التي تخصها الجرائد المعتبرة
بأمير البلاد (كشرفنا أو شرف الثغر) على أوساط الناس، فضلاً عن أدنائهم. ولما
رجونا منها الخير أبدينا لها النصيحة، والله عليم بذات الصدور.
***
أخبار الحرب نلخصها في الرسائل البرقية، على أن مصادرها إنكليزية:
قضت الحال أن يكون الترانسفاليون مهاجمين مع أن الأصل أن يكونوا مدافعين،
وقد أوغلوا في بلاد ناتال الإنكليزية من مضيق لنجسنك وكذلك جند الأورانج حلفاؤهم
تعدى حدودها، وهجم البويرس أيضًا على بلدة ما فكنج فحاصروها وربما كانوا قد
استولوا عليها وقد دمروا هناك القطر الحديدي الحربي المدرع الذي كان معتمد
إنكلترا في حماية تلك الجهة بعد ما أزاغوه عن صراطه،وقد أسروا جميع من كان في
القطار إلا رجلاً مهندسًا أو رجلين، وحاصروا أيضًا مدينة كمبرلي التي فيها
المسترسل رودس صاحب المشروع الإفريقي العظيم واحتلوا النكس نك، وآخر
الأخبار البرقية أن جندهم في تقدم مستمر إلى الأمام، وأنه يقصد إلى الإحاطة
بمدينة لادي سميث، والمدد البريطاني متواصل.
__________(2/511)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي
نعى إلينا بريد سوريا الأخير وفاة والدة مدير جريدتنا عبد الحليم أفندي حلمي
قضت نحبها في ميناء طرابلس الشام عن عمر ناهز السبعين، قضت معظمه بالعمل
الصالح والبر والإحسان، فرحمها الله رحمة واسعة، وعزّى أولادها وإخوتها،
وألهمهم الصبر الجميل.
__________(2/511)
23 جمادى الآخرة - 1317هـ
28 أكتوبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى لرؤساء الأمة
] إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا [[1]
ويلٌ للمفرِّطين الذين هم في غمرة ساهون، تلمع لهم بروق الهداية ولا
يبصرون، وتصيح بهم رعود النذر ولا يسمعون، وتفيض عليهم سماء النعم ولا
يشكرون، أنذرهم الله بطشته بسوء الحال وقلة المال وزلزلة الاستقلال، فتماروا
بالنذر- وأعرضوا عن الآيات والعبر، واعتذروا بالقضاء والقدر، وما أذنب
القضاء ولكنهم هم المذنبون، وما قصر القدر ولكنهم هم المقصرون، يجادلونك في
الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وما هي إلا كلمة واحدة
تذهب باستقلالهم، وتقطع حبال آمالهم، وتجتاح ثمرات ما كان من أعمالهم،
أستغفر الله لأنهم قوم لا يعملون، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم
يخصمون.
ويل للغافلين الذين هم في سكرة يعمهون، أضلهم الهادون، وأغواهم
المرشدون، وفتك بهم الحرَّاس الحافظون، فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون،
تفرقت بهم السبل فأعيتهم الحيل، واختلف فيهم الأدلاء فلا يدرون كيف العمل،
وغلبت العادات السيئة فكثر الخلل، وقوي سلطان التقاليد الباطلة فعمّ الزلل، فإذا
قيل لهم: ارجعوا إلى قرآنكم، قالوا: إنما نحن مقلدون، وإذ قيل حَكِّموا العقل، قالوا: إنما نحن مؤمنون، كلا، إنه لا يشقى بالإيمان العالمون {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم
بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106)
ويل للمرءوسين من الرؤساء، وويل للرؤساء من المرءوسين، ويل لعلماء
السوء، وويل لخطباء الفتنة، ويل للذين يغرون الناس بأقوالهم، ويفتنونهم بأفعالهم
وأحوالهم، يزهدونهم وهم طامعون، وينفثون في أرواحهم سموم الخرافات وهم
يعلمون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ
المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12)
ويل للأمراء الظالمين، والسلاطين الجائرين، الذين جعلوا الرعية عبيدًا، بل
حسبوها حجارة أو حديدًا، يستعبدونها كما يشاؤون، ويستعملونها بما يشتهون، لا
يتقيدون بشريعة ولا قانون، ويرى كل منهم أنه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} (الأنبياء: 23) .
حسبكم حسبكم أيها الرؤساء، وأفيقوا من نومكم أيها المرءوسون، فقد ذهبت
تلكم الأزمان، وتغيرت طبيعة العمران، ودخل البشر في طور جديد، فمنهم شقي
وسعيد، فأما الذين سعدوا في دنياهم، وكاد يخلص لهم ملكها دون من سواهم، فهم
الذين نظروا في الأكوان واسترشدوا بسنتها، وسبروا أحوال الأمم الأمم فأخذوا
بنافعها ومستحسنها، وطهروا أنفسهم من ضارها ومستهجنها، وبذلوا جل العناية في
اختبار طرق التربية والتعليم، واختيار ما ثبت لهم أنه الصراط المستقيم، وإنما
تعرف المبادئ بغاياتها، وصحة الأسباب بصحة مسبباتها، وهذه آثارهم بين أيديكم،
وهي أكبر حجة عليكم، يدير الواحد منهم شؤون الملايين من سائر الأمم، كأنه يدير
الآلات الصماء أو يرعى النَّعَم.
وأما الذين شقوا فهم الذين تنكبوا الطريق الأَمم، وأعرضوا عن النظر في
أحوال الأُمم، وجهل علماؤهم سنن الله في الخلق، وزعموا أن في تعلمها إعراضًا
عن الحق، بل أوهموا أمتهم أن سنن الله وأحكامه في خليقته، مخالفة سننه وأحكامه
في شريعته، وأن العالم بالخليقة كافر أو منافق، والمشتغل بكتب الفقه
(التي زعموا أن الشريعة محصورة فيها) هو المؤمن الصادق، هيهات هيهات،
لقد أضل الواهم قومه وما هدى، وإنما {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ
قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) وهم الذين يحاربون الإصلاح باسم الدين، وهو
ما كان عليه آباؤهم منذ مائة سنة أو خمسين، فيقولون: ليس في الإمكان، إلا إبقاء
ما كان علي ما كان؛ لأن سعادة الأمة في حاشيتي التجريد والصبان، ومعرفة حكم
مناكحة الإنس والجان، وقطع السنين الطوال في أمور لا تتعلق بها الأعمال،
كأبواب الرقيق وما فيها من التدقيق، وإذا قيل لهم: اقتدوا سلفكم الأولين من
الصحابة والتابعين، ومن يليهم من الأئمة الوارثين، الذين جمعوا بين مصالح الدنيا
والدين، ولم يكن عندهم الصبّان ولا ابن عابدين، فارجعوا إلى كتبهم، وتأدبوا
بأدبهم، واستمسكوا بسببهم، فأما أدبهم فالسنة الصحيحة والقرآن، وإتقان لغتهما
بالكتابة واللسان، وأما سببهم فالاستعداد للقوة بقدر الإمكان، بحسب حال الزمان
والمكان، وبذلك فتحوا البلدان، ودوخوا الفرس والرومان، إذا قيل لهم هذا يقولون:
أما اقتفاء آثارهم في الآداب والعرفان، فلا يستطيعه اليوم إنسان، لفساد طبيعة
الزمان… وأما اتباعهم في القوة، والنجدة والفتوة، فهو مطلوب من الحكام، لا من
العلماء الأعلام، فإذا قلت: كيف؟ وإن المدافعة عن الأوطان هي عند كم من
المفروض على الأعيان، حيث تحقق شرطه في هذا الزمان، وهي متوقفة علي علم
تقويم البلدان، ونحوه من العلوم التي يذمها منكم الجمهور الأكبر، ويقولون: يجب
أن لا يتلوث بها الأزهر - يجمجم قوم ويهمهم آخرون، ويعرض عن الجواب
المتكبرون، انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون، لكل نبأ مستقر وسوف
تعلمون، وهم الذين استبدل حكامهم قانون الإفرنج بقانون الديّان؛ لأن سوء التعليم
أبعد الفقه عن متناول الأذهان، وجهل الفقهاء بأحوال العصر جعله غير منطبق على
مصالح الإنسان، وتجاوزوا الحد في الاستبداد، والعلو في الأرض والفساد، فجعلوا
لأنفسهم الحق في إبطال الشريعة الإلهية، والعفو عمن يحكم عليها بأحكامها العدلية،
على إنهم لم يتقيدوا بالقوانين الوضعية، ونظام الأمم المتمدنة الغربية، فيالها من
تجارة بائرة، وصفقة خاسرة، وما هو إلا خسران الدنيا والآخرة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) لا أٌطيل في القول، فشقاء
أمتنا في كل مكان، قد شعر به مِنَّا كل إنسان، ولم يزل منزلة الرؤساء من الأمة
منزلة الوالدين من الولدان، وأمام هؤلاء الرؤساء الآن فرصتان لإصلاح الشان،
إحداهما في مصر وهي العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العليّة، وهي
السياسية الإدارية، فإذا انتهز علماؤنا وفضلاؤنا الأولى، ودولتنا الثانية، فُزْنَا إن
شاء الله تعالى بالعيشة الراضية، وإلا أضاعوا ما تنتظره الأمة من المجد في دنياها
وهم غافلون، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
__________
(1) (المزمل: 19) .(2/513)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(6) من هيلانة إلي أراسم في يناير سنة -185
قد تلقيت مكتوبك أيها الحبيب من يد البريد السري، فكان له عليّ أحسن أثر
وأنفعه، فإني كنت في حاجة عظمى إلى شيء يسليني ويسرّي عني بعض الألم،
فلشدّ ما قاسيته منه مدة شهر، قد ضعفت صحتي وانحطت قوتي، وللطبيب الذي
يداويني في غيبتك ويوجه إليّ كثيرًا من الأسئلة فكرة في سبب هذا المرض أراها
تَشِف عن جنونه فإنه يزعم أني… كلا، إنني لموقنة بخطئه في ذلك.
مهما كان الأمر أريد أن أراك، فإن هذا الفراق العاجل بعد الزواج الذي لم
يمض عليه أكثر من سنة خَطْب هائل لا يطاق، ولا يمكنني أن أعيش معه، وإني
مسافرة مساء هذه الليلة من باريس ومعي إجازة موقع عليها من ناظر الحقانية بالإذن
لي بزيارتك، فلا بد أن يُسمح لي بدخول السجن، ولا يمكن أن ما عقدته رابطة
الحب يحله استبداد المستبدين.
لا تخش من شيء في هذه المقابلة، فأنا لم أقصد بها الرغبة إليك في أن
تستَميح الحكومة عفوًا عنك، فإني وإن كنت أتألم لغيبتك كثيرًا إلا أني أحترم
وجدانك وهواجس نفسك، وإن لم أفهمها حق الفهم، اعلم أن فيّ ما في بقية النساء
من مواضع الضعف ومظان العجز إلا أني منزهة من دناءة الخدين وخيانتها
لصاحبها، فإن شرفك داخل فيما أحبه منك، وإنك على احتباسك عني وبعدك عن
ناظري بما فيك من عزة النفس والشهامة وإباء الضيم لأجَلُّ في نفسي منك وأنت
بين يدي أرى مبادئك ومعتقداتك التي جريت على سننها طول حياتك، إني لما
تزوجتك تزوجت شيئًا آخر معك ألا وهو ضميرك ووجدانك، فإن بقيت على ولائه
متبعًا ما يرشدك إليه أقسمت لك أني أكون في الإخلاص لك كما تكون في الإخلاص
له مدة حياتي، أودعك الآن لأراك قريبًا إن شاء الله، وأكاشفك محبة قلبي إياك
وامتلاءه بالإشفاق عليك.
(7) من هيلانة إلي أراسم في 20 يناير سنة - 185
إني لم يتيسر لي أن أحدثك بشيء مما أردت محادثتك به عند اللقاء مع أن
حديثي ذو شجون، من أجل ذلك أردت أن أعتاض عما فاتني منه بالمكاتبة
فسطرت لك هذه الكلمات.
كان مجيئي إلى السجن بالأمس واستفتاحي بابه في الساعة الثانية بعد الظهر
وبعد أن تحادثت مع مديره برهة أقبل نحوي أحد خزنته يهدج في مشيته وأنا أسمع
خفق نعليه بشدة على البلاط، وأخذني إلى الغرفة التي كنت أنتظرك فيها، كان قلبي
قد وعدني قبل دخولي السجن ورؤيتي ما فيه أن يستجمع كل ما لديه من الجراءة
والثبات؛ ليدفع بذلك عني بوادر الجزع وخواطر الهلع، فلم يلبث بعد دخولي هذه
الغرفة أن نقض ميثاقه وحل وثاقه، وأعوزتني رباطة الجأش وثبات الجنان لما
رأيتني وحيدة لا أنيس لي، وجمد الدم في عروقي لما استولى عليّ من الدهشة
والوحشة مع انقطاع الصوت في قباب السجن إلا ما يكون من صرير الأبواب
وصلصلة أغلاقها من بعيد أثناء فتحها وإقفالها، فلما بدا محياك لناظري فقدت بقية
رشادي وغبت عن وجودي، فإن فرحي برؤيتك بعد احتجابك عني وحزني لوجودك
في مثل هذا المكان قد أثارا عليّ جميع ضروب الانفعال ففدحتني وصرعتني، ولم
تبق لي من القوة سوى ما أسكب به العبرات، وأردد الزفرات، فألقيت نفسي عليك،
وكنت كما تعلم بين يديك، إنني رأيتك وقت التلاقي شاحب اللون متمقعه، فهل
كنت مريضًا؟ وليس من العجيب أني نسيت أن أسألك عن ذلك، فإنني إذ ذاك كنت
فانية فيك، فما كنت أفتكر ولا أرى ولا أحس ولا أقول شيئًا.
أتعلم ماذا كان يقلقني من الأفكار فوق ذلك؟ إنه كان يخيل لي أن لتلك
الجدران - جدران السجن - المخيفة أبصارًا وأسماعًا وإدراكًا، وأنها تحس بي لو
صافحتك، وتراني لو أشرت إليك إشارة ما، وتسمعني لو أفضيت إليك بسر فتذيعه.
لما عاد إلينا خازن السجن ونَبَّهنا إلى أن وقت التلاقي الممنوح لنا قد انقضى
من بضع دقائق قفّ شعري واقشعرّ جسمي وطار لُبّي، ولو أقسمت له عن سلامة
صدر بأنه لم يمض على دخولي السجن شيء من الزمن وأن في الساعة خللاً أدّى إلى
هذا الخطأ - لما كنت في اعتقادي حانثة، ووددت لو بعت حياتي وجميع ما أملكه
من حطام الدنيا - وإن قلّ - بساعة أخرى أقضيها معك.
لم تكن لي مندوحة من فراقك على غصتي بمرارته، ففارقتك مملوءة الفؤاد
من الحزن، مستفرغة الدموع من العينين، معتقلة اللسان من الوجوم على شرفٍ من
فقد الإدراك والشعور، واجتزت مكان الأسلحة يتقدمني دليل يحمل مصباحًا، فإن
الليل كان قد جنَّ على ما ظهر لي، لم يكن ابتعادي عن حضرتك حائلاً بيني وبينك،
ولا شاغلاً قلبي عن الاستغراق في شهودك، كلا إنني كنت أخالني في كل خطوة
أخطوها أسمعك تناديني مسترجعًا إياي، ولقد التفتُّ مرة لأتبين هذا النداء الوهمي
فلم يقع نظري إلا على وجه من الحجر، ذلك هو أحد البابين العظيمين
الحافظين لمدخل القرية.
سار بي ذلك الدليل الخرّيت الواسع الخبرة بشاطئ المحيط ومواقعه على حافة
الساحل متجهًا نحو قرية… حيث يجب أن أقضي ليلتي هناك في ناموس [1]
الصيادين، هذا الطريق وعثٌ، وقد أمضني فيه الحزن والنصب حتى لقد حدثتني
نفسي غير مرة بأن أجلس فيه وأقضي ليلتي على تلك الرمال، وإني أستميحك العفو
عن ذلك، فإني كنت أعلل النفس بقولي: إنني بجلوسي هاهنا أنام بالقرب من سجنه
على الأقل، وإذا اغتالتني الأمواج فحسبي أنني قضيت نحبي وأنا على مقربة منه،
كنت في سبيل توطين نفسي على الصبر وتشجيعها على احتمال المكروه أردد
النظرإلى جهة… وكان الليل ساكنًا إلا أنه كان حالك الظلام مخيفه، فلا كوكب يبدو
فيه ولا قمر، وكان يزيد في كثافة حجب الظلام ذلك السحاب المركوم وما يجود به
من الرذاذ البارد، أما البحر فكنت أسمع له من بعيد زمجرة وهديرًا، وأرى فوقه
أبخرة سنجابية اللون قد تنوّرت - على ما وصفت لك من شدة الظلمة - ضوءًا
ضعيفًا كان يظهر بصيصه من نافذة في جهة الجبل، وتعذر عليّ أن أحكم إن كان
هذا الضوء المتذبذب منبعثًا من السجن أو من أحد مساكن القرية، وكنت مع هذا الشك
الذي كان يخامرني في مصدره أنظر إليه نظر المحب إلى أثر حبيبه، وكنت أفتكر أنه
إن انطفأ ينطفئ معه نبراس حياتي.
قد وصلنا بفضل همة الدليل وخبرته بعد الجد في السير إلى نقطة تقابل… فلم
يبق بيننا وبينها سوى جدول يُجتاز على المركب، جلست في المركب على مقعد من
الخشب أرشدني إليه الجدافون لما أضنتني الأفكار ونهكت قواي الخواطر، فكانت
هذه الراحة والسكون المستتب حولي سببًا في توجيه أفكاري إلى فكرة جديدة، فبينا
أنا أفكر فيما كنت أفضيت به إليك من حالة صحتي وما استنتجه العلم منها إذ شعرت
على الفور بحركة شيء حي تحت منطقتي - الله اكبر - إن الطبيب كان مصيبًا،
فسأكون عمّا قليل أمًّا، لا أحسبك نسيت أن أعظم أمنية كانت لنا في أيام الهناء
الماضية هي أن يرزقني الله ولدًا منك، وإنني لترتعد فرائصي عند التفكر في ذلك.
ومهما كان من الأمر فلا أُخفي عليك نتيجة شعوري بالحمل، وهي أني بعد أن
تكدرت برهة أحسست بأن شعاعًا من الفرح والعزة يضيء في جوانب ظلمات حزني
وأني في رجوعي من عندك لم أكن فريدة محرومة من الرفيق، وخِلتُ أني قد
وجدتك بعد فقدك، نعم أدركت مع الزهو والإعجاب أن ذلك الذي يجنه حشاي
وتنضم عليه جوانحي هو أنت أيها الحبيب، وهل هو إلا مثالك الحي وبضعة من
لحمك ودمك؟ ثم خُيل لي بعد ذلك بلحظة أن الأمواج المضطربة تُحَييني بلسانك
تحية الزوجة والأم، وقلت في نفسي: إنني الآن في وسعي أن أقتحم ظلمات الليل
والرمال الوعثة، ولا أبالي بالسجن ولا بأوامره الشديدة وحرَّاسه وسجانيه، وصحت
بأن هؤلاء ليس في قدرتهم أن يأخذوه مني، وأنه هو في الجملة أبوه، أو على الأقل
بضعة منه يمكنني أن أخفيها في مستقري فأجعلها حرة بعيدة عن عدوان المعتدين،
كما تخفي اللبؤة الجريحة شبلها في عرينها.
أقول هذا ولكنني أرى أمرًا يروعني ويبلبل فكري وهو طريقة تربية هذا الولد
فإني طالما سمعتك تتكلم فيما يجب على الوالدين لأولادهم بعبارات هي من سمو
البلاغة، وقوة التأتير بحيث إن قلبي كان يخفق لسماعها أملاً في أنه سيكون المقصود
بها، واليوم قد اقترب تحقق هذا الأمل، وأنا مِن تَحَقُّقِهِ في إشفاق ورعب.
مَن ذا الذي يقوم بتلك الفروض التي أنت تعلمها أكمل العلم، فقد كنت تقول
لي: لو رزقني الله ولدًا لوقفت حياتي على تعليمه وتربيته، وكنت تجاهر كل
المجاهرة بإنكار الطرق السائدة في تربية الناشئين واستهجانها شديد الاستهجان، كل
ذلك لا يزال منقوشًا في ذاكرتي، لكني بقدر ما كنت أعجب بأفكارك ومقاصدك
تعتريني الآن رعدة خوف أمام هذا التكليف الذي سيقع ثقله عليَّ وحدي، فقد فرَّق
بيننا قانون الإنسان بهوّة حفرها لتكون حاجزًا يحول بيني وبين الوصول إليك في
وقت أكون فيه أشدّ حاجة إلى الاسترشاد بنصائحك والاستضاءة بنور معارفك
والاعتماد على معونتك الأدبية، ليت شعري ما سيكون من أمر هذا الولد إذا كبر
وهو محروم من رعاية والده وعنايته؟ وما عسى أن أفعله له وأنا كالقصبة الضئيلة
قد رزحت بضعفي وضعضعني سقمي؟
قد وجدت قوبيدون الزنجي البارّ الذي أحضرته معك من أمريكا في انتظاري
هو وزوجته على الشاطئ الآخر للجدول، فلما رأياني أرادا تقبيل يدي رغمًا عني
قائلين: إن هاتين اليدين صافحتا يديك، وإن لك الفضل عليهما في الحصول على
حريتهما، ما وصلت إلى الشاطئ إلا وأنا في قفقفة من البرد قد وصل أثرها إلى
أعماق نفسي، وكانت ثيابي مبللة، فوجدتهما والحمد الله قد أعدا لي فراشًا في أحد
نواميس الصيادين التي على ضفة الجدول، وأذكيا لي بها نارًا من قضبان أشجار
يابسة، فأخذ البرد يزول عني تدريجًا بتوقد اللهب في المستوقد، وارتحت لما كان
يبديه لي كل من هذين الشخصين من إخلاصه في الحب والولاء، ما أشد عدوى بِر
الإنسان وأعظم أثر إحسانه، فإني قد نِمت هذه الليلة أحسن من نومي في سوابقها
بعد ذلك النهار- نهار التعب الجسماني والنفساني- الذي كدت فيه أن أسخط على
الحياة وأسأمها، وأنا أكتب إليك الآن في ناموس الصيادين بعد استيقاظي من النوم
صباحًا.
تجد مكتوبي كما اتفقنا بالأمس مخبأ فيما أرسله لك من الملابس التي توليتُ
طيها وإصلاحها بنفسي، ورق هذا المكتوب وإن كان رقيقًا إلا أنه متين، وقد
طويته طية جعلته فيها على شكل زر، فليت شِعري هل يتيسر لك قراءة خطي الذي
هو كأرجل الذباب؟ !
سأعود بعد غد إلي السجن، فقد وُعدت بأن يؤذن لي في الدخول من الساعة
الأولى مساء، وعسى أن أتجلد في هذه المرة فأستجمع شتات فكري، أُقَبِّلك الآن
قُبلة الوداع بكل ما في نفسي من قوة الشوق، والملتقى قريب إن شاء الله. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الناموس لفظ مشترك بين جملة معانٍ منها منزل الصيادين.(2/516)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(5)
(أماليّ دينية - الدرس الخامس)
(17) وجود الواجب: عرفتم من الدرس الماضي معنى الواجب والمستحيل
والممكن، وأن وجود هذا العالم ممكن، وأن الممكن يحتاج في نظر
العقل إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، لأنهما متساويان عنده، وترجيح أحد
المتساويين بلا مرجح محال، والآن نقول: إن المرجح لوجود هذا العالم الممكن
على عدمه لا بد أن يكون واجبًا، وبيانه أن ترجيح وجود الممكن عبارة عن إيجاده،
وموجد الشيء لابد أن يكون غيره، ولا موجود غير الممكن إلا الواجب، فتعين أن
يكون ما يستند إليه وجود الممكن واجبًا، أما كون موجد الشيء لا بد أن يكون غيره
فهو بديهيّ، لأنه لو أوجد نفسه لكان سابقًا عليها في الوجود إذ المؤثر سابق على
أثره طبعًا، فيقتضي أن يكون موجودًا قبل وجوده، أي موجود غير موجود في آنٍ
واحد وهو محال بالبداهة، فإن قيل: إنما يصح هذا بالنظر إلى طبيعة الممكن التي
تشمل جميع الممكنات، ولنا أن نقول: إن بعض هذه الممكنات أوجد البعض الآخر،
نقول في الجواب: إذا لم نقم لكم الدليل في جملة الممكنات فإننا نقيمه في أول
جزء وجد منها، فإنكم سلَّمتم أنه لا يكون إلا حادثًا وأنه يستحيل أن يحدث الشيء
نفسه، فتعين أن يكون الذي أحدثه هو الواجب؛ لأننا فرضنا أنه لا ممكن قبله فثبت
المطلوب.
(18) ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الاعتقاد بوجود بارئ الكون فطري
في الإنسان، بل قال بعضهم: إنه فطري في الحيوان؛ لأنك إذا ضربت الهرة من
ورائها أو صِحت بأي حيوان، يلتفت لما؛ هو مركوز في فطرته من أن كل فعل
لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وقد سُئل أعرابي عن الدليل على
وجود الله تعالى، فقال: البَعْرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير،
فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على وجود
العليم الخبير؟ ! استدل أهل هذا المذهب بالاستقراء التاريخي، فإنه لم توجد أمة من
الأمم ولا شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد بإله للكون وموجد للعالم، أجمع على
هذا الاعتقاد في الجملة المتمدنون والهمج، حتى زنوج إفريقيا وسكان جزائر المحيط
من أكلة لحوم البشر وغيرهم، ويدل عليه ما جاء في القرآن من محاجة الأنبياء
لأقوامهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ
وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى قَالُوا إنْ أنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أن تَصُدُّونَا عَمَّا كَأنَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا
بِسُلْطَأنٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَأنَ لَنَا أن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9-11) فجواب الأمم لأنبيائهم عن قولهم:] أَفِي اللَّهِ
شَكٌّ [بقولهم:] إنْ أنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [يدل على أنهم لم يكونوا شاكين في وجود الله
تعالى، وإنما كان شكهم في النبوات لاستبعادهم أن يمتاز بشر مثلهم بالسفارة بين الله
تعالى وبين خلقه، وقد أجابهم الأنبياء بما سمعتم في الآية، وسيأتي توضيحه
في محله إن شاء الله تعالى، حقًّا إن أهم مسائل علم العقائد مسألة الوساطة بين الله
تعالى وبين الناس، فقَصْرُهذه الوساطة على التبليغ فقط يشمل أمرين (أحدهما)
التوحيد الذي يصطلم جراثيم الوثنية التي أهلكت جميع الأمم (وثانيهما) النبوة التي
أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، أما وجود الله وعلمه وقدرته فلا يشك فيها
عاقل.
يقول قائل: إن من الناس مَن أنكر وجود صانع للكون، فكيف يكون الاعتقاد
به فطريًّا؟ والجواب: إن هؤلاء شرذمة قليلة كما قال بعض علمائنا، وأظنه السعد
التفتازاني وعبارته التي أذكرها هي: (اتفق الناس على وجود الصانع تعالى خلا
شرذمة قليلة ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو بديهي البطلان) وقد رد
عليهم العلماء بالأدلة النظرية كالدليل الذي تشير إليه العبارة من أن هذا الاعتقاد
يستلزم أن يكون العالم وجد بالمصادفة والاتفاق من غير فاعل يرجح وجوده على
عدمه، وهذا كما قال بديهي البطلان وملزومه كذلك بالضرورة، وإنما قلت: يستلزم
ما ذكر لأن منكري الصانع من المشتغلين بالعلوم العقلية لا يقولون بالمصادفة بل
ينكرونها أشد الإنكار، ولئن قال بها بعضهم فلا يقول بها كلهم، والجواب الصحيح
إن هؤلاء الشذّاذ قد أصابهم مرض في عقولهم خرج بهم عن مزاج الفطرة المعتدل
بالنسبة لهذه العقيدة، والعقول تمرض كما تمرض الأجسام فلا تؤدي وظائفها على
الوجه الذي تقتضيه الفطرة المعتدلة، ألا ترى أن الصفراوي يذوق العسل مُرًّا،
والأحْوَل يرى الواحد اثنين، هذا ما أجاب به أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية
لهذا العهد، وهو جواب لا أحسن منه، ولا يصدنكم عن قبوله أن ممن ينكر الباري
بعض الفلاسفة وهم من أكبر الناس عقولاً، لأنه كما يطرأ الضعف على الجسم
القوي فيعطِّل بعض أعضائه عن وظائفها ويبقى سائر الجسم قويًّا كذلك يفعل بالعقل،
فقد ثبت في العلم الحديث أن لكل نوع من أنواع الإدراك مركزًا مخصوصًا في
الدماغ، وأن المرض قد يطرأ على بعض هذه المراكز دون بعض، وقد اهتدوا
بمعرفة هذا إلى معالجته بالطرق الجراحية، من ذلك أن بعض الناس نسي بعض
الأرقام الحسابية لجلطة دموية أصابت المركز الذي يدركها من الدماغ، فصار لا
يقدر على حل مسألة حسابية فيها ما نسي من الأرقام حتى عولج معالجة جراحية
وشفي، وثبت أيضًا أن من الناس من تختل بعض مراكز الإدراك في دماغه بحيث
يكون مجنونًا، ويقوى مع ذلك بعضها بحيث يفوق في إدراكه به أعقل العقلاء، كان
بعض المجانين يُسأل عن أعوص مسائل الحساب والجبر، فيجيب عنها بالبداهة،
ولو سئل عنها أمهر الرياضيين لاحتاج في حلها إلى ساعات، وحاصل القول إذا لم
يثبت أن الاعتقاد بوجود صانع الكون مودع في غرائز البشر وفطرهم، فإن
البراهين النظرية على ذلك كثيرة، ومنها ما أوردناه في صدر الدرس: {إنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمرأن: 190) {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20-21) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/522)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع المعارف)
تقبل التلامذة في المدارس الرشدية في العاشرة أو الثانية عشرة من عمرهم
ويمكثون فيها أربع سنين، ومواد التعليم في هذه المدارس هي: النحو والصرف
للغات التركية والعربية والفارسية، والإملاء والتأليف والتحرير، وتاريخ الدولة
العثمانية، والتاريخ العام، والجغرافية، والحساب، ومبادئ الهندسة، والرسم
الخطي، ولغة إحدى الطوائف غير الإسلامية المقيمة بالجهة التي بها المدرسة (لا
نعرف فيها غير الفرنساوية، وفَاتَه ذِكر مبادئ الدين الإسلامي) .
أما تعليم البنات فيشمل المبادئ الدينية، ونحو اللغة التركية، ومبادئ النحو
للغة العربية والفارسية، وبعض إشارات إلى فن الإنشاء، والتاريخ والجغرافية،
والحساب، والتدبير المنزلي، وشغل الإبرة والرسم والموسيقى، وهذا الدرس
الأخير بالاختيار.
كل قرية فيها خمسمائة بيت للمسلمين يجب أن يكون فيها مدرسة رشدية،
والتعليم الابتدائي العالي هو أيضا مجاني، إلا أنه ليس إجباريًّا، فجميع النفقات
اللازمة لحفظ المدارس وأجور المعلمين، وأثمان الكتب وأدوات التعليم اللازمة
للتلامذة تدفعها خزينة الدولة.
يتضح من الإحصاء الأخير الذي نُشر من بضع سنين أن المدارس الابتدائية في
العاصمة كانت كما ترى:
مدارس الصبيان263 منها 142 للذكور، و123 للإناث يتعلم فيها 6909 من
الصبيان، و 4734 من البنات.
مدارس ابتدائية 40 منها 32 للصبيان، و8 للبنات، وفيها 601 من الصبيان، و 93 من البنات.
مدارس رشدية 29 منها 19 للصبيان، و 10 للبنات، وفيها 1180 صبيًّا،
و353 بنتًا.
أما في الأقاليم، فكل قرية مهما كانت صغيرة لها مدرسة للصبيان، والقرى
التي لها نوع من الأهمية لها مدرسة ابتدائية (هذا غير صحيح فأكثر القرى لا
مدارس للحكومة فيها إلا أن يكون هذا مخصوصًا بنواحي الأستانة) يكثر توارد
التلامذة على المدارس الابتدائية في كل سنة، ويمكن للإنسان أن يقول غير مبالغ:
إنه في حكم جلالة السلطان الحالي كل مائة تلميذ فيها 98 على الأقل يتربون تربية
ابتدائية جيدة (مبالغة) وعدد المدارس الرشدية في الأقاليم 371 مدرسة، ثلاث
منها للبنات - اثنتان منها في بيروت والثالثة في بروسه وعدد التلامذة في تلك
المدارس 14914، وقد زاد الآن عددهم زيادة محسوسة.
(التعليم الثانوي) يشمل هذا التعليم نوعين من المدارس، وهما المدارس
الإعدادية أو التجهيزية والمدارس السلطانية أو الكليات، أما المدارس الإعدادية فهي
مختلطة إذ يقبل فيها التلامذة المسلمون وغير المسلمين الذين تلقوا جميع دروس
المدارس الرشدية ونجحوا في الامتحان، وكل مدينة فيها 1000 بيت لها مدرسة
إعدادية ومدة التعليم في هذه المدارس ثلاث سنوات، ومواده هي فن الإنشاء في
اللغة التركية، وصناعة الترسل، واللغة الفرنساوية، وعلم البيان، ومبادئ علم
الاقتصاد السياسي، والجغرافية والتاريخ العام، والحساب والجبر، والهندسة
والمساحة، والطبيعة والكيمياء، والتاريخ الطبيعي والرسم، والكليات يجب أن
تؤسس في عاصمة كل ولاية أو في أَشْهَر بلد فيها، وتنقسم الكلية إلى قسمين:
أحدهما لتعليم نحو اللغة وفيه ما في المدارس الإعدادية من الدروس، والثاني ما هو
أعلى منه ينقسم إلى قسمين: قسم لآداب اللغة، وقسم للعلوم، ومدة التعليم في كل
من هذه الأقسام ثلاث سنين، وهذه الكليات التي ستفتح على التوالي متى ضمنت
الميزانية النفقة اللازمة لفتحها وبقائها ستكون على مثال كلية سراي غلطة أي
المكتب السلطاني في بيرا الذي أسس على نسق الكليات الكبرى للتعليم الثانوي في
فرنسا، وهيئة المعلمين في هذه الكليات مؤلفة من الأوروبيين والوطنيين، والتعليم
يعطى فيها باللغة الفرنساوية إلا أن تدبير أمور هذه الكليات وإدارتها للحكومة
العثمانية، ومدة التعليم فيها خمس سنين غير السنين الثلاث اللازمة للدراسة في
المدارس التجهيزية على التلامذة الذين عند قبولهم في الكلية لا يكون لديهم معلومات
كافية من مواد التعليم الابتدائي.
مواد التعليم في الكليات تشتمل طبقًا لما قررته أخيرًا حكومة جلالة السلطان
هذه الدروس، وهي اللغات التركية والعربية والفرنساوية، والخط التركي
والفرنساوي، وآداب اللغتين التركية والفرنساوية، والترجمة من التركية إلى
الفرنساوية وبالعكس، والفلسفة وتاريخ الدولة العثمانية، ومبادئ اللغة اللاتينية
اللازمة لدراسة فن الصيدلية، والطب والقانون، والجغرافية بأقسامها السياسية
والإدارية والتجارية والزراعية والصناعية للحكومات الشهيرة، وخصوصًا للمملكة
العثمانية، والحساب، والتقييد في الدفاتر، والرسم الخطي، واللغات اليونانية
والأرمنية، والألمانية والإنكليزية، والتليانية، وتعلم هذه اللغات اختياري.
تعطي كلية سراي غلطة لمتخرجيها شهادة بكالوريا تساوي الشهادة البكالوريا
التي تؤخذ من فرنسا.
من المدارس المعدودة من طبقة مدارس التعليم الثانوي هذه المدارس وهي:
أولاً: المكتب الملكي الشاهاني في استامبول الذي أسس على نفقة جلالة
السلطان خاصة، ووضع تحت رعايته وهو الذي ينفق عليه من ماله، وفيه يعلم
الشرع الشريف والإفتاء، وقانون التجارة والقانون المدني، والتاريخ العام وعلم
الاقتصاد السياسي، وعلم طبع الكتب والجرائد والتقييد في الدفاتر والجغرافيا
والفرنساوي، والتاريخ الطبيعي والكيمياء والتلامذة الذين ينجحون في الامتحانات
النهائية ويمنحون الشهادة يكون لهم الحق في نوال وظيفة قائمقام في الإدارة بالأقاليم،
أو نوال وظيفة مساوية لها في الجهات المختلفة للحكومة.
ثانيًا: المدرسة المختلطة العثمانية للبنات الصغيرة، وهي مؤسسة في سنة
1880م في استامبول بعناية جلالة السلطان عبد الحميد الذي دائمًا يظهر اهتمامه
الأكبر بتربية البنات، ومواد التعليم في هذه المدرسة هي اللغات التركية والأرمنية
واليونانية والفرنساوية والألمانية والإنكليزية والروسية وتعلم الأربعة الأخيرة منها
بالاختيار، والجغرافية والتاريخ الطبيعي والبيانو والموسيقى الصوتية وشغل الإبرة.
بمقتضى القانون النظامي للمعارف الصادر في سنة 1884م يوجد في كل
ولاية مكتب إدارة وتفتيش للمعارف.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/525)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم أخبار الحرب
حصلت ملحمة في جلانكوي كان الغلب فيها للبويرس، وقدرت خسائر
الإنكليز بثلاثمائة رجل، منها 10 ضباط قتلوا، وجرح 22 ضابطًا وجرح الجنرال
السر وليم سيمونس القائد ثم مات، وقدرت خسائر البويرس بعشرة قتلى و 25
جريحًا، وقررت حكومتا الترانسقال وأورانج إلحاق بلاد بشوانالاند بجمهورية
الترانسفال، وإلحاق جميع الأراضي التي في شمال نهر الأورانج بحكومة الأُورانج،
وهذه البلاد كلها إنكليزية، وحصلت مناوشات بالقرب من لاديسميث وغيرها تشبه
أن تكون سجالاً، ولكن النصر في الجملة للبويرس، ودخل فيلق من البويرس إلى
بلاد الزولو البريطانية حتى قربوا من مدينة ملموث، وزحف جيش منهم لتشديد
الحصار على كمبرلي وأشيع أمس أنهم أخذوا مافكنج المحصورة، أما الإنكليز
فيوالون الإمداد من كل بلادهم وقد أمر أسطول بحر المانش أن يذهب إلى جنوب
أفريقيا ويظن أن سبب الاستعدادات البحرية الخوف من تداخل الدول الأوروبية.
ونقول: إن أعظم ما تخسره إنكلترا في هذه الحرب وراء الخسارة الأدبية فقد
العدد العظيم من الضباط.
__________(2/528)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شكر
يشكر حضرة مدير جريدتنا لأفاضل المحبين عنايتهم بتعزيته على فقد والدته
قولاً وكتابة، ويسأل الله أن يقيهم فاجعات المصائب، ويحفظهم من النوائب.
__________(2/528)
30 جمادى الآخرة - 1317هـ
4 نوفمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفرصتان
مِن المُجْمَع عليه أن المسلمين في هذه الأزمنة متأخرون عن جميع الأمم في
حياتهم الاجتماعية، فما من ملة من الملل إلا وقد سبقتهم إما في بسطة المال وسعة
الرزق وخفض العيش فقط كاليهود، وإما في هذا وفي العزة والسيادة وقوة السلطان
وسطوة الملك أيضًا.
ومن المجمع عليه أن الأمة في أشد الحاجة إلى إصلاح يحفظ لها ما بقي لها
من تراث أسلافها، ويؤهلها لاسترداد ما سلب منه، ولا ريب في أن هذا الإصلاح إذا
قامت به الحكومات والأمة معًا يكون أقرب حصولاً وأتم فائدة وأدنى لإزالة المرض
وإصابة الغرض، وأنه لولا قدرة الحكومات على حمل الأمة على ما تريد منها
طوعًا أو كرهًا لما كان يتأتى الإصلاح من قبلها، ولولا أن صلاح الأمة يستلزم
صلاح الحكومة لما كان إصلاحها كافيًا لبلوغ الغاية التي تقصد منه، أما وجه اللزوم
فظاهر، وهو أن الحكام أفراد من الأمة تختارهم هي لإدارة نظامها وتنفيذ أحكام
شريعتها، والصالح لا يختار إلا مثله: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور: 26) ولكن الإصلاح إذا بَدأ في
الأمة دون الحكومة فإنما يتعدى أثره للحكومة بعد زمن طويل، وإذا بدأ
في الحكومة أولاً يظهر أمره في الأمة في وقت قريب لما مررت به من التعليل،
فوجب على المطالبين بالإصلاح أن يستصرخوا الحكومة والأمة معًا عسى أن تلبي
الدعوة إحداهما أو كلتاهما، ولكن كثيرًا من المتنبهين لوجوب الإصلاح يائسون منه
لما يرونه من تقدم أوربا السريع وتأخر شرقنا المريع بل موته الذريع، وأعني
بموته قيام الغربيين بأعماله، واستئثارهم بأمواله، وذهابهم باستقلاله، وما كان
لمؤمن أن ييأس {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف:
87) فكم سنحت الفرص وما انتهزناها، وكم نادتنا النهز وما لبيناها، وقد قلنا في
(المنار) الماضي: إن أمامنا الآن فرصتين للإصلاح: إحداهما في مصر وهي
العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العلية وهي السياسية الإدارية، وإننا مبينون
هاتين الفرصتين في هذه المقالة بعض البيان.
أما التي في مصر فحرية التعليم والتصنيف والتحرير والطبع والنشر والخطابة
وتأليف الجمعيات بأنواعها، وهذه هي سلاليم الترقي التي ترتقي فيها الأمم، ولا
يوجد تحت السماء بلاد إسلامية متمتعة بتمام الحرية فيها كالبلاد المصرية، والسبب
في هذا ظاهر، فإن فقد الحرية في مثل هذه الأمور النافعة إنما يكون من فساد
الأحكام واستبداد الحكام، وزمام السلطة في هذه البلاد بأيدي المحتلين، وقد اقتضت
سياستهم أن لا يتعرضوا لهذه الأمور إما لأنهم لا يشاءون التعرض لها كرمًا منهم
وفضلاً على خلاف ما يفعلون هم وسائر الأوربيين في كل بلاد تنفذ فيها شوكتهم
وتعلو كلمتهم، وإما لأن حكمة التدريج الذي يسيرون فيه اقتضت أن يبدءوا بالأعمال
المالية والإدارية والسياسية ويكتفوا من الأمور المعنوية بإدارة المدارس الأميرية
على محور سياستهم، وإما لأسباب أخرى، ومهما كان من السبب فإن هذه الحرية
فرصة تغتنم، فإذا فرَّطنا فيها ندمنا حيث لا ينفعنا الندم، إذ ربما تأتي أيام نحاسب فيها على خطرات القلوب وهواجس النفوس، ونجبر على التعليم الذي يراد ونمنع من التعليم الذي نريد.
وأما انتهاز هذه الفرصة فبإصلاح التعليم في الأزهر الشريف، وبالاجتهاد
بتعميم المدارس الأهلية على الوجه المرضي، ولا مجال هنا لبيان الإصلاح
الأزهري، فإن لجنة من أكابر علمائه تبحث في هذه الأيام بطرق هذا الإصلاح
فنرجئ الكلام فيه إلى أن تفرغ من بحثها ونعلم ما تقرره، فإما ثناءً وتحبيذًا، وإما
انتقادًا وتفنيدًا، وأظهر الدلائل على فساد طريقة التعليم المتبعة فيه من قبل أن
الكثيرين أو الأكثرين من الذين يمتحنون للتدريس يجرحون فلا يمنحون درجة من
درجات التدريس على ما في الامتحان من السهولة، وما منهم إلا من يقضي خمس
عشرة سنة في التعليم على الأقل، على أن الذين يمنحون شهادة العالمية ويؤذن لهم
بالتدريس لا يوجد واحد في المائة منهم يحسن لغة الدين قولاً وكتابة بحيث يقدر على
الكلام والخطابة باللغة العربية الصحيحة، ويكتب بالأسلوب العربي البليغ، ولا
يعقل أن أحدًا يفهم القرآن والحديث الذين هما ينبوعا الدين من غير أن تكون ملكة
اللغة راسخة في نفسه، ولذلك ما ورد أحد من علماء المسلمين وغيرهم إلى هذه
الديار واختبر تعليم الأزهر إلا وذمه، وقال: إنه لا يرجى منه خير للمسلمين،
فالأستاذ الشنقيطي من علماء المغرب، والأستاذ الشيخ شبل النعماني مدرس العلوم
العربية في كلية عليكرة في الهند، والأستاذ الشيخ أحمد جان القازاني مدرس العلوم
العربية في مدرسة عالمجان في بلاد قزان الروسية - اتفقت كلمتهم مع اختلاف
أقطارهم على أن التعليم الأزهري لا يرجى منه خير للمسلمين إذا بقي على حاله، وأمثالهم كثير ولا حاجة للاستشهاد بكلام الإفرنج؛ لأن قومنا لا يقيمون لكلامهم
وزنًا ويرجمون من يعبأ بكلامهم بأسوأ الظنون، ولا ننكر أن تعليم الأزهر - على
عِلاته - وُجُوده خيرٌ من عَدَمِه بالكلية، كيف وقد حفظ لنا بعض علومنا وآثار سلفِنا
حفظًا يُحمد عليه، وإن كان ناقصًا لا يبعث على العمل الذي تحيا به الأمة، ولا يُرجى أن تفيض الحياة الملية على الأمة إلا إذا صار المتخرجون منه متقنين
لوظيفتهم التي أنشئ الأزهر ووقفت عليه الأوقاف لأجلها، وهي حفظ الدين
ولغته بحيث يقدرون على القيام بمنصب القضاء الشرعي على الوجه الصحيح العادل الذي لا يثلم به شرف الملة والأمة، وعلى إرشاد الخاصة والعامة والتعليم في
المدارس النظامية ليبثوا الدين في جميع طبقات الأمة ويخاطبوا كل إنسان على قدر
عقله وعلمه، ويدفعون عنه الشبهات العصرية، ولن يقدروا على شيء من هذا
إلا بتغيير أساليب التعليم، وبالاطلاع على أحوال العصر وفنونه المتداولة ولو في
الجملة، وسنفصل ذلك في وقته إن شاء الله تعالى.
وأما فرصة الدولة العلية فهي اشتغال روسيا فإنكلترا وسائر دول أوربا الكبرى
عنها بالمسألة الصينية، وإنما الخطر على الدولة من روسيا التي يعرف الناس أن
سياستها التقليدية تقتضي محو اسمها من لوح الدول وضمها إلى الإمبراطورية
الروسية العظمى، أو من اتفاق أوربا على تقسيمها، يدل على شغل روسيا عنها
بالطمع في الصين الفيحاء البعيدة الأرجاء، أن هذه الدولة قد عزمت على تعزيز الخط الحديدي العظيم الذي أنشأته في سبيريا (وطوله 4695 ميلاً) بخط آخر
ينشط من الطريق الأعظم في بلاد منشوريا التي هي في الشمال الشرقي للصين ممتدًا
إلى ميناء (آرثر وينوشوتفم) ويقرب أن تُمدد من هذه إلى بكين عاصمة الصين،
ويقدر المال اللازم لهذا الناشط بعشرين مليون جنيه، كما قدر المال اللازم
لطريق سبيريا الأعظم بستة وخمسين مليون جنيه إذا مدّ عليه خط واحد، وأنها
قررت إنفاق 9 ملايين جنيه لتعزيز أسطولها بالبوارج من الطراز الجديد، فخمسة وثمانون مليونًا من الجنيهات من دولة لا تعد من الدول الغنية ليس إلا لتلك الغنيمة
الكبرى التي تتوقعها في الصين، ويؤكد ذلك تقوية الأسطول مع أمنها على ثغورها في أوربا من الدول البحرية وعلمها بأن اليابان لا تقدم على محاربتها فتخاف منها
على فلاديفوستوك وميناء آرثر، ولا يخشى على هاتين الحاضرتين من غير
اليابان، هذا، ولا بد لإنكلترا وفرنسا وألمانيا من مزاحمة روسيا، ولا بد أن يمتد
اشتغالهن بتلك المملكة إلى سنين كثيرة، فيجب على الدولة العليا أن تشتغل
بنفسها ما دام الطامعون في شغل عنها، فقد مضى عليها نحو نصف قرن وهي
مشغولة بالسياسة الخارجية عن الإصلاح الداخلي والدول الأوربية تطالبها
بالإصلاح، وهي التي تحول بينها وبينه، وقد بَيَّنا رأينا في الإصلاح والواجب من
قبل في مقالات نشرت في (المنار) وأخرى في (المؤيد) وأهمها تعميم التعليم
العسكري وتقوية الأسطول، ومساعدة الرعية على تعميم المعارف، وانتقاء العمّال
والحكام من الأكفاء، والدولة العلية وسلطانها الأعظم - أيده الله تعالى - أعلم منا بما
ينبغي ويجب من ذلك.
وقد وجه مولانا الخليفة أنظاره في هذه الأيام إلى هذا الأمر المهم؛
فتعلقت إرادته السنية بزيادة الجيش لا سيما الألايات الحميدية، وأمر من عهد قريب
بإنشاء بارجتين جديدتين ويخت سلطاني، وبإصلاح بعض السفن القديمة، كما أمر
بإنشاء المكاتب والمدارس في بلاد اليمن وغيرها من الولايات المحروسة، ونسأل الله
تعالى أن يلهم قلبه الشريف أن يصدر إرادته لجميع الولاة بترغيب الرعية في
تأليف الشركات المالية وإنشاء المدارس الوطنية، ولجميع الفيالق العسكرية بتعميم
التعليم العسكري، وبالله التوفيق.
__________(2/529)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(8) من أراسم إلى هيلانة في 16 يناير سنة - 185
أكتب إليك هذا وقد استيقظت في الساعة السادسة من صباح اليوم،
وعلمت أن عشرين مسجونًا - أنا منهم - قد فصلوا لإرسالهم إلى سجن ... وبلغني
أن أمر نقلنا وصل إلى هنا ليلاً من باريس، فلم يكن لي من وسيلة لإحاطتك علمًا
بهذا الخبر قبل الآن، ولم يبق لي أمل في لقائك؛ فإن السفر سيكون في الساعة
السابعة صباحًا، سيصلك هذا المكتوب وأنا في طريقي إلى الجزيرة التي جعلت مقرًّا
لي، فأودعك وداع محب ثابت على عهده لا يثنيه عن حبك اعتراض الحوائل، ولا
يلويه عن ذكراك تطويح المطاوح.
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوقي على بعد المزار وقربه
(9) من هيلانة إلى أراسم في 17 يناير سنة - 185
جئت اليوم إلى السجن لزيارتك، فمثل لنفسك ما عراني من هزة
الطرب ونشوة الفرح لمّا علمتُ بأنك أخرجت منه، ما كان أبعدني عن العقل
وأقربني من الجنون في تلك الساعة إذ ظننت أنك فزت برجوع نعمة الحرية إليك،
لكن لم يلبث كاتب سر السجن أن أبان لي خطأي إذ أخبرني بأنك قد وجَّهت (هكذا
عبارته) إلى جزيرة … وإني سأتبعك قاطعة أجواز البحار، مقتحمة في سبيل
القرب منك جميع الأخطار، فأينما تكن - وإن في آخر الدنيا - لا بد لي من اللحاق
بك، لا يعوقني عنك هجير الشمس المحرقة، ولا أخطار مجاهيل الصحاري والقفار،
ولا اعتراض سلاسل الجبال الشامخة دونك؛ لأن غايتي التي أسعى إليها هي أن
نعيش مجتمعين، فأكتب لي حتى آتيك لأمتع النفس بلقائك. اهـ
(10) من أراسم إلى هيلانة في 2فبراير سنة-185
أنا واثق أيتها العزيزة بحبك إياي، وأقسم عليك بأطهر ما يوجد في
هذا العالم وأجدره بالتقديس أن لا تقاربيني، وأن تهربي مني هربًا، إنني منذ شهر
أو شهرين كنت أقبل منك هذا الإخلاص الشريف طيبة به نفسي، منشرحًا له صدري
حيث لم أكن عالمًا بحملك، وكنت أجد فيك وحدك حينًا بعد حين تفريجًا لكربتي في
وحدتي، وإيناسًا من وحشتي، وكنت لاعتزازي بوجودك معي، واغتباطي لقربك
مني ولو ساعة من نهار، أنسى كل ما أقاسيه في لحظة من ألحاظك، أما اليوم فقد
تغيرت الأحوال، وتبدلت الشؤون تبدلاً عظيمًا، فأصبحنا أنا وأنت لا نملك من
أمرنا شيئًا حتى حرية التَّحابِّ والتَّواد، أصبح ما هو في العادة سبب اتصال
واقتراب بين الرجل والمرأة سببًا لانفصالنا، وحائلاً دون اجتماعِنا، وذلك للحال
السيئ الذي نحن فيه، ألا يجب أن نهيئ هذه المجاملات وتلك الآداب لذلك الذي لم
يوجد بعد الوجود الكامل الذي يطلق عليه هذا اللفظ إلا أنه قد وجبت له علينا حقوق
نحن مطالبون بأدائها، إياك أن تنسي أنك مسئولة أمام الله عمّا وهب لك من حلية
الشرف بأن أهَّلك بأن تكوني أمًّا.
إني أخاطبك من حيث أنا طبيب وزوج - وأخشى أن أتعجل فأقول: أب-
بأن الذي يلزمك الآن هو شيء من السكينة والاستقرار، وأنصح إليك بأن تغادري
بلادنا الآن، وتهاجري من هذه الأرض التي تميد بزلازل الفتن، فهي نصيحتي
واتبعيها، واعلمي أن لي صديقًا في إنكلترا من رصفائي الأطباء يناجيني، حسن
اعتقادي فيه أنه سينفعك ويرشدك إلى كل ما يلزمك علمه مما يتيسر لك به تَوطُّن
تلك البلاد على حالة موافقة، إن لنا والحمد لله فيما جمعته بكدي من يسير المال
سدادًا من عوز - بل كفافًا من العيش - فاستجمعي به أولاً لنفسك الراحة ومعدات
المعيشة الطيبة، ثم احفظي ما بقي لتربية ولدنا. آه لو أدري عاجلاً أنك قد فارقت
فرنسا، وابتعدت عن مشاغب الشقاق الداخلي، فعجِّلي بالرحيل أيتها الحبيبة.
أقول - والله على ما أقول شهيد -: إنك لم تكوني في زمن من الأزمان
أعزّ على نفسي وأغلى قيمة عندي منك في هذه الساعة التي أرغب إليك فيها بعدم
اللحاق بي في سفري المحزن، لا تكثري همك بما قُدِّر عليّ واعلمي أن جل ما
يعانيه المسجون من الشقاء هو إحساسه بأن لا نفع في وجوده، وقد ذقت أنا هذا الألم
النفسي، وبلوت مرارته، لكني اليوم قد كلفت بواجب جديد يلزمني أداؤه، وإني
لأرجو أن أقوم به مهما حالت دونه الحوائل.
***
(حاشية)
إني مرسل طي هذا مكتوبًا للدكتور وارنجتون في لندره.
(11) من هيلانة إلى أراسم في 15 فبراير سنة - 185
قد أطعتُ أمرَك وسمعتُ نصحك، وسأسافر غدًا إلى إنكلترا، وإني
قد استرجعت جزءًا من ثبات جناني، وقد فتح مكتوبك لي أبوابًا أرى منها مشاهد
جديدة لتفن صفة الزوجية في صفة الأمومة، فتلك سنة الله في خلقه لا محيص لي
من اتِّبَاعها، على أن هذا الولد الذي وعدت به سيكون الرابطة بيننا ويقرب مشقة
البين التي تفصلنا بعض التقريب، إني أرغب في الحياة من أجله ومن أجلك،
فإنه سيكون يومًا يَمُنُّ الله علينا بانتظام الشمل موضوع سلوة لأحزاننا، وقرَّة
لأعيننا وعزة لأنفسنا.
حقق الله ما نرجوه من الأمل، ووقانا بفضله عوادي السوء إنه سميع
الدعاء. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/534)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية)
ذكرنا هذا الكتاب في فاتحة العدد الخامس عشر من منارهذه السنة، ونشرنا
الدرس السابع منه ليكون نموذجًا للقرَّاء، ولم يكن قد تم تأليفه يومئذ، وقد تم الآن
وطبع في جزء صغير الحجم كبير الفائدة ولم ينسَ قرّاء (المنار) أن مصنفه هو
صديقنا الكاتب الفاضل والسري الكامل رفيق بك العظم الشهير، والذي بعث
همته لوضعه هو الغيرة علي الناشئة الإسلامية المنكبة علي تحصيل العلوم
والفنون في المدارس النظامية حيث ألفاها محرومة من تعليم آداب الدين ومبادئ
علم الاجتماع، وقد كان يكتب هذه الدروس ويلقيها على الفرقتين الثالثة والرابعة من
تلاميذ المدرسة العثمانية الأهلية أيام كان ناظرها، وقد جعلها ثلاثة أقسام: مبادئ
وروابط ومقومات، فالقسم الأول أربعة دروس: (1) في ضعف الإنسان و (2)
عقله و (3) مدنيته و (4) كماله، وتكلم في القسم الثاني عن حاجة البشر إلي
الدين ووجوب معرفته وضرورة الحكومة للاجتماع و (الحكومات والإسلام) والعدل
في الإسلام، والمرتبة الأولي من مراتب العدل وهي العدالة في الأحكام، وقد جعل
العدل ثلاث مراتب بتقسيم انفرد به غير التقسيم المعروف، وذكر في القسم الثالث
المرتبة الثانية منها وهي عبارة عن المساواة بين الناس في أنفسهم مهما اختلفت
أنسابهم، وذكر الحرية والمقابلة بين الحرية الغربية والحرية الإسلامية، ثم
المرتبة الثالثة من مراتب العدل وهي ما يكون في المعاملة بين الناس، ثم المداهنة،
فالخيانة والتغرير، فالثبات والصبر، فالاعتماد بعد الله على النفس، فالعلم والتعليم،
فالعلم بالعمل، فالتربية والأخلاق، فبيان مخصوص في الأخلاق، فحب الوطن،
فحب الناس، وجعل آخر الدروس (خاتمة فيها تذكير) وقد سردنا جميع عناوينها
فهي 27 درسًا، وكل درس مفتتح بآية قرآنية، وهذه العناوين تدلك على أن هذا
الكتاب يفتح لعقول التلامذة أبوابًا من الفكر النافع، ويحلي نفوسهم بالأدب الصحيح،
ومن ثم قررت الجمعية الخيرية الإسلامية في مصر تدريس هذا الكتاب في
مدارسها، فحبذا لو اقتدت بها سائر المدارس الأهلية، ولا يصدنهم عن هذا ما
يتراءى من أن بعض مواضيعها تعلو على أذهان التلامذة، فإن المؤلف لم يذهب فيها
مذاهب بعيدة عن أفهامهم، كيف وقد وضعها لهم، وتحرى فيها غاية الاختصار مع
السهولة في البيان لكي تحيط بها تلك الأذهان؟ ! وقد قرأت عدة دروس منها، فلم
أجد فيها شيئًا من التعاليم الفاسدة الضارة التي قلما يخلو منها كتاب من كتبنا في
الأخلاق والآداب، فالكتاب سالم من الانتقاد من حيث كونه كتابًا مدرسيًّا، ولكنه لا
يخلو من النظر في بعض الألفاظ أو المعاني كالتقسيم والتعريف، فقد عرَّف العلم
بأنه العقل الغريزي إذا ترقى إلى متناول المعرفة بحقائق المحسوسات، وعرَّف
الفضائل بقوله: (هي الأعمال النفسية والبدنية التي روعي فيها جانب العدل)
والخطب في هذا سهل.
(المبادئ الأولية في الدروس الجغرافية)
كتاب يحتوي على ما هو مقرر من هذا الفن لتلامذة السنة الثانية والثالثة من
مدارس الابتدائية بحسب ترتيب نظارة المعارف، ألَّفه أخونا في الله سيد أفندي
محمد مدرس الجغرافية والتاريخ واللغة الفرنساوية في المدارسة التحضيرية، وقد
أهداه إلينا من نحو ثلاثة أشهر، وأخرْنا تقريظه رجاء أن تسمح لنا الفرص بقراءته
لانتقاده حيث عهد إلينا من حضرة المؤلف بهذا، ولما لم تسمح لنا إلى الآن كتبنا
هذه الكلمات مكتفين من الدلالة على فائدة الكتاب بما هو معروف من فضل مؤلفه
وبراعته في التعليم. وعسى أن يُقبل التلامذة من سائر المدارس على اقتناء هذا
الكتاب ومطالعته؛ فيحملوا بذلك حضرة مؤلفه على تأليف كتاب آخر يستوفي فيه
مهمات هذا العلم.
(رسالة في صداق سيدتنا فاطمة الزهراء صلى الله على أبيها وعليها وسلم) ... ...
وَرَدَت لنا هذه الرسالة من الهند وهي من تأليف جامع المعقول والمنقول،
حاوي الفروع والأصول، إمام العلماء مولانا مولوي محمد صبغة الله قاضي الإسلام
قاضي بن مولوي محمد غوث - غفر الله لهما - ذكر مؤلفها الخلاف في المسألة
والراويات المختلفة فيها ووزنها بميزان النقد الصحيح، فجاء بعضها في كفة الترجيح
وبعضها في كفة التجريح، وجمع بين الأقوال على أحسن منوال، وحاصل ما حققه
أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج السيدة فاطمة من عليّ - رضي الله عنهما - على
درعه الحطمية، وكانت تساوي أربعمائة درهم، لكنها بيعت بأربعمائة وثمانين
درهمًا، وروي أن الذي اشتراها عثمان ولعله زاد في الثمن عمدًا، وقيل ضم
عليها عليّ شيئًا آخر، وبهذا جمع بين قول من قال: إن الصداق كان درعًا،
ومن قال: أربعمائة درهم، ومن قال: أربعمائة وثمانين، وبين أن لفظ المثاقيل
الذي جاء في بعض الراويات مراد بالمثقال فيه مطلق المقدار؛ لأنه يرد في اللغة
كذلك. فحيّا الله تعالى علماء الهند جزاء اشتغالهم بالحديث رواية ودراية، وقد أهمله
العلماء في هذه البلاد حتى لا يكادون يقرءونه إلا لأجل التبرك، ولذلك لا يشتغلون
بالرواية والبحث في الأسانيد زاعمين أن المتقدمين قد كفوهم ذلك على أن المتقدمين
يختلفون، فلا بد من معرفة وجه الترجيح إلا عند من لا يهمهم الجزم بالمسائل؛ لأن
العلم عندهم هو الاطلاع على أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا، فلا حول ولا قوة إلا
بالله العظيم.
(تغافل الرجال عن تهتك ربات الحجال)
قصيدة همزية من نظم الشاعرالأديب الشيخ محمد الجمل المجاور في
الأزهر الشريف، وهي إحدى قصائده التي تلاها في جمعية (مكارم الأخلاق)
فنالت استحسانًا عامًّا، وقد طبعها في مطبعة حجرية، وأهدانا نسخة منها، فأجلنا
فيها الطرف، فرأينا فيها نصائح وآدابًا جمة، وبيانًا لحكمة الحجاب، وإسهابًا في
مضار اختلاط النساء بالرجال، وقد انتقدنا على حضرة الشاعر وصف محاسن
النساء في خروجهن مسفرات متهتكات فوصف النهود والقدود، والحواجب الزج،
والعيون الدعج، والرقص والتثني، والتصبّي والتجني، وانتقل إلى أطوار العشق
ومراتبه، وفنونه وغرائبه، وصفًا يهيج بقلب المتنسك، فكيف فعله بنفس المتهتك؟
فكانت القصيدة بهذا نفثة من نفثات حضرة رئيس الجمعية وخطيبها الفاضل،
فإنه ينحو بخطبه العذبة هذا المنحى، ويسلك هذه المسالك، بل يبالغ في القول
إلى الكناية عما هنالك ... وطالما تمنيت أن أجتمع بحضرته على انفراد لأسرّ إليه
هذا الانتقاد، وأبين له أن هذه الأقوال تحرك سواكن الانفعال، وتشوق النساء إلى
الرجال، على ما وصفن به من الأحوال، ولذلك انتقد العلماء على العلامة ابن
الوردي حيث وصف محاسن الأمرد عند نهيه عن عشق المردي، وانتقد عليّ بعض
فضلاء مصر عندما أوردت في (المنار) بيتين فيهما ذكر العناق، وقال: إن
(المنار) إنما أنشئ لتغذية العقل والروح لا لتغذية النفس والشهوة، تمنيت هذا
الاجتماع فما أصبت منه الغرض؛ لأنني ما تحريته ولا هو حصل بالمصادفة
والعَرَض، وكنت حسنت الظن بأن ما سمعته لا يعاد، ولا ينشأ عن شيء من
الفساد، فلما رأيته قد أثر في أمثل من يحضر ذلك الاجتماع (كصاحب القصيدة)
علمت أن أثره أكبر في الجهلة والرعاع، ولذلك نبهت عليه في الجريدة راجيًا أن
تكون ذكرى عامة مفيدة، وعسى أن لا يثقل على الخطيب والشاعر كلامي كما أنه لم
يثقل عليّ كلام مَن انتقد عليّ بمثل ما انتقدت به عليهما، بل قد انتقد بمثله على من
هو خير مني ومنهما {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:55) .
(جريدة الأهرام)
هي أقدم الجرائد العربية (غير الرسمية) في مصر، وهي من الشهرة
والانتشار بحيث تستغني عن تقريظ جريدة هي أقل منها انتشارًا، وإنما نقصد بهذه
الكلمات أن نثبت في تاريخيات مجلتنا ما وفق له سعادة صاحب هذه الجريدة الهمام من
إنشاء (أهرام) أخرى في القاهرة مع بقاء (أهرام) الإسكندرية، وقد جعل نسخة
العاصمة بحجمها الكبير المعتاد، وقيمة الاشتراك فيها 150 غرشًا، ونسخة
الإسكندرية بحجم سائر الجرائد المعتاد، وثمنها 100 غرش، وقيمة الاشتراك
في الأهرامين معًا 200 غرش، فنهنئ سعادته بهذا النجاح الباهر، بل بهذه الكرامة
وهي أن جريدته قد جاءت بالذرية الطيبة بعد ما بلغت سن الشيخوخة، وقد صدر
العدد الأول من نسخة القاهرة في يوم الأربعاء الماضي أول نوفمبر مملوءًا بالأخبار
المفيدة والآراء السياسية، فعسى أن يصادف الأهرامان من الإقبال أكثر مما يبذل لهما
من زيادة المال.
__________(2/537)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم أخبار الحرب
استولت طلائع البويرس على 1500 بغل بالقرب من لاديسمث، ولم يذكر
ما تحمله أو تجره هذه البغال من الذخائر والأثقال، إلا أن روتر قال: إنها جرّت
معها جملة من المدافع، واعترف روتر بأن البويرس يحسنون الرماية، وفي 31
أكتوبر حمل البويرس على لاديسمث حملة منكرة، وكانت هذه ملحمة عظيمة فازوا
فيها فوزًا مبينًا، وأظهروا من البراعة في فن الحرب ما خدعوا به قواد الإنكليز
وضباطهم الذين جُبِلَتْ طينتُهم بماء الخداع، قال روتر: إنهم أفسدوا بالخدعة التدبير
الحربي الذي وضعه الجنرال السر جورج هوايت، فإنهم غادروا المركز الذي كان
يظهر في نظر الإنكليز أنه الموقع الأساسي لهم، ثم هجموا على جناحنا الأيمن
الذي كان ينبغي تعزيزه بقوة من جناح القلب، فأمطروا عليه نارًا حامية، فارتد
الإنكليز على أعقابهم، وقال: أُعلن رسميًّا أن فرقتي الإيرش فوزيلرس
وجلوسترشير والبطارية العاشرة التي كانت انتزعت للدفاع عن الجناح الأيسر قد
اضطر الجميع إلى التسليم بعد خسائر جسيمة جدًّا، وكان البويرس أحاطوا بالجنود
التي أُلجئت إلى التسليم، ويبلغ عددها 42 ضابطًا و200 جندي، ثم ذكر أسماء
الضباط الذين جرحوا وقال: إن الجنرال هوايت إنه وحده المسئول عن هذا
المصاب الفادح، هذا ملخص الخبر الرسمي، ولم يذكر أحد عدد القتلى، ولا شك
أنه كثير جدًّا، وقد وقع خبر هذا الانتصار في إنكلترا أسوأ وقع، حَمَل الحكومة على
زيادة الاستعداد، وشمتت بهم أوربا عامة وفرنسا بوجه خاص.
وبعد هذه الملحمة انقطعت هذه الأخبار البرقية بين مدينة لاديسميث وبين
غيرها، وآخر الأخبار عنها أن البوير أحاطوا بها من كل جانب، وفي برقيّات
(أي الأخبار البرقية، وسنستعمل هذه الكلمة بمعنى التلغرافات دائمًا) أمس أنه
قتل في معركة يوم الاثنين بالقرب من لاديسميث ستة ضباط و54 رجلاً، وجرح 9
ضباط و231 رجلاً، وقتل اللفتننت مكدوكال من الطوبجية الملكيين والميجربوس،
واللفتننت ماردن وفورستر من الفرقة (الأورطة) 60 من آلاي ريفل، والماجور
جراي، ونضرب صفحًا عن ذكر أسماء الجرحى من الضباط إلا قائدهم الجنرال
هوايت، وفيها أن البويرس احتلوا بلدة كولنسو وهي تبعد عن لاديسميث 13 ميلاً من
جهة الجنوب، وقال (المقطم) : إنه قد بلغ عدد من قتلهم وجرحهم البويرس من
الإنكليز 3500 رجل.
__________(2/541)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عودة الخديوي وأسرته
شرَّف القُطر عائدًا من مصيفه مولانا الخديوي المعظم وأسرته الكريمة،
فنهنئ الوطن بسموه، ونسأل الله أن يحفه بالتأييد في كل زمان ومكان.
__________(2/541)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منع جريدة المشير
يعلم القرَّاء أن الحكومة أرادت محاكمة صاحب هذه الجريدة؛ لطعنها
بالحضرة الشاهانية، فهرب من وجه القضاء واختفى، وقد ظهرت جريدته في هذه
الأثناء في العاصمة على أقبح ما كانت، فنشرنا مقالة بصفة ملحق بإمضاء مدير
جريدتنا، استصرخنا فيها الحكومة السنية بأن تمنعه من دخول هذه البلاد، وتعاقب
من ينشره بعد التحري عنه والعلم به، كما نصحنا إخواننا المصريين بأن لا
يبتاعوه لما في ذلك من الخيانة لخليفتهم وسلطانهم، وببركة الإخلاص وقع كلامنا عند
الحكومة أحسن موقع، فقد بلغنا أن نظارة الداخلية كتبت لنظارة الحقانية بوجوب
إجراء ما يقتضيه القانون من منع انتشار جريدة (المشير) فأجابتها نظارة الحقانية بأنه
ينبغي أن تأمر المحافظة بالبحث عن بائعي هذه الجريدة والاستعلام منهم عن
مصدرها الذي يأخذونها منه ليحاكم متى عرف، فنثني على الحكومة أطيب الثناء.
__________(2/541)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المدرسة العثمانية
في يوم الخميس الأسبق احتفلت المدرسة العثمانية احتفالها السنوي بكمال
الإتقان والانتظام على أعين الجماهير من الوجهاء والفضلاء، فحاور بعض التلامذة
بعضًا باللغات العربية والإنكليزية والفرنسوية، وحلّوا بعض المسائل الحسابية،
ونقلوا بعض العبارات من لغة إلى أخرى قولاً وكتابة، ثم كان من التلميذات بعض
ما كان من التلامذة، وقد أُعجب الحاضرون بمحاورة بين التلميذات كانت من آيات
التهذيب البينات؛ لما حوته من انتقاد سيئ العادات كالزار وبِدَع المآتِم، وما فيهما
من المآثم، وكتبذيرات الأفراح المولدة للأتراح، وكان مبدأ المحاورة في المفاضلة
بين العلم والأدب، وبين الحسن والنشب، وما يتبع الأخيرين من الأنس والتمتع
بشهوات النفس، ومما استلفت الأنظار من أصحاب الذوق والأفكار أن الفتاة التي
فضلت التبرج واللهو والقصف والزهو، وتصبِّي الشبان لأجل الافتتان، كان عليها
من الحياء الفطري والخفر الطبيعي ما يدل على طينة طيبة، وعرق طاهر وأدب
باهر بحيث كان ما جرى على لسانها مخالفًا لما هو راسخ في وجدانها، على أنها ما
أنطقت به إلا لترجع عنه، وما حملت على ذكره إلا لتتنصل منه، وقد جرت
محاورتان أخريان هزليتان في ظاهرهما، جديتان في حقيقتهما؛ لأنهما في بيان
سوء مغبة إهمال التربية والتعليم، ومضرات تضييق الأغنياء على أولادهم،
واضطرارهم إياهم بذلك إلى الاستدانة بالرباء الفاحش، وقد قام قبل انتهاء الاحتفال
حضرة الخطيب الشهير عزتلو إسماعيل بك عاصم فحمد ما رأى من نظام المدرسة
ونجاحها، وأثنى على سعادة صاحبها رضا بك العظم وعلى ناظرها السابق السري
الفاضل رفيق بك العظم وناظرها الآن محمد بك السيد، ثم أفاض في بيان شدة
الحاجة إلى التعليم الديني، وانتقد على المدرسة بأنه لم يسمع من التلامذة شيئًا في
الدين، وانتقد على بروز بعض البنات المراهقات حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن
وعلى عبارة جاءت في المحاورة الهزلية وهي أن أحد المتحاورين ذم أباه وسبه
ونسب إليه ما هو فيه من الشقاء حيث لم يعلمه ولم يربه، فصفق له النادي مرَّات
كثيرة، ولما فرغ انبرى أحد التلامذة الصغار (وهو صلاح الدين أفندي ابن عبد
الحليم أفندي حلمي مدير جريدتنا) وبَيَّن للملأ بعض الأحكام الدينية ككيفية الوضوء
وقال: (لولا ضيق المقام لبَيَّنا أحكام الصلاة بالتفصيل) فَسُرَّ الناس بذلك سرورًا
كبيرًا، وتصدى البعض للرد على حضرة الخطيب لاعتقادهم أن هذا الانتقاد مقصود
لأمر ما كما صرح بذلك بعض أساتذة المدرسة لكثير من الناس، ولكن العاقل من
ينظر في الكلام دون نية المتكلم وقصده، ولا شك أنه ينبغي تعويد البنات المراهقات
على التقنع، لا سيما إذا أردن البروز من خدورهن، وأنه كان ينبغي أن تشتمل
المحاورة الهزلية على من ينهى سابّ أبيه ويبين خطأه، أما الدين فقد بلغنا أن
المدرسة باذلة العناية في تعليمه والتربية عليه بإلزام التلامذة بالصلاة، وقد رأينا
في (بروغرام) الاحتفال ذكر الدين، ولكن كانت الخطبة قبل تمام الاحتفال، وبالجملة
قد كان الاحتفال بغاية الانتظام، ودل على نجاح المدرسة وتقدمها فحمدًا لسعادة
صاحبها السرّي الكامل محمد رضا بك العظم على ما بذل، ثم لحضرة ناظرها على ما
فعل.
__________(2/542)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إزالة وهم تاريخي
تَوهَّم بعض مؤرخي المسلمين وعلمائهم أن ذا القرنين المذكور في القرآن
الكريم هو إسكندر المكدوني , وهذا غلط فاحش ووهم لا شبهة عليه، فذو القرنين من
كُنى ملوك اليمن العرب المعروفين بالأذواء كذي يزن وذي نواس وذي الكلاع،
والإسكندر رجل يوناني، وذو القرنين مختلف في نبوته، وإسكندر مقطوع بكفره
وضلالته، وذو القرنين كان في زمن أحوال العمران فيه مخالفة لأحواله في زمن
الإسكندر المكدوني، كما يُعلم مما قصه الله علينا من أخباره، فإنه طاف مشارق
الأرض ومغاربها بأسباب طبيعية كانت متبعة في ذلك العصر، فإنه يقول: فأتبع
سببًا حتى إذا بلغ كذا، ثم أتبع سببًا حتى إذا بلغ كذا، والراجح أنه كان قبل
الإسكندر المكدوني بآلاف من السنين بحيث طمس أثر ذلك العمران، فعسى أن لا
يغتر الناس بما يرونه في كتب التفسير والتاريخ، وفي الجرائد من هذا الوهم،
وإننا نتعجب من مثل أصحاب (المقتطف) و (الهلال) كيف يكنون إسكندر
المكدوني بذي القرنين مع رسوخ أقدامهم في علم التاريخ، ولعلهم فعلوا ذلك لمجرد
مجاراة بعض مؤرخي الإسلام، أو لرأي لهم آخر في المسألة، والله عليم بذات
الصدور.
__________(2/544)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بعض التفصيل
ألمعنا في المقالة الافتتاحية إلى توجه عناية مولانا السلطان الأعظم لإصلاحات
جديدة في اليمن وغيرها، فمن ذلك أن تجعل بلاد اليمن ثلاث ولايات ينتخب لها
العمال من خيار الأكفاء نزاهة وسياسة، يقيمون نظام جباية الأموال على الأصول
العادلة، ويسوسون البلاد سياسة دينية مدنية، وأن تنشأ في كل مدينة كبيرة مدرسة
إعدادية أو رشدية، وفي مركز كل ولاية مدرسة ملكية ومدارس للصنائع والفنون،
ومدارس حربية ابتدائية، وأن يختار لهذه المدارس وغيرها من المدارس الابتدائية
التي ستكون عامة أمهر المعلمين وأحسنهم سيرة، وأن يعلم فيها الدين، وقد قلنا من
قبل: لو أن الدولة العلية ساست بلاد اليمن سياسة دينية لما حصل فيها ما حصل من
الثورات والفتن، فعسى أن يكون انتخاب العمال والمدرسين كما يشاء مولانا السلطان
لا كما تشاء الأهواء والأغراض.
ومنها ما جاء في أخبار ولاية قونية الرسمية أنه قد افتتح فيها 32 مدرسة كانت
أسست في العام الماضي، وتم إصلاح 120 مدرسة.
__________(2/544)
6 رجب - 1317هـ
11 نوفمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات المأثورة
وهي الخامسة من مقالات الكرامات
نتخوَّل القراء بمباحث الكرامات تخوّلاً خشية السآمة من اتصال الكلام في
الموضوع الواحد، وإنما نصدقهم الوعد بالتدريج بحيث لا يملّون ولا يسأمون، ولا
نحن نغفل ما يسنح لنا من المباحث الأخرى بمناسبات الزمان واختلاف الأحوال.
تبين في المقالة الرابعة أن حجج مثبتي وقوع الكرامات على ضربين: أحدهما
ما ورد في الكتاب العزيز، وقد ذكرنا ملخص ما قالوه في الآيات القرآنية التي يدل
ظاهرها على وقوع الخوارق لغير الأنبياء، وحققنا أن قصارى ما يحتج به منها
على ثبوت كرامات الأولياء هو الإلهام الصحيح لبعض أصحاب النفوس الزاكية كأمّ
موسى عليه الصلاة والسلام، وما في معناه ككلام الملائكة لمريم عليها السلام، وأنه
يحتمل أن يكون هذا مما قبله، فثبت أن الإلهام هو مما يكرم الله به أولياءه وأصفياءه
بإشرافهم أحيانًا على ما يعزب عن علم غيرهم، فنقف عند حد ما ورد وثبت، ولا
نقيس عليه غيره؛ لأن ما جاء على خلاف القياس وغير المعهود لا يصح أن يقاس
عليه كالأحكام الشاذة في سائر العلوم والفنون، وقد قضت الجهالة بالدين والعلم بأن
تخضع الأمة لكل مَنْ يظهر على يديه شيء غريب عما ألفت واعتادت، وإن كان
شعوذة أو مبنيًّا على صناعة خفية مهما ظهر صاحبه بلباس الدين وزيّ النساك أو
المجانين.
(الضرب الثاني) ما ورد عن سلف الأمة ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد
سبق القول في مقالة (حجج منكري الكرامات) بأن حجتهم الخامسة هي أنه لو كان
للكرامات أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، فإنهم صفوة الإسلام وأشد
استمساكًا به ممن بعدهم، وقلنا هناك بأن السبكي قد أجاب عن هذه الحجة بسرد
الكرامات المأثورة عن الصحابة عليهم الرضوان، ووعدنا بأن نعد هذه الكرامات في
حجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو ردًّا، وقد ضاقت عن ذلك مقالة حجج المثبتين
الماضية فنذكرها ههنا وهي:
(1) على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر أثر عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفيه أن أباها أخبر في وصيته لها عن
وفاته، وعن حمل له لم يكن معروفًا وعيَّنه بأنه أنثى حيث قال في سياق كلامه:
وإنما هما أخواك وأختاك فقالت: إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال: إن ذا بطن
بنت خارجة أراها جارية، فكان كما قال، أقول: وهذا من الإلهامات الصحيحة
التي أثبتناها، وقد ورد في الصحيح أنه كان من الأمم قبلنا محدَّثون (بفتح الدال
المشددة) أي ملهمون، وإن عمر بن الخطاب من المحدثين في هذه الأمة، وأجدر
بأبي بكر أن يكون محدثًا أيضًا.
(2) ثم ذكر حديث عبد الرحمن ولده - رضي الله عنهما - في الإطعام،
وفيه أن الطعام كثر في القصعة ببركة أبيه، قال عبد الرحمن: وايم الله ما كنا نأخذ
لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال حتى شبعنا وصارت بعد ذلك أكثرمما كانت
بثلاث مرار، أقول: إذا ثبت هذا فهو الخارق الحقيقي؛ لأن زيادة الطعام حقيقة لا
تكون إلا بخلق جزء منه يوجد من العدم؛ لأن النموّ بالاستمداد من الأجسام الأخرى
كما في الحيوان والنبات لا يتأتى فيه، وقد حار العقلاء في سر الخلق وكيفية الإيجاد
من العدم حتى كاد هذا الأمر أن يكون وراء ما يقدر البشر على تصوره، ومثله
إعدام الوجود، فالإيجاد والإعدام من الأسرار الإلهية التي لم يطلع الله عليها أحدًا من
خلقه، والحكماء متفقون على أن القوة البشرية عاجزة عن إيجاد نحو ذرة أو رملة،
وعن إعدام نحو نقطة ماء من الوجود وإن بلغت من العلم ما بلغت، ولكن البراهين
العقلية تثبت أن وجود هذا العالم ممكن لا واجب، وأن الممكن لا وجود له من ذاته؛
لأنه لا يكون إلا حادثًا، وهذا هو الدليل على أن الله تعالى خالق كل شيء، أما
الخبر فهو عند الشيخين، وهو من أخبار الآحاد التي تفيد الظن لذاتها، وليس
الموضوع في نفسه من قضايا الدين، فمن اطمئن قلبه له وصدقه لثقته بروايته فله
أن يبقيه على ظاهره ويعدّه من الخوارق، وله أن يأوِّله ليطابق المعروف
في العلم موافقًا لما في الدين من أن الله تعالى جعل لكل شيء يحدث في هذا الكون
سببًا، ولذلك سُمي عالم الأسباب، فالله تعالى خلق مادة الكون بمحض إرادته المعبر
عنها في الكتاب بلفظ (كن) ثم جعل بعد ذلك لكل شيء سببًا كما هو مشاهد،
وبعض أئمة الصوفية الشيخ الأكبر يسمي ما وجد أولاً بمحض الإرادة (عالم الأمر)
وما خلق بعد ذلك بالأسباب المعبر عنها في لسان الشرع بالسنن الإلهية (عالم الخلق)
ولله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
أما طريق التأويل فمن المعهود عند الناس أن يقولوا: كأنَّ هذا الطعام أو الماء
قد زاد وبورك فيه، وكأن الإناء ينبوع إذا كفاهم من حيث يظنون أنه لا يكفيهم،
وإذا زاد مع ذلك عن الحاجة يبالغون في القول فيقولون: إنه قد زاد أو تضاعف أو
صار أكثر مما كان، وإن الإناء لينبع نبعًا، كما يقولون: إن الأرض قد طويت إذا
قطعوا المسافة في مدة أقصر مما كانوا يتوقعون، وكل هذا من قبيل التشبيه البليغ
المعهود في اللغة العربية بكثرة، ولا تكاد تخلو منه لغة من اللغات، لكن التعبير
بقوله أكثر مما كان بثلاث مرار ينأى بالكلام عن التجوز ويدنيه من إرادة الحقيقة،
وكثيرًا ما كانوا يروون الأحاديث بالمعنى، فلسنا على ثقة من نص عبارة عبد
الرحمن - رضي الله عنه - على أن هذه الكرامة مسندة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فالبحث فيها إنما هو بحث في خبر تاريخي، وإنما سَمَّينا الكلام حديثًا؛ لأن
فيه أن الطعام حمل بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه الخلق الكثير.
(3) ما روي عن عمر الفاروق رضي الله عنه، وذكر السبكي في مقدمته
قصة سارية بن رستم الجلحي وهي مشهورة، وفيها كرامتان: إحداهما أنه اطلع
وهو على منبر حرم المدينة على جيش سارية مع العدوّ في نهاوند وأن العدو أعدَّ له
كمينًا في الجبل، والثانية أنه ناداه: يا سارية، الجبل، فأسمعه، ونحن نقول: إن
هذه القصة مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر؛ لأنها وقعت والمسلمون كلهم
مجتمعون في المسجد يسمعون الخطبة، وهي من الغرابة في نفسها وعظم الشأن في
موضوعها بالمكانة التي نعرفها، ولو حدَّث بها الجم الغفير من الصحابة لحدَّث بها
أضعاف أضعافهم ممن بعدهم؛ لأنهم كانوا أسمع للغرائب، وأولع بالعجائب، ومع
ذلك ما رواها البخاري ولا مسلم ولا أصحاب السنن الأربعة، ولا أصحاب المسانيد
من قبلهم، وإنما انفرد بها البيهقي من المحدثين، وتناقلها كثير من المؤرخين الذين
جمعوا بين الغث والسمين، وقد وطن قومنا نفوسهم على قبول جميع ما يسند إلى
عظماء الأمة على علاته صح أم لم يصح، ومن بحث في ذلك ينسبونه إلى التقصير
في تعظيم السلف، وما تعظيم السلف إلا بالاقتداء بهم، حتى إن عالمًا مثل التاج
السبكي قال في بيان هذه الكرامة: إن عمر رأى القوم في نهاوند عيانًا، وكان كمن
هو بين أظهرهم، أو طويت له الأرض وصار بين أظهرهم حقيقة وغاب عن
مجلسه بالمدينة، فكيف جوَّز انتقال عمر من المدينة إلى نهاوند وإرشاده أمير الجيش
ورجوعه كلمح البصر - ولو حصل هذا لملأ خبره الخافقين - مع أنه لم يقل به أحد
قط، اللهم إن غرامنا بالتأويل قد أطفأ فينا نور الفطرة والعقل وطمس معالم العلم
والدين، فأنقِذنا اللهم من الاحتمالات والتأويلات، وأتحفنا بعلم اليقين، إنك على ما
تشاء قدير.
(4) ومنها قصة الزلزلة , نقل السبكي عن الشامل لإمام الحرمين أن
الأرض زلزلت في زمن عمر - رضي الله عنه تعالى - فحمد الله وأثنى عليه،
والأرض ترتجف وترتج ثم ضربها بالدرة وقال: قري ألم أعدل عليك؟ فاستقرت
من وقتها. اهـ.
أقول: إن الزلزلة ليس لها زمن معين، فيقال: إنها استقرت قبل انقضائه
كرامة لعمر- رضي الله تعالى عنه - ولا أذكر أنني رأيت لهذا الأثر رواية صحيحة،
ولئن صحت الرواية فقد علمت ما فيها، وقد أطال السبكي الكلام في هذه المسألة
وزعم أن الفاروق كان يؤدب الجمادات كالأرض كما يؤدب الناس؛ لأنه خليفة في
الظاهر والباطن، وزعم أن الأرض لا تزلزل إلا لسببين: جور الحكام واليوم المعلوم
المشار إليه بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) وتكلم
في تفسير السورة بما يخالف الجماهير، وقد بيَّنا الحق في هذا كله، وبينا أسباب
الزلازل بحسب ما يدل عليه العلم في كتابنا (الحكمة الشرعية) ، وأنها لا علاقة لها
بالجور ولا بالعدل.
(5) ومنها قصة النيل , قال السبكي: إن النيل كان في الجاهلية لا يجري
حتى يلقى فيه جارية في كل عام فلما جاء الإسلام وجاء وقت جريان النيل أتى
أهل مصر إلى عمرو بن العاص فأخبروه أن لنيلهم سُنَّة، وهو أنه لا يجري حتى
يلقي فيه جارية بِكْرٌ بين أبويها، ويجعل عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون،
فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا ثلاثة أشهر لا
يجري لا قليلاً ولا كثيرًا (لعله يريد أنه لا يجري زيادة عن العادة) حتى هموا
بالجلاء، فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: قد أصبت،
إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في النيل، ففتح عمرو البطاقة
فإذا فيها (من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من
قِبَلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك نسأل الله الواحد القهار
أن يجريك) فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب، وقد تهيأ أهل مصر
للجلاء والخروج منها، فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا، قال السبكي:
فانظر إلى عمر كيف يخاطب الماء يكاتبه ويكلم الأرض ويؤدِّبها.
أقول: إن هذه الحكاية مبنية على أن التصديق بأن النيل كان قبل الإسلام لا
يفيض فيضانه إلا بعد وضع الجارية العذراء فيه، وإنها لخرافة إذا جاز أن يصدقها
أغبياء الوثنيين الذين يعتقدون أن النيل من الآلهة لا يفيض إلا إذا أرضوه بمثل ذلك،
أو أن الآلهة يُجرونه بحسب أهوائهم، وأن إلقاء الجارية من ذرائع استجدائهم،
فلا يجوز أن يصدقها مسلم يعتقد أن الحكيم العليم أقام هذا الكون بنظام ثابت وسنن
مطردة لا تتغير ولا تتبدل، منها أن الأنهار تجري من ينابيع كالعيون الصغيرة
تتفجر من بطن الأرض وتستمد في أيام الشتاء من الجداول والوديان التي يجتمع
ماؤها من المطر، وإن ماء الينابيع من المطر على ما بيناه في المقالة الأولى من
مقالات الكرامات {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْض} (الزمر: 21) وقد عُلم أن النيل يجري من بحيرتين عظيمتين في الأقاليم
الاستوائية، وإنما يفيض على مصر فيضانه المعلوم في فصل الصيف؛ لأن صيف
هذه البلاد شتاء في تلك البلاد، ولا يكون الفيضان إلا تدريجًا؛ لأن المطر يكون
كذلك، وإنما يقل الفيضان ويكثر بقلة المطر وكثرته في تلك البلاد التي ينبع منها
ويستمد مما دونها، ويجوز أن يقل الفيضان في أول عهده، ثم يكثر في آخر المدة تبعًا
لأحوال المطر، ولكن لا يتأتى أن يجري في يوم واحد ستة عشر ذراعًا، ولو
حصل ذلك لكان ضرره أضعاف نفعه، فإن زيادة عظيمة كهذه في نهر عظيم كالنيل
إذا جاءت دفعة واحدة لا يكون شأنها إلا هائلاً وعظيمًا.
وحاصل القول: إنه إن صح أن فيضان النيل كان يتوقف قبل الفتح الإسلامي
على إلقاء البنت العذراء فيه وأن هذا بطُل بالإسلام، فإن الخارق للعادة والآتي على
خلاف سنة الكون هو ما كان قبل الإسلام لا ما بعده، وهذا قلب لقصد القائلين
بالكرامة هنا، ولو بنيت هذه القصة على أصل معقول لكانت هكذا، كان قدماء
المصريين يعتقدون أن النيل نهر مقدس كما يعتقد الهنود بنهر الكنج , وكان من
تقاليدهم أنه متى جاء وقت الزيادة فيه يزينون إحدى بناتهم ويلقونها فيه معتقدين أن
الزيادة لا تأتي أو لا تفي بحاجة البلاد إلا إذا فعلوا هذا كما يلقي الهنود أنفسهم في نهر
الكنج اتباعًا لتقاليدهم الدينية، وإن عادة المصريين استمرت إلى عهد الإسلام، وأن
الفاروق - رضي الله عنه - أمر بإبطالها لاعتقاده ببطلانها ومخالفتها للإسلام، وأنه
اتفق أن الزيادة كانت قليلة في أول تلك السنة، والفيضان بطيئًا، وأن عمر لما بلغه
ذلك تضرع إلى الله تعالى أن يغيث عباده ويزيد في النيل؛ لئلا يعتقدوا أن منعهم
من إلقاء البنت هو الذي منع فيضان النيل، وإن الله تعالى رحم تضرعه واستجاب
دعاءه بأن كثرت الأمطار في تلك الأثناء في البلاد التي ينبع النيل منها ويجري فيها،
وأن كتابه ما وصل إلى عمرو بن العاص إلا والنيل قد طفق يزيد زيادة صالحة
حتى وصل في يوم عيد الصليب إلى ستة عشر ذراعًا، وهي الزيادة المعتدلة التي
تكفي البلاد كما هو مقرر في كتب التواريخ {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: 118) وإن هذه الزيادة الكثيرة في أواخر مدة الفيضان كانت من
زيادة المطر قطعًا، فإن كانت مما اقتضته طبيعة تلك السنة كما يكون في بعض
السنين في كل عصر، فذلك توفيق من الله على يد أمير المؤمنين حكمته إبطال تلك
العادة السيئة، وإن كان حصل بدعاء عمر فهو كرامة له؛ لأن استجابة الدعاء بما
يخالف العادة المطردة في الخلق كرامة بلا ريب، ولكل أحد أن يعتقد من ذلك ما
ترتاح إليه نفسه، هذا وإن الحكاية لم ترد بطرق صحيحة موثوق بها، فتستحق هذه
العناية، ولكن العناية والرحمة تجبان لأمة يصدّق أكابر علمائها (كالتاج السبكي)
صاحب (جمع الجوامع) بأن النيل لا يجري إلا إذا ألقيت فيه فتاة صفتها كيت
وكيت، وإن عمر أدّبه بكتابه له، فرجع عن غيه، وقد ابتليت هذه الأمة بتقديس
الأموات والتسليم لهم بكل ما قالوا، ولولا أن حالة العصر أنارت بعض الأذهان
وأعدتها لقبول الحقائق ورفض الخرافات لما كان لنا أن نكتب ما كتبنا، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))(2/545)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(12) من هيلانة إلى أراسم في 25 مارس سنة -185
كتابي إليك وقد استقرّ بي النوى الآن في إنكلترا أكاشفك فيه ما وجدته
في هذه البلاد فأقول: استأجرت مساء يوم الإثنين الماضي عجلة اجتزت بها ما
بين القنطرة المسماة بقنطرة لوندره (لندن بريدج) والميدان المعروف بميدان أوستون
وكأني بك سائلي عما شاهدته من عاصمة الجزائر البريطانية، إني لم أر منها شيئًا،
أو أن ما رأيته لا يكاد يكون شيئًا يذكر، كنت أحس أحيانًا بأني أدور في الظلام
مع العجلة أثناء جريها في الميادين الفسيحة المحتفة بالبساتين والبيوت التي كنت
أخالها مهجورة، وكنت أرى عقيب ذلك من كوَّتي العجلة شوارع طويلة تمتد ذات
اليمين وذات الشمال تحيط بها المخازن التجارية من الجانبين، ويمتد في كل منها
على جانبيه صفان من المصابيح الغازية، فكنت تارة أجدني في ظلمات متكاثفة
الحجب وأخرى كنت أراني بين طوائف من تلك المصابيح غير منتظمة، وقد كان
منظر ضوئها المنعكس على رصف الشوارع المبللة وعلى وقائع [1] الطريق، وجملة
أهل المدينة الذين كانوا يغدون ويروحون، وسمات الهمّ والاشتغال بادية على
وجوههم وجلبة الغوغاء [2] التي كان يتعاورها السكوت فجأة، كل ذلك كان غريبًا
عندي غير معهود لدي، كانت السماء تمطر وكأن لا مطر، ذلك أنها كانت ترهم
إرهامًا خفيفًا جدًّا [3] يقول رائية: إنه لابد أن يستمر هكذا ألف سنة. قد حصل في
ذهني من سفري هذا في سدف الظلام مجتازة مستنقعات الماء، جائلة فيما أجهله من
الأماكن صورة مدينة لا أول لها ولا آخر، فيها كثير من ضروب العظمة والبذخ،
وكثير من أنواع الحقارة والمسكنة، فهل هذه لوندره؟
تبوأت النزل الذي كانت وصفته لي السيدة ... فألفيت كل ما فيه غاية في
النظافة والهدوء والنظام، قدم لي العشاء في غرفة خاصة منه فيها كفايتها من الفرش،
وهي ملاصقة للغرفة التي أعدت لنومي، وقد راعني من خادمة المائدة جمالها
البارع، فبعثتي ذاك على مراجعة ذاكرتي لادّكارالقليل من الإنكليزية الذي كنت
تعلمته في المدرسة لمخاطبتها بلغتها، فكانت أجوبتها لي في غاية الاختصار، ولم
ألبث أن فهمت من احتراسها في كلامها وظهور سيما الحيرة على وجهها أن
الخادمات الإنكليزيات لا يحفلن بخطاب المخدوم إياهن خلافًا للفرنساويات، إن الذي
أدهشني كثيرًا في هذا النزل أن أهله لم يسألوني عن اسمي، ولا عن حقيقة أمري،
عجبًا لهذه البلاد التي لا يظهر أن أهلها يعتقدون أني ما أتيت بلادهم إلا لقلب
حكومتهم (تريد التعريض ببلادها الفرنساوية) .
اتباعًا لنصائحك قد اهتديت إلى محل الدكتور وارنجتون وذهبت إليه في ثاني
يوم من وصولي، وقدمت إليه مكتوبك، فما كاد يأتي على آخره حتى تذكر اسمك،
وتلقاني تلوح عليه علائم الوقار الفطري.
أنشأ هذا الدكتور يخاطبني بالفرنساوية وهو يحسن الكلام بها بعض الإحسان
فقال: لقد أصاب زوجك في إرسالك إلى بلاد أجنبية، فسترتاح نفسك إلى المقام
في إنكلترا بما ستجدينه فيها من اعتدال الصحة، إلا أني أنصح لك بأن تقيمي في
الأرياف؛ فإنها أجود مناخًا وأصفى هواءً؛ فإن السكنى في الحواضر العظيمة لا
تلائم النساء في الطور الذي أنت فيه الآن، ولا تلائم الأطفال أيضًا، وقد أنشأ
الكبراء من تجارنا في لوندره يفهمون مزايا الإقامة في القرى، ويقدرونها حق قدرها،
فترينهم لا يعبأون بالسفر مرتين كل يوم في السكة الحديدية، ولا بما يضيعه
عليهم هذا السفر من الفوائد الكثيرة التي منها الحضور في ناديهم مثلاً، وذلك
ليمتعوا أسرهم بقليل من نضارة الخضرة ومنافع الشمس، فهم يصرفون بذلك
نساءهم عن التردد على معاهد التمثيل ومواطن اللهو الليلي، لكل امرئ منهم
نصيب من فائدة هذه الإقامة، وللأطفال الحظ الأوفر منها حيث ينشأون في كمال
الصحة من هذه المعيشة المطلقة في هواء الفضاء، ولا يكاد يرغب عن ذلك إلا
الغانجات المتورّنات [4] اللاهيات بالتافه والمحقرات، ولكن ما الحيلة في إرضائهن،
وللأمومة واجبات لا بد من أدائها؟ تأملي في الأطفال الذين يتربون في المدن الكبيرة،
ألا ترين معظمهم شاجي الألوان، سقيمي الأجسام كالنباتات الموشمة (النابتة) في
الظل المحرومة من ضوء الشمس وحرارتها؟ أتظنين أنهم على هذا الضعف
يزدادون في عقولهم بقدر ما يخسرون من صحتهم؟ ! كلا، إنني لا أرى هذا صوابًا؛
لأن جوّ المدن الذي أفسده ما فيها من ضروب اللذائذ وصنوف الأعمال لا يلائم
بحال من الأحوال نموّ العقل الخلقي، وأن الأطفال ليبلغون سن الرجولية قبل إبّانه
بتأثير تلك الحرارة الصناعية التي في المدن، إلا أنهم في الغالب يكونون رجالاً
ناقصين لا يبلغون في الكمال الدرجة المطلوبة.
فاه الدكتور بهذه الكلمات الأخيرة، وابتسم ابتسامًا انتهى بظهور خطوط أفقية
على وجهه السكسوني المستدير الذي يشرف منه على خديه شعر الصدغين القصير
الذي قد وخطه الشيب، ثم استأنف الخطاب فقال:
دعيني أتولى أمر سكناك في الخلاء، فإن لي صديقًا يملك في قرية مرازيون
بيتًا للنزهة، فيه شيء من الجمال والنظام، وموقعه تجاه خليج بينزاس وهو يبحث
عن مستأجِر يؤجره له بجميع أثاثه ورياشه؛ لأنه على وشك الرحيل إلى إيطاليا
للمقام بها لأسباب صحية، فأنا أرغب إليك في الذهاب إلى هذا البيت ورؤيته وأحثك
على ذلك، وأرى أن في هذا السفر تسلية لك وترويحًا، وإني لو كنت طبيبك لكان
من أول ما أصفه لك تبديل الهواء، كوني على ثقة بأن آلام النفس تزول بتغير
المؤثرات، فقلما يوجد من هذه الآلام ما يتعاصى على التغير كما ثبت بالتجارب،
فإن الإنسان إذا رأى مشاهد خلوية جديدة يحيا حياة جديدة، وليس لي أن أمدح لك
أميريّة (كونتيّة) كورنواي [5] فإنها مسقط رأسي، على أن الناس قد أجمعوا على
القول بأنها أكثر جهات بريطانية العظمى اعتدالاً في الإقليم، وإنها هي التي يعيش
في أرضها الريحان والعطر والعود معرضة لهوائها المطلق في جميع الفصول، إن
كنت ممن يروقهن منظر الصخور، فإنك ستشاهدين هناك منها جميع الأشكال في
أبهج الأوضاع وأجدرها بالتصوير، أنا لا أعرف حق المعرفة مقدار الأجرة التي
يطلبها صديقي في سكنى بيته، لكني لا أشك في أنه لا يخرج عن الاعتدال فيما
يطلبه، ستجدين في بنزانس زوجتي السيدة وارنجتون، فإنها هناك هي وأسرتها
حتى الآن، وستغتبط باستقبالك، أما أنا فأذهب لزيارتها واستنشاق هواء مولدي
كلما تيسر لي الخلاص من أشغالي في لوندره، فإننا معشر الإنكليز لا نقدر على
إطالة الثواء في مكان واحد، فالحركة والفضاء من حاجاتنا، ما كان أجدرنا باختراع
الآلة البخارية، وقد اخترعناها ولا عجب، وأصبحنا بسبب هذا الاختراع أقل الأمم
تغيرًا، فإننا مع سفرنا الدائم في إقامة مستمرة؛ لأنَّا في أوطاننا أينما كنا.
افترقت أنا والدكتور على أحسن حال من الوفاق والمودة، وقد خاطبني في
شأنك بما شف لي عن كثرة إجلاله لك وإعظامه لقدرك، ولقد لمَّح لي مرة واحدة في
مطاوي كلامه تلميحًا خفيًّا إلى ما أنا فيه من الفرقة الحاضرة، فأبان لي به عن
عطف عليّ وميل إليّ، ولم يسترسل استرسال الناس في عبارات التعزية والتسلية
التي كثيرًا ما أذلتني وهضمتني حق إدلالي بصفة الزوجية.
تم الاتفاق بيننا على أن أسافر في الغد إلى كورنواي وإنما عجلت بالسفر
لأستقر في مكان ما، وقد رضيت هذه البلدة لي مقرًّا؛ لأن جميع الأمكنة التي لا
أراك فيها سواء عندي.
لما وصلت إلى بنزنس أثناء الليل تلقتني السيدة وارنجتون عند
نزولي من عجلة المسافرين، وكانت في انتظاري لأن زوجها كان كتب إليها
بذلك، إذا أردت أن تتخيل صورة هذه السيدة فمثل لنفسك امرأة في نحو الخامسة
والثلاثين من عمرها ليست حسنة الوجه ولا دميمته، ولكنها محبوبته سوداء العينين
والشعر، خنساء الأنف، عظيمة الفم باسمته، سمينة قصيرة، على أنها خفيفة
نشيطة قد أوتيت حظًّا وافرًا من الحنان والرأفة، لقد كثر ما لاحظت أنه في بعض
الأحوال يوجد بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي
يوجد بين أفراد أسرة واحدة، مع أن كلاً منهما يكون أجنبيًّا من الآخر من كل
الوجوه، أتدري من الذي حضرت صورته في ذهني لما وقع بصري على السيدة
وارنجتون؟ ! ذلك هو صديقك يعقوب نقولا خلتني أراه بذاته في زي امرأة.
حمل أمتعتي خادم كان يصحب هذه السيدة فوضعها في عجلة ركبناها
فأوصلتنا إلى منزل الدكتور الريفي، لهذا المنزل منظر بهيج إذا شوهد ليلاً في
ضوء السماء، فإنه لما كان مبنيًّا بالصوان كمعظم بيوت التنزه الخلوية والأكواخ
التي في تلك الجهة كان لحجارته صفائح من اليرمع [6] والمهو [7] تلمع كأنها شهب
تساقط من القمر، وفي النهار أيضًا له نوع آخر من جمال المنظر، فإنه قائم في وسط
حديقة من الأشجار المجلوبة من البلاد الأجنبية ذات الألوان اللطيفة المختلفة،
وينبسط على طول مقدمه إيوان مسقوف تتسلقه شجيرات الغوشياء [8] التي ترتفع
ارتفاعًا غير معهود، فهو مزدان من داخله وخارجه بزينة بديعة من الأزهار، لم تر
عيني مثلها أبدًا، إن لبيوت النبات الزجاجية المحل الأول في انتظام هذه الدار على
ما أرى، لا جرم أن مثل هذه البساتين المسقوفة بالزجاج تزيد المعيشة الأهلية نضارة
وحسنًا، الغرف التي تفضل عليّ أهل هذا البيت الكريم بإعدادها لي وأحلتنيها السيدة
وارنجتون نفسها بما أوتيته من كامل اللطف وفائق الظرف يخالها الإنسان جنة لو أن
للأرواح الوحيدة الجريحة أفئدتها من الحزن جنة في هذه الدنيا ... من محاسن هذه
الغرفة أني عندما أهب من نومي فيها أسمع تغريد القنبرة فيروقني لحنها.
السيدة وارنجتون هي والدة كاملة عاقلة، فإنها تقسم وقتها قسمين:
أحدهما: لتربية أولادها، والثاني للعناية بأمر أزهارها، ولها من كل قسم منهما
شيء من الفراغ يكفيها للمطالعة، وهي على بعدها عن الدعوى بالإحاطة بالعلوم في
المنطوق والمفهوم لها في طرق الاستدلال على مواضيع شتى أحكام صائبة وآراء
سديدة، أسرة هذه السيدة يعجب بها من يراها، فبنتاها الكبيرتان اللتان أحداهما
ربما كان عمرها سبعة عشر ربيعًا - كما كان يقال في تقدير السن سابقًا- لكل منهما
وجنتان يذوب منها الورد غيرة وحسدًا، وبعد هاتين البنتين صف من بنات أخريات
وبنين يتكون فيه من اختلاف رؤوسهم بالصغر والكبر، وتباينهم بالطول والقصر
نظام يحوي أجمل الفروق وأبهاها، كثيرًا ما كنت أسمع أن النساء الإنكليزيات
نثر (كثيرات الأولاد) ولكن الله أكبر , ما هذا الزخرف، زخرف الشعور
الشقراء والأكتاف المكشوفة والألوان الزاهية الغضة التي ما كنت أسمع
بها. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الوقائع جمع وقيعة، وهي الماء المستنقع الذي يكون في الطين.
(2) الغوغاء: عامة الناس، وجلبتهم: لغطهم الغير المفهوم.
(3) أرهمت: السماء جاءت بالرهمة، وهي المطر الخفيف المتواصل.
(4) التورّن: المبالغة في التطيب والتنعم.
(5) الكونتية: هي أرض الكونت وهو الشريف من أشراف فرنسا الغابرين.
(6) اليرمع: حجارة بيض تلمع في الشمس.
(7) المهو: حجر أبيض يقال له: بصاق القمر.
(8) الغوشيا: شجيرة أفرنكية معروفة بجمال شكلها وطول بقاء زهرها وتنوع أزهارها في أشكالها
وألوانها وسهلة غرسها، وهي من أشجار الزينة.(2/553)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بدع رجب
إذا خذل الله أمة من الأمم فإنها تختار الضار وتنبذ النافع، وتأخذ بالشر وتدع
الخير، وتستبدل الرذائل بالفضائل والسعادة بالشقاء، وتترك لُباب الدين، وتَتَلَهَّى
بالقشور، ويحسن لها علماؤها القبيح بالتأويل، ويكون هديهم عين التضليل.
لا تحضر في هذا الشهر جمعة في مسجد إلا وتسمع فيها الكذب على الرسول
صلى الله عليه وسلم على المنبر، حتى منبر الأزهر، والعلماء ناكسو رءوسهم لا
ينكرون على خطيب، وإنما يقرون الخطباء إقرارًا، وقد اتفق علماء الحديث على
أن كل ما روي في صيام رجب موضوع أو واهٍ لا أصل له، ولنذكر بعض
الأحاديث الموضوعة في رجب وصومه للتحذير منها فنقول: قال المحدثون:
(حديث) : رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، فمن صام في
رجب يومين فله من الأجر ضعفان، وزن كل ضعف مثل جبال الدنيا ... إلخ
موضوع، وفي إسناده أبو بكر بن الحسن النقاش وهو متهم، والكسائي مجهول،
و (حديث) : من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر، ومن صام سبعة
أيام من رجب أغلق عنه سبعة أبواب من النار، ومن صام ثمانية أيام من رجب فتح
الله له ثمانية أبواب من الجنة، ومن صام نصف رجب حاسبه الله حسابًا يسيرًا
موضوع، في إحدى رواياته عمر بن الأزهر وضَّاع، وفي الأخرى ابن علوان
وهو وضّاع أيضًا، وراويه أبان متروك. و (حديث) : إن شهر رجب شهر عظيم،
من صام يومًا منه كتب له صوم ألف سنة ... إلخ موضوع، في إسناده هرون بن
عنترة يروي المناكير، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، و (حديث) : من أحيا ليلة
من رجب وصام يومًا أطعمه الله ثمار الجنة ... إلخ موضوع، آفته حصن بن
مخارق، وفي رواية بمعنى هذه ... بعثه الله آمنًا يوم القيامة، وكذا (حديث) :
رجب شهر الله الأصم الذي أفرده الله تعالى لنفسه، فمن صام يومًا منه إيمانًا
واحتسابًا استوجب رضوان الله الأكبر ... إلخ وفي إسناده متروكان، و (حديث) :
خطب النبي صلى الله عليه وسلم قبل رجب بجمعة، فقال: يا أيها الناس قد أظلكم
شهر عظيم، رجب شهر الله الأصم تضاعف فيه الحسنات، وتستجاب الدعوات،
وتفرج الكربات وهو حديث منكر بمرة، وكان بعض العلماء ينهى عن صوم رجب.
وأقبح من هذه الأكاذيب أكذوبة (صلاة الرغائب) ويروون لها حديثًا طويلاً
في فضائل رجب، ومنها أن مَن يصوم أول خميس من رجب، ثم يصلي بين
المغرب والعشاء (من ليلة الجمعة) اثنتي عشر ركعة بكيفية مخصوصة استجيب
دعاؤه وغفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر وعدد الرمل، ووزن
الجبال وورق الأشجار، ويشفع في سبعمائة من أهل بيته ممن استوجب النار
(سبحانك هذا بهتان عظيم) ، وقد أقر السيوطي ابن الجوزي على وضعه، وقال
الإمام النووي صلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان، وعبارة شرح الأحياء
عنه (بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر بذكرهما في كتاب القوت
والأحياء، وليس لأحد أن شرعيتهما بقوله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير
موضوع؛ فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وقد صح
النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة) . اهـ
ومع هذا لا يزال الناس في كثير من البلاد الإسلامية يحفلون بأول ليلة جمعة
من رجب يقومون ليلها ويصومون الخميس قبلها، ويتصدقون فيها الصدقات التي
كلها مفاسد ومنكرات، ذلك أن أهل مصر يذهبون نساءً ورجالاً وأطفالاً إلى المقابر،
فيبيتون في القصور المبنية عليها، يأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون، والله يعلم
ما يسرون وما يعلنون.
__________(2/559)
14 رجب - 1317هـ
18 نوفمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناشير المهدي السوداني
ظفرنا بالجزء الأول من كتاب اسمه (مناشير سيدنا الإمام المهدي المنتظر
محمد بن عبد الله عليه السلام) وهو 290 صفحة، ويشتمل على الكتب التي كان
يكتبها القائم السوداني لأتباعه وخلفائه، ومعظم ما فيها تزهيد في الدنيا ودعوة إلى
جهاد الترك (أي المصريين) وقد رأينا أن ننشر منها في (المنار) أغرب
رسائله وكتبه؛ لما فيها من العلم بحقيقة ما كان يدّعيه ذلك الرجل، فإن الظنون
متضاربة في شأنه، ويعلم كل عاقل يعرف التاريخ أن الاعتقاد بالمهدي المنتظر قد
جرَّ على المسلمين شقاء طويلاً وأخذهم أخذًا وبيلاً، وسفك منهم دماء غزيرة، وقد
نوَّهنا بهذا في (المنار) من قبل، وسنفصل القول فيه تفصيلاً في فرصة أخرى.
ودونكم الآن يا معاشر القرَّاء المنشور الأول من الكتاب وهو بنصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد،
فمن العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى أحبابه في الله، المؤمنين بالله
وبكتابه، لا يخفى على عزيز علمكم فناء الدنيا، وإن من تجرد لله قصدًا، وصدق
في دينه وامتثل لأمرالله لا يلاحظ جاهًا ولا مالاً، لأن من كان بالله ولله لا ينظر
إلى ذلك , فإذا نظر إلى ذلك حجب عن الله، وطرد من حضرته، وأوقعه الله في نار
الهموم والأتعاب، ولعذاب الآخرة أشد، ومن خرج عن الجاه والمال لله عوَّضه الله
خيرًا منه، وكان مقربًا عند الله، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ
وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة:
65-66) المعلوم أن من كان لله كان الله له، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنك
لن تجد فقد شيء تركته لله أي لم تجد له ألمًا ولا همًّا، وقد فتح الله بالأنبياء باب
الاقتداء، فسليمان عليه السلام لمَّا شغلته الخيول عن الله أقبل يقطع سوقها ورقابها،
وتجرد منها لله، فعوَّضه الله الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، ونبينا محمد صلى
الله عليه وسلم لمَّا خرج من أهله وهاجر دياره، عوَّضه الله ما لا يخفى والصحابة
كذلك، وهلم جرًا إلى غير ذلك من الأنبياء والصالحين، فيا أيها الأحباب إن هذا
الزمان معلوم الحال , والطباع يسرق بعضها بعضًا، ولامخلص عنها إلا بالهجرة،
وفي ذلك ما لا يخفي من الأدلة كتابًا وسنة، وقد أمرني سيد الوجود صلى الله عليه
وسلم بمكاتبة المسلمين ودعوتهم إلى الهجرة معنا إلى محل يكون فيه قوام الدين،
وإصلاح أمر الدارين، ومثلكم لازم أن يحث على هذا الأمر، ويكون من أول
المقومين والتابعين، ومعاذ الله أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا
الأمر لا شك فيه، فمن صدق به واتبعه كان من المقربين، ومن كذب وصدَّ عنه
فعليه إثمه وإثم من اتبعه، فإن مات قبل ظهوره فيعاقبه الله على ترك الأمر وصد
من يهاجر في سبيل الله ورسوله لتقويم السنة النبوية، ومعلوم أن من لم يتبع هذا
الأمر يخذل في الدارين، وذلك بإشارة أعلمني بها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم
وعلى الحضرات التي أيدني بالمهدية فيها صلى الله عليه وسلم، شهد جمع من
الفقراء الأتقياء الذين لا يُعبأ بهم، ومقامهم عند الله ورسوله لا يخفى، وهم أغبط
الأولياء عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأحبهم إلى الله، ولو أقسم أحدهم
على الله لأبره كما ورد، وكذلك جمع من المشايخ، ومعلوم أن الأمور تجري على
علم الله، وأن الله ينسخ ما يشاء، وعلم العباد لا يزن في علم الله نقطة بالنسبة إلى
بحار الدنيا، وله المثل الأعلى كما قال الخضر لموسى عليه السلام، ولا سيما وعلم
المهدي كعلم الساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ولم يعين، وقال صلى
الله عليه وسلم: كذب الوقاتون، وفيما ذكره محي الدين بن العربي في تفسيره في
هذا المعنى كفاية، وقال الشيخ أحمد بن إدريس كذبت في المهدي أربع عشرة نسخة
من نسخ أهل الله، وقال: سيخرج من جهة لا يعرفونها، وعلى حالة ينكرونها،
وإنى لا أعلم بهذا الأمر حتى هجم عليّ من الله ورسوله من غير استحقاق لي بذلك،
فأمره مطاع، وهو يفعل ما يشاء ويختار، وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم كحكمه،
ولما تكاثرت منه الأوامر والبشائر لي في هذا المعنى امتثلت قيامًا بأمر الله، وقد
كنت قبل ذلك ساعيًا في إحياء الدين وتقويم السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، وليكن معلوم عندكم أني من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبي
حسني من أبيه وأمه، وأمي كذلك من جهة أمها، وأبوها عباسي، ولي نسبة إلى
الحسين والله أعلم، وقد حصلت لي بشائر من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم
بتأييد الملائكة الكرام العشرة وغيرهم، وبتأييد آلاف من الأولياء، وبضمانة
أصحابي بعد تغسيلهم من الدرن، وأنهم مائتان وأربعون ألفًا، ومثلكم تكفيه الإشارة
والتلويح فضلاً عن التصريح، ومعلوم أن المهدي واجبة طاعته على كل مسلم،
وأشار لي بمكاتبة المسلمين ودعوتهم إلى الهجرة معنا، فهي مطلوبة جدًّا، ومن
الأوامر التي لا يجوز مخالفتها، ولا يلتفت في ذلك إلى أحد، فإن اتبع الأهل فيها
وإلا فالصحابة تركوا أهلهم للهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام.
_______________________(2/561)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(6)
(أمالي دينية - الدرس السادس)
(19) تنزيه الباري: علمنا من الدرسين السابقين أن هذا العالم ممكن، وأن
الممكن لا وجود له من ذاته؛ لأن معنى كونه ممكنًا أن وجوده وعدمه سيان في نظر
العقل، ومن ثم احتاج هذا العالم في وجوده إلي من رجح وجوده على عدمه، وأن
هذا المرجح لا بد أن يكون واجب الوجود , وهذا هو بارئ الكون المسمى بلسان
الشرع الإسلامي (الله جل جلاله) وحيث كان واجبًا فهو مباين للممكنات لا
يشبهها، ولا تشبهه في شيء ما، إذ لو شابه شيئًا منها في نحو هيئة أو لون أو
مقدار أو تحيُّز أو صفة من الصفات لكان ممكنًا مثلها ولم يكن واجبًا، وقد ثبت
بالبرهان أنه واجب، فتعين أن يكون مباينًا للممكنات بأسرها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) .
(20) القِدَم والأزلية: ما ذكرناه آنفًا كافٍ في اعتقاد التنزيه إجمالاً، ولكن
العلماء لا يكتفون في هذا المقام بالإجمال، ومن التفصيل الذى جروا عليه ذكر القِدَم
والبقاء، والقيام بالنفس، ومخالفة الحوادث، والوحدانية، ذكر السنوسي هذه
الأشياء وسمَّاها الصفات السلبية، وتبعه في هذا من جاء بعده، أما مخالفة الحوادث
فقد بيناها آنفًا، وأما القِدَم بمعنى الأزلية أي عدم ابتداء الوجود، فهو من لوازم
وجوب الوجود؛ لأن الواجب ما كان وجوده لذاته، وما كان كذلك لا يعقل غير موجود
ولذلك عرَّفه السنوسي بقوله: (ما لا يتصور في العقل عدمه) فالأزلية داخلة في
مفهومه، فإذا قيل مع ذلك أنه حادث لم يكن في الأزل، كان هذا القول بمعنى أنه
(واجب لا واجب) وهو تناقض محال بالضرورة 0
(21) البقاء والأبدية: إن دخول معنى البقاء الأبديّ - أي عدم الانتهاء -
فى مفهوم الواجب أظهر من دخول معنى القدم؛ لأنه إذا كان فرض العدم في
الأزل محالاً ففرض طروئه بعد الجزم بالوجود الواجب محال بالأولى، وتكليف
العقل أن يتصور عدم ما يجزم بأنه لا يتصور عدمه تكليف بما لا يطاق، كتكليفه بأن
يتصورأن شيئًا ما موجود ومعدوم في حالة واحدة، وهو محال بالبديهة، بل إن العقل
ليكاديعجز عن تصوّر طروء العدم على الممكن 0
(22) القيام بالنفس: فسره السنوسي بعدم الاحتياج إلى المخصص والمكان،
وهو تفسير باللازم، ومعناه الأصلي الثبوت بالذات، أي وجوب الوجود؛ لأن
القيام يطلق في اللغة بمعنى التحقق والثبوت، وقد تقدم البرهان على وجود الواجب
واستغنائه بذاته عن المرجح، وقد سمعتم آنفًا البرهان علي قدمه، ومتى كانت ذاته
قديمة فجميع ما يجب لها من صفات لا بد أن يكون قديمًا بقدمها لئلا يكون ما لا يقبل
الانتفاء (وهو الواجب) منتفيًا في وقت ما، وهو محال فثبت بهذا أنه مستغنٍ عن
المخصص والمرجح في ذاته كما هو مستغنٍ عن ذاته، وأما عدم الاحتياج إلى
المكان فلأن المكان لا يكون إلا حادثًا، والقديم يستغني بالضرورة عن الحادث، وقد
ثبت في الحديث: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان. ولأن
المستقر في مكان يجب أن يكون محدودًا بمقدار مخصوص، وذو المقدار لا يكون
إلا حادثًا لأن المقادير لا نهاية لها، فيحتاج صاحبها إلى مرجح يرجح له مقداره على
سائر المقادير الأخرى كما هو ظاهر، وأما الزمان فهو أمر وهمي كما يؤخذ من
كلام الشيخ الأشعري فلا حاجة لنفيه 0
(23) الوحدة ونفي التركيب: قلنا: إن واجب الوجود لا يحويه مكان؛ لأن
التحيز عليه محال، ومن لوازم هذا أن لا يكون مركبًا من أجزاء، والبرهان على
هذا أنه لو كان له أجزاء لكان كل جزء منها متقدمًا في الوجود علي مجموع الذات؛
لأن الجزء مقدم على الكل طبعًا، فيلزم أن يكون مجموع الذات حادثًا؛ لأنه مسبوق
بوجود الأجزاء والمسبوق بالوجود لا يكون إلا حادثًًا، وأيضًا يكون وجوده تابعًا
لوجود أجزائه، وتقدم أن الواجب ما كان له الوجود لذاته، وأنه لا بد أن يكون قديمًا،
أما كون الواجب لا يكون إلا واحدًا، فسيأتي برهانه في درس آخر إن شاء الله
تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/563)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فائدة الانتقاد
لايخفى على عاقل أن الانتقاد ذريعة الكمال، فإن الإنسان لإفراطه في حب
نفسه يعمى عن كثير من عيوبها مهما كان معتنيًا بتهذيبها وتكميلها، ولذلك يود
العقلاء والفضلاء أن يُنتَقدوا من أهل النظر الصحيح ليظهر لهم تقصيرهم فيجتنبوه،
بل عد بعضهم أن للأعداء فائدة؛ لأنهم يبحثون عن العيوب الخفية فيظهرونها،
فينزع عنها صاحبها، فقال قائلهم:
عداتي لهم فضل عليّ ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
والانتقاد نصيحة وذكرى، وفي الحديث الصحيح: الدين النصيحة. وقال عز
وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وليس من
غرضنا أن نذكر ههنا فوائد الانتقاد والانتفاع بالذكرى تفصيلاً، وإنما نريد أن نجعل
هذه الكلمات مقدمة للثناء على حضرة الشاب الأديب الشيخ حسين الجمل الأزهري
حيث أحلَّ انتقادنا على قصيدته محل القبول وانتفع بالذكرى وكتب إلينا في ذلك
ما نصه:
حضرة الفاضل صاحب جريدة (المنار) الأغر:
إني أشكر لحضرتكم أن شرفتم قصيدتي بالتنويه عنها في مناركم السَّامي،
وعنايتكم بذكر اسمي، وإن سقط الاسم في الطبع، كما أشكر لكم انتقادكم على ما فى
القصيدة من ذكر النساء بالحالة التي يخرجن عليها، فإن انتقادكم أرقى مما تخيله
فكري من أن السامعين إذا طرق آذانهم وصف حالة النساء حين يخرجن بأنواع الحلي
والزينة أخذتهم الغيرة من ذلك، وهبوا إلى منعهن عن الخروج، وعلى الأقل عن
التبرج بالزينة حين الخروج، وفاتني أن التحذير إغراء، وأن ذلك الوصف
مشوق.
فأقدم لحضرتكم أجل الشكر حيث جعلتموني موضع العناية بانتقادكم عليّ، فإن
الانتقاد أصل من أصول الإرشاد، وأرجوكم أن تنشروا عني هذا؛ ليُعلم أن الانتقاد
إن صادف المحز قبله المنتقد بالارتياح والشكر، فلا زال مناركم الشامخ مشرقًا
لسطوع أنوار الرشاد من خلال سطور الانتقاد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين محمد الجمل
وليس الشيخ حسين بأولى من حضرة الشيخ زكي الدين سند رئيس جمعية
(مكارم الأخلاق) بقبول النصيحة والانتفاع بالذكرى، فعسى أن يكون أقلع عن تلك
الأوصاف والنعوت التي كان يتمادى فيها بذكر أوصاف الراقصات والمسافحات،
والله الموفق.
__________(2/566)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(التعليم العالي)
مدارس التعليم العالي في أوروبا وهي المسماة بالمدارس الجامعة تشتمل علي
خمسة أقسام، في كل منها قسم للتعليم الاختياري، وهذه الأقسام هي: قسم آداب
اللغة، وقسم العلوم الرياضية والطبيعية، وقسم الطب، وقسم الحقوق، وقسم العلوم
الإلهية، أما المدرسة الجامعة العثمانية فليس فيها قسم لعلم الطب محتوٍ علي قسم
آخر للتعليم الاختياري، وذلك لوجود مدرسة طبية وافية بالحاجة التي تطلب من هذا
الفرع من العلم، إدارتها مستقلة عن المدارس الأخرى، وهي تابعة لنظارة الحربية،
أما إيجاد مدرسة جامعة للإلهيات وقسم فيها للتعليم الاختياري، فقد حالت دونه
صعوبات كثيرة، فإنه كان يستلزم بلا شك إنشاء أقسام متعددة فيها بقدر عدد
الطوائف المختلفي الديانات، الموجودين في المملكة العثمانية، وفوق ذلك فإن مثل
هذه الأقسام يكون إنشاؤها من العبث؛ لأن كل طائفة من هذه الطوائف تقوم من نفسها
بما يلزم لتعليم دينها تبعًا لدرجة معارفها، إذ أنهم في ذلك لهم الحرية التامة.
يبقى من الأقسام الخمسة قسم الحقوق، وقسم آداب اللغة، وقسم العلوم
الرياضية والطبيعية، وهذه الأقسام يقوم مقامها في تركيا مدرسة الحقوق
ومدرسة الإنشاء واللغة، ومدرسة المهندسين.
(1) أما مدرسة الحقوق المعبر عنها بمكتب الحقوق، فقد تأسست في عهد
جلوس جلالة السلطان عبد الحميد علي أريكة الملك، وذلك بجعل دروس الحقوق
الابتدائية ومبادئ علم الاقتصاد السياسي التي كانت تلقى في كلية سراي غلطة عامة ,
وفي سنة 1882م جدد ترتيب هذه المدرسة بأكمله ترتيبًا بني على قواعد ثابتة،
فجعلت مدة الدراسة فيها أربع سنين، ومواد التعليم فيها أصبحت تشتمل علي
القانون العثماني (المجلة) والفقه والقانون الروماني، أو القانون المدني،
والنظامات الرومانية من الوجهة التاريخية، وقانون التجارة العثماني، وقانون
المرافعات في المواد المدنية والتجارية، وقانون العقوبات والمرافعات الجنائية،
والقانون الإداري، وعلم الاقتصاد السياسي.
(2) ومدرسة الإنشاء واللغة المسماة (بمكتب الأدبيات العالية)
يعلم فيها هذه الدروس، وهي: إنشاء اللغات العربية واليونانية واللاتينية،
والمنطق والحكمة، وعلم الآثار القديمة، والتاريخ العام، وحكمة التاريخ.
(3) ومدرسة المهندسين المسماة بمكتب طرق المعابر التي كانت
من قبل ملحقة بكلية سراي غلطة باسم مدرسة المهندسين الملكية (مكتب
المهندسين الملكي) قد فصلت من هذه الكلية في أول سنة لجلوس جلالة
السلطان على كرسي الخلافة، وصارت على ما هي عليه الآن، ومدة
التعليم فيها أربع سنين، كما في بقية الأقسام.
من المدارس الخصوصية يلزم أن تميز المدارس التي تتعلق بنظارة المعارف،
وتكون هي والمدرسة الجامعة معاهد للتعليم العالي للحكومة، والمدارس
الخصوصية في الحقيقة متعلقة بالنظارات المختلفة، فالأولى منها عددها ستة:
مدرسة الطب الملكية (مكتب الطب الملكي) في إستامبول التي فصلت منذ
سنة 1882م من مدرسة الطب الشاهانية، وجعلت تابعة لنظارة المعارف العمومية،
التلامذة الذين يتخرجون من هذه المدرسة حائزين لشهادة دكتور, لهم الحق في نوال
الرتبة الثالثة، وفي التوظف بوظيفة طبيب في الدوائر البلدية 0
ثم إذا احتاجت نظارة الحربية والبحرية لأطباء آخرين غير المتخرجين من
المدارس التابعة لها وجب عليها أن تأخذ من متخرجي هذه المدرسة بالأولوية.
ثانيًا وثالثًا ورابعًا مدارس المعلمين الثلاث، وهي دار معلمي الصبيان، ومنها
يخرج معلمو المدارس الابتدائية الدنيا، ودار المعلمين الرشدية، وفيها يتخرج معلمو
المدارس الابتدائية العليا ودار المعلمات التي يتخرج منها البنات المعدات لوظيفة
التعليم.
خامسًا مدارس الألسن التي أسست بإرادة سنية أصدرتها جلالة السلطان عبد
الحميد في شهر أكتوبر سنة 1883م لتخريج مأموري ومستخدمي الباب العالي
ونظارة الخارجية الذين لم يتجاوز سنهم الخامسة والعشرين، ومدة التعليم فيها خمس
سنين يتعلم الطالب فيها نحو اللغة الفرنساوية، وفن التزام طبع الكتب والجرائد
باللغة الفرنساوية، والترجمة من التركية إلى الفرنساوية، وبالعكس، واللغات
التركية والعربية والفرنساوية وتعليم هذه الثلاث إجباري، ثم اللغات اليونانية
والأرمنية والأنكليزية والألمانية والروسية، وتعليمها اختياري.
مستخدمو مصالح الحكومة والإدارة العمومية هم الذين لهم الحق دون غيرهم
في دخول هذه المدارس، بل إن للطلبة من الأجانب أن يدخلوها أيضًا إذا دفعوا
خمسة وعشرين جنيهًا مجيديًّا في السنة، والشهادات التي تعطى من المدرسة
المذكورة تخول حاملها حق التوظف في مصالح الحكومة المختلفة، وفي أقلام
الترجمة.
سادسًا مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها جلالة السلطان عبد الحميد في سنة
1883م في كلخانة (إستامبول) بجانب المتحف الملوكي العثماني التابعة لإدارته،
وهي تحتوي على جملة أقسام أحدها لتعليم فن التصوير اللوني، والثاني لفن
التصوير المادي، والثالث لفن النقش علي المعادن والأحجار، والرابع لفن العمارة،
وإدارة هذه المدرسة هي على مثال إدارة مدرسة الفنون الجميلة في باريس من
الوجهة النظرية علي الأقل.
قد كانت المملكة العثمانية فيما سبق تزهو بفنونها، لكنها وإن كانت دائمًا قادرة
علي مباراة الغرب بآدابها وعلومها التي هي مساوية له فيها إلا أنها ليس حالها كذلك
الآن من حيث الفنون الجميلة، فقد كانت العمارة والتصوير المادي والتصوير اللوني
سقطت في هاوية التلاشي، أولئك المعامير المهرة الذين ندين لهم برفعهم القواعد من
جامع السليمانية وجامع السلطان أحمد والجامع الجديد، وغيرها التي تباهي
وتفاخر أعظم الأبنية والآثار في أوروبا، وأولئك المصورون الماديون الذين أبدعوا
بمآحيهم كل الأشكال الغريبة التي كأنها أساور حجرية، وأولئك المصورون بالألوان
الذين زينوا الأواني الصينية بالصور البديعة، وحلوا السقوف بتلك الأشكال الجميلة
التي يهتز لها الأجانب عجبًا واستحسانًا، جميعهم ذهبوا في بطون الأرض، ولم
يتركوا أثرًا من حياتهم فيمن خلفهم، قد ابتدأت تركيا من اليوم الذي رقى فيه جلالة
السلطان عبد الحميد عرش المملكة أن تتحرك من خمودها الصناعي، وتنفض عن
نفسها غبار الكسل في تعاطي الفنون، كانت جميع الآثار القديمة التي تكتشف في
الأرض العثمانية ترسل فيما سبق إلى البلاد الأجنبية لتكون زينة لمتاحف أوروبا،
وبهذه الواسطة يتحلى الآن متحف برلين بالأثر الجليل المسمى جيجانتوماخيا،
ويتحلى متحفا لوندره وباريس بآثار مدينة نينوى، أما الآن فقد انكفت أيدي السارقين
عن الحكومة العثمانية، فلم يبق في وسعهم أن يسرقوا ما هو ملك حلال لها وأصبح
متحف القسطنطينية جديرًا باسمه يبعث زائريه على الإعجاب بما يحويه من النفائس
كقبر إسكندر الأكبر الذي اكتشف في صيدا من خمس سنين، وهو قبر لا مثيل له.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/567)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طائفة من الأخبار
شرف بهذا اليوم بالعز والإجلال الساعة أربعة بعد الظهر على الطائر الميمون
للعاصمة سمو أميرنا العباس عائدًا من بور سعيد باليُمن والإقبال والمهابة والكمال ,
حيث شرف الاحتفال بإقامة تمثال دولسبس مؤسس القنال، وقد كان الاحتفال بقدومه
في محطة مصر وسائر المحطات التي مر عليها جنابه السامي بالغًا حد الغاية، ولما
حل ركابه الكريم في محطة مصر أطلق له واحد وعشرون مدفعًا، ثم سار بين
صفوف الجند والناس إلى سراي عابدين العامرة، حيث استراح هنيهة وعاد إلى
سراي القبة العامرة محفوظًا بالهيبة والجلال.
***
نهار أمس الواقع 17 نوفمبر سنة 1899م تم الاحتفال ببورسعيد بكشف الستار
عن تمثال فردينان دولسبس فاتح ترعة السويس برئاسة سمو الخديوي العزيز،
وحضور آلاف من الناس، ومعظمهم من مدعوي الفرنساويين والإنكليز الذين
حضروا من أوروبا على باخرة مخصوصة؛ لأجل الاحتفال بذلك التمثال الذي أقامته
الشركة على ضفاف الترعة ببور سعيد تذكارًا لفاتحها العظيم في أول حياته، الساقط
من حالق مجده في شيخوخته بسبب إخفاق مسعاه في ترعة بناما، وما أضاع فيها
من الأموال العظيمة دون وصوله إلى فتحها، كما فتح ترعة السويس التي ساعدته
فيها أموال مصر ورجالها، وليست أمريكا كمصر، ولا يستوي القوي والضعيف.
وكان شروعه في حفر هذه الترعة في 25 أبريل 1859م بعد استحصاله على
امتياز من المرحوم سعيد باشا خديوي مصر يومئذ مؤرخ في 5 يناير سنة 1856م
وذلك أيضًا بعد تصديق الباب العالي عليه عقب أمور ومخابرات حصلت وقتئذ بين
الباب العالي وحكومتي فرنسا وإنكلترا وخديوي مصر، وهي أمور يطول شرحها،
وكفى بأنها أفضت إلى ما كان يحذره يومئذ على مصر كثير من رجال الآستانة العلية
من احتلال دولة أجنبية في هذا القطر، وقد حصل وسقط بيد الإنكليز الذين كانوا من أشد المقاومين لحفر هذه الترعة المحذرين للدولة عاقبة الأمر، وما تغني النذر.
وقد نشرت جريدة الأهرام الغرَّاء بقلم سعادة صاحبها ملخصًا عن كيفية
الاحتفال، أحببنا نقله لحضرات القراء وهو:
بَرَحنا القاهرة الساعة الحادية عشرة على قطار خاص أعدته شركة القنال
لمدعويها، فوصلنا هذه المدينة الساعة الخامسة مساءً، وقد شهدنا جميع المحطات
مزدانة بالرياحين والرايات المصرية احتفالاً بمرور سمو الأمير المحبوب، ولو
جعلت شركة القنال السفر من مصر الساعة التاسعة، ومن بورسعيد الساعة الحادية
عشرة غدًا لكان رأيها أصوب، وقد رأينا من النظام في محطة هذا الثغر وفي سائر
المدينة ما دل على شدة اهتمام سعادة محافظها النشيط الفاضل، أما الجناب الخديوي
فقد شرف البلدة الساعة الثامنة مساءً أمس، وكان في خدمة سموه من الإسماعيلية
حضرة المحافظ الذي نال من جنابه العالي كل رعاية، وقد قوبل سموه بمظاهر
الاحتفال والاحتفاء اللذين لا مزيد عليهما، وكان ينتظر تشريفه جميع أهل المدينة
وفي مقدمتهم حضرات النظار ورؤساء شركة القنال، وكان حلوله الشريف في يخته
المحروسة، وفي الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم (السابع عشر) حضر
المدعوون مئات وألوفًا إلى مدخل البوغاز حيث أقيم تمثال المرحوم دي لسبس، وقد
ذكَّرنا هذا الموقف احتفال صاحب التمثال بفتح البوغاز من ثلاثين سنة في مثل هذا
اليوم، كما ذكَّرنا الاحتفال الذي دعا إليه إسماعيل باشا ملوك أوربا وقياصرتها
وأمرائها وعشرات الألوف من الأجانب والوطنيين، أما اليوم فأصحاب الدعوة هم
أصحاب أسهم القنال المتمولون وأرباب الأموال ملوك هذا العصر، ومما أذكرنا إياه
هذا اليوم أيضًا ما كانت عليه مصر من استقلال إدارتها وسلامة حقوقها الأهلية حين
ضافها ملوك أوربا وأمراؤها، وما وصلت إليه الآن حيث لا يضيفها الأجنبي، بل
يمتلك ناصيتها إدارة وسياسة ومالاً , وقد كان في ساحة الاحتفال نحو خمسة آلاف
نفس وحواليه مثلها من سكان المدينة، وفي مقدمة المدعوين حضرات مختار باشا
والأمراء والقناصل، وكبار الموظفين والأعيان، وعند الساعة التاسعة أطلقت
المدافع تبشيرًا بتشريف سمو الخديوي، فقابله أعضاء شركة القنال، وفي مقدمتهم
حضرة البرنس دارنبرغ الذي شكر لسموه تنازله لتشريف الحفلة، فصافحه سموه
وسائر الأعضاء، ثم تلا خطابًا مختصرًا ولكنه آية بالبلاغة، وقال فيه: إن
صاحب هذا التمثال حقق ماعدَّه غيرُه أحلامًا، ففتح البوغاز، ووصل البحرين
الأبيض والأحمر، ووسع نطاق الحضارة والتجارة، وقرب بين الشرق والغرب،
وفتح بابًا رحيبًا للمصالح العامة العظيمة، فاستحق ثناء الإنسانية والمدنية، ثم قال
أيده الله: وإني أشكر لحضرات رجال الشركة إقامة هذا التمثال، كما أشكر لهم
دعوتهم إياي لرفع الستار عنه، فصفق الحضور تصفيقًا شديدًا مكررًا ورفع الستار
بين التهليل وضجيج الاستحسان، فانبرى البرنس دارنبرج رئيس مجلس إدارة
الترعة، وأثنى على سموه لتنازله وتشريفه الحفلة جريًا بذلك على خطة أجداده
الكرام، وتكميلاً لما لهم من الأيادي البيضاء على أعظم مشروع قام به الناس في
سبيل الحضارة والاقتصاد والعلم والمدنية، وقال: إن هذا القنال الحافظ لمصالح
أوروبا والشرق سيكون أبدًا دوليًّا؛ لكثرة اشتراك المرافق الأوربية فيه، وإن مصر
هي الحارسة له، وختم خطابه المرتجل بمدح سموه وتكرار الحمد لتشريفه، فقوبل
كلامه بالتصفيق والاستحسان، وعندما انتهى من هذه الكلمات الموجزة استأنف
الكلام وألقى في نحو ثلاثة أرباع الساعة خطبة شرح فيها تاريخ المشروع، وأبان ما
كان للخديويين أجمع من الفضل فيه، وعدد مناقب دي لسبس، فقال: إنه كان ثابتًا
في رأيه، حازمًا في إنفاذه، مُجِدًّا في تحقيقه، ووصف تغلبه على جميع المصاعب
التي قامت دونه في إنكلترا وغيرها حتى اضطر إنكلترا أن تكون معضدة للقنال بعد
إتمامه بقدر ما كانت تعارضه قبل ذلك، وهنا توسع في ذكر الحوادث التي طرأت
على صاحب التمثال في مسألة بناما، وقال: إن هذا القنال نفسه سيفتتح يومًا،
وهذا اليوم قريب، فتكون لدلسبس عائدة الفضل في أحداث القنالين، وأثبت أنه لم
يخطئ بما فعله في بناما، ولكن الحوادث غلبت عزيمته، ثم امتدح شارل دي
لسبس لاشتراكه مع والده في المشروع، وكان لهذه الخطبة أحسن وقع فصفق له
كثيرًا، ثم خطب الكونت دي فوكيه العضو في المجمع العلمي والفيلسوف الشهير
خطابًا فلسفيَّا تاريخيَّا، أظهر به مجد دي لسبس كمؤرخ وجغرافي، وسياسي
واقتصادي، واستمر في خطابه نصف ساعة يتكلم ببلاغة وفصاحة تشهدان بعلمه
وبفضله، وكان آخر من تكلم في الجمع حضرة المسيو شارل دي لسبس، فشكر
سمو الخديوي لحضوره وقال: إن والده لم يكن إلا منفذ إرادة أجداده الذين مرجع
الفضل إليهم في أعظم مشروع تمّ في القرن التاسع عشر، ثم شكرلأعضاء مجلس
الشركة قيامهم بهذا الاحتفال، وأثنى على الحضور، ثم نزل عن منبر الخطابة بين
الاستحسان العام، وعند منتصف الساعة العاشرة انتهت الحفلة، فودع الخديوي
بالإجلال والتعظيم.
***
مساء الخميس الماضي ورد تلغراف من مرسليا يبشر بقيام صاحبة العفة
والعصمة دولتلو البرنسس نظله هانم كريمة المرحوم مصطفى فاضل باشا قادمة من
البلاد المغربية، حيث قابلت مولاي عبد العزيز حاكم المغرب الأقصى، ولقيت منه
كل حفاوة وإكرام لائقين بمقامها العالي.
وقد توجه بهذا اليوم للإسكندرية عزتلو عثمان بك عبد الحميد العبادي
وصحبته رجال دائرة البرنسس المشار إليها؛ لأجل استقبال ذاتها الكريمة، ولقد
علمنا أنه قد كان لتشريف المومأ إليها لبلاد المغرب حسن الوقع عند الحاكم المشار
إليه ورجال دولته، وعموم سفراء الدول الفخيمة، والحق يقال إنها لأميرة يفتخر
بها، وهي أول أميرة مسلمة شرقية زارت تلك البلاد، ولقد اتصل بنا أيضًا أن
دولتها لما وصلت إلى البلاد الأسبانية وعاينت ثمة آثار الأندلس العربية الإسلامية
تحركت عندها عواطف الأسف على تلك الأمة العظيمة، فلم تتمالك أن استرسلت في
البكاء، وأنشدت أبياتًا ترثي بها تلك الأطلال وأهليها، متى وقفنا على الأبيات
نزين بهم صفحات المجلة، إن شاء الله.
***
نشرت جريدة (أقدام) التركية الغرَّاء مقالة مسهبة عن أحوال الأفغان بإزاء
الروسية والإنكليز، وتكلمت عما وصلت إليه هذه الإمارة من القوة والاستعداد لكل
طارئ يطرأ عليها، أو مهاجم يحاول مس استقلالها، ومما قالته بهذا الصدد: إن
قوة الأفغان العسكرية قد بلغت أقصى درجات الكمال بحيث إن المعامل التي أنشأها
الأمير عبد الرحمن لعمل السلاح هناك أصبحت تصنع أجود أنواع السلاح المستعمل
عند الدول الأوربية، كمدافع كروب، ومكسيم من آخر طرز، وبنادق موزر،
ومارتين كذلك، وغير ذلك من الآلات النارية المجربة، وإن لدى هذا الأمير جيشًا
عاملاً على أحسن نظام وترتيب يبلغ عدده 500 ألف مقاتل يمكن أن يزاد وقت
الحاجة إلى مليون ونصف، وإن ذلك الأمير الجليل دائب في تعزيز المعاقل
والحصون، وتشييد القلاع على حدود بلاده مما يلي تركستان والهند
وبينما كنا نقرأ هذه الأسطر في تلك الجريدة إذ جاءنا في برقيات (روتر) أن
جريدة (التيمس) علمت من أخبار بطرسبرج أن الاستعداد الأخير في روسيا يراد
به الزحف على (هرات) بحجة القلاقل والفتن التي تتوقع عند وفاة أمير أفغانستان،
وأن الحكومة الروسية أتمت السكة الحديدية بين مرو وكشك وأقامت الحصون
والمعاقل المنيعة في كشك وكمبرلي وجعلت هناك عدة فرق من الجيش الروسي
و15 مدفعًا، وأن في كشك الآن كل ما يلزم لإيصال السكة الحديدية إلى هرات حتى
العربات اللازمة لنقل المدافع.
هذا، وظاهر أن روسيا تغتنم فرصة اشتغال إنكلترا بحرب الترنسفال في هذا
الأمر، فإنها هي تتنازع معها النفوذ في تلك البلاد، بل إن غرض روسيا من
الزحف على أفغانستان ما وراءها وهوالهند , والبلاد الأفغانية مجنّ أمام وجه الهند
بالنسبة لروسيا فلا يتسنى لها إصابتها إلا بعد سقوط المجنّ أو كسره، وما سَاسَ
إمارة أفغانستان أحدٌ كالأمير عبد الرحمن فإنه بدهائه وحزمه أمكنه أن يحفظ استقلال
بلاده وكرامتها بين روسيا وإنكلترا، وهما أقوى دول الأرض وأدهاها، وإن البلاد
التي تحفظ برجل قد تذهب بذهابه، ولقد اجتهد الأمير عبد الرحمن بالقوة الحربية
والسياسية، ولكنه قصر بترقية المعارف، ولم ينظم في بلاده حكومة شوروية تأمن
بها بعده الثورات والفتن التي هي من سجايا أهل تلك البلاد، ومَن لنا بمَن ينادي
بصوت جهوريّ بين ظهراني تلك الأمة أن أدنى مظهر من مظاهر الافتراق
واختلاف الكلمة بعد وفاة أميرها الجليل يؤدي إلى ضعف قوتها القائمة الآن باجتماع
الكلمة، ومتى ضعفت تلك القوة هان على الروس تدويخ بلاده وسلب استقلالها،
وربما أدى ذلك إلى اقتسام المملكة الأفغانية بين الدولتين الروسية والانكليزية،
فنسأل الله تعالى السلامة لهذه المملكة الأفغانية ولسائر الممالك الإسلامية، آمين.
***
أنبأتنا جرائد سورية عن وصول وفد علمي من الآستانة العلية إلى دمشق
مؤلف من تسعة أشخاص من العلماء بقصد إرسالهم إلى لواء الكرك ومعان؛ ليبثوا
بين العربان الضاربين في تلك الأنحاء مبادئ الدين، ويرشدوهم إلى سبيل السعادة،
وهي مأثرة جميلة من مآثر مولانا أمير المؤمنين - أيد الله دولته وأبد صولته -
وحبذا لو أن جلالته أصدر إرادته السنية بانتخاب هؤلاء العلماء ممن يتكلمون
بالعربية ليتمكنوا من إرشاد هؤلاء الأعراب بلسانهم ولغتهم، إذ إن الفائدة المنتظرة
من وراء هذا الفكر الجليل لا يمكن الحصول عليها إلا بواسطة أناس يتكلمون باللغة
العربية، بل ويعرفون ولو قليلاً من أحوال وأخلاق أولئك الأعراب؛ ليطمئنوا إليهم
ويسترشدوا بنصائحهم، وإنا لنعلم من أخلاق بعضهم النفور الشديد عن الاطمئنان
إلى أهل الحضر، ولو كانوا من أهل لغتهم، فكيف يكون حالهم مع من هو غريب
عنها، على أنه قد أدرك هذا الأمر دولة ناظم باشا والي سورية الهمام، ورفع
ملاحظته بشأنه إلى المرجع الأعلى، كما نقلت إلينا ذلك جريدة الثمرات الغراء،
فعسى أن تحل ملاحظته محل القبول، فلا تذهب الأموال التي ستصرف في هذا
السبيل أدراج الرياح.
وأما ما يشيعه بعضهم بشأن هذا الوفد، وأنه أرسل ممن يتكلمون بالتركية
بإيعاز مخصوص من بعض المقربين الذين جعلوا دأبهم الإيهام والتغرير لزيادة
التقرب، ونوال الزلفى من مولانا أمير المؤمنين، فلم نقف له على حقيقة، ولم يأتنا
شيء عنه من مكاتبنا في دار السعادة، وسواء صح هذا الخبر أو لم يصح، فنحن
نرفع إلى الله أكف الضراعة والابتهال أن يمد مولانا أمير المؤمنين بروح القوة في
إصلاح حال الأمة، ويسدد أعمال رجاله الكرام، ووزرائه العظام، إنه على ما
يشاء قدير.
__________(2/570)
21 رجب - 1317هـ
28 نوفمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عزاء
نقدم التعزية إلى أمير الأمراء وسيد النبلاء سيدي محمد الجلولي وزير القلم
والاستشارة في حاضرة تونس بوفاة نجله الأصيل النبيل السيد المختار تغمده الله
تعالى بالرحمة والرضوان، وألهم والده الصبر الجميل على هذا الرزء العظيم، والله
مع الصابرين 0
__________(2/592)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية
يعلم القرَّاء أن الحكومة عهدت إلى فضيلة الأستاذ الكبير، والعلَم الشهير الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية بأن يضع تقريرًا فيما يراه من طريقة إصلاح
المحاكم الشرعية؛ لما تعهد في فضيلته من كمال العلم والدراية بأحكام الشرع الشريف
وحسن الإدارة والنظام، وأن الأستاذ ابتدأ باختبار المحاكم، واكتِناه شؤونها، فطاف
على محاكم الوجه البحري وفتشها بالتدقيق حتى أحاط بها خُبرًا، وزار المحكمة
الشرعية الكبرى في العاصمة وعرف أحوالها، ثم وضع تقريره قبل الطواف على
محاكم الوجه القبلي الذي هو عازم عليه؛ لأن وضع القواعد العامة للإصلاح لا
يتوقف على الاستقراء التام، وقد جاء هذا التقرير كافيًا بالغرض منه، وافيًا بما
وضع لأجله، لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وهو مبتدأ بمقدمة في وظيفة
المحاكم الشرعية واختصاصها، وما لأعمالها من التأثير في الهيئة الاجتماعية،
والتربية القومية، وفي حالتها الآن، وبعدها كلام مفصل أحسن تفصيل عن الكتَبة
والقضاة والحُجَّاب والدفاتر، وسائر الأعمال، مبين فيه طرق الخلل مع بيان
المخرج منها، ومن أهم ما جاء فيه- أو أهمّه- بيان أن كمال الإصلاح يتوقف
على عدم التقيد بمذهب الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - في سائر الجزئيات؛
لأن اختلاف الفقهاء لا يكون رحمة إلا إذا أخذت الأمة من مجموع أقوالهم
مايوافق مصلحتها العامة، وسنبين هذا وما اشتبه منه على بعض الجرائد بالأدلة
والبراهين، وبمثل هذا كان إصلاح التقرير إسلاميًّا عامًّا لا مخصوصًا بالمحاكم،
وإننا ننشره تباعًا لما فيه من الحكم والفوائد، ولما نعلم من شغف القرَّاء بالوقوف
عليه وهو:
... ... ... ... (المقدمة)
تدخل المحاكم الشرعية بين الرجل وزوجته، والوالد وولده، والأخ وأخيه،
والوصي ومحجوره، وما من حق من حقوق القرابة القريبة والبعيدة إلا ولها سلطان
السيطرة عليه والقضاء فيه، وإنها لتنظر من ذلك في أدق الشؤون وأخفاها، ويسمع
قاضيها ما لا يُسمح لأحد سواه أن يسمعه سوى مايكون من الزوج لزوجته، أو
الزوجة لزوجها، فكما أنها هياكل عدل هي كذلك مستودع , سر وأي سر! !
فمنزلتها من نظام الأسر (العائلات) تلي منزلة المحبة وروابط القرابة، فإذا
تراخت تلك الروابط، ومرضت المروءات تعلَّق حفظ نظام البيوت بالمحاكم
الشرعية.
وللشريعة الإسلامية في ذلك دقائق لا يسهل الالتفات إليها إلا على
من أحاط علمًا بكليات أحكامها، ووقف بالبحث الصحيح على مقاصدها، ووصل إلى
أدق معانيها، وكان من العلم بلغتها في منزلة يعرفها له أربابها، ولن يكون الرجل
كذلك حتى يأخذ الشرع من أهله، وتكون تربيته على السنة الدينية الصحيحة، ثم لا
يكون القاضي حافظ نظام الأسر والبيوت بعد الإحاطة بأحكام الشرع حتى يكون
للشرع وأحكامه سلطان - أي سلطان- على نفسه.
ترى أغلب أهل الطبقة الدنيا وعددًا غير قليل من أهل الطبقتين الوسطى
والعليا قد ودَّعوا عواطف الصهر والقرابة، ولجأوا في علائقهم البيتية إلى المحاكم
الشرعية، فمن النفقة والسكنى، وراحة الزوجة من منازعة أهل الزوج، ومن مؤنة
وقيام بشؤون الأولاد وتربيتهم إلى سن معلوم، ومايلزم لذلك كله مرجعه الآن إلى
المحاكم الشرعية عند من ذكرنا، ولا يخفى أن الشعب إنما هو مؤلف من البيوت
التي تسمى عائلات، وأساس كل أمة عائلاتها، لضرورة أن الكل إنما يقوم بأجزائه،
ولما تعلقت مصالح البيوت في أدق روابطها بالمحاكم الشرعية، كما هو الواقع
اليوم تبين مقدار حاجة الأمة في صلاحها إلى صلاح هذه المحاكم وظهر أن منزلتها
من بناء الحكومة المصرية منزلة الركن الذي لو ضعف ظهر أثر ضعفه في البنية
بتمامها.
إذا ظهرت هذه المحاكم في مظهرها الديني، وسارت سيرتها الشرعية القويمة،
أدخلت أصول النظام في أصغر البيوت، فضلاً عن أعلاها، وأعادت بالعدالة
الأبوية ما فقده الناس من نظام الألفة، وقد رأينا أن الرجل يدخل المحاكم الأهلية
مخاصمًا فيخرج منها محاميًا، فأحرى بمن يقوم بين يدي قاضٍ ينطق بالعدل الإلهي
أن ينقلب وفي نفسه أثر من خشيته.
للمحاكم الشرعية- بعد ما تقدم- نظر في حقوق الميراث وأصول الأوقاف
والاستحقاق فيها وإليها وحدها الفصل في ذلك، والمخاصمات في هذه الطائفة من
الشؤون ليس عددها بقليل، وكم رأينا من قضايا أُوقف النظر فيها أمام المحاكم
الأهلية حتى يقضي الحاكم الشرعي فيما بُني عليه الحق المتنازع فيه، هذا إلى
ماعُهد إلى تلك المحاكم من تحرير العقود الرسمية في كل باب من أبواب المعاملات
ولا تزال ثقة الناس بها أشد من ثقتهم بالمحاكم المختلطة، ويعدون التسجيل في أقلام
كتاب المختلطة ضربًا من التساهل يأتيه من لا يريد بناء أمره على أساس متين.
مهما همَّ قوم بتضييق دائرة اختصاص هذه المحاكم وجدوا عقبات في طريقهم
وصعب عليهم المنال، ولئن نجحوا فلن يستطيعوا أن يضعفوا من حاجة الناس إليها،
فمن الحق أن يشتكي الناس من الاعتلال الذي عرض لها، ومن الحق أن ارتفعت
أصواتهم بطلب الإصلاح، ومن العدل، بل من الواجب الذي لا تبرأ الذمة إلا بأدائه
أن تسمع الحكومة شكوى الكافة، وأن تنهض لتخفيف آلام الشاكِين، وتدخل إلى
الإصلاح من أبوابه , وجزى الله من اهتمَّ بشأن هذه المحاكم خيرًا.
وشكوى الناس تنحصر في صعوبة المعاملة مع الكتاب، وطول الزمن على
القضايا، خصوصًا إن كانت مهمة، وخفاء طرق المرافعات حتى على العارفين
بأحكام الشريعة فضلاً عن سائر العامة وهوى القاضي أو ضعف يقظته، وشكوى
القضاة تنحصر في رداءة مقامهم والتقتير عليهم في المرتبات وسائر النفقات التي لا بُدّ
منها، والنظام يشكو من التساهل في المحافظة عليه.
إذا ذهبت إلى ديوان مديرية، وأردت أن تعرف محل المحكمة الشرعية في
ذلك الديوان، فابحث عن أردأ محل فيه تجده هو مكان المحكمة الشرعية، فإن
كانت المحكمة منفصلة عن المديرية، فقلما تجدها إلا في محل لا يسع عمالها
ودفاترها، وذلك حرصًا على تخفيف الأجرة بقدر الإمكان، ومن محاكم المراكز ما
تراه في بيت خرب , ومحل القاضي والكتبة يثور التراب من أرضه، فإذا رشوه
بالماء انقلب وحلاً، وترى فيما ترى محكمة مديرية تهدَّم بعض بنائها، وظهر وهنٌ
في سقف السلم والطريق الموصل إلى بعض مرافقها يمر الذاهب منه على جذع
نخلة غير آمن خطر السقوط.
وترى في أكبر محكمة في البلاد أن أربعة عشر كاتبًا مع مَكاتبهم من الخشب
أمامهم في محلين سعة كل منهما لا تزيد عن أربعة أمتار في ستة، فيكون الكاتب
ومكتبه في أقل من متر مربع، ومما يروى من المهانة أن أحد مأموري المراكز
طرد قاضيًا من محل محكمته، أما الفرش والأثاث فقلما تدخل محكمة- خصوصًا من
محاكم المراكز - ولا تشمئز نفسك لرثاثة الأثاث ووساخته، والكراسي التي توجد في
هذه المحاكم هي من الصنف المعروف الأخضر الذي لا يوجد له أثر في ما نعرف
في دواوين الحكومة عاليها ودانيها إلا في هذه المحاكم الشرعية، وإذا وجدت عشرة
كراسي مثلاً، فستة منها لا تخلو من كسر وانتقاض فتل.
وحدثنا بعض القضاة أنه دخل محكمة مركز فوجد فيها كرسيًّا واحدًا يجلس
عليه القاضي، ورأى الكتبة يجلسون على مقاعد من صناديق الغاز، وكيف لا
تتألم النفس ويطول الأسف عندما ترى حالة المحل الذي يستريح فيه سماحة
قاضي محكمة مصر الكبرى , من تمزق الفرش ورثاثته، وكذلك حال بقية أماكن
الكتبة والقضاة فيها، ثم يتبع هذا التقتير في جميع المواد حتى إنك لترى بعض
المضابط في محاكم المراكز قد طمست سطورها من رداءة الحبر، فإذا سألت عن ذلك
قيل لك: إن الحبر يشتريه الكتبة من مالهم الخاص عند نفاذ الحبر الذي تصرفه لهم
المديرية وإبائها صرف غيره، ولاتسل عن المكاتب ورثاثتها وحالتها من القدم وقبح
التركيب، وماعليها من طبقات الوسخ.
أليس لعمال هذه المحاكم حق أن يسقطوا من نظر أنفسهم، وأن يظنوا أنهم
ليسوا واقعين تحت نظر الحكومة وإلا لما سهل عليها تركهم على هذه الحالة، ولا
شئ يضر بعمل الإنسان مثل اعتقاده في نفسه الهوان والضعة، أليس هذا يسقط مقام
العدالة من أنفس المتقاضين، ويقلل من احترامهم لما تصدره هذه المحاكم من
الأحكام كما هو جارٍ الآن، يجب علينا أن لا ننسى أن لحالة المكان أثرًا في أنفس
الداخلين فيه، وأن الحكومات المتمدنة نفسها تغالي في إقامة هياكل العدل على قواعد
المهابة والإجلال، علمًا منها أن المَلكَ مَلِك بعرشه، وأن العرش برياشه
وفرشه.
فالواجب إذًا على الحكومة أن تُدِخل المحاكم الشرعية في كل رسم ترسمه لبناء
مسكن من مساكن الإدارة، ففي المدريات تفرض للمحاكم الشرعية موضعًا فيه من
الأماكن مايكفي للجلسات وعمل القضاة منفردين بعد الجلسات وقبلها، وللكتبة
والدفتر خانة، والمخازن ونحو ذلك مما يلزم للمحكمة، وكذلك يكون الأمر في
المراكز، وما بني بدون أن يراعى فيه ذلك يجب أن يتمم مع الإسراع بقدر الإمكان،
ثم يُنظر في تلك المحاكم جميعها، وتُوفَّى ما يليق بشأنها من حيث هي جزء من
بنية حكومة عظيمة جديرة بالاحترام في جميع شؤونها حتى يرتفع شأن الموظفين
عند أنفسهم وعند الناس، ويقتنع المتقاضون أن القضاء الشرعي ليس في نظر القوة
المنفذة بأحط شأنًا من غيره، فيخضعوا لأحكامه، وفي ذلك كرامة الحكومة ونظامها.
ويتبع الكلام في المساكن، الكلام في الكتبة؛ لأنهم أظهر عضو في جسم
المحكمة وعلاقاتهم بالمتخاصمين والمتعاقدين، وطلاب الصور وغيرهم تتقدم على
صلة الناس بالقاضي كما هو معلوم.
ليس من السهل أن يقف الإنسان في زمن قليل على سيرة كل كاتب، وغاية ما
يقال: إن الشاكين منهم أكثر من الراضين عنهم، والذي يتبين للناظر في أمرهم
هوأن أكثرهم لا يُعرف كيف تعلم صناعة الكتابة؟ ولا أين كانت تربيته؟ وليس
لانتخابهم قاعدة معروفة، وكثير منهم كانوا تلامذة عند سلفهم، ثم عين في الوظيفة
لأنه تمرن على عملها، ومنهم من يكون السبب في تعيينه فقره لاغير، ومنهم من
يكون له مزية سوى الفقر، ولكنها ليست مما يزيد في معرفته ولا حسن سيرته، أما
معرفتهم فناقصة، وقليل بينهم الكفؤ لعمله، وإنما يحفظون ألفاظًا وعبارات رديئة
التركيب، مشوشة التأليف، يظنون أنها ملك موروث، ولايمكن أن يقوم مقامها
مايؤدي معناها، والناظر في العقود والمرافعات يعرف مقدار ما عليه هؤلاء العمال
من القصورعلى تفاوت بينهم، ويكفي في هذا الباب أن أحد كبراء الحكومة لم
يستطع أن يفهم عقدًا عقده لنفسه إلا بواسطة أحد مفتشي الحقانية حيث فسره له،
وأوضح معناه، فما ظنك بحال غير المتعاقدين.
ولكنك ترى في مُرتباتهم ما يُلتمس لهم معه العذر، فالكاتب الذي يقيم ثمانيَ
وعشرين سنة أو أكثر يتردد بين مائتي قرش وثلثمائة وخمسين، وهو كاتب أول
المحكمة، ولا يطلب لنفسه معيشة أرقى من هذه، لايمكن أن تكون معارفه أرقى مما
هو عليه إلا أن أن يكون زاهدًا من الزهاد، نعم لا يوجد في مرتبات الكثير من
الكتبة ما ينتهي إلى ألف قرش إلا في محكمتي مصر والإسكندرية وفي محكمة
مصر مرتبات أرقى من ذلك للكتبة ما بين العشرة والأربعين، ولكن لا توجد قاعدة
للترقي بحيث يتناوب هذه الوظائف ذات المرتبات العالية رؤساء الكتاب في
المديريات والمحافظات، بل حفظت الوظائف لأشخاص معينين متي دخلوها خلدوا
فيها، وكذلك حال الوظائف التي تربوعلى خمسمائة قرش في المديريات
والمحافظات، أما في المراكز فقليل ما يزيد مرتب الكاتب عن ثلثمائة وخمسين
قرشًا.
وأضف إلى ذلك اختلاط أرباب الحاجات بالكتاب، وما تجده من الفوضى في
كثير من المحاكم، فصغار الكتبة لا يخضعون لرؤسائهم، وضعف القاضي في
المعارف الكتابية يعين على ذلك، وفي هذا من الخلل ما لا يخفى.
أما عدد الكتبة، فربما كان دون ما يفي بحاجات المحاكم في الجملة، وإن كان يوجد
في بعض المحاكم مايزيد عما يكفيها.
(البقية بعد)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/578)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(13) من هيلانة إلى أراسم في 28 مارس سنة -185
خرجتُ بالأمس للتنزه أنا والسيدة وارنجتون راكبتين عجلة مكشوفة، سلكت
بنا المهيع الذي يبتدئ من بنزانس ويلتف حول الخليج المسمى بخليج الجبل في شكل
نصف دائرة عظيمة كحذاء الفرس، فما أبهج ما رأيته وأجمله! ! لاتحسبن أن أول
شيء أمال ذهني ونبه فكري هو البحر الزاخر أو شواطئه المرصعة بالصخور،
أو حركة أمواجه المتلاطمة المتعاقبة في تلاشيها على رمل الطريق، كلا إن الذي
استوقف نظري هو قطعة من الصوان يعلوها بناء كالدير أو القلعة الحصينة،
يسميها الإنكليز بالجبل، وهي بارزة على يسار بطن الخليج، ولذلك نسب إليها فقيل
له خليج الجبل، أخالني رأيت هذه الضخرة بما فوقها من الأبراج الصغيرة في منام
لي، أو في وقعة من وقعات الكابوس عليّ.
سألت السيدة وارنجتون بصوت متقطع من الرعشة: مَن هذا الشبح الحجري
فأجابتني مترددة لِمَا رأته من حالتي بقولها: هذا هو جبل القديس ميكائيل عندنا،
فلما سمعت منها هذه الكلمة أحسست بأن كل مافي جسمي من الدم قد جزر عائدًا إلى
قلبي، فلَمَحت ما صرتُ إليه من الاضطراب، وعَرَضت عليّ الرجوع إلى المنزل،
فصحتُ: كلا، إنه لا بد لي من الذهاب إليه، وقد اضطررنا من أجل ذلك إلى
الطواف حول الخليج والذهاب إلى مرازيون.
لما أن صرنا حِذاء الجبل كان البحر في إبان جزره، وكانت هذه الصخرة
الصوانية على شكل شبه جزيرة لانحسار الماء عن بعض جهاتها، بعد أن كانت
جزيرة كاملة بعض ساعات النهار، سلكنا للوصول إليها شِعبًا رمليًّا موحلاً يكتنفه
من الجانبين قطع من الصخور مغطاة بالطحلب والعلعي [1] المبللة، وتيسر لنا به أن
نجتاز البحر يبسًا، فبما كان يعرض لنا من تلك القطع الصخرية كنا كأننا نمشي بين
أطلال، وكنت كلما جدّ بنا السير أزداد دهشة وارتياعًا لتشابه ذينك الجبلين
المُتَّحِدي الاسم، فإن هذه الصخرة بما فوقها من البناء، وما حولها من البحر تكاد
تكون عين التي في بلادنا، إلا أن ذاك أسعد حظًّا من هذا، فإنه لم يدنس باتخاذه
سجنًا في زمن من الأزمان.
أفضى بنا المسير بعد حين إلى سفح ذلك الجبل، فإذا حوله لفيف من مساكن
حقيرة يتألف من مجموعها قرية للصيادين والملاحين، فوقفنا تشرف علينا الصخرة
الصوانية من سُموها المُريع، ثم اقتحمناها فاضطررنا في ذلك إلى الصعود على
شعب، بل سلم نُحِتت درجاته في الصخرة، وقد انتهى الأمر بالسيدة وارنجتون إلى
أن ضاقت أنفاسها، وطفقت تلهث من شدة التعب، فدعوتها إلى الاستراحة على
كتلة من كتل صخرية كانت تعترضنا في طريقنا، ويظهر أنها خرجت من باطن
الجبل بسبب انفجار ناري، فما كان أسرع ما أجابت، وجلسنا طائفة من الزمن لا
ننبس بكلمة لما أُدهشنا من مشهد العظم والخراب، فكان البحر محدقًا بنا، وذلك
البناء القاتم الذي هو من آثار القرون الوسطى، فوقفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا
أطلال من الصخر يغطي جزءًا من عُريها بعض الأعشاب البرية، وقد رأيت على
مافي هذا المكان من المُحول زهرة زرقاء نابتة في صدوع الصخرعلى طبقة خفيفة
من بقايا الأعشاب المتعفنة، فقطعتها على ذكراك لعلها تكون بشرى السعادة، كنت
إلى هذه الساعة التي رأيت فيها جبل القديس ميكائيل مترددة في اختيار البقعة التي
اتخذها متبوأ وسكنًا، أما الآن فقد استقر لمجرد مشاهدته رأيي وزال ترددي، فكأنما
يوجد شيء من السحر في أسماء الأمكنة وأشكالها تغلب على فكري، فحملني على
ترجيح الإقامة بهذا المحل، على أنه لا بدع ولا سحر، أليس هاتان الصخرتان
اللتان تتراءيان وتتناغيان مع فصل المحيط بينهما، وهما جبلا القديس ميكائيل في
إنكلترا وفرنسا أختين متشابهتين في جميع الصفات والأوضاع، إن أول هذين
الحصنين وهو حصن الإنكليز كان حظه من كر السنين عليه التَّرك والإغفال، أما
ثانيهما هو حصننا فإن له صراخًا يصل إلى كبد السماء دالاًّ على استبشاع حالته
وأمله في الخلاص منها 0
ذهبنا في نفس ذلك اليوم لزيارة المنزل الذي أوصاني الدكتور وارنجتون
باستئجاره، وقد علمت بأن مؤسسي قرية مرازيون التي هو فيها هم اليهود الذين
كانوا يتجرون فيها بالقصدير قبل ميلاد المسيح بزمن مديد، وإني لفي شك من وجود
كثير من ذريتهم الآن في هذه القرية؛ فإنه لم يبق من دلائل وجودهم في هذه الجهات
إلا اسم واحد وهو اميرسيون قد ارتاحت نفسي له لأني تذكرت به فرنسا، تتألف
تلك القرية من جملة مساكن جديدة، على بعضها مسحة من طلاوة المدنية الإنكليزية
وهي قائمة من الخليج على شاطئه المقابل لجبل القديس ميكائيل الذي يتراءى معها
على بعد، فلها في ذلك منظر ذو بهاء، وجلال محاسنه أن هذا الخليج - وهو تلك
القطعة الجميلة من الماء التي تكتنفها الرمال المتقطعة بالصخور خصوصًا ما هو منها
جهة الشاطئ المقابل للمنازل- تكثر فيه حركات الأمواج المعتدلة التي تُسَكِّن آلام
النفس وتُخفض من برحائها.
بقي عليّ الآن أن أحدثك عن المنزل فأقول: إنه لا ينقصه شيء من المتانة
والرصانة؛ لأنه كله مبنيٌ بالصوَّان الذي يكثر في هذه الجهة دون غيره، ولما
كانت مادته شديدة الصلابة تتعاصى على النقش، اعتاد البنَّاؤون على الاكتفاء في
إعداده للبناء بترقيق قطعه، ومن أجل ذلك كانت ظهور جدران المساكن في الجملة
خشنة وغير مستوية، وطريقة البناء في الداخل تخالف كذلك طريقتنا فيه مخالفةً
عظيمة؛ لأنهم لا يقتصرون هنا على فصل البيوت بعضها عن بعض بحيث لا
تتلاصق، بل إنهم يفصلون بين الغرف أيضًا بحيث تكون المعيشة عزلة تامة.
ذلك البيت القائم على ربوة رملية قاحلة، فلذلك أخشى أن يكون معرضًا
لهبوب الرياح الشديدة الآتية من البحر، لكن الناس يؤكدون لي أن هذه الرياح التي
تهب من هذه الجهة تكون فاترة صحية في جميع فصول السنة، أما الأثاث فهو في
غاية البساطة والملاءمة لحالتي، وأكثر ما دهشت له في هذا البيت هو أني وجدت في
الطبقة العليا منه غرفتين منفصلة إحداهما عن الأخرى تمام الانفصال، ليس لهما في
ذاتهما شيء يمتازان به امتيازًا ظاهرًا لكنهما على هذه البساطة قد أحسن البنَّاء
وضعهما، فكان لهما أجمل منظر وأحسن موقع تشرق عليه الشمس، فالضوء يسبح
فيهما بلا حجاب يعترضه؛ لأن نوافذهما لما كانت تتلقاه بالتكريم تكاد تكون مجردة من
الستائر، وهذا منها نوع من الأدب والترحيب بلسان الحال، فكأنها تقول له: (تفضل
فهذا محلك لا يمنعك منه مانع) نعم إن عليها من الخارج بعض قضبان من الحديد،
انقبض قلبي لرؤيتها أول مرة، إلا أن هذا الانفعال السيئ قد زال عندما علمت بأن
هذا المحل هو حجرة لأولاد، وأن هذه القضبان لم توضع إلا لمنع ما عساه يقع من الحوادث التي تكثر عادة من الأطفال بما يلازم سنهم من التهوروالجهل بالخطر,
فهي إذن وسيلة من وسائل التحفظ، لاعلامة على الأَسْر، في إحدى هاتين الغرفتين
ينام الأطفال، وفي الأخرى يلعبون في النهار إذا كان الجوُّ باردًا، أو السماء ممطرة
وقد أكد لي الناس هنا أن هاتين الحجرتين يوجد لهما نظيرتان في كل بيت من
بيوت الإنكليز التامة المنافع والمرافق.
لا أنكر عليك أن هذا الأمر قد أثَّر في نفسي، فإن معظم الدورعندنا في باريس
تامة البيوت والغرف والمرافق اللازمة، وهي غرفة الأكل وقاعة الاستقبال،
وحجرة النوم والمكتب ومخدع الخلوة، وغيرها مما يطابق عادات الرجل الدنيوي
وأهواء المرأة المتربية، فلم يُنس فيها إلا ما يلزم لشخص واحد، ألا وهو
الطفل.
الطفل عندنا بسبب اضطراره إلى ملازمة الكبار في معيشتهم وتقضيته الأيام
والليالي في غرفة واحدة مع والدته العصبية الرقيقة المزاج، ووالده المثقل بالأعمال
لابد أن يكون ضيفًا مقلقًا لغيره، وأسيرًا كاسف البال في نفسه، فإنه لا مندوحة من
أن تمتد يده إلى الأثاث فتقطعه، وتتناول الكتب فتمزقها، والآنية الصينية فتكسرها،
ويجر عليه هذا النزق وما ينشأ عنه من الإتلاف الخفيف توبيخًا مستمرًّا، فيقرعه
والداه ويعاقبانه على نشاطه وسروره ولغطه، أعني على كونه طفلاً.
وليس هذا كل ما يلاقيه عندنا، فإنه أحيانًا قد يطرد من مسكن أبويه لضيق
المحل، فلا يجد له مأوى سوى فناء المنزل، وأنت تدري ماهي أفنية البيوت في
معظم المدن الكبيرة، إنها ليست إلا جحور ضباب، قد فهم الإنكليز مقتضيات
المعيشة المنزلية من حيث سكنى الأولاد أحسن مما فهمناها بكثير، فهم يعتبرون
المولود عندهم شخصًا مستقلاًّ، فيفردونه بحجرة قائمة بذاتها.
إلى الآن لم أصف لك شيئًا من بستان البيت على أنه هو الذي أخذت بهجته
ونضارته بلُبِّي، ليس لهذا البستان سور من البناء وإنما هو محاط بسياج من النبات
تمطره في شهر يونية على ما يقال شجيرات الرتم الشوكية [2] ذهبًا من أزهارها
العسجدية، من أجل أن تتصور جمال هذا البستان مَثِّل لنفسك نحو أكرين [3] أرضًا
تغطيها جميعًا شجيرات الورد وعنب الثعلب وغيرها من الأشجار الصغيرة، وإنما
كان مافي هذا البستان شجيرات؛ لأن أرضه رملية ومجاورة للبحر، فهي لا تصلح
للأشجار الكبيرة، ولكن قد أنشأت تتفتح بين أعشابه العطرية عيون بعض أزهاره
البنفسجية، فكيف يكون جماله بعد خمسة أو ستة أسابيع إذا كساه الربيع - بلا
حساب - ما لديه من حُلل البهاء والنضارة؟
قد استأجرت المنزل وسأسكنه في الأسبوع المقبل، أما الآن فأنا ساكنة عند
السيدة وارنجتون التي تحوطني بأُنسها الدائم وكرمها الغامر، كل ما أنا فيه من
وسائل النعيم الآن يؤلمني , وأوبخ نفسي عليه عندما أذكر سجنك وما أنت فيه من
الضيق والألم.
أنا متطلعة لأخبارك أيها الحبيب، فأرجو أن توافيني بشيء منها، فهل خفَّت
عليك معيشة السجن بسبب تغيير المحل، أو زادت ثقلاً، أسألك بالله أن تصدقني
الحديث، ولا تخفِ عني منه شيئًا، وفي الختام أُقَبِّلُك من وراء تلك البحار التي
تحول بيني وبينك، لكنها لم تفرق بين قلبينا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) العلعي: نبت يكون واحدًا وجمعًا، قضبانه دقاق عسر, رضها يتخذ منه المكانس.
(2) الرتم: شجرة ذات أزهار صفراء، أصلها من أسبانيا.
(3) الذي في الأصل (أكر) وهو مقياس سطحي قدره 4840ياردة مربعة، وأحسبه محرفًا عن الأكارة القريبة في المعنى منه؛ لأنها في عرف الفقهاء ما يعطي من الأرض للأكرة لزراعته.(2/582)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بضعة أيام في خدمة
جمعية شمس الإسلام
خرجت من القاهرة في مساء يوم الثلاثاء 10 رجب في صحبة رئيس هذه
الجمعية، في عموم الأقطار المصرية، ميممين الصعيد الطيب هواؤه، المستعدة
لكل خير أبناؤه، فعرجنا أولاً على بلدة بني سويف، وكان قد جاءها من قبل داعٍ
من قِبل الجمعية، وفيها بعض الإخوان، فعرَّف لهم الجمعية بغير صفتها وصبغها
بغير صبغتها، إما عن سوء فهم وإما عن سوء قصد - وقد طرد هذا الداعي بعد
ذلك لخيانة واعوجاج - فلم يتقبل الدعوة إلا قليل، وكان من دخل الجمعية في
زلزلة واضطراب حتى أقنعناهم بأن الجمعية دينية محضة لا غرض لها إلا التعاهد
على ترك المعاصي والمنكرات، والتعاون على البر والتقوى، ونشر العلوم
والمعارف، فانشرحت الصدور بنور الحق، وبِتنا ليلتين في هذه البلدة دخل فيهما
طائفة في الجمعية، وتأسست فيها شعبة، ثم سافرنا قاصدين بلدة ملوي فلما وافيناها
ألفينا الجم الغفير من أعضاء الجمعية فيها ينتظروننا في المحطة، وكان قد طير
الخبر إليهم في البرق من بني سويف مضيفنا الأخ الفاضل محمد أفندي خالد سكرتير
المديرية , فنزلنا في دار أقدم الإخوان دخولاً في الجمعية، وهو الشهم الهمام الشيخ
محمد مصطفى ثم في دار أنسبائه الأكارم أبناء السيد الشريف المرحوم الشيخ أحمد
عبد الفتاح، وفي ذلك اليوم - وهو يوم الجمعة- رغّب إليّ الأخ الفاضل الشيخ محمد
صالح خطيب الجامع اليوسفي أن أخطب بالناس وأصلي بهم، ورأيت من رغبة
الإخوان ما حملني على الإجابة، وعندما رقيت المنبر أنطقني الله الذي أنطق كل
شيء بكلام في وصف حالة الإسلام والمسلمين، وما يجب أن يأخذوا به الآن، لم
أكن زورته في نفسي، ولا ألمّ بفكري قبل تلك الساعة، فصادف آذانًا واعية،
وقلوبًا مستعدة، فوجلت القلوب وذرفت العيون، وكان فصل الخطاب أن نجاة
المسلمين مما هم فيه من فساد الأخلاق وسيئ الأعمال وتفرق القلوب، لا تكون إلا
بالتعاون على البر والتقوى، وأن الله تعالى قد وفق طائفة من المسلمين للقيام بهذا
التعاون، والتخلق بأخلاق الإسلام، والتأدب بآدابه، فعلى أصحاب الغيرة الملية أن
يمدوا أيديهم لمصافحتهم ومعاهدتهم على ذلك، وقد فهم القوم الإشارة، وأقبلوا على
الدخول في الجمعية أفواجًا تائبين إلى الله تعالى توبة نصوحًا.
***
(آثار الجمعية في ملوي)
كان من آثار هذه الجمعية في ملوي ترك المنكرات، حتى إن حانة من
الحانات أقفلت وغادر صاحبها الرومي البلدة لكساد الخمرة، وفيها أن المساجد
صارت تزدحم بالمصلين، وكان لا يوجد فيها - لا سيما في صلاة الفجر - إلا نفر
قليل، وإنه منذ انتشرت الجمعية هناك قلّ التعدي والسطو، وأخبرنا الفاضل عزتلو
أبو زيد بك عمدة البندر أنه منذ ثلاثة أشهر لم يشكُ أحد من أعضاء الجمعية أحدًا،
ولم يشكُ منهم أحد، وهم يعدون بالمئين، ومثل هذا لم يعهد من قبل فيها، ومن
أحسن آثارها أن المسلمين صاروا أقرب إلى الألفة مع مجاوريهم من المخالفين لهم
في الدين، وأكثر ميلاً إلى مجاملتهم، وقد سرني وسر سعادة رئيس الجمعية هذا
منهم، ولمّا اجتمعت الجمعية العمومية خطبتهم فيها خطبة مطولة، كان جزء كبير
منها في الحث على مجاملة جيرانهم المخالفين لهم في الدين وبيان أن هذا من
موضوع الجمعية؛ لأنها دينية تهذيبية، والدين يحرم إيذاء الذمي والمعاهد، حتى
ورد أن النبي نفسه صلى الله عليه وسلم يكون خصم من آذاه، وسردت لهم بعض
الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، كقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) وكقوله عليه الصلاة والسلام: إذا ظلم أهل الذمة أديل للعدو, أي
ترجع له الدولة، وكقول الفقهاء: يجب إطعام الذمي المضطر وتجهيزه ودفنه إذا
مات ولم يكن له مال ولا كافل إلخ إلخ، ويستحب في سائر الأوقات.
وأفضل آثارها هناك الشروع في افتتاح مدرسة تُعلَّم فيها جميع العلوم
والفنون واللغة الانكليزية مع التربية علمًا وعملاً على مبادئ الدين، وقد حصل
الاكتتاب بحضور سعادة الرئيس، فمن الإخوان من اكتتب بأربعين جنيهًا كالسيد
الشريف الشيخ هاشم عبد الفتاح والسخي الجواد الشيخ محمد سليمان، ومنهم من
اكتتب بخمسة وعشرين جنيهًا وهم كثيرون، وفي مقدمتهم السري الأمثل
إسماعيل بك عبد الله، ومنهم من اكتتب بما دون ذلك بحسب درجتهم في الثروة،
والمرجو من همة أولئك الكرام أن يكون افتتاح المدرسة قريبًا.
وفي مساء السبت ركبنا الذهبية في ترعة الإبراهمية قاصدين ديروط لزيارة
إخواننا، وتأسيس لجنة إدارة لشعبة الجمعية فيها، فعرجنا في الطريق على قرية
صغيرة بتنا فيها عند بعض إخواننا، وجئنا ديروط مساء يوم الأحد فتلقانا أهلها
بالحفاوة، واجتمع علينا في الليل وجهاء البلدة وكرامها من رجال الحكومة وغيرهم،
وطلبوا أن أبين لهم موضوع الجمعية ووجه الحاجة إليها، وشروط الانتظام فيها
بخطاب مسهب، ففعلت وأطلت في بيان عدم تعرض الجمعية للسياسة بقسميها
(الداخلية والخارجية) وعنايتها في بث روح الوفاق والائتلاف بين أرباب المِلل
المختلفة في الوطن؛ لأن الشريعة التي هي أساس الجمعية تأمر ببر المخالف في
الدين ومعاملته بالعدل ما لم يكن محاربًا ومقاتلاً لنا في الدين؛ ولأن نجاح الوطن لا
يتم إلا باتفاق جميع أبنائه على ترقية شأنه واعتقاد أن العدالة الإلهية ساوت بينهم في
الحقوق، وصرحتُ لهم بأن من دخل الجمعية تائبًا من ذنوبه، ثم عُلِم أنه يقترف
كبيرة من الكبائر كالسُكْر والربا، وشهادة الزور والخيانة، والتعدي على حقوق
الناس، فإنه يطرد من الجمعية طردًا لا فرق بين كبير وصغير؛ لأن الحق أعلى من
كل أحد، فَسُرَّ القوم بموضوع الجمعية وأقبلوا عليها أفرادًا وأوزاعًا، وأسس
الرئيس العام لجنة الإدارة وأعطاها الدفاتر وأوراق الدعوة والطلب، ثم قفلنا في يوم
الثلاثاء إلى ملوي، وكان معنا جماعة من أهلها، فأقمنا فيها يومًا وليلة وسافرنا منها
ليلة الخميس، فعرجنا على مدينة المنيا فبتنا ليلتنا وأقمنا نصف نهار أسَّسْنَا فيه
شعبة صغيرة نرجو أن تكبر سريعًا بهمة رئيسها العالم العامل وأعضائها الأفاضل،
ثم قفلنا راجعين إلى مصر وعرجنا في الطريق على بني سويف، فمكثنا فيها نحو
ساعتين أقتبس فيهما أعضاء الإدارة من سعادة الرئيس التعاليم الإدارية، وجئنا إلى
مصر بسلام.
فعُلم من هذه الخلاصة الموجزة أن استعداد أهل الصعيد لقبول الخير
والتمسك بالحق أقوى من استعداد أهل مصر الذين أفسد مزاج الدهاء منهم التفرنج
والتوغل في الترف، وأن المسلمين لا يرجى لهم خير إلا من الأخذ بآداب دينهم
وفضائله، فلو أن أفصح الخطباء المتمدنين أقام عدة سنين يحث المسلمين على مجاملة
جيرانهم المخالفين لهم في الدين، والائتلاف معهم باسم المدنية، وترك السُكْر
والفحش محافظة على الصحة مثلاً، لما أمكن أن يكون له من الأثر بعض
ما كان لهذه الجمعية الشريفة في مدة قليلة.
زرنا مدرسة زعزوع بك في بني سويف، فرأينا فيها من النظام والاجتهاد
وحسن التعليم ما أنطق ألسنتنا بالثناء على حضرة ناظرها الفاضل وجميع معلميها،
ونخص بالذكر العناية بتعليم الدين، لا سيما تلقين التلامذة شيئًا من معاني القرآن
الشريف بالإجمال والاختصار الذي تقتضيه درجة عقولهم ومعارفهم , إلا أننا
انتقدنا على الناظر عدم إلزامه إياهم بالصلاة؛ لأن العلم قلما يفيد بغير التربية العملية
فاعتذر بضيق المحل ووعد بأنه يهيئ الأسباب لذلك في أقرب وقت، وبمثل هذا
اعتذر، ووعد الفاضل الهمام محمد أفندي عارف مؤسس مدرسة ديروط، ولنا الثقة
بأنهما يفيان بوعدهما، لا سيما وقد توفقا للدخول في الجمعية مع معلمي المدرستين،
ولولا ضيق المقام لأسهبنا في الكلام على هذه الرحلة المباركة.
__________(2/589)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح غلط
أرسلت من الصعيد أصول (المنار) إلى المطبعة، ولما جاء يوم الجمعة ولم
ترسل إليّ لإصلاحها خشيت أن يتأخر (المنار) فكتبت إلى صديقي الفاضل صاحب
(المؤيد) أن يعتذر عن تأخير العدد على لساني ففعل , ولكن المدير كان تدارك الأمر
وأصدر (المنار) ولكنه غير معتنى بتصحيحه، ومما لابد من التنبيه عليه أغلاط
جاءت في درس التوحيد، وهي في السطر الثاني من الجملة 21 الواقعة في صفحة
564 كلمة (لأنه) سقطت منها (نه) وبقيت (لأ) والعبارة هكذا (لأنه إذا كان)
إلخ، وفي النبذة 22 من هذه الصفحة أيضًا كلمة (بعدم) سقطت منها الميم، والخطأ
فيها واضح، وفي السطر الرابع من صفحة 565 كلمة (الانتقاد) وصوابها
(الانتفاء) .
__________(2/592)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتهاء دولة المهدوية
زحف السرونجت باشا في 22 نوفمبر إلى (نفيسه) حيث علم أن أحمد
الفضيل أحد قواد التعايشي معسكر فيها، فألفاها خالية، فتقدم منها إلى (أبوعادل)
مسيرة أربعة أميال، وهناك التقى الجمعان، وابتدأ الحرب الفرسان المصرية بقيادة
ماهون بك وأبلى الدراويش بلاءً حسنًا، وكانوا نحو 2500، وانتهت المعركة
بفرار الدراويش وقتل أربعمائة منهم.
وفي هذا النهار وردت أخبار البرقية من سعادة السردار إلى جناب اللورد
كرومر ملخصها أن ونجت باشا التقى بالتعايشي في (أم دبريكات) ، فحملت الزحوف
المصرية حملة واحدة، فثبت التعايشي وأمراؤه حتى قتل هو ومعظمهم، وأُسِر
الباقون، وفرَّ عثمان دقنه الشهير الروغان.
__________(2/592)
28 رجب - 1317هـ
2 ديسمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية
(الكتبة)
أرى أولاً أنه يجب وضع قاعدة لانتخاب الكتاب وتعيينهم وأن يشترط في
تعيينهم معرفة اللغة العربية علمًا وعملاً وشيء من فقه الشريعة الإسلامية، فليس
من المعقول أن محكمة تحافظ على لفظ (هذا) و (هؤلاء) ولا تحافظ على وجود
أساليب الكلام التي يتوقف عليها فهم المعاني، وهذا الشرط إن لم يمكن تحقيقه الآن
في كثير من الناس، لكن يمكن تحديد أجل له وتوضع قاعدة الامتحان من اليوم
وينتخب الأعرف فالأعرف، وبعد الأجل الذي يضرب وغايته أربع سنوات لا يقبل
في وظيفة الكتابة بالمحاكم الشرعية إلا من نُظر بالامتحان معرفته للغة العربية
خصوصًا في التحريرالصحيح والحساب، وشيء من نظام المحاكم الشرعية وطرق
التحرير فيها، ويمكن أن يزاد على ما اعتبر في شهادة الأهلية على حساب نظام
الجامع الأزهر أن يمتحن الطالب في الإنشاء، والكتابة وحسن الخط، والحساب،
وآداب الدين ونظام المحاكم الشرعية وبذلك تكون شهادة الأهلية كافية وحدها
لانتخاب حاملها كاتبًا في المحاكم الشرعية بدون امتحان ويكون الجامع الأزهر أو
ما يلحق به منبتًا لخدمة الشريعة كتبة وقضاة، وهو أفضل مايرجى من هذا المكان
الشريف.
ثم توضع قاعدة لترقيهم ينتقل الأكفاء خلف الأكفاء لا يثب أدناها فوق
رءوس أعلاها ويُرتبون على حسب كفاءتهم على وجه لا يُنقض إلا بأسباب معروفة
ثم يوضع لهم نظام كالمعروف (بالكادر) ويفرض لهم زيادة في المرتبات، وتحدد
لهم درجات لها مبدأ ووسط ونهاية، كما هو الجاري في جميع وظائف الحكومة من
هذا القبيل، وهو أمر يستدعي أن تسخو نظارة المالية بشيء من إيراد هذه المحاكم
لها , فإن كان ذلك لا يمكن في العام القائم، فلتوضع القاعدة وليكن تنفيذها بالتدريج
حسبما يستطاع إلى أن يتم الأمر على وجهه، ثم تصنع في محل الكتاب نافذة يخاطبهم
منها طالب الصورة أو الإعلان أو الإعلام الشرعي، ويناوله الكاتب منها ما يريده
على ما هو معروف في قلم محضري المحاكم الأهلية حتى يقل الاختلاط بين الناس
وبين الكتاب، أما العقود والإشهادات فيحضر المتعاقدان فيها أمام القاضي ويأخذ
الكاتب منهما جميع ما يحتاج إليه من أسماء وألقاب ومحل الإقامة وحدود وشهود ونحو
ذلك، ثم ينصرف الكاتب ويحرر العقد ويقيده في مضبطته بدون حضور المتعاقدين،
ثم يأتي المتعاقدون ويتلى العقد عليهم أمام القاضي، فيوقعون عليه ثم يضرب لهم أَجَلاً
لأخذ الصورة، وهذا لا عسر فيه ولا مانع منه إلا كسل القاضي وتحكم الكاتب.
وعلى النظارة أيضًا أن تحدد علاقة الكتاب برئيسهم وهو الباشكاتب أو
الكاتب الأول، وأن تحدد وظيفة رئيس الكتاب وما يناط به من العمل، وما
يدخل في عهدته من المواد حتى يعرف كل عمله فيُسأل عنه، أما تخصيص أفراد
الكتاب أنواع الأعمال فذلك يكون إلى الباشكاتب باتحاده مع القاضي، ثم ينظر فيه كل
سنة وينقل الكاتب من عمل إلى عمل حسب استعداده حتى لا يشهر كاتب بين الناس ...
بأنه صاحب كذا دون سواه.
وهنا أذكر أمراً لاحظته في توطن الكتبة وهو أنه في بعض محاكم المراكز
يتفق أن الكاتب يسكن في بلدته التي فيها زراعته، وربما يغيب عن المحكمة في
أوقات العمل أو يغيب اليوم , كله كما وجدناه في محكمتي زفتى وميت غمر , فيجب
أن يراعى ذلك.
(القضاة)
قبل أن أقول كلمة في ما عليه الأغلب من هؤلاء القضاة أقول: ليست المحاكم
الشرعية وحدها هي التي ابتليت بضم الضعفاء وغير الأكفاء في جوانبها، فكثير من
القضاة في المحاكم الأهلية لا يزيدون في معارفهم عن من كثر الكلام فيهم من قضاة
المحاكم الشرعية وما يُتَحَدَّث به من الأحكام المخالفة للشريعة صادرًا عن هذه
المحاكم يُتَحًّدث به مخالفًا للقانون والعقل صادرًا من محكمة أهلية أو مختلطة , وقد
رأينا ذلك وشاهدناه، والحكومة تعرف كثيرًا منه، والكمال غاية يسار إليها، ولكن
يحول دونها ضعف الإنسان وعجزه.
وجدت كثيرًا من قضاة المحاكم الشرعية خصوصًا المراكز لا تسر معارفهم
الشرعية والنظامية ولا يرضى العدل سيرهم في أعمالهم، ولذلك وجدت الحاذق منهم
يحوِّل جميع القضايا تقريبًا إلى محاضر صلح تجنبًا للحُكم، ولا يلبث المتصالحان
بين يديه أن يختلفا لأن الصلح غير حقيقي، ووجدت فيما وجدت من الأحكام خطأً
كثيرًا، وأكثر ما يعولون في تطبيق اللوائح على الكتبة ومنزلتهم من العلم ما وصفنا
في الباب السابق.
تكرر من نظارة الحقانية وضع قواعد لانتخاب القضاة، وكان فيها أن
يمتحن الطالبون في النظارة، ثم اكْتُفِيَ بما وُضِعَ في اللائحة الجديدة، ولجنة
الانتخاب التي نيط بها تعيين القضاة وترقيتهم ليس لها إلا تخير الأشخاص من
بين حاملي شهادة العالمية أو القضاة أو المفتين، ولا بحث لها في سيرهم الشخصية
وقت الانتخاب كما عرفته من رواية الأجلاء من أعضائها.
وأرى من الواجب أن تبقى شهادة العالمية معتبرة كما هي في اللائحة، لكن
يجب أن يزاد على ما تقرر في نيل هذه الشهادة أن يتلقى الطالب كتابًا من كتب
الفقه على الطريقة العملية في أبواب القضاء والمعاملات، وأن يمتحن في الفقه
بهذا الاعتبار، وأن تكون له معرفة بالحساب، وبالكتابة والتحرير , وبنظام
المحاكم الشرعية وعلم كافٍ بالآداب الدينية، وشيء من التاريخ وتقويم البلدان
مما يزيد الرجل بصيرة في الناس وأحوالهم وأن يكون من حسن الخط بحيث يمكن
قراءة ما يكتبه، وهذا أمر ميسور متى فرض ذلك على كل من يطلب وظائف القضاة
والإفتاء من طلبة الجامع الأزهر وما ألحق به؛ فإن لم يكن في هذا اليوم فليضرب له
أجل أربع سنوات لا يقبل بعده في هذه الوظائف إلا من عرف تحصيله لهذه
المعارف، ثم يُبحث من مشيخة الأزهر ومجلس إدارته إن كان لم يوظف في
جهة أخرى، ويسأل من شيخ علماء جهته إن كان من طلبة غير الجامع الأزهر
ولكنه داخل تحت نظامه، وبعد هذا وذلك يعين ويرجى منه الخير لعمله - إن شاء الله - أما اليوم فيقدم من هو على شيء من هذه المعارف على غيره.
وإلا فالعمل جارٍ على أن يعين أحد المشايخ، وقد كان على بعد تام من
العالم وشؤونه أيام إقامته في الجامع أو المدرسة، ولا يعرف من القضاء إلا ما قرأه
في عبارات كتب الفقه، ولم يشهد مجلسًا من مجالسه، ولم يعرف شيئًا عن
نظامه الشرعي المعمول به في بلده، ولا يمكنه تحرير رقيم حسن الأسلوب
مفهوم المضمون في أدنى شؤونه، وربما لا يعرف أرقام الأعداد الحسابية، ثم يفوض
إليه الحكم وهو على هذه الحالة، فيلتجئ إلى الكاتب الذي يجده في المحكمة، فإن
كان ذكيًّا أمكنه أن يتعلم في سنة أو ما يزيد عليها، وإن كان دون ذلك بقي تلميذًا
للكاتب إلى ما شاء الله، فمن كانت بدايته أن يكون تلميذًا للكاتب فكيف تكون نهايته؟
وإني لا أنكر أن بعض القضاة صار بعد التمرن من أحسن رجال القضاء، ولكن لا
يصح أن يكون الآحاد قواعد يُبنى عليها العمل لمن يريد إحكامه.
وإني أحبُّ أن أصرح بأمر ربما يغضب له بعض أهل الأثرة من أهل العلم
الحنفية وهو أننا مسلمون، وهيهات أن يتيسير لنا بعد فشو ما فشا من البدع في
الدين أن نحافظ على قوام الإسلام من حيث هو، وليس الزمن زمن تعصب
لمذهب دون مذهب، ومن دَرَسَ فقه الشافعية أو المالكية لا يعسر عليه فهم فقه أبي
حنيفة , فإن الأصول متقاربة والاختلاف في الفروع مذكور في أغلب كتب الفريقين،
وحصر التعيين في الحنفية يضيق دائرة الانتخاب ويلجئ إلى تعيين الضعفاء في
العلم والعزيمة، فلِمَ لا يُطلق الانتخاب من هذا القيد فتتسع دائرته وينتفع من
أهل الاستقامة والدراية عدد ليس بقليل ممن قضى في تحصيل فقه الشافعي أو مالك
أو ابن حنبل اثنتي عشرة سنة فأكثر إلى عشرين أو ثلاثين وجُلُّ ما حصله إنما هو في
المعاملات؟ أرجو أن يصادف ما أتمناه قبولاً لدى العلماء والحكومة فنجد العدد
الكافي من الأكفاء , لكن إذا توفرت هذه الشرائط في القاضي وكان من المعارف على
ما ذكرنا أفلا يمكنه أن يحصل معيشته بأسعد مما يناله في خدمة المحاكم الشرعية؟
وهل نجد عددًا كثيرًا يقضي حياته بمرتب ستمائة قرش وإذا ترقي فلن يصل إلي
ألفي قرش إلا بعد أن يفوق الأقران ويجوز كثيرًا من العقبات أما ما زاد من المرتبات
على ذلك فهو وظيفة واحدة بثلاثة آلاف قرش وأخرى بأربعة آلاف قرش في محكمة
الإسكندرية ثم تأتي وظائف المحكمة العليا والواصلون إلى هذه المراكز قليلون جدًّا
كما لا يخفى.
فأرى أن الحكومة التى تسعى إلى تكميل المحاكم الشرعية وتقويم حالها لا بد من
أن تزيد في المرتبات ما يفي بحاجة القضاة على حسب درجاتهم وأن تضع نظامًا
لترقيهم في الدرجات يكفل نيل كل منهم حقه على نحو ما هو معروف في القضاء
الأهلي ولا أسال الحكومة أن تجعل المقادير كالمقادير ولكن ألح في مراعاة النسبة
بين العمل ومكانة الشخص وبين مرتبه , وبهذا يضمن النجاح إن شاء الله وأرجو
أن يكون ذلك من بدايات أعمال لجنة الإصلاح فإنه من الغريب في حكومة
يكون رئيس حجاب المحكمة فيها بمرتب أحد عشر جنيهًا ووكيله بثمانية وأفراد
الحجاب بستة وفرّاشو المحكمة بما بين ثلاثة ونصف إلى ثمانية وأن يكون المفتي
وهو أحد أعضاء المحكمة بسبعة أي أقل من رئيس الفراشين في محكمة من
المحاكم في القطر المصري ثم تطالبه بالمعارف الواسعة والاستقامة الكاملة وجمهور
القضاة فيها يترددون بين الستة والثمانية. وليلاحظ أني أطلب التدريج في تنفيذ
ما يتقرر بحسب ما تسمح به ميزانية الحكومة ولا أكلف الأمة بغير المستطاع.
أما عدد القضاة والمفتين فأراه زائدًا عن قدر الكفاية في كثير من المحاكم
وأرى تقليل عددهم وإحالة من يُستغنى عنه على من يبقى وأن يزاد في مرتبات
الباقين ما يتوفر من الاستغناء عمن لا عمل لهم ولا يرجى منهم أن يعملوا وبعد
الاطلاع على جميع أعمال المحاكم في الوجة القبلي والبحري بما يرد منها من
جداول الأعمال يمكنني أن أضع لذلك مشروعًا وافيًا إن شاء الله.
بقيت أمور لا بد من التنبيه عليها منها عدم الاستقلال في الرأي عند القضاة
وأهم سبب قريب له هو اشتداد علاقتهم بالنظارة في الشؤون القضائية فتراهم يحسون
أنهم مقيدون برأي النظارة في أدنى الشؤون فضلاً عن أعلاها ويكفي أن أذكر أن
محكمة رأت عدم اختصاصها بالنظر في قضية هي من أَولى ما تنظر فيه قياسًا على
رأي النظارة في مسألة أخرى تشبهها , ومن غرائب التضييق على القاضي في غير
الأمور القضائية أن لا يؤذن له بصرف قرش في ثمن مكنسة إلا بعد استئذان النظارة
واذا انتقل لا يصرف له مصاريف انتقاله إلا بعد ورود إذن من النظارة وهذا التشديد
وإن كان في أمر غير قضائي إلا أنه يوجِد في النفس شعور الذلة والعبودية وضعف
الثقة وهو أخبث شعور يظهر أثره في عمل الموظف وأرى أن تكون علاقة القضاة
بواسطة قلم التفتيش الذي يرأسه المفتي على ما سنبينه , ومنها أن كثيرًا من
القضاة يتحاشى سؤال الخصم في ما يهم السؤال عنه خشية التهمة ولكنه يستبيح
لنفسه أن ينصح أحد الخصوم بأن يطلب شطب القضية , وإلا حكم ببطلانها أو أن
يقدم القضية بطريقة أخرى غير التي عرضها أو بأن يستأنف قرارًا صادرًا من
قاضٍ لأن محكمة الدفع التي هو عضو منها تحكم ببطلانه ونحو ذلك مع أن هذا
ممنوع شرعًا ونظامًا لأنه إعانة لأحد الخصمين على الآخر فأرى أن يُشدد على أمثال
هؤلاء القضاة في حظر أمثال هذه المعونات وتنقية المحاكم ممن لا ينجح فيه الإنذار
والإعذار.
ثم لا يخفى أن أقوى ما يحفظ على القاضي استقامته واستقلاله في الرأي هو
أمنه على وظيفته ولهذا أرى أن توضع قاعدة لعزل القضاة بحيث لا يعزل القاضي
إلا بعجزٍ عن العمل يظهر ظهورًا بيِّنًا , أو تعمُّدٍ لمخالفة العدل والشرع
أو النظام لغاية غير محمودة يثبت عليه ثبوتًا كافيًا في إيقاع العقوبة به اللهم إلا إذا
استغني عنه بأفضل منه عند تنقيص العدد إذا استقر الرأي عليه.
(تابع ويتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/593)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(14) من أراسم إلى هيلانة في 8 أبريل سنة - 185
تلقيت مكتوبك أيتها العزيزة هيلانة، فذهب به روعي، وثابت إليّ سكينتي
واطمأن به قلبي عليك كثيرًا لشفيفه لي عما فيك من الإقدام والسلطان على نفسك ,
فأنت حقًّا أشرف صاحبة عرفتها في حياتي، قدر عليّ السجن وعليك النفي،
فاحتملتِ نصيبك من المقدور شريفة النفس، عالية الهمة.
إن نصيحة صديقنا الدكتور وارنجتون إليك بسكنى القرى صادرة عن حكمة
وسداد، فإن الإقامة بالأرياف أولى لك الآن من السكنى في المدن؛ لكثرة ما في هذه
من الصخب والشغب؛ ولأن الاعتكاف والرجوع إلى المعيشة الفطرية هما اللذان
يتيسر لك بهما - ولا شك - استجماع قواك بعد ما لاقيته من تلك الصدمات النفسية
التي أخشى أن تكون زعزعت صحتك فأوهنتها.
اعلمي أن من المفروض عليك أن تكوني صحيحة الجسم، سليمة من الأدواء
لأنك مسئولة من الآن عن الوديعة التي استودعك الله إياها، ولا تستغربي مني
مخاطبتي إياك باصطلاح العلماء بوظائف الأعضاء، فإني ماتعلمت الطب عبثًا بل
تعلمته للانتفاع به.
كل كائن دخل في بداية الحياة عرضة للمرض والهلاك، ولذلك كان للجنين
أمراض حقيقية، فما هي أسباب هذه الأمراض والعلل الخفية؟ لا شك أن بعضها
يعجز العلم عن إدراك كنهه، ولكن لنا كل الحق في أن نعتقد أن للمرأة دخلاً في
بعض ما يولد به الطفل من التشوه، لا أخالك نسيت تلك السيدة د … التي فتنت
القلوب ببديع حسنها، فإنها لمَّا أصابها هوس المرقص، وبعثها على أن تقضي
فصل الشتاء كله رقصًا في قاعات باريس بل أداها إلى الاستمرار على ذلك حتى في
ساعة الوضع - قد وضعت بنتًا فيها شيء من الجمال إلا أنها حدباء.
إذا كان لأعمال المرأة تأثير في الجنين بما وصفنا، فهل يمكننا من جهة أخرى
أن نقف على علاقة بين انفعالاتها النفسية وبين أخلاق ذلك الجنين الذي يحيا بحياتها ,
ويشمله شخصها وتضمه أحشاؤها؟ نعم فقد كان الحكيم هوب [1] يعلل ما فيه من
خلق الخفر بما لاقته أمه من الأهوال أثناء حملها به حينما كانت العمارة الأسبانية
المسماة (أرماد) الشهيرة تهدد إنكلترا وتطوف حول سواحلها، وكان ما يتخيله
أهلها من صورة إغارة الأعداء عليهم يلقي الرعب في قلوبهم.
إنك قد طالعت وقائع (ينجل) فما أشد ما تجدينه فيها من مسكنة
الملك يعقوب الثاني المذكور فيها، فلشد ما كانت ترتعد فرائصه، ويصفرُّ لونه عند رؤيته السيفَ مجردًا من قرابه ألا إن جبن ذلك الملك يضحك الثكلى، على أنه قد
يجب أن يحرك في الإنسان عاطفة أخرى , إذا صح أن ضعفه هذا ناتج من مشاهد
المصائب والرزايا التي كانت تحيط بأمه مريم استوارت في أثناء حملها به.
إلى أي درجة يتأثر الجنين بتزعزع الشجرة العصبية التي تظله في بطن أمه؟
هذا أمر يصعب الحكم به قطعًا في حالة العلم الحاضرة، ويكفي وجود الشك في
تأثره من أجل إلزام أمه باتقاء أسباب الانفعالات الشديدة، والنظر إلى الأماكن
المشئومة، والابتعاد عن المتاعب وعما يجره الإخلاص في الولاء من الشدائد
والمحن.
المرأة هي قالب للنوع الإنساني يفرغ فيه، فيتشكل بشكله إلى حد محدود،
فيجب عليها لهذه الصفة رعاية صحتها والمحافظة عليها، فيلزمها في الحمل أن
تكون مستريحة الجسم والفكر، مستجمعة القوى، ولكن يندر أن يوجد بين ربات
الجمال من النساء من تصبر فيما جرى العرف بتسميته (الدنيا الكبرى) على ترك
اللذائذ ومجامع الأفراح ومراسح التمثيل لتنال شرف الإتيان بأولاد حسان، بل إن
من خسارة الصفقة لديهن أن يجدن أنفسهن عاجزات عن استئجار غيرهن لتأدية
وظائف الحبل كما يستأجرنهن للرضاعة، فإنهن لو وجدن لذلك سبيلاً لاستأجرت
المثريات منهن - من عهد بعيد - بطون نساء الطبقة السفلى لحمل أجنتهن.
أما هؤلاء، فإنهن لكدهن في وسائل المعيشة لا يجدن لهن من الزمن مايهتممن
فيه كثيرًا بأمر ذريتهن، فقد رأيت بعضهن، وقد أثقلن حتى كدن يشارفن الوضع
تلجئهن ضرورات المعيشة إلى غسل الملابس في نهر السين زمن الشتاء، فكن
يغمسن أذرعتهن في مائه المثلوج , أو تضطرهن إلى دفع عجلات محملة لتمشيتها،
أو إلى حمل أثقال باهظة يرتاع لها الأشداء من حمالي الأسواق، بهذا تعلمين ماجرَّ
علينا ما في أخلاقنا من الأثرة وحب الاختصاص من رداءة النسل، كل ما يضعف
المرأة التي هي قرينة الرجل وصاحبته يضعف الذرية ويحط من شرف الجنس،
فإذا أراد المجتمع الإنساني أن يضمن لنفسه الحصول على أولاد حسان الخلق
يكونون في المستقبل رجالاً أشدّاء، فلا يتسنى له ذلك إلا بتحري العدل في تقسيم
ثمرات العمل، وبأن يعرف للمرأة ما تستحقه من الاحترام والإجلال. اهـ
(15) من أراسم إلى هيلانة في 10 أبريل سنة - 185
ليست مكاتيبي إليك كغيرها مما يكتب الناس بعضهم إلى بعض، وإنما هي
أحاديث مسجون يناجي بها في عزلته أعظم شقيقة لنفسه وأحسن قسيمة لروحه،
لا بد أن يكون قد سبق إلى ذهنك ما أقصده منها ففطنت إليه , إني أريد أن
أعمل بقدر استطاعتي، وأنا في مطارح النوى لتحصيل السعادة لذلك الذي بشّرنا الله
به، فإنه ليعرض لفكري أن هذا الطفل قد لا يعرفني ولا يراني أبدًا، وقد يتهمني يومًا
ما بأني أهملت ما فرضه الله عليَّ من الواجبات التي تحفظ حقوقه بالقيام بها،
فيحرج لذلك صدري وينقبض قلبي، ولكن هل أكون مستحقًّا لهذا اللوم إذا كنت على
ما أنا فيه من العجز عن حياطته بضروب الرعاية وصنوف الملاطفة أدفع له دَين
الأبوية من نقد آخر؟
إني بمكاتيبى إليك سأؤدي على بعدي من ولدي ما فرض له عليّ من حقوق
التربية لإعواز غيرها من الطرق المثلى لأداء هذا الفرض، فقد درست شيئًا من
أحوال الإنسان في تطوافي حول الأرض بوظيفة طبيب بحري، ورأيته في أقاليمها
المختلفة، وفي أعمار مجتمعاته المتباينة، ولذلك أرى أن في قدرتي أن أستنتج من
أفكاري ومما تحفظه ذاكرتي من الحوادث طريقة للتربية مؤسسة على نواميس
الكون وتاريخ دقائقه، فعلينا الآن أن نتبادل الأفكار في ذلك، فسأكتب إليك بما يبدو
لي، وتكتبين إليّ بما يعنّ لك حتى تتحد روحي وروحك في السهر على مهد هذا
الولد العزيز رعاية له وعناية بشأنه، سأراه في منامي يشب وينمو، وأنت
ستحدثيني عنة في مكاتيبك، وستخبرينه بوجودي، ولا موجب لاهتمامك بمستقبله،
فإن تربية الطفل الأولى هي من خصائص والدته، وأنت أهل للقيام بها وحدك بما
فيك من يقظة القلب وتوقد الذكاء، وسننظر بعد فيما يلزم من أمور التربية المستقبلة.
لكنا يجب علينا أن نعين الغاية التي يلزمنا أن نرمي إليها في مساعينا، إني لا
أعلم مطلقًا بوجود قالب يفرغ فيه الناس فيخرجون من النابغين، ولئن كان فليس
هو للتربية قطعًا، بل إنه يكون بين يدي الخالق سبحانه يهيئ به من يشاء لما يشاء
فإذا كان ولدنا ذكرًا كان غرضي من تربيته أن يكون رجلاً حرًّا، ولا أقصد بحال
من الأحوال أن يكون من كبار الرجال وعظمائهم 0 اهـ
(16) من أراسم إلى هيلانة في 11 أبريل سنة - 185
أراك متطلعة إلى أخباري، راغبة إليّ في أن أوافيك بشيء منها، فها أنا ذا
أخبرك بأن السجن واحد في جميع البلاد، فليس بين المكان الذي تركته وبين هذا
الذي أسكنه الآن على رغمي كبير فرق، وإني من عهد وصولي إليه قد لجأت
إلى المطالعة، فإني وجدت الكتاب في غيبتك عني أحسن قرين لي، يؤنسني
ويُسرِّي عني الهم، ماذا أقول بعد ذلك؟ غاية ما أقول لك أني عائش راج الفرج
ثابت على حبك، والسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو توماس هوب الحكيم الإنكليزي الشهير المولود في سنة 1588 م، المتوفى في سنة 1679 م وهو من أنصار مذهب الاستبداد في السياسة ومذهب الماديين في الحكمة.(2/598)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(7)
(أمالي دينية - الدرس السابع)
(24) المحكم والمتشابه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) .
الكلام في أي لغة من اللغات منه نصوص واضحة المعنى لا إجمال فيها ولا
إبهام، يُعرف مراد المتكلم منها بمجرد إطلاقها، ومنه ما يجيء في لباس الإجمال أو
الإبهام، أو في طريق من طرق المجاز أو الكناية بحيث يخفى المعنى المراد منه
لاشتباهه بغيره، إلا على الراسخ في العلم الذي جاء الكلام المشتبه أو المتشابه فيه
وفي لغة ذلك: الكلام مفرداتها وتراكيبها وأساليبها، وما عساه يكون
للموضوع من الاصطلاحات الخاصة ليتسنى لذهنه رد الفروع إلى أصولها وإلحاق
الأبناء بأمهاتها التي تولدت منها، أضرب لكم مثل النحاة فإن معنى لفظ (الفعل)
عندهم (اللفظ الذي يدل على معنى مستقل بالفهم مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة) وقد
يجيء في كلامهم بمعناه اللغوي وهو الحدث، فمن لا يكون عارفًا باصطلاحاتهم
وباللغة يضل في فهم المراد من هذا اللفظ في هذه الحالة، والراسخ يصرف الكلام
إلى ما ينطبق على قواعد الفن العامة، فلا يضل ولا يجهل.
نطقت الآية التي صدَّرنا بها الكلام بأن في القرآن آيات محكمات لا يشتبه
العقل في فهمهن هن أم الكتاب وأصل الدين , ترجع إليهن وتحمل عليهن سائر
الآيات التي سماها متشابهات، ومن هذه المحكمات قوله تعالى في تنزيه ذاته العلية:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وقوله عزّ من قائل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) ومن الآيات التي جمعت بين المحكم
والمتشابه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67)
ومن المتشابهات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64) وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل: 50) وقوله
تعالى جده: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18) وقوله جل ثناؤه:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فأمثال هذه الآيات كانت مضلة لأهل
الزيغ والتأويل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويضلون الناس
بأهوائهم بغير علم، فذهب منهم قوم إلى التجسيم وقوم إلى الحلول؛ افتراء على
الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت
تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة:16) ومن المتشابه بعض ما أخبر الله تعالى به
من علم الغيب، كقوله تعالى في جهنم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 30)
وقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ} (الدخان: 43-45) ومن العلماء مَن يقول: إن جميع ماجاء في القرآن عن عالم
الغيب من المتشابه كالجنة وما فيها، والنار وما فيها، وسائر أمور القيامة كالملائكة
والجن والشياطين، وكون السماوات سبعًا، والعرش والكرسي، فإن هذه الأشياء
أمثالها لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وربما يعلم تأويلها الراسخون في العلم، ولقد
افتتن بها خلق كثير، وفتنوا الناس بتأوبلها حتى يكاد يكون الضالون في فهمها أكثر
من الضالين بآيات الصفات، ومن وقف على تاريخ الباطنية , لا سيما دعاة العبيديين
في مصر ودعاة البابيين والبهائيين في هذا العصر يتبين له تفصيل ما أجملنا.
(25) مذهب السلف والخلف في المتشابه: عُلم مما ذكرنا آنفًا أن المتشابه
على ضربين: أحدهما ما أطلق على الله تعالى من الصفات التي أطلقت على البشر
وما عزي إليه من الأشياء والشؤون التي تعزى إليهم، وثانيها ماذكر من أحوال
عالم الغيب المخلوق له تعالى مما له نظير في عالم الشهادة، ومما لا نظير له،
والإيمان بمثل هذه الأشياء هو الإيمان بالغيب، وهو دعامة كل دين وأساسه، ومعيار
اليقين فيه وقسطاسه، ويشترط في الديانة الإسلامية أن يكون الإيمان خاضعًا لحكم
العقل، فلا يكلف أحد أن يؤمن بما يحكم العقل باستحالته، بل تأويل ما عساه يوجد
مخالفًا للعقل من ظواهر الشريعة وتطبيقه عليه - واجب، وأجمع المسلمون
الذين يُعتد بإسلامهم على أن أصول الدين وأسسه مؤيدة بالبراهين العقلية وإليها يرد
سائر ماجاء فيه.
أما المتشابه من آيات الصفات وأحاديثها، فقد اشتهر على ألسنة أهل التوحيد،
وفي كتبهم أن للمسلمين فيها مذهبين: مذهب السلف وهو الإيمان بها على ظاهرها
مع تنزيه الله تعالى عما يوهمه الظاهر من التشبيه المحال عقلاً، ويقولون: الله
أعلم بمراده باليد واليمين والاستواء على العرش وما ماثل هذا، ويسمون هذا
المذهب مذهب التفويض، ويقولون: إنه أسلم، ومذهب الخلف هو تأويل هذه
الكلمات وتخريجها على وجه ينطبق على قواعد التنزيه بما تقتضيه أساليب اللغة من
ضروب التجوز والكناية، ويسمونه مذهب التأويل، ويقولون إنه أعلم وأحكم،
والصواب أن الأقوال في هذا المقام ستة، استوفينا الكلام عليها في كتابنا (الحكمة
الشرعية) .
والذي يجب أن لا يختلف فيه هو أن هذه الآيات ما أنزلت عبثًا، وأنها ليست
فوق عقول البشر، بل جاءت على أساليب كلام العرب، وحسبكم من فائدتها أنها
تفيض على الأرواح من خشية الله وقوة الإيمان بعظمته وسلطانه ما يطهرها من
الرجس، ويجذبها إلى عالم القدس ويبغض إليها الرذائل، ويحبب إليها الفضائل
تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لما عنده، ومن كان ذا سليقة عربية وعقيدة صحيحة
مرضية، وتلا أو تُلي عليه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (الزمر: 67) الآية، يشعر بأن الهيبة والجلال قد ملآ أركان
قلبه، وملكا عليه أمر وجدانه سواء كان يعتقد بأن لله يدًا لا كالأيدي، ويمينًا لا
كالأيمان، وأن القبض على الأرض، وطيّ السماوات هو من وظيفة اليد واليمين
الإلهية من غير تشبيه ولا تمثيل، أو يعتقد أن الكلام تمثيل لعظمة سلطان الله تعالى
وانفراده في ذلك اليوم بشؤون العوالم العلوية والسفلية بحيث لا يكون لغيره فعل ولا
كسب، ولا أمر ولا نهي ولا ضر ولا نفع، وهذه الآية هي بمعنى قوله تعالى في
الآية المحكمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ، ولا ينكر أحد من نفسه أن
المعنى الواحد تختلف آثاره في الوجدان باختلاف العبارات التي يتجلى بلباسها، وأن
التمثيل أبلغ ضروب الكلام تأثيرًا، وأكثرها ضياء ونورًا، وأي ذوق عربي يطوف
به من قراءة هذه الآية تشبيه الله تعالى بخلقه، وهو يعهد مثل هذا التعبير في اللغة
حتى من الصبيان، يقولون: إن هذه البلاد أو تلك القبيلة في قبضة فلان، وإن زيدًا
في أصبع عمرو كالخاتم، على أن الآية يحيط بها التنزيه من طرفيها كما ترى، مَن
علم أن جميع ما جاء في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة من هذا النوع من المتشابه
يُراد به تقرير العقائد الثابتة بالعقل والنصوص المحكمة وكبح النفوس - بذكر
صفات الجلال والعظمة - عن الشرور، وجذبها بصفات الجمال إلى معاهد الضياء
والنور، ليكون المؤمن بالأولى من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وبالأخرى
من الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟ مَن عَلِم هذا
ولاحظه لا يشتبه عليه متشابه، سواء فَوَّض أو أَوَّل، وصرح غير واحد من
المحققين بأن جميع ما أطلق على الله تعالى من الصفات الثبوتية من المتشابه لا أنه
مخصوص بما لا يعرف إلا بالسمع، وصرَّح الإمام الغزالي بأن لفظ القدرة
مستعار للصفة الإلهية التي يوجِد بها ويُعِدم، وأن معنى هذه الصفة هو أجلّ وأرفع
من أن تلمحه أعين واضعي اللغات، فيضعون له لفظًا يدل عليه حقيقة، وحقًّا قال
فإن هذا اللفظ وضع لمعنى في الإنسان لا يصدر عنه إيجاد ولا إعدام، والحكماء
والعقلاء متفقون على أن قدر البشر إنما تتصرف في الموجود فحسب.
وأما المتشابه بالمعنى الآخر، فقد كلفنا بالإيمان به على ظاهره إذا لم يكن
مخالفًا لأحكام العقل والأصول المقررة بالشرع، وكانت النصوص به قطعية،
وسيأتي تفصيل القول به في السمعيات إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/603)
الكاتب: نقلا عن جريدة المقطم
__________
الدولة العلية في أفريقية
لحضرة صاحب الإمضاء
قال مُكاتب جريدة (فرنكفورت) الألمانية من الآستانة أنه لمَّا أبرم اتفاق
السودان بين فرنسا وإنكلترا في شهر مايو الماضي اجتمع مجلس الوكلاء مرارًا في
يلديز، وأقر على إرسال الجنود والمدافع إلى خلف طرابلس الغرب في طرق
القوافل المؤدية إلى بحيرة تشاد وإلى تيبستي لبقاء تلك الجهات في منطقة نفوذ الدولة
العلية، وحفظ سيادتها عليها، وصادق جلالة السلطان على هذا القرار، ولكنه بقي
حبرًا على ورق، ولم يخرج من القوة إلى الفعل إلا منذ أسبوعين، فإن الدولة
العثمانية أرسلت سبع أورط من مشاتها وألايًا من فرسانها، وست بطاريات من
مدافعها إلى الحد الجنوبي من فزان، فسارت حتى نزلت على بعد 900 كيلو متر
جنوبي الأماكن القصوى التي كانت الجنود العثمانية نازلة فيها قبلاً، ولكنها لا تزال
تبعد 1500 كيلو متر عن ودّاي، وقد صدر الأمر بزيادة عدد الجنود العثمانية في
طرابلس الغرب زيادة دائمة.
وأرسل مكاتب روتر من الآستانة يقول إنه سمع من بعض الأتراك أن
والي طرابلس الغرب أوفد وفدًا إلى وداي ومعه بعض العساكر العثمانية، فرفعوا
الراية العثمانية عليها، والغرض من إرسال هذا الوفد توطيد سلطة السلطان على
الجهات الواقعة خلف طرابلس الغرب إلى حد بحيرة تشاد لتؤمِّن القوافل التي تسير من
داخل أفريقية إلى ساحل البحر.
ولكني علمت من جهات أخرى أن ما سمعته من بعض الأتراك سابق لأوانه،
وإن يكن السلطان يروم مد سلطته إلى داخل أفريقية؛ لأنه إذا فعل الباب العالي ذلك
وقعت المشاكل بينه وبين فرنسا، إذ وداي وبحيرة تشاد واقعتان ضمن منطقة
نفوذها حسب الاتفاق الذي عقد بين إنكلترا وبينها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم)
__________(2/607)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مساجد الصعيد
رأينا في سياحتنا في الصعيد كثيرًا من المساجد متداعية الجدران، مدعثرة
الأعضاد، يريد بعضها أن ينقض، وبعضها قد انقض بعض جدرانه فعلاً، وديوان
الأوقاف غني يوجد في خزينته قريب من مائتي ألف جنيه، فلماذا لا يصلح هذه
المساجد؟ هل الأولى له أن يتمتع بلذة وجود المال في الصندوق، وإن كانت اللذة
مشوبة بألم الخوف عليه من المالية، ومن البنك الأهلي؟ هل من العدل والإصلاح
أن ينفق بسعة وكرم حاتميّ على زخرفة بعض المساجد في القاهرة فيحليها بالذهب
ويفرشها بالزرابي الفاخرة لتملأ عيون السياح من الإفرنج، ويبخل على سائر
المساجد بإقامة جدرانها وإصلاح بنيانها وفرشها بالحصير؟ أما يكفي تقتيره على
الأئمة والخطباء والخدمة الموجِب لعدم قيامهم بوظائفهم؟ نقول هذا عن تألم
وإخلاص، ونجوّز أن يكون للديوان بعض العذر في بعض ذلك، وعسى أن يلتفت
الديوان إلى هذا، فيبادر بتدارك ما يمكنه تداركه، فإن الشكوى منه كادت تكون
عامة، وننبه أصحاب البلاد والجهات الذين أهملت شؤون مساجدهم أن يطلبوا
إصلاحها من جناب الخديوي المعظم، وسموه يلبي طلبهم إن شاء الله تعالى.
__________(2/608)
6 شعبان - 1317هـ
9 ديسمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية
(الحُجَّاب)
ينبغي أن يعين للمحاكم الشرعية حجاب يقرءون ويكتبون، ويستطيعون أن
يحفظوا النظام إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الجلسات على ما هو معروف في الدوائر
القضائية الأخرى، وهذا مما يطلبه القضاة ويلحون فيه.
(الأعمال الكتابية)
نبتدئ منها بالعقود والإشهادات وما يتبعها؛ لأن الكلام عليها لا يطول، على
أنها من أهم أعمال هذه المحاكم، خصوصًا إذا رأت الحكومة فيما بعد أن تضع في
قوانينها أنه لا يقبل سند على من لا يعرف القراءة والكتابة، إلا إذا كان ذلك السند
محررًا بحضرة مأمور قضائي، والمحاكم الشرعية هي الأقرب والأوثق عند الناس
في مثل هذه الشهادات، على أن هذا النوع ليس بقليل الآن في دوائرها.
حفظ كُتَّاب هذه المحاكم ألفاظًا معينة يضعونها في أساليب معتلة مع تكرار بارد
يعسر معه الفهم، ويسأم منه الذهن، وقد عمت شكوى جميع القضاة من ذلك، حتى
إن سماحة قاضي مصر ذكر فيما طلب إدخاله من الإصلاح وتفضل بإرساله إليّ
(الاختصارفي الشهادات والمرافعات إلى الحد الذي لا يُخل بالمطلوب شرعًا) فإن
ذلك أمر يحتاج إلى وضع قانون وذلك ناشئ من جهل الكتبة وظنهم أن تلك الألفاظ
في تلك الأساليب السمجة لا بد منها شرعًا ولا يصح العقد بدونها، وكان يوافقهم على
هذا الزعم بعض القضاة، وربما لا نعدم من بقاياهم اليوم من يكون على رأيهم.
لهؤلاء الكُتَّاب عناية بتعريف الأشخاص من متعاقدين وشهود وجيران في
الحدود، يضيق لها الصدر ويضل فيها الفهم، ويحملون المُشهد على ذكر جد جاره،
وقد يكون ذلك الجار ممن لا يعرف أباه فضلاً عن جده ويضطرونه إلى الكذب،
مع أن المقصد من تعريف الشخص تمييزه، ويكفي فيه ذكر اللقب المشتهر به
المعروف به في بلده أو محلته بحيث لا يشركه غيره في مجموع الاسم واللقب
والصنعة ومحل الإقامة، ومع أن الشهرة تغني عن ذكر النسب فإنهم يعرفون الجناب
الخديوي بذكر نسبه إلى جده، ويعرفون مدير الجهة أو محافظها بأبيه وجده، مع أنه
سبق من المديرين مَن ربما لا يكون جده معروفًا لأحد من الناس في هذه البلاد ولا له
نفسه، وعندنا كثير من أبناء الجراكسه والأحباش الذين جيء بهم وهم صغار لا
يعرفون آباءهم فضلاً عن أجدادهم، فذلك الجد أو الأب المجهول كيف يكون مميزًا
لهذا الرجل المعروف؟ على أن الناس يضطرون في كثير من الأحيان إلى أن
يخترعوا أسماء ليرضوا جهل الكاتب ويتخلصوا من حمقه.
يستشهدون على وكالة ناظر المالية عن الجناب الخديوي، ووكالة المدير عن
ناظر المالية في بيع أطيان الميري الحرة بشاهدين: أحدهما معاون في مديرية،
والآخر كاتب فيها، كأن هذين الشاهدين حضرا عقدي الوكالتين، ولا يكتفون
بالأوامر الصادرة في ذلك، ويعدونها من المؤكدات فقط، وقد يتكرر عقدان في
صحيفة واحدة أو صحيفتين متواليتين، ويذكر في كل منهما تفصيل التعريف
والشهادة علي هذا التوكيل ونحو ذلك في بيع العقار، وفي الوقف يأتون في تفصيل
المساحات والحدود بما لا يمكن معه فهم العقد، ويأتون في شرائط الوقف وفي
صيغته بأمور ألفوها يرتبك في فهمها كل من قرأها، ومن هذا الهذيان يتولد أغلب
المشاكل التي تحدث في الأوقاف ودعاوي الاستحقاق.
من السخافات التي ألفوها أن يذكروا في حجج إنشاء العمارة قولهم: (بعد أن ملك
فلان أرض كذا عنَّ له فعل مايأتي ذكره، وهو أنه أحضر المون المتقنة، والآلات
المحكمة من طين وجير وجبس وأخشاب، وما يلزم لذلك من البنَّائين
والفعلة والنجارين، وغير ذلك مما يحتاج إليه ويتوقف أمر العمارة وتمامها عليه، مع
ان المنشئ ربما لا يكون أتى بشيء من ذلك، وقد يكون هو الباني بيده إن كان
بناء، وجاء من لوازم البناء بغير الجبس والجير مثلاً، وبني بالطين والرمل، فلو
نازعه منازع بأن هذا البناء ليس هو المذكور في الحجة، واستدل بأن مونته ليست
متقنة؛ وليس فيها جبس ولا جير لرجح عليه في المخاصمة وضاعت العمارة
من يده بحماقة الكاتب.
وقد رأيت إشهادًا بإقامة الجناب الخديوي ناظرًا على وقف في دمياط استغرق
سبع صفحات بالخط الدقيق لو كتب بالخطوط المعتادة استغرق عشرين صفحة أو ما
يزيد على ذلك، ومعظمه من اللغو الذي لا فائدة فيه، ويضر بفهم الكلام.
جاءني رقيم بطريق البوسطة من أحد الأدباء يستغيث بي من تكرار لفظ
(المذكور) و (المذكورة) في عقود المحاكم ومرافعاتها، وعرض لي أن عددت
هذين اللفظين في شهادتين صغيرتين، فوجدتهما تكرّرا سبعًا وعشرين مرة ربما
يحتاج الكلام إلى أربع مرات منها، والباقي لغو لا معنى له.
وأرى أن إصدار الأوامر بالاختصار لايفيد في تطهير المحاكم من هذه السخافة
التي يتبرأ منها الشرع ولغته، بل لا بد من تشكيل لجنة من أهل الشرع العارفين
بطريق التوثيق، وأذكياء الكُتَّاب لتنظر في هذا النوع من التحرير، وتضع رسمًا
لكل نوع من أنواع العقود، وتوزعه النظارة على المحاكم ليحذو الكُتَّاب عليه،
وتُوعِد من خالفه بالتأديب إلى أن يوجد في المحاكم أناس يعرفون اللغة العربية وما
تدل عليه أساليبها الصحيحة من الإلمام بالشريعة.
(ما يكفل السرعة في العمل)
وضعت النظارة قواعد وأنشأت لها قسائم لو اتبعت لم يشك شاكٍ
من تأخرالعمل فيما يطلبه من المحاكم الشرعية، ولكن كثيرًا من المحاكم
يغفلها فتستمر الشكوى، وذلك إما لجهل الكاتب بفائدتها، أو تعمد إغفالها لسبب من
الأسباب , ولا تحتاج في الإلزام بها إلا إلى تشديد المراقبة ومداومة التفتيش.
(الدفاتر)
دفاتر المحاكم كثيرة جدًّا، ورأيت أن بعضها لا يُحتاج إليه كيومية الملخص
مع وجود دفتر الفهرست، وكدفتر مواعيد القضايا إن لم يجعل بمنزلة الرول الذي
يوضع أمام القاضي في الجلسة، وأرى أن يُعاد النظر في هذه الدفاتر لتقرير ما يبقى
وإلغاء ما يلغى تخفيفًا للعمل واقتصادًا في الورق والجلد والزمن، وإنما أخص بالذكر
هنا دفترًا أطلب محوه في أقرب وقت وهو دفتر مضابط القضايا الذي تثبت فيه
محاضر الجلسات، ويجب أن يستبدل بمحاضر وملفات على نحو ما هو جارٍ في
الدوائر القضائية الأخرى، وذلك أن هذا الدفتر يحتوي على الدعاوى، وما يحصل
فيها من تأجيل أو شطب، أو مرافعة وشهادات وحكم، ولكن على ضرب من
التشويش لا يُستطاع احتماله.
يأتي المدعي مثلاً، فيذكر في أول صفحة من الدفتر أنه جاء وأُجِّلت الدعوى
لأعذار خصمه، ثم يتلو هذه الدعوى دعاوي أخر، وفي الصفحة الخامسة يذكر أن
الخصمين حضرا، ولم يكن معهما شهود معرفة فأجلت القضية، وبعد عشر
صفحات يذكر شيء من المرافعة، وبعد خمس أخرى يذكر بقيتها، وبعد ست أو
سبع تذكر شهادات، وهكذا، وربما تفرقت أجزاء القضية في أربعة دفاتر أو أكثر،
وبقي النظر فيها من سنة إلى سنة أخرى، فإذا صدر فيها حكم ابتدائي، ودفع
المحكوم عليه احتيج إلى نسخ هذه الأجزاء وجمعها من صفحات الدفاتر لترسل إلى
محكمة الدفع، وإذا احتاج أحد الخصمين لأخذ صورة المرافعة تجشم الكاتب مشقة
التقاط هذه الأبعاض من وجوه الصحائف في جميع تلك الدفاتر, خصوصًا ولا
فهرست للقضايا حتى يسهل الاهتداء إليها، وإذا أريد التفتيش والبحث في قضية
ضاع الوقت في تقليب الأوراق.
وما رأيت قاضيًا من قضاة المديريات والمراكز إلا وهو يشكو من تحرير
المحاضر بهذه الطريقة، فأعيد طلبي لمحو مضبطة الدعاوى، وإبدالها بملفات
تحتوي على جميع المحاضر والأوراق جملةً , لكل قضية على حدتها ملف، فإذا
انتهت القضية حفظت مع أمثالها من قضايا السنة في محافظ، وأودعت الدفترخانة
على ماهو معروف، فإذا استؤنفت القضية أُرسل ملف الدعوى بجميع ما فيه من
الأوراق إلى محكمة الدفع، ولا بد أن يكون لمحاكم الدفع محاضر على هذا النحو.
ثم إن دفتر السجل يوجد فيه نوع من تقسيم الأنواع وتمييزها، وإن
كانت تحتاج إلى فضل تمييز، أما مضابط الإشهادات، فتثبت فيها الأنواع مختلطة
كأنها كشكول، ومن اللازم تمييز الأنواع فيها على نحو ما في السجل، ثم وضع
فهرست في أول كل دفتر يحتوي على بيان ما فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/610)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(17) من هيلانة إلى أراسم في أبريل سنة -185
قد تمّ لي القرار في المنزل الذي استأجرته وفي صباح اليوم قدم على إحدى
السفن التجارية خادمانا الزنجيان (قوبيدون وزوجته جورجيه) آتيين من فرنسا
حيث كانا تخلَّفا عني لحزم أمتعتنا، فأسكنتهما رواقًا ملاصقًا للمنزل من ناحية
البستان، وأنا الآن أساعدهما في نفض كتبك وترتيب مجموعاتك.
لم يكد يستقر هذا الزنجيّ البار حتى وجَّه عزيمته إلى أعمال شتى، فصرح لي أن
في نيته قلب أرض البستان وبذر الحبوب، وغرس أنواع من النبات فيها، إلى غير
ذلك من الأعمال، وقال لي: إنه لا لوم عليه إذا أنتج بستاننا عما قليل أطيب فواكه
البلد وأجود بقوله، وهو يذكر سابق اشتغاله بزراعة الأرض أيام رِقِّه، وهو فَرِح
فخور أنه ينبعث إلى العمل بسائق الشكر والإقرار بالنعمة بعد أن كان لا يلجئه إليه
إلا خوفه من أليم الضرب بالسوط، ويقول: ما أشد إتقان ما سيصير إليه شغلي، فقد
أصبحت مالكًا لنفسي، منفلتًا من ربقة الاستعباد.
لا أخفي عنك أن المقارنة بين اسمه والمسمى كانت مدعاة الضحك ومثار
الاستغراب، وأن سكان مرازيون يضحكون منه؛ لأنهم يستصعبون التوفيق بين
معنى العشق الذي يدل اسمه (قوبيدون) عليه، فإنه في أساطير اليونان اسم للعشق
الذي هو ابن الزهراء إلاهة الحسن، وبين مشفري ذلك الزنجي الغليظين وأنفه
الأفطس، وجلده الأسود، وإني لا أخشى أن يكون هذا الاسم لم يطلق عليه من
مواليه السالفين إلا تهكمًا وسخرية، ولكني على رأيي هذا لم أجسر أن أكلمه في
تغييره، فإني لو فعلت لكان هذا اعترافًا مني له بأنه دميم، أو تصريحًا بأن البيض
لا ينصفون الإفريقي مثله.
أنا في هذا البلد أعيش بمعزل تام عن الناس، فلا أتردد إلا إلى دار السيدة
وارنجتون حيث أصادف أحيانًا بعض سيدات من بنزانس أو من ضواحي مدينة
لوندرة، والذي يشغلني في اختلاطي بهؤلاء السيدات هو الطريقة التي تجري عليها
الإنكليزيات في تربية أولادهن، وإني مجتهدة بملاحظتي إياهن في تعلم أخلاق
وأعمال الأمومة.
إن سكان كورنواي وإن صح أنهم ليسوا من نسل الإنكليز السكسونيين لما يقال
من انتسابهم إلى فصيلة من الصقالبة، ولما أراه بينهم وبين البريتونيين [1] من
المشابهة الكبرى في لون الشعر وملامح الوجه - إلا أن بين هؤلاء السكان عدة من
الأسر (العائلات) الإنكليزية، ومن كان من الباقين غير إنكليزي الأصل، فقد
تخلقوا بأخلاق تلك الأمة التي ألحقهم بها الفتح وسرت فيهم عاداتها على تفاوت في
ذلك قلة وكثرة.
انظر كيف يستقبح النساء في إنكلترا طريقة تقميط الأطفال ويستهجنَّها،
ويقول الوالدات منهن استهزاء بنا أننا ندخل أطفالنا في أكياس رئاء الناس حتى إذا
سنحت لنا الفرصة علقناهم على مسامير في الحائط، واكتفينا بذلك مؤنة ما تستلزمه
حالتهم من العناية والرعاية إذا كانوا غير مقمطين، وإنما ساغ لهن أن يقلن ذلك؛
لأن أطفالهن يتمتعون بتمام الحرية في حركاتهم؛ لأنهن يلبسنهم ثوبًا طويلاً من
الصوف اللين (فانيلاّ) فيكونون فيه مالكي أنفسهم على قدر ما لهم من القوى
الصغيرة في ذلك السن، وإني والحق أقول معجبة بهذه العادة لأني كثيرًا ما ساءني
رؤية الأطفال يُربَطون وتُحصر أجسامهم في لفائف تُضم أطرافها بالدبابيس،
فيكونون كجثث محنطة لُفَّتْ بشرائط من الكولان [2] .
الأطباء الإنكليز كافة يمقتون مايجعل في أثواب الأطفال من الحبال التي
يعتمدون عليها في دبيبهم، وما يتخذ لهم من الدراجات الخيزورية [3] والآلات
المتدحرجة لأجل مساعدتهم على الدرجان، ويؤكدون أن استعمالها مما يؤدي إلى
تشوه صدر الطفل واعوجاج ساقيه بما يستلزمه ذلك الاستعمال من وقوع ثقل الجسم
كله على العقبين.
بل إن الدكتور وارنجتون قد بالغ في الأمر حتى قال بوجوب تعويد الطفل
من نعومة أظفاره، على أن تكون أعماله كلها عن قصد وعزيمة، ولهذا يجب
ترك إقامته وتمشيته بالآلات الصناعية حال عجزه عن ذلك بنفسه؛ لأن فيه تضليلاً له
في فهم مقدار قواه، فإنه حينئذ يتوهم أنه يدرج بنفسه، والدارج في الحقيقة هي
تلك الآلات التي يعتمد عليها، وهو وهمٌ يصحبه طول حياته، ويظهر أثره في
عامة شؤونه.
يتعلم الأطفال هنا الحركة والانتقال بأنفسهم، فإنهم يُتركون وشأنهم في التحرك،
فيتدحرجون ويَحْبون على بساط يفرش لهم، وينالون من القوة تدريجًا مايمكنهم من
الوقوف، ثم يخاطرون بأنفسهم فيخطون خطوات مستعينين فيها بالاعتماد على
مايكون قريبًا منهم من أثاث المكان، فإذا اضطربوا لضعفهم تلقتهم أذرعة أمهاتهم
فمنعتهم من الوقوع.
هذه الطريقة التي هي سُنة الله في خلقه، وليست سوى التخلية بين الطفل
وعمله , هي أيضًا أكثر انتشارًا في أمريكا منها هنا، فقد سمعت بمناسبة الكلام فيها
أن سائحًا إنكليزيًّا صادف يومًا وهو في الولايات المتحدة بأمريكا صبيًّا في الثانية أو
الثالثة من عمره يزحف بيديه ورجليه على حرف قنطرة مدعثرة يتدفق من تحتها
سيل صخب، فارتاع لقحوم هذا الحدث المتهور في الخطر، فأسرع في التماس
والدته، فأصابها جالسة مطمئنة على حافة مجرى هذا السيل نفسه تغسل ثيابًا، فمثّل
لها مارآه من حالة ولدها، وهو فزع متخوف عليه الهلاك، فما كان جوابها إلا أن
قالت غير مدهوشة ولا منزعجة: إن الصبي معتاد على العناية بنفسه ووقايتها،
وإني إذا عدوت إليه لإبعاده عن مظنة التهلكة مُظِهرةً له الجزعَ والهلعَ كان ذلك
- ولا شك - مُذهِبًا لرشاده مُضيعًا لسداده، فلما سمع السائح الأجنبي منها هذا القول
اقتصر على مراقبة الطفل لينظر ماذا يكون من أمره، فرآه قد مكنه ما بذله من
قواه من تنكب طريق الهلاك 0
أنا إن سيقت ليَ الدنيا بحذافيرها على أن أرى صبيًّا لي في هذه الحالة ما
رضيت، ولكن تلك المرأة لم تخطئ خطأ بيّنًا في تعريضها ولدها للخطر على ما
رأيت كما قد سبق إلى الذهن، بل إنها فهمت فروض الأمومة الحقة أحسن مما
فهمناها، فإن هذا الطريق في سياسة الأحداث من بداية نشأتهم هي سبب ما نراه في
سكان أمريكا الشمالية من ميلهم إلى المخاطرة، وشغفهم بالاستقلال.
الوالدات الإنكليزيات كافة يتمنعن من تغطية رءوس أطفالهن، ولا
يقبلن أن يضعن عليها القبعات المحشوة بالوبر التي هي تيجان الضعف، نعم إنه قد
يُعترض عليهن بما في ذلك من تعريض الأطفال للخطر لما يتوقع من سقوطهم،
ولكنهن يدفعن هذا الاعتراض أولاً بأن رعايتهن لهم واهتمامهن بأمرهم يقومان مقام الوسائل التي تتخذ عادة لوقايتهم، وثانيًا بأن الطفل كلما شعر بقلة أسباب الوقاية من
جانب الغير زاد احتراسه وتوقيه، فيلزم أن يربى فيه من صغره خلق الاستقلال
بحماية نفسه والدفاع عنها لا أن يُعوَّل في حفظه على بعض طرق احتياطية لا تغني
عنه شيئًا، وهي دائمًا مبنية على الوهم والخطأ قلَّ ذلك أو أكثر.
إذا شاهدت الطفل الإنكليزي وهو مكشوف الرأس والذراعين والساقين، خلته
هرقلاً [4] صغيرًا , وإن كان لا يخنق الأفاعي - لانقطاع دابرها من جزيرته -
ولكن قد بدت عليه مخايل الجسارة، وسمات الجراءة والإقدام، أنَّى يوجد دم
أغزر مادة من الدم الإنكليزي، وأي نسل أقوى من نسل الإنكليز؟ إن معايب الجسم
وأنواع تشوهه هي في غاية الندرة هنا، ولا إخالك تصدقني إذا قلت: إني إلى الآن
لم يقع بصري على أحدب، أليس جمال النسل حجة قائمة تنطق بأفصح لسان،
مؤيدة مذهب الحرية الذي جرى عليه جيراننا في طريقة تربية أولادهم؟ المهد
المذبذب الذي هو من لوازم الأطفال عندنا قليل الاستعمال جدًّا فيما وراء بوغاز
المانش (أي بلاد الإنكليز) وإنما يوجد للأطفال سرر كثيرة ليست من الأراجيح
التي تهز باليد كالتي عندنا، فالإنكليز عمومًا يسترذلون عادة هزّ الأطفال،
ويقولون إنها ذريعة إلى تعويدهم على أن لا يناموا إلا بوسائل صناعية، تعلّمهم هذه
العادة أن يلتمسوا راحة أبدانهم عند غيرهم، على حين أنه يلزمهم أن لا يطلبوها إلا من أنفسهم ومن الفطرة التي فطرهم الله عليها، نحن لا نهتم بما ينشأ عن اتخاذ
تلك الوسائل الباطلة الموافِقة لرغائب أطفالنا من الآثار السيئة في طباعهم، ولا
نطيل النظر في ذلك.
إن الطفل قبل تمييزه وتمايز أنواع الوجدان فيه يكون في فطرته من
الاحتيال ما يمكنه من الانتفاع بضعفه مع مراعاة من يكنفونه له، فكم من أناس
انقضى دور طفوليتهم ولا يزالون في حاجة إلى الاهتزاز طول حياتهم، فلا تعرف
لهم نومًا ولا يقظة، بل تراهم في غفلة عن أنفسهم تحركهم عوامل العالم الخارجي،
فيرون في أحلامهم وخيالاتهم أنهم يهتزون، وكان الأولى أن تصيح بهم الشهامة ليهبوا
من رقادهم، ويشمروا عن ساعد الجد للعمل والمغالبة في ميدان الحياة.
أخشى أن يكون كل كلامي هذا قريب الشبه بالوعظ الديني، على أني لم آتِ به
من تلقاء نفسي، بل إني سمعته بما يقرب من عبارتي من قابلة وقور صديقة
للسيدة وارنجتون مشهورة هنا بأن قولها حجة في فن التربيية، فإن التربية في إنكلترا
هي أول علم يتلقاه النساء.
إني أخال الوالدين في إنكلترا أقل بكاء منهم عندنا، فهل أنا واهمة في ذلك؟
كلا، لا وهم ولا خطأ، فإن بكاء الطفل إنما يكون لتألمه من عارض يلمّ به، وإن
ما مُنحه هنا من الحرية وما حيط به من ضروب العناية الصحية وما سُنّ له من
قانون الغذاء، كل ذلك يساعد على حفظ صحته ونموها، إذا كان للإنكليز عناية
كبرى بترقية نسل العجماوات حتى لا تجد أجمل من خيلهم ولا أحسن من كلابهم،
فكيف مع هذا يظن أنهم يغفلون تربية الآدمي الجسمانية.
الوالدات الإنكليزيات يُرضعن أولادهن متأسيات في ذلك بملكتهن، ومن هنا
كان لفظ المرضعة عندهن لا يؤدي معنى هذا اللفظ عندنا، فلا يراد به إلا المرأة
التي تقوم على الولد في تربيته، وحينئذ فالمراضع عند جيراننا ينقسمن إلى قسمين
متمايزين: أولهما الحاضنات ويسمين عندهم بالمراضع الجافات، ثانيهما الحقيقيات
ويوصفن بذوات البلال [5] ، إلا أن هؤلاء أقل عددًا ممن عندنا، ولا يُرجع إليهن إلا
عند الضرورة الملجئة حيث تكون الأم في غاية العجز عن إرضاع ولدها، بل إن
كثيرًا من الإنكليزيات يفضلن إلقام ولدانهن زجاجات اللبن على إلقامهن أثداء
المراضع المستأجرات، وإنهن ليوسعننا لومًا على تفريطنا في هذا الأمر، ولا أخالهن
إلا محقات في ذلك، فكم من الفرنساويات المترفات من يتركن ولدانهن الذين كان
يجب أن يكونوا أعز شيء عليهن في هذا العالم، ويكلن إرضاعهن إلى نساء من
أهل القرى جافيات الطباع قذرات , لا يرضينهن مساعدات لهن في التزين والتحلي.
النظافة عند الإنكليز في من حق الأطفال أساس تدبير الصحة، وهي عامة
في كل الطبقات حتى الفقراء، فإنهم يغسلون أولادهم في كل صباح.
يشدّد الأطباء هنا النكير - كما يفعله رصفاؤهم في البلاد الأخرى - على
لبس النساء الغلائل المحزوقة (الضيقة الضاغطة) فلا يصغي لهم أحد،
فالصينيات يتلفن أقدامهن بالنعال الضيقة، ونحن نتلف قدودنا بهذه الغلائل المحزوقة
جريًا على ما حكمت به العادة فرارًا من السمن وبروز البطن عند الحبل على
أنه يجب الإعتراف بأن الإنكليزيات أقل منا عناية في إخفاء حبلهن، بل إنهن
يفتخرن به، فقد شبهت إحداهن المرأة الحُبلى بالشجرة المثمرة، فقالت: مَثَل المرأة
في سبيل إنشاء الأسرة كَمَثل الشجرة تحمل ثمرتها.
ألا تذكر أننا في أيام الهناء الخالية لما كنا نتمشى في منتزه (التويليريا) أو في
حديقة (لوكسمبورج) كثيرًا ما تألمنا لرؤية أولئك الأحداث شهداء البدعة الذين
يخرجهم أهلوهم متبرجين بالزينة، فتلبسهم حاضناتهم ثيابهم وزينتهم من القدمين إلى
الرأس قبل خروجهم، ويكون من وراء ذلك أن الطفل الحسن البزة لا يعتبر طفلاً،
ولا يكون المقصود من إخراجه تسليته وترويح نفسه، بل تحصيل اللذة لغيره، فإذا
أولع بالبحث في الأرض بيديه أو جرى في مهب الريح، فعبثت بتناسق ذوائب
شعره الجعد الجميل وُبِّخ وعُنِّف على أنه وسخ نفسه، ولم يمتثل ما أُمر به من
السكون، فكأن ذويه لا يرومون تنزيهه، وإنما يريدون عرضه على الأنظار،
ليس الذي يقصد أولاً، وبالذات من تلك النُّزَه هو إمتاع الطفل بحرارة الشمس
وهواء الفضاء اللذين يقويان صحته وينميان أعضاءه بما يكون معهما من الرياضة
والحركة، بل إن المقصود منها هو اتخاذه ألعوبة أنيقة يطأمنُ بهاؤها ورونقها من
نخوة الأمهات الأخريات، ويكسر من زهوهن، فإذا رأت الأم بنيتها ترفل في ثوب
من الخز مزين بالطراز المثقب (التانتلا) قالت في نفسها: آه لو رأتها السيدة
فلانة أو السيدة فلانة لانشقت مرارتها غيرة وكمدًا، إلى هنا أمسك عنان القلم عن
الاسترسال في هذا الموضوع، فإني قد أوغلت في الشرح على ما يظهر لي.
النساء الإنكليزيات يحملن أولادهن أيضًا بفاخر الثياب ويخرجن بهم إلى
المنتزهات، بل إنهن يبالغن في ذلك أحيانًا، فيصلن إلى حد الإفراط، غير أن هذا لا
يكون إلا في أيام الآحاد، أما الأطفال الذين ينشأون في القرى فيندر أن يأنسوا من
أنفسهم الحاجة إلى الخروج طول الأسبوع؛ لأن القائمين عليهم يُخلُّون بينهم وبين
اللعب في حديقة البيت والمرح في حر الشمس، وعلى البنات منهم دروع قصيرة
وعلى البنين قمصان خفيفة من الصوف، ولا يبيحون لأنفسهم التعرض لهم في
ألاعيبهم، أما نحن، فيحملنا هوسنا بتدبير كل شيء وإدارته إلى التدخل في تنزه
الأطفال واستراحتهم بسياستهم في ذلك، وضبطهم بقواعد لا يتعدونها.
لم يغب عن ذاكرتك أننا كنا يومًا في قاعة السيدة - ... جالسين معها، فدخل
عليها ولدها الكبير، وهو صبي كان وقتئذ في الرابعة أو الخامسة من عمره تلوح
عليه سمات السماجة، والتفت إلى والدته فسألها قائلاً: أماه، ماذا ينبغي أن أفعل
لأتسلّي وأروّح نفسي؟ أنا لا أزال أتذكر اندهاشك لهذا السؤال وما جرى من المزاح
والضحك بيننا بسببه، على أن هذا الصبي المسكين كان له حاضنة تُنقد أجرة كبيرة
جدًّا، ولذلك أُحيل عليها لتسليه، وكان يظهر من حالها أنها غاية في الضجر من
وظيفتها.
إن في بعض الأسر الإنكليزية أيضًا حاضنات، إلا أن الذي عرفته بالمشاهدة
من أمرهن أنهن يسُسْن رعِيَّتهن كما تسوس ملكة إنكلترا رعاياها، أعني بذلك أنه لا
يكاد يكون لهن سلطان عليها، خصوصًا فيما يتعلق بأنواع اللعب وضروب التسلي.
يستدل جيراننا على وجوب إطلاق الحرية للأطفال في ألاعيبهم بأدلة سديدة
على ما أعتقد، فيقولون: إن الكبار في اشتراكهم مع جماعة الأحداث الفرحين
المرجين في تلك الألاعيب يرجعون دائمًا إلى أذواق أنفسهم أكثر من رجوعهم إلى
أذواق أولئك الأحداث، فيغفلون بذلك اعتبار رأيهم في مسألة لا مرية في أن
موضوعها القيام لهم بحقوقهم، وهذه الحقوق ليست من الكثرة بحيث يسلم المطالب بها من وخز وجدانه إذا هضم منها شيئًا، ولهم حجة أقوى من هذه، وهي أن حرمان الأطفال من الاختيار يميت فيهم روح الافتطار (الابتداع والإنشاء)
والانبعاث النفسي إلى العمل، فإننا به نمحو آثار أنواع ميلهم الفطري ونقيم ميلنا
مقامه، فهل هذا هو الوسيلة إلى تربية طباعهم؟ الطفل إذا كان نشيطًا صحيح
الجسم، سَهُل عليه أن يستقل بنفسه في التنزه والتروّح، فإذا جرى على ذلك اعتاد أن لا يكون تابعًا لغيره في لعبه ومرحه، ألم تكن عادة عدم الاستقلال عند الأطفال فيما ذكر هي سبب ما كان يعتور أولئك الملوك الغابرين من الكدر والضجر
فيضطرهم إلى أن يجعلوا في حاشيتهم من المجانين من يضحكهم.
يبدو لمن يدخل بيتًا إنكليزيًّا لأول وهلة خصوصًا إذا كان مثلي لا يزال
متأثرًا بالأفكار الفرنساوية أن ما بين أهله من العلائق والمعاملات عليه سمة
الفتور والاحتشام، فيرى الوالدين فيه أقل تملقًا لأولادهم وأرغب عن ملاطفتهم منهما
عندنا، وكذلك يرى الأولاد أقل أُنسًا بالأجانب ومباسطة لهم، وليُعلم أن كلامي هذا
إنما هو على جملتهم، فلا يُنافي أن يكون منهم من هو على غير هذه الصفة، فهل
هذا الظاهر من فتور العلائق وتراخيها منشؤه طبع الأمة الغريزي، أو أنه مقصود
جريًا على مقتضى مذهب أو قاعدة في التربية؟ إليك رجع صدى حديثي في
هذا الموضوع، وحديث القابلة الجليلة صاحبة الفضل عليّ خصوصًا في
الإرشاد والتعليم، قالت: إن الإنكليز يجتنبون إظهار كثير من الملاطفة والمراعاة
لأولادهم حتى لا تكون عليهم للمزاعم السخيفة سبيل، أما نحن فإن الطفل عندنا
يعامل مع الارتياح معاملة المرأة، فكلاهما يعوّد على أن يحب أكثر مما يحب، هذا
النوع من المعاملة ينتج الغنجات من النساء والعارمين والعوارم [6] من الأطفال،
المحبة تدعو إلى المحبة، أما أنواع التملق والمخادعة فإنها تنمي جراثيم الأثرة
والزهو، فالطفل الذي يتزلف إليه والداه كما يتزلف الناس إلى العظماء لنوال الحظوة
لديهم - وهذا هو شأنهما معه في الغالب - لا يلبث أن ينتهي به الأمر إلى اعتقاد
أن الناس مدينون له بكل شيء، وأنه هو ليس مدينًا لأحد منهم بشيء.
هذا ما بدا لي من الملاحظات، نصصته على غرة موقنة بأنه سينال حظًّا
من اطلاعك، وماذا أزيدك عليه؟ حقًّا لم يبق عندي ما أتحفك به سوى أن مثالك
العزيز لا يفارق خيالي، وحبك الراسخ لا يزايل قلبي، قد رتبت بيتي فجعلته لسكنى
اثنين كما لو كنت ستحل به غدًا، ونظمت مكتبك أيضًا، فجعلت ما فيه من كتب
وأوراق كلاًّ في موضعه، وهو الآن مشوق إليك، فعسى أن لا يطول خلوّه منك،
هذا أمل أرجو أن لا أحرم منه، فإنه لولاه لقضى علي الفراق، قد علقت رسمك في
مطعمنا الصغير، ففي ساعات الأكل أجلس للمائدة مواجهة له، فأرى لصورتك فيه
نوعًا من الحياة، ويخيل لي حينئذ أني أتغذى معك وجهًا لوجه كما كنا أيام القرب
والصفاء، ما أولعني بالنظر إلى هذه الصورة، فلا بد أن ولدنا سيأتي مشابهًا لك،
والسلام في الختام.
(حاشية)
أسألك على ذكر هذا الولد، ماذا تريد أن تسميه؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أهل بريتانيا وهي أحد أقاليم فرنسا.
(2) نبت البردي.
(3) المصنوعة من الخيزور وهو الخيزران.
(4) هرقل: هو ابن المشترى على ما في أساطير اليونان، وهو من أشهر الشجعان طار صيته بأعماله التي منها خنق الأفاعي.
(5) البلال: بكسر الباء ما يبل به الحلق من الماء أو اللبن.
(6) العوارم: جمع عارمة، والعارم الفاسد الشرس.(2/613)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسطول الفرنساوي
لمَّا علمنا بطواف هذا الأسطول بسواحل سوريا خطر لنا أن ذلك لغرض
سياسي، ثم جاءتنا الأنباء بزيارة أميره الأميرال فونيه للبطرك الماروني في جونيه
عُظمى حواضر البحر في لبنان، وما كان له من الحفاوة والإجلال من اللبنانين،
وإنه لما ألمّ الأسطول بحاضرة طرابلس الشام انحدر أهالي زغرتا نساء ورجالاً إليها،
وزاروا الأسطول جميعًا، ورحبوا بمن فيه أعجب ترحيب ... ولا بد أن يكون
هذا عن تواطؤ ومداولات، فقد مر على اللبنانين حين من الدهر، وهم إلى العثمانية
أقرب منهم إلى الفرنساوية ببركة سياسة طَيب الذكر رستم باشا ثم واصه باشا،
فاعتزازهم الآن واحتفالهم بالأسطول الحربي له شان نستلفت إليه دولة نعوم باشا ولا
بد أن يهتم له بقدر صدقة في خدمة دولته وسلطانه.
أول ماتبادر إلى الذهن في تعيين غرض فرنسا من هذه الحركة هو إيقاع
الدولة العلية في الوهم لتمنع الحملة العسكرية التي أرسلتها من طرابلس الغرب إلى
فزّان فوداي لتؤيد نفوذ الدولة في تلك البلاد حتى بحيرة شاد مما وقع في نفوذ فرنسا
بمقتضى معاهدتها الأخيرة مع إنكلترا، ثم جاءنا بريد أوروبا ببيان آخر، وهو أن
فرنسا وروسيا تريدان فتح باب المسألة المصرية وإخراج الإنكليز من مصر
مغتنمتين فرصة اشتغال إنكلترا بالحرب في أفريقيا، وإن فتح الباب ربما يكون
باحتلال الفرنساويين إحدى المواني السورية، ونحن نعلم أن فرنسا ما منعها ولا
يمنعها من التعدي على سوريا إلا الخوف من معارضة إنكلترا، ومع هذا نقول: إن
التعدي على سوريا هو فتح لباب المسألة الشرقية الكبرى، لا المصرية فقط، وإلا
فإن كان المراد إخراج الإنكليز من مصر كما قيل، فليكن العمل في مصر إما معنويًّا
وإما حسيًّا، وبموافقة السلطان صاحب مصر، هذا، ولعل ما باحت به الجرائد من
إظهار مولانا السلطان الأعظم الميل إلى الإنكليز في الحرب الحاضرة من دون سائر
ملوك أوروبا هو مبني على تنسم الغدر من فرنسا وروسيا، ولقد كان منع مولانا -
أيده الله- الأسطول من الدخول في مضيق الدردنيل من السياسة المثلى، ومن الناس
من يظن أن فرنسا وروسيا تحبان الاتفاق مع الدولة العلية في شأن مصر، وأن
اجتماع الأميرال فورنيه بجلالة السلطان، ثم سفره في باخرة السفير إلى روسيا
إنما هو لهذه المهمة، وكل هذا من التصورات التي يكشف حقيقتها المستقبل، والله بكل شيء عليم.
صدرت إرادة مولانا السلطان الأعظم بايصاء معمل كروب في ألمانيا بأن
يعمل له مائة وثمانية من الدافع السريعة الرمي، كالذي أهداه إليه إمبراطور ألمانيا
في العام الماضي، وأيضًا معمل كروب في فيلاد لفيا من الولايات المتحدة بسفينة
حربية من نوع الطراد ثمنها ستمائة ألف جنيه.
أقر مجلس الوكلاء على إعطاء امتياز سكة حديد بغداد لشركة سكة حديد
الأناضول الألمانية، وصدرت الإدارة السلطانية بإعطائها حق إنشاء خط من قونيه
إلى البصرة مارًّا في بغداد، وتكفلت الشركة بمده في ثماني سنين واشترطت
عليها الدولة أن تبتاعه منها متى شاءت.
التمس حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين سند من فضيلة شيخ الجامع الأزهر
أن يختار أربعة من أفاضل العلماء للوعظ والإرشاد في أربعة مساجد متفرقة من
مساجد القاهرة، على أن الجمعية تدفع لكل منهم ثمانين قرشًا في الشهر من صندوقها،
فأجاب ملتمسه مع الثناء والشكر، وعهد إلى أربعة من أكابر الشيوخ بذلك، فنثني
على جمعية (مكارم الأخلاق) أحسن الثناء على هذا السعي الحميد، وهنا نذكر أننا
كنا قد التمسنا في (المنار) من شيوخ الأزهر أن يشغلوا بمثل هذا العمل كل جوامع
المدينة لأنه أهم وأفضل ما يطلب منهم في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، فلم يُجب
طلبنا أحد، ولما علمنا أنهم أجابوا الدعوة المقرونة بقليل من المال تذكرنا ما قاله لنا
فيهم كثير من عقلاء المصريين غير مرة مما لا نذكره رعاية لحرمتهم، ونعذر من
يأخذ على عمله أجرًا من جمعية خيرية إذا كان محتاجًا إليه، ومع ذلك نقول أيضًا:
إن فيهم من يريد الآخرة، كما أن فيهم من يريد الدنيا، وإن النداء الأول ربما لم
يبلغ مريدي الآخرة، وربما يكون قد لبّى النداء بعضهم من حيث لا ندري، وعسى
أن ينبري مَن عساه يوجد فيهم من المخلصين الملتهبين غيرة على الأمة،
والدين فيزينون سائر المساجد بوعظهم وهديهم مراعين ماتمس إليه الحاجة مقدّمين
الأهم على المهم، والله الموفق.
__________(2/622)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رزء وطني عظيم
رزئ السادة آل بيرم الكرام، بل القطر المصري، بوفاة الشاب الذي برز على
الشيوخ علمًا وعقلاً وسياسة وعملاً السيد محمد بك بيرم كبير أنجال المرحوم الشيخ
محمد بيرم الخامس العلامة المصلح الشهير، اختطفته المنية في 32 من عمره في إثر
ارتقائه إلى وكالة محافظة مصر، فكان لمنعاه رنة أسف، وشيع بمشهد يليق بمقامه،
فحق لمصر أن تبكي ما حرمته من حزمه واجتهاده، فنعزي شقيقيه الفاضلَين
على فقده، ونسأل الله له واسع الرحمة، ولهما طول البقاء ودوام الارتقاء.
__________(2/624)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كنسة الإمام
احتفل العلماء في يوم الثلاثاء الأسبق بكنس ضريح الإمام الشافعي رحمه الله
تعالى، وسيحتفلون قريبًا بمولده، وقد كتبنا في العام الماضي بهذه المناسبة نندد بما
في هذه الاحتفالات والموالد من البدع، وذكرنا ترجمة الإمام عليه الرضوان، وما كان
عليه من نصر السنة وخذل البدعة، وقد بلغنا بمزيد السرور أن فضيلة مفتي الديار
المصرية تواطأ مع فضيلة شيخ الجامع على إزالة هذه البدع تدريجًا، فأزالا في هذه
السنة بدعة توزيع الكناسة على العلماء التي كانت تؤخذ للتبرك، وبدعة نقل العمامة
التي توضع على القبر من رأس عالم لرأس آخر، هذين العملين من عبادات الوثنيين
في الهند - راجع صفحة 425 من (منار) هذه السنة - فحمدًا للشيخين وشكرًا،
ونسأل الله أن يوفق معهما سائر الشيوخ لإماتة البدعة وإحياء السنة 0
__________(2/624)
13 شعبان - 1317هـ
16 ديسمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية
(ما يتعلق بالعقود الواردة من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية)
من دفاتر المحاكم الشرعية ما هو مختص بتسجيل العقود التي ترد إليها من
المحاكم المختلطة، ومنها ما هو معدٌّ لذكر ملخصات تلك العقود، وهو عمل من
الأعمال الشاقة التي تستغرق زمنًا طويلاً لعدد من الكُتَّاب في محاكم مصر
والإسكندرية والمنصورة، وقد خصص له في محكمة مصر ستة منهم، وهو يفسد
على كتاب المراكز وسائر المديريات أوقاتهم التي يجب أن يخصصوها لأعمال نافعة
وما من محكمة من المحاكم إلا تشكو منه.
ألزمت الحكومة نفسها بهذا العمل الشاق بما فرضته في لائحة المحاكم الشرعية
الصادرة في سنة 1880م في المواد 90 و91 و 92، وربما كانت له فائدة فيما
مضى حيث كان يجوز أن تؤخذ صور تلك العقود من سجلات المحاكم الشرعية، أو
كان يتوقف نقل التكليف على ما يَرِد من هذه المحاكم إلى المديريات في شأنها، فكان
في تسجيل تلك العقود تيسير على الناس في أخذ الصور والشهادات، لكن صدرت
بعد ذلك منشورات تمنع إعطاء الصور والشهادات إلا من المحكمة المختلطة التي
سجل فيها العقد، وأذن بنقل التكليف بناء على ما تبعث به المحاكم المختلطة نفسها
بدون حاجة إلى توسيط المحاكم الشرعية، فما معنى بقاء هذا العمل للآن، والحكمة
تميل إلى الاقتصاد في الأشخاص والمواد.
ظن كثير من الناس أن القانون المختلط يحتم ذلك، فحسبت ذلك شيئًا،
وعولت على أن أسأل عرض الأمر على نواب الدول فيما يعرض عليهم لمَحوِه من
القانون، لكن بعد مراجعة القانون لم أجد نصًّا يحدد العلاقة بين المحاكم الشرعية
وأقلام كُتَّاب المحاكم المختلطة إلا ما ورد في مادتي 31 و 32 من لائحة ترتيب
المحاكم المختلطة ونصهما (31) يعين لكل محكمة من المحاكم الابتدائية مأمور من
طرف الشرع الشريف يشترك مع رئيس كتاب المحكمة في تحرير العقود الناقلة
لملكية العقار والعقود الموجبة لحق امتياز على العقار، ويكتب المأمور بذلك كتابة
يرسلها إلى محكمة الشرع الشريف. (32) يترتب بمحاكم الشرع الشريف كتبة
مندوبون من طرف رؤساء كتاب المحاكم الابتدائية ليرسلوا إليهم صورة ما يقع
بالمحاكم الشرعية من العقود المشتملة على انتقال ملكية العقار أو رهنه، لتسجيلها
بدفاتر الرهونات بالمحاكم الابتدائية بدون توقف على طلب ذلك من أحد، فإن لم
ترسل الصورة المذكورة وجبت التضمينات اللازمة على ذلك، فضلاً عن الجزاء
التأديبي، إنما لا يترتب على ذلك بطلان العقود.
فهاتان المادتان كما لا يخفى على الغبي والذكي، إنما أوجبتا على المأمور
الشرعي لدى المحاكم المختلطة أن يبعث بكتابه للمحاكم الشرعية بما يحصل من
العقود فيها، وذلك ليُحفظ في مجلد خاص بالضرورة؛ لتعرف المحكمة الشرعية
ما حصل من التصرف في العقار لتلاحظه لو جاءها من يريد التصرف فيه، أما إنها
تسجله، فهذا لا دليل عليه، وإن ماجاء في المادة 32 يوجب على قلم الرهونات في
المحاكم المختلطة أن يسجل مايرد إليه من المحاكم الشرعية ويبين العقوبة والعواقب
التي تعقب الإهمال في إرسال الصور من المحاكم الشرعية إلى المحاكم المختلطة،
فعدم ذكر ذلك في المادة السابقة دليل على أن واضع القانون قصد أن لا يسجل شيئًا
مما يرد من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية في سجلاتها، وغاية ما يمكن أن
يحتمه إنما هو المحافظة على هذه العقود في نمر مسلسلة مع فهرست يُمَكِّن من
الرجوع إليها عند الحاجة، ويمكن للمحاكم الشرعية أن تفعل ذلك وتضعه في محافظ
تنتهي في آخر السنة إلى أن تكون مجلدات تودع الدفترخانة مع السجلات.
وما كان لواضع القانون المختلط أن يريد غير ذلك، فإن التسجيل إنما وجب
لما يلحقه من الأحكام المفصلة في القانون المدني، فالذي يرد إلى المحاكم المختلطة
هو الذي يجب أن يسجل فيها ليمكن الاحتجاج به على غير المتعاقدين عندها، بل
ذهب بعض مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية إلى أن ذلك شرطًا مطلقًا، وأن
العقود لا يعتد بها بالنسبة إلى غير المتعاقدين إلا إذا سجلت في قلم كتاب المحكمة
المختلطة حتى بين الوطنيين، وصدر حكم على هذا المذهب بالأغلبية بعدم اعتبار
حجة صدرت من المحكمة الشرعية وسها المأمور عن إرسالها إلى قلم كتاب المحكمة
المختلطة، أو أرسلها ولم تسجل فيه، وهو حكم غير صحيح، ولكنه مبني على هذا
الاعتبار، ثم إنني راجعت ما كتبه بورللي بك في القوانين المصرية، فلم أجد أثرًا
لهذا الإلزام، فلم يبق إلا ما ألزمت به الحكومة نفسها، ومن السهل عليها أن
تتخلص منه بإلغاء المواد المتعلقة بذلك من اللائحة الشرعية القديمة.
وأذكر لبيان ثقل هذا العمل الذي يعد الآن من قبيل اللغو ماورد على محكمة
مصر الكبرى وحدها في سنة 98 وهو خمسة وأربعون ألف عقد أخذ ملخصها ثم
أرسل ما يختص بالعقارات التي في دوائر المحاكم التابعة لها في التوزيع إليها
لتلخص منه ما يرسل إلى المراكز، وتسجل ما يكون من العقار في دائرتها نفسها،
وما سجل من ذلك بالحرف الواحد في محكمة مصر آلاف من هذا، وما ورد عليها
من أول هذه السنة إلى آخر شهر مايو اثنان وعشرون ألفًا وثلثمائة وسبعة وتسعون،
وربا الآن على ثلاثة وثلاثين ألف، وورد على محكمة الإسكندرية من أول يناير
هذه السنة لغاية يونيو اثنا عشر ألفًا ومائتان وستون عقدًا.
ولا حاجة لأن أطيل الكلام في بيان الأعداد، وأكتفي بأن أقول: إن
بعض محاكم المراكز وليس فيها إلا كاتبان: الأول , والثاني يسجل بالحرف الواحد
نحو ألفين وثمانمائة عقد في السنة، ويسهل على النظارة علم ذلك، فكيف يمكن
القيام بهذا العمل من هذه الأيدي القليلة مع بقية أعمال المحكمة، ثم إذا لم تفصل
الحكومة قلم التسجيل وتجعله مصلحة قائمة بنفسها، فعليها أن تعجل بإباحة تسجيل
العقود العرفية في المحاكم الشرعية على نحو ما هو جارٍ في المحاكم المختلطة،
والقانون المختلط لا يمنع ذلك وإنما على قلم الرهونات أن يسجل مايرد إليه من
المحاكم الشرعية، ولذلك يكون العقد حجة على غير المتعاقدين لديها، ولدى المحاكم
الأهلية كما نصت عليه المادة (32) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة التي سبق
نصها، ولو أبيح ذلك لكان فيه تيسير على الناس عظيم، سواء في التسجيل لقرب
المحاكم الشرعية منهم لانتشارها في جميع المراكز، ولسهولة أخذ الصور
والشهادات، ولو فرض فصل قلم التسجيل واستقلاله عن المحاكم، فأرى أن
تكون المحاكم الشرعية من فروعه في المراكز للسبب الذي ذكرته، وإلا احتاج إلى
نفقات كثيرة لا داعي إليها أو بقيت المشقة على الناس كما هي الآن.
(الدفتر خانات)
وجدت في أغلب دفتر خانات محاكم المديريات التي مررت عليها خللاً عظيمًا،
وكثير منها لا يوجد فيه دفتر حاصر لما هو فيها، فلو ضاع شيء منها لا تعلم
على من تلقى المسئولية، ويصعب الوصول إلى معرفة الضائع، ومنها ما هو دشت
لا يعرف لأي السنين هو، وإن ما أنكره جناب المستشار القضائي في دفتر خانة
محكمة مصر يوجد مثله أو مايقرب منه في غيرها، فقد رأيت في بعض المحاكم أن
دفاترها مدشتة في صناديق يعلوها التراب، وبعضها على الأرض والغبار من فوقها
ورطوبة الثرى من تحتها.
وقد اهتمت النظارة بإصلاح الدفتر خانات ووضعها على حالة تمكن من حفظ
ما فيها وتسهل طرق مراجعته، وكلفت المحاكم بالعمل في ذلك، لكن لم يلبث الأمر
أن حصل فيه فتور وتباطؤ لظهور الحاجة إلى أماكن وخزائن وعمال، واقتضاء
ذلك لنفقات لم يكن في ميزانية النظارة ما يفي بها، ولكنها حاجة من حاجات الحكومة
يجب سدها بما يمكن من السرعة، فإلى تلك الدفاتر والأوراق مرجع الناس في
تحقيق الملكية والأنساب والعصم ونحو ذلك، وهي مصلحة من مصالح العامة لا
تنقص في درجتها عن أهم المصالح العليا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/625)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(18) من أراسم إلى هيلانة في 21 أبريل سنة -185
قد أصبتِ أيتها العزيزة هيلانة في انتقادك طريقتنا في سياسة الأطفال، فإنها
جديرة بالاستهزاء والسخرية، ولكن يالها من طريقة تلائم أخلاقنا وأوضاعنا
السياسية ملاءمة عجيبة، فلا إفراط في التضييق على الطفل وحصره في لفائفه إذا
كان حظه في مستقبله أن يقمط ويشدّ بجميع أنواع القوانين والأوامر، أما حبال
الملابس التي نُمسَك بها عند المشي، فلا تعوزنا وعندنا منها ما يناسب جميع الأعمار؛
لأنه قد يجوز أن لا نحسن المشية، فتلزمنا تلك الحبال أن نمشي على صراط
مستقيم، وأن نمضي إلى حيث يريد من يقودنا، حقًّا إن القائمين علينا في تربيتنا
ليسلبوننا من أول نشأتنا كل ما أودع فينا من حسن الظن بأنفسنا وثقتنا بها، فما
أعقلهم وأبعدهم نظرًا في العواقب! ! إن هذا يعلمنا أن نكون في جميع أمورنا تابعين
لغيرنا معتمدين عليه في حفظنا ووقايتنا، فإننا بتعويد الناشئين على أن يُقادوا في
درجانهم ويُهزّوا في مهودهم، ويساسوا ويراقبوا في جميع حركاتهم وسكناتهم -
نؤهلهم لأن يعيشوا في مستقبل حياتهم بأعين الشرطة وتحت سيطرتها , فما أجملها
طريقة تتسلسل أجزاؤها! ! التسلسل هو أحسن لفظ وجدته للتعبير عن اتصال
غاياتها بمبادئها.
إن ماذكرتيه لي من الطريقة التي يجري عليها الإنكليز في تربية أولادهم قد
أسفر لي عن وجه الحكمة في حسن أحوال إنكلترا وأبان لي أنه لا سبب لوجود ما لها
من الأوضاع والقوانين الحرة إلا ماتتخذه من الطرق في تربية أبنائها على مبادئ
الحرية والاختيار، نحن في فرنسا نفرط في تعليق آمالنا بالحوادث، ونفرّط في
الاعتماد على ما أوتيناه من القوى، فماذا أقول في وصفنا، غير أننا لسنا فرنساويين
وإنما نحن يهود؛ لأننا دائمًا على رجاء من نزول المسيح في صورة حاكم يرفع
قواعد العدل ويخلص الناس من عوادي الجور.
لا أقصد بهذا الكلام أن أنكر قيمة ما تناوب حكومتنا من التغير في صورها،
وما ينتج من ذلك من المزايا، فإن هذا بعيد عن فكري؛ لأني لو كنت ممن لا
يعبأون بالشؤون السياسية لما وُجدت حيث أنا الآن، على أني قد وصلت بعد طول
النظر ومخض الرأي في ذلك التغير إلى اعتقاد أن ملك الاختيار لا قرار له إلا في
نفوسنا، وإننا إذا أردنا تمكين وتوطيد دعائمه في الأمة وجب علينا أولاً أن نؤسس
أصوله في قلوبنا 0 اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/628)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دروس جمعية شمس الإسلام
(أمالى دينية - الدرس الثامن)
(26) الوحدانية: قلنا فيما سبق أن أكثر البشر متقفون على أن لهذا العالم
إلهًا هو خالقه ومدبره، ونقول الآن: إنهم متفقون أيضًا على أن هذا الخالق واحد
لاشريك له في الخلق والإيجاد، ولا فرق في هذا الاعتقاد بين الفلاسفة الإلهيين
والمليين , كتابيين ووثنيين، وإنما شذت طائفة من قدماء الفرس زعمت أن للعالم
إلهين أحدهما خالق النور أو الخير، والثاني خالق الظلمة أو الشر، والإله الحقيقي
عندهم هو الأول، وقد انقرضت هذه الطائفة وأراح الله الوجود من جهلها. وسائر
من أشرك بالله تعالى من الوثنيين ومن تلا تلوهم من الكتابيين، فإنما أشركوا بعبادة
ربهم غيره لشبهة عنَّت لهم فاخترقت قلوبهم وامتزجت بعقائدهم منشؤها أن صانع
الكون وبارئه هو غيب مطلق، وأن النفوس لا تتوجه إلا إلى معروف مشهود،
فينبغي أن تكون وجهتها في عبادة الخالق العظيم بعض مظاهر قدرته الكبرى
كالشمس والكواكب أو النار أو بعض عباده المقربين عنده، القادرين على تقريب
من شاؤوا من جنابه، وإتحافهم بمرضاته، وقضاء حاجهم , أو تماثيلهم وصورهم
عند فقدهم (راجع المقالة الأولى من عدد 26 من (منار) هذه السنة) وأكبر شبهة
تولدت من هذه الشبهة ما ذهب إليه بعضهم من أن المذنب العاصي لا يليق به أن
يرجع إلى الله تعالى وينيب إليه بنفسه طالبًا العفو والمغفرة من كرمه ورحمته؛
لأنه ملوث، فلا بد له من واسطة من المقربين المقدسين يقربه إلى الله زلفى،
ويشفع له عند الله سائلاً منه أن يعفو عنه ويمنحه ما يطلب ويريد، تشهد لها آيات
القرآن الكثيرة، اقرأ إن شئت قوله تعالى في مشركي العرب: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) وقوله
تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن
يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ
أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31) وفي هذا المعني آيات كثيرة، منها الآيات المتصلة
في سورة المؤمنين التي منها: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّه} (المؤمنون: 88-89) (وقرأ غير أبي
عمرو ويعقوب: لله) {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 89) ثم اقرأ مع هذه
الآيات قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ
هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 2-3) فالشرك بالعبادة هو الذي كان فاشيًا في الأمم بألوان
مختلفة وأسماء متعددة وصور متنوعة، فجاء القرآن ينعي عليهم هذا، ويحاجهم فيه،
ويمحو شبههم عليه في آيات تعد بالمئات، وكان هذا أهم أصول الدين وأركانه،
ولذلك كانت علامة الدخول فيه كلمة (لا إله إلا الله) والإله هو المعبود، ولأجل هذا
سمي علم العقائد توحيدًا، وإن كانت الكتب التي بين أيدينا قلما تبحث في هذا النوع
من التوحيد وما أزاله من الشرك.
(27) ما هي العبادة: القول المشهور في تفسير لفظ العبادة أنها أقصى غاية
الخضوع والتذلل، ولكن قال أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية لهذا العهد: إن من
تتبع استعمال العرب في كلامهم يجد أنهم لا ينطقون لفظ العبادة على الخضوع
والتذلل للملوك والأمراء مهما بولغ فيهما، ولا يسمون تذلل العاشق المستهتر لمن
يعشقه عبادة وإن غلا فيه أشد الغلو، وإنما يخصون لفظ العبادة بالتعظيم الناشئ عن
الشعور بأن للمعظَّم سلطة غيبية وأسرارًا معنوية وراء الأسباب الظاهرة، وخلاف
ما يُعهَد من سائر الخلق، وللعبادة صور كثيرة أشهرها وأعمها الدعاء وطلب قضاء
الحوائج التي تتعاصى على الأسباب المكتسبة، فيتعذر أو يتعسر الوصول إليها،
ولذلك اجتمع المفسرون على تفسير ألفاظ الدعاء بالعبادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} (الأنعام: 71) وقوله: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ
فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وفي الحديث المشهور الدعاء مخ العبادة
وأصل الدعاء النداء والطلب مطلقًا، أو مع ملاحظة استعلاء المنادى المطلوب
منه، وإذا لوحظ معه تعظيم المدعو واعتقاد أن له سلطة غيبية وراء الأسباب
الظاهرة أو طلب منه ما لا يُنال بالكسب كان عبادة، سواء كان اعتقاد السلطه له
لذاته أو لأنه واسطة بين الداعي وبين الله تعالى يقربه إليه زلفى، ولا يخرجه عن
معنى العبادة تسميته باسم آخر كالتوسل والاستشفاع كما هو المتبادر من القرآن
الكريم واللغة، والعبرة بالحقائق لا بالأسماء والاصطلاحات، ولا بالوساوس
والخيالات.
هذا النوع من الشرك لا يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى، فقوله تعالى: {وَمَا
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونُ} (يوسف: 106) قيل: إن الآية نزلت في
أهل الكتاب، وقيل: في غيرهم، ولا شك أن أهل الكتاب قد دبت إليهم هذه العقيدة
من الوثنيين الذين مازجوهم وخالطوهم، ولكنهم أولوها وطبقوها على
ظواهر دينهم، ولن يُعدموا من الكتاب آية أو أكثر من المتشابهات يستدلون بها على صحة ما ذهبوا إليه. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة:
31) بمعني أنهم اعتقدوا أنهم وسطاء بينهم وبين الله تعالى يقربونهم إليه،
يستمطرون لهم رحمته وفضله على ما فيهم من عوج، وأنه تعالى يدفع عنهم النقم
ويغدق عليهم النعم، وإن لم يأخذوا بأسبابها الشرعية إن كانت دينية، وأسبابها
الطبيعية إن كانت معاشية، وليس المعني أنهم سموهم أربابًا وآلهة، أو أنهم
كانوا يُصَلُّون لهم أو يعتقدون أنهم يخلقون ويرزقون، كلا، إن هذا ما كان يُعهَد في
تاريخهم إلى الآن، وكيف يسمون هذا النوع من تعظيم لرؤساء الروحانيين،
واعتقاد الامتياز لهم عبادة، وهم يقولون: لا يعبد إلا الله؟ أم كيف يسمونهم أربابًا
وآلهة، وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ خصوصًا اليهود منهم، ولكن العبرة
بالعمل والاعتقاد، لا بالقول والتسمية كما علمتم آنفًا، ولذلك قال الله (اتخذوا)
ولم يقل (قالوا) بل كانوا يتنصلون من الأقوال التي تخالف نصوص الكتاب أشد
التنصل ويطبقون ما هم فيه عليها، ولو بتحريف الكلم عن مواضعه وحمله على غير
المراد منه، وقد جاء في حديث البخاري وغيره: لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ وقد
صدقت أعلام النبوة، وفشا في أمتنا هذا النوع من الشرك والوثنية الذي كان فيهم حتى
إن بعض الفرق منا زادت على ما كان منهم، بل ومن بعض الوثنيين أيضًا، اتخذوا
من دون الله أولياء وبنوا لهم هياكل في مساجدهم يدعونهم مع التعظيم
والتذلل والخشوع الذي لا يلاحظون مثله في الصلاة ويزعمون أنهم يقربونهم إلى الله
زلفى، ويقولون: إنهم شفعاؤهم عند الله يقضون لهم الحوائج بإذنه، أو يقضيها هو
بواسطتهم، ويقولون: إننا لا نقصد بذلك العبادة، يعنون أنهم لا يسمونه
عبادة، بل انتحل له المؤولون أسماء أخرى كالتوسل والاستشفاع، وهذه جناية على
اللغة تُضَم إلى الجناية على الدين، وسنتكلم على التوسل الآن ونرجي بحث الشفاعة
إلى الكلام في الآخرة؛ لأنه ورد أنها إنما تكون فيها.
التسمية لا تقلب الحقائق {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان} (النجم: 23) ولوكانت التسمية تغير حقيقة المسمى لأمكن
للفقير أن يكون غنيًّا، وللضعيف أن يصير قويًّا، وللصعلوك أن يرقى إلى مصاف
الملوك بكلمة يرمي بها اللسان ويكيفها الصوت.
حدثني رجل من ظرفاء النصارى في لبنان أن مسلمًا اسمه محمد تنصر ودخل
في رهبان دير قزحيا وسمي حنا ففاجأه صوم التنحس أي الذي لا يأكلون فيه من
اللحوم غير السمك، ولا سمك هناك، فشق عليه أكل العدس في كل يوم، فأخذ ذات
ليلة دجاجة من دجاج الدير، ولما جن عليه الليل جعل يطبخها فأحس به من كان
يمر عليه من الرهبان، فكانوا يسألونه وهو يوارب في الجواب فتقدم واحد منهم
وكشف الغطاء عن القدر وقال: وما هذا يا أخ حنا؟ فقال: سمكة، فقال الراهب:
إنها دجاجة، فقال حنا: كلا، إنها سمكة، وبعد تكرار المراجعة قال حنا للراهب:
وماذا يضرك لو سميتها سمكة، وإن كان اسمها في الأصل دجاجة، فقال الراهب:
هذا لا يصح أبدًا. عند هذا قال له حنا: ما هو اسمي الآن؟ فقال: اسمك حنا،
فقال: وماذا كان اسمي من قبل؟ قال: محمد، قال: إذن تغيير الاسم لا يغير
الحقيقة، وأنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأكل
الدجاجة وانصرف من الدير في صبيحة تلك الليلة.
(28) بطلان هذا الشرك: يُعرَف بطلانه بالعقل والنقل، أما العقل فإنه لما
نظر في هذه الأكوان البديعة النظام، ولم ير منها شيئًا يمكن أن يضاف إليه الإيجاد
والإحكام، ولا يمكن أن يكون من قذفات المصادفة والاتفاق - علم أن مصدرالإبداع
والإتقان قوة غيبية، فمن ذلك المصدر كل شيء: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} (النمل: 88) وهو المنفرد
بالإيجاد والإمداد، وأنه هو: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:
50) ثم حكم بأنه حيث كانت القوة الغيبية التي هي وراء الأسباب الظاهرية له
وحده، والسنن الطبيعية والقوى الكسبية منه، فلا يتأتى وجود شيء من غير سببه إلا
منه، ولا يجوز أن يخضع أحد لأحد خضوعًا عن شعور بسلطة غيبية (وهو العبادة
إلا له وحده، فيجب أن يُخص بهذه العبادة وأن يُشكر على نعم الإيجاد والإمداد
بعبادات أخرى، هذا ما يحكم به العقل السليم، وقد نطق به بعض الحكماء، وغفل
عنه أكثر البشر، ولذلك احتيج في بيانه إلى الدين، وأما النقل فقد أوضح هذا أكمل
الإيضاح، فإن القرآن ينادي بلسان عربي مبين بأن هذا دين جميع النبيين {وَمَا
أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} (البينة: 5) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا
إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31)
وهذا تتمة آية:] اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ [المتقدمة، والآيات في هذا المعنى كثيرة،
وهي مصرحة بأن جميع الذين كانوا يدعون، وتطلب منهم الحوائج - ومنهم
الأنبياء والملائكة - لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فضلاً عن غيرهم، اقرأ:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) ] وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ [قد أمر سيد الأنبياء بهذا البيان:] قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا
إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ [1 {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) فحصر الله وظيفته بالإنذار
والتبشير، ومثل هذه الآية قوله تعالى:] قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا [2] *
قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [3 {* إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 21 - 23) وإذا كان لا يملك للناس الرشد والهداية التي
هي أثر وظيفته - التبليغ - فكيف يملك لهم الضر والنفع والعطاء والمنع؟
] إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [[4] (القصص:56)
وكما أنزل عليه هذا، وما في معناه كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105) {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) ، أنزل عليه في شأن
المرسلين عامة: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام:
48) قال البيضاوي في تفسيرها: وما نرسلهم ليُقترح عليهم ويُتلهًّى بهم:
{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام: 48) .
فهذه الآيات المحكمة التي جاءت بصيغة الحصر نصوص قاطعة على أن
وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التبليغ عن الله تعالى فقط، ولم ترد آية واحدة
تصرح بأنهم وسطاء بين الله تعالى وبين خلقه فيما عدا هذا , كدفع الضر وجلب النفع
وتوسيع الرزق والتأثير في قلوب الخلق , ونحو هذا مما يطلبه المنحرفون ممن دونهم
كالأولياء، بل الآيات نفت هذا صريحًا كما ذكرنا آنفًا , وعليه كان الصحابة والسلف
الصالح، لا سيما بالنسبة للأموات الذين ينقطع كسبهم بالموت , ولو فرضنا أنه ورد
في الكتاب أو السنة شيء ينافي ظاهرُه هذه النصوص القطعية التي هي روح الدين -
لكان يجب علينا أن نعده من المتشابه، وقد علمتم حكم المتشابه في الدرس الماضي
على أننا - مع عدم ورود هذا - قد بلينا بقوم يحرفون الكلم ويفسرون القرآن برأيهم
فروَّجوا على الناس هذا الشرك بتسميته توسلاً، وتسمية الأولياء وسيلةً، والوسيلة
مطلوبة بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) وإنما فسر أئمة الدين
الوسيلة بالإيمان والعمل الصالح وهو تفسير يشهد له القرآن كله، وهذه الوسيلة
مطلوبة من الأولياء والأنبياء كغيرهم، وأنا أتلو عليكم في هذا آيتين كريمتين
مع تفسير البيضاوي لهما وهما: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} (الإسراء: 56)
أنهم آلهة، {مِن دُونِهِ} (الإسراء: 56) كالملائكة، والمسيح، وعزير {فَلاَ
يَمْلِكُونَ} (الإسراء: 56) فلا يستطيعون {كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ} (الإسراء:
56) كالمرض والفقر والقحط {وَلاَ تَحْوِيلاً} (الإسراء: 56) ، ولا تحويل
ذلك منكم إلى غيركم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} (الإسراء
: 57) هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء:
57) بدل من (واو) يبتغون؛ أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة
فكيف بغير الأقرب؟ {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: 57)
كسائر العباد، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء:57) حقيقًا بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة. اهـ
حدد الله وظيفة رسله، فليس لنا أن نعطيهم زيادة عما أعطاهم الله، وقد
أخبرونا عنه بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد، فليس لنا أن نجعل بيننا وبينه واسطة
في غير تعليم دينه، فلا ندعو غيره؛ لأنه قال: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) ولا نستعين إلا به لأننا نناجيه كل يوم بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) .
أما تعظيم أولئك المرشدين من الأنبياء ووُرَّاثِهم فإنما يكون بما أذن الله تعالى به من الاقتداء بهم والصلاة عليهم والدعاء لهم، وأما زيارة القبور فإنما أذن بها
النبي صلى الله عليه وسلم بعد المنع منها للاعتبار بالموت وتذكر الآخرة كما هو
مصرح به في الحديث الشريف، هذا هو دين الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قوله: [إلا ما شاء الله] معناه تأييد النفي , ومثله قوله تعالى: [سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله] وقوله: [خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك] وقوله: [قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله] .
(2) في الآية احتباك؛ أي: لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غوايةً أو ضلالةً, فحذف من كل ما أثبت مقابله في الآخر.
(3) أي ملتجأ.
(4) الهداية هنا بمعنى جعل الإنسان مهديًّا بالفعل وتطلق بمعنى الدلالة ومنه [وإنك لتهدي إلى صراط
مستقيم] .(2/630)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار والمناظر
جاءتنا جريدة (المناظر) الغرَّاء من أشهُرٍ مكتوبًا على غلافها كلمات يطلب
بها كاتبها الفاضل منا العود إلى تلك المقالات الوطنية الضافية، لا سيما التي تؤلف
بين قلوب العناصر المختلفة في الوطن، وتحثهم على التضافر والاتفاق على خدمته
وإعلاء مناره، فعزمنا على المجاوبة ثم نسيناها لأن الورقة فقدت من بين أيدينا،
ثم جاءنا في هذه الأيام العدد 39 من هذه الجريدة ينتقد علينا بأن مواضيع الجريدة
كلها دينية، وأنه ينبغي أن نكتب (جريدة دينية) بدلاً من (علمية أدبية تهذيبية
إخبارية) .
ونقول في جواب رصيفنا الفاضل (أولاً) : إننا كنا نكتب تلك المقالات
عندما كان (المنار) منتشرًا في سوريا يقرأه المسلمون والنصارى واليهود، فلما
طال أمد منعه من ولايات الدولة العلية وانحصر قرّاؤه في مسلمي مصر
وتونس والجزائر ومراكش والهند والجاوه، وفي نفر قليل من بني وطننا السوري في
أمريكا وغيرها، اضطررنا إلى جعل أكثر إرشاداته إسلامية، ووجدنا الرغبة من
القرَّاء قوية جدًّا في المواضيع الإسلامية الإصلاحية التي نكتبها حتى إننا لم نكد نكتب
في موضوع منها إلا عن اقتراح من أحد الفضلاء أو من غير واحد منهم، على أن من
رأينا الذي يوافقنا عليه كثير من العقلاء المسلمين والمسيحيين أن فهم الدين على وجهه
الحقيقي الذي نشرحه في (المنار) هو الذي يطفئ من النفوس نائرة الغلوّ في
التعصب، ويقف بها عند حدود الاعتدال في المعاملة مع البعيد والقريب
والموافق والمخالف.
و (ثانيًا) إن كثيرًا من المواضيع الدينية التي كتبناها ونكتبها يمكن أن يستفيد
منها غير المسلم، ونخص بالذكر (الأمالي الدينية) فإن جميع ماكتب فيها متعلق
بالإيمان بالله تعالى، وأنه جاء لجمع البشر وتوحيدهم لا لتفريق كلمتهم وإلقاء
العداوة والبغضاء بينهم، والإتيان بآيات القرآن في هذه الدروس لا ينبغي أن يصدّ
غير المسلم عن الانتفاع بها؛ إذ ليس كل ما في القرآن مخالفًا لاعتقاده، ولقد اطلع
بعض علماء النصارى الفضلاء المدرسين في إحدى المدارس العالية في سوريا على
درس من دروس الأمالي، فكتب إلينا يطلب أعداد (المنار) التي فيها سائر
الدروس، ويقول: إنه أقنع ناظر المدرسة بأن يشترك في (المنار) باسم
المدرسة ويضع أعداده في مكتبتها لينتفع به المعلمون والتلامذة.
و (ثالثًا) إننا نعتقد أن أشرف العلوم علوم الدين، وأحسن الآداب آدابه،
وأفضل التهذيب تهذيبه، فإذا لم يكن في المجلة غير المباحث الدينية لم نكن مخطئين
في تسميتها علمية أدبية تهذيبية.
و (رابعًا) إنه لا يكاد يخلو عدد منها من مباحث التربية التي هي أهم
ما يحتاج إليه الوطن، وحسبه كتاب (أميل القرن التاسع عشر) الذي هو أمثل
كتاب ألَّفه الأوربيون في التربية العملية، كما لا يكاد يخلو عدد من جمل في أهم
الأخبار، لا سيما تاريخ دولتنا العلية الذي ننشره تباعًا باسم (قليل من الحقائق)
إلخ.
و (خامسًا) نعترف بأن الأولى أن تكون مواضيع كل عدد متنوعة ليأخذ كل
قارئ حظه، ولكن الكُرَّاسين لا يسعان كل ما نريد أن يسعه كل عدد، وقد اقترح علينا
أحد القرَّاء الفضلاء أن نجعل (المنار) أربعة كراريس ونصدره في كل نصف شهر
كالهلال) و (الموسوعات) وسنجيب هذا الطلب إذا وافق عليه كثير من القرَّاء،
والله الموفق.
__________(2/638)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيول الجارفة
جاءنا في صبيحة يوم الخميس الماضي بريد سوريا وتونس ينطق بوقوع
الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة في القطرين. وفي جريدة (طرابلس الشام)
والأجوبة الواردة منها أن مصابها بالسيول كان عظيمًا، فقد طغى نهر أبي علي طغيانًا
كبيرًا، فارتفع عن سطحه المعتاد نحو تسعة أذرع فعلا الجسر وطاف علي المدينة
من الجانبين فدمر بيوتًا وأتلف في الأسواق والدور متاعًا وأثاثًا ورياشًا، وأغرق
كثيرًا من الناس والدواب، وأبطل حركة الطواحين وجرف ما فيها من البر والدقيق،
واقتلع في البساتين ما لا يُحصى من الأشجار، وكان الناس ينقذون الغرقى بإدلاء
الحبال إليهم من نوافذ الغرف وسطوحها، وقد أثنى كل من كتب في هذا على رفعتلو
حسن أفندي الأنجا رئيس الشرطة، فإنه أظهر من الهمة والشهامة في إنجاء الغرقى
من حوانيتهم ما يحمد عليه، وساعده على هذا العمل الشريف كثيرون، ويقدرون
الخسائر بنحو 50 أو 100 ألف جنيه.
وذكرت جريدة (بيروت) أنه وقع في بيروت من السيول والأنواء نحو ما
وقع في طرابلس برًّا وبحرًا حتى دخول السيل للبيوت والحوانيت، ولكن بيروت
لا يخترقها النهر كطرابلس، ولذلك كانت الخسائر فيها أقل، وذكرت في خبر طغيان
الأنهار أن نهر بيروت كاد يلتقي بنهر (ألموت) ونهر (إنطلياس) وأنه قد سقط
ثلاث قناطر من جسر نهر الكلب على متانتها وضخامتها، وقد حصل في لبنان
خسائر كثيرة لم تُعلم، وكذلك في جهة حمص، ولا نعلم ما يأتينا به البريد الآتي.
وأما في تونس فقد كان البلاء أخف، وغاية ما ذكرته جريدة (الحاضرة) أن
السيل عطل سَير الأرتال فيما بين سوسه والقيروان والحاضرة التونسية، فقد انهمر
وادي مرق الليل حتى خيف الغرق على الجهة القبلية من مدينة القيروان وانهارت
قطعة من طريق سكة الحديد تبلغ الاثني عشر كيلو متر، وانقض سقف بمكتب العلا
على أم رأس ولدين فماتا، وتداعت عدة ديار للسقوط؛ فاضطر ساكنوها لإخلائها،
وغرق صبي في بركة من ماء المطر، فنسأل الله اللطف بعباده.
__________(2/639)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجغرافيا والحرب
ذكر (المقطم) في مقالة له في الحرب الحاضرة سببين لخذلان الإنكليز
وانكسارهم فيها، أحدهما تقصيرهم في معرفة قوة عدوهم، وثانيهما تقصيرهم في
معرفة جغرافية مستعمراتهم في جنوب إفريقيا كبلاد ناتال ومستعمرة الرأس وغيرها
قال: (فأصابهم ما أصابهم من جهلهم لها، وكان الواجب أن يكون عندهم خرائط
عسكرية حربية يرسم فيها محل كل نجد وغور، ومسيل ونهر، وسهل ووعر،
وشعب وطريق، ومنفرج ومضيق وأجمة وعراء وأكمة وبطحاء؛ ليأمنوا فيها
مفاجأة العدو وغدر الأدِلاّء، أما الآن فقد تبين مما أصابهم بعد معركة جلنكوي وقرب
لادي سميث وبعد معركة بلمونت سترومبرج أنهم يجهلون تلك الأراضي فيضلون
فيها أو يضلهم أدلاؤهم حتى يحدق البوير بهم في أماكن لا تسلك ويشرفون عليهم من
معاقل لا تؤخذ، فيكسروهم ويأسروهم) . اهـ
فليعتبر بهذا الشيوخ الذين يقولون: إنه ليس لهذا العلم فائدة ما مع اعتقادهم
بأن فن الحرب واجب في الملة، وأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب،
فإذا كان انكسار الإنكليز في عدة مواقع وأسر 600 منهم في سرية واحدة أضلهم
فيها الأدِلاّء، إنما كان لأنهم لا يعرفون تلك البلاد كما يعرفون بيوتهم، فكيف
يكون حالهم لو كانوا لا يعرفون الجغرافيا بالكلية، إلا أن الذين ينهون طلاب
العلم في الأزهر عن هذا العلم غاشّون لهم بجهلهم، فإن من جهل شيئًا عاداه،
وإن الذين يقولون: لا فائدة في هذا العلم , وجودهم عار على الإسلام، بل على
الإنسانية نفسها، والسلام.
__________(2/640)
20 شعبان - 1317هـ
23 ديسمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشريعة والطبيعة
والحق والباطل
{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا
يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
إن لله تعالى خليقة منها جميع ما نعرفه من هذه الأكوان، وشريعة اختلفت
أحكامها باختلاف أحوال الاجتماع لنوع الإنسان، ثم ثبتت أصولها وقواعدها العامة
بالسنة الصحيحة والقرآن، على وجه ينطبق على مصالح البشر في كل آن، ولولا
هذا لم يصح أن تكون شريعة عامة لكل زمان ومكان، فالخليقة أو الطبيعة من الله
كما أن الديانة والشريعة من عند الله، فذلكم الله ربكم الحق، وكل ما كان من الحق
فهو حق، فمن قال: إن الطبيعة أوعلمها باطل، كمن قال: إن الشريعة أو العلم بها
باطل، كلاهما متجرئ على مقام الربوبية بنسبة الباطل إلى الحق تعالى عن ذلك
علوًّا كبيرًا.
ربما يستبعد بعض الناس هذا القول بالنسبة للطبيعة دون الشريعة، ولكن
الذين يتلون القرآن حق تلاوته أولئك يؤمنون به، واتل عليهم قوله عز وجل:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190-191) فإذا
كانت آيات الله تعالى في خلق العوالم العلوية والسفلية وحوادثها الطبيعية - كاختلاف
الليل والنهار- إنما يعرفها العقلاء باستمرارهم على التفكر فيها، فلا جرم أن أكثرهم
تفكرًا أكثرهم علمًا وأجدرهم بمعرفة الله تعالى وتعظيمه، والإيمان بقدرته وكمال
علمه وحكمته، وما شذوذ بعض الناظرين في علوم الطبيعيات والهيئة اشتغالاً
بالصنعة عن الصانع إلا كشذوذ الناظرين في علوم الشريعة المتوسعين فيها عن
العدالة في الأحكام والعفة في المعاملة، وهما روح الشريعة، فإننا نسمع الناس
يرمون رجالاً من أوسع العلماء والقضاة الشرعيين علمًا بالأحكام بما لا يرمون به
سائرهم، وما كان الزيغ والانحراف من هؤلاء وأولئك من علمي الطبيعة والشريعة
فيكونا باطلين، وإنما هو فساد في التربية زاد بالعلم فسادًا {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} (البقرة: 10) ومثل العلم يشقى به قوم ويسعد به آخرون
مثل الحنظل والبطيخ يسقيان بماء واحد فيزيد الأول مرارة والثاني حلاوة {يُضِلُّ
بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) من حقيّة
الشريعة أن جميع ماجاءت به من العقائد والآداب والأحكام موافق لمصالح الناس
ومسعد لهم في معاشهم ومعادهم، ولذلك كانت كلياتها حفظ الدين والنفس والعقل
والعرض والمال، فإذا نسب إليها شيء فيه مفسدة أو منافاة لمصلحة، فهو ليس منها،
وإن أُسند إلى علمائها ودُوِّن في كتبها؛ لأن هذا من الباطل، ومن حقيّة الطبيعة أنها
قامت بقوانين ثابتة وسنن مطّردة (يسمونها نواميس) بحيث يتمكن الناس من
الانتفاع بها كلما زادوا علمًا بسننها وقوانينها، ولو كانت مختلة النظام تجري فيها
الحوادث بغير إحكام لما اهتدى الناس للانتفاع بها، ولما صح الاستدلال بها على
علم مُبدعها وحكمته وكمال قدرته ونفوذ مشيئته، فمن يرى في الطبيعة خللاً أو
فسادًا فإنما يريه إياه ضعف نظره أو ظلمة بصيرته، فليتْلُ عليه قوله تعالى: {مَّا
تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ
البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: 3-4) .
لولا الخليقة والطبيعة لم توجد الديانة والشريعة، فإن الله تعالى خلق الإنسان
في هذا العالم كثير الحاجات والضرورات، ميّالاً بفطرته إلى الكمالات وبلوغ
الغايات، وجعل له الوجدان والمشاعر والعقل ليهتدي بها إلى ما تطلبه فطرته
وتقتضيه خلقته، ولكنه جعل بين أفراده تباينًا في هذه المدركات تتباين بها مقاصدهم
وأعمالهم، والمباينة والتفرق في هذا هما منشأ اختلال المصالح الاجتماعية، فمن ثم
كان في أشد الحاجة إلى هداية رابعة تقرب المتباين وتجمع المتفرق، وقد منح الله
الإنسان هذه الحاجة بالشريعة، ومقاصد الشريعة وأسسها: (1) الاستدلال بالطبيعة
عامة على موجدها ومبدعها، وما اتصف به من صفات الكمال , و (2) تقويم
الطبيعة الإنسانية بتهذيب أخلاقها وترويضها بضروب من العبادات؛ ليسهل على
الإنسان الوقوف في تصرفه بالطبيعة العامة على صراط الاعتدال , و (3) تحديد
الحقوق والواجبات وبيان أحكام العمل بها , و (4) تبشير من وقف من الأمم عند
الحدود بالسعادة في الدنيا ووعده بالمثوبة في الآخرة، وإنذار من تعداها بالشقاء
العاجل، ووعيده بالانتقام الآجل، فالعلم بالطبيعة مرتبط بالعلم بالشريعة , يكمُل
بكماله وينقُص بنقصه، فمن لا يعرف الكون ونظامه وطباع البشر وقواهم
العقلية والجسدية، وارتباط بعضهم ببعض، وما وصلوا إليه من العلم بطبيعة الكون
وكيفية تصرفهم فيه على وفق مصالحهم ومنافعهم - لا يمكنه أن يعرف مقاصد
الشريعة، وكيف يؤخذ الناس - أو يأخذون بها - وهذا الأمر واضح بنفسه وإن
ضل عنه كثير من المنتمين إلى علم الدين، المتوهمين أن شرع الله يعرف
بالاستنباط من ألفاظ المؤلفين، وكمال العلم به يكون بالجهل بالخليقة وأحوال الخلق
أجمعين.
نتيجة هذا كله أنه يجب أن لا يكون في الدين والشريعة شيء مخالف لما في
الخلق والطبيعة؛ لأن كلاًّ من عند الله وحاشا أن يصدر عن تلك الذات العلية
التناقض والاختلال، وأي أمر ينافي الكمال، وما عساه يوجد في الكتب الدينية أو
يجري على ألسنة رجال الدين من قول يذم علوم الخليقة أو يرمي إلى بطلانها، أو
ينهى عن تعلمها - فهو من الناس لا من الله، ألصقوه بالدين لشبهٍ عرضت لهم
أكثرها لفظية أو لمحض الجهل، على أنه يوجد في كتب العلوم الطبيعية مثلما يوجد
في كتب العلوم الشرعية من الأقوال والآراء المبنية علي الظن والخرص.
واليقيني من مسائل العلوم الطبيعية، وما يلحق بها هو ما ثبت
بالمشاهدة والاختبار أو البراهين القطعية كالبراهين الرياضية على الكسوف
والخسوف، وكثير من مسائل الهيئة الفلكية وغيرها، ولا يطلقون اسم العلم في
هذا العصر إلا على ما ثبت بالتجربة والاختبار العملي.
واليقيني من مسائل الدين هو ماثبت بنصوص القرآن والسنة المتواترة
كأصول الاعتقاد والأركان الخمسة، وسائر المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة، فهذه المسائل اليقينية لا ينافي شرعيها طبيعيها أبدًا، ومتى نافى
قطعي من قسم منها ظنيًّا من القسم الآخر يترك الظني للقطعي إلا إذا أمكن الجمع
بينهما، وإذا تعارضت الظنيات نرجح الشرعي علي غيره.
علمنا أن الشريعة والطبيعة كليهما حق من الله تعالى، والحق لا تكون آثاره
ونتائجه إلا صالحة وثابتة بثباته، والباطل لا يكون إلا مضطربًا ومتزعزعًا،
وآثاره تفنى بفنائه وتزول بزواله، فإذا تصارع الحق والباطل لا يلبث الحق أن
يصرع الباطل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء:
18) ، وفي الزبور الذي في أيدي أهل الكتاب ما مثاله أن الذي تكون مسرته
وغبطته في الناموس الإلهي ينجح في عامة أعماله، ويكون كالشجرة عند مجاري
المياه تثمر في أوانها ولا يذبل ورقها، وأما الأشرار فهم كهشيم تذروه الرياح لا
يثبت لهم في طريق الدين قدم؛ لأن الرب يعلم طريق الأبرار، أما طريق الأشرار
فتهلك.
والأمثال على هذا في القرآن كثيرة، ومن أبلغها وأظهرها الآيات التي
افتتحنا بها هذه المقالة، ثبات الحق وزهوق الباطل ثابت في الطبيعة كما هو ثابت
في الشريعة ويسميه الحكماء الذين اهتدوا إليه (الانتخاب الطبيعي) يعنون أن
طبيعة الوجود تقتضي بقاء الأصلح الأنفع في الكون وتلاشي ما سواه.
والأصلح في الطبيعة ما كان جاريًا على سننها ومندرجًا تحت نواميسها،
والأصلح في الأمور الشرعية ما كان موافقًا لأصول الدين وقواعده وأحكامه من
حيث إنها هادية للأرواح في شؤونها الروحية ومصالحها الاجتماعية، فيمكننا على
هذا أن نستدل من الشريعة والطبيعة معًا على أن الأمة المخذولة المهضومة الحقوق
المغلوبة على أمرها لا بد أن تكون على الباطل، أي زائغة عن صراط الشريعة
متنكبة سنن الطبيعة {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ
هَضْماً} (طه: 112) .
كأني بأكثر القرَّاء من إخواني المسلمين، وقد انتهوا إلى هذه المسألة
فاضطربت أفكارهم وانفعلت أرواحهم، وسبق الوسواس إلى أذهان بعضهم بأن
قصارى هذا القول طعن بالإسلام؛ لأن أهله مخذولون في هذا الزمان في كل قطر
ومكان، واعتراف بأحقية أديان أخرى ثبتت سلطة أهلها، واستقام أمرهم ونجحوا
في أعمالهم وعلت كلمتهم على المسلمين، ومنهم الوثني ومن لا يدين بدين، مهلاً
مهلاً، استوقف أيها المنتقد سربك واستغفر ربك، ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم، فإن
بعض الظن إثم، واعلم أن ما تراه من الباطل ثابتًا قويًّا، فإنما ثباته بالتوكؤ على
أركان من الحق كالنظام ومراعاة سنن الله في الخلق والأخلاق والسجايا الفاضلة
كالصدق والأمانة، فالحق ثابت في نفسه، والباطل ثابت به أو شبيه بالثابت، فلو
تداعت أركان الحق عند هؤلاء لسقط الباطل، بل لتبين زهوقه وبطلانه، ولما ثبت
بنفسه قط، وما تراه من خذلان المسلمين واضمحلال سلطتهم مع حقيّة دينهم فسببه
عدم السير على منهاج دينهم، وهذا كتابهم ينطق عليهم بالحق: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) وقد كتبنا في (منار)
السنة الأولى مقالة تحت عنوان قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) أتينا فيها بالقول الفصل في دعوى المسلمين
أن نجاحهم وارتقاءهم بدينهم، ودعوى الباحثين في طبائع الملل وعلوم الاجتماع
والعمران أن شقاء المسلمين وضعفهم العام إنما جاءا من قِبل دينهم لأنه لا شيء
آخر يناط به تأخرهم في جميع الأقطار، وأن ترقيهم إنما يكون باحتذاء أوربا
وتقليدها، وخلاصة ما هنالك أن كل واحد من القولين له وجه وفيه قصور،
والصواب أن الإسلام جامع لأسباب السعادة الدنيوية التي نالها الغربيون ومن تلا
تلوهم كاليابانيين على أكمل الوجوه، وزاد على ذلك بيان أسباب السعادة الآخرة،
ولكن المسلمين انسلُّوا مما أرشد إليه الدين من أسباب السعادة كاستقلال الإرادة
والرأي، وتطهير النفس من أدران الخرافات وصدأ الأوهام وصقلها بصقال الحجة
والبرهان في جميع ما تأخذ به، وإطلاق العقل من قيوده وتسريحه في عوالم
الطبيعة علويها وسفليها؛ ليبحث عن حقائقها وينتفع بها، فإن الله ما قال: {وَسَخَّرَ
لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) إلا ليرشدنا إلى
هذا - انسلوا من هذه الإرشادات كلها باسم الدين، وتبع هذا فساد الأخلاق والأعمال،
فلا غرو إذا قال القائلون: إن الدين هو الذي حال بينهم وبين الترقي، فإنهم يرون
أن دين الناس ما هم عليه، وبيّنا هناك أيضًا أن دين الإسلام هو دين الفطرة " أي
الخليقة والطبيعة " وأنه بيّن في القرآن سنته في هلاك الأمم بمثل قوله: {وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (يونس: 13) وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن
نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء
: 16) وبيّن سنته في نجاة الأمم وحفظها من الهلاك بمثل قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) والمراد بالظلم هنا الشرك
خاصة؛ فإن من أشرك ظلم نفسه وفي الآية الأولى ما يعم الجور في الأحكام
والأعمال نص. على ذلك المفسرون، وبه يرتفع التناقض، فقد بيّن أن المصلح لا
يهلك وإن كان مشركًا، وبيّن في آيات أخرى أن الصلاح والإصلاح سبب إرث
الأرض، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وكل شيء فصلناه تفصيلاً.
فالقرآن بجملته حجة على المنتسبين للإسلام بأنهم على غير الحق الذي جاءهم
به، بل إن تعريف الدين عندهم بأنه سائق إلى النجاح في الحال والفلاح في المآل.
حجة عليهم فإنهم غير ناجحين، وأما الأمم الناجحة المرتقية فإنها أخذت بأسباب
الترقي الدنيوي التي أرشد إليها القرآن من طبيعية وشرعية، ولكن لا على أنها من
القرآن، بل على أنها نافعة في ذاتها معقولة بنفسها، والنتيجة في الدنيا واحدة،
وابتغاء مرضاة الله تعالى بالأعمال النافعة يجعلها نافعة لذويها في الآخرة أيضًا، فإذا
كانوا قد ربحوا بهذا سلطة الدنيا وسعادتها، فنحن قد خسرنا بتركه الدنيا والآخرة،
وذلك هو الخسران المبين، ولا ينكرن عليّ هذا أحد شم رائحة الإسلام؛ إذ لا يجهل
أحد أنه قرن مصالح الدنيا والآخرة بعضها ببعض، وجعل غايته سعادة الدارين،
ففقد إحداهما من مجموع الأمة دليل على فقد الأخرى، ولا التفات للآحاد، فإنما
كلامنا في الأمم، فتدبروا وتذكروا أيها المسلمون، ولا يخدعنًّكم المؤوِّلون الغاشّون،
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون.
__________(2/641)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية
(الأعمال الحسابية)
يوجد في تعريفة الرسوم بعض الالتباس، وظهر ذلك في العمل، ولكثير من
القضاة عليها انتقادات تحتاج إلى النظر كما جاء في المادة (23) من تلك التعريفة
من أن الإبراء من الدًّين أو من الدعوى بمعلوم يؤخذ عليه الرسم في المائة واحد، ثم
صدر منشور النظارة بأن الإبراء من مؤخر الصداق يؤخذ عليه خمسة قروش، ثم
تلاه منشور آخر بأن الخمسة قروش تؤخذ فيما إذا زاد المبلغ الذي حصل فيه
الإبراء عن ألف قرش، وإلا فيؤخذ ثلث الخمسة قروش، ثم صدر منشور ثالث
يقضي بأنه إذا حصل خلع أخذ رسم الخلع خمسة قروش ولم يؤخذ على الإبراء
شيء.
ومما لاحظه القضاة أن المادة (6) قضت بأخذ رسم الأيلولة، فلو جاءت
الأيلولة غير مقصودة كما لو حصلت في ضمن عقد بيع مثلاً لعقارات موروثة،
فإنه يؤخذ رسم الأيلولة ورسم البيع معًا، وهو خلاف ما عليه المحاكم المختلطة.
وفي المادة الرابعة ما يفيد أن الرسم يؤخذ على كل حجة أو سند يطلب تحريره ,
فمقتضاه أنه إن لم يطلب لا يؤخذ عليه رسم، مع أن أوامر النظارة تقضي بأن يؤخذ
الرسم في مبدأ الأمر حتى رسم التحرير.
ومما لوحظ أن جميع المواد التي ذكر فيها للرسم بداية ونهاية ووكل تحديد ذلك
للكاتب يفتح بالضرورة بابًا للفساد يجب سده، وعلى كل حال فيجب النظر في
التعريفة والمنشورات ووضع اللائحة على وجه يكفل العدل من جهة، ويرفع
الالتباس ويسد أبواب الفساد من جهة أخرى، ولن تعدم النظارة وسيلة للتعجيل في
أقرب وقت ممكن.
(تقييد القاضي في كل ما يرد إليه)
رأيت في بعض المحاكم أن القاضي يرد إليه طلب أو تُقدم إليه شكوى، وربما
من خصائصه أن ينظر فيها، ولكنه يجد في ذلك مشقة عليه فيدفع الطالب أو
المشتكي بقوله: (اذهب إلى جهة كذا) أو (إن هذا لا يعنيني) ويكثر تردد
صاحب الحاجة لأن الأمر مما يعني القاضي، فالذي أراه أن كل ورقة تقدم إلى
القاضي في أي من الشؤون يقيد ملخصها في دفتر يُنشأ لذلك ويكتب فيه ما رآه
القاضي حتى لو اشتكى الطالب إلى مقام أعلى أمكن أن يعرف خطأ القاضي من
صوابه.
(تشكيل المحكمة)
بعد ما شرط في القاضي أن يكون كفؤًا لعمله لم يكن من معنى لبقاء لقب المفتي،
ثم إذا رأينا أن القاضي لا بد له من مستشار يرجع إليه في المشكلات وجب أن
يكون ذلك المستشار أرقى علمًا ومكانة ومُرتبًا من القاضي، فيكون مفتي المديرية
أسمى موظف شرعي فيها، ثم إن كان هذا شأنه وأطلق له إبداء الرأي فيما يرفع
إليه من الأسئلة وجب أن لا يفوض إليه النظر في القضايا التي سبق له إبداء الرأي
فيها، لكن لا شيء من ذلك بواقع، فإن المفتي قد يكون أنزل درجة في العلم من
قاضي المديرية أو المحافظة، ثم إن كان يفوقه في العلم فهو أقل منه راتبًا لا محالة،
ثم إن اللائحة الجديدة قد جعلت له حق الحكم ولم تمنعه إلا من الإفتاء فيما هو
منظور أمام المحاكم بالفعل، ولم تنص على ما أفتى فيه قبل نظره، ثمّ هو عضو
من أعضاء المحكمة الكلية في المديريات أو المحافظات، فإن كانت صفة الإفتاء
تجعل لرأيه امتيازًا على رأي غيره عدّ وجود غيره معه لغوًا , وإلا فما بقاء هذه
الصفة؟ ثم إذا حكم مفردًا في قضية كيف يصح استئنافها، والحاكم هو صاحب
الرأي الأعلى في بيان الأحكام الشرعية؟
أما فيما يتعلق بغير المتقاضين أمام المحاكم الشرعية إذا احتاجوا إلى فهم
حكم شرعي في نازلة، فهم لايرضون بما دون إفتاء مفتي الديار المصرية كما هو مشاهد , فلم يبق من وظيفة المفتي في المديرية أو المحافظة إلا إبداء رأيه
في القضايا الجنائية عندما تريد أن تحكم بالإعدام، وهي وقائع قليلة يصح أن
تعدل لها مادة في قانون تحقيق الجنايات بأن يقال: (بعد أخذ رأي أكبر موظف شرعي في المديرية أو المحافظة، أو يحول ذلك على إفتاء الديار المصرية)
وغاية ما يلاحظ فيه أن إرسال القضايا من محكمة قنا وردَّها يحتاج إلى أن يزاد في
الزمن المحدد للحكم بالإعدام أسبوع وإبقاء الجاني أسبوعًا في عالم الأحياء،
ولا ينشأ عنه ضرر ما.
فالذي أراه حذف هذا اللقب من المديريات والمحافظات، وعد الجميع قضاة
وأعضاء محكمة، فإن كان لابد من بقاء وظيفة الإفتاء في الأطراف، فليقِل العدد
وليكن للإسكندرية والبحيرة مفتٍ يقيم بالإسكندرية وآخر للمنوفية والغربية يقيم
بطنطا، وثالث للدقهلية والشرقية والقليوبية يقيم بالزقازيق، ورابع للجيزة
والفيوم وبني سويف يقيم بالفيوم، وخامس للمنيا وأسيوط يقيم بها، وسادس لما بقي
من الوجه القبلي يقيم بقنا، وليُنَطْ بهؤلاء المفتين إبداء الرأي فيما يرفع إليهم عند
إرادة الصلح وعدم التخاصم أمام المحاكم، وما تستفتيهم فيه الحكومة، وللقضاة أن
يستشيروهم فيما يشكُل من الأحكام، وعلى هذا يجب أن يكونوا من مشاهير العلماء،
ومنهم ينتخب قضاة المديريات والمحافظات الذين يسمون رؤساء المحاكم إذا أرادوا
الدخول في سلك القضاة.
ثم ألاحظ ما لاحظه سماحة قاضي مصر من أنه إذا غاب عضو من أعضاء
المحكمة العليا فلرئيس المحكمة أو من يقوم مقامه أن ينتدب من يتم به عددهم من
أعضاء محكمة مصر الكبرى ممن لم يسبق له نظر في القضية، فإن لم يتيسر ذلك
انتدبته نظارة الحقانية بعد أخذ رأي القاضي إلى آخر ما نص عليه في المادة التاسعة
من اللائحة، ولا حاجة لجعل الانتداب لسعادة ناظر الحقانية من أول الأمر تسهيلاً
للعمل، فقد يحتاج للانتداب يوم الجلسة والخصوم حضور والتأخير يضر بمصلحتهم،
فمن الواجب أن لا يلجأ لرأي النظارة إلا عند الضرورة وحيث يقتضي الانتداب
انتقالاً من محكمة أخرى.
ثم لابد أن يباح لرئيس المجلس إذا حصل له مانع من الحضور أن ينتدب أحد
العضوين بدون إذن الحقانية للسبب الذي ذكرناه، وكذلك يجب أن يباح له أن ينتدب
أحد العضوين للقيام بعمل أحد قضاة المراكز عند تغيبه إذا دعت الحاجة إلى ذلك
لجواز أن لا يتيسر انتداب أحد قضاة المراكز للقيام بعمل مركز آخر، ويتيسر
انتداب عضو من أعضاء المحكمة.
هذا ما ألاحظه الآن على طريقة تشكيل المحكمة إلى أن ينظر في عدد القضاة
والأعضاء ويستقر الرأي على توزيع الأعمال، فتتغير طريقة التشكيل في
المديريات على وجه يوافق ذلك التعديل.
(تابع ويتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/648)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عيد المولد الهمايوني
في مثل يوم الثلاثاء الماضي (16 شعبان) من سنة 1258 للهجرة الشريفة ولد
سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، ومحطّ رحال آمال شعوب المسلمين، والسلطان الأكبر
لجميع العثمانيين، خليفتنا عبد الحميد الثاني. أيده الله تعالى بالقرآن العظيم والسبع
المثاني، فياله من موسم حميدي حميد، وعيد وطني سعيد، احتفل به العثمانيون في
جميع الممالك الشاهانية، وابتهج به المسلمون في جميع البقاع الأرضية رافعين أكف
الابتهال إلى ذي العزة والجلال بأن يؤيد بشوكته عرش الخلافة والسلطنة، ويعيد لهم
السرور بمثله في كل سنة، اللهم آمين.
__________(2/651)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العالم الإسلامي
جاءتنا الرسالة الآتية من كاتب فاضل في سنغافورة مؤرخة في 27 رجب،
قال فيها: بعد الحمد لله والصلاة على نبيه، ورسوم المخاطبة ما ملخصه:
سيدي، تشرفت بلثم كتابكم رقيم 18 الماضي ونزهت طرفي في وشي أقلامكم ,
وقد كان وصول ذلك الكتاب إليّ وأنا متأثر بانحراف مزاج، فكان كتابكم الترياق
النافع، وقد وصل إليّ (المنار) متتابعًا في ميعاده يهدي إلى الصواب وينبه ذوي
الألباب والذكرى تنفع المؤمنين، وما ترشح به صفحاته من النصايح المفيدة والحكم
الثمينة قد اجتذب قلوب الكثيرين ممن له إلمام بمعنى الإسلام , على أن سواد قرّاء
جهتنا لا تقوى مِعَدُ عقولهم على هضم ما تهدونه إليهم لبعد العهد بالحقائق والإخلاد
إلى التقليد إلا أن الحق إذا أشربته القلوب لم تستطع رفضه.
أما ما تفضلتم بإبدائه من سديد الرأي والنصح البالغ مما يجعل أهل هذه الجهة
على قاب قوسين من أمنيتهم، فقد بادر المملوك بالبحث في اتباع الرأي الأول، وإن
كنتُ قد علمتْني التجارب أن قومي بطآء إذا دُعوا إلى مثل هذا، سيما مَن كثرت
أمواله، ولكن اليأس عين الشقا، فلذلك أؤمل على بعد أن يكون لهذا الرأي أثر ما،
وقد كتبت إلى بعض الأصدقاء ببلاد الدكهن من الهند أن يفتكر في جمع بعض ذوي
الكلمة النافذة عند الإنكليز من العرب الحضارمة؛ ليطلبوا من الإنكليز مساعدة مَن
بجاوه ولا أتأخر عن رفع ما سيحدث إليكم (إن كان) .
أما الرأي الثاني فما إليه من سبيل؛ لأن قومنا قد اتفقوا على أن لا يتفقوا وهذه
حقيقة لا يتمارى فيها اثنان، وما استفهمتم عنه من أخبار الجمعيات الإسلامية التي
عرفتها، فعلى وجه الإجمال أقول: الجهات التي تطوفت بها هي سواحل يابان
وبلادها، وما فيها من المسلمين إلا أناسًا يعدون بالأنامل في ثلاث من المواني لا
يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولهم في بلد كوبي بيت (كلوب) للعب البليرد
وغيره، وفيه بعض كتب إنكليزية هزلية لا غيره، وأما جزائر فليبين ففيها كثير
مسلمين منهم حكام، ولهم بها بعض شوكة (كريشة في مهب الريح إلخ) والجهل
بينهم سائد من كل وجه، وأما الشين فلم أتمكن من التوغل فيهم لهجوم الشتاء وهزال
الكيس، وعلى كل حال أقول: إن أنفس الصينيين لم تزل حية، وعندهم نشاط وجد،
ولهم حمية وعصبية في الجملة، ولكن تعاليمهم كلها فاسدة، ولا يوجد بينهم فيما
أعلم من يطلق عليه طالب علم، ولو أوفدت إليهم ثلة من العلماء مستغنين عن
اصطياد الدراهم والتشوف إلى ما في أيدي الناس يصير تأثير منهم كبير يقل كل
تقدير عنه، واللغة العربية الفاسدة والفارسية المحرفة تروج بتلك الصقاع، ويوجد
بها جحافل من شحاذي العرب والهنود يأوون إلى المساجد والمدارس، ولهم اعتقاد
في القبور وبدع كثيرة روجها عليهم الجهل والجهال.
وأما إقليم سيام ففيه بعض دول من المسلمين لم يزل معهم بعض استقلال
لوقوعهم بين الأمم المتزاحمة، وعدد المسلمين بها غير قليل، وعندهم إلمام بأحكام
الصلاة و (العشرين صفة) ويعتنون بحفظ المتون من النحو، ولا يتعدون إعراب
الأمثلة، وليس بهذه النواحي مدرسة منظمة ألبتة، وللشعبذة والطلاسم والخرافات
جابر، ودعوى الكرامات رواج، سيما بين الكبراء والأمراء.
وأما جهات ملاكه وأرض الملايو، فبعضها يحكمها الإنكليز أصالة، وقسم
كبير منها تحت حمايتهم، وقسم منها ينسب لسيام، وهو تحت مطامعهم، وحالة
المسلمين بهذه الجهات أحسن حالة من سواهم لحصولهم على الحرية فيما يتعلق
بالدين أو بالتعليم والاجتماع، وللمساواة المزعومة في حكومة الإنكليز، ولكن
إخواننا إلى الآن لم يوفقوا إلى إقامة جمعية أو تنظيم مدرسة أو مشروع من نحو هذا،
ولا مانع منه من جهة الحكومة ألبتة، نعم قد أقيمت بسنغافورة منذ نحو سنتين
جمعية عربية لم يتجاوز عدد أعضائها ثلاثين، وعلى إثر ذلك هزت الحمية أحد
المثرين، فالتزم ببيت فسيح يكون محلاً لتلك الجمعية، والتزم أيضًا بنفقة أستاذ
يقوم بتعليم أولاد العرب حروف الهجاء وطرفًا من الحساب ونزرًا من العربية
العامية، والتزم أعضاء الجمعية بمرتب لأحد طلبة العلم يتولى عقود أنكحة العرب،
ويعلم أولادهم العربية وطرفًا من العقائد الإسلامية على الطرز القديم، وقد استمر
ذلك إلى الآن وآثار الانحلال على تلك الجمعية بادية والله لطيف بالعباد.
وبحيدرآباد جمعية عربية لم تتسق تمام الاتساق.
وأما مستعمرة هولاندا فقد تطوفت في أكثرها، وكما ترون في بعض كتاباتي
أخبارها، وهنا لا غناء لي عن الإلماع إلى التعريف بالعرب الموجودين
بهذه المستعمرة، وهم قسمان: أولهما أناس قدموا من الغرب على ما هو المشهور،
وقد اختلطوا بالأهالي وتبعوهم في كل العوائد والصفات، وبقي لبعضهم اسم (رادين)
ومنهم حاكم جاوه المأسور في سورا كرتا، والقسم الثاني هم العرب الحضارم،
وصلوا إلى هذه الجهات منذ ثلاثة قرون تقريبًا يبتغون الرزق، قد رفضتهم بلادهم
لما حل بها من المصائب والدمار، وكان أولهم دخولاً إلى هذه النواحي عدد من
السادات أهل الفضل والعلم، فنشروا الدعوة، وبهم ضرب الإسلام في هذه الجهة
بجرانه وقد صار من أولادهم عدة أمراء على كثير من هذه النواحي من غينيا
الجديدة إلى فليبين ولم يزل عدد كثير موجودًا منهم إلى الآن، وبوصول أخبار
من ذكر إلى أوطانهم نهض الجم الغفير من البوادي والرعاع ويمموا هذه البقاع ,
وصارلهم فيها رواج عظيم لتعظيم الأهالي للجنس العربي، وافتخارهم بمصاهرتهم،
ولم يزل أكثر هؤلاء العرب متميزين عن الأهالي في الهيئة والألقاب، وإن ساووهم
في الجهل والغباوة والكسل، وبهذه الأطراف جم غفير ممن يدعي العلم وعدد قليل
من العلماء، وليس بها مدرسه للمسلمين، والتعليم عندهم على الطراز القديم في
المساجد ونحوها في الشروح والحواشي، وحظ الآفق من علمائهم إيراد الاعتراضات
على العبارات والرد عنها , وليس لعلم الحديث ولا للعلوم العقلية ذكر ألبتة،
ولتشديد الحكومة عليهم ساءت ظنونهم بأنفسهم فقل أن تجد بينهم من يثق بابنه
وعرسه، فضلاً عن أن يتجاسر بأن يدعو إلى الاجتماع أبناء جنسه.
وتظاهر الهولنديين الآن بالشماتة بالإنكليز بالغ فوق الحد.
وأما بلاد الهند فقد طُفتُ بعض جهاتها واتصلت ببعض جهابذتها،
فيها مدارس يؤمل نجاحها، كما لا يخفاكم , وأشهر جمعياتها (ندوة العلماء) ولها
في أكثر بلاد الهند محلات معلومة، ولهم مجالس أخرى مثل محمدن (كلوب)
و (انجمن إسلام) في بمبي، والجمعية الإسلامية في مدراس وغيرها مما له
بعض فائدة. وللعلوم العقلية والفنون الحديثة المقام الرفيع ولله الحمد.
وبذكر الحضارم , اسمحوا لي باستفساركم عما لهجت به الجرائد في أعدادها
الأخيرة من ذكر صدور الإرادة بتنظيم حضرموت مع ذكر تنظيم ولاية اليمن وحيث
إنها (بلاد بها نيطت عليّ تمايمي وأول أرض مس جلدي ترابها) . أحب استطلاع
كنه الخبر إن لم يكن عليكم في ذلك مشقة وقد سبق للمرحوم اجتهاد في لَمِّ شعت
قبائل حضرموت للخضوع للدولة بطلب من حضرة دولتلو المشير السيد أحمد مختار
باشا المعتمد السلطاني بمصر غير , أن تلك المساعي، ويا للأسف ضاعت سدى ,
وقد قام بعد ذلك أحد إخواننا أهل الفضل والتحقيق بخدمة جليلة تسهل أمر تنظيم
تلك الأصقاع بلا كلفة تذكر مع إقامة الحجة على ما تدعيه إنكلترا من حماية تلك
الشطوط , فإن كان في السماء مطير أو فيمن نؤمل خير، فسنلبي إشارتكم وإلا
فلتوضع هذه الجملة في زاوية النسيان لئلا نبحث عن حتفنا بظلفنا، والله ولي
التوفيق.
ويعنّ لي أن أطلب بلسان (المنار) أو (المؤيد) إصلاح الخطب الجُمَعيَّة
في ممالك الدولة، بل وسائر الشرق بحيث تكون صالحة لنفع الناشئة الخالية مع
حذف لعن الأرفاض ومساواتهم بالكفار مما كان سببًا في تفريق ريح المسلمين منذ أكثر
من اثني عشر قرنًا.
وقد جاءنا رسالتان أخريان من سنغابور: إحداهما مذيلة باسم (عبد المعين)
يثني فيها على (المنار) وما على شاكلته من الجرائد العربية (كالثمرات)
و (السلام) للصدق في خدمة الملة والدولة والجامعة العثمانية، والحث
على الاتحاد والقيام بالمشروعات النافعة، ثم أظهر الكاتب أسفه من عدم تلبية
ندائنا والقيام بما نحث عليه، وذهب إلى أن السبب في هذا (عدم الثقة بولاة
الأمور الموظفين في خدمة الدولة، فحينئذ يجب التنديد بأعمالهم ولا ينبغي
السكوت عنهم، فإن ذلك يزيدهم جرأةً وتماديًا، فإنا رأينا في جريدة (المؤيد)
الغرّاء عدد 2900 نقلاً عن مكاتبه بمكة المشرفة أخبارًا لا أصل لها، والحقيقة
أن المخاوف وعدم الراحة والأمن لا تزال كما كانت سابقًا مع الاستبداد وتهاون
ولاة الأمور مما يضيق المقام عن شرحه. إلخ
والرسالة الثانية جواب لنا عن كتابة خصوصية في شكوى إخواننا الجاويين
من ظلم هولندا وما يجب الأخذ به لتلافيه، وفيها كلام عن تعدي هولندا على
الأجينيين وظلمها لهم مع أنهم تابعون للدولة العلية رسميًّا وهي لا تسأل عنهم،
وربما نتكلم عنهم في العدد التالي.
وجاءتنا رسالة من بتاوي الجاوه يقول صاحبها الفاضل أنه كان لِما كتبناه في
المنار 32 بشأن المسألة الجاوية أحسن وقع، وأذعن الجميع لإلقائنا التبعة على
قناصل الدولة العلية، وبشرَنا الكاتب بأن جميع المسلمين هناك يتداولون (المنار)
فرحًا به ... وأثنى على سعادتلو محمد كامل بك شهبندر الدولة العلية عندهم سابقًا،
وذكر أن صدقه وإخلاصه هما السبب في سعي هولندا بالوشاية عليه حتى استبدلت
الدولة به أحمد أمين بك الحالي المذموم بكل لسان، وذكر أن هولندا صارت تعاقب
من يذكر اسم كامل بك أو الدولة العلية، فعسى أن يصل هذا الخبر إلى مسامع
مولانا الخليفة فيتدارك الأمر.
__________(2/652)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب الحاضرة
تواترت البرقيات بتوالي انكسار الإنكليز وخذلانهم في جميع المواقع، وكان
أشدها وقعًا وأكثرها إيلامًا انهزام الجنرال السير بوللر القائد العام بجيشه بخسارة
عظيمة جدًّا، ولهذا استبدلت الحكومة الإنكليزية به اللورد روبرتس قائد جيوش الهند
وجعل لورد الخرطوم كتشنر (باشا) رئيس أركان حربه بدلاً من هنتر (باشا)
المحصور في مدينة لاديسميث.
وقد ذكرنا في (المنار) الماضي أن لانكسار الإنكليز سببين: أحدهما الجهل
بجغرافية البلاد التي يحاربون فيها، وثانيها الجهل بقوة عدوهم، وههنا نذكر كلمات
لأحد العارفين بالسياسة من رجال الإنكليز الذين جاءوا مصر في هذه الأيام، قال:
إن البويرس شعروا منذ سنين بأن الإنكليز ستلجئهم إلى الحرب في يوم من
الأيام، فطفقوا يستعدون لذلك بكل ما في طاقتهم، فخصصوا جزءًا كبيرًا من المال له،
وبالغوا في إخفاء عملهم حتى عن قومهم، فأنشأوا معامل السلاح (الترسانات)
في الغابات البعيدة عن العمران في قلل الجبال، وكانوا إذا جاءهم سياح الإنكليز
يطلعونهم على المعامل العتيقة وما فيها من البواريد القديمة من الطراز المعروف عند
همج أفريقيا وما يقرب منه، وكنا قد اخترعنا مدفعًا أسرع المدافع المستعملة وأبعدها
مرمى، وكان مخترعه يحاول أن يزيده إتقانًا، ولذلك لم يعمل منه شيء ما عدا
النموذج، ولما زار إمبراطور ألمانيا بلادنا الزيارة التي قبل هذه الأخيرة رأى
نموذج هذا المدفع فأعجب به فطلب صورته فقيل له: إنه لم يتم إتقانه، فقال: إنه
ليعجبني على ما هو الآن، فأجيب طلبه وعندما عاد إلى بلاده أمر بالإكثار من هذا
المدفع، واشترى البويرس منه عددًا صالحًا من ألمانيا، ولذلك ظهر أن مدافعهم أبعد
من مدافعنا مرمى وأسرع من حيث يظن قومنا أنه لا يوجد عندهم إلا المدافع القديمة
التي لا تقارب مما عندنا {وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: 26)
بل صدق علينا أننا قُتلنا بسلاحنا، وأما التعليم العسكري فقد عمموه تعميمًا حتى في
النساء مستعينين عليه بضباط الألمان، فإن أكثر من خرج من الجيش الألماني من
هؤلاء تيمم الترانسفال واشتغل بتعليم أهلها فنون المكافحة والنزال.
قال الإنكليزي لمحدثه: فقد جمع البويرس بهذا بين النظام وبين القوة الطبيعية،
والشجاعة والجلد، والصبر على التعب والسغب، وهذا الجد والصبر لا يوجد
عندنا إلا في الضباط فإنهم تربوا أحسن تربية، وباقي الجيش من غوغاء الناس إذا
مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر عن اللحم والخمر إلا قليلاً،
وقد اغتر تشمبرلن بالظاهر، وغرّ حكومته حيث كان يعتقد أن ثلاثين ألفًا كافية
لتدويخ الترانسفال بل لتدميرها، أما أنا فإنني أعتقد أن العاقبة سوأى إذا لم نجهز
الجيش الكافي، وأقله في اعتقادي مائة وخمسون ألفًا، وإن هذا علينا ليَسير. اهـ
__________(2/656)
27 شعبان - 1317هـ
30 ديسمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بقية الكرامات المأثورة
وهي السادسة من مقالات الكرامات
خلاصة ما مرّ في مقالات الكرامات السابقة أنها جائزة وفاقًا لأهل السنة ولا
ينبغي أن ينازع في هذا عاقل - وأن الوقوع بالفعل لا يثبت إلا بالنقل الصحيح عن
المعصوم أو المشاهدة، فإنْ تواتَر كان الثبوت قطعيًّا لا يمكن للعارف به جحوده،
وإلا كان ظنيًّا. وإن مثبتي الوقوع احتجوا بالقرآن العزيز، وقصارى ما سَلِمَ لهم
من احتجاجهم هو وقوع الإلهام الإلهي الصحيح، وبما يؤثر عن الصحابة عليهم
الرضوان، وقد بحثنا في خمس مما أحصاه السبكي وأرجأنا البحث في الباقيات
خشية السآمة من تكرار الكلام، في موضوع واحد كما قلنا في (المنار) 35
وليس في هذا القسم متواتر، وإنما هي آحاد، منها ما إسناده صحيح ومنها الواهي
والمنكر، ودونكم الآن سائر تلك الآثار:
(6) ومما وقع على يد الفاروق قصة النار الخارجة من الجبل، قال السبكي:
كانت تخرج من كهف في جبل فتحرق ما مرت به، فخرجت في زمن عمر رضي
الله تعالى عنه، فأمر أبا موسى الأشعري أو تميمًا الدّاري -عليهما الرضوان- أن
يدخلها الكهف، فجعل يحبسها بردائه حتى أدخلها، فلم تخرج بعد، قال ولعله قصد
بذلك منع أذاها.
أقول: لا أعرف لهذا الأثر سندًا قويًّا ولا ضعيفًا، ولا يخلو خروج هذه
النار من أن يكون بسبب أو بغير سبب، فإن كان الثاني فهو خارقة من الخوارق
فكيف وقعت تلك الخارقة؟ وهل كانت كرامة لصحابي أو ولي آخر غير معروف،
ثم زالت بكرامة آخر، أم تقع الخوارق بنفسها؟ وإن كانت بسبب، فما هو ذلك
السبب؟ وأين ذلك الكهف، وهل لتلك النار من أثر فيه؟ إذا وقفنا على أجوبة
صحيحة لهذه الأسئلة نتكلم عنها، ومن الحماقة إضاعة الوقت في إيراد الاحتمالات
الخيالية والخوض فيها مع الخائضين.
(7) ومنها أنه عرض جيشًا يبعثه إلى الشام فعرضت له طائفة، فأعرض
عنهم أولاً وثانيًا وثالثًا، فتبين بالآخرة أنه كان فيهم قاتِل عثمان أو قاتِل عليّ (رض)
وهذا من الإلهام.
(8) على يد عثمان ذي النورين رضي الله تعالى عنه، قال السبكي: دخل
عليه رجل كان قد لقي امرأة في الطريق فتأملها، فقال له عثمان يدخل أحدكم وفي
عينه أثر الزنا، فقال الرجل: أَوَحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! قال:
لا، ولكنها فراسة المؤمن. أقول: إن هذه الفراسة من قبيل الإلهام الذي أثبتاه، ولكن
يتفق مثله لآحاد الناس، أذكر أن شابًّا جاءني وأنا في ميضأة جامع القلمون (بلدتي
التي ولدت فيها، وهي بجوار طرابلس الشام) حاسرًا عن ذراعي أريد الوضوء،
ففاجأته بحكاية هذا الأثر فقال: إنها لمكاشفة، وإني كنت في الطريق أغازل امرأة
وأمتع نظري بمحاسنها، فقلت: كلا، لا مكاشفة وإنما هو شيء وقع في قلبي عندما
رأيتك، وما أنا مما كان معك على يقين 0
وسنتكلم على المكاشفة والفراسة في مقالة أو مقالات في وقت ما.
(9) على يد عليّ المرتضى أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال:
روي أن عليًّا وولديه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم سمعوا قائلاً يقول:
يا مَن يجيب دعا المضطر في الظلم ... يا كاشف الضر والبلوى مع السِقَم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ... وأنت يا حي يا قيوم لم تنم هب لي بجودك فضل العفو عن زللي ... يامن إليه رجاء الخلق في الحرم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ ... فمَن يجود على العاصين بالنعم
فقال علي لولده: اطلب هذا القائل، فأتاه فقال له: أجب أمير المؤمنين، فأقبل
يجر شقه حتى وقف بين يديه، فقال: قد سمعت خطابك، فما قصتك؟ فقال: إني
كنت رجلاً مشغولاً بالطرب والعصيان، وكان والدي يعظني ويقول: إن لله
سطوات ونقمات وما هي من الظالمين ببعيد، فلما ألحّ علي في المعصية ضربته،
فحلف ليدعون عليّ ويأتي مكة مستغيثًا إلى الله، ففعل ودعا فلم يتم دعاه حتى تكتف
شقي الأيمن (كذا) فندمت على ما كان مني وداريته فأرضيته إلى أن ضمن لي أن
يدعو لي حيث دعا عليّ، فقدمت له ناقة وأركبته فنفرت ورمت به بين صخرتين
فمات هناك، فقال له عليّ رضي الله عنه: آلله عليك إن كان أبوك رضي عنك،
فقال: آلله كذلك، فقام عليّ كرم الله وجهه وصلَّى ركعات ودعا بدعوات أسرّها لله
عز وجل، فقال له: يا مبارك قم، فقام ومشى وعاد إلى الصحة كما كان، ثم قال:
لولا أنك حلفت أن أباك رضي عنك ما دعوت لك. قال السبكي: قلت: أما الدعاء
فلا إشكال فيه إذ ليس فيه إظهار كرامة، ولكنا نبحث في هذا الأثر في موضعين:
أحدهما فيما نحن بصدده من السر في إظهاره - كرم الله وجهه - الكرامة في قوله:
قم، فنقول: لعله لما دعا أُذن له أن يقول ذلك، أو رأى أن قيامه موقوف بإذن الله
تعالى على هذا المقال، فلم يكن من ذكره بُدّ، والثاني كونه صلّى ركعات ولم يقتصر
على ركعتين، فنقول: ينبغي للداعي أن يبدأ بعمل صالح يتنور به قلبه ليعضد
الدعاء، ولذلك كان الدعاء، وعقيب المكتوبات أقرب إلى الإجابة وأقل الصلاة
ركعتان، فإن حصل بهما نور وأشرقت علائم القبول فالأولى الدعاء عقيبهما، وإلا
فليصلّ إلى أن تلوح له أمارات القبول فيعرض إذ ذاك عن الصلاة ويفتتح الدعاء،
فإنه أقرب إلى الإجابة. اهـ ملخصًا.
أقول: لا أعرف راوي هذا الأثر ولا درجة إسناده في القوة والضعف، ولا
أُنكر أنه يجوز أن يستجيب الله تعالى دعاء بعض عباده بمحض قدرته، أو بأن
يجعل سبب الأمر الذي يطلب مقارنًا للدعاء، أو عقيبه فيحصل المطلوب.
والأمر المحبوب إذ حصل بسبب خفي أو جلي عند طلبه من الله تعالى يسمّى
حصوله استجابة، إذ لم يشترط أحد في الاستجابة أن تكون بوجه مخالف لسنة الله
تعالى في الخلق، وقد يكون سبب شفاء المرض تأثيرًا أو تأثُّرًا روحانيًّا، والتأثر قد
يكون بسبب الاعتقاد سواء كان حقًّا أم باطلاً، وأما تأثير نفس في أخرى، فأنا أعتقد
أنه سنة إلهية في الناس، وإن أنكره كثير من الحكماء والعلماء، وقد يكون بأعمال
تعين عليه كالصلوات والأذكار مع الخشوع والاستحضار، فإن ذلك يجمع الهمة
ويقوي العزيمة والإرادة على ما تتوجه إليه النفس وصَاحِبه يشعر من نفسه بأن له
هذا الأثر، ولذلك يأتي بما يدل عليه قبيل حصوله، ومنه الإصابة بالعين،
وهذا النوع مما نقل عن جميع الملل، ورأيت الشعراني وغيره من المتصوفة يثبته
حتى لوثنيي الهند وهو بحث فلسفي دقيق سنوفيه حقه من البحث في وقت آخر إن
شاء الله تعالى.
(10) على يد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر السبكي قصة
الاستسقاء به عام الرمادة في زمن عمر رضي الله عنه وكيف أن الله أغاثهم بالمطر
سريعًا، أقول: عام الرمادة هو عام ثمانية عشر وسمي بذلك لأن الأرض
اغبرّت لشدة الجدب، والأثر في هذا عند البخاري وغيره، قال القسطلاني في
الشرح: كان من دعاء العباس ذلك اليوم (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم
يُكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث،
فأرخت السماء مثل الحبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس، وليتأمل أهل الفهم
قول العباس عليه الرضوان فهو عبرة لمن يعقل، وذكر السبكي بمناسبة استجابة
الدعاء بالاستسقاء ما كان مشهورًا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من
استجابة دعائه.
(11) على يد ابن عمر رضي الله عنه، وذكر أنه قال للأسد الذي منع
الناس الطريق: تنحَّ، فبصبص بذنَبه وتنحى وذهب، أقول: ينقل مثل هذا الأثر
عن أهل البوادي والضاربين في القفار ويقولون: إن من شنشنة الأسد وعاده أن
يعف عمن يقابله بالسكينة والوقار، ويلقاه بالملق والاعتبار، ولهم في هذا حكايات
يتراءى لمن نظر في مصادرها المختلفة أنه لابد أن يكون لها أصل، ولا شك أن
أحدًا من المصدقين بتلك الحكايات لا يعدها خوارق عادات، على أنني إذا ثبت
عندي أثر ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح فإنني أعتده كرامة أكرمه الله
تعالى بها بإلهام الأسد التنحي عن الطريق، ولكن لا أقول: إن فيه مخالفة لسنته تعالى
في الخلق، فإن مثل هذه الإلهامات بخلاف ما تقتضيه العادات الطبيعية الغالبة
معهود في العجماوات وفي الإنسان أيضًا، ويعسر على الحكيم إدراج الكثير منها تحت
ناموس طبيعي غير الإلهام.
(12) على يد العلاء الحضرمي وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في
غزاة بجيش، فحال بينهم وبين الموضع البحر فدعا الله تعالى ومشوا على الماء،
هذه عبارة السبكي وهي صريحة في أن الكرامة حصلت لكل واحد من الجيش، ولو
كانت هذه القصة واقعة لنقلت بالتواتر، ولرواها أصحاب الصحاح جميعهم، ثم أين
ذلك الموضع؟ وما هو البحر الذي (يحول) بينه وبين المدينة؟
(13) ماجاء أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما
صحفة طعام فسبَّحت حتى سمعا التسبيح، أقول: تسبيح الله تعالى تنزيهه عن كل
ما لا يليق بكماله، وقد نطقت به العوالم العلوية والسفلية أي دلت عليه بذواتها
وأصواتها {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) وذهب بعض الناس إلى
أن كل شيء يسبح لله بلسان المقال، ولو كان هذا هو الواقع لقال تعالى: ولكن
لا تسمعون تسبيحهم، ولم يقل: (لا تفقهون) ثم إن الله تعالى لا يبطل سنة من
سنن الكون إلا لحكمة بالغة كإعذار الأمم بآية على يد نبيهم ليؤمنوا فينجوا، أو
يصروا على العناد فيهلكوا بنزول العذاب، فما الحكمة بوقوع هذه الخارقة لرجلين
من أقوى الصحابة إيمانًا، وآية القرآن الذي يتلونه تعلو عندهما على جميع الخوارق؟
والكفار يلحون بطلب الآيات الكونية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله يأمره
بأن يتلو في جوابهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) ثم من الذي حدث منهما
بهذه الكرامة مع أن الأصل الذي عليه السبكي وغيره أنه يجب إخفاء الكرامات؟
وإذا قيل: إنهما حدّثا بها لتقوية إيمان بعض الناس نقول: وهل يقوى إلا إيمان من
سمع بأُذنه؟ إذا كان لهذا الأثر أصل فهو أنهما كانا يتكلمان في دلالة الكائنات على
تنزيه مبدعها وغفلة القلوب الضالة من هذا، فقالا ما مثاله: إن هذا الطعام يسبح لله،
أو إننا نسمعه يسبح الله، ومثل هذا التعبير من المجازات الشائعة في اللغة
يسندون النطق إلى الديار والآثار، وينظمون ذلك بالأشعار، أو إنهما لتمكن هذا
المعنى من نفسيهما كان يتجلى لهما في كل شيء، وقد وقع مثل هذا الكثير من
العشاق {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة: 165) .
(13) ما اشتُهر أن عمران بن حصين رضي الله عنه كان يسمع تسبيح
الملائكة حتى اكتوى، فانحبس عنه ذلك، ثم أعاده الله عليه، أقول: تقدم في الكلام
على كرامة مريم العذراء عليها السلام أن سماع كلام الملائكة بالإلهامات
الصحيحة والمعارف الإلهية قد يكون كرامة لأصحاب النفوس الزكية والأرواح
القدسية، وهو من سنن الله في الخلق لا من مبطلاتها أو مبدلاتها، ولا مانع من
ثبوته لهذا الصحابي الجليل.
(14) ما اشتُهر من قصة خالد بن الوليد في شرب السُّم وعدم إضراره به،
أقول: إن مقدارًا من السم يقتل رجلاً ضعيف المزاج أو معتدله، ربما لا يقتل
قوي المزاج، وأعرف رجلاً تسمم دمه بالصديد ونجا منه، وقال له الأطباء: لا
نعرفها لغيرك، وأعرف رجلاً آخر كانت تلسعه الأفاعي فتموت هي ولا يصيبه منها
أذى، وقع له هذا غير مرة، فإذا ثبت أن ما شربه خالد رضي الله تعالى عنه
من السم كان كافيًا لإهلاكه ولم يهلك، فلا شك أنه يكون من الخوارق الخارجة عن
سنن الله تعالى المطردة في الخلق، ويعلم الله أن غرضي من فتح باب التأويل
المحافظة على دين الله تعالى، وإرشاد عباده إلى التمييز بين الحقائق والأوهام، فإن
القرآن العزيز أيد العقل والاختبار بأن لهذا الكون سننًا لا تبديل لها ولا تحويل، وما
كان لمؤمن أن يهدم هذه الأركان الثابتة بحكايات أكثرها لم ينقل بسند معروف
صحيح يوجب الظن بوقوع مضمونه، ولولا أن المحدثين (جزاهم الله أفضل
الجزاء) اعتنوا بضبط أخبار السلف والبحث في أسانيدها لرأينا في الكتب ألوفًا من
هذه الآثار التي لم نر منها الآن إلا بضعة عشر أكثرها لا يعرف له إسناد يُحتج به،
وسنتكلم على ما أجابوا به عن قلة كرامات الصحابة عليهم الرضوان وكثرة كرامات
مَن بعدهم في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/658)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية
اختصاص المحاكم الشرعية مادة ومكانًا
رأيت أن بعض القضاة يلتبس عليهم الأمر عند التخاصم، فيحكمون بعدم
الاختصاص فيما هو متعلق بالمواد الشرعية، كما وقع أن رجلاً ادّعى نشوز زوجته
ليسقط نفقتها وأجرة سكناها وطلب إلزامها بأجرة المسكن الذي كان أعده لها بمقتضى
حكم سابق مدة شهرين، فحكم القاضي بعدم اختصاصه بالنظر في الإيجار ظنًّا منه
أنه حق مدني محض مع أنه مرتبط بالنشوز وسقوط النفقة، وكما وقع لآخر في
دعوى زوجته علي أبيها بجهازها، وأنه أخذه منها بعد أن استلمته، فإنه حكم بعدم
الاختصاص مع أنه كان يمكنه النظر في الأولى والحكم في الدعوى بعد ما حضر
لديه الخصماء، وهما الوالد وبنته، وأفضل حَكَم بين مثلهما هو القاضي الشرعي
الذي يتولى النظر في حقوق القرابة أيًّا كانت، وهو أيسر ما كان على المتقاضين.
فأرى أن يطلق النظر للقضاء في الأمور المذكورة في المادة 16 من اللائحة،
وفيما لا يتجاوز مبلغه خمسة وعشرين جنيهًا في أي مادة شرعية.
ثم ألاحظ ما لاحظه سماحة قاضي محكمة مصر الكبرى من أنه يجب أن
يضاف على الأمور المذكورة في المادة 16 بعد التوكيل بين الزوجين
ألفاظ (وغيرهما فيما يتعلق بما ذكر) .
وفي مقام الاهتمام بإصلاح هذه المحاكم لا ينبغي توجه الفكر إلى تضييق
اختصاصها , بل يجب أن يفسح الأمل في توسيعه حتى تغني الحكومة عن كثير من
الوسائل التي تحاولها من زمن بعيد في تيسير التقاضي على الناس وتخفيف الحمل عن قضاة لمواد الجزئية في المحاكم الأهلية، وقلما تصادف فيها نجاحًا حقيقيًّا، ثم يجب أن يترك أمر الاختصاص على ما هو عليه في القوانين المصرية بدون تعرض لتفصيله مع إصلاح ما جاء في مواد التنفيذ من اللائحة الجديدة مما يوهم أن بعض أحكام المحاكم الشرعية فيما هو مختص بها بمقتضى الشريعة لا ينفذ، فإن أمر الاختصاص بيّن والناس معه عارفون ومقتنعون بأن ما منعت المحاكم الأهلية من النظر فيه بمقتضي المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية يختص النظر فيه بالمحاكم الشرعية، ويصعب جدًّا تحديده بغير ما حددته لائحتا ترتيب المحاكم الأهلية والشرعية والإتيان بهذه الإشارات في اللوائح مما يوجب الارتباك في العمل ويضر به.
ولنفرض أن رجلاً مات وترك ديناً على آخر ويريد وارثه أن يثبت وراثته
له بحكم شرعي، وقد حتمت اللائحة أن لا تقام الدعوى إلا على خصم حقيقي
كما هو الواجب شرعًا، وليس للتركة خصم حقيقي إلا هذا المدين، أفلا يضطر
الوارث لإقامة الدعوى على المدين ليصدر الحكم بالدين وفي ضمنه الحكم بالوراثة
حسبما تقتضيه القواعد الشرعية؟ فإذا صدر هذا الحكم، وهو من محكمة مختصة
بحكم الضرورة التي لا مندوحة عنها، فكيف لا ينفذ لأنه ليس حكمًا في أحوال
شخصية، مع أنه مرتبط بالأحوال الشخصية غاية الارتباط، وكيف يلزم من حكم له
بالدَّين أن يرفع دعوى جديدة بدَينه هذا أمام المحكمة الأهلية ليمكنه التنفيذ، فإن
ضعفت الثقة بحكم القاضي في هذا الدَّين، فكيف تقوى في حكمه بما هو أهم منه وهو
النسب الذي تتبعه حقوق الوراثة في الدَّين، وفي غيره من التركة التي تبلغ قيمتها
آلافًا من الجنيهات.
فالرأي عندي إبقاء الاختصاص على ما كان عليه واعتبارأحكام المحاكم
الشرعية في جميع ما أُبيح لها أن تنظر فيه من المواد بمقتضى الشريعة الإسلامية،
وإنما يجوز للحكومة أن تقيد الحكم في بعض المسائل التي تحتاج إلى التوثيق
بالكتابة بأن يكون للدعوى مستند مكتوب مثلاً على الصفة التي تحددها كما صنعت
مثل ذلك في الوقف والزواج ونحوهما، وبهذا تنتفي كل المصاعب التي تحس بها
الحكومة والناس معًا، أما الاختصاص من جهة المكان فقد حددته المواد 21 و22
و23 من اللائحة الجديدة، وذكر فيها لفظ (توطن) المدعى عليه مثلاً، وقد أظهر
العمل أن من المتخاصمين من لا وطن له كالرحالة من العربان وغيرهم،
وكالمسجونين والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، فإنهم ليسوا متوطنين شرعًا حيث
هم، ويصعب جلبهم من سجونهم ومشاغلهم إلى المحاكم المختصة بالنظر في
الدعوى عليهم باعتبارهم متوطنين في دائرتها، وكذلك الموظفون إذا لم يسكنوا
بعائلاتهم حيث يعملون في وظائفهم وفي أزمان الانتداب لمدد طويلة، ونحو ذلك مما
يطول شرحه.
ثم اختلف النظر في الزوجة يعقد عليها زوجها في بلد أهلها، ثم تقيم معه
مدة طويلة في بلد آخر، ثم ترجع إلى بلد العقد، هل تقام الدعوى على زوجها في
محل العقد أو في بلد الزوج؟ فإذا كان العقد في بلد الزوج ولم يدخل بها وأقامت
الزوجة في بلد آخر هو بلد أهلها، وأرد الزوج أن يدعوها إلى الدخول في طاعته
والبناء بها، فهل يدعي عليها في بلده حيث كان العقد أو في بلدها؟
والذي أراه وطلبه جميع القضاة أن يبدل لفظ (توطن) في مادتي 21و 23
بإقامته، وأن يبقى في مادة 22 على حاله، وقد كان لفظ الإقامة بدل التوطن في
اللائحة القديمة، وهنا أعجل بذكر مسألة كان العمل فيها قبل اللائحة أيسر منه بعدها
وهي دعوى زوجة على زوجها بأنه تركها بلا نفقة وهي في أسوان وهو في
الإسكندرية مثلاً، معروف المقام، فكان ينظر فيها علي مذهب زفر في المحكمة
التي تقيم الزوجة في دائرتها، ويصدر لها الحكم بدون إعلان الزوج ولا إعذاره متى
استوفيت الشروط المسوّغة للحكم، ويبقى حق المعارضة للزوج عند التنفيذ لا محالة
وكان في ذلك تيسير علي الزوجات الفقيرات، ولكن حُظر هذا النوع من التيسير
بعد اللائحة، وأرى أن يبقى الأمر على ما كان عليه قبلها.
__________(2/663)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(19) من أراسم إلى هيلانة في أول مايو سنة -185
تسألينني في خاتمة مكتوبك عما نسمي به ولدنا، نسميه (أميل) إذا كان ذكرًا؛
إحياءً لذكر ذلك الكتاب [1] الذي كنت أقرأه لك في مطالعاتنا الليلية، فكان في نفسك
مبعث الطرب والإعجاب حتى إني كنت أكف عن القراءة حينًا بعد حين لأشاهد
وجهك في ضوء المصباح، فأتبين فيه ذلك، ياله من عهد تحفظه ذاكرتي لتلك الأيام
السعيدة.
من البدع التي جرت بها ألسنة الأكياس [2] من الناس منذ حين سبهم جان جاك
روسو واحتقارهم إياه، فويل لهم مما يرمون به قبر ذلك الكاتب العظيم من نبال
اللعن والقدح، وإنهم لجديرون بالرثاء لعقولهم، لم يكن ذنب الرجل الكبير سوى أنه
خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتقادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على
الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجَّه خطابه إلى الوالدات والأطفال، وهوأمر هداه
إليه ما فُطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة، على أننا لو جردنا كتاب (أميل) مما
فيه من العبارات الفصيحة التي امتلات بها صحفه، والشتائم الشديدة المنبعثة
عن وجدان كبر عليه احتمال الضيم والهوان، والحماسة في نصرة الفضيلة،
والانفعالات الشريفة التي كانت تعرو مؤلفه المؤمن بالله دون وحيه لأنبيائه عند
نظره في بدائع الصنع ومحاسن الكون- لوجردنا الكتاب من كل ذلك فما الذي يبقى
لنا فيه؟ يرجع كل ما قاله المؤلف في الطريقة التي أراد وضعها للتربية إلى هذه
القاعدة، وهي السير علي مقتضى الفطرة ومعاملة الأطفال معاملة العقلاء، نسلم له
ما يقول، ونحن نرى أن اتباع الفطرة في كل ما تدعو إليه يفضي بالطفل إلى حالة
التوحش والهمجية، لكن ذلك الحكيم على عدم إيمانه بالوحي كان يعتقد أن أصل
الكمال في الفطرة والنقص إنما يعرض لها من فساد التربية، أما كلامه في خطاب
العقل، فلا شك أنه جدير بأن تصاغ له من أجله أجمل عبارات المدح تنويهًا بفضله،
ولا بدع في أن عَرِف له القرن الثامن عشر قدره بعد إنكاره، فأقام له من الآثار ما
خلد ذكره وأحيا اسمه، لكن العقل من دون جميع قوى الإنسان هو الذي يكون في
طور الطفولية أقلها نموًّا، فكيف إذن يعتمد على هذه القوة الكامنة في إيصال معنى
الخير إلى نفس الطفل.
لروسو فوق ذلك أغاليط أخرى كان يعتقد صحتها، وكان من شأنها أن تعوقنا
عن التقدم في أخلاقنا وأوضاعنا، من هذه الأغاليط: اعتقاده بوجوب الرضوخ لما
للجمهور الأغلب من السلطة المطلقة، فإنا نجده في كتابه المسمى (بالعقد
الاجتماعي) قد انتصر للحكومة فيما تدعيه لنفسها من حق تربية الأمة بما
أقامه عليه من البراهين.
ألا أُبين لك كيف كان نفع روسو للأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار
لهم والدفاع عن حقوقهم؟ كان ذلك بما ألقته تلك الكتب في نفوس الفرنساويين من
بذور الثورة وهيأتها به لها 0
لم يُقدِّر الناس ما نشأ عن هذه الحادثة الكبرى في نظام الأسرة (العائلة) من
ضروب التغير حق قدره، فإنها قد خففت من ثقل الولاية الأبوية تخفيفًا عجيبًا على
غير علم من الناس جميعًا؛ لأن المؤرخين قلما يلتفتون إلى ما يحصل في البيوت
من تهذيب الأخلاق وصلاح العادات، فلم يكد رجال الثورتين اللتين حدثتا في
سنتي 1789و 1792 يدركون ما كان يعتور تلك الأخلاق والعادات البيتية من
الاستحالة، على قربها منهم وسهولة ملاحظتها عليهم، ذلك لأنه ليس في وسع أحد أن
يلاحظ أعمال جميع الناس، فإذا أريد الوقوف على أثر أنواع هذه الاستحالة
وصنوف ذلك التغير وجب الرجوع إلى ما كُتب من السِّيَر في أواخر القرن السابع
عشر، أو في أوائل القرن الثامن عشر، هنالك يُرى ما كان بين الزوج وزوجته،
والوالدة وأولادها من التكلف في العشرة والمقاسحة [*] والمجافاة في المعاملة، نعم إن
قولي هذا خاص بأهل البيوتات؛ لأننا لا نعلم شيئًا من أحوال الطبقات الأخرى،
لكن هؤلاء لا بد أنهم كانوا يحتذون مثال سراة الأمة وزعماء الدولة.
كان البيت في ذلك العهد مؤسسًا على إحدى الوصايا العشر التي وصى الله
سبحانه بها موسى (عليه السلام) وهي (أكرم أباك وأمك) فلم يوصِ موسى أبدًا
بحبهما.
كانت الزوجة في الغالب تدعو زوجها سيدًا وهو يدعوها سيدة، فكان تخاطبهما
باسميهما مع كونه هو لذة العشرة والاختلاط لا يكاد يقع منهما في حضرة الأجانب،
فالثورة هي التي أدخلت في البيوت عادة التخاطب بضمير المفرد، وسوّت بين الولد
البكر ومن يتلونه من إخوته في الحقوق، فاجتثت بذلك أصول التباين والاختلاف،
وأعلت من شأن المرأة، ورفعت من قدرها كما وثّقت ما يربطها بالرجل من عقدة
النكاح، وأصبح البيت بحكم الشؤون ومجرى الحوادث مرجعًا لأصداء المحاورات
والمناقشات في المصالح العامة، وصار صوت الرجل وزوجته في محادثتهما أخلص
وأشد مما كان قبل، كان للكنيسة في الطفل من الحقوق إلى وقت قيام الثورة في سنة
1789م أكثر مما كان لأهله فيه، فإن البيت كان قد استعار من الدير ما فيه من
صلابة المعاملة الباردة بسبب أن الوالدة في الغالب كانت تربى فيه، لا أعني بذلك
أن الأم ما كانت تحب أولادها قبل الثورة، وأعوذ بالله أن يخطر هذا بفكري،
ولكني مع اعتقادي حبها إياهم، أعتقد اعتقادًا ثابتًا أن الثورة قد ساعدت على
تخليص محبات القلوب من قيود التكلف، فكما أن منشأ جميع الحركات العظمى
للأرض هو ما في باطنها من النار، كذلك منشأ حوادث الإنسان الكبرى هو ما في
قلبه من حب.
ذلك شأن الإنسان في جميع الأزمان، فمن حياته في الهند حيث كان الطفل لا
يعتبر إلا برعومًا [3] من نبات قبيلته، وفي رومة التي كان الوالد فيها يملك على ولده
حق حياته وموته إلى أن صار إلى هذه المجتمعات الحديثة التي كاد يكون للطفل فيها
وجود مستقل، قد رقيت الأسرة في أطوار وجودها الأصلية جميع معارج الحرية،
فلا بد في تغيير شكل الحكومة وإصلاحها من تغيير معنى الأبوة أيضًا ورده إلى
حده.
أطول جميع الثورات بقاء وأخلدها أثرًا هي التي كان لها من الزمن ما
استحوذت فيه على عقول الناشئين، فالإصلاح الديني مثلاً وهو مذهب البروتستانت
لا يزال حيًّا في ألمانيا وسويسره وهولانده وإنكلترا؛ لأن رجاله في هذه البلدان
وفي غيرها أسعدَهم الحظ بتأسيس مدارس فيها لتربية الأحداث علي أصولها
وعقائدها، أما الثورة الفرنساوية فإنها علي العكس من ذلك قد أعوز رجالها الزمن
لتنفيذ مقاصدهم؛ لأنهم كانوا قد اختطوا على عجل وهم في مهب رياح الفتنة خطة
مُثلى للتعليم العام، لكن أعاصير الحوادث قد دافعتهم، فحيل بينهم وبين ما كانوا
يقصدون، لما وضعت الطريقة التي نجري عليها الآن في التربية كانت نيران الفتنة
قد خمدت، ومراجل أفكار العصيان قد سكنت، فعهد إلى رجال الحكومة النيابية
الذين حكموا على الثائرين من رصفائهم بالقتل - حَكَم سيسيرون على كاتيلينا
وأشياعه [4] بتجديد ما اندثر من التعاليم القديمة، فما لبثت هذه التعاليم أن فاضت
منها على الناس أصول الحكومة الفردية، أي حكومة الاستبداد، وأصبحت القوة
الحاكمة هي مدير المدرسة والأستاذ الأكبر لتعليم الدين، ورئيس الجند الأكبر
والشارع الأكبر، بل الكل الأكبر الذي انحصرت فيه جميع الوظائف، ورجا الناس
من هذا الإله الذي هو من صنعهم أن يضيء عقول الأمة، وأن يصنع لهم علماء وأنصاف علماء، فصار التعليم الابتدائي والثانوي، بل صارت جميع درجات
التعليم محوطة بسياج حصين من القوانين، معاذ الله أن أكون آسفًا على ما أراه من
انتشار العلوم وعموم المعارف، ولكني ضعيف اليقين بتأثير عمل الحكومة إذا كان
الغرض من التعليم هو تربية رجال أحرار، فإنها ماوضعت لذلك، وإن لأعضاء
المجتمع الإنساني وظائف كما لأعضاء الأجسام لا يمكن تغييرها بمجرد توجيه
العزيمة إلى ذلك.
سمعت غيرمرة أن الجهل كان العقبة الكبرى في طريق كمال الحرية، وأنا
موقن بصحة هذه القضية، وسمعت أيضًا ممن قالوها أن الحكومة قد قررت أن يكون
التعليم مجانيًّا وإلزاميًّا، وستكون الأحوال حينئذ على ما يرام، أنا لا أصدق هذا
وأضرب الصين مثلاً لأولئك الذين يرون في دواليب التعليم التي تديرها يد الحكومة
وسيلة لتحرير العقول، يكاد كل رجل في تلك المملكة يعرف القراءة والكتابة،
ففيها من المدارس الابتدائية والثانوية وطرق الامتحان ما يفوق الحصر، والصينيون
هم الذين اخترعوا فن الطباعة، وهو أكثر الفنون اليدوية أثرًا في قلب شؤون العالم،
وذلك قبل أن يُعرف في أوربا بخمسمائة عام، فماذا كانت النتيجة؟ أنا لا أزيد عنك
علمًا بها.
لم يكن من التعليم الذي كانت الأساتذة تفيضه على الناس إلا أن أتقن تحجير
الأوضاع الاجتماعية وجعلها أصلب مما كانت، كذلك يكون الشأن عند جميع الأمم
التي يكون الغرض من التربية فيها إيجاد رعايا للحكومة في القالب الذي تريده،
ولوشئت لذكرت أمة أوروبية ليس بينها وبين الصين من هذه الجهة كبير فرق، فإن
التعليم الابتدائي فيها يثبت كل يوم في نفوس الأطفال خلق الانقياد الأعمى بسبب
تداخل السلطتين الدينية والسياسية فيه، المعلم في هذه الحالة هو نائب الحاكم الجائر،
ألم تري أن دينيس [5] لما خلع من الملك اشتغل بوظيفة مدير مدرسة؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كتاب جان جاك روسو المسمى أميل القرن الثامن عشر.
(2) الأكياس: جمع كيّس وهو الظريف حسن الفعل.
(*) المقاسحة: الميابسة؛ أي: المعاملة بالشدة.
(3) هو الزهر قبل تفتحه.
(4) سيسيرون هو مرقوس توليوس سيسيرون، أشهر خطباء الرومان، ولد في سنة 107 وتوفي سنة 43 قبل المسيح , وعُين حاكمًا في سنة 63 وأخمد ثورة كاتيلينا والحرب التي قامت بين بومبيه وقيصر، وكاتيلينا شريف من أشراف روما كان جمع حزبًا وثار به على مجلس الشيوخ ورومة فقهره سيسيرون.
(5) هو حاكم جائر كان في سيرا كوزا، فطرده منها ديون ثم تميلون ومات وهو مدير مدرسة قورنته سنة 343 ق م.(2/666)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
أشرنا في (المنار) الماضي إلى رسالة جاءتنا من سنغابور يذكر فيها صاحبها
تعدي هولندا على الآجينيين، وعدم مبالاة الدولة العلية بهم، وهم من أتباعها، وقد
استغاثوا بإنكلترا فلم تلتفت إليهم على قربها منهم، فإن بلدة فلفلان لاجي التابعة لها
على مسيرة يومين ونصف منهم، وجميع معاملة تجارها معهم، وقد تلفت أموالهم
بواسطة محاصرة هولندا للآجينيين، وقال صاحب الرسالة: (إن آجي جميعها في
حماية الدولة العلية من عهد ساكن الجنان السلطان سليم خان الثاني, وفيها مدافع صفر
عليها طغراء السلطان المومي إليه , نظرتُها بعيني، وقد نقلتها دولة هولندا إلى بتاوي
في مبدأ الحصار، وعندهم فرمان من ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان بأنهم
في حمايته مؤرخ في جمادى الأولى سنة1267) ويشكو صاحب هذه الرسالة من
رجل يسمى السيد عثمان بن عقيل ويقول: إن هولندا اتخذته صنيعة لها وعونًا على
تذليل المسلمين، وقد جاءنا في البريد الأخير رسالة من جاوه فيها تفصيل عن
السياسة الهولندية هناك، وشكوى من هذا الرجل ننشرها في العدد التالي إن شاء الله
تعالى.
***
(الآستانة ومصر) كلما سعى أعداء الملة والدولة بحل الرابطة الوثيقة بين
يلدز وعابدين؛ لفصل مصر من جسم الدولة العلية - يحبط الله سعيهم ويذهب
بسعايتهم، وقد انتهت آخر سعاية بتعطف مولانا السلطان الأعظم بإرسال عطوفتلو
محمود بك عزيز قبو كتخدا الحضرة الخديوية في دار السلطنة؛ لتبليغ مولانا
العباس عزيز مصر سلامه ورضوانه، فليخسأ السعاة والمحَّالون.
ومن عناية مولانا الخليفة بالمصريين أن حضرة الفاضل عثمان بك بكر
العبادي أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية شمس الإسلام رفع عريضة تلغرافية إلى
أفق يلدز يهنئ بها مقام الخلافة بالمولد الهمايوني الميمون، فورد له الجواب من
باشكاتب المابين الهمايوني يبشره بصدور الإرادة السنية بتبلغه ارتياح الحضرة
السلطانية لتهنئته.
***
ومن أخبار مراكش بتاريخ 5 الجاري أن معتمد إيطاليا لما قابل حضرة مولاي
عبد العزيز قدم له الهدايا الثمينة التي أتى بها من قبل مخدومه ملك ايطاليا، وهي
عبارة عن أسلحة جميلة من الصنع الجديد، خصوصًا مدفعان خفيفان سريعا
الطلق بكرسيهما، ومدفع ثالث من طراز آخر، وبنادق وخاتم رصعت به ياقوتة
عظيمة أخذت من حُلي ملكة إيطاليا، وفي رواية أن السنيور ملموزي معتمد إيطاليا
المُشار إليه أنجز مع حكومة المخزن مسألة اشتراء الدارعة البشير، وسعى جهده في
إعادة تشغيل معمل الأسلحة المغربية الذي لإدارة ضباط من الإيطاليان بفاس
ووضح لرجال المخزن ما هناك من المصلحة في تخصيص جزيرة مغادر وإحالتها
لنواب الدول بطنجه لتقيم بها إدارة الصحة محجرًا صحيًّا. اهـ ملخصًا من
(الحاضرة) .
***
ابتهجت الجرائد الوطنية بكلمة قالها مجلس شورى القوانين بالإجماع عند
التصديق على ميزانية سنة 1900م الآتية، مضمونه أن المجلس يقر الحكومة على
المبلغ المخصص للسودان بناء على أنه جزء متمم للبلاد المصرية وداخل في
ماهيتها، وعدّت الجرائد هذا القول معارضة لوفاق السودان، ولا صحة لما أشاعته
إحداها من أن عطوفتلو رئيس النظار تكلم مع رئيس المجلس بأن لا تكتب هذه
الكلمة في محضر الجلسة مجاملة للإنكليز في وقت الضراء.
__________(2/670)
5 رمضان - 1317هـ
6 يناير - 1900م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصيام والتمدن
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
... عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*]
أكتب هذه المقالة لطائفتين من المسلمين: طائفة تصوم ذاهلة عن معنى
الصوم محرومة من فوائده ومزاياه، فصومها أقرب إلى العادة منه إلى العبادة،
وطائفة أفرطت في الترف والتنعم، واسترسلت في الشهوات استرسالاً، فشقَّ عليها
الصوم فتركته غير مبالية بالأمر الإلهي ولا ملتفتة إلى ما في هذه العبادة من المنافع
الروحية والجسدية، هذه الطائفة هي التي نشأت في مهد التمدن العصريّ الشرقيّ،
وأعني بهذا التمدن ما ضم ذووه إلى مفاسد التربية الشرقية كثيرًا من مفاسد التربية
الغربية، فنسوا حظًّا مما ذكروا به على لسان الشرع، ولم يستبدلوا بما تركوه من
أعمال الدين وآدابه وفضائله ما يقوم مقامه في قوام السعادة الدنيوية مما أفادهم العلم
والاختبار فضلاً عن السعادة الأخروية، فإنه ليس لها في التربية الغربية -على ما
نعتقد - نصيب، ولا نشرك مع هؤلاء من يترك الصوم من الغوغاء والتحوت، فإنهم
لا يقرءون، وإذا قرءوا أو قرئ عليهم لا يفهمون، وإذا فهموا لا يبالون أنهم
مخطئون أو فاسقون؛ لأنهم مستهترون ومستولغون (لا يبالون ذمًّا ولا عارًا)
{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
أيها المتمدن الشرقي أقسم عليك بشرفك الذي تقسم به وترعاه، وهو عوني
عليك من تمدنك دون سواه، ولولاه لكنت مستولغًا لا تبالي بالعار، ولا ينجع فيك
الإنذار - أن تقرأ مقالتي هذه وتتدبرها حق التدبر لعلها تذكرك بأمر هو مركوز في
فطرتك الزكية، ولكن أذهلتك عنه النشأة العصرية، وهو أن الصوم ركن من أركان
(الشرف) الذي تحرص على الاتصاف به، لا يثبت لك الشرف الصحيح إن كنت
موقنًا بالدين الذي تنتسب إليه بدونه، ولا يتم لك الشرف العرفي إن كنت غير مؤمن
إلا به أو بمثله أكثف حجاب حال بينك وبين الشعور بفقد الشرف - بفقد الصوم
ونحوه - هو وجود كثير ممن على شاكلتك من خلطائك وخلصائك الذين تعيش معهم،
وهم من أهل المال والسلطة، مع ملاحظة أن الشرف هو ما يعده جمهور الناس
شرفًا، ويحترمون صاحبه ويجلونه، ولو الظاهر دون الباطن، وهذا هو معنى
الشرف عند عامة الناس ودهمائهم في جميع الأمم، وهو يقتضي أن يكون الشرف
أمرًا اعتباريًّا لا حقيقة له في نفسه، فقد يعتبر قوم شيئًا من الأشياء شرفًا يتباهون به
ويتنافسون فيه، وهو عند غيرهم ضعة وخسة يتقذَّر منه ويتباعد عنه، وما من
طائفة من الطوائف تقيم على عمل من الأعمال إلا وهو في عرفها شرف، وله
أسماء ونعوت يتمدح بها، فأصحاب السلب والنهب يرون أن عملهم من آثار
الشجاعة والشهامة، وأنه أفضل أنواع الكسب وأشرفها، وعلى هذا فقس، وأما
الحكماء المحققون والعلماء الراسخون من جميع الأمم فإنهم يرون أن الشرف أمر
حقيقي، وأنه هو الكمال الإنساني، ويمكنني أن أعرفه بكل عمل يجلّ صاحبه
ظاهرًا وباطنًا، ويحترم بحق من العقلاء والفضلاء فمن دونهم، وهؤلاء لا يجلون
أحدًا ويحترمونه على عمل إلا إذا كان له أثر في نفع أمته وحفظ مصالحها والذود
عن حقوقها، فقيام الإنسان بالواجب عليه لتهذيب نفسه ومصلحتها لا يُسمّى بنفسه
شرفًا، وإنما هو من الوسائل المعدة والمهيئة له لنوال الشرف، والصيام من جملة
هذه الوسائل، ولذلك قال تعالى في بيان حكمة إيجابه علينا: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) فإن معنى (لعلّ) في القرآن: الإعداد والتهيئة لما تدخل عليه،
على ما اختاره أستاذنا مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وإليك بيان هذا في شأن
الصيام:
لا خلاف بين علماء الاجتماع في أن سعادة الأمة منوطة بحسن تربية أفرادها،
فالسابقات إلى السعادة في هذه الحياة الدنيا من الأمم هن السابقات في العناية بالتربية
كإنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، رأت هذه الأمم العزيزة أن الأمة
الإنكليزية قد سبقتهن جمعاء في ميدان السيادة والسعادة، حتى إنها استولت على قريب
من ثلث العالم الإنساني (400 مليون) وأخذت أهم مغالق البحار، وقبضت على
أكثر الأعصاب المعنوية للعالم المتمدن، وهي الأسلاك البرقية، وامتلكت معظم
ينابيع الثروة، وأنها نالت هذا بسلاح الحكمة والتدبير لا بسلاح الإبادة والتدمير؛
لأنها أقلهن حربًا وأبعدهن عن الاستعداد له بالنسبة لما استعمرته من الأرض، رأين
هذا، فحار الأكثرون في تعليله غفلة منهم عن الاستدلال بالأثر على المؤثر،
وبالمعلول على العلة، واهتدى إليه بعض المحققين في علم الاجتماع وطبائع الأمم
فقالوا: إن هذا السبق معلول لحسن التربية، ثم بحثوا في طرق التربية الإنكليزية،
وقارنوها بالطرق المعروفة عند سائر الأمم المتمدنة، فظهر لهم صحة استدلالهم،
وفصل المجمل تفصيلاً، وفي هذه التربية ألف الموسيو أدمون ديمولان كتابه (سر
تقدم الإنكليز السكسونيين) ومنه علم أن مدار هذه التربية على أن يكون المربى مستقلاًّ
بنفسه في أمر معيشته، قادرًا على أن يعيش في كل أرض ويزاحم في شؤون الحياة
كل شعب، ويقاوي من فواعل الطبيعة كل عارض، ويصابر من حوادث الزمان كل
طارئ ليتمكن من بسط جناح سلطة أمته على كل أمة، ومن إعلاء مجد قومه على
جميع الأقوام، هذه هي التربية المُثلى التي سبق الشعب السكسوني بها سائر الشعوب،
ولا شك أنها لم تبلغ كمالها ولم تعم الشعب كله، وهي على أحسنها في الطبقات العليا
من الأمة، ألم تقرأ ما نقلناه في (المنار) 41 الأسبق عن السياسي الإنكليزي من قوله:
(هذا الجلد والصبر لا يوجد عندنا إلا في الضباط، فإنهم تربوا أحسن تربية وباقي
الجيش من غوغاء الناس إذا مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر
عن اللحم والخمر إلا قليلاً) . وهذا لا يكون إلا بتعويد المرء نفسه على الجوع وترك
الشهوات أحيانًا؛ لكيلا يتألم إذا أصابته مجاعة ويخور عزمه، وهذا هو معنى الصوم
وإحدى فوائده المهمة، يقول المتمدنون: إن هذا النوع من ترويض الجسم وتأديب
الشهوة لا تُنكر فائدته ولكنه يمكن أن يحصل بغير الصوم المشروع في الإسلام، ولا
ريب أن هؤلاء الإنكليز ومن على شاكلتهم في التربية لا يصومون هذا الصوم،
ونقول في جوابهم: إذا فرضنا أن الغرض يحصل بالصوم وبطريق آخر من الرياضة
فحسبنا في ترجيح الصوم أن فيه مرضاة الله تعالى، والمثوبة الحسنة في الآخرة مع
الفائدة في الدنيا، على أن حكمة الخالق لا تقاس بحكمة المخلوقين، ووضع البشر لا
يداني وضع أحكم الحاكمين.
وها أنا ذا أسرد ما أستحضره من فوائد الصوم؛ ليتبين للقارئ أنه لا يرغب
عنه إلا مَن سفه نفسه، وقد ذكرت فائدتين منها في مطاوي الكلام، وأعيدهما مع
أخواتهما بلون آخر من البيان:
(الفائدة الأولى) الصحة؛ لأنه رياضة تجفف الرطوبات البدنية، وتفني
المواد الرسوبية، فقد قال ابن سينا الحكيم الإسلامي: إن هذه المواد تتولد من الطعام
وتكثر حتى تتولد منها أمراض يخفى سببها , وقد اكتشف بعض علماء أوربا هذه
المواد من سنين قليلة (وقد كان سبقهم حكيمنا إليها ببضعة قرون) . يقول
الآخذون بالظواهر أننا نعرف من أنفسنا الضعف والذبول بالصوم
فكيف نُسمي الضعف صحة؟ ومن لوازم الصحة القوة , ونجيبهم بأن عاقبة هذا
الضعف والذبول القوة والنمو، ألم تروا كيف يمنع النبات الماء زمانًا حتى يذبل
ويذوي، ثم يفاض عليه فيكون أسرع نموًّا مما لو عوهد بالسقي دائمًا، بل هو في هذه
الحال معرض لليبس؛ لأنه يرد عليه من الغذاء أكثر مما تطلبه طبيعته، ويندرج هذا
تحت قاعدة (ردّ الفعل) المعروفة، الشجرة البرية - كما قال الإمام علي - أصلب
عودًا وأبطأ خمودًا، والأجسام الحية يشبه بعضها بعضًا في الشؤون الحيوية،
وقد ثبت في الطب أن السنين إذا أخذت قومًا، فإن فعل الجدب والقحط يكون على،
أشده في المترفين المنعمين الذين اعتادت مِعَدُهم أن لا تخلو من المآكل الرطبة الدسمة
فيكثر فيهم الموتان ويسرع فيهم الفناء، وتكون السلامة أغلب في أهل الشظف
والقشف، فما أحوج هؤلاء المنغمسين في النعيم إلى رياضة الصوم لتقوية أبدانهم! !
(الفائدة الثانية) كسر سورة الشهوة وجزر مدّها، فإن طغيان الشهوة يفضي
بصاحبها إلى الإفراط في تناولها؛ فينطفئ في نفسه نور العفة، وهي إحدى أركان
الفضائل الأربع، ومتى تقوض هذا الركن ينهدم معه ما بني عليه من الفضائل كالحياء
والدعة، والصبر والسخاء، والحرية الحقة والقناعة، والدماثة والانتظام، والمسالمة
والوقار والورع، واختل مزاج النفس وتبعه اختلال مزاج البدن؛ لأن الإفراط في
الشهوات منبع الأمراض والأدواء بإجماع من الأطباء، ولهذا المعنى قال النبي صلى
الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان:إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة
وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين. زاد الترمذي وابن ماجه والحاكم: ونادى
منادٍ: يا باغي الخير هلمَّ، ويا باغي الشر أقصر، فأبواب الجنة: الفضائل
والطاعات، وأثرها في الصوم أعم وأظهر، وأبواب النار: الرذائل والمعاصي،
وانطماس أثرها في الصوم الحقيقي لا يُنكر , وبهذا يبطل تأثير الأرواح الشريرة التي
تلابس النفوس، فيقوَى فيها الميل إلى الشرور المعبَّر عنه بتصفيد الشياطين، يقول
المعترض: إذا ضعفت الشهوة في وقت الصوم فإنها تثوب بعده كما تثوب الغضاضة
والقوة بعد الذبول والضعف بمقتضى قاعدة (رد الفعل) التي ذكرتَها في بيان الفائدة
الأولى فيكون الصوم مضرًّا، ونقول في جوابه: إن موت الشهوة أو
دوام ضعفها مضر بالإنسان، وإنما شرع الصوم وغيره لمنفعته، والمطلوب في
الصيام تضمير النفس كما تضمر الخيل حتى يملك صاحبها عليها أمرها، ويأمن
جماحها إلى ما يحرّمه الشرع ويورث صاحبه الهوان والضعة من اتباع الشهوات،
وإنما يكون هذا بامتناعه في أوقات مخصوصة عن تناول الشهوات كلها
- حرامها وحلالها - لتنطبع في النفس ملكة القدرة على الترك وهذا هو التهذيب
المفروض على كل مكلّف في جميع الشرائع، جعلت العرب مدة تضمير الفرس
أربعين يومًا، وجعل الشارع مدة تضمير الإنسان نفسه ثلاثين يومًا في كل سنة،
ويستحب الزيادة عليها، لا سيما بالنسبة لمن يعرف من نفسه الجموح وعدم
السلاسة لحكم الشرع.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) البقرة: 183.(2/674)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(تابع لمكتوب 19)
من الخطأ أن يعتقد معتقد أن الحكومات المطلقة تكره تقدّم سير التعليم العام
وتعاديه عن قصد، فما الذي تخشاه منه، وليس هو إلا جملة أنواع من العرفان هي
تحرّرها وتصوّرها كيفما شاءت؟ أليس بيدها مقاليد هذه الجملة؟ أليست طرق التعليم
التي تقرّ عليها وهي المتبعة دون غيرها هي أحسن ما وجدته لتمكين أصل الرضوخ
للقوّة الحاكمة في نفوس المتعلمين؟ إن أخوف ما أخافه على الأمة من المخازي المهينة
التي تشين شرفها هي العبودية في الاختيار، فإن الأصفاد التي تقيّد الرقيق قد تسقط
بمقاومة قليلة (وروى لنا التاريخ في ذلك أكثر من مثل) وأما ما يتزيّا به حواشي
الأمراء وخدمهم من الملابس الرسمية، فما أطول بقاءه على أبدانهم! ! إذا تعلمت
الأمة بالتربية الفاسدة الطاعة والانقياد، وكان الباعث لها عليهما المنفعة أو الأثرة أو
الوجدان، كان ذلك كل ما يطلبه منها مربيها.
إن مذهب القائلين بوجوب توسط الحكومة في التعليم مؤسس كله على أمور
الاعتقاد التقليدي، وعلى أن السلف كانوا يأتمرون بأوامر مدير المدرسة أو رئيس
القرية، كما نُقل إلينا ذلك في آثارهم، فلا يطالب أصحاب هذا المذهب من
يعلمونهم بالاستقلال في الفكر والعمل، وإنما يحملونهم على العمل بما يُقال لهم،
فتكون قلوب الأطفال بأيدي معلميهم مادة لينة يتخذون منها للحكومة رعية نافعة
مطيعة، وإذا كانت هذه هي غايتهم التي يرمون إليها، فهم لا يبالون بما عداها،
بل إن أحب شيء إليهم أن تصير المدرسة بهذه الطريقة: مربى يتخرج منه أوساط
الناس، فإن الأمة تصير بذلك أسلس للوازع قيادًا وأخفض جناحًا.
لا يشك أحد في أن معاهد التعليم عندنا يرأسها كثير من الرجال العارفين
الأحرار، وللمدرسة العامة فوق ذلك مزية نادرة الوجود في رأي أهل النظر وهي أنه
لما كانت الثورة الفرنساوية هي الأصل في وجود القسم الأكبر منها كان من
المتعسر أن تتحوّل عن مبادئها وأصولها مهما تغيرت عليها الأحوال وتبدلت الشؤون
فأي معقل رفيع غيرها يحمي الأفكار والآراء الحديثة من إغارات مذاهب الكهنوت
عليها؟
كل يوم تتخرج من مدارسنا الاختيارية وكلياتنا عقول سليمة، بل عقول حرة
أيضًا، إن في استطاعة الحكومات أن تسن ما شاءت من قوانين التعليم، وليس في
وسعها أن تبطل تأثير علم الحكمة والأفكار التي ولدتها ثورة سنة 1789 وغيرها
من المؤثرات التي تعمل في نفوس الأحداث رغمًا عن كل قانون ونظام، من أجل
هذا أنا لا أعيب المدارس لذاتها، وإنما أعيب فيها مجموع طرق التعليم من حيث
هو مؤسس على أوهامنا وأخلاقنا وعوائدنا.
التربية الخاصة عندنا هي أيضًا أقل قيمة من التربية العامة، فإن الوليد عندما
يسلك سبيل الحياة لا يتوجه قصدنا إلا إلى إلزامه الجري على مألوف العادة، وما يلقى
في ذهنه من المعارف كله تجريبي، فمن ذا الذي فكر إلى الآن في جعله مساوقًا
لفطرة الإنسان ومناسبًا لها؟ إننا منذ نصف قرن قد جدّدنا طرق تناول العلوم
الرياضية والطبيعية، وفنون الاقتصاد السياسي والتاريخ، والحكمة والأدب والانتقاد
وكل شيء إلا ما يختص بتربية الأطفال , على أنها هي التي كان يجب البداءة بها في
التغيير.
أود قبل كل شيء أن يُحترم وجود الإنسان حتى في ذات الطفل، إني لو أتاح
لي الحظ سماع خطب علماء الأخلاق ورجال الحكومة في مذهب الاشتراكيين لما
خامرني شك في أن هذا المذهب فاسد ممقوت، مغاير للدين، بما لهم على ذلك من
الحجج القوية والبراهين الصحيحة، وأنا منحاز معهم إلى فريق ذوي الاستقامة
والصلاح، فاسمعي ما يقولونه في شأن التربية والتعليم عندنا، يقول قائلهم:
إني إذا دخلت مدارسنا الابتدائية الثانوية لا يسعني إلا أن أعترف على الفور بأن
ما فيها من الأبنية وأنواع التأديب وتوحيد طرق التعليم واختلاط الدروس، كل
ذلك لم يوضع إلا لحبس الجسم والعقل والتضييق عليهما، فالمصريون على ما يروى
عنهم قد اخترعوا أفرانًا لطبخ الدجاج، ونحن قد اكتشفنا أفران طبخ التلامذة. إن
القوتين اللتين يعتنى بإنضاجهما في هؤلاء أشد العناية على هذه الحرارة الصناعية،
وهما قوتا التقليد والذاكرة، هما ولا شك أقل جميع القوى الإنسانية كشفًا عن حقيقة
العقل وإظهار الملكات الصحيحة، فكأن المعهود إليهم بالتربية والتعليم قصدوا أولاً
وبالذات أن يجعلوا كل رجل من أول نشأته شبيهًا بجميع الناس، ولست أعدم قائلاً
يقول: إن ذلك هو إحدى النتائج الضرورية لتطلعنا إلى الحكومة الجمهورية،
وتحققنا بأصوله، فأجيبه: إن هذا القول من الخبط والخلط الغريب، فكيف يشبّه
توحد المعارف والملكات بالمساواة في الحقوق؟ ألا يرى أن سكان الولايات المتحدة
على إيغالهم أكثر منا في الأخذ بسنة النظام الجمهوري هم على العكس منا يزداد
فيهم شعور الاستقلال بالوجود الشخصي الذي هو أصل الحرية حياة وقوة، فتظهر
آثاره في أعمالهم ظهورًا جليًّا؟
إن الشاب ليمكنه أن يتعلم من جديد مستقلاًّ بنفسه إن أراد، ما لم يكن أحسن
تعلمه أثناء دراسته، وهذا ما وقع لجميعنا بعد الخروج من المدرسة، ولكن من ذا
الذي يفكه من أغلال العوائد التي تخلق بها في صغره؟ كيف يتيسر لهذا المنفلت من
المدرسة أن يهتدي في مستقبله بمجرد ما اكتسبه من المعارف، مع أنه إلى وقت
خروجه منها كان لا يستقل بعمل من أعماله، بل كان يعملها جميعها بأعين معلميه؟
ما الحيلة في إحياء قوة نفسه بعد أن أنهكها التأديب المؤدي إلى درجة البهيمية؟ ما
معنى الكلام على الزاجر النفسي إذا كان وجدان اليافع يُسلب منه ويُوضع بأيدي من
يديرون شؤونه؟ ذلك هو أخص ما أخشاه من أنواع الخطر، ومن العبث أن يتمثل
هنا ببعض مشاهير الرجال الذين كانوا في زمن طفوليتهم في أشد المراقبة والحصر
لكن لم يؤثر هذا في مستقبلهم شيئًا، فيقال: إن فولتيير [1] مثلاً تربّى في حجر
اليسوعيين , وتخرّج التيتانيون [2] الذين اشتهروا في ثورة سنة 1789م على رجال
الكهنوت، فإنني لا أتكلم هنا عن الأفراد من الرجال الشذّاذ، وإنما أقصد بكلامي
جملة الأمة وعامتها، وأُسائل نفسي عما يحدثه مثل هذا النظام من الأثر في طباع
أوساطها، كوني على يقين أنه ليس من الميسور لكل واحد أن يجد ما يكفي من القوة
لاسترجاع ما فقده من سلطانه على نفسه بعد أن ألقى لغيره زمام عزيمته.
إنك قد لاقيت في الناس من جرى الاصطلاح بتسميتهم (الشبان العارفين)
فهل رأيت منهم كثيرًا يمتازون بجرأة الجنان الحقيقية، ألم تريهم يقاومون في الغالب
من وسائل الترقي وطرق الإصلاح ما عساه أن يذهب ببعض آمالهم،
ويسخرون به ميلاً مع الأثرة وحبًا للاختصاص، وألا تجدينهم أشد عداوة من
جهلة العامة لبعض العلوم؟ إنهم ليؤمنون على السواء بكل ما قدسه مرور الزمن
عليه وآراء الناس فيه غير مهتمين بالتمييز بين صحيحه وفاسده، وحقه وباطله،
وما لهم ولهذا التمييز إذا كانت مهارتهم توصلهم إلى مقاصدهم، هل هم في هذا
العالم حتى يشتغلوا بمصالح غيرهم؟ كلا، إنهم ليقنعون بنقصهم الذي يظهرونه
للناس في مظهر الكمال ويهزءون بما كان من جد الخائبين وإخلاص المخلصين،
وصدق نفوس الصادقين، وهم لما فيهم من خفة الأحلام وكثرة المجون والغرور
والترف يلتمسون في كل أمر وسيلة الانتفاع بحاضرهم، ومع قلة ما لهم من
المعارف الحقة يظهرون في مظهر العارفين بكل شيء، المجتمع الإنساني هو حلبة
سباق كبرى، فهم فيها يعملون لمزاحمة غيرهم في الحصول على سبقها [3] ، أو على
الألقاب التي تعطى في العادة لمن يقاربون هذا السبق، فتفضل الشخص الذاتي هو
أيضًا في هذا الميدان الجديد لا يلتفت إليهم كثيرًا؛ لأن الذي يمنح الجوائز هي
المحاباة، والذين ينالونها هم أهل الدسائس والخدع، فلا جرم إذن أن كدح المتعلمون
من الشباب بعد خروجهم من ربقة النظام المدرسي في دخولهم تحت ولاية الحكومة.
إن سمعتِ كلامي وصدّقتِ قولي فلا تربي ولدنا على الطرق المتبعة، وربما
كان عملنا في ذلك أحسن من عمل غيرنا أو أسوأ منه، إلا أننا على كل حال نكون
قد أقمنا حقًا مقدسًا، فإن تربية الطفل منوطة بالبيت والأهل والعشيرة قبل أن
تناط بالمجتمع الإنساني.
ما هذه الكلمات التي قد جمح لها قلمي؟ قلت: إن التربية منوطة
بالبيت، ولكن واأسفى على بيتنا، فقد هدم، نعم، إن عشّنا الذي كنا لا بد أن نناجي
فيه بأحسن أمانينا وتسكنه أعز آمالنا قد ثارت عليه عواصف المحن فدمرته تدميرًا.
لا بأس علينا من ذلك، فسنعيد بناءه بروابط الحب فوق جو الفتن، فأكون معك في
هذا العمل بقلبي، وأنت تسهرين وتنوبين عني في السهر على حراسة ذخرنا،
فإني قد استودعتك إياه، والسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هوارويتو وفولتير الشاعر الحكيم الفرنساوي المولود في سنة 1694 م المتوفى سنة 1778م.
(2) مردة الشياطين الذين حاولوا صعود السماء لخلع المشترى كبير الآلهة كما في خرافات اليونان.
(3) السبق (محركة) الخطر الذي يتراهن عليه أهل السباق، وبالضم جمع سبقة بمعناه.(2/679)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(ثبوت الرؤية)
ثبت شهر الصوم الشريف بالرؤية الشرعية، وأصبح أهل القطر في يوم
الثلاثاء الماضي صائمين، فنهنئ قرَّاء جريدتنا الكرام وسائر المسلمين بهذا الموسم
المبارك، ونسأل الله تعالى أن يوفقهم لإكمال العدة بخير وعافية ونِعم ضافية.
***
(من جاوا)
في 24 رجب الأصب سنة 1317
أحببت أن أبين لكم السياسة الهولاندية في مستعمراتها الشرقية - جزيرة جاوا
ونواحيها - ومعاملتها للأهالي والنزلاء مثل العرب والصينيين والهنود والأوروبيين ,
فأما الأهالي فقد جعلت الحكومة أمرهم إلى كل من ترفعه منهم وتجعله رئيسًا عليهم من
شيخ المحلة إلى (تمنثوم) وكل واحد منهم يخضع لمن هو أعلى منه درجة ويهابه
ويحترمه أكثر من الحاكم الهولاندي، فبهذه السياسة استراح رجال الحكومة
الهولانديون لأن الجاويين كفوهم المؤنة في الحراسة وجباية الأموال وتدبير داخلية
البلاد، وطلاب الآبق والهارب والسارق وغير ذلك، فمنهم الكناسون والرشاشون
والمحافظون على الخزائن وحراس المخافر ليلاً ونهارًا، ومع هذا كله ليس لهم تنفيذ
أمر ما، بل هم بمثابة خدّام للهولانديين فقط، كل منهم باذل جهده بحسب طاقته فيما
يفتخر به عند الهولانديين، بل يخاصم الابن أباه من أجلهم، والحاصل أنهم - أي
الجاويين - أراحوا الهولانديين من الأشغال المهمة الداخلية، يسعون فيها بكل نشاط
وإخلاص، وهم على جانب عظيم من الجهل بأمور دينهم، وليس لهم مدارس ولا
معلمون مهرة يبصرونهم بأمور دينهم ودنياهم، والحكومة الهولاندية لهم بالمرصاد
تصدهم عن التعليم والتعلم؛ لأنها ترى مصلحتها في بقاء القوم على جهلهم، فكم من
عالم صدوه وآذوه، ومتى علمت الحكومة بورود عالم راقبته في حركاته وسكناته ولا
تأذن له بالسفر إلى البلدان والقرى في داخلية البلاد، وإنما تلزمه بالإقامة في حواضر
البحر فقط، هذا حال الأهالي مع الهولانديين في جاوا ونواحيها، وأما النزلاء فأكتفي
بما أشاهده في العرب فإن الحكومة الهولاندية تجعل للعرب في كل بلدة محلاًّ
مخصوصًا لا يتجاوزونه إلى سواه، وتجعل عليهم رئيسًا منهم، ورتبته تكون على
حسب كثرة العرب وقلتهم , ففي المدائن الكبيرة مثل بتاويا وسورابايا رتبة
(كابتن) وفي البلدان الصغيرة (ليفتننت) إلى شيخ المحلة (ويكمستر) وعند
تولية كل منهم يحلف في الديوان أنه لا يخون الحكومة، ولا يظلم أبناء جنسه، وبهذه
اليمين يصير مصدقًا لدى الحكومة في كل ما يقوله، ولا تسمع فيه طعن الطاعنين،
ولا شكاية الشاكين ما لم تكن للحكومة، فبهذه الحرية يفعلون بأبناء جلدتهم ما يشاءون
من العسف والجور والظلم والحيل على أخذ أموالهم إذ لا تثبت عليهم حجة عند
الحكومة، وقد جرى عندنا في بتاوي في هذه الأيام منع التذاكر السنوية (باسابورت)
التي تجعل في ورق مالية قيمة الورقة روبية ونصف (زيغل) وكان فيها بعض
تسهيل على المسافر، ولكن زعيم العرب هنا لم يربح منها، فأبطلها حيلة منه على
جذب الأموال لمنافعه الخصوصية , مما يضر بأبناء جنسه ويفعم كيسه , بأن التمس
من الحاكم إبطال هذه التذاكر، فأجابه حاكم بتاويا إلى مطلوبه بدون تأخير، وأوهم هو
قومه أنه لم يتداخل في هذه المسألة، وإنما الحكومة أبطلت تلك التذاكر من تلقاء
نفسها ولا تخفى مكيدته هذه إلا على غبي، فإنه لو كان إبطالها من الحكومة لكان
تساوى فيه العربي والصيني، وإننا نرى الصيني متمتعًا بهذه التذكرة لم يمنعه مانع
العربي منها، وبهذا اتضح أن زعيم العرب في بتاويا لم يسعَ في إبطال هذه التذاكر إلا
ليجذب بها الدراهم، فمن أعطاه مراده أسعفه بالتذكرة، والحكومة تغض نظرها عنه
في هذه الأمور؛ لأنه يخدمها بغير أجر إلا ما يختلسه من أبناء جنسه بأنواع الحيل
التي تقوده إليها المطامع الأشعبية، وظهرت منه أشياء كثيرة تدل على طمعه وامتهانه
لقومه وجلب الأذى لهم، ومثله زعيم العرب في سورابايا، فحدّث عنه ولا حرج،
فإنه يفعل أضعاف ما يفعله صاحب بتاويا، وزاد عليه بالكبر والتحقير لهم، وأخذ
أموالهم بالغدر والمكر والحيل , مما لو شرحته لاحتجت إلى كراريس، وقس عليهما
ما سواهما في الأماكن الأخرى إلا النادر، مع أن أولئك الزعماء لو ساروا
على النهج القويم وأعطوا كل ذي حق حقه كما هو المطلوب منهم لصار لهم القبول
التام عند الخاص والعام، ولكنهم عكسوا القضية، وكانوا مع الزمان على إخوانهم،
ومَن نصحهم أو وعظهم أو خالفهم في سيرتهم سَعوا في تنكليه وسجنه بلا سبب
ليرهبوا غيره، وليس لهم عناية بأمر إخوانهم، بل كل ما تفعله الحكومة بأبناء جنسهم
هو بمساعدتهم ووساطتهم، ومن حيلهم تقربهم إلى الحكومة ببذل كل ما في وسعهم،
فمتى نابتها نائبة قاموا فيها بجد واجتهاد كما وقع في هذه الأيام من جمع إعانة
للمنكوبين بالزلازل في الجزر الشرقية التابعة للهولانديين، فإن زعيم العرب قام
بجمع أصحابه في كل حين وكلفهم جمع إعانة منهم لهذه النائبة، والعرب يرتاحون
لفعل الخيرات كهذه الإعانة، ولكنهم يتأسفون لمنعهم من مطالبهم وعدم مساعدة هذا
الزعيم لهم في أمورهم، وهو يرى أشياء مضرة بهم، ولو نصح لأزالها، ولكنه لا
يراعي إلا صوالحه الذاتية، ولا يهمه أمرهم، وفي ظنه أنه لو سعى في صلاح لأبناء
جنسه - في فك معضلة أو شفاعة حسنة أو جلب نفع مما لايضر الحكومة يسقط -
اعتباره عند الحكومة، أو تظن به السوء، وظنه هذا خطأ محض، فإنه لو عدل وقام
بالواجب الذي كلف اليمين من أجله لشكره الخاص والعلم ولا يصله عتاب من الحكام،
ولكن الذي قاده إلى مقاصده الخسيسة الطمع أبو المهالك.
فهذه حالة العرب في جاوا ونواحيها، وكل ما يجري علينا معاشر العرب بهذا
الطرف هو لعدم جمع الكلمة وسكوتنا وعدم مساعدة بعضنا بعضًا، فلو اجتمع رأينا
وقدّمنا عريضة للحاكم العمومي وأخبرناه بما نقاسيه من رؤسائنا بمساعدة رجال
الحكومة لهم وصرنا يداً واحدة لوقع لكلامنا تأثير، ولكنا صرنا مهملين، كل منا
يسعى في حاجته الخصوصية لا يبالي بغيره من إخوانه وأبناء جنسه، ومثل هذا
الزعيم لا يُرجى نفعه لأصحابه، ومثله حضرة السيد عثمان بن عقيل الذي حصل منه
الإيذاء لأبناء جنسه، وسعى في سجن 3 من السادة في العام الماضي، وفي الشهر
الماضي استدعى أعيان العرب في بتاويا إلى منزله، فلما اجتمعوا لديه
التمس منهم موافقته على غرض له خفي يجحف بمصالحهم، فلم يوافقوه عليه؛ فأخذ
يسبهم ويشتمهم ورماهم بالعظائم مما نتحاشا أن نذكره في هذه السطور، فخرجوا من
بيته قارئين: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَناَ} (آل عمران: 8) الآية.
وأما الأوربيون فهم متمعون بالحرية لا يعاملون بالقانون المعوج الذى تعاملنا
به حكومة هولاندا , بل هم مطلقو العنان في كل تصرفاتهم، وهاك ما فعله حاكم
مدينة باندونغ عاصمة ولاية فرياغن في 15 نوفمبر سنة 1899م: مرّ هذا الحاكم في
عربته فرأى اثنين من العرب واقفين على قارعة الطريق، فأوقف عربته وسبهما
لكونهما لم يحترماه كغيرهما , وساقهما للمحاكمة وألزمهما غرامة خمسين ربية على
كل واحد منهما، ثم إنه أمر أعوانه وشرطته بالتفتيش على العرب في بيوتهم ,
فألقي القبض على ثمانية نفر قادهم من محل الحريم، ولم يكتف بذلك بل أخذ
نساءهم وأطفالهم وساقهم إلى المحكمة، فأما الرجال فغَرّمهم خمسين روبية
أو سجن 15 يومًا، ثم طردهم بعد إمضاء الحكم عليهم بما ذكر، وأما النساء فردهن
إلى مساكنهن بعد ما وبخهن وأكد عليهن أن يخبرن البوليس إذا عاد أزواجهن إلى
باندونغ مرة أخرى، ومن أخفت زوجها تساق للمحاكمة، بل تصير مجرمة إذا لم
تخبر شيخ الحارة، فهكذا يفعل حكام هولاندا بالعرب، لا يراعون قانونًا ولا
إنسانية، بل يحكمون بما تهوى أنفسهم مع أن قانون البلاد هنا ساوى بين العربي
والصيني في مواده، ولكنهم تركوا العمل به بالنسبة للعربي فقط، وأما الذي على
العربي فإنه مطالب به يحاسبونه على النقير، فمن هنا تعلم أن الهولانديين متعصبون
على العرب ويسيئون بهم الظنون، ومن أدلة هذا أن بعض العرب قدّم
عريضة لحاكم باندونغ طلب منه العمل بمقتضى القانون الذي أباح للصينيين
والهنود والعرب الدخول إلى باندونغ ولم يميز بين أحد منهم , فردّ حاكمُ باندونغ
تلك العريضة إلى بتاويا، ثم إن حاكم بتاويا دعا ذلك العربي وسأله: أأنت الذي
قدّمت عريضة لحاكم باندونغ طلبت منه المساواة بالصينيين وغيرهم؟ فأجابه بنعم،
فقال له: إذا كنت تريد ذلك فأبدل لباسك وزيك، واجعل بدل العمامة قلنسوة كالجاويين
والتزم خدمة للحكومة يومًا في الأسبوع، فأجابه العربي: إني أريد العمل بما
تضمنته المادة التي تساوي بين العرب والصينيين والهنود من القانون الذي
تقرر به العمل في سائر المستعمرات الهولاندية، فما الفرق بين العربي والصيني
والقانون مصرح بالمساواة؟ فعند ذلك غضب الهولاندي وقال للعربي: لا تخض
في هذه المسألة فإنها سريِّة وأعاد عليه القول في تبديل اللباس والشكل كما تقدم
وطال بينهما الكلام، وقال للعربي: اخرج الآن وعد إليّ في اليوم الفلاني للبحث
في هذه المسألة مرة أخرى، وسأخبركم بما يكون.
وسأخبركم بعد ذلك أيضًا بحال السيد عثمان بن عقيل المارّ ذكره، وما وقع بينه
وبين إخوانه وأبناء جنسه، وكيف قربته حكومة هولاندا وأكرمته بنيشان الافتخار
وغير ذلك؛ لكي تطلعوا على أخلاق هذا الرجل وسيرته في رسالة مخصوصة إن
شاء الله تعالى. اهـ
(المنار)
إننا نعجب كيف يشكو أهل جاوا ونزلاؤها من ظلم هولندا وهم الذين
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الظالمين، ومن ظلم نفسه كان جديرًا بأن يظلمه غيره،
وهيهات أن يبلغ الأعداء من الجاهل الأحمق ما يبلغه من نفسه، وهذه أول رسالة
نشرت في (المنار) تنطق بالتنديد بأشخاص معينين يبغون في الأرض بغير الحق،
وإننا نعجب أشد العجب مما كتب إلينا مرارًا من غير واحد عن عثمان بن عقيل.
وإننا نعرف بيت آل عقيل بيتًا طاهرًا شريفًا، فما هذا الشذوذ من عثمان،
أليس هو من أولئك الكرام الذين منهم السيد محمد بن عقيل المقيم في سنغابور؟ !
وعسى أن يكون في نشر هذه الرسالة زجر للباغين، ويتوب الله على التائبين.
***
(عيد مصر الوطني الأكبر)
في مثل يوم الاثنين الآتي جلس مولانا عزيز مصر عباس حلمي باشا الأفخم -
أيده الله تعالى - على الأريكة الخديوية، وهو العيد الوطني الأكبر للأمة المصرية،
وقد تألفت لجنة من ذوات المصريين مختلفة في المذاهب الدينية والمشارب
السياسية لإقامة احتفال باهر وزينة بديعة في حديقة الأزبكية، ولا غرو، ففي مثل
هذا اليوم السعيد تجتمع الأشتات، وعلى تعظيم هذه االأمير المحبوب يجب أن تتفق
القلوب، فنسأل الله تعالى أن يعيده على الأمة المصرية في ظل سموه بأحسن
الأحوال، على ممر السنين والأحوال، آمين.
... ... ... ... ... *** ... ...
قرأنا في بعض الجرائد أن الدولة العلية قد عزمت على إرسال بعض العلماء
إلى سناجق البصرة والمنتفك وكربلا لإرشاد القبائل الرحالة هناك، وقرأنا في
بعضها أنه قد صدرت الإرادة السنية بذلك فعلاً، ونحمد الله تعالى أن الدولة العلية قد
تنبهت لهذا الأمر قبل أن يخرج من يدها بالمرة، فقد سبقها إليه الشيعة وبثوا الوعاظ
والمرشدين في هذه القبائل وغيرها من العربان الضاربين على ضفاف الدجلة
والفرات فأدخلوا معظمهم في مذهب الشيعة.
يذهب الملا الشيعي إلى القبيلة فيمتزج بشيخها امتزاج الماء بالراح بما يسهّل
عليه من أمر التكاليف الشرعية ويحمله على هواه فيها كإباحة التمتع بالعدد الكثير
من النساء الذي له الشأن الأكبر عند أولئك الشيوخ , وغير ذلك حتى يكون وليجته
وعيبة سره ومستشاره في أمره فيتمكن الملا بذلك من بث مذهبه في القبيلة بأقرب
وقت، ويكتفي من السياسة غالبًا بإفهام القوم أن رئيس طائفة الشيعة المحقة شاه
العجم ورئيس الطائفة الأخرى المسماة بالسنية السلطان عبد الحميد , ولا شك أن
هؤلاء العربان يكونون عونًا لرئيس مذهبهم إذا وقع خلاف ونزاع (لاقدّر الله) بينه
وبين رئيس المذهب الآخر، وإن كانوا في بلاد الآخر، ويمكن للدولة العلية أن
تتدارك الأمر بعض التدارك إذا كان الذين تختارهم للإرشاد والتعليم أهل حكمة
وغيرة حقيقية يهمهم الإصلاح والإرشاد بحيث يقدّمونه على منافعهم الشخصية،
على أن الذي يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة لا يحرم من أجر الدنيا، بل ربما كان
نجاحه أتمّ، وقد استغنى جميع دعاة الشيعة في تلك القبائل مع حصولهم على
غرضهم في نشر المذهب، وليبدأ دعاة الدولة العلية بمن على شط الفرات، فإن
فيهم عددًا كبيرًا لم يزل على مذهب أهل السنة، والله الموفق.
***
(المؤيد)
كبرى الجرائد العربية، قد دخلت في السنة الحادية عشرة، وهي ثابتة على
منهاجها في خدمة الدولة العلية في مصر على ما تحب وترضى، والمدافعة عن
حقوق مصر والمصريين التي هضمتها الدولة المحتلة على وجه نالت به ثقة السواد
الأعظم من الأمة، ولقد لقي صاحبها الفاضل من الألاقيّ في بدايته ما يندر أن يثبت
معه شرقيّ على عمل، وكانت له العاقبة، فصدق عليه قول صاحب الحِكَم: (من لا
تكون له بداية محرقة لا تكون له نهاية مشرقة) وقد سمَّى العشر الأول من عمر
جريدته (طور الطفولية) وفي هذا من الهضم لنفسه، ولعمله الناجح ما كان ينبغي
أن يكون أسوة للذين بوّءوا جرائدهم، وهي أجنّة مقاعد الشيخوخة (لقد تزببت لكن
فاتك العنب) فنهنئ صديقنا الأستاذ الشيخ علي يوسف بهذا الثبات والنجاح،
ونرجو لجريدته من الارتقاء في مستقبلها ما يكون به ماضيها كطور الطفولية حقيقة،
فإن الكامل يقبل زيادة الكمال.
__________(2/682)
12 رمضان - 1317هـ
13 يناير - 1900م(2/)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
اقتراح على السادة العلماء
في تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء
لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء رفيق العظم
ما أصيب الإسلام بآفة كآفة الخطباء، وما أضر بالمسلمين كوعاظهم الجهلاء
الذين كانوا ولم يزالوا - سببًا لحيرة العقول في أدواء هذه الأمة، وهم مصدر البلاء
وسبب الشقاء بما يتلونه على مسامع العامة من السجعات المقلوبة والأحاديث
المكذوبة الداعية إلى استدراج العامة في الشرور اعتمادًا منهم على ما يسمعونه من
أولئك الوعاظ والخطباء من الأكاذيب المضلة كقولهم: من قرأ كذا فله من الثواب
كذا وكذا، ومن صام اليوم الفلاني مثلاً فله من الحسنات كذا، ومن فعل كذا غفر
الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، فانتزعوا بهذا (الإطلاق المجمل) وأشباهه باعث
الرهبة من أعماق القلوب ونزعوا وازع الضمير من نفوس العامة، فبات أحدهم يقدم
على جريرة الكذب والتزوير أو السرقة أو الفحش ونحو هذا في الظهر ثقة بما
سيناله من الثواب والغفران بتلاوة بعض كلمات في العصر، فينام ليله مطمئن القلب
إلى الثواب غير مرتاع الفؤاد من سوء المآب، وهذا ما أوصل الأمة إلى ما نراها
فيه من فساد الأخلاق والضمائر، واجتراح الآثام والجرائر حتى كادت تكون أحط
الأمم في الأخلاق وأبعدها عن مراعاة حاكم الضمير , بما فشا في كثير من طبقاتها
من القول الزور والكذب وعدم المبالاة بأكبر الكبائر بعد أن كانت أعلى الأمم
وأعرقها في طيب الأخلاق، وأدناها من الانقياد لحكم الضمير ومراقبة الله العزيز
القدير في سائر الأعمال وكل الأحوال، ولعمري لو قيل للناس: إن القانون
السلطاني يرتب على السارق جزاء كذا وكذا مدة في الحبس، لكن من تقرب إلى
السلطان بهدية لطيفة أو تزلف إليه بدعاء بسيط يدعو به له بين يديه يعفو عنه
ويغتفر له جريمته - لأصبح الناس الناس كلهم لصوصًا.
فحتامَ يترك هذا الحبل على الغارب، ومتى نستيقظ لما فعلته في النفوس سموم
الخطباء والوعاظ وأوضاع الوضّاع وفتن المبتدعين، فقد - والله - تكاد تنفطر من
عقلاء هذه الأمة القلوب وتتصاعد أرواحهم مع الأنفاس؛ لما يرونه من آثار هذه
البدع التي عَفَتْ دونها آثار الإسلام، وتلاشت قوى الصادعين بالحق.
ولم يكفِ أولئك الأغرار المضلين هذا الوهن الذي يدخلونه بأمثال تلك المواعظ
والخطب على النفوس حتى زادوا في طين البلاء بلة بما يبدأون به العامة عند كل
دعاء لهم ويتلونه عليهم في رأس كل خطبة من الحث على الزهد وترك الاهتمام
بأمر الدنيا بجمل مسجعة لا تفيد معنى الزهد الحقيقي المنصوص عليه في الشريعة
الغرّاء , بل تفيد التحاق الإنسان بالبهيمة العجماء، وقد فات أولئك الأغرار أن الله
سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان وميزه بالعقل والإرادة على سائر الحيوان وجعله
خليفة في الأرض بما منحه من حق السلطان المطلق على هذا الوجود الحسي، فقال
تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 12-13) لم يكن يريد به ما يريده له أولئك
الوضَّاع والخطباء وأصدقاء الإسلام الجهلاء من التجرد عن كل عمل دنيوي والقعود
عن السعي والانقطاع للعبادة للالتحاق بعالم الملائكة الأبرار، ولو أراد الله به هذا
لخلقه معهم وكفاه مؤنة جهاد الطبيعة والعمل لحفظ الحياة فلا يلبس ولا يأكل ولا
يشرب ولا يشقى ولا يتعب، ولكن قضت إرادة الله في خلق هذه العوالم وترتيبها
على نمطها البديع أن يكون كل عالم منها ذا حياة خاصة وحيز مخصوص وعمل
محدود ووظائف خاصة، فللملائكة من هذه الخصوصيات غير ما للإنسان،
وللإنسان غير ما للحيوان، ولهذا غير ما للجماد وهكذا سائر العوالم، وإذا تتبعنا
نصوص الكتاب الكريم واستقرينا أحوال المخلوقات نجد أن الله سبحانه وتعالى ميز
الإنسان عن سائر مخلوقاته بما وهبه من المواهب التي لم يهبها لسواه، فقال تعالى:
{خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: 3-4) وقال تعالى: {عَلَّمَ
الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) ? وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ} (التين: 4) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) وقال
تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) فإذا كان الله سبحانه وتعالى
وهب الإنسان كل هذه المواهب الدالة على تكليفه بالعمل بما يقتضيه وجودها فيه،
ثم جعله خليفة في الأرض، وأشار إلى أنه أوجده فيها ليعمرها فقال تعالى:
{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) وذلك لتكون مناط الأمل في الاعتياش بالعمل
فيها والضرب في أكنافها كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ} (الملك: 15) وكما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ
الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الجاثية: 12) وكما قال
تعالى: {ألَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) فهل في
طاقة البشر الانسلاخ عن هذه المواهب والصفات الإنسانية والتخلف عن تلك السنن
الإلهية زهدًا في الدنيا وتعطيلاً لوظائف الحياة البشرية؟ وإذا كان في طاقتهم تعطيل
هذه الوظائف وعطلوها، أفلا يكون ذلك كفرًا منهم بنعم الخالق تعالى التي أنعم
عليهم بها وخصهم بمواهبها؟ بلى وأبيك ذلك هو الكفران المبين، ولكن أكثرهم لا
يعلمون.
نعم قد ذم الله تعالى الغرور بالدنيا والطمع فيها والإكثار من المال أو التكاثر به ,
وما جاء من النصوص في الكتاب والسنة من هذا القبيل إنما جاء لا لأجل تزهيد
المسلمين في الدنيا وتركهم الاهتمام بشؤون الرزق والسعي في مناكب الأرض، بل
جاء لأمرين: الأول تنبيه المسلمين إلى أن العمل في الدنيا لا ينبغي أن يشغل
المؤمن عن طاعة الله وأداء ما أوجبه من العبادة عليه، والأمر الثاني تنبيه فئة
مخصوصة من الناس وهي فئة الأغنياء وذوي السلطة إلى أن متاع الدنيا أحقر
وأدنى مما أُعد للمؤمنين الصالحين في الآخرة، وأن الأمر الأول يزول ويفنى،
والثاني يدوم ويبقى ترغيبًا لهم في إنفاق المال في وجوه البر ومواساة مَن دونهم من
الناس حتى لا يكثروا من المال ويجعلوه دُولة بينهم يتكاثرون به ويتداولونه دون
الفقراء، فتقف حركة الأعمال بوقوف حركة المال، وفقده من أيدي الكثير من الناس،
فحكمة الشارع في هذا أجلّ وأعظم مما يذهب إليه فريق الوضّاع والكذابين في أمر
الزهد، وما يخاطبون به العامة ويبثونه في عقولهم من فاسد الاعتقاد المثبط للهمم
القاتل لقوة النشاط والعمل الجالب للبلادة والكسل، لهذا كان من الظلم الفاحش
والجهل العظيم مخاطبة أولئك الخطباء عامة الناس بالزهد في الدنيا والتزهيد بالعمل
الذي هو وسيلة الكسب ومناط الارتزاق، وإنما يجوز مخاطبة العلية من الناس
والأغنياء منهم بهذا - أولاً - لما فيه من الترغيب بمواساة الفقراء، والتحذير من
عاقبة الانهماك بالمال والاشتغال به عن أداء الطاعة، وثانيًا لأن الزهد إنما يكون
بشيء موجود لا بشيء مفقود، فالغني إذا زهد فإنما يزهد بدنيا مقبلة عليه فيواسي
بماله مَن هُم في دنيا مدبرة عنهم؛ فينال الثواب ويأمن من العقاب، وأما الفقير
فزهده ليس فيه شيء من ذلك بل فيه مضرة عليه فيحرم عليه قطعًا؛ لأن الفقير المعدم
زاهد بالضرورة لقلة ما بين يديه، فإذا زهّد بلسان الشرع ازداد يقينًا بفضل
الزهد والراحة من عناء الكد بالانقطاع إلى العبادة (اللهم إذا كان يعرف شيئًا منها)
فتنعدم منه الرغبة بالعمل، وينطبع على البلادة والكسل، فينقلب الزهد والعبادة وبالاً
عليه وظلمًا لم يعول من الأهل والولد عليه، وهو لا يعلم أن السعي في إعالة من
يعول ولو نفسه وحده هو أفضل عند الله ورسوله من الانقطاع للعبادة باتفاق
النصوص وإجماع هداة الأمة من علمائها الأعلام.
الزهد من شعار الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومع ما كان معروفًا به
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا بحذافيرها، فقد كان من صحابته
الكرام الغني ذو الثروة والجاه كطلحة والزبير والتاجر المشتغل كعثمان رضي الله
تعالى عنهم أجمعين، فلم يأمرهم بترك الدنيا والانقطاع للآخرة، بل أمرهم بالرفق
في الطلب وإلا لكان الصحابة كلهم عبادًا بالجوامع والصوامع، ومعاذ الله أن يكونوا
كذلك، والإسلام دين العمل للدنيا والآخرة، ودين الجد والنشاط لا دين الرهبانية
والزهد، وإنما تبع قدم الرسول في أمر الزهد أفراد منهم مثل عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه، ومع هذا فقد كان يقول: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق
ويقول: اللهم ارزقني , فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فإذا كان مثل
عمر بن الخطاب على ورعه وزهده يخاطب الناس بمثل هذا الخطاب وهو في
عصر النبوة وأدرى بمن يخاطب ولماذا يخاطب، فليت شعري كيف يجرؤ خطباء
السوء في هذا العصر على مخاطبة العامة بالزهد والتزهيد في الكسب ونحن في
عصر أصبح فيه السابقون هم الفائزون، وفي زمن من نام فيه فقد مات.
أفلم يأنِ لعلماء المسلمين الأعلام وفضلائهم الكرام ذوي العقول والأفهام الاقتداء
بمثل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حث الناس على العمل والسعي،
ونهي خطباء السوء عن التشدق على المنابر بما لا يزيد المسلمين في هذا العصر إلا
خبالاً، نعم قد آن والله أوان نهوض العلماء إلى تلافي خطب الخطباء ونزع وظيفة
الخطابة والوعظ من الجهلاء ووضعها في أناس جمعوا بين المنقول الصحيح
والمعقول الصريح، وعرفوا حاجات الزمان، ووقفوا على أدواء الأمة , وإن لم يتيسر
هذا فتنقيح كتب الوعظ ودواوين الخطب المحشوة بالكذب على الله والرسول
الموضوعة على نمط روعي فيه السجع أكثر من مراعاة الشرع، وامتزج بالخيالات
والأوهام أكثر مما أبان من مقاصد الإسلام.
يحسدنا الأمم والشعوب على مشروعية الخطابة في الإسلام، ويعجبون من أمة
تتلى على منابرها في كل جمعة آلاف من الخطب في سائر أنحاء الديار الإسلامية،
وهي لا تنتفع بها فتخطو خطوة إلى الأمام، وإذا تيسر لفرد من أفراد أي أمة من
تلك الأمم والشعوب أن ينتهز في العمر فرصة يخطب فيها خطبة على جمهور من
الناس في محفل من المحافل يرن صداها في الآفاق، وربما أحدثت في الأفكار ما لا
تحدثه الجيوش الفاتحة في الأمصار , ويتساءلون: هل علت مشروعية الخطابة في
الإسلام عن أفهام المسلمين؟ أم هم تدنوا عن مقامها العلي المتين؟ وحقهم أن
تساءلوا فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق العظم)
__________(2/689)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصيام والتمدن
(2)
... ...] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
... ... كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*]
ذكرنا في المقالة الأولى من فوائد الصيام صحة البدن بترويضه وصحة النفس
بتأديب الشهوة وامتلاك زمامها بحيث يصير الإنسان حاكمًا على شهواته يسيّرها في
منهاج الأدب والشرف الذي يحدّده الشرع والعقل لا محكومًا بها كالبهم والدواب، بل
الإنسان يكون شرًّا من البهائم إذا هو لم يؤدب شهوته ويملك على نفسه أمرها؛ لأن
بارئ الكون قد أودع في فطرة البهائم الوقوف عند حدود الاعتدال في تناول شهواتها
فلا تأكل ولا تشرب ولا تسافد إلا عن داعية الطبيعة، ومتى استوفت طبيعتها حقها
من ذلك تكف عنه من طبعها ولا تحمّل أنفسها بالإفراط ما لا تطيق، ولا تتخذ
الوسائل والحيل لإذكاء نار الشهوة فتمتع بأكثر مما يقتضيه المزاج المعتدل فيقضي
عليها قانون (ردّ الفعل) بعد ذلك بالضعف أو الخمود، وخلق الله الإنسان ذا فكر
يجاهد به الطبيعة ويقاومها تارة بما ينفعه وتارة بما يضره، تختلف أحواله في هذا
بحسب صحة الفكر وسقمه وسعة المعارف وضيقها. ألم تر أن أكثر ما يصيب
الإنسان من الأمراض والأسقام والأدواء التي تنتهي بالموت قبل بلوغ العمر الطبيعي
هو من الإفراط في الطعام أو الشراب أو الوقاع الذي يستعين عليه بما يعطيه للفكر
من الوسائل والحيل؟ بالأمس اختطفت المنية شابًّا في ريعان الصبا وعنفوان الشباب
فبقر الأطباء بطنه واستلوا أمعاءه فتبين لهم أنه مات مسمومًا بالإكثار من علاج
تناوله لتقوية الباءة، مسلمٌ فعل هذا في شهر الصيام وزمن تأديب الشهوة , فإنا لله.
والبهائم تستوفي آجالها الطبيعية في الغالب متمتعة بالصحة واعتدال المزاج،
وإذا عرض لبعضها المرض أو الموت قبل الأجل الذي خلقها الله تعالى مستعدة
لبلوغه فإنما يكون ذلك في الغالب لأمر خارجي كفقد الغذاء أو شدة البرد، لهذا كانت
سعادة الإنسان متوقفة على تربية صحيحة وتعليم قويم، ولا يوجد هذان على وجه
الكمال إلا في الدين، وإلا كان الإنسان أشقى في حياته من جميع أنواع الحيوان،
اقرأ إن شئت قوله تعالى في الجهلاء الذين لا يشكرون الله تعالى باستعمال مواهبه فيما
خلقت له من التعلم والتبصر والاعتبار: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا
أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) وقوله
تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44)
صرّح القرآن بأن الله تعالى خلق هؤلاء السفهاء الأحلام لجهنم، وهذا من جملة الآيات
على ما قلناه - ولا نزال نقوله - من أن غاية الدين الإسلامي سعادة الدارين، وأن
الشقاء في الدنيا مؤذن بالشقاء في الآخرة، ولكن السعادة في الدنيا ليست آية على
السعادة في الآخرة؛ لأنها تحصل بدون الأخذ بجميع أركان الإسلام وتعاليمه على
الوجه الذي حدّدته الشريعة.
(الفائدة الثالثة) معرفة قيمة النعمة بفقدها ولو اختيارًا، فإن الأشياء تعرف
بأضدادها، فمن لم يهذبه الزمان بالحرمان من النعم والحيلولة بينه وبين ما يشتهي
ينبغي له أن يتمثل هذا الحرمان بالتعمّل والتكلف؛ لتعظم في عينه النعمة فيحفظها،
وفي هذا الضرب من التهذيب تزكية النفس من رذيلة البطر الممقوت صاحبه من
جميع البشر.
(الفائدة الرابعة) توطين النفس على الصبر والاحتمال , فكم من ذي نعمة
فاجأته نقمة، فبلبلت باله وأذهبت رشده وأوقعه الجزع والهلع منها بما هو أشد منها؟
أعرف رجلاً من المترفين كان عنده طائر من نوع (الكنار) وكان مولعًا به
فترك قفصه ذات ليلة بجانب بركة الماء فجاءت الهرة تعالج القفص لاصطياده فوقع
في الماء، ولما أصبح المترف ورأى الكنار ميتًا في البركة صفق بيديه على ركبتيه
فأصابه من ساعته فيهما مرض عصبي أقعده عدة سنين يشتغل بالمعالجة حتى صار
يقدر على المشي متوكئًا ولم يبل إبلالاً، يقول قائل: إننا نرى هذا الجزع والهلع
وقلة الاحتمال من الذين اعتادوا الصيام، وربما كان المترف الذي تُحدث عنه ممن
يصوم رمضان، وأقول في جوابه: إن فوائد الصيام لا تبلغ درجة الكمال إلا لمن
فقه سر الصوم وحكمة الله تعالى فيه المعبر عنها في القرآن بالتقوى: {َلعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21) وصام على ذلك فأدرك ما هنالك، والصوم عند المترفين إنما
هو تغيير مواقيت الأكل بجعلها في الليل مع زيادة مبالغة في الترف والتطرّس
والتنوّق في النعيم، وسائر الناس يحذون حذو المترفين كل بحسب استطاعته،
والصوم الحقيقي هو ما عرفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: الصوم نصف
الصبر , رواه الترمذي وحسّنه وغيره، وفي رواية البيهقي زيادة وعلى كل شيء
زكاة، وزكاة الجسد الصيام , وإنما كان الصوم نصف الصبر لأن الصبر إما أن
يكون عن الشيء الذي يؤلم النفس فقده، وإما أن يكون على الشيء الذي يؤلمها
وجوده وحصوله. والذي يؤلم فقده هو الشهوات واللذات، ولما كانت شهوتا البطن
والفرج أقوى الشهوات، والصبر عنهما أصعب وأشق على النفس منه على
غيرهما - جعلت الشريعة تركهما والصبر عنهما عزيمة لابد منها؛ لأن من ربّى
نفسه عليه فقيهًا بالمقصود منه طالبًا لحكمته وفائدته - كان الصبر عن غيرهما من
سائر الشهوات أسهل عليه، وهو ما جعلت الشريعة الصبر عنه من المندوبات المتأكدة
في الصوم، وقالوا: إن كمال الصوم في كف جميع الجوارح عن شهواتها، روى
البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الصوم جنة فإذا
كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل , فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم
إني صائم. فجعل الصبر عن مجاوبة الشاتم والصائل من الصوم، وفي حديث
البخاري مرفوعًا: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه
وشرابه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ومن العجيب أن الفقهاء لا يحفلون
بهذه المباحث، بل لا يكادون يذكرونها ويملأون الصحائف بالدقائق النادرة التي
لا علاقة لها بحكمة مشروعية الصيام كالبحث في الغبار الذي يدخل الأنف في
الطريق، وفي وضع الخلال فى الأذن، وفي الاحتراز وقت الاستنجاء من دخول
الرطوبة إلى الجوف من المقعدة ونحو هذا، فكيف يحصّل فائدة الصوم مَن يجعل همّه
في هذه المباحث دون البحث في حكمة هذه العبادة وكيفية إيصالها إلى التقوى
المقصودة للشارع منها؟
(الفائدة الخامسة) مساواة الأغنياء للفقراء والمترفين للبائسين في فقد دواعي
اللذة وأسباب النعمة، والمساواة من الفضائل المطلوبة في الأمم وهي من غايات
الإنسانية التي يطمع الحكماء أن تعم البشر بعموم التمدن، ويشارك الصومَ في هذه
الفائدة الصلاةُ والحج، بل إن الشريعة الإسلامية تساوي بين جميع المحكومين بها
في الحقوق سواء من اتخذها دينًا ومن كان يدين بغيرها، وجعلت في عباداتها ألوانًا
من المساواة لتكون للغني عبرة وتزكية، وللفقير عزاء وتسلية، ولتهييء الأمة
للمساواة في عامة الشؤون التي يمكن فيها المساواة.
(الفائدة السادسة) رقة القلب والعطف من ذوي الوجد واليسار على أهل
العدم والإعسار بحيث يحملهم ذلك على مواساتهم والإفاضة عليهم مما رزقهم الله
تعالى، فإن من يذوق طعم البلاء يكون على أهله أعطف وبهم أرأف، فمن ذاق
عرف، ومن المأثور عن سلف الأمة الصالح كثرة الصدقات والصلات في شهر
الصوم، وقد بقي للخلف من هذه المزية بقية تشكر، وإن كانت لا تشابه ما كان
عليه السلف من كل وجه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان فى رمضان
أجود من الريح المرسلة.
يُحكى أنه وقع قحط في عهد أحد الملوك فذكر أمام زوجه ما يقاسيه الفقراء من
البؤس والعناء لقلة القوت، فقالت: ما ضرهم لو استغنوا عن الخبز بالفالوذج
واللوزينج؟ وهما أنفس الحلوى المعروفة عند المترفين لذلك العهد، وما كان الفقراء
يطعمونهما في حال الرخاء.
(الفائدة السابعة) تعظيم أمر الله تعالى في النفس بأداء هذه العبادة الشريفة
على الوجه الذي شرعه الله ابتغاء مرضاته، وهذه الفائدة روحية محضة ودينية
خالصة، والصوم هو العبادة التي لا حظّ لشهوة النفس فيها، ولا يأتي فيها الرياء؛
لأنها ترك لا فعل، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزى به ,
وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة
ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف
له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي , به يدع
شهوته وطعامه من أجلي.
ربما يفهم بعض الناس من الحديث أن الصوم من الأمور التعبدية التي لا يعقل
لها معنى، ولا تعرف لها فائدة للإنسان في حياته إلا محض الامتثال لأمر الله ابتغاء
مثوبته ورضوانه في الآخرة ونحن نقول: إنه ما من عبادة معقولة المعنى ظاهرة
الفائدة للعامل بها إلا وفيها معنى تعبدي يجب أن يتحراه الإنسان ويحافظ عليه
لمجرد الامتثال، وأضرب لهذا مثل الصلاة، فإن فائدتها للمصلين من النهي عن
الفحشاء والمنكر والتطهير من الجزع والهلع والبخل , والتحلي بأضدادها معقولة
المعنى، فإن من يقيم الصلاة على الوجه الذي أراده الله تعالى من الخشوع وحضور
القلب وإشعاره عظمة الله وكبير سلطانه تحصل له ملكة مراقبة الله تعالى عند كل
عمل. وتذكُّر هيمنته وإحاطة علمه بما يعمله، فيكون هذا زاجرًا له عن
الفواحش والمنكرات، ونازعًا من قلبه الهلع والجزع عند حدوث الخطوب،
وباسطًا يديه بالإنفاق والبذل مما يمسه من الخير في وجوه البر والخير، ولكن
تحديد ركعات الصلاة بما هي عليه ككون الصبح ركعتين والمغرب ثلاثًا،
والباقيات أربعًا أربعًا ليس معقول المعنى، وإنما نحافظ عليه للوجه الديني الخالص
والاتباع المحض ونعلم أن لله فيه حِكَمًا لا يتوقف انتفاعنا بالعبادة على معرفتها،
كما إذا عرفنا العلاج وفائدته في شفاء المرض، ولم نعرف الحكمة في مقادير
أجزائه ونسبة بعضها إلى بعض وكون الذي يتناول يجب أن يكون مقداره كذا ووقته
كذا، ولو لم يكن هذا المعنى التعبدي في هذه الأعمال النافعة المقومة للسعادة الدنيوية
لم تكن عبادة تسعد فاعلها في الآخرة، ولكان العقلاء يعملونها لفائدتها من غير تقيّد
بما حدّده الدين , فتبطل منها فائدة المساواة بين أفراد الأمة، والمساواة في
العمل من الكمالات الاجتماعية كما علمت، فتبًّا لقوم يرغبون عن هذه العبادات
وما فيها من الفوائد والمنافع: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) .
(الفائدة الثامنة) صفاء القلب واستنارة الروح واستعدادها بذلك لنفحات الله
المعنوية، فقد ورد: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات ربكم،
ولإدراك شيء من عالم الملكوت في ليلة القدر، فقد قال الإمام الغزالي: إنها عبارة
عن ليلة ينكشف فيها شيء من الملكوت لذي الاستعداد، وهذه الفائدة للخواص،
ويحتاج بيانها إلى شرح طويل لا محل له الآن، وكل منا يعلم من نفسه أن قلة
الشواغل والبعد عن الشهوات والرياضة المعتدلة تعطي صاحبها قوة في عقله
وإدراكه، فإذا كان مستعدًّا بفطرته لإدراك شيء مما وراء الحس , فأي مانع من كون
الصيام معينًًا عليه؟
هذا ماعنَّ لنا من فوائد الصيام وكونه من أسباب السعادة في الدنيا ومقوّمات
المدنية، كما هو من أسباب السعادة في الآخرة، فعلى المتمدن العاقل أن يعتبر به
ويصوم مراعيًا هذه الفوائد ومتحريًا لها، وعلى الصائم الذي لا يعرف من الصيام
إلا ترك الأكل والشرب والجماع أن يطالب نفسه بسر الصيام وفوائده وحكمته؛ لئلا
يتناوله حديث: كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش , رواه النسائي
وابن ماجه، وليكون الصوم له جنّة ووقاية كما في الحديث الذي تقدّم {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ
أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) .
__________
(*) (البقرة: 183) .(2/695)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ والانتقاد
جاءنا فى هذه المدة كتب وجرائد كثيرة منعتنا كثرة المواد عن ذكرها وتقريظها،
نذكر الآن بعضها، ونرجئ باقيها لفرصة أخرى.
(سيرة صلاح الدين)
طبعت شركة طبع الكتب العربية هذه السيرة فى سفر جليل وأهدتنا نسخة منها
فأرجأنا تقريظها إلى ما بعد قراءتها، ثم أضللناها قبل القراءة، ومن حق شركة
الكتب علينا أن ننوّه بها جزاء هديتها فنقول: إن الملك العادل الحازم صلاح الدين
الأيوبي - رحمه الله تعالى - له منة عظيمة جدًّا على الإسلام، وإن الحرب
الصليبية التي كان بطلها المغوار- هي بعد حرب الصحابة - أهمّ حرب في تاريخ
الإسلام وأجدرها بالمعرفة، بل هي أهمّ حرب حدثت في العالم؛ لأنها أحدثت انقلابًا
عظيمًا في العالم الإنساني، وكانت مقدمة هذا التمدن الأوروبى ونافخة روحه،
ومن العار العظيم على الأمة العربية عامة وعلى المسلمين كافة أن لا يكون بين أيديهم
كتب يتدارسونها في هذه الحرب وفي سيرة بطلها العظيم ناصر الإسلام السلطان
صلاح الدين، ويوشك أن يكون هذا الكتاب الذى طبعته شركة طبع الكتب العربية
من أحسن هذه الكتب؛ لأن صاحبه كتب عن اختبار بنفسه فنحثُّ القرّاء على
مطالعته.
(مفتاح العلوم)
هذا الكتاب للعلامة السكاكي أشهر عند علماء العربية ذكرًا من أن يذكروا به،
ولكنه على حسنه لا يقرأ ولم يطبع إلا في هذه الأيام، ويمتاز هذا الكتاب على الكتب
المتداولة بحسن الترتيب، فإنه قدّم الصرف على النحو وأخّر عنهما البلاغة.
وعبارته أقرب إلى الأسلوب العربي وأبلغ من كتب السعد وغيره، ولولا
أن فيها بعض التكلف لكانت مساوية لكتب إمام الفن عبد القاهر الجرجاني، فنحثُّ
أفاضل العلماء على قراءته، وطلاب العلم على حضوره.
(رواية ابن زيدون مع ولاًّدة بنت المستكفي)
أهديت إلينا هذه الرواية من حضرة الفاضل الشيخ محمد الرافعي صاحب
المكتبة الأزهرية الذي طبعها على نفقته، الرواية نثرية شعرية تمثيلية مؤلفها علامة
فنون الأدب في سوريا المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب، ووقائعها جميلة، وتمتاز
على جميع مكتوب العصر بتحري المحسنات اللفظية والتعمّل في الإكثار من أنواع
البديع كالجناس بأنواعه والتوجيه والمقابلة والطباق وغيرها حتى لا تكاد تخلو
السجعة أو السجعتان من نوع بديعي، فيجدر بالمغرمين بهذا النوع من الكتابة
والذين ينتقدونه أن يقرءوا هذه الرواية جميعًا.
(رواية قلب الأسد)
لخصها معربها العالم المتفنن الدكتور يعقوب أفندي صروف محرر مجلة
(المقتطف) الغرّاء من رواية إنكليزية اسمها الطلسم (تلمسن) وهي تاريخية فكاهية
حوادثها من الحروب الصليبية، وقد تصرف فيها المعرب تصرفًا حسنًا بحيث أن ما
تحكيه عن عادات المسلمين والمسيحيين في ذلك العهد يرضي أبناء الملتين بما فيه
من النزاهة والأدب وعدم التحامل على ما كان عليه الأمتان يومئذ من الأضغان
والأحقاد والغلو في التعصب.
نعم إن فيها بعض هفوات نسبت للسلطان صلاح الدين وهي على غير منهاج
الإسلام كقول المؤلف في الرسالة التي قال: إن صلاح الدين أرسلها إلى ريكارد ملك
الإنكتار (الإنكليز) فى صفحة 162 (فسينصرنا الله ونبيه عليك) وما كان
لمسلم يعرف الإسلام كصلاح الدين أن يقول هذا وهو يعلم أن الله يقول في كتابه:
{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 126) بل لم تجرِ عادة جهلاء
المسلمين بطلب النصر أو إسناده لغير الله عز وجل، ومن دون هذه قوله: إن
صلاح الدين سقى ضيوفه الخمر، ولعل هذا من هفوات الأصل التي سها عن
التصرف فيها الدكتور صروف، والرواية عذبة قرأتها فى سهرة واحدة على أنني
لست من المغرمين بقراءة القصص والروايات.
(النبراس)
صحيفة إصلاحية سياسية أدبية لمنشئها الكاتب الأديب نجيب أفندي جاويش
وكان صدر منها أعداد , ثم حُجبت لكساد هذه البضاعة واكتفاء الناس بجرائد
مخصوصة، وإنما عادت الآن بمساعدة أحد أنصار العلم والأدب وهو القانوني
البارع نقولا أفندي توما، وقد صدَر أول عدد برز من الحجاب بمقالة عنوانها (كن
كيف شئت ولا تكن صحافيًّا في الشرق) والمقالة حجة على كاتبها إلا إن كان مراده
بالصحافي المستقل الذي يحاول النجاح بعمله دون مساعدة أخرى، ويحتوي كل عدد
منها مقالات ونبذًا حقيقة بالمطالعة، فعسى أن تلاقي فى هذه الكرة ما تستحق من
الإقبال.
(اللواء)
جريدة يومية سياسية صاحبها سعادتلو مصطفى كامل بك ظهرت
فى غرة رمضان المبارك، أصغر أو ألطف من سائر الجرائد اليومية حجمًا وأقل
ثمنًا، فإن قيمة الاشتراك فيها 100 قرش أميرى في السنة، لكن يشترط أن يدفع
سلفًا، وقد أكدت هذه الجريدة هذا الشرط وصرّحت غير مرة بأنها تحجب عمن لا
يرسل الثمن بعد الأسبوع الذي ترسل فيه الجريدة مجانًا، وما من جريدة إلا
واشترطت هذا الشرط بدون تأكيده لعلمها بأنها لابد أن تضطر لفسخه، ولا نعلم ماذا
يكون من أمر هذه الجريدة، ولكن نظن أنها إما أن تتلو تلو غيرها وإما أن لا تروج ,
أما مواضيعها فهي فائضة عن ذلك الرجل الكثير اللهج بالوطنية وحب الوطن
وخدمة الوطن، وقد ضم إلى هذه الكلمات أخيرًا ذكر الإسلام والدين، فأما الوطنية
والوطن فسنبين رأينا فيهما بالنسبة للإسلام ولسائر الأمم فى مقالة مخصوصة، وأما
الإسلام والدين فلا ينتظر من هذه الجريدة كلام فيهما يفيد الأمة إلا تتبع ما يذكر فيهما
فى الجرائد الإفرنجية وتعريبه، فإذا وفت هذا المقام حقًّا بالإحصاء يكون لها امتياز
على سائر الجرائد العربية الإسلامية التي تختار ولا تحصى، فنحثها على هذا.
وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض الناس في مصر يسعون
في إقامة خلافة عربية , كأن الخلافة من الهنات الهينات تنال بسعي جماعة أو
جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف، مقام
الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من المسلمين زمامه
لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي كما قال المرحوم كمال بك
الكاتب الشهير: موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن كان أحد يقدر على
حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يفتكر في ذلك فهو الشيطان، ويعلم كل
خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان: رجل اتخذ الإرجاف
حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة، ورجل اتخذه
الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة ضعيف متزعزع
يمكن لأى أمير أن يناله ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه ليزيلوا هيبته من
القلوب ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت من الأوقات وبأن
المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا، كان مصطفى كامل أفندي يوم
ألف كتاب (المسألة الشرقية) ينسب هذا الطمع الأشعبي للإنكليز واليوم نرى
مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه فى خطبته وجريدته، ويدع نفوس
البسطاء تذهب فيه كل مذهب، وإذا سئل عن الإفصاح وبيان المجمل يجمجم
ويغمغم، فإن كان على رأيه الأول فليصرّح به ليرجع العامة عن أوهامهم
والخاصة عن ظن السوء به، وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما آنفًا , ولا نظنه إلا
على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعوّل.
__________(2/700)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مأثرة لجمعية شمس الإسلام
علمت هذه الجمعية الشريفة أن شركة (معرض باريس) المصرية التي يرأسها
الخواجة بولاد قد استأجرت جماعة من أهل الطرق للغرض الذي يذكر فى العريضة
الآتي ذكرها، فأخذتها الغيرة الدينية والحمية الملية وقامت بما عاهدت الله عليه من
القيام بأمر الدين والمحافظة على شرف الإسلام وأهله بقدر الإمكان، وذلك بالسعي فى
إزالة هذا المنكر بإتيان البيوت من أبوابها، فرفعت عريضة للجناب العالي الخديوي
تسترحم من عاطفته الملية الشريفة تلافي هذا الأمر، وتوجيه إرادته العلية لإزالة هذا
المنكر، وكتبت عرائض أخرى بذلك قدّمت إحداها لصاحب العطوفة مصطفى فهمي
باشا رئيس مجلس النظار، والأخريات لصاحب الدولة الغازي مختار باشا المندوب
العالي السلطاني في مصر، ولصاحبي السماحة قاضي مصر، والسيد توفيق البكري
شيخ مشايخ الطرق، ولشيخي الإسلام صاحبي الفضيلة شيخ الجامع الأزهر ومفتي
الديار المصرية - تطلب منهم مساعدتها بالسعي لدى سمو الخديو المعظم
وحكومته السَّنية بمنع هذا المنكر القبيح، ونكتفي بنشر صورة العريضة التي رفعت
إلى مقام الجناب العالي الخديو المعظم وهي:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
مولانا عزيز مصر المعظم:
ترفع هذه العريضة إلى أفق سموكم جمعية (شمس الإسلام) تستصرخكم
لإغاثة الدين الإسلامي الشريف من قوم يعرضونه للسخرية والازدراء، فقد علمت
الجمعية أن شركة (معرض باريس) المصرية استأجرت عشرة نفر من تكية
المولوية وزعانف آخرين من أهل الطريقة البيومية والرفاعية والقدرية والدلائلية
والشاذلية؛ لتأخذهم (لمعرض باريس) ليمثلوا باسم الإسلام هيئة الذكر راقصين
عازفين بالناي وغيره من آلات الطرب، ولاعبين بالثعابين والسلاح، وآكلين للنار
والزجاج ونحو هذه الخزعبلات التي أُهين الإسلام بانتسابها إليه، ولما للجمعية من الثقة التامة بغيرة سموكم الكاملة على الدين وأهله وعنايتكم الكبرى فى حفظ شرفه -
تجاسرت برفع هذه العريضة لسموكم مسترحمة توجيه عاطفتكم الشريفة لهذا الأمر،
وتعلق إرادتكم العلية بتلافيه، والله لا يضيع أجر المحسنين.
... ... ... ... ... ... ... (ختم الجمعية)
***
قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) فى مصر إجابة اقتراح الكثيرين من
أعضاء الجمعية وغيرهم بأن يكون للجمعية اجتماع عام يؤذن لكل أحد بحضوره
لسماع المواعظ والخطب، وعين المجلس لذلك ليلة الإثنين من كل أسبوع، فمن
شاء الحضور من الأدباء والراغبين فى الإفادة أو الاستفادة فليحضر، وما عليه إلا
التمسك بآداب الاجتماع المطلوبة، ومراعاة قانون الجمعية في آدابه الموافقة
للشرع.
__________(2/703)
19 رمضان - 1317هـ
20 يناير - 1900م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الزكاة والتمدن
والإيمان والإنسانية
... ... ... إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
... ... ... ... وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ... [[*]
] وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا
... ... ... فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [[**]
للإيمان إطلاقان: أحدهما التصديق الجازم بجميع ما جاء به النبي صلى الله
عليه وسلم مع الإذعان، وآية الصدق في هذا التصديق وكونه جازمًا لا زلزال فيه
ولا اضطراب، العمل بموجبه من الكفّ والانتهاء عن المنهيات مطلقًا والإتيان
بالمأمورات بحسب الاستطاعة المعبر عنه بالتقوى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (الزمر: 33) ذلك بأن مَن كان جازمًا بأن عمل كذا نافع له
في العاجل أو الآجل فإنه ينبعث للإتيان به من طبعه، ومَن كان جازمًا بأن فعل كذا
ضار له في دنياه أو آخرته يكف عنه ويتقيه بوازع الفطرة، يشهد لهذا كل ما يصدر
عن الإنسان من فعل وترك في عامة أوقاته وأحواله ويستحيل أن ينبعث الإنسان
لعمل ما وهو جازم بأن فيه مضرة له ومتذكر لذلك , إلا أن يكون جازمًا أيضًا بأن
فيه منفعة تربي على المضرة وترجح عليها، ومَن جهل هذا كان جاهلاً لنفسه،
ومن جهل نفسه كان بدينه أجهل، ومن هنا جاء الإطلاق الثاني للإيمان، وهو كما في
الأخبار والآثار الصحيحة: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان , فالاعتقاد
هو الأصل، والقول والعمل فرعان لازمان له، ويعبر عنهما بالإسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ
يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 1-3) نعم إن الله تعالى يفتن الذين يدعون الإيمان بألسنتهم أو
توسوس لهم به أنفسهم أي يختبرهم ليعلم علم شهادة، وهو عالم الغيب والشهادة
صدقهم في دعوى الإيمان أو كذبهم فيها وليظهر ذلك الصدق أو الكذب بالعمل
ظهورًا يترتب عليه الجزاء في الدنيا والآخرة لا سيما بالنسبة لمجموع الأمة.
ابتلانا بالشهوات التي تسوق إلى ما ينافي المصلحة والمنفعة، وأشرع لنا
الطريق الذي يجب أن نسيّر فيه شهواتنا، وحدّ لنا حدودًا موافقة لمصالحنا العامة
والخاصة، ولكنها تخالف الشهوة أحيانًا، وأمرنا أن لا نتعداها، فكل ما للنفس فيه
شهوة قد تسوق إلى عمل ينافي المصالح العامة أو الخاصة، فهو فتنة وابتلاء من الله
تعالى يمتحن به عباده ليزيّل بين الصادق والكاذب في دعوى الإيمان، ويميز بين
الخبيث والطيب من اللابسين لباس المؤمنين: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا
أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) وقد نبهنا تعالى
على هذه الفتن لعلنا نحذر ونتبصر فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15) وقال جل شأنه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً
لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7) وإنما حسُن العمل بالتوفيق بين
منفعة العامل ومصلحة أمته على ما أرشد إليه الشرع دون اتباع شهوته التي تخلّ
بأحد الأمرين أو بهما معًا، وإنا نبين في هذه المقدمة وجه الفتنة بالمال من حيث
فريضة الزكاة فحسب - فوجوه الفتنة في جمعه وإنفاقه - كثيرة فنقول:
المال محبوب لأنه وسيلة إلى كل محبوب، ومِن الناس مَن يعظم شغفه
بالوسائل فيجعلها مقصودة لذاتها، ولا يستعملها فيما خلقت له، وهذا كفر بالنعمة
وإبطال للحكمة، ولذلك ورد في الصحيح: تعس عبد الدينار والدرهم، وإنما عبْده مَن
يجمعه ولو بغير حق، ويكنزه فيمنع منه كل حق، وورد أيضًا: نعم المال الصالح
للرجل الصالح، وقد فرض الله تعالى على المؤمنين أن يجعل أغنياؤهم جزءًا من
أموالهم لمواساة الفقير والمسكين العاجزين عن كسب يقوم بكفايتهما، ولتأليف القلوب
التي لم تطمئن بالإيمان كمال الاطمئنان، لا سيما من يتبعه في الهداية غيره، وفي فك
الرقاب من ذل الرق، وإطلاق الأسارى من قيود الأعداء بالفداء، ولمساعدة الغارمين
بتحمل الديون للنفقة الشرعية على أنفسهم وأهليهم، أو لإصلاح ذات البين , ولإعانة
المجاهدين الذين يتطوعون ببذل أرواحهم لحفظ الأمة وإعلاء كلمة الملة، ولمواساة
أبناء السبيل الذين ينقطعون في الأسفار عن أوطانهم ويحال بينهم وبين أموالهم،
ولمن ينصبه الإمام لجباية هذه الأموال ووضعها في مواضعها.
مساعدة هذه الأصناف بالمال من مقومات المدنية، وإهمال شأنهم خروج عن
الإنسانية، وفي القيام بهذا العمل (إيتاء الزكاة) من المنافع للأمة التي يعز المزكي
بعزها ويذل بذلها ويسعد بسعادتها ويشقى بشقائها، ما يبعث العاقل الفاضل عليه
لأجل منافعه وفوائده، ولو لم يكن مكلفًا به ممن خلقه وأفاض عليه نعمة المال من
فضله وكرمه , إلا أنها الشهوات ترجح عند سفهاء الأحلام على ما يطلبه العقل،
ويبعث عليه حب الشرف والفضيلة، فاحتاج الإنسان لسائق آخر يسوقه إلى هذا
العمل الشريف النافع، وهو سائق الدين الذي يعده على فعله بنعيم أعلى ورضوان
من الله أكبر ويوعده على تركه بالعذاب الأليم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ
فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34-35) وإن من لا يبالي بالمنافع القومية والمصالح الملية، ولا
يكترث بالشرف والفضائل الإنسانية، ولا يُجِب داعي الحضرة الإلهية، ويبخل
بجزء من ماله على سعادته الدنيوية والأخروية - لجدير بالعذاب المهين ولعنة الله
الملائكة والناس أجمعين، ومن يقرأ أو تقرأ عليه الآيات الناطقة بأن الله جعل له
المال فتنة ليظهر به صدقه في دعوى الإيمان من كذبه، وبأن الله اشترى منه ماله
ونفسه بأن له الجنة إذا هو بذلهما في سبيل الحق، وبأن من يمنع الحق المفروض
في ماله له العذاب الأليم المشروح في الآية الكريمة، ويلاحظ مع هذا أن أعمال
الإنسان تنبعث عن اعتقاداته الجازمة بمنفعتها أو مضرة تركها، ثم يبخل بالزكاة،
وما هي إلا العشر أو ربع العشر مما أنعم الله تعالى به عليه، ثم يدّعي مع هذا كله
أنه مؤمن جازم بوعد الله تعالى ووعيده - فهو مكابر للوجدان، معتقد أن الإيمان
كلمات تدور على أطراف اللسان.
استفتِ قلبك أيها المغرور المخدوع، حاسب نفسك على أعمالك التي تأتيها كل
يوم تجد أنك تبذل المال لجلب المنافع أو درء المضار المظنونة التي لا توقن
بوقوعها إذا أنت لم تبذل فكيف يسلم العقل أن الظن يبعث على العمل ولا يبعث عليه
اليقين وهو ما تدعيه في إيمانك، ذلك شأنك في كسبك من زراعة أو تجارة أو
صناعة وفي دفع الأذى عن نفسك , وهذا شأنك في دينك وإيمانك، فهل بلغت شهوة
إمساك المال معك إلى حد انطفأ به نور الفطرة وخزيت الإنسانية، وذهبت حرمة
الدين وما جاء به من الوعد والوعيد؟ !
استفت قلبك وراجع وجدانك وحاسب نفسك، إذا قال لك فاسق لا ثقة بشهادته:
إن هذا الطعام أو الشراب الذي تريد أن تتناوله مسموم، وإن هذه المرأة التي ترغب
مواقعتها مصابة بالزهري، أرأيتك تترك شهوتك لقوله أم لا؟ إنك لتتركها ولو على
سبيل الاحتياط ولا تقدم عليها إلا إذا كنت جازمًا بكذبه، وأنه لا يصيبك أذى لأن
تقديم درء المفاسد على جلب المنافع من الأمور الطبيعية كما هو من الأصول
الشرعية، فكيف تجعل وعد الله ووعيده دون خبر ذلك الفاسق فلا تحتاط له؟
وتدّعي أنك موقن بهما لا شك عندك ولا ارتياب.
استفت قلبك وراجع وجدانك ولا يحملنك ثقل وقع الحق على نفسك أن تضع
أصبعيك على أذنيك وتُسدل الستار على عينيك، فتكون ممن قال الله تعالى فيهم:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) بل ارجع عن شحك: {وَمَن
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا تُسلِّ نفسك بأن في هذا
الكلام تكفيرًا للمسلمين، وأن من كفّر مؤمنًا كفر، فتتوهم أن هذه النصيحة المقتبسة
من نور كتاب الله تعالى عادت على من قدمها إليك بالتكفير أو التفسيق، فينعم بالك
ويهنأ عيشك ويسلم لك مالك كله لا ينال فقير منه درهمًا ولا دينارًا، فإن بحثنا هذا
بحث في روح الدين وجسمه معًا، ومن أظهر الإذعان للإسلام لا يحكم عليه بالكفر
وإن كان شاكًّا في قلبه ومرتابًا أو تلقَّى بعض العادات التي يعملها المسلمون باسم
الدين ولم يمس الإيمان به سواد قلبه {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ
بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحجرات: 14-16) فهذا القرآن يعرّف المؤمنين بصيغة الحصر بما لا ينطبق
عليك.
ذكر في تعريفهم الجهاد بالمال وقال في ضدهم: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ
يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وأما حديث: من كفر مؤمنًا فقد كفر، فمعناه
أن من سمّى ما هو عليه من الإيمان أو أعماله كفرًا فقد كفر لأنه سمّى دين الله كفرًا
وقد نصّ العلماء على أن من حكم بكفر إنسان لدليل قام عنده عليه فهو متأول لا
يكفر وإن كان مخطئًا في حكمه، على أنني لا أقصد بكلامي تكفير مانع الزكاة
وإخراجه من عداد المسلمين، وإنما أبذل النصيحة الخالصة لقوم سلّموا بالإسلام
وارتضوه دينًا، ولكنهم أخذوه على غير وجهه لفساد التعليم القويم ثم إهماله، فظنوا
أن الله تعالى تعبدهم بألفاظ ورسوم لا معنى لها ولا فائدة فيها إلا مجرد الأصوات
والحركات، ورزئوا بقوم ولعوا بالتأويل وأخذ الدين من ألفاظ المصنفين وإن كانوا
من قبيل الذين قال الله فيهم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ
الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78) فهؤلاء المحرّفون هم الذين
أفسدوا على العامّة دينهم وعلّموهم الاحتيال على الله تعالى فصاروا: {يُخَادِعُونَ
اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) .
استفت قلبك أيها المحتال في منع الزكاة وإن أفتاك المفتون، استفت قلبك
وحكم كتاب الله تعالى في نفسك وزن به إيمانك وعملك، فإذا رجح به فأنت السعيد
وإذا ظهر لك الخُسران فاعلم أن هؤلاء المفتين الذين يعلمونك الحيل لا ينفعونك،
وتأمل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} (الجاثية: 18-19) .
استفت قلبك وراجع وجدانك يتجلّ لك أن قصارى الحيلة في منع الزكاة هدم
ركن من أركان الإسلام وأصل من أصول المدنية التي تبنى عليها السعادة الإنسانية
ونسخ آيات كثيرة من كتاب الله تعالى تعدّ بالعشرات وإبطال لمثلها أو ما يزيد عليها
عددًا من الأحاديث النبوية الصحيحة وإعراض عن سيرة سلف الأمة الصالح الذين
قاتلوا مانعي الزكاة كما قاتلوا المرتدين عن الدين - كل ذلك لقول رجل يجوز عليه
الخطأ عمدًا وسهوًا زعم أن الحيلة في منع الزكاة جائزة قياسًا على الحيلة في الربا ,
وقياسه هذا باطل يضرب به وجهه لأنه إبطال للنصوص القطعية المتواترة، ولا
يقول مسلم - بل ولا عاقل ما - بجواز مثل هذا القياس الذي هو من الاجتهاد
المفيد للظن.
ولا أصدق ما يعزى إلى الإمام أبي يوسف في ذلك، وإن نقله عنه حجة
الإسلام الغزالي وقال فيه: (وهذا هو العلم الضار) لأن هذه الحيلة لا تنطبق
على قواعد علم أصول الأحكام التي يسمونها فقهًا، وإن كان لا يراعى فيها إلا ما
تعطيه ظواهر الألفاظ من غير ملاحظة الحكمة في التشريع وما يرضي الله تعالى
وما يغضبه.
الإمام مالك والإمام أحمد منعا الحيلة مطلقًا، واستدل الحنفية والشافعية على
حل الحيلة في الربا بما صح من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عامل خيبر عن
بيع صاع التمر الجيد بصاعين من الرديء؛ لأنه من الربا وأمر بأن يباع الرديء
بدراهم ويشترى بها الجيد، وجعلوا هذا دليلاً على أصل مشروعية الحيلة مع أنه في
الحقيقة ليس من الحيلة؛ إذ مقصود الشارع من منع بيع الأطعمة والأقوات بمثلها مع
التفاضل أو النسيئة أن لا يخرج بها عن الحكمة التي خلقت لأجلها وهي التغذية
(وفي معناها التداوي) بجعلها أثمانًا يتعامل بها لما في ذلك من تقييدها في الأيدي
ومنعها عن محتاجها للأكل، ولهذا نهى عن الاحتكار وشدّد فيه أيضًا، والحديث مرشد
إلى التعامل الذي لا يخل بهذه الحكمة بل يحفظها، وأما الحيلة في منع الزكاة فهي
مبطلة للحكمة في مشروعيتها وهادمة لركنها بالمرة، فلو فرضنا أن ما أرشد إليه
حديث بيع التمر يسمى حيلة ويدل على مشروعية الحيلة، فيجب أن يقيد بما لا يهدم
ركنًا إسلاميًّا ولا يخل بحكمة من حكم التشريع التي فيها صلاح العباد في المعاش
والمعاد، والزكاة من أعظمها أو أعظمها، فإن فيها قوام ثمانية طوائف من المسلمين
لا يصلح مجتمع الأمة بدونها، على أن هذا قياس في مورد النص، وهو ممنوع كما
ألمعنا آنفًا.
ثم إنني أرجع بك أيها الشحيح الممسك إلى الفطرة الإنسانية لتعلم أنك بمنع
الزكاة منحرف عن صراط الدين وعن كمال الإنسانية معًا، فإن نوع الإنسان
بمقتضى الفطرة على أربع طبقات: (الطبقة الأولى) التي يبذل أفرادها المال في
منافع قومهم وأمتهم ومواساة محتاجيهم؛ لأن ذلك من الفضائل الإنسانية وموجبات
الشرف والجاه الصحيح، وناهيك بما حفظه التاريخ للأسخياء والأجواد من الذكر
المجيد، وما ورد في حاتم الطائي من الحديث الشريف (الطبقة الثانية) التي لا
يبذل أفرادها المال إلا في لذاتهم وشهواتهم البدنية , وأفراد هذه الطبقة إلى البهيمية
أقرب منهم إلى الإنسانية (الطبقة الثالثة) التي خرجت بالمال عن وضعه الأصلي
وهو وسيلة الحاجات وميزان المعاملات، فأحبته لذاته وأمسكه أفرادها عن المنافع
والشهوات جميعًا إلا ما لا مندوحة عنه، وهؤلاء إلى الجنون أقرب منهم إلى العقل.
وغرض الدين بمشروعية الزكاة إعانة الإنسان على تقوية داعية الفضيلة التي
تقتضيها الفطرة الإنسانية على داعية الشهوة وفساد الرأي التي عليها أهل الطبقتين
الأخريين لأن الرغبة في منفعة الأمة وحب الشرف قد يعجزان عن مقاومة الشهوة
وإصلاح الرأي الأفين، فجعل للبذل في الطرق الشريفة النافعة جنة الله ورضوانه
وتوعد على البخل والإمساك عن ذلك بنار الله وسخطه، فمن غلبت شهوته أو حمله
فساد رأيه على منع الزكاة مع هذا كله فهو بعيد عن هدي الديانة الإسلامية وسلامة
الفطرة الإنسانية، والسلام على من اتبع الهدى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) (التوبة: 111) .
(**) (التوبة: 34) .(2/705)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(19) من هيلانة إلى أراسم في 8 مايو سنة 185
أتدري أيها العزيز أراسم أني فكرت كثيرًا فيما ختمتَ به مكتوبك الأخير وورد
على ذهني منه خاطر يجب عليّ قبل الإفضاء إليك به أن أبين لك كيف ورد.
جاء الدكتور وارنجتون وأسرته إلى هنا وأمضوا يومين، فسنَّ لي شبه قانون
أجري عليه في معيشتي، بل هو الذي يتبعه معظم الإنكليزيات الحوامل اللاتي
يوصفن عادة بأنهن في حالة شاغلة، نصح لي بإدامة الرياضة البدنية والتنزه، ثم قال
ما نصه: إياك والاقتراب من القصص التي تتولد من قراءتها الانفعالات السيئة
الشديدة، كان اليونان أعقل منا؛ لأنهم كانوا يحيطون نساءهم في مدة الحمل بالتماثيل
والصور الجميلة المنسوبة لمشاهير الأساتذة في فن التصوير، وإني لست أجزم بأن
هذا كان سببًا في إتيان أولادهم حسان الخلقة، ولكني على كل حال أقول: إذا كان
مثل هذه التماثيل والصور وغيرها من الأشياء البديعة الصنع يحدث في نفوس ذوي
الفطر السليمة من الناس شعور الارتياح والانبساط، ويكون فيها مدعاة اعتدال
الأمزجة وتوافق الطبائع، فلم لا يكون من موجبات حفظ الصحة؟ كثير من السيدات
عندنا يغلب عليهن في طور الحمل الخمود وفتور القوى بسبب البطالة التي هي منشأ
الأمراض العصبية، فإنهن لا شغل لهن فيه سوى مساورة الأوهام ومطاردة الخيالات.
أما أنت فلِما أعهده فيك من الشغف بالمناظر الخلوية أوصيك بالسعي وراء اجتلاء ما
في الخليقة من رائع الجمال ورائق الحسن وبأن تتخذي لنفسك أعمالاً مرتبة تشتغل بها
يدك وعقلك.
ولقد رأيت أن هذه النصائح كلها حكمة وعلم، فأخذت نفسي بها وخرجت للتنزه
من اليوم التالي لتلقيها بعد تدبير بعض الشؤون البيتية، فلما رأتني نساء القرية مبكرة
على الطريق بعثهن كرم أخلاقهن على أن يبتدرنني بالتحية قائلات: (صباح بهيّ
وبكرة سنية) ولم يكن الصباح كما قلن ولكنها عادة الناس هنا إذا تبادلوا التحية
بالوقت فهم دائمًا يميلون إلى امتداحه قليلاً، فشكرت لهن حسن قصدهن.
لم أسر في تنزهي على الخليج، بل اعتسفت الطريق في ريف يتسع فيه
الفضاء للماشي كلما جدّ به السير، ومما لاحظته أن نساء كورنواي يضعن على
رؤوسهن كمات [1] من القش، وقد اخترت أن أحذو مثالهن في ذلك، فوضعت واحدة
منها اتقاء لحر الشمس وحبًّا لما فيها من البساطة الكلية، وأخالني أروق في نظرك لو
رأيتني بها، كنت أتقدم في هذا الريف على جهل من قراه، ولكني كنت آمنة من
الضلال لأني ما كنت قاصدة جهة معينة، وكان ذلك اليوم من الأيام التي كثيرًا ما
ترى في غرب إنكلترا، فكانت سماؤه محتجبة بالجهام [2] وكانت تأتي من البحر ريح
بليل [3] مسفسفة [4] فتجري بين أشجار العليق فتولد فيها رعدة طويلة , وكانت الطيور
تغرد حول عشاشها.
قد أتى عليّ حين من الدهر كنت فيه أوجد على الخليقة إذا بدت عليها سمات
الاغتباط والسرور، وأنا حزينة الفؤاد متبلبلة الأفكار، فما زلت بي حتى أثبت لي أن
هذا الوجد والانفعال باطلان بعيدان من الإنصاف، وناشئان من الأثرة وحب
الاختصاص، فأصبحت الآن بفضل نصحك لي أُسَرّ بما أجده في سائر المخلوقات من
آثار الفرح والابتهاج، وقد تبين لي في ذلك اليوم بما انبعث في قلبي من وجدان
الحنان والرحمة، وبما عاينته في المخلوقات من شواهد الفضل والنعمة أن الله سبحانه
لم يلعن الأرض ولم يغضب عليها.
كانت بكرتي هذه من البُكر التي أنت تعرفها , يدور في هوائها على سكونه مادة
غزيرة مختلفة العناصر للتوليد والخصب، فكان ينبعث من أشجار العوسج وحقول
القمح والمخارف [5] الموطأة نسمات فاترة مقوية كانت تسري بسببها الحرارة في
جسمي فتصل إلى وجهي فكأن الأرض كانت مصابة بحمى الربيع، ولقد ذكرتك في
تسياري بين هذه المزارع، وفكرت فيما سأناله عما قليل من شرف الأمومة إن لم
يحدث من الطوارئ ما يقطع موصول آمالنا، وفي هذا الوقت أحس قلبي بما
انطوى عليه مكتوبك فتسابقت إلى ذهني منه هذه الكلمات وهي (فإني قد استودعتك
إياه) .
عند ذلك صِحْت قائلة: لماذا لا أكون أنا في الحقيقة معلمة ولدي؟ أليس من
المعروف عن نساء الولايات المتحدة أن معظم تعليم الأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا
موكول إليهن؟ بل إن مما يؤكده العارفون أنهن يَفضلن الرجال في القيام بهذه الوظيفة
الصعبة، وإني سأجرب نفسي في الاقتداء بهن على أن هذا هو ما يراه زوجي، فمن
حيث إنه قد عول على ترك المزايا التي لمدارسنا وغيرها من معاهد التعليم لاعتبارات
أقدرها حق قدرها، فلا بد أن أحل محله ولو حينًا من الزمن في القيام على تلميذنا
الآتي وتربيته، وسيكون هذا آكد فرض عليّ وأَخصّ ما أفتخر به وأزهو , أُشهد الله
سبحانه على ما أقول وأُشهد عليه أيضًا أمومة الفطرة الكبرى التي تدعوني بما فيها من
القدوة إلى العمل وإنماء جميع قواي.
ربما أضحتْك مني هذه المزاعم , وإني لعلى علم بكل ما يعوزني لأداء هذا
الواجب الصعب المعضل؛ لأني ينقصني كثير من المعارف وإن كان والداي لم يغفلا
تربيتي الأولى، ولكن ما الذي يمنعني من الاستمرار على التعلم بنفسي إذا كنت لا
أزال في السن الملائم له، فسأعلم ولدنا في الزمن الذي يشب فيه وينمو وأتعلم
أنا أيضًا بتعليمه، ولن أعتقد أني أمه حقًّا إلا إذا نفثت في روعه أفكارك وزرعت
في نفسه أصولك.
سنتعاون بقلبينا على هذا الأمر الخطير، فعليك الإرشاد وعليّ العمل، وقد
وعدتك بأن أكون قوية، وهذا هو قصدي وسأبلُغه ملتمسة من الرياضة البدنية
والمطالعة ما يلزمني من الصحة والعافية في جسمي وعقلي لأداء هذا الغرض
العظيم , ومعاذ الله أن يكون من قصدي أن أصير إلى أحسن مما أنا عليه الآن، نعم
إني لست من الوليّات ولا من النُسّاك؛ فقد أتى عليّ زمن كانت تجذبني فيه
جواذب اللذات الدنيوية، وليس هذا الزمن عني ببعيد، فإني لم أتجاوز الثالثة
والعشرين من عمري، ولم يكن تركي معاهد التمثيل وملاهي الغناء وأندية الظرفاء
التي كنت أفتخر فيها بمصاحبتك مبنيًّا على رغبتي عنها وميلي إلى غيرها،
وإنما كان ذلك لما أصابنا من صروف الدهر ونوائبه التي سيظل ما جرته لي من
الكآبة والحزن مخيمًا عليّ طول حياتي، على أنني لست آسى على شيء مما
فات، فأرجو أن لا تظن بي ذلك، وأعتقد أني لو كنت مطلقة من قيود هذه
المصائب لما انفككت عن اختيارك لي خِلاًّ وقرينًا، واعلم أن الفراق لم يزدني فيك
إلا حبًّا، وإنما أنا أشكو من ألم في نفسي، ولكن كما توجد طرق مادية لحفظ صحة
البدن توجد أيضًا طريقة معنوية لحفظ النفس وسلامتها من الأمراض وهي رفعها إلى
معالي الأمور، وسأجربها فإن ذلك - على ما يُقال - يسكن من آلامها، وإذا صح
هذا فأي غاية تسمو إليها أفكاري وتعلو بها نفسي أشرف من رعاية ولد أُربيه
على أصولك وأخلاقك، إن هذا لهو أكمل قصد وقفت نفسي على إدراكه.
أنا مع انتظاري لهذا العمل الجليل، أشتغل الآن بشؤون بيتية محضة، أما
قوبيدون فإنه قد صمم على أن يعمل عمل المزارعين فإنه قد جلب إلى مسرح
الدواجن في بيتنا دجاجًا وبطًّا وماعزة وغيرها، وكان في البيت برج عتيق مهجور
فعمّره بالحمَام، وإني مهتمة غاية الاهتمام بكل هذا العالم الصغير، وكنت قبلاً أعتقد
في نفسي أني على شيء من علم الحيوانات لما قرأته من الكتب المختلفة في التاريخ
الطبيعي، أما الآن فقد تبين لي مقدار خطئي في هذا الاعتقاد، فإني كل يوم أشاهد
من عجائب الحيوانات ما لم يقل عنه العلماء شيئًا، وأنا وجورجية نوزع الحبوب
على جميع هذه الدواجن التي يظهر من حالها أنها تدرك محبتنا إياها؛ لأنها تأتنس
بنا وتفرح لرؤيتنا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الكمّة بالضم القلنسوة المدورة.
(2) الجهام سحاب لا ماء فيه.
(3) الريح البليبل هي الباردةالنادية.
(4) المسفسفة هي التي تجري فويق الأرض.
(5) المخارف جمع مخرف وهو الطريق في الأشجار.(2/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(من بتاوى)
لأحد الأفاضل:
حضرة اللوذعي البارع صاحب المنار الساطع:
إن ما نشرته جريدة (المعلومات وثمرات الفنون) وجريدتكم الغرّاء فيما يتعلق
بالحكومة الهولندية ومعاملتها للعرب من الظلم والجور والاحتقار والغمط والغمص
إلى ما لا يتناهى - لأمر واضح ولا وضوح الشمس في رابعة النهار ومعلوم عند
الحكومة المذكورة، ونحن نتعجب أيضًا غاية العجب من تحاملها على من يكاتب
الجرائد وفحصها وبذل المجهود في معرفته والإعلان بأنها ستذيقه كأس عقابها، فنحن
مهما كاتبنا الجرائد فلا نقول إلا الحق الصراح، ومع ذلك نذكر الواقع والوقيعة
والشخص والمحل، فلو كانت غير عالمة بذلك لأحضرت الأشخاص الذين سميناهم
وسألتهم عما جرى عليهم، ولو أردنا سرد جميع الوقائع لاستدعى ذلك نشره في كل
طبعة من الجرائد واستغراقه الستة أعمدة فيها، ولكن أوردنا أنموذجًا من تلك القبائح،
ودونك قطرة من بحر , فأوله رجل يسمى الشيخ بلوعل ضربه اثنان من الهولنديين
اعتباطًا فرفع أمرهما إلى الحكومة فأُحضرا في غير مجلس الحكم، فقيل للشيخ
بلوعل: إنهما لن يعودا إلى مثل ذلك، وكذا الشيخ عبد الله حسان سبَّه بعض
المستخدمين في محل التلغراف سبًّا فاحشًا، فقيل له مثل ما قيل للشيخ بلوعل،
وكذا الشيخ علي مرصد في أثناء الطريق بدّد ما معه من الأقشة وسُب وضُرب فعومل
كالأولين، وكذا الشيخ محمد بن علي مكارم دفعه بعضهم دفعًا عنيفًا حتى سقط مغشيًّا
عليه بدون سبب، وكان المومي إليه شيخًا جليلاً فعومل بمثل أولئك، فلم يقبل وأبى
إلا القصاص، فطرد ولم تقبل له الحكومة كلامًا فلم يسعه إلا أن قوّض خيامه ورحل،
وهيهات التعداد، ولو أردنا تفصيل الحوادث حادثة حادثة للزم الحال إلى سِفر، بل
إلى أسفار وأما عثمان بن عقيل فليته كان كفافًا لا لنا ولا علينا، وكيف وهو باذل
جهده في أن تشد وطأتها الحكومة على العرب أبناء جنسه بأشد مما هي عليه، بل لم
يزل يواعد العرب بالشر في المستقبل، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وجزى الله
الشيخ أحمد الخطيب المنكاباوي فيما قاله فيه خير الجزاء، وأقسم بالله أنا لم نعرف
محملاً للخير نحمل عثمان عليه؛ لأنه صرح على رءوس الأشهاد بحضرة الجم الغفير
بأن سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين لا يسمن ولا يغني من
جوع إنها لإحدى الكبر ومن أمهات العبر ما سمعنا بهذا في الملة الإسلامية. هذا
بعض ما جرى الآن , نستعطف مراحمكم أن تنشروه في جريدتكم (المنار) الأغرّ
كما هو شأن غيرتكم في الذب عن الملة والوطن أثابكم الله.
***
(سنغابور في 12 ديسمبر سنة 1899)
يا صاحب جريدة (المنار) التي لها بين رصفياتها الفضل والاشتهار، كأنها
علم في رأسه نار، لقد جبرت القلوب المنكسرة بما نشرت من الأخبار، فيما نال
العرب بجزيرة الجاوي من الظلم والاحتقار، وما تأتيه حكومة هولندا في ذلك من
العار، فلم يبق إلاك المؤمل، وعليه في الصدع بالحق المعول، فأين ما يزعمه
الزاعمون ويتمشدق به الجاهلون من المدنية الغربية ومحبتها بني الإنسان بالسوية،
أهو ما تعاملنا به معاشرالعرب تلك الحكومة الهولندية، من الظلم الواضح وضوح
الشمس المضيّة؟
وفي هذه الأيام قد شدت وطأتها بجور الأحكام، وبالخصوص على كل من له
بجرائد الأخبار الإسلامية إلمام، أو له في الدولة العثمانية كلام، بل صرح صديقها
الشيخ عثمان بأنها عند العثور على من يكاتب تلك الجرائد ستذيقه العذاب الأليم،
فنحن نناشد الله عثمان فيما تنشره الجرائد، هل هو زور وبهتان؟ أم هو الخبر
المشاهد بالعيان، والحق الذي لا يمتري فيه اثنان، ولا ندري ما الحامل له على أن
جمع إخوانه العرب وأحضر بينهم كلام الرب، وأراد منهم أن يقسموا له به بأنهم لا
اطلاع لهم على من يكاتب تلك الجرائد، إلى آخر ما جرى منه من التهديد والوعد
والوعيد، وطلب منهم التوقيع ببراءته من كل فعل شنيع في أسفل طرس ليس فيه من
الكتابة شيء، فأوجسوا في أنفسهم خيفة وارتابوا، ورفضوا ما طلب فاشتد منه
الغضب.
وقوي بينه وبينهم الخصام والصخب، فما فعله هذا أهو من قبيل رأيه وهواه
أم بذلك قرينه أغواه.
وإليك هذه القضية يا صاحب (المنار) فاحكم فيها بما أراك الله، وحسبنا الله
وحسبه وحسبهم الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد صادق ... ... ... ... ... ...
***
(مكارم الأخلاق الإسلامية)
مجلة علمية أدبية دينية تهذيبية تصدر في اليوم الأول والخامس عشر من كل
شهر عربي من قبل جمعية (مكارم الأخلاق) الشهيرة في مصر، وقد تصفحنا العدد
الأول منها فإذا هو مفتتح بمقدمة مطولة لرئيس الجمعية المفضال وخطيبها القوّال
الشيخ زكي الدين سند، وهي على نحو خطبة في الكلام المسجوع والوعظ المسموع
وبعدها نبذة عنوانها (استلفات) في الحث على الاشتراك في المجلة خدمة للأمة
والملة، والتمهيد لذكر الدروس التوحيدية التي يلقيها في الجمعية وكيلها الأستاذ الشيخ
عبد الوهاب النجار , يتلوها ذكر جملة مفيدة من أول الرسالة أو الكتاب الذي يقرأه،
وهي أفيد ما في المجلة، فإن صاحبها الفاضل قد حذا فيها حذو (رسالة التوحيد)
التي ألّفها حديثًا الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد،
واقتبس من نورها في الكلام على بيان الحاجة إلى الرسالة قبل بعثة نبينا صلى الله
عليه وسلم والانتقال إلى ذكر رسالته وما جاء به، ويسرنا جدًّا أن فضلاء الأمة
ونبهاءها قد اتخذوا (رسالة التوحيد) إمامًا ومرشدًا لهم في دينهم، فإنها الجديرة
بذلك، فنحث المسلمين على الإقبال على هذه المجلة مساعدة للجمعية الإسلامية
التي تصدرها على خدمتها المليّة، ولأنها لرخص ثمنها لا تنجح إلا
بكثرة المشتركين، فقد جعلت قيمة الاشتراك فيها 15 قرشًا في القطر المصري
و18 في خارجه، والمراسلة تكون باسم الأستاذ الشيخ زكي الدين رئيس
الجمعية.
***
(القدس الشريف)
مجلة علمية أدبية تاريخية أسبوعية تصدر في أول كل شهر عربي مؤقتًا،
لصاحبها ومحررها الشيخ طه المحتسب بالله خادم مقام خليل الرحمن، وقيمة
الاشتراك فيها 16 غرشًا مصريًّا، وقد اطّلعنا على العدد الأول منها، فإذا هو مصدّر
بفاتحة يبين فيها فضل نشر العلم، وأنه هو الذي حمل كاتبها على إنشاء المجلة
لا حب الكسب، فنتمنى لهذه المجلة الرواج والانتشار.
***
(من مجلة المنار إلى قرائها الأخيار)
سلام الله عليكم وحيّاكم الله أيها الفضلاء الذين وازرتمونا على خدمة الملة
والأمة، فإذا كانت الجرائد الحديثة تشكو من قرّائها فإنا شاكرون لكم، وإذا كانت
ترميهم باللي والمطل، فإننا نعترف لكم بالوفاء والفضل، ونحمد الله تعالى أن
جعل قرّاء مجلتنا من خيار الأمة وفضلائها الذين يُرجون ولا يُخشون، ولكنّ الأجزاء
الأخيرة من المجلة قد رُدّت إلينا في هذه الأيام من قبل نفر من المشتركين، منهم مَن
نثق بفضله وكماله، ونرجح أن المجلة ما ردّت في أواخر سنتها إلا خطأ من كاتبه أو
وكيله، كما وقع لنا غير مرة مع من يدفعون ثمن الجريدة سلفًا، ومنهم من يرغب
عن قراءة كلام ينعي عليه تقصيره في دينه وإسرافه في أمره فينغص عليه لذته،
والمرجو من مثل هذا أن يدفع ثمن الجريدة؛ لأن السنة أوشكت تتم، ثم يقطع
الاشتراك، ونحن لا نحب أن يقرأ مجلتنا من لا يهمه أمر دينه وملته وأمته، كما
نرجو من المشتركين الكرام، لا سيما في خارج العاصمة الذين لم يدفعوا إلى الآن
قيمة الاشتراك أن يقدموه حوالة على البوسطة أو طوابع بوسطة، ولا يدفعوا شيئًا
لوكيل أو جابٍ إلا لمن يصرح باسمه فيما بعد في المجلة، والسلام عليكم
ورحمة الله تعالى.
***
(جمعية شمس الإسلام)
علم القرّاء الكرام أن جمعية (شمس الإسلام) الشريفة قامت بالسعي لدى أولياء
الأمور بمنع شركة معرض باريس المصرية من أخذ الزعانف المنتسبين لأهل
الطريق إلى المعرض لتمثيل البدع والألاعيب التي يأتونها باسم الدين الإسلامي،
ولقد كان لسعيها هذا أحسن وقع عند خاصة المسلمين وعامتهم، وحمدوا لها جميعًا
هذا السعي واهتمت به الحكومة السنية، لا سيما سعادة محافظ مصر الغيور وبحثت
عنه، وحتم سعادة المحافظ بعدم تمكين أولئك الزعانف من السفر، وأما الشركة فقد
تنصلت من هذا الأمر وصرّحت بأنها لا يمكن أن تأتي أمرًا يمس كرامة الدين
الإسلامي الشريف، وإن لم تعارضها الحكومة فيه، لا سيما وأن فى أعضائها غير
واحد من وجهاء المسلمين ونحن نقابلها على تنصلها بالثناء مهما كان سببه، ونشكر
أفضل الشكر من اهتم بتحقيق أمنية الجمعية من رجال الحكومة والدين سواء
من عرفنا اهتمامه كسعادة المحافظ وفضيلة مفتي الديار المصرية وسماحة شيخ
مشايخ الطرق، ومن لم نعرف من حقيقة اهتمامه بالاختبار شيئًا، والله لا يضيع
أجر من أحسن عملاً.
__________(2/717)
26 رمضان - 1317هـ
27 يناير - 1900م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الزكاة والتمدن
(2)
بيّنا في مقالة (المنار) الماضي أن الزكاة ركن من أركان الدين والمدنية،
وفضيلة من أكمل الفضائل الإنسانية، وأن تاركها بعيد من الدين والتمدن والإنسانية
جميعًا، ودحضنا شبهة المحتالين في منعها من المتدينين، وندحض في هذه المقالة
شبهة من يذمها أو يذم السخاء من المتمدنين فنقول:
من الإفرنج طائفة تذم السخاء والبذل محتجة بأن إعطاء المال بدون مقابلة
عمل يعلّم الناس البطالة والكسل والاعتماد على الناس دون أنفسهم في قضاء حاجهم،
والوصول إلى مطالبهم ويكثر فيهم التسول والشحاذة، وما فشت هذه الأخلاق
والسجايا في أمة إلا ورَمتْها بالفقر والفاقة والذل والمهانة، وجعلتها وراء الأمم كلها،
وأنت ترى أن حجة هؤلاء ناهضة قوية، ولذلك فشت أفكارهم في أوربا فجعلت
قلوب أهلها قاسية على بني جنسهم لا يرحمون فقيرًا ولا يواسون محتاجًا حتى قيل:
إن الفقراء يموتون جوعًا في أسواق أغنى مدائن الأرض كلوندره ولا يرقّ لهم أحد
وإذا عدُل عقلاؤهم أو فلاسفتهم في هذه القساوة الوحشية يقولون: إن موت بعض
الأفراد أخف ضررًا على المدنية من فشوّ الأمراض الروحية التي تتولد من البذل
ومواساة هؤلاء المحتاجين وهي ما ذكرناه آنفًا، هذا ملخص مذهب هؤلاء، ونحن
نجيب عنه بالنسبة للزكاة الشرعية من وجوه:
(1) يعارض مفاسد البذل المذكورة مفاسد أعظم منها ضررًا في المدنية وأشد
خطرًا على الإنسانية وهي مفاسد الاشتراكية والفوضوية التي ليس لها منشأ إلا عدم
رضا الاشتراكيين بجعل المال دولة بين الأغنياء، بحيث يقاسي السواد الأعظم
من أبناء الإنسان متاعب الفقر وشقاء العوز حتى يموت الكثير منهم جوعًا ويتمتع
العدد الأقل بجميع صنوف النعيم ويستعبد سائر العالمين، بل يحبس في سجون
من الحديد (صناديق الأموال) جيوش الدراهم والدنانير يمنعها بذلك عن صدّ غارات
جيوش الفقر والفاقة التي تفتك بالنوع البشري أشد الفتك، إما بنفسها وإما بما يتبعها
من جيوش جراثيم الأمراض والأوبئة الخفية التي لا يدافع جانّها إلا بجنان من الذهب
أو الفضة [*] وليس فقر كل الفقراء وعوزهم من كسلهم وبطالتهم، فترد في حقهم شبهة
مانعي البذل وذامِّي السخاء، ولكن استعداد أفراد الإنسان متفاوت وللبيئة التي يعيش
فيها والقوم الذين يتربى بينهم الأثر الأكبر في أخلاقه ومعارفه التي هي
مناشئ أعماله الكسبية وغيرها {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ
بَصِيراً} (الفرقان: 20) فالله تعالى يبتلي الغني بالفقير والفقير بالغني، كما يمتحن
القوي بالضعيف وبالعكس على نحو ما بيّناه في المقالة السابقة، وبسطة الرزق تكاد
تكون بالحظ والجد أكثر مما هي بالحيلة والكد.
يشقى أناس ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقوامًا بأقوام
وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام
كالصيد يحرمه الرامي الجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي
وما أنا من يقول بالجد والحظ على إطلاقه الذي يطوف في الأذهان، ويجري
على كل لسان، بل أقول: لكل شيء سبب، وللإنسان ما سعى وكسب {لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ولكنّ طرق الكسب والثروة منها ما يعرفه الإنسان ومنها ما يجهله، وبعض ما يعرفه يمكن أن يناله بسعيه , وبعضه يعلو
عن تناول السعي ويتعاصى على الكسب، ولا تكون طبقات الناس أو أفرادهم
متقاربين في معرفة الأسباب والتمكن منها إلا إذا أمكن توحيد التربية والتعليم
وتعميمهما في العالم الإنساني كله، وما أبعدها غاية وأقصاها رغيبة! ! فظهر بهذا
علة اختلاف الناس المشهود في المعارف والسجايا والأعمال والمكاسب إجمالاً
{َلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) وظهر به
وبما قبله أن للاشتراكيين بعض العذر في القيام على الأغنياء الذين لا يجعلون في
أموالهم حقًّا معلومًا للبائس الفقير والعاجز الضعيف الذين ليس لهم ما يكفيهم، وأن
ينتهي بهم الأمر إلى القيام على الحكومة التي لا تلزم الناس بالمساواة إلزامًا كما هو
شأن الفوضويين، نعم إن القوم أفرطوا فخابوا، ومن الاعتدال أن يطلبوا المواساة بدلاً
من المساواة التي لا سبيل إليها، ويعلم المتمدنون من المسلمين أن حكماء أوربا
وحكامها في حيرة من تلافي شرور الاشتراكيين والفوضويين ومعالجة هذا الداء
الاجتماعيّ الدويّ , وما علاجه إلا الدين الإسلامي الذي يفرض الزكاة ويحث على
المواساة ويفرض على الآخذين به أن يرضوا بما قسم الله لهم بعد السعي بحسب
الطاقة.
(2) إن فضلاء الأوربيين وعقلاءهم الذين لم ينسلخوا من مزايا
الإنسانية الجميلة ولم يُحرموا من الشفقة والرأفة على أبناء جنسهم بالمرة , قد
خصصوا جزءًا من أموالهم لبناء المستشفيات لمعالجة مرضى الفقراء ولغير
ذلك من أعمال البر، ولولا هؤلاء لكانت المدنية الأوروبية شر مدنية أخرجت
للناس، ولكان غلو الاشتراكيين والفوضويين تجاوز الحدود فدمرها شر
تدمير وجعل مصيرها بئس المصير، وإننا نرى اللابسين لباس المدنية
الأوروبية من المسلمين لا يبذلون شيئًا من فضول أموالهم على أعمال البر
التي ينفق عليها الأوروبيون كالمستشفيات والمدارس والمكاتب وتنشيط المخترعين
والمكتشفين، حرموا فضائل المشرقين واستأثروا برذائل المغربين {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} (المجادلة: 18) .
(3) إذا كان السويليون من الإفرنج يقبّحون إيتاء الفقراء والمساكين العاجزين
عن كسب يكفيهم، فلا ينبغي أن يلتفت إلى قولهم؛ لأن احتجاجهم بتعليم الناس
البطالة والكسل إنما يأتي إذا كانت الشريعة تعطي من يقدر على الكسب ولا يكتسب
إخلادًا إلى الكسل والبطالة واعتمادًا على أوساخ الناس، ولكن الشريعة تمنع إعطاء
مثل هذا كما تمنع إعطاء العاجز فوق كفايته، وتسمي مَن يقدر على كسب يكفيه
غنيًّا، ولذلك قال الإمام الغزالي كغيره: (وقد لا يملك إلا فأسًا وحبلاً وهو
غني) . وجعلت أيضًا في حكم الغني كل فقيرعاجز له قريب يمونه وينفق عليه،
ومع هذا كله حرمت السؤال والشحاذة على غير المضطر واعتبرت أموال الزكاة
والصدقات من أوساخ الناس، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اليد العليا خير
من اليد السفلى.
فقد رأيتَ أن هذا الدين القويم فرض للفقراء والمساكين ما فرض من مال الزكاة
مع أشد الاحتراس من مضار اعتماد الإنسان على غير كسبه ونتائج عمله، ومن ذلك
أنها حرمت الصدقة على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ينبغي أن يكونوا
قدوة للناس في شرف النفس وعزتها، وما أكل أوساخ الناس إلا ذلٌّ وصغار، وقد
غفل المسلمون لا سيما الغالون في تعظيم أهل البيت عن هذا فأغدقوا عليهم الإنعام
حتى جعلوهم عالة على الناس في عامة شؤونهم، وأفسدوا أخلاق الجم
الغفير منهم.
(4) إذا فرضنا أن للسويليين وجهًا في منع إعطاء الفقير والمسكين ومن في
معناهما كالغارم وابن السبيل مطلقًا، فهل نقول: إن لهم وجهًا في منع تجهيز
المطّوعين لحماية البلاد ودفع الأعداء عنها، ومنع فك الرقاب من العبودية أو
الأسر؟! كلا، إننا لم نسمع أن أحدًا في أوربا يذم هذه المصارف، بل نراهم يجمعون
الأموال الطائلة لتنفق في هذه الوجوه، وقد جعلوا السعي في تحرير الأرقاء ركنًا من
أركان التمدن، بل وجعلوه عملاً مخصوصًا من أهم أعمال الحكومة.
وخلاصة القول وزبدته: أن الزكاة ركن من أهم أركان الدين والمدنية الحقة،
وأنه ليس في شيء من مصارفه الثمانية مغمز لغامز ولا مضرة تخشى مغبتها، وأن
هؤلاء المسلمين الجغرافيين الذين يمنعونها لروح البخل والشح الخبيث الذي لابس
نفوسهم الشريرة ما شمّوا رائحة التمدن الحقيقي، ولا استنشقوا عَرف الإسلام العطر،
ويوشك أن يجيء يوم من الأيام تهدي فيه الأوربيين معارفُهم الاجتماعية إلى إقامة هذا
الركن المدني الركين، ثم إقامة غيره من أركان الإسلام، فيضطر المقلدون لهم في
مساويهم من متمدنينا إلى تقليدهم في المحاسن والفضائل التي يأخذونها من دينهم،
فإنهم لصغر نفوسهم لا يكونون إلا مقلدين و {لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .
__________
(*) (الجان) اسم جمع للجن وهو كل ما استتر عن الحواس كالملائكة والشياطين، ومنه ميكروب الأمراض , والجنان - بالضم - الترس.(2/722)
الكاتب: أحد المشتركين
__________
الاقتراح على المنار
يود أكثر أهل الجدّ أن (المنار) لا يكتب إلا في أهم المواضيع الدينية
والاجتماعية كالتربية والتعليم من الوجه الديني، وممن صرح لنا بهذا الرأي وزير
مصر الأكبر صاحب الدولة رياض باشا، ويقول آخرون: لابد من تنوع المواضيع
والكلام في الأدبيات؛ ليكون فيه ما يروّح النفوس التي تسأم الجد الدائم، واقترح
علينا كثيرون من فضلاء القطرين المصري والسوري أن نكتب ملخص دروس
التفسير التي يلقيها في الأزهر حَكيم الأمة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية، فإن فيها حياة الأمة وبيان شفائها من أمراض شقائها، واقترح آخرون
علينا أن ندرج فيه ملخص الخطب النافعة التي يلقيها كاتب هذه السطور وغيره من
الأفاضل في جمعية (شمس الإسلام) وإجابة هذه الاقترحات يتوقف على جعل
(المنار) مضاعف حجمه الآن مع بقائه أسبوعيًّا، فهل يوجد في القارئين عدد كثير
يضاعف لنا الثمن حتى نتمكن من هذا العمل من غير خسارة مالية لا نستطيع
احتمالها؟ ما لا يدرك كله لا يترك قله، وقد رجّحنا أن نزيد في (المنار) كراسة
ونصدره في الشهر ثلاث مرات، أو كراستين ونصدره مرتين، ونبدأ بإجابة
الاقتراح الأخير بعد نشر آخر كتابة وردت لنا فيه وهي:
جناب الأستاذ الفاضل:
حضرتُ أمس بجمعية (شمس الإسلام الخيرية) فوجدت فيها ما حقق ظني
وما كنت أنتظره من حضرات مؤسسيها الكرام من نقاوة المواضيع وصدق النية
والإخلاص لجلالة السلطان وعزيز مصرنا حتى كنت أهتز طربًا حين قمتم وفسرتم
قوله تعالى في الطاعة والتقوى والاقتصاد مما تُلي من الآيات في مبدأ الجلسة
وبرهنتم أن هذه الآيات وحدها تكفي لسعادتنا الدنيوية والأخروية، وازداد سروري
حين قام الأستاذ الفاضل الشيخ علي الجربي وكشف الحجاب عن بعض ما خفي من
أسرار الدين، لا سيما وقد أتبعتم كلامه بأن أوضحتم في بعض ما قلتموه أن المرض
الذي يعم المسلمين الآن ليس هو عدم معرفتهم ما هم عليه الآن من الشقاء مما هو
معروف لدى العام والخاص، ولكن المرض كل المرض في جهل الأسباب التي
جرّت علينا هذا الشقاء الذي يكاد أن لا ينتهي، وعدم إيجاد الطرق الموصلة إلى
إنقاذنا منه مما لا يقدر عليه إلا كل عالم متمكن حكيم متبصر، وأتبعتم قولكم ببعض
مباحث أخرى مما وقع موقع الاستحسان لدى الحضور، وإني أشكر حضرة الأستاذ
الفيلسوف على خدمة الإسلام والمسلمين، كما أني أدعوه أن لا يَكِلّ مهما تصدر
أمامه من الصعوبات، حيث إن الخدمة لله، وكفاكم بالله قوة وعونًا , غير أنه سنحت
لي فكرة وجدت من حقوق الإسلام أن أسردها على مسامع حضرتكم، ولعلها تقع
لديكم موقع القبول، وهي أن تلك المواضيع والأفكار التي يقولها الخطباء وتقولونها
أنتم في محفل الجمعية كما ينتفع منها الذي حضرها، كذلك يلزم أن يستفيد منها من
عاقه عن ذلك بُعد المكان مثلاً، ولتحقيق هذه الأمنية أقترح أن يخصص محل في
جريدتكم يكتب فيه ملخص المواضيع التي يراد البحث فيها في كل أسبوع، وهي
ليست بأقل أهمية من الدرس الديني الذي تكتبون له ملخصًا في جريدتكم الغرّاء،
فالكل راجع للدين وهو الغرض، وليست غير مجلتكم أولى بنشر تلك النصائح التي
تلدها أفكار الخطباء، وتثبت أمام الجميع صحتها ويظهر نفعها، فأكرر الكلام على
حضرتكم في قبول هذا الاقتراح، وليس هناك فرق بينكم وبين الجمعية فإنكم من
الجمعية والجمعية منكم، ويلزم أن تكون جريدتكم لسان الجمعية وترجمان مقاصدها
كما تفعل جمعية (مكارم الأخلاق الإسلامية) هذا وأرجو أن لا تحوجوني إلى التكرار
في هذه المسألة المهمة، ولقد صارت الآن الجمعية عمومية، فلا ضرر أن تنشر
أفكارها بين المسلمين الأعضاء منهم وغير الأعضاء، ولا أشك في أن تنشر في
عدد (المنار) الآتي إن شاء الله تعالى ما خص مواضيع هذا الأسبوع لاعتقادي أن
هذا ليس ضد مشروعكم الذي هو منفعة الإسلام والمسلمين، وعلى أي حال فإني
شاكر لحضرتكم، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... أحد المسلمين
... ... ... ... ... ... ... ومن المشتركين في مجلة المنار
__________(2/726)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طائفة من الأخبار
(الاجتماع الأسبوعي العام لجمعية شمس الإسلام)
افتتحت الجمعية من نائب الرئيس، بسم الله وحمده والصلاة والسلام على نبيه
والدعاء لمولانا أمير المؤمنين الأعظم، ثم لعزيز مصر المعظّم، ثم شنّف الأسماع
فقيه الجمعية الفاضل بتلاوة قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ
أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} (الفرقان: 62) إلى آخر السورة، ثم قام خطيب
الجمعية منشئ هذه المجلة وخطب خطبة مطولة في بيان ما أرشدت إليه الآيات
الكريمة من أسباب سعادة الدنيا والآخرة [*] تكلمت أولاً في المحافظة على الوقت
وعدم تضييعه سدى، ثم في محاسبة الإنسان نفسه في الليل على عمل النهار
وبالعكس، وعند ذلك يرى أحد أمرين إما أنه كان مقصرًا في أداء ما يجب عليه
لربه أو لنفسه أو لأهله أو لأمته، وإما أنه كان مشمرًا وقام بما يجب وأدّى الحقوق،
فإن كان الأول وجب عليه أن يذّكر تقصيره ونتائجه الوخيمة فيتعظ ويتدارك في
الليل ما فاته في النهار وبالعكس: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب} (النساء: 17) وإن كان الثاني وجب عليه أن يشكر لله
فضله عليه بالتوفيق للجد والتشمير بأن يزداد ثباتًا، ثم بعد الإسهاب في معنى هذه
الآية بينت أن الآيات التي بعدها شرعت لنا طلب سعادتي الدنيا والآخرة بالعمل،
أما سعادة الدنيا فأركانها ثلاثة: الغنى والثروة وقرة العين بالأهل والذرية والجاه
الرفيع بالحق، وقد شرع الله لنا طلب الركن الأول بمشروعية سببه وهو الاقتصاد
حيث قال في أوصاف عباده المرضيين عنده: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) وقلّما يفتقر مقتصد.
وشرع لنا طلب الركنين الآخرين بقوله عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)
ولا جاه أعلى ولا شرف أرفع من كون الإنسان إمامًا وقدوة لخيار الناس وأفاضلهم
وهم المتقون، وبينت أنه ليس المراد من الآية طلب هذين الأمرين الجليلين باللسان
فقط، فإن الله تعالى لا يعبأ بدعاء من لا يوافق قلبُه وعملُه لسانَه، فيجب علينا أن
نطلب كل شيء بصدق القصد من قلوبنا والعمل الذي تقتضيه الأسباب والسنن
الإلهية في الكون ثم نطلب من الله بألسنتنا المترجمة عن قلوبنا أن يسهل علينا ما لا
يناله كسبنا من أسباب ذلك.
وأما سعادة الآخرة فهي رضوان الله تعالى ومثوبته في دار كرامته، وقد عبّر
عنها بعد ذكر أسباب سعادة الدنيا والآخرة بقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا
وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} (الفرقان: 75) فجعل تحصيل سعادة الدنيا من
أسباب سعادة الآخرة، وذكر من أسباب السعادتين أركان الدين الأربعة وهي: (1)
التوحيد، ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (الفرقان: 68)
و (2) ترك المعاصي، ونبه عليها بذكر كبائرها، وهي القتل والزنا وشهادة الزور،
و (3) الآداب والفضائل، أرشد إلى مهماتها كالسكينة والتواضع ومتاركة الجاهلين
والسفهاء والإعراض عنهم بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: 63) وكالاقتصاد، وقد ذكرنا
آيته من قريب، وكاليقظة والاعتبار بآيات الله المسموعة والمشاهدة والانتفاع
بالتذكير بها: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُماًّ وَعُمْيَاناً} (الفرقان: 73) وكالإعراض عن اللغو وهو كل ما لا فائدة فيه: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ
مَرُّوا كِرَاماً} (الفرقان: 72) وكالخوف من الله تعالى الذي يكبح النفس عن
المعاصي، وإليه الإشارة بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} (الفرقان: 65) و (4) الأعمال الصالحة ذكرها إجمالاً بقوله: {وَمَن تَابَ
وَعَمِلَ صَالِحاً} (الفرقان: 71) إلخ، وخص منها بالذكر القيام بالليل للصلاة،
وكل ما ذكر من الآداب آنفًا تتبعه أعمال تناسبه ويدخل في هذا تربية الأولاد، فإنهم
لا يكونون قرة أعين إلا بالتربية الصحيحة.
هذا مجموع المعاني التي كانت مدار خطبة هذا العاجز، رمزت إليها رمزًا من
غير مراعاة ترتيب الآيات ولا ترتيب الإلقاء، ولو كتبت كل ما تذكرته منها لاستغرق
عدد (المنار) كله، وقد أسهبت في ذم الإسراف والحث على الاقتصاد إسهابًا،
وجاءت على لساني كلمات في ذلك استحسنها القوم استحسانًا، أذكر منها كلمتين:
إحداهما أن معظم الأموال التي تفيض بها راحات أغنياء هذه البلاد إسرافًا وتبذيرًا
تذهب إلى الأجانب، فالذنب فيها يضاعف ضعفين ربما كان أكبرهما هو الذي لا يلقي
له أحد بالاً، وهو الإدلاء بثروة الأمة إلى الأجانب، ففيه إضعاف للأمة وتقوية
لخصمائها في عمل واحد، و (الثانية) في الحث على حفظ رقبة البلاد في أيدي
أهلها، قلت: إن فدانًا من الطين يبتاعه أجنبي من وطني يؤلمني ويمضني ما لا
يؤلمني نزع أكبر وظيفة من وطني وتطويق الأجنبي بها؛ لأن رقبة البلاد إذا زالت
من أيدينا إلى أيدي هؤلاء الغرباء الأغنياء وأمسينا فيها عمالاً وأجراء - فقدنا البلاد
والسلطة معًا فقدًا لا يرجى له عود، وإذا فقدنا السلطة وبقيت لنا البلاد، فلا يبعد أن
يأتي يوم من الأيام نكون فيها أمة متحدة لها قول يسمع ورأي عام يعمل به، فنقول:
نحن أولى بحكم بلادنا من غيرنا، فلا يستطيع أحد أن يرد علينا، ولكن إذا ذهبت
رقبة البلاد منا وفرضنا أنه يمكننا مع الفقر والفاقة أن نملأ هذه الأدمغة الجاهلة علمًا
وحكمة، ونفرغ في هذه القلوب الفارغة حمية وهمة، ونجعل هؤلاء الأشتات شيئًا
واحدًا، فبماذا تطالب الأمة والبلاد ليست بلادها؟ وأبنت بالأدلة والبراهين أن
الاقتصاد فرض على المسلمين، وحسبك من الوعيد على تركه قوله تعالى: {إِنَّ
المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27)
وفندت قول بعض الشيوخ في مصر - ولم أذكر اسمه - أن الاقتصاد في المعيشة
أمر مندوب لا واجب، وقد قال مثل ذلك في تدبير المنزل وتربية الأولاد! ! وبينت
أننا ما دمنا نلتفت لهذه الأقوال الخادعة لا تقوم لنا قائمة، ثم قام في إثري الأستاذ
الفاضل الذي وقف نفسه على الدعوة إلى الله ووعظ المسلمين وإرشادهم حيث كان -
الشيخ علي أبو النور الجربي- وأفاض على الحاضرين من الحكم المأثورة، بل الدرر
المنثورة ما أعجب به القوم إعجابًا، كيف وهو لم يترك ركنًا من أركان الدين
الأربعة التي مر ذكرها إلا وحوّم عليه، وجاء بالمحاسن مما يذكر فيه: تكلم في
التوحيد فأجاد، ثم انتقل إلى الوعظ فأفاد، ذكّر بالآخرة ولم يغفل نصيب الإنسان من
الدنيا وحث على التوبة ورغّب فيها، وأثنى على الجمعية وحث عليها، وأظهر
الأسف مما بلغه من وجود حزازة بين جمعية (شمس الإسلام) وجمعية (مكارم
الأخلاق) .
ولما فرغ من مقاله وهدأت شقائق ارتجاله، تعقبه كاتب هذه السطور فأبان
للحاضرين أن منازع الجمعيات ومقاصدها إنما تعرف من قوانينها، وأننا قرأنا
قانوني الجمعيتين، فلم نجد فيهما اختلافًا يوجب الحزازات أو الضغائن، بل وجدنا
أن الغرض واحد وهو خدمة الملة والأمة، ثم قلت: إن الأستاذ معذور لأنه ما قال
إلا ما سمع، ولكن كلام واحد أو آحاد من جمعية في أي شأن من الشؤون لا يجوز
أن يحكم به على الجمعية، كما لا يجوز أن ينسب ذنب المسلم أو المسلمين إلى
الإسلام نفسه، نعم إن أكثر الناس يتخذ كلام رئيس الجمعية حجة في مثل هذا المقام،
وأن الأستاذ لم يجتمع برئيس جمعية (شمس الإسلام) قط.
والصواب أن الرئيس والمرؤوس في هذا المقام سواء، ومقاصد الجمعيات إنما
تعرف من قوانينها كما قلنا، وإننا نصرح على رءوس الأشهاد بأن جمعيتنا وجمعية
(مكارم الأخلاق) سواء وكُلنا إخوان غرضُنا واحد، وتعقبته أيضًا بكلام وجيز في
حقيقة التوبة، والسبب في إصرار الناس على المعاصي والرذائل، وما هو إلا فساد
التربية والتعليم إلخ.
ثم قام صديقنا الفاضل المهذب الشيخ أحمد المحمصاني وألقى خطابًا وجيزًا في
تهذيب المرء نفسه، استشهد له بآثار السلف الصالح فأجاد وأفاد وحمده الحاضرون،
ثم ختم الاجتماع كما افتتح بالحمد والصلاة والدعاء لأمير المؤمنين ولأمير هذه البلاد
وتلاوة القرآن الشريف.
***
(المجاعة في الهند)
يقرب عدد الجائعين فيى الهند الذين تمونهم الحكومة من أموال إعانة المجاعة
نحو ثلاثة ملايين، ولم يزل المطر منحبسًا، فالرجاء في غلة هذا الشتاء ضعيف،
فنسأل اللطف من اللطيف.
***
(انخفاض النيل وتوقع الجدب ووجوب الاقتصاد)
اتفقت الكلمة وثبت رسميًّا عند الحكومة أن انخفاض النيل في هذه السنة لم يُعهد
له نظير في تاريخ النيل، ولا يزال الهبوط مستمرًّا حتى امتنع سير السفن في بعض
بلاد السودان، ويقال إن عمق الماء لا يزيد عن متر واحد قرب مروي , بل يقال: إن
الانخفاض شوهد في بحيرة فيكتوريا منبع النيل الأكبر بدرجة لم تعهد من قبل، فإذا
كانت العلة في المنبع فالأمر مخوف والخطر متوقع، والعياذ بالله تعالى، ولقد كانوا
يتشاءمون في بعض المجالس العالية من سنين كسنيّ يوسف عليه السلام، وقد سخر
الله تعالى في تلك السنين نبيًّا من أنبيائه عالج للمصريين ذلك الداء الدوي، ومن عساه
يعالجه في هذه الأيام؟ نعم إن سهولة المواصلات في هذا العصر تمكن التجار من
جلب الغلات إلى هذه الديار من جميع الممالك والأقطار، فلا يهلك الناس، ولكن التجار
لا يرحمون فقيرًا ولا مسكينًا، فأين المال عند هؤلاء الفلاحين الذين هم الجزء الأكبر
من سكان مصر، وإننا نراهم يبيعون أطيانهم ويرهنونها في وقت الرخاء
والخصب.
قدّر المقدّرون الأطيان التي لا يكون لها حظ من الريّ بسبب عدم وفاء
النيل في هذه السنة بنحو 300 ألف فدان؛ فاضطرب الناس لذلك اضطرابًا، فإذا لم
يكن وفاء - ونسأل الله أن يكون - في السنة القابلة وزاد الهبوط والنزول، فماذا
يكون من شأن الناس في هذه البلاد التي لا يدّخر أهلها الغلال ويعسر
فيهاالادخار لرطوبة أرضها أي عسر؟ ثم ماذا يكون من أمرهم اذا دام ذلك
سبع سنين كما كان في زمن يوسف لا قدّر الله ذلك؟ إنما غرضي من كتابة هذه
الكلمات الثقيلة على السمع المؤلمة للنفس , حث الناس على غاية الاقتصاد في
النفقات استعدادًا لما عساه يكون مخبوءًا لنا في المستقبل، فاذا وقع المحذور كان
العلاج موجودًا، فإننا في زمان لا يموت فيه جوعًا صاحب المال إلا إذا عمّ القحط
الدنيا كلها وإذا جاء - إن شاء الله - الخصب والإقبال، فلا تضرنا إضافة المال إلى
المال، وقد كنت كتبت في (المؤيد) الأغر مقالة مخصوصة في تنبيه أهل الزراعة
(وأكثر أهل مصر أهل زراعة) إلى وجوب الاقتصاد التام في النفقات والاستعداد
لما هو آت، وهذه نبذة مذكرة بتلك {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
***
(استعداد الدول الحربي ومطامعها)
السياستان الخارجية والحرية في الدول هما مظهران للتمويه والخداع،
ومجليان للمواربة والدهان، قيصر الروسيا هو الجدير بأن يسمى قيصر الحروب،
ولكنه أحب أن يلقب بقيصر السلام، فطلب من الدول وهو مجدٌّ في الاستعدادات
الحربية برية وبحرية أن يعقد مؤتمرًا للبحث في تقليل الاستعدادات الحربية وتخفيف
نكبات الحرب ومصائبها، بل والبحث في منعها والالتجاء للتحكيم عند النزاع وما
انفض المؤتمر إلا وزاد الاستعداد وقويت المطامع وامتدت، فإنكلترا اضطرت
الترانسفال إلى الحرب الحاضرة لتستولي على بلادها، فأرادت الروسيا اغتنام
الفرصة والاستفادة من اشتغال إنكلترا بالحرب بأخذ ميناء من مواني خليج العجم
وإنشاب براثنها في أحشاء هرات، أو إنشاء وكالة روسية في بلاد أفغانستان وسكك
حديدية في إيران، وقد ظهرت منها بوادر السعي لهاته الأماني في البر والبحر
كإرسال العساكر إلى حدود أفغانستان، ولا ندري ماذا تكون أواخره، وقد شاع أنها
استولت على جزيرة يابانية، وألمانيا قد زادت في ميزانيتها مبلغًا كبيرًا من المال
لتقوية البحرية التي هي أكبر أماني إمبراطورها الحازم، وقد احتفلت أخيرًا بإنزال
سفينتين عظيمتين إلى البحر اسم إحداهما (ديتشلاند) والأخرى (ألمانيا) وقد
خطب وزير الخارجية بيلوف يوم إنزال هذه خطبة قال فيها: (ولقد علمت ألمانيا أن
كل دولة ليس لها قوة بحرية تكون في مرسح العالم كالشخص الأخرس في مرسح
التمثيل) واليابان تبذل أيضًا في هذه الأيام الأموال الكثيرة لجعل قوتها البحرية
مساوية لقوى بعض الدول البحرية الكبرى في أوروبا فأوصت معاملها والمعامل
الأجنبية بعدة مدرعات، وتجتهد أيضًا في تحسين أسلحتها وزيادة جيشها، وتقول
إحدى الجرائد: إن الشهر الآتي موعد لنزول 20 بارجة إلى البحر، قوة كل واحدة
منها ستة آلاف حصان، وتسير في الساعة ثلاثين ميلاً لألمانيا منها عشر، ولإيطاليا
ست، ولروسيا أربع، وفرنسا قررت أيضًا زيادة أساطيلها وتقوية موانيها،
وتسعى في تعزيز مستعمراتها في إفريقيا والهند الصينية، وأما بريطانيا العظمى فقد
اجتمع رأي ساستها على تحسين حال الجيش البري وتقويته لما أظهرته هذه الحرب
فيه من الخلل والضعف وقال برسفورد ثاني قواد الأسطول الإنكليزي في البحر
المتوسط: (إذا استمرت الدول الأوربية على زيادة أساطيلها استمررنا نحن أيضًا
على الزيادة وسبقناها بمراحل؛ لأننا أسرع في بناء البوارج من مزاحمينا
والأموال والرجال كثيرة عندنا جدًّا) وقد جعلت هذه الدولة أساطيلها القوية على قدم
الاستعداد في كل آن إرهابًا للدول الطامعة التي ربما تنتهي بها الشماتة إلى العدوان.
وقرأنا في جريدة (بيروت) أن نظارة بحريتها قد أصدرت أمرًا بمنع إخراج الفحم
الحجري من المناجم الإنكليزية، وعدم إرساله بالمرة إلى فرنسا وروسيا وغيرهما،
وأكثر مناجم الفحم للإنكليز، فلا تستغني عنها دولة أوربية، فلا جرم كانت هذه
العقوبة شديدة.
__________
(*) العادة التي يجري عليها هذا الفقير في خطب الجمعية هي أن يقول ما يفتح الله به عليه من فهم الآيات القرآنية التي يفتتح بها القارئ الجمعية من عند نفسه , وكتاب الله كله حِكم وعِبر.(2/728)
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
__________
ذم الهوى
للأديب اللوذعي صاحب الإمضاء مصطفى صادق الرافعي
أجدك ما تصارعك المدام ... ويصرع قلبك الصب الغرام
وتظمئك المراشف كل آن ... وتقتلك المعاطف والقوام
لعمرك ما تجلّد مستهام ... بما يرضى ويبغي المستهام
ولكن شيمة الولهان صبر ... وإن أودى به الموت الزؤام
أيقتلك الظباء وأنت ليث ... ويسبيك ابن سام وأنت حام
تسهدك الدموع فلا منام ... وهل يرضى بعينيك المنام
وتصيبك الصبا والليل شيخ ... وتشجيك البلابل والحمام
تظل تلوم قلبك أن تسالى ... وتجزع أن يلم بك الملام
فداؤك صحة والداء داء ... وصحتك التي ترجى سقام
رويدك ما الهوى إلا هوان ... وهل يرضى العنا إلا اللئام
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام
ألنّ لك الحديث فلنت قلبًا ... وعهدي ما يخادعك الكلام
وكنت تذود نفسك عن حياض ... وقد وردت فما هذا المقام
أريش لها سهام صائبات ... ومثلك لا تراش له السهام
فطورًا يأسر القلب العذارى ... وطورًا يأسر القلب الغلام
سقطت وكنت ذا نفس عصام ... ولكن ماوراك يا عصام
أقال الله كن عبد الغواني ... حرام يا فتى ليلى حرام
تمر على المساجد غير باكٍ ... وتبكيك المنازل والخيام
ويذكرك الحمام إذا تغنى ... ولا ذكرى إذا غنّى الحِمام
أتطمع في السماء ولا رقي ... وما يُروى من الآل الأوام
فديتك ليس هذا عصر ليلى ... على ليلى من العصر السلام
قصور غير تلك وخندريس ... سوى تلك التي فيها الختام
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صادق الرافعي ...
__________(2/734)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(أخبار الأستانة العلية)
صدرت الإرادة السنية السلطانية بأن يُصنع في هذه السنة ستار الروضة
النبوية الشريفة من نفقة مولانا أمير المؤمنين الخصوصية على أحسن طراز وأكمله
إتقانًا، منقوشة عليه الأحاديث النبوية بأحرف من فضة، وهذا الستار يجدد في كل
ثماني سنين مرة، وصدرت الإرادة السنية أيضًا بترميم الروضة الشريفة وتزيينها
وزخرفتها، فأُرسل من الأستانة المهندسون لملاحظة هذه الأعمال، وصدرت إرادة
أخرى بإنشاء حوضين للماء في طريق الحجاج إلى مكة والمدينة المكرمتين.
***
(تقرير إصلاح المحاكم الشرعية)
يتشوف القضاة والموظفون في المحاكم الشرعية عمومًا وأكثر الناس الذين
يهمهم أمر بلادهم لا سيما فى أقدس المصالح وأهمها - إلى الاطلاع على تقرير
فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح هذه المحاكم وإمعان النظر فيما جاء فيه من
وجوه الإصلاح التي اتفقت الجرائد مع كل من اطلع على التقرير على استحسانها،
ولقد كنا ننشره تباعًا (كمصباح الشرق) ولكن مع حذف واختصار، ثم رأينا أن
تعميم فائدته تتوقف على طبعه كله منفردًا , وطبع لائحة المحاكم التي يتوقف فهم الكثير من جمله على مراجعتها معه، فشرعنا به وسيتم طبعه في هذا الأسبوع.
***
(اللواء والخلافة وانتقاد المنار)
كان لما كتبناه في الانتقاد على جريدة (اللواء) في الإرجاف بمسألة الخلافة
أحسن وقع عند الكبراء والفضلاء، واعترفوا لنا بأننا صدعنا بالحق ودافعنا عن
شرف مقام الخلافة الأعلى ومتبوّئ أريكته - مولانا السلطان عبد الحميد خان - أيده
الله تعالى - أحسن المدافعة ولم يختلف في هذا أحد، ولكن رهط الوطنية
المصطفوية - وقليل ما هم - قد استاؤوا خوفًا من أن يسد في وجوههم الباب
المفتوح. وأوعزوا - إلى بعض المتملقين أن يدافع عن اللواء في محفل عام، ففعل
ابتغاء رتبة أو وسام ينالها من مقام الخلافة الإسلامية الذي مست كرامته جريدة (اللواء)
وكنا نتوقع إن تحقق صاحب (اللواء) ظننا فتلصق وسواس الخلافة
العربية الإنكليز دون المسلمين، فبدا لنا ما لم نكن نحتسب حيث منع
إرسال (اللواء) إلينا خشية انتقاد آخر ...
__________(2/735)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسجد الحسيني
نشكر لحضرة الأستاذ الفاضل السيد علي الببلاوي نقيب السادة الأشراف
عنايته في رمضان هذه السنة بمنع القُصّاص الجهلاء من التدريس في المسجد
الحسيني , ومنع كثير من المنكرات الأخرى كالذين يخدعون العامة ببيع التعاويذ
والتمائم ونحوها، أو بتلقين الأدعية التي لم تؤثر في أوقات الصلاة، ويخترعون
لتعاويذهم وأدعيتهم فوائد ومنافع دينية ودنيوية ما أنزل الله بها من سطان ليأكلوا
أموال الناس بالباطل، ولقد صدق هذا السيد الفاضل في قوله لنا: إن البدع
والمنكرات العامة إنما تزال بالتدريج، والمرجوّ من غيرته أن يرتقي في هذا التدريج
حتى يُمحى من المسجد كل ما يأتيه الناس من تلك البدع والمنكرات، وحبذا لو عين
من قِبله رجلاً أو رجلين ممن طلب العلم ليتلقوا من يزور المقام الحسيني ولو في غير
أوقات الزحام ويعلموهم الزيارة الشرعية الموافقة للسنة السنية، فيبطل بذلك هذا
السجود مع الخضوع والخشوع وتقبيل الأعتاب والتمسح بعمود الرخام للاستشفاء
والتبرك، وإذا صارت الزيارة في المقام الحسيني شرعية فإنها بعد زمن من قليل
تعم مصر كلها، وإذا حصل مثل هذا أيضًا في المسجد الزينبي يكون الزمن أقل
والمدة أقرب.
قد ذكرت الآن أن لفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر العناية التامة
بالمسجد الزينبي، وهو رئيس المدرسين فيه، فإذا أمر بعض الموظفين في المسجد
أو أحدًا من غيرهم بأن يعلم الزائرين الزيارة الشرعية وآدابها، فليس هذا بكثير
على غيرته على الدين القويم.
وإذا طلب الشيخان من الأوقاف تعيين أجرة مخصوصة لمن يقوم بهذا العمل
فلا نظن أن الأوقاف تتوانى في الإجابة، وإن الرجاء في الشيخين الجليلين فوق ما
اقترحنا، وإن الله لمع المحسنين.
__________(2/735)
10 شوال - 1317هـ
10 فبراير - 1900م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طفولية الأمّة
وما فيها من الحيرة والغمة
لا همّ للطفل في أول عهده بالوجود إلا إرضاء شهوة البطن , يساق إليه
الغذاء فيُلهَم تناوله إلهامًا، ثم يعطى التمييز بالحواس الظاهرة ثم بالحواس الباطنة،
يكون فيه أولاً ضعيفًا ثم يقوى بالاستعمال تدريجًا، يطلب أولاً كل شيء يراه للأكل
قريبًا كان أم بعيدًا، ثم يطلبه لأجل اللعب، يجهل أولاً تحديد المسافات فيمد يده
إلى قمر السماء ويحاول القبض على الطيور في الهواء، ثم يشعر من تكرار الخيبة
بضعفه وعجزه، فيطلب مثل هذا من أبيه أو أمه لأنه يعهد منهما بالمعاملة في كل يوم
تحصيل رغائبه التي يعجز عنها، ثم يتم تمييزه لهذه البديهيات وينتقل إلى مبدأ
طور الفكر والتعقل وإدراك المصالح والمنافع في الجملة وهو طور بين الطفولية
والرجولية، ولكن الولدان يكونون فيه أقرب إلى ماضيهم من مستقبلهم فيؤثرون
ما يرتاحون إليه ويلتذون به على ما فيه كلفة ومشقة، وإن كانت المصلحة وحسن
العاقبة في هذا دون ما قبله، وينظرون إلى أنفسهم وحدها دون مَن يعيشون
معهم؛ لأنهم يتوهمون أن الإنسان مكلف بنفسه دون غيره، وأنه يمكن له أن يكون
سعيدًا بين الأشقياء وناعمًا بين ذوي البأساء والضرّاء، ولذلك كانوا أشد الحاجة
إلى الهادين والمرشدين الذين يثقفونهم ويربونهم مستعينين عليهم بهدي الدين
وحوادث الكون والوجود , وإلا انتقلوا إلى طور الرجولية بحيوانيتهم دون إنسانيتهم
وبأجسامهم دون أرواحهم وأحلامهم.
وبعد، فإن هذا العدد العظيم الذي يبلغ ثلاثمائة ألف ألف أو يزيد، الذي نسميه
الأمة الإسلامية قد أمسى بحالة من الضعف الصوري والمعنوي والفقر المادي
والأدبي يستحي من ينتسب إليه من وصفها وشرحها , وقصارى ما نقول فيه: إنه لا
يسمى أمة إلا بضرب من التجوز كما تسمى صورة الأسد المرسومة في الجدار أسدًا.
فقد كان المسلمون - وهم أقل الأمم عَددًا وعُددًا - أعز الأمم وأقواها وأعلمها
وأغناها، ثم انقطع السلك فتناثر الحب وبطل إطلاق اسم العقد عليه إلا إذا لوحظ ما
كان دون ما هو كائن، ويظن الجاهلون أنه لا رجاء في نظم العقد ثانية وانتظام
شمل المسلمين، ويعتقد الذين لا يقنطون من رحمة الله ولا ييأسون من روحه أنه
لابد أن ينجز لهذا الدين وعده {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه} (التوبة: 33) فيستمر
ظهوره وغلبته إلى آخر الزمان، وقد ورد في الخبر: إن أمة النبي صلى الله عليه
وسلم كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره، بل ورد أيضًا أن الخير فيه -عليه
الصلاة والسلام- وفي أمته إلى يوم القيامة.
قد أتى على الأمة حين من الدهر والخير فيها يقل والشر ينمو , حتى وصلت
إلى ما هي فيه اليوم، وإننا نرى الآن في جوّها المظلم بالفتن برقًا يومض بين
الغيوم المتكاثفة، ويوشك أن يعم فيكون الظلام نورًا، وأقول كما قال حكيمنا:
إنني أرى في هذه الشجرة اليابسة - الأمة الإسلامية - ورقات خضر ولا أدري هل
هي من بقايا حياتها الأولى أم هي مبدأ حياة جديدة؟ وأزيد على هذا ترجيح
الشق الثاني بدليل أن الورقات تزيد ولكنها عرضة للتصوّح والسقوط بما يهب عليها
من بوارح المحن وزعازع الفتن , إذا لم تُحَط بالتربية الصحيحة، ولذلك شبهت
الطور الذي فيه الأمة الآن بطور الطفولية، ونبهت إلى شدة الحاجة إلى المربين
والمثقفين.
أليس السواد الأعظم مِنَّا لا يهمهم إلا لذّاتهم وحظوظهم الشخصية كما هو
شأن الأطفال؟ ! هل يفقهون معنى الأمة ويعلمون ما هي المقومات التي تقوم
بها، والروابط التي تجمعها والأمر الذي تؤمه وتقصده؟ هل يتفكرون في الحياة
الاجتماعية وما يعرض عليها؟ كلا إن من يتجاوز فكره محيط شخصه فلا يعدو بيته
وولده وهو في هذا لا يمتاز على الأنعام، وإذا ذكرهم مذكر ونبههم منبه حارون
وتضطرب أفكارهم، ولا يكادون يفهمون الحقيقة , وهم الآن على درجات: فمنهم
مَن لا يفكر في معنى الأمة قط، ومنهم مَن يرى البعيد قريبًا كالطفل الذي
يمد يده لتناول القمر كما جرى ويجري لبعض الحكام وأصحاب السلطة , كإسماعيل
باشا وأصحاب الفتنة العرابية، ومنهم من يرى نفسه عاجزًا عن كل شيء ,
ويرى الحاكم قادرًا على كل شيء كما هو شأن الطفل الذي يطلب القمر أو الطير
في الهواء من أمه أو أبيه، ومنهم من يفتكر في المصالح والمنافع التي تخص
الأمة ويعذل المقصرين وهو منهم ولكنّه يغضّ الطرف عن عيوبه، وينظر إلى
عيوب الناس بالنظارة المعظمة، وإذا عمل فإنما يعمل لشخصه، وإذا وقعت
مصلحة الأمة في طريقه داسها ومضى في سبيله كما هو شأن الولدان في أول طور
الفكر والتعقل، ومنهم الذين دعوا إلى الاجتماع لأجل العمل فاجتمعوا فصاح بهم
صائح الفتنة فتفرقوا (كنبأة أجفلت غفلاً من الغنم) أو كالصبيان يجتمعون للعب فينعق
بهم ناعق فيتفرقون (أيدي سبا) لأنهم لم يتربوا على الاجتماع، ولا يقدرون
الأعمال الاجتماعية قدرها، وليس عندهم شيء من أخلاق الرجال، كالصبر والثبات
والاحتمال، نقول في الأمة (المجازية) ما قلنا في في شأن الأطفال: إنها في أشد
الحاجة إلى المرشدين والمربين الحكماء العارفين بالأمراض الاجتماعية وأدويتها
وطريق علاجها لتكون بهديهم أمة (حقيقية) وقد يوجد فيها أفراد منهم يشاركهم في
عملهم أكثر منهم من المتصدرين الجاهلين يهدمون ما يبنون ويفسدون
ما يصلحون {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} (المجادلة:18)
وقد صار هؤلاء الأطفال في أحلامهم الرجال في أجسامهم في حيرة،
وغُمَّ عليهم الأمر باختلاف المرشدين، ويميل الأكثرون إلى من لا يكلفهم عملاً ولا
يلصق بهم عارًا ولا زللاً، وسنبين مثارات الحيرة ومناشئ الغمة في مقالة أخرى
إن شاء الله تعالى.
__________(2/738)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(20) من هيلانة إلي أراسم في 31 يونية سنة - 185
أكتب إليك أيها العزيز أراسم قيامًا بما أخذته على نفسي من إحاطتك علمًا بما
أفعل وما أرى وما أسمع , فأقول:
اتفق لي منذ بضعة أسابيع أن كنت في بيت صديقك الدكتور فرأيت عنده رجلاً
من أيقوسيا وهو شيخ طويل نحيف , علمت أنه من أصدقاء ذلك البيت، وأنه غادر
بلاده لأسباب مجهولة عندي، ولكونه لا يستطيع المعيشة بعيدًا عن منظر البحر
والصخور والرمال قد نزل بكورنواي إلى حين. يبدي هذا الرجل من التنطع والتشدد
في آدابه وهيئات أفعاله ما لو أبصرته الفرنساويات لضحك عليه كثير منهن على ما
أرى، فإنه إذا سعل يسعل بانتظام وإذا دخلت عليه سيدة في قاعة الاستقبال وثب
قائمًا كأنه حرك بلولب وأقبل بوجه فيه من تكلف الوقار والرزانة ما يحاكي تكلفه في
شد رباط عنقه وإتقانه، ومهما كانت حاله فهو هنا محترم مبجل ولا غرو، فإنه
ساح في كثير من البلدان ويحسن التكلم بالفرنساوية، ولديه بحسب ما أرى ذخر
عظيم من المعارف، يسمّى الرجل السر جون سانت أندروز وأخص ما اشتغل في
سياحته البحث في التربية وزيارة مدارس إنكلترا وأيقوسيا وقارة أوربا , وجملة
قولي فيه: إن حديثه يهمني ويفيدني، ولما كنت أعلم أن موضوع أنظاره وأبحاثه
داخل في نوع ما تبحث فيه وتشتغل به أصغيت إليه لأجلي وأجلك.
فممّا قاله لي: إان الناس في بريطانيا العظمى يهتمون قبل كل شيء بإنماء
القوى الجسدية في الناشئين، فبالرياضات البدنية تنشأ أعضاؤهم من صغرهم قوية
تناسب الرجولية وتهيئ أجسامهم لخدمة عقولهم وعزائمهم؛ وهذا هو سبب عنايتهم
بالرياضات والألعاب التي تخالف ما عندنا مخالفة جوهرية.
نعم إنه يوجد في المدارس الإنكليزية ما نسميه في مدارسنا الفرنساوية فن
التمرين البدني (الجمباز) إلا أن التلامذة الإنكليز لا يرغبون فيه كثيرًا ويفضلون ما
يكون في ألعابهم من التمرن والارتياض على ما في هذا الفن من أنواع التدريب
المنتظمة التي تحصل عن أمر المعلم وتحت رعايته، فهم يختارون بكمال حريتهم ما
ترتاح إليه نفوسهم من ألعاب المصارعة والمغالبة، فلهم في ألعاب الكرة التي منها
ضربها بالصولجان، ومنها دحرجتها على الأرض، وفي العدو والملاكمة وغيرها
من طرق التسلي وسائل متنوعة تنمي فيهم قوة الأعضاء وتجعلهم يزدادون بالتعب
شدة وصلابة.
فأنّى يوجد بعد هذا رعايا أكمل من الإنكليز استعدادًا للمصارعة والكفاح؟ أليس
الإنكليز هم أول الناس اقتحامًا لقمم أعلى الجبال المعروفة؟ أليسوا هم في الهند
وأستراليا وزيلاندا الجديدة وفي جميع بقاع الأرض التي فيها أخطار تقتحم يقاومون
صعوبة الإقليم والعوارض الكونية والأمم الوحشية؟ فأيّ أثر للعقبات الطبيعية في
تلك العزائم الثابتة التي تقوم لها بمطالبها عضلات هي الحديد بأسًا
وشدة.
لم يوضع القانون في معاهد التعليم والتربية الإنكليزية إلا لما تدعو إليه
الضرورة المطلقة من حفظ النظام فيها، يدلك على ذلك أن مدير مدرسة من المدارس
الكبرى كان قد أمر مرة على خلاف عادته أن تراقب التلامذة في ملعبهم، لكنه لم
يلبث أن تبين خطأه في هذا الأمر، وندم عليه واعترف من ذلك الحين بأن هذا
التضييق كان يميل بأنفس الناشئين إلى الانحطاط ميلاً ظاهرًا.
التلامذة الإنكليز في ساعات الاستراحة من الدرس أحرار، فلهم أن يخرجوا
ويتنزهوا في المدينة التي يكونون فيها أو في المزارع، غير محتاجين في ذلك إلى
أحد يرشدهم أو يراقبهم، فيمضي كل منهم إلى حيث يشاء، ولا يطالبهم معلموهم إلا
بأمر واحد وهو أن يكونوا في سيرتهم كما يكون سراة الناس أدبًا ولطف معاملة،
والكلمة المقابلة في اللغة الإنكليزية للفظ سراة هي (جنتلمين) ومن الصعب ترجمتها
بالفرنساوية ويعني بها مَن بلغوا غاية الكمال في التربية والتهذيب، فإن وصف
الشرف والسيادة يستفاد من التربية أكثر من استفادته من النسب، فقد ينسلخ عمن ناله
من جهة النسب ولو في نظر غيره إذا هو تلبس بسافل العادات وسفساف الأخلاق،
من أجل هذا كان الخوف من انحطاط القدر وسقوط المنزلة في أعين أهل الفضل
والأدب له من السلطان حتى على نفوس الناشئين ما لا تبلغه جميع أنواع المراقبة التي
يتصورها العقل، يقول الإنكليز: (إذا أردت أن يصبح ابنك رجلاً في طفوليته فعامله
معاملة الرجال) وهذا هو الأصل الذي يجرون عليه في التربية.
إني أخالك تندهش إذا لاقيت عددًا عظيمًا من الغلمان الإنكليز في السفن
البخارية والمركبات العامة وأرتال السكك الحديدية يسيحون وحدهم بإذن أهليهم
زمن عطلة المدارس وهم في حداثة السن، ولكنهم على ما في هذا من الخطر
يعرفون كيف يتوقون المعاطب وكيف يعودون إلى مواطنهم، ويقول الإنكليز تعليلاً
لذلك - فوق ما تقدم - أنه هو الوسيلة إلى استقلال هؤلاء الغلمان يومًا ما بسلوك
طريق الحياة في هذه الدنيا.
يثق الإنكليز بالأطفال ثقة عظمى، فإذا أخلّ بها هؤلاء أحيانًا فلا بدع في ذلك
لأن مَن يرجو منهم أن يكونوا من الحكمة والدراية في درجة أعلى مما يقتضيه سنهم
فهو واهم في معرفة الطبيعة البشرية إلا أنه قد شوهد أن ما يقع منهم من الخطأ يسهل
أن تسد ثلمته، أما تثقيف ما اعوجّ من الطباع بسبب سوء الظن والقهر فهو في غاية
الصعوبة.
لا بد أن يكون لهذا النوع من التربية قوة معنوية تتأثر بها نفوس الناشئين، فإني
أراهم هنا أهلاً لأن يديروا بعض أعمال تقتضي كثيرًا من وفرة العقل وتمامه، وقد
ضرب لي في هذا الموضوع مثلٌ بتاجر من كبار التجار في لوندرة كان مذ بلغ
الرابعة عشرة من عمره يجوب شوارع المدينة متأبطًا محفظة مملوءة بأوراق
المصارف (بنك نوت) ويعامل وهو في هذا السن عدة من المحال التجارية باسم
أبيه، وليس ما يلقيه الإنكليز في أذهان أولادهم وهم صغار من الثقة بأنفسهم
والاعتماد عليها قاصرًا على ما يكلونه إليهم من الأعمال التجارية والصناعية، بل
إنه يشمل أيضًا الفنون العقلية كالشعر والإنشاء وغيرهما من الصناعات الفكرية،
نعم إن الإنكليز ليسوا بلا ريب أحسن ولا أعلم من غيرهم، ولكنهم لتعودهم من
نعومة أظفارهم الاستقلال في سيرهم بمعارفهم الذاتية وتحملهم تبعة أعمالهم -
يظهرون في كل شيء أكثر مِنَّا قيامًا بأنفسهم، وإذا لم أُبالِ بالتصريح بكل ما أريده
قلت: إنهم أقل مِنَّا شبهًا بخراف بانورج [1] .
الساعات المقررة للدروس في المدارس الإنكليزية هي في الجملة أقصر منها
في المدارس الفرنساوية، ويؤكد الناس هنا أن هذا الأمر لا ينقص من نجاح التلامذة
ولا يضر بتقدمهم كما قد نتوهمه؛ لأن الطفل لا يقتصر في تعلمه على ما في الكتب،
بل إنه يتعلم كذلك مما يراه أثناء تنزهه في المشاهد الجميلة والمناظر الأنيقة
ويستفيد استفادة حقيقية مما يكون بينه وبين رفاقه من المحاورات والمحادثات وما
يتلقاه من أهله من الدروس النافعة في المعيشة اليومية، فهل من الضرورة المؤكدة أن
يغلّ عقل الطفل من الصباح إلى المساء حتى يكون من مشاهير الرجال؟ ! لا يعتقد
جيراننا ذلك قطعًا بل يرون أن في راحة التلامذة - أي ترويح نفوسهم بالألعاب
الرياضية المتنوعة - شحذًا لأذهانهم وتقوية لعقولهم.
وهم في تأييد هذا الرأي يضربون مثلاً مدارس قللت أيضًا في هذه الأيام الأخيرة ساعات الدروس في فرقها وشغلت التلامذة فيما وفرته منها بأعمال
يدوية نافعة، فضاعفت بذلك فيهم قوتي التنبه والحكم، إذا كان هذا كذلك كان ما
صرف من الزمن في تلك الأعمال غير ضائع، بل عائدًا بالربح على التلامذة في
استفادتهم من الدروس لأن نجاحهم لا يقدر بطولها، وإنما يقدر بسهولة إدراكهم ما
فيها من العلوم وتحققهم بها.
إن أخص غاية يرمي إليها الإنكليز في التربية هي سلامة العقل، وهم يقولون
ساخرين: ما أجمل ما يعود على الطفل من الفوائد والمزايا إذا كان القائمون على
تربيته يُضعفون فيه الأعصاب المعدة للإدراك والفهم بالإفراط في إجهادها ويغيضون
ما في عيون قريحته من مادة الذكاء الغزيرة بِحَثِّه على العمل لإحراز ما لا ثمرة فيه
من قصب السبق في امتحاناته، فكم من السابقين في هذه الامتحانات يأكلون بهذه
الطريقة ما يزرعون قبل إبان صلاحه أعني أنهم ينفقون كل ما لديهم من المواهب
العقلية قبل أن يصلوا إلى ثمرتها.
ليست العبرة عند الإنكليز بتعليم المعلمين، بل العبرة بما يعمله التلميذ ويتعلمه
بنفسه، ومما يحكى تأييدًا لصدق هذه القضية أنه كان يوجد في إحدى دوائر الخوارنة
بأيقوسيا مدرسة فيها قسمان من التلامذة داخلي وخارجي، وكان جل عناية صاحبها
موجهًا للقسم الأول ضرورة أنه هو الذي كان يعتمد عليه أولاً في إنماء كسبه، ومن
أجل هذا كان يقضي مع تلامذته كل سهرته في إعدادهم لتلقي درس الغد , ولكن
أتدري ماذا كان يحصل في مدرسته؟ كانت تلامذة القسم الثاني وهم من أبناء فقراء المزارعين الذين يسكنون الكفور والخصاص المجاورة للمدرسة على ما هم
فيه من حرمانهم من مُعيد يُكرر لهم الدروس واشتغالهم بأعمالهم المدرسية في
زوايا تلك الخصاص على ضوء نارها في غفلة من أهليهم عنهم - كانوا يَظهرون
عادة على تلامذة القسم الأول ويفوقونهم كثيرًا مع إجهاد مدير المدرسة نفسه في
تقويمهم وتمرينهم، فعظمت بذلك دهشة ذلك الرجل ولكنه لما كان ذا لُب وفكر أخذ
يبحث عن سبب هذا الأمر الذي ملأه سآمة وضجرًا، فلم يلبث أن عرفه وهو أن
التلامذة الداخليين كانوا يفرطون في الاعتماد على تعليمه إياهم التعليم الآلي الذي
لا عمل لفكرهم فيه، ويشتغلون لكن لا بأنفسهم بل كآلات يديرها محركها، وأما
التلامذة الفقراء سكان الأكواخ فلما كانوا مضطرين إلى حل رموز ما يتعسر عليهم
فهمه من المسائل بأنفسهم كانت أذهانهم في تيقظ، ولذلك كانوا يشحذون قرائحهم
ويقوّون مداركهم بالمناقشة والمنافسة، وكان في انقطاع المعلم عن رعايتهم أثناء
مدارستهم الليلة مزية لهم، فلا جرم أنهم سبقوا إلى المقاعد الأولى في فرقهم نهارًا،
استفاد المعلم من هذه الحكمة التي أهدتها له التجربة فترك من ذلك الحين التلامذة
الداخليين وشأنهم مقتصرًا على أن يعطيهم كغيرهم مواد العمل وأدواته مثل كتاب في
النحو وقاموس، وكان من وراء ذلك أنهم لم يلبثوا أن ساووا أقرانهم في درجتهم،
تعلم من ذلك أن شأن جيراننا في التربية كشأنهم في جميع الأمور الدنيوية، وهو أنهم
يرجون من عمل المرء بنفسه من الخير ما لا يرجونه من وسائل المعونة والمساعدة
كائنة ما كانت، فشعارهم فيها هو (استعن بنفسك يعنك معلمك) .
ربما كان أهل إيقوسيا أيضًا أكمل من الإنكليز عناية بأمر التربية، فقد اشتغلوا
به كثيرًا في هذه الأيام الأخيرة.
يوجد في إيدنبورج على ما سمعت مدارس ابتدائية لا يكتفي فيها المعلمون
بتعليم التلامذة مواد العلوم، بل إنهم يبذلون قصارى جهدهم في تأديب طباعهم
وتهذيب أخلاقهم، فهم يعملون لتطهير نفوسهم من خبيث الرذائل كالأثرة والغش
والظلم والكذب والقسوة على الحيوانات، وليست طريقتهم في ذلك مجرد إلقاء
القواعد والتعاليم المبهمة المجملة، بل إنهم يرجعونهم إلى وجدانهم الفطري،
ويذكرونهم بشرف الإنسان وسموّ منزلته على سائر أنواع الحيوان، فالأطفال في
هذه المدارس هم الذين يحكم بعضهم على بعض في كثير من الأحوال، ويقدرون
بأنفسهم درجة أفعالهم في الحسن أو القبح.
ولو شئت لسردت لك كثيرًا من الحكايات في هذا الموضوع، ولكني أكتفي بأن
أقص عليك واحدة منها ليكون في ذهنك صورة لتلك الطريقة فأقول:
تأخر تلميذان ذات يوم عن الوقت المقرر لدخول المدرسة بربع ساعة وهما
أخوان في الرابعة أو الخامسة من عمرهما، فقرر المدير أن يُسئلا عن سبب التأخر
ويُقبلا في فرقتهما بلا عقاب إن أبديَا عذرًا صحيحًا، وجعل الحكم على صحة العذر
وفساده للمدرسة بتمامها كما هي العادة عنده في جعلها محكمة شرف تقضي على
التلامذة ولهم فيما يفعلون، فلما مَثُل المتهمان الصغيران أمام هذه المحكمة اعتذرا
متعاقبين عن تأخرهما بأنهما صادفا في طريقهما دودة غليظة لم يكونا رَأيَا لها نظيرًا
في حياتهما؛ فراعهما منظرها ومُلِئا منها عجبًا؛ لأن هذه الحشرة كانت تتمثل في
أشكال وأوضاع غير معهودة لهما، فكانت تارة تقف على ذيلها وطورًا تمتد على
الأرض وآونة تكون ذات أثناء ملتوية، وأنهما بينما كانا يصرفان زمنهما في
مشاهدتها كانت تنساب حتى بلغت عوسجًا فغاب عنهما أثرها فيه , فلم يمهلهما المدير
ريثما يتمان قولهما، بل سألهما: لماذا لم تقتلا هذه الدودة؟ فحدّق إليه الغلامان ولم
يحيرا جوابًا، فاستأنف السؤال قائلاً: أما كان لديكما من الوسائل ما يعينكما على قتلها
حتى كنتما بذلك تقطعان سبب إبطائكما في الطريق؟ فقال له أكبرهما: بلى كنا
قادرين على قتلها من غير شك، ولكنّا لو كنا أتيناه لكان ذلك مِنَّا شرًّا وقسوة، فقوبلت
هذه الكلمات من جميع الحاضرين بالاستحسان والتحبيذ وحكم ببراءتهما من التقصير.
من ذا الذي لا يرى في محاكمة الطفل إلى لداته وأقرانه جرثومة وضع
المحلفين [2] الذي يعتبره جميع العارفين به معقلاً يذاد فيه عن حِمى الحرية بجميع
أنواعها في إنكلترا وأيقوسيا؟
لا شك أن هذا أخذ بالناشئين في طريق الوصول إليه وإشراف بهم عليه من بعيد
ولا بدع، فإن جيراننا يزعمون أن التبكير في تربية وجدان التكليف في نفس الطفل لا
إفراط فيه يذم مهما توسع في التعجل به، ففي رأيهم أنه متى أريد أن تكون الحكومة
على صورة ما يجب أن تهيأ لقبولها نفوس الناشئين، وأن ما يحفظ القانون ويضمن
بقاءه من أنواع الكفالات لا يستقر إلا بارتياض الناس به من بداية عمرهم ودوام
اعتيادهم عليه، ومما أذكره هنا ما قاله لي الشيخ الأيقوسي الذي حدثتك عنه وهو:
(أنا لا أشير على أي بلد باختيار طريقتنا في التربية ما لم يقارنه زرع ما لدينا
من ضروب الحرية في نفوس أهله، فنحن في بلادنا نحتاج إلى رجال مطبوعين
على حب الاستقلال موافقة لما تقتضيه قوانينا وأوضاعنا أكفاء لإطالة مدة بقائها بما
يكون منهم في سبيل ذلك من المجاهدة الشديدة، وإن طريقتنا في تربية الأطفال إذا
اتبعت في غير بلادنا نشأت عنها رعية يتعذر حكمها وسياستها) . اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بانورج هو أحد الممثلين في رواية هزلية للكاتب الشهير ربلي وله خراف علمها تقليد خروف لممثل آخر في هذه الرواية اسمه دندينولت انتقامًا منه فصار يضرب بها المثل في التقليد.
(2) وضع المحلفين هو نظام مقتضاه انتخاب طائفة من أهل الوطن يحلفون على اتباع الصدق والأمانة , وتعرض عليهم القضايا الجنائية ليقرروا آثمية المتهمين أو براءتهم.(2/740)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع العام
في جمعية شمس الإسلام
انتظم عقد الاجتماع العمومي في ليلة الإثنين 28 رمضان، وافتتحت الجمعية
بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه والدعاء لمولانا أمير المؤمنين، ولأمير هذه البلاد
ثم قرأ القارئ في الافتتاح آيات شريفة فيها ذكر الأمر بالعدل، فقام كاتب هذه
السطور خطيبًا في العدل، بينت أولاً أن العدل هو التوسط في الأمور والوقوف بين
طرفي الإفراط والتفريط، وأن كثيرًا من الناس يظنون أن العدل إنما يكون في الأحكام
فقط، والمعروف في علم الأخلاق أن الفضيلة هي العدل (ويقولون العدالة أيضًا)
في الأخلاق والسجايا كلها، والصواب أن العدل كما قال العلامة البيضاوي يكون في
الاعتقادات والأخلاق والأعمال، كما يكون في الأحكام، أما في الاعتقاد فكالتوحيد
المتوسط بين اعتقاد الجبر وزعم أن الإنسان لا عمل له وإنما هو كالريشة في الهواء
تحركه الأقدار كما تحركها الرياح، وبين اعتقاد القدر بمعنى أنه خالق لأعمال نفسه
مستقل فيها تمام الاستقلال، وأما في الأخلاق فقد توسعت في البيان وأطلت الكلام،
حيث بينت قوى النفس الشهوية البهيمية، والغضبية الوحشية، والعاقلة الإنسانية أو
الملكية، وبينت الإفراط والتفريط في القوتين الحيوانيتين، وما ينشأ عنهما من
الأخلاق التي تهبط بصاحبها إلى حضيض البهائم، فيكون كالخنزير لا همّ له
إلا في شهوة البطن أو ... أو كالكلاب الكلبة والوحوش الضارية لولعه بالإيذاء
والبغي والتعدي، أو الأخلاق التي يضعف بها الإنسان عن حفظ شخصه ونوعه
والذود عن حوضه، وأطلت الكلام هنا على الجبن الذي ما فشا في أمة إلا ونسف
هيكل مجدها وقوّض صرح عزها، وثل عرش سيادتها واستقلالها، ثم بينت كيف أن
الفضيلة في العدل والتوسط في ذلك كله، ثم انتقلت إلى شرح الإفراط والتفريط
والتوسط في القوة العاقلة، وكيف يكون المرء بالأول شيطانًا ماكرًا مخادعًا يتعمق
في الرأي والفكر فيخطئ كالرامي إلى حد معين يجتهد في إبعاد الرمي فيخطئ المرمى
وبالثاني فدمًا لا يفهم وحيوانًا لا يعقل، وبالثالث عاقلاً حكيمًا صحيح التصوّر مصيبًا
في الحكم، وضربت في بعض القول المثل، ثم تكلمت في العدل بالأعمال
بالاختصار؛ لأنها في الغالب تابعة للأخلاق وتعرف بها، وأما العدل في الأحكام فقد
اعتذرت عن الخوض فيه بأنه مخصوص بالحكام، ونظام الجمعية لا يسمح لي
بانتقاد أحكامهم على أننا معاشر المسلمين نعتقد كافة أن العدل لا يوجد بكماله إلا في
شريعتنا، ونعلم ما أخذ به حكامنا وما تركوه منها، ونحن في مجلس وعظ ديني ينبغي
أن يخاطب الناس فيه بما يفيدهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم.
وانتظم عقد الاجتماع العمومي أيضًا في ليلة الإثنين الماضية 5 شوال، وبعد
افتتاح الاجتماع بالحمد والصلاة والدعاء قرأ القارئ قوله تعالى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ
رَبِّك} (النحل: 125) إلى آخر السورة، فخطبت في موضوع الآيات خطابًا لا
يسع المقام الإشارة إلى أمهات مسائله، لكنني أقول: إننى أسهبت في الكلام على
الصبر وكونه متحتمًا على الذين يقومون بخدمة الأمة ويعملون لها، فيعارضهم
أعداء الإصلاح الذين يحاربون الحق الصريح بالوهم القبيح، وذكرت بمناسبة قوله
جل وعز: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا
يَمْكُرُونَ} (النحل: 127) بعض ما كان يقاسيه عليه أفضل الصلاة والسلام من
الكافرين والمنافقين الذين يمكرون السيئات: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: 107) وإنما أسهبنا في هذا لأجل تثبيت أنفسنا
وإخواننا بالتأسي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن أعداء أنفسهم من
اللابسين لباس المسلمين طفقوا يخوضون بجمعية (شمس الإسلام) وبهذا الفقير
خاصة ويتقوّلون علينا الأقاويل، كما هو شأن الظالمي أنفسهم في كل زمان ومكان،
من ذلك أنه وقف عليّ رجل من هؤلاء في الدرس الذي كنت ألقيه في المسجد
الزينبي بإذن فضيلة شيخ الأزهر فسمعنى قلت للناس: (قال نبيكم ... ) فخرج
يقول: إن رشيدًا ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل: نبينا، على
أنني لم أبتدع هذه الكلمة، وإنما حفظتها من الخطب المنبرية وهي التي ألّفها خطباء
الحرم النبوي الشريف، والخطباء في سائر البلاد يحكونها عنهم، قال جاد المولى
في خطبه المتداولة في هذه البلاد والبلاد الشامية حاكيًا عن أهل المدينة المنورة:
(إذ قال خطيبهم على أعواد منبره جهرًا: قال نبيكم هذا من صلى عليّ مرة صلى
الله عليه بها عشرًا) وقال أيضًا: (إذ قال خطيبهم مبشرًا بمزيد الفضل والمنة،
قال نبيكم هذا: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وسعى آخرون
بي إلى المقامات العالية وقالوا كذبًا، وخلقوا إفكًا، فلم يقبل قولهم، بل سقطت
بسببه منزلتهم، وقد أشهدت الله علي وأشهدت إخواني في الخطبة على أنني قد
تصدقت بعرضي على من خاض ويخوض فيّ وسامحتهم، وأسأل الله صلاح حالي
وحالهم، وإنما يبالي بسعي الساعين، وتقوّل المتقولين من يعمل لأجل تحصيل المال
أو الجاه من الأمراء والعظماء حيث يخشى أن تصدق السعاية فيفوته المطلوب، ومَن
يعمل لله تعالى وهو يعلم أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فكيف يبالي
بالمحْل والزور؟
ثم قام في أثري أخونا الفاضل المهذب الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي
وألقى على المسامع بعض المواعظ النافعة المؤيدة بآثار الصحابة عليهم الرضوان،
ونبّه على وجوب معرفة المرء مكانته من الناس ومكانتهم منه وفاقًا لما عرف به
حكيمنا العلم الذى نحن في أشد الحاجة إليه لترقينا حيث قال: (العلم هو ما يُعرِّفك
من أنت ممن معك) فأوجز وأفاد ودعا إلى سبيل الرشاد، فجزاه الله خيرًا.
ثم قام هذا الفقير في إثره وتكلم في موضوع القول والعمل كلامًا ملخصه: إن
للناس في كل وقت مقالاً يكثرون الثرثرة به، وقد فتح عليهم في هذه الأيام باب الكلام
في الإسلام والمسلمين، فقوم يكتبون ويخطبون، وقوم يقرءون ويسمعون فيفندون
قليلاً ويحبذون كثيرًا، على أن أكثر الكلام لغو لا يهدي إلى صالح عمل، ولا يقوّم من
زيغ أو زلل، والميزان الذي يعرف به زيف الكلام من نضاره، ويميّز به بين نافعه
وضاره، هو أن ما أزال عقيدة باطلة أو أثبت عقيدة حقة، أو أرشد إلى عمل نافع،
أو هدى إلى النجاة من ضرر واقع، بحيث تقتنع به النفس وتندفع إليه الإرادة - فهو
الكلام الذي يسمع، والهدي الذي يرفع، وما عداه هو اللغو كشرح ما عليه الناس
ويعرفونه من أنفسهم، أو الأمر بما يعرف المرء أنه مأمور به من قبل الدين، والنهي
عما يعلم أنه منهي عنه من غير أن يؤيد بيان المنافع التي تبعث على الامتثال وشرح
المضار التي توجب النفار، وسردت الآيات الشريفة التي تأمر بالإعراض عن
اللغو.
ثم قام حضرة الأخ الفاضل سيد أفندي محمد وتكلم كلامًا وجيزًا مؤثرًا في
الوفاق والوئام وعدم التفرق والاختلاف، وأورد على ذلك الآيات البينات، فكان له
وقع حسن في النفوس، وبعد ذلك خُتمت الجلسة كما بُدئت بالحمد والصلاة، والدعاء
للسلطان الأعظم والأمير المعظم ولمؤسسي الجمعية وتلاوة الآيات القرآنية الشريفة.
ثم إن مجلتنا مستعدة لنشر المآثر التي تقوم بها لجان جمعية (شمس الإسلام)
في جميع أنحاء القطر المصري، فما عليهم إلا أن يكتبوا إلينا بما يرغبون نشره.
__________(2/746)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(المعارف والأمة والحكومة)
نشر (المؤيد) الأغرّ في العدد 2692 رسالة لمكاتبه في الأستانة العلية بحث
فيها صاحبها في وسائل الارتقاء وحث الأمة الإسلامية على الأخذ بها، فأصابت
مواقع الاستحسان من نفوس القارئين، وقد نبهت جريدة (الشام) الغرّاء على هذه
الرسالة في عدد 179 وشكرت لكاتبه عنايته واعترفت بحسن قصده , إلا أنها
استنكرت من الرسالة أعرف ما فيها وأفضله وأجدره بالعناية والشكر فقالت: إلا أننا
رأينا عبارة مستنكرة، وذلك عند قوله: (إن في دار السعادة جمعيات ومجالس لجميع
الأمم، وهذه الجمعيات والمجالس تشتغل دائمًا لتشييد المدارس، وفي
سائرالمشروعات المفيدة، أما المسلمون فقلّ بينهم مَن يلتفت لمثل ذلك، وليس بين
الجرائد مَن يذكر عبرة تعتبر بها الأمة) اهـ إنكارها بحروفه.
ثم ردت هذه الجريدة على العبارة المستنكرة بقولها: (نقول: إن المكاتب قد قال
ما قال عن غير خبرة، فإن الحكومة السنية عنيت بأمر المعارف كثيرًا حتى أسست
المدارس العالية والمتوسطة والابتدائية، وهذه مدارس الأستانة العلية تُخرِّج كل عام
مئات من الطلبة، وقد امتلأت عقولهم بالعلوم المتنوعة والمعارف، وتحلت نفوسهم
بالأدب والكمال، وهل أعظم دليل على إتقانهم تلك العلوم الحكمية والطبيعية
والرياضية والأدبية من تلك الشهادات العظيمة التي يأخذونها من تلك المدارس،
وليس بعد ما تقدم على الأهلين أن يسعوا أبدًا (تأمل وتعجب!) فإن الحكومة السنية
قامت أحسن قيام بهذه المهمة الشريفة، فكفتهم مؤونة العمل، والدعاء والثناء هما من
أخص وظائف عبيد الدولة العلية، أعلى الله منارها) . اهـ بحروفه.
(المنار)
لا شك أن هذا الكلام أشبه بالتهكم منه ببيان الحقيقة، ولولا أن أوهام
جماهير الناس متعلقة بالحكومات، وأنها المكلفة بكل شيء، ويصدقون أن الرعية
عبيد ليس عليهم إلا الشكر والخضوع لحكامهم وليس عليهم (أن يسعوا أبدًا) لما
احتجنا إلى التنبيه على انتقاد جريدة (الشام) على مكاتب (المؤيد) المصيب، هذا
المكاتب لم يتكلم في سبق الدولة في ميدان المعارف ولا في تقصيرها، وإنما تعجب
من اجتهاد جميع الطوائف غير المسلمة في المعارف والأعمال النافعة، فهل السبب
في هذا أن دول تلك الطوائف مقصرة فاجتهدت الرعايا لتكمل نقص دولها، وأن دولة
المسلمين سبقت جميع الدول فأغنت الرعية عن السعي؟ كيف وإن بعض تلك
الطوائف من رعية الدولة العلية ومدارسها مباحة لهم، وهم السابقون إلى المدارس
الأجنبية التي تنشأ في بلاد الدولة، ويشيدون مع ذلك لأنفسهم مدارس أهلية،
ويقومون بمشروعات عملية مفيدة، ثم إذا كان يخرج من مدارس الأستانة مئات من
التلامذة يحملون الشهادات الصادقة أو الكاذبة، فكم يخرج من مدارس الحجاز منبع
الحكمة ومهبط الوحي، ومن مدارس بغداد والبصرة موطن التمدن العربي والعز
الإسلامي؟ اللهمّ إنه ليس فيها شيء من هذه المدارس التي تخرج التلامذة الذين
يعمرون البلاد بمعارفهم ويغمرونها بعوارفهم، ونحن نعلم أن الدولة العلية - أيدها الله
تعالى - عاجزة عن تعميم المعارف في جميع ولاياتها، فيجب على جميع العارفين
بحال الوقت - وفي مقدّمتهم أصحاب الجرائد - أن يحثوا الأمة على مساعدة الدولة في
ذلك، وفيما يتبعه من السعي بالأعمال النافعة، لا أن يقنعوها بأن وظيفتها العبودية
والشكر للحكام والدعاء لهم فقط، فإن مساعدتنا لحكامنا على الإصلاح بالأعمال أنفع
لنا ولهم من الأقوال.
***
(قرار أمير المؤمنين)
صدرت إرادة مولانا أمير المؤمنين بنهي الجرائد عن نشر الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية صونًا لها من الابتذال؛ لأن هذه الجرائد عرضة للتمزيق والرمي
بالأرض وغير ذلك، ولا يخفى أن هذا الأمر مخصوص بالنشرات دون المجلات التي
حكمها حكم سائر الكتب، وهذا أمر من الخليفة موجه لجميع المسلمين؛ لأنه يتعلق
بأمر ديني لا إداري ليكون مخصوصًا بالمملكة العثمانية، وإننا نرى بعض الجرائد
في مصر تدعي الدعوة إلى طاعة الخليفة والإخلاص له، وإنما يظهر صدق دعواها
بامتثال مثل هذا الأمر، وبطاعة الجناب الخديوي والإخلاص له؛ لأنه نائب الخليفة
فعسى أن تبرهن على صدق الدعوى بترك نشر الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة،
وترك الإيهامات الباطلة التي تنافي الإخلاص لولي الأمر والتعريض بما لا يرضيه،
والله الموفق.
***
(أصل ثروة روتشيلد)
ثروة روتشيلد أذهلت العالم؛ لأنها صارت محورًا تدور عليه رحى السياسة
الأوروباوية، وإليك بيان أسباب هذه الثروة وكيفية جمعها نلخصه عن العالم منقولاً
عن بعض المجلات الإنكليزية الشهيرة.
مؤسس بيت روتشيلد رجل اسمه ماير امشل روتشيلد ولد في مدينة فرنكفورت
منذ 159 سنة، ودرس عند الحاخامين بعض العلوم الدينية، فلم تنطبق على رغائبه
لأنه كان يعتقد أن المال ضالة الناس وهو غايتهم الكبرى، وبناء عليه وجّه أفكاره
إلى الاشتغال بمهنة الصيرفة، فدخل في بنك (أوبنهيم) في مدينة هانوفر فلم تمض
عليه عدة سنين حتى برع في فن الصيرفة، وأظهر من الأمانة والإخلاص في شغله
ما خوّله ثقة الناس به حتى لقبوه (باليهودي الأمين) وهذه الشهرة أكسبته صداقة
كثير من العظماء وأرباب المناصب، منهم البرنس لند كريف من عائلة (هس)
الذين كانوا مصدرًا لثروته وتقدمه ونجاحه.
ففي سند 1706م زحفت جنود فرنسا على جرمانيا تريد الاستيلاء على إمارة
هس فأرسل البرنس يستدعي روتشيلد لثقته به، وأخبره بأنه عازم على الهرب،
وأنه لا يقدر على نقل ثروته الطائلة من قلعة هس، وأنه يقيمه محافظًا عليها إلى أن
تنقشع سحابة المخاوف، وكانت تلك الأموال تزيد على عشرة ملايين ليرة إنكليزية
أودعها روتشيلد في أرض الدار على عمق بضعة أقدام ثم جاءت الجنود الفرنساوية،
ونهبت القلعة وأخذت أموال روتشيلد، ولكنها لم تعثر على الأموال المدفونة
تحت الأرض، وبعد انجلائها من هناك جاء البرنس لند كريف واستلم
أمواله بغير نقص ولا زيادة، فسُرّ من أمانة روتشيلد وأعطاه مبلغًا عظيمًا على
سبيل الهبة، ثم قدّم له جميع ثروته ليشتغل بها مدة عشرين سنة بدون عوض ولا
مقابل، فاشتغل الرجل بتلك الملايين من الليرات بدون عوض مدة عشرين سنة
وربح أرباحًا عظيمة تزيد على ما استلمه أضعافًا، ثم أرجع مال صديقه إليه وصار
من أعظم أغنياء العالم، ومازالت ثروته تزداد حتى ضربت بها الأمثال وصارت
الدول تستدين منه الأموال وتعتمد عليه عند تدبير أمور مالياتها، فتأمل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الحاضرة)
***
(المفتاح)
مجلة علمية صحية تاريخية أدبية مصورة، تصدر في منتصف كل شهر من
القاهرة لمنشئها الكاتب الأديب توفيق أفندي عزوز وقيمة الاشتراك فيها 40 غرشًا
مصريًّا تدفع سلفًا، وقد صدر العدد الأول منها مصدّرًا بآخر رسم لسمو الخديو المعظم
ومشتملاً على كثير من الفوائد العلمية والأدبية، وفي آخره نبذة من رواية (غيرة
المرأة) تعريب صاحب المجلة، فنرجو الإقبال على هذه المجلة؛ ليكثر أمثالها في
البلاد.
***
(التمثيل)
مجلة سياسية أدبية انتقادية، تصدر مرتين في الشهر مؤقتًا، مدير أشغالها
محمد أفندي أمين، وقيمة الاشتراك فيها 15 غرشًا في السنة، وقد صدر العدد الأول
منها مصدّرًا بفاتحة في بيان فائدة التمثيل، ونبذة في تعاسة الأمة، يليها باب الألحان
والأشعار الغزلية، ثم باب أشهر الممثلين والممثلات، فنرجو لها التوفيق والنجاح.
__________(2/749)
17 شوال - 1317هـ
17 فبراير - 1900م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة
كتبنا في (المنار) الماضي مقالة في (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة)
بينَّا فيها أن الأمة كالطفل، فهي في أشد الحاجة إلى مربٍّ يربيها التربية القومية،
ومعلم يرشدها إلى ما ترتقي به في حياتها الاجتماعية، كما هو شأن الطفل في حياته
الشخصية، وألمحنا إلى أنه قد يوجد فينا أفراد يصلحون لتربية الأمم وإرشادها،
يشاركهم في منصبهم كثيرون من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ومن هنا
جاءت الحيرة والغمة، الأمة في طور الطفولية لا تميز بين النافع والضار، ولكنها
تميل كما قلنا في تلك المقالة إلى جانب الراحة واللذة، فتسمع لمن لا يخطئها في اعتقاد
ولا رأي، ولا يذم لها خلقًا ولاعادة، ولا يحملها على ترك لذة أو احتمال مشقة في
عمل نافع إلا أن يكون ذلك من الضروريات التي لا تخفى على الأطفال، ولو أن ما
عليه الأمة - رؤساؤها ومرؤسوها - من تقاليدها وآرائها وأخلاقها
وعاداتها وعلومها وأعمالها - صواب لا انتقاد عليه، فكيف تكون حينئذ أمة
مهضومة الحقوق، مسلوبة المنافع، تنتقص من أطرافها ويتخطفها الناس؟ ولأي
شيء كانت في أشد الحاجة إلى المربين والمرشدين؟ حارت الأمة وحقيق بأن
تحار، وغُمَّ عليها الأمر واضطرب فيها فكر كل ذيفكر، وما أجدرها بالغمة
والاضطراب! وقد وعدنا في مقالة (المنار) الماضي بأن نُبين مثارات الحيرة
ومناشئ الغمة في مقالة مخصوصة، وها نحن أولاء نفي بالوعد في هذه المقالة
فنقول:
قد أشرنا في مقدمة العدد الأول من (المنار) إلى أكثر المسائل التي لبَّست على
الأمة الحق بالباطل، وشَبَّهت الرشاد بالغيّ، وشرحنا كثيرًا منها في مقالات مطولة
بعد ذلك، ونُقَسِّم ما نذكره ههنا إلى قسمين: قسم قديم العهد دخل أكثره على الأمة من
باب الدين، فاخترق القلوب ونفذ إلى أعماق النفوس، وقسم حديث النشأة دمر على
الأمة من باب التمدن العصري، أما الأول فمن أهم مسائله اعتقاد أن الأمة يجب أن
تكون دائمًا في تَدَلٍّ وهبوط، وأن الترقي والتقدم مستحيلان؛ لأن هذا من علامات
قرب الساعة، وهذا الاعتقاد فاش في المسلمين، ويروون فيه أخبارًا وآثارًا اشتبه
على الجماهير صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها، ولا يمكن أن تنجح مع هذا
الاعتقاد أمة، ومنها أنه ليس للمسلمين إلا نهضة واحدة تكون قبيل قيام الساعة على
يد المهدي المنتظر الذى يُنصر بالكرامات والعجائب، لا بالقوة والعصبية، وهذا
الاعتقاد قريب مما قبله في مضرته وفي شبهه وأدلته، ومنها أن الدنيا والآخرة
ضرتان وضدان لا يجتمعان، وأن مَن يرغب في زينة الدنيا ولذاتها يكون منحرفًا عن
طريق الآخرة، والكتب والخطب مملوءة بهذا، ويستشهدون عليه بالآيات والأحاديث
من غير فهم، غافلين عن كون وجوب الأخذ بالكتاب كله والجمع بين تلك النصوص
وما يناقضها إذا كان معناها ما يزعمون كقوله تعالى: {ُقلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ
القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) ومنها زعم أن العلم بالموجودات وخواصها المفصل
ذلك في الطبيعيات يؤدى إلى الكفر وترك الدين، مع أنه أصل البراهين على
الاعتقاد، وقد نَبّه عليه القرآن كثيرًا، ويستحيل أن تنجح أمة في هذا العصر إلا
بالصنائع المأخوذة من هذه العلوم، ومنها طلب المصالح والمنافع من غير الطرق
التى جعلها الله تعالى في نظام الخليقة طريقًا لها كالاعتماد على الكرامات والخوارق
من الأحياء والأموات، وهذا شائع في المسلمين، فقد جاءنى وأنا أكتب في هذه
المقالة بريد سوريا وفيه مكتوب من بلدتي القلمون يطلب فيه مني أن أرسل ورقة
مكتوبة لرجل أصابه مرض في رجله فأقعده للاستشفاء بها، فإنه يعتقد أنه لا يُشفى
إلا بهذا، ومن أدلته على اعتقاده أنه رآني مرة في المنام، فخفّ ألم رجله،
وجاءني في مكتوب آخر أن امرأة من أهلي كانت مصدوعة، فوصل إليها أثر مني
فشفيت، وأنا أعتقد أننى وورقتي لا ننفع ولا نضرّ، وأن فشوّ هذا الاعتقاد في الأمة
سببه أمثال هذه الوقائع والحكايات، ويستدلون عليه بجواز وقوع الكرامات، ولا
دلالة فيه لأن مسألة الكرامات من الأمور النادرة التي لا يصح أن يعتمد عليها في
المصالح والمنافع، ومنها فهم القضاء والقدر على غير وجههما، ألا ترى أن سلفنا
الصالح - رضي الله تعالى عنهم - ما ازدادوا بهذا إلا إقدامًا على الأخطار، وتقدمًا
في الفتوح والاستعمار، وخلفنا الطالح جعلهما بمعنى الجبر وسلب الاختيار، واسمع
بعض ما لهم في هذا من الأشعار:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
ومنها فهمهم للتوكل بما يوقع في الكسل، ويحول دون التدبير والجد في
العمل ومما نظموه في ذلك:
لا تدبر لك أمرًا ... فأولوا التدبير هلكى
حقق الأمر تجدنا ... نحن أولى بك منكا
وكذلك فَهْمُهم للقناعة بما يؤدي إلى مثل هذه الشناعة، قالوا:
اقنع بخبز وملح ... وماء وجهك صنه
فالرزق لا شك يأتي ... والموت لا بد منه
ومنها غير ذلك مما أكثرنا الكلام فيه من قبل، فلا نعيده، فالبحث في هذه
الأشياء على غير ما ألِف الناس وفهموا يثير فيهم الحيرة والاضطراب، والخلاف فيها
بين المصلحين وبين المحافظين على مرضاة الجماهير يثير في النفوس رواكد
الأوهام ويوقعها في الحيرة والاضطراب.
ومما يعد في القسم الأول وليس من الدين، الاعتماد على الحكام في جميع
الشؤون العامة، ومنه الانتفاد على الرؤساء من الحكام والعلماء، فإن بعض الباحثين
في أحوال الأمة ممن لهم نظر في علم الاجتماع يرون أن الأمة لا تنجح ما دامت
تخضع لهم الخضوع الأعمى، بل لا بد أن تفهم وظائفهم وتلزمهم بها، ويرون أن
الانتقاد عليهم مضر إلا في مصر بالنسبة لحكومتها، فإن الأكثرين يرون الانتقاد
على حكومتهم لاتهامها بممالئة المحتلين دون الانتقاد على حكومة الدولة العلية، ومنه
أن معرفة الحق بقائله، وهذا مجال واسع ومضراته كثيرة، وله شُعب لا تحصى
من أهمها عدم أخذ العلم والصناعة عن الأوربيين، ومن الناس من يدخل هذا الأخير
في باب الدين، فيزعم أن جميع ما نحتاج إليه في هذا العصر يوجد في كتبنا،
وإذا نازعه في هذا منازع يرميه بنسبة الدين وأهله للتقصير، ومنه مسألة
تربية النساء وتعليمهن فنون تدبير المنزل وتربية الأولاد والاقتصاد في المعيشة،
ومن الناس من يهدم هذا الركن من سعادة الأمة بمعول الدين ذاهبين إلى أن المرأة ما
خلقت إلا للفراش وأن النساء رياحين أو شياطين متشدقين بقول بعض المتحذلقين:
(المرأة ريحانة لا قهرمانة) وهذا الاعتقاد يهتك كل حجاب، ويذهب بالعفاف
والآداب.
وأما القسم الثاني فمن أهم مسائله ذم التعصب الديني، وقد بسطنا الكلام عليه
في عدة مقالات في المجلد الأول من (المنار) وسننشر فيما يأتي مقالة (العروة
الوثقى) فيه إن شاء الله تعالى، ومنها مسائل الحرية والماسونية والمدنية، ومنها
مسألة الجامعة الوطنية، فهي من الآلات المحللة لجسم المجتمع الإسلامي ومقطعة
للرابطة الدينية التي هى أقوى الروابط وأشرفها، وقد ظهر أثر ضررها في المسلمين،
ولكن أَّنى لهؤلاء الأطفال في مهود الحياة الاجتماعية أن يميزوا بين الرابطة الملية
والرابطة الوطنية، فلا يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير؟
إن الذين نفثوا في المسلمين سُمّ الوطنية وجعلوه أقدس الروابط الاجتماعية
أرادوا به أمرين: أحدهما فصم العروة الإسلامية الوثقى التي تربط المسلمين في جميع
أقطار الأرض وتجعلهم إخوة، وثانيهما التأليف بين المسلمين وبين من يخالفهم
في الدين في بلادهم؛ لتصان بذلك مصالح المسيحيين في بلاد الإسلام، والأول
مضر بالمسلمين دون الثاني، والأمة في طور الانحطاط تختار الضار على
النافع، فأثرت نزعات الوطنية في التفريق بين المصري والسوري المسلمين،
ولم تجمع بين المسلم والقبطي المصريين , والسبب في هذا الأخير أن الارتباط ما
جاءهم من طريق الدين، فلم يؤثر فيهم، وأما التفريق بين المسلمين فقد ساعد
عليه فساد الأخلاق مع الغفلة عن مساسه بآداب الدين وقطعه رحم الأخوة
الإسلامية.
ومن العجيب أن نزعات الوطنية قد تعدى أثرها من المتمدنين الذين نفثوا
سمومها إلى علماء الدين، حتى سمعنا أن رجلاً من أكابرهم ذُكر أمامه المسجد الذي
أوصت به الست الشامية المشهورة، وبناه أقاربها الشوام أحسن بناء، فقال مولانا
الأستاذ كلمة ثناء على المسجد وأعقبها بقوله: (ولكن مِن الأسف أنهم حشوه بالشوام)
مع أن جميع الموظفين فيه مصريون ماعدا الخطيب، فهو رجل من صالحي الشوام
المجاورين في الأزهر، كانت الواقفة رحمها الله تعالى تعتقد صلاحه، ولذلك عينته
خطيبًا في حياتها، فأمضاه الناظر بعد مماتها.
هذا ما سمح المقام بذكره من مناشئ الحيرة والغمة في هذه الأمة؛ لأنها في
طور طفولية كما قلنا، وفهم ما ينفعها ويضرها يعسر عليها إلا بالزمان الطويل، وقد
شرحنا بعض هذه المثارات وغيرها كما قلنا، وسنشرح البعض الآخر مرة بعد مرة لا
سيما (الوطنية) وأرجو بمساعدة الذين بلغوا طور العقل والكمال من أفراد الأمة أن
ينشر ما أقول، لا سيما عند النشء الجديد الذي رجع إليه بعض ما فقده المسلمون من
الاستقلال في الرأى والإرادة، فأمسوا يعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال،
وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال.
__________(2/754)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية
نَوّهنا في عدد سابق بأننا شرَعنا في طبع هذا التقرير لما فيه من الفوائد
ولتشوّف الناس للاطلاع عليه، وكنا وعدنا بأن نطبع معه لائحة المحاكم الشرعية ثم
عدلنا عن ذلك لأن اللوائح كثيرة، وكلها مطبوعة ومنتشرة يسهل مراجعتها، وقد
صدرنا التقرير بمقدمة ننشرها هنا؛ لأنها من موضوع (المنار) وهي:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات:9)
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 220) .
إن من طبيعة الناس وعادهم الشكوى مما يتألمون منه لضياع مصالحهم
ومنافعهم ووقوع الحيف والظلم عليهم إذا وجدوا لذلك سبيلاً، وقد كثر في هذه السنين
الأخيرة الخوض في أمر المحاكم الشرعية في مصر وعمت منها الشكوى: الرعية
تشكو من ضياع حقوقها، والحكومة تشكو من القضاة، والقضاة تشكو من الحكومة
وقد أرادت نظارة الحقانية أن تشرع في إصلاح هذه المحاكم في هذه السنة،
فابتدأت بوضع المشروع المشهور، وهو انتداب قاضيين من قضاة محكمة الاستئناف
الأهلية ليكونا عضوين في محكمة مصر العليا، فقامت لهذا المشروع قيامة
المسلمين في مصر، ولم يرض به أحد من خاصتهم ولا عامتهم، وكثر الطعن في
الحكومة بسببه قولاً وكتابة في الجرائد، ثم انتهى الأمر بتوقف الجناب العالي
الخديوي - أعزه الله - عن تنفيذه، وبقيت الشكوى عامة من سوء حال هذه المحاكم
مجمعًا عليها حتى من قضاتها والموظفين فيها.
ثم عهدت الحكومة إلى برجل من أكابر علماء الشرع الإسلامي، ومن واسعي
الاطلاع في القوانين الوضعية، والعارفين بأحوال الزمان ألا وهو الأستاذ العلامة
الشهير الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد، بأن ينظر أدواء المحاكم
الشرعية ومزاجها، ويبين دواءها ويصف علاجها، ويضع في ذلك تقريرًا، فبقي
الناس في أمر مريج حتى ظهر التقرير، فإذا هو لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها، وبَيَّن مبداها ومنتهاها ووصف علاجها ودواها، وأظهر للملأ أن خلل هذه
المحاكم بعضه من تقصير الحكومة نفسها، وبعضه من تقصير القضاة والكتبة، وقد
أجمع المطلعون على التقرير من أهل العلم الشرعي وغيرهم على أنه جمع فأوعى،
وأرشد إلى الإصلاح الحقيقي وهدى، وأثنت عليه الجرائد كلها على اختلاف مشاربها
ومذاهبها، وتشوّفت نفوس سائر الناس للاطلاع عليه، وهذا ما حملنا على طبعه
قصد تعميم نفعه.
يقول بعض الناس: إن الحكومة لو لم تكن تقصد الإصلاح الحقيقي للمحاكم
الشرعية لما طلبت من هذا الأستاذ بيان الإصلاح، وهي تعلم أنه لا يحابيها؛ لأنه لا
تأخذه في الحق لومة لائم، والسواد الأعظم لم يزل سيئ الظن بالحكومة، معتقدين
أنها مدفوعة من القوة المحتلة إلى إلغاء هذه المحاكم؛ لأنها أكبر شعار مِليّ للأمة
الإسلامية، ويقولون: إنها لم تكن تتوقع من هذا الأستاذ بيان تقصيرها وحملها على
الإصلاح الحقيقي، وقوي عندهم هذا الظن بتأجيلها النظر فيه، ويتحدثون بأنها لابد
أن تغري بعض مَن يعنيهم الأمر حتى مِن رجال الشرع بالانتقاد على بعض ما
جاء فيه لتتخذ ذلك حجة أمام الأمة على عدم تنفيذه، وسيظهر لهم عن قريب
فساد الظنّة وخطأ التهمة، ويرون الحكومة إن شاء الله تعالى مجتهدة في تنفيذ ما
يسمح الوقت بتنفيذه منه، كما يجب عليها لدينها وأمتها، وأرجو أيضًا أن يروا من
المحتلين مساعدة لا معاندة، لا سيما فيما يطلب للمحاكم من المال، فإن التوسيع في
النفقة على محاكم هذا شأنها وهذه مكانتها من نفوس الأمة , أولى من الإنفاق على
اختبار الأسماك وتأليف كتاب فيها، وهو ما سمحت له الحكومة بألف جنيه.
ولا يمكن أن توجد فرصة يبرهن فيها المحتلون لمسلمي مصر، بل وسائر
المصريين على احترام الدين الإسلامي وإرادة الإصلاح الحقيقي في مصر مثل هذه
الفرصة، وليس من الحكمة أن تضيع، ولا يغتنمها القوم الذين قاعدة سياستهم هذه
الكلمة: (نحن لا نوجد الفرص ولا نضيعها) .
إن الغيرة الدينية المتدفقة من روح واضع التقرير قد غمرت المحاكم الشرعية،
وفاض معينها على الأزهر الشريف وما يتبعه من معاهد العلم الشرعي، فكما أشار
بإصلاح أماكن المحاكم وأثاثها، والتوسعة على القضاة والكتبة في الرواتب،
واستقلالهم في الرأي، والعناية بتنفيذ أحكامها ... إلخ إلخ، أشار أيضًا بحصر
موظفي المحاكم في المتعلمين في الأزهر وما يتبعه، وبإصلاح التعليم فيه بإنشاء
قسم للتعليم القضائي يتخرج منه القضاة (راجع صفحة 14) وآخر يتخرج منه
الكتَّاب (راجع صفحة 11) وبأن يكون مأذونو العقود من طلاب العلم في هذه
المعاهد أيضًا (راجع صفحة 80) .
جرى صاحب التقرير في تفتيش المحاكم وإبداء رأيه في إصلاحها على مبدأ
حكيم، وهو كون الأحكام والنظام على وفق المصالح والمنافع الوجودية. إذ لا تقدر
الحكومة على تغيير شؤون الوجود بنظامها، كما أن الشريعة لم توضع لتحويل سنن
الكون بأحكامها: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) فقصارى ما طلبه
من الحكومة أن تجعل عنايتها بالمحاكم الشرعية كعنايتها بالمحاكم الأهلية، وأن
توسع دائرة اختصاصها كما سنبينه، وقصارى ما طلبه من القضاة أن يفهموا أقوال
الفقهاء ومقاصدهم في الأحكام التي استخرجوها من الشريعة لوقاية مصالح الخلق
وحفظ حقوقهم ومنافعهم، لا أن يأخذوا بظواهر ألفاظهم ظانين أنهم متعبدون بها،
فإن القاعدة المتفق عليها في العقود والمعاملات هي: (إن العبرة بالمقاصد والمعاني
لا بالألفاظ والمباني) والفقه هو الفهم، فمن يأخذ بظواهر الألفاظ فهو ليس بفقيه،
ولا يجوز أن يكون غير الفقيه قاضيًا يحكم بين الناس، وليس عندنا كتاب نتعبد
بألفاظه إلا كتاب الله تعالى، ومع ذلك نرى جميع العلماء من المتكلمين والفقهاء
وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - قد أجروا فيه التفسير والتأويل، ولم يأخذوا
بظواهر ألفاظه مع أنها مُنَزّلة ومتواترة ومحفوظة من التحريف، فكيف نأخذ
بظواهر ألفاظ الفقهاء من غير فهم، وليس لها مزية من هذه المزايا، يتبرم من هذا
الطلب القضاة الذين لا فقه لهم، وإنما ألفوا ألفاظًا تعلمها أكثرهم من كتاب المحاكم،
ويتبرم منه بعض من يعلم منهم أنه الحق الذي لا تقوم للشرع قائمة إلا به، ولكنه
يغمطه حسدًا وكبرًا، ويحاربه هؤلاء بسلاح التمسك بظواهر ألفاظ بعض الفقهاء
على أنها متعبد بها لا يعقل معناها، فإن لهم في هذا غرائب، بيّن التقرير كثيرًا
منها كظنهم أن ذكر اسم الأب والجد في تعريف المدعي أو المدعى عليه مطلوبًا لذاته
(راجع باب المرافعة وما بعده من التقرير) وسمعت أن بعض القضاة أنكر أن
الشهادة مطلوبة للعلم بالمشهود به!
الشريعة الإسلامية شريعة عامة باقية إلى آخر الزمان، ومن لوازم ذلك أنها
تنطبق على مصالح الخلق في كل زمان ومكان مهما تغيرت أساليب العمران.
وشريعة هذا شأنها لا تنحصر جزئيات أحكامها؛ لأنها تتعلق بأحوال البشر ما وُجِدوا
ولا يحيط بذلك علمًا إلا عالم الغيب والشهادة، وهو الذي جعل أساسها حفظ الدين
والنفس والعقل والعرض والمال، إذ مصالح البشر في كل آن مبنية على حفظ هذه
الأشياء التي فيها السعادة في المعاش والمعاد، وقد استخرج الأئمة والفقهاء رضي الله
عنهم القواعد الكلية والأحكام الجزئية، وبنوها على أساس هذه الأصول الخمسة،
ومن القواعد المتفق عليها بينهم أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ كما مر آنفًا، وأن
الضرورات تبيح المحظورات، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق
اتسع، وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، والضرر الأشد يزال بالأخف
وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو خاصة، وأن الأحكام تتغير بتغير
الأزمان، وأن التعيين بالعرف كالتعيين بالنص، ومن فهم كلام أئمة الفقه حق فهمه
ألفاه لا يتعدى هذه القواعد، فيجب على القضاة جعلها آلة لفهم كلامهم، والحكم به
لتحفظ الحقوق، على أن فضيلة صاحب التقرير على علم بعجز أكثر القضاة الحاليين
عن ذلك، ولذلك طلب ما تراه في الأمر الثاني والثالث الآتيين.
من أهم ما طلب في التقرير أمران يتعلقان بمحاكم مصر أشد التعلق، وأمر
يعتبر إصلاحًا إسلاميًّا عامًّا (الأمر الأول) توسيع دائرة اختصاص المحاكم
الشرعية , وفي هذا مخرج للحكومة من كثرة شكوى المحاكم الأهلية الجزئية من
كثرة القضايا حتى إن الحكومة اضطرت إلى تخويل عُمَد البلاد الحكم في بعض
القضايا المدنية، ولما رأت أن سيرهم ومعارفهم لا تمكنهم من إقامة العدل فيها عدلت
عن تعميم هذا المشروع إلى انتخاب بعض منهم للتجربة، والعارفون بحال البلاد
يعلمون أن الحكومة لا تنجح في هذا، ولا سبيل لخروج الحكومة من هذه الحيرة
إلا بتخويل المحاكم الشرعية الحكم في كثير من القضايا المدنية، ولا يوجد مانع
للحكومة من ذلك إلا تمسك بعض المتنطعين ممن ينتسبون إلى الشرع - ويجهلون
مقاصده - بعوائد وألفاظ في المرافعات الشرعية ليست من الشرع في شيء، وبها
يجعلون الحكم بالشرع متعذرًا، وهذا أعظم جناية عليه.
(الأمر الثاني) عدم حصر منصب القضاء الشرعي في الحنفية لما بيّنه في
صفحة 15، وليس هذا قولاً بالحكم بغير مذهب الحنفية، فقد صرح هناك بأن فقه
المذاهب الأربعة متقارب، والاختلاف في الفروع مذكور في أغلب كتب الفريقين،
فيمكن لمن برع في فقه الشافعية مثلاً أن يفهم فقه الحنفية بسهولة، وقالت جريدة
(المؤيد) الغرّاء أن هذا وقع بالفعل، فإن فضيلة الأستاذ صاحب التقرير يُعد في
مقدمة القضاة الحنفية، وهو مالكي المذهب، والأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان أحد
قضاة المحكمة الشرعية العليا من أمهر القضاة، وهو شافعي المذهب، بل نقول:
إن العلماء كانوا يقولون أن من برع في علم من العلوم يمكن أن يهتدي به إلى سائرها
ولهم في هذا آثار مشهورة، وقد رأيت في فاتحة كتاب (أقضية الرسول) صلى الله
عليه وسلم للعلامة أبي عبد الله محمد بن فرج المالكي ما نصه: (واتفق مالك
والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز لحاكم أن يحكم بين الناس
حتى يكون عالمًا بالحديث والفقه معًا مع عقل وورع، وكان مالك رحمه الله يقول في
الخصال التي لا يصلح القاضي إلا بها: لا أراها اليوم تجتمع في أحد، فإذا اجتمعت
في الرجل خصلتان رأيت أن يولّى العلم والورع، قال عبد الملك بن حبيب: فإن لم
يكن، فعقل وورع، فبالعقل يسأل، وبه تصلح خصال الخير كلها، وبالورع يعف،
وإن طلب العلم وجده، وإن طلب العقل إذا لم يكن فيه لم يجده) اهـ. وهو حجة
للأستاذ صاحب التقرير في تحتيمه اختبار جميع موظفي المحاكم في سيرتهم وأخلاقهم
لا في الفقه فقط بالنسبة للقضاة , والكتابة فحسب بالنسبة للكتاب، وقد صرح في
كتاب (الأحكام السلطانية) بأنه: (يجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي - رحمه الله -
أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة) إلخ، وقد طلب أهل السليمانية، وكلهم
شافعية من مولانا السلطان عبد الحميد خان أن يولي عليهم قاضيًا من أهل مذهبهم،
ففعل.
(الأمر الثالث) أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، لا سيما الأحكام التي
هي من خصائص المحاكم الشرعية يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت الدولة
العلية في مجلة (الأحكام العدلية) ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا
للمصالح إلا إذا أخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة؛ ليكون اختلافهم
رحمة للأمة، ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى.
وقد أشير في صفحتي 38 و 40 من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي،
وتوهم بعض الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة، وأن الأحكام بغير مذهب
الحنفية لا تصح، ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور:
(1) جاء في كتاب (الأحكام السلطانية) ما نصه: (فلو شرط المولّي،
وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي
حنيفة، فهذا على ضربين عمومًا، أحدهما: أن يشترط ذلك في جميع الأحكام،
فهذا شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة
الولاية، فإن لم يجعله شرطًا فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال:
قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر، أو: لا تحكم
بمذهب أبي حنيفة، على وجه النهي - كانت صحيحة، والشرط فاسدًا سواء تضمن
أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن يحكم بما أداه إليها اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه
ويكون اشتراط المولي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يحوز، ولا يكون قدحًا
إن جهل، لكن لا يصح مع الجهل أن يكون موليًا لا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج
الشرط في عقد الولاية، فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب
الشافعي، أو بقول أبي حنيفة - كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد ,
وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط) اهـ المراد منه.
(2) لا يعدل عن مذهب الحنيفة إلا في الأحكام التي لا تنطبق على مصلحة
الناس في هذا العصر إذا حكم فيها بمذهبهم، وهذه حالة ضرورية أو حاجة
تنزل منزلة الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم؛ لأن الحكم الذي تمس إليه
الحاجة أو يضطر إليه يصير متفقًا عليه.
(3) إن مذهب الحنيفة واسع متشعب جدًّا، بمعنى أن فيه كثيرًا من الأقوال
في كل مسألة حتى قال كثير من فقهائه: إنه لا يوجد قول لمجتهد في مسألة إلا
وهو موجود في مذهبنا لأحد أئمتنا أو مشايخنا، ولو ضعيفًا، ومن المقرر عندهم
أيضًا أن القول الضعيف يقوى بأمر الإمام بالعمل به، وقد ألفت لجنة من العلماء
مجلة (الأحكام العدلية) وأخذوا فيها ببعض الأحكام التي لا تصح في مذهب الإمام
أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ولكنها صحت في مذهب غيره، وقالوا: إنها
وافقت أقوالاً ضعيفا لعلماء الحنفية تقوّت بأمر السلطان، ووجب الحكم بها.
وإذا ألف علماء الأزهر الكتاب الذي اقترحه فضيلة مفتي الديار المصرية في
هذا التقرير، ولم يجدوا الوجهين اللذين قبل هذا كافيين لجواز الحكم بموجبه، فيمكن
طلب صدور الأمر به من السلطان أو نائبه إذا كان له هذا الحق، ولا يمكن أن مولانا
السلطان عبد الحميد أو سموّ عزيز مصر الحالي يتوقفان في أمر رأى أكابر علماء
الأزهر أن فيه صيانة مصالح المسلمين وحفظ حقوقهم.
هذا ما أردت التنبيه عليه في هذه المقدمة، وأسأل الله تعالى أن يوفق رؤساءنا
من الحكام والعلماء إلى ما فيه خير الأمة، إنه سميع مجيب.
__________(2/758)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية شمس الإسلام
في القاهرة
أعلن مجلس إدارة الجمعية في (المؤيد) الأغرّ بأنها أرجأت الاجتماع
الأسبوعي العام إلى أجل غير مسمى، وقد تأخر نشر الإعلان عن يوم الأحد، فجاء
الناس ليلة الإثنين، فوجدوا الباب مقفلاً، ويتساءل أفراد الجمعية وغيرهم عن السبب
في ذلك، ولابد أن يسمع بعضهم أجوبة صحيحة، فرأينا أن نبين لهم الأمر بالإيجاز
{وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) .
إن السبب الصحيح هو توقع شغب كان ينتظر من أفراد يسعون في إبطال
الجمعية، ومجمل الخبر من أوله أن الشيخ أحمد أبا الفضل أحد المستخدمين في
المسجد الزينبي كان دخل الجمعية، وكان لسعادة الرئيس حُسن ظن به رقّاه إلى
أمانة الصندوق، وقد كان أقرّ منذ أشهر قبل انفصاله من تلك الأمانة في مجلس إدارة
الجمعية بأنه جاءه ليلاً رجل (جاسوس) غريب، وأسرّ إليه بأنه يحب أن يستعين
به على إبطال هذه الجمعية بحجة أنها ضد مولانا السلطان الأعظم - أعزه الله تعالى-
وأنه يتعهد له براتب من الأستانة قدره 20 جنيهًا عثمانيًّا في الشهر، فرأى الشيخ
أحمد أن أمانة الصندوق خير له، ولم يثق بكلام الجاسوس مع علمه بأنه عاجز عن
إبطال الجمعية (وكانت لجنة واحدة، وهي اليوم نحو 20 لجنة) ثم دخل في
الجمعية حضرة محمد أفندي فتحي، وهو شاب ذكي، فأتيح له النظر في دفاترها مع
بعض الأذكياء منها، وكان من وراء ذلك أن انفصل الشيخ أحمد من أمانة الصندوق
مع الكاتب، وتعين محمد أفندي فتحي أمينًا للصندوق، ثم من شهرين ظهر من أمين
الصندوق الجديد الميل إلى تغيير قانون الجمعية، وصرح بأن ضميره يحدثه بأنها
مخالفة للشرع، وصار يتكلم بهذا في المجتمعات العمومية والخصوصية، فاجتمع
مجلس الإدارة وقرر إخراج محمد أفندي من الجمعية؛ لأنه لا يجوز له البقاء فيها،
وهو يسيئ بها الظن، ولا يجوز لها إبقاؤه وهو يطعن بها وبدين أصحابها، لا سيما
وقد كان هذا الرجل جاء في الاجتماع العمومي عند إرادة الشروع في درس التوحيد
وطلب إبطاله، فقامت قيامة الناس عليه، وقالوا: كيف نبطل درس التوحيد ونكون
مسلمين وجمعيتنا إسلامية؟ وكان قبل إخراجه استقال من أمانة الصندوق
واستقال الكاتب إبراهيم أفندي حسن من كتابة المجلس، وسلم سعادة الرئيس الدفاتر
لكاتب هذه السطور المقيم في مركز الإدارة، ثم اجتمع أمينا الصندوق السابقين مع
عضوين آخرين من الجمعية وطلبوا اجتماع لجنة الإدارة، وجاءوا معهم بمن ليس
منها، بل وبمن أخرج من الجمعية من بضعة أشهر كالشيخ محمد السملوطي
واجتمعوا في غرفة مكتب هذا الفقير ما عدا محمد أفندي فتحي، فإنه بقي خارجًا،
فطلبوا أولاً العفو عن محمد أفندي فتحي، وهو يرجع عن كل ما قاله، وقد
أحضروه فرجع ثم تذاكروا في مسألة، فظهر من بعض الدخلاء الحاضرين أمارات
سوء القصد، فخرج سعادة الرئيس، وبعد خروجه أظهر الشيخ محمد السملوطي
بحدته مقاصد الذين جاءوا به فقال: أنا رئيس الجمعية، وهذا الرئيس لا يصلح لها،
وأخذ دفتر القرارات، وطلب جماعته مني سائر الدفاتر، فأبيت عليهم، فقال لهم
الشيخ السملوطي بحدة وغضب: (أنا ثوروي اكسروا الخزانة وخذوا الدفاتر بالقوة)
فلما رأيت هذا منهم خرجت لإحضار بوليس يخرجهم، وبعدما نزلت نزلوا في
أثري، وأخذ الشيخ الثوروي دفتر القرارات، وعلمنا أنهم يريدون الحضور في ليلة
الاجتماع العمومي لإحداث شغب وفتنة تفضي إلى مداخلة الحكومة لفض الاجتماع؛
لتكتب الجرائد ذلك وتقول: مُنعت جمعية (شمس الإسلام) من قبل الحكومة،
فاتخذت لجنة الإدارة الاحتياط، ومنعت الاجتماع العمومي، وأعلنت ذلك، ولما
رأوا ذلك اجتمعوا في دار أحدهم، وكتبوا ورقة بأنهم رفضوا رئاسة مؤسس الجمعية
ورئيسها العام، وخطيبها كاتب هذه السطور، وجعلوا الشيخ السملوطي رئيسًا عليهم،
ومحمد أفندي فتحي أمين صندوق، وكتبوا بما عملوا رسالة لجريدة (اللواء)
فنشرتها من غير تردد تشفيًا من هذا الفقير الذي جرح صاحبها بانتقاده السابق،
وكانوا خدعوا بضعة نفر من الجمعية، فوقعوا على الورقة، ثم ظهر لهم سوء
القصد فأحضروا الورقة وسلموها للرئيس العام معتذرين، ولم يبق من شيعة الفتنة
إلا تسعة رهط، بعضهم سيئ القصد، وبعضهم مغشوش يوشك أن يظهر لهم ما
ظهر لغيرهم فيتوبون، وبلغنا أنه بعد ما وقع الفشل فيهم عزموا على تأليف جمعية
مخصوصة، ولا أراهم ينجحون، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون، أما الجمعية
فهي ثابتة على حالها، سائرة في طريق كمالها، وسَتُعَين لجنة إدارتها في هذا
الأسبوع ليلة الاجتماع العمومي للأعضاء، وتبلغهم إياه، والله ولي المتقين.
_______________________
س(2/765)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأمراء والعلماء
الأمراء رؤساء الناس في مصالحهم الدنيوية، والعلماء رؤساؤهم في شؤونهم
الدينية، فبين طبقتيهما تناسب، ولذلك قالوا إنهما أكفاء في الزواج، وقد صرنا في
زمن يترفع فيه الأمراء عن مصاهرة العلماء، ويحب العقلاء أن يزول سبب هذا من
الطبقتين، ولن يزول إلا بانتشار العلم في الأمراء، وباقتدار العلماء على إدارة
مصالح الدنيا، وقد رأينا بوادر هذه الأمنية، فإن صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم
أشهر أميرات الشرق بالمعارف والفضل، رغبت التزوج بحضرة المفضال السيد
خليل بوحاجب رئيس القلم الجنائي بالوزارة الكبرى في تونس، ونجل كبير العلماء
في القطر التونسي سالم بوحاجب، وقد صدر أمر مولانا العباس لدولة الأميرة بالإذن
بعقد الزواج، فنسأل الله تعالى أن يكثر فينا من أمثال هؤلاء الأمراء الذين يقدرون
العلم وأهله قدرهم، وأن يتم هذا القران الميمون على أحسن حال.
__________(2/766)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أفكوهة غريبة
قرر الباحثون في علم الاجتماع وتربية الأمم أن روح ترقي الأمة في اعتماد
أفرادها على أنفسهم، وسعيهم في سعادتهم، وعلى قدر قوة هذا الروح يكون الترقي
{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وقد بلغ من أمر الشرقيين عامة
والمسلمين خاصة في سلب إراداتهم، وإناطة كل شيء بحكوماتهم أن بعض القبائل
في جبال أفغانستان لا يُصَلّون ولا يصومون، فإذا سئل أي واحد منهم عن ذلك يقول:
أنا ما سرقت معزى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الخان (الأمير) هو الذي
سرقها ففرض عليه الصلاة والصوم عقوبة له، فهؤلاء لا يقتصرون على إناطة
إسعاد الأمة في دنياها بالأمير، بل يزعمون أيضًا أنه هو المكلف بالعبادات من
دونهم.
__________(2/767)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الثانية للمنار
الحمد لله الذي وفّق مَن شاء لما شاء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وسائر
الأنبياء، وعلى آلهم وأصحابهم الصادقين، ومَن اتبعهم بخير وإحسان إلى يوم الدين،
وبعد، فقد تم لمجلتنا بفضل الله وتوفيقه سنتان قمريتان هجريتان، فإن العدد الأول
منها قد صدر في 22 شوال سنة 1315 وصدر العدد الأخير من السنة الأولى في
22 شوال سنة 1316 وكان من الصواب أن يصدر العدد الأول من السنة الثانية
في هذا التاريخ، ولمّا كان أول السنة لا يكاد يوافق يوم صدور المجلة إلا قليلاً، وكان
قد ترجح عندنا أن نزيد في مادة الجريدة فنجعل العدد منها ثلاث كراسات (ملازم) ،
ونصدرها ثلاث مرات في الشهر (فتكون الزيادة في كل شهر كراسة واحدة، وفى
السنة 182 صفحة) رأينا أن نجعل أول سنتها غرة شهر ذي القعدة، وسنرسل
مع العدد الأول من المجلد الثالث فهرست المجلد الثاني لجميع المشتركين إن
شاء الله تعالى، فإن كثرة الشواغل التي عرضت لنا في هذه الأيام حالت دون
جمعه وطبعه، بل وحالت دون مجاوبة الأفاضل الذين يكاتبوننا من البلاد
والأقطار المختلفة،فنقدم لهم العذر أجمعين.
نحمد الله ونشكره عوداً على بدء أن جَعل (لمنارنا) لسان صدق في العالم
الإسلامي، وشهد له العدول من العلماء والفضلاء بتحري القول الحق من غير
تزلف للحكام والأمراء، أو غش وتموه على الدهماء، فلا تملق ولا إطراء، ولا
ذم ولا إيذاء، وإنما هو انتقاد لأعمال وأحوال أوقعتنا في شر الأوحال، ومن
يتزلف أو يغش يصانع الناس ويجاريهم فيما هم فيه، ثم نشكر للفضلاء الذين
وازرونا سعيهم فى نشر المجلة والترغيب فيها، ولولا ضيق المقام لزينا الصحيفة
بذكر أسماء أكابر العلماء في تونس والهند الذين انتشرت المجلة ببركة أنفاسهم
في الغرب والشرق، ولا ننسى فضل الجرائد الهندية التي تنقل دائمًا مقالات
(المنار) بلسان الأوردو إلى إخواننا مسلمي الهند، ونخص منها بالذكر جريدة
(نير آصفي) ونَعِد القرّاء بأننا سنجتهد في اختيار أنفع المباحث الاجتماعية
من دينية ومدنية، والفوائد العلمية والأدبية، والأخبار الصادقة التاريخية، من
قديمة وعصرية، ونفتح لهم بابًا للأسئلة والأجوبة، ونزف إليهم (المنار)
متصلاً بغلافه كأحسن المجلات العلمية. وبالله نعتصم ونستعين، وسلام على
المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
***
مجلة (أنيس الجليس) ظهرت هذه المجلة الأنيسة قبل (المنار) بمدة
قليلة، وقد أتمت سنتها الثانية، وصدر الجزء الأول من السنة الثالثة في أول
السنة الجديدة المسيحية، مشتملاً على المقالات الأدبية والاجتماعية والإرشادات
النسائية، فنهنئ رصيفتنا الفاضلة صاحبة هذه المجلة، ونرجو لها مزيد النجاح
والإقبال.
__________(2/767)
المجلد رقم (3)(3/)
غرة ذو القعدة - 1317هـ
2 مارس - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله , والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ} (الانفطار: 6-9) لا
تغتر بربك فليس الغرور من لوازم الكرم , واشكر له نعمة التعديل والتسوية، فإن
الكفران يزيل النعم , فبهذه النعمة جعلك خليفة في الأرض , واستعمرك فيها إلى يوم
العرض , وسخر العوالم العلوية والسفلية , وذلل لك القوى الطبيعية , وهداك
النجدين , وبين لك السنتين , إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم , وأنزل عليك
الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه , وسعادتك أو شقاوتك
محصورة فيه , فأما الذين يقومون بحقوق الاستعمار بحسب السنن الطبيعية؛
فأولئك أصحاب السعادة والخلافة في دنياهم , وإذا ضموا إليها تزكية الأرواح باتباع
السنن الدينية تمت لهم السعادة في أخراهم , وأما الذين يجهلون سنة الله في هذه
الأكوان , ويقصرون بما اقتضته الحكمة الإلهية من العمران؛ فأولئك هم الذين لا
يرون في دنياهم من السعادة فتيلاً , ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضل سبيلاً.
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الحياة
الأبدية , ويمتعكم بالسعادة الدنيوية والأخروية , {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) ولو شكرتم لظلت هذه النعم في مزيد {وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)
فلولا كفر النعم لما حلت بنا هذه النقم , ففاتنا ونحن كثير , ما كان لنا ونحن
قليل , حلت بنا الرزايا والمصائب , وتخطفنا الناس من كل جانب {ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) منح الله آباءنا الأولين ما وعد به عباده المؤمنين , وما
كان ذلك محاباة وجزافًا , وحرمنا نحن من تلك السيادة وحيل بيننا وبين هاتيك
السعادة , وما كان ذلك بخلاً أو إخلافًا , ولكنه أعطى كلاًّ ما طلبه بلسان حاله ,
واكتسبه بجليل أعماله , كلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء
ربك محظورًا , انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر
تفضيلاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} (الأنفال: 29) بالرجوع إلى سنته
الكونية والدينية والشكر على نعمه النفسية والآفاقية {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29) يزيح عنكم الشبهات , ونورًا تهتدون به في هذه الظلمات ,
{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الأنفال: 29) التي تقاسون بلاءها , {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 29) ذنوبكم التي تساورون عناءها {وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الأنفال: 29) هداكم بالدين القيم إلى النجاح في الحال , والفلاح في
المآل , فمن نجح به فأولئك هم المفلحون , ومن فاته الربح به فأولئك هم
الخاسرون , وقد مضت سنة الأولين بأن الناس تبع لرؤسائهم في الدنيا
والدين , فما غوينا إلا بغوايتهم , ولا نهتدي إلا بهدايتهم , فإذا انقطع من الحكام
الرجاء , فهو لم ينقطع من العلماء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .
إن أولى الناس بتعليق الآمال بالعلماء من دون الحكام والأمراء , هي الأمة
التي ما ترك دينها رابطة إلا وحلَّها , وحل بعد ذلك محلها , حتى أحاط بجميع
المصالح البشرية , وأوضح محجة الشؤون الروحية والجسدية , فكل ما أصابته من
السعادة كان يفيض عليها من سماء الدين , وكل ما أصابها من الشقاء إنما هو
بالانحراف عن صراط الدين , فلا جرم تكون حياتها بحياة الدين , وموتها بموت
علماء الدين , ويصح أن تضيف ما هي فيه من البلاء كله أو بعضه إلى تقصيرهم,
وتنسب ما بقي لها من آثار النعماء إلى ما كان من تشميرهم , ألم تروا أن ما دخل
عليها من المدنية العصرية بأيدي الأمراء المنسلخين عن المعارف الدينية كان عليها
وبالاً وما زادها إلا خزيًا ونكالاً، بخلاف مدنيتها الزاهية في أيام دولها الماضية ,
وكان وعدًا مفعولاً.
فيا أيتها الامة الإسلامية التي اغتر بعضها بدعاة الوطنية , فعلقوا آمالهم
بالوساوس الأجنبية , فانقلبوا بالبعد عن دينهم خاسرين , واغتر آخرون ببعض
أصحاب العمائم ظانين أن كل ذي عمامة عالم , فأوهموهم أن طلب السيادة والثروة
منبع المآثم , وأن المدنية كيفما كانت فهي عدوة للدين , اعلمي أنه قد أخطأ أولئك
كما أخطأ هؤلاء , وأوقعوا المسلمين في اختلاف الآراء , بل ألقوا بينهم العداوة
والبغضاء , فكانوا في ذلك من الظالمين , وخلاصة القول وزبدته , وصفوته
وحقيقته , أنه لا يرجى لهذه الأمة النجاح والسير في منهاج الفلاح , إلا بدعاة
ومرشدين يمثلون لها سعادة الدنيا في مرآة الدين , ويبينون لها كيف جمع القرآن
بين مصالح الدارين , حيث جعل الناس على قسمين {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200-202) وهذا ما قام يدعو إليه المنار في سنتيه
الماضيتين وهو ما يصيح به الآن على رأس السنة الثالثة , وقد انتشرت بفضل الله
تعاليمه فأُشربتْها قلوب ولهجت بها ألسنة وكَتَبَ بمواضيعه الكُتَّاب , وخطب
الخطباء فمن مخطئ ومصيب ومنتقد ومجيب , وهكذا يكون الأمر في أوله
وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب , والعاقبة للمتقين.
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ
تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .
__________(3/1)
الكاتب: العروة الوثقى
__________
التعصب
{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .
لفظ شغل مناطق الناس خصوصًا في البلاد المشرقية تلوكه الألسن , وترمي
به الأفواه في المحافل والمجامع حتى صار تُكأة للمتكلمين يلجأ إليه العيي في تهتهته
والذملقاني في تفيهقه.
أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير فقلما تكون عبارة إلا وهو فاتحتها أو حشوها أو
خاتمتها ويعدون مسماه علة لكل بلاء ومنبعًا لكل عناء , ويزعمونه حجابًا كثيفًا وسدًّا
منيعًا بين المتصفين به وبين الفوز والنجاح , ويجعلونه عنوانًا على النقص وعلمًا
للرذائل.
والمتسربلون بسرابيل الإفرنج الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط ,
لا يميزون بين حق وباطل هم أحرص الناس على التشدق بهذا البَدع الجديد فتراهم
في بيان مفاسد التعصب يهزون الرءوس ويعبثون باللحى ويبرمون السبال , وإذا
رموا به شخصًا للحط من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ إفرنجي (فناتيك) فإن عهدوا
بشخص نوعًا من المخالفة لمشربهم؛ عَدُّوه متعصبًا وهمزوا به وغمزوا ولمزوا ,
وإذا رأوه عبسوا وبسروا وشمخوا بأنوفهم كبرًا وولوه دبرًا , ونادوا عليه بالويل
والثبور.
ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ؟ وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى
خالوه مبدأ لكل شناعة ومصدرًا لكل نقيصة؟ وهل لهم وقوف على شيء من
حقيقته؟
التعصب: قيام بالعصبية، من المصادر النِّسبية نسبة إلى العصبية , وهي قوم
الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم والعداء , فالتعصب وصف للنفس
الإنسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها , والذود عن حقه ووجوه الاتصال
تابعة لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها.
هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب وأقام بناء الأمم , وهو عقد الربط
في كل أمة بل هو المزاج الصحيح، يوحد المتفرق منها تحت اسم واحد وينشئها
بتقدير الله خلقًا واحدًا كبدن تألف من أجزاء وعناصر، تدبره روح واحدة فتكون
كشخص يمتاز في أطواره وشؤونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص.
وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة وقبيل وقبيل ومباهاة كل من
الأمتين المتغالبتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش وما تجمعه قواها
من وسائل العزة والمنعة وسمو المقام ونفاذ الكلمة , والتنافس بين الأمم كالتنافس
بين الأشخاص أعظم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة
بقدر ما تسعه الطاقة.
التعصب روح كليّ مهبطه هيئة الأمة وصورتها , وسائر أرواح الأفراد
حواسه ومشاعره، فإذا ألمَّ بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه؛ انفعل الروح
الكلي وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة ومسعر النعرة الجنسية.
هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما
يعود على الأمة بضرر أو يأول بها إلى سوء عاقبة , وإن استقامة الطبع ورسوخ
الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، ويكون
كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي لا يجد الرأس بارتفاعه غنى عن القدم ,
ولا يرى القدمان في تطرفهما انحطاطًا في رتبة الوجود، وإنما كل يؤدي وظائفه
لحفظ البدن وبقائه.
كلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت
الأعصاب وَرَثَّت الأطناب ورقَّت الأوتار وتداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما
يتداعى بناء البنية البدنية إلى الفناء بعد هذا الروح الكلي , وتبطل هيئة الأمة وإن
بقيت آحادها فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة إما أن تتصل بأبدان أخرى بحكم
ضرورة الكون , وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة
الآخرة , سنة الله في خلقه إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل , وغفل
بعضهم عن بعض , وأعقب الغفلة تقطع في الروابط , وتبعه تقاطع وتدابر فيتسع
للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى
يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية.
نعم إن التعصب وصف كسائر الأوصاف له حد اعتدال وطرفا إفراط
وتفريط , واعتداله هو الكمال الذي بينا مزاياه , والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا
لرزاياه , والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء , فالمفرط في تعصبه
يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق , ويرى عصبته متفردة باستحقاق الكرامة ,
وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل , لا يعترف له بحق ولا يرعى له ذمة ,
فيخرج بذلك عن جادة العدل , فتنقلب منفعة التعصب إلى مضرة , ويذهب بهاء الأمة
بل يتقوض مجدها , فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني , وبه حياة الأمم وكل قوة لا
تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال , وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو
الممقوت على لسان صاحب الشرع صلي الله عليه وسلم في قوله: (ليس منا من
دعا إلى عصبية) الحديث.
التعصب كما يطلق ويراد به النعرة على الجنس , ومرجعها رابطة
النسب والاجتماع في منبت واحد , كذلك توسع أهل العرف فيه فأطلقوه على قيام
الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضًا , والمتنطعون من مقلدة الإفرنج
يخصون هذا النوع منه بالمقت , ويرمونه بالتعس , ولا نخال مذهبهم هذا مذهب
العقل , فإن لحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تندفع عنها قوة لدفع الغائلات
وكسب الكمالات، لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب , وقد كان من
تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر , وعن كل منها
صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني , وليس يوجد عند العقل
أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته , وبين ما
يصدر عن ذلك من المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب.
فتعصب المشتركين في الدين المتوافقين في أصول العقائد بعضهم لبعض إذا
وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم
أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجَلِّ الفضائل الإنسانية وأوفرها نفعًا وأجزلها فائدة,
بل هو أقدس رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج
السيادة وذروة المجد خصوصًا إن كانوا من قبيل قَوِيَ فيهم سلطان الدين , واشتدت
سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة
الإسلامية على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا [1] .
ولا يؤخذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط , فإنه كما يطمس رسوم
الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة , ويصل ما بينهم في المقاصد ,
والعزائم والأعمال , كذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر بل
الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات , بل المتباعدة في الصور
والأشكال , ويحوِّل أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد وهو تأصيل المجد وتأييد
الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم.
هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني , وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد
إليه العقل الصحيح , وما كانت رابطة الجنس لتقوى على شيء منه.
ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني , وزعموا أن
حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم , وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من
غاشية الوهن والضعف هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية , ويحجبهم
عن نور العلم والمعرفة , ويرمي بهم في ظلمات الجهل , ويحملهم على الجور
والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم , ومن رأي أولئك المتفتقين أن لا سبيل
لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها ,
وتخليص العقول من سلطة العقائد , وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي ,
ويخوضون في نسبة مذامِّ التعصب إليهم.
كذب الخراصون , إن الدين أول معلم وأرشد أستاذ وأهدى قائد للأنفس إلى
اكتساب العلوم والتوسع في المعارف , وأرحم مؤدب , وأبصر مروض يطبع الأرواح
على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة , ويقيمها على جادة العدل , وينبه فيها حاسة
الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإسلام فهو الذي رفع أمة كانت من أعرق الأمم في
التوحش والقسوة والخشونة , وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب
مدة وهي الأمة العربية.
قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على
التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور , بل ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين لإبادة
مخالفيهم ومحو وجودهم , كما قامت الأمم الغربية واندفعت على بلاد الشرق لمحض
الفتك والإبادة لا للفتح , ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب
الصليب , وكما فعل الأسبانيوليون بمسلمي الأندلس , وكما وقع قبل هذا وذاك في
بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع
اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأصول الدين قلما تمتد له
مدة , ثم يرجع أرباب الدين إلى أصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل.
أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف شطَّت في تعصبها في الأجيال الماضية
إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من
مخالفيهم في دينهم وما عُهد ذلك في تاريخ المسلمين بعد ما تجاوزوا حدود جزيرة
العرب، ولنا الدليل الأقوم على ما نقول وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن
حافظة لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن
الضعف.
نعم كان للمسلمين ولع بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات , وكانت لهم شدة
على من يعارضهم في سلطانهم إلا أنهم كانوا مع ذلك يحفظون حرمة الأديان ,
ويرعون حق الذمة , ويعرفون لمن خضع لهم من الملل المختلفة حقه , ويدفعون
عنه غائلة العدوان ومن العقائد الراسخة في نفوسهم (أن من رضي بذمتنا فله ما لنا
وعليه ما علينا) ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطباع البشرية , ومن نشأة
المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدًا من مخالفيهم عن التقدم إلى ما يستحقه من
علو الرتبة وارتفاع المكانة , ولقد سما في دول المسلمين على اختلافها إلى
المراتب العالية كثير من أرباب الأديان المختلفة , وكان ذلك في شبيبتها وكمال
قوتها , ولم يزل الأمر على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه
الدرجة من العدل إلى اليوم (فسحقًا لقوم يظنون أن المسلمين بتعصبهم يمنعون
مخالفيهم من حقوقهم) لم يسلك المسلمون من عهد قوتهم مسلك الإلزام بدينهم
والإجبار على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم وتغلغلهم في افتتاح الأقطار ,
واندفاع هممهم للبسطة في المُلك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوة يبلغونها فإن قُبلت
وإلا استبدلوا بها رسمًا ماليًّا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروط عادلة تُعلم
من كتب الفقه الإسلامي.
هذا على خلاف متنصرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى , فإنهم ما
كانوا يطأون أرضًا إلا ويلزمون أهلها بخلع أديانهم والتطوق بدين أولئك
المُسلطين , وهو الدين المسيحي، كما فعلوا في مصر وسوريا بل وفي البلاد
الإفرنجية نفسها.
هذا فصل من الكلام ساق إليه البيان , وفيه تبصرة لمن يتبصر , وتذكرة لمن
يتذكر , ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا بصدده: هل لعاقل لم يُصَب برزيئة
في عقله أن يعد الاعتدال من التعصب الديني نقيصة؟ وهل يوجد فرق بينه
وبين التعصب الجنسي إلا بما يكون به التعصب الديني أقدس وأطهر وأعم فائدة؟
لا نخال عاقلاً يرتاب في صحة ما قررناه، فما لأولئك القوم يهذون بما لا يدرون؟
أي أصل من أصول العقل يستندون إليه في المفاخرة والمباهاة بالتعصب الجنسي
فقط واعتقاده فضيلة من أشرف الفضائل ويعبرون عنه بمحبة الوطن [2] وأي قاعدة
من قواعد العمران البشري يعتمدون عليها في التهاون بالتعصب الديني المعتدل
وحسبانه نقيصة يجب الترفع عنها؟
نعم إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما هي الرابطة
الدينية , وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية ولأولئك الإفرنج مطامع
في ديار المسلمين وأوطانهم فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب
الديانة الإسلامية , وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة , وفصم حبالها لينقُضوا بذلك
بناء الملة الإسلامية ويمزقوها شيعًا وأحزابًا، فإنهم علموا كما علمنا وعلم
العقلاء أجمعون أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى
للمفسدين نجاح في بعض الأقطار الإسلامية , وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلاً
وتقليدًا فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعد ما فقدوها , ولم يستبدلوا بها
رابطة الجنس (الوطنية) التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقًا منهم وسفاهة ,
فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنًا سواه؛ فاضطر للإقامة بالعراء
معرَّضًا لفواعل الجو وما تصول به على حياته.
هذا أسلوب من السياسة الأوربية أجادت الدول اختباره , وجنت ثماره فأخذت
به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم , فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد
العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية , ولم تُعدم صيدًا من الأمراء
والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة , واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من
بلادهم, وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا
مع هذه الأهواء الباطلة , ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع بقائهم
على عقائدهم وثباتهم في إيمانهم يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني , ويلهجون
في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة , ولا يعلم أولئك
المسلمون أنهم بهذا يشُقون عصاهم ويفسدون شأنهم , ويخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة ودفعها إلى
أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء.
والله ما عجَبُنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين
من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين [3] ,
ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة.
الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب , وأحرصهم على القيام
بدواعيه , ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين
والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم , وإذا عَدَت عادية مما لا يخلو عنه
الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق
سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية
وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة وحدثت حادثة، مهمة فأجمعوا الأمر وخذوا
الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية ,
وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات
وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون
ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين , وإن
كان في أقصى قاصية من الأرض , ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغُمر وجه البسيطة من دماء
المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس , بل
يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده , ويذهلون عما
أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والمرحمة الطبيعية كأنما يعدون
الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية , وليس من نوع الإنسان
الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره , وليس هذا خاصًّا بالمتدينين منهم بل
الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم
الديني , ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم , وليتهم يقفون عند الحق ولكن كثيرًا
ما تجاوزوه.
أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب , يبلغ الرجل منهم
أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه , ثم لا نجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها
نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى
كتب غلادستون وخطبه السابقة) .
فيا أيتها الأمة المرحومة هذه حياتكم فاحفظوها , ودماؤكم فلا تريقوها , وأرواحكم
فلا ترهقوها , وسعادتكم فلا تبيعوها بثمن دون الموت.
هذه هي روابطكم الدينية لا تغرنكم الوساوس ولا تستهوينكم الترهات , ولا
تدهشنكم زخارف الباطل , ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم , واعتصموا بحبال
الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي , والفارسي
بالهندي , والمصري بالمغربي , وقامت لهم مقام الرابطة النَّسبية حتى إن الرجل
منهم ليألم لما يصيب أخاه من عاديات الدهر وإن تناءت دياره وتقاصت أقطاره.
هذه صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم , وفيها عزتكم ومنعتكم وسلطانكم
وسيادتكم، فلا توهنوها , ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل , فالعدل
أساس الكون وبه قوامه , ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم , وعليكم أن تتقوا
الله وتلزموا أوامره في حفظ الذمم ومعرفة الحقوق لأربابها , وحسن المعاملة
وأحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب
الأديان المختلفة , فإن مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم كما لا تقوم مصالحهم إلا
بمصالحكم , وعليكم أن لا تجعلوا عصبية الدين وسيلة للعدوان , وذريعة لانتهاك
الحقوق , فإن دينكم ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب. هذا ولا تجعلوا
عصبيتكم قاصرة على مجرد ميل بعضكم لبعض , بل تضافروا بها على مباراة الأمم
في القوة والمنعة والشوكة والسلطان , ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة والفضائل
والكمالات الإنسانية. اجعلوا عصبيتكم سبيلاً لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم , وأخذ كل
منكم بيد أخيه ليرفعه من هوة النقص إلي حضيض الكمال , وتعاونوا على البر
والتقوى , ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (العروة الوثقى)
يقول منشئ هذه المجلة:
(إن الوطنية العمياء التي يلغط بها بعض الناس في مصر هي أضر على
الرابطة الإسلامية من ذم التعصب الديني؛ لأنها ضُرتها وخصيمتها , ولذلك ترى
أصحابها يمقتون غير المصري ممن يقيم في مصر , وإن قام لهم بأشرف الخدم
وهي خدمة الدين , ولا يستحي كتابهم حيث يسجلون في جرائدهم مثل قولهم:
إن هؤلاء غرباء , وجاءوا بلادنا ليتعيشوا ويتريشوا، وما أشبه هذه السخافات
فوا إسلاماه , ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
__________
(1) يشير إلى مقالة نفيسة عنوانها (الجنسية والديانة الإسلامية) وسننشرها في عدد آخر.
(2) تأمل كيف صرح بأن الذين يحاولون منع التعصب الديني يريدون أن يستبدلوا به التعصب الوطني.
(3) ذكر هنا من مثال ذلك أن الإنكليز سعوا بنشر جريدة وانشاء مدرسة لبث هذه الأباطيل، حذفناه اختصارًا، وأما في مصر فمن محمل لواء الوطنية يدعي بعض الإنكليز.(3/4)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(21) من هيلانة إلى أراسم في 2 يولية سنة - 185
أترى أن الكمال لا يخلو من نقص والحسن لا يعرى من قبح؟ إني -
والحق أقول - أراني مدفوعة إلى اعتقاد ذلك ببواعث كافية.
فما عاينته من أحوال الإنكليز وأخلاقهم ينطبق انطباقًا تامًّا في بعض المواضع
على ما سمعته عنهم من السير جون سنت أندروز , ولكن تصفحي هذه الأخلاق
وترديد فكري فيها قد اضطرني إلى الأخذ بالحزم في امتداحها , وترك المجازفة في
إطرائها.
لأكثر الامهات اللاتي ألاقيهن في بيت السيدة وارنجتون أولاد عديدون، فما
أعجب ما يرى في جميعهم من مقدار تحققهم بما لمخالطيهم من الأوهام وسرعة
انطباع معتقداتهم الباطلة في نفوسهم، فتراهم على قلة علمهم بالأمور يفرقون بين
مطلق رجل والسري المهذب من الرجال , ومطلق امرأة والسيدة الكريمة من النساء
فرقًا تامًّا , ويميزون من ولدوا لخدمتهم ممن يجب لهم عليهم الإجلال والتعظيم لأول
نظرة إليهم غير مترددين في ذلك ولا مرتابين , ويحافظون على شرف الاقتداء بعظماء
الناس في سيرهم لا لأن ذلك مطلوب لذاته , بل لعدم الإخلال بما تواضع عليه
أولئك العظماء من الآداب. وإني لعلى يقين من أنك لو اطلعت على هذا العالم
الناشئ لوجدت فيه شيئًا من التصلف , فلشد ما يُرى فيهم من العجرفة , وما يُبدونه
أمام الأجانب من ظواهر الأبهة الصبيانية.
أليست حقيقة الأمر أن هؤلاء الإنكليز أنفسهم على ما لهم من الحرية الواسعة,
وما فيهم من كمال استحقاقها هم في غاية الخشية والخضوع لرأي الكافة؟ أليس
شأنهم في هذا شأن باسكال [1] الذي يسمي ذلك الرأي ملك الدنيا.
على أنني لا أدري أي تأثير له فيها يستحق به هذه التسمية , ولكني أخال أنه
له في إنكلترا من السلطان والسيطرة ما ليس مثله لفكتوريا , فإن جيراننا ينشأون
من صغرهم عبيدًا مختارين لبعض مواضعات قومية , فيوجبون على أنفسهم تعظيم
ما عظمه جمهور المهذبين من قومهم بدون بحث فيه ولا نظر , فكل منهم في
سيرته وآرائه تبع لغيره معتمد على ما لهذا الغير من الاعتبار وعلو الكلمة , وتراهم
في منتدياتهم قليلي الكلام , بل إن محادثاتهم لا تخرج عن حدود المواضيع التي
قدسها استقرار العادة. فلهم جمل من المعاني والأفكار كأنها تحجرت في أخلاقهم
وعوائدهم , فأجمعوا على عدم المناظرة والجدال فيها.
إني إلى الآن لم أعرف الإنكليز معرفة تكفي لإدراك سر هذه المباينات , وإنما
الذي أراه في كبارهم أنهم قد جمعوا بين غاية الاستقلال في أفعالهم وغاية التقليد في
آرائهم , وأما صغارهم فإنهم كذلك أحرار في حركاتهم وفي معظم ما تتوجه إليه
عزائمهم من أعمالهم , لكنهم يحجرون على أنفسهم أن تتعلق هذه العزائم من
الأعمال بما يخالف تقاليد أهليهم وآثار سلفهم وعوائد الصالحين من مخالطتهم ,
وربما كانت الحكمة في كل ذلك أن القوم قد رأوا طباعهم تجري بهم في بحر لجي
من الحرية جري السفن مدت شرعها فاضطرهم ذلك إلى طلب مرساة يوقفون بها
جريها فالتمسوها في ضبط الأخلاق البيتية وفي العوائد القومية والأصول الملية
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) باسكال - ويسمي بليز باسكال - هو كاتب ومهندس فرنساوي شهير ولد في كليرمونت فيراند سنة 1623 ومات سنة 1662 ميلادية وله مؤلفات شهيرة منها (أفكار باسكال) .(3/15)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دار علوم في مكة المكرمة
شكونا غير مرة في المنار من إهمال المعارف والفنون في البلدين المكرمين:
مكة والمدينة مهبط الوحي ومشرق أنوار العلم والحكمة تنبيهًا للدولة العلية
والحضرة السلطانية إلى تدارك ذلك , وقد ذكرت جريدة الرياض (التي سيأتي
تقريظها) المدرسة الصولتية التي تأسست في مكة المكرمة من نحو ربع قرن , وأنه
انحط شأنها الآن بسببين، أحدهما: موت النواب محمود علي خان صاحب رئيس
جهتاري من مضاف بلند شهر (رحمه الله تعالى) فإن ذلك الأمير الفاضل كان ركن
هذه المدرسة وعمادها ومبالغًا في إرفادها وإمدادها , وثانيهما: انتشار الطاعون في
بلاد الهند الذي حال بين مسلمي الهند وبين بلد الله الأمين , وقد كان للمدرسة في
كل عام وفد عظيم من أغنيائهم , وحاصل القول: إن المدرسة قد حيل بينها، وبين
موارد ثروتها , قال صاحب الرياض وأعضاء الشورى (أي في الهند) والمهتمون
بالمدرسة الصولتية يبتغون إقامة (دار علوم) في مكة المكرمة تجمع بين علوم
الدين وعلوم الدنيا حتى الحرف والصنائع ثم قال: (وكفى لمسلمي الهند فخرًا
يباهون به أن ينعقد بتوجههم دار العلوم في أم القرى , وأنا أردت أن أدور في جميع
أقطار الهند وبلادها وأمصارها لأحشد لها نقودًا, وأرصن بها بناء دار العلوم
لتعليمات الفنون الدنيوية والعلوم الدينية , وقد جعلني الجناب المولوي محمد سعيد
منتظم المدرسة الصولتية في بلد الله الأمين وكيلاً من قبله في بلاد الهند) ثم
ذكرنا أنه جعل جريدته داعية إلى هذا , وأنه يعطي لكل من يدفع له شيئًا من النقود
وصولاً (قسيمة) مختومًا بختم المولوي محمد سعيد , ويتكفل هو بإيصال النقود
إليه.
(اقتراح المنار)
نشكر لإخواننا مسلمي الهند الساعين بهذا العمل المبرور غيرتهم الدينية ,
ونعترف لهم بفضل السبق إليه , ولكن نحب أن يشاركهم فيه سائر إخوانهم
المسلمين في جميع أقطار الأرض , ونقترح على مسلمي كل قطر أن يؤلفوا لجنة
للاكتتاب وجمع المال لهذا العمل الشريف يرأسه في كل مصر أحد أهل الفضل
والوجاهة , وأن يحث عليه الخطباءُ وأصحابُ الجرائد عمومًا , وأن تكون اللجنة
العليا في مكة المكرمة نفسها , وأن يكون بينها وبين سائر اللجان اتصال بالمكاتبة ,
وأن تعهد كل لجنة من لجان الآفاق إلى بعض الفضلاء الذين يقصدون الحج
بحضور اللجنة العليا واكتناه شؤونها , وإذا اتفق السيد الشريف أمير مكة مع دولة
واليها على الإيعاز إلى خطباء الحرم الشريف وخطباء عرفة بحث الحجاج على
التبرع لهذا العمل المبرور فلا تسل عما يظهر من المكارم الإسلامية في تلك البقاع
القدسية , وقد كنا اقترحنا في المجلد الأول من (المنار) إنشاء جمعية إسلامية
كبرى في مكة المكرمة يكون لها شُعب في جميع بلاد الإسلام , وبينَّا هنالك أعمالها
ومزاياها , وأشرنا إلى الصعوبة التي أمامها , ولكن هذا العمل (إنشاء دار علوم)
لا صعوبة أمامه بل هو متيسر جدًّا إن شاء الله تعالى , وسيكون فاتحة خير لجمع
كلمة المسلمين بفضل الله تعالى , وبه يظهر المسلم الغيور ممن لا حظَّ له من الغيرة
على الإسلام إلا كثرة اللغط والكلام , وسنعود إلى الموضوع , ونرجو من المؤيد
الأغر , ثم من سائر الجرائد المصرية حث إخواننا المصريين على أن يسبقوا سائر
المسلمين إلى الانضمام إلى إخوانهم الهنديين , والله لا يضيع أجر المحسنين ,
وأقسم بالله العظيم رب البيت الحرام ومميزه على سائر البلاد بظهور نور الإسلام،
على جميع المقربين من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أن يبلغوه
خبر هذه المدرسة بالصفة الحقيقية التي ترضيه لكي تفيض عليها مكارمه الهامية ,
وتحوطها رعايته السامية , وعسى أن يهتم من يسمع له الكلام , من على ذلك المقام
كسماحة السيد أبي الهدى أفندي بأن يكون الواسطة بين المسلمين وخليفتهم في
أمنيتهم هذه , فيكون له عند الجميع شأن عظيم , وعند الله أجر كريم.
__________(3/17)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
نفتتح باب الآثار الأدبية بقصيدة من غرر القصائد العصرية مزينة بمديح
مولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان أيد الله
دولته , وأنفذ شوكته , نظم عقدها صديقنا الفاضل الشيخ محيي الدين أفندي الخياط
البيروتي , وهي:
إليك فما تغني القنا والقنابل ... إذا لم يقم بالأمر كاف وكافل
وليس الظبي إلا مخاريق لاعب ... إذا سلها كف عن العدل عادل
وليست قلاع الجو تدعى معاقلاً ... إذا لم يدر أمر المعاقل عاقل
وما صولجان الملك يدفع أكرة ... إذا لعبت بالصولجان الأسافل
وما يصنع البحار فوق سفينة ... إذا عُطِّلت بالسير منها المراجل
وما تصنع الأجناد والجهل قائد ... وما تنفع القُوَّاد والجند خاذل
دع البذخ ما هذي القصور مشيدة ... لتبني فخارًا والمشيد جاهل
كذلك ما تبني الجبال شواهقًا ... تناطح هام الأفق وهي مجاهل
إذا العلم لم تعهده منك معاهد ... غدت بلقعًا وهي الربوع الأواهل
وما العلم إلا الدين مع عمل به ... وما الدين والأعمال إلا الفضائل
وما الشعب والسلطان إلا وشائج ... وما الناس والأوطان إلا الفعائل
أتتك أمير المؤمنين ووجهها ... ووجهك وضاح عليه دلائل
تمد يمينًا ذات يمن ومعصم ... له الكون كف والأنام أنامل
قرونًا ثلاثًا جاوزت بعد عشرة ... وتبقى إلى أن يسحل الكون ساحل
وتحيا وفي الإسلام حي وميت ... وليس بقايا السيف إلا الثواكل
تقطعها الأجيال وهي قواطع ... وترشقها الأقتال وهي قواتل
توالت عليها الحادثات وكفها ... طليق وما للقيد إلا السلاسل
تحملتها كهلاً، بلى كنتَ شيخها ... وما ونيت يا كهل منك الكواهل
خليفة رب الكون تلك خلافة ... إذا أيمت لم يبق في الكون عاهل
رعيت رعاك الله أي رعية ... تقاتل بالأرواح فهي الجحافل
وما ينفع الجيش العرمرم في الوغا ... إذا لم يكن مستقتلاً من يقاتل
تبوأتَ عرش الملك والجهل طالع ... بأفق الرزايا والخطوب نوازل
على حين ما إن الخلافة أعوزت ... زعيمًا فلم تقبل سواك القبائل
وأم العلا رامت خطيبًا لبكرها ... وليس لبيت المجد غيرك آهل
يقولون: ما ساس الأمورَ كغيره ... فقلت: وكم قد قال في الناس قائل
وما راكب البحر العباب تحوطه ... عواد كمن يؤويه بالبر ساحل
وكم من طليق للسياسة يدّعي ... فلما تولى شكلته المشاكل
يظنون تحرير الجرائد دولة ... وما هي إلا القول للبيع نازل
ظنون وتخريص وأوهام زاجر ... يشوبهم بالطبع حق وباطل
يديرون أمر الكون والكون دائر ... على سنن للناس فيها شواغل
نعم إن منهم نافعًا لبلاده ... ولكن وايم الله هن قلائل
فلا يتعدى أول العقد آخر ... ولا يتخطى مركز العقد واصل
فدعهم بلج القول تفديك أمة ... بك اتصلت روحًا فلم يبق فاصل
تعدك ظل الله إذ أنت عندها ... خليفته والسر في تلك حاصل
لقد سُستَها بالعلم والحلم والندى ... وهذي المزايا كلها والفضائل
مليك البرايا دأبك الجد لا تقف ... فأنت لنا عضو عن الجسم عامل
كذاك دهاقين العلا ورجاله ... وليس امرأ إلا الهمام الحلاحل
عداك الردى لو كنت في غير شرقنا ... لما نُصبت إلا إليك الهياكل
ولو أن أهل الشرق مثلك لم نجد ... سوى الجد بل ما كان في الشرق خامل
لقد شدت للتعليم أي مدارس ... بها علمتنا كيف تنشأ المعامل
ولكننا اعتدنا الخمول وشرقنا ... أناخت عليه بالخمول كلاكل
نؤمل أن يبقى لذي الأمر عالة ... يعول علينا الدهر والكل عائل
فلا المال يرضينا ولا العلم نبتغي ... ولا للعلا نسعى وهذا التسافل
ونعتقد الحكام هيكل قدرة ... له البدر صيد والنجوم حبائل
إذا موسر أو عالم نبغا بنا ... يعرقل مسعاه سريٌّ وسافل
ولستُ أزكي النفس بل أنا واحد ... بل كلنا المسئول والله سائل
ودونكها ليس التبرج شأنها ... ولم تتبذل قط والغير باذل
لقد صغتُها والشعر يشهد أنني ... هجرت قوافيه فهن قوافل
وما تبتغي مني البلاغة إن أكن ... بليغًا بعصر فيه باقل قائل
دعونى وشأني والتظاهر لا أرى ... فليس يعاب البدر والبدر آفل
(المنار)
لم نتصرف بشيء من أبيات القصيدة ولا من ألفاظها المفردة؛ لأنها
جاءت مذيلة من حضرة ناظمها الفاضل بالتصحيح؛ وممضاة بإمضائه.
__________(3/19)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(فلسفة البلاغة)
وضع العلامة عبد القاهر الجرجاني فنون البلاغة وكتب فيها ما يتنافس فيه
المتنافسون , ثم جاء مَن بعده فكتب دون ما كتب عبد القاهر , ولم تزل البلاغة
تسفل وتتضاءل على تمادي السنين والأجيال حتى آلت إلى الاضمحلال وآذنت
بالزوال , ولم يبق عند المشتغلين بتلك الفنون إلا بعض المحاورات اللفظية في
أساليب كتب المؤلفين الذين تبعد أساليبهم عن ذوق اللغة الصحيح , وقد تنبه
الناس في هذا العصر إلى إحياء فنون اللغة العربية وتحصيل ملكة البلاغة فيها
ورأى صديقنا العالم الفاضل المعلم جبر ضومط أستاذ اللغة العربية بالمدرسة الكلية
السورية الأميركانية في بيروت أن حالة العصر تقتضي وجود تآليف في البلاغة
بأسلوب جديد فألف أولاً كتاب (الخواطر الحسان) وقد أهدانا من أشهُر كتابًا آخر
سماه (فلسفة البلاغة) تصفحنا بعض صفحاته , فألفيناه على قاعدة جعلها قطب
دائرة البلاغة وأصاب , وهي (الاقتصاد في انتباه السامع) وقد كنا أرجأنا تقريظه إلى
أن تتسنى لنا مطالعته بتمامه , وإلى الآن لم يسمح لنا الوقت بذلك , فنوهنا به مؤقتًا
لنعطيه بعض حقه , ونرشد الطلاب إلى الاستفادة منه.
(الزراعة المصرية)
يؤلف أخونا الفاضل المهذب أحمد أفندي جرانة العالم البارع في فن
الزراعة سلسلة رسائل في الزراعة المصرية , وقد طبعت الرسالة الأولى
منها في مطبعة الهلال , وهي في (زراعة قصب السكر) تكلم فيها كلامًا وافيًا
ابتدأه بتاريخ القصب , ثم تكلم عن القصب المصري خاصة وعن
الأرض التي تصلح لزراعته , وعن حالة الجو بالنسبة له , وعن المياه والتقاوي
ومعالجة الأرض , وكيفية الزراعة , وعن المحصول والنفقات والأمراض التي
تصيبه , وغير ذلك من الفوائد العلمية والعملية , فعسى أن يُقبل المصريون على
اقتناء هذه الرسالة والاستفادة منها , فإن القصب من أهم غلات هذه البلاد.
(الرياض)
جريدة علمية أدبية شهرية مؤقتًا ذات ثماني صفحات كبيرة تصدر في مدينة
لكهنوء من بلاد الهند باللغتين العربية والأوردية , صاحب امتيازها الفاضل الهمام
الحاج رياض الدين أحمد , وقد تصفحنا العدد الأول منها فألفيناه مشتملاً على فوائد،
منها أنه ضبط خمس كلمات مما يخطئ أكثر الناس في ضبطها , وقد فتح لهذا بابًا في
الجريدة لأجل متابعة العمل , والكلمات الخمس هي: (آصَف) كاتب سليمان عليه
السلام بفتح الصاد (ابن جنِّي) العالم المشهور بضم الجيم معرَّب كني (الأُبَّهة) بضم
الهمزة وفتح الباء المشددة , (الأجنة) جمع جنين الأجن , وهذه وما قبلها لا يخطئ
فيهما أحد عندنا (الأجوبة) في جمع الجواب غلط , قال ابن الجوزي في تقويم
اللسان: (الجواب لا يجمع) هذا ما جاء في الرياض , ونزيد نحن في الكلمة الأخيرة
أن سيبوبه سبق ابن الجوزي فقال: الجواب لا يجمع، وقولهم: جوابات كُتُبي مولد ,
وأجوبة كتبي مولد , إنما يقال: جواب كتبي , أي إن كان الجواب متعددًا؛ لأن المفرد
المضاف يعم , ولكن المصباح ذكر الجمعين وسكت عليهما , فهل كان ذهولاً عن كلام
سيبوبه أم ثبت عنده الجمع؟ ومنها - بل عظمى فوائدها - الحث على إنشاء دار
علوم في مكة المكرمة (انظر باب التربية والتعليم) .
__________(3/22)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منثورات
(انتشار دين الإسلام)
جاء في جريدة الحاضرة الغراء ما نصه:
بعث الفاضل محمد أفندي عبد الحق القاطن في مقاطعة قولينسلاند من أعمال
القارة الأسترالية برقيم حَرِيٍّ بالذكر أوضح فيه أن الدين الإسلامي آخذ بالانتشار في
جزائر فيكتوريا وجنوبي بلاد الغال وقولينسلاند والفيشي انتشارًا مهمًّا , وأن المسلمين
قُطَّان هذه الجزائر يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل الحصول على الكتب الدينية
الإسلامية , وأنهم قد ألفوا جمعيات عديدة في البلاد بغية نشر الدين، وفقهم الله.
وجاء في رسالة من نيش إلى جريدة إقدام العثمانية أن عشرة آلاف من سكان
نيش من عواصم الصرب , وثلاث بلدان أخرى بعملها قد اهتدوا جميعًا إلى الدين
الإسلامي , وعزموا على ترك الأوطان فرارًا من ظلم الحكومة الصربية , والالتجاء
إلى الممالك العثمانية.
إن الجامع الذي عزم المسلمون على تأسيسه في (لندرة) عاصمة البلاد
الإنكليزية قد قُدِّرت نفقاته بعشرة آلاف ليرة، وسيكون في أحسن موقع من البلدة
على أجمل طرز غربي.
(مأثرة تذكر لفضيلة شيخ الجامع الأزهر)
كتب مولانا شيخ الجامع الأزهر إلى سعادة محافظ مصر بأن يمنع الرجال
والنساء الذين يتلون القرآن في الطرق والشوارع , حتى بقرب الحانات والمزابل
لما في هذا من الإهانة للدين.
***
انتقلت جمعية شمس الإسلام من مركزها الذي كانت فيه ويجتمع مجلس إدارتها
الآن في بيت أحد أعضائه , وسيصير أخذ محل مناسب لها في هذا الأسبوع , وعند
ذلك تخبر به جميع الأعضاء وجميع اللجان الفرعية إن شاء الله تعالى , وسنشرح
أسباب الإرجاف بها.
لم نتمكن من جمع فهرست المجلد الثاني وطبعه لنقدمه مع هذا الجزء؛ لكثرة
الشواغل التي أحدثها تعدي المفسدين علي الجمعية , وقد انتهت المشكلة على خير ,
ولله الحمد , ونرجو أن نتمكن من تقديم الفهرست مع الجزء الآتي.
***
نهنئ جريدة الأصمعي وجريدة المناظر الغراوين اللتين تصدران في بلاد
البرازيل بإكمال السنة الأولى , والدخول في السنة الثانية مع الجد والاجتهاد في
خدمة أبناء وطنهم السوري في تلك البلاد , ونتمنى لهم زيادة النجاح والفلاح.
__________(3/24)
11 ذو القعدة - 1317هـ
12 مارس - 1900م(3/)
الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى
__________
الجنسية والديانة الإسلامية
من مقالات العروة الوثقى
خير ما كتبه علماء الإسلام في حكمة الدين الإسلامي
إن استقراء حال الأفراد من كل أمة , واستطلاع أهوائها يثبت لجلي
النظر ودقيقه وجود تعصب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم , وإن
المتعصب لجنسه منهم لَيَتيه بمفاخر بنيه ويغضب لما يمسهم حتى يُقْتل دون دفعه
بدون تنبه منه لطلب السبب , ولا بحث في علة هذه الوجدانيات الطبيعية , إلا أنه
يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل ولد في أمة من الأمم , ثم نقل قبل التمييز إلى
أرض أمة أخرى وربي فيها إلى أن عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه
ميلاً إليه بل يكون خالي الذهن من قِبَله ويكون مع سائر الأقطار سواء , بل ربما
كان آلف لمرباه وأميل إليه , والطبيعي لا يتغير , ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي ,
ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها
الضرورات، فإن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة, وفي أفراده ميل إلى
الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية ذكية , وسعة المطمع إذا
صحبها اقتدار يطبعها على العدوان، فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض
آخر , فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابًا طوالاً إلى الاعتصاب بلحمة النسب
على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس فتوزعوا أممًا كالهندي
والإنكليزي والروسي والتركماني ونحو ذلك؛ ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده
المتلاحمة قادرًا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر , ثم
تجاوزوا في ذلك حد الضرورة كما هي عادة الإنسان في أطواره , فذهبوا إلى حد
أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه علمًا بأنه لابد أن يكون جائرًا إذا حكم ,
ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذُلاًّ تحس به النفس وينفعل له القلب , فلو زالت
الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في
الحدوث بلا ريب، وتبطل الضرورة بالاعتقاد على حاكم تتصاغر لديه القوى ,
وتتضاءل لعظمته القدر , وتخضع لسلطته النفوس بالطبع , وتكون بالنسبة إليه
متساوية الأقدام , وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض , ثم يكون القائم من
قبله بتنفيذ أحكامه مساهمًا للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين
فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى , وأيقنت بمشاركة القيم على أحكامه
لعامتهم في التطامن لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه
السلطة المقدسة , واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمحي أثرها من
النفوس , والحكم لله العلي الكبير.
هذا هو السر في إعراض المسلمين على اختلاف أقطارهم عن اعتبار
الجنسيات , ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبيتهم
الإسلامية , فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه
ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة وهي علاقة المعتقَد [1] لأن الدين
الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق , وملاحظة أحوال
النفوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى , بل
هي كما كانت كافلة لهذا جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد , وبيان
الحقوق كليها وجزئيها وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة
الحدود , وتعيين شروطها حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد
الناس خضوعًا لها , ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية أو
ثروة مالية , وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها
ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية
التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة , وليس للوازع أدنى امتياز
عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها.
وكل فخار تكسبه الأنساب , وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع
أثرًا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض , بل كل رابطة سوى
رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع , والمعتمِد عليها مذموم ,
والمتعصب لها ملوم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية ,
وليس منا من قاتل على عصبية , وليس منا من مات على عصبية) والأحاديث
النبوية والآيات المنزلة متضافرة على هذا , ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من
يفوق الكافة في التقوى (اتباع الشريعة) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ومن ثم قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف
الأجيال من لا شرف له في جنسه , ولا امتياز له في قبيله , ولا ورث الملك عن
آبائه , ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه , وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعه
للشرع وعنايته بالمحافظة عليه.
وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يسديها إليهم على حسب امتثالهم
للأحكام الإلهية , واهتدائهم بهديها , وتجردهم عن الاعتلاء الشخصي , وكلما أراد
الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره في أبهة ورفاهة معيشة , وأن يستأثر
على المحكومين بحظ زائد رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف
وانقبضت سلطة ذلك الوازع.
هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا
يعتدُّون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس , وإنما ينظرون إلى جامعة الدين ,
لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي , والفارسي يقبل سيادة العربي ,
والهندي يذعن لرئاسة الأفغاني , ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وإن
المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من
قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظًا لشأن الشريعة ذاهبًا مذاهبها , نعم إذا نبا في
سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه , وطلب الأثرة بما ليس له من حقه؛
انصدعت منه القلوب وتخلت عن محبته الأنفس , وأصبح وإن كان وطنيًّا فيهم أشنع
حالاً من الأجنبي عنهم.
إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثر والأسف عندما
يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها ,
ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية , وثابر
على رعايتها , وَأخَذَ الدهماء بحدودها , وضرب بسهمه مع المحكومين في
الخضوع لها , وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز
بسطة في الملك , وعظمة في السلطان , وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في
الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين , ولا يتجشم في ذلك أتعابًا , ولا يحتاج إلى بذل
النفقات ولا تكثير الجيوش , ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن
وأنصار الحرية… ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين ,
والرجوع إلى الأصول الأولى من الديانة الإسلامية القويمة , ومن سيره هذه تنبعث
القوة وتتجدد لوازم المنعة. أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم
تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط , ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة
العباد في دنياهم , وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة , وهو المعبر عنه
في الاصطلاح الشرعي بسعادة الدارين , وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس
المتباينة والأمم المختلفة.
ابيضت عين الدهر , وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضًا من المسلمين
على حكم الندرة يعز عليهم الصبر , ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم
في معاملتهم عن أصول العدالة الشرعية , فيلجأون للدخول تحت سلطة أجنبية، على
أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطريق , فمثلهم مثل من
يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع , وإن بعض ما يطرأ على
الممالك الإسلامية من الانقسام والتفرق إنما يكون منشؤه قصور الوازعين
وحيَدَانهم عن الأصول القويمة التي بُنيت عليها الديانة الإسلامية , وانحرافهم عن
مناهج أسلافهم الأقدمين , فإن منابذة الأصول الثابتة , والنكوب عن المناهج
المألوفة أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا , فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى
قواعد شرعهم , وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد
آتاهم الله بسطة في الملك , وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة الدين , وفقنا الله
للسداد وهدانا طريق الرشاد.
(المنار)
لقد وقعت مقالة التعصب التي نشرناها في الجزء الماضي أحسن
موقع وأجله في نفوس قارئيها من فضلاء المصريين , ولا ريب أن سيكون لهذه ما
كان لتلك , فإن الكل من ينبوع واحد وهو علم أستاذنا الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية محرر جريدة العروة الوثقى , ومن هاتين المقالتين يعرف القراء
السر والحكمة فيما اشتهر عن الأستاذ من تخطئة اللاغطين بالوطنية في مصر ,
والإعراض عنهم لجهلهم بما ينفع الأمة ويضرها , ولكن زعماء الوطنية يوهمون
الناس بأن كل من يسفه أحلامهم فهو ميال إلى مسالمة المحتلين أو مصانعتهم ,
وقد أساء أغرار المصريين الظن بكثير من الفضلاء لوساوسهم , ثم انجلت الحقيقة
لأكثرهم , وستنجلى للآخرين إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ولكن قد بلينا في هذا الزمان بقوم لم يتربوا تربية إسلامية فاندفعوا بالوساوس الأوروبية إلى قطع العلاقة العامة الاعتقادية , وتعليم الناس التعصب لوطنهم فقط , ولا وجود لهم إلا في مصر , ويسمون أنفسهم الوطنيين , ونحمد الله أن عددهم قليل وإلا لألقوا العداوة والبغضاء بين مسلمي مصر وسائر المسلمين.(3/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح
وصَّى الله - تعالى - جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ولكن رجال الدين من كل أمة فرقوا دينهم ,
وكانوا شيعًا ومذاهب يضلل بعضها بعضًا , فكان هذا التفريق مسقطًا للدين من نظر
الحكماء والفلاسفة , فقام رجال الدين يناصبون أهل العلم العقلي والحكمة العداء ,
حتى كانت الأمم قبل الإسلام تعتقد أن الدين والعقل ضدان لا يجتمعان , وخصمان
لا يتفقان , وسرت هذه الوساوس من تلك الأمم لبعض المسلمين , وصارت تقوى
بينهم كلما ضعف العلم والدين، ولما تنبه أهالي أوربا بعد الحروب الصليبية إلى أن
ضعفهم في العلوم والمعارف وما يتبعها من الصنائع وأسباب العمران كله أو جله
من سوء سيرة رجال الدين فيهم شنوا عليهم الغارة الشعواء , وظهر فيهم حزب
الإصلاح الذي استتبع من الحروب ما أوجب ذلك الانقلاب العظيم في أوربا , وعنه
نشأت مدنيتها العظمى التي نشاهد من آثارها ما يحير الأفكار , ويكاد سنا ضوئه
يذهب بالأبصار.
ولما رأى رجال الدين من بعد أن مقاومة العلم ومقاومة المدنية يعودان
عليهم وعلى الدين بالوبال , ويؤذنان سلطتهم بالزوال؛ ساروا مع العلم والمدنية ,
وكانوا من أكبر أنصارهما , وجمعوا بين علوم الدين والدنيا , ثم فاضت العلوم
الغربية على الشرق , وانتشرت فيه بواسطة دعاة الدين المسيحي من الأوربيين ,
فكان هذا سببًا لعناية الإكليروس الشرقي بالعلوم العصرية اقتداءً بالإكليروس الغربي
لا سيما الكاثوليك الذين كانوا من قبل أعدى أعداء العلم والعقل , ولم يبق لهم ذنب في
نظر العارفين بأحوال الوقت وما تقتضيه من أمتهم الذين يلقبون بالمتنورين إلا
أمران: أحدهما صرف أموال الأوقاف العظيمة على معاهد العبادة كالديور ورجال
الكهنوت الذين لا عمل لهم ينفع الأمة؛ لأنهم انقطعوا للتحنث والتعبد , وثانيهما
تفريق كل فرقة بين التابعين لها وبين سائر الفرق , وتضليل بعضهم بعضًا مع أنهم
أبناء دين واحد , بل وتكفير بعضهم بعضًا للخلاف في مسائل هي أشبه
بالفرعية منها بالأصلية الأساسية , وقد شن هؤلاء المتنورون بسبب هذه الأمور
الغارة الشعواء على رجال الدين , وطلبوا منهم أن ينفقوا أموال الأوقاف على
معاهد التربية والتعليم , وأكثروا من الكتابة في هذا الموضوع في الجرائد
السورية والأميركية والمصرية لا سيما جريدة (الرائد المصري) و (السيار)
و (المناظر) وكم كتبوا وخطبوا ونظموا القصائد في حث رجال الدين على
التأليف بين الطوائف , وإطفاء نيران التحمس والغلو في التعصب.
ومن هؤلاء من جعل كلامه عامًّا للمختلفين في الأديان لأن البلاد لا تعمر إلا
باتفاقهم على عمارتها , ومنهم من جعل كلامه لأهل الدين النصراني المختلفين في
المذاهب فقط , وقد رأينا في جرائد أميركا السورية الأخيرة خبر نهضة عظيمة في
هذا الأمر تستحق التدوين والذكر , وإننا ننشر هنا أهم واقعة حدثت لهم فيها وهو ما
كان في احتفال (جمعية الشبان المارونيين) ليعتبر به الجاهلون بالتاريخ
والأحوال الحاضرة الذين يتوهمون ويقولون , بل ويكتبون في جرائدهم أن سائر
أهل الأديان يقدسون رجال الدين ولا ينتقدون عليهم بشيء، يعني أننا قد خرجنا
بالمنار عن آداب أهل الأديان كلها لطلبنا من علمائنا إصلاح التعليم والجمع بين
علوم الدنيا والآخرة كما هو مقتضى الإسلام , والسعي في جمع كلمة المسلمين التي
فرقها اختلاف المذاهب لا سيما أهل السنة والشيعة. ثم قام دعاة الوطنية يفرقونها
أيضا باختلاف الأجناس والبلاد , ومع أننا نتكلم في المنار بكل أدب واحترام , ونعتقد
أن تعليق آمال الأمة بعلمائها وإقناعها بأن سعادتها في أيديهم هو التعظيم الأكبر لهم ,
وأننا - ولله الحمد - لم نذكر أحدًا من علمائنا الكرام بسوء , وقد جرينا على آداب
السنة السَّنية في الانتقاد على من كتب في مصنف له أن الاقتصاد في المعيشة وتربية
الأولاد وتدبير المنزل ليست من الأمور الواجبة على النساء , وذلك أننا لم نصرح
باسم القائل , ولا باسم كتابه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذكر
الإنكار حتى على المنبر من غير تصريح باسم فاعله وذلك بمثل: ما بال قوم يفعلون
كذا , فليحاسب أنفسهم الذين يخوضون في الإنكار على المعروف عن غيره بصيرة
ليعلموا هل يعملون لمرضاة قوم وإسخاط آخرين , أم ابتغاء مرضاة الله واتقاء
سخطه؟ والله ولي المتقين , وهاكم الآن أيها القراء الكرام بعض ما جاء في جريدة
الأيام التي تصدر في نيويورك:
__________(3/30)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة للمؤرخين
ثورة السوريين على الإكليروس
احتفال جمعية الشبان المارونيين
نكتب هذه السطور لتكون من بعدنا مستندًا للكتاب والمؤرخين حتى إذا
قدر الله أن تنهض هذه الأمة السورية التعيسة من وهدة التأخر والخمول إلى ذروة
التقدم والفخر يعلم الناس أساس تلك النهضة وأسبابها.
نكتب هذه السطور بمداد الفخر والإعجاب لتكون أكبر دليل على أن
السوريين لا تزال في صدورهم روح الأنفة والحماسة وحب التقدم والنشاط.
بل نكتب هذه السطور لنفتخر بأن كلام (الأيام) وغيرها من الجرائد
العربية الحرة في هذه البلاد قد أثمر - والحمد لله - الثمرة الصالحة التي كاد أن يقطع
الأمل من الحصول عليها في الحين القريب.
فالسوريون منذ ليلة الجمعة الواقعة في (9 شهر شباط سنة 1900) قد
خطوا الخطوة الأولى في سبيل التقدم والحرية.
وهي الليلة التي احتفلت فيها جمعية الشبان المارونيين بمرور سنة
كاملة على تأسيسها.
فإن هذه الحفلة كانت بعلم من الله تعالى واسطة لإظهار ما تُكِنُّه قلوب
السوريين من الكُره والنفور من أعمال الآباء الروحيين التي كانت ولا تزال منذ
القديم عثرة في سبيل تقدم السوريين واتحاد قلوبهم , بل هي التي كانت سبب
المخاصمات والعداوات الطوائفية التي اشتهر أمرها بين النزالة السورية في
العامين الأخيرين وكانت نتيجتها تعطيل المتاجر وخراب البيوت وتدنيس
الشرف السوري في بلاد الحرية والعدل.
نعم إن السوريين قد شعروا الآن بأن تلك القلانس هي التي كانت منبع الشر
والفساد فيما بينهم , وأنها الباعث الوحيد على تأخرهم وشقائهم وتنافر قلوبهم وتعاسة
أحوالهم , فقاموا الآن قومة واحدة يرومون تحطيمها كما فعل الفرنسيون من قبلهم
في ثورتهم المشهورة على الإكليروس , وهي التي ينبئنا التاريخ أنها كانت حجر
الزاوية لذاك الطود الشامخ، نعني به تقدم الأمة الفرنسوية وتمدنها الذي نراه الآن
ساطعًا كالشمس في فلك هذا العالم.
جهاد وأي جهاد قام به السوريون في أواخر الأسبوع الماضي! فقد اشترك فيه
الماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي واليهودي وكل سوري غيور على شرفه ومتنور
بنور العلم الصحيح البعيد عن الخرافات والأباطيل.
فمن سمع قبل الآن أم قرأ في تاريخ السوريين وماضي أحوالهم أن هذه الأمة
التي يصفها الكُتاب الأجانب بالطاعة العمياء لرؤساء الأديان والتي كانت في الحقيقة
منبع التعصبات الدينية في سابق الأزمان - دافعت ولو مرة واحدة عن حقوقها المداسة
بأرجل الإكليروس منذ الألوف من الأجيال؟
إن هذا لم نسمعه منذ قديم الزمان ولكننا قد سمعناه الآن، فقد ضجت
النزالة السورية بالأمس بخبر ما توقع مساء الجمعة الماضي لحضرة الأب المحترم
الخوري يوسف يزبك ساعة انتصب على المرسح خطيبًا من غير أن يدعوه
أحد من الناس , وشرع يندد بالأدباء والمصلحين , ويدعو الناس إلى التعصب
والطاعة العمياء ويقول لهم: (إن من لم يخضع لسلطتنا فليسقط ومن لا
يرضى بأعمالنا وأفعالنا فليشق نفسه غيظًا وليمت كمدًا وحسرة) .
بمثل هذا الكلام تفوه هذا الأب المحترم , بل هو قد فعل أكثر من ذلك , ففاه
بكلمات لا يليق برجال الله الأتقياء أن يفوهوا بها بمثل هذه المحافل الأدبية؛ إذ قال
في جملة مطاعنه على بعض الخطباء الذي تقدمه في منبر الخطابة , وخطب في
وجوب التساهل الديني: (إنه كالسعدان يتمعص، ويتقعص، ويتملص , ويوصي
الناس بالخلاعة وعدم التسليم لإرادة مرشديهم الخوارنة الأطهار) .
وتفصيل الخبر
إن جمعية الشبان المارونيين أقامت مساء نهار الجمعة الفائت الواقع في 9
الحاضر احتفالاً شائقًا بمناسبة مرور سنة كاملة على إنشائها , ودعت ما يقرب من
ستمائة شخص من السوريين , وبعض الأمر كان لسماع الخطب في المكان الذي
أعدته لهذه الغاية - وهو أرلنثن هول - فخطب في الجمع أدباء كثيرون ودارت
المباحثة على محور الوطنية.
ثم اعتلى منبر الخطابة بعد ذلك جناب الشاب الذكي الفؤاد الأديب أمين أفندي
ريحاني ففاه بخطاب لم يُسمع له نظير من خطيب سوري حتى الآن وعنوانه:
(التساهل الديني) نبه فيه الشعب السوري إلى وجوب التساهل الديني، ومنع
التعصب ليسهل على السوريين بعد ذلك الاتحاد الذي هو سلم السعادة والمدنية، وقد
أورد البراهين والأدلة على أن تأخر الشرقيين بالعلم والثروة والنفوذ ناتج عن انقيادهم
الأعمى إلى رؤساء الأديان، وتسليمهم لهم زمام أمورهم الجزئية والكلية، وكان
ملخص كلامه بهذا الموضوع: (إن الديانات غشاء على أبصار العامة من الشعب
وخرافات في نظر العلماء وتجارة في أيدي الإكليروس , وآلة نافعة في يد الحكومة) .
وكان يلقي هذه الدرر بمهارة كلية في فن الخطابة وبصوت جهوري وإشارات
لطيفة حتى أهاج في صدور القوم كامن الأحقاد على مستهضمي حقوقهم , فكان لا
ينطق بكلمة إلا ويعقبها صدى الاستحسان وتصفيق الأيدي , ولكن ما سمعه الجمهور
من خطابه أساء (بالطبع) رجال الإكليروس الذين كانوا في صدر تلك الحفلة ,
وكأنهم خشوا أن تكسد تجارتهم وتسقط هيبتهم في أعين الشعب بعد أن تتنور الأذهان
فقام أحدهم وهو الخوري يوسف يزبك , وادعى أنه سيخطب في موضوع الثناء
على القنصل الإفرنسي الذي كان نائبه حاضرًا في تلك الليلة , فتخلص من ذلك
الثناء إلى الطعن بشخصيات ريحاني أفندي بكلام تأبى سماعه آذان الأدباء معترضًا
على ما قاله من وجوب التساهل الديني والاتحاد الوطني , وكان كلما قال عبارة من
هذا النوع ينتظر من الحضور أن يصفقوا له تصفيق الاستحسان, ويقولوا له:
(سبحانك) ولكنه رأى في هذه المرة غير ما كان يعهده بأبناء سورية , فإنهم قابلوا
كلامه بصفير الاستهزاء , وطلب وجهاؤهم وأدباؤهم من هيئة الجمعية إسقاط المتكلم
عن منبر الخطابة خوفًا من هيجان الشعب , ولما تمادى الأب المشار إليه في جرح
الحاسات الوطنية وإثارة روح التعصب؛ علت ضجة الشعب من كل جانب , وما كاد
الأب ينهي عبارته: (من لا يخضع لسلطتنا فليسقط) حتى نادى الحضور بصوت
واحد: فلتسقط أنت وكل من كان على شاكلتك , وهجم بعض الشبان على المرسح
يريدون إسقاط الكاهن بالقوة , وحاول كثيرون من الأدباء الخروج من الحفلة
إظهارًا لاستيائهم من عمل الأب المشار إليه , فمنعهم أعضاء الجمعية وطيبوا
خاطرهم.
ولما رأى جناب الأديب شكري أفندي رحيم مدير الجمعية أن لا سبيل لتسكين
الخواطر إلا بإسقاط الأب عن كرسي الخطابة ومنعه من إكمال خطابه - طلب من
الأب تخفيف لهجته أو التوقف عن الكلام فرفض الأب إجابة الطلب , فالتزم إذ ذاك
لتوقيفه بالقوة عملاً بنظام الجمعية , وهكذا تم , فسُر جميع الحضور من عمله ,
وأثنوا على الجمعية التي بذلت كل ما في وسعها لتسكين الخواطر وإرضاء
الجمهور، وهو عمل ندونه لها بمداد الشكر والثناء.
ولم يزل الشعب متأثرًا من عمل الأب المشار إليه حتى نهاية الحفلة فقام إذ
ذاك جناب الشاب الوطني الأديب الأمير يوسف أبي اللمع وألقى في الحضور خطابًا
مهيجًا صادق به على كلام الخطيب الأول أمين أفندي ريحاني , وكانت لهجته
شديدة فقام بعض دعاة التعصب , وأحدثوا جلبة وضجة بين الحضور , وطلب
بعضهم منع الخطيب عن الكلام , ولكن الرأي العام كان متحيزًا له , فقام النزاع بين
الأحزاب , ولكنها والحمد لله لم تكن أحزاب طوائفية لأن الطوائف كانت متحدة يدًا
واحدة , بل كانت أحزاب آراء وأميال فاز فيها التمدن والعلم على الخمول والجهل ,
وأثنى الحضور على الخطيبين اللذين تكلما في وجوب التساهل الديني , وحملوهما
على الأكف , وقد اقتصر النزاع على الكلام , ولم يحدث تلاكم وخصام , وانتهت
الحفلة باعتذار عمدة الجمعية عما حدث من غير قصد ولا علم منها , وهكذا
انصرف الجمع , وهم لا يعلمون إذا كانوا في يقظة أم في منام لأن المظاهرات التي
ظهرت في تلك الليلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السوريين منذ قديم الزمن حتى
الآن.
هذه حاسات الشعب شرحناها كما هي , وهذه تفاصيل الحفلة ذكرناها من وجه
إخباري , ونحن كما يعلم الجميع نُجِلُّ الأديان ونحترمها , ونكرم الكهنة الأفاضل
الذين يسيرون بموجب التقوى والفضيلة , ويسوءنا أن نرى تصرفات البعض منهم
قد أوجبت حنق الشعب وهيجانه.
ويا حبذا لو اقتدى البعض من كهنتنا بكهنة الأمريكان الذين إذا اعترضوا على
مبدأ ما أظهروا اعتراضاتهم بالكلام الحسي متجنبين الأوصاف الغير لائقة
(كالسعدان والأمعط والأشمط) لاسيما وهم في أعين الشعب قدوة الأدب وعنوان
الفضيلة اهـ بحروفه.
__________(3/33)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(22) من هيلانة إلى أراسم في 6 يوليه سنة - 185
كأني أيها الحبيب بساعة الوضع قد اقتربت , وإني وإن كنت لا أزال في
كفاية من جودة الصحة لكن ما أشد خوفي من هول تلك الساعة وما تأتي به
من الشدائد والمحن التي كان شهودك فيها وحده كافلاً بتخفيف آلامها عني.
رباه كيف لا تكون بقربي أيها العزيز أراسم؟ وأخص وقت تكون فيه المرأة
كالعشقة (شجرة اللبلاب) لزامًا لمن تحبه وتعلقًا به إنما هو أمس، ذلك اليوم
المعروف بالعناء والخطر.
في الليلة الماضية رأيت رؤيا تحيرت في تأويلها , رأيتني أزور قبر
والدتي لابسة الحداد! فعظمت دهشتي لما رأيته هناك من شجر الورد والآس
وغيرهما من الأزهار لأني لم أكن أوصيت بغرسها , ولما رأيت أن يدًا
مجهولة قد عنيت بآخر منزل لمن كنت أحبها فزينتْه بهذه الأزهار هاجت
أشجاني وانهطلت عَبراتي وأحسست بالبكاء في نومي وقلت في نفسي: ليت
شعري مَن هذا الذي عرف كيف يتحبب إليَّ ويسترضيني عنه , ثم تبينت من
جملة وقائع متتابعة مبهمة أنك أنت الذي غرستها فغرقت في شبه لُجة من
الفناء في حبك , وما عسى أن أصف لك مما خطر في ذهني إذ ذاك؟ فقد تمثلت
لي جميع الأحوال التي تلاقينا فيها لأول مرة , وما انعقد بيننا من روابط الحب
الأولي تمثلاً ليس كالذي يحصل عند ذكر المرء حوادث ماضية، بل كما
يحصل في الحلم، حيث تتشكل فيه الأشياء الحية وغير الحية بأشكالها الحقيقية،
فما قولك في هذه الرؤيا؟ ! أما أنا فلو كنت من الموسوِسات لاعتقدت
أن فيها إنذارًا ببعض المصائب.
أبشرك أيها الحبيب بأن أول مكتوب يأتيك مني بعد هذا سأكتبه إليك
وأنا أم , وإني كلما افتكرت في ذلك تعروني هزة الفرح ونشوة الطرب ,
فالآن أودعك وأقبلك بكل ما في نفسي من قوى الحب والشوق اهـ.
شذرات مقتطفة من جريدة أراسم
(23) تحرر في 6 يوليه سنة - 185
دخلت فراشة في مخدعي من السجن من حيث لا أعلم , ومكثت ربع
ساعة تحاول الخروج من الشباك يدعوها إلي ذلك ما وراءه من الضياء
والفضاء والحياة بما تسمعه من الأصوات في جو السماء , ولكنه على ضيقه
كان محكم الإقفال فانقضت عليه بنت الهواء أولاً على جهل منها بحقيقة
زجاجه اللطيف حاسبة أنه لا وجود أمامها , ثم أخذت تصادمه وتلتصق به
وتقاومه , وكلما ردتها صلابته خائبة أعادت عليه الكرة.
هكذا يكون شأن الإنسان مع العقبات المعنوية التي تعترضه في طريق
حياته لا يحسب لها حسابًا لأنها لا تكاد تكون شيئًا يذكر، فهي كسُمك لوح من
الزجاج مثلاً، لكن هذا الشيء الذي لا يذكر كوهم أو عقيدة أو معنى غير
صحيح أو مغالطة؛ كافٍ في إعاقة عقله عن التحليق بجناحيه في سماء
الحرية فلا يجدي معه اشتداد العقل في اقتحام عقبة , كما لم يُجدِ تلك
الحشرة اصطدامها بالزجاج وإيهاء جناحيها.
فلما رأيتها قد عجزت عن الخروج فتحت لها الشباك , وقلت لها: امضي
أيتها المسكينة في سبيلك , وطيري بجناحيك كما كنت في خالص الهواء
وحرارة الشمس فهذا يكفيك من مسجون في حجرته اهـ.
(24) تحرر في 8 يوليه سنة - 185
كثيرًا ما شاهدت ساحل البحر بين حركتي المد والجزر , وأبصرت على
سطح رماله المبللة الرطبة آثار كثير من الأقدام ومن العجلات ونعال الخيل
ورسومًا غريبة في بابها نقشتها على صفحاتها أيدي الأطفال , وأسماء كتبت
بأطراف العصي وغير ذلك من الآثار الكثيرة المتنوعة , فلما مدَّ البحر محاها
جميعًا فلم يبق منها شيء يدل على سبق وجودها , كذلك شأن العدل والزمن
فإن لهما كالبحر مدًّا وجزرًا , فاعملوا ما شئتم من تأليف الكتب وتحرير
الصحف وإقامة الأبنية ووضع القوانين , وارسموا مقاصدكم على الرمال، كل
ذلك يغمره مد العدل في يوم , بل في ساعة واحدة، فالبحر يقول في مده: إني
أعود إلي ما تركت من مكاني , والشعب يقول في مده: إني أسترد ما اغتصب
من حقوقي اهـ.
(25) تحرر في 9 يوليه سنة - 185
كان فيما سلف من القرون رجل من الفاتحين دمر الممالك ودوخ الأقيال,
ثم مات بعد أن تم له النصر في كثير من وقائعه وغزواته فوضعه رجال دولته
على سرير فخيم محفوف بأكمل مظاهر الأبهة والجلال مع أنه بالموت قد خلع
من ملكه , وأنزل من عرش سلطانه , فاتفق أن تهافتت على أنفه ذبابة فلم
تستطع يداه ذودها عنه على ما كان منهما من إدارة شئون الممالك وقمع
نخوة الجبابرة , يا عجبًا للوصول إلي الغاية التي وصل إليها ذلك الرجل يوطأ
العدل والحرية بالمناسم وتهضم حقوق الأمم! اهـ.
(26) تحرر في 10 يوليه سنة - 185
أرادت دجاجة أن تغطي بجناحيها أفراخًا تفقص عنها البيض وكبرت
فقلن لها: لسنا في حاجة إلي عنايتك فإنك تزهقين أنفسنا بثقلك , فكان جوابها
على ذلك أن قالت لهن: مه فإنكن لا تدرين في ذلك شيئًا , أما عدم احتياجكن
إلي فهذا ممكن , وأما أنا فلا أستغني عنكن: أولاً لأنه يلذ لي أن ألقي ثقلي
على شيء فإن هذا يكثر من أهميتي , وثانيًا لأني آكل ما أعد لكُنَّ من الحب.
أليست هذه الحكاية تمثل الحكومة مع الشعوب التي بلغت من درجات
التقدم ما يكفيها في الاستقلال بحكم نفسها اهـ.
(27) تحرر في 12 يوليه سنة -185
كانت ليلتي هذه هائلة فظيعة , فإني كنت في بعض ساعاتها أرى من
خواطري ما كان يمثل أمامي كما تمثل الأشباح فهل أنا صائر إلي الجنون؟
لقد رأيتها.. هي بنفسها لا في حلم , بل في يقظة لكنها أخفى من النوم
بألف مرة.
رأيت هيلانة نائمة على سريرها , وكنت ألاحظ نَفسَها المختنق , وأجس
نبضها الذي دلني على أنها محمومة. واعجبًا أخالني سمعت صوتًا.
ويلاه إنها تئن وتتألم وأنا بعيد عنها.
إنما يدرك ثقل وطأة السجن ويحس بضيقه في مثل هذه الساعات التي
تغلب على الإنسان فيها حيرته وتزهق نفسه , ولقد كنت أريد أن أكون قدوة
لزوجتي في الثبات والصبر فهذه أول مرة غلبني فيها السجن على عزمي فانثنى
رأسي , وانجرح فؤادي مما ألاقيه من نقم القانون البشري.
لو كان حقًّا ما يقال من أن في قدرة الأموات أن يزوروا من كانوا
يحبونهم في هذه الحياة الدنيا , لوددت أن أموت في هذه الساعة حتى أراها
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/38)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(التبر المسبوك في نصيحة الملوك)
كتاب وجيز وضعه الإمام أبو حامد الغزالي للملك العادل السلطان محمد ابن ملك
شاه، كتبه باللغة الفارسية ونقله إلى العربية بعض تلامذته وهو مشتمل على الحكم
البالغة والنصائح الرائعة والحكايات التي تشتمل على العظة وتدعو إلى الاعتبار ,
ولكنه على فضل واضعه وتحقيقه لا يخلو مما يُنتقَد على كتب الوعظ وهو كثير ,
منه: الغلو في التزهيد , والنهي عن العناية بعمارة الدنيا ككلامه في (بيان العينين
اللتين هما مشرب شجرة الإيمان) ويعني بهما معرفة الدنيا , ولِمَ وجد الإنسان فيها ,
ومعرفة النفس الأخير على أن الكتاب لا يخلو عما يخالف ذلك من الحث على عمارة
البلاد , وبيان أن الدين لا يقوم إلا بعمارة الدنيا كقوله:
واعلم أن أولئك الملوك القدماء كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم
بعدهم , روي أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفى وأشكر , وكانوا يعلمون
أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه، وهو قولهم: إن الدين
بالملك , والملك بالجند , والجند بالمال , والمال بعمارة البلاد , وعمارة البلاد بالعدل
في العباد. فما كانوا يوافقون أحدًا على الجور والظلم , ولا يرضون لحشمهم بالخرق
والغشم , علمًا منهم أن الرعية لا تثبت على الجور , وأن الأماكن تخرب إذا استولى
عليها الظالمون , ويتفرق أهل الولايات , ويهربون في ولايات غيرها , ويقع النقص
في الملك ويقل في البلاد الدخل , وتخلو الخزائن من الأموال , ويتكدر عيش الرعايا
لأنهم لا يحبون جائرًا , ولا يزال دعاؤهم عليه متواترًا , فلا يتمتع بمملكته , وتسرع
إليه دواعي هلكته اهـ.
ومن أحسن ما جاء فيه خبر قال الامام الغزالي: إنه يستفيد منه القارئ
والسامع وهو: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لأي
شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق؟ , فقال: الخبر معروف - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث , وقال: (لا
تسألوني عن حال أولئك) فقال قوم من الصحابة: أشار إلى ثلاثة أشهر ,
وقال قوم: إلى ثلاث سنين , وقال قوم: إلى ثلاثين سنة , وقال قوم: ثلاثمائة
سنة , يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال , فإذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ
فيهم؟
وسئل عن هذا السؤال , فقال: كان الناس في ذلك الوقت نيامًا , وكان
العلماء أيقاظًا , واليوم العلماء نيام , والخلق موتى , فأي نفع لكلام النائم مع
الميت (قال الغزالي) : أما زماننا هذا فهو الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد
خبثت أعمال الناس ونياتهم اهـ.
(المنار)
وجه الفائدة في الكلام أن المسلمين قد انحرفوا عن صراط دينهم بعد النبي
صلى الله عليه وسلم بزمن قليل - انحرف العامة أولاً وبعدهم العلماء - وليس
في الكلام دليل على أنهم لا يعودون إلى الاستقامة على ذلك الصراط المستقيم,
فقد ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ترك فينا الثقلين إن تمسكنا بهما
لن نضل أبدًا , وهما كتاب الله تعالى وسنته عليه الصلاة والسلام فما علينا إلا
الاستمساك بهما وترك الأهواء والبدع التي روج سوقها فينا قال فلان وفعل
علان.
(الدليل الصادق على وجود الخالق , وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري
الخوارق)
كتاب مطول في العقائد لمؤلفه العالم الفاضل الشيخ عبد العزيز بن عبد
الرحمن جاب الله , وقد أتم الجزء الأول منه تأليفًا , وطبع في مطبعة الآداب
والمؤيد، وهو يدخل في نحو 400 صفحة جمع فيها صاحبه كثيرًا من مباحث
المتقدمين والمتأخرين , وسار كغيره من المتأخرين علي طريقة السنوسي في
تقسيم الصفات , وأورد الأبحاث التي أوردها الذين كتبوا على عقائد السنوسي
الشروح والحواشي , ولم تسمح لنا الفرص بمطالعته لننتقده ونوفيه حقه من
التقريظ , وغاية ما نقول فيه: إنه جمع من الفوائد والنقول ما لا يكاد يوجد في
غيره فنحث أهل العلم على الاطلاع عليه.
(سبيل الهدى)
مجلة علمية لصاحبها الأديب اللوذعي أحمد سعيد أفندي البغدادي، ويسرنا
أن المجلات الأدبية قد كثرت , ووجد منها ما يناسب كل طبقة من الناس،
ونرجو أن تحول أفكارهم عن كثرة الاشتغال بالسياسة التي لا تفيدهم، ونرجو
لهذه المجلة بخصوصها الإقبال لا سيما عند تلامذة المدارس لأن صاحبها على
معرفة تامة بأذواقهم ومشاربهم , وإننا نقرظها الآن وليس في يدنا عدد منها
لننبه على أهم مباحثه وهي تطلب من حضرة صاحبها في مصر.
__________(3/42)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(روسيا وإنكلترا)
بذلت دولة الروسيا جهدها في الاستفادة من فرصة الحرب الحاضرة فعقدت
قرضًا مع دولة إيران لتنفي منه هذه دين إنكلترا فيبطل نفوذها في تلك البلاد،
وساقت جيشًا إلى حدود أفغانستان تمهيدًا للزحف على الهند أكبر أمانيها الاستعمارية
بمقتضى وصية بطرس الأكبر , وقد نشرت مجلة (بلاك دويت) تقريرًا لأربعة
من الضباط الروسيين انتدبهم ناظر حربية روسيا لاكتشاف حدود الهند وتحصينها
بينوا فيه أن الاستيلاء على الهند سهل على روسيا , وذكروا أنهم ذهبوا أولاً إلي
مشهد من بلاد فارس ثم إلى أسخاباد ثم إلى كوشك ومنها إلى هرات مفتاح البلاد
الهندية، ثم رجعوا إلي كوشك ومنها ركبوا في نهر الأكسوس (سيحون) إلى
كيليف وهناك اكتشفوا الحدود الروسية، ثم ذهبوا إلي بلخ، ثم إلى كابل عاصمة
أفغانستان من جهة ماجاشريف وباميان وقد شكَوا من وعورة هذا الطريق ورداءته ,
وذكروا أن الأمير عبد الرحمن تقبلهم بقبول حسن وتلقى مكتوب القيصر له بكل
سرور , وساعدهم على استعراف ما أرادوه من مراكز الإنكليز ونقطهم الحربية
الجديدة , وقابلوا عنده بعض رؤساء القبائل الأفغانية , واستفادوا منهم فوائد لا تقدر
بثمن , وأقاموا في كابل ثلاثة أسابيع , ثم سافروا إلى حدود الشترال لاستعراف
عادات القوم وأحوالهم بعد أن عرفوا الشئون الحربية , وقد استطلعوا حدود
البلوخستان الإنكليزية والنجود والأراضي التي بين الهند الإنكليزية والإيالات
المستقلة الأهلية في جهة شترال وكشمير ولاداك , وصرحوا بخطأ الذين كانوا
يعدون أفغانستان داخلة في دائرة النفوذ البريطاني , وصرحوا بأنه ضعيف في
أفغانستان , ومعدوم في الولايات التابعة لها , وأنه حل محله في هرات وبلخ
وكوندوز الميل إلى روسيا ,وصرحوا بأن حدود الهند الإنكليزية تدل على قلة
تبصرهم بالعواقب؛ لأنهم اعتمدوا على الحصون الطبيعية, ولم يستعدوا للطوارئ
اقتصادًا أو بخلاً وغرورًا , ونتيجة اكتشاف هؤلاء الضباط أن الخط الذي بين
بشاور وكوتا المواجه لأقرب طريق من أواسط آسيا غير كفؤ للمقاومة ولا يمكن
عبوره بقوة مهاجِمة ما دام الإنكليز متحصنين وراءه (كذا) أن بقية الحدود
الإنكليزية يمكن تجاوزها بقوات ضعيفة، يمكن القرب من أي نقطة من الحدود
بسهولة إذا كانت القوة عظيمة على شرط أن تبقى الأعمال مكتومة لئلا تستعد
حكومة الهند استعدادًا جيدًا اهـ.
***
(أخبار الحرب الحاضرة)
مضى على هذه الحرب خمسة أشهر , والإنكليز فيها على انكسار متواصل
وخذلان مستمر , وقد نقل إلينا البرق أخيرًا أن قائد جيش أورانج الجنرال كرونجي
قد سلم للقائد الإنكليزي العام المارشال روبرتس؛ لأنه وجد أن جيشه لا يبلغ ربع
جيش الإنكليز هنالك، وأكثر ما قيل فيه: إنه يبلغ نحو 4000 صاروا أسرى
للإنكليز وعند البوير ممن أسروه من الإنكليز أكثر منهم , ونقول ها هنا: إن جميع
جرائد أوربا أظهرت الشماتة بالإنكليز تبعًا لأممها ودولها إلا الجرائد العثمانية , بل
إن من هذه الجرائد ما كان كلامها في الحرب إفراطًا في المدافعة عنهم كجريدة
بيروت الغراء , وإننا نقول الحق وإن كان مرًّا في مذاق المصريين الذين يئنُّون من
وطأة ضغط الإنكليز أن من مصلحة الدولة العلية أن تنتصر دولة إنكلترا بعد
انكسارها لأن خذلانها المستمر يحدث انقلابًا في أوربا , واختلالاً في الموازنة بين
الدول يكون فيه الرجحان لدولة روسيا عدوة الدولة الطبيعية التي لا يرضيها إلا
محو اسمها من لوح الوجود (حماها الله تعالى ووقاها) وقد هنأ مولانا السلطان
الأعظم جلالة الملكة بهذا الانتصار الأخير , ويظهر أن الكَرَّة رُدت للإنكليز على
البوير لأن جيشهم بلغ مائتي ألف مقاتل إلا أن يحول دون ذلك امتداد الثورة في
مستعمرة الكاب، فقد ورد في برقيات يوم الخميس الماضي أن بلاد قضائين أعلن
أصحابها الانضمام إلى الأورانج , والذين أظهروا الثورة فعلاً منها 3000 رجل.
عندما أراد الجنرال بوللر الزحف لإنقاذ لاديسمث من الحصار نشر في جيشه
كتابًا يحثه فيه على الثبات , قال فيه: (فليثق كل واحد منكم بالنجاح وليعتقد
بالفوز) وقد فسرت جريدة الأهرام كلمته هذه بقولها: (أشار عليهم بكيفية اعتبار
البوير مسلمين بهذه العبارة) ونقول: كبرت كلمة هي قائلتها , وأكبر منها أن
المسلمين قرأوها من مدة طويلة , ولم نر أحدًا استكبرها أو استنكرها , نعم إن
المسلمين صاروا مهضومي الحقوق في الأرض , وتأخروا عن سلفهم في كل شيء
من حيث تقدمت الأمم الأخرى على أسلافها في كل شيء إلا أن المسلمين لا
يزالون أشجع الأمم وأثبتها وأشدها بأسًا , وأصعبها مراسًا , وإلى الآن ما غلبوا من
قلة أو جبن , ولكن الجهل والبعد عن آداب الدين جعلا بأسهم بينهم شديدًا , وقد آن لهم
أن يعتبروا بما يقال فيهم , ويجتهدوا في تبرئة أنفسهم منه.
__________(3/44)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع ما قبله)
من المدارس العليا التي تشهد اليوم في تركيا لما لجلالة السلطان من الميل إلى
تعليم الفنون الأدبية ميلاً صادرًا عن علم بفائدتها , ولما يبذله من العناية البالغة في
توسيع نطاق المعارف لموظفي حكومته - مدرسة العلوم السياسية التي ستضارع
نظيرتها في باريس.
المدارس التابعة لغير نظارة المعارف هي:
أولاً: ما يتبع منها لنظارة التجارة والأشغال والزراعة وهذا بيانه:
أ - المدرسة التجارية الحميدية المؤسسة في سنة 1882 بعناية جلالة السلطان
عبد الحميد الذي أفاض على مملكته أنفع العلوم وأكفلها بتقدم الصناعة
والتجارة.
ب - مدرستا الصنائع والحِرَف , وتسميان بالمكتبين الصناعيين، إحداهما
للذكور، والأخرى للإناث , وهذه قد رتبت ترتيبًا جديدًا في سنة 1883 ويصح أن تعد
نموذجًا في بابها , وفيها يتعلم البنات القراءة والكتابة وشغل الإبرة وتباع الأشياء التي
يصنعنها ليكون ثمنها لهن فيوضع ما يحصل منها في شبه مصرف توفير حتى يوزع
على متخرجاتها على حسب استحقاقهن.
ت - مدارس الحرف التي تقرر في سنة 1884 إنشاء واحدة منها بكل ولاية
وتأسيسها الآن جار على التوالي.
ثانيًا: ما يتبع منها نظارة المالية وهو:
أ - مدرسة المعادن والغابات التي كانت قبل حكم جلالة السلطان عبد الحميد
مدرستين منفصلتين إحداهما للمعادن والأخرى للغابات، فضُمتا في حكمه
وجُعلتا مدرسة واحدة.
ب - مدرسة التلغراف التي بفضل رعاية جلالة السلطان صارت إلى ما
هي عليه الآن من الأهمية.
قبل الكلام على مدارس الطوائف الغير الإسلامية يجب علينا أن نخصص
بعض أسطر للمدارس الدينية الإسلامية , فنقول:
تنقسم العلوم التي تلقى في هذه المدارس إلى عشرة فروع وهي: النحو
والصرف والمنطق والفلسفة واللغة والبيان والإنشاء والمعاني والهندسة والهيئة ,
وبعد أن يقضي فيها الطلبة عشر أو اثنتي عشرة سنة يكون لهم الخيار بين أن
يعينوا قضاة أو مفتين أو أئمة , ومن أراد منهم التبحر في علم الشريعة وجب
عليه أن يمكث بعض سنين أخرى لدراسة مذاهب الفقه وتفسير القرآن والحديث ,
ويوجد غير هذه المدارس مدرسة الأيتام التابعة مثلها لمشيخة الإسلام المسماة
بمدرسة موجبات الشريعة , ومدرستا الأئمة والمؤذنين في استامبول وإسكودار
المؤسسة جميعها بفضل عناية جلالة السلطان في سنة 1883 , في القسطنطينية
عدد عظيم من دور الكتب العمومية يزيد عن أربعين، وهي في الجملة مؤسسة في
المساجد وتابعة لها وتفتح للعامة في كل أيام الأسبوع ما عدا يومي الثلاثاء والجمعة،
وزيادة على هذه المكتبات العامة يوجد في العاصمة ما يزيد عن ألف مكتبة خاصة
ناتجة مما يوقف على المساجد.
مدارس الطوائف غير الإسلامية في المملكة العثمانية تدخل في قسم معاهد
التعليم العام التي يسميها القانون المدارس الحرة فإنه متى صرحت الحكومة بإنشاء
مدرسة منها وفتحها كانت إدارتها مستقلة استقلالاً تامًّا فلا يكون للحكومة إلا حق
النظر فيما إذا كان التعليم فيها لا يحتوي على شيء مغاير لأوضاع المملكة أو
للإدارة , وفيما إذا كان معلموها حائزين للشهادات التي تعطيها نظارة المعارف أو
المجلس العلمي في الولاية التي تكون فيها المدرسة أو الرؤساء الروحانيون للطائفة
التي بها المدرسة , فما خلا هذين الأمرين اللازم مراعاتهما حفظًا لحقوق الحكومة
تكون مدارس الطوائف الغير الإسلامية حرة بعيدة عن تداخل الحكومة , ولا شك في
أن هذا مثال حسن للتساهل والتسامح من الحكومة العثمانية لغيرها من الأمم , ولا
يسع أحدًا إلا أن يعترف بعلو مكانة أخلاق هذه الحكومة.
أهم مدارس الطوائف الغير الإسلامية هي:
مدارس الروم الأرثوذكس من حيث عددها ودرجة العلوم فيها وانتفاع الطلاب
منها , وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام , وهي: المدارس الخورنية والمدارس الأهلية
والمدارس العالية المركزية , فالقسم الأول الذي يؤسسه الخوريون , وينفقون عليه
يشمل المدارس الابتدائية المشتركة بين البنات والبنين , والمدارس اليونانية
ومدارس البنات وهي تقابل مدارس الصبيان والمدارس الابتدائية والمدارس شبه
الرشدية , والقسم الثاني وهو المقابل للمدارس الابتدائية العالية هو المدارس المعدة
للتعليم الثانوي التي يؤسسها بعض الأفراد , والقسم الثالث يمكن تشبيهه بمدارس
الحكومة العالية , ومن هذا القسم تمتاز مدرسة الفنار الكبرى الأهلية ومدرسة
حلقي التجارية الدينية , ومكتبة المدرسة الكبرى الأهلية تحتوى على زهاء
عشرين ألف مجلد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/46)
21 ذو القعدة - 1317هـ
22 مارس - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكتب العربية والإصلاح
لا تسعد الأمة إلا بالأعمال النافعة التي يقوم بها أفرادها ولا يعمل أحد عملاً
إلا إذا كان يعتقد أن فيه منفعة ومصلحة , فأعمال الناس إذن تابعة لعلومهم ومعارفهم ,
والناس متفاوتون في العلم بالمصالح والمنافع؛ لأن القارئين يكونون أعلم بها من
الأميين , بل هم الذين يفيضون عليهم المعارف , ويلقنونهم إياها بطرق مختلفة
أعمها المذاكرة والعمل بها , وكل ما وراء البديهيات من المعارف يستفيده الناس
من الكتب , فنتيجة هذه المقدمات كلها أن الأمة لا يصلح حالها إلا إذا كانت الكتب
المتداولة بين أفرادها في التعليم والمطالعة مشتملة على ما فيه صلاحها وطرق
منافعها على الوجه الصحيح من حيث الأخلاق والآداب , ومن حيث الأعمال.
وهل الكتب التي في أيدي أمتنا لهذا العهد وعليها مدار معارف الأكثرين منهم هي
كذلك؟ كلا ثم كلا , بل هي بخلاف ذلك: كتب التعليم صعبة لا ترشد إلى العمل،
وكتب المطالعة ملأى بالمجون والخرافات والأوهام التي تفسد العقول والآداب بل
والدين أيضًا.
ألف آباؤنا الأولون كُتبًا نافعة في جميع العلوم والفنون أيام كانت أسواق العلم
في أمتنا نافقة وبضاعة المعارف فيها رائجة , ثم لما كسدت تلك الأسواق وعمت
الجهالة والبطالة؛ مالت النفوس إلى اللهو الباطل والهذيان وطلب المنافع والمصالح
من غير طرقها الطبيعية لِما لابس النفوس من الكسل، وظهرت فيها كتب الخلاعة
والمجون وكتب الأوهام والخرافات وكتب الروحانيات والطلسمات وراجت بضاعتها
ونفقت أسواقها؛ لأن الناس يميلون في كل عصر إلى ما يناسب حالتهم , وصارت
الكتب النافعة تخفى عن العيون وتختزل من الأيدي، حتى لم يبق منها بين الأيدي
بل في البلاد العربية التي أُلفتْ فيها إلا أقل القليل , وهي الآن محشورة في مكاتب
باريس ولندن وبرلين وغيرهم من عواصم أوربا وفي القسطنطينية جملة صالحة
منها لم تقدر أيدي أوربا على انتزاعها كما انتزعت الكتب النافعة من مصر
وسوريا , ولولا تنظيم الكتبخانة الخديوية أخيرًا على النسق الجديد لما بقي فيها
شيء من مهمات الكتب , ولا نعرف حال الكتب الإسلامية في الهند وبلاد فارس
على وجه يعتمد. على أنه لا يخلو مصر من الأمصار الإسلامية التي سبقت لها
الحضارة والعلم من بقايا من تلك الكتب غفلت عنها عين الزمان , ولم تصل
إليها أيدي الحوادث التي أودت بأخواتها , ونحمد الله أن وفق منا من ألفوا شركة
في مصر لإحياء كل ما يعرفونه من تلك الكتب بالطبع ليعم نفعها , لكن جميع
هذه الكتب النافعة التي أشرنا إليها إنما ألفت للمشتغلين بالعلم في الأغلب , فالذين
ينتفعون منها هم العلماء , وإن من علماء عصرنا من يهاب قراءة كتب الأئمة
المتقدمين لا سيما ما لم يكتب عليه الشروح والحواشي وهو الأكثر، فإحياء هذه
الكتب ونشرها على ما فيه من الفائدة العظيمة لا يغنينا عن نوعين من الكتب نحن في
أشد الحاجة إليهما إذا أردنا العمل للنهوض والخروج من الحضيض الضيق الذي
نحن فيه:
النوع الأول: كتب سهلة مختصرة في اللغة والدين والأخلاق والآداب
والتاريخ وسائر الفنون المتداولة في هذا العصر لأجل تعليم النشء الجديد، يراعي
مؤلفوها فيها أعمار التلامذة وأفكارهم وسائر ما يرشد إليه فن التعليم , وأساليبه
الحديثة التي ثبتت فوائدها بالتجربة والاختبار , ولقد بعثت الحاجة أو الضرورة
بعض أساتذة المدارس الأميرية وشبه الأميرية في مصر والمدارس الأجنبية في
سوريا إلى تأليف كتب ورسائل في فنون اللغة العربية , وبعض العلوم والفنون
الأخرى التي تعلم في هذه المدارس , ولكن لما يوجد منها ما يفي بالمراد , بل إن ما
نحن أحوج إليه هو الذي لم يكد يوجد منه عندنا شيء يعتد به ككتب العقائد
والأخلاق والعبادات ومبادئ علم الاجتماع وآداب اللغة العربية , ألا ترى كيف
تلقفت المدارس كتاب (الدروس الحكمية) عندما ظهر , وما ذلك إلا لأن مؤلفه ما
كتبه إلا عند ما رأى شدة حاجة المدرسة العثمانية إلى مثله أيام كان ناظرها , وما
تحتاجه إحدى المدارس تحتاجه سائرها لأن المطلوب واحد للجميع , وقد طلب مني
بعض أفاضل أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية أن أكتب رسائل في الدين على
الوجه المطلوب لأجل دراستها في مدارس الجمعية , ومن يشاء من سائر المدارس
الإسلامية , وسألبي الطلب إن شاء الله تعالى عن قريب.
النوع الثاني: كتب سهلة العبارة صحيحة المعاني لأجل قراءة العوام
ومطالعتهم , والكتب التي تتوجه إليها رغبات الناس ليست نوعًا واحدًا , وإنما هي
أنواع شتى منها القصص , وهذه على ضربين , الضرب الأول: القصص الدينية
كقصة المولد النبوي الشريف , وقصص الأنبياء , وقصة المعراج , وقصة فتوح
اليمن وقصة تودد الجارية وغير ذلك , وفي المنتشر بين الأيدي من هذه القصص
من الكذب على الله ورسوله وسائر أنبيائه ودينه العجب العجاب.
الضرب الثاني: القصص الوضعية كقصة عنترة العبسي وألف ليلة وليلة ,
ويسمون ما أُلف في هذا العصر من هذه القصص بالروايات , ومنها ما له أصل
زيد عليه , ومنها ما لا أصل له , وأكثر المتداول منها مشتمل على العشق والغرام
بحيث يُنتقَد , ويُخشى تأثيره في إفساد الآداب والأخلاق , والعصري يمتاز على
القديم بالنزاهة والخلو من ألفاظ الفحش والمجون , ولكنه مع ذلك قليل الجدوى لخلوه
غالبًا من الأفكار الصحيحة والإرشادات القويمة , ومنها كتب المناقب وحكايات
الصالحين , وفيها من الخرافات والأكاذيب ما يزلزل ركن التوحيد ويفسد الفكر
والعقل , ومنها كتب الأوراد والأدعية , وفيها من الشرور وأسباب الغرور ما نبهنا
عليه في العدد 40 من المجلد الأول , وناهيك بدعاء عكاشة , والدعاء الذي طبعه في
العام الماضي عبد اللطيف القباج , وأمثالهما كثير , ومنها كتب الروحانيات
والطلاسم والتنجيم والعزائم , وفي هذه الكتب من المفاسد في الدين والدنيا ما لا سعة
في هذه المقالة لشرحه , ولكننا نشير إلى أهمه إجمالاً , فمن ذلك: تعليق الآمال
بحصول المنافع وقضاء الحوائج بغير أسبابها الطبيعية التي علقها الله تعالى بها , ومنه
طبع النفوس بطابع الخوف والجزع من مس الجن وملابسة الشياطين والعفاريت ,
وهذا الوهم يؤثر في النفوس , حتى إنه يولد فيها أمراضًا عصبية قد تؤدي بها إلى
الجنون , ويحملها على بذل المال للعرافين والدجالين الذين يدَّعون إخراج الجن من
المصروعين ونحوهم , ومنه تعويد العقل على التصديق بما لا دليل عليه , بل وبما
يقوم البرهان على بطلانه أو استحالته , وأي جناية على العقل الذي هو مشرق نور
الايمان وقائد الإنسان إلى جميع مصالحه أشد من هذه الجناية؟ ومنه رغبة المعتقدين
بهذه الخرافات عن معالجة الأطباء القانونيين لهم في أمراضهم لا سيما العصبية ,
والتجائهم إلى أصحاب الروحانيات والطلسمات , وإن تعجب فمن مثارات العجب أن
طلاب العلم في الأزهر الشريف هم أشد الناس تهافتًا على هذا النوع من الكتب , ومن
كان في ريب من هذا فليسأل الكتبخانة الخديوية؛ فإنها تنبئه بالخبر اليقين , هذا وهم
يقرءون في كتب الفقه تشديد الفقهاء في ذلك حتى إن منهم من رمى الآخذين بها
بالسحر أو الكفر (انظر فتوى ابن حجر في باب الآثار العلمية) .
والذي أقترحه في الكتب السهلة التي تؤلف للعامة أن تكون نزيهة لا مجون
فيها , وأن تكون مشتملة على التحذير من الخرافات والأمور المضرة بدلاً من
إقرارها والإغراء بها , وأن لا يكون فيها كذب على رجال الدين , لا سيما الشارع
صلى الله عليه وسلم , وأن تكون خالية مما يخالف عقائد الدين وآدابه وأحكامه ,
هذا ركن عظيم من أركان الإصلاح , وهو مطلوب من رجال العلوم وحملة الأقلام
لا من رجال السياسة والأحكام , فعسى أن تتوجه نفوسهم لإقامته خدمة لهذه الأمة
المرحومة والله ولي المحسنين.
__________(3/49)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمالي دينية
(الدرس التاسع)
(29) الوحدانية وأقسامها
جعل المتأخرون مبحث الوحدانية ثلاث مسائل، إحداها: وحدانية الذات بمعنى
أن الواجب واحد لا يتعدد ويسمون هذا نفي الكم المنفصل , وأن ذاته لا تركيب
فيها كما أنها ليست جوهرًا فردًا يدخل في بناء الأجسام , ويدعون هذا نفي الكم
المنفصل , والثانية: وحدانية الصفات بمعنى أن صفاته لا تعدد فيها , فليس له
علمان وإرادتان وقدرتان , بل علم واحد محيط بكل المعلومات , وإرادة واحدة نافذة
في جميع الأشياء , وقدرة واحدة لا يتعاصى عليها شيء من الممكنات , وهكذا سائر
صفات الكمال , ويسمون هذا نفي الكم المتصل , وأنه ليس لغيره تعالى صفة تشبه
صفاته تعالى , بل ليست الموافقة بين صفات الخلق وصفات الخالق إلا بالتسمية
فقط , ويسمون هذا نفي الكم المنفصل , والثالثة: وحدانية الأفعال، ولا يُتصور فيها
إلا الكم المنفصل , ومعناها أنه لا فعل إلا لله - تعالى - وحده , هذا ما جرى
عليه المؤلفون في التوحيد من عهد السنوسي إلى الآن ولم يكن المتقدمون يُدخلون
هذه المسائل كلها في مبحث الوحدانية؛ لأن الوحدة بمعنى نفي التركيب , وكون
صفات الله تعالى لا تشبه صفات أحد من خلقه يدخلان في مبحث التنزيه (راجع عدد
19 و23 من الدرس السادس) وأما تصور تعدد الصفات من جنس واحد , فقد جاء
من التعمق في فلسفة الأفكار , فاحتاجوا إلى نفيه , ولا يوجد أمة من الأمم تعتقد هذا
الاعتقاد , وليس عليه شُبه ظاهرة يُلتفت إليها , وأما الاعتقاد بأن الله تعالى خالق
كل شيء , وإليه يستند وجود كل ممكن , فهو يدخل في مبحث وجوب الوجود
(راجع الدرس الخامس) نعم إن مسألة أعمال العباد وكسبهم لها تعلق بهذا
المبحث , وسنفرد لها درسًا مخصوصًا , فبقي أن الوحدانية إذا أُطلقت تنصرف
إلى مفهوم كلمة (لا إله إلا الله) أي نفي الألوهية عن غير الله - تعالى - والمتبادر
من معنى الألوهية المعبودية , ومن معنى الإله المعبود , فالوحدانية إذن هي
وحدانية العبادة التي شرحناها في الدرس الثامن , ولما كان المعبود بحق هو
خالق الكون ومدبره؛ وجب أن يبرهن في مبحث الوحدانية على كون هذا الخالق
واحدًا لا ند له ولا شريك وهو ما عقدنا له هذا الدرس.
(30) البرهان:
قام البرهان على وجود الواجب كما بيناه في الدرس الخامس , وهو يصدق
بواجب واحد , ولا تقوم حجة على وجود واجب آخر , بل على عدمه وانتفائه ,
وبيانه من وجوه:
(الأول) : لو جاز التعدد للزم المحال لأنه لا عدد وراء الواحد تقتضيه
ذات الواجب , فكل عدد يفرض لا بد أن يكون له مرجح يرجحه على سائر الأعداد
المتساوية في نظر العقل بالنسبة لما يجوز عليه التعدد , فإن وجد المرجح لزم أن
يكون الواجب المسبوق به حادثًا؛ لأنه ليس من ذاته , والواجب قديم كما سبق
برهانه , فلا يكون ما فرض واجبًا واجب وهو تناقض محال , وإن لم يوجد
المرجح؛ لزم ترجيح العدد الذي فرض انتهاء الواجب إليه على غيره بدون مرجح
وهو محال فثبت نقيضه وهو أن الواجب واحد لا يتعدد.
(الثاني) : أن واجب الوجود ما عرف بالحس , وإنما عرف بالعقل الذي
نظر في هذه الكائنات الممكنة فوجدها بديعة النظام متقنة الصنع سننها مطردة
ونواميسها ثابتة محكمة , فعلم أنها صادرة عن ذات واحدة واجبة ذات علم وإرادة
وقوة , ولو كان صدروها عن ذوات واجبة متعددة للزم أن يكون لكل ذات علم
وإرادة وقدرة مغايرات لما للذات الأخرى , وما كان صادرًا عن قُدر وإرادات وعلوم
متعددة لا يجري على نظام واحد , بل يختلف باختلاف مصادره , وهذه الكائنات لا
خلل فيها ولا اختلاف؛ فوجب أن تكون صادرة عن ذات واحدة لا عن ذوات
متعددة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) .
(الثالث) : يمكن الاستدلال على وحدة الصانع من كل ذرة في الكون كما
يستدل بمجموع الكائنات على ما في الوجه الثاني , ولهذا قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وبيانه بالإيجاز أن كل ذرة من الذرات التي تألفت منها مادة الكون (كالجوهر
الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ) إذا فرضنا تعلق أكثر من إرادة بإيجادها فلا يخلو
إما أن تنفذ واحدة من تلك الإرادات فقط , وإما أن تنفذ جميعها , فإن نفذت جميعها
لزم اجتماع أكثر من مؤثر على أثر واحد بسيط وهو محال , وإن نفذت إرادة واحدة
فقط ووجدت تلك الذرة بقدرة صاحبها وحده كان صاحب الإرادة النافذة والقدرة
المؤثرة هو الواجب الذي يستند اليه الإيجاد , وماعداه من الواجبين المفروض
وجودهم باطل لا حقيقة له (ألا كل شئ ما خلا الله باطل) هذا إذا فرضنا أن
الواجبين اتفقوا على إيجاد الذرة , وإذا فرضنا أنهم اختلفوا بأن أراد أحدهم إيجادها
وغيره عدم إيجادها , فحينئذ إما أن تنفذ الإرادتان معًا؛ فيلزم التناقض المحال وهو
أن الذرة وجدت ولم توجد , وإما أن تنفذ إرادة واحدة فقط فيكون صاحبها هو
الواجب الذي تصدر عنه الممكنات , وفرض وجود واجب آخر معه باطل لا حقيقة
له لأننا لا نعرف للواجب معنى إلا الذات التي لها الوجود من نفسها , وعنها تصدر
سائر الوجودات الممكنة بقدرة وإرادة وعلم.
ويمكن ايراد البرهان بكيفية أخرى , وهي إذا فرضنا وجود واجبين لكل منهما
علم تام وإرادة نافذة وقدرة كاملة , وأرادا إيجاد شيء فلا يجوز أن تنفذ الإرادتان
لئلا يكون للشيء الواحد وجودان متغايران لكل واحد منهما مصدر مغاير للمصدر
الآخر , وهو محال , ولا يجوز أن تنفذ إحدى الإراتين إذ لا مرجح يرجحها على
الأخرى؛ لأن الفرض أنهما متساويان فيلزم من تعدد الواجب أن لا يوجد ممكن ما ,
لكن وجود الممكنات ثابت بالمشاهدة , فتعين أن تكون صادرة عن واجب لا إله
غيره ولا رب سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/53)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نجاح التعليم في الأزهر الشريف
يسرنا ما نراه عامًا بعد عام من نجاح الإصلاح الجديد الذي أدخل
في الأزهر الشريف , وهذا النجاح لم يظهر إلا في المشتغلين من طلاب العلم
بالعلوم الجديدة التي أضيفت على علوم الأزهر كالحساب والجغرافيا , فقد تبين
بالإحصاء الدقيق في امتحان المكافأة لهذه السنة أن الذين امتُحنوا في علم التفسير من
المشتغلين بالعلوم الجديدة 41 طالبًا نجح منهم ثلاثون , ستة منهم نالوا المكافأة,
وأربعة وعشرون نقلوا إلى درجة أعلى , أو سنة أخرى في التعليم , وسقط أحد
عشر أي نحو الربع , والذين امتحنوا في هذا العلم من غير المشتغلين بالفنون
الجديدة 22 طالبًا سقط نصفهم , ونال المكافأة واحد فقط , ونقل العشرة الباقون ,
وإن الذين امتحنوا في علم الفقه والميراث من المشتغلين بالفنون الجديدة 357 طالبًا
نجح منهم 198 أخذ المكافأة منهم 59 ونقل 139 وسقط 159 والذين امتحنوا فيه
من غير المشتغلين بالفنون الجديدة 177 نجح منهم 71 منهم 15 أخذوا المكافأة
و56 نقلوا وسقط 106 , والذين امتحنوا في الحديث والمصطلح من المشتغلين بالفنون
الجديدة 25 نجح منهم 11 أخذ المكافأة منهم 5 ونقل 6 وسقط 14 , ومن غير
المشتغلين بها 21 نجح منهم 8 أخذ المكافأة واحد , ونقل 7 , وسقط 13 , والذين
امتحنوا في النحو والصرف والوضع والاشتقاق من المشتغلين بالعلوم الجديدة 310
نجح منهم 168 أخذ المكافأة منهم 21 , ونقل 147 , وسقط 142 , ومن غير
المشتغلين بها 155 نجح منهم 64 أخذ المكافأة منهم 8 , ونقل 56 , وسقط 91 ,
والذين امتحنوا في علوم البلاغة الثلاثة من المشتغلين بالعلوم الجديدة 93 نجح منهم
68 طالبًا أخذ المكافأة منهم 19 ونقل 49 وسقط 25 , ومن المشتغلين بها 83 نجح
منهم 50 أخذ المكافأة منهم 14 ونقل 36 وسقط 33 , والذين امتحنوا في علم
التوحيد من المشتغلين بالعلوم الجديدة 157 نجح منهم 63 أخذ المكافأة منهم 15 ونقل
48 وسقط 94 , ومن غير المشتغلين بها 98 نجح منهم 22 أخذ المكافأة منهم اثنان
فقط ونقل 20 وسقط 76 , والذين امتحنوا في المنطق وآداب البحث من
المشتغلين بالعلوم الجديدة 131 نجح منهم 83 أخذ المكافأة منهم 19 أو نقل 64
وسقط 48 ومن غير المشتغلين بها 62 نجح منهم 34 أخذ المكافأة منهم 3 فقط
ونقل 31 وسقط 28.
فتبين من ذلك أن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة هم الناجحون في العلوم
الدينية ووسائلها من علوم اللغة والمنطق , والنسبة بينهم وبين من لم يشتغل بها
بعيدة جدًا , وإنهم لثقتهم بنجاحهم وتحصيلهم أكثر إقدامًا على الامتحان فإن الذين
امتحنوا منهم أكثر عددًا من الذين امتحنوا من غيرهم كما هو ظاهر في الإحصاء.
ولا غرو فإن علم الحساب والهندسة مما يقوي العقل والإدراك ويقوم الذهن؛ لأنه
عمل فكري محض , ومسائله وبراهينه كلها يقينية، متى برع فيها الذهن سهلت
عليه البراعة في غيرها , وعلم الجغرافيا يعطي صاحبه معرفة بالعالم الذي يعيش
فيه فيستنير عقله , وتنشط نفسه في طلب التقدم والترقي , وسيكون المشتغلون بهذه
العلوم هم المدرسين والمؤلفين والقضاة والمفتين , وإذا ضموا إليها سائر العلوم
العصرية التي عليها مدار العمران؛ فإننا نرجو أن يكون منهم أئمة يفتخر بهم العالم
الإسلامي , ويرجع إليه مجده بهديهم , فإن أكابر أئمة العلماء السالفين كانوا واقفين
أتم الوقوف على العلوم الحكمية والرياضية التي كانت في عصرهم لا سيما الإمام
الغزالي والإمام الرازي وأضرابهم مع أن تلك العلوم لم تكن في عصرهم مدار
العمران ومن أسباب القوة والعزة والثروة كما هي الآن , ومن المشاهد أن الذين
لهم معرفة ما بهذه العلوم من علماء هذا العصر هم أكثر تقدمًا ونجاحًا من غيرهم
فعسى أن يتدبر ما نقول نجباء الطلاب وما يتذكر إلا أولو الألباب.
__________(3/57)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(28) من الدكتور وارنجتون إلي الدكتور أراسم في 12 يوليه سنة - 185.
أبشرك أيها السيد العزيز بغلام جميل ولد لك في الساعة الثالثة من صباح هذا
اليوم بعد ما قاسته والدته من طول العناء وشديد الألم , ولقد كنت عشية أمس مشفقًا
من أن يحل بها مكروه لبعض علامات بدت عليها , ولكن قد أعانتنا قوة طبيعتها ,
وسلامة خلقها على النجاة من الخطر , وأصبحت صحتها من الجودة على ما كنا
نرجوه لها , أما الغلام فجل ما يبتغيه أن يعيش ليخلد به ذكرك , ويعلو بنباهته قدرك
ويعظم فخرك.
وهذه فرصة قد انتهزتها لمكاشفتك بما في قلبي لك من المنزلة الرفيعة ,
وما في نفسي من جواذب الميل إليك ورجائك في أن لا تضن بي على أي خدمة
يلزم لك أداؤها , وأن لا تكتم عني حاجة يعوزك قضاؤها , فإن قبلت هذا
الرجاء استوجبت خالص شكري لأنك بذلك تكون قد برهنت لي على أنك لم تنس
صديقك القديم , نحن معشر الإنكليز متهمون عندكم بأن فينا شيئًا من الانقباض عن
الناس والاحتراس في معاملتهم , ولكن ربما كنا خيرًا مما اشتهر عنا , وعلى كل
حال فإن لنا قلوبًا تعطف على البائسين وتكرم المنكوبين.
... ... ... صديقك المخلص. ...
(29) من هيلانة إلي أراسم في 2 أغسطس سنة- 185
لابد لي أن أقص عليك تاريخي فيما يسميه الإنكليز اعتكاف النُّفَساء، ملتزمة
في ذلك طريق الايجاز فأقول:
استأجرت ممرضة كما هي العادة هنا , وهي امرأة واسعة الخبرة في أمور
التمريض والولادة , أراك تقضي منها العجب لو سمعتها تتكلم في الطب والجراحة
والقيام على الأطفال وغير ذلك مما يدل على كثرة درايتها فيما يلزم لمهنتها ,
والظاهر أنه يوجد من هؤلاء القوابل في إنكلترا قبيلة بتمامها , ووظيفتهن في حق
الوالدات هي أن يرشدن من يكن منهن حديثات عهد بالولادة إلي ما يعود عليهن
وعلى أولادهن بالنفع , وينفذن ما يصفه الطبيب من طرق التداوي , وعندهن
بحسب ما يُسمع منهن عدة من المركبات الدوائية لمداواة بعض طوارئ العلل لا
يتخلف عنها الشفاء , أما قصصهن في هذا الموضوع , فإنها لا نفاد لها , وإني لو
اعتقدت صدق كلامهن في جميع الأطفال الذين يدعين أنهم نجَوا على أيديهن من
الموت لبطل عجبي من كون إنجلترا قد وجدت من أبنائها العدد الكافي لعمارة
إستراليا وزيلاندا الجديدة , وسائر مستعمراتها.
أما التي تقوم علي منهن , فهي - فوق ما تقدم من الصفات - امرأة بارعة
ذات فضل يظهر أن صفة الأمومة العامة قد صارت غريزة من غرائزها , وهي
قصيرة هيفاء تلوح عليها سمات الاستقامة وكرم النفس، شهدت في ماضيها كما يقال
أيامًا فإنها كانت زوجة لرجل كان ملاحظًا للأعمال في أحد مناجم كورنواي وقتل
بسبب اندكاك هذا المنجم فترملت من بعده , وقد رزقت هي أيضًا عدة أولاد فارقوها
من عهد بعيد , وتشتتوا في البر والبحر ابتغاء الرزق، اثنان منهم ملاحان صالحان
يصلانها حينًا بعد حين بصندوق من الشاي وقطعة نقد من الذهب , وقد عرض عليها
أن تكون ممرضة في مستشفي كبير فلم تقبل على ما في إبائها من المباينة لمصلحتها ,
وقالت: إني أفضل أن أتلقى الوافدين إلى الدنيا , وأرجو لهم حياة طويلة فيها على
توديع من يفارقها فراقًا أبديًّا.
كان الدكتور وارنجتون قد أوصى قبل سفره بأن يؤذَن بدنو ساعة الولادة، فلما
حان الوقت أُرسل إليه مكتوب فلم يلبث أن جاء من لوندرة على إثره قبل أن
يضربني الطلق وتنزل بي شدائد المخاض وأهواله , ومما يُحمد في خصال
الإنكليز أنهم إذا أسدوا إلى غيرهم معروفًا لا يمنون عليه , بل لا يظهرون له
قصدهم بذلك خدمته , أو إسداء المعروف إليه , وذلك إما أن يكون منهم رقة طبع
وكمال أدب أو كبرًا وترفعًا عن خدمة سواهم، يدلك على ما أقول أني لما شكرت هذا
الدكتور على مجيئه وتركه مرضاه في لوندرة كان جوابه لي أن قال: رويدك فإني
ما جئت من أجلك , وإنما جئت لزيارة زوجتي وأولادي , فهذا الجواب يعتبر
في رأينا معشر الفرنساويات دليلاً على قلة الظرف , ويعده كثير من الباريسيات
إهانة وتحقيرًا , أما أنا فلم أنظر إلا إلى قصد قائله , فهو جليل , فإنه على يقيني
بأن الغرض من مجيئه هو غير ما يقول قد أراد أن يقنعني بأن وجوده عندي إنما
كان اتفاقًا لا تعملاً فلا يد ولا منة له علي , أو أنه كان شيء من ذلك فلا ينبغي أن
يتمدح به أو أن يذكر.
ثم إنه لم يقف في تفضله علي عند حد مساعدتي بعلمه وحذقه في فن التوليد
على النجاة من الهلاك الذي كنت مشفقة من الوقوع فيه , بل إنه قد تكرم أيضًا بأن
محضني النصح شأن الصديق مع صديقته فيما يجب للمولود من ضروب العناية
فقال: (إني أخاطب الآن غَرة لا خبرة عندها فلا تدهش لما سألقيه عليها من
أفكاري , فإن أقل مزية لها أن أساسها التجربة والاختبار , قد نبه كثير من وصفائي
أفكار الناس في جميع البلدان إلى كثرة عدد الوفيات المريعة في الأطفال الحديثي
العهد بالولادة , ويمكن إرجاع هذه البلوى إلي جملة أسباب، كفاقة الوالدين وفساد
أخلاقهما وعدم كفاية أقواتهما , ولكني أعتقد أن أخص سبب يجب أن ينسب إليه
ذلك هو جهل الأمهات بما تجب عليهن رعايته في شأن أولادهن، فإن الاساءة في
بعض طرق العناية بالمواليد كاتخاذها في غير وقتها , أو الخطأ في تدبيرها لا تقل
عن إهمال شأنهم شؤمًا وسوء مغبة , وإني لست أقصد بهذا أنه يجب على الأمهات
أن يجرين على ما تقتضيه الفطرة جري عماية وغفلة , فإنهن إن يفعلن ذلك يعصين
الله (سبحانه) بتخليهن عن العقل الذي لم يهبه لهن إلا لمراقبة سير الفطرة في
مناهجها وإقامتها عليها إذا حادت عنها , وإنما أعني بذلك أن الاوهام والعادات
والمعارف الكاذبة هي أعدى أعداء المواليد فتجب محاربتها ومحو آثارها , وينبغي
أن تعتقدي أننا لسنا أسوا من غيرنا حالاً في تربية مواليدنا؛ لأن شعبنا يزداد زيادة
ظاهرة حتى إنه قد ضاقت عن سكناه أرجاء بلادنا وها نحن أولاء نرسله أفواجًا إلي
الأقطار السحيقة ليتوطنها ويستعمرها، ومن هذا تعلمين أن ازدياد الأجناس لا يكون
على نسبة عدد الأطفال المولودين , بل على نسبة عدد من يتخطاهم الموت منهم ,
وعندي أن هذه النتيجة الحسنة الداعية إلي الاغتباط في بلادنا ترجع إلي ثلاثة أمور
وهي: استعداد الدم الإنكليزي السكسوني للحياة , وانطباع نسائنا على حب بيوتهن
والعناية بها وما لذوي العقول المستضيئة بنور العرفان من علمائنا من التأثير في
نفوس العامة فإن كثيرًا من نطس الأطباء الطائري الصيت عندنا لم يأنفوا أن يقوموا
ببث الأفكار الصحيحة والآراء السديدة في فن القيام على المواليد بين
أفراد الشعب) .
ولم يكد الدكتور يفرغ من كلامه حتى باشر العمل بنفسه ورتب ما رآه غير
مرتب في غرفة نومي، من ذلك أنه وجد مهد (أميل) قد وضع خطأ تجاه الشباك
فغير وضعه وقال لي: (إني رأيت أطفالاً أصبحوا عميًا أو حولاً بسبب تعريضهم
بعد ولادتهم بأيام لضوء شديد) هذا وإني سأتحفك بنصائح أخرى وعيتها عن هذا
الرجل الفاضل لما رأيته فيها من كمال الحكمة والسداد , ولم أُخِل بشيء منها ,
وإني لا أرتاب في أنه قد تكلف من المشقة والتعب من أجلي ما لم يتكلفه لغيري من
النساء اللاتي يُدعى لتوليدهن , وعاملني كما يعامل الرجل زوجة صديقه , على أن
الناس قد أكدوا لي أن الأطباء المولدين هنا لا يرون أن عملهم قد تم بمجرد انتهاء
الولادة , بل يرشدون الوالدة بعد ذلك إلي جميع ما يلزمها في تربية وليدها اهـ.
(30) من هيلانه إلي أراسم في 3 أغسطس سنة - 185
كلما رددت النظر إلى (أميل) رأيت مثالك محققًا فيه ولا بد لي أيها
العزيز أراسم أن أحكي لك بهذه المناسبة حكاية طبق ذكرها الآفاق في البلد الذي
أسكنه، ذلك أن قسيسًا بروتستنتيًّا قاطنًا في جنوب إنكلترا وجد اتفاقًا في كورنواي
يومًا من الأيام فطلب أن يزور قصرًا عتيقًا جدًّا في ضيعة هناك كانت لأسلافه في
غابر الأزمان , ولذلك كان كثير الاهتمام برؤية أماكنها , فلما حل بها ملأه العجب ,
وأخذ منه الاندهاش كل مأخذ إذ رأى في الرواق المعلقة فيه صور أهل هذا البيت
السالفين صورة كأنها تمثله بذاته مرسومًا على قماش قديم لابسًا عُدة الحرب كما كانت
سُنة الناس في القرون الوسطى لا بملابسه السوداء التي يلبسها اليوم , وبينما هو يتأمل
في هذه الصورة وفيما يليها من الصور إذ وقع بصره على صورة أخرى زادته ارتياعًا
ودهشةً فتقهقر خطوتين إلي الوراء وهي صورة تمثل ابنه البكر , وهو في الثالثة
عشرة من عمره , وكان معه في هذا الرواق، فماذا تفتكر في هذه الصورة الوراثية؟
أما أنا فإني أكاد أفزع عند ما أفتكر في أن رجلاً من الأحياء يعرف نفسه وابنه في
شخصين مجهولين من أهله ماتا من عدة قرون.
فليت شعري هل نحن راجعون إلي الدنيا بعد الفناء كما روى لنا التاريخ ذلك
عمن يؤمنون بالرجعة والتناسخ؟ اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/59)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم)
أنقل فيه فتوى للعلامة ابن حجر الهيتمي ليعتبر بها مجاورو الأزهر وغيرهم
وهي:
(وسئل نفع الله به: هل من السحر ما يفعله أهل الحِلق الذين في الطرقات ,
ولهم فيها أشياء غريبة كقطع رأس الإنسان وإعادتها وندائهم له بعد قطعها ,
وقبل إعادتها فيجيبهم , وجعل نحو دارهم في التراب , وغير ذلك مما هو مشهور
عنهم , وكذا كتابة المحبة والقبول وإخراج الجان ونحو ذلك؟ فأجاب بقوله: هؤلاء
في معنى السحرة إن لم يكونوا سحرة، فلا يجوز لهم هذه الأفعال , ولا يجوز لأحد
أن يقف عليهم لأن في ذلك إغراء لهم على الاستمرار في هذه المعاصي والقبائح
الشنيعة , وإفسادهم قطعي وفسادهم حقيقى , فيجب على كل من قدر منعهم من
ذلك , ومنع الناس من الوقوف عليهم , وإذا كان كثير من أئمتنا أفتوا بحرمة المرور
بالزينة على أن أكثر أهلها مكرَهون على التزيين بخصوص الحرير , ورأوا أن
التفرج عليها فيه إغراء على فعلها , وللحكام على الأمر بها , فما ظنك بالفرجة
على هؤلاء الكذبة المارقين والجهلة المفسدين , وفي الموَّازية من كتب المالكية:
الذي يقطع يد الرجل أو يدخل السكين في جوف نفسه , إن كان سحرًا قتل، وإلا
عوقب , وسئل ابن أبي زيد من أئمتهم عن نحو ما في السؤال , فقال: إن لم يكن
في أفعالهم تلك كفر فلا شيء عليهم , وتعقبه المرزباني فقال: هذا خلاف ما اختاره
شيخنا الإمام أنهم سحرة , وأن الوقوف عليهم لا يجوز , وهو يشبه ظاهر الرواية
لابن عبد البر، روى ابن نافع في المبسوطة في امرأة أقرت أنها عقدت زوجها عن
نفسها أو غيرها أنها تنكل ولا تقتل , قال: ولو سحر نفسه لم يقتل، بذلك قال شيخنا
الإمام , والأظهر أن فعل المرأة سحر , وإن كان فعل ينشأ عنه حادث في أمر منفصل
عن محل الفعل فإنه سحر , وعن ابن أبي زيد: من يعرف الجن وعنده كتب فيها
جلب الجن وأمراؤهم فيصرع المصروع , ويأمر بزجر مردة الجن عن الصرعة ,
ويحل من عقد عن امرأة , ويكتب كتاب عطف الرجل على المرأة , ويزعم أنه يقتل
الجن - أفي هذا بأس إذا كان لا يؤذي أحدًا وينهى بريًّا أن لا يتعلمه (كذا) قلت:
هذا نحو مما أنكره شيخنا من عقد المرأة زوجها , والصواب أن التقرب إلى
الروحانيات , وخدمة ملوك الجان من السحر , وهو الذي أضل الحاكم العبيدي لعنه الله
حتى ادعى الألوهية , ولعبت به الشياطين حتى طلب المحال , وهو مجبول على
النقص وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة.
وعن ابن أبي زيد أيضًا: لا يجور الجُعل على إخراج الجان من الإنسان لأنه
لا يعرف حقيقته ولا يوقف عليه , ولا ينبغي لأهل الورع فعله ولا لغيرهم، وكذا
الجُعل على حل المربوط والمسحور , وسئل أيضًا عمن يكتب كتاب عطف لامرأة
أعرض عنها زوجها ليُقبل عليها وتكتفي شره , فأجاب: أما ما بين الزوجين فأرجو
أن يكون حقيقيًّا بكتب القرآن وغيره مما لا يستنكر ولا يشترط في جُعله , قلت:
وهذا خلاف ما تقدم له، إلا أن هذا بالرقى الظاهرة الحُسن كرقي أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه سيد الحي الملدوغ بالفاتحة. انتهى.
ومذهبنا أن كل عزيمة مقروءة أو مكتوبة إن كان فيها اسم لا يعرف معناه فهي
محرمة القراءة والكتابة سواء في ذلك المصروع وغيره , وإن كانت العزيمة أو
الرقيا مشتملة على أسماء الله تعالى وآياته والإقسام به وبأنبيائه وملائكته، جازت
قراءتها على المصروع وغيره وكتابتها كذلك , وما عدا ذلك من التبخيرات
والتدخينات ونحوهما مما اعتاده السحرة الفجرة الحرام الصرف , بل الكبيرة , بل
الكفر بتفصيله المشهور عندنا , ومطلقًا عند مالك وغيره , وسئل ابن أبي زيد
المالكي عن أجر أن يكتب فيها (كذا) نحو اسم الله الذي أضاء به كل ظلمة ,
وكسر به كل قوة , وجعله على النار فأوقدت , وعلى الجنة فتزينت , فأقام به
عرشه وكرسيه , وبه يبعث خلقه , وما أشبه ذلك مع قرآن تقدمه فهل بهذا بأس؟
فقال: لم يأت هذا في الأحاديث الصحاح , وغير هذا من القرآن والسنة الثابتة عن
النبي صلي الله عليه وسلم أحب الينا أن يدعى به , وذكر في أثناء كلامه أن ذلك لا
يجوز إلا ببعد من التأويل. انتهى.
وممن صرح بتحريم الرقيا بالاسم الأعجمي الذي لا يعرف معناه (أي كأسماء
الطهاطيل وأسماء أهل الكهف) ابن رشد المالكي والعز بن عبد السلام الشافعي
وجماعة من أئمتنا وغيرهم , وقيل وعن ابن المسيب ما يقتضي الجواز لقوله صلي
الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه. انتهى , ولا دليل فيه لأنه لم
يقل لهم ذلك إلا بعد أن سألوه أن عندهم رقيا يرقون بها فقال لهم صلي الله عليه
وسلم:) اعرضوا علي رقاكم فعرضوها عليه فقال صلي الله عليه وسلم: (لا بأس)
ثم قال: (من استطاع منكم) إلخ فلم يقل ذلك إلا بعد أن عرف رقاهم , وأنه لا
محذور فيها , وذكر بعض أئمة المالكية أن من أمر الغير بعمل السحر لا يقتل
بالأمر بل يؤدب أدبًا شديدًا كما في المدونة , وسئل بعضهم عن رجل صالح يكتب
للحُمى ويرقي , ويعمل النشر ويعالج أصحاب الصرع والجنون بأسماء الله والخواتم
والعزائم , وينتفع بذلك كله من عمله , ولا يأخذ على ذلك الأجور فهل له بذلك أجر؟
فأجاب: أما الكتب للحمى والرقى وعمل النشر بالقرآن وبالمعروف من ذكر الله
تعالى , فلا بأس به , وأما معالجة المصروع بالجنون بالخواتم والعزائم ففعل
المبطلين، فإنه من المنكر والباطل الذي لا يفعله ولا يشتغل به من فيه خير أو دين ,
فإن كان هذا الرجل جاهلاً بما عليه في هذا فينبغي أن يُنهى عنه , ويُبصر فيما عليه
فيه حتى لا يعود إلى الاشتغال به. اهـ فتوى ابن حجر , ولا يخفي أنه ليس كل ما
يفرضه الفقهاء لبيان حكمه يكون واقعًا أو مما يقع، فإنهم أحيانًا يفرضون المستحيل
عادة بل وعقلاً كما صرحوا به.
(اقتراح في الإصلاح الإسلامي)
كتب بعض أهل الفضل والغيرة الملية كتابًا إلى مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية يقول فيه: إنه قرأ رسالة التوحيد؛ فعرفتْه دينه
بقليل من الزمن , وأزاحت من سماء فكره سحب أوهام وشُبه طال عناؤه من قبل
في السؤال عنها , فلم يستفد من كتاب ولا من عالم ما يزيحها , ثم اطلع على تقرير
المحاكم الشرعية فألفاه قد شخص الداء ووصف الدواء على أكمل وجه , وعند ذلك
جال في فكره أنه ينبغي لهذا الإمام الحكيم أن يضع تقريرًا آخر يشخص مرض الأمة
الإسلامية كلها ويصف دواءه , وقوي عنده هذا الفكر حتى دفعه إلى الكتابة للأستاذ
يطلب منه ذلك بالوجه الذي يرى , وعلى الوجه الذي يرى , وقال: إن ذلك التقرير قد
طلبته منك الحكومة , وهذا التقرير يطلبه منك دينك وأمتك ووطنك ويكافئك عليه الله
الذي بيده ملكوت السموات والأرض , واقترح على الأستاذ أن يجاوبه على كتابه هذا
في مجلتنا (المنار) وهذا المنار يجاوبه بما يعلمه عن الأستاذ في هذا المقام علم اليقين
وهو:
إن الأستاذ وعد بتأليف كتاب مخصوص في هذا الغرض يسميه (الإسلام
والمسلمون) وقد أشار إلى هذا الوعد في الصفحة 128 من رسالة التوحيد , ولم
تزل عوائق الزمان وصوادف البيئة والمكان تحول دون الشروع فيه , وقد
اقترحنا على فضيلته نحن وكثيرون ممن يحضرون درسه في التفسير الذي يقرأه
في الأزهر الشريف أن يؤلفه تفسيرًا على الوجه الذي يقرأه , فإنه مبين لأمراض
الأمم الروحية والاجتماعية ومرشد إلى علاجها؛ لأن القرآن فيه تبيان كل شيء ,
وقد فسر من حيث هو كلام بليغ مشتمل على أحكام وفرائض , ولكنه لم يفسر على
أنه دين مرشد للأمم وقائد للشعوب إلى السعادة الاجتماعية المدنية في دنياهم
والسعادة الروحية الأخروية في عقباهم، حتى قام هذا الأستاذ الحكيم يفسره على هذا
الوجه , بل إن غير واحد ممن يعرف فضل الأستاذ في غير مصر قد كتبوا
يقترحون عليه هذا الاقتراح حتى بواسطتنا , ويرون أن هذا التفسير كافٍ لإرشاد
الأمة إلى جميع ما تطلبه لسعادتها وإرجاع مجدها , وقد أجاب الاقتراح ووعد
بالكتابة، فما علينا إلا أن نسأل الله تعالى أن يسهل لفضيلته أسباب التعجيل بالعمل.
ثم نقول: إنه يجب على الذين تنبهت نفوسهم إلى سوء حال الأمة ووجوب
السعي في تجديد دينها وإعادة مجدها أن لا يتواكلوا ويعتمدوا على من يعتقدون أنه
أوسع منهم علمًا وحكمة , بل يجب على كل واحد أن يبحث ويسعى في استعراف
الداء والدواء وطريق المعالجة والله تعالى يهدي كل طالب بصدق وإخلاص ,
ويعطيه على مقدار جده واجتهاده , وهؤلاء الباحثون يكونون بلا ريب أبلغ فهمًا
وأكثر انتفاعًا بما يكتبه الأستاذ , والذين يسيرون في طريق واحد ينتهون مع
الاستقامة في السير إلى غاية واحدة , وإن كان سير بعضهم بطيئًا وسير الآخر
حثيثًا , وأما الواقف انتظارًا لمن يحمله ويوصله إلى الغاية فقد يهلك دون مقصده
ولا يجد من يحمله , ومن لطيف الاتفاق أن كاتب هذه السطور كان يذاكر بعض
المهذبين في حال الأمة وما تحتاجه من الإصلاح فقال شاب مهذب: إنني أتمنى
أن يكتب مولانا الأستاذ مفتي الديار المصرية كتابًا في حال الأمة وأمراضها وطرق
علاجها , وأن يعرضه على المشهورين من أهل العلم والفكر ليقرّوه ويوافقوا عليه ,
ثم يُنشر لتأخذ به الأمة وتعتمده , وفي مساء ذلك اليوم علمت بورود الكتاب الذي
نحن بصدد الكلام عليه إلى فضيلة الأستاذ فالأفكار التي تتسابق في ميدان واحد
كثيرًا ما تلتقي في نقطة واحدة , فالباحثون في حال الإسلام والمسلمين بصدق
وإخلاص لا بد أن يصلوا في يوم ما إلى نتيجة واحدة (وعلي الله قصد السبيل
ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) .
(الانتصار بالدين، وصلاة روبرتس)
يقول الله - تعالي - في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45) والفلاح في الحرب
الانتصار , والسبب فيه معقول , وهو أن المحارب إذا ذكر الله الذي يعتقد أن بيده
ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه , واستمد منه النصر لأنه يحارب
بحق يرضيه , وهو القوي الذي تتضاءل لديه كل القوىَ فلا شك أنه يزداد جرأة
وإقدامًا ويستهين بخصمه وإن كان استعداده فوق استعداده , ولذلك فرض على
المؤمنين أن يقاتلوا ضِعفهم على الأقل. وقد ثبت هذا بالتجربة في كل عصر ,
ومن ذلك ما اتفقت عليه كلمة الباحثين في الحرب الأخيرة بين الإنكليز والترنسفال
من أن من جملة أسباب انتصار البوير على الإنكليز نحو خمسة أشهر متوالية، أن
البوير كانوا عند اشتباك القتال يذكرون الله ويستمدون النصر من عنايته والإنكليز
يذكرون الوطن (ليعتبر أنصار الوطنية) والملِكة , ولما تلافى الإنكليز أسباب
الانكسار وأكثروا عَددهم وأصلحوا عُددهم لم ينسوا هذا السبب المهم , ولذلك كتب
قائدهم الجديد العام اللورد روبرتس صلاة (دعاء) وزعها على الجيش ليتلوها كل
واحد منهم عند الزحف وهذه ترجمتها:
(اللهم إننا ملوثون بالذنوب والآثام , فطهرنا منها بدم المسيح , وأيدنا بروح
منك لنقدر على إصلاح حالنا وحياتنا , ويسر لنا لقاء أهلنا وأولادنا الذين خلَّفناهم
في ديارنا , وقوِّنا على رفع كلمتنا الحقة بالشجاعة والإقدام , ووفقنا للثبات في
المهالك التي انتُدبنا إليها , والقيام بخدمة وطننا ورفع أعلامنا بصدق واخلاص ,
وألهمنا الصبر على ما ابتلينا به ووفقنا لإعلاء شأن إنكلترا بالظهور على الأعداء
إن كان ذلك قد سبق في علمك , وارزقنا مع عصياننا لك قوة نغلب بها عدونا ,
لنكون مقبولين عندك أكثر ممن ظهروا علينا بجاه سيدنا المسيح الذي بذل نفسه
لأجلنا) اهـ.
(الصواب)
جريدة أسبوعية سياسية تجارية أدبية تصدر في ريوجانيرو من جمهورية
البرازيل رئيس تحريرها حبيب أفندي الخوري , والمحرر المسئول ميخائيل أفندي
مراد , ومدير أعمالها بطرس أفندي روفائيل كرم , وقد ورد علينا منها إلى الآن 6
أعداد رأينا فيها من الفوائد ما يقوي الرجاء بنجاحها فسُقيا لأصحابها وحمدًا وشكرًا.
نقلت جمعية شمس الإسلام إلى سراي محمود باشا سامي البارودي في باب
الخلق حيث إدارة مجلة المنار.
وكلاء المنار
علم قراء المنار أن وكيله علي رضا الديب قد جمع مبلغًا من مال الاشتراك ,
وانقطع خبره عنا , فنشدناه في المنار , فخاف الفضيحة بأكل مبلغ رآه قليلاً فحضر ,
وقال: إنني اضطررت إلى إنفاق المبلغ الفلاني الذي جمعته , وإذا أبقيتموني في
العمل أعوضه في وقت قريب , ولكن لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين , فوقفناه عن
العمل حتى يُحضر المبلغ , فما كان منه إلا أنه اختفى عن الأنظار , فنرجو ممن
يعرف مكانه من قرائنا أن يتفضل علينا بالبيان، وقد فعل معنا هذا الوكيل كما فعل
معنا مِن قبله وكيلنا السابق في الإسكندرية الشيخ أحمد عبد الكريم فإنه جمع مبلغًا
وأكله , وقطع المخابرات بيننا وبينه بعد ما كان يوهمنا أنه شيخ صوفي , الآن
نطلب وكيلاً للمنار من أهل الإيمان (ولا إيمان لمن لا أمانة له) ولا نقبله مع ذلك
إلا بضمانة معتمدة يوثق بصاحبها.
(فذلكة ومقابلة) علم من الإحصاء الأزهري المنشور في باب التربية
والتعليم أن الذين أخذوا المكافأة من المشتغلين بالعلوم الجديدة 13 في المائة والذين
نقلوا 44 في المائة , والذين سقطوا 45 في المائة والذين أخذوا المكافأة من غيرهم
7 في المائة أي نحو نصف أولئك , والذين نقلوا 36 في المائة , والذين سقطوا 60
في المائة (بالتقريب) وعلم أن مجموع الذين امتحنوا من الأولين 1114 طالبًا
ومن الآخرين 618 أي أن الممتحنين من غير المشتغلين بالعلوم الجديدة نحو نصف
الممتحنين من المشتغلين بها مع أن المشتغلين بها لا يبلغ عددهم الثلث من مجموع
طلاب العلم في الأزهر.
***
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع المعارف والمدارس)
عدد المدارس اليونانية في القسطنطينية وضواحيها يزيد عن مائة يختلف عدد
تلامذتها من أحد عشر إلى اثني عشر ألفًا، ثلاثة أرباعهم ذكور. أكثر الطوائف
استفادة مما منحته جلالة السلطان للرعايا من وسائل في التربية والتعليم العام هي
الطائفة الأرمنية , وكان يجب عليها من أجل هذا أن تخلص لجلالته شكرها وتعترف
بفضله عليها، فإنها قبل حكمه لم يكن لها من المدارس إلا عدد يسير في العاصمة
وبعض المدن الكبرى , فكان في كل خورنية بالقسطنطينية مدرسة ابتدائية كان التعليم
فيها قاصرًا على القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والدين والترتيل الكنيسي لمن يكون
حسن الصوت من الأطفال , وفي بعض هذه المدارس كان يعلم زيادة عما ذكر النحو
والتاريخ والجغرافيا وقليل من العلوم الرياضية , فبفضل عزيمة جلالة السلطان
الموجهة إلى ترقية أمته في معارج الحضارة قد بلغت هذه الطائفة من التقدم في التعليم
العام مبلغًا عظيمًا في أسرع ما يكون , وصارت مدارسها اليوم مساوية لمدارس
الحكومة , وصارت النهضة العقلية للأرمن أظهر ما يكون خصوصًا في العاصمة ,
فيوجد منهم فيها مائتا ألف مقيمون في ست وثلاثين محلة وضاحية , ولهم في هذه
المحلات والضواحي تسع وثلاثون كنيسة يتبعها إحدى وخمسون مدرسة ابتدائية للذكور
والإناث , والتعليم في معظم هذه المدارس مجاني على نفقة الطائفة , وعدد تلامذتها
يقرب من ستة آلاف تلميذ أربعة آلاف منها ذكور وألفان إناث.
من المدارس الثانوية للأرمن مدرسة بربريان ومدرسة إيفازيان ومدرسة
مسيوريان للإناث في إسكودار ومدرسة ميخدوجيان في يني قبو ومدرسة تريد
يانيان في قوم قبو , وجميع هذه المدارس أسسها بعض أفراد من الأرمن ,
وللمستشفي الأرمني في يدي قولا مدرسة صناعية للأيتام الذكور والإناث , وعدد
تلامذتها 425 منهم 206 ذكور و219 إناث , وفي حسقنى ملجأ لليتامى الذين لا
يوجد لهم من يعولهم تدبر شؤونه الأخوات الأرمنيات , أول المدارس الأرمنية هي
مدرسة غلطة المركزية التي يتعلم فيها 150 تلميذًا من الذكور التعليم الثانوى ,
ومعلموها من الأرمن والأتراك والأوربيين , وهم منتدبون من كلية سراي غلطة
الأميرية الاختيارية , والدروس التي تلقى فيها هي الدين واللغة الأرمنية والإنشاء
واللغات التركية والفرنساوية والألمانية والخط والرسم والجغرافيا والتاريخ العام
والحكمة والتاريخ الطبيعي والطبيعة والكيمياء وعلوم الرياضية والقانون والاقتصاد
السياسي والتحرير في الدفاتر وفن التعليم وفن حفظ الصحة والرياضات البدنية. لم
تتأسس هذه المدرسة إلا في سنة 1886 وقد نتج عنها نتائج جليلة أعلت قدرها كما
أعلت قدر مدرسة سراي غلطة الاختيارية.
من أجل أن يشرك الأرمن معهم في فوائد التعليم العام ومزاياه إخوانهم في
الدين قد أسسوا شركات لنشر التعليم مثل شركة باريكو تساجان , وشركة أزياجان ,
وشركة وارتانيان وشركة سينيكير يميان وغيرها , وأشهرها بلا شك هي الشركات
الأرمنية المتحدة التي أنشئت في عهد جلالة السلطان عبد الحميد وإن جلالته تدفع
لهذه الشركة معونات سنوية لمساعدتها على نشر التعليم بين رعاياه المخلصين له
في تركية آسيا , ولهذه الشركات خمس وثلاثون مدرسة للذكور فيها 2362 تلميذًا
وعشر مدارس للإناث فيها 839 تلميذة , وإنها لجديرة بالشكر لأنها تعلم 3201 من
أبناء الفقراء التعليم الابتدائي مجانًا.
ويوجد أيضًا شركتان مؤلفتان من السيدات في عهد جلالة السلطان أيضًا
تنافسان شركات الرجال في تعليم بنات الفقراء في الأقاليم وهما:
أولاً: شركة تبروتزاسير هاهيو هيانز التي تخرج المعلمات لمدارس البنات
في الأقاليم فإن لها مدرسة معلمات في استانبول فيها ثمانون طالبة ومن عهد تأسيسها
يتخرج منها كل سنة نحو ثلاثين معلمة للمدارس المختلفة بالأقاليم.
ثانيًا: شركة إسكنانر هاهيو هيانز التي غرضها إنشاء مدارس للبنات
في المراكز الخالية منها فإنها قد أسست إلى الآن خمس مدارس ابتدائية
فيها 500 طالبة.
تتعلم الناشئات من البنات في العاصمة التعليم العالي في مدرسة الحرف التي
في بيرا ففي هذه المدرسة 150 طالبة بقسميها التجهيزي والعالي , وشرط القبول
فيها أن تكون التلميذة قد تعلمت التعليم الابتدائي , يتعلم التلميذات فيها زيادة عن
الدروس العلمية شغل الإبرة بجميع أنواعه , واللاتي يعلمنهن إياه معلمات
استحضرن من البلاد الأجنبية لهذا الغرض , ولقد كان من صنع أيدي التلميذات
اللاتي في الفرق العالية فيها أشياء من لوازم العرس , وأنواع من الأطرزة الشرقية
نادرة الإتقان.
مما ينبغي ذكره هنا مدرسة سناياريان في أرضروم التي أسسها أرمنى روسي
من بلدة (وان) في سنة 1881 بتصريح من جلالة السلطان , وهي مدرسة ثانوية
تننفع بها ولايات آسيا التركية , ومعلمو هذه المدرسة منتدبون لها من المدارس
الجامعة بألمانيا , ويتعلم الطالب فيها أيضًا كثيرًا من الحرف اليدوية المتنوعة
كصناعة النعال والنجارة والحدادة وغيرها , ويقوم بتعليم فني الزراعة وإنشاء
البساتين رجال مخصوصون بعلم هذين الفنين من بلاد الشرق ومن أوربا.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/64)
غرة ذو الحجة - 1317هـ
1 إبريل - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعادة مجد الإسلام
] كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [[*] .
كثر الخوض في هذه الأيام في إعادة مجد الإسلام فتبارت الألسنة بالكلام ,
وتسابقت في ميادين الصحف جياد الأقلام فغارت عرج الحمير , ونهقت تطلب
النفير , وتحاكي للناس الزئير بالشهيق والزفير , فاشتغل بهذه المجالي والمظاهر
والمسامع والمناظر من لا يميز بين الناطق والناهق , ولا يُزيِّل بين المسبوق
والسابق , وأقبل قوم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون يقولون:
كيف يعود للإسلام مجده , ويرجع إليه عزه وسعده , وثلثا أهله تحت سلطة الأجانب
والثلث الآخر قد أحدقت به النوائب من كل جانب , والجواب على هذا السؤال
من الكتاب {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) ومن السُّنَّة: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ومن كلام علماء العمران: (إن التاريخ يعيد نفسه)
ولنوضح هذه الإشارات بشيء من الشرح والبيان ليظهر الحق للعيان.
كان العالم الإنساني قبيل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة ,
وظلمات من الظلم والفتن , وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة , وصدع
بنيانها؛ فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة , ويقيم بناء مدنيته على
أساس من الحكمة ليثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى , ويبلغ به الإنسان كماله
المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة , فأظهر الله جل ثناؤه الإسلام في الأمة
العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية , فما كان
إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى عم نوره المشرق والمغرب , ودخل الإنسان في
طور جديد , وأقام أركان مدنيته على أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل ما
دامت الأرض أرضًا والسماء سماء , وكيف تزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن
الخليقة , وقد أخبر مبدعها الحكيم الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟ اختارها وهو
أعلم لأسباب ووجوه:
(إحداها) : أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي
أقيم فيها من قبل بنيان الحضارة , وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق
وفارس حيث كان التمدن الكلداني والآشوري والبابلي والفارسي والفينيقي
والمصري واليوناني والروماني، فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في
الأرض القابلة وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) : أنها كانت- ولا مدنية لها سابقة - أشد استعدادًا من تلك الأمم
التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه الأول وهو
استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي لأنه لم يكن لها رؤساء في الدين والسياسة
يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم وتتلاشى آراء أفرادها في
آرائهم فلا يرجع اليهم أحد قولاً , ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا ولا نفعًا , وأما
تلك الأمم فقد كان المرءوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا حتى لم تبق لهم
إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ من الرؤساء , ويمثل أفكارهم وآراءهم.
(ثالثها) : أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة
الكمال بمجرد سلامة الفطرة , وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي
جاء يخاطب العقل والوجدان معًا , ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى , ويطمس
رسومه وتكون أسرع انفعالاً بالمؤثرات وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) : أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية , وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه، على حين أمات الأخرى وذهب بإرادتها ما تواتر
عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة حتى سهل عليها مشايعة الظالمين على
خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا العهد ,
وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) : أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه
على وحي سماوي وعلى سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به
الإسلام أو يزاحمه , وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان ,
وعلى وجه يقبله العقل , وينفعل له الوجدان إذا وجد استقلال الفكر والرأي ,
وكذلك كان.
هذا ما ظهر لنا الآن من وجوه اختيار الحكمة الإلهية الأمة العربية على سائر
الأمم لإظهار الإصلاح الإسلامي ونشره في العالم الإنساني , وقد رزئ المسلمون
بجميع أرزاء الأمم السابقة التي لم تخضع للإصلاح الإسلامي من فقد الاستقلال في
الإرادة والفكر , وضعف الفهم والوجدان , والتسليم الأعمى للرؤساء , والتقاليد
الباطلة من البدع والمذاهب في أصول الدين والذلة والجبن والمهانة , وزادوا على
ذلك أنهم فقدوا لغة دينهم التي جاءهم كتاب الإصلاح بها حتى إن علماءهم لا
يفهمونه كما كان يفهمه الأعراب من رعاء الإبل والشاء , فكيف السبيل إلى
إرجاعهم إليه , وهم لا يتناولونه بأفهامهم , وإن الكثيرين منهم فتنوا بمدنية أوربا
فبعضهم يرى أن السعادة فيها مطلقًا , والبعض يرفضها , وينهى عنها باسم الدين
من غير فصل بين نافعها وضارها , وبين ما كان منها موافقًا للإسلام أو مأخوذًا
عنه وما ليس كذلك , فالإصلاح الذي يعيد للإسلام مجده لا يوجد إلا على أيدي
جماعة لهم استقلال في الفكر والإرادة , وعندهم شهامة وعزة , ويمكن أن يفهموا
القرآن أو يُفهموه حتى إذا دُعوا لجعله أصلاً مع السنة الصحيحة , وما كان عليه
السلف الصالح من العقائد والأخلاق والآداب والأعمال؛ يلبون الدعوة وينصرونها
بما يستطيعون من حول وقوة لا يزحزحهم عنها الرؤساء , ولا يصدهم عن قبول ما
فهموه تجرع عصارة أفكار القدماء , واستقلال الإرادة والفكر لا يوجد الآن في
الجملة إلا عند طائفتين من المسلمين:
(الطائفة الأولى) : بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية , وأكثرهم من
الأتراك والهنود وفيهم عدد غير قليل من المصريين وغيرهم , وأكثر أفراد هذه
الطائفة منحرفون عن صراط الدين غير مصبوغين بآدابه وفضائله وأعماله , وما
داموا كذلك لا يرجى منهم للأمة خير , ومولانا السلطان عبد الحميد يمقت هؤلاء
المتمدنين , ويراهم آفة على الأمة وبلاد الإسلام , ومثل المصريين يسهل إقناعهم
بقضايا الدين الحقيقية إذا وجد فينا علماء عارفون بالعلوم والفنون التي تلقوها
والأفكار الجديدة التي أشربتها قلوبهم يكتبون الكتب , ويقرأون الدروس في التوفيق
بين الإسلام وبين المدنية الحقة والعقل , بل في بيان أنهما صنوان لا يختلفان , وكم
من صاحب شبهة أو شبه في الدين أرجعته قراءة (رسالة التوحيد) إلى الحق
اليقين , وهؤلاء إنما استفادوا من التعليم الجديد استقلال الفكر دون استقلال الإرادة ,
فالضعف والجبن غالبان عليهم , وأكثر ما يرجى منهم نشر العلوم والفنون التي
تعلموها , ونشر الدعوة للإصلاح وتكثير سواد أهلها مهما كانوا آمنين من الخوف.
(الطائفة الثانية) : سكان البوادي (وبعض أهل المدن) من العرب، فإنهم لم
يصبهم من ظلم الظالمين ما أصاب غيرهم لأنهم بمعزل عن سطوة الملك وقهر
السلطان , ولم يأخذ سلطان التقليد بأعنتهم , فيصرفهم عن استعمال عقولهم بالمرة.
إلا أن هذه الطائفة يعسر عليها أن تجاري المدنية الحاضرة إلا في استعمال آلات
الحرب والكفاح، فإذا أمكن بإصلاحها أن يكون للإسلام قوة يُحفظ بها جزء عظيم من
البلاد الإسلامية , وتكون بها الدولة عزيزة قوية - يمكن للمسلمين أن يقيموا بناء
مدنيتهم في ضمن دائرة هذه القوة , ووراء حصنها الحصين كما كان شأنهم في
مدنيتهم الأولى , وكما فعلت الروسية في نشأتها الجديدة.
كان المنار يدعو إلى الوحدة الإسلامية التي تضمن لسائر الشعوب والملل
حقوقها في بلاد الإسلام على أكمل وجه , وهذه الوحدة الإسلامية لا يتيسر القيام
بتعميمها من مصدر واحد مع اختلاف لغات المسلمين ومذاهبهم وحكوماتهم
وأقطارهم ومذاهبهم؛ فينبغي أن يدعى للوحدة الإسلامية عملاً في كل عنصر من
العناصر والشعوب الإسلامية على وجه خاص بأن يضم إلى الكلام في الوحدة العامة
الوحدة الخاصة التي يحفظ فيها كل عنصر كيانه ويحمي حقيقته، فإن الخطر الذي
يتهدد العرب بابتلاع الأمم المتمدنة لهم لا يتهدد الترك الذين هم بين براثن أوربا
وأنيابها، فإذا كسر باب المسألة الشرقية ودخل الشرق الطامعون من كل جانب ,
فالمرجح ما قاله غير واحد من الباحثين في السياسة من أن الأتراك تنحصر سلطتهم
في بر الأناضول فلا يمس استقلالهم فيه أحد لأنهم ثم عنصر مستقل قادر على أن
يحكم نفسه بنفسه , ويُجاري أوروبا في مدنيتها , ولكن البلاد العربية تذهب فريسة
المطامع إذا تقلص عنها ظل الدولة العثمانية بهذا الانقلاب الهائل , والعياذ بالله
تعالى.
ومجد الإسلام إنما يحفظ بمجد العرب , فلابد من السعي لحفظه بالوحدة
العربية , واسم العرب يتناول اليوم مع أهل البادية في الشرق والغرب سكان البلاد
من العراق إلى مراكش شرقًا وغربًا فالإصلاح المعنوي يجب أن يكون عامًّا لبدوهم
وحضرهم كما يجب أن يكون عامًّا لسائر المسلمين , والإصلاح المادي على
ضربين: مدني وحربي، فالمدني يقوم به الحضر , ويتحدون فيه مع سائر الملل
الذين يشاركونهم في البلاد , والحربي يقوم به أهل البادية لأجل حمايتهم من العوادي ,
والعمدة في إعادة مجد الإسلام على الإصلاح المعنوي الأدبي، والمادي سياج له ,
ولابد أن يكون السعي في الوحدة العربية على وجه لا يخل بسيادة الدولة العلية , ولا
يهيج علينا الدول الأوربية , وسنبين هذا في جزء آخر إن شاء الله.
__________
(*) الأعراف: 29 - 30.(3/73)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم في الأزهر الشريف
نشرنا ونشر المؤيد في يوم الخميس الأسبق نبذة في نجاح التعليم في الأزهر
بالنسبة للمشتغلين بالعلوم التي أدخلت فيه حديثًا بسعي فضيلة مفتي الديار المصرية
فكتب الشيخ محمد راضي البحراوي من علماء الأزهر نبذة في المؤيد يعترض فيها
على ما جاء فيه من نجاح التعليم , فنشر المؤيد بعد ذلك مقالة بإمضاء (مجاور
أزهري) يرد فيها على ما كتبه الشيخ مع كمال الأدب والاحترام وهي:
***
قرأنا في مؤيد أول أمس نبذة لأحد مشايخنا الكرام في مضرة الاشتغال بالعلوم
الجديدة، ونتيجة امتحان المكافأة في هذه السنة تنحصر أبحاثها في مسائل: (1) إن
الذين امتحنوا في العلوم الأزهرية وحدها أي دون العلوم الجديدة إنما ظهر فيهم عدم
النجاح؛ لأنهم مشتغلون بالجديد أيضًا , ولكن باعتناء زائد أضاع ثمرة اشتغالهم بغيرها
(2) إننا لو تأملنا لوجدنا أن علمي الحساب والهندسة يشتغل بهما في الأزهر في كل
عصر وآن على أحسن من الطريق الموجود الآن لأن الكتب التي كانت تقرأ كانت
مشتملة على البراهين القطعية , وأما الآن فليس في تعليمهما إلا بيان الأعمال (3)
إن التعليم الأول كان يقوي العقل , والتعليم الجديد يقوي الحافظة ويضعف العقل (4)
إن علم تقويم البلدان سهل لا يحتاج إلى إمعان الفكر والنظر، فهو كالتاريخ يفيد
الحافظة ولا يفيد العاقلة أصلاً (5) إن هذا العلم لا فائدة فيه للمصريين أي وبالأحرى
للأزهريين.
والغرض من تلك النبذة هو ما صرح به بقوله: (إن الاشتغال بالعلوم الجديدة
مضر جدًّا) وقد رأيت أنا وبعض إخواني أن نكتب ما عندنا في هذه المسائل ,
فكتبت إليكم بهذه العجالة غير مصرح باسمي لأن الكلام مع الكلام , ولأننى لا
أتسامى لأن أظهر بصفة المناظر لحضرة أستاذنا كاتب تلك النبذة في جريدتكم ,
وغرض الأستاذ وغرض حضرتكم وغرضنا بيان الحقيقة.
أما المسألة الأولى فقد أحسن المؤيد الجواب عنها [*] وأزيد على ذلك أن
حضرة الأستاذ قالها عن اجتهاد لا عن اختبار؛ لأننا نحن الممتحنين يعرف بعضنا
بعضًا على أنه ليس من المعقول أن أحدًا يصرف كل عنايته إلى علم من العلوم ,
ويطلب الامتحان فيما أهمل الاشتغال به دون ما اشتغل به بكل اجتهاد.
وأما المسألة الثانية فيحتمل أن يكون مراد الأستاذ بها القرون الأولى أيام خلفاء
الفاطميين ومن بعدهم , وأما في هذا العصر فعُدم وجود علماء الحساب والهندسة في
الأزهر وهو الذي اضطر مجلس إدارته إلى استحضار مدرسين لهما من الخارج
وليدلنا الأستاذ على مهندس واحد تخرج من الأزهر.
وأما المسألة الثالثة فهي من مباحث الفلسفة العقلية التي لا يشتغل بها أحد
في الأزهر اليوم , ولكن من المعروف أن أكابر الفلاسفة والسياسيين في أوروبا تعلموا
الحساب والهندسة على الطريقة الجديدة , ولا يمكننا أن نقول: إن عقولهم ضيقة , وقد
اكتشفوا في العلوم ما اكتشفوا , ورقوها إلى الدرجة التي أعطتهم السيادة والسعادة
في الدنيا على أن العلوم إنما تطلب لأجل العمل , فكيف يكون بيان العمل مضرًّا
ومضعفًا للعقل؟ .
وأما المسألة الرابعة وهي قوله: إن تقويم البلدان كالتاريخ يقوي الحافظة ,
ويضعف العقل؛ فجوابه يعلم مما قبله , والمشهور عند جميع الأمم أنه لا شيء
يقوي العقل من العلوم كهذين العلمين لأنهما يعرفان الإنسان أحوال العالم وشئونه.
هذا البرنس بسمارك الذي نقل إلينا أن دماغه أكبر دماغ بحسب ما وصل إليه
اختبار الأوروبيين أي أن عقله أكبر عقل عرفوه باختبارهم الحديث , حتى إنه كان
يحرك الممالك الأوروبية بكلمة ويسكنها بكلمة , وناهيك بعمله العظيم في الوحدة
الألمانية - كان أعلم الناس بالتاريخ والجغرافيا , واتفق الناس على أن قوة عقله ونفوذ
سياسته إنما جاءا من ذلك.
وأما المسألة الخامسة فيمكن للعارف بتقويم البلدان أن يجيب عنها بمقالة أو
رسالة أو كتاب في بيان فوائد هذا العلم للناس عمومًا وللمصريين منهم وللأزهريين
خصوصًا وأكتفي الآن بمسائل:
(أحدها) أن في الأزهر الشريف عدة أروقة , ولكل رواق منها أوقاف
مخصوصة , فإذا لم يكن أهل الأزهر عارفين بتقويم البلدان يشتبه عليهم الأمر في
إلحاق أهل كل رواق به , مثلاً: إن للشوام رواقًا , وللأتراك رواقًا , وبلاد الشام
متصلة ببلاد الترك , ومن أهلها في الأطراف من لا ينطق اليوم إلا بالتركية , وهل
يُعرف الحد بين البلادين إلا من هذا العِلم , وكذلك يقال في رواق الهنود , ورواق
الأفغان إلخ إلخ.
(ثانيها) تبين أن ببلاد أميركا قومًا من المسلمين لكنهم جاهلون بدينهم، فإذا
كتبوا إلى مشيخة الأزهر يطلبون كتابًا أو أستاذًا يعلمهم أمر دينهم فهل يمكننا أن
نعرف سمت القبلة هناك إلا إذا كنا عالمين بطول البلاد وعرضها , وذلك من علم
تقويم البلدان , ومثل هذا يقال فيما إذا كان السائل من بلاد الكاب أو إستراليا أو
جزائر المحيط وغيرها , وإن كثيرًا من المصريين يسافرون في كل سنة إلى
أوروبا، فإذا سئل الأستاذ عن القبلة في بلاد أسوج ونروج كيف يمكنه الجواب إذا لم
يعرف هذا العلم؟ .
(ثالثها) أن حوالي الدرجة 160من خطوط الطول الغربي لمدينة باريس
وحوالي درجة 45 من خطوط العرض الجنوبي لها نقطة في المحيط الباسفيكي لو
خرج منها خط مستقيم , ومر في مركز الأرض إلى الجانب الآخر يكون في وسط
الكعبة , ففي تلك النقطة يصح لمن كان هناك أن يولي وجهه في الصلاة أية جهة
من الجهات الأربع , فإذا سافر المسلمون من غربي أميركا أو شرق آسيا في تلك
الجهة هل يمكن لهم معرفة هذا الحكم إلا بعلم تقويم البلدان.
(رابعها) اتفقت الجرائد حتى الإنكليزية منها على أن أهم أسباب انتصار
البوير وانكسار الإنكليز في الحرب المشتعلة الآن في جنوب أفريقيا، هو معرفة
البوير التامة بجغرافية البلاد التي وقعت فيها الحرب , وتقصير الإنكليز في ذلك ,
والحرب عند المسلمين قد تكون فرض عين عليه بالشرط الذي يعرف حضرة
الأستاذ أنه متحقق اليوم في كثير من البلاد الإسلامية , وهذا الفرض متوقف في هذا
العصر على معرفة تقويم البلدان.
(خامسها) إن للبلاد الإسلامية التي يتغلب عليها العدو أحكامًا شرعية
مخصوصة , والبلاد التي من هذا القبيل كثيرة الآن ومتصلة بالبلاد الأخرى ,
وكثيرًا ما يقع الاختلاف في حدودها , والأحكام تابعة لمعرفة الحدود , وقد ألحق
ببلاد السودان جزء من بلاد مصر لاشتباه حضرات النظار بين (سرس)
و (فرس) .
(سادسها) إن علم تقويم البلدان يعلمنا مع التاريخ ما عليه الدول الحربية من
الاستعداد , وقد أمرنا الله أن نعد لهم ما نستطيع من قوة , وورد في بعض الأحاديث
أن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به، فالقيام بامتثال هذا الأمر يتوقف على هذين
العلمين.
(سابعها) إن عقلاء المسلمين وكُتابهم قاموا في هذه السنين يحثون المسلمين
على الاتحاد والارتباط والتعاون والتعاضد , ولا ينكر فائدة هذا مسلم , وهو يحتاج
إلى التعارف , والتعارف يكون بعلمي التاريخ وتقويم البلدان.
هذه الوجوه لوجوب الاشتغال بالجغرافيا على المسلمين عمومًا والأزهريين
الذين يستعدون لإرشاد المسلمين في كل قطر بوجه خاص، كلها دينية محضة
ويمكن استنباط غيرها.
ولا حاجة بعد ما تقدم للكلام في نتيجة النبذة التي كتبها أستاذنا الشيخ راضي
البحراوي، وهي أن الاشتغال بالعلوم الجديدة مُضر , فإنه حفظه الله اعترف بأن
الحساب والهندسة من العلوم النافعة , وحصر المضرة في تعلمهما على الوجه
العملي , وقد علم ما فيه كما علمت فوائد تقويم البلدان بالإجمال , وظهرت فوائدها
في تقوية العقل بالنجاح في الامتحان.
وهذا الرأي يوافقه عليه بعض المشايخ ويخالفه الآخرون , وقد كان
عندما اجتمعنا في يوم الخميس الماضي بحضرة أكابر المشايخ لتوزيع المكافأة أن
فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية قال: إن بعض المشايخ
قال: إن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة في الأزهر قد تركوا العناية بالعلوم الدينية
ووسائلها مع أن هذه هي المقصودة أولاً بالذات , فحملني ذلك على استخراج هذا
الإحصاء لأجل تلافي الأمر إذا اتضحت حقيقته , وتلا علينا الإحصاء الذي نشرتموه
مبسوطًا في المؤيد الأغر.
وعندما قال: إن بعض المشايخ قال كذا؛ التفت إليه مولانا الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع وقال مستفهمًا استفهام إنكار: (ومن الذي قال هذا؟) وقد
سمع هذه الكلمة منه المشايخ الحاضرون , ومن كان قريبًا منهم من المجاورين ,
فعلمنا من هذا أن أكابر مشايخنا ينشطوننا على الاشتغال بهذه العلوم لعلمهم
اليقيني بدرجة استفادتنا منها , ولا شك أن حضرة الأستاذ الشيخ محمد راضي
البحراوي يوافقهم على هذا بعد زيادة التدقيق لأن مقصود الجميع مصلحة الجميع.
__________
(*) ملخصه أن الاشتغال بالعلوم الجديدة يزيد الإقدام والنشاط لأن جميع الذين تقدموا للامتحان منهم على قول الشيخ المعترض، وفي ذلك تسجيل الخمول على سائر طلبة الأزهر.(3/79)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(31) من هيلانة إلى أراسم في 4 أغسطس سنة - 185
لا أزال أشعر في نفسي بكثرة الضعف حتى إني في تحرير هذا المكتوب إليك
لم أستطع أن أكتبه مرة واحدة , بل كنت أراوح فيه بين الكتابة والاستراحة عدة
مرات.
كنت لزمت الفراش اثني عشر يومًا موافقة للعادة المتبعة في معظم جهات
إنكلترا والآن أصبحت قادرة على القيام والمشي في البيت قليلاً , وصرت مثلك
أجيل ناظري وفكري وأسيح بهما فيما حولي وإني أجد لذة في حبسي لأني أنوي به
مشاركتك في حبسك.
أيكون من الوهم أن أحسب أن أميل ما لبث أن عرفني؟ كلا فإني لا أجيز
لنفسي مطلقًا أن تعتقد أني لست في نظره (إلا ثديًا مملوءًا لبنًا) على قول أحد
العلماء , على أني أعترف اعترافًا قلبيًّا بأن هذا المولود الضعيف الذي يكاد يكون
جمادًا محتاج إلى أن يأخذ كثيرًا من غيره , ولا يكاد يعطي شيئًا , نعم إن لنا فيه
قرة عين وانشراح صدر , ولكنه ليس له في هذا اختيار , فهو كالزهرة ترتاح لها
النفس ويبتهج برؤيتها الناظر على غير إرادة منها ولا قصد , ومهما كانت حاله
ألست أنا أشد منه أثرة لأني أنا المغتبطة بحبي إياه؟ ثم إني كيف يسعني أن
أرتاب فيما له من الإحسان إلي؟ فإنه قد أعاد لي سكينتي وكف عني ما كنت أجده
من غُربتي ذلك أن خلقي - ولا أخفي عليك - قد خالطه من بضعة أشهر شيء من
الحدة بسبب العزلة والاغتراب , ومن هذا تعلم العلة في غضبي على جورجيا قبل
الآن بأيام على أنها أحسن النساء وأكثرهن التفاتًا لواجبها , وحقيقة الأمر أنها
تستثقل القابلة ولا تطيق النظر إليها , ويوجدها عليها أن تراها قد استحقت نصيبًا
من شكري لأنه من المفروض علينا أن نشكر من يخدمنا.
فهذه الغيرة المنبعثة من قلب مخلص لم يستضئ بنور العلم أهاجت غضبي
عليها فلم أستطع كظم غيظي ولا كف بوادر لساني في تلك الساعة، فما كان أشدني
اندهاشًا وارتياعًا إذ ذاك! فإني لم أكد أفرغ من تقريعها؛ حتى أبصرت وجه أميل قد
صار أحمر كالأرجوان , وطفق يصرخ صراخًا شديدًا , فليت شعري هل انفعالات
الأم تؤثر في نفس الطفل فيكون بكاؤه وتغيره رجعًا لصداها؟ ! أنا والحق أقول قد
ملت من ذلك اليوم إلى اعتقاد ذلك.
وسواء كان هذا الاعتقاد صحيحًا أو فاسدًا فقد عاهدت نفسي على أن أعتبر
بهذه الواقعة وأصبحت من الآن كلما عرض لي ما يكاد يذهب بحلمي أنظر إلى أميل
فيسكن غضبي على الفور إجلالاً لولدي , وإذا كنت قد صرت أحسن خلقًا وأوسع
صدرًا وأملك لنفسي مما كنت قبل فليس ذلك إلا بسببه وبيُمن وجوده اهـ.
(32) من هيلانه إلى أراسم في 5 أغسطس سنة - 185
تلقى الدكتور وارنجتون مكتوبك [1] وأطلعني عليه , فرأيتك قد تجنيت على
نفسك إذ قلت أنك ملوم على ما جلبه لي تعيس حظك من الخمول والذل , وأنك
لست جديرًا بأن تكون والدًا.
رويدًا , هون عليك الخطب فإني من عهد أن جمعتنا عقدة النكاح كنت راضية
بكل ما وقع لنا , فهل كان ذلك مني كما تقول ناشئًا من شرف نفسي , أو من رعاية
واجبي , كلا بل كان سببه ما في قلبي لك من صادق الحب وخالص الود , فمن
الجبن والعار أن تأسى اليوم على ما قد كان. أنا لست أشكو أبدًا ما ابتلينا به من
الشدائد والمحن بل إني أزهى بها وأفتخر باحتمالها.
أما ولدنا فقد آن لنا على ما أرى أن نشرع في تربيته، فما هي التربية؟ ومتى
تبتدئ؟ ومتى تنتهي؟ أنا في انتظار جوابك عن ذلك. اهـ
حاشية- أميل مستغرق في نومه وقد قبلته قبلتين في وجنتيه حبًّا لك اهـ.
* * *
(الباب الثاني)
(الولد)
(1) من أراسم إلى هيلانه في 10 أغسطس سنة - 185
تسألينني في خاتمة رسالتك الأخيرة عن التربية متى يكون ابتداؤها فأقول:
يصح أن يبتدأ فيها قبل الولادة بزمن طويل [2] لأنه من المحقق الذي لا مساغ
للريب فيه أن في أجيال البشر أنواعًا من الاستعداد الوراثي تنتقل من الآباء إلى
الأبناء , فابن المتوحش يولد متوحشًا , وولد البربري يخلق بربريًّا , ومن كان من
أبوين متمدنين فإنه يولد مهيئًا للتمدن.
من ذا الذي لا يرى في هذا أن هناك قوى سابقة لخلق الحياة في الإنسان تحدد
لكل فرد من أفراده درجة ملكاته ومقدارها نوعًا من التحديد؟ إن ما نسميه
بالتصورات الغريزية والقوى الحاسية والمواهب الخلقية والفيض الخفي قد لا يكون
شيئًا آخر سوى ما نتوارثه من حالة العمران، أعني نتيجة عمل العقل في من سبقنا
من القرون , فنحن الراجعون إلى الدنيا بعد الفناء كما تقولين.
إن ظهور أثر أعمال السالفين وأفكارهم في إحدى مثاني مخنا على غير علم
منا , وتنقل المادة الحية من قرن إلى قرن مرتقية على الدوام في صورها بعمل
العقل , وخروج المولود من غيابة الرحم إلى عالم الشهادة بأعضاء كملها التقدم ,
وسواها الترقي - جميع هذه الأمور يغلب على ظني أنها من أسباب النمو التي يصح
ملاحظتها في التربية , ولكن لما كانت عزائمنا ليس لها على مثل هذه الأسباب أدنى
سلطان لعمومها وخروجها عن حد الضبط، كان من العبث البحث فيها.
لكن هناك أحوالاً طبيعية يتأتى للعلم فيما أعتقد أن يتناولها ويغيرها، خلافًا
للأسباب المذكورة، فأي مانع يمنع المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء مثلاً أن يصلوا
يومًا ما إلى تحديد ما لسن الرجل والمرأة وحالتهما الصحية وطريقتهما الغذائية من
التأثير في التناسل؟ وقد وجه فريق من نابغي هذا العلم الذائعي الصيت أنظارهم
إلى هذه الغاية وأعملوا أفكارهم في سبيل الوصول إليها، فإذا أدركوها
وتقرر أنها أصبحت من ثمراته؛ صار علم وظائف الأعضاء فرعًا من فروع علم
التربية النفسية.
إذا علمت مما تقدم أنه من الصعب جدًّا تحديد الزمن الذي تبتدئ فيه التربية
اتضح لك أن تعيين الوقت الذي تنتهي فيه أصعب وأكثر مجازفة لأنها تستغرق
العمر كله.
أما حقيقة التربية وهي أول شيء تسألين عنه فلي أن أجيبك عنها جوابًا سديدًا
وهو: إنها على ما يؤخذ من معنى لفظ التربية اللغوي عبارة عن تكميل عقل
الناشئ , وتهذيب نفسه بإظهار جميع ما استكن فيه من ضروب الاستعداد وأنواع
القوى وإنمائها؛ لأن ذلك اللفظ مأخوذ من (رَبَا) أي: زاد ونما , لكني خشية أن
تخالي في هذا التعريف إبهامًا أعجل بكشف معناه وتقريبه إلى ذهنك فأقول:
أراد جمهور علماء الأخلاق بالتربية الوصول إلى ما تصوروه في الإنسان من
معنى الكمال , فغرضهم منها إيجاد الإنسان الكامل , وهو غرض يظهر لأول نظرة
أنه موافق للعقل تمام الموافقة , لكنه مثار لاعتراضات كثيرة , فلقائل أن يقول: إن
الإنسان الكامل ليس هو إلا صورة خيالية لا تحقق لها في الوجود الخارجي قطعًا
فنحن إذن نحلم به كل على حسب تصوره , فإيانا والتشبث بهذه الصور الوهمية
التي يريد بها الخيال أن يتغلب على الواقع المحقق , فإنه لا شيء أيسر علينا من
تخيل ذات عاقلة , ونعتها بآلاف من نعوت الكمال حتى تكون نموذجًا لجميع
الفضائل , ولكن من لنا بإنزال هذه الذات من السماء وإبرازها لنا إلى عالم الظهور.
مثل هذا الاعتراض على مسألة التربية يكون وجيهًا لو أن الإنسان كان ذاتًا
واجبة الوجود، لكنا في الحقيقة نراه على خلاف ذلك متغيرًا لا يستقر على حالة
واحدة , فإنه وهو في الرحم تتناوبه أطوار جنينية مختلفة , ولا أريد أن أبين لك ما
يتقدم ولادته من الحوادث , وإنما أقول: إن حياته من أولها إلى آخرها ليست إلا
سلسلة استحالات متفاوتة في الحصول سرعة وبطئًا.
ألم تنظري إلى شعره (الذي لا يوجد عادة عند الولادة) كيف يتغير لونه عدة
مرات , وإلى لون جسمه وسمات وجهه , وبنيته كيف أنها تتجدد كلما كبر؟
تأملي في الغلام الصغير عندما تبتدئ ثناياه اللبنية في الزوال؛ تجديه قد صار شيخًا
بالنسبة إلى ابن الرابعة أو الخامسة الذي لا تزال لثته مجلاة بجميع لآلئها.
فقد خلق الله (سبحانه) لجميع الكائنات الحية في دور نموها أعضاء وقتية
تتلاشى بعد انقضاء مدتها , وأعد لها أعضاء أخرى تنمو في هذه المدة لتخلف
الأولى , كذلك القوى الجسدية والملكات النفسية تتعاقب , ويخلف بعضها بعضًا على
نظام محدود , فإن المولود يذوق قبل أن يبصر , ويبصر قبل أن يسمع , والذاكرة
فيه تسبق القوة الحاكمة , ووجدانه يكون قبل فكره بزمن طويل , فالحياة من الولادة
إلى الشبيبة , ومن الشبيبة إلى الشيخوخة مظهر قوى تتعاقب , ويحيا بعضها بفناء
بعض , والإنسان من مهده إلى لحده يسلك طريقًا تفرق فيه رفاته , وبددت في
جوانبه بقاياه.
أنى يكون لنا بعد ذلك موقف في هذه الحركة الدائمة؟ وكيف السبيل إلى غاية
ننتهي إليها؟ فالذي أراه هو أن لكل يوم ما فيه , وأن أهم ما تلزم به العناية في علم
التربية هو اختيار ما يناسب كل سن من أنفع طرق النمو وأمثلها , وحينئذ فأنا الآن
أقتصر على الكلام عن التربية في زمن الطفولية اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا المكتوب لم يعثر عليه.
(2) المنار: قلنا في الجزء الأول من المجلد الثاني أن التربية يُبتدأ فيها من ابتداء الحمل، وهذا هو المعقول الموافق لتعريف التربية الذي يقارب ما قلناه فيه هناك ما يقوله هنا، وزعم بعض الجاهلين أن الإفرنج يقولون: يبتدأ بالتربية في السنة السابعة للولد.(3/84)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(جميع الكتب النافعة) إن علامة اللغة والأدب الأستاذ الشيخ محمد محمود
ابن التلاميد التركزي الشنقيطي الشهير قد جمع في رحلاته وأسفاره في الأقطار كتبًا
نفيسة، منها ما هو نادر الوجود , وقد وقفها على عامة أهل العلم في بلاده شنقيط
ونظم في هذه الأيام قصيدة غراء ينافس فيها بهذه الكتب , ويحض فتى من قومه
على الرحلة إليه لكسب العلم وأخذ هذه الكتب قبل وفاته , وصدَّرها بالحماسة
لتعرض بعض من يدعي العلم , وقد طبعت وأهديت إلينا نسخة منها فرأينا أن
ننشرها بشرحها المفيد وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إظهار بعض الحسب المذخور لردع كل متعرض مفخور
يا من تعرض لي بالعلم والأدب ... وهب [1] يسألني عن مقتضى حسبي
عُض الأنامل من غيظ ومت كمدًا ... وكلْ جنى الجهل واشرب قهوة الغضب
أنا الذي لا أزال الدهر ذا طرب ... سرًّا وجهرًا لتسياري ومضطربي
لضبط علم وكتب أبتغي بهما ... وجه الإله وفوزي بعد منقلبي
أنا الذي لا أزال الدهر ذا شغف ... بنقدي الكتب أبدي خافي الكذب
أنا الذي لا أزال الدهر ذا فرح ... بما أنميه من علمي ومن كتبي
تجول بي همتى في الأرض مجتهدًا ... في جمعها من بلاد العجم والعرب
تسرني غربتي في الناس منفردًا لكسبها لا لكسب المال والنشب [2] وما سررت بشيء قد ظفرت به ... مسرتي بكتاب نلته عربي
ألهو به طول ليلي والنهار معًا ... مجانبًا لهو خود [3] عذبة الشنب [4]
بيضاء بهكنة [5] ... هيفاء خرعبة [6] ريا المخلخل لا تدنو من الريب
فدونكم معشري كتبًا مهذبة ... من حسن ما قد حوت لا ينقضي عجبي
كفيتكم جمعها مستبشرًا جذلاً ... بشق نفسي بالإيغال في الطلب
يود ذو العلم والفهم الأصيل قوى ... تصونها فيه بين اللحم والعصب
يحوي معانقها طول الزمان غنى ... يغني عن الفضة البيضاء والذهب
وحلو طعم معانيها على ظمأ ... أحلى من البرد الممزوج بالضرب
قد قيدتني بأرض غير أرضكم ... تقييد عانٍ بلا كبلٍ ولا سبب
وسركم سنكم [7] إبلاً مؤبلة ... سن المعيدي [8] في السعدان [9] والربب [10]
أليس منكم فتى بالرشد متصف ... يفري الفريّ [11] ويأتي أعجب العجب
ينمي القتود [12] على عيرانة [13] أجد [14] ... تقوى على الوخد والتخويد والخبب
يطوي المفاوز قد ضمت جوانحه قلب السليك عدا في الدرع واليلب
حتى ينيخ ببابي غير مكترث ... لما يلاقيه من هول ومن نصب
فعل الأمين أخي ضوى [15] الذي سبقت له العناية أنضى العيس [16] في طلبي
حث النجائب لا يلوي علي أحد منكم يثبطه عن نيله رُتبي
جاب البراري ثم البحر منصلتًا [17] على ركائب لا تخشى وجى [18] النقب [19]
حتى أناخ لدى البيت الحرام لديّ ... فحاز ما يبتغي من مرتضى الأرب
قضى المناسك حجا عمرة [20] تفثًا [21] ... مناسكًا هن حقًّا أصعب القرب [22]
قفاهما حججًا تقتافها عمر [23] ... في سعيها راحة تنسي أذى التعب
فقرت العين بالجمع الصحيح به ... وجد في العلم كل الجد بالأدب
وطابت أنفسنا مستمتعين بذا ... ونال مني يقين العلم من كثب
غذاؤنا العلم صرفًا لا مزاج له ... من الأغاليط والتمويه والشغب
عشنا معا عيشة في (طيبة) رغدًا ... وفي البقيع ثوى في أطيب الترب
وسرت منها إلى مصر البلاد وقد ... صارت لي الآن ملقى الرحل والقتب
كابني نويرة كنا قبلنا وصلا ... حبل الأخوة بالأشعار والخطب
كمالك وعقيل مالك ومتمم ... أخو مالك من صحب خير نبي
فقطع الموت حبل الوصل بينهما ... فلا تواصل يرجى غابر الحقب
هذا وإن لسان الحال ينشدني ... أبيات مكتسب للكتب محتسب
(إني لما أنا فيه من منافستي ... فيما شغفت به من هذه الكتب)
(لقد علمت بأن الموت يدركني ... من قبل أن ينقضي من جمعها أربي)
(ولا أؤمل زادًا للمعاد سوى ... علم عملت به أو رأفتي بأبي)
__________
(1) هبَّ: شرع وطفق.
(2) النشب بالتحريك المال.
(3) الخود بالفتح الشابة الناعمة.
(4) الشنب بالتحريك برد الأسنان والفم وهو تفسير الأصمعي.
(5) البهكنة: الشابة الغضة ويقال: شاب بهكن.
(6) الخرعبة: اللينة الرخصة الكاملة الحسن.
(7) سن الإبل: إذا أحسن القيام عليها.
(8) قوله: سن المعيدي تلميحاً لقول النابغة:
ضلت حلومهم عنهم وغرهم ... سن المعيدي في روعي وتعزيب
(9) السعدان: نبت من أفضل مراعي الإبل ومنه المثل (مرعى ولا كالسعدان) .
(10) الربب كعنب جمع ربة وهو نبت وقيل الخروب.
(11) يفري الفري , أي: يأتي بالعجب , ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: (فلم أر عبقريًّا يفري فريه) .
(12) القتود جمع قتد وهو أعواد الرحل.
(13) العيرانة: الناقة المشبهة بعير الوحش في القوة والصلابة.
(14) الأجد بضمين القوية الظهر المأمونة الدبر، والوخد بالفتح نوع من سير الابل , والتخويد سرعة السير والخبب بالتحريك أدنى من التخويد.
(15) الضو بالكسر الأخ الشقيق وله معانٍ غير ذلك.
(16) العيس: جمع أعيس وعيساء، وهي الإبل التي يخالط بياضها صهبة.
(17) منصلتًا ماضيًا سابقًا.
(18) الوجى بالتحريك حفًا وظلع يطرأ لذي الحافر , والحف لطول السير.
(19) النقب بالتحريك رقة باطن خف الناقة، ومنه قول الأعرابي يخاطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر
(20) العمرة معلومة وهي الحج الأصغر قال تعالى: [وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ] (البقرة: 196) .
(21) التفث بالتحريك الشعث ونحو قص الأظافر وحلق العانة وهو المراد بقوله تعالى: وليقضوا تفثهم , ومنه الحاج أشعث أغبر.
(22) القرب كصرد جمع مقربة وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى.
(23) عُمر: جمع عمرة وبه سمي عمر بن الخطاب، ومن قبله ومن بعده، وهذا من أدل دليل قاطع على وجوب صرف عمر وبهتان من يدعي غير ذلك لأنه علم منقول عن جمع نكرة , وكل علم منقول عن جمع نكرة كعمر هذا وغبر وكلاب وضباب وأنصار، وإنما يجب صرفه إتباعًا لأصله , وهذا مجمع عليه لا يشك فيه عالم.(3/89)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(جمعية شمس الإسلام)
ما نجحت جمعية في القطر المصري كجمعية شمس الإسلام , ولا خاض
الناس في جمعية كخوضهم فيها , وكثيرًا ما يكون الخوض والتحامل من أسباب
الفوز والنجاح , أما نجاح الجمعية فحسبك دليلاً عليه كثرة الفروع التي تتفرع منها
آنًا بعد آن حتى تكرر طبع دفاترها وقسائمها وأوراقها مرارًا.
وإنني أذكر من هذه الفروع الآن ما أتذكره من غير مراجعة الدفاتر وهو
جمعيات حلوان وبني سويف وملوي وديروط وفزارة وأسيوط وطهطا ومنفلوط
والمنيا والفيوم وقلوصنا والجرابيع والشيخ فضل وصدفا والصبحة وصنمو.
وأما الخوض فيها فجدير بأن يثير العجب , ويحمل على البحث عن السبب ,
فإن في هذه البلاد جمعيات كثيرة لسائر الملل , ومنها ما هو مشترك بين جميع
الأجناس والملل، فلماذا اهتم الناس بهذه الجمعية دون سواها؟ هل ذلك لأنها على
شيء من الباطل؟ كلا إن هذا مردود من وجوه:
(أحدها) أن الخائضين والمرجفين بها ممن لا يكادون يميزون بين الحق
والباطل , وهم أميل إلى الثاني منهم إلى الأول , وحكم من لا يعرف حقيقة
الجمعية من سائر الناس على أقوالهم تختلف باختلاف الأفهام والعقول , فالعاقل
يرفض كلامهم المتعارض المتناقض , وما عساه يكون معقولاً في نفسه يتوقف فيه
حتى يظهر له بالاختبار، والفدم الإمَّع يتابع كل قائل على رأيه من غير بصيرة ولا
تمييز.
(ثانيها) أن المرجفين قد خلقوا عللاً واهية للخوض في هذه الجمعية، وفي
مصر من الجمعيات جمعية تدعو إلى أن يؤاخي المسلم أبناء كل الملل , ويفضل
إخوته في الجمعية على إخوته في الإسلام , وينصرهم عليهم ظالمين أو مظلومين
لا أنه يبرهم ويقسط إليهم فقط كما جاء في القرآن , وآخرين من دون هذه الجمعية
يدعون إلى دين جديد يستدلون عليه حتى بالقرآن , ويقولون: إن الجائي هو السيد
المسيح عليه الصلاة والسلام وأنه مات وترك وصيًّا هو رئيس الدين الآن ,
والمرجفون بجمعية شمس الإسلام إذا كانوا يحترمون الجمعية الأولى وهي الماسونية
أو كانوا منها فهم لا يحترمون الثانية قطعًا , ومع ذلك لا يرجفون بها ولا يضادون
أهلها ولا يحادونهم.
(ثالثها) أن ما يقولونه غير معقول في نفسه , وإننا نخجل من ذكره ,
وكيف لا يخجل المسلم أن يقول: إن بعض المسلمين يخذل عملاً إسلاميًّا شريفًا لأن
الذي وضع أساسه وسن سنته الحسنة ليس من وطنه مع أن دينه يقول له: (الحكمة
ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) فاتباعًا لهذا القول الشريف يجب على
المسلم أن يأخذ كل ما يراه نافعًا لملته وأمته ولو عن مخالفه في الدين , فهل يكون
على هدي الإسلام إذا كان يرفض , بل ويخذل الأعمال النافعة للإسلام لأن من قام
بها أولاً غير وطني؟ يا رباه اصرف عنا شر هذه الوطنية العمياء التي مزقت
رابطتنا الملية كل ممزق , واهدِ قلوب الذين يغشون الناس بها لعلهم يرجعون.
هذا أحد الأسباب الحقيقية للإرجاف بالجمعية , وثَم أسباب أخرى:
(أحدها) أن بعض الماسون ظنوا أن الجمعية وضعت لمعارضة جمعيتهم ,
وقوَّى عندهم هذا الظن خروج من دخل فيها من الماسونية , ولذلك رأينا المرجفين بها
كلهم أو جُلهم من الماسون , وقد انتهى الغلو ببعض المارقين من هؤلاء الأشرار إلى
أن قال ما معناه: كيف تتضاءل الجمعية الماسونية التي وجدت قبل الأنبياء
والمرسلين أمام جمعية شمس كذا…. (وذكر كلمة تليق بمقامه لا ينبغي
أن تكتب) .
(وثانيها) أن في مصر نفرًا من الأشرار قد اتخدوا التجسس والمحْل والسعاية
بين مصر والأستانة معاشًا وأحبولة لاصطياد الرتب والوسامات، فحيثما وَجَدَ هؤلاء
خرقًا وسَّعوه فجعلوه بابًا يدخلون منه إلى غرضهم يجعلون الحبة قبة والشبهة حجة
قاطعة. أذاع هؤلاء أن غرض الجمعية إقامة خلافة عربية , وإننا نذكر شبههم
التي خدعوا بها بعض الأغرار والسذج وهي:
(1) علموا أن الجمعية لا تقبل أحدًا فيها من حزب تركيا الفتاة الذين غلوا
في الخوض بمولانا السلطان الأعظم ويطلبون الإصلاح بالقانون الأساسي فقالوا:
إنها لا تقبل أحدًا من الأتراك مطلقًا لأنهم لا يشايعونها على الخلافة العربية.
(2) علموا أن الجمعية خصوصية لا تبيح لكل أحد أن يحضر اجتماعاتها
لئلا يحضرها السكران والحشاش والأحمق ويختلطوا بكرام الناس، فقالوا: إنها
سرية والدين ليس فيه سر، فلم يبق إلا أنها جمعية سياسية تريد الخلافة العربية ,
ففتحت الجمعية أبوابها لسائر الناس مدة من الزمن فرأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما
هو صريح في الإخلاص للدولة العلية والخلافة العثمانية لا سيما الثناء والدعاء
للحضرة الحميدية فخشي رهط الفتنة أن لا يسمع لهم بعد ذلك قول فأغروا بعض
السفهاء بإحداث الشغب في وقت الاجتماع لتضطر الجمعية إلى الرجوع إلى أصلها
وكذلك كان.
(3) رأى بعضهم في آخر مجلة الجمعية الرسم الذي ترونه على أعلى
الصفحة الأولى من المنار فقال: إن هذا رمز من الجمعية إلى التاج الذي سيتوج به
الخليفة الذي تنصبه! ! مع أن واضع ذلك الرسم هو جامع الحروف في المطبعة ,
ولم يره أحد من أعضاء الجمعية إلا بعد تمام الطبع وهو موضوع على كثير من
المطبوعات التي طبعت في مطبعة المنار لسائر الناس! !
(4) علموا أن في الجمعية طبقات ودرجات , فرتبوا لها وظائف
مخصوصة.
(5) رأوا في المجلة أن من موضوع الجمعية تعليم الصناعة، فإذا كان لديها
مال وافر تنشئ بعد مدارس التربية والتعليم مدارس الصناعة , فقالوا: إن الغرض
من الصناعة هو عمل الآلات الحربية لمحاربة الدولة العلية! ! قال بعض الأذكياء
لرجل سمع منه مثل هذا الكلام السخيف وأن الخليفة موجود يبايع: كيف يتصور
العقل أن جمعية يصرح قانونها بأن مالها يصرف على تعليم الدين والفنون
والصنائع يكون غرضها إقامة خلافة , وهو ما يعجز عنه الملوك والأمراء أصحاب
القوى الحربية , فأجابه ذلك الأحمق: إنها تقصد أن يكون هذا بعد خمسين سنة أو
أكثر , قال الذكي: إنكم تزعمون أن خليفتها موجود الآن ولكنكم اختلفتم في تعيين
القطر الذي يقيم فيه، فبهت المرجف الكذاب.
ولم يخجل هؤلاء السعاة المحَّالون من كتابة هذه السخافات وإرسالها إلى دار
الخلافة ويتوقعون عليها الجزاء الأوفى، فقد أخبرنا رجل كان انضوى إلى رهط
الفتنة ثم رجع أن الذي أظهر الوقاحة الكبرى في الجمعية موعود من فلان باشا
وفلان بك برتبة ووسام.
(ثالثها) يوجد رجل حاسد للجمعية لا أذكر اسمه ولا وصفه ولا أشير إليه
بشيء يميزه لأن فضيحة المستور غير جائزة , ولأن بعض المغترين به لا يصدق
عليه القول فيتهم قائله بالغرض.
هذا الرجل اجتهد في الإغراء والتحريض بإبطال الجمعية لغرض له شخصي
محض يرى أن يفيده جاهًا عريضًا , هذا ملخص الإرجاف وأسبابه.
وقد استاء أهل الفضل من اللغط والإرجاف بالجمعية وأشفقوا من انحلالها ,
ونبشرهم بأن ما حصل أفاد الجمعية ونفعها , وأبعد عنها من ليس من أهلها وإنما
دخلها بالغش وسوء الاختيار , وقد انتكث بفضل الله فتل المفسدين وبطل اجتماعهم
وكانت العاقبة للمتقين , والحمد لله رب العالمين.
__________(3/93)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استماحة وتهنئة
يعلم قراء المنار الكرام أن موعد صدور الجزء الخامس منه هو ثاني أيام عيد
الأضحى السعيد , وأن العمال يتركون العمل من يوم عرفة، فلهذا ولاضطرار منشئ
المجلة ومحررها إلي السفر قبل العيد بأيام إلي خارج القاهرة نرجو أن يسمحوا لنا
بالجزء المذكور، وإننا نسدي إليهم جزيل الشكر مع التهنئة بالعيد السعيد سلفًا.
قد رأينا ان نجعل قيمة الاشتراك بالمنار في خارج القطر المصري 16 فرنكًا
بتنزيل فرنكين من القيمة السابقة تسهيلاً للاشتراك.
كتب إلينا بعض أهل العلم والفضل من العرب المقيمين في سنغافورة بأن
الرسائل التي جاءتنا من بلاد جاوه نحن وبعض الجرائد العربية في مصر وغيرها
في الطعن بالسيد عثمان بن عقيل فيها تحامل وكذب حمل عليهما الحسد وسوء الظن.
ولا غرابة في ذلك فإن الأمة الآن في طور طفولية في حياتها الاجتماعية ,
والطفل لا يميز في الغالب بين ما ينفعه وما يضره , وإننا نعرف في هذه البلاد
وغيرها رجالاً من خيار الأفاضل يسيء الناس بهم الظن لشبه وهمية لا تروج إلا
عند الأطفال الذين لا يعقلون.
__________(3/96)
21 ذو الحجة - 1317هـ
21 إبريل - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدنيا والآخرة
] فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ *
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ [[*] .
ذهب قوم إلى أن الإنسان في هذه الدنيا حيوان كسائر الحيوانات، وأنَّ زعم
بعض أفراده أنه مَلك أرضي وأنه أفضل المخلوقات ما جاء إلا من العجب
والغرور , وأن كماله إنما هو في التمتع باللذات الجسدية بقدر ما يستطيع , ولا
يحرم نفسه منها إلا لجهله وغروره , بل تطرف بعض أهل هذا المذهب الحيواني
فقالوا: إن الإنسان أخس من غيره من الحيوانات , وأنقص في فطرته من كثير من
الحشرات لأنها خلقت مستقلة في شئون معيشتها وخلق هو جاهلاً فاحتاج لتقليدها
والأخذ عنها , ولولا استعداده للتقليد لما أمكن أن يعيش ويثبت , والمقلد لا يكون إلا
أنقص من مقلَّده. قالوا: لا يوجد حيوان يقلد الإنسان فيستفيد بتقليده ما يقوم به أوده
ويحفظ حياته , والإنسان قد قلد كثيرًا من الحيوانات والحشرات , فإنه تعلم النسج
من العنكبوت , والهندسة من النحل , وبناء البيوت من النمل الأبيض , وتعلم قابيل
ابن آدم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه.
وذهب قوم إلى أن الإنسان مَلك روحاني، ولكنه لبس هذا الجسد الحيواني
ليختبر الحالة الحيوانية ويعرف حقيقة العوالم الجسدية فنسي أفراده عالمهم الأصلي،
وشغلهم هذا الثوب العارض عن حقيقتهم، فيجب عليهم أن يجتهدوا في التخلص من
عوائقه والفرار من دواعيه بحسب طاقتهم، وأن يخدموا الروح ويقووا سلطانه حتى
يقطعوا هذه المرحلة الجسدية ويصلوا إلى عالمهم الروحاني (الآخرة) غير منهوكي
القوى، وهناك يكونون أرواحًا تسبح مع الملائكة المقربين في عالم الملكوت الأعلى
حيث لا لذات جسدية كالأكل والشرب وملامسة النساء، أي أن عالم الوجود يخلو من
هذا النوع الذي نسميه (الإنسان) وتنعدم منه اللذات المادية التي سموها بزعمهم
نقائص , بل يتخيل كثير منهم أن عالم المادة يتلاشى ويضمحل ولا يبقي إلا عالم
الأرواح والروحانيات. ومن العجيب أن أكثر الناس يعظمون أهل هذا المذهب على
اختلاف آرائهم ويعتقدون فيهم الكمال مع أنهم في العمل أقرب إلى المذهب الذي
قبله، والحق هو ما نقصه عليك فيما يلي:
إذا تتعبت أحوال بني آدم في عامة أوقاتهم , واستخرجت مقاصدهم من جميع
أعمالهم ترى أنها محصورة في تحصيل المنافع ودفع المضار , وإن شئت فقل:
اجتناب المؤلم واجتلاب الملائم , وإذا سبرت أفكارهم ووقفت على مذاهبهم في
المنافع التي يتهافتون عليها والمضار التي يهربون منها؛ ترى أنه لا معنى للمنفعة
عندهم إلا اللذة , ولا معنى للمضرة إلا فقدها , واللذات منها الجسدي والمادي ومنها
الروحي والعقلي , والإنسان نزاع بطبيعته إلى كلتا اللذتين , ولكن اللذة الجسدية
سابقة في الطبيعة , وحياته الشخصية والنوعية متوقفة عليها فلا يستغني عنها في
وقت من الأوقات , ولهذين السببين ترسخ فيه وتقوى فتغلب على أختها التي تأتي
بعدها لأن بها تمام الإنسان وكماله. والجزء المتمم المكمل لا يكون كذلك إلا إذا كان
قبله جزء يكون هو مكملاً ومتممًا له. وكل ماهية من الماهيات المركبة التي تكمل
بتمام ما تركبت منه تعدم بعدم أي جزء من أجزائها سواء كان الجزء المعدوم هو
الأول في الوجود أو المرتبة أو كان الثاني , وما تعدم بعدمه تنقص بنقصه وتصل
إلى كمالها باستيفائه ما هو مستعد له في أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها مع
الاعتدال الذي هو ميزان الفضيلة والكمال.
إذا علمت هذا أيها الناظر المدقق؛ يتبين لك غلط الذين يزعمون أن اللذة
الجسدية نقيصة في الإنسان , وطلبها ولو مع الاعتدال مذموم عقلاً أو شرعًا كأن
هؤلاء الناس غفلوا عن أنفسهم فجهلوا أن الإنسان مركب من جسد وروح وأن تركه
لدواعي الجسد وما يحفظ وجوده ويصل به إلى كماله هو كتركه دواعي الروح
العاقل وما يصل به إلى كماله، كلاهما خروج بهذا النوع عن نوعيته , وهو محال لا
يطلبه إلا جاهل. ولو أمكن للإنسان أن يستغني عن اللذات الجسدية ويعيش بدونها
مكتفيًا باللذات الروحية مستغرقًا في المعارف العقلية لكان ملكًا ولم يكن إنسانًا , ولو
حبس نفسه على اللذات الجسدية ولم يعبأ بما يطالبه به روحه وعقله من تحصيل
اللذات المعنوية لهبط من أفق الإنسانية إلى أرض الحيوانية , وكان كالبهائم السائمة
والدواب الراعية فالحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان لا يكون إنسانًا على وجه
الكمال إلا إذا استوفى لذتي الروح والجسد جميعًا مع الوقوف عند حدود الاعتدال.
هو هكذا في الدنيا وسيكون كذلك في الآخرة لأن الآخرة ليست عالمًا يمحى فيه عالم
المادة من لوح الوجود ويخرج به الإنسان عن كونه إنسانًا وإنما هو عالم يكون
الإنسان به في أعلى أوج الكمال فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير
عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء أو يحجب به عن اللذتين كلتيهما.
بهذا جاء الدين الإسلامي فكان حكمًا عدلاً بين الناس: مليين وفلاسفة , وحُكمه
هذا ترتاح له النفس المعتدلة , ويرضى به العقل السليم إذا كان يؤمن بالغيب الممكن
الذي يُخبر به مَن ثبث صدقه بالآيات البينات. نعم إن العقل الجوال لا يرضيه
الأخذ بالإجمال فيطالب بالتفصيل ويسأل عن البرهان والدليل. وقد تكفل له
الإسلام بكل هذا، فإنه لم يكلف أحدًا بأن يأخذ به تقليدًا بل نعى على المقلدين وقال:
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
ليس من غرضنا أن نبين في هذه المقالة وما بعدها ما قصه علينا الدين من
أحوال الآخرة وبيان أنه ممكن منطبق على ما يليق بعدل الله تعالى وفضله , وإنما
الغرض بيان ما أرشد إليه من الكمال الإنساني في الدنيا والآخرة , وكيف جمع بين
مصالح الدارين وألف بين مطالب الروح والجسد فوافقت الشريعة نظام الفطرة
والطبيعة لأن كلاًّ منه جل وعز , ولا يصح في العقل أن الحَكَم العدل يخلق الخليقة
بنظام محكم ثم ينزل شريعة تخل بذلك النظام (وقد أوضحنا هذا من قبل في مقالة
عنوانها (الشريعة والطبيعة والحق والباطل) فليرجع إليها من أراد) وسنبين فيما
يأتي وجه الجمع بين الأمرين , ونشرح معنى الزهد والقناعة على الوجه الذي
ينطبق على قاعدتنا، فانتظر ما يفتح الله به في الأجزاء التالية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) البقرة: 200-202.(3/97)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(2) من أراسم إلى هيلانة في 11 أغسطس سنة- 185
اعلمي أن تربية الطفل في الأسبوعين الأولين من حياته - بل يصح أن أقول
في الشهرين الأولين منها - تكاد تنحصر في مجرد وقايته مما عساه يؤذيه من
المؤثرات الخارجية , فهي ترجع إلى نوع من انتظار الفطرة ومراقبتها في عملها ,
وإعانتها عليه عند الحاجة.
إن المولود يدخل عند ولادته فيما اصطلح علماء وظائف الأعضاء تسميته
بالحياة المستقلة , ولكن ما أضعف استقلاله وأقل حريته , فإنه بما أودع فيه من
غريزة التغذي لا يكاد يُرى إلا ملتقمًا ثدي أمه فتكون معه كالغصن المطعم بآخر ,
فهو إذن تابع لغيره فقير إليه في غذائه وسد حاجات معيشته المادية , وما أخفى
معنى الإنسانية فيه وأبهمه وهو في هذا الطور من الحياة، فإنه لمَّا كان مغمورًا في
سحابة من الجهالة لم يكن فيه أول أمره على ما يرى من حالة أدنى إدراك ظاهر لما
يضطرب حوله من الأشياء.
مسكين ذلك المولود الأعمى ! فإنه لا يجد ثدي أمه إلا بتلمسه، نعم إن له عينين
لكنه لا يبصر بهما , وأذنين غير أنه لا يسمع بهما ويدين إلا أنه لما يتيسر له
أن يبطش بهما.
هذا المولود الذي هو وثن لأمه تعبده وتخصه بفرط محبتها، قريب الشبه
بالآلهة [1] الزمنى الذين سَخَرت منهم التوراة، لكنه على ما فيه من الضعف والعجز
قد خلقت له وظيفة مهمة يؤديها في العالم ألا وهي النمو.
فوظيفة الأم تكاد تنتهي إلى عدم إعاقة هذا العمل الفطري الخفي والتحرز من
تشويشه , وإني طالما أعجبت بما تهديه إليها في ذلك أنثى الطير من الأسوة الحسنة
فإنها لشد ما تعتني بحجب ذخرها الحي عن دنس الأنظار , وتبالغ في إخفائه بعشها
المستتر تحت أغصان الأشجار , والمرأة أقل منها دراية بما يجب للأولاد؛ لأننا
كثيرًا ما نراها تتخذ مولودها ألعوبة لشفقتها وحنانها.
وماذا نقول في أمهات ما ينفككن يرين الأجانب أولادهن، فيُدِرنهم من يد إلى يد
ويُهِجن انفعالاتهم بما يتصنعنه لهم من الحركات والإشارات , ويعذبنهم بالملاطفات
المنبعثة عن جنون الشغف بهم , أقول قولاً لا أود منك إذاعته وهو: إني أخشى
أنهن في ذلك ينظرن إلى تسليهن أو إلى زهوهن أكثر من نظرهن إلى مصلحة
الطفل.
والحذر الحذر أيضًا من بعض الأوهام الشعرية، فإن شعراء هذا العصر وكُتابه
قد بالغوا في إطراء الطفل، فإنهم قد حَبَّب إليهم الخيال أن يروا فيه ملِكًا نزل من
الجنة تاركًا فيها جناحيه.
إني في الحقيقة لا أعرف من أين أتى ولكن رأيي فيه هو أنه إذا كان قد رأى
عجائب في عالم آخر فقلما يذكر منها شيئًا , وأنه إنما يُحصِّل علومه جميعها بيننا ,
وسأبين لك في الرسالة التالية كيف يُحصِّل هذه العلوم. اهـ
(3) من أراسم إلى هيلانه في 12 أغسطس سنة- 185
إن أول زمن في حياتنا نكون فيه أكثر تعلمًا وأشد تحصيلاً هو ذلك الزمن
الذي لا يعلمنا القائمون علينا فيه شيئًا تعليمًا نظاميًّا , فجميع الأمهات يعرفن أن
الطفل يترقى في تحصيل العلوم من الشهرين الأولين من حياته إلى أن يبلغ ستة
أشهر ترقيًا غير معهود في هذا السن , وقد حسب له بعض علماء وظائف الأعضاء
ما يكتسبه من العلوم وهو في سن شهرين إلى أن يبلغ سنتين أو ثلاثًا من عمره
فوجد أنه يكتسب منها ثلث ما يكتفي بتحصيله أوساط الناس , فأنى له هذه التربية
الأولى؟ نعم إنه لا ينكر أن لأمه دخلاً فيها , ولكن أخص مؤثر في تحصيله تلك
العلوم هو ملامسته لما يحيط به من الأشياء , وتناول مشاعره إياها فهذا الينبوع
الأصلي من ينابيع العلم الإنساني وأعني به الاحتكاك بالأشياء وتناولها بالحواس هو
الذي أريد توجيه فكرك إليه.
ولننظر ابتداء إلى ما يجري في الواقع، فالمولود في مدة الأسابيع الأولى من
ولادته يكون مخه لا يزال في غاية الرخاوة , وأعضاؤه المعدة لمعيشة الاختلاط بما
حوله في نهاية العجز عن إجابة داعي ما يختلف به من الأشياء إجابة يكون من
ورائها عمل , فإنه يرى جميع هذه الأشياء كأنها شفق فلا يميز منها شيئًا , ويسهِّل
لك الاقتناع بذلك ما ترينه فيه من الغفلة عن وجودها , وعدم المبالاة بها , ثم تتدرج
انفعالاته بعد ذلك في التيقظ لها فيكون مثله في هذا التيقظ بعد خموده كمثل صنم
ممنون [2] يكون ساكتًا فإذا انصبت عليه أشعة الشمس جعل يصوت كما تعلمينه.
هذا هو شأن الطفل فإنه ينتعش بما حوله انتعاش ذلك الصنم بالشمس، إن سُمي
هذا انتعاشًا.
هل يتعلم المولود الإبصار والسماع أم يأتيانه عفوًا؟ تلك مسألة صعُب كثيرًا
على المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء الاتفاق على الإجابة عنها، فلهم فيها أقوال
مختلفة , ولكن الذي أجمعوا عليه أن المولود يتعلم بالتمرين إجادة هذين الفعلين ,
فليكفنا ذلك من جواب هذه المسألة , والحكمة في هذا أنه من السنن الإلهية أن كل
عضو يحسن عمل ما واظب عليه , وفوق ذلك فإن قوة الانفعالات عند الطفل تزداد
يومًا فيومًا بما يجده من اللذة في استخدام ما أوتيه من وسائل العلم الصغرى فقد قال
بسويه [3] : إن لذة الاحساس قوية جدًّا.
الإحساس في الغالب يحصل في المولودين عفوًا من غير معاناة تعليم , فلا
يحتاج معظمهم إلى تعلم اللمس والذوق والإبصار والسماع , بل إنهم يجدون فيما
وهبهم الله من الغرائز ما يلزم من القوة لإجراء هذه الأفعال التي هي من مقتضيات
الحياة , ولكن أليس في قوة اقتداء الطفل بغيره ومنافسته إياه , وفي تخيله الأشياء
المحيطة به لتزداد رونقًا يستلفت نظره إليها ما يساعد على تنبيه مشاعره , ودفعها
إلى إجراء ما خلقت لأجله؟ إننا نرى في البهائم أن أنثاها لا تكف عن إرشاد
صغارها إلى استخدام حاستي السمع والبصر , وحملها على الانتفاع بهما وهذا
الإرشاد هو السبب على ما أرى فيما يوجد من القوى المدهشة لبعض الفصائل
الحيوانية.
كذلك المتوحش كما تعلمين يكاد يكون نصيبه من التربية قاصرًا على
المشاعر, ولشد ما برز علينا بهذا السبب في بعض القوى , فالعادة والرياضة البدنية
وطريقة المعيشة تنمي في الأجيال البدوية جملة أنواع من الإدراك خارقة للعادة في
دقتها وسعتها.
وإذا سأل سائل عن سبب فقد الإنسان بعض هذه المواهب الأصلية بتمدنه؛
اكتفينا في الجواب عن ذلك بتوجيه نظره إلى ما حصل في بعض أنواع الحيوان من
ضروب التغير عند انتقالها من حالة التوحش إلى حالة الاستئناس، فمن ذا الذي كان
يظن أن الأرانب إذا تربت في خابية نسيت بعد ثلاث بطون طريقة احتفار الأجحار
للسكنى بها , وهذا الخروف نفسه الذي نعتبره مثالاً للذل وسلاسة القياد والغباوة،
لم يكن كما نراه اليوم في جميع الأزمان، فإن أصله الذي تولد منه وهو الكبش
الوحشي على عكسه في الطباع؛ لأنه حيوان جريء يزهى بالمخاطرة بنفسه في
جبال قورصه [4] , ويقاوم من يبتغي صيده من الصيادين , فجعله الإنسان خروفًا
أهليًّا بزربه - أي ببناء زريبة له - وتوظيف راعٍ للقيام عليه وكلاب لحراسته.
كذلك الإنسان كلما تهذبت أخلاقه بالتمدن وتحضر؛ تدرج في التخلي عن بعض
خواص معيشته الوحشية فأي حاجة تبقى له في أن يكون دائم التيقظ للمحافظة على
نفسه إذا كان غيره يسهر لحفظه وكلاءته , فمراقبة الحيوان المؤذي من بعيد
وإلصاق الأذن بالأرض لمعرفة خطا العدو من بُعد ألفي أو ثلاثة آلاف ميل لا
ضرورة لهما إلا في حق سكان أمريكا وأوستراليا الأصليين أما نحن ففي حالتنا
العمرانية ما يغنينا عن ذلك , فإن لنا الشرطي والجندي اللذين نستأجرهما ليدفعا عنا
ما نخشاه من أذى المعتدين وكيد الخائنين , فإذا زال الخطر الملازم للمعيشة البدوية
بالتحضر؛ وجب حتمًا أن يزول معه ما كان لحاستي السمع والبصر من الدقة
العجيبة التي هي عون وجدان المحافظة على النفس.
كأني بك تقولين: إن هذه المزايا الجسدية لم تكن شيئًا مذكورًا في جانب
القوى التي خلقها الإنسان في نفسه بارتقاء التمدن إن صح أن ينسب له الخلق , وأنا
بلا شك موافق لك في هذا , فإننا - والحق يقال- قد ربحنا من الحضارة أكثر مما
خسرنا , ولكن هيهات أن يقنعني هذا الفكر لأني أرى أنه كان يجب على الإنسان
في العصر الحاضر أن يستجمع في شخصه جميع المواهب التي كانت لمن عمروا
الأرض من قبله , وكوني على يقين من أننا لو بلغنا هذه الغاية ما عُد ذلك منا
إفراطًا في الغنى , ولا وصلنا في الحياة مطلقًا إلى درجة تكفي لأن نمثل فيها كل ما
من شأنه أن يحيا , وإن قوى الإدراك الحسية تكاد تكون في لزومها لفهم معنى
وجودنا مساوية للقوى الفكرية.
أما كون التمدن يزيد الثقة في المعاملات بين الناس ويقوي روابطهم الاجتماعية ,
ويغالب على الدوام العوامل الفطرية مغالبة يقلل بها جدًّا عدد البلايا التي تجعل
البدوي على خطر من حياته - فهذا كله في غاية الحُسن، وأما كون الشرطة تحفظ
الأرواح والأموال فهذا أمر لا أجد مساغًا للطعن فيه , وإنما كل الذي آسف عليه من
ذلك هو أن طريقة الحفظ هذه تصير مدعاة كسل وخمود لمشاعرنا , وقد أدركت ذلك
الأمم المتمدنة أنفسها تمام الإدراك فإنها قد أبقت من عاداتها القديمة بعض
الرياضيات البدنية التي لم يبق لوجودها أدنى موجب إن لم تكن قد اعتبرتها من
وسائل إحياء قوى الفطرة الأصلية , وذلك كالصيد وألعاب المبارزة والمصارعة
مثلاً.
ولو أن رجالاً تلاكموا في الطريق لقبض عليهم الشرطيون , وساقوهم إلى
المحاكمة مع أنهم لم يفعلوا إلا ما يفعله الملاكمون من شباننا في ملاعبهم الرياضية
(محال الجنباز) .
إني أرى - ما لم أكن مخطئًا أن الترقي في مجموع الآلات التي نستخدمها لسد
حاجاتنا لا بد أنه يستتبع زيادة التكلف في استعمال القوى العضلية بمجتمعاتنا , وإلا
لأصبح الإنسان عما قليل بسبب إحلاله الآلات محله في مشيه وعمله وكفاحه شبيهًا
بباشا غشيه خدر الترفه , وغرق في فتور البطالة [5] فلابد لمنع تطرق الفساد إلى
النسل من انهماك الناشئين في كل أنواع اللعب التي هي في الظاهر غير مفيدة لكنها
في الحقيقة معدة لحفظ قوة الجسم , ولولا هذه الألعاب المقاومة للضعف والانحلال
لكانت اختراعاتنا نفسها سببًا في انحطاط الدولاب [6] الإنساني من عرش سيادته.
العلم أيضًا يفرغ جهده , وينفذ مهاراته وحذقه في تكميل نقص أعضائنا بما
يوجده لها من طرق المساعدة في أداء وظائفها , وإني لكثير الإعجاب كجميع الناس
باكتشاف المنظار المقرب أو المرقب (التلسكوب) لأنه جم الفوائد , ولكن
المتوحش الأمريكي ذا الجلد الأحمر لا يحتاج في اكتشاف نقطة فوق الأفق إلى شيء
يطيل به بصره سوى ما استقر فيه من الاعتياد على إرسال أشعة بصره المجرد
لتنفذ في المسافات السحيقة , وتأتي إليه بصور ما فيها من الأشياء.
أليس في إعانة المشاعر بالآلات على القيام بوظائفها رفع جزء من ثقة
الإنسان بفطرته التي قضت بأن يفوق الوحشي المتمدن ولو من بعض الوجوه ,
وإني لا أريد بهذا (كما لا يخفى عليك) وجوب الاستغناء مطلقًا عن مكتشفات العلم
والصناعة , وإنما أريد به أن لا تتخذ مزايا المدنية ذريعة إلى إنشاء الطفل المتمدن
مترفًا جبانًا قصير النظر وأنه سيأول أمره إلى ذلك إذا اعتاد في كل شئونه على
ترقي وسائلنا الصناعية , ولم يجعل لنفسه وقوة أعضائه نصيبًا من ارتكانه عليهما.
ألا توجد طريقة لاسترجاع جزء من الخواص الأصلية التي أضاعها منا
الانغماس في التمدن؟ قد يوجد لذلك سبيل، فكثيرًا ما فكرت في الوظيفة العمرانية
للأصناف الإنسانية التي نعتبرها أحط من صنفنا لوقوفها عند أخلاق الطفولية ,
وسألت نفسي غير مرة عما إذا لم تكن هذه الأصناف معدة لسد خلل فينا , وهو
القضاء الذي يحول بيننا وبين حالتنا الفطرية.
الصنف الأسود في كثير من ولايات أمريكا الجنوبية هو الذي يُعهد إليه خاصة
بتربية مولودي الصنف الأبيض، فنساؤه مراضع بارعات لهؤلاء المولودين ,
والرجال يمرنونهم على حسن النظر والسمع , ولذلك كانت تربية الأحداث
الأمريكيين أوفق لمقتضى العقل بكثير من التربية عندنا , فإن المربين هناك
يجتهدون في أن يعطوا الأطفال مشاعر قبل أن يعطوهم عقولاً، على أن التعبير
بالإعطاء هنا خطأ؛ لأن التربية لا تعطي شيئًا للطفل , وإنما تنمي ما هو موجود
فيه , فكم من القوى الجسدية التي لا يشك في وجودها فيه تبقى كامنة بمجرد إغفال
استعمالها.
نعم إن مجتمعاتنا المؤلفة من أشخاص كبار في السن متأنقين لا تخلو من
منبهات المشاعر , ولكن هل تلائم أنديتنا وزخرفنا حالة الطفل الملائمة المطلوبة؟
كلا فإنه يولد محبًّا للاستطلاع مقلدًا لما يراه , ففي إيجاده في مثل هذه الأندية جذب
له إلى أذواق لم تخلق فيه , ولا تناسب سنه , وقلما يكتسب من يتربى من الأطفال
في هذه البيئة الصناعية الذوق الفطري فيما بعد , فأنا أفضل كثيرًا أن يتربى أميل
في الريف حيث يوجد كل شئ على حقيقته , ويصل إلى مخ الطفل قبل أن تغير
مواضعاتنا شيئًا من صورته.
جميع المشتغلين بوظائف الأعضاء معترفون بما لتربية المشاعر من الأهمية,
بل إن بعضهم قد أوصى باتخاذ بعض الرياضات لتربية البصر والسمع واللمس
وغيرها في الصغر , ولكني لا أخفي عنك أن مثل هذه الرياضات قليلة الفائدة فلا
تثقي بها كثيرًا , فإن كل ما يفكر الطفل بالرياضة والعمل يتعبه ويسئمه , فالواجب
على ما أرى أن يعتمد في تنبيه طرق الإحساس لهذا المخلوق الصغير على ما
يروق نفسه ويجذبها من غير أن يظهر فيه قصد التعليم والتربية.
والأم هي التي من وظائفها اختيار الانفعالات التي تنشأ من الأصوات
والأشكال والألوان والروائح والطعوم وتنويع هذه الانفعالات وتدريجها , فعليها أن
تجري في ذلك حسب مقتضيات الأحوال , والعالم الخارجي لا يقتضي سوى الولوج
إلى نفس الطفل من طريق مشاعره فيكفي في ذلك أن يبقى هذا الطريق مفتوحًا مع
تنبيهه عند مسيس الحاجة إلى ما يستحق التنبيه.
القوى الجسدية والقوى النفسية وإن كانت متمايزة منفصلاً بعضها عن بعض
إلا أن بينها رابطة تربطها، فإن صحة أنواع التصورات ليست بمعزل عن صحة
التصديقات , وإن الذهن بما يتمثل فيه من صور المدركات يهيئ مواد الفكر ,
فيجب أن تكون تربية المشاعر ابتداءً مقصودًا بها تربية العقل اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لعل هؤلاء الآلهة هم الذين سخر منهم سيدنا إلياس عليه السلام لما أراد أن يتحدى أمته بقبول الله قربانه إذ طلب اليهم أن يقربوا ثورًا لآلهتهم , ويقرب هو آخر لإلهه ليظهر أي الآلهة يقبل قربان عباده فقربوا ثورهم , ودعوا بعلاً إلههم من الصباح إلى الظهر لينزل نارًا تأكله فلم يجبهم فسخر منهم نبي الله , وقال: ثابروا على الدعاء فلعله نائم.
(2) ممنون في أساطير اليونان هو ابن الفجر وابن تيتون ملك الحبشة وهو أيضًا اسم لتمثال معبود مصري كانوا يعبدونه في طيبة وكان صنعه على طريقة علمية بحيث أن الشمس لما كانت تطلع عليه كان يسمع له صوت ناشئ من حركة الهواء بسبب حرارة الشمس.
(3) بسويه هو جاك بيننبي بسويه المولود في ديجون سنة 1627 والمتوفى سنة 1704 كان أسقفًا لكندوم ثم مو ثم صار مربيًا لولي عهد لويز الرابع عشر وهو من أكبر كتاب فرنسا وأعظم واعظ نبغ فيها.
(4) قورصة جزيرة بالبحر الأبيض المتوسط وهي إحدى مقاطعات فرنسا على بعد 270 كيلو متر من شواطئها.
(5) ليتأمل القارئ اعتقاد علماء الإفرنج في أعاظم رجال الشرق (الباشاوات) وليحكم فيه بإنصاف.
(6) المراد بالدولاب الإنساني جسم الإنسان بما فيه من الأعضاء والقوى فإنه شبيه به.(3/101)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة زعزوع بك للبنين
أنشأ سيد أحمد بك زعزوع مدرسة في بني سويف , ففرح المسلمون بذلك
واستبشروا بهذا العمل الشريف والخدمة الإسلامية الجليلة , ولما تبين أنه جعل
لأكابر رجال الحكومة في بلدها حق النظر في إداراتها، ظن الناس أن هذا يحول
دون التربية الإسلامية التي يجب أن تقرن بالتعليم لأجل بث روح التهذيب الملي في
النشء الجديد , وأنشأ بعض المتبجحين بالوطنية أو انتقاد الحكومة ومعارفها مدرسة
وبشر الناس بأن سيكون امتيازها على سائر المدارس بالتوسع بتعليم الدين
والتربية الوطنية , فتوهم الذين يعتقدون الكمال بكل من ينتقد الحكومة أن هذه
المدرسة هي ضالة الأمة المنشودة؛ فأخطأ الظن وضل الوهم في المدرستين ,
وتبين بالاختبار أن مدرسة زعزوع بك منبع الحياة الملية , فالتلامذة يتلقون القرآن
الكريم مع تفسيره إجمالاً فما بالك بسائر العلوم الدينية؟ ويُصَلُّون في المدرسة
أجمعين , وليس في المدرسة الوطنية التي أشرنا إليها شيء من هذا.
مدرسة زعزوع بك اختبرتها بنفسي مرتين , والمدرسة الوطنية الأخرى
علمت ممن يوثق به من أهلها أن التلامذة لا يُلزمون فيها بالصلاة , وأنها دون
مدارس الحكومة في تعليم الدين.
وإنما قلنا هذا لأن الثناء بالصدق والانتقاد بالحق من أعظم أسباب الترقي
والكمال.
لا خلاف بين العقلاء في أن العناية بالتربية أهم من العناية بالتعليم لأن الذي
يتعلم ولا يتربى ربما يضر بعلمه أكثر مما ينفع، وقد رأيت بنفسي في مدرسة
زعزوع بك ما ملأ قلبي سرورًا ورجاء بحسن المستقبل , وإنني أذكر مسألة واحدة
يقاس عليها.
دخلنا مع حضرة ناظر المدرسة الفاضل على صف ابتدائي يتعلم القرآن
الكريم بالتجويد حفظًا , فقرأ علينا غير واحد من التلامذة , وأوقف الناظر واحدًا
منهم لم يكن حفظه جيدًا , ثم قال للتلامذة: إنني أذكر لكم واقعة حدثت لأحد تلامذة
المدارس , وأطلب منكم إبداء رأيكم فيها , وهي أن تلميذًا ضرب في الطريق تلميذًا
آخر من مدرسته فبماذا ينبغي أن يعاقبه أبوه على هذا الذنب؟ فقال أحدهم:
ينصحه بأن مثل هذا العمل يجعله ممقوتًا ومبغوضًا بين الناس ... وقال آخر: يهدده
بمعاقبة الحكومة ... وقال ثالث: يضربه , فانتهر الناظر هذا وخطَّأه , ثم قال لهم:
إن من رأيي أنا أن يفصل أبوه بينه وبين إخوته ويقول له: إذا كنت تؤذي إخوتك
في المدرسة فلا يبعُد أن تؤذي إخوتك في النسب , وإنني أخشى من مخالطتك
لإخوتك أن يتعلموا الشراسة والتعدي ومفاسد الأخلاق منك , فالأولى أن تكون خليعًا
لينجو إخوتك من شرِّك.
ثم قال لهم: واعلموا أن ذلك التلميذ الضارب جعله فساد أخلاقه أسوأ التلامذة
حفظًا وتعلمًا , وربما تتعجبون إن قلت لكم: إنه من مدرستنا هذه (فشخصوا عند
هذا بأبصارهم) بل هو من صفكم هذا , وموجود معكم الآن , وستعرفونه فطفقوا
يلتفتون يمينًا وشمالاً وذلك التلميذ السيئ الحفظ واقف شاخص لا يبدي حراكًا، فالتفت
إليه الناظر وقال: ألست أنت المقترف لهذا الذنب يا فلان؟ فأراد أن يدافع عن
نفسه بالإنكار فقلنا له: لا تضم جريمة الكذب إلى جريمة الضرب.
وقال له الناظر: إنني سأعاقبك بما قلت أنه ينبغي لأبيك أن يعاقبك به بأن
آمر التلامذة جميعًا باجتنابك وعدم مكالمتك بعد ما أذكر لهم جريمتك عندما
يجتمعون عمومًا للانصراف؛ لئلا نفسد أخلاقهم بمعاشرتك , أو يصيبهم الأذى من
شراستك , ففاضت العبرة من عيني التلميذ المذنب , وصارت الدموع تجري على
خديه , وتنحدر إلى الأرض من غير نشيج ولا كلام.
فعند هذا شفعت فيه على أنه يتوب توبة نصوحًا , فقبل الناظر الشفاعة على
شرط أن يطرده من المدرسة إذا هو عاد إلى مثل جريمته طردًا , فهكذا هكذا تكون
التربية.
مدرسة زعزوع بك للبنات
رأى بعض الأفاضل فتاة معصرًا من بنات الوجهاء في بني سويف لابسة لبسًا
أفرنجيًّا وماشية في الطريق , فسألها أين تقصد , فقالت: المدرسة , فقال: لا
مدرسة اليوم لأنه يوم (أحد) فقالت: إنما أريد الصلاة بها , فقال: أنت مسلمة
وإذا كنت تصلين صلاة النصارى يغضب أبوك , وربما يعاقبك , فقالت: إذا
عاقبني ولم يرض مني فإن الذين علموني لا يتركونني , ويمكنني أن أكون عندهم
راهبة في الدير! ! فقص الرجل هذه الحكاية على حضرة الفاضل الغيور أحمد بك
زعزوع , فاستفزته الحمية الملية في الحال إلى تأسيس مدرسة إسلامية للبنات , وقد
استحضر لها ناظرة فاضلة واستأجر لها محلاًّ مناسبًا , وكملت الآن بها لوازم التعليم
من المعلمات والمعلمين والأدوات.
وقد وضع لها ناظر مدرسة البنين قانونًا للتعليم مبنيًّا على أساس الحكمة
ومراعاة أهم ما يلزم للبنات , وسنتكلم عنه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى ,
وننقل بعض نبذ منه , فعسى أن يبادر جميع المسلمين في بني سويف لإخراج
بناتهم من مدارس الغالين في التعصب لدينهم المسيحي الذين يلزمون بنات المسلمين
إلزامًا بعباداتهم النصرانية , ويدخلوهم في هذه المدرسة الإسلامية.
وليعلم أن ما ذكرته في سبب تأسيس هذه المدرسة لم أسمعه من حضرة
زعزوع بك نفسه عندما كنت عنده في بني سويف , وإنما سمعته من آخرين في بلد
آخر.
وعلى كل حال نقول: شكر الله سعي هذا الفاضل الهمام , وأكثر في المسلمين
من أمثاله.
__________(3/110)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(سؤال وجواب وعبرة لأولي الألباب)
سأل سائل (اسمه قنديل) بما جاء في أول مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي
نشرت في المنار الماضي من العبارات الثلاث إشارة إلى إعادة مجد الإسلام , فأنكر
علينا الإشارة بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) إلى أن ما قام
به الإسلام واعتز في أول أمره , وتركه المسلمون فسلبوا مجدهم وعزهم هو
الذي يرجع به ذلك المجد والعز إليهم , وسمى هذه الإشارة استنباطًا وقال: إنه
(غير مُسلَّم بل باطل وحرام) .
وقال في الإشارة الثانية , وهي حديث (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ)
أن الحديث صريح في أن لا إعادة , وأن رجوع الإسلام كما بدأ من علامات الساعة ,
وهو إنما يكون في آخر الزمان , وقد جزم السائل بأن هذا الزمن هو آخر أزمان
الدنيا , فيستحيل بمقتضى الحديث على رأيه وفهمه أن يعود للإسلام مجده , ولذلك
رتب عليه الاعتراض على المنار في دعوة المسلمين إلى الاتحاد والسعي في إعادة
مجد الملة , وقال في العبارة الثالثة التي أوردناها في صدر تلك المقالة وهي: (إن
التاريخ يعيد نفسه) أنها استعارة , والعلاقة فيها بعيدة , وقد طلب إجراءها للإيضاح
معللاً ذلك بأن الذين يطالعون المنار في البلاد لا يعرفون البلاغة فيفهموا إشاراته
الدقيقة.
ثم اعترض السائل على قولنا: إن ناموس الشريعة الإسلامية لا يتزلزل
ولا يزول؛ بأن الدليل الذي أوردناه عليه (وهو موافقة سنن الله في خلقه التي
أخبر بأنها لا تبدل ولا تحول) غير سديد , قال: (إذ إخبار الله جل شأنه بأنها لا
تبدل ولا تحول لا ينفي زوالها بالكلية ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء إلى
آخره كما تقولون) وعقب هذا بالإنكار الشديد على التصريح بازدراء العلماء ,
وعدم فهمهم معنى كتاب الله مع أنه لم يستدل أحد منهم بآية كاستدلالنا بالآية التي
تقدمت إلخ- هذا ملخص ما كتبه إلينا السائل من (نكلا العنب) وقد طلب منا نشره
حرفيًّا , والعذر في عدم إجابة طلبه هذا ما في عبارته من الركاكة والغلط الذي
نتحاماه في المنار , وإننا نجيبه عن مسائله بما يأتي , فعسى أن يصادف إنصافًا
وقبولاً.
(1) إننا قلنا بعد إيراد الآية الكريمة والحديث الشريف والعبارة التي قالها
أحد علماء العمران ما نصه: (ولنوضح هذه الإشارات) ولا يجهل السائل فيما
نظن أن ما يؤخذ من القرآن الكريم بطريق الإشارة لا يسمى استنباطًا ولا تفسيرًا
ولا استدلالاً , ولم يكن إيراد الآية في كلامنا على سبيل الاستدلال , وإنما جاء في
جواب من سأل (كيف يعود للإٍسلام مجده إلخ) وقد أردنا به أن مجد الإسلام إنما
يعود كما بدأ أي أن الأصول والأعمال التي أخذ بها المسلمون عند ظهور الإٍسلام
فكان لهم بها ذلك المجد العظيم وزال مجدهم بإهمالها هي التي يعود المجد بالأخذ
بها, وهذا معنًى صحيح , والأسباب تتصل دائمًا بمسبباتها , والعلل لا تنفك عن
معلولاتها , واحتمال الخوارق لا يخل بالقواعد الثوابث , وقول السائل: إن هذا
باطل بل حرام , فيه من الجرأة على الفتوى والتحريم ما ليس لمثله أن يقدم عليه ,
وقد ورد في ذلك من القرآن ما ورد.
(2) حديث (بدأ الإسلام غريبًا) إلخ فيه من بلاغة الإيجاز ما لا يكاد
يوجد إلا في كلام الله ورسوله , فإنه يدل على أن أهله ينحرفون عن صراطه
بالتأويلات والتقاليد على نحو ما كان ممن قبلهم كما يفسره الحديث الصحيح:
(لتتبعن أو لتركبن (روايتان) سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع)
ومعنى الانحراف مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (وسيعود غريبًا) فإنه إذا
كان معروفًا على حقيقته معمولاً به على جليته , وقام داعي الإصلاح يدعو إليه لا
يستغرب , بل لا معنى لعوده غريبًا حينئذ ولا للدعوة إليه , وقد أخطأ الذين يفهمون
من الحديث أن الإسلام يضمحل ويتلاشى , ثم لا يعود إليه مجده وعزته لأن هذا
المعنى لا يدل عليه الحديث , وإنما صريحه أن الإسلام سيظهر مرة ثانية مثل
ظهوره في المرة الأولى , وظهوره في المرة الأولى كان غريبًا في العالم , ولكنه
على غرابته استعقب مجدًا كبيرًا وعزة وشرفًا , وكذلك يكون في الكَرَّة الأخرى إن
شاء الله تعالى رغمًا عن أنوف اليائسين الذين سجلوا على هذه الأمة الشقاء بدينها
إلى يوم الدين.
وأما ضعف الإسلام بانحراف أهله عنه - كما ذكرنا - فإنما جاء بطريق
الاستلزام لا بطريق النص , وقوله تبعًا لغيره: إن هذا من علامات الساعة؛ لا ينافي
ما نقول، فإن ظهور الإسلام في المرة الأولى من علامات الساعة أيضًا، ونبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم هو نبي الساعة كما ورد في أحاديث كثيرة.
هذا ما نفهمه في الحديث وعلى فهمنا هذا قمنا ندعو المسلمين في المنار إلى
إحياء مجد دينهم بالرجوع إلى ما كان عليه سلفهم الصالح , ولا آفة ولا بلاء على
المسلمين أشد من الذين يعلمونهم ما يوقعهم في اليأس والقنوط من سعادتهم ومجد
ملتهم لسوء فهمهم وانتحالهم علم الدين , وهم ليسوا من أهله.
ومن البلاء أن هؤلاء الجهلاء يلبسون لباس العلماء , ويُعادون الإصلاح باسم
الدين , وينفِّرون من الداعي إليه بدعوى أنه يحتقر علماء المسلمين! !
(3) طلب السائل إجراء الاستعارة في كلمة من قال: (إن التاريخ يعيد
نفسه) لأجل أن يفهمها من لا يعرف علوم البلاغة , وهذا الطلب بهذا التعليل لا
يلوح إلا في أذهان المشتغلين بالعلم على الطريقة الأزهرية.
وظاهر أن سائر المقالة شرح لهذه الكلمة , وملخصه أن الأمم التي تنتابها
السعادة والشقاوة مرة بعد أخرى إنما تسعد في الكرة الثانية بمثل ما سعدت به في
المرة الأولى , فيكون تاريخها الحاكي عن حالها أعاد في الكرة الثانية ما كان قصه
وحكاه في المرة الأولى.
هذا ما أراده صاحب الكلمة منها , وهو بعض علماء أوروبا، ومن البديهي أن
الذي لا يعرف علوم البلاغة لا يكون فهمه للعبارات ببيانها باصطلاحات تلك العلوم.
(4) قال السائل: إن إخبار الله تعالى بأن سننه لا تبدل ولا تحول، لا
ينفي زوالها بالكلية , ورتب على زعمه هذا بطلان استدلالنا على أن ناموس الديانة
الإسلامية لا يزول ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء بكونه مبنيًّا على سنن الله
في خلقه.
فيجوز عند هذا العالم النحرير أن يبقى الكون وتزول منه السنن الإلهية التي
بها قوامه ونظامه , وغرضه من هذه السخافة إقناع الناس بزوال ناموس الدين
الإسلامي , واليأس من رجوع عزه ومجده! ! اللهم إن هؤلاء الناس أضر على هذه
الأمة المكلومة من أعدائها شياطين الإنس والجن الأقارب منهم والأجانب , فافصل
بينهم وبينها بالحق وأنت خير الفاصلين , اللهم إن كتابك وما وهبتنا من العقل
يعلماننا أن الناس إذا اعتقدوا أن السعادة في ما عدا الدين الحق؛ فإنهم يأخذون بما هو
مسعد لهم في دنياهم فقد قلت: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 33) إلخ
الآيات.
وإن قومًا من المنتحلين لعلوم الدين يحاولون إقناع المسلمين بأن دينهم يسجل
عليهم الشقاء في الدنيا، فاصرف اللهم قلوب هذه الأمة المسكينة عن هذا العلم الضار,
واهد قلوب أهله لعلهم يرجعون , ومن هنا علم من نعني بانتقاد المدعين للعلم.
مسألة فقهية
زرت في هذه الأيام مدينة الفيوم لمعاهدة جمعية شمس الإسلام التي تأسست
فيها , فرغب إلي كثيرون من أعضاء الجمعية وغيرهم أن أخطب بالناس خطبة
الجمعة في أحسن جوامعها المسمى بجامع الروبي فأجبتهم لذلك , وكان الذي استأذن
لي خطيبه فضيلة قاضي المديرية, واتفق أن الخطبة جاءت أطول مما اعتاد
الخطباء الذين يخطبون قراءة في الورق أو حفظًا منه , فتوهم رجل من المشتغلين
بفقه الشافعية أن الصلاة لم تصح؛ لأن الخطبة لمن سبق إذا كانت المساجد التي
يصلى فيها الجمعة متعددة , وذكر هذا أمام بعض الناس , فسألوني فبينت لهم الحق
في المسألة وهو:
إن اجتماع وتعارف أهل البلد الذي تقام فيه الجمعة في بيت الله تعالى وعلى
طاعته وتلقيهم المواعظ التي ترشدهم إلى سعادتهم على طريقة واحدة هو الحكمة
الكبرى من هذه العبادة , فإذا أمكن أن يجتمع الكل في مسجد واحد وتفرقوا في عدة
مساجد يكون تفرقهم خروجًا عن حكمة الاجتماع المقصودة , وقد ذهب الإمام
الشافعي إلى أن الجمعة الصحيحة قطعًا هي لمن سبق بالصلاة من المتفرقين في عدة
مساجد , معتبرًا أن الذي تأخر هو الذي عدَّد , وأن الصلاة الأولى وقعت في محلها
وحيث لا يعلم السابق قطعًا وجب على جميع المعَدِّدين إعادة الظهر , وأما إذا لم
يمكن اجتماع أهل البلد في مسجد واحد , وتعددت المساجد للحاجة ولم تزد عنها،
فلا تجب إعادة الظهر على أحد , وقد علمت أن التعدد في مدينة الفيوم للحاجة بل
إن العامر من مساجدها لا يفي بحاجة أهلها , وعلى هذا لا تجب إعادة الظهر على
أحد فيها , ولو فرضنا أن التعدد فيها لغير حاجة فلا يمكن لمن صلى في مسجد منها
أن يجزم بأنه سابق أو مسبوق لنحو طول خطبة أو قصرها؛ لأن ما اتفق حصوله
في هذا الجامع يمكن أن يكون حصل مثله في غيره أيضًا , فالأمر مبني على
الاحتمال وفي الإعادة احتياط على كل حال.
__________(3/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(عثمان باشا الغازي)
نعت إلينا أخبار الأستانة العلية هذا القائد العظيم فكان لنعيه وقع أليم في قلوب
الأمة العثمانية، مليكها الأعظم فمن دونه. وطيره البرق إلى جميع الأقطار كما هو
الشأن في عظماء الرجال , وسنأتي على ترجمته في الجزء الآتي رحمه الله تعالى
فوق حسناته.
* * *
نبأ غريب (سرقة الآثار النبوية الشريفة)
علمنا من أخبار الأستانة العلية الخصوصية أنه شاع عند الطبقة العالية فيها
أن بعض الآثار الشريفة سرق من قصر (طوب قبو) المحفوظة فيه , وقد
اضطرب لهذا النبأ الغريب عظماء الدولة , وكل من طرق سمعه , فمنهم المصدق
له , ومنهم من يرى أن الإشاعة يقصد بها التمهيد لنقل الآثار المكرمة من سراي
طوب قبو حيث هي الآن إلى قصر يلدز الأعلى ليتولى مولانا الخليفة المعظم
حفظها بما يحفظ به نفسه الكريمة؛ لأن الخليفة أولى بحفظ آثار من هو خليفة له ,
وليستغني مولانا - أيده الله وأعزه - عن الخروج في كل سنة لزيارتها في اليوم
الموعود (15 رمضان) حسب التقاليد العثمانية , ومما يستدلون به على ذلك تعلق
الإرادة السَّنية بتأليف لجنة للبحث في ثبوت هذه الآثار وعدمه , وقد نمى إلينا أن
اللجنة قررت أن الآثار الموجودة في مصر أثبت من الآثار الموجودة في دار الخلافة.
وزعموا أنه كان القصد من تأليفها التشكيك في صحة نسبة هذه الآثار للنبي
صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك عذرًا لمولانا الخليفة الحالي في ترك سنة سلفه
بزيارتها في الاحتفال المشهور , أما سبب رغبة مولانا السلطان في الاستغناء عن هذه
الزيارة فيعرفه أهل الأستانة جميعًا وكل من يعرف الأستانة أو يعرف ما يجري فيها،
وحسبك منه أن ألوفًا من الجند الباسل لا شغل لهم في ليلهم ونهارهم إلا حفظ الطريق
من يلدز إلى (طوب قبو) حتى إنه قد مات منهم في العام الماضي عدة أشخاص من
شدة البرد في جانب الجسر (الكوبري) ونبشت الأرض مرة في ذلك الطريق إلى
أعماق الثرى لزعم بعض الجواسيس أن فيها ديناميت، فلا عجب إذن في اقتضاء
العاطفة الحميدية إراحة هؤلاء الجنود المخلصين من هذا العناء من حيث تكون الراحة
لمولانا نفسه , ويتبع ذلك توفير مبلغ غير قليل من النفقات الاحتياطية يمكن أن
يصرف في وجه آخر.
وأما الأتراك فإنه ليكبر على خاصتهم وعامتهم ترك شيء من تقاليد ملوكهم
وخلفائهم السالفين , وللمتنطعين منهم والمتطرفين في الانتقاد على المابين الهمايوني
أفكار وظنون في مثل هذه المسألة يمنعنا الأدب والاحترام لمولانا أمير المؤمنين
أعزه الله تعالى من ذكرها.
* * *
(القران الميمون)
تم في أوائل هذا الشهر اقتران دولة الأميرة الفاضلة نازلي هانم أفندي بحضرة
المفضال السيد خليل بو حاجب، فيا له من قران وصل بيوت العلماء ببيوت الأمراء
وكان سببه ميل الفضل للفضل وتلاقي النبل بالنبل خلافًا لما عليه الدهماء من
جعل الاقتران منوطًا بالأهواء.
* * *
(جمعية شمس الإسلام)
زرت في الأسبوع الماضي بعض جمعيات الوجه القبلي , وحمدت الله تعالى
على ما رأيت من النجاح , وقد تأسست في هذه الأيام جمعيتان فرعيتان إحداهما في
معصرة سمالوط رئيسها حضرة الفاضل إبراهيم أفندي خطر والثانية في بلدة (مير)
التابعة لديروط رئيسها حضرة الفاضل الشيخ نمر إبراهيم، وسنعود إلى الوجه
القبلي في آخر هذا الأسبوع إن شاء الله تعالى , وقد تمهدت السبل لإنشاء عدة فروع
في بلاد أخرى نذكرها في الجزء الآتي أو الذي بعده. وقد شكا إلي الأستاذ الفاضل
السيد الشيخ محمد خطيب رئيس جمعية الفيوم ونقيب السادة الأشراف فيها من قلة
إقبال الناس على الدخول في الجمعية , فقلت له: إنما أشكو أنا من كثرتهم
وأطلب منك أن تتربص , فلا تبادر بقبول كل طالب حتى تعلم أنه مستوفي الشروط ,
وكيف لا أشكو من كثرة الدخول في ذلك الفرع , وقد دخل فيه ليلة التأسيس
الرسمي زيادة عن ستين رجلاً.
ولقد كان أمر الجمعية مبهمًا عند بعض الناس هناك , فخطبت فيهم خطبة
مطولة في اجتماع عام أوضحت فيها كل مبهم , وجلوت كل غامض , ولا أصف ما
لقيت من الإقبال والحفاوة , وما رأيت من التأثر بخطبة الجامع وخطبة الجمعية كما
يفعل محبو الفخفخة وإنما أقول: إنني رأيت ما رجوت به أن تكون جمعية الفيوم
من أحسن الجمعيات وأنجحها , وقد كتب إلي كاتب سر الجمعية يستقدمني إليها مرة
أخرى وسألبي الطلب إن شاء اله تعالى عن قريب.
__________(3/118)
غرة المحرم - 1318هـ
30 إبريل - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوحدة العربية
يود كل مسلم عثماني أو محكوم من دولة غير إسلامية لو تكون الدولة العلية
في أعلى درج العزة وأقصى غايات القوة , فيعود للإسلام مجده على يديها , ويشتد
أزره بساعديها ويكون الترك والعرب وسائر العناصر الإسلامية في هذا المجد
سواء, وما كان أقرب هذه الأمنية لو استن من جاء بعد السلطان سليم ياوز (عليه
الرحمة) من الملوك بسننه السياسية , فعمموا اللغة العربية وجعلوها اللغة
الرسمية , ووجهوا عنايتهم إلى ضم سائر الممالك الإسلامية إليهم , ولكن لم يصل
عقل أحد منهم إلى ما وصل إليه ذلك العقل الكبير , بل ظلوا مفتونين بالبلاد
الأوربية التي أنفقوا على فتوحها خزائن قوتهم , وما زالت تتربص بهم الدوائر حتى
أمكنها بمساعدة الدول القوية أن تستقل دونهم مملكة مملكة وولاية بعد ولاية.
وما انفصلت ولاية من تلك الولايات من جسم الدولة إلا وأحدثت فيه من
الضعف مثلما يضعف الجسم الحي الذي تقطع أعضاؤه واحدًا بعد واحد لفسادها أو
خروجها عن ما يقتضيه مزاج مجموع الجسم.
كلنا نعلم أن أوربا متحاملة على الدولة العلية , وأنه لا يُنجي الدولة من الخطر
الذي يتهددها منها إلا قوة الأمة قوة شاملة لجميع عناصرها الحقيقية , ونعلم أن
العرب وهم العنصر الأكبر متأخرون عن الترك , وينذرهم من الخطر ما لا ينذر
الترك.
والعرب عز الإسلام وبيضته , وبلادهم منبع حكمته ومنبعث أشعته , فيها
أُسِّس بنيانه , وفيها تقام أركانه , فإذا غلب الأجانب العرب على أمرهم وأنشبوا
براثنهم في أحشاء بلادهم , فذلك هو الموت الأحمر والبلاء الأسود الذي يسلب
من المسلمين أسآر الرجاء , ويذهب بما بقي لهم من الذماء (بقايا النفس) والعياذ
بالله تعالى.
ومهما سلمت الأمة العربية وبلادها فإن النفوس تظل مطمئنة راجية أن يعتز
الإسلام بها يومًا من الأيام.
إن أنواع القوى للأمم ثلاث: العلم والثروة والاستعداد الحربي , فأما العلم فإن
الدولة قد خصصت جزءًا من مالها للمعارف إلا أنها كادت تجعل ذلك محصورًا في
البلاد التركية، فليس لها في البلاد المقدسة مدرسة ولا مكتب.
ولا نقول كما يقول سيئو الظن أنها تتحرى بقاء العرب على جهالتهم وضعفهم
لئلا يسترجعوا الخلافة منها , بل نقول ما يقتضيه حسن الظن والتأليف بين
العنصرين , وهو أن الدولة عاجزة عن تعميم المعارف , ومن السياسة تقديم
عاصمة السلطنة وما أطاف بها على سائر البلاد.
وإذا كانت عاجزة فالواجب على العرب خاصة - والمسلمين عامة - أن ينوبوا
عنها بإحياء البلاد العربية بالعلوم والفنون , ويعرفوا أهلها ما يتوعدهم من نوائب
الدهر وغوائله , وكيف يمكنهم حفظ معهد الدين وكعبة الإسلام. فنحض كل مسلم
على أن يجيب داعيهم ويمد إليهم ساعد المساعدة.
وأخص بالذكر الذين يسعون في إنشاء (دار علوم) في مكة المكرمة وهذا
سعي في مقدمات الوحدة العربية يرضي الدولة العلية , ولا يهيج علينا دول أوربا
فهو على ما اشترطنا في مقالة (إعادة مجد الإسلام) وأما الثروة فهي في هذا
العصر تابعة للعلوم والفنون والسلطة , فلا غرو حينئذ أن يكون الترك فيها أحسن
حالاً من العرب.
وأما القوة الحربية , فقد وجهت الدولة العلية عنايتها لتعليم فنونها للأتراك
أيضًا , فلا يكاد يوجد عندها قائد عسكري من العرب , وما كانت الدولة مقصرة بهم
أكثر من تقصيرهم بأنفسهم، فإنهم لعموم الجهالة يرغبون عن الخدمة العسكرية ولا
يرغبون فيها , وحيث كان التكلان في حماية البلاد على الدولة نفسها , فلا فرق بين
بلاد العرب وغيرها إذ الجميع بلادها , فهي تحميها على السواء ما دامت قادرة -
وستدوم إن شاء الله تعالى - وأما إذا كان من المخبوء لها في مطاوي الغيب أن
سيجيء يوم تحتاج فيه هذه البلاد إلى المدافعة عن نفسها بنفسها حيث يكون قواد
الترك مشغولين بأنفسهم وحفظ بلادهم عن غيرها , فذلك يوم تحتاج فيه إلى قواد
مهرة في الفنون العسكرية من أهل البلاد أنفسهم , فإذا وُجدوا - وما وجود السلاح
الجديد إلا أيسر من وجودهم - فحينئذ يُرجى بشجاعة العرب وبسالتهم أن يظلل الأمن
تلك البلاد المقدسة من لفحات هجير ذلك اليوم العصيب.
ولهذا اقترح المنار غير مرة على مولانا السلطان الأعظم أيده الله بنصره
وتوفيقه أن يعمم التعليم العسكري في جميع المملكة لأجل أن يكون كل قطر قادرًا
على الدفاع عن نفسه إذا وقعت الواقعة , وانكسر الباب الذي نسمع أوربا آنًا بعد آن
تنادي أنه (مفتوح) فادخلوه عسى أن تنالوا شيئًا , ثم يسكت المنادي معتبرًا أن
(الباب المفتوح) قد أغلق إلى أجل مسمى.
فإذا وفقت الدولة العلية لهذا ينال سائر البلاد العربية منه ما نال طرابلس
الغرب ويجب على أبناء العرب المشتغلين بالفن العسكري علمًا وعملاً أن تسمو
أنفسهم إلى إحراز الغاية من هذا الفن الجليل استعدادًا لذلك الأمر الجلل , وهذا نوع
من الاستعداد لحفظ الأمة العربية وسلامة وحدتها، لا يخل بسيادة الدولة العلية على
بلادها , ولا مجال لأوروبا لمعارضتنا فيه , بل يحصل ولا تشعر به لأنه عمل
نفسي محض , فمن لي بمن ينفثه في روع كل فرد من أهله.
ووراء هذا النوع نوع آخر يعرفه أهل الرأي الصائب والعقل النافذ لا يسطر
في الكتب والجرائد؛ لأنه مخالف لما شرطناه للكلام في الوحدة العربية.
وخلاصة القول: إن جميع العناصر الإسلامية أمست مهددة من أوربا , وأن
الخطر الأكبر على من كان أضعف في القوى الثلاث التي ذكرناها في هذه المقالة ,
وأن الخطر الذي يلحق بالإسلام من استيلاء الأجانب على العرب أشد من كل خطر
يصيبه من استيلائهم على غيرهم من العناصر الإسلامية المستقلة كالترك والفرس
والأفغان , وأن كل عنصر من هذه العناصر أكثر استعدادًا من العرب لحفظ وحدته,
وأنه لا يفيد الإسلام قوة واحد منها كما يفيده قوة العنصر العربي , فيجب إذن على
الأمة العربية أن تسعى في تقوية نفسها وجمع كلمتها وحفظ وحدتها , ويجب على
جميع المسلمين أن يساعدوها على ذلك؛ لأنها روح الجامعة الإٍسلامية التي توجهت
إليها أفكار عقلائهم بعد ما كاد الضغط يسحقهم سحقًا.
أما كفاكم أيها المسلمون ما جناه عليكم اختلاف العناصر وتفرق الأجناس؟ أما
آن لكم أن تعلموا أن أمتكم هذه أمة واحدة؟ اعلموا واعملوا , وعلى الله المتكل في
نجاح العمل.
__________(3/121)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
من أراسم إلى هيلانة فى 31 أغسطس سنة - 185
الطفل يتلقى علومه الأولى من العالم الخارجي , ولكنه هيهات أن يرضى
بمجرد الانفعال بالمؤثرات الأجنبية كغيره من الحيوانات التي ترضخ لما يقرر لها
من أحوال المعيشة ساكتة عليه غير مفرقة بين ضاره ونافعه , فإنه لا يكاد يخرج
من ظلمة الرحم إلا ويكون قد أثبت حريته بصراخه الذي يعارض به ملمات الألم
وفواعل الطبيعة.
فترينه يبكي ويتبرم ممن حوله من الناس والأشياء , ويوجِد عليهم إن لم
يجروا على مقتضى رغائبه , وهو على عزله وعجزه يلج في الشكوى من سلطان
القدر , ويتذمر عليه بحسب حاله.
وبعد بضعة أسابيع أو أشهر من ولادته تنفتح عيناه وأذناه تدريجًا في مشهد
الكون، فمن ذا الذي كان يحسب أن هذا الجسم الضئيل الصغير لا يرتعد لما يراه
يثور حوله من قوة الفواعل الكونية.
بلى إنه لا يحسب لها حسابًا , فلا يلبث أن يتأمل في هذا الدولاب الأرضي
العظيم , ويرجع فيه بصره الرائق , وهو هادئ البال آمن مع أن أقل أداة فيه ربما
كانت كافية لسحقه ومحقه , وهو وإن ولد أسير الفطرة لكنه لا يلبث أن يكون
حاكمها المستبد فيطلب إلى أمه بلغته المبهمة الخفية الدلالة أن تجمع له بين الحر
والقر والمطر والصحو , بل إنه ربما استسهل أن يسألها إنزال القمر والكواكب من
السماء تحصيلاً للذته , ولما كانت الأم على كل حال ليست في نظره إلا مثالاً حيًّا
للنوع الإنساني كان شعوره بالقوة إنما يستمد من انتسابه لهذا النوع , فتسبق إلى
ذهنه العاجز عن الفكر غريزة السلطان الذي لتلك اللذات المختارة على العالم , فلا
يبقى تلقاء هذه القوة المعنوية التي لا يدركها إلا حدسًا غير بَيِّنٍ أدنى تأثير في نفسه؛
لعظم تسلط المادة.
ليس الطفل كما يقال لوحًا مصقولاً مجردًا من الإدراك , بل إن له ذاتًا تشعر
بالوجود , ولا تلبث أن تثبت وجودها بما لها من الطريقة المخصوصة في المعيشة
والإحساس , وبما يصدر عنها من الانفعالات اختيارًا , وبما لها من الغرائز خلقة.
وكما أن مشاعره قد جعلت بينه وبين ما حوله من الأشياء اتصالاً , كذلك
أمياله ورغائبه تتدرج في تعريفه من يعيش بينهم من الناس وتقريبه منهم , نعم إن
معظم انفعالاته النفسية تأتيه في مبادئ الأمر من الخارج , فيكون حبه لغيره
وضحكه وكلامه ناشئة من حب ذلك الغير إياه ورؤيته يضحك وسماعه يتكلم , لكنه
عما قليل يبدي ما يستقر في نفسه من ضروب النفور والميل والترجيح وجملة القول:
إن طبعه يستبين , وسأتكلم عن هذا الموضوع في بحث آخر.
أنا لا أعتقد مطلقًا أني قد أجبت في رسالتي هذه عن أسئلتك التي سألتنيها في
التربية , فإن توفية الإجابة حقها تستلزم زمنًا , وأنا قد عدوت فيها عدوًا أسرع ما
يكون , فوصيتي إليك أن تفرضي على نفسك أنت أيضًا مراقبة أميل، فإن أبعد
الأشياء عن نظر القائمين بأمر التربية إلى الآن وأكثرها انفعالاً هو اختبار الطفل
ومعرفته.
كلما فكرت فيك وفي أميل كان مثلي كمثل الخنفساء الطيارة يمسكها التلميذ ,
ويربط أحد أطرافها بخيط , ويرسلها فتطير في الشمس ناسية رباطها , وتسبح في
الهواء وتطن , فلم يكن إلا أن يجذب التلميذ الخيط حتى تسقط على الأرض , فها
هو السَّبَحان يدعوني لأن هذا الوقت هو وقت التنزه على أسوار السجن فأودعك ,
وأرجو أن يبقى الحب بيننا وثيق العرى. اهـ
(5) من هيلانة إلى أراسم في 2 أكتوبر سنة- 185
إن أميل لأجمل غلام في الدنيا , أقول هذا القول وأنا عالمة حق العلم أن
جميع الأمهات يدَّعين ذلك مثلي لأول مولود يرزقنه , وهذا يدلك على أننا نرى
أيضًا بقلوبنا أكثر مما نرى بأبصارنا.
المرأة تتعلم الحب , وتتعلم كيف تكون أمًّا ففي كل يوم تبدو لي شواهد على
ذلك بما يبعثه في نفسي هذا الغلام المحبوب من الرحمة والحنو المتزايدين , لكن لا
يدعونَّك هذا الأمر إلى أن تخاف علي الاستعباد لوجداني , والعجز عن القيام بما
فرضته على نفسي من تربيته , فإني اتباعًا لنصائحك ونصائح صديقك أقدم
مصالحه الحقيقية على ما تقتضيه أميالي وأذواقى , وقد أقام لي الدكتور على وجوب
ذلك دليلاً مستوفى الشرائط , فقال بما تعهده فيه من أدب المنطق وحسن اللهجة:
(خلق الله لسائر الحيوانات أعضاء تقوم لها مقام الأسلحة في الذود عن أنفسها، أما
الطفل فلا سلاح له إلا ضعفه وصراخه , ولكن ما أشد مقاومته لنا بهما , وما أكثر
ما يستفيد منهما , فهو وإن كانت أنواع الإحساس فيه لا تزال مبهمة؛ لكنه قد
طبعت فيه غريزة العدل من نشأته , فهو لا يلبث أن يميز بها ما يصدر عنا من
الأفعال في حقه صوابه من خطأه , فاعلمي وثقي بما أقوله لك أن الواجب في
سياسة الأطفال خاصة هو أن نكون نحن المحقين لا هم لأنه إذا انعكس الأمر فجعل
الحق والسلطة لهواهم واستبدادهم فقد أضعفنا كل شيء ذلك أن الطفل يبكي أحيانًا
للحصول على ماعوده أهله اشتهاءه ابتداء موافقة لهواهم فإذا لم يبادروا إلى إرضاء
شهوته إما إغفالاً منهم لها أو غضبًا عليه فإنه يستمر في بكائه ساعات كاملة , بل
إنه يبكي حتى يشارف الموت , فإذا انتهى الأمر بالإذعان إلى رغبته كان ذلك
أيضًا شرًّا من مخالفته؛ لأنه يبين منه أن والديه خلو مما يدرعانه لمقاومة شديد
أهوائه , فلا ينبغي أن يعارض الطفل في شيء مما يشتهيه إلا متى كان في
المعارضة خير له , وإذ ذاك يجب أن تكون عزيمتنا كالقانون ثباتًا وصرامة) .
هذا ما قاله لي , وإني لأخاله عقودًا من الدرر يلفظها من فيه، فقد اتفق لي -
ولا أخفي عليك - أني كنت أنسى أحيانًا الأخذ بنصائحه في سياستي لأميل , وفي هذه
الحالة كنت أنا وهو نتألم من عاقبة هذا النسيان.
قرأت الفصل الأول من كتابك , وهو على ما أرى كتاب تؤلفه في التربية ,
وأنا في انتظار قراءة باقيه لأكاشفك برأيي فيه فأعتقد تمام الاعتقاد أن تربية أميل
ستكون على وفق آرائك ورغائبك , ولكن لا يغرب عن فكرك أن خط المعاني على
الورق أسهل من نقشها في صحف الحياة ومجاري الواقع.
أنشأ ورق الشجر هنا يحت ويسقط , لكن فصل الخريف في هذا البلد
جميل وإن كان غزير الأمطار فهو كوداع العزيز ابتسام في بكاء , وتأتي فيه أيام قد
يتوهم الإنسان فيها أنه لا يزال فصل الصيف , ومما يزيد هذا الوهم قوة أن زِنْجِيَّنَا
البارَّ قد غرس في حديقتنا المربعة المقابلة لشباك حجرة نومي أشجار العود والصبار
والمانوليا [1] وأراد بهذه العناية اللطيفة أن يهديني شيئًا من جنى أرض بلاده التي
يحفظ لها في فؤاده أشد ذكر , ويؤكد الناس أن بعض نباتات المنطقة الحارة يمكن
إذا حيطت ببعض ضروب من العناية أن تغرس هنا وتنمو , ولا ينالها من
فصل الشتاء أدنى أذى , فقد قال لي بستاني السيدة وارنجتون ما نصه:
(إن السبب في هلاك هذه النباتات في غير إقليمها ليس هو فقدانها
ما كانت فيه من الحرارة , بل هو ما تلاقيه من الجليد في الأقاليم الأخرى ,
وحينئذ فهي تنجح في كورنواي لأن إقلميها معتدل , إذ ليس فيه إفراط في الحرارة,
ولا في البرودة) .
فكم من امرأة تعيش معيشة هذه النباتات مطوحًا بها عن مطلع شمس محبتها ,
فلا تموت لتستريح من عناء هذه المعيشة اهـ.
(6) من هيلانة إلى أراسم في أول يناير سنة- 185
قد حيرني سكوتك وانقطاع رسائلك عني , فقد مضى زمن طويل جدًّا لم أحظَ
فيه بشيء من إخبارك فلعل السر في ذلك أن دخول المكاتيب في السجن أيسر من
خروجها منه , وإني على يقين بأنك لا ذنب لك في هذا , ولكني لبعدي عنك تراني
أوجس خيفة من كل شيء.
فشا في كورنواي منذ بضعة أسابيع مرض معدٍ أودى بكثير من الأنفس ,
ويقال: إنه وفد علينا من جنوب إنكلترا.
ترى هل كان يدور في خلدك أن مسقط رأس الطبيب جنار [2] يصح أن يكون
أحد بلاد أوروبا التي فيها طبقتا الفعلة والمزارعين هما أشد مقاومة لنشر الفوائد
التي نجمت من اكتشاف ذلك الطبيب؟ فكثير من الأسر (العائلات) يرفضون تقديم
أولادهم للتلقيح إما بلادة فهم أو حذرًا أو وسوسة , بل إن منهم من يعتقدون أن في
إبعاد المرض باتخاذ الوسائل الواقية منه معارضة لمشيئة الله تعالى , ثم إن مصلحة
الطبيبات في هذا البلد , وهن طائفة من القوابل يطببن في القرى من على شاكلتهن
تنحصر في ترويج مثل هذه الأوهام، فإن هؤلاء النساء لما كان معظمهن يجهل
طريقة التلقيح كانت وظيفتهن القيام على من يصابون بالمرض , وهل بعد هذا
يستغرب ازدياد عدد وفياته؟ لم يكتفِ الدكتور وارنجتون بتلقيح أميل بل أراد أن
يجدد تلقيحي للتوقي من الخطر المحدق بنا.
إني ولا أخفي عليك عندما أفكر في الجدوى آنس من نفسي رعبًا واشمئزازًا
لا يحيط بهما الوصف , وخصوصًا إذا تمثل في خاطري أنه لم يسلم من آثار هذا
المرض الشنيع إلا قليل من رجال القرن الماضي ونسائه , ولا شك أن الإنسان
يقضي يومه عناءً وكدرًا إذا خطر في ذهنه أن كثيرًا من أخدان الملوك كالآنسة
فاليير والسيدة دوباري وعدة غيرهما من ربات الحسن اللاتي طار صيتهن بالجمال
لتعاسة حظهن كن جميعًا مجدورات بدرجات متفاوتة في القلة والكثرة , أما أنا فإني
أشكر لعلم الطب نعمته على الإنسان وهي تحرير وجهه وإعفاؤه مما كان يؤديه من
الجزية لذلك الداء المريع في أغلب إغاراته.
فلقد كانت الفتاة منا - معشر النساء - ترى أملها في أن تُحَب قد انقطع بزوال
ما كان ينمحي بسببه من محاسنها , وإني وإن لم أكن الآن فتاة لكني لو جعلت لي
الدنيا بما فيها على أن أخسر ما لي من بقية الجمال القليلة ما رضيتها منها بدلاً! فإني
أخال أنني لو فقدت تلك البقية لأنكرتَني , وانقطعتْ عنك معرفتي.
إنك بما كلفتني من مراقبة أحوال الطفولية واستعراف شئونها في شخص
أميل كأنك قد بعثتني لاكتشاف بلد مجهول , فإنه من المحقق الذي لا ريب فيه وجود
عالم للأطفال على حدته لأن جميع من رأيتهم منهم لا يكادون يختلفون في شيء من
طرق إحساسهم وإبداء انفعالاتهم , ولكن من الصعب جدًّا الرجوع إلى دخول هذا
العالم بعد الخروج منه , فإذا رجعنا إلى ما نذكره من ماضينا ابتغاء معرفة شئ من
أموره تَبَيُّنًا له , فالجنة الأرضية التي لم يخرجنا منها إلا مجرد نمونا وكبرنا وإنه
يكون من العبث البحث عن موقعها في خريطة ذاكرتنا , فليت شعري هل الطفل
الساكن في تلك الجنة التي هي مطلع فجر حياته ودار هدوئه وسكونه يعرف من
أمرها أكثر مما نعرف؟ أنا ربما ملت إلى اعتقاد هذا , ولكن إذا كان الله سبحانه قد
استودعه سرها فهذا السر هو في غاية الحفظ لم يطلع عليه أحد إذ كيف يصح
تخمين ما يقع في نفس ذات صغيرة عاجزة عن بيان لذاتها وآلامها اللهم إلا بلهجة
مبهمة وأصوات غير معروفة المخارج.
إني بما ألاحظه في الأطفال كل يوم قد تبينت أن لهم لغة تكون قبل الكلام
بكثير , ولكن ما أبهمها وأعسر فهمها حتى على الأمهات أنفسهن , وإني أخالنى أفهم
بعض رغبات أميل , وأدرك أفراحه وأحزانه فهل هذا يكفي في معرفته؟
منتهى ما يمكنني أن أقول فيما وصلت إليه من استعراف أحواله هو أني
لاحظت فيه حصول استحالات كبرى فإنه في مدة الشهرين الأولين من ولادته كانت
معيشته كلها في نفسه (إن صح تسمية هذا معيشة) فلم يكن له ارتباط بالعالم
الخارجي أما الآن فهو يميز بعض ما يحيط به من الأشياء تمييزًا فيه نوع من
الوضوح وفوق ذلك فهو يتبسم لي.
يومنا هذا هو عيد أول السنة الجديدة , ولكن ما أشد حزني فيه وأعظم كدري,
وأنت تعلم أن من عادة الناس في مثل هذا اليوم أن يتمنوا لمن يحبونهم من الخير ما
يشاءون وأنا أتمنى لك شيئًا واحدًا هو أن تعود إليك نعمة الحرية اهـ.
حاشية - هديتي إليك في هذا العيد هي جزء من شعر أميل أرسله طي هذه
الرسالة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الصبار: هو التين الشوكي وليس بعربي , والمانوليا نبات أمريكي بهي الأزهار.
(2) جنار: طبيب إنكليزي هو المخترع للتلقيح بالمادة الجدرية في أوربا حوالي سنة 1776م.(3/125)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(العام الجديد)
هذا اليوم هو افتتاح سنة 1318 للهجرة الشريفة , وقد قابل سمو العزيز
المعظم فيه جموع المهنئين من علماء العاصمة وأمرائها وموظفيها ووجهائها ,
فكان يتلقاهم بما عُهد في سموه من اللطف والطلاقة , وأنشد بين يدي سموه حضرة
صديقنا الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم الخطيب والمحامي الشهير هذه التهنئة
التاريخية:
باكر لتهنئة العباس مبتهجًا ... فيومنا فيه بدء العام قد ثبتا
هل الهلال وسعد الملك طالعه ... ودوحة اليمن فيها غرسه نبتا
وانشر بشائره فيما نؤرخه ... عام جديد بإيناس الخديو أتى
فتقبلها سموه بالبشر والارتياح , نسأل الله تعالى أن يجعله عامًا سعيدًا ويهيئ
للأمة فيه مجدًا جديدًا.
***
(أوروبا والإسلام)
فرنسا وإنكلترا هما الدولتان اللتان تهتمان بقوة الإسلام وضعفه؛ لسعة
مستعمراتهما الإسلامية , ولكن الثانية أبرع من الأولى وأحكم , فإنها إذا أظلت
بنفوذها بلادًا إسلامية تتحامى جرح عواطف المسلمين في سائر البلاد بقدر الطاقة
بأن تَدخُلها باسم الإصلاح ووقاية الحقوق المهضومة , وتثبت ذلك بالفعل والتنائي
عن الضغط الذي يخشى أن يحدث الانفجار, وفي كل يوم تُسمِع المسلمين من
وزرائها وجرائدها ما يرضيهم ويربط بمودتها حبال آمالهم حتى يبلغ الكتاب أجله.
ولولا أن الإنكليز توهموا منذ سنين أن في مصر حزبًا وطنيًّا عاملاً يرتبط
بدولة فرنسا الطامعة في مصر ويعتمد عليها في حل عقدة الاحتلال الإنكليزي؛ لما
ظهر منهم ما ظهر من الضغط والاستعجال في القبض على أزِمّة كثير من المصالح
والمنافع المصرية , فلقد كان المفتونون بحزب الاستعمار الفرنساوي الذين لقبوا
أنفسهم بالوطنيين أكبر بلاء على مصر والمصريين.
وأما فرنسا فإنها لم تحسن هذه السياسة , ولذلك لا يوجد عندها من الاطمئنان
على مستعمراتها الإسلامية , والثقة بالمسلمين عشر معشار ما عند الإنكليز من ذلك,
وقد أحس سواسها بهذا فقاموا ينصحون حكومتهم بتلافي الأمر , واستنباط الوسائل
والحيل لربط ثقة المسلمين بهم؛ ليأمنوا على ما استعمروه من بلادهم , ويتسنى لهم
ضم غيره إليه , وتبين لهذا الفريق منهم خطأ الفريق الآخر الذي كان ولا يزال يرى
أنه لا يمكِّن لفرنسا في أرض الإسلام إلا الضغط الشديد وتقطيع الروابط الدينية ,
وهدم الأركان الإسلامية كمنع الحج إلى بيت الله الحرام الذي لم يتجرأ عليه من دول
أوربا غير فرنسا المتهورة.
كتب منهم الموسيو هانوتو وزير الخارجية سابقًا مقالتين في إحدى جرائدهم
ذكر فيها الرأيين وبين المذهبين , ولكنه خاض مع ذلك في فلسفة الديانتين
الإسلامية والمسيحية واستمدادهما وآثارهما , فخبط وخلط , وجرح الوجدان وآلم
النفوس , فرد عليه ذلك الإمام العظيم من علماء المسلمين ردًّا حكيمًا كان شفاءً لما
في الصدور , وهدى ورحمة للمؤمنين.
ثم ترجمت جريدة المؤيد الصادرة قبل أمس مقالة لسياسي فرنساوي آخر اسمه
(نابليون ني) هو أعلى من هانوتو كعبًا وأرسخ قدمًا في السياسة رمى بكلامه إلى
أغراض بعيدة , وأشار بآراء لهم سديدة ينبغي أن يجعلها المسلمون نصب أعينهم ,
ويعلقوا عليها الشروح والحواشي , ويضعوا لها التقارير, وإن أخذ ذلك وقتًا من
حواشي الصبان والأمير , وسنكتب ما يعن لنا بذلك في الجزء الآتي إن شاء الله.
كتبنا مقالة في الوحدة العربية في وقت كان الذهن فيه صافيًا والفكر موافيًا ,
ثم أضعناها فاستملينا الفكر معانيها مرة ثانية , فضن ببعض ما جاد به أولاً حيث
وجد الوقت ضيقًا , وهي ما ترى في صدر هذا الجزء.
***
(نور الإسلام)
ستصدر في هذا الشهر مجلة دينية في الزقازيق تدعى نور الإسلام , فنرحب
برفيقتنا , ونستوفي الكلام عليها بعد ظهور العدد الأول منها إن شاء الله تعالى.
***
(جمعية شمس الإسلام)
يرى قارئ مجلة الجمعية أن لها ثلاث طبقات , وأن لها لجنة عليا , ويتساءل
الناس عن ذلك , والذي يمكن أن نوضحه لهم أن الجمعية عندما تنتشر في قطر من
الأقطار يرتقي أصحاب الجد والاجتهاد في خدمتها إلى الدرجة الثانية بشروط
مخصوصة , ومن هؤلاء تتألف اللجنة الثانية العالية التي تدير نظام الجمعية ,
وتنظر في شئونها في جميع القطر , ومن هؤلاء من يرتقي إلى الدرجة الثالثة
بشروط مخصوصة , ومنهم ينتخب أعضاء اللجنة العليا فيتعارفون بأمثالهم من
سائر الأقطار , ويتألف منهم من يدير أعمال الجمعية في جميع أقطار الأرض ,
وبهم يحصل التعارف العام الذي تقوم به الجامعة الإسلامية.
وقد اجتمعت اللجنة العالية التي تدير أعمال جمعيات القطر المصري اجتماعها
الأول في ليلة الجمعة الماضية , وستوالي ذلك في الأوقات المعينة إن شاء الله تعالى.
***
(نجاح الجمعية)
سافر كاتب هذه السطور ثانية إلى الوجه القبلي بصحبة سعادة محمد علي بك
المؤيد الرئيس العام , فزرنا بعض الجمعيات , وأسسنا جمعية جديدة في بلدة (مسارة)
وأهل هذه البلدة كانوا مشهورين في الصعيد بسفك الدماء والسلب والنهب , فتاب
الجم الغفير منهم إلى الله تعالى , وعاهدوا الله تعالى على التمسك بالدين والعمل به
ودعوة سائر إخوانهم إلى ذلك وموالاة من والاهم على ذلك , ومنابذة من خالفهم فيه
وفقهم الله لذلك بمنه وكرمه.
***
(احترام الجمعية)
اشتهر أعضاء الجمعية في البلاد التي انتشرت فيها بالصدق والتمسك بالدين
وحدثني بعض القضاة أن امرأة لها دعوى جاءت بشاهد واحد , وقالت للقاضي
متبجحة: عندى شاهد من جمعية شمس الإسلام , وهو يعدل خمسين شاهدًا من سائر
الناس.
__________(3/130)
الكاتب: سيد فرج
__________
تأسيس فرعي سمالوط ومعصرة سمالوط
لجمعية شمس الإسلام
(لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء)
جاء طلب من حضرات أهالي معصرة سمالوط لحضرة مولانا صاحب
الفضيلة الشيخ محمد النجار قاضي مركز ديروط ورئيس جمعية شمس الإسلام فيها
بقصد تأسيس فرع هناك , فلبى الطلب , وقام يصحبه حضرة الوجيه الفاضل محمد
أفندي عارف عضو جمعية ديروط , وحضرة محمود أفندي إبراهيم الجوهري أستاذ
الرياضة في المدرسة الخيرية وأحد رجال الجمعية , ومحرر هذه السطور مكاتبكم ,
فلما جئنا سمالوط بدأنا بزيارة ضريحي أميري الصعيد المرحومين حسن باشا
الشريعى وإبراهيم باشا شقيقه , ثم زرنا منزل حضرات أشبال حسن باشا الشريعي
أحمد بك وحسين بك ونزلنا ضيوفًا عند سعادة الفاضل محمد بك أبو جبل عمدة
سمالوط نجل المرحوم إبراهيم باشا , ثم أسسنا فرعًا لجمعية شمس الإسلام في نفس
مدينة سمالوط رئيسه سعادة محمد بك هذا , وبعدها زرنا المسجدين اللذين أسسهما
المرحوم والده , وأحدهما بمنارة شائقة , وعلمنا أن سعادة العمدة مصمم على إيقاف
عشرين فدانًا لهذين المسجدين , وفي عزمه وعزم حضرات أنجال حسن باشا إنشاء
مدرسة لتثقيف أبنائهم وأبناء الفقراء , وعن قريب يخرج هذا العمل من حيز القول
إلى حيز الفعل، أكثر الله من أمثالهم.
ثم توجهنا إلى معصرة سمالوط ونزلنا ضيوفًا بمنزل حضرة الشهم الفاضل
علي أفندي شريف مهندس المركز وفيه شكلنا فرعًا آخر تحت رئاسته وعضوية
حضرات إبراهيم أفندي خضر وسليمان أفندي شكري والشيخ عبد الجواد سالم
وفي هذا المقام قام محرر هذه السطور , وألقى خطابًا يناسب المقام افتتحه بما يأتي:
أيها السادة اشترك اليوم الشعوب والقبائل من سائر الأجناس والمذاهب بموسم
شم النسيم الذي يعبر عنه بالعيد الوطني , وجدير بكل قوم أدوا واجباتهم نحو المدنية
والحضارة والتجارة والمعارف والحمية القومية والجامعة الدينية التي هي أعظم
الروابط أن يفتخروا ويتبادلوا عبارات التهاني , فإن كنا يا قوم قمنا ببعض الواجب
فلشعبنا الإسلامي أن يفرح ويلعب , ويخرج للمنتزهات , ويركب المركبات
ويتفسح في الحدائق , ولكن بكل أسف يا سادتي أقول: إن الذي ألم بمجموع أفرادنا
لا يخفى عليكم فإذا أردنا إحراز الفضائل؛ فلنتضافر على الاتحاد والإخاء والعمل
بالكتاب والسنة , وهذا لا يتسنى إلا بربط قلوبنا بجمعية شمس الإسلام التي هي
أوثق رابطة دينية تربط المسلم المصري بالمسلم العثماني والتونسي والجزائري
والمراكشي والجاوي والهولاندي والهندي والروسي والصيني والإنكليزي.
ماذا التقاطع في الإسلام بينكمو ... وأنتمو يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيات لها همم ... أما على الخير أنصار وأعوان
ولولا ضيق المقام لذكرنا جميع الخطبة التي تلوناها شفاهيًا على مسامع
حضرات الإخوان , ثم قام حضرة محمد أفندي كامل كاتب الجمعية هناك , وألقى
مقالة غراء تحث على التعاون والتعاضد الأخوي , ثم قام حضرة الشاعر الأديب
الشيخ عبد الجواد , وألقى قصيدة جميلة يضمنها تطريز لفظ (جمعية شمس
الإسلام) وكلها حكم , ثم ختمت الجلسة , ثم قفلنا إلى ديروط , وكلنا نثني أجمل
الثناء على المساعدة التي قام بها حضرات الإخوان لا سيما حضرة الفاضل علي
أفندي شريف مهندس المركز ورئيس فرع معصرة سمالوط , وحضرات البكوات
أنجال سعادة حسن باشا , وإبراهيم باشا الشريعى فهكذا هكذا المسلمون، نفع الله
بهم الأمة والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سيد فرج
__________(3/136)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي
ولد في مدينة توقات من ولاية سيواس سنة 1248 , وكان والده في الأستانة
فاستقدم بيته إليها , وأدخل عثمان أولاً إحدى مدارسها الابتدائية , ثم نقله إلى
المدرسة الإعدادية في سنة 1258 , وكان أخوه أو خاله أستاذًا فيها , فعني بتعليمه
وتربيته , وبعد خمس سنين انتقل منها إلى المدرسة الحربية , وخرج منها في سنة
1265 برتبة ملازم ثان في الفرسان وفي إثر ذلك كانت حرب القريم فجعل من
أركان حربها تحت قيادة عمر باشا فظهرت بسالة الفقيد ونجابته فيها , فترقى عقيبها
إلى رتبة يوزباشي في الحرس الشاهاني , ثم إلى رتبة (قول أغاسي) وفي سنة
1274 عين في اللجنة التي كلفت بتنظيم خرائط الأناضول , وفي سنة 1276
صار رئيسًا لأركان الحرب في معسكر بكييشهر فظهرت براعته فيها أحسن ظهور ,
وكان في العسكر الذي أرسل لإخماد فتنة سوريا المعروفة بفتنة سنة 1860
ميلادية برتبة بكباشي , واستقدم مع عسكره من سوريا لإخماد فتنة حدثت في كريد
وقد ارتقى ببراعته وبسالته فيها إلى رتبة قائمقام ثم أميرالاي وأنعم عليه بالوسام
المجيدى الثالث وكان ذلك في سنة 1283هـ و 1866م.
ولما كانت فتنة سنة 1283 في اليمن كان الفقيد أحد قواد العساكر التي
أرسلت إليه فارتقى بعمله فيها إلى رتبة أمير لواء.
ولما عين قائدًا لفرقة يكى بازار نظمها أحسن تنظيم؛ فارتقى إلى رتبة
فريق وجعل قائدًا للأستانة العلية , ثم لأشقودره ثم لبوسنه ثم تعين رئيسًا
للمجلس العسكري في الفيلق الرابع.
ولما حاربت بلاد الصرب الدولة العلية كان قائدًا للفرقة الأولى في محاربتها
فدوخها , وألجأ أهلها إلى طلب الصلح , فارتقى بهذا إلى رتبة المشيرية , وأنعم
عليه بالوسام المجيدي الثاني , ثم وقعت الحرب بين الدولة العلية والروسية , فتولى
عثمان باشا قيادة 68 طابورًا و17 كوكبة من الفرسان وأعطي 174 مدفعًا وكانت
له فيها الوقائع الهائلة التي كان فيها مثال الثبات والشجاعة والدراية في الفن
العسكري وقيادة الجيوش , وناهيك بما كان منه في حصار بلافنا فإن الروسيين
زحفوا عليه بقضهم وقضيضهم وعددهم وعديدهم , فصابرهم وكافحهم , وقتل منهم
الألوف , وهزم الزحوف بعدد قليل , ثم قطع عنه الزاد والإمداد , حتى لم يبق عنده
شيء يتلمظ به الجند , وهل ألجأ هذا الأسد للتسليم ما أصابه من البلاء الأليم؟ كلا
إنه نفخ في جنده روح الحمية والبسالة , وأمرهم بأن يخترقوا صفوف العدو بالقوة ,
وكان عددهم نحو أربعين ألفًا , وعدد الروس يزيد على مائة وخمسين ألفًا ومعهم
ستمائة مدفع، فأطاعوه واخترقوا صفين من المعسكر الروسي والنيران تنصب عليهم
كالمطر , وقبل النجاة باختراق الثالث أصيب القائد العظيم بالرصاص هو وجواده
فوقع جريحًا، فسلم جنده ظنًّا منهم أنه قتل.
وقد عرف الروسيون لهذا القائد الباسل فضله وقدروه قدره , فلم يعاملوه
معاملة الأسرى , بل أعادوه إلى بلافنا مكرمًا معظمًا؛ ليداوي جرحه , وكان دخلها
القيصر إسكندر الثاني وفي اليوم التالي من وصول عثمان باشا إليهم قابل القيصر
فوقف له وسلم عليه وجامله بالقول والفعل , ومما تناقله الركبان قول القيصر له:
(لا يحزنك أيها الباشا أنك اضطررت للتسليم فإنك لم تسلم جبنًا ولا تقصيرًا , بل
دافعت عن وطنك أشد الدفاع وانتهيت في الشجاعة والثبات إلى الغاية التي لا
وراءها , وإنني لا أنظر إليك كما أنظر إلى الأسير , وإنما أنظر إلى بسالتك بعين
الاحترام والتوقير , وأراني ذا حظ بالتقائي بشجاع مثلك في حومة الوغى , وها أنا
ذا أعيد إليك سيفك , وأبيح لك أن تتقلده في بلادي إقرارًا بشجاعتك واعترافًا
بجدارتك , وهذه مركبتي وهؤلاء حرسي تحت أمرك , فلك الخيار إن شئت ركبت
وإن شئت مكثت) .
وأمر بأن تضرب له خيمة بجانب خيمة الغراندوق نقولا القائد العام لعسكر
الروس , وكان الغراندوق يزوره كل يوم ويلاطفه ويسليه.
ولما ألقي السلم بين الدولة العلية والروسية في سنة 1296هـ 1878م وأطلق
سراح الأسرى عاد عثمان باشا إلى الأستانة فاستقبل فيها باحتفال عظيم , ومن
المستقبلين له عدد كثير انتهوا إلى مدخل البحر الأسود , ولما بلغها سار توًّا إلى
المابين الهمايوني حيث حظي بمقابلة مولانا السلطان , ولقي منه أجمل الالتفات ,
وتناول طعام العشاء في ذلك اليوم على المائدة السلطانية , وحضر العشاء معه
بالأمر السلطاني وكلاء الدولة وأكابر وزرائها , وكان مولانا أعزه الله يخصه
بالملاطفة على المائدة , وأنعم عليه في ذلك المجلس بالوسام العثماني المرصع ,
وقلده سيفًا محلًى بالذهب من آثار السلطان محمود خان عليه الرحمة، منقوش عليه
هذه الكلمة (للغازي) .
ثم عين مشيرًا للحرس السلطاني , ثم مشيرًا للمابين وفي 22 شهر أيلول أو
تشرين أول من سنة 1894 مالية عهد إليه بوزارة الحربية (سر عسكر) فبقي فيها
إلى 18 أيلول (سبتمبر) سنة 1302 مالية , ففصل منها وبقي مشيرًا للمابين , ثم
أعيد إليها في 9 أغسطس سنة 1307 عقيب وفاة السر عسكر علي صائب باشا ثم
انفصل بعد مدة , وبقي مشيرًا للمابين إلى آخر أيام حياته فكانت مدة خدمته في هذا
المنصب 22 عامًا كان فيها من مولاه محل الثقة الأول , وعليه المعتمد والمعول ,
وقلده في أثنائها أعلى وسامات الدولة- وسام الافتخار ووسام الامتياز والعثماني
والمجيدى المرصعات , وأنواع المداليا من ذهبية وفضية ولياقة وكريد , وحاز
وسامات الدول الأجنبية كلها من الدرجة الأولى ومنها أعظم وسام عند حضرة البابا.
وقد نال شرف المصاهرة السلطانية فإن نور الدين باشا أكبر أولاده تزوج
بدولة زكية سلطان , ونجله الثاني كمال الدين باشا تزوج بدولة نعيمة سلطان وهما
كريمتا مولانا أمير المؤمنين.
ولصاحب الترجمة عليه الرحمة ولدان آخران أحدهما جمال بك أفندي وهو
اليوم في برلين يشتغل بالتحصيل , ورتبته بكباشي في الجيش العثماني , وملازم
في عسكر بروسيا وسنه 22 سنة , وثانيهما حسيب بك من حُجاب الحضرة
السلطانية أحسن الله عزاءهم جميعًا , وجعلهم خير خلف لخير سلف.
فعلم من مجموع ما تقدم أن هذا القائد العظيم قد ارتقى إلى الأوج الذي كان فيه
بجده واجتهاده , ولو أنه أعطي الرتب والوسامات من أول النشأة قبل أن يظهر منه
عمل من الأعمال لما نال ما نال , وأن مبدأ شهرته كان من ظهور بسالته في
حصار بلافنا , وقد جاء في الهلال أن كل أمة حاولت أن تدعي في إثر تلك الواقعة
أنه منها , فقال الأميركان: إنه أميركانى الأصل , وقال الفرنساويون: إنه
فرنساوي , وقال غيرهم مثل قولهم , والحق أنه تركي صريح كما مر , وهكذا شأن
الناس تدهشهم الوقائع الغريبة ولذلك لم تشتهر بينهم الوقائع التي أظهر القواد فيها
من البراعة في الفن العسكري ما يكاد يكون معجزًا كبعض وقائع دولة الغازي
مختار باشا التي قررت دولة ألمانيا أن تجعلها من الدروس العسكرية الدائمة , ولا
شك أن عثمان باشا هو ثاني (مختار باشا) في الفنون العسكرية علمًا وعملاً على أنه
كان جديرًا بكل ما ناله , وإن ذهب بعض الناس إلى أن للمداراة يدًا في ذلك , تغمده
الله - تعالى - برحمته , وأسكنه فسيح جنته آمين.
__________(3/138)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع المعارف)
إن مدارس طائفة الأرمن الكاثوليك على قلتها لقلة عدد أفراد هذه الطائفة،
حسنة النظام معتنى بإدارتها , ومما يستحق أن يخص بالذكر منها هنا مدارس طائفة
الملكية التي أصلها في مدينة البندقية ومدينة ويانا ومدرسة البطركخانة ومدرسة
هيماز قياتز , وللراهبات الأرمنيات مدرسة يتعلم فيها البنات التعليم الابتدائي.
ويلي المدارس اليونانية والأرمنية في الدرجة المدارس الإسرائيلية التي كلها
مؤسسة ومدارة على نفقة بعض سراة اليهود أو جمعية الاتحاد الإسرائيلي العام ,
وفي أوائل سنة 1890 مسيحية كان يوجد من هذه المدارس في جميع بلاد الدولة
العثمانية سبع عشرة للذكور يتعلم فيها منهم 2935 طالبًا وثلاث عشرة للإناث يتعلم
فيها 2309 طالبة وزيادة عن ذلك توجد مدرسة مختلطة للذكور والإناث فيها 161
تلميذًا وتلميذة , والدروس التي تلقى في هذه المدارس تكاد تكون هي نفس ما يلقى
في المدارس الرشدية للحكومة فهي تشمل: اللغة العبرية , وتاريخ اليهود ,
والتاريخ الحديث , والجغرافية , والحساب , والقيد في الدفاتر , والكيميا , والتاريخ
الطبيعي , واللغات التركية والعربية واليونانية والتليانية والأسبانية بحسب
مقتضيات الجهات المختلفة المؤسسة بها هذه المدارس.
أما التعليم العالي فلا توجد له مدارس في الطائفة الإسرائيلية , ولكن يوجد
لهذه الطائفة غير ما تقدم من المدارس عشر مدارس صناعية للذكور وتسع للإناث
تحتوي الأولى على مائتين وأربعين متعلمًا والثانية على مائتين وخمس عشرة
متعلمة.
ولم يضيق كرم الحكومة العثمانية الواسع عن قبولها تأسيس الأوربيين معاهد
للتعليم العام في بلادها سواء في ذلك العاصمة والولايات , فجميع الطلبات التي تقدم
من الأجانب استئذانًا في فتح مدارس تصادف دائمًا من حكومة جلالة السلطان أحسن
قبول , وهذا هو السبب فيما يراه الإنسان بجميع أنحاء المملكة العثمانية من
المدارس الفرنساوية والتليانية والإنكليزية والنمساوية والألمانية والأمريكية التي
تنجح وتترقى في الكنف الواقي لجلالة السلطان الذي وجدت فيه الآداب والعلوم
والصنائع أقدر كفل , ففي القسطنطينية وحدها واحد وعشرون معهدًا من معاهد
التربية والتعيم بين مدارس وملاجئ أيتام وكليات يديرها اللازاريون وإخوة
المدارس المسيحية وأخوات الإحسان , وغيرهم من الطوائف الدينية الكاثوليكية
وعدد المتعلمين في هذه المحال يزيد عن 2500 تلميذ بين ذكور وإناث , وفوق ذلك
يوجد خمس مدارس بروتستانتية يديرها المبعوثون الدينيون من الإنجليز
الأموريكيين , ومدرسة يونانية كاثوليكية , وست مدارس للقسيسين العالميين تعلم
فيها العلوم الابتدائية والثانوية والعالية.
وقد أسس أحد أغنياء الأميركيين المدرسة الشهيرة بكلية روبرت التي امتازت
بحسن تعليمها العالي , وللمبعوثين الأمريكيين فوق ما تقدم مدرسة اشتهرت جدًّا
بتربية البنات.
ويوجد في بيروت مدرسة طبية حرة فائدتها لا تقدر بالنسبة للبلاد التي يُتكلم
فيها باللغة العربية.
ويوجد أيضًا في أدرنة وسالونيك وجنينا وأزمير وطرابزون وعنتاب
والموصل وغيرها مدارس أجنبية تساعد المدارس العثمانية في ترقية التعليم العام.
يخصص جلالة السلطان في كل سنة مبالغ طائلة ينفقها من جيبه الخاص
لنشر التعليم العام , وليست جلالته تقتصر على منح النقود اللازمة لإنشاء مكاتب
الصبيان والمدارس الابتدائية للذكور والإناث في الجهات التي تعوزها النقود بل إنها
على الدوام تساعد المدارس إما بالنفقات المالية التي تجود بها عليها بسخاء لا يعهد
إلا في أعاظم الملوك , أو بالهدايا المختلفة الأنواع والجوائز المعدة للتلامذة حثًّا لهم
على الجد , وتحريكًا لغيرتهم في تحصيل العلم , وجميع هذه المساعدات المالية
وغيرها يوزعها جلالة السلطان على جميع رعاياه بدون نظر إلى اختلافهم في الدين
فجميع الرعايا كما قلنا متساوون لأنهم أبناء وطن واحد , ولذلك ترى أن جلالته لما
تخرج في كل سنة إلى إستانبول في احتفال الخرقة الشريفة تحييها التلامذة
والمعلمون غير المسلمين تحية حماسية , وهم مصطفون في شوارع المدينة التي
يمر بها الركب السلطاني. وهذه التحية هي: (بادشاه مزجوق يشا) لتعش جلالة
سلطاننا كثيرًا , وليست هي إلا عنوانًا صغيرًا لما تكنه صدور الأمة لحاكمها من
الشكر الكثير والولاء المتين.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/142)
11 محرم - 1318هـ
10 مايو - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدنيا والآخرة
(2)
بينَّا في المقالة الأول أن الإنسان مادي روحاني , وأن عوارض المادة تغلب
عليه أولاً فتكون عنايته مصروفة لتحصيل اللذات الجسدية والمنافع المادية التي
تجعله سعيدًا في حياته الدنيا , ثم يظهر فيه الميل إلى اللذات الروحية والمعارف
العقلية فتكون فيه ضعيفة تحتاج إلى تقويتها بالإرشاد السماوي وهو الدين.
ونقول الآن: إن العمل لتحصيل المنافع المادية له طرف نقص وطرف كمال
فالأول أن يعمل الإنسان لنفسه فقط ولا يبالي في سبيل لذته بسائر الناس أضرهم
عمله أم نفعهم , والثاني أن يعمل لنفسه ولغيره , ولهذا الكمال درجات أدناه أن
يعمل لمنفعة أهله وعشيرته , وأوسطها أن يعمل لمنفعة وطنه وأمته , وأعلاها أن
يكون مرمى طرفه منفعة أبناء جنسه والناس أجمعين , والمنافع الروحية العقلية
تنقسم أيضًا إلى هذه الأقسام والدرجات.
ما خلق الله الإنسان ليعنته , وما كلفه بأن يقلب طبيعته , خلق آدم وخلق
زوجه له ليسكن إليها , وأمرهما بأن يتمتعا باللذات الجسدية , ونهاهما عن الأكل
من شجرة واحدة؛ ليتعلما بذلك كف النفس عن الشهوات , فإن من لا يستطيع كف
نفسه عن شيء مما يشتهيه تورده موارد الهلكة وتقذف به في هاوية الشقاء.
قص الله علينا قصة أبينا آدم لنسترشد بها , ثم قال مخاطبًا لنا ممتنًّا علينا
بالمنافع الدنيوية: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ
التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 26) فالأول ما
لا بد منه , والثاني للزينة , والثالث للتوقي من الحرب , فاستوفى أقسام اللباس كلها
ثم حذرنا من الفتنة التي نزعت عن أبوينا لباسهما وأظهرت سوآتهما , وأخبرنا
أنه أمر بالقسط والاعتدال في الأمور كلها , ثم أمرنا بالعبادة الروحية , فقال: {قُلْ
أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: 29) الآية , ثم بين أن الزينة لا تنافي العبادة بل تجامعها وتلازمها ,
وأن العبادة لا تؤدي إلى ترك اللذات الحسية المعتدلة , بل تستعقبها وتنتهي إليها
فتكون ثمرة للدين في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31-
32) ولولا أنه قال: خالصة يوم القيامة؛ لفهم أن غير المؤمن لا حظ له في لذات
الدنيا , وقد كررنا التنبيه على هذا في المنار ليعقله الذين سجلوا على المسلمين
الحرمان من الطيبات لأنهم مؤمنون مسلمون , ولما كان الإفراط في اللذة والإسراف
في الزينة يؤديان إلى الفواحش والمآثم والبغي والتعدي أخبرنا أنه لا ينهانا من حيث
الدنيا إلا عن هذه الأشياء , كما أنه لا ينهانا من حيث الدين إلا عن الشرك , وأن
نقول على الله ما لا نعلم , ومنه أن نزيد في دين الله تعالى عبادة أو تحريمًا أو
تحليلاً فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
هذه الآيات خطاب عام من الله جل ثناؤه لبني آدم أجمعين، فهي أصل الأديان
كلها , ولذلك عقبها بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا
عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: 35-36) ثم فصل
الوعيد والوعد ووصف العقوبة والمثوبة , وأقام الدليل والبرهان , واستلفت العقل
واستصرخ الوجدان , وأنشأ بعد هذا كله يقص على هذه الأمة أخبار الأمم مع
المرسلين وما أخبرنا أن رسولاً منهم كلف قومه بأن يكونوا روحانيين خلصًا
يعرضون عن عمارة الدنيا , ويجعلون عملهم كله للآخرة , بل كانوا يمنون عليهم
بالتمكن في الأرض والخلافة والاستعمار فيها وسعة الرزق وكثرة العدد وبسطة
المُلك والعزة والقوة , وينهونهم عن الشرك والمفاسد التي تزيل هذه النعم , اقرأ إن
شئت قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ
نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69)
وقوله عنه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52) إلى قوله: {فَإِن تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ
رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (هود: 57) وقوله تعالى في قصة صالح عليه
السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ
أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61) , وقوله تعالى حكاية عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف: 74) وقوله - تعالى - في
قصة موسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) وقوله -
تعالى -: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ
يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف: 137) .
ومن يقرأ التوراة لا يكاد يرى فيها ذكرًا للآخرة لا ترغيبًا في جنتها ولا
ترهيبًا من نارها , وإنما يرى تكفير الذنوب فيها بتقديم القرابين من الذبائح
والمحرقات وغيرها فهي عقوبة بتفويت شيء من الدنيا عليهم , ويرى العبادات
معللة بالشكر على الخلاص من نقمة أو الإتحاف بنعمة , ففي الباب 23 من سفر
الخروج ما نصه: (14 ثلاث مرات تعيِّد لي في السنة 15 تحفظ عيد الفطير تأكل
فطيرًا سبعة أيام كما أمرتك في وقت شهر أبيب؛ لأنه فيه خرجت من مصر ولا
يظهروا أمامي فارغين 16 وعيد الحصاد أبكار غلاتك التي تزرع في الحقل , وعيد
الجمع في نهاية السنة عندما تجمع غلاتك من الحقل 17 ثلاث مرات في السنة
يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب اهـ) هكذا , وعيد التوراة البلاء في الدنيا
بإذهاب الرزق والسلطة والإجلاء من الأرض , ووعدها التمكن في الأرض وسعة
الرزق فيها , قال في الباب الرابع من سفر التثنية: (40 واحفظ فرائضه التي أنا
أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك) .
وقال - تعالى - حاكيًا عن الأمم بالإجمال بعد ما قص أخبارهم مع المرسلين:
] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى [1] آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [2 {
وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96) .
يدلنا كل هذا على صحة ما جاء به الإسلام من أن الله - تعالى - جعل الدين
لمصلحة الناس لا لإعناتهم والخروج بهم عن طبيعة بشريتهم، وعلى تحقيق ما
ذهب إليه أستاذنا في (رسالة التوحيد) من أن سنة الله في الإنسان منفردًا
كسنته فيه مجتمعًا , طفولية فتمييز تدريجي فرشد وعقل وقد أعطاه الله تعالى في كل
طور ما يليق بحاله من تعاليم الدين , ولما استعد النوع الإنساني لفهم حقيقة الإنسان
وللقيام بما تطالبه به الإنسانية من حيث جسديته وروحانيته معًا أرسل الله في إثر
أولئك المرسلين السيد المسيح عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى مقابل ما هم فيه
أو نقيضه , يدعوهم لأن يتركوا الدنيا بالمرة ويكونوا روحانيين خلصًا؛ لتكون دعوته
تمهيدًا للدعوة المعتدلة الممكنة التي تكون من بعده , وهذه هي الطريقة المثلى في
الإرشاد: يُدعى الواقف عند أحد طرفي الإفراط أو التفريط إلى الطرف الآخر
ليكون مبلغ جهده في الإجابة الوصول إلى الوسط.
جاء في الباب 19 من إنجيل متى ما نصه: (23 فقال يسوع لتلاميذه:
الحق أقول لكم: إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات 24 وأقول لكم أيضًا:
إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله 25 فلما
سمع تلاميذه بهتوا جدًّا قائلين: إذن من يستطيع أن يخلص 26 فنظر إليهم يسوع
وقال لهم: هذا عند الناس غير مستطاع , ولكن عند الله كل شيء مستطاع)
وهذه المسألة مذكورة في غير إنجيل متى أيضًا , وفي معناها كلمات أخرى في
الأناحيل , أنذر الأغنياء بسوء العاقبة وأمر بالخضوع لكل سلطة ومغفرة كل ذنب
لكل أحد ومحبة الأعداء , وذكر أن اللذات الجسدية لا تكون لأهل الحق إلا في
الملكوت حيث تكون اللذات الروحية، كقوله: (طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم
تشبعون) وقوله: (الحق أقول لكم: إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك
اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله) اهـ مرقس وغيره.
وفي الباب الخامس من أعمال الرسل أنهم كانوا يكلفون المؤمن أن يبيع كل ما
ملكه ويأتي بجميع ثمنه للرسل , وقد أمسك رجل اسمه حنانيا بعض ثمن حقل له
وأعطى الباقي للرسل فوبخه بطرس وسماه مختلسًا , فمات حنانيا من كلامه.
بهذا وبما تقدمه استعد النوع الإنساني لفهم الحقيقة الإنسانية , والقيام بحقيها
الروحي والجسدي على صراط مستقيم فمنحه الله دين الإسلام فهي تبيان لكل شيء,
وجعله آخر الأديان , فجاء بالحق وصدق المرسلين , وجمع بين أنواع هداهم
وإرشادهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:
90) وقد خاطب القرآن أهل هذا الدين بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ولم يختلف أحد من أئمة
هذا الدين في أن غايته سعادة الدنيا كما في هذه الآية , وسعادة الآخرة كما في
الآيات الكثيرة , وأن الإعراض عنه مجلبة للشقاء في الدارين قال عز وجل:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) فضيق المعيشة في الدنيا من آثار الإعراض عن كتاب الله ودينه
وهو دليل على الشقاء في الآخرة بالنسبة لمجموع الأمة أيضًا.
فعلم مما شرحناه أن القرآن ما أخبرنا بأنه يستخلفنا بديننا في جميع أقطار
الأرض نتصرف فيها كما تتصرف الملوك (قاله البيضاوي في تفسير الآية) وأنه
سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه , وما أمرنا بأن نطلب منه
حسنة الدنيا والآخرة - إلا وقد جعل ثمرة دينه كلا الامرين , وما جاء في القرآن من
ذم الدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح المفرطين , ولكن من المسلمين من
انصرف إلى الغلو في التزهيد عملاً بنصف الدين الروحي , ومنهم من انصرف إلى
النصف الآخر وسنبين غلط الفريقين {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ
الحِسَابِ} (البقرة: 201-202) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المراد بأهل القرى الأمم الذين بُعث فيهم الأنبياء، والقرى: المدن , ولم يبعث الأنبياء في أهل البادية لأنهم أبعد عن مبادئ الاجتماع المعبر عنه بالمدنية، والأديان إنما تدعو للاجتماع , وأهل المدن أقرب إليه لما عندهم من مبادئه.
(2) أي لوسعنا عليهم الخير ويسَّرناه من كل جانب، وقيل المراد المطر والنبات اهـ بيضاوي.(3/145)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فرنسا والإسلام
عجبًا للدم الذي تحرك لكلام المسيو هانوتو كيف لم يتبيغ لكلام القومندان
نابليون ني , وعجبًا للقلوب التي جرحها ذلك كيف لم يذبحها هذا , بل عجبًا للنفوس
التي اضطربت للأول كيف لم يزلزل الثاني وجودها زلزالاً؟ إلا إن قومنا لا يزلون
أغرارًا يغترون بالظواهر وينخدعون للمظاهر , ويخلبون بالأوهام ويعيشون
بالأحلام , يصيحون من السب ويسكتون على الضرب , ويتململون من الكلام ولا
يتألمون من الكِلام (بالكسر: الجراح) حاشا نفرًا من أهل الفهوم المشرفين على
حقائق العلوم , والاستثناء- كما قالوا- معيار العموم.
صاح الصائحون وناح النائحون وكتب الكاتبون وخطب الخاطبون , وما ذلك
إلا لما رواه هانوتو عن الغالين في التعصب الديني من قومه من وجوب نسف الكعبة ,
ونقل قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى متحف اللوفر في باريس لتنحلَّ رابطة جامعة
الإسلام ويقع أهله في اليأس التام , ونحو هذا الهذيان الذي يقوله طفل فلا يلتفت له
سائر الصبيان اللهم إلا ما كتبه ذلك الإمام من روائع الحِكم وحقائق الأحكام.
كتب (نابليون ني) في الإسلام والمسلمين ما كتب فعلم المسلمين من هم , وما
هو الإسلام لو كانوا ممن يعلم أو يتعلم , وأنى لمن يجهل تاريخ الإٍسلام أن يعرف
تأثيره في الأنام؟ وكيف يهرب من هذا الجهل من يقول علماؤهم: إن هذا العلم
يضعف العقل؟ يبحث نابليون ني عن مكان تتوجه إليه وجوه المسلمين وتتولاه
قلوبهم , وترمي إليه أبصارهم وتمتد نحوه أعناقهم ليجعلوه قبلة آمالهم , وكعبة
لإقبالهم , ومعهدًا لاجتماعهم , ومعقدًا لارتباطهم- لآمالهم بفرنسا وإقبالهم عليها ,
واجتماعهم في دائرتها وارتباطهم بحبل سيادتها.
علم (نابليون ني) أنه لا يوجد في الدنيا بلد من البلاد تتعلق به قلوبهم وتتوجه
إليه نفوسهم إلا مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأنى لفرنسا أن تقبض على زمام
السلطة الإسلامية فيهما؟ ذلك ما لا مطمع فيه , وقد أشار الكاتب بأن تُجعل باريس
بديلاً من مكة , وأن تلفت إليها أنظار العالم الإسلامي بتأليف جمعية فيها من كبار
علماء الإسلام من جميع الأقطار , وأن يكون للجمعية جريدة إسلامية باللغات
المشهورة بينهم , فهو يرى أن هذه الجمعية التي يقاد أفرادها إلى أوربا بسلاسل
الذهب والفضة كافية لتحويل قلوب الأمة الإسلامية إلى فرنسا، وصرح بأن اجتماع
المسلمين على دولة أجنبية أقرب من اجتماع بعضهم على بعض لما بينهم من تفرق
المذاهب وتعدد المشارب.
فهل يفقه المسلمون بعد سماع هذا الكلام معنى الجامعة الإسلامية وكيف تكون
وبماذا تكون؟ هل يفطنون للسر الغريب في فريضة الحج , ويتنبهون إلى أنه لم
يوجد دين من الأديان , ولا حكيم من الحكماء قدر أن يضع وضعًا يجذب به أرواح
الشعوب من جميع أقطار الأرض إلى مكان واحد، فتطير بأجسامهم إليه لتقوية
الجامعة الملية بينهم , وهو ما وضعه دين الإسلام دين المدنية الكبرى والاجتماع ,
هل يتدبرون سوء مغبة اختلاف المذاهب في الملة التي يتبرأ كتابها ونبيها من
المتفرقين في الدين ويسعون في شعب الصدع ورتق الفتق؟ هل يتفكرون بعده في
معنى اجتماع العلماء وما له من النفع العميم؟ وما في اختلافهم من البلاء العظيم؟
هل يعقلون بعده فوائد الجرائد الدينية الإسلامية وآثارها.
قد بيَّنا كل هذا ودعونا إليه في مقالات الإصلاح الإسلامي التي نشرناها في
المجلد الأول من المنار- دعونا إلى تأليف جمعية إسلامية يكون لها شُعب في كل
قطر إسلامي وتكون عظمى شعبها في مكة المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع
أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها ومعاهدها المقدسة ويكون أهم اجتماعات هذه
الشعبة في موسم الحج الشريف حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشُّعب التي في
سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي
من التعاليم السرية والجهرية، وقلنا هناك: وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية
الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة.
وثَم مرجحات أخرى من أهمها البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم والأمن
من وقوفهم على ما ينبغي عدم وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله، ومنها أن
لشرف المكان ولحالة قاصده الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى
والغرض فضلاً عن الغش والخيانة.
وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة دينية علمية تطبع في مكة أيضًا وأية
شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها.
وارتأينا أن يكون من أعضاء الجمعية العاملين العلماء والخطباء ليتسنى
للجمعية إفاضة تعالميها على قلوب جميع المسلمين , وبينا أعمال الجمعية ونتائجها,
ومنها الجمع والتأليف بين أهل المذاهب لا سيما الفرقتين العظيمتين أهل السنة
والشيعة.
بماذا قابل المسلمون هذا الاقتراح؟ السواد الأعظم لا إحساس لهم ولا شعور،
وأما المتصدرون للكتابة وإرشاد المسلمين في الجرائد فقد مسخوه مسخًا واستدبروا
به المقصد، فأنشأوا يكتبون مقالات يحثون فيها على عقد (مؤتمر إسلامي)
في القسطنطينية، ولا ينتظر من التائه في مفاوز الخيال إلا طلب الفوز من المحال
ولقد كان من حجتنا على هؤلاء أننا نعترف لهم بإصابة رأيهم إذا وجدت جريدة من
جرائد الأستانة العلية توافقهم في الدعوة إليه فإن تلك الجرائد يشبه أن تكون كلها
رسمية؛ لأنها لا تكتب الا ما يمليه عليها أولو الأمر ... ثم علمنا أنه يوجد من يسعى
بما اقترحناه عملاً لا قولاًً- وما كان غرضنا من القول إلا تنبيه الأفكار إليه- ولكن
المسلمين أمسوا أعداء أنفسهم يبلغون من نكايتها ما لا يبلغه الأجانب منهم , أو كما
قلت في مكتوب أرسلته منذ سنين لأحد عظماء المسلمين: (إن الممالك الإسلامية
أمست كالمريض الأحمق يأبى الدواء ويعافه من حيث أنه دواء) ولولا رجال
فضلاء منبثون في بعض الأنحاء لانقطع بنا - والعياذ بالله - حبل الرجاء.
قال هذا الضابط: إن الوحدة الاسلامية النظرية (كذا) قد تمزقت بالفتوحات
المتوالية , وانشقت إلى أقسام دينية لا حدود لها، ولا نظام لحكوماتها , وقال قبل
هذا: إن الإسلام أصابه الشلل من سوء إدارة مديريه ومديري شئونه , وكرر القول
بأن دوام فتوحات أوربا المسيحية قد آلمت المسلمين فطفق يتقرب بعضهم من بعض
وأحسوا بالحاجة إلى الاجتماع , وحث أمته أن تكون الجامعة الإسلامية على يديها
وبيديها.
وعنده أنه لا يمكن أن توجد بنفسها، وأنها إذا وجدت فإنها تنحل بعد ثلاثة
أشهر من وجودها , ثم صرح بأنه لا ينقص الحركة نحو الجامعة الإسلامية إلا
شيء واحد إذا وجد تكون به قوة الإسلام وغلبته؛ ألا وهو اختيار مكان غير تابع
لدولة من الدول كي يتم به الائتمار بين الفرق الاسلامية المختلفة، فإن عدم وجود هذا
المكان هو السبب في عدم استقرار الفرق الدينية الإسلامية في مكان ثابت، فلكل
منها آثار تتفاوت في الشدة أو الضعف، في بغداد ومصر والأستانة وفارس والهند
وأفريقية , قال: ولو اهتدى رؤساء تلك الفرق إلى وجود بقعة على سطح الأرض
تكون للإسلام بمثابة رومية أو الفاتيكان للمسيحيين فلا ينقضي زمن يسير حتى
ينعقد فيها مجتمع إسلامي يخضع لإرادته العالم الإسلامي بأسره , وعقب هذا
بالتنبيه على عموم دعوة الإسلام، يشير إلى أن هذا المجتمع لابد أن يصل مده إلى
أطراف العالم الإنساني.
ونقول نحن: أين رومية والفاتيكان من مكة؟ رومية لا يحج إليها النصارى ,
ولا يؤمن لحبرها الأعظم جميع فرقهم، ولا يوجد مسلم يؤمن بنبوة محمد صلى الله
عليه وسلم إلا ويستقبل في صلاته مكة ويحج إليها عند الاستطاعة، لا فرق بين
سني وشيعي ووهابى وخارجي ... ولكن أمراء المسلمين وسلاطينهم هم الذين جنوا
على الإسلام وأهله ما لم يجنه الأعداء , فجعلوا البلاد المقدسة دون سائر البلاد
فأخذهم الله بذنوبهم , وفرق كلمتهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
ذكر هذا الضابط الباسل بل الضابط العاقل أن من الأمور السياسية التي
يجهلها الأوربيون كون الحكومة الشرعية في الإسلام مبنية على قواعد الدين
والمبادئ الديموقراطية , وأن أعظم مصيبة ألمت بالمسلمين هي اتخاذهم
الديموقراطية أساسًا لحكومتهم , وعدم حرصهم على البناء الذي شادوه فوقها , ثم
ذكر أن هذا الأساس هو الذي يبنى عليه هيكل الوفاق بين فرنسا التي حكومتها
ديموقراطية لا علاقة لها بالدين , وبين الإسلام الذي تسوسه الديموقراطية الدينية.
لقد صدق الرجل فيما حكاه عن أساس الحكومة الإسلامية ويتذكر قراء المنار
أننا ذكرنا غير مرة أن الإسلام هو الذي وضع أصول الحكومة الديموقراطية
المعتدلة , ولكن العالم الإنسانى لم يكن استعد لها كمال الاستعداد , ولذلك لم يتعد
العمل بها زمن الراشدين حتى جعلت السلطة المطلقة للأفراد، ومُني الزعماء
بالاستبداد، فكان ما كان من الفساد والإفساد , وأما اعتماد المسلمين على فرنسا في
تكوين جامعتهم على الوجه الذي ارتآه فهو المرام الذي لا يدرك واللبانة التي لا
تقضى , وكأني به وقد نسي أساس الديموقراطية الذي عمل الخلفاء والملوك
والمسلمون في نقضه من القرن الأول إلى الآن فما استطاعوا له نقضًا، وبقي
المسلمون على ضعف الدين فيهم لا ينقادون ظاهرًا وباطنًا إلا لشريعتهم السماوية ,
وخضوعهم الظاهر للحكام القانونيين منهم ومن غيرهم لا يطابق باطنهم , ولولا
العجز ما خضعوا ورضخوا، وهذا العجز لا يدوم لأن طبيعة العمران قاضية بأنه
سيزول قريبًا بزوال سببه , وهو الجهل العام بالشئون الاجتماعية الذي تقطعت بمداه
روابطهم الملية , وقد علم الكاتب هذا ونبه عليه غير مرة.
هذه الجامعة لا تستطيع دولة أوربية تكوينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام ,
وقد كتبنا في المنار من قبل أن الدولة الأوربية التي تدخل في الإسلام يمكنها أن
تضم إليها العالم الإسلامي كله , وأن تمتلك به الدنيا بأسرها.
نعم يمكن لفرنسا أن تعيش مع المسلمين بسلام , وأن توسع دائرة استعمارها
لبلادهم إذا هي عاملتهم بالحسنى , ولم تمس استقلالهم الديني بوجه ما , ويمكن
أيضًا للمسلمين أن يستفيدوا من انصراف عناية دولة كفرنسا إلى الاستفادة من قوة
الإسلام.
ولكن من الذي يستفيد؟ وماذا يستفيد؟ وكيف يستفيد؟ أترك الكلام في هذا
لأجل أن تشتغل به الأفكار , وربما نعود إليه في فرصة أخرى.
__________(3/151)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية وأدبية
(سؤال وجواب عن آيتين من الكتاب)
رفع سؤال إلى مولانا حجة الإسلام وقدوة الأنام الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية يطلب صاحبه فيه بيان الجمع بين قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) , وقوله -
تعالى - عقيبها: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ
وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: 79) فإن بينهما في بادي
الرأي تنافيًا يتنزه عنه كلام الله تعالى , فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله:
(كان بعض القوم بطِرًا جاهلاً إذا أصابه خير ونعمة يقول: إن الله تعالى قد
أكرمه بما أعطاه من ذلك , وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه
به لعلو منزلته لديه , وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا
الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات
والشرور , فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة
يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما؛
فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي
يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي فيه , وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه
مصدرها الأول ومنبعها الحقيقى كذلك، وأن شؤمه هو الذي رماهم بها.
وهذا هو معنى (من عند الله) أو (من عندك) أي: من لدنه ومن
خزائن عطائه , ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس.
فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)
أي إن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم
إنما هو الله وحده , وليس ليُمن ولا لشؤم مدخل في ذلك.
هذا فيما يتعلق بمن بيده الخير والشر والنعم والنقم، وأما ما يتعلق بسنة الله
في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك، فالأمر على خلاف
ما يزعمون كذلك , فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في
توفير أسباب سعادتنا , والبعد عن مساقط الشقاء , فإذا نحن استعملنا تلك المواهب
فيما وهبت لأجله , وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير وذلك
إنما يكون بجودة الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه , وفهم شرائع الله حق الفهم
والتزام ما حدده فيها؛ فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة , ويجنبنا الشقاء
والتعاسة , وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى ,
فما أصابك من حسنة فمن الله؛ لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها
الحسنات , بل واستعمالك لتك القوى إنما هو من الله.
وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا , وفرطنا في النظر في شئوننا , وأهملنا
العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه , وغفلنا عن فهمه فاتبعنا الهوى
في أفعالنا , وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا , كان ما أصابنا من ذلك صادرًا عن سوء
اختيارنا , وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاءً على ما فرطنا , ولا يجوز
لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه.
وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظرنا إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع
ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال: إن سواه يقدر
على ذلك , ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلامًا , لأن نسبة الخير إلى الله
ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل , فإن الذي
يأتي بالخير ويقدر عليه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه , فالتفريق ضرب من
الخبل في العقل.
وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا
سعداء , ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من
فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي منَّ الله عليه بها فعليه أن يحمد الله
ويشكره على ما آتاه , ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا
نفسه , فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب , وليس بسائغ له
أن ينسب شيئًا من ذلك للنبي ولا لغيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ,
ولم يقهره على إتيان ما كان سببًا في الانتقام منه.
فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك (يا محمد) على ما ينالون من
خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله
وفي التزامها سعادتهم , ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على
أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد
انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته , لأن
الكل من عنده , وإنما ينعم على من أحسن الاختيار , ويسلب نعمته عمن أساءه.
وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم , وأن عصيانه من
مجالب النقم , وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه وصرف ما وهب من الوسائل فيما
وهب لأجله.
ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب، فإنك لو كنت فقيرًا أعطاك
والدك مثلاً رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد
في الإنفاق , وصرت بذلك غنيًّا فإنه يحق لك أن تقول: إن غناك إنما كان من ذلك
الذي أعطاك رأس المال وأعدك به للغنى.
أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك
منك فاسترد ما بقي منه , وحرمك نعمة التمتع به؛ فلا ريب أن يقال: إن سبب
ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد
وهو والدك , غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد ,
وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يجب لأن تحويل الوسائل عن
الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها
وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه.
وهناك للآية معنى أدق يشعر به ذو وجدان أرق مما يجده الغافلون من سائر
الخلق , وهو أن ما وجدتَ من فرح ومسرة وما تمتعتَ به من لذة حسية أو عقلية
فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدًا بما وهبك،
أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك , ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما
سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار , وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار
ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك.
ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة , وأخذته كما هو وعلى ما
هو عليه؛ لكانت المصائب لديك بمنزلة التوابل الحريفة [1] يضيفها طاهيك [2] على
ما يهيئ لك من طعام لتزيده حسن طعم , وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة ,
واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده , والتعرض
لنعمه , والتحول عن مصاب نقمه فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة
التأديب ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته ولا تلتزم طريقته , فكما
يسُر طالب الأدب أن يحتمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه
يسره كذلك أن يرتقي فوق ذلك المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعًا بما حصل
بالغًا ما أمل , وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي.
***
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الحاضرة , وأهدانا مؤلفه الكاتب
الفاضل محمد أفندي مسعود نسخة منه فإذا هو فلك مشحون بالفوائد العلمية علوية
وسفلية , أو سماوية وأرضية وكونية ونفسية , وفي القسم الجغرافي منه بيان أطوال
وعروض السودان وكلام عن بلاد الترنسفال وأورانج والكاب كما أن في القسم
التاريخي ملخص تاريخ الحرب في السودان وفي الترنسفال , وفي القسم
الزراعي فوائد لا يستغني عنها مصري , وفي القسم الطبي وقسم تدبير المنزل
فوائد لا يكاد يستغني عنها أحد , وفيه قسم لغوى فسر فيه كثير من الألفاظ الغريبة
بترتيب المعاجم , وفيه جداول ليضبط حامل التقويم في البياض منها أمورًا ينبغي
ضبطها كالكتب التي باعها واشتراها وأعارها واستعارها وكالأسماء والعناوين التي
يهمه حفظها , وكالديون التي له وعليه , وكالمشاهدات الغريبة التي تعرض له ,
وكأيام المرض والعلاج وما يتعلق بذلك لمن يعنيه ضبط ذلك لهم , وكالكسب الذي
يدخل عليه من السندات والأسهم , وكتاريخ أهل المنزل في عامة أطوارهم كالولادة
ودخول المدرسة والحج وغير ذلك , وليت المؤلف جعل هذه الجداول في باب واحد
ليسهل الكشف عليها ومراجعتها.
وفيه تعريف بأحوال التلغراف والبريد وسكك الحديد وأجور السفر فيها
ومواقيته , فينبغي أن لا يخلو جيب قارئ من هذا التقويم فإنه خير رفيق في السفر ,
وألطف صديق في الإقامة.
***
(جمعية النهضة الأدبية)
يسرنا أن هذه الجمعية التي أنشأها عمال المطابع قد نجحت , وما كان أجدر
أرباب المطابع والصحافة بمثلها , وقد احتفلت في أول ليلة من السنة الهجرية
احتفالاً عامًّا حضره الجم الغفير من الفضلاء والخطباء , وألقيت فيه الخطب
المفيدة , ووفقت الجمعية لإنشاء نشرة أدبية تاريخية صناعية فكاهية تصدر في
الشهر مرتين وسمتها باسم الجمعية (النهضة الأدبية) وصدر العدد الأول منها
في أول السنة فنرجو للجمعية وجريدتها التوفيق والنجاح.
***
(الصبا)
جريدة سياسية علمية أدبية فكاهية أسبوعية تصدر في الزقازيق مديرها الوجيه
المحترم أحمد أفندي عبد الله حسين , وقيمة الاشتراك فيها 20 قرشًا في
القطر المصري و 30 في خارجه فعسى أن تصادف توفيقًا ونجاحًا.
__________
(1) هي ما يتبل به الطعام كالفلفل والخردل واحدها تابل.
(2) الطاهي: الطباخ.(3/157)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(تنبيه) ضاق هذا الجزء عن نشر نبذة من كتاب أميل القرن التاسع عشر
المفيد , وقد علمنا من بعض القراء أنهم كانوا لا يقرأون ما ينشر من هذا الكتاب
ظنًّا منهم أنه قصة من القصص الوضعية التي يسمونها روايات , ثم علموا أنه
كتاب لم يؤلف مثله في التربية العملية , وإنما جعل أسلوبه هكذا رسائل متبادلة بين
رجل وامرأته في تربية ولدهما هربًا من السآمة التي تعتري أكثر الناس من قراءة
الكتب العلمية , وقد رغّب إلينا كثيرون من الأفاضل المولعين بقراءته أن نطبعه
على حدته , وسيكون ذلك إن شاء الله تعالى.
***
ثبت لدى الأطباء مرض أناس وموت البعض منهم بالطاعون في بورسعيد
ولكنه خفيف جدًّا كما كان في الإسكندرية ونسأل الله زواله عن قريب.
***
تحقق أنه سيشرع في تنفيذ إرادة مولانا السلطان الأعظم بمد سلك الأخبار
البرقي بين الشام والحجاز، وأكدت أخبار الأستانة أن الإرادة السَّنية صدرت أيضًا
بإنشاء سكة حديد من الشام إلى البلدين المكرمين مكة والمدينة , وقد كنا اقترحنا
هذا وبينا فوائده في المجلد الأول من المنار فنسأل الله تحقيق الآمال.
***
(أعجوبتان)
كتب إلينا من القلمون أنه ولد لحمود عبيد من زوجه رابعة بنت مصطفى
الخباز بنت بدنها كبدن البشر إلا أن رأسها بدون وجه وعينيها في مكان الناصية
من رأسها وأذنيها بحذاء عينيها , وهما كأذني الأرنب ولها أربع شفاه بعضها فوق
بعض يرى أهل القانون أن الحكمة في خلق هذه البنت ممسوخة هي الانتقام من
أبويها , فإن المرأة كانت متزوجة وعشقت هذا الرجل فنشزت , وأساءت
معاملة زوجها الأول حتى اضطرته إلى طلاقها , وتزوجت بالثاني.
أما الأعجوبة الثانية فهي بنت وُلدت لرجل من دده (قرية في لبنان) نصفها
الأعلى كالبشر ونصفها الأسفل كتلة كالبطيخة.
__________(3/163)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
الأرمن وفتنتهم
(تابع لما قبله)
قبل ختم الكلام في وصف ما نالته تركيا من التقدم في عهد السلطان الحالي
رأينا من الواجب علينا أن نقول كلمات في الفتنة الأرمنية التي شهدناها مدة الأشهر
الثلاثة الأخيرة وفي الأرمن الذين يتجنسون بالجنسية الأمريكية في الولايات المتحدة
ويرجعون إلى تركيا وشأنهم مع القانون.
للأتراك مثل مشهور في تبصر الأرمن وهو (لا بد لغش أرمني واحد وخديعته
من اجتماع ستة من اليهود عليه) وهذا يدل على مقدار ما لهؤلاء في نفوس أهل
الشرق من الاعتبار والاحترام؛ لاعتقادهم بصدقهم واستقامتهم , ولكن للأرمن
أنفسهم شعورًا شديدًا بأن هاتين الصفتين تعوزانهم فإن رجلاً منهم قد نشر من زمن
غير بعيد رسالة في جريدة مشهورة من جرائد نيويورك ينصح فيها لإخوانه في
الدين أن يلتزموا الصدق في أقوالهم فلا يفوهوا بغيره ومن أراد أن يعرف كيف
نجح هذا الأرمني الساذج في مساعيه ووصاياه فليقرأ هذه الحادثة التي ذاع خبرها
في جميع أرجاء الولايات المتحدة وأوربا وها هي نقلاً عن الجرائد.
(إن قصة زوجة جريجو الأرمني زعيم الثاثرين ارتج العالم لبشاعتها وهي
أن هذه المرأة فضلت الموت على عبث مضطهديها الأتراك بعرضها , فألقت بنفسها
وطفلها على يديها في هاوية عميقة , وتبعها غيرها من النساء حتى امتلأت الهاوية
بأجسادهن- هذه القصة لم تكد تريع الناس بانتشارها حتى ظهر بطلانها كما أنبأ
بذلك كثير من العارفين بالحقائق فإنه قد تبين أن هذه الحكاية الفظيعة ليست إلا
أسطورة قديمة شعرية نظمتها السيدة هيمانس من سنين مضت وعنونتها بعنوان
(الوالدة سليوت) فنقلت , وزيد عليها من الحواشي وأنواع التزويق ما يطابق
المقام.
وقد بعث الناس انكشاف هذه الحقيقة لهم على أن يعتقدوا أنه من المحتمل أن
لم يكن من المرجح أن معظم ما يسمى بالفظائع الأرمنية ليس هو إلا من مخترعات
الخيال عند بعض الغلاة في الدين خلقوه ابتغاء للربح أو الانتقام أو ما شاكلهما من
الأغراض السافلة , وسكن بذلك هياج القلوب على الأتراك سكونًا ظاهرًا في كل
جهة إلا بين مضرمي نار الفتنة من الأرمن المولعين بالمخالفة للجمهور لإقلاق
الخواطر فإن هؤلاء الأشخاص لا يودون أن يعتقدوا أن القصة لا أصل لها سوى
تلك الأنشودة الشعرية وينتظرون تقرير لجنة التحقيق التي قد وصلت إلى بلاد
الأرمن واثقين ثقة تامة بصحتها.
نعم إنه لا ينكر أن بعض القلاقل قد حدث في ساسون وعينت لجنة لتحقيقها
لما لجلالة السلطان من العزيمة الصادقة في معاملة كل رعاياه بالعدل والإنصاف
ومعاقبة جميع من له يد في ارتكاب الجرائم , ولكن من المهم على ما نرى أن
نعرف أولاً حقيقة ما حصل في بلاد الأرمن وثانيًا من هم المعتدون الحقيقيون.
ويمكننا إجمال الوقائع في كلمات مختصرة نتقلها عن جريدة نيويورك هرالد
(داعي نيويورك) وهي:
ظهر محركو الفتنة في جبال تالوري الوعرة الواقعة بين ساسون في الجنوب
الشرقي لموش (من ولاية بتليس) ومركز قول من متصرفية جوينج , وجمعوا
قواهم بإغراء من يدعى همبارتزن الذي انتحل لنفسه اسم مراد , وبادر بإلقاء بذور
الفتنة في تلك الجهات.
وهمبارتزن هذا أصله من قرية تدعى هجين (من ولاية أطنة) وبعد أن
قضى ثماني سنوات في دراسة الطب بالمدرسة الطبية الملكية بالقسطنطينية ,
واشترك في قلاقل (قوم قبو) هرب إلى جنوه , ثم ذهب بعد ذلك متنكرًا مغيرًا
اسمه من ديار بكر إلى ضواحي بتليس على طريق إسكندرونة وأنشأ من حين إلى
آخر ينفث في نفوس الأهلين سموم الثورة هو وخمسة نفر آخرين.
كان هذا الرجل يؤكد لبسطاء العقول من أمته أنه مأمور أجنبي تشد أزره
الدول الأورباوية في إنفاذ مقاصده لتقويض سلطة الأتراك فنجح بذلك في جذب
قلوب الأرمن القاطنين قرى (سينار , وسيماي , وجوللي جوزات , وآهي , هيدنك,
وسنانك , وشيكاند , وإليفارد , وموسون , وإيتيك , وإديجسار) إليه واستمالتهم إلى
مساعدته في الوصول إلى مآربه الأثيمة كما أفلح في استمالة أرمن
إقليم تالاري المشتمل على أربعة مراكز.
ثم اجتمع أولئك الثائرون تحت إمرة همباتزون مغادرين قراهم في النصف
الأخير من شهر يولية الماضي بعد أن وضعوا نساءهم وأطفالهم وأمتعتهم في أماكن
معينة , وبعد أن انضم إليهم أيضًا قوم آخرون مسلحون من العصاة أرسل بعضهم
من قبل والي موش , والبعض الآخر من قضائي قول وسلوان , فبلغ عدد
المحتشدين أكثر من ثلاثة آلاف , وكان اجتماعهم في مكان يدعى أندوك داغ فعزم
خمسمائة أو ستمائة منهم على الإغارة على موش , وابتدأوا بالهجوم على قبيلة
دليقان فوق جبل قورلنك في جنوب موش , وقتلوا قليلاً منهم وسلبوا أمتعتهم ,
وجميع من وقعوا في أيديهم من المسلمين أهينوا في دينهم , وقُتلوا أشنع قِتْلة , وقد
هجم العصاة أيضًا على عساكر الحكومة التي في ضواحي موش ولكنهم لم يجسروا
على مهاجمة موش نفسها بسبب ما فيها من القوى العسكرية العظيمة.
فشكل هؤلاء العصاة مع بقية المحتشدين في أندوك داغ من أجل ذلك عصابات
أخذت تناوش القبائل من كثب , وترتكب فيها أفظع أنواع القتل والسلب فإنها
أحرقت ابن أخي عمر أغا وهجمت على نساء ثلاثة بيوت أو أربعة من المسلمين
وأكرهتهم على تقبيل الصليب , ومثلث بهم فاقتلعت أعينهم وصلمت آذانهم وجعلتهم
موضوعًا لأشنع أنواع التحقير.
ثم هجم هؤلاء العصاة أنفسهم في أوائل أغسطس الماضي على قبائل فانينار ,
وبيكران , وباديكان , وارتكبوا فيها مثل ما تقدم من الجرائم , وهاجم عصاة
قريتي إيليغار نوق , وإيرموس الواقعتين في قضاة ديجان (بمركز قلب) الأكراد
المتوطنين هناك كما هاجموا قريتي قيسار وتشاتشات.
وفي أواخر شهر أغسطس الماضي هجم الأرمن على الأكراد المقيمين في
ضواحي موش , وأحرقوا ثلاثة قرى، أو أربعة منها جوللي جوزات.
أما الثائرون في تالوري البالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف فإنهم بعد أن
أحلوا الرعب والموت بالمسلمين والمسيحيين معًا رفضوا التسليم للحكومة , ولجُّوا
في ارتكاب الفظائع , فأرسلت الحكومة بعضًا من عساكرها المنتظمة إلى تلك الجهة
لقمع عصيانهم , فهرب زعيمهم همباتزون , واعتصم بجبل عالٍ هو وأحد عشر من
شركائه في الإثم فقبض عليه حيًّا , لكن لم يكن ذلك إلا بعد أن قتل عسكريين
وجرح ستة وفي نهاية أغسطس الماضي كانت جميع عصابات الثائرين قد تشتتت.
وقد عامل العساكر نساءهم وأطفالهم وذوي العاهات منهم بما يجب لهم من
الرعاية , وبما تتقضيه في حقهم أحكام الشريعة الإسلامية وعواطف الإنسانية , ولم
يقتل من رفضوا التسليم وفضلوا أن يقوموا محاربين في وجه حكومتهم الشرعية.
وقد تأيدت هذه الوقائع فيما بعد بشهادة شاهد عاينها بنفسه , وهو سائح أسباني ,
وعضو في الجمعية الجغرافية بإنكلترا يسمى كزيمنس وهاك ما قاله عن مشاغب
ساسون منقولاً عن الجرائد:
(قد عاد الآن المسيو كزيمنس بعد أن أتم العمل الجغرافي الذي كلفته به
الحكومة التركية في كردستان وموزوبوتاميا وقضى فيه ثمانية أشهر من مارس إلى
نوفمبر الماضي وقد اتفق له الوجود في إقليم بتليس حين حصول القلاقل المزعوم
حصولها في ساسون وهو يقرر أنه لم ير ولم يسمع شيئًا يؤيد ما ذاع خبره من
قصص (الفظائع الأرمنية) . (وقد أقام المسيو كزيمنس في القسطنطينية شهرًا
لكنه لم يود أثناء وجوده فيها أن ينافس في تلك الفظائع المدعاة بوجه من الوجوه ,
أما الآن فهو في لوندرا مع ووس باشا فلم يبق بعدُ سببٌ لالتزامه السكوت عنها
ورأيه هو أن الذين يجب توجيه كثير من اللوم المهم عليهم بما حدث في أرمينيا من
المشاغب هم المرسلون الأمريكيون المتشددون المقيمون في آسيا الصغرى , فهو
يقول: إن هؤلاء المراسلين يلقون على الأرمن من قشور التعاليم ما لا يناسب حاجات
طائفتهم , فتجد التلامذة المتخرجين عليهم لا يقنعون بعد تعلمهم بالرجوع إلى بلادهم
والاشتغال بأرضهم , بل إنهم على الدوام يهتفون بحرية الأرمن واستقلالهم , وقد
ظهر في معظم القلاقل التي حدثت ببلاد الأرمن أن محركيها هم تلامذة أولئك
المراسلين.
ثم قال المسيو كزيمنس بعد ذلك: إن ما نسب للأتراك عساكر وملكيين من
تعذيب نساء الأرمن وأولادهم وانتهاك حرماتهم لا أثر له من الصحة , وأن كل ما
وقع مما كثر به الإرجاف والتهويل إنما هو تشويش حصل من بعض الأرمن في
جهة فحسمت مادته فيها دون أن يتعدى ذلك إلى غيرها.
وبعد أن وصف المسيو كزيمنس ما وقع بين الأرمن والأكراد في أوائل
الصيف الماضي من المشاغب والمقاتل قال: إن الأرمن احتشدوا جموعًا كبرى في
ولاية تالوري على مقربة من ساسون , فطلب حاكم بتليس إلى الحكومة أن ترسل
بعضًا من الجند لتسكين الفتنة وإعادة النظام إلى أصله فصدرت الأوامر إلى زكي
باشا بجمع أربعة طوابير وهي تبلغ حوالي 1200 جندي وإرسالها على الفور
لتمزيق شمل الأرمن المتألبين فأدركتهم هؤلاء الجنود على ربوة في تلك الجهة ,
وطلبت إليهم التسليم فسخر منهم الأرمن لأن عددهم كان يقرب من ثلاثة آلاف ,
وأنشأوا يرجمونهم بالحجارة , ولم يقتصروا على ذلك , بل إنهم أطلقوا عليهم بعض
مقذوفات نارية فأجابهم العساكر بإطلاق الرصاص عليهم مرة واحدة فهربوا متشتتين
ثم اجتمعوا في وادٍ ضيق فأدركهم فيه العساكر ونصح إليهم القائد بكلام سلمي أن
ينصرف كل منهم إلى شأنه وأن يكفوا عن هذا الاحتشاد , فسمع بعضهم النصح
وانصرف , ولكن معظمهم بقي مصرًّا على عناده فأطلقت الجنود عليهم الرصاص
مرة أخرى , وبلغ كل من قتل منهم في هذه الواقعة ثلاثمائة وهي على قول مسيو
كزيمنس أهم شغب حصل في الفتنة كلها , نعم إن كثيرًا منهم أسروا لكنهم قد أطلق
سراحهم بعد) .
هذا ما حصل في بلاد الأرمن قد بيناه , أما ما يتعلق بالمحركين الحقيقيين
للفتنة وبما وصلوا بالأمور إلى ما صارت إليه فلا شيء فيه أجدر بالقبول بين
الناطقين بالإنكليزية من قول رجل مثل القسيس المبجل سايروس هملن في رسالته
الشهيرة التي نشرت في 23 ديسمبر سنة 1893 في الجريدة الدينية المسماة
(نصير الاستقلال الكنيسي) وها هي بحروفها.
لها بقية
***
من إدارة المنار
نرجو من القراء الكرام الذين لم يدفعوا لنا قيمة الاشتراك عن السنة الثانية
(وقليل ما هم) أن يقدموها لنا حوالة علي إدارة البريد أو طوابع بريد لأننا لم نظفر
بمحصل أمين بعد خيانة من سبق , وبهذا يحق لنا أن نفتخر بجميع قراء المنار ,
وأنهم من الخواص الأخيار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/164)
21 محرم - 1318هـ
20 مايو - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الترك والعرب
(1)
قام في الإسلام دول وممالك كثيرة أعظمها شأنًا وأطولها زمانًا وأشدها بأسًا
وأوسعها سلطانًا دولتا العرب بأقسامها والترك.
وإننا نرى الكتاب يخبطون في التفاضل بينهما خبط عشواء , وقد غلا بعضهم
في النيل من العرب حتى زعم أنهم لا قابلية فيهم للتمدن، ولا قدرة لهم على سياسة
الممالك وإقامة دعائم العمران , وأفرط هؤلاء في مدح الترك حتى كادوا يرفعونهم
عن رتبة البشرية إلى مصاف الملائكة المقربين، زاعمين أنهم ما وجدوا إلا ليكونوا
ملوكًا حاكمين، أو آلهة معبودين.
ومن الناس من تحامل على الترك حتى سلبوهم مزاياهم وفضائلهم وزعموا
أنهم خلقوا فتنة للناس وبلاء على الانسانية. فريق يتزلف فيعميه التزلف وفريق
يتعسف , فيضله التعسف.
وإننا نكتب نبذة في هذا المقام مما يمليه علينا التاريخ الصادق، ويشهد به
الوجود الثابت {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .
نكتب لبيان الحقيقة , والعلم الصحيح لا يكون إلا نافعًا، كما أن الجهل بحقائق
الأمور لا يكون إلا ضارًّا , فلا يمكن أن ينكر علينا كتابتنا هذه إلا من يفضِّل الجهل
على العلم، والظلمة على النور، والضلالة على الهداية.
ومن منافع العلم بهذه الحقيقة أن يعرف العرب الكرام، أنهم فوق ما يقول فيهم
أعداؤهم اللئام فينشطوا لدفع العار الذي يُرمَون به، ويجتهدوا في استرجاع مجد
سلفهم الصالح ومفاخر آبائهم الأولين , وأن يعرف الترك للعرب فضلهم كما
يعرف العرب لهم فضلهم، ويأخذ كل منهما بيد أخيه ويتعاونا على الوحدة الإٍسلامية
معتقدين أن الإسلام ساوى بينهما في الحقوق وآخى بينهما في الدين , وأنه ليس
وراء هذه إلا التفاضل بالأعمال، فيجب أن يكون عمل كل منهما متممًا لعمل الآخر،
وأن امتياز جنس على جنس كما كان سبب الضعف فيما مضى يكون سبب
الموت والفناء فيما يأتي من الزمن.
وصف مؤرخ الترك العالم الشهير جودت باشا الدولة العثمانية في كلامه على
تأسيسها بقوله: (إنها كانت جامعة الديانة والشجاعة العربية، متصفة بالثبات الذي
هو من أخلاق الترك , فلذلك كانت على صغرها في أول نشأتها مستعدة لأن تكون
كهفًا وملجأ للملة الإسلامية) .
وما قال هذا المحقق إلا حقًّا، فإن الترك نجحوا بهذه الصفات الثلاثة: العظمى
منها أخذوها كغيرهم عن العرب وهي الدين، والثانية شبَّههم فيها بالعرب والمشبه
به يكون أرقى وأقوى من المشبه في الصفة التي بها المشابهة، وأما الثالثة فهي مما
امتاز به الترك على كثير من الشعوب والأجناس وهي أحد الأسباب في ثبات ملكهم
وطول زمن دولتهم (أعزها الله وزادها ثباتًا وبقاءً بفضله وكرمه) .
وثَم سببان آخران جديران بالالتفات (أحدهما) أن الترك طُبعوا كجميع
الشرقيين ما عدا العرب على الخضوع الأعمى لرؤسائهم، وتقديس ملوكهم وأمرائهم
وإنما حصل التنازع على السلطة في العرب للمبدأ الديمقراطي الذي جاء به
الإسلام , وكان العرب أشد الناس استعدادًا له , ولكنهم ما رعوه حق رعايته , بل
تقلص ظله بعد الراشدين رويدًا رويدًا بضعف الدين في النفوس كما سنبينه بعد ,
و (ثانيهما) أن حالة البلاد الإسلامية التي نشأت فيها الدولة وفتوحاتها في جهة
أوروبا بلاد المسلمين وحالة المسلمين في البلاد المجاورة لها كانت تقتضي نجاح
هذه الدولة وثباته؛ ذلك أن الاختلافات السابقة والفتن والحروب الداخلية، وإغارة
جنكيز خان وأولاده وتدويخهم المسلمين وتنكيلهم بهم شر تنكيل- كل ذلك كان مريبًا
للأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها ومعدًّا لها بل ومُلجئًا إلى الخضوع والسكينة.
فهذا هو المانع للشعوب الإسلامية من الكر على الشعب التركي وتدويخه
وإزالة سلطته , وما كان أحد ليقوى في تلك الأزمنة على المسلمين إلا المسلمون
الذين كان بأسهم بينهم شديدًا، وما كانت إغارة تيمورلنك على البلاد الإسلامية في
أوائل نشأة هذه الدولة إلا زلزالاً عنيفًا صدع البلاد المجاورة لها وما أضر ببلادها
هي إلا قليلاً؛ ما أضر بالدولة بل رباها فإن السلطان بايزيد الأول الذي أسره
تيمورلنك كان منغمسًا في الترف مسترسلاً في اللذات وقد خانه عسكره فانضوى
قسم كبير منه إلى تيمورلنك على أنه كان لا يزيد عن تسعين ألف فارس وكان
عسكر تيمور 380 ألفًا من التتر الأشداء الغلاظ.
مات السلطان بايزيد بعد ثمانية أشهر من أسره (سنة 805 هـ) فتنازع
أولاده على الملك فولى تيمورلنك على البلاد العثمانية أمراء قرامان والسلاجقة
ورحل عنها إلى الهند بعد ما عاث وسلب ونهب، وظل سرير السلطنة إحدى عشرة
سنة بغير سلطان؛ فضعفت الدولة بذلك , ولكن لم يكن في جوارها دول قوية تغتنم
الفرصة فتُجهِز عليها ولذلك عادت إليها قوتها سريعًا على يد السلطان محمد جلبي
ابن السلطان بايزيد الأول الذي كان أول من أحدث العساكر البحرية في الدولة
وإرسال الصرة السلطانية إلى الحرمين الشريفين.
إنما الترك أمة حربية وما كانوا أشد بأسًا من العرب , وأين فتوحاتهم من
فتوحات العرب مع أن مدتهم أطول من مدة دول العرب كلها؟ البلاد التي فتحها
العرب هي التي نما فيها الإسلام وثبتت أصوله، وعلت فروعه.
ومعظم البلاد التي فتحها الترك كانت وبالاً على الإسلام والمسلمين , ولا تزال
تنذرهم بالبلاء المبين.
لا أقول: إن تلك الفتوحات مما يعاب بها الترك ويُذمون , ولكنني أقول: إن
الفضل الأكبر في الفتوحات الإسلامية للعرب , وأن الدين انتشر بالعرب واعتز
بهم , فأساسهم أقوى أساس ونبراسهم أضوء نبراس، وهم خير أمة أخرجت
للناس , ولا أنكر أن للترك فضلاً وذكاء ونبلاً , ولا أحب أن أطيل القول في
المقابلة بالفتوحات وما هو أكثر منها فائدة للإسلام والمسلمين فكل من له شمة من
معرفة التاريخ الماضي والحاضر يعرف أن معظم البلاد التي تمكن فيها الإسلام هي
مما فتحه العرب وانتشر الدين فيه بواسطة العرب.
وسنأتي في مقالة أخرى على المقابلة بين الجنسين في العلوم والفنون
والزراعة والتجارة وسائر أمور المدنية والعمران.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/169)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدين والدنيا والآخرة
(3)
أثبتنا في المقالتين السابقتين أن العقل والنقل والفطرة البشرية والأديان
السماوية، متفقة كلها على أن الله تعالى أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها؛
ليسعد بها لا ليشقى، وشرع له الدين ليوقفه بطلبها عند حدود الاعتدال , ويعلمه
قرن التمتع بالنعم بشكر المنعم، وذلك بأن يؤمن بأنه هو الواهب لها , ويجعل
مصالحه الخاصة منطبقة على المصالح العامة , ويسترشد في عمله بسنن الله في
شريعته وخليقته جميعًا , كما يعلمه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة فيأخذ نفسه فيها
بالعبادات والفضائل النفسية والمعارف الروحية التي تكمل بها السعادة في الدنيا،
ويتأهل بها للسعادة في الآخرة.
ولم ترد هذه التعاليم كلها على كمالها إلا في الديانة الإسلامية خاتمة الأديان
وما أخذت أمة من الأمم بدين سماوي , إلا وحسنت حالها بالأخذ به في حياتها الدنيا ,
وارتقت عما كانت عليه قبل ذلك، خصوصًا الأديان التي كانت قبل المسيحية ,
وأقربها إلينا اليهودية؛ فإن الزهد في الدنيا والإعراض عنها لم يكن من تعاليمها ,
ولم يُعرف عندها قولاً ولا عملاً.
وأما المسيحية فلم تكن إلا إصلاحًا في اليهودية وتتميمًا لها، فقد صرح القرآن
حكاية عن المسيح عليه السلام أنه قال: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ
لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: 50) ويروون عنه في الأناجيل أنه
قال: ما جاء لينقض الناموس وإنما جاء ليتممه.
فمن حق النصارى أن يكونوا يهودًا آخذين بالتوراة في عباداتهم ومعاملتهم مع
زيادة زهادة في الدنيا وإعراض عنها.
وأما المسلمون فلقد كانوا على صراط الدين في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وزمن الراشدين من بعده , وكانت الزينة والطيبات من الرزق في أول نشأة
الإسلام بالدرجة التي يقتضيها ذلك الطور المعانق لطور البداوة حتى إن الإمام عليًّا
كرم الله وجهه كان يرى أن أكل مخ الحنطة (أي الحنطة المنخولة) من النعيم وهو
أمير المؤمنين! ! ولما فتحوا الممالك واستفحل عمرانهم توسعوا في تناول الطيبات
واستعمال الزينة كما هو شأن الحضارة , وما كان الجمهور من الصحابة وأكابر
التابعين ينكرون من هذا إلا ما انتهى صاحبه إلى السرف وانغمس في الترف لما
يستعقبه هذا من الضعف عن حماية البيضة، والعجز عن تعزيز الأمة.
وربما أنكروا ذلك على من انتصب للإرشاد , وجعله الناس قدوة لهم فمثل هذا
ينبغي أن يكون عزاء للبائس الفقير، وتسلية للعاجز المسكين , وصرح غير واحد
بأن النبي والخلفاء الراشدين كانوا يختارون شظف العيش في عامة الأوقات لأجل
هذه الأسوة والقدوة.
قال في الإحياء: إن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى الإمام مالك بن أنس:
(بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، من
يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس. أما بعد , فقد بلغني أنك تلبس
الدقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطيء، وتجعل على بابك حاجبًا، وقد جلست
مجلس العلم , وضُربت إليك المطي , وارتحل إليك الناس فاتخذوك إمامًا، ورضوا
بقولك، فاتق الله يا مالك , وعليك بالتواضع.
كتبت إليك بالنصيحة مني كتابًا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى
والسلام) .
فكتب إليه مالك: (بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على محمد وآله
وصحبه وسلم.
من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد , سلام الله عليك , أما بعد فقد وصل إلي
كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب , أمتعك الله بالتقوى , وجزاك
بالنصيحة خيرًا، وأسأل الله تعالى التوفيق , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الوطيء،
فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، فقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) وإني لأعلم أن ترك
ذلك خير من الدخول فيه , ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا , والسلام) .
فانظر كيف قيد يحيى الإنكار على الإمام مالك بقوله: وقد جلست مجلس العلم
إلخ , كأنه يقول: إن الإمام القدوة ينبغي أن يراعي حال أضعف الناس لا سيما في
الطور التي كانت فيه الأمة يومئذ , ولقد أنكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على
معاوية ما كان فيه من الأبهة والسعة عندما كان أميرًا في الشام فاعتذر معاوية بحالة
البلاد والأمة المحكومة , وأنها لاتهاب الحاكم إذا كان رث الهيئة، فقبل عذره , وقد
لبس النبي صلى الله عليه وسلم الطيالسة الكسروية والجبة الرومية، وغير ذلك
من اللبوس الفاخر، لئلا يظن الموسرون أن إباحة ذلك في القرآن لا تنافي أنه
مذموم أو مكروه وإن اجتنب السرف والمخيلة.
ولقد بالغ رجل واحد من الصحابة الكرام في التزهيد، ورأى أنه يجب إنفاق
كل ما زاد عن الحاجة , فنفاه معاوية من الشام إلى المدينة ونفاه عثمان الخليفة
الثالث إلى الربذة حتى مات فيها، وذلك خشية أن ينتشر رأيه بين الناس فيضعف
هممهم عن الكسب وعمارة الدنيا , ثم حدثت الفوضى العلمية والدينية في المسلمين
عندما شغل ملوك بني أمية ومن بعدهم زخرف الملك عن القيام بحقوق الخلافة
فانتشرت التعاليم الفاسدة والآراء والمذاهب التي كانت تنجم في زمن الراشدين
فيبادرون لحصدها أو قلعها قبل أن يعلم بها جماهير الناس.
ومن أضر ما حدث الغلو في التزهيد، وحمل الناس على الاعتقاد بأن الدنيا
ضرة الآخرة على الإطلاق , وأن كل عمل يطلب للدنيا يغضب الله تعالى , ومن
كبر المصائب أن هذا التعليم كان ديدن الخطباء والوعاظ والقصاص الذين لا يسمع
العامة إرشاد الدين إلا منهم , وأنه انتشر بين جميع الفرق الإسلامية فزرع أهله فى
قلوب الأمة الإسلامية فسيل الكسل، ومقاومة ما تقتضيه الطبيعة والفطرة من الجد
والعمل.
إن الله - تعالى - زين للناس ما على الدنيا ليكون داعيًا إلى إحسان العمل
فيها كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7) وقد ورد في الحديث تفسير حسن العمل بالعقل أي ما يرشد إليه،
ولكن فريق المزهِّدين أو المكسِّلين فسروه بالزهد في الدنيا.
أخذ السواد من المسلمين هذه التعاليم بالقبول؛ لأنهم تلقفوها ممن يعتقدون بهم
كمال الدين كالعُباد والمتصوفة والوُعاظ وتبعها تعليم آخر أشد منها ضررًا , وهو أن
العلوم الدنيوية كالرياضيات والطبيعيات ويتبعها الطب والتشريح كلها مفسدة للعقائد،
وقائدة إلى الزندقة , وصارت هذه الآراء تقوى في الأمة كلما ضعف العلم،
وصار العلماء الراسخون يتحامون الظهور بإبطال هذه الآراء والتعاليم خوفًا من
إساءة ظن العامة فيهم واتهامهم بالزندقة لأنهم لم يَدعوا إمامًا من أئمة المسلمين إلا
واتهموه في عصره بهذه أو ما يقاربها حتى إن منهم من عد الاشتغال بعلم المنطق
كفرًا , ذكر ابن الوردي في حوادث سنة 639 من تاريخه ترجمة العلامة كمال
الدين بن معية الذي فضله العلامة أثير الدين الأبهري على الإمام الغزالي , وقال
فيها: إن ابن الصلاح الفقيه الشافعي المشهور سأل كمال الدين أن يقرئه المنطق
سرًّا فقرأه عليه مدة ولم يفهمه، فقال كمال الدين: يافقيه , المصلحة عندي أن تترك
الاشتغال بهذا الفن لأن الناس يعتقدون فيك الخير , وهم ينسبون كل من اشتغل به
إلى فساد الاعتقاد فكأنك تفسد عقائدهم , ولا يصح لك من هذا الفن شيء.
قال ابن الوردي: (ولغلبة العلوم العقلية على كمال الدين اتهم في دينه , وهذه هي
العادة) فتأمل قول المؤرخ: (وهذه هي العادة) .
والمشهور عن ابن الصلاح أنه كان يحرم المنطق قال في السلم:
ابن الصلاح , والنواوي حرما ... وقال قوم: ينبغي أن يُعلَما
فلينظر أي النقلين أصح؟ على أنه يمكن الجمع بأنه رجع عن التحريم بعد
القول به في العلوم الدنيوية؛ لعلمهم أن الدنيا سياج الدين ومزرعة الآخرة ,
وكانت العامة على خلاف رأيهم.
وأما في هذا العصر فقد انحط العلم حتى صار العلماء هم الذين يَنْفُرُون
ويُنَفِّرُون عن هذه العلوم والفنون , وصار قسم كبير من العامة يرغبون فيها
ويحملون أبناءهم على تعلمها , والسبب في هذا ظاهر؛ فإن التطلع إلى سعادة الدنيا
هو مرمى أبصار جميع الناس , والعلوم الدنيوية في القرون السالفة لم تكن من
وسائل الترقي في الدنيا , وإنما كان العلماء مسوقين إليها بإرشاد القرآن الطافح
بالحث على النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكانوا
مكتفين من الثمرة بقوة الإيمان ولذة العقل اللذين فيها , ولم يكن للعامة حظ من ذلك.
أما العلم بالقرآن وبما يرشد إليه من أنواع المعارف فقد ضعف في صنف
العلماء وانحصرت فوائد هؤلاء الدنيوية في مناصبهم الدينية، وأما العامة فإنهم رأوا
الفائدة فيها فأقبلوا عليها، فكم من فقير حقير علم ولده فخرج موظفًا أو مهندسًا أو طبيبًا
فاستغنى بماله واعتز بجاهه.
وقد ساوى العلماءُ العامة في هذا الإقبال عملاً , وإن كان منهم من يذمه قولاً.
ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما تدر لها ثعل
كتب الشيخ محمد راضي البحراوي أحد أساتذة العلم في الأزهر مقالات يذم
فيها علم الحساب وتقويم البلدان , وكتب غيره منهم يؤيد رأيه , وزعما أن جميع
شيوخ الأزهر على رأيهما في ذلك ولكني علمت من بعض أهل الأزهر أن الشيخ
محمد راضي هذا , بل والأستاذ الأكبر شيخ الجامع يعلمان ولدهما هذه العلوم.
يقول قائل: إن التزهيد في الدنيا لا يؤثر في النفوس لكونه على خلاف سنن
الفطرة , ولم يوجد في الأمة من الزهاد الذين تركوا الدنيا باختيارهم ظاهرًا وباطنًا
لأجل الآخرة إلا نفر قليل كإبراهيم بن أدهم - رحمه الله تعالى - وأكثر المنتحلين
للتصوف المدعين الإعراض عن الدنيا للتقرب من رضوان الله تعالى كانوا وما
زالوا يطلبون الدنيا بهذه الأعمال؛ لأنهم وجدوها أقوى ذريعة للمال والجاه , وهم
في هذا أبعد عن الزهد الحقيقي من الأغنياء لأن الزهد عمل قلبي كما سنوضحه بعد ,
وقد فضحهم الأئمة المحققون في التصوف كالغزالي وغيره , فكيف تقول: إن
ذلك أضر بالمسلمين؟
والجواب عن هذا واضح , وهو على وجهين (أحدهما) أن من مضرته
وجود الألوف من رجال الدين عبادًا وعلماء لا عمل لهم , وإنما يعيشون عالة على
الناس ومن الخلفاء الراشدين من كان صانعًا ومنهم من كان تاجرًا , وما التكايا التي
أحدثها المسلمون إلا كالأديار عند المسيحيين، ولكنهم لا يوجبون على من دخلها أن
يكون راهبًا طول حياته.
و (ثانيهما) أن المضرة قد ظهر أثرها في مجموع الأمة فعلاً حتى هبطت
من الأوج إلى الحضيض , وهكذا شأن التعاليم النافعة والمضرة لا يعرف تأثيرها
إلا بمثل ذلك , وإن شئت تعليلاً عقليًّا يثبت لك تأثير الغلو في التزهيد باسم الدين
على ما فيه من مخالفة سنن الفطرة فتأمل في حال كل من يعمل عملاً تقتضيه
الطبيعة والفطرة اقتضاء حتمًا أو غير حتم , وهو يعتقد سوء مغبتهِ تجده في عمله
ضعيفًا لا يبلغ الغاية منه.
انظر لمن يحمله الغضب على الضرب وهو يخاف الله أو عقوبة الحاكم كيف
يكون ضربه دون ما تبلغه قوته لولا ذلك الخوف , وربما يكون في وقت الضرب
ناسيًا لمراقبة الله , وغير متفكر في عقوبة الحكومة , ولكن نسيان ما انطوت عليه
النفس وعدم ملاحظته والتفكر فيه لا يبطل أثره , وتأمل كيف أن العرب ما أتقنوا
فن الموسيقى في أيام حضارتهم مع اشتغالهم به مجاراة للطبيعة الميالة إليه، وما
ذلك إلا لأن فقهاءهم يذمونه ويحرمون بعض آلاته.
__________(3/172)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(7) من هيلانة إلى أراسم في 3 أبريل - سنة - 185
قد أتاني السيد… بشيء من أخبارك بعد طول تطلعي إليها فاطمأن قلبي قليلاً
بما قاله لي عنك , وزال بعض ما كنت أجده من الجزع عليك.
لا يخطرن ببالك أني نسيت ما تلقيته من نصائحك وتعاليمك في تربية (أميل)
فإني باذلة قصارى جهدي في تعريفه بما حوله من الأشياء , وفي هذا المقام أقول:
إني أحسبني قد تبينت أن فتور مشاعر الطفل ينشأ من عدم التفاته إلى
المحسوسات أكثر من حدوثه من ضعف تلك المشاعر فإن في قدرته أنه يدرك
أصوات كثير من الأشياء الخارجة وألوانها تمام الإدراك لو أراد أن يكلف نفسه
الإصغاء والنظر إليها , ولكن لما كانت هذه الأشياء لا تستميله كان يغفلها إغفالاً كليًّا.
وجملة القول في ذلك: إنه لا بصر له ولا سمع إلا فيما يحب إبصاره
وسماعه، وإذا كان هذا شأنه فكيف السبيل إلى معرفة ما يروقه من الأشياء وما لا
يروقه؟ إني أعترف وأنا صاغرة بأني كثيرًا ما أخطأت في استعراف تلك الأشياء ,
فليس كل ما أتخيره منها لتنشيط حاسة اللمس في (أميل) يحب أن يجيل فيه يديه
الصغيرتين , ثم إن أبهى الألوان وأجملها في نظري تمر أمام عينيه مرور الظلال
فلا تستلفته أقل استلفات , وأنا أظن أننا معشر الأمهات مدفوعات في هذا الأمر وفي
غيره إلى إحلال أذواقنا محل أذواق الأطفال.
إن جورجيا وهي أقل مني ارتياضًا بالعلم لأنجح منى أغلب الأحيان في
سياسة (أميل) فإنها تجد بغريزتها ما يعجبه ويسليه وينبه قوة الاستطلاع فيه، وربما
كانت تستعرف رغائبه فتسعى في تحصيلها له , وسبب ذلك أنها كما تعلم قد
كانت والدة لثلاثة أولاد حرمها منهم الرق على التعاقب ولا تدري أين هم الآن، فلا
بدع إذن في شدة تعلقها بأميل ومحبتها له، وإني لفي وجد عليها من حبها إياه أكثر
مني، وحاشا أن يكون ذلك حسدًا فإنه مستحيل , وإنما الذي أحسدها عليه هو
قدرتها على أن تكون طفلة مع الطفل، فهل هذا هو الذي تعنيه بكلامك في استعداد
المرأة الزنجية للأمومة؟ ليت شعري هل تصدق أن أميل قد صار من أصدق
التابعين لزور واستر [1] أعني أنه يعبد الشمس؟ من أجل أن تعتقد ذلك ينبغي أن
تراه لتنظر كيف يبسط ذراعيه إلى ضيائها فرحًا برؤيته.
كان الشتاء عندنا في غاية السهولة فلم ينزل فيه الثلج إلا مرتين على أنه كان
فيهما يذوب بمجرد ملامسته الأرض , ولا تزال الأشجار مجردة من أوراقها ,
فالريف العاري من الخضرة كالبيت الخالي من الفراش والأثاث , ولكن نفحة من
الحياة أنشأت تدب وتسري في مادة الكون جميعه , ولن تلبث أن تملأ ما خلفه
الفصل المنقضي من الفراغ , وقد أمست الآصال عندنا في غاية الصفاء واللطف
ولذلك ترى أميل إذا رأى الجو صحوًا أبدى من القلق ما يدل على رغبته في أن
يُحمل إلى الحديقة.
ولما كانت الشمس في (كورنواي) خصوصًا زمن الربيع لا ضرر فيها على
أحد , بل إنها تلائم الأطفال والشيوخَ اعتادت جورجيا أن تفرش سجادة على
الحشيش الجاف وتُجلس عليها (أميل) ليلعب ويمرح كما يشاء , ولما رأيته يعتمد
علينا في حراسته مدة وجودنا معه قصدت أن أعلمه شيئًا من الثقة بنفسه والارتكان
عليها , فأوعزت إلى جورجيا بالتنحي عنه , واختفيت عن بصره أنا أيضًا من غير
أن يغيب عن عيني فلاحظت أنه في مبدأ الأمر خاف عندما فكر في وجوده وحيدًا
وأبدى بعض القلق لكنه ما لبث أن تشجع وقوي قلبه , فكنت حينئذ أراه يفتح عينيه
ويلتفت إلى كل ما يجول حوله , ويحرك يديه الصغيرتين كأنه يذود ذبابة تطن فوق
رأسه فأخذت على نفسي من هذا الوقت أن أكف عنه مراقبتي حينًا بعد حين حتى
إذا أحس بقلة حمايتي له؛ تعلم كيف يستغني عن مساعدة غيره.
إني كلما فكرت في فروض الأمومة بدا لي منها معنى قلما يشابه ما يفهمه
غيري من النساء , فإني أرى أنه من الواجب علي بمجرد أن يكبر (أميل) أن
أحرم نفسي من لذة مكاشفته في كل وقت بأني مهتمة به؛ لأن أكبر شيء يعيق نمو
المشاعر في بعض الأطفال , ويعطل استقرار طباعهم إنما هو فيما أرى طريقة
القائمين عليهم في تربيتهم , فإنهم بكثرة حياطتهم إياهم بضروب من العناية البالغة
غايتها من الظهور والناشئة عن فرط الاهتمام بهم - يعودونهم على أن يعيشوا غير
مهتمين بأنفسهم , فإن الطفل إذا كان غنيًّا متعجرفًا كيف يتكلف إعمال ملكة الاحتفاظ
بنفسه , كلا بل يكون شأنه مع نفسه كملوك الشرق الحمقى الذين يهون عليهم أن
يسموا مشيري دولهم أبصارهم وأسماعهم طيبة بذلك نفوسهم، لأنه يعتاد على أن
يستعين في إبصاره وسماعه بالمربيات القائمات عليه المكلفات بخدمته , وتَعرُّف
حاجاته لقضائها، فماذا يكون حال هذا الطفل المبالَغ في حفظه إذا رأى نفسه يومًا
ما بعد أن كان محوطًا بأمتن أسباب الوقاية قد خلي بينه وبين أقل خطر يلم به؟ لا
شك أنه يكون أسوأ الناس حالاً، وأكسفهم بالاً، بل يكون هو الشخص الذي يحكى
عنه أنه كان يخاف من خياله.
إن (أميل) يدعوني بأفعاله وأحواله إلى التفكر في كل شيء , فقد ذكرني
بالأمس شخصًا من المذكورين في أساطير الأقدمين، ذلك أن الأطفال لا حساب
للمسافات عندهم , وهذا الأمر فيهم منشأ لكثير من الأغاليط البصرية الكثيرة، فقد
كنت في الحديقة وكانت جورجيا واقفة في أحد شباببك المنزل المشرفة على مكاني ,
وهو على يديها فلم يكن إلا أن رآنى حتى بدت عليه علائم الابتهاج , ومد إليَّ
يديه كالجناحين على أن الشباك الذي كان فيه هو في الطبقة الأولى من البيت فلما لم
تصل إلي يداه ظهر عليه الاندهاش , ثم أفضى به الأمر إلى أن غضب واحمر
وجهه، والذي كان يبتغيه منى بحسب ما يحلو لي اعتقاده هو ما أبديه له من
صنوف الملاطفة والمداعبة، بل كان يريد أيضًا التقام ثديه؛ لأنه لم يكن رضع من
بضع ساعات فلم يكن لهذا المحبوب المسكين مثيل في عذابه هذه إلا طانتال [2] .
أأكون واهمةً إن قلت: إن أميل قد عرفك , بل إنه قد عرف صورتك التي
أريه إياها ذاكرة له اسمك.
أنا لا أعتقد أن هذا وهم فإني بحملقته في مثالك وابتسامه له ومده يديه
نحوها إخاله قد عرف والده تخمينًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) زور واستر هو شارع ديني للأمم البكثريانية وهم سكان قسم من آسيا كان يدعى قديما بكثريانيا وهو الآن تركستان وهذا الرجل هو المؤسس للديانة البرسية التي تدعو الآخذين بها للاعتقاد بإلهين , وهما: الضياء والظلام أو منشآهما وروحا الخير والشر ويسمى الأول (أورموزد) والثاني (أهريمان) أو (أهرمن) وهذا هو أصل مذهب المانوية.
(2) طانتان في أساطير الأقدمين هو ملك فريجيا التي هي قطر من أقطار آسيا الصغرى وكان قدم للآلهة أشلاء أولاده طعامًا فعوقب بالجوع والعطش في جهنم ويضرب بعذابه المثل فيقال: يعذب عذاب طانتان، إذ كان على الدوام يعتقد أنه قد صار من رغائبه بمكان اللامس، وهو في الحقيقة عاجز.
عن إدراكها.(3/178)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(الإسلام)
طبعت جمعية التأليف رسالة بهذا الاسم جمعت فيها من جريدة المؤيد مقالات
المسيو هانوتو الأخيرة , وما جاء في الرد عليها لأحد أئمة المسلمين وعظمائهم
ولحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة , ولا حاجة
بنا للترغيب في اقتناء هذه الرسالة فإن ما فيها قد أخذ من نفوس المسلمين مأخذًا
وأثر فيها تأثيرًا لم يعهد له نظير.
ومن الناس من نسخها بخطه، ومنهم من حفظ نسخ المؤيد التي نشرت فيها،
وتمنى السواد الأعظم لو تطبع لتحفظ , وتكون عبرة ومرشدًا لهم على ممر الأيام.
مقال هانوتو جرح القلوب، وآلم الوجدان، ومقال الإمام كشف ظلمة الشبهة ,
وأنار مصباح الحجة، وقذف بالحق على الباطل فدمغه.
وقد أجمع الناس على استحسانه حتى فضلاء المسيحيين , ولم يوجد فيه مغمز
لغامز ولا مطعن لطاعن، فإن اتفق شذوذ واحد نقول فيه:
ليس كل خلاف جاء معتبرًا ... إلا خلاف له حظ من النظر
والرسالة تطلب من إدارة مجلة السمير الصغير، ومن حضرة الفاضل حسن
أفندي وصفي بعموم الأوقاف ومن مكتبة المعارف في شارع بين الصورين , وثمنها
ثلاثة غروش.
***
(نور الإسلام)
مجلة علمية أدبية إسلامية لصاحبيها الفاضلين الشيخ أمين أبي يوسف المحامي
ومحمود أفندي عبد الكريم التاجر في الزقازيق تصدر في أول ومنتصف كل
شهر عربي , وقيمة الاشتراك بها في القطر المصري عشرة قروش أميرية في
السنة , وفي الخارج خمسة عشر قرشًا تدفع سلفًا , وهي قيمة لا يراد منها الكسب.
وقد صدر العدد الأول منها في 15 المحرم الحال مشتملاً على المقالات النافعة
والإرشادات القويمة والنصائح الحكيمة، وقد جعل فيها بعد المقالات الأولى باب
للتفسير يكتب فيه منشئ هذه المجلة (المنار) نبذًا مما يقتبسه من درس الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وبعده باب العبادات ينشر فيه أسرار
العبادات وحِكمها , وسيزاد على ذلك بيان الضروري من الأحكام وبعده العقائد
وتنشر فيه الآن (رسالة التوحيد) تباعًا وهي الرسالة التي لم يؤلَّف مثلها في
الإٍسلام , فعسى أن تصادف هذه المجلة النافعة ما تستحق من الإقبال عليها ,
وتستقيم على الطريقة التي أشرعتها , وهي تطلب من صاحبيها في الزقازيق.
***
(الإخاء)
جريدة عمومية تصدر في كل عشرة أيام مرة لحضرة الفاضل محمود كامل
أفندي كاشف ورئيسا تحريرها الشاعران الناثران أحمد أفندي محرم وأحمد أفندي
الكاشف , وقد صدر العدد الأول منها في عاشر المحرم وفيه بعد الفاتحة متصلاً بها
بحث مسهب في الإخاء وشرائطه يتبعه ببان المقصد من الجريدة وهو شد أواخي
الإخاء وما يستلزمه , وقد جاء في بيان خطة الجريدة هذه الجملة المفيدة: (ولا
نريد أن نختط لجريدتنا هذه ما يختطه بعض أرباب الصحف من الخوض في
الشخصيات أو التعرض للخصوصيات تزلفًا إلى عظيم، أو تقربًا من كبير أو
انتقامًا لعاطفة غضبية، وقضاءً لأغراض نفسية , فتلك هي آفات الجرائد وبلاياها
التي حطت من قدرها، وحقرت من أمرها , بل هي أدواء الأمة التي كادت تأتي
على قواها، وتوردها موارد رداها , فالاشتغال بهذه الهنات واقتراف تلك
المنكرات ذنب لا يجب أن يغتفر لذوي هذه المهنة الكريمة، المتصدين لأداء
وظيفتها العظيمة) ثم جاء فيها بعد مقالة في أوربا والإسلام قصيدة غراء من أرق
الشعر وأعذبه في مديح سماحة أبي الهدى أفندي الشهير ومن أبياتها في الفخر
والتقرب.
أنا سيفك اشهرني على هام العدى ... فالسيف ليس يخيف حتى يشهرا
وانط إلي (؟) خمائل الفخر التي ... أنا أهلها لأزيد قومي مفخرا
ومنها في المدح والاستماحة
هو عدَتي للحادثات وعمدتي ... في المشكلات أرى به ما لا أرى
إن رمته للجود رمت كنهورا ... أو هجته للخطب هجت غضنفرا
فيه الغنى كل الغنى وهو الحمى ... كل الحمى يثني المخوف إذا انبرى
والقصيدة كلها درر , فنسأل لهذه الجريدة التوفيق للوقوف عند الخطة التي
اختطتها لنفسها في العبارة السابقة والرواج والنجاح المكافئين لخدمتها , وهي تصدر
في طوخ (قليوبية) وقيمة الاشتراك فيها 25 غرشًا في السنة.
***
(رواية الروضة النضيرة في أيام بمباى الأخيرة)
تصف هذه الرواية مدينة بومباي الرومانية الزاهية قبل أن ينفجر عليها بركان
فيزوف ويغمرها , وتصف ما كان عليه الرومانيون وقتئذ من الترف والنعيم وسعة
العمران , وتشرح أخلاقهم وعاداتهم , وأفيد ما فيها وصف حال المسيحيين الذين
كانوا منبثين في بلاد الرومان يدعون إلى دينهم من يرونه أهلاً مع غاية الحذر
والاستخفاء , ولكن شرح حال الدعوة إلى الدين المسيحي في الرواية ليس إخبارًا
عن جزئيات واقعة، وحوادث معروفة , ولكن المعروف بالإجمال أن هذا الأمر كان
موجودًا وواقعًا , وقد صوره مصنف الرواية تصويرًا ينطبق على العقيدة التي عليها
المسيحيون اليوم.
مصنف الرواية هو اللورد ليتن الإنكليزي ونقلتها إلى العربية الفاضلة المهذبة
فريدة عطية بنت صديقنا الفاضل المعلم يوسف عطية وهي تباع بمطبعة الهلال
وثمنها عشرة قروش.
***
(ثمرات الفنون)
نهنيء صاحب هذه الجريدة الفاضل الكامل سعادتلو عبد القادر بك أفندي
القباني رئيس مجلس بلدية بيروت بدخول جريدته في السنة السابعة والعشرين وهي
في طريقها القويم، وعلى صراطها المستقيم، تتحرى الصدق والنصيحة بقدر
الإمكان، في مواقف يعز من يصبر فيها على نار الامتحان، حتى صار لها في
الجرائد السورية المكان الأعلى من نفوس المسلمين , وكيف لا وإن عددًا منها لا
يخلو عما يهم المسلمين معرفته مما لا يوجد في غيرها فلا زالت تزيد ارتقاءً
ونجاحًا.
***
(النظارة)
مجلة علمية أدبية فكاهية (تصدر بمصر في يوم الاثنين من كل أسبوع
لمحررها ع. كامل) وقيمة الاشتراك فيها أربعون غرشًا في السنة و30 للتلامذة
ووكلاء البريد وتدفع أقساطًا , وللمجلة ثلاثة أبواب: الأول منها للأخبار والبرقيات،
والثاني للأشعار والأزجال والثالث للآداب والحكايات، والعلوم والمخترعات وقد
صدر العدد الأول منها بورق جيد فنسأل لصاحبها التوفيق والنجاح.
***
(الهوانم)
جريدة فكاهية سياسية انتقادية تصدر بشكل المجلات في يوم الأحد من كل
أسبوع لم يصرح صاحبها باسمه وهو مسلم مصري لما فيها من المباحث الغرامية
والنسائية , وإذا أُعطيَتْ هذه المباحث حقها من النزاهة , وابتُعد بها عما يخل
بالآداب تكون من أنفع ما يكتب , والسواد الأعظم من الأمة في أشد الحاجة إلى
معرفة الآداب في طور الصبا , والميل إلى الزواج وحسن الاختيار فيه وما يتعلق
بذلك , ثم معرفة شئون المنزل وأخلاق النساء وعاداتهن في جميع أحوالهن , وهذه
المعرفة والحث عليها أنفع للأمة من معرفة السياسة وأحوال الممالك.
وكثيرًا ما كاشفت بعض أصدقائي الفضلاء برأي يختلج في ذهني كثيرًا وهو
أنه إذا وجدت جريدة أدبية غرامية يحررها بعض أصحاب المعارف والآداب
الصحيحة العارفين بمنافع الأمة يمكن أن ينتفع بها أكثر مما ينتفع بسائر الجرائد
السياسية والعلمية بل والتهذيبية، فيمكن لصاحب جريدة الهوانم النبيه أن يتدبر ما
قلناه ويتحرى العمل به بقدر الإمكان والله الموفق.
***
(لجنة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي سنة 1900)
أهدتنا لجنة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي التي تألفت في هذه السنة الشمسية
وأقامت الزينة التي نوهنا بها في وقتها كراسة مطبوعة بالعربية والفرنسوية تتضمن
تقريرها العمومي (وميزانية الإيراد والمصروفات) جعلتها (تذكارًا لهذا العمل
العظيم ولكل من اشترك فيه) وعلم منه أن مجموع الدخل كان 136230 غرشًا
ونصف غرش , ومجموع النفقات 50199 غرشًا ونصف غرش.
ومن الدخل 20031 غرشًا لم تحصل فيكون صافي الدخل 66000 أقرت
اللجنة على توزيعه على الجمعيات الخيرية لجميع الطوائف وهي عشرون جمعية
ثلاث منها للمسلمين وهي الجمعية الخيرية الإسلامية وقد أصابها 180 جنيها
والجمعية الايرانية وقد أصابها 15 جنيها وجمعية العروة الوثقى والذي أصابها 32
جنيها.
وواحدة للإسرائيليين وقد أصابها ستون جنيهًا والباقي وقدره 373 جنيهًا
أعطي لسائر الجمعيات المسيحية وطنية وأجنبية , ويستثنى منه 21 جنيهًا لمدرسة
حلوان الخيرية وهي مدرسة أهلية.
وقد لاحظ بعض الناس أن أكثر هذا المال من المسلمين، وأعطي أكثره
لغيرهم , وليس هذا بشيء مهم , ولكن المهم كل المهم هو قلة الجمعيات الخيرية
الإسلامية مع أن المسلمين في البلاد أكثر عددًا ومالاً , وأحوج إلى الجمعيات
الخيرية من سائر الطوائف؛ لأنهم وراءها كلها في العلوم والفنون وسائر شؤون
المدنية والاجتماع.
__________(3/183)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(مآثر مولانا الخليفة والسلطان الأعظم)
نوهنا مرارًا كثيرة في مجلتنا وخطبنا بمآثر أعمال مولانا السلطان عبد الحميد
خان أيد الله دولته وأنفذ شوكته , وبينا أن أعظمها شأنًا وأسطعها برهانًا ,
وأحسنها وقعًا , وأعمها نفعًا , وأرفعها ذكرًا , وأطيبها نشرًا , هو إنشاء الألايات
الحميدية وتعميم التعليم العسكري في طرابلس الغرب , واقترحنا أن يكون هذا
الأخير عامًّا في جميع الولايات العثمانية.
وقد قرأنا خطبة اللورد سالسبري رئيس الوزارة في الدولة البريطانية التي
حملها إلينا البريد الأخير , فألفيناه يرغب فيها أمته بالإقبال على تعميم التعليم
العسكري , وصرح بأن البلاد لا تكون آمنة من خطر المستقبل إلا بهذا وهي موافقة
لرأينا نرجو أن تحمل الدولة العلية على المبادرة لهذا العمل العظيم.
وأقول الآن: إن (المأثرة الرابعة) من مآثر مولانا الكبرى هى مدرسة
العشائر في الأستانة وإنما كمال نفع هذه المدرسة بإلزام كل من يدخلها تعلم الفن
العسكري.
(والمأثرة الخامسة) هي إنشاء سلك الأخبار البرقي بين السلط من سورية
وبين الحرمين الشريفين , وقد ذكرنا الخبر في الجزء الماضى , ونزيد الآن أن
الجرائد السورية أنبأتنا بأن سعادتلو صادق باشا المؤيد العظمي حاجب مولانا
السلطان قد حضر إلى دمشق الشام ليتولى رئاسة هذا العمل المبرور عملاً بالإدارة
السلطانية الواجبة الاتباع , وطول هذا الخط 2500 متر , وعلم الناس أن نفقته من
الجيب السلطاني الخاص.
(وأما المأثرة السادسة) فهى إنشاء سكة حديدية بين الشام والحرمين
الشريفين , وقد أشرنا إليها في الجزء الماضي , ثم علمنا بأن الأمر السلطاني قد
صدر بذلك حقيقة , وأن نفقاتها ستكون من خزينة الدولة , وأن الهمة موجهة
للإسراع بالعمل , ولعمري إن هذه المأثرة هي التي تخلد الذكر الحميد لهذا السلطان
الكريم والخليفة العظيم في الألسنة والكتب ما دام يوجد في الدنيا مسلم يحج بيت الله
الحرام , فحق لنا أن نعيد ما قلناه قى مآثر مولانا من قصيدة نشرت في المجلد الأول
من المنار وهو:
مآثر كهتون المزن هامية ... تواترت بين مرئي ومروي
قد طوقت كرة الدنيا مناطقها ... منها بنورٍ ولكن غير شمسي
بالكم والكيف تأبى الاشتراك بها ... بالرغم عن هذيان الاشتراكي
تعزى إلى شخصه السامي فلست ترى ... سوى حميدية اسم أو حميدي
***
(جمعية شمس الإسلام في طنطا)
(لحضرة الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندى الرافعي)
حضرة الأستاذ الفاضل منشئ المنار الأغر.
نظرت نظرة فى الوجوه فإذا هي تضحك وتعبس وتنكر وتعرف , وإذا منها
الكاشر نابيه والمرائي بعينيه والمصيخ بأذنيه , بينما هذا يفتقد الخطوب لتعم
الكروب إذا غيره يرتق الحوادث لتزول الكوارث , تحالف وتخالف , وتآلف
وتجانف , ومحبة وبغضاء , كأنهم لأنفسهم أعداء , حتى عميت عليهم المذاهب ,
وانسدت أمامهم المهارب , فأعدت النظر فإذا منهم جاهل شرب السم ثقة بالعقاقير
لا يشرب السم الزعاق أخو حجى ... وثوقًا بدرياق لديه مجرب
فتركت العين وما تراه , والأمر وما وراه , حتى خفتت جنادب الذهول
وسمعت القرآن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) فاطمأن الخاطر , وقر الناظر , وما عتم الصدر أن
رحب حتى ضاق , وكشفت الحقيقة عن ساق وسمعت النداء , كيف الاهتداء وقد
ترك الأمر بالمعروف , وأصبح المنكر مألوف , والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(الدين النصيحة) - فما زال الهاجس يتردد في الفكر , والانفعال يتلجلج في
الصدر , حتى غلبت سطوته , وقوية شوكته , فاستنجدت بالعلم , وسألته بيان الحكم ,
فقال: لا يهولنك اختلاف الناس في الوسائل والذرائع , فإنهم متفقون على اجتناب
المضار , وجلب المنافع.
والرب واحد , والأب واحد , والدين واحد , والكتاب واحد , والضر واحد ,
والنفع واحد؛ أفلا يكونون كرجل واحد؟ فقلت: الأمر كما قلت , ولكن
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم
فقال: قد خانك العقل , وفاتك النقل {لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر:
53) , {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) هنالك نظرت
المسلمين فرأيت من ذكر قد سقط في يده , وفت في عضده , وأقلع وأناب , ورجع
وتاب , فأعلنت في الناس أن يجتمعوا لينتفعوا , وجعلت المقر مسجد البهي قدس
الله سره , والميعاد مساء الخميس , ثم كتبت ورقة عليها (جمعية السنة الإسلامية)
وأعطيتها لإنسان , فأقبل في البلد وأدبر , ونادى فحشر , وما أزفت الساعة الثانية
بعد الغروب حتى غصت مشاعب المسجد , وأقبل الناس من سائر الأجناس ,
وازدحمت سفن الأقدام , وتلاطمت أمواج المناكب , وأذن الله أن أقوم فنهضت ,
وأن أتكلم فخطبت. هنالك انحنت الرءوس وائتلفت النفوس , ودمعت العيون ,
وخشعت الأصوات {وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ} (طه: 111) وصفْتُ الإسلام
في الغابر والحاضر بما روض الصعب وجذب النافر , وما جلست حتى نهض
حضرة الأديب والشاب النجيب محمود أفندي الشبيني فأطرب وأغرب , وجاء بما
أثار الحنين وعضد اليقين. نثر أزهار الكلام , ونظم نصائح الإسلام , وقد كانت
الخطابتان من الطول بحيث لم يبق مجال لأحد أن يقول , وقد اتفقنا على أن تكون
هذه الجمعية من شعاع شمس الإسلام , لعل الثبات يطير إلينا طيران السهم , ويطلع
علينا طلوع النجم , فما جواب حضرة الأخ على ذلك لأخيه.
... ... ... ... ... ... طنطا في 18 محرم سنة 1318
(الجواب) شكر الله أيها الأخ مسعاك , وجزاك عن نفسك وعن ملتك وأمتك
خيرًا , ومرحبًا بك وبهذه الجمعية التي أنشأتها , وقد تقبلتكم جمعية شمس الإسلام
بقبول حسن , ورضيت مع الابتهاج والسرور بأن تكونوا فرعًا لها عسى يتحقق
فيها وفيكم مثل التنزيل {شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) وينبغي أن تسمى باسم الأصل أيضًا كما هو الشأن في جميع
الفروع , وتصل إليكم في البريد مجلة الجمعية فراعوا أحكامها واعملوا بها , وما
هي إلا التعاهد والتآخي على التأدب بآداب الدين والعمل بهدي الكتاب والسنة ,
واعلموا أن من يحمل المسلمين على غير هذا ويزعم أنهم يرتقون بما عداه فهو إما
جاهل وإما غاش , فلا شأن لجمعيتنا بالسياسات ولا بالحكومات , وإنما تدعو
المسلمين إلى الحب والصدق والأمانة والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر , ومن الآداب التي يمتاز بها أعضاء الجمعية على غيرهم مجاملة
مجاوريهم من المخالفين لهم في الدين واحترامهم وعدم غمط حق من حقوقهم ,
ولا يقبل في الجمعية فاسق إلا إذا تاب وأناب , وأرجو أن أوفق لزيارتكم
عن قريب.
***
(إبطال مولد أبي العيون)
شرحنا في مقالات كثيرة مفاسد الشيوخ الذين جعلوا التصوف حرفة من حرف
الكسل , وما يتخذون لذلك من الأسواق المعروفة بالموالد. ومن هذه الموالد التي
تقام في الصعيد مولد الشيخ أبي العيون وقد اشتهر عن الشيخ الذي يقيمه أمور لا
نشرحها لأنها تتعلق بشخصه , وقد استأذن في هذه الأيام من سعادة المفضال الهمام
حشمت باشا مدير أسيوط بإقامة المولد فأصدر سعادته أمرًا رسميًّا بإبطال هذا المولد
لعلمه بما فيه من المنكرات والفواحش التي يعم ضررها ويفسد جو الصعيد الطيب
قذرها , فانطلقت ألسن العقلاء والفضلاء بالدعاء والثناء على سعادته , وقد كتب
إلينا من يوثق به هذا الخبر مؤكدًا بأنه ليس في جانب منكرات مولد أبي العيون
فائدة تجارية ولا غير تجارية , فعسى أن يكون في هذه المأثرة التي صدرت عن
سعادة المدير عبرة عامة للمغترين بصاحب هذا المولد من العامة الذين يسمحون له
بغشيان منازلهم في حضورهم وغيبتهم , ويبيحون له الخلوة بالنساء لأجل التبرك به
وليعلم هؤلاء أن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يكلم إحدى أزواجه
الطاهرات في باب المسجد فمر رجلان فأسرعا في المشي فناداهما وقال لهما: إنها
فلانة. وقد قال العلماء: إن من الفائدة في هذا تنبيه المسلمين إلى أنه لا يجوز
لرجل أن يخلو بامرأة مهما كان صالحًا.
***
(سفر الأمير)
ترجح أنه في يوم السبت الآتي يسافر سمو الأمير المعظم بالسلامة إلى أوربا
قاصدًا زيارة جلالة ملكة الإنكليز , وهذه الزيارة من الحكمة بمكان يعرفه أصحاب
العقول الراجحة , والآراء النافذة , ويذهب كثيب من هؤلاء إلى أن هذه الزيارة لو
سبقت هذا الوقت بسنين لكانت أكثر نفعًا وفائدة لمصر والمصريين فنسأل الله تعالى
أن يجعل من رفقاء الأمير في سفره الحفظ والسلامة , ويمنحه كمال التوفيق في الترحال والاقامة.
***
(فوز الإنكليز في الحرب الحاضرة)
عاد الفوز المنتظر للإنكليز إليهم فقد استولوا على كرونستاد ولندلي , وعندما
دخلوا عاصمة الأورانج الجديدة لم يجدوا الرئيس (ستين) فيها وأنقذوا مدينة
مافكنج من الحصار ويصح أن يقال: إنهم دوخوا الأورانج , وما عليهم بعد هذا إلا
تدويخ بلاد الترانسفال وهذا يحتاج إلى زمن طويل؛ لأن هذه البلاد أكثر استعدادًا ,
وأهلها أقوى جلادًا, وربما يكون الصلح قبل ذلك , فقد أنبأنا البرق أن حزبًا ينشأ في
بريتوريا لأجل طلبه , والمنتظر أن تجيب الملكة طلب الصلح في عيد مولدها الذي
يحتفل به في يوم الخميس الآتي (14 مايو) .
***
(العفو التام عن سعادة محمود باشا سامي البارودي)
نهنئ الفضل والأدب , والمجد والحسب , بصدور الأمر العالي الخديوي
بالعفو التام عن هذا الرجل المفضال الذي كان في الفتنة العرابية كما جاء في المثل:
(مكره أخاك لا بطل) وقد نكب فيها بما لم ينكب به أحد سواه. وقد عادت إليه
بهذا العفو - الذي صادف محله - رتبته العسكرية (فريق) ووساماته وحقوقه
المدنية كلها فلله الحمد ولمولانا العباس الثناء والشكر.
***
(فرنسا ومراكش)
أرسلت فرنسا سريةً عسكريةً إلى واحة طوات على حدود المغرب الأقصى ,
فوجل أهله لذلك , وهاجت القبائل , وأمر السلطان عبد العزيز بإرسال الجنود إلى
تلك الحدود , ويظهر أن فرنسا تريد التحرش لأجل التعدي على تلك البلاد بالحجج
التي نعرفها من الأوربيين فقد قال هافاس في برقياته من ثلاثة أيام: إن الخواطر
هائجة بين قبائل الغرب الأقصى التي في الحدود الجنوبية من بلاد الجزائر فلذلك
عززت الجنود الفرنسوية هناك! !
***
(المؤتمر الإسلامي في باريس)
تريد فرنسا بمناسبة المؤتمر إنفاذ غرضها السياسي بجمع العلماء المسلمين
في باريس للغرض المعلوم , ويظهر أن محاولة سعادة صاحب الأهرام الاتصال
بفضيلة شيخ الجامع الأزهر يراد بها السعي في هذا الأمر الذي لا نظنه ينجح فيه.
من إدارة المنار
نرجو من القراء الكرام الذين لم يدفعوا لنا قيمة الاشتراك عن السنة الثانية
(وقليل ما هم) أن يقدموا لنا حوالة على إدارة البريد أو طوابع بريد؛ لأننا لم نظفر
بمحصل أمين بعد خيانة من سبق , وبهذا يحق لنا أن نفتخر بجميع قراء المنار ,
وأنهم من الخواص الأخيار.
__________(3/187)
غرة صفر - 1318هـ
29 مايو - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الترك والعرب
(2)
بينا في المقالة السابقة أن المزية التي امتازت بها دولة الترك العثمانية على
كل دولة عربية هى بقاء دولتهم وثباتها زمنًا يناهز زمن دول العرب كلها أو يزيد ,
وأوضحنا الأسباب في ذلك ملمين بأسباب تنازع الدول العربية في السلطة , وأنهم
على تنازعهم وتخاذلهم كانوا أوسع فتوحًا وأكثر نشرًا للإسلام ونصرًا للدين من
الترك , ووعدنا بأن نقابل بين الفريقين ونفاضل بينهما في العلوم والمعارف
والمدنية والعمران , وها نحن أولاء منجزو موعدنا فتدبر ما نكتبه تدبرًا.
من أحاط خبرًا بحال الشعبين في هذه الأيام , ولم يكن عارفًا بتاريخهما
الماضي , ولا واقفًا على علل الأحوال الحاضرة وأسبابها؛ يحكم بأن الترك أقرب
إلى المدنية من العرب لأنهم أرقى منهم في الفنون والعلوم العصرية , وما ينشأ عنها
من الصناعات , وما يتبع ذلك من مظاهر الجمال والجلال والبهاء والكمال , فإذا مدَّ
عينيه بعد هذا إلى مناشئ الأمور وعللها رأى أن المال المخصص للمعارف
في الدولة ينفق في الأستانة العلية وما يليها من بلاد الترك إلا نزرًا يسيرًا يصرف
إلى ما يتصل بها كسوريا فهو كالرشاش يصيب الأرض المجاورة لمكان مرهوم أو
ذي صيّب لا يروي غليلاً ولا يغني فتيلاً , وإذا رأى هذا وعرفه يرجع عن حكمه
لا محالة , وإذا هو رجع القهقرى في التاريخ إلى أيام دول العرب , وشاهد ما كان
منهم من العلم أيام لاعلم إلا علمهم , والصناعة حيث لا صناعة تعلو صناعتهم
والزراعة أزمان لا زراعة كرزاعتهم , والتجارة حيث لا أحد يجاريهم في تجارتهم؛
يتجلى له أن قابليتهم للكمال أقوى , واستعدادهم للمدنية أعلى , وعقولهم في العلم
أرقى , وهمتهم في العمل أعلى فإنهم أوجدوا مدنية لم تكن , وأحيوا علومًا كانت
مدفونة في مقابر مكاتب الرومان وغيرهم , ونفخوا في العالم الإنسانى روحًا جديدًا
كان مبدأ الانقلاب الأعظم في تاريخه وأفاضوا على أرضه الميتة صيب الحكمة
والجد والعمل؛ فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج , وأما الترك فلم يظهر
فيهم أيام عزهم وقوتهم شيء من ذلك مع أن لهم سلفًا فيه , وقد غمرتهم في هذه
الأيام المدنية الأوربية , وجاءتهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين؛ لا تكاد تجد منهم مكتشفًا ولا مخترعًا ولا تكاد
تجد فيهم صاحب مذهب في الأصول العلمية , ولا صاحب رأى في المذاهب
الفلسفية , ولا تكاد تجد فيهم شركات صناعية أو تجارية تضرب في الأرض ابتغاء
الثروة والكسب.
إلا أنني أعيد القول بأنهم أرقى من العرب في هذه الأيام لما ذكرت من
الأسباب لا لأن استعدادهم أقوى , وأعيد القول بأن الغرض من المقابلة والمفاضلة
بينهم وبين العرب بيان الحقيقة وخدمة التاريخ , وحث الشعبين على أن يكونوا
شعبًا واحدًا يخدم الوحدة الاسلامية التي يجب أن تكون فوق كل جنسية , بل أن
تتلاشى فيها كل جنسية , وأن يسعى عقلاء الفريقين في التأليف والتوحيد فإن الترك
يظهرون احتقار العرب حتى إن لفظ (عرب) من ألفاظ الشتم في لغتهم , والعرب
يعتقدون أن الترك تحرّوا محو آثار المدنية العربية من بغداد وغيرها متعمدين , وقد
انتهى بهم سوء الظن إلى الاعتقاد بأن الجامع الأموي ما أحرقه إلا الأتراك؛ لأنه
من الآثار العربية التي يفتخر بها.
ولو أردنا أن نفيض في هذا الموضوع ونشرح بعض ما يتحدث به الناس من
ذلك في سوريا وغيرها لقضى المصريون منه عجبًا. ومن ذلك أن قاضيًا تركيًّا
جاء الشام فمكث فيها عدة سنين معظمًا مبجلاً محترمًا مكرمًا , وعندما نقل منها قال
لأخص أصدقائه عند الوداع: أدعو الله أن ينزع بغض العرب من قلبي فإننى ما
رأيت منكم إلا كل لطف وكمال.
ومما هو مستفيض عن جهلائهم أنهم ينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم
عربي , ويزعم بعضهم أنه قال: (أنا عربي وليس العرب مني) ولم يعرف أنه
كان مثل هذا بين العرب وبين غير الترك من الأعاجم الذين استووا على عروش
السلطة في البلاد الإسلامية , وهذه دولة الفرس الحاضرة لم ينقل عن أهلها أنهم
يبغضون العرب أو يحتقرونهم لأنهم عرب , وإن من الأعاجم من يعتقد أن العرب
أفضل من جميع الأجناس لأن النبي الأعظم منهم , والقرآن بلسانهم , وهم الذين
نشروا الدين وأيدوه , ومن هؤلاء الأفغان الذين يتعصبون لجنسهم أشد التعصب ,
ويرون أن الأفغانى هو أفضل الناس لأنه أفغاني , ولكنهم يستثنون العرب.
يا قوم إن ربكم يقول لكم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92)
ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ
فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103)
ويقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) وجاء في السنة الصحيحة: (لا تنازعوا
ولا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا , وكونوا عباد الله إخوانًا , المسلم أخو المسلم
لا يظلمه ولا يحقره) .
يا قوم إن في تاريخ مَن قبلكم أعظم عبرة لكم. ألم يقص عليكم ما أصاب
الأمة من تنازعهم على الخلافة والملك ومن اختلافهم وتفرقهم في الدين؟ أصابهم
شر عظيم قذف بهم من القمة إلى الهاوية , وخزيت الأمة كلها بخزي رؤسائها في
الدين والدنيا.
ولما تجددت لها دولة قوية وهي (الدولة العلية) أعزها الله تعالى لم تسْعَ في
إبان قوتها في رتق الفتق , ولم تعمل لاستئصال جراثيم الفتن السابقة واصطلامها؛
لأنها كانت دولة قوة وبأس لا دولة علم وحكمة , وما كان بين المسلمين وما هو كائن
لا يمحوه إلا العلم الاجتماعى , وهو ما كان ضعيفًا أو معدومًا في دولهم العلمية فما
بالك بغيرها؟ ما محا الترك سطور التعصبات الماضية , ولكنهم زادوا في الطنبور
نغمة: وهى التعصب للجنس الذي محاه الإسلام من أعرق الأمم وأشدها فيه وهي
الأمة العربية. ثم قام في هذه السنين فى مصر من زاد في الطين بلة فأحدث في
الإسلام بدعة التعصب للوطن والافتخار بلفظ الوطنية. فبهذه المُدى تُقطع روابط
الإسلام ويمزق أهله كل ممزق , والآخذون بها هم الذين يذفِّفون على المسلمين
ويحولون بين عقلائهم وبين ما يشتهون من الوحدة الإسلامية , ومن العجيب أن هؤلاء
الأغرار يغشون الناس في مصر بأنهم من أنصار الدولة العلية والمخلصين لها وليست
الدولة من سلالة الفراعنة ولا من أبناء وادي النيل الذي يتعصبون له , ويحملون
الناس على مناوأة كل من ليس من أهله , ومنهم من يجاري الناس في هذه الأيام بذكر
(الإسلام) و (الجامعة الإسلامية) وكيف تتكون الجامعة الإسلامية إذا كان المسلم
المصري يعادى المسلم الشامي والمغربي والحجازي وأولئك يعادونه أيضًا؟ نسأل الله
البصيرة والهداية لهؤلاء الأغرار لعلهم يرشدون.
ونحمد الله أن مولانا السلطان الأعظم عبد الحميد الثانى أيده الله تعالى هو
الملك الثانى (والأول هو السلطان سليم ياوز) الذي عقل مضرة التعصب للجنس
ولولا شدة عصبية الأتراك لقلب الأوضاع , وغير ما عليه الدولة من نظام
الاجتماع , وكلنا على علم بحزب (تركيا الفتاة) الذي تألف لمقاومة ذاته الكريمة؛
لأن سياسته غير مرضية عندهم. وقد شغل فساد هذا الحزب الضار أفكار جلالته
فأخذ جزءًا غير قليل من وقته الثمين , ولولاهم لصرف في مصلحة الدولة والأمة
ورأيت أيضًا غير واحد من عظماء الأتراك سياسته إسلامية لا تركية ولا وطنية ,
ومنهم دولة الغازى مختار باشا الذي كنت أسمع من الناس أنه كان في اليمن يسير
سيرة تركية , وأن العرب هناك لاقوا من تعصبه أضعاف ما يقتضيه التأديب
وتستلزمه المصلحة. ولكننى لما اتصلت بدولته في مصر , وذاكرته في شئون
الدولة العلية والإسلام كذب الخبر , وعلمت أن سياسته إسلامية , وإن شئت قلت
سليمية (نسبة للسلطان سليم عليه الرحمة) إلا أن يكون هذا الرأي قد حدث عنده بعد
ذلك , وعلى كل حال نسأل الله تعالى أن يكثر من أمثال هؤلاء العقلاء الفضلاء في
الدولة العلية عسى أن تتوحد الأمة بسعيهم , وتتكون الجامعة الإسلامية باهتدائهم
وهديهم وما ذلك على الله بعزيز.
(سيأتي الكلام على مدنية العرب بخصوصها)
__________(3/193)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم النافع
لا ترتقي أمة من الأمم دفعة واحدة , وإذا أراد الله بقوم خيرًا يعطي أفرادًا
منهم عقولاً كبيرة , ويهيئ لهم اكتساب العلوم النافعة , ويبصرهم بالمصالح وطرق
الوصول إليها , ويوفقهم للتصدي للإرشاد , ثم يلهم قومهم احترامهم , والأخذ بهديهم
وإرشادهم؛ فينتشر بذلك الإصلاح فيهم , وإذا أراد الله بقوم سوءًا يُبغِّض إليهم
كل من ينبغ فيهم وينبري لانتياشهم مما هم فيه من الشقاء والعناء متوهمين أنه
مبطل فيما يدعو إليه؛ لأنه مخالف لما هم عليه من العادات والتقاليد , ويقول
سادتهم وكبراؤهم: لو كان ما يدعو إليه خيرًا ما سبقنا إليه] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ [أي ما جاء به محمد {خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف: 11) . هكذا كان، وهكذا يكون والتاريخ شاهد
صادق وحاكم عادل ولكن الأمم في طور الجهالة لا تعتبر بالحوادث , ولا تتأدب
بالكوارث.
خير الإصلاح إصلاح التعليم , وخير التعليم ما كان على الطريقة العملية
حتى إن الأمم المرتقية لم تعد تعتبر نجاح التعليم ببراعة التلامذة في الامتحان بل
إننا نسمع كل يوم صياح المنتقدين من علماء البيداجوجيا (التعليم والتربية) قائلين:
إن جعْل النجاح في الامتحان وأخذ شهادة العالمية بأنواعها هو الغاية من التعليم
التي تتوجه إليه نفوس المتعلمين - خطأ عظيم وضرره على البلاد جسيم؛ لأنه
يجهد العقل فيما لا يعود بالفائدة على البلاد , وإنما غاية التعليم إنتاج رجال قادرين
على الأعمال النافعة ومباراة الأمم الحية ومسابقتها في ميدان الحياة , وحق ما قالوا
والعبرة أمامنا , فإننا نحن المسلمين نرى أن خيارنا في التعليم والتعلم الإسلامي أهل
الأزهر الشريف , ولنفرض أن الأمة أصبحت كلها أزهرية فهل يكون ذلك كافيًا
لنجاحنا وارتقائنا ومجاراتنا للأمم العزيزة القوية؟ كلا , إننا نرى أهل هذا المكان
أبعد الناس عن معرفة أحوال الأمم التي تنازع المسلمين البقاء , وهذه المعرفة هي
التي تنفخ روح الغيرة في النفوس , وتبعث العارفين على المنافسة والمباراة لا سيما
إذا أخذت على الوجه العملي المفيد , بل إننا نراهم أبعد الناس عن الأعمال النافعة
لأشخاصهم والمقومة لحياتهم , وليس هذا عن زهد اختياري يقصدون به التقرب إلى
الله - تعالى - فإنهم يتهافتون على الرغيف، ولو أن أميرًا أو غنيًّا صاح بهم أن
اخرجوا من هذا المكان إلى عمل كذا - وكان العمل مما يخف عليهم - ولكلٍّ منكم علي
حق معلوم في كل شهر أدناه ثلاثة جنيهات وأعلاه عشرة كاملة، لما بقي في الأزهر
من الثمانية آلاف ثمانون رجلاً.
يتناقل الناس في غير هذا القطر عن أهل مصر أنهم يحتقرون طلاب العلم في
الأزهر الشريف , وأن لفظ (مجاور) يكاد يكون عندهم من ألفاظ السخرية والشتم ,
وقد وجدنا لما كنا نسمعه أصلاً , وإننا نقر من يغمز المصريين بهذا على غميزتهم ,
ولكننا لا نغفل عن العلة الحقيقية في ذلك وهي أن أكثر المجاورين لا يكرمون
أنفسهم (ومن لم يكرم نفسه لا يكرّم) وليس بيان هذا من موضوعنا الآن فنرجئه
لفرصة أخرى , وأذكر ههنا مثالاً في التعليم النافع نقله المقتطف الأغر عن الجرائد
الأميركية , وهو أن عبدًا أسود اسمه (بوكر واشنطون) كان خادمًا ثم تعلم , ثم
أنشأ مدرسة للعلوم والصنائع بجِّده وكده , وهاك مجمل خبره تحت هذا العنوان الذي
يليق به , وهو:
هل يوجد في مصر أمير كهذا العبد الأسود
كان بوكر واشنطون أولاً في خدمة امرأة فاضلة فرأت رغبته في تعلم القراءة
فجعلت تُعلمه في دقائق الفراغ من الخدمة , وسمع يومًا أن الجنرال أرمسترنغ أنشأ
مدرسةً في مدينة اسمها همتون يتعلم فيها أولاد السود، ويعملون فيكتسبون ما يقوم
بنفقات تعليمهم. قال: (ولما سمعت ذلك عزمت على الذهاب إلى هذه المدرسة ,
ولم يكن معي شيء من النقود , ولا كنت أعرف الطريق إليها فقمت من ساعتي
وجعلت أستدل على الطريق وأستعطي أو أعمل لكي أكتسب ما أسد به الرمق , فإذا
اكتسبت فوق ذلك دفعت أجرة سكة الحديد , وإلا مضيت ماشيًا , وبلغت مدينة
رتشمند ليلاً , ولم يكن معي شيء من النقود , ورأيت ألواحًا مبسوطة في شارع
وتحتها حفرة , فانتظرت حتى انقطعت رجل السابلة من ذلك المكان ودخلت تحت
الألواح ونمت تلك الليلة ولحسن بختي وجدت عملاً في اليوم التالي في تفريغ شحن
سفينة , ودام هذا العمل عدة أيام , وكنت آتي كل ليلة وأنام تحت تلك الألواح ,
فوفرت من أجرتي ما دفعت من أجرة سفري إلى همتن وبقي معي نصف ريال) .
ولما وصل إلى المدرسة ورأى أساتذتها حالته الزرية أعطوه مكنسة , وبعثوه
إلى غرفة وأمروه أن يكنسها أربع مرات متوالية , ولما رأوا منه ذلك قبلوه في
مدرستهم. قال: وهذا كان الامتحان الذي امتحنوني به فدخلت المدرسة , ورأيت فيها
وفي مدينة همتن من أسباب التعليم والتهذيب ووسائل النجاح والفلاح ما أيقظ كل قوى
نفسي , وجعلني أشعر بأني مولود لأكون إنسانًا لا لأكون من بعض المقتنيات ,
وعزمت أن أمضي إلى الولايات الجنوبية التي يقيم فيها السود حالما تتم دروسي ,
وأبذل جهدي في إنشاء شيء لقومي يستفيدون منه كما استفدت أنا من مدرسة همتن ,
ولما أتيح لي ذلك مضيت إلى بلدة تسكجي في ولاية ألاباما , وجمعت ثلاثين ولدًا كنت
أعلمهم في كوخ صغير , ولم يكن لهذه المدرسة ما قيمته ريال واحد من العقار لكن
الرغبة في السعي , والسعي في الكسب خوَّلاني إنشاء مدرسة كبيرة للعلوم والصنائع
فيها الآن ثمانٍ وثلاثون دارًا وألف تلميذ.
وكثيرًا ما يسألني البعض عن الغرض من جمع المال لهذه المدرسة فأجيب أن
في الولايات الجنوبية الأميركية عشرة ملايين من السود أبناء جنسي , وهم
يحتاجون إلى المأكل والمشرب والمأوى , ويحتاجون أيضًا إلى التعليم والتهذيب
وإلى تربية الأخلاق التي تتخلق بها الشعوب المرتقية , ولا يسهل الوصول إلى
هؤلاء الملايين إلا بأن نرسل إليهم أناسًا من نخبة الرجال والنساء المتعلمين
المتهذبين الذين تدربت عقولهم على الشفقة , فيسكنوا بينهم ويعلموهم ويهذبوهم ,
والغرض من المدرسة التي أنشأتها إنما هو إعداد هؤلاء الرجال والنساء لهذا العمل
العظيم.
قال المستر ثرشر الذي نقلنا عنه هذه الحقائق: لما أتيت تسكجي أول مرة
مررت في ولاية جورجيا , وكان معي في القطار رجل يستدل من كلامه على أنه
كان قائدًا في جيش الولايات المتحدة وقت حرب الحرية فسألني عن الجهة التي أنا
ذاهب إليها فقلت له: إني ذاهب إلى تسكجي لأحضر مؤتمر السود , فقال:
(أظنك تقابل بوكر وشنطون هناك لقد اهتدى هذا الرجل إلى السبيل الذي يفيد به
أبناء جلدته , فإنه يعلّم السود العلم , ويا حبذا لو كان في الولايات الجنوبية ألف
رجل مثله) ثم علمت بعد ذلك أن الرجل الذي كان يكلمني من أصحاب الثروة في
تلك البلاد.
وفي اليوم التالي بعد المؤتمر قابلني رجل من السود وقال لي: ألست أنت
فلانًا؟ أو لم تكن في معرض شيكاغو؟ فقلت: بلى، ومن أنت؟ فقال: ألا تتذكر
أنك رأيتني في المعرض أعمل في المكان الفلاني؟ فقلت: بلى إني أتذكرك الآن ,
وما أتى بك إلى هنا؟ فقال: ذهبت في السنة التالية إلى معرض أتلنتا وسمعت المستر
وشنطون هناك يتكلم عن مدرسته التي يتعلم فيها أولاد السود الصنائع، وأنا في
صناعتي نجار , ولكنني لا أعرف حرفة النجارة فأتيت إلى هنا لكي أتعلمها , وقد
كدت أتقنها الآن , ومتى أتقنتها سهل علي الكسب.
قال الكاتب: ولما أردت العودة من تسكجي دخلت مركبة البريد لأضع كتابًا
فيها , وكان على غلافه اسم مدرسة تسكجي فلما رآه كاتب البريد قال لي: (إن
بوكر وشنطون رئيس هذه المدرسة رجل عجيب فإني لم أره قط ولكني أعلم أنه
يعلّم الناس العمل) وكنت كيفما التفتُّ أرى الشهادات تتكرر على نفع العمل الذي قام
به هذا الرجل , وأي عمل أنفع من أن تعلم الرجال والنساء مبادئ العلوم والفنون ,
وتجعلهم يقرنون العلم بالعمل , ولا تضطرهم إلى دفع درهم بل تكسبهم من عملهم
ما يقوم بنفقاتهم ونفقات تعليمهم.
قلنا: إن في مدرسة تسكجي ثمانيًا وثلاثين دارًا: الثلاث الأولى منها وهي
أصغرها بنيت قبلما دخلها التلامذة , والخمس والثلاثون الباقية بناها التلامذة أنفسهم
فهم كانوا يصنعون الآجُرَّ (الطوب المشوي) ويشوونه بإرشاد معلمين ماهرين
في هذه الصناعة , ولم يكتفوا بعمل الآجر اللازم لهذه المباني , بل عملوا كثيرًا منه
وباعوه للغير , وقد وصف المستر واشنطون هذا كيفية إقدامه على قرن العلم بالعمل
في محفل حافل قال:
(بعد أن مضى علي مدة في تسكجي رأيت كأن تعبي ضائع سدًى؛ لأنني
كنت أقتصر على تعليم الطلبة ما في الكتب من غير أن أعلمهم كيف يعتنون بأنفسهم
وبمن لهم , ثم وقعت عيني على أرض قرب تسكجي وددت أن أشتريها , ولم يكن
معي ثمنها فقرضني واحد مائة ريال اشتريتها بها , ونقلت المدرسة إليها , وكنت
أعلم التلامذة جانبًا من النهار , وأخرج معهم في الجانب الآخر منه نقطع الأشجار
من تلك الأرض ونمدها , ولما عملنا الآجر لم أكن أعلم كيف يشوى , ولم يكن معي
ما أدفعه أجرة لصانع ماهر في شيِّه فأخذت ساعتي ورهنتها على نقود استأجرت بها
الصانع , فعلمنا كيفية شيِّه , ولم أستفِكَّ هذه الساعة حتى الآن مع أننا بنينا ثمانية
وثلاثين بناءً كبيرًا بما تعلمناه منها) .
والتلامذة في هذه المدرسة أو المدارس يتعلمون الآجر والبناء والنجارة على
اختلاف فروعها , وفيها الآن معامل كبيرة مجهزة بكل ما يلزم لها من الآلات
والأدوات , وأكثر ما فيها من مكاتب وكراسي وأسرّة صنعه التلاميذ أنفسهم في هذه
المعامل , وصنعوا أيضا مركبات النقل على أنواعها , والبناء دائم هناك حتى يكون
للتلامذة عمل يعملونه , وقد بنوا كنيسة كبيرة في العام الماضي تسع ألف نفس
رسمها واحد من الأساتذة , وهو مدرّس المباني الهندسية , ورسم أطنافها واحد من
التلامذة , ومقاعدها تلميذ آخر , والتلامذة هم الذين وضعوا الحديد على سقفها ,
ووضعوا فيها آلة بخارية لتدفئتها , وآلة كهربائية لإنارتها.
ويتعلم التلامذة تصليح الآلات على أنواعها , ولا سيما الآلات الزراعية ,
وفي المدرسة معمل كبير لذلك , وهم يصلحون فيه آلات كثيرة لأهالي البلاد
المجاورة , ويتعلمون أيضًا الحدادة والطباعة والخياطة والتصوير , ويتعلم البنات
الأعمال الخاصة بالنساء كالطبخ والغسل والخياطة وعمل البرانيط , ويتعلم بعضهن
تمريض المرضى. ومن أهم ما يتعلمه التلامذة ويمارسونه علم الفلاحة , وكل
الأساليب العلمية المتبعة الآن حيث صارت الزراعة على أرقاها , وأساتذتهم من
أمهر الأساتذة في هذا الفن , وعندهم كثير من البقر الحلوبة , وهم يستخرجون
الزبدة من لبنها , ويصنعون منه الجبن.
ذكر المستر وشنطون حادثةً جرت لأحد تلامذته قال: أعلن أصحاب معمل
من معامل الزبدة أنهم يحتاجون إلى مدير لمعملهم وكان في مدرستنا شاب أتقن
استخراج الزبدة , وأتم دروسه في المدرسة , فمضى إلى هذا المعمل وعرض نفسه
على أصحابه , فلما نظروا إليه قالوا له: لا يمكننا أن نستخدم رجلاً أسود , فقال
لهم: إنني لم آتكم لتستخدموا لوني , بل معارفي، فجربوني واحكموا، فنظروا في
الأمر قليلاً ثم قالوا له: ابق عندنا أسبوعين , ولكن يجب أن تعلم من الآن أننا لا
نريد أن نستخدم رجلاً أسود , فأقام عندهم الأسبوع الأول , ولما عرضت زبدتهم في
السوق دفع في الرطل منها ثمن يزيد نصف غرش على ما كان يدفع عادة فاستغربوا
ذلك , وقالوا: لنرَ ما يكون في الأسبوع الثاني , فلما عرضوا زبدته للبيع دفع في
الرطل منها ربع غرش زيادة عما دفع في زبدة الأسبوع الأول فسروا بهذا الربح ,
وأقروا الرجل في منصبه ولو كان أسود فاحمًا.
والمؤتمر المشار إليه آنفًا أنشئ في تسكجي منذ عشر سنوات , أنشأه المستر
وشنطون للسود لكي يتذاكروا فيه بما يعود عليهم بالنفع , وحضره أول سنة نحو
عشرين رجلاً , لكنهم رأوا من فائدته ما ضاعف رغبتهم فيه , فصار عدد الحضور
الآن ألفين رجالاً ونساء , وهم ليسوا من العلماء , ولا كلهم من الذين يعرفون
القراءة والكتابة لأن أكثرهم كانوا عبيدًا وقت حرب الحرية , حتى إن واحدًا منهم
وقف مرة وقال: إن ذلك اليوم (يوم اجتماع المؤتمر) هو اليوم الوحيد الذي دخل
فيه المدرسة.
أما المواضيع التي يبحثون فيها فمما يتعلق بهم خاصة ويتوقف عليه نجاحهم
أو فشلهم مثل الاقتصار على زراعة القطن , ورهن الغلة قبل جنيها , والاكتفاء
باستئجار الأطيان , وقلة الاهتمام بابتياعها , وما في ذلك كله من الخسارة عليهم ,
ومثل الضرر الناتج عن الإسراف والزينة الباطلة , وابتياع ما ليس بهم حاجة إليه
ونحو ذلك من المواضيع. ويرأس المستر وشنطون اجتماعاتهم ويديرها بحكمة
ومهارة , حتى لا تضيع دقيقة من الوقت سدى , ولا يبقى هذا المؤتمر إلا يومًا
واحدًا.
قال الكاتب: وقد رأيت في أحد هذه الاجتماعات أمرًا يستحق أن يكتب بالتبر
على صفحات الأيام؛ رأيت امرأة خلاسية وقفت في الجمع , واستأذنت في الكلام
وقالت: (أخبرنا الأخ وشنطون في العام الماضي أن الإنسان الواحد يستطيع أن
يقوت عائلة من ثلاثة أفدنة من الأرض , وشرح لنا كيفية ذلك , وقال: إنه ميسور
للمرأة كما هو ميسور للرجل فعزمت أن أمتحن قوله , واستأجرت ثلاثة أفدنة ,
واستأجرت أيضًا من حرثها لي , ووقفت على يده حتى رأيت الأرض حرثت حرثًا
عميقًا جدًّا كما يجب أن تحرث , وسمدتها وزرعتها) ثم وصفت طريقة الاعتناء
بزرعها , وذكرت النفقات التي أنفقتها , ومقدار الغلة التي استغلتها منها وقالت:
(إن الغلة كفتني وكفت عائلتي سنة كما قال فثبت قوله بالامتحان) فصفق لها
الحضور طويلاً , وهي واقفة لا تبدي علامةً من علامات الشكر لهم , ثم رفعت
يدها يمنة ويسرة فصمتوا كلهم فقالت: (إني لأعجب منكم كيف تضيعون دقيقة من
هذا اليوم الوحيد في ما لا طائل تحته وأنتم تعلمون أن شعبًا كبيرًا على شفا جرف
هار) (ليت لنا رجلًا كهذه المرأة) .
(المقتطف)
وبمثل ذلك تنقضي هذه المؤتمرات ويرجع الحضور , وقد استفادوا منها فوائد
جمة , ويرى القارئ لأول وهلة أن ليس غرضنا من كتابة هذه السطور مدح رجل من
زنوج أميركا بل ذكر مثال من الأمثلة العديدة التي يبين منها ما يستطيعه المرء إذا كان
من رجال الهمة والإقدام ولو كان صفر اليدين , والاستدلال على أن رجلاً واحدًا قد
يأخذ على نفسه ترقية أمة كبيرة فيفلح في غرضه إذا كان من أبناء تلك الأمة أكثر مما
يفلح مئات مثله إذا لم يكونوا منها , فإن ألوفًا من الأميريكين البيض بذلوا أقصى الجهد
في تعليم سكانها السود وتهذيبهم فلم يفلحوا عشر ما أفلح هذا الرجل. وأمثال ذلك
كثيرة في الهند واليابان وكل البلدان التي سعى فضلاء الأوربيين والأميركيين في نشر
العلوم والفنون فيها فإنهم حيث استطاعوا أن ينهضوا همم الوطنيين ليصلحوا شئونهم
بأنفسهم؛ كان فوزهم عظيمًا , وحيث بقي الوطنيون يعتمدون عليهم لم ينتج عن سعيهم
غير فوائد قليلة محصورة في بعض الذين تعلموا منهم , ولا يفيد الأمم إلا سعي أبنائها
كما لا يفيد المرء إلا سعيه لنفسه (ومن كان أسعى كان بالمجد أجدرا) اهـ بحروفه.
__________(3/198)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السنوسي وأتباعه
إن اهتمام أوربا بالشيخ محمد المهدي السنوسي وأتباعه قد جعل له شأنًا كبيرًا
في جميع العالم الإسلامي , وقد نشرت جريدة (دي كولوني) الألمانية كلامًا عن
عالم ألماني خبير بأحوال أفريقيا عامةً والسنوسيين خاصةً، أثبت فيه أن عددهم
يبلغ تسعة ملايين، وأن في وسعهم إنفاذ جيش إلى مصر والسودان مؤلف من
خمسمائة ألف مقاتل، وذكر مجملاً نافعًا من تاريخهم عربته جريدة المؤيد عن جريدة
الميوريال وهو:
إن طريقة السنوسية مهمة جدًّا من حيث انتشارها السياسي في أفريقية
ومن حيث الكفاح القائم بين الديانتين الإسلامية والمسيحية في هذه القارة , وقد
أنشئت هذه الطريقة منذ خمسين عامًا تقريبًا أي في عام 1855 بواحة جغبوب
وواضع أساسها هو الشيخ محمد بن علي السنوسي المولود في عام 1819 على
حدود الجزائر المتاخمة لمراكش وفي سنة 1830 بارح مسقط رأسه مشتعلاً بنار
الضغينة على الفرنسويين الذين كانوا استولوا وقتئذ على تلك البلاد , ثم قضى بضع
سنوات بين مصر ومكة مدرسًا علوم الدين إلى أن حط الرحال في واحة جغبوب
سنة 1855 وفيها لبث زمانًا طويلاً يلقي تلك الدروس على الطلاب العديدين الذين
نسلوا إليه من كل حدب وصوب على إثر اشتهاره بالتقوى والصلاح ورسوخ القدم
في العلم , ثم أنشأ المذهب الذي أصبح اليوم أقوى وأهم المذاهب الإسلامية في العالم
والغرض منه تنقية القواعد الدينية مما عراها من شوائب البدع والتصرفات السيئة
فيه وإرجاعها إلى بساطتها الأولى وتوطيد سيطرة الدين ونفوذه في جميع البلاد التي
كانت تابعة لحكومات إسلامية , ثم سقطت بيد المسيحيين.
وللمذهب نظام متين وترتيبات مرعية فالإخوان فيه يتعاهدون على حفظ
أسرار أعمالهم وصيانتها صيانة مطلقة , وعلى الطاعة العمياء لما يقرره الرئيس أو
الشيخ من الأوامر أو النواهي , وعلى الدقة في مراعاة قواعد الدين والعمل بها.
وليس للإخوان لباس خصوصي يتعارفون به , ولكن لهم رموزًا وإشارات
يسهل عليهم بها معرفة بعضهم البعض , ومن أخص ما يمنعون استعماله شرب
الدخان وتناول القهوة , ومن مبادئ المذهب التي يبالغ رجاله في رعايتها والعمل بها
إنشاء المساجد والزوايا وإلى جانبها المدارس في البلاد المتوحشة أو التي تلمَّس أهلها
طريق المدنية , فيعلمون الأطفال فيها القراءة والكتابة والحساب , ويوقفونهم على
طريقة زراعة النخل وشجر الزيتون , وبهذه المعاملة الحسنة أصبح للحزب
السنوسي نصراء في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وبواسطة هؤلاء النصراء العديدين صار في سعة الشيخ أو الرئيس أن يقف
على أخبار الأصقاع السحيقة والبلاد القصية أو يبلغ أوامره وأخباره إليها في الوقت
القصير وعلى إثر وفاة مؤسس المذهب في سنة 1858 خلفه ابنه سيدي المهدي
محمد بن محمد علي السنوسي وكان وقتئذ فتًى فتيًّا , وهو إلى اليوم رئيس المذهب
الذي أصبح على عهده واسع النطاق منتشرًا في الآفاق، وإشارة منه تكفي الآن لإزالة
الشحناء والخصومة بين سلطانين من سلاطين أفريقية إذا قام بينهم الشقاق واستحكم
الخلاف لأمر من الأمور.
ومن الأمور التي لا ريب ولا خلاف فيها أنه إذا جاء يوم أمر فيه بالجهاد
وإثارة الحرب الدينية اهتزت لصوته أركان العالم الإسلامي التي تترامى حدوده في
أفريقية إلى مصر شرقًا، والكونغو جنوبًا حتى بحيرة شاد , ومراكش غربًا ,
وعليه يكون حزب السنوسي قد صار قوةً من القوى السياسية التي ينبغي على كل
دولة من دول أوربا أن تعمل لها حسابًا.
وقد اشتهر سيدي المهدي محمد بالتناهي في التقوى والصلاح ورعاية أمور
الدين , والتقشف في المعيشة , وهو دائب السعي على توفير أسباب الوئام والاتفاق
بين الأقوام والشعوب الأفريقية رغبة منه في توثيق العلائق التجارية بينها , وترقية
الصناعة والزراعة , ومما زاده رفعة , وضاعف سيطرته ونفوذه بين أولئك الأقوام
حقده الشديد على الدخلاء الأوربيين في البلاد الإسلامية.
وليس بصحيح من أن له جيشًا عظيمًا دائميًّا ودارًا لصناعة الأدوات والذخائر
الحربية , وغاية الأمر أن حوله جماعة من أرقائه مسلحون على الدوام , ولكن هذا
لا يمنع من أن جميع الإخوان في المذهب مسلحون بأسلحة جيدة ومستعدون لتضحية
حياتهم بمجرد إشارة منه , وقد انتقل الحقد على الفرنسويين في الجزائر من نفس
السنوسي مؤسس المذهب إلى نفس ابنه الرئيس الحالي , وسرت هذه الروح في
جميع أفراد الحزب بحيث أن السبب الطفيف يكفي لحصول القتال الشديد إذا زحف
الفرنسويون على قبائل الطوارق (الملثمين) أو تقدموا نحو بحيرة شاد من
الشمال.
وقد أدرك الفرنسويون خطر موقفهم بإزاء السنوسيين فحاولوا مرارًا عديدة أن
يجتذبوهم إليهم ويستدنوهم من فرنسا ولكن ذهبت مساعيهم في هذا السبيل أدراج
الرياح , وهذا خلاف ما حصل لجلالة السلطان عبد الحميد فإنه تمكن من استجلاب
خواطر السنوسيين إليه , وكسب مودتهم , وإن كان يعلم أن نظاماتهم وقوانينهم لا
تعترف بجلالته خليفة للإسلام.
وقد بارح الشيخ السنوسي في عام 1896 جهة جغبوب قاصدًا واحة كوفره
الواقعة على مسيرة 12 يومًا منها في وسط صحراء ليبيا واستصحب معه أكابر
العلماء وزعماء الحزب وأخذ المكتبة الكبرى التابعة لهذا الحزب.
ولما بلغ الشيخ السنوسي خبر انمحاق المهدوية في السودان سار قاصدًا بلدة
جورون على مسيرة 12 يومًا من الجنوب الغربي لكوفره حيث قبائل بني سليمان
والمحاميد من أعظم أنصاره وأشد الناس تعلقًا به , وقد أفادت الأخبار الأخيرة أنه
انتقل من ذلك المكان في أوائل مارس الماضي قاصدًا عين كلاكه على مسيرة ستة
أيام منه , وربما اتخذها مقرًّا له ومركزًا تنبعث منه أشعة سيطرته ونفوذه إلى جميع
الأرجاء وسوف يرى الجيل المقبل ويسمع من أخبار هذا الحزب ما لا يخطر له
الآن على بال) اهـ.
__________(3/207)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثانى
الأرمن وفتنتهم
(تابع ويتبع)
يوجد الآن (أي وقت تأليف الرسالة) حزب أرمني للفتنة يعيث في بعض
جهات المملكة العثمانية وقد أضر ضررًا بليغًا بعمل المبعوثين الدينيين في تلك
الجهات , وبجميع المسيحيين الذين يقطنونها , وهو جمعية سرية يبذل رجالها في
إدارة شئونها حذقهم في المكر والخديعة اللذين لا يعرفان إلا في الشرق.
نشرت هذه الجمعية رسالة ضافية في جميع الأرجاء أنقل لك منها هذا الإعلان
الذي جاء في ختامها وهو:
(هذا هو الحزب الأرمني المتولي وحده زعامة الفتنة في أرمينيا، ومركزه
أثينا وله فروع في كل قرية ومدينة من أرمينيا وفي الجهات التي يقطنها نزلاء
الأرمن , ويوجد في أمريكا أحد مؤسسيه، وهو نيشان جرابيديان ومن أراد أن يعلم
من أمور الحزب أكثر مما قلناه فليكاتبه هناك بهذا العنوان (نيشان جرابيديان
بشارع الصهريج نمرة 15 في مدينة ورستر التابعة لماس) ومن شاء أن يستعلم
من المركز فليكتب إليه بهذا العنوان: (المسيو بنفارد في أثينا من بلاد اليونان بريد
مقيم) .
وقد أكد لي أرمني في غاية الذكاء وحسن التربية يحسن التكلم باللغتين
الإنكليزية والأرمنية وهو من أنصار الفتنة الفصحاء أن قلوبهم متعلقة بأقوى الآمال
في تمهيد الطريق لروسيا لتدخل آسيا الصغرى وتملكها , ولما سألته: كيف يحصل
ذلك؟ أجابني بأن تلك العصابات الهونشاجية التي تألفت في جميع أنحاء المملكة
سينتهزون كل فرصة لقتل الأتراك والأكراد ما أمكنهم ذلك ويحرقون قراهم , ثم
يعتصمون في الجبال وإذ ذاك تهيج بالمسلمين ثورة الغضب فينقضون على الأرمن
وهم عزل ويوسعونهم تذبيحًا وحشيًّا يدفع روسيا إلى الدخول باسم الإنسانية،
والتمدن المسيحي فتملك البلاد.
ولما قبحت له هذا المقصد , وقلت: إنه بالغ من الفظاعة والبشاعة الجهنمية
حدًّا لم يبلغه غيره من قبله؛ أجابني وهو هادئ البال بقوله: لا شك في أنك تخاله
كذلك , ولكنا معشر الأرمن قد صممنا على أن نكون أحرارًا فلقد أصغت أوربا إلى
ما ذاع من فظائع بلغاريا وأنالتها استقلالها وهي ستسمع نداءنا متى ارتفع إلى عنان
السماء في صراخ من النساء والأطفال وانهمار دمائهم , فلججت في نصحه قائلاً:
إن هذا العمل سيجعل اسم أرمني ممقوتًا عند جميع الأمم المتمدنة , فلم أفلح لأنه
أجابني قائلاً: إننا يائسون , ولا بد لنا من إنفاذه، فقلت له: لكن أمتكم لا تود أن
تكون تحت حماية روسيا وتفضل حكم تركيا - وإن ساء - على حكمها؛ فإن بلاد
روسيا متاخمة لبلاد الدولة العثمانية في مئات من الأميال , والهجرة من هذه إلى تلك
متيسرة في جميع القرون التي حكم فيها المسلمون بلاد تركيا , فلو كانت أمتكم
تفضل الحكومة الروسية لما وجد في المملكة العثمانية الآن ولا بيت أرمني واحد ,
فكان جوابه على ذلك أن قال: نعم , ومن أجل هذا الحمق ينبغي أن يقاسي الأرمن
العذاب الأليم.
وقد تحادثت مع أرمنيين آخرين في شأن الفتنة فكانوا يجاهرون بهذه الأمور ,
إلا أنه لم يعترف لي واحد منهم بأنه من أعضاء ذلك الحزب ولا جرم , فحيث
يكون القتل وإحراق البيوت يتبرر الكذب , ويجوز الزور والبهتان.
ومن مقاصد الحزب المذكور في تركيا أن يهيج الأتراك على دعاة
البروتستانت وعلى الأرمن الآخذين بمذهبهم فجميع المشاغب التي حصلت في
مرسوان كان سببها دسائس رجاله فإنهم ماكرون غلاظ القلوب لا رعاية للحق
عندهم , وهم يرهبون إخوانهم ويتوعدونهم بالقتل إن لم يدفعوا لهم ما يفرضونه
عليهم من المساعدات المالية , وكثيرًا ما أنجزوا هذا الوعيد.
لا أذكر من قبائح ذلك الحزب الهونشاجي الثائر إلا يسيرًا مع غاية الاعتدال
في البيان , فهو روسي الأصل يديره ذهب روسيا ودهاؤها , فليمقته المبعوثون
الوطنيون والأجانب , وليذيعوا شنائعه , وليفعل ذلك الأرمن البروتستانت بإقدام
وجراءة فإنه يحاول الدخول في يوم الأحد من كل أسبوع في المدارس الدينية؛
ليغش الجهال البسطاء ويخدعهم حتى يكونوا أعوانًا لتنفيذ مآرب ذلك الدهاء
الروسي؛ من أجل ذلك يجب علينا - يعني الأميريكيين - مع مصافاتنا للأرمن أن
نبتعد كل الابتعاد عن كل فعل يفهم منه أننا مشايعون للثائرين , ومستحسنون لهذه
الفتنة التي يلزم أن يمقتها الجميع , ونحن وإن كنا نعترف بجواز أن من
اتبعوا الثوار الهونشاجيين من الأرمن لم يتبعوهم إلا لجهلهم مقصدهم الحقيقي
ومآربهم السيئة مدفوعين إلى ذلك بمحبتهم لوطنهم , ويؤثر فينا ما يقاسونه من
الشدائد في بلادهم بسبب الفتنة؛ ينبغي علينا أن لا نتداخل في هذه المساعي
المخفقة التي يقارنها القضاء على البعثات البروتستانتية , وتدمير الكنائس
والمدارس , وكل آثار الإنجيل تدميرًا عامًّا يسعى فيه ذوو الغايات والدسائس سعيًا
حثيثًا , فليحذر دعاة المسيحية - الوطنيون والأجانب - الاتحاد مع الهونشاجيين
أو بذل أي مساعدة لهم.
تحرر في ليكزينجتون يوم 23 ديسمبر
إيروس هملن
(لها بقية)
***
تعزية
أعزي نفسي وسيدي ومولاي الوالد وسائر أسرتي وأسرة بني الميقاتي وبني
ياسين بوفاة صهرنا ونسيبهم الشهم الهمام محمد أغا ياسين المشهور بالكرم والسخاء
والمروءة وبذل المعروف. توفاه الله في عاشر المحرم المنصرم. تغمده الله برحمته
وأسكنه فسيح جنته.
***
من إدارة المجلة
قد فصل حضرة عبد الحليم أفندي حلمي مدير أشغال المجلة من إدارتها , ولم
تبق له بها علاقة ما، فينبغي أن لا يخاطب بشيء من شئونها بعد اليوم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/213)
11 صفر - 1318هـ
9 يونيه - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحركة الإسلامية الحاضرة
أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر , وهي في سكون وهمود ونوم
مستغرق حسبته الأمم الحية موتًا؛ فطفقت تتنازع على تراثها واقتسام بلادها , ولم
تقنع بأخذ البلاد وما فيها من الخيرات والبركات , بل حاولت الانتفاع بهذا الجسم
الكبير الذي فقد الحياة الاجتماعية كما تنتفع بالأحجار والآلات والأدوات , بل
طمعت في سلخ جلده لتتخذ منه القفازان لأيدي السيدات الناعمات لما فيه من
المشاكلة والمناسبة , وحاولت سحق عظامه لأجل تصفية السكر في معاملها , أو
لتدخله في مادة الطعام المسمى (المكرونة) وما كان هذا بدعًا في نظام الخليقة ,
ولا غريبًا في تاريخ الأمم , فإن انتفاع الإنسان بسائر المخلوقات حتى ما كان على
شكل الإنسان وابتلاع القوي للضعيف وتحلل الميت ثم دخوله في بنية الحي؛ كل
ذلك معهود ومشهود في كل زمان ومكان.
نقب في الولايات المتحدة الأميركية التي هي زينة الدنيا هل تحس فيها أحدًا
من سكانها الأولين أو تسمع لهم ركزًا؟ كلا إنهم أدغموا في بنية الأمة الحية
المستعمرة كما أدغم الرومانيون والمصريون في بنية الأمة العربية عندما استعمرت
بلادهم من قبل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
إلا أن الأمة الإسلامية لم تصل في الضعف إلى ما كان عليه هنود أميركا عند
دخول الأوربيين بلادهم , وليست النسبة بينها وبين الطامعين فيها كالنسبة التي
كانت بينها وبين الرومانيين وغيرهم من قبل , فإن القوة التي سادت بها على جميع
الأمم في أوائل نشأتها إنما هي قوة الإصلاح السماوي الذي كان البشر كلهم في أشد
الحاجة إليه؛ لما كان عليه جميع الأمم من الفساد , وقد ترك المسلمون في هذه
الأزمنة أكثر قواعد ذلك الإصلاح , وأخذت الأمم الغربية منها ما استعلت به على
المسلمين الذين أخذته هي عنهم واقتبسته من أنوار علومهم. وما يحتاج المسلمون
الآن إلا إلى التفاتة واحدة إلى ما كان عليه سلفهم مع ملاحظة أن سعادتهم كانت فيه
وشقاوتهم بتركه , فيعودوا إليه مسارعين ويستتبع هذا مجاراة الغربيين في جميع
علوم الدنيا وفنونها والقوى الآلية الناشئة عنها وتدحض حجة الأوربيين القائلين:
إنهم إنما يعتدون عليها لأنها عدوة المدنية الحاضرة , ولا يحاولون إلا تحليتها بهذه
المدنية حبًّا بالإنسانية.
قلنا: إن الأمم الحية حسبت الأمة الإسلامية ميتة فتحاملن عليها تحاملاً شديدًا
وتصرفن فيها كما يتصرفن بالجمادات، وبينَا هن وادعات ساكنات غارَّات آمنات
لا يحسبن لحياة هذا الجسم الذي بين أيديهن حسابًا، إذا به قد اختلج بعض أعضائه
وتحرك لسانه بالتأوه والصياح؛ فاضطربن لحركته اضطرابًا عظيمًا , وعلمن أن
فيه رمقًا من الحياة , وأمسين في خوف وحذر من سريان الحركة في جميع
الأعضاء , ثم نهوض الجسم كله ومنازعته إياهن الحياة والبقاء كما هو شأن
جميع الأحياء وطفقن يتساءلن عن السبب في هذه الحركة , وعن الطريقة المثلى
لإبطالها , فكثرت الآراء وتعددت الأقوال , وصرحت جريدة التيمس الشهيرة
من عهد قريب بأن السبب في هذه الحركة الإسلامية هو شدة تحامل الأوربيين على
المسلمين , وذكرت من الجزئيات في هذا مقالات هانوتو الأخيرة , والرسالة
التي نشرها القسيسون في مصر وسموها (أيهما المسيح أم محمد) وجعلت العذر
للمسلمين في ذلك وكل الأوربيين يخشون أن تكون نتيجة هذه الحركة قيام
المسلمين على الأوربيين والمسيحيين عمومًا , وهو وهم بعيد وخطأ لا يحوم
حول الصواب.
وما تلك الحركة والصيحة إلا حركة النائم المستغرق نُخس ولُكز؛ فتحرك
وصاح ثم مضى في نومه , ولكنه كان في هبوغ وتسبيخ (هو أشد النوم) فصار
في طور الكرى والغمض (أي بين النائم واليقظان) ومن كان هذا شأنه فهو
قريب من اليقظة والانتباه , ولا شك أن قليلاً من الضغط السابق ونزرًا من مثل
التحامل الماضي يوقظان هذه الأمة في وقت قريب.
ولذلك أشارت جريدة التيمس بوجوب كف الأوربيين عن التعرض لدين
المسلمين وقالت: إنهم إذا عادوا بعد ذلك للكلام في الجامعة الإسلامية ومزج
السياسة بالدين فلا عذر لهم , وتعلم التيمس كما يعلم جميع ساسة أوربا وعلمائها أن
المسلمين لا جامعة لهم ولا جنسية إلا في دينهم فإذا انحلت الرابطة الدينية فليس لهم
رابطة تقوم مقامها , ويستحيل أن تنجح أمة بل توجد بدون رابطة عامة يرتبط بها
جميع أفرادها , وتكون لها المكانة العليا من نفوسهم , وإن فريقًا من الذين تربوا في
مدارس الأوربيين وما على شاكلتها وأشربت قلوبهم عظمتهم ومدنيتهم قد حاولوا أن
يقنعوا المسلمين بأن نجاحهم وسعادتهم في (الرابطة الوطنية) وأن خيبتهم
وشقاءهم في الرابطة الملية التي يطلقون عليها عند الذم لفظ (التعصب الديني)
ولكنهم ما نجحوا في إرشادهم أو إغوائهم هذا , ولا ينجحون مهما كتبوا وخطبوا؛
لأن غير المسلم منهم لا يلتفت لقوله المسلمون , ومن عساه يوجد منهم مسلمًا فهو
على غير بينة مما يدعو إليه أو من الذين إذا سموا الوطنية (أشرف الروابط)
يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم , وقد قلنا ولا نزال نقول: إن الفائدة الحقيقية
من هذا الشيء الذي يسمونه وطنية هي أن يعيش أبناء الأديان المختلفة في كل بلاد
بالمجاملة والمسالمة والتعاون على ترقية بلادهم , وهذه الفائدة لا توجد على كمالها
إلا في الإسلام , ولا يمكن لأحد أن يقنع المسلمين بها على أنها وطنية شريفة
ويمكن لكل أحد أن يشربها قلوبهم باسم الدين إشرابًا.
فليهدأ روع ساسة أوربا وجرائدها، فما على المسيحيين في بلاد الإسلام من
سبيل , وليس المقصود من الحركة الإسلامية إلا أن تجاري الأمة سائر الأمم الحية
في ميدان الحياة فتعلم كما يتعلمون , وتعمل كما يعملون , وتكتسب كما يكتسبون ,
وتقتصد كما يقتصدون , ثم تحفظ استقلالها كما يحفظون.
وإن تعجب فمن العجب العجاب أن جسم الأمة الإسلامية لم يشعر كله بهذه
الحركة التي حدثت فيه وأكبَرَ أمرَها الأوربيون , ولم ينس الناس تلك المحاورة
بين أحد مشايخ الأزهر وأحد المجاورين فيه وكيف رد الشيخ على المجاور قوله في
فوائد علم تقويم البلدان والتاريخ. إن بعض عقلاء المسلمين وفضلائهم يسعون في
هذه الأيام بتنبيه المسلمين لجمع كلمتهم واتحادهم , ولابد في هذا من معرفة أهل كل
قطر منهم أحوال الأقطار الإسلامية الأخرى , وهذا من علم تقويم البلدان والتاريخ.
وما كان رد الشيخ على هذا إلا أن قال: إنه لا يسلم أن أحدًا يسعى فيما ذكر , وأنه
هو لم يسمع بهذا إلا في ذلك اليوم من ذلك المجاور! ! ! فكأنه لم يقرأ المؤيد ولا
جريدة أخرى من الجرائد الإسلامية بل وغير الإسلامية قبل ذلك اليوم , وكأن هذه
المسألة نظرية من النظريات الفكرية فيكفي في منعها قوله: لا نسلم! ! ويقول
العقلاء: إنه لا وسيلة لتعميم هذه الحركة الإسلامية وتقويتها إلا استمرار أوربا على
الضغط على المسلمين لا سيما من الوجهة الدينية كمحاولة منع الحج , وتقدم القول
بأن بعض الأوربيين تنبهوا لهذا الأمر , ولا ندري ماذا تكون عاقبته , والله بكل
شيء عليم.
__________(3/217)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد من الكتاب)
(8) من أراسم إلى هيلانة في 15 يونيه سنة - 185:
لا سبب لانقطاع رسائلي عنك إلا ترقبي فرصة تمكنني من ايصالها إليك ,
وقد تلقيت مكاتيبك الأخيرة فأخذ ما ذكرتِه فيها عن (أميل) بمجامع لبي وبعث فيّ
دواعي الحنان والرحمة , ولم أكن إلى الآن أعرف شيئًا من ذلك في حياتي التي
قضيتها في دراسة العلم ومناظرة الحكماء ومقارعة خطوب الدهر , ولا غرو فإني
ولدت مستعدًّا للأبوة وأود لو أرى ولدي ولو بذلت في سبيل ذلك جميع ما أملكه من
الحطام , وإني مخبرك بأمر وإن كان لا ينبغي مكاشفتك به , وهو أني كنت عزمت
عدة مرات على دعوتك إلى الحضور إليَّ به على ما بيننا من البحار الزاخرة
والمسافات الشاسعة لعلمي بأن ما فيك من الإقدام ورباطة الجأش تتضاءل دونه
العوائق فلا يثنيك منها شيء عن تلبية دعوتي , وكأني بك بعد هذا تسألينني عن
السبب الذي منعني من هذه الدعوة ولا يزال يمنعني منها، فأقول: إنني قلت في
نفسي: ألا يكون من الأثرة أن أخمل بسجني ذاتين هما من أحب الناس إلي
وأخفض من حالهما؟ فبأي حق أستلب من هذا الطفل غرارته وغفلته وبواكير
سروره وابتهاجه بإلصاقه بي في محنتي التي خصني بها القدر؟ معاذ الله أن يكون
مني ذلك , فليشب وليترعرع حرًّا مغتبطًا في جناح والدته وكنفها.
أراك محقة في اهتمامك بتعرُّف أذواق (أميل) فإن الوالدين في الجملة
ينشئان أولادهما على مثالهما في الطباع والأذواق , على أن هذا الأمر هو الذي كان
ينبغي اجتنابه لأن الطفل إذا كان ألعوبة في أيدي الكبار المنوطين بسياسته , وآلة
تنفعل بمشاربهم وأفكارهم فإنه يعتاد على موافقتهم في جميع الأمور , وهذا هو
السبب في ندرة الرجال المستقلين استقلالاً صحيحًا في هذه الأيام , وإننا إذا فتشنا
عن العلة في وشك زوال ما فينا من أنواع الاستعداد والقابليات الخاصة والسير
الثابتة فربما وجدناها في تربيتنا الأولى فإنها مثار آفاتنا ونقائصنا النفسية.
ولنبحث ابتداء في ماهية الطبع فنقول: جرى اصطلاح العلماء بإطلاق هذا
اللفظ على مجموع من القوى المؤتلفة التي لا شك في أنها ترجع بأصلها إلى الفطرة ,
ولكنها على الدوام في تغير وتجدد لأسباب باطنية وظاهرية , فمن الأسباب
الباطنية الإرادة فإن لها شيئًا من التأثير في أهوائنا وشهواتنا ومحباتنا , وكأني
بسائل يقول: وهل هذه الإرادة نفسها خِلقية أو مكتسبة؟ فأجيبه أنها تجمع الوصفين
على ما أعتقد لأنها تكاد تظهر في الطفل بمجرد ولادته، وكلما شب وكبر قويت
وتحددت وجهتها بالتدرب عليها والممارسة لها. وأما الأسباب الظاهرية فيكفي أن
نمثل لها بالأسرة (العائلة) والتربية والاختلاط بالناس ومعاشرتهم فلو أن
الفرنساوي المسيحي ولد في الصين من أب نشأ على آداب كونفوشيوس [1] وتعاليمه؛
لكان مغايرًا لنا في آرائه وسيرته.
القوى المؤلف منها طبع الطفل تكون في الأيام التالية لولادته كأنها محجوبة
بإدراك مشاعره , وهو وإن كان في هذا الوقت يشعر بوجود ذاته بل إن هذا الشعور
قد يكون أحيانًا هو الغالب عليه , لكن ذلك قلما يبدو منه إلا بحركات إرادية وأعني
بهذه الحركات ضروب الرعدة والهياج , بل وأنواع الصراخ التي تصدر عنه فإن
كل ما من شأنه أن يُوَلِّد ألمًا أو يحدث غضبًا؛ يكون فيه مدعاة إلى ظهور هذه
العلامات الخارجية , وكثيرًا ما تبدو منه حركات نخالها مختلفة مغايرة للعقل لعدم
تدقيقنا النظر في السبب الذي يحدثها , ولو دققنا النظر لظهر لنا أنها لا تكون منه
إلا طلبًا لتحصيل لذة أو تخفيف ألم , ونحن بذلك جاهلون وعنه غافلون , فالغلام
الذي في الثانية أو الثالثة من عمره إذا طلب من مربيته شيئًا فمنعته إياه فاستلقى
على الأرض وأنشأ يتمرغ وينتف شعر رأسه غيظًا؛ تكون أفعاله هذه معقولة في
حقه لأنه يجد فيها بطريق الإلهام شفاء لأعصابه من تهيجها فيتلاشى بها حنقه
وتنكسر حدته , وكذلك الشأن في البكاء وغيره من الوسائل التي يزول بها عن
أعضاء الجسم ما تجده من الألم بسبب توتر أعصابها.
على أن بعض هذه الحركات الغريزية يبقى ملازمًا لنا حتى في زمن الرجولية
فإن كثيرًا من الناس من يضرب بيده على جبهته إذا بلغه خبر سيئ , ومنهم من
يزغزغ أنفه , ومنهم من إذا جاءت الأمور على غير مراده انبطح فوق فراشه ,
ومن هذا تعلمين أن أعقل الرجال تصدر عنه غالبًا وهو في شدة انفعاله حركات لا
تصدر إلا عن مجنون , وأنا لا أماري في أنه يفقد ما له من السلطان على نفسه في
هذه الحالة , ولكني أقول: إن في هذه الأفعال التي تصدر عن غير روية حكمة ,
وإن كنا لا نرى فيها إلا جنونًا وحمقًا ذلك أن للنفس حالات تقتضي من الجسم
أوضاعًا مخصوصة لعلة محجوب عنا علمها , فمن الآلام النفسية ما يميل بنا إلى
الهجوع والسكون , ومنها ما يدفعنا إلى المشي والحركة. فكيف السبيل إلى اكتناه
علة هذه البواعث الوقتية التي تدفع بعض أعضائنا إلى التحرك عند حدوث شيء
من الاضطرابات العقلية؟ لا سبيل لنا إلى ذلك سوى الاعتراف بأن الوصول إلى
معرفة هذا السر مما ليس في مقدورنا , وهو سر آخر جدير بالتفتيش عن سببه.
أول حرية تجب علينا للطفل هي أن يكون مختارًا في حركاته ومقتضيات
غرائزه , وإني كنت كغيري من الناس لا أحب أن أرى ولدًا مسكينًا يحمر وجهه من
الغضب , ويبلغ به الانفعال إلى درجة الجنون , ولكني أرى أن الإغضاء على
بوادر ذلك الغضب أخف ضررًا من قمعها بالإفراط في التسلط والقهر , فإنه لا
شيء أردأ مغبة في الغيظ من إكراه صاحبه على كظمه ولا أسوأ في الطباع ولا
أخس في الخلائق مما يقمع دائمًا , ويرغم صاحبه على إخفائه , على أن الطفل
سيتعلم في مستقبل أيامه أن من موجبات كرامته أن يملك نفسه عند الغضب ويكف
سورة انفعالاته , وأن البكاء وحركات الضجر وخفة الفرح الخارج عن حد الاعتدال
مما لا يليق بالرجال قطعًا , بل إنه سيكون كآلاتنا البخارية تحرق ما يتولد من
دخانها , ولكنا يجب علينا أن ننتظر في بلوغه هذه الغاية ريثما ينمو عقله وتقوى
إرادته.
أنا لست أعني بهذا أن يترك الطفل وما يعتوره من الانفعالات لعدم وجود ما
من شأنه أن يزيلها , كلا فإن الأطباء قد اخترعوا لعلاج الجنون طريقة سموها
التلهية النفسية يمكن اتخاذها في تربية الأطفال على ما أرى , على أنها معروفة
للمراضع من زمن لا تاريخ لمبدئه , فقلما توجد واحدة منهن لا تعرف كيف يسكن
غضب الطفل بصرف وجهه إلى ما يلهيه ويشغل فكره , ويمكن تعميم العمل بهذه
الطريقة فإن من الأطفال الحديثى السن جدًا من يكون لهم شغف بالموسيقى من
صغرهم , ومنهم من يسهل إلهاؤهم بمجرد النظر إليهم ومنهم من يجد في رؤية
الحيوانات لذة مخصوصة , ومنهم من يجد هذه اللذة في رؤية بعض الأشخاص ,
فينبغي النظر في هذه الأذواق الخلقية؛ لأن جميعها من الوسائل التي يمكن الاعتماد
عليها في تربية الطبع فيهم.
أنا لا أعتقد أن في الإنسان خلائق شَرِّيةً محضًا , ولكن يوجد من خلائقه ما
إذا غلبت عليه وأسيء تصريفها فإنها ربما تؤدي إلى عواقب وخيمة , فإذا سأل
سائل: هل يجب إعدامها؟ أجبته: ليس هذا من رأيى؛ لأننا مع تسليم إمكان
الوصول إلى هذه الغاية نكون قد خالفنا مقتضى الفطرة مخالفة ظاهرة , وإنما الذي
ينبغي علينا عمله هو معارضة تلك الغرائز بمشارب وأذواق أخرى.
إني أجد في نفسي ميلاً إلى اعتقاد أنه لا يوجد طبع - مهما كان فساده - إلا
وقد انطوت فيه وسيلة للخلاص منه فلو أن القائمين على التربية حذقوا في التدرع
بتلك الوسائل لمكافحة الطباع السيئة ومغالبة الأخلاق الرديئة في الوقت المناسب
لذلك؛ لحفظوا على المجتمع الإنساني كثيرًا من أفراده الذين خسرهم خسرانًا مؤبدًا
في السجون ومعاهد العقاب بالأشغال الشاقة , ولست أضرب لك تأييدًا لهذا القول إلا
مثلاً واحدًا أقتبسه من مذكراتي الخصوصية , حدثني لص أنه انزبق ذات ليلة في
ملهى موسيقي فجلس على أحد مقاعده لا ليسمع المغنين؛ بل ليرتقب فرصة تمكنه
من سرقة ما عساه يجده في جيوب مجاوريه , فإن هذا الأمر كان مهنة له , ولكنه
كان هو المسروق في تلك الليلة لأنه كان ذا كلف بالموسيقى فلم يكن إلا أن سمع
أول رنة للكمنجة حتى أحس بأن عقله قد سلب , ولما أنشأت المغنية دويريه تغني
صار إلى حالة أسوأ من ذلك لفنائه عن نفسه فيما وجده من اللذة في ذلك اللحن
المعروف بلحن الشيطان روبرت الذي في الفصل الخامس من تلك الرواية الغنائية ,
ويخيل له أن لا يزال يسمع رجع صداه , وجملة القول: إنه نسي الاشتغال بمهنته
تلك الليلة , فلما كان مساء اليوم الثاني عاد إلى ذلك الملهى نفسه عاقدًا نيته على أن
لا يفتن ببنت البحر [2] ولكنه في هذه النية لم يحسب حساب نزيله الذي بين جنبيه،
أعني ميله الفطري إلى سماع الألحان فخرج في هذه الليلة أيضًا ممتلئ الأذنين
صفر اليدين , ومن أجل هذه الخيبة أقسم أن لا يعود فيضع قدميه حيث يكون
المغنون قائلاً: إنه إن فعل خسر ميله إلى حرفته , وهو قول دال على قحته
واجترائه على القبائح.
الأهواء الفاسدة في الإنسان هي قوى مستبدة يبعثها نموها الفطري أو المكتسب
على أن تملك قياده فتتغلب على ما فيه من ضروب الوجدان أو الأفكار , فمن
البديهي أن هذه الأهواء هي التي يجب أن تقاومها التربية من أول النشأة , وهذه
المقاومة يصح أن تكون على طريقتين أولادهما الرجوع إلى أنواع التلهية التي
تشغل الطفل عنها , وتصرف ذهنه إلى غيرها كما سبق لي بيانه. وثانيتهما -
جعله بمعزل عن البواعث الخارجية التي تهيج من غرائزه ما يغلب على الظن أن
في تحريكه وبالاً عليه , فإن في بعض الأشياء شيطانًا رجيمًا كما ستعلمين من
حادثة جرت في أيقوسيا أقص عليك خبرها لتفهمي ما أريده بالبواعث الخارجية
التي تهيج الغرائز.
إن امرأة عليها سمة الاحتشام والحياء دخلت أحد حوانيت الطرف , فلما انتقت
ما أرادت ابتياعه وحان وقت دفع الثمن , وكان في نحس طالعه كربع ساعة
رابليه [3] أخرجت من جيبها ورقة مصرف (بنك) قيمتها خمسة جنيهات إنكليزية ,
فلما نقدها كاتب الحانوت لم يلبث أن عرف تزيفها , فبهتت المرأة المسكينة
وأخرجت له أخرى لكنها لم تكن بأحسن من الأولى , فارتاب الرجل في أمرها ,
وسلمها إلى الشرطة , ولم يكد التحقيق يأخذ مجراه حتى ظهر أنها كانت خادمة في
بيت استوجبت احترام أهله إياها بما لها من حسن السيرة والصدق في الخدمة , وأن
الأيقوسي الذي كانت في خدمته كان قبض من أحد معامليه قبل هذه الحادثة ببضع
سنين هاتين الورقتين المزيفتين وأخطأ في عدم تمزيقهما لتعاسة حظ هذه المحرومة ,
وأنها لاعتيادها على دخول حجرته في كل صباح للقيام بمقتضيات الخدمة كانت
تراهما مختلطتين بأوراق قديمة , فلم تعبأ بهما كثيرًا أول الأمر , ولكن لما تكرر
حضورهما أمام بصرها من يوم إلى يوم , ومن أسبوع إلى آخر , ومن شهر إلى
تاليه أنشأت تمعن النظر فيهما وكأن هاتين الورقتين اللتين كانت تخالهما على
بِلاهما صحيحتين كانتا ترنوان إليها من طرف خفي وتخدعانها وتفاجئانها بنصائح
غريبة , فرفضت بادئ بدء فكرة أخذهما وأبعدتها عن نفسها فراسخ , لكنها لم يبق
في وسعها أن تكف النظر عنهما متى وجدت في الغرفة التي هما فيها , ثم إنها في
ذات يوم لمستهما بيديها وبسطتهما , وأخذت تقلبهما , ثم ردتهما فورًا إلى أضبارة
الأوراق البالية التي كانت فيها كأن فيهما نارًا كانت تحرق أصابعها , وما زال بها
هذا الإغراء حتى غلبها وأوقعها فيما علمت.
فإذا كان هذا تأثير الأشياء في الكبار فما ظنك في الصغار؟ نعم , إنهم ولله
الحمد ليسوا كلهم لصوصًا , وفوق ذلك قلما تعرض لأنظارهم أوراق المصارف
صحيحة أو مزيفة , ولكن توجد جملة من الخلائق الأخرى التي يهم المربين أن لا
يقوُّوها فيهم بنظر ما يوقظها من الأشياء، فإن رذائلنا وفضائلنا ليست مجرد معانٍ
ذهنية , بل إن لها بالخارج ارتباطًا قويًّا فهي تطابق فيه أمورًا وأحوالاً شتى يكون
بها تأثرها وعنها انفعالاتها… فالشراهة مثلاً تتحرك في الإنسان بنظره إلى الطعوم
وشمه روائحها , والغيرة تتيقظ فيه بسماعه ما يقال لغيره من رقيق الكلام , ورؤية
ما يعامل به من صنوف الملاطفة. فأول واجب على المربي هو البحث عن طبع
الطفل ومعرفته , والواجب الثاني هو أن يقطع عنه مواد الفتنة أعني البواعث
المادية التي تتخذ مشاعره ذرائع لإغراء طبائعه السيئة وإثارتها فلكثير من الأطفال
الحق في أن يقولوا للقائمين عليهم ناشدناكم الله لا تدلونا بغرور.
ثم لا ينبغي أن يغرب عن ذهن المربي هذا الناموس الفطري وهو أن الطبائع
والغرائز كما أنها تقوى وتنمو بالممارسة هي تضمحل وتزول بعدمها , فبه تعرف
السر في قدرتنا على قمع بعض المشارب الشديدة التي تظهر في الطفل على أذواقه
الفطرية الأخرى , وتمنعها من بلوغها غايتها , فأكبر عمل للإنسان في إصلاح نفسه
منفردًا هو مكافحة ما يتغلب عليه من سيء الأخلاق ورديء الطباع كما أن أجل
سعي في إصلاح شأنه مجتمعًا هو ردع المعتدين وكسر نخوة الطغاة الظالمين.
كأني بقائل يقول: هل يكفي في تربية الطفل ما ذكرته من جعله بمعزل عما
يثير فيه غرائز الشر وإيجاد التوازن والتساوي بين طبائعه؟ فأجيبه: لا شك في
عدم كفاية ذلك فإن طريقة التربية هذه سلبية والواجب علينا هو أن ننبه في الطفل
بمجرد أن يشب ضروب المحبة وعواطف الخير , وقبل الخوض في هذه المسائل
يجب علي أن أبحث أولاً فيما تتخذه الناس من الطرق عادة في تربية طبع الطفل
كحمله على الامتثال المطلق , وتخويفه بالعقوبات , وترغيبه في المكافآت , وكقوة
القدوة والاعتقاد الديني , وقواعد علم الأخلاق , وأسائل نفسي عما تساويه
هذه الحيل المختلفة اهـ.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كونفوشيوس: هو أحد مشاهير فلاسفة الآداب وعلماء الأخلاق في الصين ولد في سنة 551 ومات في سنة 499 قبل المسيح.
(2) بنت البحر في أساطير الأقدمين هي ذات خيالية نصفها الأعلى نصف امرأة , والأسفل نصف سمكة كانت تعيق السائحين بلذيذ غنائها فتجذبهم إلى شعاب صعبة حيث يهلكون , والمراد بها هنا المغنية ففي الكلام استعارة.
(3) ربليه: هو كاتب قصص فرنساوي مشهور واسمه فرنسيس ولد عام 1495 ومات عام 1553 اتفق له أن حل في نزل وجلس يأكل مع جماعة فلما جاء وقت المحاسبة على ثمن الأكل لم يكن معه ما يدفعه في حصته فحرج صدره وكأن الساعة كانت وقت الربع إذ ذاك فضرب بوقته هذا المثل لنحس الطالع.(3/221)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم المفيد
كتبنا في الجزء الماضي من المنار نبذة عنوانها (التعليم النافع) ذيلناها بنبذة
أخرى في بيان العمل العظيم الذي قام به أحد العبيد السود في أميركا نقلاً عما عربه
المقتطف الأغر عن جرائد تلك البلاد , وقد جاء في جزء آخر من المقتطف مقالة
أخرى عنوانها (التعليم المفيد) ذكر فيها ملخصًا من مقالة لذلك العبد الكريم الفعال
ومما جاء فيها قوله:
(إن من المسائل الكبيرة عندنا تعليم ثمانية ملايين من السود سكان الولايات
الجنوبية من أميركا وتهذيبهم وجعلهم مثل غيرهم من السكان , وقد اتسع نطاق هذه
المسألة الآن؛ لأنه صار علينا أن نعلم ثمانمائة ألف نفس من السود سكان كوبا
وبورتوريكو فضلاً عما يجب من تعليم البيض سكان تينك الجزيرتين؛ لأن كثيرين
منهم في حالة يرثى لها مثل السود الساكنين معهم. فإذا أبنت للقراء ما نجح من
السعي في تعليم السود في هذه البلاد مدة الثلاثين سنة الأخيرة مع ما لقيناه في ذلك
من المصاعب الجمة؛ أكون كأني أنبأتهم بما سينتج من السعي في نشر التعليم
والتهذيب في كوبا وبورتوريكو , وإيضاحًا لذلك أقص عليهم القصة التالية: (كان
في البلاد المعروفة ببلاد السود أي التي يزيد فيها السود على البيض رجل له أملاك
وسيعة وعنده مائتا عبد يحرثون أرضه ويزرعونها , فيكتسب بتعبهم مكاسب وافرة
فلما انتهت الحرب الأهلية بتحرير العبيد اضطر أن يحررهم كلهم , لكن الفريق
الأكبر منهم بقي في خدمته , أو صاروا يستأجرون الأرض منه ويزرعونها
وحدث بعد ذلك أنه كان مارًّا في أرضه ذات يوم فرأى ولدًا صغيرًا من أولاد هؤلاء
السود في حالة يرثى لها من الجوع والعري فرمى إليه قطعة من النقود , ورآه بعد
ذلك مرارًا فكان يرق له ويرمي إليه قرشًا، أو نصف قرش , واتفق أن هذا الولد
واسمه وليم سمع أن في تسكجى مدرسة يتعلم فيها أولاد السود مبادئ العلوم والفنون
بتعبهم أي أنهم يعملون ويتعلمون , فتوسل إلى رفاقه أن يساعدوه على الذهاب إليها
فجمعوا له قليلاً من الثياب والنقود بعد العناء الشديد , لكن النقود لم تكن كافية لدفع
أجرة السفر إلى المدرسة , فعزم أن يمضي لها ماشيًا، وهي على مائة وخمسين
ميلاً من المكان الذي كان فيه , فحمل ثيابه , وسار إليها وبلغت نفقاته في الطريق
أربعة غروش لا غير لأنه كان يقص قصته على الذين يمر بهم فيطعمونه مجانًا.
وبلغ تسكجي مقرَّح القدمين وأتى إليَّ؛ فأرسلته إلى حيث اغتسل ونظف
بدنه , ووضعته مع الذين يحرثون الأرض ويزرعونها لأنه كان قد صار لمدرستنا
ألف وأربعمائة فدان أصلحنا نصفها , وكان التلامذة يزرعونه وحدهم ويشتغلونه ,
ويستخدمون في زرعه وخدمته أحدث الطرق العملية المعروفة. فصار يعمل في
النهار معهم ويتعلم ساعتين في الليل , وكان في أول الأمر يتعب من الدرس وينام
وهو أمام المدرس , ولكنه تنبه رويدًا رويدًا , وصار يفهم ما يسمع ويزيد رغبة ,
وأخذ يسأل معلميه مسائل تدل على تعطشه إلى المعرفة مثل سؤال عن سبب
اعتمادنا على البقر المعروفة ببقر جرزى وبقر هلستين بدل البقر العادية , وعن
سبب كثرة لبنها وسمنها.
ولم تمض السنة الأولى عليه حتى تعلم مبادئ القراءة , وجمع بعض النقود
من أجرته فدخل الفرق القانونية في السنة الثانية , وبقي يعمل جانبًا من الوقت في
الحقل , فلما انتهت السنة وجد نفسه في حاجة إلى النقود , فكتب إلى الرجل الذي
ولد بين عبيده يخبره عن دخوله في مدرسة تسكجي , وطلب منه أن يقرضه خمسة
عشر ريالاً , ووعده بإيفائها حالما يتم دروسه. فطرح الرجل الكتاب ولم يلتفت
إليه , فكتب إليه ثانية فلم يجبه , فكتب إليه ثالثة , وحينئذ شعر الرجل بدافع في
نفسه يدفعه إلى مساعدته , فكتب إلي يخبرنى بذلك , وبعث إليه بالخمسة عشر
الريال التى طلبها.
(وبعد ثلاث سنوات وقف هذا الولد , وكان قد صار شابًّا أمام سيده الذى
بعث إليه بالخمسة عشر ريالاً وقال له: أنا الولد وليم الذى كنت ترمي إليه بقطع
النقود , ثم تكرمت عليه بخمسة عشر ريالاً , وقد أتيت لأشكر فضلك , وأوفيك
دَينك , ثم دفع إليه المال مع رِباه؛ لأنه كان قد أتم دروسه , وعمل سنة فى إحدى
المدارس وأخذ أجرتها. فنظر إليه الرجل نظر الدهشة والاعتبار , ثم التفت إلي
السود الذين يعملون في أرضه وهم مئات لأنه كان على ثروة طائلة وأملاك
وسيعة , فرأى أنه غير قائم بما يجب عليه لهم فقال لوليم: تعال، وافتح مدرسةً
عندي لإخوانك , وكان ذلك منذ ست سنوات , وقد اتسعت هذه المدرسة الآن
وصار فيها مائتا تلميذ وخمسة معلمين من الذين تخرجوا في مدرسة تسكجي
وثلاثة مباني , ولها أربعون فدانًا يمارس فيها التلامذة الزراعة على أنواعها ,
ويتعلمون أيضًا النجارة بفروعها , وفيها قسم لتعليم البنات مبادئ العلوم والخياطة
وتدبير المنزل , وهي آخذة في إنشاء معمل للحدادة وعمل المركبات , والرجل
المشار إليه هو الذي بنى المدرسة ووقف عليها الأربعين فدانًا , وهو يدفع رواتب
معلميها أيضًا.
ولا يقتصر هؤلاء المعلمون على التعليم في المدرسة , بل تراهم يجمعون
الفلاحين من البلاد المجاورة , ويتذاكرون معهم في المواضيع الزراعية , ويعلمونهم
الأساليب الجديدة لحرث الأرض وزرعها وخدمتها وطرق الاقتصاد المختلفة ,
ويحضر معهم الرجل الكريم المشار إليه آنفًا , وهو مسرور بما يراه فيهم من دلائل
الاجتهاد والارتقاء.
(ولما غادر وليم قومه , وأتى إلينا كانوا على غاية الفقر والذل لا يملكون
شيئًا ولا ينظرون إلى البيض إلا نظر الخصم إلى خصومه , وهم مثقلون بالديون ,
فأوفوا ديونهم الآن , ولم يعودوا يرهنون غلة الأرض التي يزرعونها كما كانوا
يفعلون قبلاً , وابتنوا بيوتًا رحبة يسكنون فيها , وصلحت أحوالهم بعد فسادها ,
وبمثل هذه المدرسة تحل مسألة السود في هذه البلاد وفي بلاد كوبا وبورتوريكو) .
ثم ذكر ما كان من غلو البيض في احتقار السود , وبين أن هذا الاحتقار قد
زال لما أثرى كثيرون من السود , وامتلكوا الأراضي الواسعة , وبنوا المعامل
الكبيرة حتى ذكر أنهم صاروا يشاركون البيض في انتخاب رؤسائهم , وقال في هذا
المقام: (وما من شيء أزال كراهة البيض لهم واشمئزازهم منهم مثل إصلاح
معيشتهم , مثال ذلك أن فتاة من الفتيات اللواتي تعلمن في مدرسة تسكجي مضت
إلى جنوب البلاد , وعزمت أن تفتح فيها مدرسة لتعليم أولاد السود فنظر إليها
البيض هناك شزرًا , ولم يرض نساؤهم أن يلتفتن إليها فصبرت على الضيم حاسبة
أنهن يفعلن ذلك لما رسخ في نفوسهن من احتقار السود , وأنشأت المدرسة واهتمت
بها , ثم تزوجت بشاب من السود وبنيا بيتًا صغيرًا على أسلوب حسن جدًّا , وأنشآ
أمامه حديقة غناء زرعت فيها أبدع أنواع الأزهار والرياحين , ومرت بها امرأة من
عظماء البيض ذات يوم , ورأتها في الحديقة تسقي رياحينها , فنظرت إليها متعجبة
ثم دخلت الحديقة , وطارحتها السلام , فأخذت السوداء تتكلم معها عما في حديقتها
من أنواع النبات كلام امرأة متعلمة متهذبة , فعجبت البيضاء منها ودخلت بيتها ,
ولما رأت غرفه وأثاثه ورياشه وما فيه من الكتب والجرائد وحسن الترتيب والتنظيم؛
ارتفع مقام السود في عينيها , وأخبرت صديقاتها بما رأت , فصار لتلك المرأة
السوداء المقام الأول في ذلك البلد.
ولو بقي الكُتاب والخطباء أعوامًا يحثون البيض على اعتبار السود
إخوانًا لهم ما أفلحوا في ذلك قدر ما أفلحت فيه هذه المرأة السوداء بتنظيم بيتها وزرع
حديقتها وإقناعها نساء البيض بهذا الدليل الحسي أنها ليست دونهن عقلاً
وذوقًا.
(ومنذ بضعة أشهر أقيم معرض زراعي في بلد اسمه كلهون في ولاية ألاباما ,
وفي هذا البلد مدرسة كبيرة عرض تلامذتها , والذين تعلموا فيها معروضاتهم
الزراعية من القطن والأثمار فلما رآها البيض بالغة حد النمو؛ أعجبوا بها والتفتوا
منها إلى أصحابها , فارتفعت منزلة السود في عيونهم , ورأوا فضل التعليم
والتهذيب , فللمدارس التي تعلم أولاد السود وتهذبهم الفضل الأول في ترقية
شأنهم , وربط البيض بهم برباط الألفة والصداقة) اهـ.
ثم ذكر المعرب جملة مختصرة من كلام بوكر واشنطون هذا في وصف
مدرسته , وأردفه بجملة أخرى في المقابلة بين تلك المدرسة وما تفرع منها , وبين
مدارس هذا القطر وسائر البلاد الشرقية التي لا تعتني بقرن العلم بالعمل , فهكذا قد
سبقنا حتى العبيد السود في تلك البلاد , وما كنا لنفيق من هذا الرقاد، ونهتدي سبيل
الرشاد.
__________(3/230)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
الأرمن وفتنتهم
(تابع ويتبع)
ومما لا بأس بذكره عقب هذه الرسالة الإلهامية بعض جمل اقتبسناها من
رسالة لمكاتب خاص بالجريدة المسماة (الصحافة المشتركة) ولا ريب في أن هذا
الكاتب ليس صديقًا للترك , ولا لحكومتهم فانظر ما كتب وهو:
مما لا مرية فيه أن ثوار الأرمن كانوا قد ائتمروا بالقسيس المحترم إدوارد
ريجس واثنين آخرين من المرسلين الأمريكيين؛ ليقتلوهم في مرسوان ويلصقوا
تبعة قتلهم بالترك حتى يتيسر لحكومة الولايات المتحدة أن تعاقب الحكومة العثمانية
عقابًا عاجلاًً , ويمكن بذلك أن ينال الأرمن استقلالهم , فإذا قلب الإنسان صحف
التاريخ ليقف على مؤامرة أعرق من هذه في الشر وأبلغ في الفظاعة فإنه يفنى زمنه
قبل أن يجد ما يطلبه , على أنها لم تكن مجرد فكرة خطرت ببال أولئك الأشرار ,
بل إنهم كانوا على وشك تنفيذها لو لم يكشف أمرها لأولئك القسيسين أرمني من
أصدقائهم , ولم يكن ذنب الدكتور ريجس عند الأرمن سوى أنه وقف نفسه وقضى
حياته في تربية أحداثهم بمدارس المرسلين , وفعل أكثر مما فعله أعظم أرمني في
جعلهم جديرين بحكم أنفسهم، فكأن الثوار لم يفطنوا لهذا الأمر ولم يفكروا فيه كثيرًا ,
ثم إنه وإن كان من المتعذر علينا معرفة غاية الأفكار الأساسية للثائرين لكن مقاصد
بعض زعمائهم تمجها الطباع مجًّا كليًّا.
وملخص هذه المقاصد أنهم يريدون التنكيل بالترك وابتلائهم بالفظائع؛ ليثور
غضبهم فيخرجوا في الانتقام عن حد الاعتدال فيهيج ذلك عليهم المسيحيين , فإذا
لامهم لائم على هذه المقاصد المنافية لمبادئ الدين المسيحي اكتفى زعماؤهم في
الجواب عن هذه بقولهم لذلك اللائم: لا مرية في أنك ترى مقاصدنا صارمة،
ووحشية , ولكنا نعلم ما نفعله ولماذا نفعله.
ثم إن طرق هؤلاء القوم في حصولهم على المال تدل على دهائهم كما تدل
عليه مقاصدهم السياسية وثورتهم , فإنهم يكلفون أشخاصًا ممن هم أقل منهم علمًا
ودراية بتقديم آلاف مؤلفة من الغروش لهم , وإن أردت أن تعرف كيف يحصل
هؤلاء على تلك النقود فهاك مقالا على طريقتهم في ذلك وهو:
(إن أحد سراة الترك من الموظفين في الحكومة تلقى في صباح يوم مكتوبًا
يتضمن الوعيد بالقتل إن لم يودع في مكان كذا مبلغ اثني عشر ألف قرش في أربع
وعشرين ساعة , ولما تحرت الحكومة أمر هذا المكتوب؛ أداها التحري إلى أن
كاتبه أرمني كان مستخدمًا لذلك الموظف , وقضى في خدمته عدة سنوات , وقد
اعترف بجنايته لكنه ادعى مدافعًا عن نفسه أن الثوار هم الذي أكرهوه على كتابة
ذلك المكتوب وتوعدوه بالقتل إن لم يفعل وأنه لما رأى نفسه في هذه المسألة مترددًا
بين إرادتين: إرادتهم منه تنفيذ ما طلبوه , وإرادة القانون وهي عكس ذلك؛ اختار أن
ينفذ رغبتهم ففدى ذلك المسكين حياته بمدة طويلة قضاها في الحبس. والذي يعتقده
الناس أن كثيرًا من الأحوال حصل بهذه الطريقة , لكن لا يمكن لأحد أن يقول:
إنها خرجت من جيوب زعماء الفتنة , وقد شاع أنها صرفت في شراء بنادق غير
أن هذا الأمر لا يعلمه إلا أولئك الزعماء أنفسهم) .
فهل يصح لأي إنسان فيه ميل إلى الحق ومسكة من العقل أن يقول بعد قراءة
ما تقدم أن الترك وحكومتهم هم الذين يضطهدون الأرمن ويسعون في محق جنسهم
وملتهم من على وجه البسيطة , كلا , بل إنه من المحقق أن الأرمن الصادقين في
ولائهم للحكومة والمحترمين للقانون لا تقتصر الحكومة على وقايتهم بحمايتها , بل
إنها ترقيهم إلى مناصبها السامية , يدلك على ذلك أن منهم من ارتقى إلى منصب
الوزارة في الدولة , ومن الثابت المحقق أيضًا أن الأرمن في تركيا وعددهم لا يكاد
يزيد عن 900000 نسمة لهم مدارس خصوصية , ولغتهم وآدابهم محفوظة
وجنسيتهم محترمة , ورؤسائهم يرقون في معارج المناصب ومراتب الشرف , على
أن الدول المسيحية في أوربا وأميركا لا تعبأ باليهود والأسبانيين الكاثولكيين لم
يسمحوا لمسلم واحد أن يبقى ببلادهم في أوربا فطردوهم عن بكرة أبيهم من قرون
خلت , والسبب في هذا الفرق العظيم بين تركيا وغيرها من الدول في المعاملة هو
أن الدين الاسلامي في الحقيقة مبني على التسامح والتساهل , ولو لم يكن هذا
التسامح لما وجد في تركيا على بعد أطرافها مسيحي واحد في زمننا هذا , ولكان
ذلك مفيدًا للأتراك فإنه لولا وجود المسيحيين في بلادهم ما كان يوجد ما يسمى الآن
بالمسألة الشرقية , فهم يذوقون اليوم ألم التسامح الذي هو ركن أساسي من أركان
دينهم , وكان يجب على أوربا وأمريكا شكرهم عليه , ولكنا نرى عوضًا عن ذلك
عددًا ليس بالقليل من فصحاء المسيحيين يعين الناس في تركيا على ما لايعينهم عليه
في بلاده من الفتنة وشق عصا الطاعة فهل هذا هو الإنصاف؟ .
ليس هذا وحده من أدلة إجحاف المسيحيين بحقوق تركيا وظلمهم لها , فمما
يثبت نية الإجحاف أيضًا ما ألصق بالباب العالى من التهم الشنيعة فيما جرى عليه
من السياسة في حق الأرمن الذين تجنسوا بالجنسية الأمريكية منذ كانوا في الولايات
المتحدة ورجعوا إلى أوطانهم التي ولدوا فيها , وذلك بسبب إصراره على معاملتهم
بمقتضى قانون الجنسية العثمانية؛ لعدم وجود معاهدات بين تركيا وأمريكا في شأن
التجنيس , وهو قانون مبني على الحكمة واللزوم سنته الحكومة العثمانية , ونشرته
قبل المشاغب الأوربية بزمن طويل , وسأقدم للقراء بيانًا مختصرًا للحقائق كما هى
في الواقع لا على الصورة التي يعميها بها أعداء تركيا راجيًا أن يكون ذلك مفيدًا لهم
في فهم حقيقة هذه المسألة فأقول:
صدر قانون الجنسية العثمانية في 19 يناير سنة 1869 وها هي نصوص
مواده.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/235)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
وقائل كيف تفارقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وآلاف
حملني حسن الظن الذي يغلب علي في عامة الشئون على أن أجعل عبد الحليم
أفندي حلمي مراد مديرًا لأشغال المنار من أول إنشائه , ثم لما بلوته ندمت على ما
فعلت , ولكنني أشفقت عليه , وصعب علي أن أخرجه من العمل , وهو لا يحسن
عملاً يعيش به هو وعياله , فأطمَعتْه الشفقة واللين في المعاملة في أن يقرن اسمه
باسمي في المنار نفسه (لا تطعم العبد الكراع فيطمع بالذراع) فلما عيل الصبر
أخرجته من إدارة المجلة , ولكنه رغب إلي أن أتلطف في الإعلام بذلك في المنار
بحيث لا يُشعِر الكلام بانتقاصه فكتبت (الإعلان) بذلك في العدد التاسع برضاه ,
وطبع بمعرفته مبينًا أنه ليس له علاقة ما ولا شأن في المنار , وأخذ النسخ ليضعها
في البوسطة حسب العادة فوضعها في بيته لأمر ما , وانتهز فرصة غيابي في طنطا
واختلس ما في الإدارة من نسخ المنار التي تفضل عن المشتركين , وعلم أن القضاء
سيقضي عليه فتوارى عن وجهي وجهه فلا أدري أين هو. وسيعلم عن قريب أينما
كان تأويل ما كنت أذكره به عند كثير من حوادثه معي , وهو أن العاقبة للمتقين،
ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأرجو من الذين دفعوا إليه الاشتراك عن هذه السنة من المشتركين الكرام أن
يعرفوني بذلك مبينين تاريخ الايصال لأنني علمت أنه كان يختلف إلى بعضهم ,
ويأخذ منهم من غير أن يعلمني بذلك , وأما المنار فسيصل إلى قرائه بعد الآن في
مواعيده بغاية الدقة والانتظام , وسنرسل الجزء التاسع الماضي مع الحادي عشر إن
شاء الله تعالى.
***
(سكة حديد الحجاز)
تبين أن مولانا الخليفة والسلطان الأعظم مهتم جدًّا بإنجاز هذا المشروع
العظيم , وهو الذي إذا قال فعل , وإذا فعل أحسن وأتقن , ومن محاسن هذه السكة
أنها أول سكة إسلامية محضة فهي لأجل إقامة ركن عظيم من أركان الإسلام , وفي
بلاد كلها للإسلام , وعمالها كلهم من أبناء الإسلام , وحديدها كله مصنوع في
عاصمة الإسلام (الأستانة العلية أعزها الله تعالى) وخشبها من الغابات الأميرية ,
ولا يركبها إلا المسلمون , فنسأل الله تعالى أن يتمم هذا العمل الشريف بالخير عن
قريب , ويجزي مولانا أمير المؤمنين عن هذه المأثرة خير الجزاء بمنه وكرمه.
***
(انتصار الإنكليز على البوير)
دخل الجيش الانكليزي بريتوريا عاصمة الترنسفال , وكان الرئيس كروجر قد
خرج منها , وقد جرت العادة بأن دخول العاصمة هو منتهى الانتصار , ولكن
البوير لما يزالوا مقاتلين ببسالة غريبة , حتى قالوا: إن الجهاد الحقيقي قد ابتدأ منذ
الآن.
***
(جمعية شمس الإسلام)
تأسس فرع للجمعية في مدينة طنطا العظيمة , وقد ذهب كاتب هذه السطور
بدعوة من المجتهدين في التأسيس , فخطبت في الناس مبينًا لهم حقيقة الجمعية ,
وهي الدعوة للتهذيب والتعاون على عمل البر , وجعلت قسمًا من الكلام في
وجوب مجاملة أعضاء الجمعية لمجاوريهم من المخالفين لهم في الدين , واحترامهم
كما هو الواجب في الإسلام , وهذا هو شأن هذا الفقير في كل خطبة يخطبها في
الفروع عند ابتداء تأسيسها.
وقد أشاعت إحدى الجرائد الأجنبية عن الجمعية بأنها سرية , ولها أغراض
سياسية , فقد جاءت تلك الجريدة إثمًا وزورًا. ولو كانت الجمعية سرية لما طبع
قانونها , ولما ذكر اسمها في الجرائد من قبل أهلها. ومن توهم من سائر الناس أن
لكلام تلك الجريدة أصلاً فليطلب من رؤساء الجمعيات الحضور في اجتماعها؛
يتبين لهم الخطأ من الصواب , والحق من الباطل.
__________(3/238)
21 صفر - 1318هـ
19 يونيه - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أوروبا والإصلاح الإسلامي
بينا في المقالة التي افتتحنا بها الجزء الماضي من المنار أن الأوربيين كانوا
يظنون أن الأمة الإسلامية قد قضي عليها فلا ترجى لها حياة اجتماعية , وأنهم لما
رأوا بعض أعضاء هذه الأمة تحرك؛ ذعروا ودهشوا وأوجسوا في نفوسهم خيفة ,
وطفقوا يراقبون شخصها في نومه فكلما تعارَّ [1] ؛ قالوا: إنه هب مستنفرًا لإجلائنا
من بلاده وتقليص ظل سلطتنا عن رأسه.
ونعني بهذا اهتمام القوم لما تكتبه الجرائد الإسلامية , وما ترمي به أفواه
الخطباء في الجمعيات التي نمدحها إذا قلنا: إنها في دور الطفولية , فقد بلغنا أن
قناصل الدول في مصر يهتمون بترجمة كل ما يكتب حتى في الجرائد الصغيرة التي
تشبه فقاقيع الماء تظهر كهيئة القبة الزجاجية ولا تلبث أن تتلاشى وتضمحل , ولا
يكاد يشعر بها إلا من يراقبها مراقبة دقيقة.
يروعهم منا اسم (الإسلام) و (الجامعة الإسلامية) و (الاتحاد الإسلامي)
يظنون أن وراءها غارات تشن , وحروب تشب , وتعصبًا يدمي , وتحزبًا يفني ,
والصواب أن أكثر اللاغطين بتلك الكلمات والراقمين لها في تلك الورقات إنما
يقصدون بها تزيين اللفظ واستلفات اللحظ؛ جلبًا للمال وتحسينًا للحال. كالصدى
يحكي الطائر المغرد , والأخذ بالظواهر قصارى فعل المقلد.
وقد يتزيى بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان ما لا يلائمه
وأما من يتكلم عن بصيرة , ويعمل عن حمية وغيرة , فهم يعلمون أن محاولة
الطفور غرور بل جنون , وأن بلوغ الغاية في البداية محال لا يكون , فلا يطالبون
المسلمين بأن يكون لهم سلطان واحد وحكومة واحدة , وأن يخرجوا على حكامهم من
غير المسلمين فيبيدوهم أو يجلوهم عن بلادهم , فإنهم يعلمون أن التحريض على
هذا تحريض على إبادة الشرق أو إبادة العالم الإنساني إلا قليلاً , والتحريض على
مثل هذا يمنعه كل دين ويأباه كل عقل.
نعم إن هنا مسألة يسوء الأوربيين ذكرها في الجرائد على أن ذكرها وعدمه
سيان؛ لأنها معلومة بالضرورة لكل مسلم , وهي أن الدين الإسلامي دين سلطة
وسياسة لا دين تعبد وتحنث فقط , فمن أصوله أن يسعى أربابه بأن تكون لهم
السلطة على العالم كله , لا على المسلمين وحدهم كما يظن البعض , ولكن هذا
الأمر من وظائف الخلفاء والأمراء , لا من وظائف العامة فترشدها إليه الجرائد
والخطباء , وتؤلف لأجله الجمعيات , وإننا نعتقد أن الله تعالى ما كلفنا بنشر ديننا
في جميع العالم ورفع لواء سلطتنا على رؤوس جميع الشعوب لأجل الأبهة
والفخفخة , وتمتع الملوك والأمراء بالسلطة المطلقة , واستعباد الناس وإذلالهم
وإنما أمرنا الله باستعمار الأرض وإصلاح الناس , ولذلك ذكر في أول الآيات التي
نزلت في الإذن بالقتال هذا المقصد الشريف , فقال عز من قائل:] أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ [2 {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) فذكر من
الحكمة في الإذن بالقتال المدافعة وإزالة الظلم , وحفظ المعابد التي يذكر فيها الله
تعالى , وذكر من وصف المقاتلين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وذلك إما
بالإلزام وإما بالتربية والتعليم , وهذا هو الإصلاح الأكبر , فإذا كان حكامنا يتركون
سيل الفساد والظلم في بلادهم وما يجرف حتى صارت أبعد بلاد الله عن العمران
وأقربها إلى الفساد فكيف لنا أن نحرضهم مع هذا على أن يضموا غيرها إليها؟ .
كلا إننا لا نطلب من حكامنا الآن إلا إصلاح البلاد التي يحكمونها , وإقامة
العدل فيها؛ لتعمر البلاد وتسعد العباد.
وأما الأمة فإننا نطالبها في كل قطر من الأقطار وتحت حكم أية دولة من
الدول بشيء واحد صرحنا به مرارًا تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل: وهو مجاراة
الأمم الحية في العلوم والأعمال.
وإن سألتم عن السبب في مطالبتها بهذا بلسان الدين , وسوقها إليها بسوط الدين؛
فهاؤم اقرأوا جوابيه:
أنتم أيها المعترضون تعتقدون أنه لا سبب لتأخر الأمة الإسلامية في جميع
بقاع الأرض عن سائر الأمم إلا دينها الذي هي عليه , فكيف يمكن لأحد أن يتصدى
لإصلاح هذه الأمة بقول أو فعل ولا يكون جل عنايته أو كلها في دينها؟ لقد حفيت
الأقلام وخفتت الأصوات من كثرة ما كتبنا وخطبنا في موضوع شقاء المسلمين
بدينهم الذي سعد به أسلافهم , وبينا أن علة الشقاء إنما هي في ابتداعهم فيه , لا في
اتباعهم له , وفي لبسه كما يلبس الفرو مقلوبًا كما قال الإمام علي كرم الله وجهه في
بعض أهل عصره , واستقباحهم ما استحسنه واستحبابهم ما كرهه.
فإن الإسلام دين الفطرة الآمر بكل علم نافع الناهي عن كل جهل مضر.
فأمسى أهله يعادون كل علم لأجل الدين , ويقاومون كل إصلاح باسم الدين
ويفندون كل نظام لتأييد الدين , ويؤيدون كل خلل انتصارًا للدين. فإذا قلت: عليكم
بالعلوم الطبيعية لأنها الموصلة إلى الصناعات، قال علماؤهم: إن هذا يريد إفساد
عقول المسلمين. وإذا قلت: انظروا في التاريخ وتقويم البلدان لتعرفوا حالة
الإنسان , قال علماؤهم: إن هذا يصدنا بهذا اللغو عن علوم الدين. فما هذا الدين
الذي هو أكبر بلاء على المتدينين؟ .
هل هو الإسلام الذي تستلفتنا آيات كتابه التي لا تحصى للنظر في ملكوت
السموات والارض ويقول: إن الله تعالى أنشأنا من الأرض واستعمرنا فيها ,
وسخر لنا جميع المخلوقات لننتفع بها؟ كلا , هل هو الإسلام الذي أرشدنا قرآنه إلى
سنن الله في الآفاق وفي أنفسنا وهدانا للاعتبار بها؟ كلا. هل هو الإسلام الذي حثنا
على الجد والعلم , ونفرنا عن الخمول والكسل حتى قال نبيه صلى الله عليه وسلم:
(إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) ؟ كلا , وإنما هي بدع وتقاليد ألفت
فيها كتب لا تحصى , وحشيت فيها كتب لا تستقصى , ويسمى مجموعها دينًا.
قد كان عند الأوربيين مثلما هو عندنا اليوم , وما تسنى لهم الإصلاح الديني
إلا بعد ما وضعوا تلك الحواجز الحديدية دون تلك الكتب الخرافية التي أفسدت العقول
وغلت الأيدي عن العمل , وقيدت الأرجل دون السعي , وجلعت زمام إرادة العامة
في أيدي رؤساء الدين , أليست طبائع الأمم متشابهة وسنن الخليقة واحدة؟ بلى ,
وإن للمسلمين سلفًا لم يكن للمسيحيين مثله , وفي القرآن من الحث على العلم
والعمل ما ليس في الإنجيل ولا في التوراة , فلا بد إذن من الدعوة إلى الإصلاح
الديني قبل كل شئ وسنبين الأصول التي يجب الابتداء بالدعوة إليها بحسب ما
يسمح به المقام إن شاء الله تعالى.
__________
(1) التعار: هو أن يتكلم الإنسان في يقظة خفيفة من نومه ثم يأخذه النوم.
(2) الصوامع للعُبَّاد , والبيع معابد النصارى , والصلوات لليهود , والمساجد للمسلمين.(3/241)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نصيحة أمير أفغانستان إلى ولده وولى عهده
الأمير حبيب الله خان
اطلعنا على نصيحة ألقاها الأمير عبد الرحمن أمير أفغانستان على ولده حبيب
الله خان نشرتها جريدة (الحبل المتين) التي تصدر باللغة الفارسية في مدينة
كلكتا , وقد ترجمت هذه النصيحة جريدة محمدان إلى اللغة الإنكليزية , ونحن ننشر
للقراء ترجمتها باللغة العربية , فقد حوت من جليل الآراء وسامي الأفكار
الإدارية والسياسية ما هو جدير بمثل أمير الأفغان حفظه الله , وها هي:
(في ذات يوم دعا الأمير عبد الرحمن ولده حبيب الله خان وألقى على مسامعه
العبارات الآتية) :
ولدى العزيز: لا يخفى عليك أنني سلمت لك زمام الحكومة في مدة حياتي ,
وأن هذا العمل بلا شك مخالف لنظام الحكومات ومعاملات الدول الأوربية في
الغرب والسلاطين في الشرق , ولكن غرضي من ذلك هو أن أعلمك كيف تحكم
وكيف تفعل؛ لكي تكون على بصيرة وحكمة حينما يخلص إليك الملك وترقى على
عرش هذه الدولة , ولي في ذلك أيضًا غرض آخر وهو أن يعرف مقامك رؤساء
القبائل الأفغانية فيخشوا بأسك ويخضعوا لرأيك.
والآن أريد أن ألقي على مسامعك بعض كلمات في قالب النصيحة , وأعتقد
أنك إذا سِرت على خطتها تأمن على سلامة بلادك , ولا ترتكب خطأ في حكومتك
يؤدي إلى ضياع نفوذك وهذه نصيحتي إليك:
(1) يجب عليك يا بني أن تتمسك بمبادئ دينك الشريف , فتجعل له المقام
الأول , وتنظر للواجبات الخاصة به قبل نظرك إلى أشغالك وسياستك , وبعبارة
أخرى: يجب عليك أن تكون قدوة حسنة في التقى والدين لكافة أفراد رعيتك.
(2) يجب عليك أيضًا أن توجه عنايتك إلى سعادة أمتك وراحة رعيتك ,
وتوطيد دعائم السلام والسكون في أرجاء بلادك. واعلم أن نجاح البلاد وفلاحها
متوقفان على الثروة , وأن الثروة والنفوذ لا يدرَكان بغير وسائط الزراعة والتجارة
والصناعة , وأن هذه الوسائل تحتاج في ترقيتها وتنجيحها إلى التعليم والتربية
العموميين.
إن أمتنا يا بني لا تزال في الدرجة الدنيا من درجات المدنية , ولم يوجه
أفرادها أنظارهم إلى تحصيل العلوم وتربية الأفكار , ولقد كانت أميالي القلبية من
زمن طويل موجهة إلى تشييد المدارس وإرسال أنوار العرفان إلى سائر الأقطار
الأفغانية على طريق المدارس ودور الفنون الموجودة في البلاد الغربية , ولكن مثل
هذه الغاية لا تدرك بمجرد الإرادة , ولا تحقق في زمن قليل؛ لأنها تحتاج إلى
التنمية والترقية التدريجية وحينئذ يلزمك أن توجه عنايتك التامة إلى هذه النقطة
المهمة , وأن تعتقد أن من أقدس الواجبات عليك هو أن تبعث في نفوس رعيتك
ميلاً إلى التربية والتعليم.
(3) حيث أنك ستستلم زمام الأحكام بيدك , وتكون أنت أفضل رجل في
هذه الديار وأسماهم عقلاً وأكبرهم فكرًا وأعلاهم مقامًا - فأحسن معاملة أتباعك
ومَن تحت حكمك. عامل رعيتك باللطف والمحبة الأبوية ليعتقدوا اعتقادًا ثابتًا
بشفقتك عليهم وحرصك على سعادتهم وراحتهم؛ إذ هذا العمل يزيد في محبتهم لك
ويجعلك أسمى مكانة في أعينهم , ولكن لا يجب أن تعامل الأجانب بمثل
هذه المعاملة الأبوية لأنها تزيد في جسارتهم ووقاحتهم.
(4) يجب عليك أن تقدر أعمال رجالك ولا تنسَ فضل الفضلاء منهم
فتكافئهم؛ لأن ذلك يقوي عزائمهم وينشطهم على خدمتك بالدقة والإخلاص
والاستقامة.
(5) كن بعيدًا عن المحاباة والمجاملة في إنصاف المظلوم من الظالم ومعاقبة
المجرم على جريمته , ولو كان المذنب ولدك وفلذة كبدك , واعرف أنك بذلك
تسترقُّ القلوب وتستعبدها.
(6) لا تمكِّن الأجانب من فرصة ينالون بها حقًّا من الحقوق أو نفوذًا كيف
كان , لأنك لو ملكتهم قليلاً من الفرصة فإنك تمهد لهم الطريق إلى خراب مملكتك
وضياع بلادك.
(7) حيث أن الحكومة الإنكليزية بقيت معي إلى هذا العهد مسالمة مصافية
فكن معها كما كنت أنا , ولكن على أي حال ضع نصب عينيك سلامة أفغانستان
واستقلالها.
(8) ليكن من أول الواجبات التي تكلف نفسك بها: حماية مصالح رعاياك في
كل حال من الأحوال.
(9) أما ما يختص بالمسائل السياسية فيجب عليك أن لا ترتكن فيها على
وزرائك وأعوانك , بل يجب عليك أن توجه اهتمامك لكل شئ صغيرًا كان أو كبيرًا
بنفسك.
(10) وأما ما يتعلق بالمسائل الحربية فاعلم أنه يلزمك أن تكون قواتك
الحربية على قدم الاستعداد كأنما تريد أن تزحف بها في الغد إلى ساحة القتال
لمحاربة دولة أقوى منك جأشًا وأكثر عددًا وعِدَدًا , واعلم يا بني أن الأيام علمتنا
دروسًا يجب أن نستفيد منها , فقد عرفنا أن من أول الضروريات أن يكون الجيش
دائمًا على أهبة الاستعداد التام , ثم لا تنس زيادة الآلات والذخائر الحربية في زمن
السلم لأنه كما لا يخفى عليك من الصعب أن تزود جيشك بما يكفيه من المؤونة
والذخائر والآلات في زمن الحرب.
(11) يجب على الملوك أن يجتهدوا في جذب قلوب الجند وازدياد محبتهم
لهم فاجعل جنودك سعداء مرتاحين فيحبوك فلا يتأخروا للوراء في ساعة يفيدك فيها
أن يضحوا حياتهم حبًا فيك وحرصًا على سلامتك , واعلم أن الجنود يبيعون
أرواحهم الغالية بمرتبات قليلة تعطى دائمًا في مواعيدها , وإذا لم تسر معهم على
هذه الخطة فإنهم يضنون في ساعة شدة أن يبيعوك أرواحهم بثمن أغلى
وقيمة أسمى.
(12) يجب أن تعلم يا بني أن بيت مال الحكومة هو ملك الأمة , وليس
مقام السلطان أو الأمير تجاهه إلا مقام الحارس الأمين على ما فيه , فإذا ابتدأ الحاكم
يصرف المال المودع عنده على مصالحه ومطالبه الخصوصية؛ فإنه يكون خائنًا
لمن ولوه الأمانة , وسلموه القيادة , واعتقدوا فيه الاستقامة , ومن المقرر المعلوم أن
الخائن لا قيمة له في أعين الأمة مطلقًا , وأنه مبغض عند الله وعند الناس أجمعين ,
ويجب أن يكون بيت المال دائمًا ممتلئًا لأن ضعف الحكومة يظهر في قلة مالها
أكثر من ظهوره في شيء آخر , كذلك يلزمك أن تدقق في ضروب المصروفات
والإيرادات , وكل ما يزيد يضم على بيت المال بالتوالي.
ويجب عليك أن تعمل كل ما في إمكانك من الوسائل لزيادة ثروة بيت المال
لكي تتمكن من إنجاز الأعمال التي تريد إنجازها سواء كانت حربية أو سياسية أو
تجارية أو صناعية أو تعليمية في الأوقات المناسبة لها؛ لأن الزمن يا بني يحتاج
إلى كل هذه الأعمال والسير على هذا النهج القويم لكي تعيش آمنًا مطمئنًا قويًّا
عزيز الجانب) اهـ من ترجمة المؤيد بتصرف قليل.
(المنار)
يا حبذا لو اعتبر بهذه النصيحة جميع الحكومات الإسلامية , فإن
الإمارة الأفغانية ما أصبحت أعزها وأقواها على صغرها إلا بحزم وحكمة أميرها
الذي أفاده نور البصيرة وحسن التجربة هذه النصائح التي هي أساس السياسة وروح
الرئاسة.
__________(3/245)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هانوتو والإسلام
سأل أحد أفاضل مسلمي بيروت صديقًا له من أدباء المسيحيين مقيمًا في مصر
القاهرة رأيه , وما وصل إليه علمه في شأن المناقشات التي بنيت على مقالات
هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا في الإسلام لا سيما صحة الترجمة؛ فأجابه
بكتاب نذكر منه في هذا المقام ما يأتي:
(مقال هانوتو الذي سبب حركة الأفكار واهتزاز الأقلام قد طالعته مرارًا
باللغة الفرنسوية , وترجمة المؤيد غير مغلوطة , ولكن المسيو هانوتو عندما نقل
كلام كيمون كان غير مرتاح إليه , وتهكم صريحًا على أفكاره , وعلى الحل
المتناهي في الغلو الذي زعم كيمون أنه يريد أن يحل به المسألة الإسلامية , فمترجم
مقال هانوتو في المؤيد قد حافظ المحافظة التامة على الأصل فاكتفى بأن يضع إشارة
الاستفهام الإنكاري , والنقط التي تتبعها , غير أن قراء لغتنا العربية لم يتعودوا على
إدراك سر هذه النقط التي اصطلح عليها الفرنجة ولهذا التبس المعنى , وظن
الكثيرون أن هانوتو يصادق على كلام كيمون , ومع ذلك فقد استأنف الكلام وعاد
ثانيةً إلى الإسلام وتبرأ مما نسب إليه , وصرح بميله واحترامه الإسلام
والمسلمين , وترجم مقاله المؤيد , وتبعه في ذلك الأهرام أيضًا.
ثم دخل اللواء في مضمار المباحثة , وتكدر منه محرر الأهرام الفرنسوي
(وهو شاب استقدمه تقلا باشا من باريز) وطلب مصطفى بك كامل إلى المبارزة ,
وتبع ذلك أقاويل مختلفة , وأقيمت الدعوى من تقلا باشا على صاحب اللواء وتشاتم
الفريقان , وانحاز إلى كل فريق أنصار ومريدون.
مولاي , لو اكتفى المؤيد واللواء بما كتبه ذاك الإمام العظيم؛ لخدما حقيقة
الإسلام لأن الحق يصرع إذا عمد إلى إظهاره بالسباب والشتائم , ولم يكن لرد الإمام
الوقع العظيم في نفوس المسلمين فقط , بل إن كثيرين من أفاضل النصارى قد أجلوه
كثيرًا وأحلوه محلاًّ كريمًا , ولا أبالغ إذا قلت لسعادتكم: إنني قرأته أكثر من
عشرين مرة.
دين الإسلام كله شهامة ومروءة وحرية ومدنية طاهرة , غير أن كيمون
والذين على شاكلة كيمون قد تلقوا كل ما هو معاكس لروح الإسلام والمسلمين وبعيد
عن عقائدهم وأدابهم وأخلاقهم , وكتاب الفرنجة لا يراعون العواطف في اندفاعهم ,
وقد كتب الكثيرون منهم في الطعن على السيد المسيح وعلى طهارة والدته وعلى
كرامة تلامذته , وتصدى منهم فريق عظيم للتوثب على الأحبار الأعاظم , وقالوا
فيهم الأقوال الشائنة التي ترتعد لها فرائص الأداب والفضيلة , فالقوم الذين بلغ بهم
التمادي والغرور إلى هذا الحد أيليق أن نترجم أقوالهم ونذيع ترهاتهم على رؤوس
الأشهاد ونحرك ما كمن من الأحقاد؟
إنني أستحلفك بدينك القويم الذي أشرق بنوره الوضاح على البصائر المظلمة؛
فأنارها , وعلى العقول المقيدة فأرشدها وحل عقالها , وعلى القلوب المتسكعة فأيقظها
وقوم اعوجاجها - أن تحرك قلمك وتغمزه إلى الغاية المحمودة وذلك في
استنهاض همم فطاحل كتاب المسلمين للذود عن الإسلام بالطرق التي يريدها الإسلام،
والطرق التي يريدها الإسلام لا تخفى على أفاضل المسلمين الذين أشربت قلوبهم
محبة الائتلاف والموادعة والمسالمة وتحريض الأمة على اكتساب الفضائل السامية
في إكرام الجار , وتعزيز حقوق الجوار , ومعاملة عباد الله بطرق المساواة والعدل
والولاء.
يوجد كثيرون من الذين لم يتشرفوا بالدين الإسلامي على ضلال مبين في
أفكارهم وظنونهم نحو الإسلام والمسلمين , ولكن ضلالهم لا تعفو آثاره إلا البراهين
القاطعة والحجج الدامغة التي تثبت لهم أن دين الإسلام دين الحرية المطلقة والحنان
الصادق والشهامة الحقيقية والمحافظة على الأعراق وكرم الأخلاق والعرض
والإخلاص والوفاء.
أتظن يا مولاي أن كيمون يقذف من فيه تلك الأقذار لو كان قرأ في زمانه
فصلاً واحدًا من الفصول التي دبجتها أنامل الإمام علي كرم الله وجهه.
أتظن أنه يجرؤ على التلفظ بذاك الحل الهائل الذي يريد أن يحل به المسألة
الإسلامية لو كان سمع بحلم وحكمة العُمَرين وكرم ابن زائدة وعدل الرشيد وسخاء
البرامكة؟ .
أتظن أنه يحرك قلمًا لو علم بأن أحقر رجل من المتدينين بدين الإسلام يهرق
آخر نقطة من دمه في الذود عن عرض وكرامة الملتجي إليه عندما يسأله الحماية.
مهما كان كيمون والذين على شاكلته في غرور وضلال فإنهم لا يستطيعون
بعد معرفة الإسلام إلا الثناء على الإسلام والافتخار بفضائل الإسلام.
وكنت أود من صميم الفؤاد أن أضم صوتي إلى أصوات مقرري الحقيقة
وأنصح أفاضل المسلمين أن يتخذوا الخطط الصائبة في مجادلاتهم وكسر شرة
المتوثبين عليهم , فالحق - أيدك الله - في جانبهم غير أن بعض جهالهم يريدون أن
يصرعوه في تطفلهم على صناعة التحرير والتحبير , ولا أكتم على سعادتكم شيئًا
فإن الأقلام التي تحركت من بعد رد الإمام المعتدل المحكم لم تأت بشيء من الفائدة ,
بل أضاعت أو أوشكت أن تضيع الحق الذي بجانبكم , وتسبب حركة لا يرضاها
عقلاء الأمة الإسلامية عن القاهرة في 9 يونيو سنة 1900. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ج.ع
(المنار)
نحن تحامينا الخوض في المجادلات عندما حمي وطيسها , وكنا
غير راضين عن الذين تهوروا منا فطعنوا في الديانة النصرانية نفسها بما لا يتعلق
بالرد , ورأينا من نعرف من أفاضل المسلمين معنا في هذا الرأي , وقد نشرنا كلام
هذا الكاتب الأديب المسيحي لما فيه من روح المودة الذي نحن في أشد الحاجة إليه
ولا شيء ينفخ روح الهدوء والائتلاف مثل الاعتدال والإنصاف.
__________(3/250)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد من كتاب أميل القرن التاسع عشر)
(9) من أراسم إلى هيلانة في 2 يونيه سنة -185
لا مراء في لزوم الاستعانة بضروب السلطة المطلقة في تربية الأطفال إذا
كانوا حديثي السن جدًّا رعاية لمصلحتهم , فيؤمر الطفل منهم بالإقبال فيقبل , وبفعل
كذا فيفعل , وينهى عن الانطلاق إلى جهة كذا مع قرن هذا النهي بفعل يحول بينه
وبين الذهاب إليها فلا يذهب. مثل هذه الأوامر الصريحة التي تصدرها الأم لولدها
مع تلطيف شدتها بنغمة الصوت فيها , ومباشرة ائتماره بها بنفسها مما لا بد أن يقبل
عذرها فيه؛ لأنها إنما تخاطب بها ذاتًا مجردة من العقل. على أن الأفضل التعجيل
بالكف عن الإلزام والقسر متى صار ذلك ميسورًا.
إن قهر الطفل على الامتثال وإلزامه إطاعة الأوامر يستلزم حتمًا إخماد وجدان
الاستقلال في نفسه خصوصًا إذا طال أمد ذلك العهد، فإنه إذا كان غيره يتكلف
الحلول محله في الإرادة والحكم المطلق على الخير والشر والإنصاف والجور فأي
حاجة تبقى له في الرجوع إلى وجدانه واستفتاء قلبه , وعسى أن لا يكون هذا شأننا
مع (أميل) لأن بالحلول محله في عمله - أعني إلزامه اتباع أوامرنا - يميت فيه
قوى عزيمته الشخصية , فمن أجل أن يكون له قيمة حقيقية يجب أن يصير خيرًا
صالحًا باختياره لا رغم أنفه , وأن تكون أفعاله صادرة عن إرادته , وإني أود كثيرًا
أن يكون من صغره عارفًا بخصائصه ونقائصه ليزيد في الأولى , ويتجرد من
الثانية بتقدمه في سبيل الحياة , فعلينا إذن أن لا نتعامى من أول الأمر عن حقيقة
وظيفتنا وحدودها. فإن الطفل لا يصير صالحًا بعمل الغير , بل يكون كذلك بنفسه ,
ووظيفتنا كلها في تربيته تنحصر في إرشاده إلى استخدام وجدانه , ويجب علينا
أيضًا في سبيل إرجاعه عما يقع منه من الهفوات في سيرته أن نقنعه بمضرة
الأشياء القبيحة بما في تلك الأشياء من البراهين الذاتية على ضررها , لا بما لنا
من الحجج المتسلسلة , وإني لو أسعدني الحظ فتوليت تربية (أميل) بشخصي
لما طالبته بطاعتي فيما آمره به , بل إني متى تمكنت من مخاطبة عقله نصحته بأن
يسير على مقتضى القوانين التي تجري عليها شؤون الكون المعنوية
وحوادثه المادية.
يجري معظم الآباء مع أبنائهم على هذه الطريقة في الاستدلال وهي: اعتقد
صدق ما أقوله لك , وافعل ما آمرك به , وسأثبت لك بعد ذلك أنه هو الحق والعدل وأنا لا أسير عليها مطلقًا , بل إني أجتهد في إقناع (أميل) بأن الأمر الذي
أنصحه باتباعه أو باجتنابه هو حسن أو قبيح لا لأني أراه كذلك بل لأنه قد يكون
مفيدًا للناس أو له أو مضرًّا بهم , وكأني بك تقولين أن ذلك يقتضي أن يكون للطفل
مزايا عقلية خاصة به , فأقول: إنه لا يقتضى إلا ذوقًا كبيرًا , وبساطة كلية فيمن
يتولون تربيته وتعليمه , فليس الذي يؤثر في ذوق الأطفال السليم هو كثرة الكلام
الذي يرمى به جزافًا أو طول الشرح في القول , وإنما الذي يؤثر فيهم هو حسن
النوايا ونبل المقاصد لأنهم أقوى بصيرة مما نتوهمه بألف مرة.
الطاعة الصادرة عن حرية واختيار ترفع طبع الطفل، والإذعان الناشئ من
القسر يحطه , فللأم ومعلم المدرسة كلمة يقولونها عن الطفل العنيد العاصي
لأوامرهما وهي قولهما: (سأذللُه) والحقيقة هي أن الناشئين على طريقتنا
الفرنسوية في التربية مذللون دائمًا.
نعم قد يقال: إنه في السير عليها مصلحة للأحداث وللمجتمع الإنساني , ولكن
سائس الخيل له أيضًا أن يقول للحصان الذي يروضه: لا تجزع فإني إنما أفعل هذا
بك لمصلحتك. على أن إطلاق الترويض على الحصان أصلح من إطلاقه على
الإنسان لأن هذا الحيوان لا يخسر بترويضه باللجام والمهماز إلا حدته الوحشية ,
وأما الإنسان فإنك إذا أخذته بالقهر , وسسته بالإرغام والقسر تذهب بحب الكرامة
من نفسه وتبخس قيمته في نظره. على أن الخوف وازع ضعيف فإنه لا لص ولا
فاتك إلا وهو يرجو النجاة من العقوبة على جريمته حال ارتكابها , ولا طفل يعصي
ما يأمر به قيمه ومعلمه أو يعمل الشر إلا وهو يتخيل في نفسه مهارة في الخلاص
من تبعة ذلك , فإذا نجح في هذا ولو مرة واحدة يحمله هذا النجاح على الثقة بنفسه
في خداع القائمين بتربيته وتهذيبه ومواربتهم.
والطفل الذي يعامل بالقسوة ويؤخذ بالعقوبة يستجم قواه , ويستجن بكبره
وعناده لمقاومة حملنا عليه بسلطتنا وقوتنا.
لا شيء أسهل على الوالدين من إلقاء نير استبدادهما على عنق الطفل , كما
أنه لا شيء أصعب عليهما بعد ذلك من استرداد ما يفقدان من ثقته بهما , ومتى
شعر بأنهما يسوسانه بالهوى والاستبداد فإنه لا يخضع لهما إلا بالضغط والإلزام ,
وفي هذه الحالة ترى عليه أمارات الانقياد والطاعة , ولكنه يطوي جوانحه على
نوع من التذمر والعصيان يستره الرياء , وتترقب إرادتُه التي ترضخ لألم العقاب
بالسوط الوقتَ الملائم لاستعمال الخداع والمكر , فإن الخداع هو سلاح الضعيف
يُعده للاحتماء به من شر القوي , ولما كان عاجزًا عن الكفاح كان يبحث دائمًا عما
يخلصه من سلطة أهله.
وما أشد عجبي من خبثه واجترائه على الاختلاق في مثل هذه الحالة , فإن
كثيرًا من الأطفال لا يبلغون السابعة والثامنة من عمرهم إلا ويحاكون في المكر
والاحتيال سري بلوت [1] وإسقابيني موليير [2] بل وفيجاور يومارشيه [3] .
ومن عواقب القهر الوخيمة أنه يغيض ينبوع الفرح والسرور من نفوس
الأطفال , فما أشبه الطفل المحروم من حريته بفصل الربيع الذي لا تشرق فيه
الشمس. أتحسبين أن هذه العواقب تنتهي بانتهاء سن الطفولية , ولا يكون لها أثر
في مستقبل حياته؟ كلا , إنني لأعرف لأول وهلة من رؤية الرجل ما كان من
نعمته أو بؤسه في طفوليته. ترين الذين يربون بالقهر جبناء عابسي الوجوه كاسفي
البال ويكون لذلك ظلمةً في عقولهم وعصل في طباعهم. (أي: اعوجاج بصلابة) .
وأنا أسال الله سبحانه أن يحفظنا من مدعي العلم والمعلمين , فإنهم هم الذين
يفسدون أخلاق الناشئين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بلوت: شاعر هزلي لاتيني برع في أشعاره زمن الحرب اليوتيه الثانية , وكتب عشرين رواية كان من الممثلين في بعضها جماعة من الأسرى جعلهم مظهرًا للخبث والخداع.
(2) إسقابينى موليير هم أشخاص من الممثلين في بعض روايات موليير الكاتب الفرنساوي الشهير جعلهم عنوانًا للدسائس والخبائث.
(3) فيجارو يومارشيه أشخاص من الممثلين في روايات الكاتب الفرنساوي الشهير يومارشيه أناطهم بتمثيل الدسائس والفتن.(3/253)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(مدنية الإسلام)
قصيدة غراء مطولة لناظمها الشاعر الأديب الشيخ حسين محمد الجمل
القناياتي الأزهري، كان الباعث له على نظمها حمية جاشت في نفسه من مقالات
الموسيو هانوتو في الإسلام.
بدأ الناظم قصيدته بالكلام على حاجة الناس للإرشاد الإلهي , ثم ذكر الأنبياء
وخاتمهم والقرآن , وأفاض في محاسن عقائده وأخلاقه وآدابه وصرفه النفوس عن
الشرور والرذائل , ثم ذكر الصحابة وفتوحاتهم وقال:
سقى أمة الإسلام أخلاف مزنة ... يدرّ لها وابل من الغيث أسجم
فما فتحته في ثلاثين حجة ... وأضحى به الإسلام وهو مفخَّم
كما فتح الرومان من قبل في مدى ... مئات ثلاث بل أولئك أضخم
وقد سها الناظم في ذلك , فإن المعروف من التاريخ , وذكرناه في المنار من
قبل أن المسلمين فتحوا في مدة ثمانين سنة أكثر مما فتحه الرومانيون في ثمانمائة
سنة , وهو تقدير صحيح لكنه لا يستلزم أن يكون كل عشر سنين من فتوح
المسلمين تساوي أو تزيد على عشرة أمثالها من الرومانيين.
ومن محاسن القصيدة قوله في إثر ما ذكره من الفتوحات:
فهل بعد هذا يفهم الخصم أننا ... كسالى عن الأعمال أو يتوهم
ويزعم أن الدين يلوي بأهله ... عن الخطة المثلى وأن يتعلموا
فوالله إن الدين ما حل بلدة ... من الكون إلا وهي بالعلم تكرم
فللعلم والتعليم أشرق ديننا ... وبالعلم والتعليم قد كان يفخم
سلوا الطب والتاريخ عنا وحكمة ... سلوا علم تقويم البلاد لتعلموا
علوم الرياضيات عنا تبينت ... علوم الطبيعيات عنا أخذتم
فمنا الذي الأفلاك منه تقومت ... وكم فاق منا راصد ومنجم
ومنا الأساطين الذين تكشفت ... غوامض أسرار الطبائع عنهم
أولئك أهلونا فجيئوا بمثلهم ... وإن جئتم فالأفضل المتقدم
فيا أهل أوربا ألا تذكرون إذ ... جهالتكم كانت عليكم تخيم
ونحن بأنوار المعارف نهتدي ... ونمرح في الإسعاد والعيش ينعم
فلا كنت يا حرب الصليب لهم فقد ... جعلت عدانا يعرفون ونعجم
فنحث حضرة الناظم على مداومة النظم في هذه الموضوعات الأدبية
والاجتماعية , وخصوصًا الإسلامية مع الدقة في الضبط , ولكن بدون أن يتعرض
للأديان الأخرى كما يفعل بعض المتهورين.
***
(المجلة المصرية)
مجلة أدبية تاريخية قضائية اقتصادية علمية زراعية تصدر في غرة كل شهر
ومنتصفه لصاحبها ومنشئها الكاتب الأديب الشاعر الناثر خليل أفندي مطران
(وتشترك في تحريرها لجنة من أعاظم الكتاب) ويديرها الكاتب الفاضل محمد
أفندي مسعود، وقيمة الاشتراك فيها ثمانون غرشًا صاغًا في السنة , وقد صدر منها
عددان مشحونان بالمقالات المفيدة والقصائد اللطيفة والمسائل النافعة، فنحث عليها
القراء , ونسأل لها النجاح والارتقاء.
__________(3/257)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
قانون الجنسية العثماني
(تابع ويتبع)
المادة الأولى - كل من وُلد من أبوين عثمانيين أو من أب عثماني فقط فهو
من رعايا الدولة العثمانية.
المادة الثانية - يجوز لكل من وُلد في أرض المملكة العثمانية من أبوين
أجنبيين أن يطلب اعتباره عثمانيًّا في السنين الثلاث التالية لبلوغه سن الرشد.
المادة الثالثة - كل أجنبي بالغ أقام في بلاد المملكة العثمانية خمس سنين
متوالية يجوز له أن ينال التابعية العثمانية بطلب يقدمه لنظارة الخارجية بنفسه أو
بواسطة غيره.
المادة الرابعة - للحكومة الشاهانية أن تمنح التابعية العثمانية على خلاف
المقرر في المادة السابقة لكل أجنبي ترى فيه أنه حقيق بهذا الامتياز.
المادة الخامسة - كل عثماني نال جنسية أجنبية برضا الدولة الشاهانية
وإذنها يعتبر أجنبيًّا , ويعامل معاملة الأجانب , فإن تجنس بجنسية أجنبية بغير إذن
الحكومة كان تجنسه باطلاً , واعتبر كأنه لم يكن , وبقي هو معتبرًا عثمانيًّا في
جميع أحواله ومعاملاته , ولا يسوغ لأي عثماني في أي حال من الأحوال أن
يتجنس بجنسية أجنبية ما لم يحصل على شهادة دالة على تصريح الحكومة له بذلك
وتعطى هذه الشهادة بمقتضى إرادة شاهانية.
المادة السادسة - يجوز للحكومة الشاهانية أن تحكم بالحرمان من التابعية
العثمانية على كل من تجنس من رعاياها بجنسية أجنبية , أو قبل من دول أخرى
التوظف في وظائفها العسكرية بدون تصريح من دولته , وفي هذه الحالة يستتبع
الحرمان من التابعية العثمانية وحده منع من استحقه من الرجوع إلى المملكة
الشاهانية.
المادة السابعة - للمرأة العثمانية التي تزوجت بأجنبي ومات زوجها أن
تسترد تابعيتها العثمانية بأن تقرر ذلك في السنين الثلاث التالية لوفاته , لكن هذا
الحكم لا يتعدى شخصها فتبقى أملاكها خاضعة للقوانين واللوائح العامة التي كانت
تابعة لها قبل وفاة الزوج.
المادة الثامنة - إذا تجنس عثماني بجنسية أجنبية , أو خسر جنسيته العثمانية
فإن ولده وإن كان قاصرًا لا يتبعه في جنسيته , بل يبقى عثمانيًّا , وإذا تجنس
أجنبي بالجنسية العثمانية فلا يتبعه ولده أيضًا في جنسيته وإن كان قاصرًا بل
يبقى أجنبيًّا.
المادة التاسعة - كل شخص يسكن بلاد الدولة العثمانية يعتبر عثمانيًّا ,
ويعامل معاملة العثمانية حتى يثبت لدولة أخرى إثباتًا قانونيًّا.
وقد صدر منشور وزاري في 26 مارس سنة 1869 لجميع حكام الولايات
والأقاليم يتضمن تفسير مواد هذا القانون وإيضاح معانيها الحقيقية، أنقل إليك معناه
وهو بعد الديباجة:
قد بلغتكم بنفسي قانون الجنسية العثمانية الصادر في 6 شوال سنة 1285
الموافق 19يناير سنة 1869 وإني على ما أراه في سياق نصوصه من وضوح
معانيها التي لا يختلف في فهمها اثنان أرى من الضرورى أن أبين لكم المقصد
الأصلي من أحكامه المهمة فأقول:
إني قبل كل شيء لست فى حاجة لتنبيهكم إلى أن هذا القانون كغيره من
القوانين لا تجري أحكامه على الحوادث السابقة لصدوره فجميع من سبق تجنسهم
بالجنسية العثمانية من الأجانب , وجميع العثمانيين الذين تجنسوا بجنسيات أجنبية
بمقتضى معاهدات أو عهود مبرمة بين الباب العالي والسفارات الأجنبية المعتمدة
عنده - يبقون كما كانوا قبل صدوره عثمانيين أو أجانب. الأحكام المبينة في المواد 1
و2 , و3 , و4 هي من الوضوح بحيث لا تحتاج لأدنى شرح، وإنما الذي أستلفتكم
إليه هو أنه لما كان قانون الأحوال الشخصية لكل فرد - أي قانون منشئه - هو
الذي يحدد زمن بلوغه , وكان ذلك القانون يختلف في هذا التحديد باختلاف البلدان لأنه
في بعضها يحدد الزمن المذكور بخمس وعشرين سنة , وفي بعضها بأكثر من ذلك
وفي بعض آخر بأقل منه - كان من الواجب على كل أجنبي أراد التجنس بالجنسية
العثمانية أن يثبت أنه وصل إلى سن البلوغ على حسب ما يقضي به قانون منشئه.
قضت المادة الخامسة على جميع العثمانيين الذين يريدون التجنس بجنسيات
أجنبية أن يحصلوا قبل ذلك على إذن مكتوب من الحكومة يعطى إليهم بمقتضى
إرادة شاهانية , فإن لم يقوموا بهذا الواجب اعتبر تجنسهم باطلاً كأنه لم يكن , بل
كان للحكومة الشاهانية الحق (كما في المادة السادسة) في أن تحرمهم من الجنسية
العثمانية حرمانًا يستلزم وحده منعهم من الرجوع إلى المملكة العثمانية , وتقرير هذا
العقاب من خصائص الباب العالي نفسه , فعلى الحكومة الشاهانية إذا تجنس عثماني
بجنسية أجنبية قبل الحصول على تصريح من حكومته أن تقتصر على اعتبار
تجنسه باطلاً , ولا يجوز لها أن تتعرض لطرده قبل أن تتلقى الأوامر بذلك من
الباب العالي مباشرة.
من حيث إن المرأة العثمانية التي تتزوج بأجنبي تزول عنها جنسيتها العثمانية،
فإذا مات زوجها كان لها الحق بمقتضى المادة السابقة في أن تسترد جنسيتها
الأصلية بأن تقرر ذلك الحكومة العثمانية في السنين الثلاث التالية لوفاة زوجها.
قضت المادة الثامنة بأن تجنس الأب لا يستلزم تجنس أولاده وإن كانوا
قاصرين , فإذا منح الأب امتياز التجنس بجنسية أجنبية فلا يشمل هذا الامتياز
أولاده إلا إذا أرادوا ذلك , فإذا كانوا بالغين وقت تجنسه كان لهم الخيار في اتباعه
أو بقائهم عثمانيين , فإن اختاروا الأول وجب عليهم طلبه من الحكومة , وإذا كانوا
قاصرين كان لهم هذا الخيار عند بلوغهم وغني عن البيان أن هذه الحكم فضلاً عن
موافقته لمعظم الشرائع الأوربية لم يقصد بوضعه الأخير الأولاد وفائدتهم , فإنهم قد
يجدون في بعض الأحوال أنه ليس من الملائم لمصلحتهم أن يتبعوا آباءهم في
الجنسية , بل قد يرون أن في ذلك ضررًا عليهم. لكن ذلك الحكم لا يسري على
الأطفال الذين يولدون عقب تجنس أبيهم بالجنسية الأجنبية بل إن هؤلاء يتبعونه في
جنسيته ويكونون من الدولة التي صار تابعًا لها.
لا غرض من الشرط الذي جاء في نهاية القانون إلا بيان ما يتبع في حق
الأشخاص الذين قد توجد أسباب صحيحة لاعتبارهم عثمانيين , وهم يدعون التابعية
لدولة أجنبية بدون أن يكون في حالهم ما يؤيد دعواهم.
فمن البديهي أنه عند حصول التنازع في تلك التابعية يجب على مدعيها أن
يقدم للحكومة مايثبتها , وعلى جهات الحكومة أن تعتبره عثمانيًّا وتعامله معاملة
العثمانيين ما دام موجودًا في بلاد الدولة حتى يقدم لها ذلك الإثبات.
ولا يخفى على فطنتكم أن المادة الثامنة من القانون لم تغير شيئًا من الحقوق التي
تكلفها للأجانب المعاهدات , ولم تعط لجهات الحكومة الحق في مخالفة اللوائح
المبنية على تلك المعاهدات المتعلقة بمعاملاتها للأجانب.
وإني في الختام أستلفت نظر حضرة الحاكم العام إلى أن التجنس بجنسية
أجنبية لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يترتب عليه خلاص المتجنس مما يكون
قد اتخذ في حقه من الإجراءات المدنية أو الجنائية قبل تجنسه من جهة الحكومة
التي كان تابعًا لها.
وأرجو أن تفرغوا جهدكم في اتباع هذه التعاليم بالدقة والجري على ما تقتضيه
تأييدًا لأحكام القانون , وإني من أجل تسهيل أداء هذا الواجب عليكم سأرسل صورة
منها إلى الدول الأجنبية المعتمدة لدى الباب العالي؛ لترسل من قبلها إلى عمالها في
الولايات والأقاليم فيعلمونها) اهـ.
أذاع الأرمن وأصدقاؤهم من الأميريكيين على رءوس الأشهاد أن هذا القانون
الذي نقلت للقارئ صورته لا ينطبق إلا على الأرمن , بل على الأرمن الذين لم
يتجنسوا إلا بجنسية الولايات المتحدة , وفي مجرد الاطلاع على القانون دلالة على
أن هذه التهمة لم يقصد بها إلا تضليل الرأي العام، فهو متعلق بكافة من كانوا من
رعايا الحكومة العثمانية , وخرجوا من تابعيتها بقطع النظر عن جنسهم أو دينهم ,
وبقطع النظر أيضًا عن تجنسهم في الولايات المتحدة أو في أي بلد من بلاد أوربا.
على أن الأرمن لا يسعون وراء التجنس بجنسية أوربية , وذلك لأسباب ثلاثة:
أولها: أن أوربا تعلم حقيقتهم على حين أن أمريكا تجهلها.
ثانيها: أن ما يبذله المرسلون الأمريكيون من الجهد في تدينهم بدينهم وإيتائهم
حظًّا من التربية مناصبة للدولة العثمانية بالعدوان على رأي موسيو كزيمنس يحدو
بهم إلى ترجيح تابعية الولايات المتحدة.
ثالثها: أن الأرمن يعتبرون قانون الجنسية الأمريكية أوفق لمصلحتهم وأنفع
لإنفاذ مقاصدهم السرية؛ لأن تذاكر الجواز الأمريكية مثلاً لا تحتوى على شرط كالذي
يوجد دائمًا في تذاكر الجواز الإنكليزية وهو: (أعطيت هذه التذاكر مفيدة بأن
حاملها متى وجد داخل حدود الدولة الأجنبية التي كان تابعًا لها من قبل حصوله على
الشهادة الدالة على تجنسه بالجنسية الإنكليزية لا يعتبر تابعًا للحكومة الإنكليزية ما لم
تكن تابعيته لتلك الدولة قد زالت بمقتضى قوانينها أو بمقتضى معاهدة خاصة بذلك) .
لها بقية
(استلفات)
نستلفت نظر صاحبي مجلة نور الإسلام التي أضيئت لإرشاد الأنام إلى
مراعاة حقوق الصحافة بعزو النقل دائمًا إلى المجلات والجرائد والكتب التي ينقل
منها , فقد نقلت عن مجلتنا (المنار) نبذة في الجواب عن آيتين كريمتين , ولم
تعزُها إليها.
(سؤال)
ورد لنا من صيدا سؤال عن جواز أكل طعام أهل الكتاب وعدمه , ولا شك أن
صاحبه يعلم أن أهل السنة على الجواز، والشيعة على عدمه , ولكنه يطلب البحث في
أدلة الفريقين , وسنوافيه بذلك في الجزء الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/259)
غرة ربيع الأول - 1318هـ
28 يونيه - 1900م(3/)
الكاتب: محمد عبده
__________
القضاء والقدر
قضت سنة الله فى خلقه بأن للعقائد القلبية سلطانًا على الأعمال البدنية , فما
يكون فى الأعمال من صلاح أو فساد، فإنما مرجعه فساد العقيدة وصلاحها , على
ما بينا فى بعض الأعداد الماضية , ورُب عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها
عقائد ومدركات أخرى , ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها فى النفس , ورُب
أصل من أصول الخير وقاعدة من قواعد الكمال إذا عرضت على الأنفس فى تعليم
أو تبليغ شرع يقع فيها الاشتباه على فهم السامع فتلتبس عليه بما ليس من قبيلها ,
وتصادف عنده بعض الصفات الرديئة أو الاعتقادات الباطلة فيعلق بها عند الاعتقاد
شيء مما تصادفه , وفى كلا الحالين يتغير وجهها ويختلف أثرها , وربما تتبعها
عقائد فاسدة مبنية على الخطأ فى الفهم أو على خبث الاستعداد فتنشأ عنها أعمال
غير صالحة , وذلك على غير علم من المعتقِد كيف اعتقد، ولا كيف يصرفه
اعتقاده , والمغرور بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأت عن الاعتقاد بذلك
الأصل وتلك القاعدة.
ومن مثل هذا الانحراف فى الفهم وقع التحريف والتبديل فى بعض أصول
الأديان غالبًا , بل هو علة البدع فى كل دين على الأغلب , وكثيرًا ما كان هذا
الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال حتى أفضى بمن
ابتلاهم الله به إلى الهلاك وبئس المصير , وهذا ما يحمل بعض من لا خبرة لهم
على الطعن فى دين من الأديان أو عقيدة من العقائد الحقة استنادًا إلى أعمال بعض
السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة.
من ذلك عقيدة القضاء والقدر التى تعد من أصول العقائد فى الديانة الإسلامية
الحقة , كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج وظنوا بها الظنون , وزعموا أنها ما
تمكنت من نفوس قوم إلا وسلبتهم الهمة والقوة , وحكَّمت فيهم الضعف والضعة ,
ورموا المسلمين بصفات , ونسبوا إليهم أطوارًا , ثم حصروا علتها فى الاعتقاد
بالقدر.
قالوا: إن المسلمين فى فقر وفاقة وتأخر فى القوى الحربية والسياسية عن
سائر الأمم , وقد نشأ فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد
والتباغض وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة , وغفلوا عما
يضرهم وما ينفعهم , وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون , ثم لا ينافسون
غيرهم فى فضيلة , ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر فى إلحاق
الضرر به , فجعلوا بأسهم بينهم , والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى.
رضوا بكل عارض , واستعدوا لقبول كل حادث وركنوا إلى السكون فى كسور
بيوتهم يسرحون فى مرعاهم ثم يعودون إلى مأواهم. الأمراءُ فيهم يقطعون أزمنتهم
فى اللهو واللعب ومعاطاة الشهوات وعليهم حقوق وواجبات تستغرق فى أدائها
أعمارهم ولا يؤدون شيئًا منها. يصرفون أموالهم فيما يقطعون به زمانهم إسرافًا
وتبذيرًا , نفقاتهم واسعة ولكن لا يدخل فى حسابها شيء يعود على ملتهم بالمنفعة.
يتخاذلون ويتنافرون وينيطون المصالح العمومية بمصالحهم الخصوصية , فرب
تنافر بين أميرين يضيع أمة كاملة , كل منهما يخذل صاحبه ويستعدي عليه جاره
فيجد الأجنبى فيهما قوة فانية وضعفًا قاتلاً، فينال من بلادهما ما لا يكلفه عددًا ولا
عُدة. شملهم الخوف وعمهم الجبن والخور , يفزعون من الهمس ويألمون من
اللمس. قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم فى العزة والشوكة , وخالفوا فى
ذلك أوامر دينهم مع رؤيتهم لجيرانهم، بل الذين تحت سلطتهم يتقدمون ويباهونهم بما
يكسبون , وإذا أصاب قومًا من إخوانهم مصيبة أو عَدَت عليهم عادية لا يسعون فى
تخفيف مصابهم , ولا ينبعثون لمناصرتهم , ولا توجد فيهم جمعيات ملية كبيرة لا
جهرية ولا سرية يكون من مقاصدها إحياء الغيرة وتنبيه الحمية ومساعدة الضعفاء
وحفظ الحق من بغى الأقوياء وتسلط الغرباء.
هكذا نسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار , وزعموا أن لا منشأ
لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية , وحكموا
بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة ولن ينالوا عزًّا ولن
يعيدوا مجدًا , ولا يأخذون حقًّا ولا يدفعون تعديًا , ولا ينهضون بتقوية سلطان أو
تأييد ملك , ولا يزال بهم الضعف يفعل في نفوسهم ويركس من طباعهم حتى يؤدي
بهم إلى الفناء والزوال (والعياذ بالله) يفني بعضهم بعضًا بالمنازعات الخاصة ,
وما يسلم من أيدي بعضهم يحصده الأجانب.
واعتقد اولئك الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد
بمذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله , وتوهموا أن
المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما
تميل , ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا اختيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا
سكون - وإنما جميع ذلك بقوة جابرة وقدرة قاسرة - فلا ريب تتعطل قواهم ,
ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى , وتمحى من خواطرهم داعية
السعي والكسب , وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم.
هكذا ظنت طائفة من الإفرنج , وذهب مذهبها كثيرون من ضعفاء العقول في
المشرق , ولست أخشى أن أقول كذب الظان وأخطأ الواهم وأبطل الزاعم وافتروا
على الله والمسلمين كذبًا. لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني وشيعي وزيدي
ووهابي وخارجي يرى مذهب الجبر المحض , ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه
بالمرة , بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزاءً اختياريًّا في
أعمالهم , ويسمى بالكسب وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم , وأنهم محاسبون
بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري , ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية
والنواهي الربانية الداعية إلى كل خير الهادية إلى كل فلاح , وأن هذا النوع من
الاختيار هو مورد التكليف الشرعي , وبه تتم الحكمة والعدل.
نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر
في جميع أفعاله اضطرارًا لا يشوبه اختيار , وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك
الشخص فكه للأكل والمضغ وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته , ومذهب هذه
الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة , وقد انقرض أرباب هذا المذهب
في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثر. وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر
هو عين الاعتقاد بالجبر ولا من مقتضيات ذلك الاعتقاد كما ظنه أولئك الواهمون.
الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع , بل ترشد إليه الفطرة , ويسهل على
كل من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان , وأنه لا
يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه , ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها ,
وأن لكل منها مدخلاً ظاهرًا فيما بعده بتقدير العزيز العليم. وإرادة الإنسان إنما هي
حلقة من حلقات تلك السلسلة , وليست الإرادة إلا أثرًا من آثار الإدراك , والإدراك
انفعال النفس بما يعرض على الحواس , وشعورها بما أودع في الفطرة من
الحاجات , فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله فضلاً
عن عاقل , وأن مبدأ هذه الأسباب التي ترى في الظاهر مؤثرة إنما هي بيد مدبر
الكون الأعظم الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته , وجعل كل حادث تابعًا لشبهه
كأنه جزء له، خصوصًا في العالم الإنساني.
ولو فرضنا أن جاهلاً ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم فليس في
إمكانه أن يتملص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والتأثيرات الدهرية في
الإرادات البشرية , فهل يستطيع إنسان أن يخرج بنفسه عن هذه السنة التي سنها
الله في خلقه؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلاً عن الواصلين , وإن بعضًا
من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجأوا إلى الخضوع لسلطة القضاء وأطالوا
البيان في إثباتها , ولسنا في حاجة إلى الاستشهاد بآرائهم.
إن للتاريخ علمًا فوق الرواية عني بالبحث فيه العلماء من كل أمة , وهو العلم
الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها وطبائع الحوادث العظيمة وخواصها
وما ينشأ عنها من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار , بل في
خصائص الإحساس الباطن والوجدان , وما يتبع ذلك كله من نشأة الأمم وتكوُّن
الدول أو فناء بعضها واندراس أثره.
هذا الفن الذي عدوه من أجلِّ الفنون الأدبية وأجزلها فائدة، بناء البحث فيه على
الاعتقاد بالقضاء والقدر والإذعان بأن قوى البشر في قبضة مدبر للكائنات ومصرف
للحادثات , ولو استقلت قدرة البشر بالتأثير ما انحط رفيع ولا ضعف قوي , ولا
انهدم مجد ولا تقوض سلطان.
الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفات الجراءة
والإقدام وخلق الشجاعة والبسالة , ويبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب
الأُسود , وتنشق منها مرائر النمور. هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات
واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال , ويحليها بحلي الجود والسخاء , ويدعوها إلى
الخروج من كل ما يعز عليها , بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة
الحياة، كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة. الذي يعتقد بأن
الأجل محدود , والرزق مكفول , والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء؛ كيف يرهب
الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء كلمة أمته أو ملته , والقيام بما فرض الله عليه من
ذلك؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشييد المجد على حسب
الأوامر الإلهية وأصول الاجتماعات البشرية؟ .
امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد مع بيان فضيلته في قوله الحق: {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 173-174) اندفع المسلمون في أوائل نشأتهم
إلى الممالك والأقطار يفتحونها ويتسلطون عليها فأدهشوا العقول وحيروا الألباب بما
دوخوا الدول وقهروا الأمم , وامتدت سلطتهم من بلاد بيريني الفاصلة بين أسبانيا
وفرنسا إلى جدار الصين مع قلة عددهم وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة وطبائع
الأقطار المتنوعة. أرغموا الملوك وأذلوا القياصرة والأكاسرة في مدة لا تتجاوز
ثمانين سنة.
إن هذا ليُعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات. دمروا بلادًا ودكدكوا
أطوادًا , ورفعوا فوق الأرض أرضًا ثانية من القسطل وطبقة أخرى من النقع ,
وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم وأقاموا بدلها جبالاً وتلالاً من رؤوس
النابذين لسلطانهم , وأرجفوا كل قلب وأرعدوا كل فريصة , وما كان قائدهم
وسائقهم إلى جميع هذا إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر.
هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش
يغص بها الفضاء ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم وردوهم على
أعقابهم.
بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق , وانقضت شهبها على الحيارى في
هبوات الحروب من أهل المغرب , وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما
يملكون من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم لا يخشون فقرًا ولا يخافون فاقة. هذا
الاعتقاد هو الذي سهل عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حجورهم إلى
ساحات القتال في أقصى بلاد العالم كأنما يسيرون إلى الحدائق والرياض , وكأنهم
أخذوا لأنفسهم بالتوكل على الله أمانًا من كل غادرة وأحاطوها من الاعتماد عليه
بحصن يصونهم من كل طارقة , وكان نساؤهم وأولادهم يتولون سقاية جيوشهم
وخدمتها فيما تحتاج إليه، لا يفترق النساء والأولاد عن الرجال والكهول إلا بحمل
السلاح , ولا تأخذ النساء رهبة وتغشى الأولاد مهابة. هذا الاعتقاد هو الذي ارتفع
بهم إلى حد كان ذكر اسمهم يذيب القلوب , ويبدد أفلاذ الأكباد حتى كانوا يُنصرون
بالرعب يُقذف به في قلوب أعدائهم فينهزمون بجيش من الرهبة قبل أن يشيموا
بروق سيوفهم ولمعان أسنتهم، بل قبل أن تصل إلى تخومهم أطراف جحافلهم
(بكائي على السالفين , ونحيبى على السابقين. أين أنتم يا عصبة الرحمة وأولياء
الشفقة. أين أنتم يا أعلام المروءة وشوامخ القوة. أين أنتم يا آل النجدة وغوث
المضيم يوم الشدة. أين أنتم يا خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر. أين أنتم أيها الأمجاد الأنجاد القوَّامون بالقسط الآخذين بالعدل الناطقون
بالحكمة المؤسسون لبناء الأمة. ألا تنظرون من خلال قبوركم إلى ما أتاه خَلَفكم من
بعدكم , وما أصاب أبناءكم ومن ينتحل نحلتكم. انحرفوا عن سُنتكم , وجاروا عن
طريقكم فَضَلُّوا عن سبيلكم , وتفرقوا فرقًا وأشياعًا حتى أصبحوا من الضعف على
حال تذوب لها القلوب أسفًا. وتحترق الأكباد حزنًا. أضحوا فريسة للأمم الأجنبية
لا يستطيعون ذودًا عن حوضهم , ولا دفعًا عن حوزتهم. ألا يصيح من برازخكم
صائح منكم ينبه الغافل ويوقظ النائم , ويهدي الضال إلى سواء السبيل. إنا لله وإنا
إليه راجعون) .
أقول - وربما لا أخشى واهمًا ينازعني فيما أقول -: إنه من بداية تاريخ
الاجتماع البشري إلى اليوم ما وجد فاتح عظيم ولا محارب شهير نبت في أواسط
الطبقات ثم رقي بهمته في أعلى الدرجات فذللت له الصعاب وخضعت الرقاب ,
وبلغ من بسطة الملك ما يدعو إلى العجب ويبعث الفكر على طلب السبب - إلا كان
معتقدًا بالقضاء والقدر. سبحان الله! الإنسان حريص على حياته شحيح بوجوده
على مقتضى الفطرة والجِبِلة , فما الذي يهوّن عليه اقتحام المخاطر وخوض
المهالك ومصارعة المنايا، إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر , وركون قلبه إلى أن القدر
كائن ولا أثر لهول المظاهر.
أثبتت لنا التواريخ أن كورش الفارسي (كيخسرو) وهو أول فاتح يعرف في
تاريخ الأقدمين ما تسنى له الظفر في فتوحاته الواسعة إلا لأنه كان معتقدًا بالقضاء
والقدر , فكان لهذا الاعتقاد لا يهوله هول , ولا توهن عزيمته شدة , وأن إسكندر
الأكبر اليوناني كان ممن رسخ في نفوسهم هذه العقيدة الجليلة , وجنكيز خان
التتري صاحب الفتوحات المشهورة كان من أرباب هذا الاعتقاد , بل كان نابليون
الأول بونابرت الفرنساوي من أشد الناس تمسكًا بعقيدة القضاء , وهي التي كانت
تدفعه بعساكره القليلة على الجماهير الكثيرة , فيتهيأ له الظفر وينال بغيته من
النصر.
فنعم الاعتقاد الذي يطهِّر النفوس الإنسانية من رذيلة الجبن وهو عائق
للمتدنس به عن بلوغ كماله في طبقته أيًّا كانت. نعم إننا لا ننكر أن هذه العقيدة قد
خالطها في نفوس بعض العامة من المسلمين شوائب من عقيدة الجبر , وربما كان
هذا سببًا في رزيئتهم ببعض المصائب التي أخذتهم بها في الأعصر الأخيرة ,
ورجاؤنا في الراسخين من علماء العصر أن يسعوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة
الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع , ويذكِّروا العامة بسنن السلف
الصالح وما كانوا يعملون , وينشروا بينهم ما أثبته أئمتنا - رضي الله عنهم -
كالشيخ الغزالي وأمثاله من أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في
العمل لا في البطالة والكسل , وما أمرنا الله أن نهمل فروضنا وننبذ ما أوجب علينا
بحجة التوكل عليه , فتلك حجة المارقين عن الدين الحائدين عن الصراط المستقيم.
ولا يرتاب أحد من أهل الدين الإسلامي في أن الدفاع عن الملة في هذه الأوقات
صار من الفروض العينية على كل مؤمن مكلف , وليس بين المسلمين وبين
الالتفات إلى عقائدهم الحقة التي تجمع كلمتهم وترد إليهم عزيمتهم وتنهض غيرتهم
لاسترداد شأنهم الأول - إلا دعوة خيرٍ مِن علمائهم وأن جميع ذلك موكول إلى ذمتهم.
أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشؤه هذه العقيدة (ولا
غيرها من العقائد الإسلامية) ونسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه , بل أشبه ما
يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار.
نعم حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوة من الظفر وثمل من العز والغلب ,
وفاجأهم وهم على تلك الحال صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة
التتر من جنكيز خان وأحفاده , وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوربية
بأسرها على ديارهم , وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي وتوجب الدهشة
والسبات بحكم الطبيعة , وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة ووسد الأمر فيهم إلى
غير أهله وولي على أمورهم من لا يحسن سياستها , وكان حكامهم وأمراؤهم من
جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم , وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم؛ فتمكن الضعف
من نفوسهم , وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز
لذته الآنيَّة , وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له الضرر , ويلتمس له السوء من
كل باب لا لعلة صحيحة ولا داعٍ قوي , وجعلوا هذا ثمرة الحياة؛ فآل الأمر بهم
إلى الضعف والقنوط وأدى إلى ما صاروا إليه.
ولكني أقول - وحق ما أقول -: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد
الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم , ورسومها تلوح في أذهانهم , وحقائقها متداولة بين
العلماء الراسخين منهم , وكل ما عرض عليها من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي
فلابد أن تدفعه قوة العقائد الحقة ويعود الأمر كما بدأ , وينشطوا من عقالهم ,
ويذهبوا مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم وإرهاب الأمم الطامعة فيهم
وإيقافها عند حدها , وما ذلك ببعيد , والحوادث التاريخية تؤيده , فانظر إلى
العثمانيين الذين نهضوا بعد تلك الصدمات القوية (حروب التتر , والحروب
الصليبية) وساقوا الجيوش إلى أرجاء العالم , واتسعت لهم ميادين الفتوحات ,
ودوخوا البلاد وأرغموا أنوف الملوك , ودانت لسلطانهم الدول الإفرنجية حتى
كان السلطان العثماني يلقب بين الدول بالسلطان الأكبر.
ثم ارجع البصر , تجد هزةً في نفوسهم , وحركةً في طباعهم أحدثها فيهم ما
توعدتهم به الحوادث الأخيرة من رداءة العاقبة وسوء المنقلب. حركة سرت في
أفكار ذوي البصيرة منهم أغلب الأنحاء شرقًا وغربًا , وتألفت من خيارهم عصبات
للحق كتبت على نفسها نصرة العدل والشرع والسعي بغاية الجهد لبث أفكارهم ,
وجمع الكلمة المتفرقة وضم الأشتات المتبددة , وجعلوا من أصغر أعمالهم نشر
جريدة عربية لتصل بما يكتب فيها بين المتباعدين منهم , وتنقل إليهم بعض ما
يضمره الأجانب لهم , وإنا نرى عدد الجمعية الصالحة يزداد يومًا بعد يوم. نسأل
الله تعالى نجاح أعمالها وتأييد مقصدها الحق , ورجاؤنا من كرمه أن يترتب على
حسن سعيها أثر مفيد للشرقيين عمومًا وللمسلمين خصوصًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (العروة الوثقى)
__________(3/265)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد من كتاب)
(10) من أراسم إلى هيلانة فى 3 يونية سنة -185
أظن أن ما ينسب للاعتقاد الدينى من التأثير فى طباع الناس وأخلاقهم مُبالغ
فيه كثيرًا [1] وعلى كل حال فالتصديق بأن الإنسان يوفى جزاء أعماله في دار أخرى
بعد هذه الدار يُعرِّض صاحبه لأنواع من خيبة الآمال تكون آلامها صعبة الاحتمال ,
فإنه إذا هبت عليه أعاصير الشُّبه في مستقبل أيامه فزعزعت أركان عقيدته التي
بنيت عليها الفروض والواجبات فلا تلبث دعائم تربيته الأولى أن تنهار انهيارًا تامًّا
فكيف نرجو إذن في هذا العصر الذي ثارت فيه الشكوك , وأطلقت حرية النظر
أن لا تؤثر عوارض الشبه في عقائد الطفل إذا كبر , وهي إنما تفرغ في مخه حال
صغره إفراغًا , وتلصق به لصقًا إن صح أن يقال ذلك؟
فالذي أتمناه (لأميل) هو أن يكون له وجدان مستقل عن الإيمان , وليس يهدأ
لي بال ولا يطمئن لي قلب على سلامة شرفه وتهذيب نفسه إلا بحصول هذه الأمنية ,
إني كثيرًا ما سمعت بعض المسيحيين إذا عصى أولادهم أوامرهم يهددونهم
تهديدًا وحشيًّا وهم في شدة حنقهم بقولهم لهم: سيعاقبكم الله ويهلككم , وكنت كلما
سمعت منهم ذلك تقلص جميع دمي من عروقي إلى قلبي غيظًا وغمًّا. فليت شعري
هل الاستغاثة بأحكم الحاكمين على تنفيذ عقوباتنا السافلة في الأطفال والاستصراخ
بالذات العلية لتشفي غلنا بالانتقام لنا منهم واقتضاء فعل الشر من الله ليسكن بذلك
وجدنا عليهم- هل كل ذلك هو ما يعبر عنه بتأسيس علم الأخلاق على الاعتقاد
الديني؟
كأني بك تقولين: إنك لم تختر من أمثلة التربية الدينية لتوجيه انتقادك إلا
أردأها وأحقها بالطعن، فأقول: نعم , ولكن هذه التربية على كل حال فيها عيب
شنيع جدًّا وهو إلزام الناشئ في سيرته بأعمال لا يدرك عللها , فلو أني قلت للطفل:
يجب عليك أن تكون مؤدبًا عاقلاً لتكون محبوبًا عند الله، لكان ذلك منى بلا شك
ألغازًا وتعميةً لأنه لا يعرف ما هو الله , ولا يعرف علامة يميز بها ما يرضيه وما
يغضبه , وأما إن قلت له: يجب عليك التزام الأدب لتحبك أمك، فإنه يفهم هذه العلة
أكثر من سابقتها بكثير.
من تكلم في الدين مع طفل حديث السن جدًّا فإنما يريد منه أن يفسد معنى ما
يؤديه إليه من الأفكار الدينية , ويقلب المراد منها، فلو أن الأم أشارت بيدها إلى
السماء دلالة لولدها على أنها هي محل الذات الذي يجب أن يتوجه إليه بدعائه ,
لتوهم أن هذه السماء الدنيا المادية هي إلهه.
أنا أعلم أن كثيرًا من الآباء لا يهتمون بهذا الأمر كثيرًا , ولا ينظرون فيه
نظرًا بليغًا , ولكونهم ممن يشكون في كل شيء؛ ترينهم يلزمون أولادهم بأداء
بعض الأعمال الدينية التي هم أنفسهم لا يؤدونها , أو إنما يؤدونها أمامهم فقط ,
فكأنه لا أهمية للصواب والخطأ في حق هؤلاء الأطفال ولا نتيجة لهما , وأن أهم
شيء في حقهم هو أن تكون باكورة أعمالهم في أول حياتهم اتباع ما جرى عليه
الناس من العوائد مع إرجاء النظر فيها إلى المستقبل.
وحينئذ فمثل هؤلاء الآباء يتسببون في إفساد وجدان أبنائهم وقوتهم الحاكمة
بخفتهم وطيشهم أو عدم اكتراثهم بشأنهم , فأنا أتحامى الأديان التي يكون شأن
الآخذين بها فيها كشأن من لا يؤمنون بها بالمرة أو من لا يؤمنون بها إلا إيمانًا
ناقصًا فإنها أضر الأديان بكرامة الإنسان.
فاحترامًا لأميل ولطائفة من المعاني التي يجب أن ينظر فيها متى كبر بفكر
خالٍ من التأثر بغيرها؛ أود أن يُجتنَب في تربيته زمن طفوليته الخوض في
المسائل الدينية , فإننا مؤتمنون على عقله وعلى حرية ضميره , ومسئولون عن
ذلك , فإذا نحن عجلنا بحرمانه من حق النظر فقد ثلمنا أمانتنا اهـ.
(المنار)
أبان كلام المؤلف عن عدم عنايته بالدين كما تقدم في الهامش , ولكن له وجهًا
في شيء واحد وهو عدم تلقين الطفل كثيرًا من أمور الدين في وقت لا يعقل منها
شيئًا , فما تكون إلا كلمات يعتادها لسانه ولا يكون لها أثر في نفسه.
مثال ذلك: الأيمان التي يحلفون بها أمامه , أو يكلفونه الحلف بها , ومنها
التخويف الذي ذكره، فإذا كبر وفهم معاني ما تلقنه بالمعاملة والمعاشرة تكون عند
العمل كسائر العادات التي يفعلها من غير ملاحظة معناها وبدون تأثر بها , بخلاف
ما إذا كان لا يلقى إليه شيء من أمور الدين إلا إذا استعد لفهمه وتدبره , ولذلك
حكمت الشريعة الإسلامية بأن لا يعلم الطفل الدين إلا في سن التمييز , ولا يكلف به
إلا إذا بلغ رشده.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) إن معظم ما كتبه المؤلف في هذه الرسالة غير مسلَّم , وهو يدل على ضعف يقينه بدينه , وعدم اكتراثه بتكاليفه التي لا يعتبرها إلا من الأمور التي جرت بها العادة , وكأنه لم يبلغه خبر الأمم التي وصلت بدينها إلى أوج الكمال النفسي وغاية التقدم الحسي , فأي شيء أخرج الأمة العربية قبلاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم , ومن رذائل التوحش إلى فضائل المدنية سوى دينها القويم الذي جاء به الرسول الكريم؟ ولست أدري كيف أن الاعتقاد بالدار الآخرة وما يكون فيها من الثواب والعقاب يدعو إلى خيبة الآمال؟ لا شك أن القائل بهذا منكِر للبعث وهي ضلالة جره اليها التطرف في النظر كما جر إليها كثيرًا من أمثاله، ولا أراه إلا مبالغًا في انتقاده على بعض المسيحيين ما يصدر منهم لأولادهم من التهديد بالعقاب الإلهي , ولا نسلم أن هذا التهديد لا يكون له من الأثر ما يتوقعه , وكأنه يعتقد أن الله سبحانه لا يتصف إلا بالرحمة والإحسان , وينبو عقله عما وصف به نفسه من القهر والجبروت والانتقام , وليس هذا الأمر خاصًّا به , بل إني قد لاحظته فيما كتبه غير واحد من أهل النظر , وهو خطأ بين يدل عليه العقل والنقل , وترجيحه تخويف الأطفال بالعفاريت والأغوال على تخويفهم بالعقاب الذي أعده الله لمخالفي أوامره للعلة التي ذكرها - من خطل الرأي فيما أراه؛ لأنه لا ضرر على الطفل من تحذيره من غضب الله عليه إذا خالف أوامره ما دام أنه يرغب أيضًا بنوال رضاه ورحمته إذا
أطاعه، على أن عبارة المؤلف في تعليل هذا الترجيح بينة الفظاعة لا تليق بمقام الربوبية، ثم أي ذنب للأديان التي لا يؤمن بها أربابها أو يكون إيمانهم بها ناقصًا يدعوه إلى تحاميها والحذر منها ووصفها (أضرُّ الأديان بكرامة الإنسان) ألا يرى أن أقوم دين وأصحه في نظر العقل وأدعاه إلى سعادة الآخذين به وفلاحهم قد تَحُولُ دون الجري على صراطه غلبات الهوى وعمليات الضلال فيقع أربابه في مهاوي الوبال فكيف تلقى تبعة ذلك عليه؟ اللهم إن هذا بهتان عظيم فإنه لا دين إلا ما أرسلت به رسلك وليس فيه إلا ما يرفع شأن الإنسان ويعلمه أين يضع نفسه من ذروة الكرامة وهام المجد.(3/276)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر
في الجامع الأزهر
لا خلاف في أن العلوم والمعارف بدأ ينزوي نورها، ويغيض معينها في بلاد
الشرق من عدة قرون، ولم يكن الشرق إلا الإسلام والمسلمين حيث لا علم إلا
علمهم , ولا مدنية إلا مدنيتهم , وقد اقتضت حوادث الكون بأن ينتبه المسلمون من
رقادهم كما انتبه غيرهم , وكانوا أحق بالسبق والتقدم، وكلما انتبه فرد انتباهًا حقيقيًّا
عني بتنبيه غيره، سُنة الله في الخلق. وأشهر المنتبهين والمنبهين لإحياء العلوم في
المسلمين لهذا العهد هو مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية.
أخذ - حفظه الله - على نفسه إيقاظ أهل الأزهر الشريف وإرشادهم لطريقة
التعليم المثلى , فلقي في ذلك من العناء ما كان يلقاه المصلحون من قبله في كل زمان
ومكان , وعلم أن الإرشاد بالقول قليل الجدوى؛ فصار يقرأ الدروس بنفسه مع كثرة
أعماله الأخرى في خدمة بلاده , وفي ليلة الأربعاء الماضية أتم كتاب (البصائر
النصيرية) في علم المنطق , وقد احتفل بختامه في الرواق العباسي كما هي عادة
الأزهريين احتفالاً قرئت فيه الخطب والقصائد في الثناء على الأستاذ , وكان الأولى
أن تتوجه أفكارهم إلى بيان طرق الإصلاح الذي امتاز بها درسه , والأقطاب التي
كان يدور عليها كلامه وترمي إليها سهامه، ومرجعها الى أصلين:
(أحدهما) اختيار الكتاب , فإن الناس يختارون في كل طور وحال
ما يناسب درجتهم واستعدادهم , ولضعف العلم في القرون الأخيرة صار العلماء
لا يقرءون إلا كتب المتأخرين , والتي كتب عليها الشروح والحواشي
الملأى بالمنازعات والمحاورات في الأساليب العرفية التي تُضعف العلم واللغة
جميعًا كما هو المشاهَد.
ولا يكاد يتجرأ عالم على قراءة كتاب من كتب الجهابذة المتقدمين التي لم
تشرح ولم تعلق عليها الحواشي ويسمونها (غير مخدومة) فعلَّمنا الأستاذ باختيار
(البصائر النصرية) الذي هو أمثل كتاب رأيناه في المنطق كيف تُختار الكتب
النافعة التي لم نتلقها بالمدارسة , وعلق عليه شرحًا وجيزًا بيَّن غوامضه وأصلح ما
عساه يوجد فيه من الخطأ مما لا يخلو عنه غير كلام المعصوم , فعلَّمنا بذلك كيف
ينبغي أن تكون الشروح , وكيف أن المتمكن من العلم لا يهاب الكتب , ولا
يتقيد بالعبارات التي ألفها وتعلمها.
(ثانيها) الإلقاء والتقرير - علَّمنا بذلك كيف تتجلى الحقائق بالصور المختلفة ,
وتتحلى المعاني بالصيغ المتعددة؛ ليعتقنا من رق العبارات ويفكنا من أسر
الألفاظ التي استبدت بالحكم فينا زمنًا طويلاً - علّمنا كيف ضلت الأفهام وغلبت
الأوهام. وكيف أطفأ دخان التقاليد النظرية ما في العقول من أنوار العلوم اليقينية
لنطلب العلم ببرهانه ونأخذ الشيء بربَّانه - علّمنا كيف تتضاءل الشبه افتضاحًا ,
وتتبختر الحجج اتضاحًا , وكيف يفرغ البيان العويص من النظريات في قوالب
البديهيات؛ لتقوى منا العزائم ونقدم على العظائم - علّمنا كيف نطلب العلم بالعمل
بمسائله والتحقق بدلائله وملاحظة انطباقه على الواقع وموافقته للوجود؛ لنُحصِّل ثمرة
قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم) - علَّمنا كيف
تتمحص الحقائق للوصول إلى اليقين بالعلم والجزم بالفهم ليخرجنا من الحيرة في
طريقة التعليم المألوفة لهذا العهد: طريقة الاحتمال وسرد الأقوال - علمنا بحاله ومقاله
كيف يرتقي العلم , وكيف يأتي المتأخر بما لم تأت به الأوائل؛ لينزع من نفوسنا
التسليم بأن الإنسان دائمًا في تدلٍّ وهوي لا في تقدم ورقي , فإن التقدم مع هذا الاعتقاد
محال - علَّمنا كيف يكون العلم صفة من صفات العالم تنفعل به نفسه وتتكيف به
روحه ليرشدنا الى أن الصور والخيالات التي تلوح في الأذهان وتتراءى في الأفكار
عندما تنشر الصحف وتعرض على الأنظار نقوش الكتب ليس من العلم في شيء.
ولو شئت أن أستشهد على كل بشيء مما قلته بشئ مما جاء في درس المنطق
لفعلت , وأظن أن نبهاء الطلاب الذين حضروه يكتفون بهذه الإشارات ولا ينسون
كيف فند الأستاذ كلام أفلاطون وأصلح رأي أرسطو في الماهيات , ولا يغيب عن
أذهانهم ذلك التحقيق العجيب في معنى الوجود , وأنه جنس الأجناس وجوهر
الجواهر , ولا ينكرون أنهم لم يفهموا معنى الوجود إلا في ذلك اليوم , كما لا يغيب
عن عقولهم ذلك التحقيق البديع في معنى العدم , وأنه لا حقيقة له , ولا يمكن
تصوره، فحيَّا الله من علَّمنا كيف نفرق بين الوجود والعدم، وأظن أنهم يتذكرون ذلك
السائل الذي سأله منهم عن مفهوم (شريك الباري) وقول المنطقييين: إنه من
الكليات التي لم يوجد لها أفراد , ويتذكرون جواب فضيلته الذي يتدفق حكمة وإيمانًا
وعلمًا وإيقانًا الذي أثبت فيه أن ذلك المفهوم من الصور الخيالية المخترعة التي لا
حقيقة لها ولا يمكن تصورها , وما جعلها من الكليات إلا نقص العلم وخطأ الفهم إلخ
ما لا محل له هنا لإيضاحه وتفصيله.
تُليت القصائد والخطب احتفالاً بختام الدرس كما قلنا , والرواق العباسي
غاص بالناس يزاحم العلماء والمدرسون فيه الطلاب والمجاورين , وعلم الأستاذ أن
ما سيلقى كثير فختم المجلس بخطاب بليغ ابتدأه بهضم نفسه بإزاء الإطراء في
المدح مع شكر من يظن به خيرًا. وقال: أحسن الكلام ما كان صادقًا مطابقًا للواقع ,
وإنما يذهب مذاهب المبالغة في قوله من كان مجازفًا في رأيه وإن كان العلماء
توسعوا في التسامح بالمبالغة والتشبيهات والاستعارات ولم يعدوها من الكذب
وسنذكر ما علق بالذهن من خطابه في الجزء الآتي.
__________(3/280)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(خط الحديد الحجازي)
حيَّا الله الذات السلطانية الحميدية وبياها , وأمدها بالعناية والتوفيق وقواها ,
فقد أصدرت إرادتها السَّنية بالتبرع بخمسين ألف ليرا عثمانية إعانة لهذا الخط
الشريف الذي هو أفضل آثارها من تالد وطريف. وتعلقت الإرادة الشريفة أيضًا
بإنجاز هذا العمل الميمون في مدة لا تزيد على أربع سنين. وكنا ذكرنا أنه تقرر أن
تكون جميع الأدوات واللوازم فيه إسلامية عثمانية , ولكن تبين أن معامل إدارة
البحر في الأستانة لا تقدر أن تصنع أكثر من 250 متر من الخطوط في اليوم (أي
150متر من هذه الخطوط) وذلك يقتضي أن تزيد المدة على أربع سنين , كما
أن النفقة تكون أكثر من نفقة ابتياعها من أوربا؛ لأن المعامل المذكورة غير مستعدة
تمام الاستعداد , ويعوزها لهذا إنشاء معمل جديد، ولذلك تقرر أخيرًا أن تبتاع من
أوربا. وتهتم اللجنة العليا التي يرأسها مولانا السلطان الأعظم بكليات هذا العمل
وجزئياته وأصوله وفروعه، فبلَّغت السرعسكرية بأن ترسل إلى سوريا الجنود
العاملين به وبلغت نظارة الغابات والخراج بإرسال الأخشاب اللازمة من غابات
بيجيه ومنتشا , وسترسل القضبان الحديدية الموجودة في مستودعات البحرية عاجلاً
وطول الخط 1900كيلو متر.
***
(إعانة المسلمين للعمل)
تتوجه رغبات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لهذه الإعانة الشريفة
لأنها تتعلق بإقامة ركن من أهم أركان دينهم , وقد باشروا بهذا فعلاً , وذكرت لنا
جرائد بيروت أنه قد تألفت لجنة فيها من الأعيان برئاسة عطوفة واليها الهمام
لأجل الاكتتاب , فجمع في مدة قريبة مبلغ 212350 غرشًا.
فنستنهض الآن همة المصريين العالية , ونستفيض ههنا مكارم أسخيائهم
الهامية , ونُرغِّب إلى جميع الجرائد الوطنية - ونخص بالذكر الإسلامية - بأن يوالوا
الحث والتخضيض ويداوموا الترغيب والتحريض على مسارعة أهل هذا القطر
ومسابقة إخوانهم في هذا الامر , ولا نلبث أن نسمع أخبار الأقطار النائية والبلاد
القاصية يتنافسون في إعانة هذا المشروع العظيم، والله ولي المحسنين.
***
(وفاة الأمير العاقل)
نعت إلينا أخبار الحجاز رجل الشهامة والفضل والسخاء والنبل، كبير أمراء
عكار: محمد باشا المحمد، المعدود من أفراد الرجال في طرابلس الشام في السياسة
والرياسة وعمل البر والإحسان، وأكبر مآثره المدرسة الإسلامية التي أنشأها في قرية
مشحا , وصدرت الإرادة السلطانية بأن تسمى المدرسة الحميدية , وأهداها مولانا
السلطان الأعظم مكتبة نفيسة أرسلها بخزاناتها من دار السعادة، وأنعم على الفقيد
يومئذ برتبة ميرميران , وبالمداليا الذهبية والفضية وكان - رحمه الله - واسع
الاطلاع في التاريخ والأدب حتى كان يمتاز على مجالسيه في كل نادٍ وسامر ,
وينفرد عن كل من نعرف بالإحاطة بأحوال قبائل العرب لهذا العهد. توفاه الله في
المدينة المنورة بعد أداء فريضة الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم , فنعزي
أنجاله الكرام وأسرته وسائر أهل الفضل به.
***
(إزالة وهم)
فهم بعض الناس أن انتقادنا على الذين طعنوا في الديانة النصرانية عند الرد
على هانوتو (في ص253 من الجزء الماضي) يوهم أن صاحب جريدة المؤيد
منهم؛ لأن الانتقاد جاء بعد ذكر مناقشته مع الأهرام , وإننا نبرئ المؤيد وصاحبه
الفاضل من ذلك , ونعرف بأنه أبعد الناس عن الطعن في الأديان وجرح إحساس
أصحابها.
***
أرجأنا مسألة حِل طعام أهل الكتاب للجزء الآتي لضيق المقام.
__________(3/283)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
الأرمن وفتنتهم
(تابع ما قبله وهو ختام الرسالة)
فلو أن تذاكر الجواز الأمريكية كانت تتضمن مثل هذا الشرط المبني على
الحكمة والسداد، لبادر الأرمن إلى ترك التجنس بالجنسية الأمريكية تركًا تامًّا لأنهم
إنما يلجأون إليه لتكون حكومة الولايات المتحدة مِجنًّا لهم يقلبونه في وجه الحكومة
العثمانية , ولكان في ذلك التَّرك راحة عظمى لنظارة الخارجية في واشنطن. إن
تجنس الأرمن يكاد يكون دائمًا مبنيًّا على نية سيئة , وإنما يقصد به استخدام
الحكومة الأمريكية لإيصال الضرر بتركيا متى كان ذلك في الإمكان يتبين ذلك من
جملة اقتبسناها من تقرير رسمي كتبه في 29سبتمبر سنة1893 المستر إسكندر
تريل أسقف الولايات المتحدة الحالي في القسطنطينية وهو معروف بكفاءته وسعة
علمه قال:
(إن المهاجرين الأوربيين في الولايات المتحدة يتجنسون بالجنسية الأمريكية
عن قصد حسن في الجملة , وأما المهاجرون الأسيويون فحسن النية فيهم نادر جدًّا ,
وإني في مكان أعرف فيه أن رجوع الأرمني إلى بلاده بعد تجنسه على نية البقاء
فيها هو القاعدة التي لا يخالفها إلا شذوذًا) .
تلك شهادة جاءت من قبل رئيس المبعوثين الأمريكيين الذين يمالئون ثوار
الأرمن في جميع الأمور , ويحرضونهم على تركيا , وهذه الشهادة مبنية على
التقارير التي رفعها لوكلاء الدول من عهد غير بعيد لجنة التحقيق الأمريكية التي
عوضًا عن أن تنصح للأرمن أن يكونوا من رعايا السلطان المطيعين , وأن يلتزموا
السكوت الذي يستلزمه الشرف والوقار حتى تعلم نتيجة تحقيق المشاغب التي
حصلت في ساسون، كانت ترى أن من أهم واجباتها أن تثبت وقوع مذابح لم تكترث
بها الحكومة العثمانية على أنها كان يجب عليها أن تعلم أن هذه الحكومة لم تساعد
على وقوع أية مذبحة كانت , وأن نفس وجود البعثات والمدارس الأمريكية في
تركيا وكون غرضها الأصلي نصر المذهب البروتستانتي بين الأرمن , وحملهم
على الأخذ به؛ مما يثبت بلا شك أن أوضاع الترك ونظاماتهم مبنية على التسامح
والتساهل، فإذا استمر المبعوثون الأمريكيون على ممالأة الأرمن المتذمرين في تركيا
كانت سياستهم هذه مخالفة لإرادة الحكومة الأمريكية وشعبها , فإن تركيا على أي
حال يجب أن تحافظ على السكينة والأمن في بلادها مهما كلفها ذلك , ولا يمكن أن
تتغاضى عن الدسائس الأجنبية التي يحاول المفسدون بها في أرجائها , وهي محقة
إذا ثار عضبها لقراءة مثل هذه الجملة التي كتبها أحد الأرمن عن اشتراك
الأمريكيين في حوادث بلغاريا التي حصلت سنة1875 ضمن رسالة بعث بها
للجريدة المسماة (منادي يوستون) وهى:
(قد علمت من زمن غير بعيد أن القسيس المحترم سيروس هملن كان يكتب
مكاتيب وِدّ وتشجيع للجمعيات المختلفة التي كانت تعقد في هذه البلاد (تركيا)
تعضيدًا لمقاصد الأرمن , وعباراتها صريحة في الدلالة على انتصاره لدعوتهم , وقد
سمعته يخطب من بضع سنين مضت في إمهارست التابعة لماس (بأمريكا) ولشد
ما كان يفتخر في خطبته على سامعيه بأهمية العمل الذي قام به البلغاريون
المتخرجون من كلية روبرت وهو حصولهم على حرية وطنهم واستقلاله وأنا
أسأل هذا القسيس المحترم عما إذا لم يكن عالمًا بوجود شركات عقدت للحث
على حب الوطن والدفاع عنه بين أولئك الطلبة البلغاريين إلخ.. .
لقد صدق الفرنساويون إذ يقولون في أمثالهم: لا يغشك إلا أصدقاؤك , فليعلم
الأمريكيون ومجلس إدارتهم أنه ليس من الواجب عليهم ولا مما هم منوطون به أن
يساعدوا أي صنف من الناس في تركيا على نوال (حريته واستقلاله) ولا أن
يمالئوا الجمعيات السرية فيها , ولا أن يتهموا الحكومة العثمانية أمام العالم بالمذابح
التي لم توجد , ولا يمكن أن توجد في الحقيقة والواقع , وإنما الواجب الذي ينبغي
عليهم مراعاته هو أمر هين بسيط ينحصر في رعايتهم قوانين البلاد التي أكرمت
مثواهم رعاية تامة في أفعالهم وأقوالهم , فإنه إذا كان من المستغرب أن أولئك
المبعوثين عوضًا أن يخصوا بعناياتهم ونواياهم الحسنة هنود أمريكا وزنوجها،
اختاروا الذهاب إلى تركيا لتربية الأرمن على طريقة مخصوصة , وحملهم على
التدين بالمذهب البروتستانتي ما أمكنهم , وكان من المحقق أن الباب العالي يأذن لهم
بممارسة عملهم طيبة بذلك نفسه بفضل تعاليم دينه السائد التي تحث على التسامح
والتساهل , فلم يكن أحد ممن يحبون الإنصاف وحرية الضمير ليقدر أن يلوم تركيا
على إظهارها الاستياء مما يقوله هؤلاء المبعوثون على رؤوس الأشهاد , ويكتبون
من العبارات الدالة على معاداتهم ومباغضتهم لها , والمفضية حتمًا إلى توسيع خرق
الفتنة والمشاغب في بلادها , ولا شك في أن الولايات المتحدة لا ترضى بهذه
المظاهرة العدائية الموجبة لمعاقبة صاحبها إذا حصلت في بلادها من أي طائفة من
المبعوثين جاءت إليها بقصد تربية الهنود مثلاً ونشر دينها بينهم، خصوصًا إذا كان
هؤلاء لهم مقاصد ثوروية كالأرمن المعترفين بذلك، فالذي يكون صوابًا في حق
الولايات المتحدة لماذا لا يكون كذلك في حق تركيا؟
الفتنة الأرمنية التي بنيت على أكاذيب ومبالغات , وعلى خطة رسمت وصمم
عليها من قبل كما بين ذلك القسيس المحترم سايروس هملن نفسه , وأعان الأرمن
عليها كثير من الناس , وساعدوهم على إضرام نارهم لمجرد أنهم مسيحيون , وذلك
ما يثبت أن الذي يغري أعداء تركيا بها هو غلوهم في الدين لا غيره , ولولا ذلك لما
كانت مفتريات ثوار الأرمن الخارجة عن حد العقل وقعت موقع التصديق عند أناس
يصفون أنفسهم بالنزاهة وعدم التشيع , ولما علقت عليها الشروح والتأويلات بدون
أن يقوم عليها شيء من البراهين والأدلة المقنعة.
من أجل ذلك قد علمت تركيا الآن أنها لا يمكنها أن تعتمد على مليكها، فهي
تفتخر به لتنظيم ماليتها وإعلاء شأن جيشها , وإدخال الإصلاحات القويمة في كل
فرع من فروع إدارتها , وتعجب بما يدهشها من صدق عزيمته وسمو مداركه وكرم
نفسه , وتعلم حق العلم أنها ما دامت في ظل رعايته لا تخاف ضيرًا من أعدائها
سواء في ذلك الأباعد والأقارب , وأنها لما كان اعتقادها فيه مبنيًّا على حقائق ثابتة
كان السلطان عبد الحميد الثانى حقيقة ملكًا عظيم الشأن.
انتهت الرسالة. والله أعلم
__________(3/285)
11 ربيع الأول - 1318هـ
8 يوليو - 1900م(3/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
النبذة الأولى
مقدمة تمهيدية
اليوم نبدأ بالوفاء بما وعدنا به في الجزء التاسع من الكلام في مدنية العرب ,
ولهذا الكلام فوائد ننبه عليها في فاتحة القول؛ لأن العلم بالفائدة والثمرة ينبغي تقديمه
كما قالوا ليكون الطالب على بصيرة فيما يطلب فينتفع به.
(الفائدة الأولى)
وهي أهمها، بيان أن تلك المدنية ما نالها العرب إلا بدينهم لأنهم كانوا قبل
الإسلام أبعد الأمم عنها , وبهذا تسقط شبهة الذين يزعمون أن دين الاسلام هو
الحجاب المسدول بين المسلمين وبين المدنية الحاضرة في هذا العصر؛ لأن الشيء
الواحد لا تصدر عنه آثار متناقضة متباينة. وهؤلاء الزاعمون كلهم لا يعرفون
حقيقة الإسلام , وإن كان منهم من ينتسب إليه ويلبس لباس خواص أهله.
(الفائدة الثانية)
إزالة شبهة الذين يحتقرون هذا الشعب (العربي) الشريف , ويتوهمون أنه
لا قابلية فيه للمدنية والارتقاء , وإن تسنى له من أسبابهما ما تسنى لأن له طبيعة
خاصة به , وهي الجهل والتفرق والبعد عن النظام والاستبداد بالحكم وغير
ذلك من النعوت القبيحة التي يرمينا بها الجاهلون بتاريخنا وبطبائع الملل.
(الفائدة الثالثة)
استنهاض الهمم وحث النفوس على إحياء مجد أمتنا السابق واسترجاع ما
استأثر به الأجانب من تراث سلفنا الصالح، وهو العلوم النافعة والأعمال الرافعة
والسجايا الحميدة والمآثر المفيدة؛ لنُساير بذلك الأمم الحية ونُجاري الشعوب
المرتقية قبل أن تغمرنا سلطتها ونذوب فيها ذوبانًا حتى لا يبقى لنا هيئة ملية
نتميز بها.
(الفائدة الرابعة)
معرفة التاريخ الصحيح على الوجه الذي يعطي صاحبه البصيرة ويمنحه
الاعتبار , فإن ما كتب في التاريخ العربي لم يكتب على الطريقة الحديثة التي تتجلى
فيها الحوادث بعللها وغاياتها , وتتمثل الحقائق بمقدماتها ونتائجها , ويوضع كل
شيء في موضعه , ويقرن كل أمر بملائمه ومناسبه , ويتبع هذه الفائدة ما في
التاريخ من الفوائد الكثيرة.
العناية بتاريخ العرب والعمل لإحياء مجد العرب هو عين العمل للوحدة
الإسلامية التي ما وجدت في القرون الأولى إلا بالعرب , ولن تعود في هذا القرن إلا
بهم متحدين ومتفقين مع سائر الأجناس لأن المقوم لها هو الدين الإسلامي نفسه
وإنما الدين كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام , وهما عربيان , ولا
يفهم الدين من لا يفهمهما فهمًا صحيحًا , ولا يفهمهما أحد على هذا الوجه إلا اذا كان
يفهم لغتهما الشريفة , ومن كان له هذا الفهم فهو عربي باصطلاحنا لأننا لا نعني
بالعرب من لهم نسب يتصل بإحدى القبائل العربية فقط؛ إذ ليس غرضنا التعصب
للجنسيات , بل إن هذا مما نُنَفِّر عنه ونذمه , وننتقد كل من يقول به.
المدنية العربية التي نفتخر بها لم يكن رجالها من صميم العرب أصحاب
النسب الصريح , ولكن الأعجمي منهم لم تكن علومه ومعارفه بلغته الأعجمية ,
وإنما كان الباعث له عليها والراقي بهمته إليها هو النور الذي أشرق في أفق عقله
من سماء البلاد العربية , والديانة التي تلقاها باللسان العربي. ولقد صدق الحكيم
ابن خلدون في قوله: (إن مثل الزمخشري وعبد القاهر من فرسان الكلام وجهابذة
اللسان العربي لم يكونوا أعاجم إلا في النسب فقط) .
ومما يحسن التنبيه عليه في هذه المقدمة أن بعض المتنفجين الذين يدَّعون
بأكثر مما عندهم يرون أن الكلام في مدنية العرب وتذكير هذا الشعب الذي يحكم
الفقه الإسلامي بأنه أفضل الشعوب بمجد سلفه وحثه على العلوم والأعمال النافعة -
كل ذلك مضر بالمسلمين لأن غايته نزع الخلافة الدينية من بني عثمان , وهو
تفريق يعود على الأمة بالخيبة والخسران , ويروج هذا القول الزائف على البسطاء
هذه الكلمة الصحيحة , وهي أن محاولة نزع الخلافة من العثمانيين فيه تفريق
المسلمين وبلاء كبير على الأمة , ولكن هذا التفريق وما يتبعه من البلاء والشقاء
ليس لازمًا من لوازم العلم والتهذيب والعمل والكسب التي يستحيل أن تنهض أمة
وتحفظ وجودها بدونها , ولو فرضنا أن ذلك من لوازمها لما كان لنا أن نتركها لأن
ترك هذا الملزوم أو الملزومات أشد ضررًا وأعظم خطرًا. وكأني بالأحمق الذي
يقول بهذا التَّرك يرتأي أن يبقى أشرف عناصر الأمة الإسلامية في الدرك الأسفل
من الجهل والغباوة والفقر والفاقة والذل والمهانة لأجل المحافظة على لقب (خليفة)
في أسرة مخصوصة , وإنما قلت: المحافظة على اللقب؛ لأن الخلافة الحقيقية لا
تثبت لآل عثمان فضلاً عن غيرهم إلا بقوة الملة والدين , وهذه القوة منبعها العرب
وسياجها العلم والثروة , فيجب أن يكونا عامَّين في العرب كغيرهم بل العرب
أولى بهذا وأجدر. على أن الجهل والفاقة مثاران لكل بلاء وشقاء , فما دام العرب
على جهلهم وفقرهم لا نأمن أن يغش بعض أمرائهم غاش من الأجانب فيحمله على
طلب الخلافة , والأمة الجاهلة تكون مستعبدة لأمرائها وحكامها , فيتم بذلك التفريق
المخوف والعلم هدى ونور، فإذا فشا في الأمة تأمن به كل غائلة ونائبة حتى إذا
تسنى لأجنبي أن يغش أميرًا منها لا يتسنى له أن يغش معه الرأي العام , وما دام
الرأي العام على بصيرة فلا خوف ولا خطر لأن القوة التي لا تبالغ ولا تقاوم هي
قوة الشعب والأمة.
وقد بينا رأينا في مسألة الخلافة من قبل , وفندنا أقوال المرجفين الذين
يزعمون أن من المسلمين من يسعى لها سعيًا , وأثبتنا أن هذه غاية لا تدرك بسعي
أمير من الأمراء أو جمعية من الجمعيات , وأن الخوض فيها مضر لأنه يوهم
البسطاء إمكان نزعها من قرابها وتحويلها من مكانها والأمر منوط برأي السواد
الأعظم من الأمة , وأين رأي السواد الأعظم من لغط اللاغطين وإرجاف المرجفين
وأي جاهل يقول: إن السواد الأعظم إذا أقرّ على شيء يكون ذلك الشيء تفريقًا؟
وهل للاجتماع والاتحاد معنى إلا هذا؟ .
نعم لقائل أن يقول: إن المنار قام منذ إنشائه يدعو إلى الوحدة الإسلامية
ويخاطب بكلامه الأمة كافة وينعي على من يقول بالوطنية والجنسية , فكيف قام في
هذه الأشهر ينوّه بالعرب خاصة ويخاطبهم بالإصلاح من دون سائر الأجناس؟
والجواب عن هذا يفهمه الذكيّ النبه من المقالات السابقة , ونزيده إيضاحًا مراعاة
لسائر الأفهام فنقول:
إننا في مقالاتنا (الوحدة العربية) و (الترك والعرب) لم نخرج عن التوحيد
والتأليف بين العناصر كلها , وإنما أشرنا إلى عرض نزعات التعصب الجنسي عند
الترك لأن الطبيب لا بدّ له من تشخيص المرض والتعريف بالداء قبل وصف
الدواء وطرق العلاج , و (من كتم داءه قتله وأماته) ولا شيء يقربنا من
إخواننا الأتراك ويجعل لنا قيمة في نفوسهم وبهاء في أعينهم، إلا اعتقادهم بأننا
شعب يفهم ويشعر، فيُسر بالكرامة ويتألم من الإهانة , وأن مسرته نافعة لهم
وتألمه ضار بهم (ومن لم يكرم نفسه لا يكرم) وقد صرحنا من قبل بأننا لا
نعني بالوحدة العربية أن ينفصل العرب عن سائر المسلمين أو عن الترك خاصة ,
بل نعني به أن كل شعب يجتهد في ترقية نفسه ملاحظًا أن في ترقيه ترقيًا لسائر
الشعوب التي تتكون منها الأمة , وسعادته من متمات سعادتهم , ولكننني لا أنكر
أنني أرجو أن يظهر تأثير كلامي في قومي (العرب) الذين يقرءونه ويفهمونه ,
وهذا ما يحملني على أن أخصهم بالذكر أحيانًا , وأن من الجرائد الإسلامية من لا
يتكلم في المواضيع الإرشادية إلا مع أهل بلاده خاصة حتى إنه لا يتجاوز ذلك إلى
إرشاد جيرانها من الناطقين بلغتها كما ترى في أكثر الجرائد المصرية بالنسبة للبلاد
السورية والحجازية والمغربية وذلك أن الإنسان يراعي في مثل هذا الأقرب
فالأقرب , على أننا اقترحنا في مقالات الإصلاح الديني التي نشرت في المجلد
الأول أن يكون بين علماء المسلمين وخطبائهم وكتابهم روابط وتعارف ومشاركة في
الفكر لأجل أن يكون الإرشاد على طريقة واحدة والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(3/289)