الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهة وجوابها
ورد علينا رقيم من بعض قارئي جريدتنا، انتقد فيه صاحبه ما كتبناه في
شؤون الخلفاء وسيئاتهم وتقصيرهم في وظيفتهم الدينية، ونصحنا بأن لا نعود إلى
الخوض في مثل هذه المواضيع؛ لأن كتابتها في جريدة سيارة يطلع عليها الأجانب
وأعداؤنا وأعداء ديننا فيشمتون فينا ويتخذونها حجة علينا.
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
أولهما: أن ما كتبناه في ذلك هو قطرة من بحار التاريخ الزاخرة عند أولئك
الأجانب أو الأعداء الذين يعنيهم المنتقد، فإذا سكتنا عنه فسكوتنا كتمان له عن أبناء
ملتنا الذين يجهله أكثرهم لإهمالهم علم التاريخ وظنهم أنه لا فائدة فيه إلا التسلية، بل
سمعت بعض الشيوخ الذين يدعون الفقه يقول: إن قراءة التاريخ مكروهة؛ لأن فيه
كذبًا. وتعليله هذا يقتضي أن قراءة أكثر كتب الحديث والتفسير مكروهة؛ لأن فيها
أحاديث موضوعة وضعيفة ومنكرة، وقصصًا كاذبة باطلة، بل لا يبعد أن يقال على
ذلك: إن قراءتها محرمة؛ لأن الكذب في تفسير كتاب الله تعالى، والاختلاق على
نبيه من أعظم الكبائر، لا يقاس بها الكذب في سيرة ملك أو حاكم أو خليفة أو عالم.
وفي كتب الفقه التي يشغل بها المتفقه المذكور كثير من الأقوال الباطلة التي لا
يصح العمل ولا الإفتاء بها، والصواب أن شوب الحق بشيء من الباطل لا يقتضي
ترك الحق، وإنما يقتضي النظر الدقيق والتمحيص ليخرج الحق من بين الأباطيل،
كما يخرج اللبن من فرث ودم خالصًا للشاربين. وإنما ذكرنا هذا لنبين لحضرة
المنتقد قول شيوخنا في التاريخ الذي هو من أشد المنفرات عنه، ليعلم مقدار حاجتنا
إلى استخراج فوائده وعرضها على أمتنا وإشعارهم أنهم لا يمكن لهم الوقوف على
حقيقة مرض الأمم إلا منها، ومن لم يعرف مرضه لا يسعى لعلاجه وإذا سعى فإن
سعيه يكون عبثًا وضلالاً، بل خيبة ونكالاً، وما مثلنا مع الأجانب الذين يرتأي
أصحاب الأفكار الضعيفة أن نستر ضعفنا عنهم بأسبابه ونتائجه إلا مثل النعامة التي
ترى الصياد يريد اقتناصها فتخبئ رأسها وتستره لكيلا تراه، توهمًا أن عماها عنه
يوجب عماه عنها، وأن ذلك عين النجاة، وحرام على من يجهل تاريخ الغابر وحالة
العصر الحاضر أن يقول: هذا شيء يضر الأمة، وهذا شيء ينفعها، وقد منينا
- والصبر بالله - بقوم جهلاء في ثياب علماء يغشون الأمة، ويغررون بها، توهمًا
أن كل من يقرأ تنازع العوامل في النحو يعلم تنازع الأمم، وكل من يعرف أحوال
تقديم المسند والمسند إليه وتأخيرهما يعرف أسباب تقدم الأمة وتأخرها، وكل من
تصدر للفتوى في مسائل الرضاع والطلاق وصحة الإجارة والسلم له أن يفتي في
صحة الشعوب من أمراضها، وإطلاقها من وثاقها، بل وقعنا في فوضوية الأفكار
والعلم، فصار كل فرد منا مِعنًّا مِفنًّا [1] ، ولا برهان يتوكأ عليه، ولا رئيس يرجع إليه.
سياسة السواد الأعظم منا اليوم هي كتمان الأمراض والسيئات، وإن انتهى
ذلك بالممات، وتكبير ما عساه يوجد من حسنة حتى تكون الحبة قبة والذرة جبلاً، بل
اختلاق الحسنات، والكذب فيها على الأحياء والأموات، لتسبح الأمة في بحر
الغرور إلى أن تهلك وتبور، وقد رأينا من سير الأمم الحية أن كتابها وخطباءها
يملأون الدنيا صراخًا وعويلاً إذا صدر من أمتهم سيئة، ويهولون أمر تلك السيئة بما
يزعجون به إلى إزالتها، وربما يخفون الحسنات، ولا سيما الاستعداد الحربي لما لا
يخفى من الأسباب.
(الوجه الثاني) : أن كل مما نكتبه في الانتقاد على خلفاء المسلمين وأمرائهم
وعلمائهم وأهل الطرق وجميع رجال الدين، غرضنا الأول به بيان براءة الدين
الإسلامي نفسه مما يرميه به أعداء المسلمين من الأوروبيين الذين يزعمون أن جميع
ما حل بهم من الضعف والضعة والظلم والاستبداد وفساد الأخلاق واختلال الأعمال
الذي يكاد يمحو سلطتهم من لوح البسيطة ويجعلهم أذل الشعوب وأفقرها - كل ذلك
ما حل بهم إلا بسبب دينهم، فهو الذي جر إليهم البلاء، وطوحهم في مهاوي الشقاء،
والحق أن هذا البلاء والشقاء ما جاءهم إلا من الانحراف عن الدين، وما كانت أمة
لتنحرف عن دينها دفعة واحدة، وإنما يكون ذلك بالتدريج، ينحرف الرؤساء
والأمراء فتؤوّل لهم العلماء - علماء السوء - فتتبعهم الدهماء، وهكذا كان شأن الذين
جاءوا من قبلنا واتبعنا سننهم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، ولا يتم ذلك إلا بعدة
قرون.
لا ريب أن إظهار براءة الدين برمي أهله - رؤسائهم ومرءوسيهم - بالتقصير
فيه والميل عن هديه، هو أعظم خدمة له ولأهله، وإلا كان النقد بل النقض موجهًا
للأصل والفرع معًا، وما يعقلها إلا العالمون. ويدخل في تبرئة الدين مما ذكر بيان
أنه أساس للسعادة متين، لا يمكن أن يقوم صرح مجد أهله إلا عليه خلافًا لمن أعشى
أبصارهم شعاع مدنية أوروبا فرأوا أن التقليد الأعمى لها هو الذي ينهض بالأمة.
وهل زادنا هذا التقليد الأعمى إلا شقاء وتعاسة؟ هل نهضت أمم أوروبا إلا باستقلال
الفكر والإرادة، واتفاق الكلمة، والجد في العمل، والاعتماد على النفس في الأعمال
الكسبية، مع الاعتقاد بأنه لا قوة ولا سلطان وراء ما يحس به ويعلمه الناس إلا الله
تعالى وحده؟ وهذا عين ما جاء به القرآن وقرره الإسلام. واعترف بعض
المنصفين من علماء أوروبا وحكمائها بأن نشأة مدنيتها الحديثة إنما كان رشاشًا من
نور الإسلام فاض عليها من الأندلس بأيدي تلامذة ابن رشد الفيلسوف الإسلامي،
ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين في الغرب والشرق.
والغرض الآخر من انتقاداتنا: النصيحة لرؤسائنا اليوم أن يتداركوا ما فرط
من بعض سلفهم، ويصلحوا ما فسد من أمور أنفسهم، ويعطوا وظائفهم حقها
ويسيروا بالأمة في المنهاج الذي نهجه الله تعالى لها والله على ما نقول وكيل.
__________
(1) أي عرّيضاً يدخل في كل ما يعنّ له ويخوض في كل فنّ يعرض له.(1/730)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار في بلاد البرازيل
نقدم خالص الشكر لرفيقتنا جريدة الأصمعي الغراء على تنويهها بشأن جريدتنا
وتكرار الثناء عليها، مما يزيد النزالة السورية في بلاد البرازيل رغبة فيها، كما
نشكر أبناء وطننا السوريين في تلك البلاد على مؤازرتنا، فلقد أقبلوا على الجريدة
مع أنهم مسيحيون ومشرب الجريدة إسلامي، لكنها تحترم الدين المطلق، وتقرر أنه
مبعث أشعة الفضائل والكمالات، وأن الرجوع إلى تعاليمه الصحيحة، لا سيما
مواعظ القرآن والإنجيل هو الذي يجمع القلوب على الاتفاق والائتلاف المؤدي إلى
سعادة الأوطان، والانحراف عن ذلك ميلاً مع ريح السياسات الأوروبية هو الذي
يلقي العداوة والبغضاء في النفوس بحجة الدين، كما هو مشاهد في كل مكان ثبتت
فيه أقدامهم وانبثت فيه تعاليمهم. ويسرنا أن نرى العقلاء من العثمانيين وعلى
الخصوص المسلمين والمسيحيين قد تنبهوا لهذا الأمر، وقد قام الكتاب يسعون في
نشره بين الناس وتقريره في عقولهم، وقد امتازت جريدتنا بكثرة الخوض في هذا
الموضوع والاجتهاد في إقناع الأمة العثمانية به واعترف لها بهذه المزية المسلمون
والنصارى، فقد قالت جريدة المقتطف الشهيرة: إن الجرائد العربية النافعة للأمة
قليلة جدًّا والمنار منها. وقد قرأنا في العدد 15 من جريدة الأصمعي الغراء التي
ذكرناها في صدر هذه النبذة ما نصه:
(المنار أحسن جريدة في جرائد الإسلام، كنا نطالع أعدادها منذ صدورها
بإمعان فلا نجد إلا كل مقالة بليغة مملوءة بالأقوال الحكيمة الفلسفية، مما يدل على
اقتدار صاحبها وتمكنه من العلم، وقد حمل على عاتقه - وفقه الله - أن يبث في
صدور أهل الشرق من الإسلام روح التهذيب الحقيقي، وأن ينسخ من عقولهم
الخرافات والأضاليل، وربما أنشأنا مقالة عن قريب عنوانها (جرائد الإسلام
والمنار) .
(وفي العدد الأخير منها (يعني 17) مقالة عنوانها: (الجيوش الغربية
المعنوية في الفتوحات الشرقية) بالغة منتهى الإعجاز من منطق العقل وحسن
السبك، ذهب فيها إلى أن الجيوش المعنوية هي الخمر والميسر والربا والبغاء
والتجارة، خمسة فيالق أدخلها الغرب إلى الشرق ففاز عليه الفوز المبين، وقد شرح
مفصلاً عن كل فيلق منها فوفاه حقه، ويا ليت أن دولتنا العلية أيدها الله تصم أذنها
عن أقوال الوشاة، وتسمح لهذه الجريدة النادرة المثال أن يدوم دخولها إلى بلادها،
فقد قرأنا فيها أنهم يسعون في منعها) اهـ.
فتأملوا رعاكم الله أيها القراء هذا الإنصاف والبعد عن التعصب، فهكذا ينبغي
الاتفاق والائتلاف والتعاون على خدمة الأوطان، لا سيما من أرباب الجرائد الذين
نصبوا أنفسهم للخدمة العامة، فحسبنا ما رأيناه من العبر في الخلاف والخصام.
__________(1/734)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح في الدولة العلية
تولدت جراثيم الضعف في الدولة العلية العثمانية في عهد السلطان سليمان
القانوني (رحمه الله تعالى) الذي بلغت الدولة في عهده أعلى مراقي القوة والعزة،
ومن مائتي سنة إلى الآن يظهر الضعف في الدولة شيئًا فشيئًا، وهذه حقيقة لا
ينكرها أحد، كيف وقد اعترف بها السلطان عبد المجيد عليه الرحمة واجتهد في
الإصلاح وخط كلخانة شاهد رسمي على ذلك، واعترف بها أيضًا مولانا وخليفتنا
السلطان الحالي عبد الحميد خان أيده الله تعالى ونصره في النطق الشريف الذي ألقاه
على مجلس المبعوثان عند تأسيسه، وذلك شاهد رسمي آخر، وقد فصل جودت
باشا في تاريخه الخلل بعلله وأسبابه، وهو تاريخ يُستقى من دفاتر الحكومة وأوراقها
الرسمية.
صدمت الدولة العلية في هذين القرنين صدمات شديدة، ما كانت دولة أخرى
لتقوى على احتمالها في نهاية قوتها، فجميع الدول الأوروبية القوية خصيماتها
يتربصن بها الدوائر، ويعاملنها بالمكر والخداع والمخاتلة، ورعاياها مؤلفة من ملل
وأجناس لا توجد في مملكة من ممالك الأرض، وهم باستيلاء الجهل عليهم ألاعيب
في يد أوروبا تحركها متى شاءت، فلا جرم كانت سياستها أصعب سياسة في العالم:
جهل وفقر في الرعية، وضعف في الدولة، وأعداء أقوياء في الخارج.
إذا تمهد هذا فاعلم أن مولانا السلطان الأعظم قد حمل على عاتقه حملاً لا
تستطيعه أمة بمجموعها، ومن ثم ألف أحد الأمريكيين رسالة في مناقبه موضوعها:
(هل ينهض بأعباء أمة عظيمة رجل واحد) وقد ظهر كتاب جديد في مناقبه لأحد
الألمان أتى فيه بالعجب العجاب، وسننشر نبذًا منه في بعض الفرص إن شاء الله
تعالى، والمشهور من سياساته الحكيمة في الشؤون الخارجية أكثر من الشؤون
الداخلية، فإنه حفظه الله تعالى مقاوم بشخصه الكريم لأوروبا كلها، والمنتقدون على
سياسته ينسبون لها التقصير في إصلاح داخلية المملكة، مع أنه قد أجرى فيها ما
تعْلمه من الكتاب الذي ننشره تباعًا تحت عنوان (قليل من الحقائق عن تركيا في
عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني) لكن الذي يذهب ببهاء هذه الإصلاحات
والأعمال الجليلة، العمال والحكام الخائنون، وهم كثيرون في الدولة جدًّا، وما كان
السلطان ليقدر على تقويم الأفكار وإصلاح النفوس في سنة أو سنين، وإنما يحتاج
هذا إلى عناية عظيمة بتعميم التربية والتعليم على أحسن الطرق وأفيدها، وفي ذلك
الضمان الكافي لإصلاح المستقبل، وسنشرح رأينا في الإصلاح في اقتراح نرفعه
إلى مقام الخلافة على صفحات هذه الجريدة، وقد أنبأنا البرق في هذه الأيام بأن
سماحتلو شيخ الإسلام ودولتلو ناظر العدلية قد رفعا للحضرة السلطانية عريضة
يلتمسون فيها الإصلاح الذي تضطر إليه الدولة في هذه الأوقات الحرجة، ولعل هذا
لا يتم إلا بانتقاء الرجال الفضلاء الصادقين وتقليدهم الوظائف، وإلقاء التبعة عليهم
في كل ما يوجبها، وإن في الدولة رجالاً قادرين صادقين، كما أن فيها قومًا ظالمين،
وهكذا شأن كل الأمم، وشيخ الإسلام وناظر العدلية بيدهما زمام القضاء الذي هو
أساس الإصلاح المتين وركنه الركين، فعسى أن يبدآ بالإصلاح القضائي ومولانا
يساعدهما عليه بغير ريب، وقد تعلقت إرادته بتأليف لجنة برياسة ناظر المالية
تبحث في شؤونها، ويتلو ذلك البحث في الأعمال الإدارية والمعارف
إن شاء الله [*] .
__________
(*) هكذا كنا نغتر بصدور الإرادات بالإصلاح حتى أيقنَّا - بعد طول الاختبار - أن هذا كله من قبيل ذر الرماد في العيون وإلهاء الناس عن الإصلاح والمطالبة به، وماذا تعمل اللجان إذا كانت المالية طوع الإرادة المطلقة، تعطي منها ما تشاء وتمنع ما تشاء، وكان السلطان وحاشيته يأخذون منها أضعاف ما لهم ولا يعطون شيئًا مما عليهم؟ ! وهكذا الحال في سائر الشؤون.(1/735)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار تونسية
ملخصة من جريدة الحاضرة الغراء
بواعث التحصيل
لا يخفى أن المرء بكماله لا بجماله، وأن فضل الأدب أسمى وأجل من فضل
النسب، وأن منهل العلوم ومورد الكمالات يسعى إليه من كل صوب وحدب،
وجريًا على هذه القاعدة قد قررت الحكومة المحمدية أن لا يتولى الوظائف الإدارية
في المستقبل إلا من توفرت فيه شروط اللياقة والأهلية، فزيادة على تحصيل العلوم
الغربية يتعين على طالب الوظيفة أن يبرهن على إحرازه الملكة الكافية في تثقيف
الذهن بالفنون الوقتية من العقلية والنقلية التي اقتضتها الظروف الحالية، كالجغرافيا
والحساب والتاريخ، ولا شك أن هذا التنظيم من بواعث التنشيط على اقتناء
الكمالات والمعارف النافعة، ولذلك نحث عموم الشبان التونسيين الذين يقصدون
الانخراط في سلك الخدمات الإدارية أن يقبلوا على مناهل التعليم بجد وهمة تمكنهم
من إحراز قصبة السبق في هذا الميدان، وهذا نص الأمر العالي الصادر في هذا
الشأن:
من عبد الله - سبحانه - المتوكل عليه، المفوض جميع الأمور إليه: علي
باشا باي - صاحب المملكة التونسية، سدد الله تعالى أعماله، وبلغه آماله - إلى من
يقف على أمرنا هذا من الخاصة والعامة:
أما بعد، فبناء على أنه من اللازم أن تكون للمستخدمين المسلمين بسائر
الإدارات التونسية معارف عمومية في علم الحساب والتاريخ والجغرافيا، وبمقتضى
ما قرره مدير العلوم والمعارف وتقرر من وزيرنا الأكبر - أصدرنا أمرنا هذا بما يأتي:
(الفصل الأول)
جعلنا شهادة في المعارف العملية يقع إعطاؤها عقب امتحان يشتمل قانونه على
المواد المذكورة في الفصل الثالث.
(الفصل الثاني)
الأنفار الحائزون على هذه الشهادة يفضَّلون على غيرهم من المترشحين الغير
المحصلين على غيرها من الشهادات التي تراها الدولة مساوية لها، وبقطع النظر
عن الامتحانات الفنية، وذلك للحصول على الخطط الآتي ذكرها:
خطة الخلفاء، وخطة مستخدمي إدارة المال، وإدارة الأداءات، وجمعية
الأوقاف، وخطة الوكالة، وخطة حكام بالمجالس العدلية.
(الفصل الثالث)
يشتمل قانون المعارف على المواد الآتي ذكرها:
علم الحساب: العمليات الأربع والكسور العشرية والكسور الاعتيادية وقاعدة
الثلاث وقاعدة الشركة والنسب والطريقة الميترية ومكاييل المساحة والجرام.
علم الهندسة: القواعد الابتدائية والعملية وقواعد المساحة علم الجغرافيا -
جغرافيا أقطار الدنيا الخمسة الابتدائية، وجغرافيا حائط البحر المتوسط من حيث
الطبيعة والسياسة والثروة، وجغرافيا القطر التونسي والجزائر منفصلة.
علم التاريخ: تاريخ شمال إفريقيا والقطر التونسي خصوصًا، وتاريخ التمدن
الأورباوي ملخصًا، وتاريخ العرب. اهـ باختصار.
__________(1/738)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ
أهدانا حضرة الفاضل الكامل سيدي محمد بن الخوجة، رئيس قلم الحساب في
الدولة التونسية كتابًا نفيسًا، جمعه بأمر حكومته السَّنية، يشتمل على سبع رسائل
مفيدة، ألفها أكابر مشايخ الإسلام من السادة الحنفية والسادة المالكية في مسائل
الإنزالات والخلوات والكردار، وما يتبع ذلك من النصبة والجلسة والحزقة وبيع
الوقف الخرب، وقد حررت هذه المسائل في تلك الرسائل تحريراً، جعل المهدي
الفاضل هديته هذه (صلة الأدب ورابطة الوداد الخالص) بمنشئ هذه الجريدة،
ووصفنا بما هو أهل له من خدمة الملة والدين، فنشكر لهذا الوديد الجديد هديته،
ونستمسك مخلصين بعروة صلته.
__________(1/740)
26 رجب - 1316هـ
ديسمبر - 1898م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح المطلوب [*]
يجب على مَن يتكلم في الإصلاح أن يكون على علم بوجوه الإفساد ومثاراتها
في الأمة التي يبحث في إصلاحها، وإلا خبط خبط عشواء، فإن اتفقت له الإصابة
في بعض كلامه فرمية من غير رامٍ، وإن أخطأ فهو ما ينتظر منه. وقد قلنا في
مقالة سابقة: إنه يحرم على من يجهل تاريخ أمة أن يقول: هذا شيء يضرها،
وهذا ينفعها. وها نحن أولاء نأتي بمجمل من خبر الخلل الذي طرأ على الدولة
العلية قبل الكلام على الإصلاح الواجب، نستقي ذلك من تاريخ جودت باشا الذي
يعتبر تاريخًا رسميًّا للدولة العلية، كما علمت من العدد الماضي، ولذلك نعتقد أن
الدولة العلية لا تستاء من بحثنا هذا؛ لأن التاريخ المذكور منتشر في جميع البلاد
العثمانية، وهو من جملة الكتب التي أهداها مولانا السلطان الأعظم عبد الحميد خان
أيده الله تعالى لمكتبة المدرسة الحميدية في عكار، وفي ذلك دليل على أنه يرضى
بأن يدرس لطلاب العلم. وهذا يدحض ما يزعمه بعض الكتاب وأصحاب الجرائد
من كراهة مولانا السلطان دراسة أحوال الدولة العلية ومعرفة الخلل الذي طرأ
عليها [**] .
فصل جودت باشا - رحمه الله تعالى - في الفصل الخامس من الجزء الأول
من تاريخه أخبار الخلل الذي طرأ على قوانين الدولة العلية، فرماها بالضعف الذي
هي عليه، وبين أسباب ذلك وعلله، فنقتطف من ذلك ما ترى ملخصًا:
لما بلغت الدولة على عهد السلطان سليمان القانوني (رحمه الله تعالى) درجة
الكمال في القوة البرية والبحرية وفي الإدارة، احتجب السلطان وترك حضور
الديوان والسفر إلى الحرب، فضعف اهتمامه بالأمور وقلَّ اطلاعه على الحقائق،
وبعد ما رتب قوانين الدولة أحسن ترتيب كان هو أول من خالف النظام وتلاعب
بالأحكام، فكانت سنة سيئة فيمن جاء من بعده وهاك أنموذجًا من ذلك:
المناصب الملكية والعسكرية:
كان منصب الصدارة العظمى لا يناط إلا بأهله الذين تنقلوا في مراتب الأعمال
تدريجًا من الألوية إلى الولايات الأناضولية، ثم الروملية، ومن ذلك إلى رتبة
الوزارة مع العفة والاستقامة، فخالف السلطان سليمان نفسه هذا النظام، فجعل
إبراهيم أغا (خاص أو طه جي) صدرًا أعظم، وهو ممن تربى في القصر
السلطاني لا في مناصب الدولة، فطفق خلفاء السلطان سليمان يلقون مقاليد الوزارة
لمن أحبوا من الشبان الأغرار الجهلاء فاقدي التربية، ولاغترار هؤلاء بإقبال
السلاطين عليهم كانوا يعرضون عن الاستشارة ويستنكفون أن يستفيدوا من العارفين
وما كانوا يراعون القوانين، بل يسيرون بحسب أهوائهم (قال جودت) : وذلك
مخالف للقاعدة الكلية المبنية على منطوق آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) فصارت الأمور تجري على الرغائب، واختل بذلك
نظام الدولة وتبدلت قوتها ضعفًا، وكذلك الشأن في أمراء الألوية وأمراء الإمارات
(الذين يسمون اليوم متصرفين وولاة) ولم يكن يعزل أحد من غير ذنب، ولذلك
كانت تنحصر قواهم في أعمالهم فيتقنونها.
كان أصحاب التيمار والزعامة (الأول من يبلغ راتبه من ثلاثة آلاف درهم
إلى عشرين ألفاً، والثاني من كان راتبه فوق ذلك) من ذوى الوجاهة والمستحقين
الذين يقومون بحماية الأمة والدولة، ويأخذون المال المرتب لهم بحق، ولما ولَّى
السلطان سليمان القانوني خسرو باشا منصب إمارة الأمراء من غير استحقاق ولا
أهلية؛ لأنه لم يكن له عمل قبل ذلك إلا ذوق طعام السلطان قبل إحضاره له، ابتدع
هذا الباشا الذواق بدعة توجيه التيمار بالرشوة، وناهيك بمضرتها، وكان أمراء
الأمراء من قبله يوجهون التيمار المحلول إلى مستحقيه، وتصدر الإرادة السنية
بتنفيذ ذلك، ولا يوجه التيمار أو زيادته من دار السعادة ابتداء، بل بمقتضى توقيع
أمير الأمراء.
كان السلطان ووزراؤه يتذاكرون في شؤون الدولة وينفذون الأعمال من غير
دخول أحد بينهم، فصار ندماء السلطان - مراد الثالث والمقربون إليه -
يتعرضون لمصالح الدولة ويكلفون الصدر الأعظم بأمور غير معقولة، فإذا لم يجب
طلبهم يكيدون له عند السلطان بالمحْل والسعاية، وكانوا يتوصلون بذلك إلى قتل
الصدور ونفيهم، وكان أولئك المقربون لا يبالون بما يفعلون، فاضطر الصدور
لاتباعهم ومجاراتهم على أهوائهم فتمادوا في طغيانهم.
كان الوزراء ينشأون في تعلم الفنون الحربية والتمرن عليها من الصغر،
ويحضرون الحرب بأنفسهم، فارتقى بذلك قوادهم (كالسردارية والسرعسكرية) إلى
أعلى الدرجات من المهارة، ثم جعل السلطان هذه المناصب في جماعة من رجال
حاشيته الجهلاء، فاختل بذلك نظام التمرن الحربي، وسرى الفساد في جسم القوة
العسكرية.
كان قانون الإنكشارية (الذين كانت الدولة ترعب بهم دول الأرض) قاضيًا
بأن جنودهم لا تنتظم إلا من الأولاد المقيمين في الثكنات المخصوصة المختارين
لذلك، وفي سنة 900 حشر الناس من البلاد لحضور الاحتفال بختان نجل السلطان
محمد، ورغب جماعة من الأجلاف الانتظام في سلك الإنكشارية لزيادة الفرح
فصدرت الإرادة بذلك، وانتدب أوهاد آغا رئيس الإنكشارية لتنفيذها، فشاور في
ذلك رؤساء قومه، فقالوا: إن هذا مخالف للقانون ومضر بالدولة العلية، واتفقوا
على عدم قبولهم، فألح بعض الندماء والمقربين الذين لم يتأملوا عواقب الأمور بتنفيذ
ذلك، فصدرت به الإرادة السنية ثانيًا، ففضل فرهاد آغا الاستقالة على هذه الرئاسة
الخائنة (هكذا هكذا تكون الفضلاء والأمناء) وتولى مكانه يوسف آغا فأدخلهم،
فدخل بذلك الخلل في هذا السلك، فقطع عروته ونثر منظومه، حيث صار يدخل
فيه من لا يعرف له أصل ولا وصف، وصارت علوفتهم وأرزاقهم تجري على خدم
المقربين والوزراء، وصار معاش التقاعد الذي كان يعطى للشيوخ والعاجزين يعطى
للشبان والأقوياء، وكثر عديد الإنكشارية بهذا الخلل، حتى عجزت الدولة عن
كفايتهم، ولما كان هؤلاء الخدم والأتباع الذين يأخذون الأموال والمعاشات التقاعدية
لا يحضرون الحرب ولا يقومون بالخفارة، اضطرت الدولة إلى استئجار خفراء،
ففقدت رجال الحرب الذين كانت الدول تضرب بهم هذا المثل: (يجب على من
يكافح العثمانيين أن تكون رجلاه من رصاص ويداه من حديد) .
كان نظام أصحاب الزعامة والتيمار ونسق الفرسان (النسق - محركة - ما
كان على نظام واحد من كل شيء ويسمى نسق العسكر بالتركية: وجاق) محفوظًا من
الدخيل والأجنبي عنها إلى سنة 992 تولى عثمان باشا سردار إيران ابن أوزدمير،
فأدخل في ذلك جماعة أراد نفعهم لاستحقاقهم، فسن بذلك سنة عادت بالخلل على
النظام، وصارت مرتبات هؤلاء كمرتبات الانكشارية عرضة للنهب والسلب، وزاد
عدد العساكر الذين يأخذون المرتبات وسائر الطوائف من أصحاب العلوفة
فاضطرت الدولة إلى زيادة الإتاوات والرسوم الأميرية، فكان ذلك مدعاة الظلم
والاعتداء وانتهى بفقر الأهالي وخراب البلاد.
كان من مقتضى القانون أن يكون أرباب التيمار والزعامة من أهل البلاد في
الألوية، فلما منحهما السلطان مراد الثالث لخدمة الوزراء ساءت الحال وجرت
الأرزاق على المجهولين ممن لا عمل له، ولم يجد أرباب الاستحقاق سبيلاً للشكوى
في دار السعادة لأن العلة من هناك، وطغى المقربون من هذا السلطان وندماؤه،
فاغتصبوا بعض القرى والمزارع التي كانت خاصة بالغزاة والمجاهدين وتسمى
(أربه لق) ولما فاض ينبوع ثروتهم أفاضوا منه على أتباعهم وحواشيهم، وتأسى
بهم وكلاء الدولة، فصار الفريقان يوجهون التيمار والزعامة المحلولة إلى من ذكرنا
وبعضها ألحق بالأملاك الهمايونية (الأراضي السلطانية) وبعضها خصص
لتقاعد أناس صحيحي الأبدان، وقسم اغتصبه أرباب الوجاهة فضموه إلى أملاكهم
وسموه بغير اسمه، وصار يناله كل أحد، حتى أهل الدعابة (المساخر والمهرجون)
وبعضها قيد بأسماء خدمهم ومماليكهم ببراءات سلطانية، وبعضها جعله الندماء
والمقربون وسائر الحاشية وقفًا لجهات مختلفة (قال جودت) : مع أن وقف هذه
الأراضي لا يجوز مطلقًا؛ لأنها من حقوق المجاهدين والغزاة، وبدعة وقف
الأراضي السلطانية قد ظهرت في أيام السلطان سليمان؛ فإنه عندما جعل صهره
رستم باشا صدرًا أعظم ملكه بعض القرى التي فتحها أجداده، فجعلها هذا الباشا وقفًا
على جهات مختلفة. وأطال في ذلك بما بين به أن ذلك كان وسيلة لإضاعة حقوق
بيت المال (وكم جعل الوقف ذريعة لأكل حقوق بيت المال وحقوق الناس في غير
الدولة العثمانية أيضًا) حيث اقتدى برستم باشا في ذلك من جاء بعده وأضاعوا
حقوق المجاهدين، وانقرض بذلك أصحاب التيمار والزعامة انقراضًا، واضمحلت
القوة العسكرية العظيمة، وكان من أثر ذلك زوال اعتبار الفرمانات السلطانية من
النفوس بعد ما كانت تحترم احترامًا عظيمًا.
ولما نقص ريع بيت المال لما ذكرنا أحدث رستم باشا السابق ذكره بدعة التزام
الأموال الأميرية لأجل زيادتها، فأعرض أرباب العفة والأمانة المتمسكين بالدين عن
الالتزام، وتهافت عليه الأسافل الفاسدو الأخلاق، فكان ذلك سببًا آخر لخراب الأقطاع
والأملاك الهمايونية، فعم الاعتداء وخربت المدن وافتقر الزراع الذين هم خزانة
الدولة الحقيقية.
ولم تكتب حاشية السلطان بقطع رواتب الغزاة، بل فتحوا باب الرشوة على
الشفاعة بتوجيه إمارة الولايات والألوية وسائر المناصب إلى من يبذل لهم، وما
كانت شفاعتهم عند الصدر الأعظم إلا أمرًا مطاعًا، كما علمت، فتقدم الأشرار
وتأخر الأخيار، ولم يبق للرتب قدر ولا اعتبار، وكثرت أصحاب المناصب
والرتب من كل فسل ذميم ونذل لئيم، وكثر الجور والتعدي بكثرتهم، حتى انتهى
بما تعلم.
فتبين مما شرحناه أن أسباب الخلل والفساد ترجع كلها إلى أصل واحد، وهو
حاشية السلطان وخاصته.
أما أمر الإسراف والتبذير والانغماس في النعيم، المتولدة جراثيمه في عهد
السلطان سليمان (رحمه الله تعالى) ثم سرت في جميع طبقات الأمة، فمما لا
يتعلق بغرضنا شرحه الآن. ومن المسلمات أن الترف هو الذي أباد الأمم السالفة،
وأنه لا نجاة للأمم منه إلا بتعميم التربية والتعليم اللذين اهتدى إليهما الغربيون في
هذا الزمن، وإذا انضم إلى ذلك الاعتصام بعروة الدين الحق والتأدب بآدابه
الصحيحة، فهنالك الكمال والأمان من الزوال ما دامت الأمة متمسكة بعروة الحق
وقائمه بالشكر {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11)
{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) .
الرتب والمناصب العلمية:
كان السلاطين العثمانيون يبذلون العناية في ترويج العلوم والمعارف، ولما
فتح السلطان محمد القسطنطينية جعلها موئل العلماء والأدباء بما سهل من سبل العلم
وما عمل لترقيته، ثم لما جاء السلطان سليمان خدم العلم ووسع دائرته بزيادة نشر
الفنون الرياضية والطبية، فهو الذي أنشأ مدرسة مخصوصة للطب وأنشأ بجوارها
مستشفى (اسبتالية) ولم تكن أوروبا لذلك العهد تعرف هذا. وكانت رتب
المدرسين 12 رتبة لا يرقى أحد إلى رتبة منها إلا بعد تمكنه من التي دونها، وبذلك
كانت المناصب العلمية في أهلها، وكانت حرمة العلماء محفوظة، حتى إذا قال
أحدهم: هذا حكم الله، خضعت له الرقاب، وقال جميع الناس: سمعنا وأطعنا.
وكان القضاة عدولاً تذعن لحكمهم النفوس في السر والجهر.
طرأ الخلل على النظام العلمي في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، فبدأ
بالتسامح والتساهل في رعاية قوانينه، وانتهى إلى الإفضاء بالرتب والمناصب
العلمية لغير أهلها ومستحقيها، فتولد من ذلك فتن كثيرة، أشدها ضررًا: الظلم في
القضاء، وزوال حرمة العلم والدين من نفوس الناس. وإننا نذكر مجملاً من خبر
ذلك الخلل تبصرة وذكرى:
صار قضاة العسكر (قضاء العسكر أعلى الرتب العلمية في الدولة، وقاضي
العسكر هو ما كانت تسميه دول العرب: قاضي القضاة) يُعزلون من المرجع
الأعلى بعد مدة قليلة من توليتهم بغير ذنب، فكان أصحاب الطمع والشره منهم
يغنمون الفرصة للاكتساب من المنصب قبل العزل، فيوجهون المناصب والرتب
العلمية إلى غير أهلها. وصار الموالي (رتبة الموالي دون رتبة قضاء العسكر،
ومن أهلها يكون القضاة، ولها مراتب متعددة، وللأولى مرتبتان فقط) يبيعون
أوراق الملازمة المؤدية إلى رتبة التدريس (وهي دون رتبة المولوية المذكورة آنفا)
ويعطونها لأي إنسان من غير مراعاة شروطها. فانحدر الخلل من قضاة العسكر
إلى الموالي، ومن هؤلاء إلى العلماء والمدرسين، وهرع أمراء المقاطعات والضباط
بل والعوام إلى ابتياع أوراق الملازمة التي تجعلهم علماء ومدرسين، ثم موالي
وقضاة، فامتلأت معاهد العلم بالجهلة، حتى لم يكد يتميز العالم من الجاهل. ثم
صار منصب التدريس الفعلي منصبًا اسميًّا، والمدرسون لا يذهبون لمدارسهم، بل
لا يعرفون مواقعها، ولا يسألهم أحد عنها، ثم احترقت المدارس وخربت، وبقي
التدريس يوجه إلى مدارس خيالية، وكثر عدد الذين يسمون مدرسين، وتُنُوسي
التدريس فعلاً بالكلية. صار أبناء الصدور والقضاة ينالون وظيفة التدريس وهم
أحداث وأطفال، ويترقون لذلك في الوظائف، حتى أن الواحد منهم لتأتيه نوبته في
المولوية وما طر شاربه ولا اخضر عذاره. وكان ينال التدريس أيضًا كل ذي
وجاهة واعتبار، حتى صارت المراتب والمناصب العلمية تؤخذ بالإرث، فسهل
على الوزراء ورجال الدولة تقليدها لأبنائهم وغيرهم، فازدحم عليها الغوغاء،
وصار الجهال يموج بعضهم في بعض، والتبس الأمر وفسد أي فساد. وكذلك صار
منصب المولوية العملي اسميًّا كالتدريس، وكان يتولى إدارة أعمال المولوية عن
القاضي نائبه، وصارت مدة الولاية للقاضي سنة واحدة.
بعد غض النظر عن بناء التقدم والامتياز على أسس العلم والفضيلة
والاستحقاق والأهلية جروا على قاعدة الأقدمية، أي تقديم الأقدم فالأقدم إلا ما استُثني
من أصحاب الوجاهة والشرف والمنتمين إلى الشفعاء المجبرين الذين لا يتقيدون
بقانون ولا يحكم عليهم نظام. وهذه القاعدة الاستئنائية كانت تسمى في اصطلاح
المدرسين: (الطفرة) وكانت متبعة أيضًا في رتب الموالي والصدور، فكثر عدد
الجميع جدًّا. وكان الذين ينالون هذه الرتب بغير استحقاق يحتقرون ما دون رتبة
قضاء العسكر التي يسمى أربابها: (الصدور) . وكان هؤلاء الصدور يتغطرسون
ويتبجحون ويصرفون أوقاتهم في ذكر مساوي بعضهم، فكانوا كلاًّ على عاتق الدولة.
عينت الدولة لكل واحد من المدرسين والموالي والصدور قضاء يتولى إدارته
نائب له، فيتناول النائب حصته المعينة ويأخذ الباقي صاحب المنصب باسم
(معيشة) للمدرسين و (اربه لق) للصدور والموالي. ولما كان هؤلاء النواب ليسوا
من أهل القضاء اضطروا إلى الاستعانة بنواب عنهم يتولون الأحكام اقتداء برؤسائهم
فأصبحت النيابة تدير الأعمال في جميع الأقضية، ورتبة القضاء نهبة للصدور
والموالي والمدرسين، وتبعهم في ذلك الجوخدارية وصارت الطريقة العملية التي
وضعت لنشر العلوم والمعارف وإحقاق الحقوق وسيلة للتعيش، فكان ذلك فساداً
كبيرًا وخللاً في الملك والملة.
ولما زاد عدد المدرسين أصبح أكثرهم في حالة تشبه حالة المتسولين، وتبدل
عز العلم وشرف التدريس بالذل، وكان النواب الذين ذكرناهم من أهل الجهل
والمكر والسفه يشتركون مع الظلمة في ظلم العباد وخراب البلاد، وكان سائر من
يأخذون أوراق الملازمة بالرشوة أو الشفاعة أوغادًا جهالاً، لا يحسنون قراءة
أسمائهم ولا أداء الشهادة الشرعية على شيء، فطفقوا يبيعون الوظائف لأمثالهم،
فاضطر العلماء والصلحاء الذين لم يبق لهم قيمة إلى مداراة الظلمة، فضاع الشرف
الصحيح، وعزت الأمانة الدينية، وراجت البطالة والجهالة. وكانت تلك العصور
التي دبت فيها هذه المفاسد في الأمة والدولة قد تنبهت فيها الأمم الأوروبية للعلوم
والمعارف والصنائع، فتقدموا وتأخرنا، ولولا ما جاء به السلاطين المتأخرون من
الإصلاح لهلكنا.
كادت الدولة العلية أن تسقط على عهد السلطان محمود - رحمه الله تعالى -
فأزال ما طرأ من الفساد على الإنكشارية باصطلامهم واستئصالهم، وأسس عسكرًا
جديدًا، وجاء بعده السلطان عبد المجيد - رحمه الله تعالى - فاجتهد في الإصلاح بما
تعلم، وحسنت الحال في عهده وفي عهد السلطان عبد العزيز- عليه الرحمة - بعض
الحسن، ثم جاء في آثارهم سيدنا ومولانا الخليفة المعظم والسلطان الأعظم عبد
الحميد الثاني، أيده الله بروحه وأمده بنصره، فهب للنهوض بالأمة نهضة واحدة،
فأسس مجلس الأمة - المبعوثان - ووضع القانون الأساسي [***] ، واجتهد في إحياء
معنى الخلافة الذي أهمله سلفه بعد السلطان سليم ياوز، فطرأت الحرب الروسية
والدولة على غير استعداد، وتقدمها فتن أضعفتها، وانتهت الحرب بما تعلم وتلتها
الحروب السياسية بين أوروبا والدولة العلية، فشغلت مولانا عن صرف قواه
للإصلاح الداخلي؛ لأنه تحمل أثقال هذه الحروب بنفسه لضعف ثقته بالوزراء
بسبب فتنة السلطان عبد العزيز وما كان من الخيانة في الحرب مع الروسية، ومع
ذلك عمل أعمالاً داخلية يشرحها المنار دائمًا، كما أشرنا إلى ذلك في العدد الماضي،
وحيث قد لهجت الجرائد بمسألة الإصلاح الداخلي، وقال بعضها: إمبراطور ألمانيا
نصح لصديقه السلطان الأعظم بالعناية الكبرى به، وأنبأ البرق بأن بعض الوزراء
يذاكر جلالته في ذلك، رأينا أن نعرض ما نراه واجبًا الآن مع علمنا بأن مولانا أيده
الله أوسع علمًا بما يجب من ذلك. ولكن روينا في صحيح مسلم أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: (الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)
فاهتداء بالحديث الشريف نقول بناء على المعلومات السابقة:
أركان الإصلاح:
الإصلاح الذي لا بد منه يتوقف على أمور:
(1) منع الشفاعة والتوصية من كل أحد في كل ما يتعلق بمصالح الدولة من
توجيه المناصب والوظائف، ومنح الرتب والوسامات، أو العفو عن العقوبات وغير
ذلك؛ لأن الشفاعات في هذه الأمور هي أصل الفساد السابق وينبوعه كما مر.
(2) تأديب من يتعرض لهذه الشفاعات أيًّا كان إذا ثبت عنه ذلك.
(3) انتقاء الوزراء والولاة والحكام وسائر رجال الحكومة من خيرة الرعية
بدون تزييل بين تركي وعربي، أو مسلم وذمي في ضمن نصوص الشريعة إذ
الحاكم الشرعي لا يصح أن يكون نصرانيًّا مثلاً، وأما أمور الجباية والكتابة فلا فرق
فيها بين مسلم وغيره، فقد كانت الجباة والكتاب على عهد خلافة الراشدين وغيرهم
من غير المسلمين في بلاد الشام وغيرها، وقانون الدولة ناطق بذلك.
(4) حصر القضاء الشرعي في أجلة كالمتخرجين في مكتب النواب أو
الجامع الأزهر المشهود لهم بالعلم والعدالة ممن نشأوا بينهم.
(5) إعطاء الحرية لكل حاكم قضائي أو سياسي بأن يعمل بما يراه في
ضمن دائرة الشريعة المكلف بالعمل بها.
(6) إلقاء التبعة على من ذكر فيما يتعلق بوظائفهم وأعمالهم إذا هم انحرفوا
عن جادة العدالة.
(7) عدم عزل أحد بغير ذنب ثابت.
(8) معاقبة من يعزل بذنب وحرمانه من مناصب الدولة ووظائفها حرمانًا
قطعيًّا.
(9) زيادة مرتبات صغار المأمورين ومعاشاتهم؛ لأن قلتها تضطرهم إلى
الرشوة التي تذهب بالعدل الذي هو أساس العمران.
(10) إعطاء الحرية للرعية بالشكوى من أي حاكم تعدى حدود وظيفته
وتأمين من يرفع الشكوى من تعدي الحاكم المتظلم منه، ولو لم تثبت دعواه.
(11) إيصاء الولاة والمتصرفين بالاجتهاد في التأليف بين أهل الملل
المختلفة والطوائف المتعددة، وترغيبهم في إنشاء المدارس الوطنية والشركات
المالية التي توحد المصالح وتجمع القلوب على العمل لترقية الوطن وتكافئ الدولة
كل من أحسن في ذلك عملاً.
(12) إعطاء الحرية المعتدلة للمطبوعات في دائرة القانون.
(13) منع الجرائد من إطراء الولاة والحكام وسائر المأمورين بالأماديح
الشعرية التي تغرهم وتخدعهم وتحملهم على الاسترسال في ظلمهم وتجرأهم على
التمادي في الباطل، فإن جرائد النفاق والدهان من أقوى عوامل الإفساد والخراب.
(14) عدم إعطاء رتبة شرف أو وسام إلا لمستحقه، فإذا جرَّح طالبَ العلم
الذي يرغب في رتبة التدريس بعض العلماء وعدَّله الآخرون فينبغي أن يُقدم الجرح
على التعديل، كما عليه المحدثون، وهكذا يكون الشأن في الباقي، بل ينبغي
التحقيق على من أخذوا الرتب والوسامات بغير حق ونزعها منهم إن أمكن، وربما
نشرح بعض هذه الأمور في فرصة أخرى.
هذا ما عنّ لنا في الإصلاح الواجب مراعاته الآن في السلطنة، وسنشرح
رأينا في الإصلاح الديني، أي المؤدي إلى المحافظة على الدين والعمل به، وجمع
كلمة المسلمين، ونرفعه إلى مقام الخلافة في عدد تالٍ إن شاء الله تعالى.
__________
(*) فاتحة العدد الثامن والثلاثين الصادر في يوم السبت 26 رجب سنة 1316هـ.
(**) بعد هذا علمنا أن السلطان منع طبع هذا التاريخ وقراءته، وطبعت نسخة منه ناقصة ومحرفة.
(***) علمنا بعد كتابة هذا أنه ليس الواضع للقانون الأساسي بل أعلنه مضطرًّا وأبطله بكيده مختارًا.(1/740)
الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي
__________
السعادة الحقيقية
لحضرة الأصولي الفاضل حموده أفندي عبده المحامي
جسم السعادة يتألف من مقومات الحياة المادية والملاذِّ الجسمانية، ولا حياة
لجسم إلا بروح، ورورح السعادة هي الفضائل النفسانية والكمالات المعنوية والمزايا
البشرية.
شطت عقول الناس عن معنى السعادة الحقيقية، وصرفوا آمالهم وسعيهم إلى
ما يجلب لذة جسمانية وراحة بدنية، واعتقدوا أن لا سعادة لهم إلا بالاستحواذ على ما
تقوم به معيشتهم، وظنوا أن الظواهر المادية تكسبهم ثوبًا من الفضل، وحلة من
الكمال، فبهذا انصرفوا عن التطلع إلى الكمالات، وكسب الممدوح من الأخلاق
والصفات.
والناس في حياتهم المادية قسمان: قسم يستحوذ على المال من طريق الحق
والعقل، وقسم تاه في بيداء العماية، وسلك طريق الغواية، يطلب المال مهما كانت
ذريعته، ويسعى إليه مهما كانت وسيلته، إلا أنه لم ينل من الكمال حظًّا، ولا
أصاب من الفضل غرضًا، ومثله في مثل ذلك: العجماء التي تطعم لما تقدم من
العمل. فجمعه المال وإن كان بطريق حق ثابت لا فضل له فيه، ولا يعد فاضلاً إلا
بالفضائل التي نبينها.
والقسم الآخر هو أقل بكثير في الدرجة من القسم الأول، ومثله مثل الحيوانات
الضارية التي لا ينال الناس منها سوى الضرر.
الإنسان نوع ميزه الله عن الحيوانات بمزايا العقل والفضائل، فإذا لم توجد تلك
المزايا فقد انحط عن درجة الحيوانات؛ لأنه إذا عري عن تلك المزايا صار حيوانًا
ضارًّا وصارت هي أنفع منه.
ثبت حينئذ أن الاستحواذ على مناهل الثروة وينابيع الكسب ليس كافيًا وحده في
لبس ثوب الفضل، وإنما يصح أن يُتخذ المال آلة للوصول إلى بعض الفضائل،
ومن جعله غرضًا لا يسعى إلا إليه فقد جهل حقيقة نفسه، وأضاع الغاية المطلوبة
من حياته.
والناس متقاربون في حياتهم المادية مهما اختلفت الثروة، فلربما تلذذ الفقير
بعيشه القليل، ونُغص الغني ذو النعيم العظيم، على أن موارد الثروة لا تدوم
لصاحبها، فكم من غنى زال وما دام، وكم من فقير أصبح يجر ذيول النعيم. فلا
تفاوت في الحقيقة بين الناس إلا بالفضائل والمحامد؛ لأنها هي المزايا الموطدة
لروابط الجمعية البشرية، المؤسسة لبناء هيكل الإنسانية، وما دامت في أفراد دولة
يدوم معها الارتقاء، واذا انحطت هوت تلك الدولة في مهاوي الدمار، وبعدت عنها
السعادة بعد السماء.
نقرأ في سير الغابرين ونشاهد في أمم الحاضرين أن الدولة ترتقي أوج الكمال
وتبلغ الفضائل من نفوس أهليها مبلغًا عظيمًا، ثم تنحط من تلك الرفعة إلى
حضيض المذلة، وربما خيل أن الفضائل مع تمكنها من نفوس تلك الدولة الراقية لم
تفدهم شيئًا في سعادتهم، ولم توقف مجاري انحطاطهم، وحينئذ يبطل القول بأن
الفضائل هي الموصلة للسعادة، ولكنا نجيب على ذلك بأن الدولة إذا وهنت بعد
عظمتها فقد فقدت عنصر الفضائل من نفوسها، والعلة المؤثرة في السقوط هي في
الحقيقة ضياع تلك الفضائل من أفرادها، فإن الوهن الذي يطرأ على أفراد الدولة
الراقية سببه أنهم عندما يحسون بلذة العيش ونعيم الراحة يروق في طباعهم محبة
الحياة المادية، وبعد قليل تغلب عليهم تلك المحبة، ثم ينتهي بهم الحال إلى أن
تنحجر في طباعهم وتصبح طبيعة لا مرد لقضائها، وعند ذلك ينسون الفضائل وما
توجبه على نفوسهم من المزايا، وتبتدئ عندهم كراهية تلك الفضائل؛ لأنها لا تبيح
لهم كل ما تشتهيه الحواس ويطالب به الميل الجسماني، ثم تتدرج الكراهية في
نفوسهم وينتهي الأمر بأن تصبح الفضائل كالعدو القائم عليهم بالمرصاد، فيمجونها
وينبذونها، وحينئذ يستولي السقوط على الدولة بذهاب الكمال من الناس وانحلال
الرابطة، وتصبح حكومة الطباع الفاسدة هي المؤيدة للسلطة، وتذهب سنن النظام
أدراج الرياح. فلأجل صيانة الدولة من السقوط لابد حينئذ من طائفة في كل أمة
تقوم بأمر الحث على الفضائل، خصوصًا إذا بلغت من الارتقاء الحد الذي نوهنا
عنه؛ لأن الفضائل أخلاق مكتسبة، كما سنبينه ولأجل أن ترسخ في النفوس لابد أن
يكون هناك ما يقومها ويطالب بها دائمًا.
ثبت حينئذ أن ارتقاء الأمم وحفظ سعادتها لا يكون إلا بالفضائل والكمالات.
بقي علينا أن نعرف: هل الفضائل غريزة في النفس أو مكتسبة.
وإذا كانت مكتسبة فما هو طريق اكتسابها. ثم لنا كلام بعد ذلك على بعض
الفضائل إن شاء الله.
لم يخلق الإنسان ميالاً بطبعه وغريزته إلى الفضيلة، وإنما خلق وفيه استعداد
لتلقي الفضيلة على حسب ما يوجهه إليه القائمون بأمره. والدليل الحسي ناطق بذلك
فإن سكان البادية تشاهد في طباعهم خشونة، وفي أخلاقهم يبوسة، وهم أبعد
الناس عن الفضائل (في هذا الكلام نظر سيظهره المنار عند المناسبة) ولولا ما
يبث فيهم من العقائد الدينية الحاضة على التمسك بالفضائل لأصبحوا شر الناس،
ولكانوا كالحيوانات في سيرهم ومعيشتهم، أما أهل المدن فنجد في طباعهم لينًا،
وفي أخلاقهم رقة، ولابد حينئذ من أن يكون هناك عامل مؤثر في طباع أهل المدن
لا يوجد في طباع سكان البادية، وذلك العامل هو: التربية، فأهل البادية لبعدهم
عن المربي والمرشد لهم كانوا على ما ذكرنا، وأهل المدن لوجود المربي بينهم
اكتسبوا ما هم فيه من الفضائل، وثبت حينئذ أن الفضائل أمور كسبية مناطها التربية
فالتربية هي الطريق الحقيقي الموصل للفضائل.
فالمؤثر الحقيقي الذي تجنى به جميع الفضائل هو التربية، لهذا كان الاعتناء
بأمرها مقرراً عند الأمم التي رتعت في مروج المدنية وبحبوحة السعادة.
يخيل للإنسان من تغلب قوته الحيوانية على روحه الشفافة البشرية أن الفضائل
أمور شاقة، والأخذ بها مما يضيق على النفس في التصرف بحريتها، وربما كان
هو السبب في انحراف أغلب الناس عن الأخذ بالفضائل واكتسابها، ولكن هذا خيال
باطل، وإن لذة المتمسك بالفضائل لهي أعلى وأرقى من ملاذِّ المتمسك بالطباع
الفاسدة؛ لأن الفضائل هي كمالات تترفع بها درجة النفس وتصيرها معظمة سائدة
على غيرها، وأي لذة تضارع لذة تلك الرفعة المعنوية التي يشرق نورها على
الروح بتأثيرها، لا كما يحصل في اللذائذ المادية من سرعة الزوال، لهذا كانت
الشرائع متفقة كلها على الحث على الفضائل، ولم تتخير موضوعًا أعلى ولا مقامًا
أسمى من ذلك المقام العظيم المنوط به السعادة الدنيوية والأخروية. وعلى فرض أن
في تحمل الفضائل مشاق على النفس أمام ما يصادمها من الملاذ الحسية، فالتربية
تصير الفضائل طبائع وتغرسها في النفوس كالنقوش، ويشب الشخص دائبًا عليها
تلازمه في حركاته وسكناته إذا قصر في بعضها يجد من ضميره زاجرًا وموبخًا،
ويأخذه في نفسه انقباض وكدر، وعلى العكس من ذلك تجده مسروراً مشروح
الصدر إذا أرادها وواظب عليها ووقف عند حدها.
بقي علينا أن نعرف متى تغرس الفضائل في النفوس، وما هو دور الحياة
اللائق لغرسها.
للحياة ثلاثة أدوار طبيعية: دور الطفولية والشبوبية والرجولية، ففي دور
الطفولية يكون ذهن الطفل أكثر استعدادًا لتلقي مبادئ التربية وعناصر الفضائل،
وهو ببركة ما له من السذاجة في هذا الدور يكون قلبه كالمرآة ينطبع فيه جميع ما
يلقى إليه، ولا يصح حرمان الطفل من تلقينه تلك المبادئ في هذا الدور؛ لأن ذلك
يوعر عليه طرق الاكتساب في الدورين الآخرين من حياته.
ثم إن بعض الناس يعتقد أن الترهيب هو السبب الوحيد لتلقين المبادئ في هذا
الدور، وهذا من الشطط؛ لأن تأثير الترهيب نجده في الغالب قاصرًا على ردع
الشخص أمام زاجره، ومتى انتهز فرصة غياب الزاجر يأتي المحذر منه ولا شيء
يمنعه، أما الترغيب في الفضيلة مع بيان منفعتها للطفل على قدر ما يقبله عقله
بطريق الوداعة والمداعبة، فمما يطبع الطفل عليها ويحببها لنفسه؛ لأنها أتت من
طريق يلائم طبعه، بخلاف ما يأتي من طريق المكروه والترهيب، فإنه دائمًا يكون
مكروهًا عند الطفل، لهذا كانت معالم التربية في بلاد الريف من كل أمة هي أكثر
انحطاطًا منها في المدن، وهذا سببه أن معالم الفضائل لم تغرس في نفوس الأطفال
على وجه معقول مقبول، بل كلها تغرس بطريق الترهيب المكروه الذي اعتاده أهل
البادية.
دور الشبوبية: هو الدور الذي تتحكم فيه الشهوة ويتغلب فيه سلطان الملاذ
الجسمانية بحكم الطبيعة، ولابد من معالجة النفس في قبول الفضائل، وهنا تبذل
جميع الوسائل من ترهيب وترغيب يختلفان باختلاف الاستعداد الموجود في الأفراد
ولطالما وقعت شبان في شرك الشهوات بسبب ترك التربية في هذا الدور، وقضوا
حياتهم في ملاذ حيوانية وشهوات بهيمية.
دور الرجولية: هو دور إلقاء النصيحة على الناس وتذكيرهم بما غرس في
نفوسهم من معالم الفضائل في الدورين السابقين، وهذا الدور لا حد له من العمر،
بل الواجب على أمة تطلب فخارًا وتنوي ارتقاءً أن يقوم من أفرادها نفر أعطاهم الله
قوة سليمة في إلقاء النصائح والحث على الفضائل وبلاغة في التعبير وصناعة في
الإلقاء وقوة في البرهان ودرجة عالية في القلوب، وبالجملة يكونون من خيار الأمة
وعظمائها، حتى يكون لقولهم تأثير على النفوس، وتذكيرهم يبقى له أثر في
الأرواح، وسلطة في القلوب، لهذا كان من حكمة الدين الإسلامي أن فرض علينا
الخطبة في صلاة الجمعة تذكيراً للناس بالفضائل والمواعظ، حتى لا يغيب عن
عقولهم خيالها؛ لأن الإنسان بما له من كثرة الأشغال طبع على النسيان، فلابد من
منبه ينبهه ووازع يذكره. هذا مجمل من الكلام يختص بماهية السعادة الحقيقية،
ويذكر أن الفضائل هي غرائز مكتسبة بالتربية، وسنأتي إن شاء الله تعالى على بيان
الفضائل، وكيف أنها روح السعادة.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(1/753)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
الشعر العصري
نظم فارس اليراعة عزتلو الأمير شكيب أرسلان
عما بصباح العلم رغدًا وأنعما ... ربع ظلام الجهل عنه تصرما
قد انصاح [1] صبح السعد في ليل نحسه ... فغادره شيئًا فشيئًا مهزّما
وثاب إليه العلم عدوًا بعوده ... إليه فلا لوم ما تلوّما [2]
فأصبح داجي أفقه اليوم زاهرًا ... وقد كان زاهي أفقه قبل مظلما
وأينع ذاوي روضه اليوم بعد أن تصوّح ... من عصف البوارح في الحمى [3]
ترنح عطف السعد فيه بعيد ما ... رأى لثغور العلم فيه تبسما
وباتت غصون العز تخطر عندما ... رأت فوقها طير المعارف حوّما
لعمرك إن الشرق ردّ بهاؤه ... فيرفل في ثوب الثناء منمنما
وعاد إليه الفضل والعود أحمد ... عليه إذا كان الغياب مذمما
وما الشرق إلا ذلك الشرق لم يزل ... مدى الدهر أعلام العلى متسنما
فإن نابه يومًا من الدهر صرفه ... فلم تك إلا برهة فتثلما
وإما تطش دهم الليالي سهامه ... فهيهات لم تسلبه للحظ أسهما
وإن فاته للفضل غيث فإنما ... وخي إليه الرجع جما فعتما [4]
وإن تعره الأحداث من بعد بسطة ... أي الورى لم يلق بؤسًا وأنعما
وإن يك يومًا سوّد الجهل أفقه ... فقد طالما في الفضل أطلع أنجما
نجوم علوم أخجلت بضيائها ... نجوم علوم لحن في كبد السما
بهن اهتدى في سيره كل بارج ... توغل في بحر الكيان الذي طما
رجال بهم جاد الزمان وعله ... على مثل هذا الجود يومًا تندما
أقامهم في الشرق يحيون أهله ... فأذهل عما نال عادًا وجرهما
هم الملأ الأخيار والعصبة الأولي ... رأينا لعمري الرشد فيهم مجسما
تظلم منه الفخر قبل مجيئهم ... فجاءوا فلما أثقلوه تظلما [5]
لكم أرهفوا بالجد للمجد مخذمًا ... وكم أرعفوا بالنبل للفضل مخطما [6]
وكم صرفوا وجه الصروف عن الورى ... وكم عفروا بالحزم للدهر مرغما [7]
وكم سهلوا حزنًا علا وثنية ... وكم بدلوا بالشهد صابًا وعلقما
وسلُّوا من الآراء أبيض صارماً ... ففلوا من الأرزاء جيشًا عرمرماً
أماطوا قناع المكرمات وقد جلوا ... محيا المعالي بعد أن كان أسحما
وأعلوا منار الرشد في أفق شرفهم ... وخلو سبيلاً للمآثر أقوما
وأجروا ينابيع المعارف في الملا ... فطال بها نبت المعاني وقد نما
وشادوا أصولاً للفنون وأوضحوا ... لها سبلًا أضحت إلى النجح سلما
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الشق.
(2) ثاب: رجع، وتلوم: تمكث وناخر.
(3) توصح: تشقق، والبوارح: الرياح الحارة.
(4) الرجع: مصدر رجع، والمطر بعد المطر، وعتم: أبطأ، وعتم عنه كف بعد المضي.
(5) تظلم الأولى: بمعنى شكا من الظلم، والثانية بمعنى أحال الظلم على نفسه.
(6) المخذم كمنبر: السيف القطاع، والإرعاف: إسالة الدم، والمخطم: كمغبر: الأنف.
(7) المرغم بالفتح: الأنف، والمراد بتعفير أنف الدهر الإذلال.(1/759)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عجيبة عجيبة
أو العدل في القضاء
عجيبة: مُغنية كانت في مصر على عهد السلطان الملك الكامل بن أيوب،
ويذكر أن الكامل كان مع تصميمه بالنسبة إلى أبناء جنسه يحضرها إليه ليلاً وتغنيه
بالجنك على الدف في مجلس يحضره ابن شيخ الشيوخ وغيره، وأولع محمد الكامل
بها جدًّا ثم اتفقت قضية شهد فيها الكامل عند القاضي ابن عين الدولة وهو في دست
ملكه، فقال ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد، فأعاد عليه السلطان الشهادة
فأعاد القاضي القول، فلما زاد الأمر وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته قال: أنا
أشهد أتقبلني أم لا؟ فقال: لا ما أقبلك، وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك كل ليلة
وتنزل ثاني كل يوم بكرة، وهي تتمايل على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من
عندك أعيا ما ينزل، فقال له السلطان: (يا كنواخ) وهي كلمة شتم بالفارسية،
فقال له: ما في الشرع (يا كنواخ) اشهدوا عليَّ أني قد عزلت نفسي ومضى. فجاء
ابن الشيخ إلى الملك الكامل وقال: المصلحة إعادته لئلا يقال: لأي شيء عزل
القاضي نفسه وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة، فقال له: صدقت،
ونهض إلى القاضي وترضاه، وعاد إلى القضاء، وهذه الحكاية سماها بعض الناس:
(عجيبة عجيبة) وفيها بحث فقهي يراجع في طبقات الشافعية الكبرى لابن
السبكي.
__________(1/761)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اقتراح على مجلس إدارة الأزهر الشريف
رددت بعض جرائد سوريا ومصر خبر صدور الإرادة السلطانية السنية لطائفة
أو طوائف من طلاب العلم في دار السعادة بالتجوال في البلاد والقرى والمزارع
(الأبعديات والعزب) لبث النصائح الدينية وإرشاد الناس وتعليمهم مدة ثلاثة أشهر
(رجب وشعبان ورمضان) وهذه المنقبة من أجلِّ المناقب لمقام الخلافة الإسلامية
أعزّه الله تعالى ويا حبذا لو أصدر سيدنا ومولانا الخليفة أمره لجميع البلاد الإسلامية
بالقيام بهذه الفريضة الدينية.
وبهذه المناسبة نقترح على فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشريف
وعلى أعضاء مجلس الأزهر أن يعهدوا بمثل هذا العمل الشريف إلى المدرسين
ونجباء الطلبة الذي يقضون مدة إجازاتهم في بلادهم وقراهم، وأن يضعوا لها سننًا
معينة يسيرون عليها في عملهم هذا، ثم يتعرفون أبناءهم فيكافئون من أحسن عملاً.
ومن فائدة ذلك للقائم به التمرن على النصيحة والإرشاد ولاختبار سيرة العامة في
دينهم ومعرفة ما يحتاجون إليه في ذلك، وذلك يهديه إلى تعلّم ما ينفع به وعدم شغل
الوقت بما عساه لا يلزم له. ومن أفضل ما نتوقعه من مجلس إدارة الأزهر اختيار
جماعة من نجباء المجاورين من كل قطر من الأقطار وترشيحهم للوعظ بأن تلقى
إليهم دروس مخصوصة في الأخلاق والعادات، ويمرنون على الخطابة بحيث
تصير ملكة لازمة لهم، وترغيبهم في ذلك بالمكافآت وزيادة الرزق (الجراية) بقدر
الإمكان. وسنوفي الموضوع حقه من البيان في مباحث (الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر) و (الخطابة) و (التمسك بالقرآن) إن شاء الله تعالى.
__________(1/762)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدارس الخرطوم
طيّر البرق إلينا من أيام خبر اقتراح كتشنر باشا لورد الخرطوم وسردار الجيش
المصري فتح اكتتاب لجمع مائة ألف جنيه لإنشاء مدرسة كلية في الخرطوم باسم
غوردون باشا الإنكليزي الذي هلك فيها. ولم يكد يلج الخبر المسامع ويجول في
المجامع حتى جاء في إثره خبر آخر مع البرق بأن الفرنساويين هبوا لمجاراة
الإنكليز في هذا، ولابد أن ينشئوا في الخرطوم وغيرها من بلاد السودان مدارس
متعددة باسم فشودة ومرشان أو بأسماء أخرى، لئلا يستأثر الإنكليز بنشر نفوذهم
السياسي والديني والأدبي في تلك البلاد الواسعة، فهل يوجد في أغنياء المصريين أو
المسلمين من يبذل المال للمحافظة على دينهم ولغتهم وآدابهم وتنميتها وهي موجودة
كما يسعى أولئك لإيجادها وهي مفقودة؟ إن كان في العالم الإسلامي أغنياء لهم غيرة
على دينهم ولغتهم وآدابها فإننا نرى آثارهم في مجاراة الأوروبيين بمثل هذه
الأعمال، وإن كانوا لا يقلدونهم إلا بالترف ولوازمه من المنكرات والفواحش فلهم
اللعنة ولهم سوء الدار.
__________(1/763)
3 شعبان - 1316هـ
يناير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]
لا تقوم مصلحة عامة إلا برياسة، ولا تسير رياسة في منهاج الصواب ما لم
تكن مقيدة بقانون عادل. والدين مصلحة عامة، ورئيسه في الإسلام بعد زمن النبوة
الخليفة الذي يتولى أمور المسلمين، فهو المطالَب بحراسته الصورية والمعنوية،
المسئول بتعميم نشره في البرية، وقد بيّنّا في مقالات (الخلافة والخلفاء) أن خلفاء
المسلمين بعد الراشدين قصروا في حفظه فضلاً عن نشره، ولم ينتشر انتشاره
السريع في أقطار الأرض إلا بسهولة تعقل عقائده ويسر أحكامه، وتأثير فضائله
وآدابه، لا بعناية الخلفاء، ولا سعي الملوك والأمراء. أي خليفة أقام للدين دعاة
تحت حمايته في بلاده أو في البلاد الأخرى إلا ما كان من دعاة الفتنة ورواد
الإضلال على عهد العبيديين في مصر؟ أي خليفة سعى في جمع كلمة المسلمين
التي فرقتها المذاهب، ومزقها اختلاف المشارب؟ كل ذلك لم يكن كما علمت من
المقالات السابقة، ولو كان لما وقف سير الإسلام، أو تقلص ظل سلطته عن أحد
من الأنام، ولما أصيب فيضانه بالجزر أو يبلغ مده غاية حده. ما رعوا الخلافة حق
رعايتها، بل صيروها ملكًا عضوضًا كما ورد في أعلام النبوة، فساءت الحال،
وانتهت إلى هذا المآل. وهذا لا يمنع من تدارك ما مضى وتلافي ما فرط فيه.
ولما كانت لمولانا المتبوئ مقام الخلافة لهذا العهد أمير المؤمنين عبد الحميد
الثاني (أعزه الله تعالى وأيده) عناية عظيمة في إحياء منصب الخلافة الأسمى،
والقيام بشؤونها بقدر الاستطاعة، رأينا من واجب النصيحة للإمام التي ورد بها
الحديث الصحيح الذي أوردناه في مقالة (الإصلاح) السابقة أن نبين ما نعلم أنه من
مقومات الإصلاح الديني، كما بينا رأينا في مقومات الإصلاح السياسي المدني،
على أن الإصلاحين متلازمان في الأمة الإسلامية لا يقوم أحدهما حق القيام إلا
بالآخر، والشريعة الإسلامية هادية للإصلاحين، إذ كل خير وصلاح للعباد، يتعلق
بالمعاش والمعاد، قد قرره الإسلام واعتده من مقاصده. وقد عرف علماء المسلمين
الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح
في المآل. ولهذا قلنا في العدد الماضي: إن مرادنا بالإصلاح الديني (ما يؤدي إلى
المحافظة على الدين والعمل به وجمع كلمة المسلمين) ولا يحصل هذا بعمارة
المساجد والتكايا، ولا بالإنعام على بعض الشيوخ أو أهل الحجاز بالرتب والرواتب
والوسامات، بل لابد في ذلك من أعمال تناط بالحكام وأعمال تطلب من العلماء
وأصحاب الوظائف الدينية، كالأئمة والخطباء والمدرسين، وأعمال تتعلق بمجموع
الأمة، وأعمال تختص بالبلاد الحجازية، وإننا نتكلم على ما يسنح لنا في ذلك
بوجيز من القول مستمدين التوفيق للتي هي أقوم ممن علم بالقلم، علم الإنسان ما
لم يعلم.
أهم ما جاء به الإسلام هو التوحيد في العقائد الدينية والتعاليم الأدبية والأحكام
القضائية والمدنية، فأهم أركان الإصلاح الإسلامي جمع المسلمين على عقيدة واحدة
وأصول أدبية واحدة وقانون شرعي واحد، لا يحكم عليهم غيره في أي نوع من
أنواع الأحكام، ولغة واحدة. ويتوقف هذا الإصلاح على تأليف جمعية إسلامية تحت
حماية الخليفة يكون لها شعب في كل قطر إسلامي، وتكون عظمى شُعبها في مكة
المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها
ومعاهدها المقدسة، ويكون أهم اجتماعات هذه الشعبة في موسم الحج الشريف،
حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشعب التي في سائر الأقطار يأتون الحج
فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي من التعاليم السرية
والجهرية. وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية الكبرى في مكة المكرمة على وجودها
في دار الخلافة، وثم مرجحات أخرى من أهمها: البعد عن دسائس الأجانب
ووساوسهم، والأمن من وقوفهم على ما لا ينبغي وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله.
(ومنها) : أن لشرف المكان ولحالة قاصديه الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص
والتنزه عن الهوى والغرض فضلاً عن الغش والخيانة، وينبغي أن يكون للجمعية
الكبرى جريدة علمية دينية تطبع في مكة أيضًا، وأية شعبة استطاعت إنشاء جريدة
تنشئها.
ولنذكر كل توحيد من التواحيد التي يجب في الإصلاح جمع الأمة كلها عليها،
وما يكون من عمل الجمعية فيها، ثم نذكر أهم ما يناط بالجمعية وشُعبها من الأعمال
وهو تلافي البدع والتعاليم الفاسدة التي تحدث قبل انتشارها، وإصلاح الخطابة
والدعوة إلى الدين، وأهم نتائجها وهو ارتباط الحكومات الإسلامية واتحادها فنقول:
(الأول والثاني: توحيد العقائد وتوحيد الآداب) : تؤلف الجمعية كتابًا فيما
أجمع عليه المسلمون بجميع فرقهم التي يعتد بإسلامها من أصول الدين الثلاثة:
صحة الاعتقاد، وتهذيب الأخلاق، وإحسان الأعمال. لا يذكر فيه شيء من مسائل
الخلاف، لا سيما بين الطوائف الإسلامية التي لها إمارة وفيها كثرة كالشيعة، بل
ينحى فيه منحى " رسالة التوحيد "، التي ألفها حديثًا أحد علماء الأزهر الشريف،
ولا يتعرض فيه أيضًا لمباحث الفلسفة التي مزج الأولون بها علم الكلام، ويكون
الكتاب بعبارة في غاية السهولة، ويترجم لجميع اللغات المتداولة، ويعلم من مقام
الخلافة بأن هذا هو الإسلام وجميع الآخذين به إخوة في الدين يجب على كل منهم
أن يعتد مجموع الأمة جسمًا واحدًا هو عضو فيه كسائر الأعضاء، وأنه لا قوام له
ولا حياة ولا شرف إلا بسلامة المجموع من كل ما يعرض على الحياة من العلل أو
يمس الشرف، ولا يمنع من هذا الاختلاف في المسائل الفرعية والتي ليست من
أسس الدين وأركانه، كالمفاضلة بين الصحابة (عليهم الرضوان) في الخلافة
وغيرها، كما لا يمنع الإنسان من تكريم أعضائه، تلونها بلون غريب عن لون
الفطرة، أو كما لا يمنعه من محبة إخوته وأبنائه دمامة أو مرض يعرض لبعضهم،
بل ينبغي أن تكون العناية بأمر المنحرف أشد، والانعطاف عليه أقوى.
(الثالث: توحيد الأحكام) : لا يمكن أن تنال الأمة حظها من السعادة المدنية
إلا بخضوعها ظاهرًا وباطنًا للقوانين القضائية والمدنية التي تسير عليها حكامها،
ولا يمكن أن يخضع مسلم لقانون وضعه البشر إلا كرهًا وإجبارًا، ومن يراعي منهم
القانون ويخضع له في الظاهر كرهًا يعصيه في السر إذا أمن العقوبة، كأن علم أنه
لا يمكن إثبات عصيانه ومخالفته أو أنه يتسنى له إرضاء لحاكم بالشفاعة أو الرشوة،
وما اضطر الحكومة العثمانية والمصرية إلى العمل بالقوانين الأوروبية إلا عدم وجود
كتب شرعية إسلامية تنطبق على حالة العصر، وعجز الحكام عن أخذ ذلك من
الشريعة لجهلهم بها وغفلة العلماء عن حالة العصر وما تقتضيه، والتقيد بمذهب
واحد. فإذا أمر الخليفة الجمعية بتأليف كتب تؤخذ من جميع المذاهب الإسلامية
تنطبق على حالة العصر لأجل الحكم بها فعلت، وهو أيسر شيء عليها. ولا
يتوقف هذا على التلفيق الذي يمنعه الجمهور لأنه مفروض في مسألة واحدة، وإذا
صادقت على هذه الكتب شُعَبُ الجمعية كلها صار متعينًا للاتفاق عليه من علماء الملة
على اختلاف مذاهبهم، ثم إذا أمر الخليفة بالعمل به تذعن له النفوس وتخضع سرًّا
وجهراً. ولا يختلج في ذهن عاقل أن ذلك يسوء أصحاب الملل الأخرى في الدولة،
ويتولد منه نفورهم منها؛ لأن العنصر الكثير في الدولة منهم هو عنصر النصارى،
ولا يمكن نفور هؤلاء من قوانين الشريعة الإسلامية بحجة الدين؛ لأن دينهم يأمرهم
بالخضوع لأى سلطان يحكمهم وأية شريعة يحكمون بها، ولا بحجة المصلحة
والمنفعة؛ لأن مصالحهم ومنافعهم تحفظ بشريعة يذعن لها مشاركوهم في تلك
المصالح وأعمالها، ومجاوروهم في وطنهم سواء فيها حاكمهم ومحكومهم - ما لا
تحفظ بشريعة يعتقد الحاكم والمحكوم أن العمل بها غير واجب، بل تعدي حدودها لازم
لا يمنع منه إلا الأمن من العقوبة، لا سيما وهم يعلمون أن الشريعة الإسلامية تأمر
بالعدل والمساواة بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، وتفرض على المسلم من
الواجبات ما لا تفرض على غيره. وكاتب هذه السطور يعلم من مذاكرة نبهاء
النصاري وعقلائهم أنهم يتمنون لو تكون الأحكام شرعية إسلامية، ولا ينتقدون مما
يعلمونه من أحكام الفقه الإسلامي إلا مسائل قليلة ليست من مسائل الإجماع ومهمات
الدين في الغالب.
وفي توحيد الأحكام الشرعية على ما ذكرنا إرضاء لجميع مذاهب المسلمين في
الفروع، وقطع لعرق التعصب الذي أضر بهم في الأيام الخالية، وغير ذلك من
الفوائد التي لا محل في هذه المقالة لشرحها. ويوشك أن تحكم الدول الأجنبية
مستعمراتها الإسلامية بهذا القانون إرضاء لأهلها واستمالة لهم واطمئنانًا بخضوعهم
للأحكام سرًّا وجهرًا. ولا حاجة هنا لبيان كيفية التأليف من الضبط والسهولة
والترتيب، وإن لنا في مجلة الأحكام العدلية لخير مثال. ولا دليل على أن جميع
الحكومات الإسلامية تأخذ بهذا القانون حالاً ولكن لا مندوحة لهم عن الأخذ به مآلًا.
(الرابع: توحيد اللغة) : كل من كان قصير النظر لا يتجاوز شعاع بصره
ما بين يديه - وكل من كان جاهلاً بأحوال الأمم الحية وسعيها في نشر لغاتها في
جميع الأقطار- وكل من ضعف عقله ودينه فوقع في هوة اليأس من حياة الأمة
ونجاح عمل كبير على يدها - وكل من تمكن منه الطيش والعجلة وقلة الاحتمال
فصار يطلب الغاية في البداية - كل هؤلاء الأصناف يعتقدون أن محاولة جمع الأمة
الإسلامية أو شعوب الدولة العثمانية على لغة واحدة غرور وجهل لأنها محاولة محال،
وطلب ما لا ينال، ولكن لا يوجد ذو مسكة من العقل يرتاب في أن نجاح الأمة
التام وارتقاءها الكامل يتوقف على وحدة لغتها، فاللغة هي مناط الجنسية ومعقد
الارتباط عند الأمم المرتقية، وما دامت الدولة مختلفة الأجناس فهي على خطر من
حياتها السعيدة، وبين يدينا من الشواهد ما يقطع لسان كل معاند.
هذه دولة أوستريا - النمسا والمجر - تعد من الدول القوية المتمدنة في
أوروبا، ومع ذلك قد رماها اختلاف الأجناس بالفتن التي يخشى أن تؤدي إلى
تمزيقها بتفريقها وتودي بعظمتها التي يمسكها الإمبراطور الحالي أن تزول لما له من
المكانة والمحبة في نفوس الجميع.
العمل الأول في توحيد اللغة إنما يكون من الخليفة صاحب السلطان، وعمل
الجمعية فيه كعملها في نشر الدين والدعوة إليه كما يأتي. والحكومة العثمانية تجتهد
في تعميم لغتها التركية العذبة في بلادها ولا يتسنى لها ذلك أبدًا. وتترجح اللغة
العربية على التركية في وجوب تعميمها بأمور:
(منها) : كونها لغة الدين، فإحياؤها إحياء له، وتعميمها وسيلة لتعميمه
وفهمه.
(ومنها) : إمكان نشرها بسهولة؛ لأن التركي يدعوه إلى تعلمها كونها لغة
دينه أما العربي الذي لا طمع له في مناصب الدولة فلا تتوجه نفسه إلى تعلم
التركية، وهذه الدولة العلية لم تقدر في بضعة قرون أن تستبدل لغتها بالعربية في
قطر من الأقطار، ولو سارت على ما كان يرغب السلطان سليم ياوز- رحمه الله
تعالى - من جعل العربية لسان الدولة الرسمي وتعميمه لكان معظم الأتراك اليوم
ينطقون بالضاد.
(ومنها) : محو الامتياز الجنسي بين الترك والعرب؛ فقد أضر هذا الامتياز
بالدولة ضررًا مبينًا، ولا تزال أخطاره تهددها. نعم إن الرابطة الإسلامية بين
العنصرين كافية للاتحاد والاعتصام، ولكن أين التربية الإسلامية التي تنفخ هذا
الروح في العنصرين كما نحب ونرضى؟ ولا يجهل من وقف على دسائس
المفسدين أن أنفذ عواملهم في التفريق بين هذين العنصرين هو اختلاف اللغة. فإن
كان كمال بك الكاتب العثماني الشهير (عليه الرحمة) قال: (إن الجامعة بين
الترك والعرب مؤيدة بأخوة الإسلام ورابطة الخلافة، فإن كان أحد يقدر على تفريقها
فهو الله، وإن كان أحد يفكر في ذلك فهو إبليس) فلقد قال ما قال ولم يكن السعي في
التفريق قد وقع فعلاً. أما الآن فقد ظهر من أعداء الدولة أبالسة تسعى لهذا الفعل
القبيح بما تستطيع، وفتنة اليمن لا تخلو من آثار هؤلاء الأبالسة الأشرار.
(ومنها) - أي المرجحات -: كون الناطقين بالعربية في الدولة أكثر عددًا،
فما بالك بهم في الأمة كلها.
(ومنها) : كون علماء المسلمين في جميع أقطار الأرض يعرفونها.
(ومنها) : أن سعي أمير المؤمنين في نشر لغة الدين وتعميمها يجمع قلوب
المسلمين في جميع المسكونة على محبته والتمسك بولاء دولته.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) فاتحة العدد التاسع والثلاثين الصادر في يوم السبت 3 شعبان سنة 1316هـ.(1/764)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ليلة المعراج
احتفل المسلمون في ليلة الأحد الماضية بتلاوة قصة المعراج الشريف، وهذا
الاحتفال من المواسم الحادثة في الملة، لم يكن على عهد السلف الصالح، وقد أُلف
في هذا الموضوع قصص كثيرة، منها ما تحرى أصحابه الروايات المنقولة من
صحيح وحسن وضعيف ومنها ما جيء فيه بما لا يصح من منكر القول
وموضوعه، ومزج الروايات الواهية بالصحيحة مزجًا لا يتميز فيه الصحيح من
الفاسد، والذين يقرءون هذه القصص منهم العلماء الذين يشرحون القصة للناس
ببيان يقرب من عقولهم، وتتناوله أفهامهم، من غير أن تجول خيول خيالاتهم في
معاني من تنزه عن صور الخيال، وتسري قنافذ أوهامهم إلى حضرة من تعالى عن
خطرات الأوهام، ومنهم الجهال الذين ينفثون السم في الأرواح، ويزعزعون العقائد
الصحاح، حيث يوقعون في أذهان العامة ما يمثل حضرة الربوبية بجسم من
الأجسام، كان يراجعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الكلام، مع النظر المعهود
بين الأنام. فوقع الكثير من العامة بسبب ذلك في شرك التجسيم، لعدم التمييز بين
الصحيح والسقيم، فإنني قد بلوت الناس في هذا الأمر وخبرتهم. وقررت العامة فيه
وما أقررتهم.
اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء ليس من القضايا
الأساسية وأركان الإيمان في الدين الإسلامي، وقد اختلف العلماء فيه هل كان يقظة
أو منامًا، والأكثرون على الأول، ومن هؤلاء من يقول: إنه بالروح، واحتج
الآخرون بقوله - عليه السلام - في رواية صحيحة: (ثم استيقظت) وأجاب عنها
الأولون، وللقصاص والشعراء مبالغات في ذلك حملهم عليها التفنن في تعظيم
النبي بما هو مستغنٍ عنه، فأين قول بعضهم: (وشرف العرش بوطء نعله) من
قول حجة الإسلام الغزالي: (والصحيح أنه لم يرتق إلى العرش) ويخوضون في
القصة في مسألة رؤيته ربه تبارك وتعالى ومناجاته له، وهي مسألة خلافية لا
يتوقف الدين على إثباتها، ولا يختل بإنكارها، والعلماء يقربون ما ورد فيها للأفهام
ويطبقونه على القواعد المعقولة التي هي أساس الدين.
وملخص القول في ذلك أن أصل الدين اعتقاد تنزيه الله سبحانه عن مشابهة
الخلق؛ لاتفاق البرهانين العقلي والنقلي على ذلك. وقد ورد في جميع الكتب
السماوية كلام عن الباري تعالى، وهو مما يستعمله المخلوقون بعضهم في بعض،
ويوهم التشبيه وهو ما يسميه المسلمون المتشابه، وللعلماء فيه طريقتان مشهورتان:
إحداهما: الإيمان بحقيته وعدم الخوض في تأويله، بل يفوضون الأمر فيه
إلى الله تعالى، لئلا يحملوه على غير المراد منه لله تعالى.
والثانية: حمله على ضرب من ضروب المجاز بقرينة دليل التنزيه العقلي
النقلي المانع من إرادة ظاهره، ولهم في هذا المقام تفصيل وأقوال لا محل هنا
لشرحها. فالعالم المحقق إذا قرأ قصة المعراج، وأراد البحث في مسألة الرؤية يقول
إنه لم يرد فيها شيء قطعي، وكانت عائشة زوج النبي صلي الله علية وسلم تنكرها،
وقالت لمن سألها عنها لقد: (قَفَّ شعري) واستدلت على نفيها بقوله تعالي {لاَ
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: 103) وقد ثبت ذلك عنها في الأحاديث الصحيحة،
وينقلون عن ابن عباس رضي الله عنهما القول بإثباتها ويرجحه الكثيرون على قول
عائشة، وعلية فإما أن نفوض معنى هذه الرؤية إلى الله تعالى مع القطع بأنه تعالى
لا تدركه الأبصار ولا يُرى كما تُرى الشخوص والأشباح؛ لأنه لا تحصره جهة ولا
يحويه مكان، فلا هو في السماء ولا على العرش {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) وإما أن نؤول الرؤية بنوع كامل من العلم والمعرفة
خص الله تعالى به نبيه في تلك الليلة، ولا فرق حينئذ بين قول بعضهم أن ذلك العلم
خلقه الله تعالى في قلب النبي علية الصلاة والسلام، وقول بعضهم أنه خلقه في
عينيه؛ لأن الله تعالى له أن يخلق ما يشاء حيث يشاء، وكلهم متفقون على تنزيهه
تعالى عن الرؤية المعتادة للناس.
ومما يستدلون به في هذا المبحث قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم: 11) وينقلون عن ابن عباس أنه كان يفسر قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) بما كان ليلة المعراج، فهو إذاً
جازم بأنها رؤيا منامية، وتأويل بعض الناس الرؤيا (المنامية) بالرؤية (اليقظية)
بعيد بل ممنوع. واتباع جماهير السلف في المسألة أسلم والله تعالى أعلم.
هذا ملخص ما يقال في المسألة، ولكننا بُلينا بالفوضى العلمية الدينية، فكل
من اعتمّ بعمامة يتسنى له تلقين العقائد والخوض في أصول الدين، وإذا لبس مع
ذلك الفرجية وجرذيلة ووسع أردانه وهزّ سبحته فهو القدوة الذي لا يعارَض مهما
أفسد في عقائد العوَامّ، وأثار من رواكد الأوهام، وعاث في الإسلام، وهذه الفوضى
لم ترزأ بها ملة من الملل، فلكل أهل دين رئاسة دينية يرد ويصدر عنها معلمو
الدين وناشروه، ويرجعون إليها في المشكلات، ونحن قد رزئنا من عدة قرون
بالتبدد والتفرد في كل شيء، حتى كأن كل فرد منا كون تام بنفسه لا علاقة له
بالآخر، فمن لنا بمن يؤسس لنا جامعة تنضبط بها شؤون هذه الأمة: دينية ومدينة،
فإيجاد هذه الجامعة إيجاد للأمة وإحياء لها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32) .
__________(1/771)
الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي
__________
السعادة الحقيقية
لحضرة الأصولي الفاضل حموده أفندي عبده المحامي
(تابع ما سبق)
السعادة الحقيقية هي راحة القلوب وكمال النفوس، فكل ما أدى إلى ذلك كان
موصلاً للسعادة، والفضائل هي المعدات الحقيقية لنوال تلك الغاية كما نبينه الآن.
قدمنا فيما سبق أن الشرائع الدينية لم تتخير مقامًا أعلى من الحث على الفضائل،
ولهذا ما تركت فضيلة إلا وحضت على الأخذ بها، وكلها اتحدت على أن الناس لو
عملوا بما جاءت به من الفضائل لنالوا سعادتهم واستكملوا ارتقاءهم.
وكان يكفينا في هذا المقام أن نطالب أفراد كل أمة بالرجوع إلى ما دوِّن في
كتبهم الدينية والوقوف عند حدها؛ لأن للآيات الدينية عند ذوي العقائد تأثيرًا في
نفوسهم وسطوة على قلوبهم يعلوان أثر كل تعبير مهما أجهد فيه البليغ نفسه إلا أننا
مع ذلك توفية للموضوع نذكر بعض الفضائل، ونبين كيف أنها روح السعادة
وقوامها، ليكون أنموذجًا للقارئ يقيس عليه باقي الفضائل.
فضيلة الصدق مثلاً: هي أساس لراحة القلوب وارتفاع النفوس عن كثير من
الدنايا والرذائل؛ لأن الصدق هو رواية ما يطابق الواقع، وهو قوام للجامعة
البشرية ورباط الألفة وحفيظ المعاشرة.
الإنسان مدني بالطبع وهو في حاجة إلى كثير من المعاملات، ولأجل أن يحفظ
علاقته بمن يحوطونه يلزمه أن يكون صادقًا في رواياته ومعاملاته. والعلة الأولى
في فساد الأسرات (العائلات) هي تطرق الكذب إلى معاملاتهم، وضياع الصدق
من صدورهم وألسنتهم؛ لأنه متى ظهر الكذب فيهم جهل كل عضو من أعضاء
الأسرة ما ينويه الآخر، ورأى من إقبال غيره ما لا يسمع من أقواله، بهذا تتنافر
القلوب وتحقد الصدور وتتزعزع الرابطة ويجر ذلك إلى مفاسد أخرى كالغيبة
والنميمة وما شاكل ذلك من الشرور التي تتولد عقب فساد الطباع. ومتى
ظهر الكذب في أسرة انتقل إلى من يخالطها من الناس، وصار كالداء النقال
يسري في غيرهم، وينتهي الحال بأن تكون روابط الملة التي لا تتكون من
الأسرات المتعددة مزعزعة الأركان فاقدة الجامعة، وينحل فيها النظام.
إذا تأيد الصدق في نفوس أمة سهل حكمها وثبت نظامها وأصبح القضاء فيها
ميزانًا للعدل وأضحى ظهور الحقائق فيها يسطع كضوء الشمس، وعند ذلك تستريح
قلوب الناس من عناء البحث والتنقيب عن كشف غامض أو تبيان خاف، ومتى
تمكن الصدق من نفوس أمة أصبح زاجرًا لهم عن إتيان الموبقات؛ لأن فاعل
الموبقة إذا ثبت في طبيعته فضيلة الصدق خاف عاقبة الإقدام عليها حيث يصبح
مسؤولاً ويلزمه طبعه بالاعتراف بما أتاه ويؤاخذ بما جناه.
ومن ذلك فضيلة الأمانة: وهي أعظم الوسائل الموصلة لراحة النفوس؛ فإنها
إذا انتشرت بين الناس اطمأنت القلوب وحسنت العلاقات وأصبح الناس يتآلفون
ويتعاضدون، وكم يكون رب الأسرة سعيدًا إذا كان أهله وخدمه وحشمه أمناء على
عرضه ومصرفه وخدمته، وكم يصبح أمير البلاد مشروح الصدر إذا كانت بطانته
ورجال دولته أمناء على أعمال الدولة ومهامها. ماذا يكون من حال الدولة إذا بيعت
الأمانات ونقضت العهود وفسدت القلوب وبدلت بالخيانات؟ هل لها من عاقبة سوى
الانحطاط والدمار؟ وهل يغنيها حينئذ وفرة المال أو كثرة الرجال.
انظروا إلى حال الخائن وتعاسته وعذاب قلبه وتعب نفسه، وعرجوا بالطرف
نظرة إلى حال الدخلاء الذين خانوا عيش هذه البلاد. أتوا إليها حفاة عراة والجوع
يكاد يقضي عليهم، ومع ذلك وسعتهم البلاد ورحبت بهم رأفة على حياتهم. وأول
هدية قدموها إليها هي سب الأمراء والعلماء والكبار. ما الذي نالوه بذلك؟ هل نالوا
بذلك غير سخط الله والناس، وهل بقي لهم ذرة من الشرف لو كانت أرواحهم التي
تشغل أجسادهم أرواحاً بشرية ما كانت فارقتها من مدد وأزمان. هل لهؤلاء حياة
حقيقية بين الناس؟ كلا إنهم أموات وستفني الأرض أشباحهم ويحيق بهم العذاب
الأليم.
ومن ذلك فضيلة الألفة واتحاد الكلمة: إذا تنافرت القلوب وتفرقت الكلمة
وضاعت الألفة بين أفراد الأسرة ماذا يكون الحال؟ ألا يصبحون أفرادًا بعد جامعتهم،
وأذلاء بعد عزتهم، وضعفاء بعد قوتهم.
ماذا يكون الحال إذا فقدت الشجاعة من صدور الرجال، وسكن فيها الجبن
القتال؟ هل تبقى راحة في القلوب، وهل تبقى أمانة على الحياة؟ كم يركب الناس
من أهوال الذل ويحوطهم من الويل ويستهويهم من المصائب؟
ماذا يكون من عاقبة الحسد إذا انتشر بين الناس؟ كم يصبح الناس في شقاء
من شر الحساد؟ وكم تزعزع روابط وتنحل ثقات، هل يبقى للحاسد دين، هل له
قلب، كم يكسبه الحسد من الرذائل، ويغريه على إتيان القبائح؟ كم تهينه نفسه
ويلعنه ضميره والله يبغضه؟
فعلى الأمة التي تبغي أن يعلو لها شأن أو يرقى لها حال أن تعتني ببثّ الفضائل
في جميع الطبقات من أفرادها؛ لأنها إذا فقدت الفضائل من نفوس أهلها تصبح آلة
لفساد طباعهم، وتمكنهم من استتباع شهواتهم، وبالفضائل ترتفع الأمة وإن كانت
فاقدة المال، وبلادنا ولله الحمد بلاد الثروة، لا يعوزها غير التربية ولا يحجبها عن
الارتقاء إلا فقد التربية، فعلى كل أسرة أن تعتني بتهذيب أفرادها وتثقيف أذهانهم
بالفضائل الدينية أولاً وبالعلوم الحديثة ثانيًا، حتى يكون لنا الأمل الوطيد في
الوصول إلى السعادة الحقيقية إن شاء الله تعالى.
هذا مجمل الكلام على بعض الفضائل ليتخذها القارئ منوالاً له، وإلا لو
استرسلنا في الكلام على كل فضيلة مع بيان فوائدها في الحياة بالتفصيل لأدى بنا
ذلك إلى التطويل الموجب للملل والسآمة، ونعوذ بالله من الغواية ونطلب منه الهداية.
اهـ
__________(1/774)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
الشعر العصري
(من القصيدة السابقة)
فنعم رجال الشرق قومًا ومعشرًا ... إلى جدهم أصل المعاني قد انتمى
جروا في رهان الفضل في أول المدى ... سباقًا كما أجريت أجرد شيظما [1]
ولم يرهبوا من دونها في جهادهم ... خطارًا فقد خالوا التوقي تقحما [2]
فهم أسسوا ركن الحضارة في الورى ... ولم يفعلوا إلا لندرك مغنما
وهم أكنهوا سر المعارف أولاً ... وهم عرفوا نفع العلوم مقدما [3]
فلما أحل الله فيهم قضاءه ... ووافاهم داعي الردى متخرّما [4]
طوتهم أيادي البين من بعد أن رموا ... من الهمة الشماء أبعد مرتمى
فغار ضياء الشرق عند غيارهم ... وأظلم وجه الشرق وقتًا وأقتما [5]
ودالت إلى الغرب العلوم مع العلى ... كما حكم المبدي المعيد وأبرما
وأوجف ركب السعي في طلب العلى ... فكان بذا الجري الجواد المصمما [6]
فهادنه صرف الزمان مسالمًا ... ونوله الخير الأتم المعمما
وباتت بلاد الشرق من بعد عزها ... كأن لم تنل مجدًا ولم تحو مقرما [7]
إلى أن تجلى طالع العصر بعد أن ... تحجب عن تلك الجوانب واكتمى [8]
فثابت إلى إشراقه الهمم التي ... عن العلم قبلاً قد تقاعسن نوما
ومنها:
ألا يا بني الأوطان إن عليكم ... إلى السعي في تلك المعالي التقدما
عليكم بها فاسعوا لها وتشبهوا ... فمن يتشبه بالكرام تكرما
ومن قصرت أيديه فليسع طوقه ... ومن لم يجد ماء بأرض تيمما
وقد نكتفي بالطل إن بان وابل ... ونحجو اعورار العين خيرًا من العمي
أما نحن من سَنُّوا المآثر واقتفى ... مآثرنا من بعدنا حاز مستمى
ألم نُعلِ أعلام العلوم بقطرنا ... على حين حد السيف يرعف بالدما
ألم نك أهل الأولية في العلى ... ليالي لا نثني عن المجد معزما
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... زمان توخى حيفنا وتحكما
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... من الفضل ما أبدوا مدى الدهر معجما
متى يذكر الإفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما
فلا تحسبونا قد عرينا وطالما ... جررنا من الفضل الرداء المرقما
وهم أثروا عنا العلوم فهذبوا ... فجروا علينا مطرف المجد معلما
تباروا بعلم بينهم وتنافسوا ... ولا جرم أن العلم سُر فأشكما [9]
وقد بلغوا من باذخ العز منزلاً ... يظل لسان الحال عنه مترجما
إذا نظر الشرقي حال صلاحهم ... بكى صاحبي منها دمًا سال عندما
فيا وطني حتام تلبث غافلاً ... وحتام يا شرقي أراك مهوِّما [10]
ألم تدُر بالغربي في الأرض سائحًا ... على سابح من علمه ليس ملجما
فلله در العلم إن جداءه ... لمما يفوق العارض المتسجما
لكم نال من فخر وأيد صاغرًا ... وكم عال من فقر وقلد معدما [11]
وكم حل من عِيّ وأطلق حبسة ... وكم فل من غي وأنطق أبكما
ومنها:
فذو العلم يلقى العز حينًا ومفردًا ... وذو العلم يلقى العز دهرًا وتوأما
ومن نال أخطار اليراع فإنما ... ستقرن كفاه يراعًا وصيلما [12]
فسعداً لمن في حلبة العلم قد جرى ... وسحقًا لمن في حلبة العلم أحجما
ومنها:
لئن تبذلوا فيه النفيس فغيركم ... لإحرازه هلك النفوس تجشما
وما غيركم والله لا أصولكم ... نخبر عنهم لا حديثًا مرجما
وقوم هدوا في الحق هدي جدودكم ... إلى أن غدوا الأعلون في الأمر مثلما
أولئك قد سادوا وأقصى نكاية ... لنا فيهم ألقاب علج وأعجما
بعلم إذا ما بات فيهم متوجًا ... فيا طالما قد كان فينا معمما
فإما لعمري قدوة بمعاصر ... وإما تراث للذي صار أعظما
ولا نحسب الأحوال وهي عوارض ... غير في أصل المبادي فنسأما
ومنها:
وإن الفتى مَن زان مسقطَ رأسه ... بما ناله مِن حكمة وتعلما
فذاك الذي في بردة الفضل ينثني ... وليس الفتى مَن بالعقيق تختما
فإن ينتظم شمل الرجال بقطرنا ... ترتب فيه أمرنا وتنظما
لأن نجاح الصقع في حسن أهله ... إذا كان أصل الود في القوم محكما
فكونوا كجسم واحد إن تألمت ... له علة تلق الجميع تألما
تفوزوا بتذليل الصعاب إذا عصت ... وتقووا على ذا الدهر إما تهضما
وتحظوا بأعلاق المنى وتحققوا ... بهمتكم من عصرنا ما توسما
هو العصر وافى ضاحكًا عن فنونه ... وقد كان من قبل عليكم تأجما
وختامها:
كفى عصرنا فخرًا وعزًّا إذا دعى ... أمير الورى عبد الحميد المعظما
ليجهد في استرجاع رونق شرقنا ... وتجديد ما من مجده قد تهدما
فلا زال في عصر الخلافة قائمًا ... لما أناد من أمر العباد مقوما
ينث عليه الخافقان بعدله ... ناء جميلاً بالدعاء مختما
__________
(1) المدى هنا بمعنى المسافة، والأجرد: السبَّاق من الخيل، والشيظم: العظيم الفتيِّ منها.
(2) الخطار: جمع خطر وهو الشرف، والإشراف على الهلاك، ومنه الخطر، للسبق يراهن عليه، والخطار مصدر لخاطر إذا أشفى على الهلاك لنيل ملك أو شرف وبمعنى راهن.
(3) أكنهوا الشيء: وصلوا إلى كنهه وحقيقته وبلغوا غايته.
(4) متخرما: مستأصلاً.
(5) أغار بمعنى: غاب، وأقتم: أسود.
(6) أوجف: أسرع، والمصمم من: صمم في السير إذا مشى على رأيه فيه.
(7) المُقرم بضم الميم وفتح الراء: السيد العظيم، وأصله البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل، ومثله القَرم بالفتح.
(8) اكتمى: استخفى.
(9) أشكمه: جازاه.
(10) المهوم والمتهوم: الذي يهز رأسه من النعاس.
(11) نال: أعطى.
(12) الأخطار جمع خطر بالنحريك وهو الشرف والرتبة ومكانة الرجل، والصليم هنا: السيف، ومن معانيه: الداهية، والأمر الشديد، والمعنى: أن شرف العلم يوصل إلى شرف السيف وبمعنى آخر: أن شرف العلم هو الذي يأتي بشرف القوة.(1/778)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ دول العرب والإسلام
مؤلف هذا الكتاب هو الأديب الفاضل محمد طلعت أفندي حرب من موظفي
الدائرة السَّنية، وأحد أعضاء الجمعية الجغرافية الخديوية، وقد تم الجزء الأول منه
وطبع في المطبعة الأميرية في مصر، وهو يشتمل على تمهيد وبابين، أما التمهيد
ففي حدود بلاد العرب الأصلية، ومواطن العرب، وحاصلات بلادهم، ومساحة
جزيرة العرب وعدد سكانها، وتشوُّف الإفرنج إليها، وذكر أشهر سياحيهم الذين
دخلوها. وأما البابان فأحدهما: فيما كان عليه العرب قبل الإسلام، وفيه أربعة
فصول. وثانيهما: في العرب بعد الإسلام، وفيه فصلان.
وقد اقتبس المؤلف في هذا الباب جملة صالحة من (رسالة التوحيد) التي ليس
لها في شرح حقيقة الإسلام نظير، والكتاب مفيد في بابه على اختصاره، وهو
مطبوع على ورق نظيف، وثمنه اثنا عشر قرشًا أميريًّا. ويطلب من مكتبة الترقي
في القاهرة، فنحث على مطالعته كل ناطق بالضاد.
وإننا نورد هذه النبذة المفيدة نموذجًا منه وهي: (تشوف الإفرنج إلى بلاد
العرب وذكر أشهر سياحيهم الذين دخلوها لا سيما بلاد الحجاز) :
مَن تصفح كتب الغربيين علم أنهم متطلعون من زمن غير قريب لمعرفة
تلك البلاد، طامعون فيها، متشوفون للوقوف على حقيقة أحوالها، حيث لم يشف
غلتهم ما ذكره عن بعضها جماعة من مؤرخي اليونان والروم الأقدمين، مما لا يخلو
من النقص في مواضع والحشو والرجم بالغيب في غيرها، ولا يخفى على القارئ
اللبيب دواعي هذه الأطماع، فلكل دين طباع وعوائد وتجارة وصوالح يتمنى أن
تسود على ما سواها، وأن يتلاشى ما عداها.
وكان معظم اهتمام الفرنج باكتشاف تلك البلاد في القرن الماضي، وجاء في
كتاب الجغرافي الفرنساوي لانيه عن كلامه على بلاد العرب: أن أول من باشر
البحث عن هذه البلاد من الأوروبيين هو الألماني نيوبهر المشهور رئيس
الإرسالية الدانيمركية (سنة 1762) وكانت رحلته لبلاد اليمن لاكتشافات علمية
على ما يؤكدون.
وبعد ذلك بنحو نصف قرن توصل الأسباني باديا بواسطة تغيير زيه واسمه
ملقبًا نفسه: (علي بك العباسي) إلى مدينة مكة المكرمة، وكان أتى مصر أولاً
وتظاهر بالإسلام، ومنها ذهب لبلاد العرب بالصفة السابقة في سنة 1807، بعد أن
تحصل في حلب على أوراق رسمية تثبت نسبته إلى الأشراف [1] .
وفي سنة 1809 تمكن الفرنساوي روش - وكان مترجمًا مقربًا عند الأمير
عبد القادر الجزائري - من الدخول بصفة وزيّ عربي إلى مكة المكرمة، حيث
حظي بلقيا وحفاوة شريفها سيدي محمد بن عون وأعلمه أنه وافد من قبل الأمير
ليحصل على التصديق من علماء العرب على فتوى أفتاها علماء مصر والقيروان [2] ،
وسافر من مكة للطائف، ولدى عودته لمكة حضر جمع الحج الشريف، ولكن
دل عليه بعض الحجاج الجزائريين، فكشفوا خبره وفضحوا أمره وقبضوا عليه
وساقوه إلى السجن، والناس حوله تحاول الفتك به، فسلمه شريف مكة كتاب أمان
وبعض نقود يستعين بها على سفره، وأشخصه إلى جدة.
وفي سنة 1810 ذهب الألماني شيتزن لبلاد اليمن وقُتل هناك.
وفي سنة 1814 وسنة 1815 احتال السائح السويسري يورك هارد حتى دخل
مكة والمدينة، ورجع مستمدًّا ببعض معلومات عن حالة البلاد الجغرافية وعن
أهاليها، وتظاهر في آخر أمره بالإسلام وعليه مات وقبره بمصر، واسمه عليه
هكذا: عبد الله يوركهارد، ومشهور عند العامة باسم الشيخ بركات.
ثم حمل المصريون في هذا الوقت على الوهابيين، فسهلوا بعض التسهيل
دخول الأجانب بلاد العرب، فتمكن بعض الفرنساويين من وصف مكة والمدينة
المشرفتين وضواحيهما، وأول مَن اجتاز الطريق من الخليج الفارسي للبحر الأحمر
كما ورد بكتاب لانيه المذكور هو الضابط الإنكليزي سادليه بأمر من حكومة الهند.
والألماني رابيل عبر بلاد الحجاز في سنة 1826 والجهات المجاورة لخليج العقبة.
وفي هذا الوقت بينما كان بعض الضباط البحريين من الإنكليز مكلفين من
قبل حكومتهم بعمل خريطات لسواحل البحر الأحمر، تطوف أحدهم وهو الملازم
ويلشتيد وذهب إلى عمان في سنة 1828.
وفي سنتي 1837 و 1842 قام الطبيعي بوبا والملازم باسانا بما قام من قبل
ينوبهر الألماني، ونجحا بعض النجاح في اكتشافاتهما العلمية.
وفي سنة 1843 زار العالمان أرنولد وفولحانس فريسنل شواطئ بلاد العرب
الغربية والقبلية، فزار أولهما مدينة سبأ وآثار مأرب، ونقل صور كتابات كثيرة
حميرية، وفي هذا الوقت اجترأ العالم الألماني البارون وريد على التوغل حتى بلاد
حضرموت التي لم يسبقه ولم يلحقه إليها أحد من الأجانب، كما قال لانيه السابق
ذكره.
وفي سنة 1845 دخل العالم الفنلاندي أوجستون والبين في الجوف وجبل
شمر بزي مسلم، واجتاز بلاد العرب من الغرب للشرق.
وفي سنة 1853 رافق الحج المسيو ريشار برتون بزي مسلم أيضًا، ووصل
إلى مكة والمدينة المكرمتين.
وفي سنة 1862 و 1863 تمكن ويليام بلجراف الإنكليزي من زيارة بلاد
العرب من جهة الشام وشواطئ عمان، وملخص ترجمته وقصته على ما جاء في
الكتاب السالف الذكر هو: أنه ولد بوستمنستر من أعمال إنكلترا سنة 1822، وكان
أبوه متشرعًا ومؤرخًا إنكليزيًّا شهيرًا، وتخرج بمدرسة أوكسفورد، ثم خدم في
الجيش الهندي، وأقام بعدها عدة سنين في الشام، تعلم في أثنائها العربية وتعرف
ببعض الآباء اليسوعيين بها، ثم حدثته نفسه بالرحيل لبلاد العرب، وساعده هؤلاء
الآباء على إنماء هذه الفكرة، وحصلوا على تعضيد نابليون الثالث إمبراطور فرنسا
وقتئذ له، وصبغوا رحلته بصبغة دينية سياسية سرية، نفقاتها دفعت من جيب
الإمبراطور المذكور فسافر بلجراف مؤملاً الوصول لتحريك الدم العربي الراكد -
حسب زعمه - وتمدين بلاد العرب بواسطة تسهيله طرق اختلاطهم بالغربيين،
ومضمرًا انتهاز فرصة الشقاق الذي كان بين أهالي نجد لإحداث ثورة دينية سياسية،
عله يستفيد منها أن يستبدل دينهم بالدين المسيحي، كما ثبت في مخيلته، فتزيَّى
بزي أحد أغنياء العرب، وادعى أنه حكيم، واستصحب معه بعض أهل البادية
يحرسونه، ومسيحيًّا شاميًّا جعله تلميذًا له، وكان يحمل معه على ظهر ركائبه بعض
أدوية وعقاقير تدل على صنعة الطب التي انتحلها لنفسه، ولما وصل إلى نجد
أقام مدة بالرياض عاصمة الوهابيين، وكان يحكم عليها وقتئذ الأمير فيصل، وقد
كاد هذا المخاطر بنفسه أن يلقى منيته هناك من يد ابن هذا الأمير الذي توجس منه
خيفة، وقد افتضح بعض أمره، لولا تخلصه بالفرار فاجتاز النفود الشرقية وأقام
بالهفوف من أعمال الأحساء، وزار القطيف وجزائر البحرين وتوجه لعمان مارًّا
على هرمز ومسقط، ثم قفل راجعًا إلى الشام مارًّا بالبصرة والموصل وماردين
وديار بكر.
وفي سنة 1864 رسم الإيطالي كارلو جوارماني قطعة من بلاد العرب على
حدود الشام، ثم إن الألماني وتيزتيد قنصل بروسيا بدمشق إذ ذاك وضع كتابًا في
جغرافية بلاد العرب حسب ما التقطه من أفواه بعض الحجاج ورؤساء القوافل
التجارية.
وفي سنتي 1869 و 1870 ساح الألماني مالتزان والسوسيري مونزنجر
والفرنساوي هالفي منفردين بالجهة القبلية الغربية من جزيرة العرب، وحصلوا كما
يقولون على بعض معلومات مهمة.
وفي سنة 1879 اجتاز الإنكليزي بلونت وامرأته بلاد الأردن، ومنها إلى
الفرات، ثم وصل إلى حائل من بلاد نجد.
وفي سنة 1881 اجتاز هوبرا صحاري بلاد العرب البحرية والغربية.
وفي سنة 1882 جعل الفلكي النمساوي جلازير بلاد اليمن موضع أبحاثه.
هذا ولا زلنا نسمع كل يوم بالجرائد وغيرها: أن بعضًا من الفرنج قد بارح
بلاده قاصدًا السياحة والتروح ببلاد العرب، والله أعلم بما يضمرون وما يلاقون هنا
وما يكتشفون.
وكذلك قرأنا أن بعض الدول يحاول من سنوات الاستيلاء على شواطئ
الخليج الفارسي طمعًا في أهمية مركزها وفي وفرة خيراتها، ولنترك للمستقبل كشف
الستار عن هذه الأطماع ونتيجة تلك الغايات اهـ.
__________
(1) " المنار ": انظر إلى أين وصل شرف نسب الإنسان حين صار يثبت بالأوراق الرسمية التي قلبت الأوضاع وصيرت الباطل حقًّا والكذب صدقًا.
(2) تقدم ذكر هذا الرجل وهذه الفتوى في مقالات:" سلطة مشيخة الطرق الروحية " من المنار.(1/781)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إحياء سنة أو سنن
وإماتة بدع
لقد كانت حياة الفاضلة مُنجبة الفضلاء والدة أصحاب العزة سعد بك وأحمد
فتحي بك زغلول خيرًا؛ لما كانت تأتيه من أعمال البر والإحسان، وكان في مماتها
خير لما أمات من البدع وأحيا من السنن.
مَن كان يخطر على باله أن العادات السيئة التي أضرت بالدين والدنيا تحكم
على العلماء وأهل الهداية والإرشاد، فلا يحاولون التفصي من عقلها والانطلاق من
قيودها، ثم تكسر مقاطرها (جمع مقطرة: خشبة فيها ثقوب توضع فيها أرجل
المحبوسين وقد فسرت قبلاً) بأيدي علماء القانون وقضاة المحاكم الأهلية النظامية
الذين يتوهم المعتزلون عن العالم في خلواتهم ومساجدهم أنهم لا يبالون بخدمة الدين
والانتصار لأصوله الشريفة والتدقيق في أحكامه والعمل على إحياء سننه وآدابه
الكافلة لسعادة الأمم.
يقضي الميت في بيوت رجال الدين، فتنشر الشعور، وتدق الصدور، وتلطم
الخدود، وتشق الجيوب، وتسودّ الوجوه والملابس، وتقلب أوضاع المساكن،
وتصيح الصائحات، وتعدِّد النائحات، وتسير الجنازة والنار توقد أمامها، ودخان
البخور يتصاعد من المجامر الفضية (إذا كان الميت غنيًّا) أو غير الفضية، ويعلو
الضجيج من فرق أهل الطريق، فمنهم من يقرأ الأوراد، ومنهم من ينشد
الأشعار، كالبردة والمنبهجة، فتختلط أصواتهم بأصوات النساء الصارخات إلخ
ما هو مشاهد لجماهير القراء، ثم تعقد محافل المآتم ويكون فيها من الإسراف
والتبذير والعادات السيئة المستثقلة التي ينكرها الشرع وينبذها العقل ويتبرم منها كل
ذي علم وفضل ودين وأدب ولكنهم يقولون: العادات محكمة لا مرد لقضائها.
ربما تراءى لكثير من الفضلاء أن يتفلتوا من أسر هذه العادات، ولكن يصدهم
عن ذلك خوف اللائمة من المقيدين بتلك السلاسل ورميهم بالبخل والفرار من النفقات.
ولكن للحق رجالاً لا تأخذهم فيه لومة لائم، يؤيد الله تعالى بهم الفضائل ويحيي
السنن الدوارس.
مرضت الفاضلة التي ذكرناها في صدر هذه النبذة في بلدها خارج القاهرة،
فلما اشتدت عليها وطأة المرض وأحست بدنو الأجل طلبت الانتقال إلى العاصمة
لتموت فيها هربًا من العادات الجاهلية التي يجري الناس عليها في المآتم، ولا
مناص منها في الأرياف، وكأنها واثقة بحسن تربية نجليها وقوة عزيمتهما في
مقاومة العادات القبيحة مع مظهرهما العظيم، وكذلك كان. فقد أبطلا في تجهيزها
وجنازتها بدعة النواح وما يلتحق به مما أشرنا إليه آنفًا، وبدعة حمل النار والتبخير
أمام الجنازة التي سرت إلى المسلمين من أهل الملل الأخرى، وبدعة رفع الأصوات
في الأوراد والأشعار التي مر ذكرها، وبدعة الاحتفالات ليالي الجمع إلى أربعين
يومًا وأعلنا أنهما يقبلان التعزية ثلاث ليال فقط؛ اتباعًا للسنة الشريفة.
وقدرا ما ينفق عادة في الاحتفالات المعتاد أمثالها من الذوات أصحاب المظاهر،
وقررا إعطاءه للجمعية الخيرية الإسلامية لتوزعه على الفقراء، فسنا بذلك سنة
حسنة تسهل السبيل على من يريد ترك الاحتفالات التي يسمونها (المياتم) ويخشى
اللائمة والرمي بالبخل. ومعلوم أن جنازة هذه الفاضلة قد حضرها خواص المصريين
من جميع الطبقات: العلماء والأمراء والحكام والتجار، كما فصلت ذلك الجرائد
اليومية، فعسى أن يجري الجميع بعد هذا على إماتة البدعة وإحياء السنة وإصلاح
العادات الفاسدة المضرة بالدين والمال، فقد رأوا أن ما كان يحذر من الذم والقدح على
ترك هذه العادات قد استبدل به الثناء والمدح، فما من عاقل إلا وهو يلهج الآن بالثناء
على سعد بك وفتحي بك الفاضلين، وأجدر بشيوخ العلم والطريق أن يكونوا من
السابقين إلى ما ذكر على الوجه الأكمل، والله ولي المتقين.
__________(1/786)
10 شعبان - 1316هـ
يناير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]
تكلمنا في العدد الماضي على أهم أركان الإصلاح الإسلامي وهو: التوحيد في
العقائد والتعاليم الأدبية والأحكام القضائية والمدنية واللغة، وقلنا: إن هذا الإصلاح
يتوقف على تأليف جمعية إسلامية على الوجه الذي ذكرناه، وإنما التوقف بالنسبة
لكمال الإصلاح وسرعة إنجازه وتعميمه، حتى في الأحكام وفي جميع الشعوب
الإسلامية، كما هو ظاهر، لا بالنسبة لأصل الإصلاح، وإن كان بطيء السير
وغير شامل لجميع الفروع، وقد وعدنا بأن نذكر بعد التواحيد الثلاثة أهم ما يناط
بالجمعية وشُعبها من الأعمال (وهي ثلاثة) وأهم نتائجها، وإنجازًا للموعد نقول:
العمل الأول: تلافي البدع والتعاليم الفاسدة قبل انتشارها:
لو تنبه الخلفاء لهذا العمل من القرون الأولى - وهو أهم وظائف الخلافة - لما
انتشرت التعاليم الباطلة التي زعزعت العقائد وأفسدت الآداب، ولبست المسلمين
شيعًا، وأذاقت بعضهم بأس بعض، ولا تزال هذه التعاليم تنجم كقرون المعز،
فتزيد الأمة تفريقًا، فإن المذاهب التي حدثت في هذا القرن من فروع الباطنية قد
انتشرت بسرعة غريبة استلفتت أنظار الأمم المتيقظة، وإن عمي عنها الذين لا
يبصرون، وصم عنها الذين هم عن السمع معزولون، لاعتقادهم أن التربية والتعليم
لا يفيدان، وأنه لا يؤثر في الأمة إلا الملوك والحكام. وأن تعاليم أخرى باطلة تنشر
بين المسلمين آنًا بعد آن، منها ما يزعزع العقائد، ومنها ما يفسد الآداب ويجرئ
على استباحة المحظورات، وتتلقاها العامة - وأكثر الناس عامة لا علم لهم بالدين -
بالقبول، ويكون لها أقبح الأثر في أعمالهم وأخلاقهم.
أذكر منها الآن شيئًا واحد، أطلعني عليه من عهد قريب بعض الإخوان
المتنبهين، وهو دعاء طبعه (عبد اللطيف القباج) المقيم في مصر ووزعه مجانًا
ليعم نشره، وسماه: (دعاء سيدي عبد الله بن سلطان) صدَّره واضعه بحديث
مكذوب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ملخصه: أن رجلاً من الصحابة اسمه
(محمد بن سلطان) كان يفعل القبيح ويشرب الخمور ويداوم على الفسوق والفجور،
وكان لا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر إلا
أنه كان يقرأ استغفارًا في أول شهر رجب، فلما حضرته الوفاة نزل جبريل على
النبي يبلغه أمر الله بحضور وفاته وتجهيزه، ففعل ووجد الملائكة والحور العين قد
اجتمعوا صفوفًا، لا يحصي عددهم إلا الله يحضرون جنازته … ولما وقف النبي
عليه السلام على سبب ذلك من زوجته وأنه الاستغفار الذي ذُكر آنفًا أمر عليًّا كرم
الله وجهه بكتابته وقال: (مَن قرأ هذا الاستغفار أو جعله في داره أو متاعه أو حمله
معه في سفره، جعل الله له ثواب ثمانين ألف ملك وثواب ثمانين ألف صديق
وثمانين ألف شهيد وثمانين ألف كذا وكذا ... ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة
واحدة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليس عليه حساب ولا عقاب، وبني
له ألف قصر في الجنة في كل قصر ثمانون ألف حجرة في كل حجرة ثمانون ألف
سرير على كل سرير حورية من الحور العين وشجرة تظلها وفيها ثمانين ألف ورقة
كل ورقة مثل الدنيا. ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة واحدة، فإن الله تعالى
يعطيه ثواب أهل مكة والمدينة وبيت المقدس، وإن مات أمر الله سبعين ألف ملك
يشيعون جنازته، واذا قام من قبره يوم القيامة يضيء وجهه مثل القمر فيقول
الخلائق: هذا نبي مرسل أو ملك مقرب، فيقول جبريل: لا ورب الكعبة لا نبي
ولا ما لك، بل هو عبد من بني آدم أكرمه الله بقراءة هذا الاستغفار، ثم يأتي الجنة
فيدخلها بغير حساب ولا عقاب) ثم يذكر له فوائد دنيوية، ويختم الكلام بقوله:
(ومَن شك في ذلك فقد كفر) يعني من شك في هذا الحديث الموضوع لهدم الدين
وإبطاله بالمرة وإباحة جميع المحرمات فهو كافر، وبعبارة أخرى: من شك في
الكفر الحقيقي، وهو ما ذكرناه من فوائد الاستغفار فهو كافر في عرفه واصطلاحه،
(نعوذ بالله) .
ما الذي أثار هذه الأوصاف في ذهن واضع هذه الفرية، وما الذي أغواه حتى
وضع هذه الأضلولة؟ أثارها في خاطره موضوعات أخرى من قبيلها، تلقَّى بعضها
من الدفاتر وبعضها من خطباء المنابر، وأقربها إلى فتنته ما يسمونه: (دعاء
عكاشة) وهو مطبوع تتداوله الأيدي وتقرأه الألسن ويتخذه الناس عوذة (حجابا)
للحفظ من الشياطين ومن الأمراض، وهو أكذوبة موضوعة كذبها على النبي عليه
السلام بعض الدجالين المضلين، كواضع هذا الاستغفار.
وأخف من ذلك في الإضلال والإغواء، ومثله في الكذب على سيد الأنبياء:
ما نسمعه من خطباء الجهل والفتنة من الغلو في مدح الشهور، وبيان فضائلها،
ومنها أحاديث كثيرة في صوم رجب، ومنها الحديث المشهور عند الخطباء في
فضل رمضان، وهو: (إن الله يعتق في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق من
النار، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق بقدر ما مضى) ويروى بغير هذه الألفاظ وهو
موضوع لا أصل له.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا كيلا يغتر به الجهلاء أن جريدة طرابلس التي
تدَّعي خدمة الدين قد أوَّلت هذا الحديث بما حسب صاحبها أنه يقربه من الأفهام (وما
هدم الأديان إلا تأويل الأباطيل) لأنه مع كذب روايته بعيد عن العقل، وفي
تأويله غش للعامة بتصديقه والاغترار بوعده الذي يستلزم عتق جميع أفراد الأمة من
النار، وعدم مؤاخذة أحد منهم بذنب فيما يتبادر إلى الأذهان، ونعوذ بالله من
الخذلان (وسنوفي هذه المسائل حقها من البحث في مواضعها إن أمهل الزمان ووفق
الرحمن) .
تراقب الجمعية بواسطة أفراد شُعبها جميع المطبوعات، كما تراقب دعاة الفتنة
وكلما وقفت على شيء من البدع والأباطيل تنبه عليه في جرائدها، وتوعز إلى
الخطباء والمدرسين بالتنبيه عليه والتحذير منه، وبذلك يقف تسياره ويمتنع انتشاره.
العمل الثاني: إصلاح الخطابة
الخطابة: ركن من أركان العبادة في الديانة الإسلامية. ومن وقف على ما لها
من الأثر الحميد في الأمم المتمدنة، وما لها من الشأن في جمع كلمتهم وتأليف قلوبهم.
وتنشيطهم إلى العمل في إسعاد أمتهم ووطنهم فقه سر جعلها من أركان العبادة
المشروط فيها الاجتماع. وقد مات روح الخطابة في المسلمين، وصار هذا الركن
رسمًا ماثلاً، بل يكاد يكون دارسًا، بل صارت الخطابة وظيفة يقصد بها التعيش،
فتناط بالجهال وتنال بالوراثة، مع أنها وظيفة الإمام الأعظم أو نائبه، وإنما كانت
كذلك لأن من شأن هؤلاء أن يكونوا عارفين بمصالح الأمة واقفين على سائر
شؤونها، وأصحاب الكلمة المسموعة والسلطة النافذة فيها. ولا سعة في هذا المقام
لتوفية هذا الموضوع حقه فنؤجله لفرصة أخرى ونكتفي بالإشارة إلى عمل الجمعية
فيه، وهو أمران:
أولهما: تأليف خطب في مصالح الأمة، تطبع وتوزع على الخطباء الذين لا
يحسنون الخطابة بأنفسهم، وهم الأكثرون، ويأمر الخليفة بأن يخطب بها دون
سواها إلى أن يوجد خطباء حقيقيون، والأولى أن تجدد هذه الخطب كل عام.
والثاني: تعيين الطريق لتحصيل ملكة الخطابة، ليسلكه كل مرشح لها،
فيكون خطيبًا مصقعًا طبعًا لا تكلفًا، ولا يوجه الإمام هذا المنصب على أحد إلا بعد
اختياره من شعبة الجمعية التي في بلاده بأن تقترح عليه أن يخطب في مواضيع
مختلفة على البداهة، والشهادة له بالإجادة.
العمل الثالث: الدعوة إلى الدين
نعني بالدعوة إلى الإسلام ما يشمل الدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى
فضائله وآدابه وأعماله التي تؤدي إلى سعادة الدارين، ويدخل في هذا النهي عن
المنكرات والفواحش. وأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم
دعائم الديانة الإسلامية، وسنفرد لها مقالات خاصة إن شاء الله تعالى.
من قرأ التاريخ الحديث علم أن المسلمين الضاربين في أحشاء إفريقية ويعدون
بعشرات الملايين ما تناولوا الدين الإسلامي بدعوة من العلماء والخطباء، ولا
اعتنقوه بإلزام من الملوك والأمراء، وإنما دخل بلادهم بعض التجار والمحترفين من
نحو مزين وحجام، فرأوا منهم ثيابًا وأبدانًا نظيفة، ونفوسًا عفيفة، وسجايا شريفة،
واعتقادات معقولة، وفعالاً جميلة، فقلدوهم مختارين، ودخلوا في دينهم طائعين.
من وقف على هذا وعلى الأسباب الصحيحة لانتشار الدين الإسلامي في كل
قطر وكل عصر من العصور تجلى له أن هذا الدين لو وجد له دعاة كدعاة الأديان
الأخرى لما بقي للوثنية هيكل يقصد، ولا صنم يعبد، ولظل الناس يدخلون فيه
أفواجًا من جميع الملل، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ولكن أهله لم
يكتفوا بعدم الدعوة إليه، بل أوقفوا سيره بأقوالهم وأعمالهم المخالفة لهديه. فإذا وفق
الله المسلمين للاستعداد للدعوة، كما تستعد الدعاة من الملل الأخرى، وطافوا بلاد
الله مبشرين ومنذرين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما أمرهم الكتاب
العزيز - رأيت للإسلام شأنًا عظيمًا وانتشارًا عميمًا.
إن وجود الجمعية التي نتكلم عنها يكون عونًا عظيمًا للوصول إلى هذه الرغيبة
ولكن لا يتوقف عليها إلا في كماله.
أهم نتائج أعمال الجمعية
إذا تحققت الآمال ونجحت هذه الأعمال، فلا ريب أن الحكومات الإسلامية
يتقرب بعضها من بعض، وتظهر فيهم الأخوة الإسلامية، ويتحدون على صد
هجمات أوروبا عنهم، وإيقاف مطامعها عند حدود معينة، ولا يمنع اختلاف
المذاهب من ذلك بعد ما قررناه، ولا يصعب على السلطان الأعظم أن يأذن للشيعة
بإقامة إمام لهم في مكة المكرمة إذا توقف الاتحاد والالتئام على ذلك. ولقد كان
للعثمانيين في ذلك من الإباء المنبعث عن تعصب بعض شيوخ الإسلام وجهله
بسياسة الملة ما رمى هاتين الدولتين الإسلاميتين (العثمانية والإيرانية) بالانفصام
والافتراق، بعد وشك الاعتصام والالتصاق، أما حرص كل ملك وأمير على كمال
الاستقلال في بلاده وامتناعه عن الاعتراف للآخر بالرئاسة الدينية، فهو من عقبات
الإصلاح المطلوب، ولكن الشعور العام بالخطر الذي يتهدد الجميع بالافتراق مع
الأمن من مس الاستقلال الإداري والسياسي يسهل على الجميع إسناد الرياسة الدينية
لأرفعهم مكانة، وأعلاهم منزلة، وأقواهم دولة.
وغاية هذا الاتحاد أن تكون هذه الدول كالدول المتحالفة بالنسبة للأمور
الخارجية وكالولايات المتحدة في الإصلاحات الداخلية، كالتربية والتعليم، ووحدة
الأحكام والآداب واللغة، ولو لم يتم ذلك إلا في زمن طويل، وأن لا يكون لأحد منهم
سيطرة في ملك الآخر أو إمارته، بل تسير كل مملكة وكل إمارة في إدارة بلادها
بإرشاد مجلس الشورى الذي ينتخبون أعضاءه من عقلاء بلادهم.
هذه إشارات مجملة في هذا المقام سنحت للخاطر، ومتى وفق الله للعمل تنحل
بأيدي القائمين به عقد كل إشكال، وصحة القصد تهدي كل ذي ضلال.
لا سلامة للجمعية الكبرى إلا بسلامة البلاد الحجازية وإغنائها عن الأجانب فيما
تتوقف عليه حياة أهلها، وقد قلنا في مقالة سابقة: إن معظم قوت تلك البلاد يجلب
إليها من مواني البحر الأحمر، فإذا تسنى لمثل إنكلترا الاستبداد فيه وحصر موانيه،
فإن أهل الحجاز يموتون جوعًا. فيجب على الدولة العلية على كل حال (وإن
ذكرناه بمناسبة الجمعية التي اقترحناها) العناية الكبرى في عمارة تلك البلاد:
أولاً: بإنشاء طريق حديدي من دمشق الشام إلى مكة والمدينة والطائف.
وثانيا: بتسهيل السبل لإحياء ما فيها من الأراضي الموات الصالحة للزراعة
والانتفاع بالينابيع التي تفور في مكان وتغور في آخر، ولا ينتفع فيها بري الأرض
وغرسها.
هذه هي خدمة الحرمين الشريفين لا توزيع الصدقات على طوائف وقبائل
مخصوصة، فإن قامت بها الخلافة الإسلامية والدولة العلية فإن الإسلام يشكرها على
ذلك بلسان كل آخذ به، وإلا فإن ركنًا من أركان الدين على خطر الوقوع تحت
سلطة الأجانب أو محوه وإعدامه بالمرة (لا قدر الله تعالى) .
ونسأل الله تعالى وهو أكرم مسئول أن يؤيد خليفتنا ومليكنا، ويوفق أمتنا إلى
كل ما فيه خير للملة وسعادة لأبنائها، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم
النصير.
__________
(*) فاتحة العدد 40 الذي صدر في 10 شعبان سنة 1316 - 24 ديسمبر سنة 1898.(1/788)
الكاتب: ن. الفويكي
__________
الغرب الأقصى
(هل يمكن استرجاع مجد الشرق بقوة الإسلام)
طنجه (مراكش) في 6 ديسمبر
لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء
وردت هذه الرسالة الآتية لجريدة المؤيد الغراء، فأوردناها بحروفها وذيلناها
بما عندنا من الجواب على السؤال الذي بُنيت عليه، وهي:
مسألة نلقيها على أصحاب النُّهى والأقلام، نعرضها على أرباب السيادة
والأحكام، نكشفها لأفراد الأمة كبيرها وصغيرها، رفيعها ووضيعها، عاقلها
وجاهلها.
مسألة حان الخوض في عبابها، وآن الزمان لكشف نقابها، والبحث عن
أسبابها، فقد طفحت الكأس، وسئمت الناس، وبلغت الروح الحناجر.
ألا ترى إلى الإسلام كيف رقّت حواشيه، وحطت معاليه، وعبثت أيدي البغاة
فيه، حتى صارت سماؤه الزاهرة بغيوم الكروب سوداء، وأرضه الناضرة من دماء
أبنائه حمراء.
ألا ترى إلى الشرق كيف تناوشته الأنواء، وتكالبت عليه الأعداء، فخرقت
أحشاؤه، وفتحت أرجاؤه، وضيق عليه من جميع الأنحاء.
توفرت للإفرنج المعدات، وكثرت لديهم القوات، ورأوا الشرق يغشاه سبات
الخمول، ويعتري أهله داء الضعف والنحول، فحملوا عليه بجيوشهم وأعوانهم،
وزاحموا بنيه في بيوتهم وأوطانهم، حتى امتلكوا بكرة أقطاره، وزهرة أمصاره،
ووطدوا العزم لغزو ما بقي مستقلاًّ من أراضيه. يقولون: من فاتنا اليوم فميعادنا
معه إلى الغد، ومن عاهدناه بالأمان فليطمئن إذا شاء على هذا العهد.
هذا وعشائر العرب وجموع المسلمين وشعوب الشرق جمعاء تنظر إلى هذا
البلاء ولا تستفيق، وترضى بالهوان وتطيق، كأنما فقدت بينهم الحمية، وماتت من
رجالهم روح الأنفة والاستقلال، أو استحكمت فيهم رهبة العدو فمدوا أعناق التسليم
وأقروا له بالخضوع والإذلال، وأنت إذا حسبتهم تراهم يعدون مئات الملايين
يملأون البطاح والوهاد، بينهم رجال الحروب وأبطال الوغى، منهم العلماء وأرباب
النهى، دولتهم فيما مضى وصلت الغرب بالشرق، انبسطت إلى أطراف المعمورة،
خضعت لها برابرة إفريقية في الجنوب، وهابتها جلالقة الروم في الشمال، لكن يا
للأسف كثرتهم لم تغن عنهم آفة العدو، ومجد أسلافهم لم يدفع عنهم سيف الأجانب،
فقد امتلكت اليوم دول الإفرنج القسم الأعظم من بلادهم، واسترقت العدد الأوفر من
شعوبهم.
انظر: دولتان قد افترستا زهرة بلدانهم، وأعملتا السيف في أبنائها، ودولة
أخرى تتحفز للوثوب، وتتهيأ لقلع أركان مملكتهم، فرنسا اغتصبت الجزائر
وتونس في الشمال، وغلبت على سودان المغرب في الجنوب، شقت بطن الصحراء
وضيقت على سلطان مراكش، دافعة عساكرها كل يوم ومن كل ناحية إلى الأمام حتى
لا تترك أثراً للسيادة العربية في المغرب.
إنكلترا حكمت سيوفها في سبعين مليونًا من مسلمي الهند، قبضت على باب
المندب وبوغاز السويس في البحر الأحمر، بسطت جناحيها فوق زنجبار، قعدت
بكلكلها على مصر، أهلكت في أم درمان في ظرف ساعتين فقط نحو خمسة عشر
ألفا من الدراويش، بل من نخبة رجال العرب ونخوة رجال السودان.
روسيا تستعد كل يوم، تجند الجنود وتحشد الألوف على الحدود، تتربص
الفرص للوثوب، وتنتهز يومًا مناسبًا للزحف.
وماذا يفعل المسلمون؟
في الهند ملايين المسلمين تدعو بالنصر لملكة الإنكليز علانية، وتتغلل
صدورها بالغيظ والسخيمة عليها سرًّا، وقد ملئت قلوبهم بالذل وفقدوا كل نخوة
وحمية.
في تركيا اختلفت الأهواء وتعاكست الآراء، ووقف السلطان وحده يذود عن
بيضة الخلافة والملك، حيث أوروبا بأجمعها تحاربه بالسلم، وقد تمكن الدخيل في
الرعية وانحرفت الأحكام عن جادة الحق في الغالب، فاختلت لذلك الحكام، وامتلأت
القلوب ضغنًا فوهت بذلك أركان قوة الدولة، وأخذ الأعداء ينقصون من أطرافها كل
يوم وناهيك بما انتهى إليه أمر كريد عبرة.
مصر مسند العرب وعماد الإسلام، سلمت السيف وخضعت للقدر، وسكانها
الذين استنارت أذهانهم بروح هذا العصر انقسموا إلى حزبين: حزب يفاخر
بمعاضدة إنكلترا، وآخر يباهي بمسالمة فرنسا. سيد البلاد ينام والكدر ملء جفنيه
ورجال البرلمان بإنكلترا يبيتون على فرح كامل وسرور شامل.
في تونس والجزائر كلمة (بونجور) خلفت كلمة (السلام) وخلاعة الإفرنج
حلت محل آداب العرب، وكادت تهتك حرمة الإسلام، ومراكش المملكة الوحيدة
العربية التي حفظت استقلالها إلى الآن استحكمت فيها الفوضى، ورسخ بأرجائها
الجهل، وحكومتها عوضًا عن أن تكون حامية للشعب وحافظة لحقوقه تهتك أعراضه
وتبيح دماءه وتستلب أمواله، لا ينجو منها عالٍ ولا وضيع.
أما أقطار الصحراء الواسعة وما والاها من سودان الجنوب فسل عنها فرنسا
بالغرب، وإنكلترا بالشرق، فهما بها أدرى، وبالكلام عنها أحرى.
هذه هي اليوم حالة الإسلام وحالة الشرق أجمع. سردنا لك حقائقها بأبسط
الوجوه وأوضحها، لم نوشحها بنامق العبارات، ولم نطلها بزخرف الكلام؛ حتى
تظهر لك ساطعة كالشمس في رابعة النهار. حتى تعلم أن نصيب الشرق في كفة
الميزان وأن حالته الحاضرة تنذر بفناء الأمة وذهاب العرب.
هل يمكن إذن رد هجمات الشمال عن الجنوب، ودفع غارات الإفرنج عن أمم
الإسلام، واسترجاع ما فقد المسلمون من الأملاك والممالك، والشمال كما تعلم قواته
تفوق الآن الحصر، ومعدات تدهش الفكر، لم تدركها العرب ولا الترك ولا غيرهم
من أمم الجنوب.
نقول: إنه لا يمكن إن دام الحال على هذا المنوال.
ونقول: يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية وقطع مجاهل الصحراء
فرددته أعجاز النيل، ثم تناقلته وِهاد العربية ووديانها، فارتجت لدويه الهند
وتداولته سهول الشام وجبالها، فاهتزت لصداه أركان الآستانة العلية، مكان عرش
الخلافة وموضع التاج من رأسها.
أو إذا لفحت ريح من الشرق فزعزعت أهرام مصر وهبت نحو الغرب،
فنبهت أحياء إفريقية واستيقظ الناس واجتمعت الكلمة.
ولكن بأي واسطة أو أي سبيل يتم هذا الأمر؟
ذلك نتركه لفطنة القارئ وحكمته. ومتى تذكر أن الدولة التي قوضت دولة
الرومان وبسطت سلطتها من الهند إلى الأطلنطيك إنما قامت عن قبائل متوغلة في
الخشونة والهمجية، أقوى سلاحها الاتحاد والحمية، يعلم أننا لم نفرض المستحيل،
وأن الدهر أبو الغرائب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الامضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ن. الفويكي)
(جواب المنار)
قول الكاتب الفاضل: إن رد هجمات الشمال عن الجنوب ودفع غارات
الإفرنج عن أمم الإسلام غير ممكن إذا دام الحال على هذا المنوال - قول صحيح لا
ريب فيه.
وقوله: (يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية إلخ أو إذا لفحت ريح من
المشرق إلخ) محل نظر وبحث، إذ يتبادر أن مراده بالصوت الصائح، والريح
اللافح، قيام المسلمين بثورة عامة تبتدئ من الغرب فيليها الشرق، أو تهب من
الشرق فيتزعزع لها الغرب، وتنهض الأمة نهضة واحدة للتنكيل بالدخلاء الذين
عدوا على البلاد مفتاتين، فاستبدوا بالسلطة واستأثروا بالرياسة. وهذا مراد لا ينال
وغاية لا تدرك، فالمسلمون لا تجمعهم لغة ولا حكومة، والرابطة الدينية قد سحل
مريرها وانتكث فتلها من أجيال طويلة، بما اعتورها من اختلاف المذاهب، وتنوع
المشارب، وتمزيق السلطة بتفريقها، وما تولد عن ذلك من دماء سفكت، وحرمات
انتهكت، وأرحام قطعت، وقد آل أمر هذه الفتن فيهم إلى أن استعان كثير من
أمرائهم وسلاطينهم بأعدائهم على إخوانهم في الدين، وأعانوهم عليهم في بعض
الأحايين، ولا أبعد عليك في الشاهد ذهابًا إلى تاريخ الدول المنقرضة، فإن في هذه
الدول المواثل (جمع ماثل وهو الرسم الذي بقي له أثر) ما يغني عن الاستشهاد
بالأوائل.
إن بريطانيا ما استقرت قدمها في الهند إلا بمعونة الأفغانيين، وإن فرنسا ما تم
استيلاؤها على الجزائر إلا بمساعدة المراكشيين والتونسيين، وكفى بخذل القريب،
مساعدة للغريب، وقد كان لدولة الإيرانيين يد عاملة في انتصار روسيا على
العثمانيين، وإن الأمراء الذين أضلوا الأمة عن سواء السبيل، وفعلوا بها هذه
الأفاعيل، هم الذين يصدونها عن سبيل الاتحاد، ويحولون بينها وبين كل مراد،
فأَنَّى تتألف عناصرها وتتلاصق جواهرها، وهذه الآلات المحللة لا تبرح عاملة
فيها بالتفريق، ومتى تبلغ هذه الغاية والقائد هو الذي ينكب بها عن جادة الطريق،
لم يدع أمراء المسلمين وسلاطينهم في بلادهم زعيمًا يرجع إليه، ولا رجلاً تجتمع
القلوب عليه، إلا وخضدوا شوكته، وحصدوا نبتته، إلا ما يكون في البلاد الهمجية
من زعماء الفتنة الذين يخرجون على سلاطينهم، ويعملون قوتهم فيما يصب البلاء
عليهم وعلى أمتهم ودولتهم، كالذين أضرموا نيران الثورة في السودان، والذين لا
يزالون يضرمونها في اليمن ومراكش، وكل أولئك يصح أن تتمثل الأمة فيهم بقول
الشاعر:
وإخوان حسبناهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلناهم سهامًا صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وأقول: إن بلاد المسلمين قسمان. قسم له حكومة منظمة، وجنود معلمة،
كالدولة العلية والدولة الإيرانية [*] .
وقسم ليس كذلك كدولة مراكش، والقسم الأول فيه بلاد ههمجية لم يسسها
النظام، ولم تنفذ فيها القوانين والأحكام، فالحكومات أنفسها لا تقدم على محاربة
دول الشمال لما تعلم، ولا يمكن أن يثور الأهالي في البلاد التي لها حكومات منظمة
على الإفرنج الذين تبوءوا بلاد الإسلام، لأن حكوماتهم هي التي تكبح جماحهم،
وتنكث قواهم، فيكون ذلك سببًا في زيادة ضعفها، وأما البلاد الأخرى فليس شأنها
بأبعد من شأن هذه، فحضرة الفاضل صاحب المقالة أعلم منا بما يجنيه أهل الريف
في بلاد مراكش على حكومتهم من إغارتهم على السواحل وانتهابهم مراكب الإفرنج
وتعديهم على أهلها، فلقد أثقلوا غارب الدولة وحملوها من المغارم التي تدفعها
للحكومات الأجنبية باسم الترضية ونحوه ما إذا طال عليه العهد يخرج عن طوق
احتمالها، ويؤدي إلى طموح الأجانب لاحتلالها، وإذا ضممت إلى تفرق الكلمة
وتنكيث القوى وضعف الحكومات حتى عن الرعية في البعض ما عليه دول الشمال
القوية الحازمة من الاتفاق والاتحاد على ابتلاع أمم الجنوب وهضم حقوقها، على
اختلاف الوسائل والتنازع في اقتسام الممالك - لاح لك أن الثورة والقيام على
الأجانب خطر عظيم عاقبته مظلمة جدًّا، والنتيجة أن هذا أمر لا يقع، ولئن وقع فقد
يضر ولا ينفع.
إن الشعور بحالة الأمة السيئة صار عامًّا لا يكاد يجهله في جملته أحد، ولكن
الذين يتوقع منهم شعب الصدع ومداواة الكلم، قد اكتفى أهل النظر والفكر منهم
بتأسف العجائز، وتحسر الزَّمْنى، بل بما هو أشبه بحزن النسوان، ومنهم العميان
والمخدرو الجثمان الذين لا يبصرون، ولا يتألمون، وهم متفقون على أن
إصلاح الحال وإزالة الاختلال، لا يمكن أن يأتي إلا من قبل الحكام، والحكام
ميئوس منهم في أكثر البلاد فالإصلاح كذلك. هذا هو الرأي الغالب على الناس إلا
من هداه الله وقليل ما هم.
ومن الناس من يتكلم في الإصلاح بغير هدى ولا عقل منير، فإما كلام مقطع
غير معقول، وإما تغرير بالعقول، وأغرب ما كتب في ذلك الكاتبون الحث على
الالتجاء لدول أوروبا والاعتماد عليها في إلزام الدولة العلية بالإصلاح على الوجه
الذي يرونه أو تراه تلك الدول، وغاية هذا تسليم البلاد لها، وقد فندنا هذا الرأي
الفاسد من قبل، وهو لبعض الغارِّين أو الأغرار، الذين يسمون أنفسهم بالأتراك
الأحرار، والذي نعرف عن النبهاء والمتعلمين في مدارس الحكومة من الأتراك
والمصريين أن الإصلاح لا يكون إلا بتقليد أوروبا في جميع الشؤون واتباع سنتها
شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وهو على إطلاقه إضلال أي إضلال، وذهب بعض
المثرثرين في هذا الموضوع إلى أن الإصلاح يتوقف على نهوض الأمة وإلزامها
الحكومة بما تريد منها بثورة كثورة الفرنسيس المشهورة، وقد جربنا هذا وما قبله
في مصر، ولا نزال نتململ من سموم لدغاتهما، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
فهل نقول بعد هذا: (يمكن استرجاع مجد الشرق بقوة الإسلام) ؟ نعم وألف
نعم (ولكن بأي واسطة وأي سبيل يتم هذا الأمر) ؟ ترك صاحب المقالة الجواب
عن هذا السؤال لفطنة القارئ وحكمته، ولكن ذكره بما يهديه إليه - ذكره بنشأة الدين
ومبدأ ظهوره. ذكره بذلك الانتشار السريع - ذكره بالقوة التي فاضت من قفار
القبائل المتوغلة في الخشونة والهمجية، فغمرت المعروف من مشارق الأرض
ومغاربها وأبطلت كل قوة لغيرها وسلطان. ولكن هذه التذكرة تذهب النفوس في
تأويلها مذاهب شتى. فمن الناس من يقول: إن ذلك الاتحاد وما كان من آثاره
حصل بالإمداد السماوي والمعجزات والخوارق، ولذلك يعتقد جماهير المسلمين أن
الإسلام لا يعود إليه مجده إلا بالمهدي المنتظر أو السيد المسيح عليه الصلاة والسلام،
وقد أضر بهم هذا الاعتقاد ضررًا عظيمًا، وكان من أسباب ضعف هممهم،
وزلزال عزتهم، وظهور الفتن والبدع فيهم (سنبين ذلك في مقالات أخرى) .
ومن رأي هؤلاء: أن العمل لإحياء مجد الإسلام عبث لا يفيد وأنه لا مندوحة
عن الرضى بالضيم، والخنوع للذل، حتى يخرج المهدي من الخباء، أو ينزل
المسيح من السماء، ومنهم من يقول: إن دولتي الرومان والفرس وغيرهما من
الدول التي قوض عرش سلطانها المسلمون كانت عند ظهور الإسلام في تفرق
وشقاق، وفساد أخلاق، فتسنى للمسلمين باجتماعهم واتحادهم الغلب عليهم، وأما
دول الشمال اليوم فهي في أعلى درج القوة والمنعة واجتماع الكلمة، حتى بين كل
دولة وأخرى بالنسبة للاستيلاء على أمم الجنوب، فمهما اتحد المسلمون واجتمعت
كلمتهم لا يتسنى لهم فل جيوشهم، وثل عروشهم، بل ربما أفرط بعض هؤلاء فقال:
ولا يتأتى لهم تقليص ظلالهم، بتخييب آمالهم، لأنهم هضموا ما طمعوا. فترْك
الكاتب النبيل بيان السبيل لفطنة القارئ، لا يأتي بالفائدة المطلوبة؛ فليس القارئ
المخاطب واحدًا وإنما هم قراء مختلفون في المذاهب والآراء، وهذا ما حدا بنا إلى
كتابة هذا الجواب مبينين رأينا في المسألة الذي اهتدينا إليه بعد البحث الطويل
والوقوف على آراء الباحثين وهو:
إن أصول الدين الإسلامي وتعاليمه وآدابه الصحيحة هي التي جمعت كلمة
قبائل العرب وارتقت بهم من حضيض الهمجية إلى أوج الفضائل، وأشرفت بهم
على دول العالم بالسيادة والسلطان، وهدتهم إلى العلوم والفنون، ولا خلاف في أن
انحراف المسلمين عن جادتها هو الذي سلبهم ما كسبوا، فالرجوع إليها هو الذي
يؤلف بين قلوبهم ويجمع كلمتهم ويرجع لهم سيادتهم، وقد بدأ الدين غريبًا وانتشر
بالدعوة والتعليم، ولم تكن الحروب في أثناء الدعوة إلا وسيلة لسماع صوته (كما
سنبينه في فرصة أخرى) وقد عاد الآن غريبًا وينتشر بالدعوة والتعليم (وفقا لما
ورد في الحديث الشريف) ولا حاجة مع ذلك إلى الحرب ولا إلى الخوارق
والمعجزات لأن الذين يراد إحياء تعاليم الدين وفضائله وآدابه فيهم - أولاً وبالذات -
معتقدون أن جميع ما جاء في الدين حق، وأن القرآن معجزة باقية إلى الأبد، ولا
يصدنا عن الإرشاد والتعليم صاد، ولا يمنعنا منهما مانع في أمتنا وبلادنا، ولا في
غيرهما. كيف والدعوة إلى الاسلام لا يعارضها في الممالك الغربية معارض، ولم
يلق القائمون بها ذرة من البلاء الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام،
ولا الأئمة الذين دعوا إلى البدعة بعده من قبل خلفاء المسلمين وأمرائهم. ولا يتوقف
العمل إلا على اقتناع العلماء بأن هذا الإصلاح مطلوب منهم وموكول إليهم، وهم
المسئولون عنه بين يدي الله تعالى، وأنه لا يتوقف على مساعدة الأمراء والسلاطين،
فضلاً عن كونه لا يأتي إلا منهم، فإذا أشربوا ذلك في قلوبهم وتقشعت سحب
اليأس من نفوسهم وجعلوا إمامهم القرآن وأحيوا معانيه في العقول في دروسهم
ومجالسهم وخطبهم، تهبط على الأمة روح الوحدة من سماء العزة، فيجتمع شرقيهم
بغربيهم ويعيدون للشرق مجده (ولا يبعد أن يكون هذا مراد صاحب المقالة وإن كان
المتبادر خلافه) نعم، إن الأمراء والسلاطين إذا ساعدوا العلماء في عملهم هذا
وسهلوا لهم سبيله يكون أسرع سيرًا، وأقرب وصولاً، وهذا ما حملنا عى كتابة ما
ترى في المنار من مقالات الإصلاح الديني واقتراحها على مقام الخلافة الإسلامية أيده
الله تعالى وأعزه، ولكن يجب أن لا ييأس العلماء من روح الله إذا لم يجب الطلب ولم
يلتفت إلى الاقتراح، فقد علمنا التاريخ الحديث أن الأمم في هذه العصور إذا تربت
وتعلمت فإنها تربي الحكام والسلاطين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [**] .
__________
(*) تبين لنا بعد ذلك أن الدولة الفارسية ليس عندها جيش منظم.
(**) الغرض تنبيه الأمة إلى قوتها الذاتية، وتنبيه العلماء إلى أن إحياء الأمة وإعادة قوتها إليها موكول إليهم وما كتبنا ما كتبناه من اقتراح الإصلاح على مقام الخلافة إلا لتنبيه المسلمين وتذكيرهم بتلك المسائل المقترحة، ليوجهوا نفوسهم إليها، وتذكيرهم بتقصير خليفتهم في خدمة ملتهم ليعلموا بعد إعراضه عما يقترح عليه أنه لا صلاح لهم به وقد يكون صلاحه هو بصلاحهم.(1/794)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قضايا مسلَّمة
في طعن عوام الشرقيين في الأوروبيين
من القضايا المسلمة عند جماهير الشرقيين أن الأوروبيين ما بلغوا شأو
الشرقيين في الطب ولا قاربوا، وأن الذين يسيرون على آثارهم في مداواة الصحة
وفي التطبب تضعف بنيتهم وتضوى أجسادهم وتفشو فيهم الأمراض والأدواء. وأن
عقولهم ضعيفة لا تدرك العلوم العويصة ولا تصل إلى المسائل الدقيقة، وما امتازوا
على الشرقيين بشيء من العلم إلا بالصناعات العملية، ويعبرون عن هذا الاعتقاد
بقولهم: (الإفرنج عقولهم في أيديهم، وبعضهم يقول: في أعينهم) وأن الفضائل
بعيدة عنهم بمراحل، فهم أصحاب خفة وطيش، سريعو الحركة يعدون في المشي
عدوًا، قليلو الأدب، يجلسون مادين أرجلهم مهما كان جلساؤهم عظامًا، بخلاء أشحاء
لا يرحمون فقيرًا، ولا يحضون على طعام المسكين، يستأذن أحدهم زائره في القيام
إلى المائدة ولا يدعوه إلى مشاركته في تناول الطعام الذي حضر، سواء كان الزائر
صديقًا أو حبيبًا أم قريبًا أم غريبًا، شهواتهم غالبة على أمرهم، وأرواحهم في
وحشة من جسومهم، ولا يكتفون بالاستدلال على ذلك بكثرة شربهم للخمور،
وتهتكهم في الفجور، بل يعدون من أدلته شدة تكريمهم وتعظيمهم للنساء، بحيث
يشرك الرجل قرينته معه في جميع الشؤون، ويشاورها في كل أمر، ويرافقها إلى
الملاعب والمنتزهات العامة والخاصة، ويسافر بها إلى البلاد القاصية لمحض التنزه
بل ارتقوا في تعظيم أمرهن إلى تصديرهن في المجالس وتقبيل الملوك أيديهن، بل
إلى تقليدهن الأعمال والوظائف في الحكومة.
ما كل مسلَّم بصحيح، فالأوروبيون أربوا على الشرقيين في الطب، وأما
ضعف أبدان الذين يسيرون على آثارهم في مداواة الصحة، فليس السبب فيه الطب
ومداواة الصحة على طريقتهم، وإنما سببه الترف والانغماس في الشهوات والإفراط
في اللذات التي يتولد منها ما ذكر من الأمراض. ومن لاحظ الإحصاءات الصحية
في بلادهم ينجلي له كيف قلَّت بتقدم الطب الوفيات، وخف فتك الأمراض والأدواء.
وأما قولهم: إن عقولهم ضعيفة إلخ. فهذا يقوله من لا يعرف ما عندهم من
العلوم، ومن يعتقد أن العلوم الصحيحة هي التخيلات والسفسطات الفكرية التي لا
ترشد إلى عمل ولا تنطبق على حقيقة واقعة، وأما كلامهم في أخلاقهم وآدابهم فمنها
الصحيح والفاسد، وأكثر رذائل القوم مبنية على فساد الاعتقاد، فهم لا يأتون ما
ننتقده عليهم إلا وهم يرون حسنه في الغالب.
وأما إفراطهم في تعظيم النساء، فيقابله تفريطنا في ذلك، وليس ذلك التعظيم
لمجرد الشهوة، بل فيه مصلحة عظيمة للأمة، ولكنهم أفرطوا كما قلنا، وإن لنا
كلامًا آخر في هذه المسائل نرجئه للفرص.
__________(1/802)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة ناظر خارجية ألمانيا
(ألقى ناظر خارجية ألمانيا خطابًا تكلم فيه عن المسائل الخارجية، فآثرنا
منه ما يتعلق بمصالحنا نقلاً عن جريدة الأخبار الغراء لما فيه من العبرة)
(المسائل الشرقية)
إن المسألة الشرقية بوجه عام واقفة في حض السلم والأمن، ولا أريد من ذلك
أن أقول: إن هذه المسألة قد حُلت حلاًّ نهائيًّا؛ لأن المسألة الشرقية كخيلة البحر إذا
اختفى منها جزء ظهر آخر، والحل النهائي لهذه المسألة لا يراه أحد منا، إذ لا بد
أن ندع لأبنائنا وأحفادنا من بعدنا بعض النوى لتكسره أسنانهم (ضجيج عظيم) أما
الآن فإن هذه المسألة ليس فيها الخطر الداهم الذي كان موجودًا منذ سنوات ماضية.
ولربما كانت في كيفيتها وفي جوهرها قد أصبحت أكثر إشكالاً وتعقيدًا مما كانت عليه
منذ عشرين سنة.
(المسألة البلقانية)
إنه منذ ذاك العهد حتى الآن أصبح الخلاف بين الشعوب البلقانية أشد من
الخلاف بين المسيحيين والمسلمين؛ لأن تلك الشعوب يزيد اختلافها كلما زادت
رغبتها في استقلالها وسلطتها ونجاحها، فإذًا يوجد في البلاد البلقانية بعض ظروف
يمكن أن تمسي ذات يوم ثمرة الخلاف والشقاء، على أنها طفيفة لا تهدد السلم العام
أما ألمانيا فإنها لا تنوي نيل نفوذ في الشرق تختص به دون سواها، وهذه الخطة
ليست فقط نتيجة أخلاقنا وطباعنا، بل هي المبدأ العام الذي يستند عليه نفوذنا في
قرن الذهب.
ونحن قد اكتسبنا ميل تركيا إلينا؛ لأن هذه الدولة ترى أن ألمانيا تود مراعاة
الحقوق الدولية معها، وأن يستتبّ في الشرق سلم دائم وأمن أكيد، وبما أنّا بذلك لا
نقف حائلاً في وجه دولة من الدول فنحن أصدقاء الدول كلها. وإني أورد هنا بكل
مسرة أن رومانيا لها اليد الكبيرة في حفظ النظام وتأييد السلم، وإنماء المدنية في
الولايات البلقانية.
(المسألة الكريدية)
أما المسألة الكريدية، فإن انسحابنا منها واستدعاءنا باخراتنا الحربية كان سببه
تغيير وجهها، ولا ننكر أبدًا أن كيفية سياق المسألة تدلنا على أن كثرة الطهاة ولا
تجيد الطعام أحسن من قلتهم (ضجيج) فنحن إذًا نسر بعمل الدول الأربع التي تولت
الحل النهائي (ليعتبر العثمانيون) .
(سفر الإمبراطور)
إن رحلة الإمبراطور إلى فلسطين وعودته منها تدل صريحًا على أن
الإشاعات التي أذيعت عن مقاصده وعن إمكان حصول الخلاف والشقاق لا صحة لها.
والذي يقول لي: كيف تتفق مطالب الأمم المختلفة الأجناس والأديان، أشكره
وأعترف له بالمهارة. والألمان والمسيحيون لا يقرون لأحد بحق منازعتهم بأن
يكون لهم كنيسة في الأراضي المقدسة.
(وهنا ذكر الوزير النواب برغبة الإمبراطور فردريك غليوم الرابع وبرحلة
ولي العهد فردريك عام 1869 وقال) :
فرغبة الإمبراطور غليوم الثاني في أن يفتتح هو نفسه كنيسة إنجيلية كانت
ناتجة عن مبرة بوالده وجده، وعن عواطف دينية تخامر لبه، وهذه العواطف ليس
فيها شيء عدائي لدولة من الدول (برافو) .
وإمبراطور ألمانيا الذي هو إمبراطور الألمان جميعهم بدون استثناء دل
بإعطائه الأرض التي كان عليها مسكن العذراء مريم أنه يريد أن يسر جميع رعاياه
المسيحيين على السواء من رحلته، والمساعي التي بذلت لإقلاق بال السلطان من
هذه الرحلة لم تنجح.
وجلالة السلطان يرى جيدًا فلم يقدر أحد على خداعه بأن الإمبراطور غليوم
يريد من رحلته أن يفعل ما فعله الصليبيون بأخذه من تركيا سوريا وفلسطين
(ضحك) .
__________(1/803)
17 شعبان - 1316هـ
يناير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مستقبل الإسلام [*]
يسرنا أن شعور المسلمين بالخطر الذي يتهددهم في مشارق الأرض ومغاربها
قد نبه الأفكار إلى البحث في أسبابه والسعي في علاجه، فكأن أرواح العقلاء
والنبهاء تتناجى في كل قطر من الأقطار، وكأنني أسمع كريرًا (هو صوت من
الصدر كصوت المنخنق) وزفيرًا يفصحان عن الخطب ويمثلان الكرب، فائضان
من صدور أهل الشرق والغرب، ويتلاقيان في مركز الدائرة وبهرة الإسلام مصر
المحروسة أعزها الله تعالى. بالأمس سمعنا صوت الكاتب المراكشي يحذر وينذر
ويسأل ويجيب، واليوم نسمع صوت الكاتب الهندي يوقظ وينبه ويستنهض الهمم،
ويستسقي الديم، بكاء ونواح، وعويل وصياح، وإثارة رياح، أسف واستياء،
واتفاق على الداء، واختلاف في العلاج والدواء، فمتى تتفق الأفكار في النتيجة كما
اتفقت في المقدمات؟ وأيان تشترك في الأعمال، مثلما اشتركت في الأقوال؟
ما هي النتيجة؟ قالوا اجتماع كلمة، اتفاق قلوب، التفاف حول لواء الخلافة،
اتحاد المشرق مع المغرب الإسلاميين، علوم ومعارف، فنون وصنائع، معاهدة
ملوك الإسلام، تأليف جمعيات، عقد شركات… كلمات متقطعة، بين همهمة
وهينمة، أو ضوضاء وجلبة، لا تظهر حقيقة، ولا ترشد إلى طريق.
نشرنا مقالة المغربي في العدد الماضي من جريدتنا وأجبنا عن سؤاله، وننشر
الآن نبذة من مقالة المشرقي (الهندي) ونجيب عنها، وما الجواب إلا واحد، ولكن
الأساليب تتلون بألوان كثيرة وتتجلى في أشكال متعددة.
قال الكاتب الهندي الفاضل فيما ترجمه المؤيد الأغر عن جريدة محمدان الغراء
بعد كلام شكر فيه صاحب هذه الجريدة (محمدان) على نقله عن الجرائد الإسلامية
ما يهم المسلمين ويبعث على تقوية رابطتهم:
(وإن أحدنا ليحزن حقًّا إذا جال بخاطره في بلاد الإسلام وممالكه ورآها
جميعًا على غاية من التأخر والاضمحلال، وأنه لا توجد دولة واحدة من بين الدول
الإسلامية تستحق الإعجاب بها والمباهاة بتقدمها) ثم قال:
أجل إن الوقت حرج، والمركز صعب، والحياة مريرة، فإذا لم يعمل
المسلمون بكل جهدهم ويستيقظوا من سباتهم العميق، فإنهم بلا ريب يصبحون كأمة
اليهود لا وطن ولا دولة لهم (ولكن ليهود اليوم المال يحميهم ويرفع شأنهم، أما
يهود الغد الفقراء فلا يكون نصيبهم سوى الذل والهوان) .
(وإذا قيل: أين الوقت وأين الفرصة؟ قلنا: الساعة التي نحن فيها على بقية
من الرمق، فالواجب على أصحاب المدارك السامية من المسلمين أن يقدحوا أزند
أفكارهم، ويبحثوا عن المسالك النافعة والطرق المؤدية إلى منفعتهم) .
(هذا هو الوقت الذي يلزم فيه أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد
الثاني المشهور بالعقل والدهاء، وحب توثيق عرى الجامعة الإسلامية حولها أن
يبرهن للعالم الإسلامي على أنه الأحق بالخلافة من كل خليفة لبس تاجها) .
ثم تكلم في موضوع تأسيس مجتمع إسلامي في الآستانة العلية تحت رئاسة
مولانا أمير المؤمنين (وذلك ما لا يكون) ثم قال:
وإذا أردت زيادة التوضيح فاسمح لي أن أقول: إن هذه البلاد الإسلامية لا
يرتفع لها شأن إلا إذا حمل الأفراد على مشاركة الحكومات فيما تجريه، وفي جميع
مسئولياتها، فإن الحمل أصبح الآن على أكتاف الحكومات التي يديرها رجل واحد
أو رجلان على الأكثر ثقيلاً جدًّا، فالحكومات الأوروبية الآن تحمل على حكومات
الإسلام بوطأة شديدة، وإذا نوقشت بالعقل أفحمتها بأن وراءها البرلمانات التي تمثل
الأمم في قوتها تقهرها على السير في السبيل الذي تسلكه.
أي رجل معتوه يقول: إن وزيرًا من وزراء دولة العجم مثلاً يقدر أن يقف
وحده تجاه برلمان إنكلترا أو مجلس نواب فرنسا؟
إن كل فرد من أفراد ممالك أوروبا يعتقد في نفسه أنه عضو عامل في
حكومة بلاده، بينما المسلم لا يعتبر إلا أنه حجر ينقل إلى حيث ينقل، ويستقر حيث
يلقى أو يقذف به من حالق، وزد على ذلك أنه جاهل يدعوه جهله إلى الابتعاد عن
وسائل المدنية الحقة. وفي بلاد الإسلام تجد الجزء الأكبر من الشيوخ الذين لهم
تأثير عظيم في النفوس لا يحبون الإصلاح ولا الانتقال عما اعتادوه وورثوه عن
آبائهم، ثم هم مع ذلك يشغلون أوقاتهم بالأمور التافهة، والمشاكل الشخصية، فلا
يجد الحكام مجالاً لبث أشعة نور الإصلاح مع كل هذه الأحوال، فكيف ينتظر لنا مع
هذه الحال نجاح، أو ارتقاء في مدارج الإصلاح.
(يتضح لك مما تقدم أن تأخرنا ناتج عن جهل المجموع وخموله، فإذا نحن
عقدنا النية على ترقية شأننا فعلينا أولاً أن نرقي المجموع، ونقيم ما اعوجّ من أموره،
ولا تكون هذه التربية النافعة قاصرة على المكاتب الصغيرة القديمة العقيمة. بل
تترجم إلى لغاتنا جميع مباحث العلوم العصرية وفروعها، وتدخل الصنائع
والإدارات التي رفعت درجة العالم الأوروبي، وتهب حكومات الإسلام رعاياها
حرية الكلام في الخطابة والكتابة مع بعض امتيازات تسمح بأن يكون لهم صوت ويد
في سير الحكومة وتدبيرها، حتى يتمكنوا من إدخال الإصلاح) .
ثم تكلم عن دولة الفرس وعدم التفاتها إلى التعليم والتنظيم العسكري، وذكرها
بما يتهددها من قوة الروسيا ثم قال:
شهد العالم في العام الماضي فوز الدولة العلية وانتصار جنودها الباسلة
واستعداد ضباطها. فَلِمَ لا تأخذ دولة الفرس ضباطًا من الأتراك بدل الضباط من
الروس؟! أو لماذا لا ترسل دولة الفرس شبانًا من عندها ليتعلموا الفنون
العسكرية في المدارس الحربية العثمانية، ليعودوا ضباطًا ماهرين أَكْفَاء للقيام بأعباء
وظيفتهم.
إنه وإن تكن البلاد الهندية لم تصل إلى درجة عظمى من المعارف لكن
مدرسة (عليكره) التي أسسها المرحوم السيد أحمد خان قد أنتجت رجالاً أفاضل
نابغين في المعارف والعلوم، أفلا تحسن حكومة الفرس لو استعارت من أمثالهم
معلمين في مدارسها أو لخدمتها أولى من تعيين البلجيكي والطياني أو غيرها؟
وإذا أدار الإنسان نظره إلى شطر بلاد الافغان رأى أن أميرها حفظه الله
يجتهد كل الاجتهاد في إيجاد مملكة قوية حربية، ويضاف إلى ذلك ظهوره بمظهر
الولاء لإنكلترا في أحرج المواقف وأصعبها، ولكن النجاح الذي تناله الأفغان ليس
مما يعظم الأمل في مستقبلها.
(وإن الإنسان يتولاه الاندهاش حين يرى رجلاً عظيمًا مثل الأمير عبد
الرحمن خان لا يهتم بالتعليم والتربية في بلاده، وقد شهدت له الناس بالغيرة الشديدة
على إنجاحها، فلا تزال مدرسة (غازني) كما كانت من قديم، لم يحور في تعليمها
شيء، ولم تزد عليها من العلوم العصرية زيادة، ولا يلزم أن تبقى الحالة على
الصناعة الحربية، بل من الواجب إرسال بعض أتباعه إلى البلاد الأجنبية للنظر في
حالة تلك البلاد والنقل عن معارفها وآدابها.
أما المصريين فهم الآن قابلون للتقدم والارتقاء، والأَوْلى بهم أن ينتهزوا
الفرص ويقوموا يدًا واحدة لتربية الناشئين، والاعتناء بأمر التعليم، حيث لا ينفع
قول: ليت ولعل، وقد طالعت في رحلة مولانا شبلي أن التعليم في الأزهر الشريف
ليس كما يرام، ولا ينتظر منه لبلاد الإسلام منفعة كبرى وعائدة جليلة، وفضلاً عن
ذلك فإن مسلمي مصر أغنى بكثير من مسلمي الهند، وأنهم إذا أرادوا ووطدوا
العزيمة قادرون على تأسيس مدارس جامعة كبرى مثل (أكسفورد) و (كمبردج)
الإنكليزية، فهلا يتنبهون للمستقبل وما يأتي به الغد من الحوادث الخطيرة.
اعترف الأعداء قبل الأصدقاء أن جلالة السلطان عبد الحميد أمير المؤمنين
أقدر الملوك وأعظم سلطان جلس على أريكة سلطنة آل عثمان، ولكنه وحيد يشتغل
وحده، لا يشرك ولا يجد من يساعده من الأفراد على العمل [**] ، وهذا مركب
صعب، ولكن أهم شيء هو الاتحاد الإسلامي وجمع الكلمة على العمل يدًا بيد، وقد
تكلمت الجرائد الإنكليزية أخيرًا عن هذا الاتحاد وقالت: إنه قريب الحصول، ولكن
هذه الأخبار لم تتحقق الآن، غير أني أقول لإخواني المسلمين في كافة بقاع الأرض:
إن الإسلام جسم واحد، رأسه الدولة العلية، وساعداه الأفغان ومراكش، ورجلاه
مصر والعجم، ولا يمنع الدول الأجنبية من الاعتداء والتداخل في بلاد الإسلام غير
هذا الاتحاد، فاجمعوا الكلمة ونادوا بذلك أولاً، ثم متى حصلتم على مرادكم منه
رقوا شأن داخلياتكم، وكونوا مع العصر يومًا بيوم في الآلات الحربية وغيرها،
وإلا كان الاتحاد قليل الجدوى، نسأل الله الهداية إلى اقوم سبيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (لا. ي)
(ملاحظة المنار)
يدور كلام الفاضل الهندي على ستة أقطاب:
(1) بيان خطر الحال الحاضرة.
(2) ذكر أن سببها الجهل والخمول.
(3) ذكر ما اقترحه بعض الكتاب (صاحب رسالة نشرت في جريدة
محمدان بإمضاء الباحث الإسلامي) من تأسيس جمعية إسلامية في الآستانة العلية،
للنظر في تأخر المسلمين في وسائل تقدمهم والسؤال كيف قوبلت في البلاد الإسلامية.
(4) الجزم بأن البلاد الإسلامية لا يرتفع لها شأن إلا إذا شارك الأفراد
الحكومات فيما تجريه. يريد أن يكون للأمة رأي في أعمال الحكومة الكلية
كالحكومات الشوروية الحية.
(5) العمل أولاً على ترقية شأن المجموع بترجمة جميع مباحث العلوم
العصرية وفروعها إلى لغاتنا، والعناية بالصناعات والإدارة التي رفعت درجة
العالم الأوروبي وحرية الخطابة والكتابة.
(6) استعانة الأمم الإسلامية بعضها ببعض بأن تستبدل دولة الفرس الضباط
العثمانيين بالضباط الروسيين، وتستعين بالمعلمين من مسلمي الهند على نشر التعليم
العصري.
ما أحسن هذا البيت المسدس الأركان لو وجد له صناع يبنونه ويملأونه من
عسل المدنية الفاضلة، أو يودعون فيه نتائج السجايا الإنسانية، كما يبني النحل بيته
المسدس ليودع فيه نتاجه، ثم مؤنته من العسل، النحل ينبعث للتعاون على عمله
الذي تتوقف عليه حياة نوعه بحادي الإلهام الفطري، وفطرته سليمة لا يطرأ عليها
فساد ولا انقلاب، والإنسان فطر على التنازع والخلاف، وأعطي قوة على تعديل
فطرته الروحية، وإجابة داعي العقل إلى الوفاق والاتحاد برابطة الدين أو الجنسية
أو الوطنية، فإذا انحلت الرابطة بما يعرض على الروابط الاجتماعية فيحلها، فلابد
من العمل قبل كل شيء على عقدها، ومع كل شيء على حفظها وتقويتها،
والمسلمون لا تجمعهم إلا رابطة الدين كما قلنا غير مرة، وقد انحلت بالتراخي
وكادت تبطل بالمرة. فليس أول عمل يجب علينا هو ترجمة العلوم العصرية إلى
لغاتنا كما قال الكاتب، بل أول عمل يجب علينا هو ما قلناه آنفًا من إعادة الرابطة
الدينية التي تجمع القلوب وتوحد بين الشعوب.
لا خلاف في أن الشعوب الإسلامية في أسوأ الأحوال، وأنه ما من أمة من
الأمم ولا ملة من الملل إلا وفيها من أخذ من ترقي العصر بأوفر نصيب إلا الأمة
الإسلامية. الوثنيون لهم دولة قوية جارت أوروبا وسايرتها خطوة بخطوة،
وضربت معها بكل سهم، وهي الآن أعز دولة شرقية وأقواها ألا وهي (اليابان)
اليهود سابقوا أوروبا في جميع أنواع الكسب بأسبابه ووسائله فسبقوها، وهي الآن
تتبرم منهم وتضطهدهم في كل مكان، فإذا كان في الشرق روح خبيث يحول دون
الترقي كما يتوهم المتوهمون، فلماذا لم يلابس هذا الروح غير المسلمين؟ أليس
اليابان واليهود من الشرقيين؟
إذا كان النجاح متوقفًا على أعمال الحكومة فأية حكومة نهضت بالإسرائيليين؟
أجمع الباحثون في علم الاجتماع على أن تأخر المسلمين ما جاءهم من اختلاف
طبائع الأقطار؛ فإنهم يسكنون كل أرض، ومتبوئون كل قطر، فمن بلادهم الحار
والبارد والمعتدل، وإنما كل البلاء جاءهم من دينهم، فما داموا على هذا الدين لا
يرفع لهم علم ولا تقوم لهم سيادة ولا يستنشقون من نسيم السعادة، بل لابد أن ينزع
منهم دينهم كل سلطة ويهبط بهم إلى أسفل سافلين، وهذه حوادث الدهر بهم شاهدة
بذلك: تنتقص بلادهم من أطرافها، وتنزع من أيديهم ولاية بعد ولاية، بل مملكة
في إثر مملكة، وما بعد العيان من برهان، قالوا: ومن زعم أن لذلك سببًا غير
الدين، فليخبرنا عن مميز آخر انفردوا به عن جميع العاملين؟
بينا في غير هذا العدد من جريدتنا أن هذا القول صحيح، ولكن الذي رمانا
ويرمينا بالنوائب هو الابتداع في الدين لا الاتباع له، والانحراف عن سَننه (بالفتح)
لا الأخذ بسُننه (بالضم) وترك آدابه لا التمسك بأسبابه، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد
من علماء المسلمين ولا من عامتهم، فهم متفقون مع الأوروبيين في أن بلاءهم من
الدين ولكنهم مختلفون في التوجيه والتأويل.
العلم الإجمالي لا يبعث على العمل، ولا يرشد من الغي والزلل؛ لأنه محل
للتأويل والاختلاف في البيان، ولذلك لم ينهض المسلمون للإصلاح الديني مع علمهم
الإجمالي بأنهم في أشد الحاجة إلى الإصلاح، ولماذا؟
العلماء يلقون التبعة على الحكام قائلين أنهم هم الذين أفسدوا في الدين بحكمهم
بالقوانين وتقليدهم الإفرنج في نظاماتهم العلمية والعملية والعادية، كاللبوس ونحوه،
والحكام ينحون باللوم على العلماء ويقولون: إننا لم نجد عندهم غناءً عن القوانين
والنظامات التي أخذنا بها، وإن النظامات العلمية والعملية التي قلدنا بها أوروبا قد
ارتقت بنا ورفعتنا على سائر الحكومات الإسلامية التي لم تأخذ بها، كحكومة
مراكش وسائر الحكومات الأفريقية. وقد ضاعت الأمة بين الفريقين: (الحكام
والعلماء) .
ليس الحكم بالقوانين هو الذي هبط بالمسلمين إلى هذا الحضيض، فلقد بذرت
بذور الهبوط في العصر الأول، وذلك ما عناه الإمام علي كرم الله تعالى وجهه بقوله
(لَبِسوا الدين كما يُلبَس الفرو مقلوبًا) . ولقد حدثت الفتن في المسلمين ولم يكن هناك
شيء من هذه القوانين، فروح الدين الذي ينهض بالأمم ويحييها، بل يوجدها من
العدم هو الاتفاق في العقائد الحقيقية والآداب الصحيحة، وقد تزعزع هذان الركنان
في المسلمين، فالتوحيد الذي اجتث الإسلام به شجرة الشرك الخبيثة، واستأصل
جراثيم الوثنية، وأطلق إرادة الإنسان وافتك عزيمته من قيودها، فنال بذلك الحرية
الكاملة، واندفع لكل عمل مفيد، قد صبغ بصبغة الجبر، وجعل آلة لإضعاف الهمم
وتكسيل النفوس عن العمل، ولم يق المسلمين من نزغات الوثنية، فقد تمكنت
نزغاتها في كثير منهم، حتى إنهم ألّهوا الإمام عليًا في عصره، ولا تسل عما جرى
بعد ذلك إلى اليوم، وهذا الموضوع طويل الذيل يحتاج في بيانه إلى مؤلفات، وقد
أوقفنا عليه جريدتنا فكتبنا وسنكتب فيه إلى ما شاء الله تعالى.
أما ما أشار إليه الفاضل الهندي من تأسيس جمعية إسلامية، فأول من اقترح
هذا الاقتراح السيد جمال الدين الفيلسوف الشهير، وقد بسطنا الكلام عليه في مقالتي:
(الإصلاح الديني) في العددين الماضيين على الوجه القريب من الصواب،
والأمل بحصوله ضعيف جدًّا.
وأما جزمه بأن البلاد الإسلامية لا يرتفع لها شأن إلا إذا شارك الأفراد فيها
الحكومات إلخ، فهو من الكماليات ولا يتوقف عليه الإصلاح المطلوب، وطلبه اليوم
هو من طلب الغاية في البداية [***] .
وأما استعانة الأمم الإسلامية بعضها ببعض، فهو حسن لا ريب فيه. وأما
العمل على ترقية مجموع الأمة بالعلوم العصرية والصناعات، فلم نأخذ عليه فيه إلا
قوله: أن ذلك يجب علينا أولاً، ورجال الدين يقولون: إن تلك العلوم كفر أو طريق
للكفر، ومجموع الأمة تبع لهم. فالذي ينبغي قبل كل شيء إقناع هؤلاء بأن هذه
العلوم والفنون تتوقف عليها قوة الأمة ومجدها، وأن القرآن أرشد إليها بما أمر من
النظر والتفكر، وبمثل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) . وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً
مِّنْهُ} (الجاثية: 13) .
كيف يتسنى لنا نشر هذه العلوم قبل هذا وقد سعى بعض عقلاء العلماء بإدخال
علم الحساب وتقويم البلدان وتاريخ الإسلام في الأزهر فاضطربت لذلك الأفكار،
واختلفت الظنون، وقال الأغرار (وأكثرنا أغرار) : إن الأزهر قد فسدت بذلك
تعاليمه وأصبح الدين على وشك الاضمحلال والزوال. لم يكن للأزهر نظام يرجع
إليه، فبعد أن وضع له النظام وقبل أن يجري فيه أقل انتظام وقعت فيه الحادثة
المشهورة التي سببها الحقيقي الخلل وفساد الأخلاق والجهل بأمور الزمان، فقال
بعض اللابسين لباس العلماء: (إن وجود النظام في الأزهر هو الذي أجرى عليه
أحكام النظام وإن الأزهر قوامه بالبركة التي جرى عليها أربابه من قبل، فكل تغيير
فيه لا يكون إلا إفسادًا له) .
فلينظر القائلون بأن إعادة مجد الإسلام تكون بنشر الفنون العصرية في الأمة
الإسلامية إلى أوروبا التي يرومون أن يقلدوها في نهايتها، وهم في بدايتهم، هل
تسنى لها الأخذ بهذه الفنون إلا بعد الإصلاح الديني وإزالة تلك العقبات التي كانت تعد
العلم والصناعات كفرًا وتضطهد المشتغلين بهما أشد الاضطهاد.
أكرر القول بأن الإصلاح الديني هو المطلوب قبل كل شيء، ومع كل شيء،
ولدينا مقالة في ذلك من قلم أعلم حكماء الأمة في هذا العصر ننشرها في العدد الآتي
إن شاء الله تعالى [1] .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشرت في أول العدد 41 المؤرخ في 17 شعبان 1316 و31 ديسمبر 1898.
(**) بل وجد من يساعده على التخريب، والهادمون وإن قلوا كثيرون.
(***) هذا هو تفسير قولنا: من الكماليات، ولم نعنِ بالكماليات ما يقابل الضروريات والحاجيات، بل عنينا أن هذا مما يكون للأمة إذا ارتقت في معارج الكمال الاجتماعي فهو غاية لا بداية.
(1) أعدنا نشر هذه المقالة في ص 664 من المجلد التاسع فتطلب منه.(1/805)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عالم قريش
الإمام محمد بن إدريس الشافعي
(رضي الله تعالى عنه)
نذكر شيئًا من سيرة هذا الإمام الجليل بمناسبة احتفال العلماء في هذه الأيام بما
يسمونه: (مولد الإمام) وقد احتفلوا قبل ذلك بأيام احتفالاً غير هذا يسمونه:
(الكنسة) وهو اجتماع يكنسون فيه الضريح ويقسمون الكناسة بينهم للتبرك بها،
والموالد في هذه الديار كثيرة جدًّا، تكاد تستغرق أيام السنة، ولذلك كان السيد عبد
الله نديم الكاتب المصري يقول: للإفرنج في كل عام كرنفال ولنا في كل يوم
كرنفال [*] ولا يتولى العلماء بأنفسهم الاحتفال في مولد منها إلا مولد الإمام الشافعي،
وإن كان لا يخلو منهم مولد من الموالد، وكأنهم لاحظوا أن هذا المولد لإمام من
أعظم أئمة العلم، فكان المناسب أن يتولى الاحتفال بمولده العلماء الذين من
صنفه، بخلاف سائر الموالد، فإنها للأولياء وشيوخ الطريق، والمناسب أن
يتولى شأنها أهل الطريق.
وقد ذكرنا في مقالات سابقة ما في هذه الموالد من البدع والأضاليل، فلا نعيد
ذلك بتفصيله، ولكننا ننقل من سيرة الإمام ما تعلم منه أن الذين ادعوا الاهتداء بهديه
أو حاولوا مرضاته أو مرضاة الله تعالى باحتفالهم بمولده، لم يصيبوا الغرض. أو
نقول كما قال الإمام حجة الإسلام الغزالي عند تراجم الائمة المجتهدين -: (ما تعلم
به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم، وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة. وأن ما
ذكرناه ليس طعنًا فيهم، بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلاً مذاهبهم، وهو
مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم) .
واذا كان هذا قول حجة الإسلام في الفقهاء منذ ثمانية قرون، فماذا عسانا نقول
الآن، ذكر الغزالي أن كل واحد من الأئمة المجتهدين كان عابدًا وزاهدًا وعالمًا بعلوم
الآخرة، وفقيهًا في مصالح الخلق في الدنيا، ومريدًا بفقهه وجه الله تعالى، قال:
فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي:
التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه؛ لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة، وهذه
الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة إن أريد بها الآخرة، قل صلاحها للدنيا،
فشمرو لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة وهيهات؛ لا تقاس الملائكة بالحدادين
اهـ.
قلت: وهذه الخامسة قد فقدت أيضًا، إذ لا يكاد يوجد اليوم فقيه في مصالح
الخلق قادر على الإتيان بتفاريع في الفقه على حسبها. بل يكاد يكون من خواص
فقهاء هذا العصر عدم معرفة شيء من أحوال الزمان ومصالح الناس فيه، ومن
المقرر عند الحنفية حملة المذهب المعمول به في الجملة عند الحكام أنه لا يجوز
لأحد في مثل هذا العصر أن يستنبط حكمًا من الأحكام، بل ولا أن يصححه، ومن
أقدم على ذلك لا يقبل استنباطه ولا تصحيحه، وشيخ الإسلام في دار الخلافة لا
يأذن لمفتٍ أن يفتي من مجلة الأحكام العدلية الموافقة الحالة العصر، وإن صدر أمر
الإمام بالعمل بها؛ لأن فيها ما هو ضعيف عند الفقهاء الذين يفتى بقولهم بحسب
رسم المفتي المتبع عندهم، وإن كان موافقًا لما هو الصحيح عند غير أولئك الفقهاء
من أئمة العلم. فماذا يقول الإمام الغزالي في هؤلاء الفقهاء، وأين هم من تعريف
بعض القدماء للفقيه بأنه: (المقبل على شأنه البصير بأحوال زمانه) وقد أطلنا في
هذه المقدمة، فاستمع لما نقصه عليك من الترجمة.
كان الإمام عليه الرضوان من أعظم أنصار السنة وخذال البدعة، والعلماء
بدين الله تعالى، الواقفين على أسرار كتابه العظيم، وكلام رسوله الكريم. محافظًا
أشد المحافظة على حفظ الأوقات أن تصيع في غير ما ينفعه وينفع الناس، بعيدًا عن
اللغو في القول، بمعزل عن العبث في العمل، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: ثلث
للعلم، وثلث للعبادة، وثلث للنوم. فثلث العلم للناس، وثلث العبادة لآخرته، وثلث
النوم لنفسه، ولكل حق يجب أداؤه، وهذه القسمة أفضل من قيام الليل كله؛ لأن
النوم لابد منه في حفظ الحياة، وقد جعل الله الليل سكنًا، وفي حديث البخاري (قم
ونم) وهذا من الجلي الذي لا يحتاج لزيادة البيان، وأعظم خدمة خدم بها الشريعة
المطهرة: وضعه لقواعد أصول الفقه، التي هدى بها العلماء إلى كيفية استنباط
الأحكام من الكتاب والسنة على وجه السداد، وسهل على المشتغلين بالفقه الاجتهاد.
ومن محافظته على السنة ووقوفه مع نصوصها ما تواتر عنه من أن كان يقول:
(إذا صح الحديث فهو مذهبي) وأنه كان يأمر أن يضرب بكلامه عرض الحائط إذا
خالف الحديث، وقال في الرسالة: (وهي أول ما كتب في علم الأصول) أخبرني
أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن المقبري عن
أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: (من قُتل له قتيل
فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القَوَد) ، قال أبو حنيفة: قلت
لابن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحارث، فضرب صدري وصاح صياحًا كثيرًا ونال
منى وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ ! نعم آخذ
به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه، وإن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا صلى
الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه،
فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت
حتى تمنيت أن يسكت.
وكان يعظم النبي (عليه أفضل الصلاة والسلام) عند ذكره بمثل قوله: فداه
أبي وأمي، وبصلوات بليغة لم يلهمها أحد من قبله، وقال يصف هداية القرآن في
الرسالة بعد جملة طويلة في الصلاة المشار إليها محفوفة ببليغ الثناء:
(وأنزل عليه كتابه فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ
مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) فنقلهم من الكفر والعمى
إلى الضياء والهدى، وبين فيه ما أحل مَنًّا بالتوسعة على خلقه، وما حرم لما هو
أعلم به من حظهم في الكف منه في الآخرة والأولى، وابتلى طاعتهم بأن تعبدهم
بقول وعمل وإمساك عن محارم حماهموها، وأثابهم على طاعته من الخلود في
جنته والنجاة من نقمته، ما عظمت به نعمته جل ثناؤه، وأعلمهم ما أوجب على أهل
معصيته، من خلاف ما أوجب لأهل طاعته، ووعظهم بالإخبار عمن كان قبلهم
ممن كان أكثر منهم أموالاً وأولادًا، وأطول أعمارًا وأحمد آثارًا، فاستمتعوا بخلاقهم
في حياة دنياهم، فآزفتهم [**] عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم، ونزلت بهم
عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان [1] ويتفهموا بجلية التبيان،
ويتنبهوا قبل رين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة، حين لا يعتب مذنب ولا تؤخذ
فدية، وتجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها
وبينه أمدًا بعيدًا. فكل ما أنزل الله في كتابه جل ثناؤه رحمة وحجة علمه من علمه
وجهله من جهله، لا يعلم من جهله ولا يجهل من علمه.
والناس في العلم طبقات موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العمل به، فحق
على طبلة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل
عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصًّا واستنباطًا، والرغبة
إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خيرًا إلا بعونه، فإن من أدرك علم أحكام
الله في كتابه نصًّا واستدلالاً ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه فاز بالفضيلة في
دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين
موضع الإمامة، فنسأل الله المبتدي لنا بنعمه قبل استحقاقها، أن يديمها علينا مع
تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب به من شكره بها، الجاعلنا في خير أمة أخرجت
للناس، وأن يرزقنا فهمًا في كتابه ثم في سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا
حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده.
(لها بقية) ... ... ... ... ...
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) الكرنفال: عيد يتنكرون فيه بملابس السخرية، فيلعبون ويمجنون ولا يُعرفون.
(**) آزفتهم: أعجلتهم.
(1) يعني مستقبل الوقت وما يتجدد منه.(1/812)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(الشعر في شكوى الزمان)
كتب الأدب العربية ملأى من شكوى الزمان، فما من أديب ولا عالم قال
الشعر إلا وشكا من سوء حظه، وعتب على الزمان، وأنحى على الدهر بالذم على
رفعه قدر الجهلاء وغمصه حقوق الفضلاء، منهم المكثر في ذلك كأبي العلاء
المعري، ومنهم المقلّ.
ومن المتبرمين من كان لهم عند الأمراء والعظماء القدر الرفيع والجاه المنيع،
لكنهم كانوا يرونه دون ما يستحقون، وقد ذكر حكيم زمانه العلامة ابن خلدون في
مقدمته: أن رجال العلم والدين قلما تكون عندهم الثروة. وهذه القاعدة قد تغيرت،
أو هي تتغير تدريجًا بأساليب العمران الجديدة المبنية على العلم ورفعة قدر العلماء
والأدباء، فقد كان لفيكتور هيكو شاعر الفرنسيس من الحرمة عند قومه ما لم يكن
للملوك أو الإمبراطورين، وليس من غرضنا في هذه النبذة الخوض في هذه المسألة
من الجهة العلمية الفلسفية، فنتوسع في البيان ونأتي بالشواهد عليه، وإنما أوردناه
في باب الأدبيات، فنأتي عليه ببعض الشواهد الأدبية، قال بعضهم:
عتبت على الدنيا لرفعة جاهل ... وخفض لذي علم فقالت خذ العذرا
بنو الجهل أبنائي لهذا رفعتهم ... وأهل التقى أبناء ضرتي الأخرى
وقال الإمام تقي الدين بن دقيق العيد:
أهل المناصب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم
قد أنزلونا كأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم
فما لهم في توقي ضرنا نظر ... ولا لهم في ترقي قدرنا همم
فليتنا لو قدرنا أن نعرفهم ... مقدارهم عندنا أولو دروه هم
لهم مُريحان من جهل وفرط غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعدم
وقد ناقضه الفتح الثقفي المنسوب للزندقة فقال وأجاد:
إن المراتب في الدنيا ورفعتها ... عند الذي نال علمًا ليس عندهم
لا شك أن لنا قدرًا رأوه وما ... لقدرهم عندنا قدر ولا لهم
هم الوحوش ونحن الأنس حكمتنا ... تقودهم حيثما شئنا وهم نعم
وليس شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وجدانهم عدم
لنا المُريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهل والحشم
ولعمري إن ابن دقيق العيد كان في عصره محل التعظيم والتمجيد؛ لأن
عصره كانت الأمة فيه حية، تقدر الفضل قدره بالنسبة لما هي فيه الآن، وله من
الشعر ما يومي إلى أن العلماء كانوا معظمين ومكرمين، فقد قال في التوجيه
باصطلاحات الأصول:
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يرتضي
فقلت لما لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي
***
(الجمعية الخلدونية في تونس)
طالما نوهنا بأن الجمعيات المالية هي التي تنفخ في الأمم روح التقدم والعمران
ولا نُسر بشيء نكتب عنه في جريدتنا كما نسر بذكر الجمعيات الإسلامية الناجحة.
وقد حملت إلينا جريدة الحاضرة التونسية الغراء خبر الاجتماع السنوي الذي عقدته
الجمعية الخلدونية في تونس فلخصنا من تقرير رئيس الجمعية صاحب الفضائل
والفواضل السيد البشير صفر عيونه.
بين الرئيس أولاً أن الجمعية دائبة على العمل بلا افتخار ولا نفخ في
المزمار، لأن الغاية أجل وأسمى من سفاسف التباهي وحب الاشتهار، وأن المقصد
منها بث المعارف التي عليها مدار العمران. (قال) : سيما وقد صيرتنا صروف
الأحوال أحوج إليها من الظمآن إلى الماء الزلال، ثم السير بالتعليم في منهاجه
القويم.
وتكلم عن المالية، فأبان أن أربعين ونيفًا من الأعضاء المشتركين تأخروا عن
تسديد معلوم اشتراكهم (يا للأسف والعار) قال: ولو زادت الموارد لاتسع النطاق
بنشر مجلة في الآفاق وإعانة بعض المبرزين من أبناء مدارسنا على مزاحمة غيرهم
في حلبة السباق، إذ هذا العصر كما تعلمون عصر صارت فيه قيمة العباد بحسب
الاستعداد، لا بمجد الآباء والأجداد.
ثم تكلم عن التعليم والمتعلمين بما نصه:
(التعليم) أما طريق التعليم فقد سارت فيه لجنتكم بفضل الله سيرًا حثيثًا،
وذلك أنها اعتبرت أولاً لزوم تسهيل المطالعة والمراجعة فأحدثت مكتبة احتوت على
نيف ومائتي مجلد كبير وصغير في فنون شتى، كالجغرافيا والحساب والهندسة
والجبر وحفظ الصحة وغيرها، وجميع هذه الكتب عربية العبارة سهلة المأخذ فانتفع
بها المعلمون والمتعلمون، ولا زالت هذه المكتبة قابلة للكمال والتحسين والمأمو ل
أن توجه نحوها عناية اللجنة القابلة.
ثم رأت لجنتكم أن التعليم أخذ في مفهومه وجود المعلم والمتعلم وأن الأول ربما
انفصم حبل استمراره على التدريس إذا لم يشد بوثاق الأجر العاجل، والثاني يوشك
أن ترتخي عزيمته إذا لم تعالج بمنشطات الخير الآجل، ولذلك طلبت من الحكومة
المحمية بواسطة جناب مدير العلوم والمعارف أن تؤجر المعلمين إذ لا تسمح بذلك
الآن مواردنا المالية، وأن تضع امتيازات للمتعلمين كي يجتنوا ثمرة إقبالهم على
الفنون العصرية، وقد أجابت الدولة هذين السؤالين فتكرمت من جهة بتخصيص
مرتبات وقتية للقائمين بالتعليم المستمر، ومن وجهة أخرى أصدرت أمرًا عليًا
تعلمون أيها السادة فحواه ومداره على ترشيح الجامعين بين العلوم العربية والفنون
النافعة وتقديمهم على من سواهم في كثير من الوظائف الإدارية وهي عناية من
الحكومة تستوجب الثناء الجميل والشكر الجزيل، وبذلك أصبح اليوم هيكل جمعيتكم
في قرار مكين إذ أقيمت دعائمه على أساس متين.
(المتعلمون) ابتدأت دروس الخلدونية أثناء السنة الفارطة وأوائل السنة الجارية
وعدد الطلبة زهيد، ولا عجب فقد كان مشروعنا ككل جديد موضوعًا للقال والقيل،
وذهبت الأفكار في شأنه مذاهب بين مستحسن ومنتقد فلا غرو أن كان الطلبة يقدمون
رجلاً ويؤخرون أخرى في وقت كانت الخلدونية فيه مرمى السهام، من بعض ذوي
الأفهام، مع أننا بحمد الله لسنا ممن ينحرف مع الإلحاد، أو يسعى في الأرض
بالفساد، وأي ذنب لنا في هذا الباب يا أولي الألباب، سوى غيرة مِلّية بعثتنا على
السعي بقدر الاستطاعة في بث فنون كانت ولم تزل محط الرحال لفحول الرجال،
في كثير من الأجيال، إذ عليها مدار العمران، وما بعد العيان بيان، فإن كنا في
ذلك آثمين، وعن منهج الإصابة ضالين فقد أثم من قبلنا ذوو همم ما نحن منهم إلا
كقطرة من يم، أثم من قبلنا الخليفة المأمون، ناشر لواء هذه الفنون، وأثم ابن سينا
والفارابي وابن رشد وابن الهيثم وابن طفيل وغيرهم من الجهابذة الأعلام، الذين
وسعوا دائرة هذه العلوم في الإسلام، فأكسبوا أمتهم فخرًا بين الأقوام، ومجدًا لم
يزل حديثه موضوع الكلام لدى الخاص والعام، فإن كان هذا الذنب ونحن في البداية،
فنعم الذنب ونعمت الغواية، نسأل الله أن يمدنا فيها بالعناية حتى النهاية، لكن لا
لوم ولا عتاب، فقد انتقد المنتقدون قبل أن يتبينوا، وهاهم اليوم أدركوا كنه
المقصود، فصاروا - جزاهم الله خيرًا - من المساعدين بعد أن كانوا من المثبطين،
ولذلك لم تفتح دروسنا منذ شهرين إلا وتقاطرت عليها أفواج الطلبة من كل حدب،
وفيهم من أحرز رتبة التطويع بالجامع الأعظم دام عمرانه، وكثير من طلبة المطولات
وفيهم من هم دون ذلك ولجميعهم أفكار وقَّادة وقابلية كبرى للتحصيل.
وهنا لابد من الاعتراف بأن الفضل في ذلك راجع إلى السادة العلماء الأعلام،
هداة الأنام، إذ عن إشارتهم حققت الآمال بهذا الإقبال.
أما عدد الطلبة المثابرين اليوم على دروس الخلدونية فمعدله مائة وخمسون،
جعلناهم ثلاثة أقسام، مع المحافظة على الشرط الذي التزمناه من عدم التداخل في
الأوقات بين ساعات التعليم هنا وساعات التدريس بالجامع الأعظم، فجاء التقسيم
على الصورة الآتية:
القسم الأول: معدل تلامذته عشرة، ودروسه من الساعة الخامسة إلى الساعة
السابعة مساء بالتعديل العربي، وهذا القسم مؤلف من تلامذة الخلدونية من حين
نشأتها فكانوا بذلك على درجة حسنة في التحصيل إذ قد أتموا فن الجغرافية السياسية
والطبيعية لأقسام الأرض الخمسة، مع تفصيل الجغرافية التونسية والإلمام بجانب
مهم من الجغرافية التجارية والتاريخية، كما درسوا أيضًا دراسة إتقان فن الحساب
بجميع عملياته صحيحًا وكسرًا، وجميع قواعده المحتاج إليها في المعاملات،
وحساب المكاييل والمقاييس الجاري بها العمل في هذا القطر.
ودرسوا ما به الحاجة من المساحة والهندسة العملية، وهم الآن بصدد تعلم
الهندسة النظرية بحيث يمكن أن يقال: إن هذا القسم أحرز المطلوب (إلا في
التاريخ) للتحصيل على شهادة الترشيح غير أن إقبال تلامذته على العلوم النافعة
سما بهم إلى حب الترقي والتقدم، ولذلك جُعل لهم درس في الجبر وعن قريب إن
شاء الله توضع لهم دروس في التاريخ العام وفي قياس المثلثات وما يلزم لتعاطي
الرياضيات من اللوغر ثم استخراج الجذور.
القسم الثاني: من مُضي ساعة إلى ساعتين بعد الزوال، ومعدل تلامذته مائة
وعشرون وهؤلاء باشروا الدروس منذ شهرين فأتموا جغرافية أوروبا وآسيا
وإفريقيا، وهم الآن بصدد الجغرافية التفصيلية للبلاد التونسية، ودرسوا من الحساب
عملياته الأربع للأعداد الصحيحة والكسرية: الأعشارية والاعتيادية، مع ما يتبعها
من التمرينات وحل المسائل الحسابية، وبعد قليل يشرعون في الهندسة العملية ثم
التاريخ.
القسم الثالث: من الساعة السابعة إلى الثامنة، ومعدل تلامذته أربعون وهي
كالقسم الثاني في التحصيل.
هذه هي الدروس الرسمية وما عداها جعلنا مسامرة طيبة في كل أسبوع
ودرسين أسبوعين في اللغة الفرنسوية ودرسين للترجمة.
وبما تقرر يظهر لسيادتكم أن لجنتكم لم تألُ جهدًا في ترتيب الدروس على وجه
كافل إن شاء الله للحصول على المقصود من بث مبادئ المعارف النافعة تدريجيًّا
بين نجباء هذا القطر وعلى الله الاتكال في بلوغ الآمال.
وقبل الختام أستسمح سيادتكم في إسداء عاطر الثناء لإخواني أعضاء اللجنة
الذين شاركوا فيما شرحناه لكم من الأعمال وأخص منهم بالذكر الفاضلين الأكملين:
سيدي العربي العنابي كاتب اللجنة، وسيدي عبد العزيز الحيوني حافظ ماليتها على ما
أظهراه من الحزم والاجتهاد واختلاس نفيس الأوقات للقيام بما عُهد إليهما من
الكتابات والحسابات، وفقنا الله جميعًا إلى خدمة الأوطان بما تقتضيه حالة الزمان
اهـ.
ثم تلا الرئيس أمين صندوق الجمعية الفاضل السيد عبد العزيز الحيوني فبين
دخل الجمعية في هذا العام وهو بحساب الفرنك 3961.16 وبين نفقاتها وهي بحساب
الفرنك أيضًا 1498.14، وقد فصل ذلك تفصيلاً.
فنسأل الله تعالى أن ينجح مساعي هذه الجمعية المفيدة، ويجزي أعضاءها
الكرام وكل من يساعدها ويعضدها أفضل الجزاء بمنّه وكرمه.
***
(الاحتفال السنوي لإعانة التلامذة الفقراء)
ذكرت جريدة الحاضرة الغراء خبر الاحتفال السنوي لإعانة التلامذة الفقراء في
المكاتب، وأنه كان في هذه السنة على أحسن حال إذ أقبل على المشاركة فيه سمو
الباي المعظم وولي عهده الأكرم وسائر آل بيته الكرام، وكذلك أولو الحل والعقد من
الفرنساويين والتونسيين. وذكرت أن حضرة الأمير سيدي محمد الناصر باي تفضل
فوق الإعانة المالية بإعارة آلة ناطقة (فونغراف) لتفكهة من حضر الاحتفال من
الذين لا يعرفون هذا المخترع العجيب، وقد ابتهج القوم لحسن منطق الآلة بالألحان
والأغاني والأناشيد التي من ألطفها أبيات لحضرة العلامة الفاضل سيدي سالم بو
حاجب نظمها عن لسان حال الآلة فأنشدتها الآلة بمقالها، مطلعها:
لكم يا سادتي أهدي سلامي ... وأبدي سر صنع ذي اكتتام
فهل قبلي رأيتم أو سمعتم ... جمادًا يستميلك بالكلام
يشافهكم بألفاظ فصاح ... ويسليكم بنثر أو نظام
ومنها:
فهذا كله رمز لحالي ... ومنه غدا المعمى ذا انفهام
ولا تتعجبوا فالكون تبدو ... بدائعه على طول الدوام
وأصل جميعها العرفان كم قد ... تيقظ أهله غب المنام
وكم نفعوا العباد بما أبانوا ... وما أدراك ما نفع الأنام
وكم قالوا وقلتم ذا محال ... وبعد الكشف صرتم للوئام
فأهل العلم أهل أن يقولوا ... لمن يعزو لهم طيش السهام
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذامِ
__________(1/816)
24 شعبان - 1316هـ
يناير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر [*]
لولا أن اليأس من رَوْح الله مقصور في كتاب الله على القوم الكافرين لقلنا:
كيف يرجى إصلاح حال أمة يعتقد علماؤها أن الإصلاح محال، وأن العمل على
إرجاع مجد الدين عبث وضلال، لأن الزمان فسد والساعة قربت وظهر في الناس
مصداق الأحاديث بغوايتهم وتركهم للدين، ولا يوجد أحاديث أخرى تدل على أنهم
يرجعون إلى هديه. وأن العلوم العصرية حتى الحساب والتاريخ مضلة للأمة صادَّة
لهم عن سبيل الحق مسجلة عليهم الحرمان من السعادة. وأن السعادتين الدنيوية
والأخروية اللتين حث عليهما الإسلام لا تُنالان إلا بدراسة هذه الكتب المطولة في
النحو والفقه، وإن كان أكثرها عقيمًا لا يُصلِح لسانًا ولا عملاً، ولا يقي الآخذ به
زيغًا ولا زللاً، وأن ما سوى ذلك من علوم التفسير والحديث والتهذيب لا ضرورة
تدعو إليها، بل لا حاجة لتعلمها، إذ تقليد الفقهاء هو المحتَّم على كل فرد من أفراد
الأمة، ومن اعتقد صحة حديث نبوي مخالف لقول فقهاء مذهبه وقال: آخذ بالحديث
دون قول الفقيه، فذلك زنديق (نعوذ بالله تعالى) .
وهل يوجد في علماء المسلمين من هبط بدينه وعقله إلى هذه الاعتقادات
والآراء؟ نعم، وإننا لنخجل من كتابة ذلك عنهم ونشره بين الناس، ولكن
الضرورة تلجئنا إلى نشره؛ لأنه أدوأ أمراضنا ومن كتم داءه قتله.
اجتمع بعض الناس بشيخ من أكابر علماء الأزهر وتذاكرا فيما لهجت به
الجرائد من الإصلاح، وأن تعليم الأزهر لا يرجى منه خير للملة كما جاء في بعض
الجرائد الهندية، ونقلته الجرائد المصرية (المؤيد والمنار) فقال (الإنسان) : لا
حاجة إلى تكليف كل طالب للعلم أن يدرس جميع مطولات كتب الفقه، لا سيما ما لا
يتعلق به عمل، كفقه المالكية والشافعية ما عدا العبادات وما في معناها، فمن
الإصلاح في التعليم أن يخصص بعض فقهاء المالكية مثلاً لقراءة المطولات لمن
يرغب في ذلك، وتتوجه همته إليه من الطلاب، إذ هذا الفريق هو الذي يرجى منه
حفظ المذهب وإتقانه، ويقتصر باقي الطلاب على درس الكتب المختصرة أو
المتوسطة بحيث يعرفون الواجب عليهم من ذلك، ويعرفون أساليب الفن، حتى إذا
ما دعتهم الحاجة إلى التوسع فيه أمكنهم ما أخذوه من تحصيل ما لم يأخذوا، وأن
يصرف هؤلاء الوقت الذي كانوا يصرفونه في قراءة مطولات الفقه إلى علم القرآن
والحديث وأخلاق الدين التي هي الفقه الحقيقي عند الله ورسوله؛ لأنها هي التي
يكون بها الوعظ والإرشاد والبشارة والإنذار، قال عز وجل: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) .
قال حجة الإسلام الغزالي في هذا المقام ما معناه: ومعلوم أن علم الإجارة
والسَّلَم ونحوه مما يسمونه فقهًا لا يحصل به الإنذار، ولا يرجى به الحذر من أسباب
الشقاء، فليس مما عناه القرآن.
فأجاب (الشيخُ) هذا (الإنسانَ) بما محصله: أن علم الحديث لا حاجة إليه
في هذه العصور ألبتة، أما من حيث الرواية فقد فرغ منه من قرون، وأما من حيث
الدراية فلا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، بل الواجب الأخذ بكلام الفقهاء، ومن
ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف له فهو زنديق (كبرت كلمة هو قائلها)
فتعجب الإنسان وقال: أنا أرى أن الذي يترك كلام صاحب الشريعة المعصوم الذي
يعتقد صحته وأنه قاله ويأخذ بكلام فقيه يجوز عليه ترك الحق عمدًا وخطأ - هو
الزنديق، فقال الشيخ صاحب الكلمة: يجوز أن يكون الحديث الذي يأخذ به ضعيفًا
أو موضوعًا، فقال الإنسان: إنما كلامنا في حديث يعتقد أن النبي صلى الله عليه
وسلم قاله، ولا أقدر أن أفهم معنى إسلام رجل ينبذ ما يعتقد أن نبيه قاله لقول أي
إنسان من الأناسيّ.
ومن الغريب أن كثيرًا من الشيوخ يعتقدون صحة قول صاحب هذه الكلمة
الأثيمة وسنبين في الكلام على تقصير العلماء أن هذه الكلمة لبعض المتفقهة الذين لا
يؤخذ بقولهم في الترجيح والتصحيح فضلاً عن الاستنباط أو التشريع، ولم تنقل عن
أحد من المجتهدين (حاشاهم) بل صح عنهم الأمر بالأخذ بالحديث وضرب
عرض الحائط بكلامهم إذا هو خالفه، كما رأيت في العدد الماضي عن الإمام
الشافعي. وكما يقولون تلك الكلمة في شأن الحديث يقولونها في شأن القرآن أيضًا،
وهي أعظم ضلالة وقع فيها أصحاب العمائم الإسلامية، وقد اتبعوا فيها سنن من
قبلهم.
فقد كان الكتاب المقدس عند الأمم النصرانية مقصورًا على رجال الدين، لا
يجوز لأحد أن يتناوله إلا على سبيل التبرك، ومن قال فهمت منه كذا أو أعمل بما
أفهم منه، وإن خالف كلام قسوس الكنيسة وأحبارهم - حكموا بمروقه من الدين،
وهكذا كان شأن اليهود من قبل أيضًا. ومع هذا فإن هؤلاء الشيوخ يفسرون حديث:
(لتتبعن سَنَن مَن قبلكم) إلخ، بما يشتهون، فإذا خاضوا في غيبة الحكام وأبناء
الدنيا قالوا: واأسفاه قد ضاع الدين، وصدق فينا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم
فاتبعنا سنن من قبلنا، فترك حكامنا العمائم والجبب والفرجيات والبوابيج الصفر
ولبسوا الطربوش والبنطلون والجزمة إلخ إلخ، وأكلوا على الموائد المرفوعة بالآنية
الإفرنجية ... إلخ إلخ، فكأن الدين إنما أنزل لبيان الأكل واللباس، ولا يقوم إلا
بذلك، وفاتهم أن النبي عليه السلام لبس الجبة الرومية والطيالسة الكسروية ولكنه لم
يوسع أردانه ويجر أذياله كما يفعلون.
وقد جمح بنا القلم فلنعد إلى المحاورة.
قال (الإنسان) : إذا سلمنا أن الأخذ بكلام الفقهاء متعين وإن خالف الحديث
الصحيح، فهل يفيد ذلك أن الحديث لا فائدة فيه مطلقًا؟ أليست آداب الدين وفضائله
مبثوثة في الأحاديث النبوية؟ ألا يكون المتفقه الواقف على الحديث على بينة من
مذهبه؟ ألا ينبغي له إذا رأى فقهاء مذهبه قد تركوا الأخذ بحديث أن يبحث عن
السبب في ذلك ليطمئن قلبه لقولهم؟ ومن هنا انتقلا إلى البحث في ترقية الأمة
الإسلامية.
فقال الإنسان المشار إليه: إن الدين انتشر بالتعليم والإرشاد، فإذا صلح أمر
التعليم والإرشاد يصلح حال المسلمين ويعود للدين شأنه.
فخالفه الشيخ في كل ما ذهب إليه غير قيام الدين بالدعوة والتعليم والإرشاد
قائلاً: إن الحكومة هي ترقي الأمة وتقويها وبدونها لا يكون في الأمة ترقٍ أو
إصلاح.
فرد عليه بنحو ما كتبناه في إبطال هذا الزعم غير مرة.
ثم قال له: نحن نتكلم في إصلاح شؤون الأمة المِلّية لا الإدارية والسياسية،
فقال الشيخ بعد غض النظر عن كون هذا يُطلب من الحكام أيضًا، أقول: إن الذي
حل بالمسلمين هو مصداق الأخبار الصحيحة، ولا يمكن زواله فهو دليل قرب
الساعة وانقضاء عمر الدنيا (هذا غاية استفادته من علم الحديث، فإن كان كل من
يقرأ الحديث في الأزهر يقع في القنوط واليأس من إصلاح الأمة فنحن على رأيه في
عدم لزومه أو في لزوم عدمه) وأورد عليه حديث: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما
بدأ) .
فقال له الإنسان: إن هذا حجة لي فأنا أقول: إن الإسلام غريب ويعود كما بدأ
بالدعوة والتعليم والإرشاد، فيجب على المسلمين عامة والعلماء خاصة أن يعملوا
على إعادته.
هذا بعض من كل، أوردناه على سبيل الاعتبار بحالتنا والتصديق لما كتبه
العلامة شبلي النعماني مدرس العلوم العربية في كلية عليكره في الهند من أن تعليم
الأزهر لا يرجى منه خير للإسلام إذا بقي على حاله. ولكن لنا الأمل بعلمائه العقلاء
أن يتبصروا ويتدبروا، ويمعن النظر من لم يقف منهم على أحوال الزمان بأقوال من
وقف واختبر ويتعاونوا جميعًا على إصلاح التعليم، ومتى أنصفوا في المذاكرة
تنجلي لهم شبههم التي يحتجون بها على اليأس من الإصلاح، وأن الخير في هذه
الأمة إلى يوم القيامة، وقد ورد أنها كالمطر لا يدرى الخير في أوله أو في آخره،
وسنعود إلى هذه المواضيع إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.
__________
(*) هي المقالة الثانية من العدد الثاني والأربعين الصادر في يوم السبت 24 شعبان سنة 1396 الموافق 26 ك 2 (ديسمبر) سنة 1899 وحذفنا المقالة الأولى لأننا أعدنا نشرها في المجلد التاسع (ص 664 م 9) كما تقدم.(1/822)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتشار الإسلام
جاء في جريدة (الحاضرة) الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:
ظهر للبعثات الدينية التي ذهبت حديثًا إلى مجاهل آسيا وإفريقيا على أثر
دخول دول أوروبا إليهما أن الإسلام منشور في كثير من البلدان، وأن أهله على
غاية الرقة واللطف بخلاف بقية الطوائف من البربر والمجوس والوثنيين وغيرهم،
ممن لا يدينون بدين.
والمسلم هناك ممتاز عن غيره بالفضائل والكمالات الإنسانية وبحسن البزة
والنظافة، بخلاف بقية الأهالي الذين لا يعرفون شيئًا، والطهارة عندهم مفقودة لا
وجود لها.
ولا أحد يعلم كيف كان دخول الإسلام إلى مجاهل تلك البلاد، ولكن يُظن أنه
كان من نتائج أسفار المسلمين وتوغلهم في داخلية البلاد بقصد الكسب والاتجار،
فلما آنس الأهالي منهم الأمانة والوفاء اقتدوا بهم، فتناسلوا وتكاثروا ونما بينهم الدين
الإسلامي، فأنار أبصارهم وبصائرهم وأخرجهم من حطة البهيمية إلى خطة
الإسلامية.
قال المسيو ريمون الرحالة الشهير إنه أثناء طوافه في مجاهل إفريقيا لم يكن
ليأمن على نفسه وعلى رجاله إلا عند المسلمين، فكان يصادف منهم أنسًا ولطفًا
وحسن ضيافة، بخلاف جيرانهم من الناس الذين لا دين لهم، فكثيرًا ما غدروا
به وبرجاله، حتى كان يضطر إلى استعمال الأسلحة النارية دفاعًا عنه وعن
رجاله.
وقد كتب رسالة طويلة في الإسلام والمسلمين مدحهم بها وفضلهم على سائر
الأمم والشعوب وقال: إن نور الإسلام انتشر كثيرًا في جهات إفريقيا وآسيا، وكان
انتشاره طبيعيًّا؛ لأن المسلمين كانوا قدوة في أعمالهم الحسنة لسائر جيرانهم فلحقوا
بهم وحذوا حذوهم، وبالتدريج عرفوا ما الإسلام فاعتنقوه وصاروا مسلمين.
الإسلام مظهر الاحترام من جميع الشعوب، ولهذا أخذ يتوسع نطاقه وينتشر
نوره في جميع أطراف الدنيا، ولا محل هنا للكلام عما هو عليه في الهند والصين
واليابان وغيرها؛ لأن أمره صار معروفًا لدى الخاصة والعامة، وإنما الذي يستحق
الذكر ما ظهر للرحالات والطوافات من أن المسلمين كثيرون وهم يزيدون على
ثلاثمائة مليون، فإن الفرنسويين والبلجيكيين وجدوا عددًا وفيرًا من المسلمين في
البلاد التي فتحوها حديثًا، ووجد الألمانيون والإنكليز مثل ذلك أيضًا.
وفي بعض الروايات أنهم استخدموا كثيرين من المسلمين في معسكراتهم
فصادفوا منهم غاية الأمانة وحسن الوفاء إلى غير ذلك.
ويُظن أن أهل الجغرافية متى وقفوا على مجاهل البلاد وعلموا ما فيها من
المسلمين صححوا جغرافياتهم، وعلموا أنه يوجد في الأرض من أهل الإسلام ما
يزيد على 400 مليون من النفوس، والله أعلم.
__________(1/826)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب اللورد كرومر
ألقى اللورد كرومر في 4 يناير خطابًا في أم درمان على جمهور من عُمد
السودان ومشايخه وأعيانه، حضره سعادة السردار وبعض الإنكليز وعدَ فيه
السودانيين بأن حاكمهم من قِبل الحكومة الإنكليزية والحكومة الخديوية هو السردار؛
لأن جلالة الملكة وسمو الخديوي يثقان به، وأنه يكون مستقلاًّ في حكمه قال: فلا
تساس بلادكم من مدينة القاهرة ولا من مدينة لندن، بل إن الذي يسوسكم هو
السردار، ومنه تطلبون العدالة وحسن الأحكام، وأنا على يقين من أن أملكم لا
يخيب، ثم بين لهم أن جلالة الملكة ورعاياها متعلقون بدينهم ويعلمون كيف
يحترمون دين غيرهم، وأن المسلمين الذين تحكمهم، وهم أكثر من كل ما يحكمه
غيرها من الملوك، يعيشون في الراحة والاطمئنان تحت حكمها الهنيء، وكذلك
يكون السودان (فلا يتعرض لكم أحد في دينكم على الإطلاق) فقاطعه بعض
المشايخ سائلاً: هل يتضمن هذا الوعد الجري على الشريعة؟ فقال اللورد: (نعم)
ثم وعدهم بالعدالة والانتظام ومحو آثار العسف المصري القديم، وأنه لا يؤخذ منهم
إلا الضرائب التي تضرب عليهم، وأن الموظفين من الإنكليز ستقيم في كل مركز
لإجراء الأحكام طبق هذه المبادئ.
خطب اللورد بالإنكليزية، وترجم خطابه سكرتيره حرفيًّا.
__________(1/827)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وميض لمع في ظلمات بدع
الحمد لله قد تنبه المسلمون من جميع الطبقات إلى الإصلاح، فهم يعرجون في
مراقيه تدريجًا، فكما نسف بعض الفضلاء بدعًا كثيرة من المآتم قام بعض شيوخ
الطريق يمحو أضاليل ومنكرات من الموالد، وعسى أن يستمر السير ويقلد الناس
بعضهم بعضًا في طريق الخير.
كتبنا غير مرة في منكرات الاجتماعات والاحتفالات التي تقام في الديار
المصرية للأموات من الصالحين ورجال الطريق، ويسمونها الموالد، وقد توهم
مرضى اليأس من الإصلاح أن هذه الموبقات قد رسخت ولا أمل بالرجوع عن شيء
منها، وقد فندنا رأيهم الفاسد بالبرهان، وكذبه أهل الإصلاح بالفعل، ففي الأسبوع
الماضي احتُفل بمولد الولي الشهير سيدي دمرداش المحمدي (قُدس سره) فجاء
أهل الغواية إلى ضواحي المسجد الدمرداشي يضربون الخيام للبغايا والمومسات
وباعة الحشيش ونحوه من متلِفات العقول والأموال، فانتدب الأستاذ الكبير للطائفة
الدمرداشية الشيخ عبد الرحيم الدمرداش لتقويض خيامهم، وطردهم من ضواحي
المسجد، ولم يمكِّن أحدًا من المكث هناك.
وهذا أول مولد أقيم في الديار المصرية، ولم تقم فيه سوق مخصوصة للبغاة
وشرب الحشيش والأفيون والرقص والتهتك في الفحش الذي يسمونه: (المساخر)
وغير ذلك من الشعوذة والميسر (القمار) والتخنث، بل ومن الألاعيب المعتادة
كالأراجيح وخيمة الخيل والطبول والزمور، وقد انتهى المولد طاهرًا من هذه
الرذائل، وكانت ليلة أمس (الجمعة) موعد خروج الشيخ المومأ إليه ومريدي
الطريقة من خلواتهم، فاحتفل بذلك الاحتفال المعتاد، وحشر الناس لحضوره أفواجًا،
ومما امتاز به أهل هذه الطريقة على غيرهم: نظافة ملابسهم، فقد كانوا جميعًا
لابسي البياض، وعدم وجود الأغاني وآلات الطرب في ذكرهم. فما أجدر كافة
أهل الطريق بالاقتداء بهم في ذلك، وعسى أن يكون الأستاذ الفاضل الشيخ عبد
الرحيم قدوة لهم في تطهير الطريق من كل البدع، وتحريره على السنة السَّنية ولو
بالتدريج.
وهنا ننبه الذين يقيمون الموالد بأسماء شيوخهم وأجدادهم أن يجروا على سنن
المولد المحمدي الدمرداشي، فيبطلوا الفواحش والمنكرات، فإن لم يفعلوا فليأذنوا
بحرب من الله ورسوله، وليعلموا أن سهام التوبيخ تصيب صدورهم وقوارع التقريع
تقع على رءوسهم، لا سيما إذا كانوا من المنتسبين للعلم، والله يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم.
__________(1/828)
2 رمضان - 1316هـ
يناير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رمضان المبارك [*]
استهل هذا الشهر الشريف وثبت بالرؤية شرعًا أن أوله الجمعة (أمس)
فأصبح المسلمون صائمين، فأهلاً بشهر أنزل فيه القرآن، وهو أكبر نعمة من الله
على نوع الإنسان؛ لأنه صدق المرسلين، وزعزع أركان الوثنيين، ووضع أصول
الوحدة في الاعتقاد والاجتماع، ودعا إلى الحب والتأليف، وأسس أركان العدالة في
الأخلاق والآداب النفسية والعملية، والأحكام القضائية والمدنية، وساوى بين الناس
في الحقوق، وأعتقهم من رق العبودية لغير الله، وتمم مكارم الأخلاق، وأرشد إلى
الكمالات الروحية، مع عدم إهمال الحقوق الجدية، بل حث على طلب سعادة
الدارين معًا، وخاطب العقل وجعله مشرق أنوار الدين، ونبه الناس إلى أن للكون
سننًا ثابتة لا تتبدل وهداهم إلى مراعاتها والاعتبار بها ليصلوا إلى كمالهم النوعي.
فأجدر بالمسلمين أن يجعلوا القرآن في هذا الشهر سميرهم ومرشدهم وأميرهم،
وأن يضموا إلى قراءته وإقرائه التدبر لآياته والمذاكرة في معانيه الشريفة
والاعتبار بحكمه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لئلا يكون حجة عليهم، فما
أقبح من يَقرأ أو يُقرأ عليه مثل قوله تعالى {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} (آل عمران: 61) وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105) وهو من الكاذبين، يسمع المقروء عليه
وهو يكذب ويفرغ القارئ من قراءته فيخوض في الكذب مع الخائضين فيكون قد
لعن نفسه.
أخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم قال: (اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه) وأخرجه أيضًا أبو
نعيم والديلمي وله شواهد عند غيرهم. وأخرج الطبراني أيضًا من حديث أنس وكذا
أبو نعيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن
منهم إلى عبدة الأوثان، فيقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم) وقال الحسن
البصري رحمه الله تعالى للقراء: إنكم قد اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل
جملاً فأنتم تركبونه وتقطعون به مراحل وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من
ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار. وقال ابن مسعود الصحابي
الجليل: (أُنزل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا دراسته عملاً، إن أحدكم لَيقرأ القرآن
من فاتحته إلى خاتمته، ما يُسقط منه حرفًا، وقد أسقط العمل به) وفي حديث ابن
عمر وأبي ذر جندب الغفاري رضي الله عنهما قالا: لقد عشنا دهرًا وأحدنا يُؤتى
الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيعلم حلالها
وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالاً
يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، لا يدري
ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل (محركة:
الرديء من التمر) .
قال بعض العلماء: يدل قوله: (لقد عشنا) ... إلخ على أن ذلك إجماع من
الصحابة. وفي حديث سعد عند ابن ماجه مرفوعًا: اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم
تبكوا فتباكَوْا. قال الإمام الغزالي: (مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره مثال مَن
يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات، وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول
بتخريبها ومقتصر على دراسة كتابه، فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد
عن الاستهزاء واستحقاق المقت) فعسى أن يعير القراء والمستمعون هذه البينات
التفاتًا ولا يكتفوا بالتلذذ بالنغم وحسن الصوت والإلقاء.
أما الصوم الذي هو عبادة الشهر فرياضة بدنية، وتأديب للشهوة البهيمية،
وإشعار للغني المنعَّم، بحاجة الفقير المعدم، بحيث تتحرك عاطفة الشفقة بالإحسان
إليه، ويعظم في نفسه مقدار نعمة الله عليه؛ لأن الأشياء تدرك قيمتها بفقدها،
والأمور تعرف بضدها، فمن غلبته الشهوة على نفسه وملكت عليه أمره فلم يصم،
فهو حيواني الطبع يزاحم الخنزير والقرد في خاصيتهما، وإن من الحيوان ما يمسك
عن الطعام والشراب لعلة الشرف فيقال: إن الأسد لا يأكل من فريسة غيره.
وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه
والذي يفطر في رمضان أحد رجلين: إما كافر، لا يدين بالإسلام كبعض
الذين قتلت أرواحهم أدواء التمدن الإفرنجي، وإن لنا معهم كلامًا نوجهه إليهم في
وقت آخر. وإما جهول لئيم ليس له من الإنسان إلا صورته ولا من الدين إلا أنه من
طائفة يسمون مسلمين.
والصوم الصحيح يهيئ الإنسان للتقوى فتكون مرجوة منه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) .
ومن أدب الصيام كف الجوارح كلها عن المحرمات، وأي اعتبار للكف عن
الشهوات المباحة كالأكل والوقاع في الحل مع الانهماك في الشهوات المحرمة
كالخوض في الباطل من كذب وغيبة وفحش. وفي الحديث الصحيح: (إنما الصوم
جُنة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث الرفث محرَّكة: فحش في القول، والجماع
ومقدماته - ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم)
(أخرجه الشيخان وغيرهما) .
وقد ضرب الإمام الغزالي للصائم المنهمك في المعاصي مثل من يبني قصرًا
ويهدم مصرًا قال: فإن الطعام الحلال يضر بكثرته لا بتنوعه، فالصوم لتقليله،
وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا تعداه إلى تناول السم كان سفيهًا،
والحرام مهلك للدين والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع
والعطش) (أخرجه النسائي وابن ماجه) .
ومن سجايا المسلمين المحمودة في رمضان كثرة الصدقات وكثرة التزاور،
وهما من أسباب التحابّ والتآلف، ولو أنهم يجعلون حظًّا من سمرهم في ليلهم
المذاكرة في شؤون الأمة والبحث في الأساليب والوسائل التي يمكنهم بها القيام لتربية
النشء الجديد في بلادهم وتعليمه ما ينفعه وينفع أمته كلها معه، لأمست منتدياتهم
مهبط الفضائل ومبعث روح الحياة العزيزة. وإننا نرفع التهنئة إلى سيدنا ومولانا
أمير المؤمنين وإلى سمو مولانا العباس عزيز مصر، ثم قراء جريدتنا الكرام،
بالشهر، ونسأل الله تعالى أن يعيده على أهله بالعز والسعادة.
__________
(*) فاتحة العدد 43 المؤرخ في 2 رمضان سنة 1316 - 14 يناير (ك2) 1899.(1/829)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سيرة الإمام الشافعي
(رضي الله عنه)
(بقية ما سبق)
ذكرنا في العدد الأسبق من سيرة الإمام أثارة من علمه وشدة تمسكه بالسنة،
ووقوفه عند حدودها، وتعظيمه بالحق لمن جاء بها، وخذله للبدعة ونفوره منها،
وذلك كافٍ للتذكير بفضائله المسلَّمة ومناقبه الكثيرة، ومما يؤثر عنه أنه قال: (من
كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر، ونهى عن
المنكر وانتهى، وحافظ على حدود الله تعالى) . وحسبك هذا الأثر وحده حجة على
الذين يحتفلون بمولده وكنسة ضريحه، فإن صورة هذا الاحتفال بدعة مصبوغة
بصبغة الدين، ومواظبة أكابر العلماء عليها يوقع في قلوب العامة أنها مشروعة،
جاعلين إياها من زيارة القبور المأذون بها من الشارع، ولكن زيارة القبور التي
رخص فيها الشارع لأجل تذكر الموت لم تكن بهذه الكيفية من تعظيم القبر وجميع ما
يحتف به حتى الكناسة والنسيج الذي يوضع عليه من نحو ستر وعمامة، والوقوف
حوله بغاية الذلة والخضوع، بل والصلاة في جانبه، فقد نطق التاريخ بأن مثل هذا
وجد أولاً عند الوثنين، وسرى لبعض أهل الكتاب بالامتزاج بهم، وقد كان النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم يلعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، حتى في مرض
موته، كما في الصحاح، وكان يقول في مرض موته أيضًا: (لا تتخذوا قبري
عيدًا) أخرجه في الموطأ.
ويتوهم من لم يقف على نبأ الأولين والقوم الذين أشارت الأخبار إلى اتخاذهم
قبور أنبيائهم مساجد وأوثانًا ونطق القرآن بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا -
أنهم كانوا يسمونهم آلهة ويعبدون أشخاصهم أحياء - وقبورهم أمواتًا -عبادة حقيقية،
وليس كذلك، بل كانوا يعظمونهم تعظيمًا لم يأذن به الله، فيجعلونهم وسطاء بينهم
وبينه في قضاء حاجهم الدنيوية، ووسيلة لعرض أعمالهم على رحمن البرية،
ويحتفلون الاحتفالات الدينية عند قبورهم كالصلاة والدعاء، ويزعمون أن الله أعطاهم
قوى يتصرفون بها في الكون بإذنه بما لا يصل إليه سعي غيرهم، ويطبقون أفعالهم
واعتقاداتهم على نصوص الدين بالاستنباط والتأويل [1] .
وكتبهم الدينية وكتب التاريخ شاهدة بذلك.
أي معنى لإنكار العلماء باسم الدين على موحد لم يرضَ أن يضع العمامة التي
توضع على ضريج الإمام على رأسه مثلهم، وعلى قوله: إن أكل هذا البرتقال خير
لي من وضعها على رأسي؛ لأنه ينفعني وهي ليست من أسباب النفع مثله؟ أليس هو
من إنكار المعروف؟ لو ورد مثل هذا عن الشارع لوجب أن نعده من الأمور التعبدية
التي لا يقاس عليها، ولذلك قال سيدنا عمر في الحجر الأسود: إني أعلم أنك حجر لا
تضر ولا تنفع [2] ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك لما قبَّلتك.
وقطع هذا الخليفة الذي أعز الله به الإسلام الشجرة التي حصلت تحتها بيعة
الرضوان، واجتمع عندها النبي وخيرة أصحابه، وما قطعها رضي الله عنه إلا لأنه
رأى بعض الناس يعظمها، فحذر أن يعتقد فيها سببية النفع أو وسيلة الزلفى إلى الله
تعالى، وتلك الوثنية بعينها، لم لا ينكرون المعاصي والمكروهات التي تقع هناك
وهي كثيرة جدًّا.
كان كاتب هذه السطور يومًا ما في قبة الإمام، وكان ثَم جماعة من أكابر
علماء الأزهر وأشهرهم، فأذن المؤذن العصر مستدبرًا القبلة، فقلت لهم: لم لم
يستقبل هذا المؤذن القبلة كما هو السنة؟ فقال أحدهم: (إنه يستقبل ضريح الإمام) !!
أو ليس هذا من الإقرار على المنكر؟ وكذلك لا ينكرون على من يستقبل قبر
الإمام في صلاته، والإمام يتبرأ من ذلك لأنه من المحظورات والمنكرات في الدين،
ومذهبه في ذلك معروف.
هذا قليل من كثير، والتعظيم الصحيح للإمام هو إحياء علمه واقتفاء أثره في
الاجتهاد في العلم والعمل والفضائل وذكره بالخير - كالدعاء له - فإن حسن الذكر هو
الشرف الباقي، وبمثل هذا كان يعظمه الإمام أحمد بن حنبل بعد موته، فقد جاء في
الإحياء عنه أنه قال: ما صليت منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي، قال
الغزالي: (فانظر إلى إنصاف الداعي وإلى درجة المدعو له، وقس به الأقران
والأمثال من العلماء في هذه الأعصار، وما يجري بينهم من المشاحنة
والبغضاء لتعلم تقصيرهم في دعوى الاقتداء بهؤلاء، ولكثرة دعائه له قال له ابنه:
أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال أحمد: يا بني كان
الشافعي - رحمه الله تعالى - كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس. فانظر هل لهذين من
خلف، وكان أحمد يقول: ما يمس أحد بيده محبرة إلا وللشافعي رحمه الله في عنقه
منّة) وأورد في الإحياء شواهد على الإمام تدل على تبحره في علم القرآن وأخلاق
الدين محتجًّا على الفقهاء الذين يزعمون اتباعه وهم أخلياء منها، وذكر أيضًا بعض
الوقائع التي تدل على خشيته من الله تعالى وزهده في الدنيا، ثم قال: (ولا يحصل
ذلك إلا من معرفة الله تعالى، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، ولم يستفد الشافعي
هذا الخوف من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه، بل من علوم الآخرة
المستخرجة من القرآن الكريم والأخبار، إذ حِكم الأولين والآخرين مودعة
فيهما) .
أقول: فليعتبر المخذولون الذين يقولون: إن الدين كله في هذه الكتب الفقهية،
فينبغي صرف الهمة إليها ونبذ الكتاب والسنة ظهريًّا، إلا ما يكون من التغني
بالقرآن والتبرك بقراءة نحو البخاري أو الشفاء، ولم تنحرف أمة عن هدي الدين
أكثر من هذا الانحراف.
وقال الإمام أبو ثور: ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي. وقال أبو
زرعة الرازي: ما أعلم أحدًا أعظم منّة على أهل الإسلام من الشافعي.
ومحاولة استقصاء كلام الأئمة والعلماء في الثناء عليه محاولة محال، ولكن لم
ينقل عن واحد من أولئك الأخيار الذين كانوا يجلونه كل هذا الإجلال أنه أخذ شيئًا
من كناسة ضريحه، أو تبرك بثياب توضع عليه. فبمن نقتدي إذا اختلف الأدلاء،
وإذا تفرقت السبل، فأيها يسلك الجهلاء؟ لا جرم أن النجاة في سلوك سبيل الأولين
والاقتداء بالسلف الصالحين، فلا تغتري أيتها العامة بالعمائم المكورة، والأردان
المكبرة، والأذيال المجررة، فالحق لا يموت بانتشار البدع في العالمين، والله ولي
المتقين.
أما مذهب الإمام في الفقه فهو أقصد المذاهب. ذلك أن الفقه إنما نفقت سوقه
وزخرت بحاره في الحجازيين والعراقيين، فأهل الحجاز وأشهر أئمتهم مالك بن
أنس كانوا أصحاب رواية كثيرة، ولذلك مهروا في فقه الحديث، وأهل العراق
وأشهر أئمتهم أبو حنيفة النعمان وصاحباه برعوا في فقه القياس، والإمام الشافعي
برع في الفقهين معًا كما حققه ابن خلدون حكيم المؤرخين. وحسبك أنه واضع علم
الأصول الذي لم يصل الفقه إلى درجة الكمال إلا به.
مناظرات الإمام:
كان له مناظرات مع أئمة عصره يُعلم منها علو مداركه ودقة نظره في القياس
نذكر منها هنا ملخص المناظرة الشهيرة بينه وبين الإمام محمد بن الحسن صاحب
أبى حنيفة رضي الله تعالى عنهم.
قال محمد: ما تقول في رجل غصب من رجل ساحة فبنى عليها بناءً أنفق فيه
ألف دينار، ثم جاء صاحب الساحة فأثبت بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبه هذه
الساحة وبنى عليها هذا البناء، ما كنت تحكم؟
قال الإمام: أقول لصاحب الساحة: تحب أن تأخذ قيمتها، فإن رضي حكمت
له بالقيمة، وإن أبى إلا ساحته قلعتها ورددتها عليه.
فقال محمد: فما تقول في رجل اغتصب من رجل خيط إبريسم فخاط به بطنه،
فجاء صاحب الخيط فأثبت بشهادة عدلين أن هذا اغتصبه هذا الخيط، أكنت تنزع
الخيط من بطنه؟ .
فقال الإمام: لا.
فقال محمد: الله أكبر، تركت قولك.
فقال الإمام: لا تعجل، أخبرني لو لم يغتصب الساحة من أحد وأراد أن يقلع
هذا البناء منها أيباح له ذلك أم يحرم؟
فقال: بل يباح.
فقال الإمام: أفرأيت لو كان الخيط خيط نفسه فأراد أن ينزعه من بطنه أيباح
له ذلك أم يحرم؟
فقال محمد: بل يحرم.
فقال الإمام: فكيف تقيس مباحًا على محرم؟
فقال محمد: أرأيت لو غصب رجل لوحًا وأدخله في سفينة ولجَّج في البحر،
أكنت تنزع اللوح من السفينة؟
فقال الإمام: لا، بل آمره أن يقرب سفينته إلى أقرب المراسي إليه ثم أنتزع
اللوح وأدفعه إلى صاحبه.
فقال محمد: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا
ضرار) ؟
فقال الإمام: هو أضر بنفسه ولم يضر به أحد.
ثم قال الإمام له: ما تقول في رجل اغتصب من رجل جارية فأولدها عشرة
كلهم قد قرءوا القرآن وخطبوا على المنابر وحكموا بين المسلمين، فأثبت صاحب
الجارية بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبها منه، ناشدتك الله بماذا كنت تحكم؟
قال: كنت أحكم بأن أولاده أرقاء لصاحب الجارية.
قال الإمام: فأيهما أشد عليه ضررًا أن يجعل أولاده أرقاء أو يقلع البناء من
الساحة. (ومثله أن يقلع اللوح من السفينة) . اهـ.
(حكم منثورة تؤثر عنه)
منها: وددت أني إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الله الحق عليه يديه.
ومنها: طلب العلم أفضل من صلاة نافلة.
ومنها: أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من
لا ينفعه وقبل مدح من لا يعرفه. الوقت سيف وأفضل العصمة أن لا تضيع دقائقه،
جمال العلماء كرم النفس وزينة العلم الورع والحلم، فقر العلماء اختيار وفقر
الجهلاء اضطرار.
أقول: يعني أن العلماء يفضلون الاشتغال بما هم فيه من العلم على الاشتغال
بالكسب الذي يخرج الإنسان من مأزق الفقر إلى باحة الغنى، ففقرهم اختياري
بخلاف الجهلاء، فإنهم لا يدعون سبيلاً علموه للغنى إلا اتخذوه، ففقرهم اضطرار.
ومنها: المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن.
أقول: وما وسع خرق الخلاف بين علماء المسلمين حتى فرقوا دينهم بددًا،
وذهبوا في مذاهبهم طرائق قددًا، إلا المراء وعدم إرادة الحق بالجدال.
ومن مناقبه رضي الله عنه أنه قال: ما كذبت قط ولا حلفت بالله صادقًا ولا
كاذبًا، وما تركت غسل الجمعة في برد ولا سفر ولا حضر، ولا شبعت منذ 16
سنة إلا شبعة واحدة طرحتها من ساعتي.
وكان يقول: من لم تُعزُّه التقوى فلا عز له.
ومن حكمه: من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها.
ومنها: من أحب أن يفتح الله عليه بنور القلب فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك
مخالطة السفهاء وبغض أهل العلم الذين لا يريدون بعلمهم إلا الدنيا.
أقول: لأن هؤلاء يميلون مع الهوى ويشترون الضلالة بالهدى، يقول أحدهم
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (البقرة: 200) بخلاف الذين
يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (البقرة: 201-202) فالذي يريد بعلمه
سعادة الدارين تنير صحبته القلب.
ومنها: لو اجتهد أحدكم كل الجهد على أن يرضي الناس كلهم فلا سبيل له،
فليخلص العبد عمله بينه وبين الله تعالى.
ومنها: لا يعرف الرياء إلا المخلصون.
ومنها: سياسة الناس أشد من سياسة الدواب. أقول: لأن الدواب لا تنازعك
الرأي وأفرادها على طبيعة واحدة.
قال الشاعر:
وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجرها الراعي فتزجر
ومنها: العاقل من عقل نفسه عن كل مذموم.
ومنها: لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته. أقول: بهذه
الشهامة والعزة تسود الأمم وتبلغ المعالي، فليعتبر الذين يعدون الذل والمهانة من
الدين.
ومنها: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته (وما أجلها كلمة وأروعها حكمة) .
ومنها: من علامة الصادق في أُخوة أخيه: (أن يقبل علله ويسد خلله ويغفر
زلله) .
ومنها: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا.
ومنها: ليس سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم.
ومنها: لا تقصر في حق أخيك اعتمادًا على مروءته، ولا تبذل وجهك إلى
من يهون عليه ردك.
ومنها: من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
ومنها: لا تشاور من ليس في بيته دقيق.
ومنها: من نمَّ لك نمَّ عليك، ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك (أي مدحًا)
كذلك إذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك (أي ذمًّا) فليعتبر الذين يغترون بتملق
المنافقين.
ومنها: من سامى بنفسه فوق ما يساوي رده الله إلى قيمته.
ومنها: من كتم سره ملك أمره.
ومنها: الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مجلبة
للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط.
ومنها: ما أكرمت أحدًا فوق قدره إلا نقص من مقداري بقدر ما زدت في
إكرامه.
ومنها: مداراة الأحمق غاية لا تدرك.
ومنها: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لص.
ومنها: من خدم عدم.
(أشعار مأثورة عنه)
الشعر ديوان الأدب ومنهل الحكم، وقلما يجيده العلماء لمزاحمة الملكات
العلمية لملكته، ولذلك ولكونه صار آلة للاستجداء ترفعوا عنه، وللإمام شعر جيد لا
سيما في الحِكم، ومع ذلك قد قال:
ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
لما شخص الإمام إلى (سر من رأى) دخلها وعليه أطمار رثة، وكان طال
سفره فطال شعره فتقدم إلى مزين فانتهره لما نظر إلى زيه وقال له: امض إلى
غيري، فاشتد على الإمام أمره، فالتفت إلى غلام كان معه وقال: إيش معك من
النفقة؟ فقال: عشرة دنانير، فقال: ادفعها إلى المزين، فدفعها إليه وولَّى الإمام
وهو يقول:
علي ثياب لو تباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تقاس بمثلها ... نفوس الورى كانت أجل وأخطرا
وما ضر نصل السيف أحلاق غمده ... إذا كان عضبًا حيث انفذته سرى
فإن تكن الأيام أزرت ببزتي ... فكم من حسام في غلاف مكسرا
وهذه الأبيات تنبئ عن رفعة وشمم وعزة نفس وعلو همة وكرم وسخاء،
وناهيك بها فهي أمهات الفضائل، وغرر السجايا العقائل، وما أجدر أئمة الدين بها،
والله تعالى يقول {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) وفي
الحديث الشريف (علو الهمة من الإيمان) .
وروى العلامة السبكي في طبقاته الكبرى بسنده إلى أبي حيان النيسابوري قال:
بلغني أن عباسًا الأزرق دخل على الشافعي يومًا فقال: يا أبا عبد الله، قد عملت
أبياتًا إن أنت أجزت لي بمثلها لا يؤمَن أن لا أقول شعرًا أبدا، فقال له الشافعي: إيه،
فأنشأ يقول:
ما همتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان وهمتي لم تخلق
والناس أعينهم إلى سلب الفتى ... لا يسألون عن الحجا والأولق
لو كان بالحيل الغِنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي
فقال الشافعي: هلا قلت كما أقول استرسالاً:
إن الذي رزق اليسار فلم يصب ... حمدًا ولا أجرًا لغير موفق
فالجد يدني كل أمر شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق
وإذا سمعت بأن محظوظًا حوى ... عودًا فأثمر في يديه فصدق
وإذا سمعت بأن محرومًا أتى ... ماء ليشربه فغاض فحقق
وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى بعيش ضيق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وقد أورد هذه الأبيات ابن خلكان في ترجمة الإمام وعد منها قول عباس
الأزرق: لو كان بالحيل الغنى.. البيت وزاد بعده بيتًا آخر وهو:
لكن من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدان مفترقان أي تفرق
ونقص منها قوله: (وأحق خلق الله بالهم امرؤ) .. البيت.
ومن حكمه المنظومة في الشعر، كما ينظم في السلك نضيد الدر، قوله:
كلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
ومنها:
ومنزلة الفقيه من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه
ومنها: هذا البيت المفرد:
رام نفعًا فضَر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا
ومنها، وهو ينبئ عن كرمه، وشرف شيمه:
يا لهف نفسي على مال أجود به ... على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيبات
ومنها في الصداقة:
صديق ليس ينفع يوم بأس ... قريب من عدو في القياس
وما يُبغى الصديق بكل عصر ... ولا الإخوان إلا للتآسي
عمدت الدهر ملتمسًا بجهدي ... أخا ثقة فأعياه التماسي
تنكرت البلاد علي حتى ... كأن أناسها ليسوا بناس
ومنها في الاعتماد على النفس من دون الناس:
إذا المشكلات تصدينني ... كشفت حقائقها بالنظر
ولست بإمعة في الرجا ... ل أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدره الأصغر ... ين فتاح خير وفراج شر
ومنها في المال ورفعة شأن أهله في نظر الناس وإن كانوا أخساء:
وأنطقت الدراهم بعد صمت ... أناسًا بعد أن كانوا سكوتا
فما عطفوا على أحد بفضل ... ولا عرفوا لمكرمة بيوتا
ومنها في العلم وصونه عن غير أهله:
أأنثر درًّا بين سارحة النعم ... وأنظم منثورًا لراعية الغنم
فإن يسر الله الكريم بفضله ... وألفيت أهلاً للعلوم وللحكم
بثثت مفيدًا واستفدت وداده ... وإلا فمخزون لديّ ومكتتم
فمن منحَ الجهال علمًا أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وتزوج الإمام جارية من قريش فكان يلاطفها ويداعبها ويقول:
ومن البَلِيّة أن تحب ... فلا يحبك من تحبه
فتجيبه هي:
ويصد عنك بوجهه ... وتلح أنت فلا تغبه
وروى السبكي بسنده إلى البويطي صاحب الإمام قال: قلت للشافعي: قد قلت
في الزهد، فهل لك في الغزل شيء؟ فأنشدني:
يا كاحل العين بعد النوم بالسهر ... ما كان كحلك بالمبعوث للبصر
لو أن عيني إليك الدهر ناظرة ... جاءت وفاتي ولم أشبع من النظر
سقيًا لدهر مضى ما كان أطيبه ... لولا التفرق والتغبص بالسفر
إن الرسول الذي يأتي بلا عدة ... مثل السحاب الذي يأتي بلا مطر
وبسنده إلى صاحبه الربيع بن سليمان قال: كنت عند الشافعي إذ جاءه رجل
برقعة، فقرأها ووقع فيها، فمضى الرجل وتبعته إلى باب المسجد فقلت: والله لا
تفوتني فتيا الشافعي، فأخذت الرقعة من يده فوجدت فيها:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاد جُناح
وقد وقَّع عليها الشافعي بهذا البيت:
فقلت: معاذ الله أن يُذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
قال الربيع: فأنكرت على الشافعي أن يفتي لحدث بمثل هذا، فقلت: يا أبا
عبد الله، تفتي بمثل هذا لمثل هذا الشاب؟ فقال لي: يا أبا محمد، هذا رجل
هاشمي قد أعرس في هذا الشهر (رمضان) وهو حديث السن، فسأل هل عليه
جُناح أن يقبِّل أو يضم من غير وطء. فأفتيته بهذا. قال الربيع: فتبعت الشاب
فسألته عن حالته فذكر لي أنه مثلما قال الشافعي، فرأيته أحسن فيه، وفَّقنا الله
للاقتداء بهذا الإمام الجليل في علمه وعمله وخُلُقه وأدبه.
__________
(1) كل ما ذكر عنهم آنفًا فهو عادة حقيقية.
(2) وروي هذا مرفوعًا أيضا.(1/832)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
موافقة وانتقاد
قرأنا في جريدة المقطم الصادرة في 4 يناير مقالة تحت عنوان: (الرأي العام-
امتيازات الأجانب) بإمضاء (يوسف نحاس) بيَّن فيها كاتبها النبيل أن العلماء الذين
بحثوا في سبب إباحة الدولة العَلِيّة للدول الأجانب الامتيازات الشاذة عن
القوانين الدولية المقدسة، اتفقوا على أنها لم تمنحهم إياها مضطرة (اضطرارها
الآن إلى تلبية مطالب أوروبا) لأنها كانت وقتئذ في عنفوان دولتها ذات قوة ومنعة،
لا يُرهبها وعيد ولا يَهولها تهديد. وثانيًا: لأن الدول المسيحية لم تطلب منها تلك
الامتيازات بصوت واحد، ولا توعدتها بحشد الجيوش ومعاملتها بالقوة والإكراه إذا
هي لم تُعطها ما طلبت عفوًا، فالسلاطين لم يفعلوا ما فعلوا إكراهًا، بل عن
طيب نفس و (خاطر) ثم قال: إن السلاطين لم يعتنوا بمزج الشعوب التي
أخضعوها وجعلها أمة واحدة (بل حفظوا لتلك الشعوب صبغتها وتقاليدها الأصلية،
وعدُّوها كأجنبية عنهم، واستشهد على ذلك بأن السلطان محمد الفاتح نصب بطريركًا
للروم في القسطنطينية (وأعطاه الأمان على دينه وسلطة مدنية على أبناء طائفته،
فبقي الروم ممتازين عن الفاتحين، ولم تسعَ الحكومة قط في مزجهم بسائر رعيتها،
ولا حاولت تغيير عوائدهم ودينهم، فكان بين الفريقين حد فاصل، ولكل أمة منهما
حياة خاصة بها، وهذا التفريق هو الذي مكن الشعوب الخاضعة للسلطان من حفظ
جنسيتها وحياة أمتها على ممر السنين وإنعاشها عندما استطاعت التنصل من ربقة
العبودية (وكان الصواب أن يقول: عندما كفرت النعمة وخرجت عن الطاعة؛ إذ
العبودية بعيدة بمراحل عن الاستقلال الديني والمدني، بل الامتياز على سائر الأمة،
ولو استُعبدوا لمُحيت جنسيتهم وماتت عزتهم، حتى لا يمكنهم أن يثوروا، بل ولا
أن يتفكروا في الثورة والخروج، وإذا أمكنهم شيء من ذلك بعد طول الأمد فالنجاح
يكون بعيدًا عنهم بمراحل، كما تشاهد فيمن تستعبده دول أوروبا من الشعوب
الشرقية) ثم قال حضرة الكاتب البارع: (فإذا كانت هذه سياسة الحكومة العثمانية مع
الأمم الخاضعة للعمل العثماني، فكيف تحاول مزج الأجانب النزلاء برعاياها، وبسط
أحكامها عليهم) ثم علل ذلك بقوله: (والذي ساعد في البدء على حفظ ذلك الحق
للأجانب هو تقاليد الإسلام نفسه، فإنه يخص أهل الإسلام وحدهم بشريعته، ولا يبيح
إطلاقها على غيرهم من الأجانب) .
وهنا محل الانتقاد الذي كتبنا لأجله هذه السطور، فما ذكره حضرة الكاتب
غير صحيح، فإن الشريعة الإسلامية عامة يجب على الحكام القضاء بها بين جميع
الأمم التي تدخل في سلطة أهلها وبين كل من يتحاكم إلى حكامها من الأجانب، أما
في الذميين فلأننا - كما قال البيضاوي - أُمرنا بالذب عنهم ودفع الظلم منه. وأما
في الأجانب: فلأنه لا حكم إلا لله ولإراءتهم عدلنا واستمالتهم به وغير ذلك. وكان
القرآن خيَّر النبي عليه السلام في الحكم بين الأجانب وعدمه، فقال في شأن اليهود
الذين لم يكونوا أهل ذمة: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ
عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) ولذلك اختلف الفقهاء في تخيير القاضي بالحكم بينهم، ومذهب
الحنفية الذي عليه الدولة العلية أن الحكم بينهم واجب مطلقًا، وكأنهم يرون التخيير
مخصوصًا بالنبي أو بتلك الحال أو يرون نسخه بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 48) الآية، نعم، إن الإسلام منع الإكراه في الدين وأعطى حرية لأهل
كل دين في شؤونهم الدينية، ولم يجعل لأمراء المسلمين سلطة عليهم في ذلك. وأما
الحقوق فإذا تراضوا بينهم فيها فالحكام المسلمون لا يعارضونهم في ذلك ما لم تُنتهك
الحقوق العمومية، أما إذا تحاكموا إليهم في أي نوع من أنواع الحقوق فإنهم يحكمون
بينهم بالشريعة لا محالة. وكأن الكاتب اشتبه عليه معنى حرية الدين في الإسلام،
فظن أنها تشمل الأمور المدنية والقضائية، ويوشك أن يكون أخذ ذلك من فعل
السلطان محمد الفاتح، ظنًّا منه أن فعله حجة شرعية وليس كذلك. ولقد غلط بتساهله
في هذه المسألة غلطة لا تغفر عند أرباب السياسة، والدولة تذوق مرارتها إلى اليوم.
هذا وإن الجامعة العثمانية لا تقوم إلا بوحدة الأحكام، إذ يستحيل عادة أن يجمع
شعوبها دين أو لغة. ومحاكم الدولة العلية جارية على ما ذكرنا حتى المحاكم
الشرعية، فإن الذميين يتحاكمون إليها في المواريث وغيرها، فيحكم القضاة بينهم
بالشريعة الغراء كما هو معلوم للجميع.
__________(1/841)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاستعمار الأوربي
جاء في جريدة ثمرات الفنون الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:
ما استعمر الأوروبيون قرية أو بلدة إلا واستبدلوا أخلاق أهليها واستنزفوا
ثروتهم إذا لم نقُل دماءهم، وارتكبوا فيها أنواعًا من الفظائع المنكرة، مما تستك من
هوله الأسماع وتتبرأ منه المدنية الحقة، وذلك بزعم إرهاب البلاد التي
يستعمرونها، فلا يعصون لهم أمرًا، ومن المشهور عن عدلهم أنهم لا يعاملون أهالي
المستعمرات معاملة رعاياهم الأصليين، فالذي يجوز للإنكليزي الأصل مثلاً أن يعمله
في الهند لا يجوز للهندي عمله، أو أن يتمتع هذا بالحقوق التي يتمتع بها ابن التاميز،
وبالأخص إذا كان سكان المستعمرة من المسلمين، وكثيرًا ما يقتلون الأنفس بغير ذنب
أو بمجرد الوهم والتصور إلى غير ذلك من الأعمال الوحشية. ومن العجيب أنهم مع
هذا كله ينادون (نداءً جهوريًّا عريضًا) أنهم نصراء الإنسانية وحلفاء المدنية، وأنهم
لا يودون إلا خير بني الإنسان وراحتهم بوجه عام، دون الالتفات إلى
الأجناس والأديان. دعوى باطلة وتشامخ كاذب، فيا شقاوة العباد الذين قضى عليهم
الدهر فكانوا سكان بلاد اتخذها الأوروبيون مستعمرة لهم. ولكيلا يذهب الوهم
بالقارئ الكريم أننا امتطينا في قولنا هذا مطية المغالاة، نورِد له هنا حادثة قالها القوم
أنفسهم، ومعلوم أن الإنسان قد لا يذكر فظائع نفسه بالتمام، بل كثيراً ما يسدل عليها
ثوبًا من التمويه.
قالت جريدة التيمس وألايكو بتاريخ 30 حزيران سنة 1894 عدد 861
صحيفة 518 تحت عنوان: (الفرنسيس في غربي إفريقية) ما تعريبه:
(نقل إلينا ركاب الباخرة المسماة (ايل رمز) وبحَّارتها حادثة حدثت في مستعمرة
جبون الإفرنسية، وهي أن أحد التجار الفرنسويين قد عامل أربعة رجال من أهالي
المستعمرة بسلع تجارية، ولما استحق له عندهم مبلغ قليل من المال ذهب إلى
قريتهم وطالبهم بذلك، فاستمهلوه مدة ريثما يتأتى لهم جمع المال، فأبى وشدد عليهم
النكير بالطلب وأخذ يؤنبهم ويشتمهم مما أفضى إلى المخاصمة، فاستلَّ الفرنسي
مسدسًا وأطلق رصاصة على أحد الأربعة فقتله، ولما رأى الثلاثة رفيقهم يتخبط
بدمه قبضوا على القاتل الإفرنسي ونزعوا المسدس من يده وراموا وثاقه وتسليمه إلى
الحكومة، فلم يستطيعوا ذلك إذ فر من بينهم بواسطة ... ولم يكتفِ القاتل بما عمل،
بل ما بلغ مقر حكومة المستعمرة إلا وشكَا أولئك الثلاثة، فأرسلت الحكومة إليهم عدة
من رجال الدرك فجاءوا مكبلين دون أن يعبأ أحد بالدم المسفوك ظلمًا وعدوانًا.
ولما أُحضر الثلاثة لدى المحكمة الفرنسوية وقصوا عليها دعواهم بالحق لم
يستطع الفرنسي القاتل الإنكار، بل أقر بفعله وقال: إنني قتلت منهم نفسًا غير أنهم
أوسعوني بعد ذلك ضرباً وراموا وثاقي والإتيان بي إلى هنا موثقًَا ففررت، فصدر
حكم المحكمة العادلة إذ ذاك: لا يُقتل القاتل، بل يُقتل الثلاثة الذين ضربوه لقتله
رفيقهم بدعوى أن ليس لهم حق بإماتة رجل إفرنسي ولو كان قاتلاً.
ولما كان اليوم التالي سِيقَ أولئك الثلاثة المساكين إلى فسحة في ظاهر البلدة،
ورُبطوا بالأشجار وأطلق عليهم الجندي الفرنسي الرصاص حتى فارقوا الحياة،
وتُركوا مدة على حالهم هذا دون أن يُوارَوا التراب ليُعتبر بهم، ولا يتجاسر أحد
على إهانة الفرنسوي وإن كان قاتلاً. اهـ.
هذه ثمرة من ثمر الاستعمار الأوروبي، وهذا هو نظام تمدنهم وشغفهم بخير
النوع الإنساني ونصرتهم للمدنية، فليتدبره أولو الألباب. ومن غريب الاتفاق أنه
في ذلك الشهر الذي حدثت فيه هذه الحادثة التي لم يرو لنا التاريخ أفظع ولا أقبح
منها، حتى ولا من أشر خلق الله وأشدهم غلظة وهمجية - فرجت دولتنا العلية
العثمانية عن كثير من أشقياء الأرمن الذين سعوا في الأرض فسادًا.
وقالت الجريدة الإنكليزية ذاتها بتاريخ شهر آب سنة 1893 تحت عنوان
(قتال شديد) ما نصه (مترجمًا) بالحرف:
لما وصلت المدرعة الإنكليزية (بنش) أنزلت بحارتها مدججين بالسلاح
وذهبوا بقيادة الكونت لوفاتلي مع من عنده من الجند إلى التل المعروف بتل الأتراك،
ومن ثم إلى مدينة هجوان وداهموها على حين غفلة من أهلها، فلم ينجُ منهم أحد،
ثم أوقدوا النار بمنازلها، فمن لم يمت بالرصاص قتلاً مات بالنار حرقًا، ولم يمض
عليها بضع ساعات حتى أصبحت قاعًا صفصفاً، كأنها لم تكن بالأمس، ثم قالت
الجريدة:
ولقد أحسن الكُنت المذكور في عمله هذا غاية الإحسان، إذ بهذه الأعمال
يُرهب أهل البلاد ويفزعون. اهـ.
هاؤم أيها القوم نغمة أخرى من نغمات المدنية الأوروبية في مستعمراتها، ولو
رامت دولتنا العلية قصاص أحد المفسدين من الأرمن وغيرهم ممن ارتكبوا ما
ارتكبوه من أنواع الفظائع وضروب المنكرات لثار ثائر القوم في أوروبا ينادون: يا
للإنسانية، يا للمدنية، يا.... يا.... .، ولما كانوا هم قاتلي الأبرياء الذين بينهم
الأطفال الرضع والعجائز كما مر آنفاً، قاموا يحمدون هذا الفعل الفظيع الذي لا
يسعنا إلا أن نعده ضربًا من ضروب التمدن الجديد، وقانا الله شره.
قال حضرة المطران كولونصو الإنكليزي في كتابه المدعو (خراب بلاد
الزولو) وهو مجلدان مطبوع في عاصمة البلاد الإنكليزية عام 1884، وقد صدر
الوجه الأول من المجلد الأول منه برسمه وكتب تحته ما تعريبه بالحرف:
(إنه لمخيف ومحزن أن نرى تيار الشرور قد طغى طغيانًا عظيمًا في البلاد (أي
بلاد الزول) وليس بالإمكان إيقافه، وأن أمنع من إظهار المظالم وبيان الجور من هذه
الحرب الزولية، حتى كان ما كان، ولم يتمكن من إيقاف سفك الدماء ومنع خراب
البلاد وتدميرها ظلمًا وعدوانًا، حتى فات الوقت لحفظ حياة ألفي جندي إنكليزي
ووطني (ممن يستخدمه الإنكليز) وعشرة آلاف رجل من الزوليين. كما فات حفظ
اسم إنكلترا من أن يصبح عَلمًا عند أهل هاتيك البلاد للظلم والجور
والخيانة، والعسف بعد أن كان علمًا للعدالة والأمانة والرأفة والإحسان. اهـ.
وذلك كلام رئيس روحي ترجم التوراة إلى لغة الزولو، وقد كان بودِّنا نشر ما
أودعه في كتابه هذا من أنواع المظالم وضروب الرشوة وسفك الدماء، إلى غير ذلك
مما نرجع إليه إن شاء الله. اهـ.
__________(1/843)
9 رمضان - 1316هـ
فبراير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد عبده
__________
بسمارك والدين [*]
معرَّبة عن الفرنسوية
بقلم الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده الشهير
قال حفظه الله:
رأيت في وقائع بسمارك التي نشرت بعد موته بقلم كاتم أسراره موسيو بوش
كلامًا جاء به البرنس وهو على مائدة الطعام مع جلسائه يتعلق بالدين، فاستحسنت
ترجمته ليطلع عليه من لم يُعن بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعُدون النسبة إلى
دينهم سُبّة، والظهور بالمحافظة عليه مَعَرّة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي
الإلهي إلى أنبيائه ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في
الرياسة، ولا ضعفًا في السياسة.
جلس البرنس بسمارك على مائدة الطعام فرأى بقعة من الدهن على غطاء
المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئاً فشيئاً، كذلك ينفذ
الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب، ولو
لم يكن هناك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لِما استكنَّ في الضمائر من بقايا الإيمان
ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدًا مهيمنًا يراه وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن
لم يكن قائده يراه، فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في
أعمالهم تلك الملاحظة، فأجابه البرنس:
ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور ووجدان، هو بوادر تسبق
الفكر، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لها، ولو أنهم لاحظوا لفقدوا ذلك
الميل وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن
لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما
يجب عليه إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد بإله يحب الخير،
وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة، ثم ساق الوزير
كلامه على هذا النمط بأسلوب آخر فقال:
لو نقضت عقيدتي بديني لم أخدم بعد ذلك سلطاني ساعة من زمان. إذا لم
أضع ثقتي في الله لم أضعها في سيد من أهل الأرض قاطبة، لكن انظروا إلي
تجدوني قد ملكت من موارد الرزق ما يكفيني، وارتقيت من المناصب ما لا مطمع
بعده، فلماذا أشتغل؟ ولمَ أُجهد نفسي في العمل؟ ولمَ أُعرضها للهموم والآلام؟ لا
يبعثني على شيء من هذا إلا شعوري بأنني في جميع ذلك أعمل عملي لوجه الله.
لو لم يكن لي إيمان بالعناية الإلهية التي قضت بأن يكون لهذه الأمة الألمانية شأن
كبير وأثر في الخير عظيم، لطرحت لساعتي ما حملته من أثقال وظائف الحكومة.
ماذا أقول؟ بل لولا ذلك الإيمان لما قبلت شيئًا من هذه الوظائف؛ لأن الرتب
والألقاب لا بهاء لها في نظري. لولا يقيني بحياة بعد الموت ما كنت من حزب
الملكية، لو لم يكن هذا اليقين لكنت جمهوريًّا.
نعم، أنا جمهوري بالفطرة، يتبين ذلك من الغارات التي أشنها على هنات
(خصال الشر) رجال الحاشية من مدة تزيد عن عشر سنين. من هذا يظهر أن
إيماني قد بلغ من القوة أعلاها، حتى حملني بقوته على أن أكون ملكيًّا. اسلبوني
هذا الإيمان. اسلبوني محبتي لوطني، اعلموا أنني لو لم أكن مسيحيًّا مخلصاً لم
يكن لكم وزير كبير مثلي، يدبر أمر الاتحاد الألماني، لو لم أكن مخلصاً في ديني
لوليت ظهري جميع الحاشية، ولو وجدتم لي في الغد خلفًا يكون أخلص مني في
يقينه لانفلتُّ من المنصب في الحال، ما أعظم مسرتي بهجر الوظائف، لو تعلمون
أني أحب المعيشة في القرى والحقول، أحب الآجام ومناظر الخليقة. انزعوا مني
هذه الرابطة التي تصلني بالله تجدوني من الغد رجلاً يأخذ أهبته للسفر إلى (وارزين)
ليشتغل بحراثة أرضه وتنمية غرسه. إن لم أكن خاضعاً لأمر إلهي فلمَ أضع
نفسي تحت طاعة هذه العائلة المالكة مع أنها تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالأنبل
من الأصل الذي تتصل به عشيرتي.
هذا كلام بسمارك، وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان يعتقد أن عظائم
أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الاعتقاد بالله والتصديق باليوم الآخر هما
الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه مُفاخر ولم يكثره مُكاثر.
__________
(*) فاتحة العدد 44 المؤرخ في 9 رمضان سنة 1316 - 21 يناير (ك2) 1889.(1/846)
الكاتب: شبلي النعماني
__________
الجزية والإسلام
رسالة لشمس العلماء الشيخ شبلي النعماني
أستاذ العلوم العربية في مدرسة العلوم في عليكره (الهند)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسوله
محمد وآله وأصحابه أجمعين.
اعلم أن الجزية من أعظم ما تعلق به الأوروباويون في القدح على الشريعة
الإسلامية والحط من شأنها، فمِن ظانّ يظن أن الجزية لم يكن لها عين ولا أثر في
جيل من الأجيال ودولة من الدول، وإنما الشريعة الإسلامية هي التي أحدثت هذه
البدعة وأسست بنيانها ومهدت لها أصولها وأركانها، ومِن زاعم يزعم أن وضع هذه
القاعدة لم يكن إلا إذلالاً لأهل الذمة، وإهانة لهم، فهي آية الذل وسمة الهوان وشعار
الخزي وعلامة العار، حتى إنه هان على كثير من الأقوام الدخول في الإسلام هربًا
عن احتمال الضيم والرضاء بالذل. ولأجل هذا ترى الأوروباويون إذا قرع سمعهم
هذا اللفظ يمجه سمعهم وتشمئز منه نفوسهم. والحق أنهم غير ملومين في ذلك، فإن
من أحاط علمًا بنصوص المتأخرين من الفقهاء يستبين له في أول الأمر أن وضع
أمثال هذه الرسوم أقصى ما يُقصد به إذلال قوم وإرغام أنفهم، مع أن الشريعة
الإسلامية أبعد مجدًا وأرفع شأنًا من أن يمسها عار أو يلحقها عيب، وأبى الله إلا
براءتها عن كل جور وحيف.
ولما رأيتهم يتهافتون في أمثال هذه الأغلاط أردت أن أكشف لهم عن جلية
الحال، حتى لا أترك لنفسهم ريبه ولا شكًّا فنقول: إن لنا في إثبات دعوانا أبحاثًا.
(الأول) : في تحقيق لفظ الجزية والفحص عن مادته وصيغته.
(الثاني) : في تحقيق أن الجزية متى كان حدوثها ومَن أسسها أولًا.
(الثالث) : في تحقيق الغرض الذي كان سببًا لاختيارها في الإسلام.
(الأول) : لَم يتعرض الجوهري ولا المجد لبيان أصله واشتقاقه. ومال
بعضهم (وهم ليسوا ممن يثبت بهم اللغة) إلى أنه مشتق من الجزاء بناءً على أنها
طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه. وهذا ما اختاره الزمخشري في
تفسيره.
أما العارفون بلغة الفرس، فأطبقوا على أن اللفظ فارسي محض، وأن أصله:
كزيت، وأن الجزية إنما هي تعريب له، واستشهدوا في ذلك بورود هذا اللفظ في
كلام شعرائهم على زِنته الأصلية. قال الحكيم سوزني:
كتاب خويش نخوانيم وزو عمل نكنيم ... كه تا كزيت ستانند خودز أهل كتاب
وقال النظامي:
كهش قيصر كزيت دين فرستد ... كهش خاقان خراج جبن فرستد
ونقول: لما ثبت من تصريحاتهم (وهم أعرف بلسانهم) أنها فارسية، فإما أن
يقال: إنها عربية أيضاً كما هو شأن توافق اللغات، وذلك احتمال بعيد لا يُلجأ إلى
أمثاله إلا عند ضرورة محوجة. وإما أن يقال: إنها فارسية الأصل، وإنما سبيله في
تداوله عند العرب سبيل الدعي والدخيل في القوم. وهذا الاحتمال تعاضده قرائن
وأمارات:
منها: العرب خالطوا العجم قديمًا وعاشروهم، فأغاروا على جانب عظيم من
لغتهم واستباحوها وتصرفوا فيها كيف ما شاءوا ولعبوا بها كل ملعب.
وذلك كالكوز والإبريق والطست والخوان والقصعة وغيرها مما أحصاها
الثعالبي في كتابه فقه اللغة. فليس من المستنكر أن تكون الجزية أيضًا من جملتها.
ومنها: أن العرب كانوا قبل الإسلام أصحاب البؤس والشقاء، رعاة الإبل
والشاء، وما ملكوا أرضًا ولا استعبدوا قومًا. فلم يتفق لهم وضع الألفاظ بإزاء
المعاني التي هي من مختصات المدنية والعمران، ولذلك لا تجد في كلام العرب
العرباء ألفاظًا تقوم مقام الوزير والصاحب والعامل والتوقيع والدست وغيرها، ولما
كانت الجزية أيضًا من خصائص الملكية كفوا مؤنة وضع لفظ بإزائها.
ومنها: أن الحيرة (وكانت منازل آل نعمان) كانت تدين للعجم وتؤدي إليهم
الإتاوة والخراج. ولما كان كسرى أنوشروان هو الذي سن الجزية أولاً كما نبينه
فيما سيأتي - يغلب على الظن أن العرب أول ما عرفوا الجزية في ذاك العهد
وتعاوروا اللغة العجمية بعينها. ومن مساعدة الجد أن اللفظ كان زنته زنة العربي،
فلم يحتاجوا في تعريبه إلى كبير مؤنة، بعد ما أبدل كافها جيمًا صارت كأنها
عربي الأصل والنجار. ومع هذه كلها فإن هذا البحث لا يهمنا ولا يتعلق به كبير
غرض، فإن إثبات ما نحن بصدده لا يتوقف على الكشف عن حقيقة اللفظ، فنحن في
غنى عن إطالة الكلام وإسهابه في أمثال هذه الأبحاث.
(الثاني) : أول من سن الجزية - فيما علمنا - كسرى أنوشروان، وهو
الذي رتب أصولها وجعلها طبقات. قال الإمام العلامة المحدث أبو جعفر محمد بن
جرير الطبري - يذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجزية -: (وألزموا الناس
ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتِلة والمرازبة والكُتاب ومن كان في خدمة الملك،
وصيروها على طبقات اثني عشر درهمًا، وثمانية، وستة، وأربعة؛ بقدر إكثار
الرجل أو إقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين وفوق
الخمسين) .
ثم قال: (وهي الوضائع التي افتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد
الفرس) . وقال المؤرخ الشهير أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (وهو أقدم زمانًا
من الطبري) في كتابه (الأخبار الطوال في ذكر كسرى أنوشروان) : ووظف
الجزية على أربع طبقات، وأسقطها على أهل البيوتات والمرازبة والأساورة
والكتاب ومن كان في خدمة الملك، ولم يلزم أحدًا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز
الخمسين.
وقريب من هذا ما ذكره شاعر العجم ولسانهم فردوسي في كتابه:
(شاهنامه) :
همته بادشاهان شدند انجمن ... زمين را بسنجيدو برزدرسن
كزيتي نهادند بريك درم ... كرايدون كه دهقان نمودي درم
كزيت زبارور شش درم ... بخراستان برهيمن زد رقم
كسي كش درم بود ودهقان نبود ... نبودي غم ورنج كشت ودرود
كزارنده ازده درم تاجهار ... بسالي أزوبستدي كاردار
دبير وبرستنده شهريار ... نبودي بديوان كسي راشمار
ومن وقف على هذه النصوص يظهر له أن الجزية مأثورة من آل كسرى،
وأن الشريعة الإسلامية ليست بأول واضع لها، وأن كسرى رفع الجزية عن الجند
والمقاتلة، وأن عمر بن الخطاب اقتدى بهذه الوضائع.
أما المعنى الذي توخاه كسرى في هذا الاستثناء، فبينه العلامة ابن الأثير في
كتابه (الكامل) ناقلاً عن كلام كسرى فقال: (ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتِلة
أجراء لأهل العمارة، وأهل العمارة أجراء للمقاتِلة، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل
الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم عمن وراءهم، فحق أهل العمارة
أن يوفوهم أجورهم، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم،
ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل
الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم، وتركت على
أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم، ولم أجحف بواحد من
الجانبين.
وحاصله أنه يجب على كل فرد من أفراد الملة المدافعة عن نفسه وماله، فمن
كان يقوم بهذا العبء بنفسه فليس عليه شيء، وهؤلاء أهل الجند والمقاتلة، وأما
من كان يشغله أمر العمارة وتدبير الحرث على المخاطرة بالنفس فيحق عليه أن
يؤدي شيئًا معلومًا في كل سنة، يصرف في وجوه حمايته والدفاع عنه. وهذا هو
المعني بالجزية؛ فإنها تؤخذ من أهل العمارة وتعطى للمقاتلة والجند الذين نصبوا
أنفسهم لحماية البلاد واستتباب وسائل الأمن والسلامة لكافة العباد.
(البقية بعد)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(1/848)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاختلاف والتفرق في الدين
ذكرنا في عدد سابق أن تقصيرات العلماء التي وصلت بنا إلى ما نحن فيه
اليوم عشرة، ووعدنا بالكلام عليها تفصيلاً في مقالات متعددة، وأهمها: أولها في
الذكر وفي سوء التأثير، وهو التفرق في الدين واختلاف المذاهب في أصوله
بالأخص، ولما كان هذا يحتاج إلى شهادة التاريخ رأينا أن نذكر بعض الوقائع
التاريخية في الموضوع؛ لما فيها من الفائدة والاعتبار، ولرغبة النفوس في
الاطلاع عليها وعنايتها بقراءتها. وهاؤم اقرءوا في أولها هذه الواقعة التي وقعت
في مثل هذا الشهر المبارك، إنها من أهون الوقائع وهي:
(الواقعة الأولى) : لما اتصل بالملك الأشرف موسى ابن الملك العادل في
دمشق (قبل خروجه إلى مصر) ما عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام من العلم
والدين، وأنه سيد أهل عصره وحجة الله على خلقه - أحبه وصار يلهج بذكره،
ويؤثر الاجتماع به، والشيخ لا يجيب إلى الاجتماع به، وكانت طائفة من مبتدِعة
الحنابلة القائلين بالحرف والصوت، ممن أحبهم السلطان في صغره، يكرهون
الشيخ، ويطعنون فيه، وقرروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد
السلف واعتقاد أحمد بن حنبل وفضلاء أصحابه، واختلط هذا بلحم السلطان ودمه،
وصار يعتقد أن مخالفه كافر حلال الدم. ولما مال السلطان إلى الشيخ عز الدين دست
إليه هذه الطائفة أن الشيخ أشعري العقيدة، يخطِّئ من يعتقد الحرف والصوت
ويبدِّعه، ومن جملة اعتقاده أنه يقول بقول الأشعري: (إن الخبز لا يشبع، والماء لا
يروي والنار لا تحرق) . فاستهول ذلك السلطان واستعظمه ونسبهم إلى التعصب
عليه، فكتبوا فتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه مريدين أن يكتب عليها فيسقط
وصفه عند السلطان، وكان الشيخ قد اتصل به ذلك، فلما جاءته الفتيا قال: هذه الفتيا
كتبت امتحانًا لي، والله لا أكتب فيها إلا ما هو الحق، فكتب العقيدة المشهورة، فلما
فرغ منها رماها إليهم وهو يضحك عليهم، فطاروا بالجواب وهم يعتقدون أن الحصول
على ذلك من الفرص العظيمة التي ظفروا بها، ويقطعون بهلاكه واستباحة دمه
وماله، فأوصلوا الفتيا إلى الملك فاستشاط غضبًا وقال: صح عندي ما قالوه عنه،
وهذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، ويظهر بعد الاختبار أنه
من الفجار، لا بل من الكفار، وكان ذلك في رمضان عند الإفطار، وعنده على
سماطه عامة الفقهاء من جميع الأقطار، فلم يستطع أحد منهم أن يرد عليه، بل قال
بعض أعيانهم: السلطان أولى بالصفح، ولا سيما في مثل هذا الشهر، وموه آخرون
بكلام موجه يوهم صحة مذهب الخصم يظهرون أنهم بموافقته (انظر إلى علماء
السوء وفقهاء الضلال كيف استُعبدوا للسلاطين وأغضبوا الحق لإرضائهم فضاع
بينهم الدين) فلما انفصلوا تلك الليلة من مجلسه بالقلعة اشتغل الناس في البلد بما
جرى في تلك الليلة عند السلطان، وأقام الحق سبحانه وتعالى الشيخ العلامة جمال
الدين أبا عمر بن الحاجب المالكي، وكان عالم مذهبه في زمانه، وقد جمع بين العلم
والعمل، فتكلم في هذه القضية ومضى إلى القضاة والعلماء الأعيان الذين حضروا هذه
القضية عند السلطان وشدد عليهم النكير. وقال: العجب أنكم كلكم على الحق
وغيركم على الباطل، وما فيكم من نطق بالحق وسكتُّم وما انتصرتم لله تعالى
وللشريعة المطهرة، ولمَّا تكلم منكم من تكلم قال: السلطان أولى بالعفو والصفح،
وهذا غلط يوهم الذنب، فإن العفو والصفح لا يكونان إلا عن جرم وذنب، هلا
أعلمتم السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم ومذهب أهل الحق، وأن جمهور
السلف والخلف عليه لم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يُخفون مذهبهم ويدسونه على
تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله، وقد قال تعالى {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 42) ولم يزل يعنّفهم ويوبّخهم إلى أن
اصطلح معهم على أن يكتب فتيا بصورة الحال، ويكتبوا فيها بموافقة ابن عبد
السلام، فوافقوه على ذلك وأخذ خطوطهم بموافقته.
والتمس ابن عبد السلام من السلطان عقد مجلس للشافعية والحنابلة ويحضره
المالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين، وذكر أنه يعتقد أن السلطان إذا ظهر
له الحق يرجع إليه ويعاقب مَن قوّى الباطل عليه، وأنه أولى الناس بموافقة والده
السلطان الملك العادل تغمده الله برحمته، وأنه عزر جماعة من أعيان الحنابلة
المبتدعة، وأنه أخذ خطوط الفقهاء الذين كانوا بمجلس السلطان في ذلك الوقت.
فلما وقف السلطان على ذلك أجابه كتابة بجواب يذكر فيه أنه رأى من عقيدته
ما يغنيه عن الاجتماع به، وأنه (أي السلطان) يتبع ما عليه الخلفاء الراشدون،
وذكر فيه ما إذا كان الشيخ يدعي الاجتهاد. فأجابه الشيخ بجواب مطول يصدع فيه
بالحق، فاستشاط السلطان غضباً، وأمر أن لا يفتي الشيخ ولا يخرج من بيته، وأن
لا يجتمع بالناس، ففرح الشيخ لما بلغه ذلك فرحًا شديدًا وقال لرسول السلطان: لو
كان عندي خلعة تليق بك لخلعت عليك، ولكن خذ هذه السجادة فصلِّ عليها ونحن
على الفتوح، فقبِلها وقبَّلها (وكان الرسول يعتقد صلاح الشيخ) ولما ذكر
للسلطان ما دار بينه وبين الشيخ قال لمن حوله: قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل
يرى العقوبة نعمة اتركوه بيننا وبينه الله، وبقي الشيخ على هذا ثلاثة أيام.
ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصري شيخ الحنفية في زمانه، وكان قد
جمع بين العلم والعمل ركب حمارًا له وحوله أصحابه وقصد السلطان، فتلقاه
خاصته وأدخلوه إلى دار الملك راكبًا كما أمرهم، ولما رآه السلطان مشى إليه وأنزله
عن حماره وأكرم مثواه، وكان ذلك في رمضان قريب غروب الشمس، فلما صلوا
المغرب أحضر السلطان قدح شراب وناوله للشيخ فقال له الشيخ: ما جئت إلى
طعامك ولا إلى شرابك، فقال له السلطان: (يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه)
فقال له: إيش بينك وبين ابن عبد السلام؟ هذا رجل لو كان في الهند أو في أقصى
الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده ليتم بركته عليه وعلى بلاده،
ويفتخر به على سائر الملوك. فقال السلطان: عندي خطه باعتقاده في فتيا، وخطه
أيضاً في رقعة سيَّرتُها إليه فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكَم بيني وبينه، ثم أحضر
السلطان الورقتين فقرأهما الشيخ إلى آخرهما وقال: هذا اعتقاد المسلمين، وشعار
الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى
ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار. فقال السلطان: نحن نستغفر
الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى
الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته.
وكان الحنابلة قد استنصروا به على أهل السنة وعلت كلمتهم عليهم، بل
صاروا يسبونهم ويضربونهم، فأمر السلطان الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة
الكلام، وأن لا يفتي فيها أحد سدًّا لباب الخصام، فانكسرت نفوس المبتدعة بعض
الانكسار، وفي النفوس ما فيها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى قدم السلطان الملك
الكامل من مصر إلى دمشق، وكان اعتقاده صحيحًا ومتعصباً لأهل الحق،
فاستقصى ما وقع في المسألة وقال للملك الأشرف: يا خوند، ماذا صنعت في أمر
الشافعية والحنابلة؟ فقال: يا خوند، منعت الطائفتين من الكلام وانقطع بذلك
الخصام، فقال الملك الكامل: والله مليح، ما هذه إلا سياسة وسلطنة تساوي بين
أهل الحق والباطل وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن
يظهروا دين الله وأن يشنق من هؤلاء المبتدعة عشرون نفسًا ليرتدع غيرهم، وأن
يمكَّن الموحدون من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين. فعند ذلك
زلت أعناق المبتدعة وانقلبوا خائبين ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا،
وكفى الله المؤمنين القتال على يد الملك الكامل، وانقشعت المسألة للملك الأشرف،
وصرح بخجله وحيائه من الشيخ وقال: لقد غلطنا في ابن عبد السلام غلطة عظيمة،
وصار يترضاه ويعمل بفتاويه ويقرأ مصنفاته.
__________(1/851)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شكوى الزمان
ذكرنا في عدد سابق أننا روينا في الأحاديث والآثار المسلسلة أن عائشة
الصديقة رضي الله تعالى عنها كانت تنشد قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وتقول: (رحم الله لبيداً، فكيف لو رأى زماننا هذا) ويتلو هذا البيت بيتًا
آخر روي أنها كانت تنشده أيضاً وهو:
يتأكلون خيانة ومشحة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
ويروى أن أعرابيًّا قال لابن عباس رضي الله عنه: إني سمعت عائشة تذم
دهرها وهي تتمثل ببيتَيْ لبيد؟ فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت
عاد دهرها. قيل: وُجد في خزائن عاد سهم مفوق كأطول ما يكون من رماحنا،
وإذا عليه مكتوب:
أليس إليَّ أجياد صبح بذي اللوى ... لوى الرمل فاعذر للنفوس معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد
وعن ابن أحمر قال: كنا عند أبي نعيم، فذكروا قول لبيد، فقال أبو نعيم:
ذهب الناس واستقلوا فصرنا ... خلفا في أراذل النسناس
من أناس نعدهم من عديد ... فإذا كوشفوا فليسوا بناس
كلما جئت أبتغي النيل منهم ... بدأوني قبل السؤال بياس
وبكوا لي حتى تمنيت أني ... عند هذا خلصت رأساً براس
(النسناس) بفتح النون وكسرها: حيوان على شكل الإنسان، هكذا يذكر في
معاجم اللغة، والعامة تسمي به نوعاً من القردة، فإذا كان يوجد حيوان أقرب إلى
الإنسان من القرد وكان هو المسمى بالنسناس فلعله إذا اكتُشف عليه حيًّا أو ميتًا
متحجرًا يكون هو الحلقة المفقودة التي يتوقع الظفر بها أهل مذهب النشوء، ونحن
معاشر المليين نقول: إن الإنسان خلق ابتداءً على صورته هذه، سواء وجدت تلك
الحلقة أم لم توجد. وروي أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ذهب الناس
وبقي النسناس. قيل: وما النسناس؟ قال: (الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس) .
وفي كتاب تفضيل الكلاب، بعد ذكر بيتي لبيد قال: أخبرنا أبو العباس محمد
ابن يزيد النحوي قال: ذكر لي بعض المشايخ قال: كنت عند بشر بن الحارث
عشية فرأيته مغمومًا، فما تكلم حتى غربت الشمس، ثم رفع رأسه فقال:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضًا ليدفع معور عن معور
وأنشدنا أيضًا غيره:
ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ... سُروا وقالوا مرحبًا بالمقبِل
وبقي الذين إذا رأوني مقبلاً ... سيئوا وقالوا ليته لم يُقبل
(وقال آخر) :
ذهب الذين إذا غضبت تحملوا ... وإذا جهلت عليهم لم يجهلوا
وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها ... وإذا بخلت عليهم لم يبخلوا
قال: وأنشدني أبو عبد الله الدستواني:
ذهب الذين هم الغياث المنزل ... وبقي الذين هم العذاب المرسل
وتقطعت أرحام أهل زماننا ... وكأنما خلقت وليست توصل
الناس مشتبهون، مَن كشفته ... كشفت منه عن الذي لا يحمل
أما الفقير فحاسد متفطر ... حسدًا وأما ذو الثراء فيبخل
ويظن أن له بكثرة ماله ... فضلاً عليك وغيره المتفضل
وأنشدني أبو يعقوب الأديب:
ذهب الكرام فأصبحوا أمواتًا ... ورقًا تطير به الرياح رفاتا
وتبدلت عرصاتهم من بعدهم ... بسوى ثبات الصالحين ثباتا
وبقيت في خلف أحاذر شره ... وأخاف فيه من الصديق بياتا
(وقال آخر) :
ذهب الناس وانقضت دولة الناس ... فكلٌّ إلا القليل الكلاب
غير أن الوجوه في صور الأنس ... وأبدانهم عليها الثياب
لست تلقى إلا بخيلاً كذوبًا ... بين عينيه للإياس كتاب
إن من لم يكن على الناس ذئبًا ... أكلته في ذا الزمان الذئاب
وقال الشاعر:
ذهب الذين فضولهم معلومة ... ولهم إذا قحط الزمان جِفان
ذهبوا فليس لهم نظير واحد ... إذ لا تراهم - لا أبا لك - كانوا
لم يبق من أهل الفضائل والنهى ... إلا فلان باسمه وفلان
وقال الشاعر:
ذهب الذين عليهم وجدي ... وبقيت بعد فراقهم وحدي
سلف مضى وبقيت بعدهم ... وكذاك يذهب من بقي بعدي
هذا ما يقوله الشعراء في كل زمن، سواء كان ما قبله شرًّا منه أو خيرًا منه،
فلا يصح للمؤرخ أن يحتج بقولهم في تفضيل زمان على زمان؛ لأن الدليل مشترك
الإلزام.
__________(1/855)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أيها المسلم
إن كنت تترك الصوم لارتيابك في أصل الدين فمصيبتك أعظم المصائب
ومرضك أقتل الأمراض، ويجب عليك بحكم العقل -إن كنت تعقل - أن تبحث قبل
كل شيء عن علاج الكفر الذي كمُن في قلبك بسبب الجهل. سل العلماء العقلاء عن
الشُّبه التي عنَّت لك فأوقعتك في الريب، ويسهل عليك أن تورد السؤال مورد البحث
والاستفهام من غير تظاهر بأن الشبهة متمكنة من نفسك، وإذا كانت شبهتك جائية
من الفنون الطبيعية، فإياك أن تسأل عنها من لا وقوف له على تلك الفنون، فإنه
يزيدك مرضًا ولا يصيب منك غرضًا. وإذا كان يصعب عليك قصد العلماء أو
الظهور بالسؤال فاكتب إلى إدارة هذه الجريدة، ولك الخيار في التصريح باسمك
وعدمه، إلا إذا كنت تحب أن يكون الجواب خالصًا لك من دون الناس لأمر ما.
هذا هو الاحتياط، والعلم لا يعطيك إلا نورًا، والسكوت قد يكون سبب هلاكك
الأبدي.
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تُبعثُ الأموات، قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
وإن كنت تترك الصوم مغلوبًا للشهوة البهيمية، فعليك أن تعالج نفسك لتكون
إنسانًا يغلب شهوته، لا حيوانًا لا يحول بينه وبين شهوته إلا العجز عن تناولها،
يساعدك على هذا تصور فوائد الصوم الرياضية، من تجفيف الرطوبات البدنية،
وإفناء المواد الرسوبية التي تكون من آثار الطعام (هكذا سماها الرئيس ابن سينا
الحكيم الشهير) وقد يتولد منها أمراض. وتصور الفوائد الأدبية التي أشرنا إليها في
العدد الماضي، مع تذكر ما أعد الله تعالى للصائمين من الأجر، وما على تاركي
الصوم من الوزر والإصْر وأنت مؤمن بكل هذا.
(كلمة أخرى) : وإذا أعيتك الحيلة في شهوتك واخترت أن لا يكون لك تفوق
على القرد والخنزير اللذين لا يصبران عن شهوة الأكل والوقاع متى عرضت لهما،
فاستتر بحجاب، فإن معصية العلانية أشد وأقبح من معصية السر؛ لأن في العلانية
هتك الحرمة وعدم المبالاة بالدين وآدابه، وإيناس الناس بالرذيلة وتجريئهم على
ارتكاب المنكرات واجتراح السيئات، فتحمل بذلك أوزارهم مع أوزارك، وليكن
احتجابك على أشده على ولدك وأهلك، لكيلا تفسد أخلاقهم وتسيء تربيتهم،
فينشأون عبيد الشهوات وحلفاء الإسراف وأولياء الشيطان.
بالتربية الحسنة تسعد العائلات والأمم، ومدار التربية على الاقتداء، والرجل
قدوة المرأة، والآباء والأمهات هم الأسى (جمع أسوة بمعنى القدوة) التي تأتسي بها
الأبناء، والدين هو المرشد الأمين والنور المبين، فمتى ضل عن نهجه الآباء لحقه
الأمهات، إما مشايعة ومتابعة وإما إقرارًا وسكوتا، فكيف يكون مع هذا حال الأبناء
والبنات؟ ليل بهيم، وفساد عظيم، فلا تكونوا معاشر المسلمين أعوانًا للشياطين
على أبنائكم وأنصارًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم:
6) .
__________(1/857)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحكم بالشريعة في السودان
ذكرنا في عدد سابق ملخص خطبة اللورد كرومر في أم درمان وأنه حين وعد
بالعدالة وقال: إن الإنكليز متعقلون بدينهم، ويعلمون كيف يحترمون دين غيرهم،
وخاطب السودانيين بقوله: (فلا يتعرض لكم أحد في دينكم على الإطلاق) سأله أحد
المشايخ: هل يتضمن هذا الوعد الجري على الشريعة والعمل بها؟
فقال اللورد: نعم.
ولا يصدق وعد اللورد وجوابه إلا بأمرين اثنين:
أحدهما: عدم إرسال أحد من دعاة النصرانية إلى السودان، بل عدم تمكنيهم
من الذهاب إليه، فإذا وفد المبشرون بالإنجيل من قسوس البروتستان أو غيرهم إلى
السودان يدعون أهله إلى دينهم فالوعد يكون مكذوبًا، قصد به الخداع والتغرير؛
لأن التعرض للدين في هذا العصر لا يكون إلا بالدعوة، وهذا التعرض لم تسلم منه
مصر، فإذا سلمت منه السودان فلا مندوحة لنا عن القول بأن هذه السلامة نعمة
يحق لبريطانيا أن تمتنها على السودانيين، ويحق عليهم أن يشكروها لها.
وثانيهما: أن تكون جميع الأحكام القضائية والمدنية بالشريعة الإسلامية الغراء
والأحكام الشرعية لا تكون صحيحة ونافذة إلا إذا كانت تولية القضاء من جانب
خليفة المسلمين وإمامهم الأعظم، أو من مأذونه. وقد صرح اللورد في خطبته بأن
الذي يؤسس المحاكم ويولي القضاة هو اللورد كتشنر، وأن الموظفين من الإنكليز
هم الذين يقيمون الأحكام في كل مركز من السودان، فأنى لهؤلاء الإنكليز معرفة
الشريعة الإسلامية؟ ومتى كان اللورد كتشنر خليفة على المسلمين أو مأذونًا بتولية
القضاة من الإمام الأعظم؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فما معنى جوابه للشيخ بنعم.
إن وعده يتضمن الجري على الشريعة إلا أننا لم نفهم لهذا معنى ولم تتصور أذهاننا
كيف يكون صادقًا.
والذي يتبادر إلى الذهن أن الوعد بالحكم بالشريعة واحترام الدين في السودان
يكون كالوعد السابق بأن السودان كله للحكومة الخديوية كمصر، وأن بريطانيا
العظمى تساعد على قطع دابر الثوار الخارجين، وإرجاع البلاد إليها. أو كالوعد
بعد الفتح بأن البلاد السودانية ستكون مشتركة بين مصر وإنكلترا؛ لأن الثانية
ساعدت الأولى على الفتح، وشريعة العدل تقضي أن من يساعد أحدًا في شيء يكون
شريكه فيه، وإن كان في مساعدته متبرعًا، والمساعَد (بفتح العين) هو صاحب
الشيء وصاحب العمل، ويقدر على القيام من دون مساعدة، ثم تفسير هذه المشاركة
بأن صاحب الملك والعمل ليس له في الشركة شيء إلا الإنعام عليه بلفظ (شريك)
بشرط أنه لا يملك في المشترَك فيه قولاً ولا عملاً.
__________(1/859)
الكاتب: حافظ عبد الرحمن الهندي
__________
بغداد والتجارة
لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء
قراء (وكيل) يعرفون ما اشتهرت به هذه المدينة من قديم الزمان حتى إنه لم
يكن يوجد لها نظير في المدائن الشرقية، لا سيما أن ما حوته من الفضل وحازته من
الرونق والبهاء تشهد به آثارها الباقية للآن، ومما يزيد الشهرة فيها ضريح سيدي
عبد القادر الجيلاني قدس الله سره وأفاض علينا بره، فبهذا فاقت على أمثالها من
البلاد الشرقية حتى إن جميع المسلمين من أنحاء الكرة الأرضية يأتون لزيارته
أفواجًا أفواجًا، ويتبركون بزيارة قبره الشريف، ففي مثل هذه البقعة المباركة التي
جذبت قلوب المسلمين إليها لا عزم لتجارها أن يساعدوا الزوار والسكان فيما
يحتاجون إليه من أمورهم الدنيوية، وما أقصده من هذا هو أن تجار بغداد يلزمهم أن
يهتموا في تأسيس فابريقات كما اهتم إخوانهم في الآستانة؛ ليتمتع البغداديون
بحاصلات بلادهم، ويتمول التجار من حاصلات أوطانهم.
فما هذا الكسل الذي أخبرنا به مكاتب جريدة وكيل الغراء في بغداد، فقد كتب
أن التجار يرسلون الصوف في كل سنة بمقدار ملايين جنيهات إلى لندرا ومارسيليا،
وبعد نسجه فيها يرجع للبلاد، فيبيعه هؤلاء التجار بأثمان غالية جدًّا للوطنيين،
والظاهر أن البغداديين إذا اهتموا بتأسيس الفابريقات يكون ذلك سببًا لمعيشة الفقراء
المساكين، وعونًا لهم برخص الملابس، ولا يخفى أن كل ما ينفع به الصناع في
لندرا ومارسيليا يعود ذلك على أهلها، فهذا العمل أنفع الأعمال للبلاد، فإنه يضعف
ثروة التجار ويقوي أهل الديار.
أفلا ينظر البغداديون إلى سكان أوروبا كيف تغلبوا على البلاد الشرقية وتملكوا
عليها بتأسيسهم الفابريقات ورواج تجارتهم مع كثرة المصنوعات، فقلما يوجد بيت
خالٍ من مصنوعاتهم، ومجلس عارٍ عن مفروشاتهم، حتى إن الخيط والإبرة والأزرار
التي يحتاج إليها الإنسان في كل حين كل ذلك من مصنوعاتهم، وجُلّها من عمل
فابريقاتهم، ومع ذلك فإنها متقنة الصناعة ورخيصة القيمة.
فعجبًا لقوم يعجز أفرادهم عن تحصيل لوازم المعيشة، ويحتاجون في ذلك إلى
قوم دون قومهم، فهذه والله أسباب الانحطاط فيا لها من مصيبة.
... ... ... ... ... ... ... ... حافظ عبد الرحمن الهندي
(المنار)
صاحب هذه النبذة هو المُكاتِب الخصوصي في القاهرة لجريدة وكيل الغراء
التي تصدر في بلدة أمرتسر (بنجاب) وقد أخبرنا أن مكاتب هذه الجريدة في
بغداد خاطبنا بواسطته، ورغب إلينا وإليه في نشر مقالة في الترغيب بإنشاء
المعامل (الفابريقات) الصناعية الوطنية، خدمة للبلاد، وقد أجاب هو الطلب بهذه
المقالة الوجيزة، وسنكتب نحن أيضاً في الموضوع، إن شاء الله تعالى.
__________(1/860)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القضاء المبرم على السودان
جاء في الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) ما نصه:
(وفاق)
بين حكومة جلالة ملك الإنكليز وحكومة الجناب العالي خديو مصر بشأن إدارة
السودان في المستقبل.
حيث إن بعض أقاليم السودان التي أخرجت عن طاعة الحضرة الفخيمة
الخديوية قد صار افتتاحها بالوسائل الحربية والمالية التي بذلتها بالاتحاد حكومتا
جلالة ملكة الإنكليز والجناب العالي الخديوي.
وحيث قد أصبح من الضروري وضع نظام مخصوص لأجل إدارة الأقاليم
المفتتحة المذكورة، وسن القوانين اللازمة لها بمراعاة ما هو عليه الجناب العظيم
من تلك الأقاليم من التأخر وعدم الاستقرار على حال إلى الآن، وما تستلزمه حالة
كل جهة من الاحتياجات المتنوعة.
وحيث إنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة جلالة الملكة المترتبة على
ما لها من حق الفتح، وذلك بأن تشترك في وضع النظام الإداري والقانوني الآنف
ذكره، وفي إجراء تنفيذ مفعوله وتوسيع نطاقه في المستقبل.
وحيث إنه تراءى من جملة وجوه أصوبية إلحاق وادي حلفا وسواكن إداريًّا
بالأقاليم المفتتحة المجاورة لهما.
فلذلك قد صار الاتفاق والإقرار فيما بين الموقعين على هذا بما لهما من
التفويض اللازم بهذا الشأن على ما يأتي وهو:
(المادة الأولى) : تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي
الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض وهي:
أولاً: الأراضي التي لم تُخلِها قط الجنود المصرية منذ سنة 1882 أو.
ثانيًا: الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان
الأخيرة، وفُقدت منها وقتيًّا ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية
بالاتحاد أو.
ثالثا: الأراضي التي تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدًا.
(المادة الثانية) : يستعمل العلم البريطاني والعلم المصري معًا في البر
والبحر بجميع أنحاء السودان، ما عدا مدينة سواكن، فلا يستعمل فيها إلا العلم
المصري فقط.
(المادة الثالثة) : تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى
موظف واحد بلقب (حاكم عموم السودان) ويكون تعيينه بأمر عالٍ خديوي بناء على
طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عالٍ خديوي يصدر
برضاء الحكومة البريطانية.
(المادة الرابعة) : القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي يكون لها قوة القانون
المعمول به، والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان، أو تقرير حقوق الملكية
فيه بجميع أنواعها، وكيفية أيلولتها والتصرف فيها يجوز سنها أو تحويرها أو
نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام، وهذه القوانين والأوامر واللوائح
يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان أو على جزء معلوم منه، ويجوز
أن يترتب عليها صراحة أو ضمنًا تحوير أو نسخ أي قانون أو أية لائحة من
القوانين أو اللوائح الموجودة.
وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا
القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة، وإلى الرئيس ومجلس
نظار حكومة الجناب العالي الخديوي.
(المادة الخامسة) : لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من
القوانين أو الأوامر العالية أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن
فصاعدً إلا ما يصدر بإجرائه منها منشور من الحاكم العام بالكيفية السالف بيانها.
(المادة السادسة) : المنشور الذي يصدر عن حاكم عموم السودان ببيان
الشروط التي بموجبها يصرح للأوروبيين من أية جنسية كانت بحرية المتاجرة أو
السكني بالسودان أو تملك ملك كائن ضمن حدوده، لا يشمل امتيازات خصوصية
لرعايا أية دولة أو دول.
(المادة السابعة) : لا تدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من
الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان، ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم
المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية، إلا أنه في حالة ما إذا
كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن أو أية ميناء أخرى من
مواني ساحل البحر الأحمر لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة
الجاري تحصيلها حينئذ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من
الخارج، ويجوز أن تقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما
يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن.
(المادة الثامنة) : فيما عدا مدينة سواكن لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة
على أية جهة من جهات السودان، ولا يعترف بها فيه بوجه من الوجوه.
(المادة التاسعة) : يعتبر السودان بأجمعه ما عدا مدينة سواكن تحت الأحكام
العرفية، ويبقى كذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام.
(المادة العاشرة) : لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري
قنصلاتات بالسودان، ولا يصرح لهم بالإقامة به قبل المصادقة على ذلك من
الحكومة البريطانية.
(المادة الحادية عشرة) : ممنوع منعًا مطلقًا إدخال الرقيق إلى السودان أو
تصديره منه، وسيصدر منشور بالإجراءت اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن.
(المادة الثانية عشرة) : قد حصل الاتفاق بين الحكومتين على وجوب
المحافظة منهما على تنفيذ مفعول معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ 2 يولية سنة
1890 فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو
الروحية وبيعها أو تشغيلها.
تحريرًا بالقاهرة في 19 يناير سنة 1899. الإمضاءات
... ... ... ... ... ... ... ... ... (كرومر) (بطرس غالي)
(المنار)
الخلاصة أن السودان أصبح وأمسى مستعمرة إنكليزية بإقرار
الحكومة المصرية رسميًّا، وإقرار الدولة العثمانية سكوتًا (إن سكتت بحجة انتظار
الفرص أو غيرها من الأحوال التي نراها تضيع فيها حقوقها) ولمصر فيه شركة
لها منها الراية التي ترفع بجانب الراية الإنكليزية، وعليها أن تقدم الأموال لإدارة
السودان والعساكر لحفظه تحت السلطة الإنكليزية. فهكذا تقضي القوة على الضعف،
وهكذا يسود العلم على الجهل. فلتنتقل الحكومات الإسلامية من النوم إلى الموت،
حتى لا يبقى لها عين أو أثر، ولتعتقد الشعوب الإسلامية أن لا قوام لها ولا نهوض
إلا بحكوماتها التي هي أشد بلاءً عليها من أعدائها، أو لتنهض إلى العمل بنفسها
مقاومة لحكامها قبل الأجانب، والله لا يضيع أجر العاملين.
__________(1/861)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقاريظ
(كيفية انتشار الأديان)
رسالة نفيسة صنفها صديقنا الكامل والكاتب الفاضل صاحب العزة رفيق بك
عظم زاده من أمراء القطر السوري. وقد قسمها إلى خمسة فصول:
الفصل الأول: في حاجة البشر إلى الاجتماع وبيان أن دعامته الدين.
الفصل الثاني: في ترقي الشرائع بترقي الإنسان.
الفصل الثالث: القوة في الشرائع.
الفصل الرابع: الجهاد في الشرائع الإلهية.
الفصل الخامس: كيفية قيام الشرائع وانتشارها.
وسننقل منها في الأعداد التالية نبذًا يتبين منها عظيم فائدتها إن شاء الله تعالى،
وقد طبعت في مطبعة جريدة الإسلام في مصر.
***
(الدر المنتخب في تاريخ المصريين والعرب)
كتاب يؤلفه وينشره حضرة الأديب النبيل أتربي أفندي أبو العز، وقد طبع في
هذه الأيام الجزء الثالث منه، وهو في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده إلى وفاة
النبي صلى الله عليه وسلم، جرى فيه على النهج الحديث في الترتيب والتقسيم،
وأكثر فيه من الشعر؛ لأنه ديوان العرب ومظهر أفكارهم وأدبهم، حتى صار
الكتاب أشبه بالأدب منه بالتاريخ، وذلك مما يستميل إلى مطالعته، وقد طالعنا منه:
(الفصل الرابع: في أخلاق العرب) فانتقدنا عليه أنه لم يذكر فيه ما كان فاشيًا
فيهم قبل الإسلام من الأخلاق المذمومة، فعساه يستدرك ذلك بذكر أخلاق العرب بعد
الإسلام، والمقابلة بين الحالين، فوظيفة المؤرخ بيان الحقيقة محمودة كانت أو
مذمومة، والكتاب يُطلب من حضرة مؤلفه ومن مكتبة الحاج محمد حجاج في مصر،
فنحث على اقتنائه ونشكر مصنفه على اجتهاده في خدمة هذا الفن المفيد.
__________(1/865)
16 رمضان - 1316هـ
فبراير - 1899م(1/)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
مَن المسئول الحكومة أم الشعب؟! [*]
لحضرة الكاتب الفاضل عزتلو رفيق بك عظم زاده من أمراء الشام
إن من لوازم العمران ومقتضى الحضارة ترقي قوة العلم بالاختصاص بمزايا
الاجتماع القائم على دعائم التعاون بين الشعوب، وكلما نمت هذه القوة في قوم كانوا
آخَذ بنواصي المدنية، وأقرب لتسنم ذرى الحضارة، لما يترتب على وجود سنن
الاختصاص بين الشعوب من تحديد المقاصد وتوزيع الأعمال على قانون مخصوص
تشعر به كل نفس بطبيعة الترقي والعلم بما يفرض عليها عمله، ويسوغ لها تركه
في عالم الاجتماع. وهذا ما نريده من معنى الاختصاص بمزايا الاجتماع المدني،
أو هو بعبارة أصرح: معرفة كل فرد ما أنيط به من العمل في مجتمعه على حدود
وأحكام تمنع اختلاط المقاصد وتغالب النفوس المؤديين إلى تشويش نظام الاجتماع
وفقد توازن القوى العاملة بين الأفراد البشرية في أي قبيل كان.
فإذا فقد التوازن رجح القوي على الضعيف، وأكل الغني الفقير، فينشأ عن
ذلك فوضى الأعمال التي بها تتهافت النفوس على حب الأثرة، ويتغالب الناس على
مناط الحاجات، فيستهلك فريق كبير من الشعب في سبيل تحصيل القوت وتنتهك
القوى المتضافرة، فتخمد النفوس السامية، ويختل نظام الحياة القومية، وتنفصم
عرى التعاون والاختصاص بين أفراد الشعب، ومن ثم يأخذون بالهبوط إلى دركات
الضعة، فينتهون إلى حيث يبدأ غيرهم بالعصور من الشعوب {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلُ} (الأحزاب: 38) .
ومن المقرر أن أس الاجتماع في هذا الوجود البشري، ومناط الرجاء في
انضمام الأيدي العاملة هي الحكومة، التي اختصت بالهيمنة على نظام الهيئة
المحكومة، والقيام بإجراء قوانين الاجتماع الطبيعية والوضعية، ونريد بالأولى:
العوائد والأخلاق التي تتدرج في مهد الأمة وتترقى بترقي الزمان، فالحكومة مكلفة
بمراعاة جانب هذه القوانين والمحافظة عليها من عبث العابثين، تفاديًا من تطرق
العوارض الفاسدة، والعلل المضرة على أخلاق الأمة ومألوفات النفوس. وبالثانية:
قوانين التشريع الكافلة لاستمرار سير نظام المعاملات الدنيوية على وتيرة العدل،
القاضي بحياة المجتمعات وعمران الممالك في كل زمان ومكان، فالحكومة مكلفة
بتنفيذ أحكام هذه القوانين على وجه يبيح لكل فرد من أفراد الشعب التمتع بثمرات
عمله دون مغالبة عليها من سواه أو مزاحمة ممن عداه.
فمتى فرطت الحكومة بشيء من خصوصيات الهيمنة العادلة على القوانين
المذكورة، أو عبثت بتلك السنن الطبيعية، فقد بدأت بتشويش نظام الاختصاص
ومهدت للشعب سبيل التغلب وطريق الفوضى في الأعمال والتباين في المقاصد،
فأودت به إلى الهلاك وبحياتها إلى خطر الارتباك.
لهذا كان لا بد لإنماء قوى العلم بالاختصاص بمزايا التعاون من سلامة سنته
الناجحة وقوانينه النافعة، وإنما تكون سلامتها بالمسيطر عليها، وهو الحكومة،
فالحكومة بهذه المثابة مربية الشعوب، فإذا ربت شعبًا على مبادئ احترام القوانين
الاجتماعية نشأ كل فرد من أفراده على معرفة الواجب والعلم بما له وعليه، وهذا
غاية ما يطلب من أسباب الترقي للمتجمعات البشرية، والعكس بالعكس، ولا يحتاج
إثبات هذه القضية لأكثر من النظر إلى حكومات المغرب المتمدنة التي احترمت
عندها قوانين الاجتماع، فأنمت في شعوبها قوة الإحساس والشعور بمزايا التعاون
والاختصاص، فعرفوا طرق الواجب التي تؤدي إلى خير المجتمعات فسلكوها غير
متلكئين، وأدركوا من الحضارة شأوًا أعجز الأولين.
والأمر في المشرق بخلاف هذا؛ فإنك ترى الحكومات الآن فيه بالغة منتهى
الضلال في تربية الشعوب على نبذ قوانين الترقي والاجتماع، وهتك حرمة
الاختصاص، حتى أدى ذلك إلى اختلال نظام المجتمع الشرقي، وانحلال عرى
دوله العظيمة، ذلك من جراء استرسال الأهواء وتغالب النفوس التي ضلت عنها
المقاصد، فكلَّتْ دونها الهمم وخمدت العواطف، ففقد الشعور بحاجات العمران
ومقتضيات الزمان. هذا كله وقد بلغ الأمر بتلك الحكومات إلى أنها لا تزال تهدم
بيدها أهم القواعد في قوانين الاجتماع وسنن الطبيعة وهي كثيرة، ومنها: ما تذكره
مثالاً يؤيده ما ذهبنا إليه في هذه المقالة، ويبرهن على منتهى ما بلغت إليه في هذا
العصر حكومات المشرق - وأخصها الإسلامية - من سوء التدبير في سياسة الأمم
وإليك المثال.
قضت سنن الوجود الطبيعية أن يكون العقل في الإنسان رائد العلم الضروري
لحياة البشر، وتدبير أصول المعيشة، فلا يزال هذا العقل دائبًا في تتبع هذه الغاية،
حتى يبلغ مبلغ الكمال الاكتسابي الذي يؤهل الإنسان لبسط يد السلطة على العلم
بمقتضيات الحياة الأدبية، ويرفعه إلى ذرى الحضارة والتمدن، وهذا معنى قولهم:
الإنسان مدني بالطبع.
فإذا كانت طبيعة الوجود البشري نفسها تقضي بتسريح العقل في مناحي العلم
لاكتساب معرفة مواد الحياة المدنية، فأي خرق في الرأي وإفساد في سنن الطبيعة
أعظم من حيلولة الحكومة بين الشعب وبين مناحي عقول أفراده التي تؤهله لأن
يكون مدنيًا عارفًا بواجبات الإنسان القاضية بتفضيله على سائر الحيوان.
هذا الخرق في الرأي والإفساد في سنن الطبيعة هو ما تفعله الآن حكومات
الإسلام في المشرق، وذلك باتخاذها الوسائل القاضية بإضعاف قوة النزوع إلى
العلوم في سائر أفراد الشعب لأسباب * وظنون تضحك الثكلى.
نعم نرى أن بعض تلك الحكومات لا تحصر العقول في دائرة ضيقة من العلم
الذي لا يتعدى الضروري من أمر الدين، كما يفعله البعض الآخر، بل هي تبيح
تلقي العقول لعلوم الدنيا، وتؤسس لها المدارس، ولكن تغفل عما وراء ذلك من
لزوم تنشيط النفوس على العمل، بل تحظره ألبتة تفاديا من ترقي العقول إلى متناول
المعرفة بالحقوق والواجبات التي تلزم كل فرد من أفراد الشعب بالنسبة إلى الحكومة
والوطن، فهي تحظر الاجتماعات العلمية وتحجر على الجرائد وتختم على الأفواه
وتغل الأيدي وتبعد النوابغ وتدني الجهلاء، إلى آخر ما يدعوا لمنع الفوائد التي
يترقبها الشعب من تلك المدارس، ويرجو الحصول عليها من تلك العلوم. إذن فلا
تفاوت في الوجهة بين سائر حكومات المشرق في سوء التدبير الذي انتهى إلى ما
أصبحنا فيه معاشر الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا من الفوضى في الأعمال
والتباين في المقاصد والضعف في النفوس والانحلال في العزائم والفتور في الهمم،
وغير ذلك من بواعث التقهقر الذي مزق الأحشاء، وأدمى القلوب، وأودى بحياة
الأمة، وقضى على الشرق قضاء لا مرد له إلا بتنبه حكوماته من سنة الغرور
وإطراحهم لعجرفة الأيام الغابرة، والعمل مع الشعوب بما يدفع هذه الرزايا،
ويصرف هذه المحن، وإلا فتالله إن تلك الحكومات لمسؤولة أمام الله وإمام الإنسانية
وأمام العدل عن تلك الحرمات المهتوكة، والدماء المسفوكة، والربوع المستباحة
لسلب السالبين ونهب الناهبين، والممالك الممزقة، والشعوب المفرقة، وما لا يعلم
بنهايته إلا الله، والله بكل شيء عليم اهـ.
(رأي المنار في الجواب)
ما ذهب إليه حضرة الكاتب الفاضل من أن المسئول بإسعاد البلاد وترقي الأمة
حكامها، هو المذهب المتبع عند الشعوب الشرقية كافة، وسببه استعباد حكام الشرق
وملوكه لتك الشعوب، واستبدادهم فيها بحيث صار هذا الفعل والانفعال راسخين في
النفوس بالوراثة، وقد جاء الإسلام بالتعليم الديمقراطي المعتدل، وقيد سلطة الملوك
والأمراء والرؤساء بشرعه الذي جعل الناس فيه شرعا (بالتحريك أي: سواء) ولكن
مُحِيَ هذا التعليم بعد الخلفاء الراشدين كما شرحناه في مقالات (الخلافة
والخلفاء) وغيرها، وصار ملوك المسلمين وحكامهم بتمادي الزمان أشد استبدادًا
ممن عداهم. ولما سرى روح هذا التعليم في أوروبا بسبب انتشار العلوم والمعارف
فيها - وإنما كان مبدأ فيضانه من الإسلام - تَرَبَّتْ بحسن تربيتهم ملوكهم وحكامهم،
وقيدوا السلطة، حتى انتهوا إلى الجمهورية، فارتقوا بذلك ارتقاء لم يعهد في تاريخ
الإنسان، حتى كاد يتم لهم الاستيلاء على العالم كله. فخذل الجاهل أمام العالم،
ودحر الظالم تجاه العادل، وأوشك تنازع البقاء أن يقضي بمحو السلطة الشرقية أو
الإسلامية خاصة من لوح الوجود بما ظهر من عجز مقاواة السلطة الاستبدادية
للسلطة الدستورية الشوروية، وأحست الشعوب الشرقية أو الإسلامية بالخطر الذي
يتهددها وهو العدم والفناء القومي والملي، لكن الجهل بحقيقة الداء والدواء تركها في
أمر مريج، تنظر إلى ملوكها وحكامها فتشاهد البلاء ينصب عليها من قِبلهم، فتقع
في هوة اليأس وتهوي إلى وهدة القنوط. وكيف لا ييأس من يشاهد الطبيب يقتل
المرضى بما يجرعهم من السموم؟ وكيف لا يقنط من يرى البلاء والشقاء ينصب
عليه من ميازيب السعادة والنعماء؟
اليائس لا عمل له، اليائس لا يرجى منه خير، اليائس في عداد الموتى، فمن
أراد أن يخدم أمة يئست من الحياة العزيزة القومية بيأسها من حكامها، فليقنعها قبل
كل شيء بأن قوة الشعب فوق كل قوة؛ لأنها مظهر القوة الإلهية، وأن الأمم إذا
تربت وتعلمت تربية وتعليمًا صحيحين تعتز وتسعد بقسميها الحاكمين والمحكومين،
وأن الأمة في استطاعتها أن تقوم بهذه التربية وهذا التعليم من دون الحكومة بهمة
علمائها العقلاء وأغنيائها الفضلاء، وبهذا نهضت أوروبا التي بهرت مدنيتها
أبصارهم وحيرت ألبابهم. وهذا الموضوع الشريف هو أهم المقاصد التي أنشأنا
لأجلها جريدتنا (المنار) ، فقد قلنا في مقدمة العدد الأول:
فعليك بالعلم والعمل، رُض بهما نفسك، ورَبِّ عليهما ولدك، فلقد حل من
لساني عقدة الاعتقال والسكوت، وأطلق قلمي من عقال الدعة والسكون، استغراق
بعض إخوتي وإخوتك في النوم، وغرق بعضهم في بحار الوهم، وجهل المريض
منهم بدائه، ويأس العالم بمرضه من شفائه، فأنشأت هذه الجريدة إجابة لرغبة من
تنبهت نفوسهم لإصلاح الخلل، ومشايعة للساعين في مداواة العلل، الذين أرشدتهم
التعاليم الدينية، وهداهم النظر في الآيات الكونية، إلى أن اليأس من روح الله،
والقنوط من رحمته جل علاه، هو عين الكفر والضلال، وآية الخزي والنكال،
فأحبوا أن يعملوا لأمتهم، ويقوموا بخدمة لملتهم، إلخ.
ثم قلنا في بيان مقاصد الجريدة من المقدمة أيضا: (وغرضها الأول: الحث
على تربية البنات والبنين، لا الحط على الأمراء والسلاطين، والترغيب في
تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم
وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة وطروق
أبواب الكسب والاقتصاد) .
ومنها أيضًا: (وتُنبه - أي الجريدة - العثمانيين على أن الشركات المالية هي
مصدر العمران، وينبوع العرفان، وأن عليهما مدار تقدم أوروبا في الفنون
والصنائع لا على الملوك والأمراء، فهي التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد
المعامل والمصانع، وتسير المراكب والبواخر، ونموذج ذلك بين أيديهم وتحت
مواقع أبصارهم) .
وكتبنا في العدد الثاني محاورة في سعادة الأمة، أوردنا فيها أسئلة كثيرة تتعلق
بتحصيل هذه السعادة، وفندنا في الكلام عن أجوبتها جواب مَن حَصَرَ السعادة في
الحكام، فقلنا بعد إيراد الأسئلة:
فلما فرغت المسائل وسكت السائل، وطلب ما عند القوم من الجواب، ابتدر
أحدهم فقال: لا شك أن الأمراء والحكام هم الذين يكونون بِنى (جمع بنية) الأمم،
وينفخون فيها روح الوحدة. وينشقونها نسيم الحياة الوطنية. ويمدون فيها جداول
الثروة، بما يمهدون من طرق الكسب ويحفرون من الترع ويبنون من المعامل
والمصانع، ويهيئون من الآلات والأدوات إلخ ما أشرتم إليه من أسباب السعادة.
فرد عليه السائل قائلاً: إذا فرضنا أن الحكومة غنية مع فقر الأمة وأمكنها أن
تعمل كل هذه الأعمال، فهل في استطاعة الحاكم أن يقتلع من نفوس الأمة جراثيم
الأخلاق الذميمة، وينقي منها بذور العادات الرديئة التي تنجم عنها الأفعال المضرة،
ويغرس فيها أشجار الأخلاق الفاضلة والسجايا الجميلة التي تثمر الأعمال النافعة؟
كلا إن من يلقي التبعة كلها على الحكام مخطئ في حكمه، وإنني رأيت أكثر الأمم
الشرقية لا يرون لأنفسهم وجودًا إلا بالحكام، ويرون أن صلاح الأمة وفسادها وغيها
ورشادها وصحتها ومرضها وغناها وفقرها، بل ومحياها ومماتها، كل ذلك بيد الحاكم
حتى كأن الحاكم بيده ملكوت كل شيء وهو يجير لا يجار عليه، وكأن هذا الوهم
متسلسل فيهم بالإرث من عهد من قال {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258) وعهد
من قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24) وجهلوا أن الحاكم ليس إلا رجلاً من
الأمة، وأن الحاكمية مازادت في فضائله، ولا منحته قوة فوق القوى البشرية، بل
ربما أفسدت أخلاقه وأسقمت مداركه (كما شوهد في البعض) والصواب أن إصلاح
الأمة لا يكون من الحاكم، نعم إن الحاكم إذا ساعده يكون أسرع سيراً وأقرب نجاحًا.
اهـ.
والحاصل أن ما قاله الكاتب الفاضل صحيح، ونحن معه إلا في حصر
المسئولية بالحكام، والحق أن الحاكم مسئول والشعب مسئول، فإذا قصر الأول لا
ينبغي أن يقصر الثاني، وبالله التوفيق.
__________
(*) فاتحة العدد 45 المؤرخ في 16 رمضان سنة 1316 28 يناير (17ك) 1899.(1/866)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجزية والإسلام
(تتمة ما سبق)
الثالث: أن الشريعة الإسلامية وإن لم تكن شأنها شأن الملكية والسلطنة، بل
الغاية التي توخاها الشرع ليست إلا تكميل النفس وتطهير الأخلاق والحث على
الخير والردع عن الإثم، ولكن لما كانت هذه الأمور يتوقف حصولها على نوع من
السياسة الملكية، لم تكن الشريعة لتغفل عنها كليًّا فاختارت جملة من الوضائع تكون
مع سذاجتها كافلة لانتظام أمر الناس وإصلاح ارتفاقاتهم.
ومن ذلك: الجهاد والقتال المقصود بهما الذب عن حِمى الإسلام والدفع عن
بيضة المُلك وإزاحة الشر وبسط الأمن واستتباب الراحة، فجعل الجهاد فرضًا
محتومًا على كل أحد ممن دخل في الإسلام، إما كفاية، وهذه إذا لم يكن النفير عامًّا
وعينًا إذا هاجم العدو البلد وعم النفير.
قال في الهداية: الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن
الباقين، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه، إلا أن يكون النفير عامًّا فحينئذ
يصير من فروض الأعيان.
فالمسلم لا يخلو من إحدى الخطتين: إما مرتزق، وهو من دخل في العسكر
ونصب نفسه للقتال. أو متطوع، وهو مَن لم يأخذ نصيبه من الجهاد، ولكن إذا
جاءت الطامة ووقع النفير لا يمكنه الاعتزال عن القتال والتنحي عنه، بل عليه أن
يدخل فيما دخل المسلمون طوعًا أو كرهًا، وإذا كان من المسلَّم الثابت أن المرتزق
والمتطوع سيان في الحقوق الكلية التي تمنح للعسكر، كان من الحق الواضح أن
يعفى المسلمون كلهم عن ضريبة الجزية، أما أهل الذمة فما كان يحق للإسلام أن
يجبرهم على مباشرتهم القتال في حال من الأحوال، بل الأمر بيدهم إن رضوا
بالقتال عن أنفسهم وأموالهم عُفُوا عن الجزية، وإن أبوا أن يخاطروا بالنفس فلا أقل
من أن يسامِحوا بشيء من المال وهي الجزية، ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا
المنطوية في هذا البيان، أي إثبات أن الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين إلا للقيام
بحمايتهم والمدافعة عنهم، وأن الذميين لو أدخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعُفُوا
عن الجزية، فإن صدق ظني فأصغِ إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب
وتحسم مادة القيل والقال.
(فمنها) : ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات
وأوغل فيها، وهذا نصه: (هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه،
إني عاهدتكم على الجزية والمَنعة، فلكم الذمة والمنعة، وما منعناكم (أي حميناكم)
فلنا الجزية وإلا فلا. كتب سنة اثنتي عشرة في صفر) .
(ومنها) : ما كتب نواب العراق لأهل الذمة وهاك نصه: (براءة لمن كان
من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها خالد والمسلمون. لكم يد على من بدل
صلح خالد ما أقررتم بالجزية وكنتم. أمانكم أمان وصلحكم صلح، ونحن لكم على
الوفاء) .
(ومنها) : ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه: (إنا قد
أدينا الجزية التي عاهدَنا عليها خالد على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين
وغيرهم) .
(ومنها) : المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس،
حينما وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام، وكان هذا في سنة أربع عشرة
في عهد عمر بن الخطاب وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد: (وإن
اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم) .
(ومنها) : المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس،
وحذيفة هو الذي أرسله سعد بن أبي وقاص وافدًا على رستم في سنة أربع عشرة
في عهد عمر بن الخطاب، وكان في جملة كلامه: (أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم
إلى ذلك) .
فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها كيف قرنوا بها بين الجزية والمنعة،
وكيف صرح خالد في كتابه بأن لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم،
وإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها.
وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجل الصحابة، فكان سبيلها سبيل
المسائل المجمع عليها. قال الإمام الشعبي، وهو أحد الأئمة الكبار: أخذ (أي سواد
العراق) عَنوة، وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها فدَعوا إلى الصلح
والذمة، فأجابوا وتراجعوا فصاروا ذمة، وعليهم الجزاء ولهم المنعة، وذلك هو
السُّنة، كذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدومة.
ولا تظننَّ أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به تطييب نفوس أهل
الذمة وإسكان غيظهم، ولم يقع به العمل قط، فإن من أمر النظر في سير
الصحابة واطلع على مجاري أحوالهم عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدًا ولا
ذكروا شرطًا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها، وكذلك
فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها، فقد روى القاضي أبو يوسف في
كتاب الخراج عن مكحول أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة
فيهم صاروا أعداء على عدو المسلمين وعيونًا للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل
كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم يُر مثله، فأتى رؤساء أهل
كل مدينة الأمير الذي خلَّفه أبو عبيدة يخبره بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة،
فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيده إلى كل والٍ ممن خلَّفه في المدن
التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، وكتب
إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع
وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا
منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قالوا
ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا: (ردكم الله علينا ونصركم
عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئًا) .
وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) : حدثني أبو جعفر الدمشقي
قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع،
وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا
منهم من الخراج، وقالوا: (قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم)
فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم،
ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل
عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك
فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم
وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين
عدد.
وقال العلامة الأزدي في كتابه (فتوح الشام) يذكر إقبال الروم على المسلمين
ومسير أبي عيبدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال:
اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي
لنا إذ لا نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا
وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم؛
لأنَّا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم) فلما أصبح أمر الناس أن يرتحلوا إلى
دمشق، ودعا حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال، فأخذ يرد عليهم
وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل البلد يقولون: ردكم الله إلينا ولعن الله
الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا بل غصبونا
وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا.
وقال أيضًا - يذكر دخول أبي عبيدة دمشق-: (فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين
وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين
كانوا أمنوا وصالحوا، فرد عليهم ما كان أخذ منهم وقال لهم المسلمون: نحن على
العهد الذي كان بيننا، ونحن معيدون لكم أمانًا) .
أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في
الذب عن حريم الملك لا يطالبون بالجزية أصلاً، فعمدتنا في ذلك أيضًا صنيع
الصحابة وطريق عملهم، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع وأحقهم بإدراك
سر الشريعة، والروايات في ذلك وإن كانت جمة ولكن نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن
كثير.
(فمنها) : كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب
لرزبان وأهل دهستان وهاك نصه بعينه: هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول
بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن
عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله
جزاؤه في معونته عوضًا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم
وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك، شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن
محرمة وعتيبة بن النهاس، وكتب في سنة 108. اهـ. (طبري) ص 2658.
(ومنها) : الكتاب الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا
نصه:
(هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل
أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم
وأموالهم ومِللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم
في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك.
اهـ. طبري صحيفة 2262) .
(ومنها) : العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب وبين
شهربراز، كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه وهاك نصه:
(هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وملتهم
أن لا يضاروا ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطرّاء منهم والتّناء [1] ، ومن
حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي
صلاحًا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد
فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، شهد عبد
الرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيعة وبكير بن عبد الله، وكتب مرضي بن مقرن
وشهد اهـ) (طبري صحيفة 2665و2666) .
(ومنها) : ما كان من أمر الجراجمة، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة
من تفاصيل أحوالهم فقال: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة
على جبل لكام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا يقال لها: الجرجومة، وأن
أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها، فلما
قدم أبو عبيدة أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم، وهموا باللحاق بالروم، إذ خافوا على
أنفسهم، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا
وغدروا، فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلم
الفهري، فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح،
فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا
يؤخذوا بالجزية، ثم إن الجراجمة مع أنهم لم يوفوا ونقضوا العهد غير مرة لم
يؤخذوا بالجزية قط، حتى أن بعض العمال في عهد الواثق بالله العباسي ألزمهم
جزية رءوسهم، فرفعوا ذلك إلى الواثق فأمر بإسقاطها عنهم.
ولما بلغت من التعمق في البحث والإمعان في الفحص إلى هذا الحد حان لي أن
أقول: أطفئ المصباح، فإنه قد طلع الصباح، وماذا بعد الحق إلا الضلال، وبالله
ثقتي وعليه اعتمادي، وهو العلي الكبير المتعال.
__________
(1) الطرَّاء: الغرباء الذين يطرأون، جمع طارئ، والتُّناء: المقيمون.(1/872)
الكاتب: مولوي عبد الرحمن
__________
اسطقس الحق
رسالة للعلامة الفهامة مولوي عبد الرحمن
صاحب سيستاني الهندي أحد تلامذة بحر العلوم مولانا محمد لطف الرحمن صاحب بروداني
حرر بها مؤلفها القول في (حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة من
الرضاعة) وبيَّن غلط الفقهاء فيها، وقد أرسلها لنا العلامة محمد لطف الرحمن،
وعهد إلينا بنشرها في المنار (كي تشتهر في الأمصار اشتهار الشمس في رابعة
النهار) فإجابة لطلبه ننشرها كما هي، وهي:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
نحمده ونصلي على رسوله الكريم.
اعلم أنه قد مضت الدهور وانقضت الشهور، وطالت المناظرة وشاعت
المكابرة وظهرت المشافهة وزهرت المسافهة، وحبطت الأعمال وخبطت الأقوال في
حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة من الرضاعة، وهما شر البضاعة، فنحن
نبين دليلاً كافيًا، وبرهانًا شافيًا، بلطف الرحمن، وفضل المنان.
فاعلم أن الأصل في باب الحرمة الرضاعية قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) معناه: أن الأفراد التي تحرم من النسب
تلك الأفراد بعينها من الرضاعة أيضًا، ولا يخفى عليك أن ما يحرم من النسب هو ما
تعلق به خطاب التحريم بقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} (النساء: 23) فلو فرضنا أن زيدًا
مثلاً ارتضع من هندة، وولد هندة المرضعة لم يرتضع من امرأة، فتحرم من رضاع
زيد - بحكم الحديث - الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ
وبنات الأخت، فتكون المرضعة وما فوقها مصداق الأمهات للرضيع، وفروعه
مصداق البنات للمرضعة وزوجها، وبناتها وأخواتها وأخوات زوجها وبنات أبنائها
وبنات بناتها يكن مصاديق الأخوات والخالات والعمات، وبنات الأخ وبنات الأخت
له.
فهذه المجموعات السبع تحرم من رضاع زيد الرضيع، كما تحرم تلك
المجموعات بعينها في النسب. وأما حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة فغير
ثابتة من الحديث. فإن قلت: معنى الحديث أن كل من يحرم من النسب يحرم من
الرضاع، ومما يحرم من النسب هو بنت الأخ، ولا شك أن بنت الرضيع بنت الأخ
لولد المرضعة فتحرم عليه. قلت: ويحك هذا الذي أوقعك في ورطة الظلماء، إذ
هذا المعنى باطل من وجهين:
أما أولاً: فلأنه يلزم من هذا ثبوت حرمة مجموع الأفراد السبع من رضاع
الرضيع وزيادة حرمة فرد، وهي حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة، وهو
باطل إذ النص الشريف أعني قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23) الآية، ينادي
بأعلى نداء أنه من نسب كل واحد ثبتت حرمة هذه المحرمات السبع بلا زيادة،
وكذلك في الرضاع بمقتضى الحديث، وأيضًا الصورة المزعومة غير متحققة في
النسب الذي قيس الرضاع عليه، فلم يكن القياس صحيحًا وبطل مقتضى الحديث
وهو محال.
أما ثانيًا: فلأنه ماذا أراد بقوله هذا؟ إما أراد أن تحرم في النسب بنات الأخ
فقط، فكذا في الرضاع، أو أراد أنه تحرم فيه العمات والخالات وبنات الأخ
وغيرهن، فتحرم بنات الأخ في الرضاع. والأول باطل؛ إذ يستحيل في النسب أن
تحرم بنات الأخ وفقط، كما لا يخفى، وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
والثاني أيضًا باطل من وجهين:
أما الأول: فلأنه كما تحرم في النسب بنات الأخ كذلك تحريم فيه العمات
والخالات أيضًا، فيلزم أن تحرم على ولد المرضعة العمات والخالات من الرضاع.
وأما الثاني: فلانه مستحيل بهذه المقدمات المسلمات:
(الأولى) : أن الله بين الآية الكريمة، أعني قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ} (النساء: 23) الآية بالواو العاطفة وهي للجمع، فإن قلت: يجوز أن
تكون الواو بمعنى (أو) التي هي أداة الانفصال. قلت: أف لك، هذا الاحتمال مع
كونه ههنا من المحالات يقطع دابر القوم الذين ظلموا بقولهم من حرمة بنت الرضيع
فقط على ولد المرضعة إذ لفظة (أو) وضعت لأحد الأمرين في أصل
الوضع، فمقتضاها: ثبوت حرمة إحدى المحرمات، لا على التعيين لكل واحد
واحد، فمع كونه صريح الاستحالة يقدح ما يرومه الرائمون بقولهم من جهة مجموع
الأفراد السبع من رضاع الرضيع مع زيادة حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة،
إذ بنوته محال من النص، سواء كانت الواو بمعناها أو بمعنى لفظة (أو) .
(والثانية) : أن العلة المحرمة في المحرمات السبع واحدة تامة.
(والثالثة) : أنه لو كانت لعدة معلولات علة واحدة تامة للزم أنه إذا وجدت
إحدى المعلولات وجدت العلة التامة ووجدت المعلولات الأخر ألبتة.
(الرابعة) : أن الآية الكريمة موجبة لحرمة مجموع الأفراد السبع باقتضاء
تلك الواو العاطفة التي تقدم ذكرها في المقدمة الأولى.
(الخامسة) : أن حرمة بنت الأخ في النسب ثابتة بقوله تعالى {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (النساء: 23) الآية، فمن كان محكومًا عليه فيه بحرمة بنات
الأخ يجب دخوله تحت خطاب قوله: (وبنات الأخ) في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ} (النساء: 23) الآية، وإلا لم يكن ثبوتها من الله، وهو كما ترى.
(السادسة) : أنه لو دخل أحد في النسب تحت خطاب قوله {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) لاستحال أن لا تتحقق المحرمات الباقية (أي: الأمهات والعمات
والخالات وغيرهن) وجودًا أو صلوحًا بحكم المقدمة الرابعة، وأيضا من المقدمة
الثانية والثالثة.
(السابعة) : أنه من كان داخلاً تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) في النسب يستلزم دخوله فيه تحقق المحرمات الباقية وجودًا أو
صلوحًا بحكم المقدمة السادسة.
(الثامنة) : أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الله حرم من الرضاعة
ما حرم من الولادة) يبين ببيان شافٍ أن وزان الرضاع وزان النسب بعينه، وأن
المحرمات من الرضاع محرمات من الله قطعًا.
(التاسعة) : أن العلة المحرمة في المحرمات السبع من الرضاع أيضًا واحدة
تامة.
(العاشرة) : أنه من كان محكومًا عليه بحرمة بنات الأخ من الرضاع وجب
دخوله تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) بحكم المقدمة الثامنة،
وأيضًا منها ومن الخامسة.
(الحادية عشرة) : أنه من كان داخلاً تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) في الرضاع يستلزم دخوله فيه تحقق المحرمات الباقية وجودًا أو
صلوحًا بحكم المقدمة الثامنة، وأيضًا منها ومن السابعة بانضمام التاسعة.
فإذا تمهدت هذه المقدمات المسلَّمات نقول: إنه لو حرمت بنت الرضيع على
ولد المرضعة من الرضاع يجب دخوله تحت خطاب قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) بحكم المقدمة العاشرة، ودخوله فيه يستلزم تحقيق الحرمات الباقية
أي العمات والخالات وغيرهن من الرضاع بحكم المقدمة الحادية عشرة، وهو محال،
إذ حينئذ مصداق العمات والخالات الرضاعية لولد المرضعة، إما العمات
والخالات النسبية للرضيع أو لغيره، والأول ظاهر لاتحاد العلة المحرمة فيهن،
وهو باطل إذ لم تثبت من الدليل الشرعي حرمتهن على ولد المرضعة، وكونهن
عماته وخالاته، فحرمتهن محال. والثاني أيضًا باطل من وجهين:
أما أولاً: فلأنه يماثل قول ذي جنة: إذ استلزم حرمة بنت خالد مثلاً لحرمة
عمات بكر وخالاته محال جدًّا لعدم القدر المشترك بينهن.
وأما ثانيًا: فلأن العمات والخالات الرضاعية ليست بثابتة له وجودًا أو
صلوحًا فيما نحن فيه، أي فيما إذا صدر فعل الرضاع من الرضيع، ولم يتحقق
الرضاع من ولد المرضعة فحرمتهن محال.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(1/877)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب مصر بالسودان
إن الفجيعة الأخيرة بالسودان قد جرحت قلوب المصريين جرحًا لا يندمل،
وجميع عقلائهم متفقون على أن ترك السودان لإنكلترا خالصًا لها من دون مصر كان
أولى من هذه الشركة الاسمية التي عقدت بين إنكلترا ومصر في (وفاق 19 يناير)
بل منهم من يقول: إن التصريح بحماية الإنكليز لمصر والسودان معًا هو أهون
مصابًا من هذا الوفاق الجائر، ويرون بالإجماع أن كل من رضي بهذه القسمة
الضيزى من حاكم ومحكوم فهو خائن لأمته ووطنه، بائع بلاده بيعًا مقلوبًا شرط فيه
أن يكون الثمن على البائع يؤديه للمشتري. ذلك أن الإنكليز قد بلغت ضرائبهم على
مصر بهذه الشركة 1141286 جنيهًا مصريًّا في السنة، منها 84825 نفقات جيش
الاحتلال والباقي للحربية العمومية وللإدارة والعسكرية في السودان (كما بينه المؤيد
الأغر في عدد يوم الاثنين الماضي) ويدخل في هذا البيع أو الوفاق أو الشركة أن
للإنكليزالحق في أن يفتحوا ما شاءوا من بلاد إفريقيا برجال مصر وأموالها من غير
رضاء أمير ولا سلطان، ولا لوم على الإنكليز في إخلاف الوعود ونقض العهود، فإن
هذا كله حرب وجهاد، و (الحرب خدعة) باتفاق العباد، وإنما اللوم والتثريب
بل اللعن من الله وملائكته والناس أجمعين على من يفضل الموت فما دونه على تسليم
بلاده ووطنه لأعدائه المحاربين، والله عليم بالظالمين.
__________(1/880)
23 رمضان - 1316هـ
فبراير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوعظ والوعاظ [*]
قال أستاذ حكيم: (إن الإيمان نائم في قلوب العامة يحتاج إلى إيقاظ) وهي
كلمة صحيحة لا ريب فيها، والذي يوقظ الإيمان حتى تصدر عنه آثاره الحسنة
وتتشعب فوائده وفضائله التي أدناها إماطة الأذى من الطريق - هو التذكير الصحيح
والموعظة الحسنة، فلو وُجد فينا علماء مخلصون لهم غيرة على الدين بعدد مساجدنا،
وتولى كل واحد منهم الوعظ والتذكير في مسجد منها، وإرشاد خطيبه إلى الخطب
النافعة ولو بإنشائها له - لأمكنهم إيقاظ الإيمان في قلوب الناس، ومتي استيقظ الإيمان
صدرت عنه آثاره وتلك سعاد الدنيا والآخرة.
لا أعني بالعلماء من قرأ حواشي الصبان على الأشموني، ومطولات الفقه
بحيث يقدر على التنكيت في قوله وانتحال العلل لتقديم الأبواب والفصول وتأخيرها،
ولا من يحفظ فروعًا كثيرة في أبواب الرقيق ونحوها مما لا يتعلق به عمل في هذا
العصر، ولا مَن عنده كثير من الأحكام الغريبة التي لا تقع فيحتاج الناس إلى معرفة
حكمها كجواز التناكح بين الإنس والجن وعدمه، وإنما أعني بالعلماء كل من له
وقوف على سر الدين وحكم التشريع وانطباق أحكام الإسلام على مصالح البشر
وتأثيرها في سعادتهم في الدارين وحكمة في وضع الأشياء في مواضعها ومخاطبة
الناس على قدر عقولهم وإعطائهم ما تمس إليه حاجتهم، وإنما تجتمع هذه الصفات
لمن يجمع بين العلم بأخلاق الدين وعقائده وآدابه، والعلم بأحوال الناس وشؤونهم
ومرامي أفكارهم، وكيفية معاملاتهم، لا لمن يقول: لا يمكن الجمع بين العلم واختبار
شؤون الناس كما سمعناه من بعض مشاهير الشيوخ.
الطب الروحاني الذي هو تهذيب الأخلاق وتقويم الملكات والعادات والوقوف
بالنفس الناطقة الإنسانية موقف الاعتدال، هو كالطب الجثماني الذي غايته اعتدال
مزاج البدن. وأهم ما في الطبين معرفة حقيقة المرض ثم معرفة علاجه، العلاج
ووصف الدواء مشروح في الكتب، ولكن بدن الإنسان ونفسه لا يوضعان في الكتب
فلا بد من النظر فيهما بما ترشد إليه المعرفة الصحيحة، وكل من يتصدى لمعالجة
الأبدان أو الأرواح قبل الوقوف على حقيقة مرضها فهو خادع أو مخدوع ولا يزيد
علاجه المريض إلا بلاء وعناء.
تدخل مسجد سيدنا الحسين (عليه الرضوان والسلام) في هذه الأيام فتشاهد
كثيرًا من الوعاظ والمدرسين، وقد حشر الناس إليهم حتى كادوا يكونون عليهم لبدًا،
ولكن أكثر هؤلاء الوعاظ من أطباء النفوس الكاذبين الذين يضاعفون الداء فيُنهك من
يعالجونه مرضًا حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين! يزيدون الخاملين خمولاً
بما يكررونه من عبارات التزهيد في الدنيا، ويزيدون الفجار استرسالاً في فجورهم
بما يعِدونهم، ويمنونهم المغفرة والعتق من النار مهما عظمت الذنوب وتراكمت
الأوزار، نعم إن منهم من يأمر بالتوبة ويستتيب الناس، ولكن تلك التوبة كلام بكلام
فهي أيضًا من جملة أنواع التغرير، فبتزهيدهم في الدنيا أمسكوا بالهمم عن تحصيل
سعادتها الصحيحة وبتمنيتهم بالمغفرة والرحمة أمنوهم من العقوبة فبطُل الخوف الذي
يزجر عن المحرمات وصار الرجاء الذي يبعث على الجد في العمل غرورًا،
والخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يطير بهما صاحب الدين إلى مرضاة رب
العالمين، وهي غاية السعادة الأخروية، فهكذا تضافر الخطباء والوعاظ على قطع
طريقي السعادتين، وطمس معالم النجدين، وتركوا المسلم مقصوص الجناحين.
فمتى يفوز ومن عداه بعضه ... ومتى يفيق ومن ضناه طبيبه
حدثنا بعض أبناء المدارس الأذكياء أنه جلس إلى أحد أولئك الوعاظ
المدرسين، فكان الدرس - وهو في تقليم الأظافر - مدعاة لاستغراب هذا الذكي؛
لأنه لم يكن يتصور أن الدين شرع لتعليم الناس كيف يقلمون أظافرهم، ومتى
يقلمونها. ولا أنكر أن بعض الكتب النافعة يوجد فيها كثير من اللغو الذي لا يصح في
السنة ولا يرشد إليه العقل، يشتغل به من لا قيمة للوقت عندهم فيضيعون الأعمار
باللغو والعبث. ومن هذا اللغو بحث تقليم الأظفار، وقد أوردوا فيه كلامًا غريبًا
وجعلوا له ترتيبًا وكيفيات وانتحلوا له فوائد وغوائل تختلف باختلاف الأيام، منها: أن
التقليم يوم الخميس يورث الغنى، ويوم الجمعة يورث العلم، ويوم السبت يورث
الأكلة ... إلخ.
على أن هذا الدرس الذي لا ينفع ولا يضر إلا بتضييع الوقت الذي لا قيمة له
عند أكثر قومنا أخف مصابًا على الأمة من الدروس الأخرى التي تنفث في الأرواح
سم التكسيل عن الكسب والتجرؤ على الاسترسال في اللهو والمعاصي والاعتذار عن
التقصير بالقضاء والقدر، وبمثل هذه السموم يموت روح الدين.
يا رباه ماذا أقول؟ لو كان هؤلاء الوعاظ يقرءون للناس شيئًا من الأحكام
الفقهية لمَا وصل إضرارهم إلى هذا الحد، فالخطأ في الاعتقاد يُنتج الكفر والخطأ
في تهذيب النفوس ينتج فساد الأخلاق واختلال الأعمال وشقاء الأمة في الحال
والمآل.
أما الخطأ في الأحكام الفقهية فالأمر فيه أهون؛ لأنه لا يكون غالبًا إلا في
الأحكام الخفية التي يُعذر جاهلها ولا يؤاخَذ المخطئ بها، على أن هذه الأحكام لما
يكثر فيها من الخلاف لا يكاد يعدو المدرس قول فقيه يؤخذ بقوله، ومع هذا كله تجد
علماءنا لا يبالون إلا بهذا الفن الذي يسمونه فقهًا، وقد أهملوا في الأكثر فقه الدين،
وهو تهذيب الأخلاق الذي هو موضوع البشارة والإنذار اللذين لم ترسل الأنبياء إلا
لأجلهما بشهادة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105)
وقد بينا من قبل أن الفقه في الدين هو ما تعلق به الإنذار بدليل قوله عز وجل:
{لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} (التوبة: 122) لا علم الإجارة والبيع
والسَّلَم ونحوها.
يظن أكثر شيوخنا أن علم الأخلاق الذي هو مادة الوعظ والتذكير بديهي، لا
حاجة إلى دراسته وتلقيه لسهولته بخلاف الفقه - وهذا من أغرب الظنون الأثيمة،
فإن موضوع هذا العلم قوى النفس الإنسانية، وصفات الروح العاقل المدبر للبدن
المتصرف له في أعماله وغايته السعادة الحقيقية؛ لأن السعادة ثمرة الأعمال
الصالحة النافعة، والأعمال تابعة للأخلاق حسنًا وقبحًا، كما أوضحناه في مقالة
سابقة، لا جرم أن هذا العلم من أدق العلوم وأعوصها كما أنه من ألذها وأنفعها.
كان من أهم وظائف الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والأستاذ الفاضل
السيد علي الببلاوي انتقاء الوعاظ والمدرسين للمسجد الحسيني من أعلم الشيوخ
بالتهذيب وأفقههم في الدين، وأكثرهم وقوفًا على ما تمس إليه حاجة الناس في
مصالحهم، وامتحان من يتصدى لذلك مدعيًا الكفاءة، كما امتحن الإمام علي كرم الله
وجهه الحسن البصري، فقد روي أنه دخل مسجد البصرة أو الكوفة فرآه كالمسجد
الحسيني في هذه الأيام مملوءًا بالقُصَّاص، فطردهم إلا الحسن، فإنه رأى عليه سيما
العلم والصلاح، فقال له: يا فتى إني سائلك عن شيء إن أجبت عنه وإلا طردتك كما
طردت أصحابك، ثم قال له: ما مِلاك الدين؟ فقال الحسن: الورع، فقال له: وما
فساد الدين؟ قال: الطمع. فقال: اثبت، فمثلك من يتكلم على الناس.
وإنما اكتفى الإمام منه بهذا لأنه مع صحته يؤذن بأن الحسن يعظ لوجه الله
تعالى، لا طمعًا في نوال المستمعين واستمالة قلوبهم كما عليه أكثر القصاص من
ذلك العصر إلى اليوم.
ومن كان يريد الحق يهتدي إليه، ومن كان يريد التقرب من الناس فإن الهوى
يعميه ويصده عن سبيل الحق فيقص عليهم ما يرى أنه يسرهم، وإن كان يغرهم
وما يرضيهم وإن كان يضرهم فيكون ضالاًّ مضلاًّ.
وإن على من يعلم الحق ويكتمه مثل ما على من يعلّم بغير الحق من الوزر أو
أكثر، ومثلهما في ذلك من يقدر على إزالة المنكر ووضع المعروف في موضعه،
ولا يفعل.
فعسى أن يحاسب العلماء أنفسهم ويقوم كل بما يجب عليه، فترى المساجد في
جميع الشهور (لا في رمضان فقط) ينابيع لعلوم الدين وتهذيب المسلمين،
وينتفي بعلم الراسخين جهل الجاهلين، والله ولي المتقين.
يمكنني أن أذيل كلامي هذا بكلمة ثناء على أمثل مجلس حضرته في وعظ
العامة في مصر، اعترافًا بالحق لأهله وتنشيطًا للواعظ والموعوظ، ذلك مجلس
الأستاذ الفاضل الشيخ علي الحربي، فلقد خطب في أحد المساجد خطبة ما سمعت
على منبر أحسن منها، وعقد بعد الصلاة مجلس وعظ لا يتناوله شيء من انتقاد هذه
المقالة {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .
__________
(*) فاتحة العدد 46 المؤرخ في 23 رمضان سنة 1316 - 4 فبراير (24ك) 1899.(1/881)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام والترقي
امتازت جريدتنا (المنار) بالتنويه المتواصل بأن الإسلام جاء بتعاليم كافية
لعروج الأمم إلى سماء السيادة العليا، وبلوغها مراتب السعادة القصوى؛ لأنها
أبطلت جميع الاعتقادات التي تحول بين الإنسان وبين كماله، كالاعتقاد بأن الإنسان
ناقص حقير لا يصح له أن يرفع أعماله الحسنة إلى الجناب الإلهي الأقدس، ولا أن
يطلب من مولاه الحقيقي العفو عن تقصيره وتفريطه بالتوبة الصحيحة بينه وبين
ربه الرءوف الرحيم إلا بواسطة رؤساء الدين المعبر عنهم بالقديسين أو الأولياء
المقربين، فأبطل الامتياز الصنفي وألغى هذه الوساطة والرئاسة التي تهبط بالطباع،
وجعل الناس كلهم عبيدًا لله وحده أحرارًا بالنسبة لما سواه، لا فضل لأحد على
أحد إلا بالعلم والعمل والكمالات المكتبسة، وكما أبطل سلطة الرؤساء الروحانيين
قيد سلطة الملوك والحكام (كما بينا ذلك من قبل) بشريعة حقة مبنية على أصول
الحرية الصحيحة والعدل والمساواة التي سادت بها أوروبا في ممالكها واعتز سلطانها
ولم تقتبسها إلا من الإسلام، وستضطر أوروبا إلى الأخذ بما لم تأخذ به من قواعد
الإسلام، كإيجاب الزكاة التي هي العلاج الوحيد لمرض من أشد الأمراض
الاجتماعية وهو الاشتراكية، وكإعطاء المرأة حقوقها التي كانت مهضومة قبل
الإسلام عند جميع الأمم في الشرق والغرب، فجاء القرآن يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) واحدة وهي القيامة
بالرعاية والحراسة والإنفاق؛ لأن الفطرة والطبيعة تعطيه حق رئاسة المنزل
وحراسته والإنفاق عليه؛ لأنه أقوى وأقدر على الكسب. وفي الحديث الشريف:
(النساء شقائق الرجال) فاقتبست أوروبا ذلك وعظمت شأن النساء ولكن لم تأخذ بكل
ما جاء به الإسلام في ذلك؛ لأن الأوروبيين ما فتئوا يمنعون المرأة التصرف بمالها
والمدافعة عن حقوقها بنفسها ويقيدونها في ذلك بزوجها، وهذا التقييد مبني على
الاعتقاد القديم بضعف عقلها وعدم أهليتها للتصرف. وكمحو التعصب الذميم بالعدل
الذي جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يساوي بين الإمام علي بن أبي طالب
ورجل من آحاد اليهود. والفرنسويون أئمة المدنية الأوروبية الذين يشير عَلَمهم إلى
العدل والحرية والمساواة، لا يزالون يضطهدون اليهود إلى اليوم، وتنشئ الجمعيات
المؤلفة لاضطهادهم الجرائد وتؤلف الرسائل في التحريض عليهم والتنفير منهم، إلى
غير ذلك من التعاليم الصحيحة التي تكفل لمن يأخذ بها السعادة الحقيقة.
هذا ما يحملنا على تكرار القول بأن أمة هذه قواعد دينها لا يصلح حالها إلا
بالتمسك بها، وما كنا ممن يسند إلى الإسلام ما ليس له أو يضيف إليه ما ليس منه،
فإن الدين نفسه يحظر علينا هذا. كيف وقد اعترف للإسلام بمزاياه الشريفة مما
ذكرنا وما لم نذكر جميع الناظرين في التاريخ، والباحثين في الملل والشرائع
بالإنصاف من غير المسلمين حتى إن ذلك ليفيض من أنابيب أقلامهم فيما يكتبون،
ويجري على ألسنتهم عند ما ينطقون، من غير روية ولا تكلف، ولا مصانعة ولا
تصنع، ونذكر هنا على سبيل الاستشهاد مقالة لبعض الكتاب الأفاضل نشرت في
المقطم (عدد 2989) من عدة مقالات في أسباب انحطاط الشرق، وهاكها
بحروفها:
أسباب انحطاط الشرق
(الهيئة الاجتماعية الشرقية)
لحضرة الأفوكاتو الفاضل نقولا يوسف دبانة
بينما كان ملوك الغرب لا يقيدهم دستور ولا يعرفون قانونًا إلا قانون استبدادهم،
كان ملوك الشرق مقيدين بدستور يمنعهم عن كل استبداد وظلم ولم تحلهم منه إرادتهم
الخاصة ولا إرادة الشعب، وذلك القيد هو القرآن الشريف. أفليس الحكم الذي هذه
صفاته الأصلية أفضل من سائر الأحكام؛ لأنه مبني على أساس الحرية الصحيحة
والعدل والمساواة، وهل ينكر أحد بعد هذا أن الشرق مهد المبادئ الجمهورية
والحكومة الدستورية.
ولا يغرب عن البال أنا إنما نتكلم عن المبادئ لا عن الحوادث، فقد قام في
الشرق حكام مستبدون زادوا عددًا عن الذين قاموا في الغرب، لكن ذلك لا يقدح في
قولنا: إن مبادئ الأحكام في الشرق مبادئ دستورية، فإذا تعدى الإنسان الشريعة
فتعديه لا يبطل وجودها، وشبيه ما في الشرق ما جرى في فرنسا لمَّا حكمها نابليون
الأول، فإنه كان من أعظم الملوك استبدادًا، ومع ذلك كان يلقب رسميًّا نابليون
إمبراطور جمهورية فرنسا، فقيام حاكم كالحاكم بأمر الله لا ينافي قولنا أن مبادئ
الهيئة الاجتماعية الشرقية مؤسسة على الجمهورية والمساواة.
ومما يدل على أن حق الملك في الشرق ليس حقًّا شخصيًّا هو أن الشرق ميال
إلى إلقاء مقاليد الأحكام إلى الأرشد في العائلة لا إلى الابن ولا إلى الوارث الأقرب
كما في أوروبا، فتختلف وراثة الحكم بذلك عن وراثة المقتنيات، ولو كان الحكم حقًّا
شخصيًّا لكان يرثه الذي يرث المقتنيات والأموال، فكأن الشعب الشرقي يقول عند
إعطائه الحكم للأرشد: إننا لما كنا نبايع حاكمنا حق الحكم علينا وجب أن نطلب منه
أن يكون أهلاً للحكم متمكنًا فيه، فالأرشد في العائلة أولى بذلك من ابن الحاكم
السابق؛ لأن خبرته أكثر ومادته أوفر وإرادته أمضى وعزمه أشد.
هذا ويتضح من البحث الدقيق أن المبادئ الجمهورية والاشتراكية المنتشرة
الآن في الغرب والتي يعدها الغرب تقدمًا وتمدنًا وجدت في الشرق من البدء وهي:
أولاً - حقوق المرأة المدنية، فإن المرأة في الغرب لا تستطيع أن تتصرف
بدرهم من مالها الخاص، ولا أن تعقد عقدًا، ولا أن تدافع عن حقوقها أمام المجالس
ولا ولا ... بلا إذن من زوجها، على حين أن المرأة الشرقية مُطْلَقة الحرية في ذلك
كله.
ثانيًا - إعانة الفقراء بالأموال الإجبارية، فإن الحكومات الغربية تسعى الآن
في إلزام الأغنياء بإعانة الفقراء فيلتزم كل غني أن يدفع شيئًا معلومًا من ماله لإعانة
الفقراء والمساكين، وهذا جل ما يسعى إليه الاشتراكيون، ولكن الشرق سبقهم إليه
والزكاة وبيت المال شاهدان عليه.
ثالثًا - إبطال الجمعيات المستقلة بنفسها وبقوانينها عن الهيئة الاجتماعية
كالأكليروس والرهبنة، والشرق قال قبل الغرب: لا رهبنة في الإسلام، ولا حاجة
في الإسلام إلى الواسطة بين الله والعبيد، إذ كل إنسان له الحق أن يكون إمامًا
وخطيبًا إلخ.
رابعًا - عدم تعرض الحكومات للأديان، وأحسن قاعدة للحكومات في معاملة
أديان الشعوب هي ما تجري حكومات الشرق عليه مبدئيًّا في ذلك.
فتبين مما تقدم ما هي مبادئ الشرق الأصيلة، ولو اتُّبعت لارتقت بالشرق إلى
أعلى درجات التقدم والتمدن، ولكن الحكام لم يتبعوها فجاروا وما عدلوا، وداموا على
ذلك مدة طويلة، والشيء إذا دام صار عادة، والعادة إذا طالت صارت فطرة، فاتبع
الحكام الظلم فصار عادة، واعتاد المحكومون الخضوع فصار فطرة، وجعل الحكام
يعدون عدم الاستبداد ضعفًا، وعليه قال الشاعر:
(إنما العاجز مَن لا يستبد)
وأضاع المحكومون معرفة حقوقهم فباتوا طعمة لكل آكل، وكيف يمنعون
الغريب من التسلط عليهم وهو هاضمهم بقوته الأجنبية على حين أنهم لا يستطيعون
منع الحاكم الوطني من أن يجور عليهم وهو لا يقدر أن يظلم إلا بواسطتهم
ومساعدتهم له، إذ هم الحاشية والحرس والجلادون والسجانون وسائر منفذي
الأوامر - هذه العاقبة الأولى.
وأما الثانية: فهي أن الحكام خافوا قيام الشعب المظلوم فاحتالوا لذلك باستخدام
الفُرس والخزر والتركمان والانكشارية والمماليك، فصارت الآفة آفتين الأولى: أن
ذلك الجند الغريب طغى على الشعب أيضًا مع حكامه، وتاريخ المماليك
والانكشارية شاهد على ذلك، وأصل الدولة التركية من ذلك الجند الغريب.
وأما الآفة الثانية: فهي أنه لما كان جيوش البلاد مؤلفة من الأجانب نسي
الوطنيون حمل السلاح حتى جعلوا يظنون الدخول في العسكرية من أعظم المصائب،
وفقدوا الروح العسكري، فإذا جاء العدو لم يجد وطنيًّا يريد مقاومته أو يستطيعها
إذا أراد.
والعاقبة الثالثة: أنه لم يقم في الشرق عائلات شريفة ولا قوية، نعم إن زيادة
سطوة تلك العائلات ماديًّا تكون خطرًا على الحكومة، ولكن إذا كانت سطوتها أدبية
فقط ساعدت الحكومة على التقدم والارتقاء؛ لأنها تضطر إلى المحافظة على شرفها
والبعد عن كل ما يشينه، وتكون أمينة على كنوز الحب الوطني، جامعة تحت
لوائها جميع تابعيها وخدمها ومجاوري قصورها، وأعظم شاهد على ذلك حالة
العائلات الشرقية (كذا) في إنكلترا، فهي رأس الشعب وزهرته وثمره ومستودع
حب الوطن والمعين الأعظم للحكومة، أما في الشرق فالعائلات الشرقية لا تكاد
توجد، فضلاً عن العائلات البسيطة كما تقدم.
__________(1/885)
الكاتب: مولوي عبد الرحمن
__________
اسطقس الحق
(تتمة ما سبق)
وأما القول بأن العمات والخالات النَّسَبية لولد المرضعة هن العمات
والخالات الرضاعية له بعينها - فباطل؛ إذ مع أنه يشبه هذا هذيانات المجانين،
نفرض أن ولد المرضعة لم يرتضع من أمه، فحينئذ لا يتحقق له الرضاع رأسًا، لا
بالمعنى اللغوي ولا بالمعنى الشرعي، وليس هذا مجرد فرض بل هو متحقق في
نفس الأمر، ألم تعلم أنه كم من ولد لا يرتضع من أمه ولا من ثدي آدمية، بل ينشر
لحمه وعظمه من حليب بقرة، وأيضًا الشق الأول من الترديد الثاني يهدم بنيانه كما
لا يخفى فحصحص لك أن دخوله تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) مستحيل، أي: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال،
وإلا لزم المحال وكل ما هو مستلزم للمحال محال، ويتألف منه قياس اقتراني منتج
للمطلوب هكذا: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة يستلزم المحال، وكل ما
يستلزم المحال محال، فحرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال. ولك أن تؤلف
قياسًا استثنائيًّا منتجًا للمطلوب أيضًا هكذا: لو حرمت بنت الرضيع على ولد
المرضعة لدخل تحت خطاب قوله تعالى: (وبنات الأخ) لكن دخوله تحت
خطاب قوله تعالى: (وبنات الأخ) محال، فحرمة بنت الرضيع على ولد
المرضعة محال.
وأيضًا تقرر الدليل بوجه حسن جامع مختصر هو أن حرمة المحرمات من
الرضاع ثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب) فالمحكوم عليه بحرمة هذه المحرمات إما أن يكون ممن صدر منه فعل
الرضاع أولاً، والثاني: صريح الاستحالة من وجوه.
أما أولاً: فلأن قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب) يحكم بأعلى صوت أن الحرمة الرضاعية متحققة من الرضاع ألبتة، فلزوم
الحرمة من دونه مخالف لحكم الحديث.
وأما ثانيًا: فلأن الرضاع هو علة تامة لحرمة المحرمات من الرضاع كما
ينص به الحديث، فعدم العلة التامة ووجود المعلول محال قطعًا.
وأما ثالثًا: فلأنه يلزم منه أن يثبت لكل فرد من أفراد أمة النبي صلى الله عليه
وسلم، تلك المحرمات من الرضاع من دون صدور فعل الرضاع منه، وهو كما
ترى.
وعلى الأول: إن حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة فإما أن يكون هو
كالرضيع ممن يصدر منه فعل الرضاع أو لا يكون، فعلى الشق الأول يلزم أن
تحرم من الرضاعة مجموع العمات والخالات والأخوات وغيرهن من الرضاع كما
تحرم مجموع تلك المحرمات في النسب من نسبه وإلا بطل مقتضى الحديث وهو
محال.
وعلى الثاني: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة صريح البطلان والوجه
ما تقدم.
(فإن قلت) : إن ولد المرضعة وإن لم يكن ممن يصدر منه فعل الرضاع
لكن له علاقة رضاعية لارتضاع الرضيع من أمه فتحرم بنت الرضيع عليه من
رضاع الرضيع.
(قلت) : ليت شعري ما شجعه على هذا القول؟ إذ هو باطل من وجوه:
أما أولاً: فلأن علة الحرمة لكل واحدة من بنات الأخ والعمات والخالات
وغيرهن سواء كن من النسب أو الرضاع واحدة، فلو حرمت بنت الرضيع على
ولد المرضعة بناء على أنها بنت الأخ له من الرضاع من رضاع الرضيع للزم أن
تحرم عليه العمات والخالات من الرضاع أيضًا.
أما ثانيًا: فلأن ثبوت الحرمة من رضاع الرضيع بعلاقة رضاعية بما رويناه
من الحديث غير مسلَّم، ومن ادعى فعليه البيان من الحديث والقرآن.
أما ثالثاً: فلأن ولد المرضعة وإن كانت له علاقة رضاعية لكنه ليس ممن
يصدر منه فعل الرضاع، وثبوت الحرمة لمن لا يصدر منه فعل الرضاع باطل من
الوجوه التي تقدم ذكرها.
أما رابعًا: فلأنه ههنا شخصان: أحدهما هو الذي صدر منه فعل الرضاع
وهو الرضيع، فقد حرمت من رضاعه الأمهات وبنات الأخ والعمات والخالات
وغيرهن من الرضاع بمقتضى الحديث، وثانيهما: هو الذي لم يصدر منه الرضاع
لكن له علاقة رضاعية، وهو ولد المرضعة، فحينئذ إن حرمت عليه بنت الرضيع
من رضاعه فإما تثبت الحرمة بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما
يحرم من النسب) أو لا، والثاني: صريح الاستحالة إذ الحرمة الرضاعية ثابتة بهذا
الحديث، فهل يجترئ أحد على القول بالحرمة بدونه.
وعلى الأول: لو سلم ثبوتها منه للزم أن تحرم من هذا الرضاع مجموع
الأمهات والعمات والخالات وغيرهن من الرضاع بمقتضى الحديث، وإلا بطل
مقتضاه، وهو صريح الاستحالة، وأما ثبوت حرمة بنت الرضيع فقط على ولد
المرضعة فمحال قطعًا.
واعلم أن حكم الرضاع والجزئية واحد، إذ على القول بعلِّية الجزئية وتسليمها
لا بد أن يعبر عن الرضاع والنسب في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب) بالجزئية النسبية، إبقاءً للحديث الذي هو المستدل به
عند الكل، فهما سيان في الحكم، وهذا هو المحقق لدى المحققين الكاملين، وإن
كان القوم عنه غافلين.
(وأيضًا) تقرر دليلاً آخر أحسن، وهو يقتضي تمهيد مقدمات:
الأولى: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم
من الولادة) يحكم بأن الولادة هي علة تامة لحرمة المحرمات السبع من النسب،
وينص بأن وزان الرضاع وزان النسب بعينه.
والثانية: أن الظاهر من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} (النساء: 23) أن
المخاطبين بقوله تعالى: (حرمت عليكم) الآية: كل فرد من أفراد أمة النبي صلى
الله عليه وسلم، وقد ثبت في المقدمة الأولى أن الولادة هي علة الحرمة في
المحرمات السبع، فوجب أن تكون علة الحرمة، وهي الولادة كما يفصح من
الأحاديث أن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة، فلو لم توجد العلة لم يوجد
السبب، وانعدام السبب يستلزم انعدام المسبب، فالحرمة كما ترى، على أن وجود
الحرمة بلا قيام علة الحرمة بالمخاطب باطل من وجوه:
أما أولاً: فإن الخطاب بأنه حرمت عليكم أيها المخاطبون عماتكم من الولادة،
والولادة قائمة بغيرهم مستحيل؛ إذ هو ينبئ عن السفاهة والجهالة، والله تعالى عنهما
علوًّا كبيرًا.
وأما ثانيًا: فلأن حرمة العمات لزيد عليه لما كانت مُعلَّة بالولادة لزم قيام العلة
به، فلو لم تكن العلة قائمة به لزم وجود المعلول بلا وجود العلة، وهو مُحَال، على
أن حرمة المحرمات السبع إذا كانت معللة بالولادة فمن قامت به الولادة حرمت عليه
لا على غيره، كما لا يخفى.
وأما ثالثًا: فلأنه يلزم منه أن تحرم أخت عمرو على زيد مثلاً من العلة
المُحرِّمة القائمة بعمرو، ومآله أن يرتفع حينئذ عقد النكاح الذي هو متحقق من الله
ورسوله عن سطح الأرض إذ يلزم منه أن تحرم بنت كل واحد وأخته مثلاً على
الآخر بالعلة القائمة به وهو كما ترى.
وأما رابعًا: فلأن المخاطبين بهذا الخطاب كل واحد واحد على حياله، وكل
واحد من العباد سواء عند الله في الحق، فثبوت الحرمة من العلة القائمة بالغير
تخصيص بلا مخصص، وهو محال، والتخصيص من الله أيضًا باطل إذ نسبته إلى
جميع الممكنات واحدة كما لا يخفى.
وأما خامسًا: فلأنه لما كان كل واحد مخاطبًا ومحرمًا عليه بعلة الولادة، وجب
قيام الولادة بكل واحد حتمًا، وإلا استحال وجود المخاطب والمحرم عليه فضلاً عن
ثبوت المحرمات له، وكذا الحكم في الرضاع بعينه بحكم المقدمة الأولى.
والثالثة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب) يحكم بأن حرمة المحرمات الرضاعية ثابتة من الرضاع كما أن حرمة
المحرمات النسبية ثابتة من النسب، وإن الرضاع علة تامة للمحرمات من الرضاع
كما أن النسب علة للمحرمات من النسب.
والرابعة: أن الحرمة الرضاعية مستحيلة بدون الرضاع بحكم المقدمة الثالثة.
والخامسة: أن الضرورة شاهدة بأنه لا بد من قيام علة الحرمة بالمحرم عليه
أو المحرم بالذات، وإلا حكم بحرمة المباحات بأسرها كما لا يخفى.
فإذا تمهدت هذه المقدمات فنقول: إنه لو فرضنا أن زيدًا مثلاً ارتضع من
طلحة لحرمت رضاعة المحرمات السبع من الرضاع بحكم المقدمة الثالثة. وأما ولد
المرضعة فلا يخلو إما أن يكون حصُل له الرضاع أم لا، فعلى الأول لزم أن تحرم
من رضاعه أيضًا المحرمات السبع من الرضاع بلا فرق بحكم المقدمة الثالثة، وعلى
الثاني ثبوت الحرمة له مستحيل جدًّا بحكم المقدمة الرابعة، وأيضًا القول بأن بنت
الرضيع محرمة على ولد المرضعة من رضاع الرضيع محال قطعًا بحكم المقدمة
الثانية وأيضًا من الخامسة، فقد استبان لك أن بنت الرضيع غير محرمة على ولد
المرضعة ألبتة، هذا حكم حديث الرسول الكريم، والحق عند الرحمن الرحيم.
(المنار)
أثبتنا هذه الرسالة بحروفها، ونرغب إلى أفاضل علماء الأزهر الشريف
انتقادها، إجابة لطلب مؤلفها وبيانًا للحق ونحن ننشر ما يكتبون لنا في ذلك،
ونرجو منهم مراعاة الاختصار.
__________(1/889)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاعتقاد بالجمادات
ذم القرآن التقليد، ووبخ المقلدين، وفرض على المسلمين أن لا يعتقدوا ما لا
يقوم عليه برهان، وخاطب الآخذين بالخرافات بقوله: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} (البقرة: 111) وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فسر العلماء البصيرة بالحجة
الواضحة، والغرض من ذلك تطهير العقول من دنس الأوهام ورجس الخرافات،
فأي عقيدة خرافية تطمس نور العقل، وتعمي عين البصيرة بما تحمل على قياس
المثل على المثل، حتى تستحوذ الأوهام على النفوس وتكون سدًّا بينها وبين
المعارف الصحيحة المرشدة إلى سعادة الدارين، ومن هنا تفهم السر في نهي الشارع
عن التصوير وعن اتخاذ الصور بهيئة معظَّمة، فإن صور الأنبياء كانت مرسومة
في الكعبة، وتعظم كما تعظم سائر الأصنام، وأزالها النبي صلى الله عليه وسلم يوم
الفتح، ورأى عليه الصلاة والسلام قرامًا (ستارًا) عليه صور عند عائشة فهتكه ثم
اتخذوا منه وسائد؛ لأن الصورة في الوسادة ممتهَنة غير معظَّمة كما تكون في القرام
المنصوب. وقطع الإمام عمر - عليه الرضوان - الشجرة التي كانت تحتها بيعة
الرضوان بين النبي وأكابر أصحابه، حيث علم أن بعض من لم يفهم الإسلام حق
الفهم يعظمها ويتبرك بها، وتلك شعبة من شعاب الوثنية، لكن المسلمين لم يسلموا
من الخرافات مع كل هذا الاحتراس منها في دينهم، لا سيما أهل هذه القرون
الأخيرة، فقد انتهى بهم الغلو في اعتقاد الصالحين وتصرفهم في الأكوان إلى
الاعتقاد بالجمادات من الأحجار ونحوها، ففي المسجد الحسيني في القاهرة عمود من
الرخام يطوف به الرجال والنساء من العامة ويتمسحون به التماسًا للبركات وتقربًا
إلى السيد البدوي الذي يزعمون أنه يجلس بجانبه عند زيارة جده الحسين، ومنهم
من يزعم أن روح السيد توجد دائمًا هناك، ولا ترى أحدًا من العلماء ينكر عليهم،
فأجدر بخطيب ذلك المسجد أن يزجر الناس عن هذا العمل، ويأمرهم بتركه في كل
خطبة جمعة ما لم يقلعوا ويرجعوا، ولعامة هذه البلاد اعتقادات بأحجار ومساجد
أخرى كمسجد أبي العلاء في بولاق، ومسجد عمرو بن العاص في مصر العتيقة.
وكالعمود الذي يضربونه في جامع عمرو والعمودان اللذان يختبرون العاصي
بالمرور من بينهما، وربما نتكلم على ذلك في عدد آخر.
__________(1/893)
الكاتب: محمود سامي
__________
عجائب أمريكا
لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء
حقًّا، إن بلاد الأمريكان جديرة بأن تسمى بلاد الغرائب والعجائب، إذ هي
ميدان الصناعة والأعمال، ومهد التفنن والاختراع، قد امتاز أهلها بعدم الوقوف عند
أوساط الأمور في أعمالهم وصنائعهم، بل يميلون في كل أشغالهم إلى التناهي إما في
الضخامة والعظم، وإما في الدقة والصغر، حتى إن الإنسان ليجد عندهم ما بلغ حد
الضخامة المتناهية، وحد الصغر المدهش الغريب.
فالقادم على هذه الديار الآهلة العامرة بالسكان المجدين في العلوم والصنائع يجد
القناطر الهائلة المريعة، والعمارات المرتفعة المنيعة , مع الضخامة والاتساع الفائق،
مما يدل على مهارة القوم ودرجة تقدمهم، ومقدار ثروتهم ونعيمهم، فقد بلغ عدد
طبقات بعض دورهم زيادة عن العشرين عدًّا، وذلك مثل عمارة (سان بول بلدنج)
الشهيرة في نيويورك بحسن نظامها وإتقان بنيانها واتساع أرجائها.
ومع هذا فإن الأمريكانيين الذين هم أصحاب هذه الأعمال الهائلة هم أيضًا
أصحاب الأعمال الدقيقة العجيبة، ومخترعي الآلات الصغيرة الغريبة التي تنبئ عن
اقتدارهم وقوتهم الفائقة.
فقد عمل المسيو (ج. هـ. شريفر) الصائغ بمدينة (دنفر) من أعمال
كلورادو الأمريكية آلة بخارية (وابورًا) يجر قطارًا مركبًا من 8 عربات تقل ثمانية
عشر مسافرًا ذات ثقل خفيف، بحيث يتيسر لكل إنسان رفعها بيده. وقد جعل قطر
أسطوانة الوابور المحركة له ثلاثة سنتمترات ونصف، وقطر عجلاته عشرين
سنتمترًا، وطوله مترين وعشرين سنتمترًا، وجعل عرض عرباته الثمانية 36
سنتمترًا، وطول كل واحدة من ستة منها مترًا واحدًا، ولا تُقِل غير رجلين فقط
وأما العربتان الباقيتان، فطول كل واحدة منهما متر وعشرون سنتمترًا، ولا تسع
غير ثلاثة ركاب.
وطول القضبان الحديدية التي يسير عليها القطار لا تزيد عن 135 مترًا،
والمسافة الفاصلة بينهما عشرون سنتمترًا.
ولم يحتج المعلم شريفر صاحب هذا القطار لمساعد في تسييره، بل باشر كل
ما يلزم له بنفسه، فكان يؤدي وظيفة ناظر وسائق ومساح، وبالجملة كل ما
يستلزمه حسن سير وانتظام القطارات العادية.
وقد عاد عليه هذا الاختراع بالفوائد الجمة والأرباح الطائلة، إذ قلما يجد
الإنسان قطاره خاليًا من المسافرين، وإن شئت فقل من المتفرجين.
وأغرب من ذلك ما أتاه المعلمان (يانج وماك شي) في مدينة (أطلانطق
ستي) التابعة لولاية نيوجرسي الأمريكية، فإنهما صنعا قطارًا يمكن الإنسان وضع
وابوره في جيبه، كل عربة من عرباته تُقِل ولدين يدفع كل واحد منهما خمسة
صلديات (مليم تقريبًا) أجرة المسافة بين كل محطتين، ويقال: إن هذا القطار
أصغر قطار وجد إلى يومنا هذا.
وكذلك عمل الخواجات (و. س. بانيول) قطارًا لطيفًا أعدوه للتنزه في
أملاكهم الواسعة، وجعلوه على منوال القطار السريع السير (اكسبرس) الذي
يخترق طريق جريت نورثرن الأمريكية الشهيرة إيابًا وذهابًا بين المحيط
الأطلانطيقي والأقيانوس الأعظم، وقُطر أسطواناته المُحركة له نحو عشرة
سنتمترات، وأما عجلاته فمحيطها أربعة وسبعون سنتمترًا، وزنة الوابور بلغت
2500 كيلو جرام، ويسير خمسة وعشرين ميلاً في الساعة الواحدة.
ومما يوقف نظر الغريب عن هذه البلاد ويوجب التأمل والاستغراب ما يشاهده
من الضخامة البالغة حد التناهي المفرط مثل الأدوار التي ذكرناها في ابتداء كلامنا،
ومثل النظارة الفلكية (تلسكوب) العجيبة التي صنعها المسيو (سارلس بركيس)
في مدينة سنتياغو؛ إذ جعل مقاس زجاجتها 1945 مترًا.
ومما لا يُصدَّق لغرابته لولا إجماع الجرائد على ذكره وإخبار بعض المشاهدين
له ما عمله المسيو يردنج، إذ تيسر له بعد 6 سنوات أن يوجد مركبًا بخاريًّا لا يزيد
طوله عن خمسة وسبعين سنتمترًا.
فتأمل ما وصل إليه القوم من البراعة الفائقة والتقدم العظيم، ولتعلم أن لا
شيء يصعب على المُجِد المجتهد مع الإرادة الصادقة والعزيمة الثابتة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود سامي
... ... ... ... ... ... ... ... بمدرسة الحقوق الخديوية
__________(1/894)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشعر عند الإنكليز
نقص على قراء الأنيس حكاية جديرة بالذكر، تدل على محبة الأوروبيين للعلم
وحفاوتهم بالشعر خاصة، ذلك أن غلامًا فقيرًا جدًّا في لندن كان يشتغل بأحد معامل
الغِراء، وهو لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، فاتفق مرة لبعض رؤسائه أنهم
وجدوه متعلقًا على نظم الشعر فراقبوه وقرءوا شعره فوجدوا فيه من الآراء الحسنة
والمعاني الغريبة ما يدل على أن الفتى شاعر مطبوع، وأنه يبشر بمستقبل حسن،
فأشاعوا أمره بين الناس، ونشرت جريدة لندن شيئًا من شعره في ذلك العهد،
فأعجب به رجال الشعر هناك فجاءته المساعدة من كل ناحية حتى نقلوه من تلك
الصناعة الحقيرة ووضعوه في مدرسة يتعلم بها علم النحو وسواه ليكون شِعره سليمًا
من الخطأ، فأخذ الفتى يتعلم ويتهذب مدة السنتين وهو يزداد شاعرية وذكاء حتى
تضايق أبوه الفقير من مكث ابنه كل هذه المدة دون أن ينتفع منه بشيء، فجاء إلى
المدرسة وألح جدًّا بإخراج ابنه منها وإرجاعه إلى معمل يكتسب منه، فعارضه
الرئيس في ذلك أشد المعارضة، ونَشَرَ حكاية هذا الغلام على الجرائد، وقال: إنه
إذا خرج من المدرسة واحترف الحرف اليدوية فإن دولة إنكلترا، بل كل العالم
الإنكليزي يخسرون أعظم شاعر للمستقبل يعظم به شرف المملكة، ويزداد فخرها،
ثم قال: إن مائة جنيه فقط تُعطى لوالد هذا الغلام تكون كافية لافتداء الشعر والحرص
على مجد إنكلترا.
فما شاع قوله هذا حتى جاءته تلك المائة جنيه من أحد الفضلاء العارفين بقيم
العقول، فلبث الغلام في المدرسة يزرع فيها حبوب الشعر لتصبح بعد ذلك حديقة
غناء يجني منها المال والشرف، ويجني قومه اللهو والإعجاب والطرب.
وقد نشرت الجرائد شيئًا من شعره الذي نظمه الآن وهو في السابعة عشرة
وقالت: إنه لا يزال فيه شيء من الخطأ النحوي، ولكن معانيه باهرة تدل على أنه
متى اتسع عقله باتساع عمره فقد يرد إلى إنكلترا شكسبير وبرنس وبيرون
وتنسون وأمثالهم من الشعراء المخلدين، ويكون كل ذلك من كلمة واحدة قالها رئيسه
في ذلك المعمل الحقير فدوت في إنكلترا حتى كان منها ظهور هذا الغلام.
ومما نذكر في هذا الباب دلالة على فضل العرب في أيام دولتهم، وعرفانهم
مراتب العقول وأقدار الشعراء - كما يعرفها الأوروبيون الآن - أن ابن الزقاق
البلنسي كان فقيرًا جدًّا، وكان أبوه حدادًا لا يكتسب قوت يومه، ولكن الولد كان
مولعًا بنظم الشعر حتى كان سهر من أجله الليل، فكان أبوه يعاتبه ويردعه عن
النظم ويقول له: نحن قوم فقراء لا نملك ما نشتري به الخبز فكيف نضيف علينا
ثمن الزيت للمصباح، فلم يكن الولد يعبأ لهذا القول على شعوره بذلك الفقر، بل
ظل ينظم الشعر ويصقل قريحته به حتى جاء بلدته أبو بكر بن عبد العزيز فمدحه
بقصيدة يقول فيها:
يا شمس خدر ما لها مغرب ... أرامة دارك أم غرّب
ذهبت فاستعبرت طرفي دما ... مفضض الدمع به مذهب
ناشدتك الله نسيم الصبا ... أين استقلت بعدنا زينب
لم نسر إلا بشذا عرفها ... أولاً فماذا النَّفَس الطيب
فأعجب بها الحاكم إعجابًا شديدًا، وأجازه عليها بثلاث مائة دينار، فأخذها
الفتى وجاء بها إلى أبيه وهو يشتغل بالحدادة ورماها بين يديه وقال له: خذ هذه
فاشترِ بها زيتًا فإنها جاءت من الشعر الذي أنفقنا عليه الزيت.
فانظر كيف كان العرب في عهدهم الأول من العلم والفضل، وكيف كان
الإفرنج في ذلك الحين من الغباوة والجهل، ثم انظر كيف صرنا الآن وكيف صاروا
وقل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أنيس الجليس
__________(1/896)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجنسية العثمانية المصرية
وضعت نظارة الحقانية لائحة في الجنسية المصرية ملخصها أن المصري:
(1) مَن استوطن مصر من عهد محمد علي باشا الكبير غير محمي من
الأجانب.
و (2) من وُلد في مصر وظل مستوطناً لها.
و (3) كل عثماني أقام في مصر 15 سنة فما فوقها، وأبلغَ ذلك المحافظة أو
المديرية التي استوطنها.
و (4) كل مَن وُلد في مصر من أبوين مجهولين من غير الأجانب.
وإنه يُشترط في الحصول على الجنسية المصرية أن يكون مريدها قد قام
بواجبات القُرعة التي يفرضها القانون العسكري، وأن المتجنسين بالمصرية من
العثمانيين الذين أقاموا 15 سنة بشرطها، وكانوا قضوا الخدمة العسكرية في بلادهم،
أو كان عمرهم وقت إبلاغهم المحافظة أو المديرية خبر استيطانهم أكثر من 19
سنة - لا يطلب منهم الدخول في الخدمة العسكرية في مصر، بل يكلفون دفع البدل
العسكري وقدره 20 جنيهاً.
هذا ملخص اللائحة، وقد انتقدت الجرائد السورية هنا تكليف العثماني الذي
أدى الخدمة العسكرية في بلاده الأصلية دفع البدل العسكري، وهو انتقاد وجيه،
فعسى أن يصادف التفاتًا.
__________(1/898)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المدرستان الروسيتان بطرابلس الشام
كُتب إلينا من طرابلس الشام أن المدرسة الروسية التي افتتحت حديثًا فيها لتعلم
الذكور قد بلغ عدد تلامذتها نحو الثلاثمائة، والتي افتتحت في مينائها لتعليم الإناث
قد بلغ عدد تلميذاتها نحو الخمسمائة. وأن المدرستين تعطيان الكتب والورق للتلامذة
مجانًا، ويعلم فيهما البائس الفقير. فيا أيها القوم الذين يزعمون أن التعليم لا دخل له
في اتحاد الأمم وتقدمها، ولا أثر له في قوة الشعوب وتمدنها، أخبروني لماذا تبذل
الدول الأوروبية العناية في تأليف الجمعيات لإنشاء المدارس في البلاد الأجنبية التي
تطمع بامتلاكها، أو بتوسيع دائرة نفوذها فيها، سواء كان في السياسة أم في التجارة،
إذا كان التعليم يقوي نفوذ الدولة المعلمة من غير أمتها، بل في بلاد أعدائها،
فكيف يكون أثره في بلادها وأمتها؟ لا جرم أن قوام الأمم ورقيها في مراقي التمدن
وتقدمها على غيرها من العزة والمنعة ونفوذ الشوكة وعموم السيادة وسائر ضروب
السعادة، كل ذلك منوط بالتربية والتعليم الصحيحين، وإنما يقوم بذلك عقلاء الأمة
وأغنياؤها لا حكامها وأمراؤها، فليعتبر الذين سجلوا على أنفسهم الحرمان، بل
وطنوها على الموت الزؤام، لاعتقادهم أن نهوضهم لا يأتي إلا من قِبل حكامهم
الميئوس منهم.
__________(1/898)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار وآراء
(فتن مكدونية)
تفيد الجرائد الأوروبية أن الدولة العلية في قلق من القلاقل في مكدونية، وأنها
تحشد الجيوش وترسل الذخائر إلى حدود البلغار، فنسأل الله أن يجعل النهاية خيرًا.
***
(إعانة مسلمي سنغافورة للدولة)
أرسل مسلمو سنغافورة 249 ليرة عثمانية إلى الآستانة إعانة لأولاد الشهداء.
***
(مرصع الزاج)
أهدانا عالم الشعراء وشاعر العلماء في حاضرة تونس سيدى محمد النيفر نجل
العلامة الكامل الشيخ القاضي المالكي - أرجوزة حِكمية مِن نظمه سماها: (مرصع
الزاج، من سلسلة واسطة التاج، فيما إليه من عيون الحِكم والوصايا يُحتاج)
جعلها ثمانية أبوب:
(1) فيما يستعان به على فضيلة العلم والعقل.
و (2) على الزهد والعبادة.
و (3) على أدب اللسان.
و (4) على أدب النفس.
و (5) من مكارم الأخلاق.
و (6) على حسن السيرة.
و (7) على حسن السياسة.
و (8) على حسن البلاغ.
وقد رخص لكل من أراد إعادة طبعه أو ترجمته لأية لغة تعميماً للنفع، ولولا
ضيق المقام لأوردنا في العدد شيئاً من تلك الحِكم، فجزى الله الناظم فوق ما تستحقه
عنايته وإخلاصه ونفع بحِكمه وآدابه.
__________(1/899)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طائفة من الأخبار
اليمن
أرسلت الدولة العلية إلى اليمن ذخائر تساوي قيمتها مليوني فرنك، وتفيد
الأخبار الأخيرة أن الدولة العلية ظفرت بالثائرين.
***
الخط الحديدي بين الإسكندرية ورأس الرجا
يقول المسترسل رودس: إن المسافة بين مدينة رأس الرجاء والإسكندرية
ستة آلاف ميل، منها 3229 ميل لم تمد فيها الخطوط الحديدية، ويحتاج إلى نحو
250 مليون فرنك إلى مد الخطوط فيها؛ لأن نفقة الميل الواحد نحو 75 ألف فرنك،
وهو يسعى لدى حكومته باتخاذ الوسائل لمد هذه الخطوط ووصل الإسكندرية
برأس الرجاء، ليتم لها الرجاء السابق بامتلاك شرقي إفريقيا من الرأس إلى الذنَب،
وستكون المسافة بين مصر والكاب عشرة أيام في الأكثر.
***
ميزانية روسية الحربية والبحرية
كانت ميزانية روسية في العام الماضي 298 مليون روبل للجيش و67 مليونا
للبحرية، وقد جعلتها في هذا العام 324 مليونا للجيش، و83 مليونا للبحرية، فما
معنى اقتراح القيصر نزع السلاح أو تخفيفه مع زيادة 15 مليون روبل في ميزانية
الحربية، وقد كانت جرائد ألمانيا وإنكلترا تقول منذ شهرين: إن القيصر وافق
على بذل 280 ألف روبل في تنظيم بطَّريات الميدان، فكيف يطابق عمله اقتراحه.
__________(1/900)
8 شوال - 1316هـ
فبراير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصنائع والتربية والتعليم [*]
الصنائع ركن من أركان المعيشة الإنسانية لا يستغني عنها البشر في طور
من أطوار حياتهم وهي تترقى بترقي النوع في مدارج الحياة، فتبتدي في طور
البداوة بما يناسبه من البساطة والسذاجة والبعد عن الزخرف والزينة، ولا حد
لنهايتها، وإنما يسوق الناس إلى الترقي فيها الحاجة، فكلما ازدادوا عمرانًا وعلمًا
تجددت لهم حاجات تناسب الطور الذي ارتقوا إليه، والحاجة أم الاختراع، فهي
التي تهديهم إلى الاستنباط والعلم.
مطالبة الأمة في طور من أطوار الحياة بالصنائع التي تناسب طورًا أعلى منه،
إعجاز وإعنات، لا سيما في هذه الأزمنة التي بنيت فيها الصنائع على أسس العلوم
الطبيعية والرياضية والاقتصادية، فإذا كلفنا تجار بغداد - الذين طلب منا مكاتب
جريدة وكيل الهندية الغراء أن نحثهم على إنشاء المعامل - أن ينشئوا معملاً للقطن
أو للصوف، ونحن نعلم أنهم يحتاجون في ذلك إلى اجتلاب جميع آلات المعمل
وأدواته من أوروبا بأثمان أغلى مما هي عليه في بلادها، وإلى نفقات النقل مع
صعوبة المواصلات، وإلى دفع المكوس والضرائب للحكومة، وإلى عمال من
الأجانب يشتغلون في المعمل لجهل الوطنيين بذلك، فهل نقدر على إقناعهم بأن
مصنوعهم هذا يمكن أن يباع بالسعر الذي يباع به مثله من المصنوع الأوروبي مع
الربح الذي يساوي أو يُربي على ما يربحونه من تصريف أموالهم في تجارتهم
الحاضرة؟ لا بد لمن يحث هؤلاء على عمل كهذا أن يعرف جميع ما أشرنا إليه
مفصلاً تفصيلاً.
التجار والعمال أعلم بموضوع عملهم من أرباب الجرائد، وإن كانوا لا
يستغنون عن إرشادها، وما توصله إليهم من أنباء أبناء صنفهم وأعمال البعداء عنهم
مما يتعلق بالموضوع نفسه، وغير ذلك مما يحتاجون لمعرفته فيما هم فيه، كما تحتاج
السياسة إلى الجرائد السياسية. ربما تنبه الجرائد أهل السياسة أو التجارة والصناعة
إلى ما لم يحيطوا به علمًا؛ لأنها وصلة الهيئة الاجتماعية وملتقى أفكار الأصناف،
ولكن لا يقول أحد: إن قوام السياسة أو غيرها بالجرائد، وأن كتابها أعلم من
السياسة والتجار والصناع في مواضيع أعمالهم.
من مست حاجته إلى شيء وتهيأت له أسبابه تكفيه الإشارة الإجمالية إلى الأخذ
به، ويزيده التفصيل بصيرة، ومن يؤمر بما تنافيه حالته في نفسه وفي قومه
ووطنه، فجدير بأن لا يمتثل الأمر ولا يعي الخطاب.
إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت ناصحًا ... فمُرْ بالذي لا يستطاع من الأمر
مما شرحنا تفهم السر في اكتفاء الديانة الإسلامية - التي جاءت لسوق الناس
إلى سعادة الدارين - بالإرشاد الإجمالي في المصالح الدنيوية، كقوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) ونحوها، وقوله عز
وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وقوله:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) والشكر إنما يكون باستعمالها فيما خُلقت لأجله،
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِياًّ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 14) الابتغاء من فضله مفسَّر بالتجارة.
اكتفى القرآن بمثل هذا الإجمال والتنبيه على أن للكون سننًا لا تتغير ينبغي
الاهتداء بها، وأفاض في تقبيح العقائد الباطلة والحث على الأخذ بالبرهان في
الاعتقاد، كما أفاض في الحض على تهذيب الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ لأن هذا
هو الذي يجمع كلمة الأمة ويرقيها في معارج الكمال الاجتماعي، وعند ذلك تهتدى
إلي ما في ذلك الإجمال من الإرشاد إلى السعادة، فتندفع له عن بصيرة وعقل،
فتبلغ الغاية منه بإذن الله تعالى.
والخلاصة أن لكل مقام مقالاً، ولكل طور من أطوار الحياة أعمالاً، ونحن
معشر المسلمين اليوم منحطون في كل شيء ومحتاجون أشد الاحتياج إلى مجاراة
مجاورينا في كل ما هم فيه من التقدم الاجتماعي والمدني والعسكري، ويتوقف ذلك
على علوم وفنون وأعمال وصناعات نحن في بعد عنها كلها بقدر ما نحن في حاجة
إليها، وما يبعدنا عنها أمور كثيرة ترجع إلى شيئين، وهما: الدين، والحكومات.
أما الدين فمن وجهين:
(أولهما) : الإعراض عنه تخلقًا وعملاً؛ لعدم تعلمه والتربية عليه على الوجه
الذي ينبغي، ولذلك تفرقت الكلمة وارتفعت الثقة وصار الإخوة أعداء، ولا يمكن
مع هذا القيام بالصنائع والأعمال النافعة التي تتوقف على الاجتماع والتعاون
وروحهما الثقة، وهي لا تحصل بالتكلف ولا بالإجبار، بل يكون الإنسان أهلاً لأن
يوثق به لصدقه وأمانته ونشاطه، وكل هذا يكون بالتربية والتعليم الصحيحين.
(وثانيهما) : فهمه على غير وجهه؛ فإن أكثر المسلمين يعتقدون أن العلوم
الطبيعية والرياضية كفر، وكل من تعلمها تفسد عقيدته، ويحتجون على ذلك بأن
متعلميها لا يبالون بالدين، والسبب الصحيح في عدم المبالاة هو عدم تعلم الدين
وعدم التربية عليه، وربما كان قول بعض شيوخ الدين لمن تكلم في مسألة من هذه
الفنون يعتقدها بالبرهان: أنها من الكفر ومخالفة للدين - سببًا في اعتقاده بطلان
الدين؛ لأن كل ما خالف الحقيقة الثابتة بالبرهان باطل، ويقع مثل هذا كثيرًا.
وأكثر المسلمين يعتقدون أيضًا أن السعة في الدنيا خاصة بالكافرين، ومن
الجمل المسلَّمة الدائرة على ألسنتهم: (لهم الدنيا ولنا الآخرة) وقد جاءهم هذا
الوهم من الوعاظ وخطباء الفتنة، وقد أوردنا لك آنفًا قوله تعالى: {هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وهو صريح في أن
الزينة والطيبات هي موهوبة من الله تعالى للمؤمنين باستحقاق؛ لأنهم الذين
يشكرون عليها ويأخذونها بحقها، وإن كان غيرهم يشاركهم فيها كما أفاده قوله:
] خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ [ولهم غير ذلك من الاعتقادات المأخوذة من الدين على غير
وجهها، وهي من عقبات التقدم والإصلاح، وقد ألممنا بها في المقالات السابقة إجمالاً
وتفصيلاً.
وأما الحكومات فهي متمكنة بما لها من الاستبداد المطلق والسلطة النافذة من
تمهيد العقبات والنهوض بالأمة في أقرب الأوقات كما فعل ميكادو اليابان، ولكنها
تُعسِّر ولا تُيسِّر، وتمنح الأجنبي وتحرم الوطني، وتفصيل ذلك يطول، والشواهد
عليه كثيرة جدًّا، نكتفي هنا بواحدة منها، وهو ما كُتب إلينا حديثًا من سوريا، قال
المكاتب ما مثاله:
احتكر المسيو موسى فريج من بيروت من عدة سنين بضاعة إفرنجية، وهي
نوع من نسيج الديباج أو الإستبرق يتخذ سجوفًا للمناظر (ستائر للنوافذ والشبابيك)
وظهارات للأرائك والمقاعد، يبيع الذراع منه بثمانين قرشًا إلى 150 قرشًا،
فاطَّلع على ذلك أحد المهرة في صناعة الحياكة والنسيج من أهل دمشق الشام، فأنشأ
يقلد هذا النسيج حتى جاء بخير منه متانة وحسنًا وأرخص منه ثمنًا، فهبطت أسعار
النسيج الإفرنجي، ونقص ربح فريج الفاحش، فطفق يتجسس الأخبار ويبحث عن
السبب حتى اهتدى إلى ما كان من النساج الدمشقي، فابتغى إلى رشيد بك والي
بيروت الوسيلة في منعه، فقابل الوالي ذلك بما تقتضيه عثمانيته من الاهتمام،
واستحضر ذلك الوطني المسكين، وحتم عليه ترك العمل وهدده بالعقوبة إذا هو عاد
إليه، ولم يكتفِ بذلك، بل كسر له المنوال الذي يحوك عليه، لكن حلاوة الربح
حملت العامل على اتخاذ منوال آخر يحوك عليه سرًّا، قال الكاتب: وهذا النسيج
الوطني يباع الآن في بيروت سراً كما يباع البارود والديناميت، إنا لله وإنا إليه
راجعون.
هذا هو الوالي الذي تقدسه جرائد سوريا، ويشفع له بعض المقربين كلما أراد
مولانا السلطان عزله، أي خزي تخزى به أمة أشد من نزول البلاء عليها من حيث
تُرتجى النعماء لها، وفيضان طوفان الشقاوة عليها من سماء السعادة؟ أمة هذا شأنها
بماذا يكون إرشادها؟ ما هو الأهم الذي يقدَّم على المهم؟ بماذا ينبغي الإسهاب
والتفصيل، وما الذي يكفي فيه الإجمال والاختصار؟
يذهب قوم إلى أن الأهم المقدَّم هو التحامل على الأمراء والحكام وإظهار
معايبهم، وآخرون إلى الترغيب في الأعمال والصنائع وما تتوقف عليه من العلوم
والفنون، وهذا ما تلهج به الجرائد العملية والسياسية. أما رأينا فهو: أن أهم ما
يجب تقديم العناية به وتفصيل القول فيه هو الحث على التربية والتعليم الصحيحين،
إذ بهما تتآلف القلوب وتجتمع الكلمة وتُعرف الحقوق والواجبات الملية والقومية
والوطنية معرفة كاملة تبعث الإرادة على العمل، ومتى تكونت الأمة وتربت
وتعلمت فهي تصلح حكامها، وتندفع بطبيعتها إلى الأعمال النافعة والصنائع المفيدة؛
ولهذا أنشأنا المنار وعليه جرينا، نعم إننا ما قلنا ولن نقول: إنه لا ينبغي أن يكون
مع التربية والتعليم شيء آخر، بل حثثنا ولا نزال نحث على تأليف الشركات
المالية للقيام بالأعمال النافعة، زراعية وتجارية وصناعية، بحسب ما تقتضيه حالة
الزمان والمكان، ونبين أن ذلك لا ينافي الدين، بل يحفظه ويعزه، ونكل التفصيل
في ذلك لأهله، جريًا على سنة الدين، فقد كان الشارع عليه السلام يرغب في
الأعمال بمثل قوله: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فَسيلة فليغرسها) وهو أبلغ ما
يقال في التنشيط على العمل الدنيوي، وقال في حادثة تأبير النخل: أنتم أعلم بأمور
دنياكم.
هذا هو رأينا، ومن أُشربه في قلبه لا يعذلنا فيه، وبالله التوفيق.
__________
(*) افتتح بها العدد 47 المؤرخ في 8 شوال سنة 1316 الموافق 18 فبراير سنة 1899.(1/901)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صلاة الجمعة في جامع عمرو
هذا الجامع أقدم جوامع مصر وأعظمها، ولا يُصَلَّى فيه إلا آخر جمعة في
رمضان من كل سنة، وللناس فيه اعتقادات وهمية غريبة، منها: أنه سيكون هناك
في آخر الزمان ملحمة عظيمة، ويتأولون بذلك ما تطلقه الحربية من المدافع إجلالاً
لأمير البلاد، وعناية الحكومة بتجريد من يدخل الجامع من السلاح، بل ومن
العصي (على ما يقولون) وكأن السبب في هذا هو الاحتراس من قوع مشاجرة
تُفضي إلى فتنة كبيرة يشتعل ضرامها بريح الاعتقاد الوهمي، وكنت عازمًا على
الصلاة في هذا الجامع لأنظر بعيني ما يكون من أمر الناس في الأعمدة التي أشرنا
إليها فيما كتبناه تحت عنوان (الاعتقاد بالجمادات) في العدد الماضي، فلم يتح لي
ذلك ولكن حدثني منتقد فاضل بما أذكره ملخصًا، قال:
كان الطريق مفروشًا بالرمل النظيف، وطائفة من الجند تذود عنه المسلمين
دون الإفرنج، مع أن الأولين هم المقصودون بالذات الذين تقام بهم الصلاة، ولولا
ذهابهم لما ذهب الإفرنج، فكيف جاز لهم إهانة المصلين واضطرارهم إلى المشي
في الطريق الذي تسوخ الأرجل فيه، فتثير غبارًا يملأ أفواههم وخياشيمهم وهم
صائمون، وتتسخ منه أبدانهم وثيابهم، ويستحب أن يصلوا وهم منظفون، وقد
جرى هؤلاء الجنود على قاعدة الاستصحاب في تعظيم الإفرنج والمتفرنجين،
وتحقير الوطنيين، لا سيما إن كانوا صالحين، ولا شك أن سمو العباس أعزه الله
تعالى لا يرضى بهذه المعاملة الجائرة، فقد سمعه منشئ هذه الجريدة يقول: إنه
يحب التنقل في المساجد لصلاة الجمعة، ويرى من فائدتها إصلاح الطرق، لا سيما
في المساجد البعيدة كجامع أبي العلا في بولاق - وكان الحديث بعد صلاته فيه -
فعسى أن يلتفت لهذا الأمر من يناط بهم مثله بعد الآن.
قال محدثي: أما المسجد، فقد كان مملوءًا بالمنكرات والمنتقَدات، فمِن ذلك أن
صدره كان مفروشًا بالزرابي والطنافس والبُسُط الجميلة، وقسم منه كان مفروشًا
بالحصير، وباقيه غير مفروش، فصَلَّت الألوف من الناس على الأرض الوسخة
الرطبة.
ومنها: أن أبناء الطريق (العاقِّين) قد اجتمعوا بعد الصلاة يرقصون
ويعزفون بدفوفهم ومزاميرهم.
ومنها: أن الإفرنج وغيرهم دخلوا المسجد رجالاً ونساءً بأحذيتهم، وازدحم
الذكران والإناث على حِلق المنتسبين للطريق، ولا تسل عما في هذا الازدحام من
المنكرات، وأقلها الضوضاء والجلبة.
ومنها: التبرك بالعمود الذي كانوا يضربونه من قبل، وقد سألهم محدثي عن
سبب ما كان من إهانته وضربه أولاً وما استبدل بذلك من تعظميه والتبرك به، بل
بحظيرة الحديد التي أقامتها الحكومة الخديوية حوله؟ فقالوا له: أنه كان عصى
عمرو بن العاص عندما أراد الإتيان به للمسجد، فكانوا يضربونه لذلك، ثم إن
الخديوى رآه في نومه وقد هَمَّ أن يفتك به فسأله عن السبب فقال: لأنك لا تمنع
هؤلاء الناس من ضربي وايذائي، فهذا ما حمل سموه على الأمر ببناء الحظيرة
عليه، وتبين أن فيه سرًّا يتمكن به من التصرف في الناس.
ومنها: العمودان اللذان يختبر الطائع والعاصي بالمرور من بينهما، وقد شاهد
ذلك محدثي بعينيه.
أما الخطبة: فأخبرني أنها كانت بعض سجعات في وداع رمضان. وأجدر
بمن يخطب في مسجد تؤتى فيه المنكرات، وتشاهد فيه البدع والخرافات ويحضره
الألوف وعشرات الألوف - أن يخطب الناس في الموضوع الذي يناسب المقام،
وتمس إليه الحاجة، نعم إن من أسباب الخروج بالخطب عما شُرعت لأجله مرضاة
الأمراء والسلاطين، ولكن أميرنا العباس ليس من أولئك الأمراء الذين يجعلون الحق
تابعًا لأهوائهم، بل هو من أمراء الإصلاح [*] الذين يحبون أن يَصدُق عليهم الحديث
الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) ومن آية ما أقول
صلاته الجمعة في جامع أبي العلاء، فإنه أيده الله تعالى قصد بذلك نسخ آيه خرافية،
وإبطال عقيدة وهمية، ذلك أن عامة المصريين يعتقدون من زمن بعيد أن بلاءً كبيرًا
يحدث إذا صلى أمير مصر في مسجد أبي العلاء، وكنت أحب أن تكون الخطبة
يومئذ في موضوع هذا الاعتقاد وتوَخي العزيز حماه الله تعالى إبطاله، وبيان أن في
صلاته تلك تربية عملية للأمة. وأي عمل إصلاحي يمكن أن يعمله سمو العباس في
هذا المقام أشرف من هذا؟ أمر النبي عليه الصلاة والسلام الناس بالحَلق يوم
الحديبية، فتوقفوا عن الامتثال، فلما حَلَقَ بادروا للاقتداء به؛ لأن التربية بالعمل
أنفع من بالتربية بالقول، فلو أن الخطيب قال: أيها الناس إن الله تعالى خالق كل
شيء قد جعل بحكمته لكل شيء سببًا، وقد هدانا لهذه الأسباب بمشاعرنا وعقولنا وبما
أرشد إليه في كتابه وعلى لسان نبيه لنعمل لمعاشنا ومعادنا على بصيرة، وقد ضل
كثير من الناس فجعلوا ما ليس بسبب سببًا للنفع أو للضر، فكان ذلك عقبة في
طريق سعادتهم في دينهم أو دنياهم بحسب الاختلاف في موضوع الضلال. وإن مما
شاع بينكم من الأسباب الباطلة مما لم ينزل الله تعالى فيه وحيًا ولم يرشد إليه بعقل ولا
حس: اعتقاد بعضكم أن صلاة عزيز مصر في هذا المسجد يتولد منها مضرة، وأن
في زيارة بعض أعمدة الرخام في المسجد الحسيني والتمسح بها منفعة. وإن من عناية
مولانا العباس في إرشاد أمته أن جاء وصلى في هذا المسجد ليزيل هذا الاعتقاد
الوهمي الفاسد، وينبهكم على أن تقيسوا على ذلك سائر المواقع والمساجد، فالنفع
والضر والبلاء والنعماء كل ذلك بيد الله تعالى، ويُطلَب من أسبابه العادية التي
يعرف الضروري منها، وما عدا ذلك ينكشف بعلوم مخصوصة قد سعد المشتغلون بها
في دنياهم من حيث شقينا، واستغنوا من حيث افتقرنا، وقووا من حيث ضعفنا، وإن
شقاءنا وفقرنا وضعفنا في الدنيا من ضعف الدين؛ لأن حماية الحق والتمكن من القيام
به لا يُمكِنان إلا بالقوة والثروة، فلا تعولوا في نيل مصالحكم وتحصيل سعادتكم إلا
على الأسباب الصحيحة التي خلقها الله تعالى، وجعلها سننًا ثابتة لا تتغير ولا
تتحول، واعلموا أنه ليس وراء سنن الكون قوة إلا القوة الإلهية التي يستند إليها كل
شيء، واتفق على هذا برهانا العقل والوحي، قال الله عزو جل فيما أوحاه إلى نبيه
الأكمل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) بمثل هذا كان ينبغي أن يُخطَب في مسجد أبي العلاء أو في
مسجد عمرو عند ما صلى الأمير فيهما لا بمدح الشهور ووداعها. وفق الله خطباءنا
لما فيه الخير للأمة بمنّه وكرمه.
__________
(*) هذا ما كان يظنه الكاتب في ذلك الوقت، ولم يقصد به المصانعة ولا حدثته به، ولا حملت أحدًا على إبلاغه إياه.(1/905)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دمشق الشام
علمنا من أنباء سوريا أن حضرة دولتلو ناظم باشا والي الولاية المشار إليها
أصدر أمره باجتماع بعض الأعيان وأرباب الغيرة الوطنية في نادي دولته، وذَاكَرَهم
بما فيه ترقي الوطن ونجاح أهله، وكان أهم بحث طال الأخذ والرد به: لزوم
الزراعة التي عليها مدار الثروة والنجاح، وفي ختام هذه الجلسة قرأ حضرة عزتلو
عبد القادر بك مُحرر المؤيد العظمى مقالة مهمة في هذا الباب وهي:
بنا على استدعاء دولتكم بعض الذوات لحضوركم العالي لطفًا وتنزلاً، وفي
جملتهم هذا العاجز، للتداول في ترقي الزراعة التي هي ينبوع ثروة الولاية،
ومصدر سعادة الأهالي ورفاهيتهم، بظل سيدنا الخليفة الأعظم عناية مخصوصة من
قِبل دولتكم بهذا الأمر المهم، بادرت لتحرير هذه اللائحة في بيان الوسائل التي
تأول لترقي الزراعة في ولايتنا وتحسين أحوال الفلاحين، وقدمتها وأنا لا أشك في
أن الحكمة والصواب في رأي دولتكم، فأقول: إن الوسائل والتدابير اللازمة لترقي
الزراعة هي كثيرة جدًّا تحتاج لزيادة شرح وإسهاب لا يحتملها المقام، فأذكر منها ما
يأتي بوجه الإيجاز والاختصار:
(1) تأليف مجالس زراعية في مركز الولاية التابعة لها للنظر في
الأمور الزراعية والاهتمام على الدوام باتخاذ التدابير والوسائل المقتضية، وكل ما
يأول لترقي الزراعة وتحسين شؤون الفلاحين، وعرض قراراتهم المتعلقة بذلك
على مقام الولاية العالي؛ لأجل النظر فيها.
(2) إصلاح الطرق الوعرة المسالك بين القرى والقصبات بإلزام كل
فرد مكلف من الفلاحين بالشغل بها أيامًا معدودة في السنة، وفقًا لنظام الطرق
والمعابر، وذلك تحت مناظرة مجلس الزراعة، بشرط أن لا يقع سوء استعمال في
سَوْقهم وتشغليهم.
(3) فتح مكاتب ابتدائية في القرى الكبيرة والاستئذان من المرجع
الإيجابي بأن تكون نفقاتها من حصة المعارف على وجه أن تعم بعد ذلك كل القرى.
(4) إرسال تلميذين في كل سنة من أولاد الفلاحين النجباء إلى
المدارس الزراعية العالية في الآستانة العلية والممالك الأوروبية، لتعلم علم الزراعة
النظري والعملي على الأصول الجديدة، واستخدامهم بعد عودتهم في المصالح
الزراعية.
(5) توحيد أسعار النقود في كل الولاية، واعتبار المجيدي أساسًا لها،
وتنزيل سعره إلى عشرين قرشًا في التداول بين الأهالي، وتسعة عشر قرشًا في
الصاغ، كما هو متداول في الآستانة العلية، وهكذا تتنازل أسعار النقود المتنوعة
فيخلص الفلاحون من الفرق الذي بين الصاغ والرائج.
(6) تسهيل أسباب الاستدانة على المضطرين للنقود من الفلاحين من
المصارف (البنوك) الزراعية التي إنما فتحت رحمة بهم في ظل الحضرة العلية
السلطانية، لوقايتهم من ظلم الصيارفة ورباهم الفاحش، وذلك بمنع المصاعب التي
يقيمها بعض مأموري هذه المصارف، وإزالة العقبات التي يضعونها في سبيل
الفلاح المسكين جرًّا للمنفعة الشخصية.
(7) وقاية الفلاحين من أعمال بعض صغار الموظفين وحركاتهم المخالفة
للرضاء العالي، وخصوصًا أنفار الدرك (الجاندرمة) الذين يعاملون الفلاح معاملة
مخالفة للقانون.
(8) التنبيه على الجباة (التحصيلدارية) بأن لا يطلبوا تقاسيط الخراج
(الويركو) منهم قبل إدراك مواسمهم، حتى لا يضطروا للاستدانة من الصيارفة
وتحصيلها دفعة واحدة عند إدراك الموسم، وإلزامهم بأعشار قراهم بالبدل اللائق،
وفقًا للرضاء العالي، ووقايتهم من ظلم الملتزمين وغدرهم.
(9) فتح معرض زراعي في مركز الولاية مدة ثلاثة أو أربعة أيام في السنة،
تحت حماية دولتكم ونظارة مجلس الزراعة، تعرض فيه أدوات الزراعة القديمة
والحديثة، والفواكه الغضة والمجففة، وأنواع البقول والبذور والخضر والأزهار
والنباتات والماشية، وتخصص أربع أو خمس جوائز من البلدية أو من واردات
المعرض لا تتجاوز الجائزة عشر ليرات عثمانية لمن ينالون قصب السبق في إتقان
آلات الزراعة وأدواتها، وتربية الماشية وتنمية الأثمار والخضر وتربية الأزهار
والنباتات، والحكم في ذلك راجع لمجلس الزراعة، أو لجنة يختارها من كبار
المزارعين.
(10) مكأفاة المجتهدين من الفلاحين مكافأة مادية لقاء تربيتهم عددًا معلومًا
من الأشجار النافعة، مثلاً: أن من يغرس مائة شجرة زيتون يعفى من دفع العشر
عنها 15 سنة، ومثله: من يغرس 500 شجرة توت أو مشمش و4000 جفنة كرم،
وحيث إن ذلك لا يكون إلا بإرادة سنية سلطانية، فإذا سنحت به العواطف
الملوكانية بعد الاستئذان من طرف الولاية الجليلة يصير إعلانه للفلاحين.
(11) حث الفلاحين على زراعة الحراش الصناعية في الأماكن القابلة لذلك،
كجبال الكلبية في لواء حماة وجبل الشيخ وجبل عجلون والقنيطرة والقلمون
وبعلبك وغيرها.
(12) تعيين مكأفاة نقدية من صندوق بلدية كل لواء تُعطى لمن يشتغل أوفر
غلة من الحنطة أو الذرة من فدان من الأرض بمعرفة مجلس الزراعة وبعض أهل
الخبرة.
(13) إبدال المحراث القديم بالمحراث الجديد الأوروبي تدريجًا، وذلك
بتشويق بعض الذوات لجلب عدة محاريث من أحدث نوع وأبسطة وأقله كلفة مما
يجره فدان واحد من البقر ليستعملوه في أراضيهم، فإذا رأى الفلاحون فوائده اقتدوا
بهم أيضًا، وهكذا يجلب غيره من أدوات الفلاحة الحديثة والبذور والأغراس الغربية.
(14) تسهيل الزواج بين الفلاحين تكثيرًا لنسلهم، وذلك بالإيعاز إلى
الخطباء والمشايخ بالوعظ على المنابر وحلقات المساجد والاجتماعات بتخفيض
المهور وعدم المغالاة بالجهاز، مما يكون سببًا في إفقار بعض الفلاحين أو وقوعهم
تحت طائلة الدَّين أو إبطائهم عن الزواج، وخصوصًا في لواء حوران وقضاء
المرج وغيرهما.
(15) توزيع المهاجرين الوافدين للولاية على القرى ليشتغلوا في الأرض
التي هي في احتياج شديد إلى العمال، فتستفيد البلاد منهم ويستفيدون هم منها.
(16) ترجمة بعض الكتب الحديثة الزراعية من اللغات الأجنبية إلى اللغة
العربية، وطبعها في مطبعة الولاية، ونشرها بين الناس، وهذا كله مفتقِر لمساعدة
دولتكم وعنايتكم، وبه تزداد الزراعة ترقياً والأهالي راحة وسعادة في أيام دولتكم،
بظل الحضرة العلية السلطانية الساهرة على راحة تبعتها ورعيتها، خلد الله ملكها
إلى ما شاء الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (طرابلس) ... ... ... ...
(المنار)
إن مثل هذه الآراء السديدة والإرشادات المفيدة جديرة بأن تصدر من مثل هذا
الأمير العاقل والسري الفاضل، كما أن صاحب الدولة ناظم باشا في همته وإقدامه
جدير بتنفيذها، ونرى أن بعض ما يتوقف على إذن الآستانة العلية، كإنشاء المكاتب
الزراعية من حصة المعارف من الأموال الأميرية يعسر الوصول إليه إلا إذا ساعدت
المقادير وما لا يدرك كله لا يترك قله.
__________(1/908)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وعود فرنسا في تونس
أرسل بعضهم رسالة إلى التيمس يذكر فيها وعود فرنسا وعهودها التي فاهت
بها عند احتلالها تونس، وهذه صورتها:
كتب المسيو سان هيلار ناظر خارجية فرنسا حينئذ في 27 أبريل سنة 1881
يقول عن احتلال تونس: (إننا لا نفكر ألبتة في ضمها إلى أملاكنا، بل كل ما
نسعى إليه عقد معاهدة مع الباي تضمن لنا حدودنا ومصالحنا) .
وكتب في 19 مايو يقول:
(لا يمكن أن تكون تونس سببًا للخلاف بيننا (بين فرنسا وإنكلترا) فقد
صرحنا لأوروبا بأننا لا نروم ضمها ولا فتحها، ولا نحاول ذلك، بل نحتل بنزرت
وأماكن أخرى، ما دمنا نرى احتلالها لازمًا، ولكننا لا نجعل بنزرت ميناء لنا،
ولن تمتلك فرنسا تونس، وستشهد أعمالنا بأننا لا نقول غير الحق) .
وكتب أيضًا في 23 مايو يقول:
(إن ما صرحتُ به عن مقاصدنا في تونس هو الحق الذي لاريب فيه،
وضمها حمق وجهل، ثم إننا لا نريد أن نفعل شيئاً في بنزرت) .
وكتب أيضًا في 9 يوليو ما يأتي:
(إننا سنخمد الثورة، ولكن ذلك لا يغرينا بالفتوحات؛ لأننا لا نريدها،
وليس في زيادة سطوتنا على تونس إجحاف بالمصالح الإنكليزية ولا بغيرها،
وسترى أوروبا عن قريب أن وعودنا ليست من قبيل العبث، وأن مقاصدنا في
تونس حسنة؛ لأننا لا نطلب شيئًا غير سلامة مستعمرتنا الأفريقية العظيمة
الجزائر) .
وكتب في 27 منه:
ولي الأمل أن ما أجبت به أول أمس يقنع إنكلترا بحسن نيتنا وبصدق السياسة
الفرنسوية وإخلاصها.
وكتب في 15 أبريل سنة 1884 - ولا أعلم ما إذا كان لا يزال ناظرًا
للخارجية حينئذ - يقول:
(إني على رأيكم في سياسة إنكلترا المصرية فما عليكم إلا أن تفعلوا ما قلناه
نحن في تونس، حيث الأحوال على ما يرام، فإن في ذلك مصلحة بلادكم ومصلحة
التمدن والإنسانية معًا) .
وكتب الكونت دي باري عدو الجمهورية الفرنسوية إلى المستر ريف في 17
سبتمبر سنة 1884 عن حملة تونكين فقال:
(إن السياسة الاستعمارية سارت على خطة غير منتظمة، فتشددت عزائمها
في تونكين وارتخت في مصر، وقد كان يمكن اتخاذ مسألة مصر قاعدة للاتفاق مع
إنكلترا، فعوضًا عن ذلك لم ترد فرنسا مساعدتها، بل حنقت عليها لأنها أقدمت
على العمل وحدها، ولما بدأت المشاكل والمصاعب في سبيل إنكلترا لم تتفق فرنسا
معها على حلها، ولا توارت وراء أوروبا حينئذ حتى لا تقع المسئولية عليها عند
الإخفاق في المؤتمر) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم)
(المنار)
فليعتبر الذين لا يزالون ينخدعون بأوروبا ويغترون بعهودها ووعودها، فقد
علَّمتهم الحوادث والوقائع الكثيرة إن كانوا يفقهون.
__________(1/911)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فرنسا والسودان
لا تزال الجرائد الفرنسوية تقيم الحجج والبراهين على مخالفة (وفاق السودان)
لجميع الأصول القانونية والشرائع الدولية، ومما نشرته جريدة الديبا في ذلك من
عهد قريب رسالة من القاهرة ملخصها: أن مصر ولاية تابعة للدولة العلية في جميع
شؤونها الداخلية الكبرى والخارجية العظمى، مقيدة بفرامين سلطانية أقدمها فرمان
سنة 1810، وأحدثها فرمان سنة 1892، فلا حق لحكومتها أن تعقد وفاقًا أو
معاهدة مع دولة ما، وأوضح دليل على هذا أن الدول تأبى عليها تعيين وكلاء
ومعتمدين في بلادها، وما وكلاء الدول في مصر إلا قناصل جنرالية لا يمكن أن
يعطى لهم غير هذا اللقب، وأن جلالة السلطان هو الذي أذن للخديوي في سنة
1874 بأن يوافق الدول على معاهدات الإصلاح القضائي، وفي سنة 79 بأن يعقد
قرضًا في البلاد الأجنبية لحل المسائل المالية. ولما أذن له في فرماني سنة 79
وسنة 92 بعقد المعاهدات التجارية والجمركية قيد ذلك بهذا النص: (ليس للخديوي
أن يتنازل لآخرين بأية حجة وسبب عن الامتيازات الممنوحة لمصر كلها أو بعضها،
ولا عن أي جزء من الأراضي) .
وعلى هذا كان يجب أن يكون وفاق السودان بإذن خاص من جلالة السلطان
ليكون صحيحًا، وأما الاعتراض بأن إنكلترا مشاركة في الفتح والفاعل مستحق
أجرته على قول الإنجيل الشريف، فهو ضعيف لأن الولايات السودانية لم تخلها
الجنود المصرية على الإطلاق منذ سنة 1882، وإنما هي ولايات ثارت وعصت
وأدبت، فإخماد الثورة شيء والفتح شيء آخر، وقد صرحت إنكلترا بلسان حكومتها
وجرائدها بأن مصر أبقت حقوق سيادتها على السودان غير ممسوسة، وأن الحملة
لم يك المقصود منها إلا تسكين مقاطعات ثائرة. وصرح اللورد كرزون وكيل
خارجيتها - حاكم الهند الآن - في مجلس العموم سنة 1896 بأن شرق السودان التي
تقرر أمرها عائد كله إلى الحكومة المصرية وحدها، والنتيجة أن وفاق السودان فيه
غمط لحقوق السلطان وحقوق أوروبا، وقد أورد الكاتب كلمتين من كتب فن
الحقوق الدولية محتجًّا بهما على الإنكليز:
الأولى: (أن المعاهدة المعقودة بين مملكتين تنفذ في جميع الأملاك والأراضي
التي تنفذ فيهما سلطتهما، وتقرر عليهما سيادتهما) .
والثانية: (أنه حينما تضم الدولة دولة أرضًا ما إليها، فكل المعاهدات التي
تربط بها هذه الدولة تنفذ لساعتها في الأرض التي تضمها إليها) .
وختم كلامه بأنه سوف يرى إذا كانت تصبر أوروبا على هضم حقوقها أم لا،
انتهى.
(المنار)
قد ذكرت جريدة الأهرام ما نشرته الديبا بإسهاب، ونحن نقول
كما قلنا من قبل: إن المسألة مبنية على القوة لا على الحق، وإلا فما بال سواكن
ووادي حلفا، فلو كان عند الفرنسويين أسطول كأسطول الإنكليز لنهضت حججهم،
وأصابوا غرضهم، نعم إن فرنسا ليست كفؤًا لإنكلترا، ولكنها دولة قوية،
والاحتجاج لا بد أن يمنحها فائدة ما، فقد جاء في أنباء البرق العمومية ما يُشعر بأن
إنكلترا قد تسمح لفرنسا بمنفذ في النيل، ولكن المصيبة الكبرى على من له كل شيء
ولا يسمح له بشيء؛ لأنه لا يستطيع أن يقول لأنه لا يستطيع أن يفعل، فعلى
المصريين أن لا يغتروا بأحد ولا يثقوا بأحد، وأن يتفكروا في كيفية حياتهم في هذه
الأطوار الجديدة التي طرأت عليهم، فالإنكليز لا يمنعونهم من منافعهم إن لم يقوموا
بها بعنوان مناهضتهم ومعاداتهم، فليشيدوا المدارس الوطنية، وليعقدوا الشركات
المالية، وليسابقوا الأوروبي إلى السودان للاتجار وابتياع الأراضي الواسعة
الرخيصة، فهم أقدر على سكنى السودان واستعماره من الأوروبيين، إن كانوا
يعقلون.
__________(1/912)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إنكلترا والسودان
خطب اللورد سالسبوري في مجلس الأعيان خطبة رد فيها على اللورد كمبرلي
زعيم الأحرار في اعتراضاته في مسألة السودان، وأبدى ارتيابه في كون بلاد
السودان غدت في زمن من الأزمان جزءًا من بلاد السلطان، وأعرب عن حسن نية
حكومته في هذه البلاد، وتكلم عن حقوق الحضرة الخديوية كلمة نتمنى أن تكون
صادرة عن الإخلاص لا عن التمويه السياسي المعهود، لا سيما عند الإنكليز وهي:
هذا وليس في كل الكلام الذي قلناه حتى الآن ما يفيد أن السودان صار ملكًا
لجلالة الملكة، فإننا استحوذنا على أملاك الخليفة بحقين:
الأول: أنها جزء من أملاك مصر التي نحتلها الآن.
والثاني: حق الفتح وهو أقدم الحقوق وأقلها إشكالاً وأقربها إلى الأفهام؛ لأن
الجنود الإنكليزية والجنود المصرية فتحت تلك البلاد.
وقد بنيت حجتي على السودان في البلاغ الأول الذي كتبته إلى فرنسا على حق
الفتح، علمًا مني أن هذا الحق أفيد وأبسط وأقرب إلى التؤدة والسلام من الحق الآخر،
ولكنني دحضت كل ما يمكن استنتاجه من ذلك، وهو أننا ننوي أن ننازع الجناب
الخديوي حليفنا على حقوقه أو أن نظلمه بشيء من الأشياء، بل قد اعترفت له
بمقامه في السودان.
__________(1/914)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصوم والفطر
تناقلت الجرائد المحلية أن كثيرًا من أهل الريف أفطروا في يوم السبت
(30 رمضان) بناء على أن التقاويم (النتائج والإمساكيات) متفقة على أن الشهر
29 يومًا، ولا سبب لهذا إلا الجهل بالحكم الشرعي، فمن عرف الحكم لا يبالي
بالتقاويم، ومن الغريب أن بعض أهل القاهرة قد أفطروا بحجة اتفاق التقاويم
وتوهموا أن فطرهم صادف الواقع، حيث تبين أن الهلال رؤي في ليلة الأحد
مرتفعًا وكبيرًا بحيث يجزم أنه ابن ليلتين، وكل هذا لا اعتبار له في نظر الشرع.
الدين الإسلامي لم يجعل أمر العبادة منوطًا برئيس ولا عالم، بل جعله مما
يتناوله الكافة؛ لأن إناطة العبادات بالرؤساء قد جر على الأمم السابقة شقاءً طويلاً،
فلو أن إثبات الصوم والفطر موكول إلى الفلكيين، ولو على تقدير وجودهم لجاز أن
لا يوجد في البلد الكبير أو القطر العظيم إلا واحد منهم، وربما كان هذا الواحد أو
الآحاد من أصحاب الأهواء الذين يتلاعبون بأمر الدين، إجابة لداعي الشهوة، أو
لرغائب الأمراء والكبراء، أو لغير ذلك من الأسباب، وفي ذلك فساد كبير لا يخفى
على المستبصرين.
لاحظ الشرع الحكيم هذا فجعل أمر الصوم والفطر مبنيًّا على رؤية الهلال،
فإن لم يُر فعلى كمال عدة الشهر ثلاثين يومًا، وأول ليلة يُرى فيها الهلال من الشهر
هي أول الشهر في الاصطلاح الشرعي، سواء كان مرتفعًا أم منخفضاً، ولا مشاحة
في الاصطلاح، والحكمة ظاهرة، إذ يتساوى بهذا الحكم جميع المسلمين، لا فرق
بين الأعرابي في باديته والحضري في مصره، يعمل كل مسلم بعلمه إلا إذا ثبت
شرعًا برؤية الهلال أن يوم الثلاثين من شعبان هو أول رمضان، أو يوم الثلاثين
من رمضان أنه العيد، فيصوم ويفطر بحسب رؤيته، وإن لم يثبت ذلك شرعًا بأن
لم يشهد أو لم يحكم بشهادته، ولكن ينبغي أن لا يتظاهر بخلاف ما عليه الناس،
لئلا يظن به السوء.
ينحي أكثر الناس باللوم فيما حصل من الخطأ في الفطر على الحكومة
ويقولون: كان من وظيفتها إعلام سائر جهات القطر بعدم ثبوت العيد ليلة السبت،
وقالت جريدة المقطم: كان ينبغي الإعلام بعدم إمكان رؤية الهلال.
والصواب: معرفة الحكم الشرعي كافية لعدم الخطأ، وأن التعريف به من
وظيفة الخطباء والمدرسين، فأكثر المسلمين يحضرون صلاة الجمعة، فلو استبدل
الخطباء في آخر جمعة من رمضان بيان هذا الحكم بوداع رمضان وإعلام الناس بما
يعلمونه من إيقاد المصابيح وإطفائها ونحو ذلك مما لا فائدة فيه - لاهتدى الناس ولما
وقعوا في هذا الالتباس، فعسى أن يلاحظوا هذا في السنين المقبلة، وبالله التوفيق.
__________(1/915)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنازع أوربا الممالك الإسلامية
يقول خطباؤنا في خطبهم التي هي عبارة عن (روزنامة دينية) كلمة في فضل
الشهور تناسب ما نريد أن نقول عن تنازع أوروبا في الممالك الإسلامية وهي: (فلا
يمضي عنكم شهر شريف إلا ويأتيكم نظيره في الشرف، فإن كان شهر رجب قد رحل
عنكم وبان، فهذا نور شعبان قد وضح لكم وبان) .
وحكومات أوروبا يقول بعضها لبعض: لا تستولون على مملكة إسلامية، إلا
ويعرض لكم مثلها في المنافع الاستعمارية، فإن كان قد انتهى أمر مملكة السودان فقد
فتح باب ممالك بورنو ووداي وعمان، فهذه فرنسا قد سبقت إلى الأخيرة،
فتنازل لها سلطانها عن مرفأ بندر جبار في خليج عمان، وهو على بعد خمسة أميال
من مسقط عاصمة المملكة، ويساوي ميناءها في الاتساع وإذا حُصِّن يكون من أمنع
المعاقل الحربية، وتتحدث بعض الجرائد الأوروبية بإنشاء قنصلية روسية في
مسقط، وهذه مبادئ الاستيلاء على المملكة كلها، وقد وجهت إنكلترا أنظارها
إلى منازعة فرنسا أو مشاركتها في هذه الغنيمة الجديدة، ولا ندري كيف
تنتهي المناظرة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(1/916)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سلطانا العثمانيين والمغرب الأقصى
يسوء المسلمين جميعاً أن أمراءهم وملوكهم لا صلة بينهم، ويتمنون أن
يرتبط بعضهم ببعض بالوداد والحلاف مع استقلالهم في داخلية بلادهم، وأن
يستعين ضعيفهم بقويهم، وجاهلهم بعالمهم على إصلاح البلاد وترقية الأمة،
وقد سرَّنا ما نقلته الجرائد من عهد قريب من تكرم مولانا أمير المؤمنين وكبير
سلاطين المسلمين بهدايا نفيسة من الخيول الجياد وغيرها، أرسلها إلى مولاي
عبد العزيز سلطان مراكش، فعسى أن تكون هذه الهدية فاتحة الألطاف وبداية
الإسعاف.
__________(1/916)
15 شوال - 1316هـ
فبراير - 1899م(1/)
الكاتب: محمد عبده
__________
القوة والقانون [*]
من مقالات الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير
قبل الكلام على خصائص هذين الركنين لهيئة الوجود الإنساني، نريد أن نبين
حقيقة كل منهما؛ ليكون القارئ على علم بما يلقى إليه بعد، فلا يخطئ الغرض ولا
يجاور المرض، ولا تلحقه شبهة توقعه في ظلام الحيرة، وغيهب التردد - أما
القوة فلا نعني بها إلا ما يستعمل لجلب الملائم، ودفع المكروه سواء كان من شخص
واحد أو جماعة متآلفة أو شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، وسواء كانت آلة
تحصيل الملائم ورفع المصادم هي القوة البدنية مجردة عن سواها، كما تراه في
السباع الضارية والحيوانات الكاسرة، أو هي منضمة إلى السيوف القاطعة والآلات
المحرقة، وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في مواطن الغلبة والصيال.
أما القانون فهو الناموس الحق الذي ترجع إليه الأمم في معاملاتها العمومية،
وأحوالها الخصوصية، وهيئاتها النفسانية أعم من أن يكون متعلقاً بروابط المماليك
وعلائقها، أو منوطًا بالسياسة الداخلية، كالإدارة المدنية والتدابير المنزلية، أو باحثًا
عن الأخلاق الفاضلة، وما ينبغي أن يتحلى به الإنسان منها، وما يجب أن يبتعد عنه
من أضدادها، وسواء كان في أمة واحدة أو أمم متعددة.
وهاتان الحقيقتان هما موضوع كلامنا الآن، أما القوة فكانت شرعة الأمم
الغابرة والشعوب السالفة، وقت أن كان الإنسان جبلي الطبع، لا يمتاز عن غيره من
أنواع الحيوانات إلا بالفصل المميز، أعني: قابلية النطق المجرد عن نور
المعارف وشعار التمدن، فكانت له الحاكم الفيصل، يرجع إليها في تحصيل غرضه
ونوال مطلوبه، وباختلافها وتفاوتها اشتدادًا وضعفًا وتقدمًا وتقهقرًا كانت تختلف
الأمم وقتئذ في الشرف والضعة والسطوة والفقر والغنى، من غير نظر إلى شيء من
وسائل تلك الوجوه مهما كانت طرائقها، فكان الرجل يمتاز بين قومه بصفة الإقدام
والجراءة وكثرة السلب والنهب والبتك والفتك، وكانت القبيلة التي هي أشهر القبائل
في هذه الصفات تعرف بالمجد الأثيل، والشرف الباذخ، والمكانة العالية، فيدين لها
مجاوروها، ويخضع لسطوتها كل أمة قرع أسماعها ما هي عليه من علو المنزلة وشدة
الأنفة وقوة الشمم، وتساق إليها الهدايا من تخوم الأقطار وشاسع البلدان، وتأتيها
الغنائم أفواجًا يقتادها رجالها الأبطال من ساحات الصدام والنزال، ولم تزل
الأزمان الغابرة محكومة بسلطان القوة، تقلب الأمم على جمر الخوف والاضطراب،
وتضرب بصولجانها جراثيم القلوب الضعيفة، فتلقي بها في مهاوي الذل والهوان،
حتى خضعت لها الأمم، ودانت لها الشعوب، وصارت هي الديان المسيطر على
كل شئ، فإذا تمت لقوم تبعتها السلطة التامة والحكم المطلق، فيتسلطون بقدر
مكنتهم على ما شاء الله من الشعوب والقبائل، ويتخيرون واحدًا منهم سلطانًا أو ملكًا،
قد امتاز بالتهور والجراءة وجلالة المنظر والنضارة، يملكونه زمام الحكم والسلطة،
ثم ينتخبون من عشائرهم رجالاً يعدونهم حفاظ الملك وأرباب النجدة والنصرة
على العدو والعدة لفتح الممالك والأمصار، ويتسلطون بهؤلاء على بقية من هم تحت
سلطانهم بالرهبة والقساوة، لئلا يتخلصوا من ربقتهم فيذعنون لملكهم قهرًا لا طوعًا،
وينظرونه مقتًا لا حبًّا، ويحملون إليه الخراج وهم صاغرون، وذلك دون مراعاة
طرق عادلة أو أحكام مؤسسة على أصول المساواة واستعمال الشفقة والمرحمة، بل
بحسب ما تقتضيه القوة التي سفكت الدماء، وذللت الشعوب، وانتهكت حرمات
الأمم وسجنت حرية الإنسان في مطمورة الرق والاستعباد.
هذا ما ولدته القوة في تلك الأعصار الخالية التي كانت مشحونة بظلمات
الجهالة، مسربلة بجلابيب الغباوة، مغمورة في بحار الوحشية، وما أظن تلك
الشريعة المشار إليها كانت خاصة بأمة من الأمم، أو صنف من أصناف البشر، بل
كانت عامة بين أبناء الإنسان على اختلاف أجناسه وتباين مواطنه، فكنت ترى عامة
القبائل وكافة الشعوب مقسمة إلى ممالك متعددة، وإمارات متباينة، تجول فيها يد
القوة، ويحكمها مجرد الرهبة، ويطويها الخوف وينشرها الفزع ويشملها
الاضطراب والاختلال، وتتبادلها أيادي السلب، يبيت ضعفاؤها غير أمنين على
أنفسهم، ويصبح أقوياؤها غير مطمئنين على حياتهم، فانبعثت في قلوب هؤلاء
الأوزاع الذين ضربتهم يد السطوة بعصى القوة علة الضغف، ودبت فيها سخائم
الحقد، فاختلفت الأغراض، وتباينت المشارب، وتفرقت القلوب، وتنوعت وحدة
الإنسان الحقيقية إلى أنواع لا يجمعها سوى جامعة الحيوان الناطق، وتبدلت فطرته
السليمة إلى أخلاق لا مناسبة بينها وبين جوهره المقدس الشريف.
ولقد تمكنت سطوة القوة في قلوب أولئك الشعوب وارتسمت صورها في
مخيلاتهم، وانسحبت معانيها إلى ذاكراتهم، وصارت محفوظة في خزانة حافظاتهم،
قائمة نصب أعينهم، حتى توهموها مقلب القلوب والأحوال، حافظ القوى والأكوان،
إليها مرجع الحوادث، وعليها تدبير النوازل والكوارث، فاحتسبوها المدبر في
المكونات بأجمعها، وصوروا تماثيل على صور مختلفة، وأنواع متباينة، تشير
ظواهرها إلى القوة وتؤدي هيئاتها معاني العظمة والسطوة، ووضعوها في أماكن
عبادتهم ليؤدوا لها فرائض السجود والركوع، ويقربوا إليها القرابين من نوع الإنسان
وأنواع الحيوان، وهذه أصنام العرب والصين والعجم، وآثار قدماء المصريين،
وآلهة اليونانيين المصنوعة على أشكال الحيوانات العادِية والملوك العاتية، يشرح
التاريخ أحوالها، فلا داعي إلى الإسهاب في تفاصيل شؤونها، ومن تتبع تواريخ هذا
الإنسان الوحشي بإمعان وتبصُّر ظهر له أن القوة هي التي دوخت قوى الإنسان
السلمية وبددتها أحدثت به من القبائح ما أحدثت، ولولا أن القانون كسر سورتها
وذلل صعوبتها لما أشرق نور الحق على صفحات الوجود، ولا تمتع الإنسان في
الأزمان الأخيرة بلذة الراحة والسعادة، فالحق للقانون لا للقوة.
وبينما الإنسان تائه في أغوار الاستعباد في هاتيك الأزمنة أزمنة القوة
والاستبداد، والجور والعيث والعار، ليس له حق يصان، ولا عر ض إلا ويهتك
ويهان - إذ أشرقت عليه قرائح الذين جادت بهم مراحل الفضل، وعرفوا بمناهج
الخير، فأبصر من طلائع أفكارهم ما يهديه إلى سبيل الرشاد، ويوقظ فكرته إلى
التماس الصواب من أبواب السداد، فعلم أن القوة هي منحة جليلة، ونعمة كبيرة،
يستعين بها على حاجاته الضرورية، ولوازم معيشته المرضية، قد غرزها الله
تعالى بالاتحاد والائتلاف، حتى إذا عجز الفرد الواحد عن ما لا طاقة له عليه من
نفائس المطالب، وجلائل الرغائب استعان بعشيرته ثم بقبيلته ثم بأمته التي يجمعها
دين أو ملك، ثم بجميع أفراد نوعه، وإن القوة إذا لم تكن على قانون لا تتعداه،
وخط لا تتخطاه، بأن استعملت على أي وجه، وفي أي زمان أو مكان، لا ينال
ثمرتها المحبوبة، وغايتها المطلوبة، فأسف على ما كان، ونزع من رقدة الغفلة
يحاول لها النظام المعبر عنه بالقانون، فكان نورًا يهتدى به، وقائدًا رشيدًا يسلك
بالإنسان إلى ما أهله له من الكرامة والنعيم، فاتبع سبيله المهتدون، ومال عن سننه
الضالون.
أما الإنسان الذي ساعده التوفيق بالانقياد لأحكام القانون، فإنه حفظه باطنًا
وظاهرًا، وتمسك به غائبًا وحاضرًا، حتى صار ركنًا من لوازم حياته، وعدة
لمقاصده وغاياته، ولهج لسانه في بكره وعشياته، إلى أن عرف به واجباته
الحقوقية، وفرائض معيشته العمومية والخصوصية، وأمن به من مصائب الظلم
ونوازله، والجور وغوائله، واطمأن به على نفسه وعرضه وماله، فسكن قلبه بعد
اضطراب، وقرت عينه برياض الأمن والأمان، وتولد فيه أمل حمله على إدمان
العمل، فأعمل فكرته الخامدة، وأجرى حركته الراكدة، ولا زال يرتاد مواطن العلم
ومعاهده، ويقتنص بحيالة الاستكشاف كل فائدة، ويستعمل قواه في حل المبهمات،
ويستطلع ببصيرته ما خفي من مجهول الكائنات، إلى أن حداه العلم إلى معرض
الاختراع والإبداع، فطار على جناح البخار بدل الشراع، واستخدم النضار
لقضاء الأوطار، واستعمل البرق على بعد الديار، رسولًا للأخبار، وجعل المدافع
والقنابل ليبيد بها مضاديه ومعانديه، وانغمس في النعيم مطعمًا ومشربًا وملبسًا
ومسكنًا، إلى غير ذلك مما أتيح له من محاسن الحضارة، ولطائف الرفاهة
والنضارة، ولا زال يضرب في تخوم البلاد ويذلل بقوة عزمه أخلاق العباد إلى أن
أصبحت البسيطة في قبضة زمامه، ولا غرو فإن فائدة الاتحاد والائتلاف، وباعثه
الوفاق لا الاختلاف، وهو الآن كما بدأ يحافظ على القانون بإنسان مقلته، ويصرف
في حراسته ما يدخل تحت قوته، فإنه ملاك سعده، وأساس مجده، ومنتهى جده.
أما الذي ضرب عن القانون صفحًا، وطوى عنه كشحًا، فهو هو على رذالة
أخلاقه وبساطة أفكاره، يصبح مضغة تحت أضراس الظلم، ويمسي كرة لصولجان
البغي، فليحيَ صاحب القانون على بساط النعمة الهني.
فيا أيها الذين ينحرفون عن القوانين ويعدلون عن طرق النظامات لغرور وقتي،
ارفقوا بأنفسكم واعتبروا بمن يماثلكم في الصورة الإنسانية، وانظروا إليهم كيف
عظموا القوانين، ورفعوا شأن الحقوق، فأصبحوا في غاية من القوة والعزة،
فانهضوا لمجاراتهم في الصدق إن كنتم تعقلون، وإياكم والتمادي فيما تسوله النفوس
من الاغترار بظاهر من السلطة فالأيام تغلب وتقلب، لكن صراط الحق واحد
وسالكه لا يضل إن عثر يومًا استقام أعوامًا، أما طرق الاعوجاج فهي وعرة خطرة
كثيرة الغوائل، سالكها معارض لمدبر العالم سبحانه وتعالى في أحكامه فإنه عز
شأنه قد أقام الكون بنظام الحكمة، ورتب لكل شيء حدودًا هي سور بقائه وسياج
دوامه، فإن خرج عنه انحدر إلى مهاوي العدم والفناء، ومن تأمل الكون الأعلى وما
فيه من الكواكب والشموس والأقمار، ثم نظر إلى العالم الأسفل وما احتوى عليه من
نبات وحيوان يشهد في الجميع لكل نوع منها قانونًا خاصاً في سير وجوده، تقوم
البراهين القاطعة على أنه لو انحرف عنه لحكم عليه السلطان القهر الإلهي بالعدم
والانقلاب وأنه يباهر حكمته قد جعل للهيئة الإنسانية حدودًا عامة، هي الشرائع
وقوانين الآداب التي تحدد سير الإنسان في معيشته الخاصة نفسه، أو معاملته مع
غيره، وقد أودعها العلماء والحكماء بطون كتب التهذيب والتربية البشرية، بعد أن
نطقت بها الشرائع الإلهية، وقد شهدت التجارب بالأخبار المتواترة، عن الأمم
الماضية والمشاهدة الحالية في الأوقات الحاضرة، أن من تخطى حدود هذه الحقائق
رماه القهر الإلهي بسهم لا يخطئ مرماه، فالقانون هو سر الحياة وعماد سعادة الأمم،
وإن القوة لا تأتي بثمرتها الحقيقة إلا إذا عضدت باتباع الشرع والقانون العام الذي
أقر العقلاء بوجوب اتباعه.
فكيف يصح لذي شوكة أو صاحب سلطة أن يغتر بعد رؤيته هذه البراهين
الباهرة بقوته، أو يعجب بصولته، ويدع الأمور لإرادته ومشيئته، ويزدري ما
للقانون من حفظ القوة ونمو الثروة في من هم تحت إمرته، فيفعل ما تسول له نفسه،
ويأتي كل ما يسوقه إليه حسه، فيسري الإهمال في طبقات رجاله، ويجارون
حاكمهم في عوائده وأخلاقه، وتصير الأموال لديهم مباحة، والحقوق مبتذلة،
والأعراض منتهكة، ووسائل الربط والضبط معطلة، وعقد المواثيق والعهود محللة،
فيكثر فيما وليه غوائل الخسران، وتنمو به جوائح البهتان، حتى تصير أفراد
المحكومين أخلاطًا رعاعًا، لا فرق بين كبيرهم وحقيرهم إلا بوفرة الشهوات،
والتمكن من وسائل اللذات مع توافق في الفطرة، وتشابه في الغريزة، ولا يطول
عليهم ذلك العهد حتى يصبح الحاكم محاطًا بجم غفير من الغرماء يتجاذبونه بأيدٍ
طالما نقدته من خزائنها ما ظنه نزرًا يسيرًا في جانب إسرافه وتبذيره، وهو على
كاهل الأهالي حمل ثقيل العبء، لا تقدر أن تقله وتمسي عمارية البلاد تنعي محاسن
صبحتها أربابها طوامس المعالم مظلمة الأطراف، وليس فيها سوى نعاب اليوم،
وهمس الهوام، وحينئذ لا تسل عن العاقبة، فإنها أسر ونهب وبئس المآل.
ذلك ما يولده الغرور بالقوة والإعجاب بالسطوة، وترك القانون الذي عليه
سعادة العباد وخصب البلاد، فإذا أرادت تلك الأمة التي تصرف فيها ذوو البغي
والغرور على خلاف القانون أن تعيد لها مجدها الأثيل وعزها الأول، فلا بد لها من
إعادة شأن القانون، فتشيد منه ما هدمته يد الغرور، وبددته سطوة الفجور، وتأخذ
الوسائل النافعة لاستمالة قومها إلى التمسك بعراه، ومتابعة رشده وهداه، ولا تبارح
الحيل والتدابير لهذا الغرض، وما كان أغناها عن الإصلاح بعد الإفساد، والتعمير
بعد التخريب، ولكنها باعت القانون بثمن بخس، فكان جزاؤها أن تشتريه بنفوسها
العزيزة ودمائها الشريفة، حيث عرفت ما هي القوة، وما هو القانون، ولنا في هذا
الموضوع كلام يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
(المنار)
إن مباحث هذه المقالة من (علم الاجتماع) الذي يستمد من علم
التاريخ، وقد جرى فيها مولانا الأستاذ على نهج السداد بجعل الكلام فيها عام في
القوانين، سواء كانت وضعية أم سماوية؛ لأن خلط الفنون الفلسفية وغيرها بالدين
الذي جرى عليه المسلمون أولاً أضر بهذه الفنون كما أضر بالدين، كما يعلم ذلك من
النظر الدقيق في التاريخ، ولا شك أن النسبة بين سلطة القوة وسلطة القانون وإن
كان وضعيًّا هو عين ما ذكره الأستاذ، وأما كون الحكم بالقانون الوضعي غير
مرض لله تعالى ولا مؤدٍّ لسعادة الآخرة، فهو ليس من مباحث هذا الفن، واعتقاد
المسلمين فيه معلوم، وقد ألمع إليه الأستاذ وأشار إلى تعظيم شأن الشريعة السماوية.
__________
(*) افتتح بها العدد 48 المؤرخ في 51 شوال سنة 1316 الموافق 25 فبراير سنة 1899.(1/917)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجة ناهضة وشبهة داحضة
من عَذِيرِيّ من قومٍ لا يكادون يفقهون حديثًا، يرون القبيح حسنًا ويحسبون
الطيب خبيثاً، يهيجون على من قال الحق، ويحتمون على من نطق بالصدق، وأما
الأعمال فقيمتها عندهم بحسب تسميتها لا بحسب حقيقتها، فإذا سموا الرذيلة
فضيلة والمنكر معروفاً والفجور برًا والفسق طاعة والكفر إيمانًا، فتعظيم هذه
الأشياء واعتبارها يكونان عندهم بمقدار ما تستحق مفهومات هذه الأسماء في
الأصل، كما أن الجاهل منهم يفرح ويسر إذا سمي عالمًا أو أطلق عليه لفظ الأستاذ
ونحوه، والغر الأهبل يتبجح بلقب بك أو باشا، والدَّعِي يفتخر بكلمة السيد
الشريف، وهكذا قد جارت علينا مملكة الألفاظ، حتى جعلت بيننا وبين الحقائق سدًّا
منيعًا، لا ندري متى يدك أو يخرق.
انحرف المنتسبون لطريق التصوف عن هدي سلفهم الصالح، حتى صاروا
معهم على طرفي نقيض، ومع ذلك ترى العامة تخضع لهم؛ لأن العلماء يقرونهم
على ما هم فيه ويحترمونهم على مقدار مظاهرهم الدنيوية، وقد كان العلماء من قبل
واقفين بالمرصاد لأهل التصوف الصادقين، حتى إذا آنسوا منهم انحرافًا بقول أو
عمل أقاموا عليهما النكير وسلطوا عليهم الحكام، يجلدون ويسجنون، بل يصلبون
ويسلخون، فأين صوفيتنا من أولئك الصوفية، وعلماؤنا من أولئك العلماء؟ الحمد
لله قد بقي عندنا من الحق التسليم بأن سلف الفريقين خير من هذا الخلف المخالف له
في عمله والمتخلف عنه في علمه.
إن سكوت العلماء، بل سكونهم إلى هؤلاء المنكوسين المركوسين الذين اتخذوا
دينهم هزؤًا ولعبًا وحرفة وكسبًا، أثبت في اعتقاد العامة أنهم على شيء، ولذلك
عذلنا في الكلام على منكرات الموالد ونحوها منهم العاذلون، وأنكر علينا معروفنا
من سفائهم المنكرون، أما العلماء فقد قالوا: إن ما كتبته كلام شرعي صحيح، ويا
ليته يُقبل ويُنتفع به!
ولقد قرأت في مجلس إدارة الأزهر الشريف مقالة (المرشدون والمربون أو
المتصوفة والصوفيون) وهي إحدى المقالات التي كتبتها تحت عنوان {رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: 67) فأعجب بها شيخ
الإسلام، وأثنى عليها هو ومن حضر مجلسه ذاك من العلماء الأكارم، والعجيب في
هذا المقام أن بعض مَن يعتقدون أن جميع ما أنكرناه منكر لا ريب في قبحه وبعده
عن هدي الدين، اعترضوا علينا بنشره في الجريدة محتجين بأن في ذلك نشرًا لمعايب
قومنا، وإطلاعًا لأعدائنا الأجانب عليه، وفاتهم أن الجريدة لا يكاد يقرأها أحد من
الأجانب، وإن من الجهل وسفه الرأي أن يكتم المريض داءه وهو ظاهر حذرًا من
شماتة عدوه به، وإن الأجانب أعلم منهم بهذه القبائح، بل الفضائح، وإنهم يعيبون
بها المسلمين بل الدين الإسلامي نفسه، وإن المجامع الهذيانية الجنونية التي تسمى
(حضرات) و (أذكارًا) مصورة في كتبهم وجرائدهم، وإنهم استأجروا نفرًا من
هؤلاء الأشرار وأخذوهم لمعرض شيكاغو لعرض عبادات المسلمين وأسرارهم
المضحكة على أنظار العموم. وقد حدث في هذه الأيام ما فيه عبرة لمن يعتبر
وعظة لمن يتدبر ويزدجر، وهو حجة لنا يذعن لها المنتقدون من أهل الإنصاف،
وتنقطع بها ألسنة اللاغطين من ذوي الاعتساف، وهاك الخبر نقلاً عن المؤيد الأغر،
وهو ما جاء في عدد يوم الثلاثاء الماضي بنصه قال:
وأين باب مشيخة الطرق لنقرعه؟
كانت ليلة الأمس من أبهج الليالي وأبهاها في منزل جناب البارون أوبنهايم
الموظف في الوكالة الألمانية، حيث كان جنابه قد وزع رقاع الدعوة على الكثيرين
من السياح لحضور (حفلة ذكر) فلم تأت الساعة الرابعة مساء حتى ازدحم شارع
الكُبرِي الكائن فيه منزل جنابه بالعربات على اتساعه ازدحامًا يفوق ازدحام شارع
السيوفية أيام الجمع في الشتاء بعربات المتفرجين من السياح على تكية المولوية،
وأخذ المدعوون يدخلون فرادى وجماعات من سائحين وسائحات، ليشنفوا الأسماع
برخيم الغناء ويمتعوا الأنظار بجميل الرقص المعبر عنه بالذكر.
وبعد أن أخذ الجميع مجالسهم وتناولوا ما طاب من مأكل وشراب، وكان
مجلس الذكر قد استعد للرقص هب المتفرجون من مجالسهم وانتشروا حول حلقة
الذاكرين يلعبون ويمرحون، ويهزءون ويضحكون من قوم ترى عمائمهم على شكل
دائرة تمثل قوس قزح أو ألوان الطيف، من بيضاء ناصعة، وصفراء فاقعة،
وحمراء قانية، وخضراء صافية، وسوداء حالكة، وهم بين شاب في مقتبل العمر
غض الشباب، وشيخ هرم تهوي السنون برجله إلى القبر، قد أخلقت لباس جدته
الأيام، فلم تكسُه غير شيب وعيب، حيث جعل دينه هزؤًا وسخرية أمام قوم
يظنون ذلك من الدين، وهو بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولم يفعلوا
ذلك إلا طمعًا في بعض دريهمات لا تكفي لشراء غداء، فبئس هذا الحال، ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
فهلا يوجد في مصر من علماء الإسلام وأهل الطرق من يمنع هؤلاء من تحقير
ديننا في أعين الأجانب، حتى صيروه لعبة وهزؤًا، وصرنا نحن أمامهم كالأنعام
وساء ما يفهمون اهـ.
وفي عدد اليوم التالي (الأربعاء) ما ملخصه:
أين باب مشيخة الطرق لنقرعه؟
تحققنا اليوم أن (الليلة الراقصة) التي جاد بها جناب البارون أوبنهايم على
ضيوفه من السياح بواسطة (قرود الذاكرين) كانت تحت إدارة حضرة الروحاني
الكبير الذي يسمي نفسه: (الشيخ عليش) وقد كان جالسًا على تخته أثناء انعقاد
مجلس الرقص وشيبته تتصبب أسرارًا روحانية يوجهها إلى دراويشه الذين كانوا
ببركته يأكلون النار ويزدردون الزجاج، ويبرزون من الكرامات (الباهرات) ما
يعجز عنه مهرة المشعوذين، بل كبار السحرة المتفننين اهـ.
(المنار)
أما جوابنا عن سؤال المؤيد (وأين باب مشيخة الطرق لنقرعه) فهو
إذا كان رب البيت بالطبل ضاربًا ... فلا تلم الصبيان فيه على الرقص
وما منعنا أن نوجه الملام فيما كتبناه عن منكرات أهل الطرق من قبل إلا أن
شيخهم ورئيسهم الأكبر سماحتلو الشيخ محمد توفيق البكري كان يعدنا ويمنينا
بالإصلاح، وقد عيل الصبر ولم نر للوفاء بالوعود وتحقيق الأماني أثراً. فعسى أن
تزعجه وخزات هذه الحوادث المؤلمة إلى العمل والتجافي عن مضجع الكسل،
فيبطل الغرور ويستنير الديجور، ويستبدل المدح والثناء باللوم والإزراء.
حضرات أهل الطريق
كنا كتبنا من بضع سنين نبذة في حال المنتسبين للطريق في الديار السورية،
أودعناها فاتحة المقصد السادس من كتابنا (الحكمة الشرعية) أحببنا أن نوردها
هنا بمناسبة الحادثة التي كشفت القناع للمغرورين بهؤلاء القوم من كون فعلهم إهانة
للإسلام، تجعله سخرية عند جميع الأنام، قلنا هناك بعد كلام في حقيقة التصوف
وأهله ما نصه:
قد علمت مما شرحناه أصل طريقة القوم وما كانوا عليه علمًا وعملاً، وكيف
صرح أئمتهم من بضعة قرون بأنهم قد انحرفوا عن الصراط السوي، ولم يبق
عندهم إلا الرسوم، وأما الآن فقد محيت تلك العلوم، واندرست هياتيك الرسوم،
وطاحت تلك الإشارات، وذهبت تلك العبارات، واعتكر الإظلام، واشتبهت
الأعلام، وتمسكوا بحبال الأوهام والإيهام، فاتخذوا الطريق أحبولة للجاه، وحيلة
للمفاخرة والمباراة، فبعد أن كان عملاً وحالاً صار صناعة وعلمًا، ثم انتكس حال
المتظاهرين بذلك فأخذوا أولاً بالتقليد والتشبه بالقوم تيمناً وتبركًا على حد قول القائل:
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا ... إن التشبه بالكرام فلاح
وسارت أيام وسرت ليال على ذلك وهم، تعرفهم بسيماهم:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
ثم غلبت الأهواء، وعمت اللأواء، فلا خيام ولا نساء، إلا ما كان تحت
حجاب الخفاء، ولم يبق عند المتأخرين من علم القوم إلا شقشقة اللسان وزخرفة
الكلام بألفاظ لا يفكرون بمعناها، وكلمات لا يعقلون مرماها، كالسكر والوجد،
والإدلال والشطح، والفرق والجمع، والتلوين والتمكين، وما أشبه هاتا من الكلم
الذي تلقفوه من الكتب مع تحريفه عن مواضعه، وأما العمل فليس لهم منه الآن إلا
ضرب الدفوف ودق النقارات والصنوج، والنفخ بمزمار الشبابة، بل والضرب
بآلات الأوتار عند البعض، والتغني بالأشعار الغرامية المهيجة للنفوس المنغمسة في
الترف والنعيم، والباعثة لها على التوغل في الحظوظ النفسية، والاستهتار في
عشق الأحداث والنساء، بما فيها من التخيلات في أوصاف الحسان المهيجة للانفعال،
المحركة للوجدان، وشرح أحوال العشاق وأطوارهم كالهجر والوصال، والتيه
والدلال، كأشعار سيدي عمر بن الفارض وغيره، ويسمون كل ذلك عبادة؛ حيث
يأتونه في حالة الذكر الذي جعلوه كيفية من الرقص يتعلمها حسان الأحداث وغيرهم،
ويتمزجون أثناء الذكر بالرجال، ويتواجدون ويصيحون، وإذا أنكر عليهم منكر
وعذلهم في صنعهم هذا عاذل فالعذر لهم أن بعض الشيوخ الصادقين والأولياء
السالفين، قد اتفق لهم شيء من مثل ذلك، وهذا لا تقوم به حجة؛ لأن من ينقل
عنه لم يقل أحد: إنه كان متعمداً له ومتخذه صناعة، وإنما قيل: إنه كان لغلبة الحال
عليه، وذلك مما صرحوا بأنه لا يقتدى بصاحبه فيه، وهذا فيما لا يقطع بتحريمه
في نظر الفقه، وأما ما صرح الفقهاء بتحريمه فلا يلتفت لفاعله، سواء كان متعمدًا
أم مغلوبًا على أمره.
ينطبق على هذا الخلف الصالح لذلك السلف الصالح أتم الانطباق ما نقله
الحفني في حواشيه على الجامع الصغير عن المناوي عند الكلام على الخبر الذي
أخرجه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف، وهو: (إن الأرض لتعجّ إلى الله
تعالى من الذين يلبَسون الصوف رياءً) قال: أي إيهامًا للناس أنهم من الصوفية
الصلحاء الزهاد، ليعتقدوا ويعطوا وما هم منهم، قال المعري:
أرى حبل التصوف شر حبل ... فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وقال آخر:
قد لَبِسُوا الصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر بشرب العصير
بالرقص والشاهد من شأنهم ... شر طويل تحت ذيل قصير
انتهى ما نقله الحفني رحمه الله تعالى.
أقول:
وقد أكثر العلماء والأولياء من الكلام في السماع، فقال به أقوام ومنعه
آخرون، وللمحققين فيه تفصيل معروف، ومنه أنه محظور في حق مَن يحركهم
على فعل محرم، أو يحملون ما يسمعون من الغزل والنسيب على أمرد أو أجنبية،
وما أكثر هذا في أبناء هاته الأيام وما قبلها بسنين وأعوام، وقد شاهدت بعيني
غير مرة بعض من عرف واشتهر بحب الأحداث، وقد حضر مجلس ذكر وفيه
قوال حسن الصوت، خبير بصناعة الإنشاد والتغني، فكان الشاب العاشق يبكي
كلما غرد المنشد حتى ينقطع عن الذكر لغلبة البكاء والنشيج، ومعظم الحاضرين
على علم بأن سبب بكائه استيلاء عشق الحدث عليه، وقهره إياه تحت سطوة
سلطانه. ولعمر الإنصاف إنه لا يعذل على بكائه، وإنما العذل والملام على من عقد
له ولأمثاله مجلس سماع يتوخى حضوره وينتحيه حيث كان، لعجزه عن إنشاء مثله،
ومعلوم أن الإنسان لا يخلو في وقت من الأوقات من حال حاكمة عليه، وناهيك
بحال العشق الذي:
كم ملك الأحرار للعباد ... وأوجد الرقة في الجماد
وحكم الظبا على الآساد ... وصوب الخطأ على السداد
وألبس الغي بعين الرشد
وهو من أشد أمراض النفوس، قاهرًا ومذللاً لها، حتى إنه يهبط بطباع أعاظم
الأشراف من أوج عزها إلى الاستكانة والخضوع لأحقر فتيان السوقة أو فتيات
الأعراب من ذوي النذالة والمهانة، وإن السماع من أمسّ الدواعي لتحريك سواكنه،
وإنشاب براثنه، وأَنَّى لذلك الشاب المسكين ولأمثاله بأَلْهِيَةٍ يشغل بها نفسه عن
التفكير بمحاسن محبوبه وإدلاله عليه إذا سمع المنشد يلحن هذه الأبيات:
تِهْ دلالاً فأنت أهل لذاكا ... وتحكَّمْ فالحسن قد أعطاكا
لك الأمر فاقضِ ما أنت قاضٍ ... فعليَّ الجمال قد ولاكا
وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختياري ما كان فيه رضاكا
وأمثال ذلك مما يعتاد إنشاده في مجلس الذكر، وليت شعري ماذا يسبق إلى
فهم الجاهل منهم أو العالم وهو مكبل في أسر النفس الحيوانية وغريق في بحار
رعوناتها إذا سمع القوال ينشد:
تمسك بأذيال الهوى واخلع الحيا ... وخل سبيل الناسكين وإن جلوا
وقلت لزهدي والتنسك والتقى ... تخلوا وما بيني وبين الهوى خلوا
ولقد حدثنا بأغرب من نبأ الشاب الذي مرّ وأدهى وأمرّ.
ثم توسعنا بالقول في السماع بما لا محل له هنا.
ولما جئنا هذه الديار ورأينا المجامع التي تسمى الأذكار، تجلى لنا أن سيئات
السوريين عندها حسنات، فهنالك يذكر الله تعالى كل مَن حضر ولا ينشدون من
الشعر إلا ما كان منسوبًا للصوفية من الإلهيات والنبويات، والخمريات والغراميات،
وهنا يوجد نفر قليل بين المئات والألوف يرقصون بتكسر وتثنٍّ، ولا يكاد يسمع
منهم قول: الله، أو لا إله إلا الله، وباقي القوم يستمعون المنشد الذي يغنيهم بأحدث
الأغاني الغرامية التي تُغَنَّى في مجالس اللهو والشرب على العود والقانون، وهم
يصرخون ويتأوَّهون إلى آخر ما هو مشاهَد، ولا حاجة بنا إلى شرحه، وإنما
الحاجة إلى منعه، وجعل الذكر ذكراً، لا لهوًا ولغوًا وهزؤًا ولعبًا، أما آن لنا أن
نعتبر وندَّكر؟ حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________(1/923)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ملوك المسلمين والتاريخ
كان الملوك ولا يزالون في الشرق فتنة للأمم وبلاء على التاريخ، إذ هم
الذين يحملون الكاتب على ستر الحقائق، والتمويه على الناس بجعل الباطل حقًّا،
وإلباس القبيح ثوب الحسن، وكلما ترقت الأمم والدول الغربية وعلت تتدلى الشعوب
والحكومات الشرقية وتسفل، فلقد كان مؤرخو الشرق الغابرين - لا سيما المحدثين
منهم - أكثر حرية من مؤرخيه الحاضرين، لذلك كانوا ينتقدون أعمال الخلفاء
والملوك الذين كانوا أحسن حالاً من خلفهم، ويشرحون سيئاتهم من غير مبالاة،
ومؤرخو عصرنا هذا عامة وأصحاب الجرائد منهم خاصة يقدسون الملوك الأمراء
وينزهونهم، خداعًا لعامة الناس، وتغريرًا بهم، ولولا أنهم صبغوا ذلك بصبغة
دينية لما كنا نحفل بالبحث فيه، ونعنى بكشف الحجاب عنه، فإننا وقفنا جريدتنا على
خدمة الملة والأمة، لا على القدح والهجاء، أو المدح والإطراء، وسنبين الحق في
جميع ما يتعلق بشؤون الملوك والأمراء الدينية، حفظاً للدين وأحكامه أن تكون سياجًا
للظلم وآلة للغش، ونكتفي الآن بذكر مسألة نعرضها على أرباب الجرائد المتملقة
من المؤرخين الكاذبين، ونرغب إليهم بيان ما عندهم من الأعذار المنتحلة وهي:
الحج ركن من أركان الدين الإسلامي، وقد ورد في الأحاديث الشريفة ما معناه:
أن مَن مات ولم يحج وهو مستطيع فلا عليه أن يموت غير مسلم وقال الخليفة
الأعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عليه الرضوان: (لقد هممت أن أبعث
رجالاً إلى الأمصار، فينظروا كل من له جِدة ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية، فما
هم بمسلمين) .
قال العلامة ابن حجر: ومثل ذلك الحديث لا يقال من قِبل الرأي، فيكون في
حكم المرفوع، ومن ثم أفتيت بأنه حديث صحيح، ثم إن اجتماع الحج هو أعظم
اجتماع في العالم؛ لأنه مع كونه دينيًّا فيه من الفوائد المدنية والسياسية ما لا يخفى،
ولإمام المسلمين في الموقف الأكبر فيه وظيفة الخطابة التي تجمع القلوب وتوحد
وجهتها بوحدة التعليم والإرشاد، إذا جاءت على وجهها الصحيح.
وقد كان الخلفاء والملوك يؤدون فريضة الحج مع بُعد عواصمهم، وتنائي
ممالكهم، وعدم إمكان الوقوف على ما يجري فيها مدة سفرهم، فلماذا أهمل ملوك
المسلمين في هذه الأزمنة أمر هذه الفريضة ولم يبالوا بهذا الركن العظيم الذي هو
دعامة بقاء سلطتهم، لو اهتدوا إلى إقامته وحافظوا عليه، كما يجب مع أنه يتسنى
لأكثرهم الوقوف على أحوال مملكته تفصيلاً في كل زمان وفي كل مكان.
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إن ملوك أوروبا وقياصرتهم وعواهلهم
(إمبراطوريهم) لو وجدوا سبيلاً إلى شهود هذا الجمع الأكبر (الحج) لأقبلوا عليه،
فما بال أهله - وقد فُرض عليهم - لا يسعون إليه؟ ! نرجو الجواب (من الجرائد)
عن هذا السؤال، ولنا على كل جواب مقال.
__________(1/929)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ولي العهد للخديوية المصرية
ألا يا بشير السعد كرر لنا البشرى ... ويا أيها الأقوام حسبكم بشرا
فقد أنجز (الإقبال) ربي وعده ... وجاد على مصر بما أثلج الصدرا
هلال تيقنا بحسن نموه ... بأن سنراه في سما قطرها بدرا
أحب بنوها أن يدوم أميرهم ... بأبنائه طول المدى لهم ذخرا
مرام توقعناه قبل وقوعه ... فكان وحققنا العيافة والزجرا
فقم أيها العباس لله شاكرًا ... وإن كنت لا تحصي على فضله الشكرا
وقل للذي أنجبت قم وارق للعلى ... معي فهو واعٍ يعقل النهي والأمرا
وعش يا ولي العهد بالله واثقًا ... بمنّة تاريخ نغيث بها مصرا
سنة ... ... 1316 ... ... ... ... ... ... 1899
طالما ترقبت الآمال بزوغ بدر الكمال من فلك الإقبال، وتشوفت نفوس الناس
لتحقق الأماني بولي عهد العباس، إذ قد سبق لسموه ثلاث ودائع، كانت شموسًا
طوالع، شموس خدور مقصورات في الخيام، لا شموس سياسة وأحكام، ثم نادى
بشير السعد يقول: قد أنجز الزمان الوعد بولادة ولي العهد (في الساعة الثامنة العربية
والثانية الأفقية من ليلة الإثنين 9 شوال سنة 1316 هـ و 20 فبراير سنة
1899 م) . وبلغت نظارة الداخلية الخبر رسميًّا، فطيرته مع البرق إلى جميع أنحاء
القطر، وأطلق من كل موقع عسكري مائة مدفع ومدفع، احتفالاً بالمولود الميمون،
وبلغ الجناب العالي ذلك لمولاه الأعظم سيدنا أمير المؤمنين في دار السعادة العلية.
أما ما كان من ابتهاج المصريين واحتفالاتهم من جميع أنحاء القطر بهذا المولود
الميمون فحدث عنه ولا حرج، فلقد كان لهم في شهر شوال عيدان: عيد الفطر
الأصغر، وعيد ولي العهد الأكبر، الذي سيبقى مستمرًّا إلى ما شاء الله تعالى. ولو
أردنا أن نصف الزينة التي تقيمها دولة والدة الجناب العالي في قصر عابدين وميدانه
أو الزينات التي تقوم بها اللجان المؤلفة من كبراء المصريين أو أفرادهم - لضاقت
ببعضها صحائف الجريدة، وقد عجز مكتب (عموم التلغرافات) في القاهرة كما
عجزت جميع المكاتب في أنحاء القطر عن أداء رسائل التهاني إلى قصر المنتزه من
جماهير المهنئين، وما قولك برسائل عجز البرق في سرعته عن أدائها وإيصالها؟
ما هو السبب في كل هذه البهجة والحبور، والحفاوة والاحتفال بصورة لم يعهد
لها نظير؟
السبب في ذلك هو الحب الصادق لشخص سمو العزيز عباس حلمي باشا،
فلقد صدقنا فيما كتبناه في عدد سابق من أن قلوب المصريين لم تجمع على حب
عزيز بعد يوسف الصديق، كإجماعها على حب العباس بن توفيق، ومن صدق في
حب شيء أحب بقاءه، وبقاء الإنسان لا يكون إلا بأبنائه الذين يعد وجودهم نسخة
من وجوده، ويحفظ بهم اسمه ونسبه، فنسأل الكريم المنان الذي أفاض هذا الإنعام
والإحسان، أن يحفظه بعين عنايته، ويحرسه في ظل سمو والده ورعايته، وأن
يبلغ هذا القطر في أيامهما مراده، ويسبغ عليه حلل السعادة، وأن يجعل هذه
السلسلة بهما متصلة الحلاق إلى آخر الزمان ونهاية الدوران، إن ربي سميع الدعاء.
***
جاء في مصباح الشرق المنير: أن مرتب ولي العهد في الشهر ثلاثة عشر ألفًا
وثلاثمائة جنيه، وكانت تستولي عليه دولة والدته المعظمة قبل ولادته.
__________(1/931)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ليلة الجمعية الخيرية الإسلامية
ما رأى الراءون منظرًا أبدع، ولا محضراً أروع (المحضر: القوم
النازلون على المياه) مما كان في ليلة السبت الماضية من الزينة التي أنشأتها
الجمعية الخيرية الإسلامية في حديقة الأزبكية والجمع لها، وحبذا الاجتماع على
الصفاء والوداد، المنبعث من حب سعادة البلاد، كنا نقابل من الحديقة فتاة من
أحسن الجواري، متمنطقة من المصابيح بالدرر بل الدراري، ولها من كل باب
وجه يتلقى وجوه الناس بغاية البشر والإيناس، فإذا ما دخلتها تجدك من ليلك في
نهار، في جنة تجري من تحتها الأنهار، لا تسمع فيها إلا قيلاً سلامًا سلامًا،
وألحانًا مشجية وأنغامًا، ولا تبصر إلا مواكب تواكب (تساير) مواكب، وأشجارًا
مثمرة بالكواكب، ومادة تطير في الجواء، وتتحد بإكسير الهواء، فتعود إلى الأرض
بهيئة قلائد من العقيان، أو عقود من الياقوت والزمرد واللؤلؤ والمرجان، وبحيرة
قد أحاطت بها أشكال من الأضواء، وانطبعت فيها نجوم المصابيح، فخايلت بذلك
السماء، بل حاكت شمس النهار، بما انعكس من سطحها من الأنوار، قد أقيمت
على جوانبها هياكل ونصب نورانية، ذات أشكال هندسية، وألوان طيفية، ما أحاط
بها الطرف، فيحيط بها الوصف، وبالجملة: قد كانت ليلتنا تلك جدًّا في صورة
هزل، وبرًّا وإحسانًا في قالب لهو ولعب، وخبر اجتماع عام على مصلحة الإسلام،
عليها مدار تربية المئات والألوف من أبناء الفقراء والمساكين، وكل فرد من أفراد
الحاضرين قد سر بأنه ركن من أركان هذا الخير العظيم، إذ مجموع الأمداد من هذه
الأفراد.
__________(1/932)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار وآراء
(مراكش)
كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلقًا من أبي سعيد عجيبا
ما كفى بلاد مراكش فتنها الداخلية حتى تشن عليها دول أوروبا كل يوم غارة
جديدة ينتحلون لها سبباً، فلا يزالون يمتصون دماءها باسم التعويض عن إهانة أو
خسارة لمن يلم بأطرافها من رعاياهم، حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين.
كانوا يطلبون منها المغارم فرادى، فصرن يطلبنها مجتمعات، فقد جاء في
الأهرام أن وكلاء الدول في طنجة اجتمعوا في دار السفارة الإنكليزية في 14 الجاري
ليقرروا طلب تعويض عام من سلطان مراكش عن القلاقل التي وقعت في سنة
1896 في ناحية ميزاب؛ لأن جواب حاكم كازابلانكة على مطالب التجار الإنكليز
وغيرهم لم يكن مرضيًا لهم.
***
(التعايشي وفارة السودان)
انضم إلى التعايشي ومن انهزم معه بضعة أوزاع من الفارِّين بعد هزيمته،
فألف منهم جيشًا عظيمًا، وكان نازلاً على بحيرة شركلة على مسافة 112 ميلاً من
النيل، فغادرها وتوجه شمالاً وقاتل بعض الأعراب، فهزمهم ونكل بهم، بهذا
جاءت رواد الأخبار من كردفان إلى أم درمان، وطير الخبر مع البرق إلى العاصمة،
وفيه أن التعايشي قطع بجيشه ثلثي المسافة بين بحيرة شركلة والنيل.
وقد صدر أمر السردار حاكم السودان إلى ضباط الجيش المصري الذين هنا
من الإنكليز والسودانيين أن يعودوا إلى أم درمان ليكون دائمًا على أهبة واستعداد
للقائه وهم يسافرون تباعًا.
__________(1/933)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حرية الجرائد في السودان
نشرت جريدة السلام الغراء مقالة بينت فيها أن نسخها ونسخ جريدتي المؤيد
والأهرام تحرق في عمل (مديرية أو قومندانية) أسوان، بأمر اللورد كتشنر باشا
حاكم السودان العام، منعًا لهما من دخول البلاد السودانية، ويؤذن لجرائد الاحتلال
التي تسبح بحمد الإنكليز وتقدسهم في كل أصيل، وقابلت الجريدة بين هذا الفعل
المنكر من حماة الفوضويين وأنصار الحرية، وبين مراقبة الجرائد في بلاد الدولة
العلية التي قصاراها قص بعض أوراقها أو ترميج بعض سطورها (إفسادها بعد
كتابتها) وعبارة السلام (أو الضرب بالقلم الأحمر على بعض سطورها) .
***
عالم الأرواح
لقد انتشر الاعتقاد بعالم الأرواح وتعاليمه، ومحادثة الذين ماتوا بواسطة وسيط
أو وسيطة، وكثر في إنكلترا إلى حد يفوق الوصف، وحمل البرق عن لندن في
29 الجاري (يناير) أن إحدى السيدات الباذلة كل ما في وسعها لنشر هذا المعتقد قد
ارتأت مؤخرًا تعليم هذا المذهب في المدارس العالية، كما يعلم فن الطب وارتأت
بناء كليات كبرى لتدريس الوسطاء والوسيطات فيها، أما السيدة التي اهتمت بهذا
المشروع فهي (لادى ستاثرد) من البارعات المتقدمات في هذا المذهب الجديد الذي
يُحدِّث عنه الناس غرائب عجائب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (كوكب أمريكا)
(المنار)
لم تزل الأبحاث في هذا الموضوع غامضة، وأكثر العلماء في أوروبا على أن
ما يزعمون مشاهدته من الأرواح لا حقيقة له إن هو إلا تخيلات وأوهام وستُظهر
مواصلةُ البحث حقيقة الأمر ولو بعد حين.
__________(1/934)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(مجموعة سعادة الدارين)
أهدانا نسخة منها جامعها المعن المفن، الضارب بسهمه في كل فن، الملا
عثمان الموصلي الغني بشهرته عن التعريف، مشطر اللامية والباقيات الصالحات،
والمجموعة تحتوي على (المنظومة الموصلية العثمانية في أسماء السور القرآنية)
وهي من نظمه، ومتن الحِكم للعارف ابن عطاء الله السكندري، ومنظومة (أسماء
الله الحسنى) المنسوبة للإمام العارف بالله تعالى سيدي عبد القادر الجيلي مخمسة
بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم من نظمه (أي الملا عثمان) وقد أذن لمن شاء
بطبعها ليعم في الناس نفعها فجزاه الله تعالى خير.
***
(حافظة الآداب وموقظة الألباب)
كتاب صغير منشور لمؤلفه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الجنبيهي حملته على
تأليفه وطبعه الغيرة الدينية على حرمة الأدب من هؤلاء الشبان الفاسدي التربية،
المنغمسين في المنكرات والفواحش، فنحث محبي الفضيلة الذين لم تطمس من
قلوبهم أعلام الهداية، ولم تدرس من نفوسهم رسوم الخير من هؤلاء الشبان على
مطالعة الكتاب، وهو يباع عند السيد عبد الواحد بك الطوبي والسيد محمد صالح في
السكة الجديدة، والشيخ حسنين محمد في درب الجماميز وعلي أفندي أبي زيد في
الحلوجي ومحمد أفندي حبيب في باب الخلق.
***
(آداب الفتاة)
كتيب لطيف ألفه الفاضل علي أفندي فكري من الموظفين في نظارة المعارف
المصرية، جمع فيه كثيرًا من الحكم والوصايا الدينية والأدبية والصحية، التي لا
تستغني عنها الفتيات، وعبارته في السهولة بحيث لا يتوقفن في فهمه مهما كن
جاهلات، بل فيه كثير من المفردات والأساليب المولدة والعصرية، وأقل ما فيه
الوصايا الدينية، فلو استبدل بغسل الوجه والفم والوجه كل صباح وتنظيف الأسنان
(بواسطة الخلة أو من منظف الأسنان) الوصية بالوضوء والسواك لكان أولى وعسى
أن ينتبه الشبان إلى أنه لا يمكن صيانة النساء وتهذيبهن إلا بالدين (فعليك بذات الدين
تربت يداك) .
***
(الجامعة العثمانية)
مجلة سياسية أدبية علمية ذات عشرين صفحة، تصدر ثلاث مرات في الشهر، وستكون شهر مارث المقبل مبدأ ظهورها، وهي لمديرها الوجيه ميخائيل أفندي
كرم، ومنشئها الكاتب الفاضل فرح أفندي أنطون، وأحسن ما يكتب الآن عنها
إعلام قراء الجرائد بأن صاحبيها كفؤان لإدامة إصدارها على الوجه الذي سيرونه
من نموذجها لما عندهما من المادة الوافرة: مالية وقلمية، فنحث عليها سلفًا.
***
(البريد المصري)
يشتكي كثير من قراء المنار في مصر من عدم وصوله إليهم في أوقاته، ومن
احتجاب بعض أعداده عنهم، ولقد كنا من قبل ننيط الإهمال بمستخدمي إدارة
الجريدة الذين يتولون تغليفها وإرسالها إلى البريد، ثقة بأمانة إدارة البريد المصري
وانتظام أعمالها، ثم لما تكررت الشكوى بعد التنبيه على مستخدمي الجريدة ممن
ذكر، والاستيثاق منهم، علمنا أن التقصير من مُستخدمي البريد، ويشكو وكلاؤنا
في القطر التونسي منذ شهرين من تأخر وصول الجريدة إليهم عن مواعيدها الأولى،
فقد كانت تصل إلى تونس في نحو تسعة أيام، وهي لا تصل الآن إلا في سبعة
عشر يومًا، فنستلفت المكلفين بهذا الأمر أن يتداركوا الأمر ويكفونا مؤنة الشكوى.
__________(1/935)
22 شوال - 1316هـ
4 مارس - 1899م(1/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأُخوَّة والصداقة [*]
] إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [[**]
الصِّنْو أشبه بالصنو منه بالشجرة التي يخرجان من أصلها، أو الثمرة التي
تخرج منهما، والأخوان صِنْوَان متساويان في الأصل والمنشأ، وفي النبات والنمو،
ويتعاهدان بتربية واحدة في الغالب، فأجدر بالأخ أن يأنس بأخيه، ما لا يأنس بأمه
وأبيه وصاحبته وبنيه، لما ذكرنا من كمال المناسبة والمشاكلة التي هي علة الأنس
والحب، ولأن للوالدين من الرفعة وحقوق الاحترام والاحتشام ما يقف بالأنس بهما
دون كماله، كما أن القيام على البنين بالتأديب والسيطرة منافٍ للاسترسال في الأنس
بهم والانبساط إليهم في جميع الشؤون والأطوار، فكم من كلام وعمل مما يرتاح إليه
يعرض عنهما الإنسان إذا كان على مرأى ومسمع من أصوله وفروعه، ويقبل إليه مع
إخوانه وصنوانه، أما الصاحبة (الزوجة) فلا يظهر هذا الوجه بالإضافة إليها؛ لأن
الأنس بها لا يكاد يساويه أنس، ولكن الأخ يفوقها في مناسبة الاتفاق في المنبت
والتربية، فإن لاختلاف التربية أقوى تأثير في الألفة والمحبة والنفور والوحشة،
وهو العلة في التنازع بين الأزواج، واختلال نظام العائلات المؤدي إلى سقوط الأمة
في عواثير الشقاء ومهاوي الهلكات. ومزية أخرى يفضل بها الأخُ الزوجَ، وهي:
أن الاستعاضة عنه إذا فقد ليست مما يناله الكسب، ويتوصل إليه بسعي أخيه الذي
فقده.
يحكى أن امرأة كان لها ابن وأخ وزوج وقعوا في غضب الحجاج، فأراد
الإيقاع بهم، وعهد إلى المرأة أن تختار أحدهم كفيلاً لها ليقتل من عداه، فاختارت
الأخ قائلة: إن الابن والزوج يمكن الاعتياض عنهما، وأما الأخ فلا عوض عنه،
فأعجب الحجاج بقولها؛ لأنها غلَّبت العقل والحكمة على الحنان والشهوة، وعفا عن
الجميع وقال: لو اختارت غير الأخ لقتلت الكل ولم أدع لها أحداً.
وبالجملة إن لكل قريب ونسيب مكانة تفضله من وجه على الآخر، فللوالدين:
التعظيم والاحترام، وللولد: الرأفة والحنان وللأخ والزوج (يطلق على الذكر
والأنثى كما لا يخفى) ارتياح المساواة، وأنس الكفؤ والنديد، ولذلك يسمى الأخ
شقيقًا، كأن الأخوين شيء واحد شُق نصفين، ويسمى صنوًا، والصنوان هما
فسيلتا النخل تخرجان من أصل واحد، ويسمى كل من الرجل والمرأة المقترنين
زوجًا للآخر بملاحظة أنهما شيء واحد في المعنى، ظهر بصورتين ثَنَّت إحداهما
الأخرى، وقد علمت أن مكانة الأخ لا يحلها سواه، وأن الميل إليه ميل إلى كفيح
ونديد، ترى له عليك مثل ما لك عليه، بخلاف سائر الأقربين، ولهذا سمي
الصديق أخًا، وجاء القرآن يعلم الناس ويرشدهم لأن يكونوا كلهم أصدقاء وإخوة،
ويجعلوا أباهم في هذه الأخوة الإيمان بالله تعالى بما نزل من الحق فقال: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، ورتب على ذلك قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10) ، وفي الحصر بـ (إنما) والعطف بالفاء ووضع
الظاهر في (أخويكم) موضع الضمير - ما لا يخفى من تأكيد هذه الأخوة وتقريرها،
ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحجرات: 10) بأن تقوموا بحقوق هذه الأخوة، وما
ترتب عليها من الإصلاح بالمساواة إذ لا وجه لمحاباة أحد والكل إخوة: {لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10) في الدنيا والآخرة، وما أجدر من يقوم على هذا
الصراط السوي بأن يرحم.
يسمي الناس كل صاحب صديقًا وأخًا، وأين الصداقة والأخوة من كل تصحبه،
أذكر هنا ملخص رقيم كنت أرسلته في سنة 1304 لصاحب آخيته في بعض البلاد
السورية [***] وهو ما جاء بعد كلام:
إنني أحب أن أكتب إليك الآن كلمات تتعلق بهذا اللقب الشريف (الأخ
الصديق) الذي أطلقته عليك وهي:
قد اعتاد الناس إطلاق هذا اللقب الشريف على كل من ارتبطوا معه برابطة
من روابط الاجتماع، ولو كانت الرابطة منفصمة العرى مقطعة الأسباب، أو انتكث
فتلها بعد إبرام، وتداعت دعائمها بعد إحكام، فإذا كانت رابطة المصاحبة هي
الاجتماع على القيل والقال وإضاعة المال، بنحو أكل وشرب ولهو ولعب، فيجدر
بنا أن ندعو ذويها أصحاب الوجوه وهم كثيرون حيث تكثر البطالة وتقل دواعي
العمران، وإذا كانت الجامعة بينهم الاشتراك في المنافع المالية والعلائق الشخصية
العملية، فينبغي أن نسمي صحبتهم صحبة المصالح والحظوظ، وهؤلاء يكثرون
بكثرة الأعمال التجارية والصناعية في المدن النافقة الأسواق الكثيرة السكان الوافرة
العمران، وإذا كانت جامعتهم هي المشاكلة في الأخلاق والسجايا، فهؤلاء هم الذين
يصح إطلاق لقب الصاحب على آحادهم بغير قيد، وصحبتهم هي الصحبة الحقيقية،
وهم فرق كثيرة لاختلاف السجايا وتباين الأخلاق، وأكثر أفراد المتصاحبين من
الأنواع المتقدمة الذكر لا يعرفون معنى الصدقة، وإن أكثروا من الثرثرة بلفظها؛
لأن أساسها الذي يقوم عليه بناؤها هو الصدق في السر والعلن، والغيبية والشهود،
والقرب والبعد، وفي السراء والضراء، والزعزع والرخاء، وهو أعز من الكبريت
الأحمر، ولذلك أنكر الصديق الوفي المنكرون فقال أحدهم:
سمعنا بالصديق ولا نراه ... على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالاً أو مقولاً ... على وجه المجاز من الكلام
وقال آخر:
أيقنت أن المستحيل ثلاثة ... الغول والعنقاء والخل الوفي
لعمرك إن غير الصدوق معذور باعتقاد استحالة وجود الصديق، لما عنده من
الدليل الوجداني على ذلك، والصدوق يعذر أيضًا إذا ارتأى أنه انفرد بالصدق في
بعض الأحايين، لما يعانيه من الابتلاء بمراوغة المنافقين ومخادعة الكاذبين،
ونظير ذلك ما تُنوقل عن السلطان محمود أنه أقسم مرة أنه لا يوجد في إستانبول
مسلم غيره وغير فرسه وسيفه، يريد عليه الرحمة أنه لم يصدق معه غيرهما، وأنه
لا يثق إلا بهما، فإذا ظفر مثل هذا الصديق بآخر مثله ربما ادعى انحصار الصداقة
فيه وفي صديقه، وإنما يصح ذلك بالنسبة لاختباره في وطن إقامته.
ثم إن أقوى الصداقة أساسًا وأضوأها نبراسًا، وأمنعها من الانحلال وأبعدها
عن الاختلال، صداقة أرباب المبادئ الشريفة والمقاصد الجليلة، فمهما كان للصديقين
منزع واحد ومشرب واحد هو مقصدهما من حياتهما تعاهدا عليه وتآخيا من أجله،
فلا جرم أن أخوتهما تكون أقوى من الأخوة النَّسَبية، ورابطة صداقتهما أقوى من
سائر الروابط الاجتماعية.
نعم، إن الثبات على الصداقة - كغيرها - مشروط بحسن الخلق وتهذيب
النفس؛ لأن فاسد الأخلاق عرضه للتغير والانقلاب، تتلاعب به عواطف الأهواء
فتقلبه ذات اليمين وذات الشمال، فلا يستقر له شأن، ولا يثبت على حال، فكم تألفت
في أوطاننا شركات تجارية وصناعية، فبدد فساد أخلاق أفرادها شملها، ونثر
منظوم أهلها، وفرق اجتماعهم وجعلهم عبرة للمعتبرين، ربما كان التنازع على
شيء لا يبالي به عاقل ولا يلتفت إليه مهذب، سبباً للفشل ونفض اليدين من العمل،
بل في نقض أساس رفع بناؤه وحل عُرى أُحْكِم فتلها، وذلك كالتقدم في المجلس أو
في الختم على الأوراق أو التحلي بلفظ رئيس أو مدير ونحوهما من الألقاب، أو
مراعاة مصلحة شخصية (واخجلتاه) .
وهذا هو السبب الذي قضى على الأمم الشرقية أو الإسلامية في هذه الأزمنة
الأخيرة بالتقاطع والتنازع، حتى رزءوا بالضعف والهبوط، بل بالخسف والسقوط
وصارت حالهم - كما نرى - شر الأحوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قام فيهم مصلحون مجددون، نبهوا الأفكار الغافلة وحركوا سواكن الهمم،
فاستضاءت بنور الحقيقة بصائر، ونشطت للعمل أعضاء سلكت الجادة وأتت
البيوت من أبوابها، حتى كادت تبلغ الغاية، لكن عارضها في سيرها وحال دون
تمام العمل نفوذ العدو الغربي المتيقظ لما يعقب نهضة هذه الفئة المصلحة من إيقاف
مطامعه في الشرق عن الامتداد، بل من تحويل مده إلى جزر لا يفيض بعده ثائب،
وساعد العدوَّ الغربي على معاكسة (كذا) الإصلاح الأمير الشرقي الجاهل، فكان
عاملاً على ثل عرشه وانتزاع سلطانه، ولقي أولئك المصلحون من الألاقي
(الدواهي) ما لا محل لشرحه هنا، وهم لا يزالون على سعيهم، وتعاليمهم
الشريفة لها من ذوي النفوس الزكية والعقول الصافية، المحل الأول والمقام الأسنى،
وبانبعات أشعتها في أفكارهم، وإضاءتها أرجاء قلوبهم، تدب فيهم حرارة الغيرة على
الدين والوطن، وما بعد انفعال الغيرة إلا الأخذ بوسائل العمل ومقاصده، {وَاللَّهُ
يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النور: 46) .
إن لكل عاقل غرضًا صحيحاً من حياته، وغرض هذا العاجز إنما هو خدمة
أمته ووطنه من طريق علمي تهذيبي على ما يرشد إليه سير المصلحين، ولما كان
هذا أمرًا عامًّا كليًّا - وكل أمر كلي عام لا يفي به الواحد - احتجت لانتقاء الإخوان
المؤازرين المساعدين الذين يوثق بثباتهم لتهذبهم وحسن مقاصدهم ونياتهم، فلم
اصطف في طرابلس إلا واحدًا أو اثنين من صنفنا (أهل العلم) وقد اصطفيتك
أنت من أهل (....) [1] لما رأيته فيك من سمو الأفكار والنظر في حوادث الكون
بعين الاعتبار، مع التبصر والتدبر والتأسف والتحسر، بحيث لم يبق عندي ريب
في أنك على المشرب الذي نستقي منه، والمنحا الذي ننتحيه، ولم يبق من شروط
الأخوة الكبرى إلا الصدق والثبات الناتجين عن تهذيب الأخلاق (كذا في الأصل ولا
أرى أن قول الناس: نتج كذا عن كذا عربيًّا) وعندي أن اكتناه المرء واختباره التام
الذي تُعرف به أخلاقه وسجاياه لابد فيه من المعاشرة والمخالطة عدة سنين، لكن لما
كان مشربنا الذي أومأنا إليه محالفًا للتهذيب غالبًا لا يكاد يجنح إليه إلا محب للكمال، ولا يرسخ في نفس فاسدة الأخلاق والآداب، وكنتم مع قوة ميلكم إليه قد توفقتم
(الصواب: وُفِّقتم) للمطالعة في كتاب إحياء العلوم، الذي هو أحسن كتاب تهذيبي
إسلامي، وهو أستاذي الأول - فهذان الأمران أثبتا لي أملاً قويًّا وحسن ظن بصدقكم
وثباتكم فعاهدتكم على الولاء، وأطلقت عليكم لقب: (الأخ الصديق) وسيزيد الرجاء
قوة وتمكنًا بكرور الأيام، ويصير الظن عين اليقين [2] ، ونكون في جنة الأعمال
المفيدة إخوانًا على سرر متقابلين، يوم ينفع العالم منا بعلمه، والمتمول بماله، ونعم
أجر العاملين اهـ.
__________
(*) افتتح بها العدد 49 المؤرخ في 22 شوال سنة 1316 الموافق 4 مارس سنة 1899.
(**) (الحجرات: 10) .
(***) إن الصديق الذي كتبت إليه هذا لم يثبت على صداقته، بل حل عُقَدها بعد ظهور المنار وانتشاره لما حدث له من الميل إلى الخرافات.
(1) وضعنا في الأصل نقطًا مكان اسم البلد لئلا تطلع الحكومة على المقالة فتبحث عن الصديق فتُوقِع به، أما وقد أُعلن الدستور فنقول: إنها بيروت.
(2) تقدم في هامش سابق أن الزمان جعل هذا الظن كذبًا لا يقينًا.(1/937)
الكاتب: أبو حامد الغزالي
__________
حقوق الأخوة والصحبة
قال الإمام الغزالي: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين
الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقًا يجب الوفاء بها قيامًا بحق النكاح، فهكذا عقد
الأخوة؛ فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء
والإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف والتكليف، وذلك يجمعه ثمانية حقوق.
(الحق الأول) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الأخوين مثل
اليدين تغسل إحداهما الأخرى) وإنما شبههما باليدين لا باليد والرجل؛ لأنهما
يتعاونان على غرض واحد، فهكذا الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا توافقا في مقصد
واحد، فهما من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء،
والمشاركة في المال والحال وارتفاع الاختصاص والاستئثار.
والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب: (أدناها) أن تُنزله منزلة
عبدك أو خادمك، فتقوم بحاجته من فضل مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك
فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء، ولم تُحوِجه إلى السؤال، فهو غاية التقصير في
حق الأخوة.
(الثانية) : أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك، ونزوله
منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال، قال الحسن: (كان أحدهم يشق إزاره بينه
وبين أخيه) .
(الثالثة) وهي العليا: أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه
رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين. (أقول في هذا بحث أوردته في كتابي
(الحكمة الشرعية) وبينت فيه أن مرتبة الإيثار على النفس ليست عُليا المراتب،
وسأذكره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى) .
ومن تمام هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضًا، كما رُوي أنه سُعي بجماعة من
الصوفية إلى بعض الخلفاء، فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسين النوري. فبادر
إلى السياف ليكون هو أول مقتول، فقيل له في ذلك فقال: أحببت أن أوثر إخواني
بالحياة في هذه اللحظة، فكان ذلك سبب نجاة جميعهم - من حكاية طويلة - فإن لم
تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك، فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد في
الباطن، وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية، لا وقع لها في العقل والدين، فقد قال
ميمون بن مهران: (مَن رضي من الإخوان بترك الأفضال فليؤاخِ أهل القبور) .
وأما الدرجة الدنيا فليست مَرضية عند ذوي الدين؛ روي أن عتبة الغلام جاء
إلى منزل رجل كان قد آخاه، فقال: أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال: خذ
ألفين، فأعرض عنه، وقال: آثرتَ الدنيا على الله، أما استحيت أن تدَّعي الأخوة
في الله وتقول هذا.
ومَن كان في هذه الدرجة من الأخوة فينبغي أن لا تعامله في الدنيا، قال أبو
حازم: إذا كان لك أخ في الله فلا تعامله في أمور دنياك. وإنما أراد به من كان في
هذه الرتبة.
وأما الرتبة العليا: فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله {وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الشورى: 38) أي كانوا خلطاء في الأموال
لا يميز بعضهم رحله عن بعض، وكان منهم من لا يصحب من قال: مالي أو نعلي؛
لأنه أضافه إلى نفسه. وجاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له وكان غائبًا، فأمر
أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته، وأخبرت الجارية مولاها فقال: (إن
صدقتِ فأنت حرة لوجه الله) سرورًا بما فعل. وجاء رجل إلى أبي هريرة رضي
الله عنه وقال: إني أريد أن أواخيك في الله، فقال: أتدري ما حق الإخاء؟ قال:
عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني. قال: لم أبلغ هذه المنزلة
بعد، قال: فاذهب عني. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل: (هل
يُدخِل أحدكم يده في كُم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه؟ قال: لا، قال:
فلستم بإخوان) .
ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا: يا أبا سعيد، أصليت؟ قال:
نعم، قالوا: فإن أهل السوق لم يصلوا بعد، قال: ومن يأخذ دينه من أهل السوق،
بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم. قاله كالمتعجب منه، وجاء رجل إلى إبراهيم
ابن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس فقال: إني أريد أن أرافقك، فقال له
إبراهيم: على شرط أن كون أملك لشيئك منك، قال: لا، قال: أعجبني صدقك.
قال: فكان إبراهيم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه، وكان لا يصحب إلا من
يوافقه، وصحبه رجل شرَّاك (هو الذي يعمل الشُّرُك للنعال) فأهدى رجل إلى
إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شُرُك
وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشُّرُك؟
قال: ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان؟ قال: كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة، قال:
اسمح يُسمح لك. وأعطى مرة حمارًا كان لرفيقه بغير إذنه رجلاً رآه راجلاً، فلما
جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أهدي لرجل من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: أخي فلان أحوج مني إليه،
فبعث به إليه، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر،
حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وروي أن مسروقًا ادَّان دينًا ثقيلاً وكان
على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم،
وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، ولما آخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والأهل، فقال عبد
الرحمن: بارك الله لك فيهما، فآثره بما آثره به، وكأنه قَبِله، ثم آثره به وذلك مساواة
والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة. وقال أبو سليمان الداراني: (لو أن الدنيا
كُلَّها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له) . وقال أيضا: (إني لألقم اللقمة
أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي) .
ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي
رضي الله عنه: لَعشرون درهمًا أعطيها أخي في الله أحب إليَّ من أن أتصدق
بمائة درهم على المساكين. وقال أيضًا: (لأن أضع صاعًا من طعام وأجمع
إخواني في الله أحبُّ إليَّ من إعتاق رقبة) .
واقتداء الكل في الإيثار برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه دخل غيضة
مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين: أحدهما معوج، والآخر مستقيم، فدفع
المستقيم إلى صاحبه فقال: يا رسول الله، كنت والله أحق بالمستقيم مني، فقال:
(ما من صاحب يصحب صاحبًا ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته، هل أقام
فيها حق الله أم أضاعه) . فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر يغتسل عندها، فأمسك حذيفة
ابن اليمان الثوب وقام يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اغتسل، ثم جلس
حذيفة ليغتسل، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب وقام يستر حذيفة عن
الناس، فأبى وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا تفعل، وأبى عليه السلام إلا
أن يستره بالثوب حتى اغتسل، وقال صلى الله عليه وسلم: ما اصطحب اثنان قط
إلا كان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه. وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع
دخلا منزل الحسن وكان غائبًا، فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت
سرير الحسن، فجعل يأكل، فقال له مالك: كُفَّ يدك، حتى يجيء صاحب البيت،
فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل، وكان محمد أبسط منه وأحسن خلقًا،
فدخل الحسن وقال: يا مُوَيْلِك، هكذا كنا لا يحتشم بعضنا من بعض، حتى ظهرت
أنت وأصحابك، وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في
الأخوة، كيف وقد قال الله تعالى:] أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [ (النور:61)
كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض إليه التصرف كما يريد، وكان أخوه
يتحرج من الأكل بحكم التقوى، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية، وأذن لهم في
الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء.
__________(1/942)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاشتراكية والدين
(ملخص من كتابنا: الحكمة الشرعية)
علم مما تقدم عن الإحياء للإمام الغزالي أن عُليا درجات الأخوة ورُتبها هي
كون الإخوان كلهم خُلطاء في الأموال وشركاء، لا يميز بعضهم رحله عن بعض،
ومعلوم أن المؤمنين كلهم إخوة - كما في نص القرآن - وإن كان الكثير بل الأكثر
منهم غير قائم بحقوق هذه الأخوة، وإذا كان بلوغ الرتبة العليا من الأخوة مستحسنًا
ومطلوبًا شرعًا، فهو دليل على أن الاشتراكية التي ينزع إليها بعض الجمعيات في
أوروبا مستحسنة ومطلوبة في الجملة؛ لأن لها أصلاً في الشريعة الإسلامية الحقة
المؤيدة بالعقل الصحيح، مع أننا نرى الحكماء والعقلاء، لا سيما رجال الدين منهم
يطلقون القول في ذمها وذم ذويها، فهل ذلك من الصواب أم لا؟
الجواب الذي يتراءى لنا هو أننا إذا نظرنا في المسألة بعين الحق المجرد
تجلى لنا أن للاشتراكيين مطالب عادلة في الجملة، وأنهم معذورون في تحزبهم
للتحامل على الأغنياء الذين هم يُرَاءون ويمنعون الماعون، وينفقون إسرافًا وتبذيرًا،
ولا يرحمون مسكينًا ولا فقيرًا، لكن بعض مطالبهم جائرة، لا يمكن أن ترضى بها
أمة من الناس، كما ينقل عن بعضهم القول بأن الاشتراك ينبغي أن يكون في كل
شيء، حتى في الأبضاع، وهو سفه من القول لا يقول به إلا السفهاء، وإلى الآن
لم يستطع أحد من زعماء الاشتراكيين أن يأتي بتعاليم للاشتراكية مقبولة عند جماهير
العقلاء المنصفين، ولو طلبوا هاته الرغيبة في الدين الإسلامي لظفروا بها، ذلك أن
الشريعة الإسلامية الغراء تفرض في أموال الأغنياء من عين أو تجارة، وفي نتائج
زراعة الزارعين فرضًا معينًا يخف عليهم أداؤه، تصرفه لمن يعجز عن كسب يقوم
بكفايته من فقير ومسكين وللغارمين وأبناء السبيل إلخ التفصيل المعروف في كتب
الفروع.
وهذا الفرض يُلزم به الأغنياء إلزامًا ويُجبرون عليه إجبارًا، وتُحث الناس بعد
ذلك على التنفل في الصدقة، وعلى الصلة والهدية والمواساة وإكرام الضيوف وعلى
الصداقة والأخوة التي أرفع درجاتها أن يتصرف الصديق في مال صديقه كما
يتصرف في مال نفسه، ولا يصادف منه على ذلك إلا الرضا، بل الفرح
والاستبشار. نعم هذه الرتبة لا يُحمل عليها الناس كرهًا وإنما يُقادون إليها بسلاسل
الآداب الدينية مع الرفق والحكمة إلى أن يأتوها راغبين، وذلك بنشر تلك الآداب
والتربية للأحداث ذُكرانًا وإناثًا على أصول تعاليمها.
لا ريب أن انتهاج هذا المسلك يأتي بفائدة كبرى للأمة، هي السعادة بعينها،
وإن كان وصول جميع الأفراد لمرتبة الأخوة الكبرى بعيد المنال، لما يعترض
التربية من العوارض الخارجية والأحوال، فضلاً عن كون تعميمها لا يتم إلا بالقوة
وكثرة المال، وفي إكراه العموم على ذلك حرج شديد، لا يقول به ذو رأي سديد، ولا
يزال أولئك الاشتراكيون كلاًّ على كاهل أوروبا، ولا يصلون إلى تمام ما يطلبون؛
لأن رجل الدين ورجال السياسة جميعاً يرفضون تعاليمهم ويسفهون أحلامهم، إلا ما
كان من الجمعية الفرنسوية التي تسمى: جمعية الأخوة، فأولئك تشبه أحوالهم
وتعاليهم ما كان من الأخوة في شبيبة الملة، كما تقدم عن الإحياء، وقد صدر عن
هذه الجمعية آثار نافعة لأمتهم من نشر العلوم والفنون الرياضية والفلسفية مقرونة
بالدين المسيحي على المذهب الكاثوليكي، وقد انتشرت مدارسهم في ممالك الشرق
يوطئون المسالك ويمهدون السبل لامتداد نفوذ فرنسا وتسلُّطها على البلاد التي
ينشرون فيها تعاليمهم، كما يفعله غيرهم من جمعيات دول أوروبا في ممالك الشرق،
وأهل الشرق لاهون غافلون عما يراد بهم.
(قاعدة في الطاقة، والكلب يأكل في العجين، يا كلب كُلْ واتهنَّا ما للعجين أصحاب)
بل أهل الشرق نيام، فإذا ماتوا باستعباد الأجانب لهم ونوقشوا الحساب،
وحاق بهم العذاب، انتبهوا، وأَنَّى ينفع الانتباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأجدر
بالمسلمين أن يكونوا هم السابقين لمثل تلك الجمعية، بل ولكل مزية مفيدة مرضية من
المزايا التي سبقتنا بها الأمم الغربية، وما كنا لنستفيق فصبر جميل.
هذا، وإن للاشتراكيين والمتآخين في أوروبا حجة في كتابهم الديني الذي عليه
مدار النصرانية وهو المسمى بالعهد الجديد، فقد ذكر فيه ما نصه:
وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول: إن
شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركًا وبقوة عظيمة كان الرسل
يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم، إذ لم يكن
فيهم أحد محتاجًا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون
بأثمان المبيعات ويضعونها على أرجل الرسل، فكان يوزع على كل واحد له احتياج،
ويوسف الذي دعي من الرسل برنابا الذي يترجم ابن الوعظ لاوي قبرسي الجنس،
إذ كان له حقل باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل، ورجل اسمه
حنانيا وامرأته سفيرة باع ملكًا واختلس من الثمن وامرأته لها خبر ذلك وأتى بجزء
ووضعه عند أرجل الرسل، فقال بطرس: يا حنانيا، لماذا ملأ الشيطان قلبك
لتكذب على الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل، أليس وهو باق كان يبقى لك،
ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر أنت لم تكذب
على الناس، بل على الله، فلما سمع حنانيا هذا الكلام وقع ومات، وصار خوف
عظيم على جميع الذين سمعوا بذلك، فنهض الأحداث ولفوه وحملوه خارجًا ودفنوه،
ثم حدث بعد مدة نحو ثلاث ساعات أن امرأته دخلت، وليس لها خبر ما جرى
فأجابها بطرس قولي لي: أفبهذا المقدار بعتما الحقل؟ فقالت: نعم بهذا المقدار،
فقال لها بطرس: ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب، هو ذا أرجل الذين دفنوا
رجلك على الباب وسيحملونك خارجًا، فوقعت في الحال عند رجليه وماتت، فدخل
الشباب ووجدوها ميتة، فحملوها خارجًا ودفنوها بجانب رجلها، فصار خوف عظيم
على جميع الكنيسة وعلى جميع الذين سمعوا بذلك. انتهى من أواخر الإصحاح
الرابع وأوائل الإصحاح الخامس من سفر أعمال الرسل (ابركسيس) .
وفيه أن الاشتراك كان في كل شيء متمول عندهم وهو مصرح به في
الإصحاح الثاني أيضًا، وأن الاشتراك كان مانعًا لأحدهم أن يتصرف في ماله كيف
يشاء ويختار، أو يمسكه عنده، بل كانوا يلزمونه أن يؤديه إلى الرسل، وهم ينفقون
عليه كما يريدون، ألم تر إلى (بطرس) كيف عد (حنانيا) مختلسا عندما أمسك بعض
ثمن الحقل، وهذا الحد من الإفراط لم تقل به الشريعة الإسلامية، ولا في أوائل مدة
الهجرة التي شارك فيها الأنصار المهاجرين في أموالهم طوعًا واختيارًا، وحيث كان
التوارث بالإسلام لا بالقرابة، لما تقتضيه حالة ذلك الوقت، وأما تعاليم العهد الجديد
الذي هو أصل النصرانية، كما ألمعنا إليه قريباً فجميعها ناطقة بالإفراط في التمسك
بالفضائل، وتلزم الآخذ بها أن يكون أزهد الزهاد، لا يتخذ مالاً، ولا يبتغي جاهًا،
ولا يدافع عن نفسه، بل يكون خافضًا ضارعًا مستسلمًا لتصرف الحاكمين،
مستبسلاً لتعدي المعتدين، وقد رفض النصارى تلك التعاليم من حيث التخلق والعمل،
وادعوها بقول الجدل، كما أن المسلمين قصروا بنشر تعاليم دينهم الخالصة من
الشوائب ولم يتخلقوا بأخلاقه على وجه الكمال الذي حدده، نعم إلا قليل منهم، مع أنه
الكافل لهم سعادة الدارين والفوز بالحُسنيين؛ ولذلك جدت أمم النصارى في مصالح
الدنيا وهم قاعدون، فازوا بالتغلب وهم خائبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(المنار)
هذا ما كتبناه في (الحكمة الشرعية) من بضع سنين، ولم نقصد به
الاعتراض على أعمال هذه الملة النصرانية، ولا على تعاليمهم؛ لأننا نعلم أن
الإفراط في التنفير من الدنيا، وفي التزهيد بالمال والسلطة كان مناسبًا لحال ذلك
العصر، لما كان عليه الناس من الفساد والبغي، وطغيان الشهوة والقوة بسبب مدنية
الرومانيين المعروفة، وإنما تتعجب من أحوال الأمتين وعدم انطباقها على تعاليم
الديانتين، وفي العروة الوثقى مقالة نفيسة في هذا الموضوع، سننشرها في عدد تالٍ،
إن شاء الله تعالى.
__________(1/945)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الإسلامي والجرائد
عندما عزمنا على إنشاء المنار كاشفنا بعض أهل النظر والخبرة بعزمنا،
وشاورناهم في الأمر، فقال أوسعهم اختبارًا: إن الجريدة لا تروج إلا إذا جاءت
بمشرب جديد وطرقت سبلاً لم تكن تُطرق، وهي مما يحتاج إلى السلوك فيها. ولما
ظهر المنار، اعترف صاحب هذا الرأي كغيره بأنه جاء بما لم تأتِ به الأوائل
من بيان الأمراض الاجتماعية التي طرأت على الأمة الإسلامية والشرق كله،
والبحث في أسبابها وعلاجها، وحمد سعينا وعملنا العقلاء والفضلاء وأصحاب
الجرائد خاصة قولاً وكتابةً، إلا أن جريدة معلومات العربية انتقدت علينا مرة ما
كتبناه عن مراكش من سوء الحال، ودوام الاختلال، المُؤْذِن - إن لم يُتدارك -
بالزوال، وبَنَت انتقادها على أن تلك البلاد متمسكة بالدين، ومن لوازمه الانتظام
وحسن الحال، وأنه ما كان ينبغي لنا أن نهول ببيان ضعفها واختلال شؤونها،
محافظة على كرامتها، نعم، إنها مع ذلك استحسنت ما نصحنا به سلطان مراكش
من الاستعانة بمولانا السلطان الأعظم على الإصلاح بأن يطلب منه رجالاً لِبثِّ
المعارف والفنون العسكرية في بلاده، ومن الغريب أن بعض أكابر رجال الدولة
كتب إلينا يومئذ يستحسن ما نشرناه في شأن مراكش إلا الاستعانة بسلطاننا، قال:
لئلا ترسل إليه الدولة مثل فلان، وذكر رجلاً من موظفي المعارف يعلم أننا واقفون
على جهالته، وانتقد علينا أيضًا من إدارة جريدة طرابلس، فكتب لنا أولاً [1] بأننا
بيَّنَّا معايب المسلمين، وكشفنا الستار عن جهالتهم وضعف دولهم وأنه كان ينبغي لنا
أن نسدل الستار على هذه المخازي والمقاذر، ونؤول للمخطئين على أعين الناس من
الأجانب والأعداء، ثم كتب في الجريدة شيء من هذا، ووافق طرابلس على هذا
الرأي جريدة مصرية واحدة لا قيمة لها فنذكر اسمها.
ثم ماذا - لم يمضِ على المنار إلا أشهر حتى رن صوته في الآذان، ولهجت
بمواضيعه الألسن، وظهر لها أثر في الجرائد، واتفق أن الآلام التي دفعت بنا إلى
الكتابة في هذه المواضيع، حركت بعض من ألمَّت بهم من الكُتاب في المشرق
والمغرب، وحملتهم على الكتابة في الأخطار التي تتهدد الشرق كله والمسلمين فيه
بخصوصهم، فكانت جريدة المؤيد ملتقى أفكارهم، ومنعكس صدى أصواتهم، ولم
يطُل الأمد على نشر مقالة المراكشي ومقالة الهندي فيها (وفي المنار) حتى جاءته
رسالة ضافية من حضرة جودت بك محرر جريدة (إقدام) في الآستانة العلية
في ضعف الأمة الإسلامية أو الأخطار التي تحدق بها، وما عساه يقيها منها، وليس
في تلك الرسالة جملة لم يرد مثلها في المنار، حتى توهم بعض المصريين أنها قد
لخصت من المنار تلخيصًا.
ثم نشرت جريدة معلومات العربية مقالة وجيزة في الموضوع وجهت إليها نظر
المؤيد، فنشرها ثم جاءنا العدد الأخير من جريدة طرابلس، فإذا هي مفتتحة بمقالة
لخصت فيها ما كتبه جودت بك، وما جاء في معلومات معترفة بما أنكرته علينا من
قبل، فالحمد لله على الوفاق بعد الخلاف.
ذكرت معلومات أن للإصلاح 13 أصلاً لا بد منها، وذكرت أصولاً مجملة
مبهمة متداخلة، الأول منها: (الاعتصام بالدين القويم) ويا ليت شعري ما مراده
به؟ فإن كان مراده التعاليم الشائعة التي يسميها الناس دينًا، فهي التي أوقعتهم فيما هم
فيه، وذلك كالتوحيد أو التوكل الذي رماهم بالجبر والكسل، فمنعهم من الاعتماد على
الأسباب التي ناط الله بها مصالح الكون دون الاعتماد على الشيوخ أحياءً وأمواتًا،
وطلب الحوائج من قبورهم ... إلخ ما شرحناه غير مرة في المنار، ومَن فهم الدين
مقلوبًا مما يأتيه بعض المتديّنين من أمرائنا وأغنيائنا من بذل الأموال الوافرة لعمارة
الأضرحة والقُبَب عليها باسم الدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عمارة
القبور في أحاديث كثيرة. ومن ذلك ما نقل إلينا أخيراً عن السلطانة عديلة عمة مولانا
السلطان الأعظم التي ماتت من عهد قريب مِن أنها أرسلت جميع ما عندها من الحلي
والجواهر إلى المدينة المنورة ليزيّن بعقد منها - يساوي 180 ألف جنيه - قبر السيدة
فاطمة عليها السلام، ويصنع من الباقي - وثمنه نحو 150 ألف جنيه - ثُريا
(نجفة) تعلق في روضة النبي (عليه الصلاة والسلام) ولو أنها كانت تعلم أن النبي
وبنته لا يحبان الزينة، لا سيما بعد الموت، وأنهما يحبان العلوم والمعارف -
لأوصت بأن تُصرف هذه الأموال لفتح المدارس في تلك البلاد التي كانت مشرق أنوار
المعارف للكون، فأمست من أجهل البلاد، وضيقت الدولة في أمر المطبوعات التي
تدخلها، حتى إن كل عدد من أي جريدة لا يدخل الحجاز إلا بأمر من الآستانة، على
ما بلغنا، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله تعالى، وقيل: إن حلي
السلطانة أرسل للمدينة لغير تلك الغاية.
(الأصل الثاني: الاعتصام بحبل الخلافة) : وهذا يدخل في الأول، كما
يدخل فيه قيام الخليفة بحقوق الخلافة على ما شرحناه في مقالات الإصلاح الديني.
(الثالث: علم العلماء وأعاظم الأمة ما عليه الأمة وتركهم ترجيح النفع
الخاص على العام) ومَن الذي يقلب تربيتهم، وأكثرهم عالِم بحال الأمة ويائس من
إصلاحها؛ ولذلك يعمل لنفسه فقط.
(الحادي عشر: إصدار جريدة في كل بلدة إسلامية تختص مباحثها بما
يناسب شأن تلك البلدة وارتقاء أهلها علمًا وأخلاقًا) وهذا الأصل يمكن أن يوجد فيما
عدا بلاد الدولة العلية من بلاد الإسلام، فإننا قد أنشأنا المنار لهذه الغاية، فكانت تمنع
أعداده من بلاد سوريا بحجة أننا نرمي المسلمين بالجهالة ونقول: إنهم في حاجة
إلى التربية والتعليم بالصبغة الدينية، ثم صدرت الإرادة السنية من مقام الخلافة
الإسلامية بمنعها من البلاد العثمانية بكلمة كتبها للمابين والي بيروت (رشيد بك)
الذي يعرف مولانا السلطان فمن دونه حقيقة حاله السيئة، فبلاد يمنع فيها عمل عظيم
عام الفائدة بكلمة من جهول فاسد الأخلاق سيئ الأعمال، هل يمكن يجري فيها
إصلاح؟ ونحن قد سبقنا معلومات لمثل هذا الاقتراح في مقالات الإصلاح
الديني.
أما بقية الأصول التي ذكرها فهي ترجع إلى شيء واحد هو: تأليف شركات
مالية لتعميم المدارس للذكور والإناث، ولطبع المؤلَّفات النافعة، وإنشاء المنتديات
العلمية، وتوظيف خطباء طوافين، وكل هذه المباحث قد فصلنا القول فيها تفصيلاً
وإنشاء المنتديات العلمية متعذر في دار السلطنة ومتعسر في سائر بلاد الدولة؛ لأن
كل اجتماع يكون مدعاة لبث الدسائس من الجواسيس كما هو معلوم، ومن العجب
أنه ذكر التعليم ولم يذكر التربية، وهي الركن الأهم الأنفع.
وفي الختام نسأل الله تعالى بكمال الإخلاص أن يوفق حكامنا وعلماءنا وجرائدنا
لما فيه خير الأمة والملة، ونحمد الله ونثني عليه أن وفق الجرائد في بلاد الدولة
على مشاركتنا في البحث في أمراض الأمة وعلاجها، ونرجو من فضله أن يقي
أصحابها من ولاة السوء الذين يصدون عن سبيل الله مَنْ آمن ويبغونها عوجاً،
فيواظبوا على هذا العمل المبرور الذي يُحيي الهمم، ويبعث على النهوض، وبالله
التوفيق.
__________
(1) الذي كتب هذا هو شيخنا: الشيخ حسين الجسر.(1/949)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منتدى سمر
ضمّنا وبعض فضلاء السُّمَّار سامر من السمار (السمر الحديث في الليل
ويسمى فاعله ومكانه سامرًا، وجمعه في معنَيَيْه: سُمَّار) فجرى ذكر الطرق وما
كتبه المنار في عدده الماضي بمناسبة الحادثة الأخيرة في شأن ذويها، وتحدثوا بأن
شيخ الشيوخ سيجمعهم للمذاكرة في الإصلاح، فقال قائل: لا يمكن أن يأتي
الإصلاح من جانب هؤلاء الشيوخ؛ لأنهم إذا تركوا الرقص والغناء وآلات الطرب
ينفضُّ أكثر الناس من حولهم، فيقل سوادهم الذي يفيض عليهم بالأبيض والأصفر،
ومدار معاشهم وجاههم على هذا، إنهم ليعلمون - كما نعلم أو أكثر علمًا - أنهم لو
اقتصروا على الذكر الشرعي لا يحضر مجالسهم إلا بعض الأتقياء العقلاء الذين لا
يقدمون لهم نذرًا ولا ينقدونهم شيئاً، وهذا ما يضطرهم إلى استمالة الغوغاء من
الناس باللهو والباطل، فلغواً يكتب المنار، وعبثًا يحاول مبتغي الإصلاح (وأشار
إليَّ) فقال سامر آخر: نرجو أن يظلوا واقفين عند هذا الحد في الاستمالة ولا
يتعدوه إلى نحو الحشيش والأفيون، فانبرى له آخر وقال: وما يدريك أنهم لم يتعدوا
الحدود التي ذكرتَ، إن الخيام التي يُشرب فيها الحشيش في الموالد هي مأوى
المجاذيب المعتقدين ومنتحى العفاة والطالبين، ولا يمكن لأحد أن ينبس ببنت شفة
في الاعتراض على ذويها لئلا يتصرفوا فيه، فتذكرت بكلام هذا السامر ما كنت
سمعته من بعض القضاة الشرعيين في غضون مدة مولد السيد من أن بعض
الحشاشين من الأولياء أصحاب الكشف وأنه سُرق لبعض الناس متاع، فوقف على
خيمة حشاشين فأشار واحد منهم إلى أن متاع الرجل قفة، وأنها في مكان كذا، فجاء
الرجل المكان المشار إليه فوجد متاعه هناك في قفة كما قال الحشاش.
ولم أحدث السمار بالقصة، لكنني قلت لمن قال إن الكلام في إصلاح الطرق
عبث: إنني يغلب علي اليأس من الشيوخ في الغالب، ولكن رجائي في الأمة كامل،
وأنا أكتب لأبين لها الحق من الباطل، فمتى علمَتْ أعرَضَتْ عن هؤلاء المضلين
الذين يأكلون أموالنا باسم الدين ويشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، وإن الحق
يعلو ولا يُعلَى عليه، والعاقبة للمتقين.
__________(1/952)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار وآراء
(ولي العهد للخديوية)
سمى الجناب العالي الخديوي نجله وولي عهده (محمد عبد المنعم) فجمع بين
فضيلتي الأسماء المشار إليها في حديث (أفضل الأسماء ما عُبد وحُمد) فنسأل الله
تعالى الذي ألهم سمو والده بأن يضع له خير الأسماء أن يجعله خير مسمى، ويقر به
عيون الأمة والوطن المصري العزيز.
***
(اشتراك يوناني بالجمعية الخيرية)
كتب الموسيو أكيلو بولو من وجهاء التجار اليونانيين في الإسكندرية إلى
الجمعية الخيرية الإسلامية بأنه يعتد مصر وطناً ثانيًا له، لطول إقامته فيها،
ومن حق الوطن مساعدة الأعمال الخيرية فيه؛ ولذلك يلتمس من الجمعية أن
تعتبره من المشتركين بمبلغ سنوي قدره أربعون جنيهًا إنكليزيًّا، فأجابته الجمعية
معترفة له بالفضل ومكافئة عليه بالشكر، فليعتبر الذين يرجئون دفع ما عليهم من
سنة إلى أخرى، بل ليعتبر سائر أغنياء القاهرة، ثم أغنياء القطر الذين
يقصرون في مساعدة هذه الجمعية، ولو كان للكثير منهم روح شريف ومعرفة
بقيمة الوطن كمعرفة الموسيو أكيلو بولو - لعمَّت مدارس هذه الجمعية جميع مدن
القطر ولكن الكرام قليل، فنسأل الله تعالى أن يزيد في أوطاننا عددهم،
ويضاعف مددهم، فبالأغنياء الفضلاء تحيا البلاد وتنهض الأمم، وبهم تسقط
في مهاوي العدم.
__________(1/953)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الأولى للمنار
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل
عبد مصطفى.
أما بعد: فقد تم لمنارنا بفضل الله تعالى سنة قمرية كاملة (إذ كان صدور أول
عدد منه في 22 شوال سنة 1315) أنبته صدق الخدمة فيها نباتًا حسنًا، وتقبله
فضلاء الأمة بقبول حسن، ولا يزال في نمو تدريجي يبشر بالكمال، ولقد صدق الله
تعالى إلهامنا، وحقق رجاءنا بمؤازرة الكرام ومعاضدة الأخيار، وها نحن أولاء
نراهم يزدادون يومًا فيومًا، أما الرجاء الذي أشرنا إليه فهو ما جاء في آخر فاتحة
الجريدة - بعد بيان منهاجها والإشارة إلى مشارب الناس في الجرائد، وأنه انتقاد
الحكومة أو المدح والذم في الأشخاص أو النكت الهزلية والروايات الغرامية - وهو:
(فإذا رأوا جريدة تفند أكثر أقوالهم، وتنعي على إسرافهم في أمرهم، وتسجل
عليهم التقصير في العمل المفيد لعمارة بلادهم، بل التشمير للعمل على خراب
أوطانهم، أو تسليمها لأيدي الأغيار من المهطعين إلى الاستعمار، يوشك أن
يلفظوها لفظ النوى ويضربوا بها عُرْض الحائط، لكنني وطَّنت النفس على الاقتناع
بمؤازرة الكرام ومعاضدة الأخيار، نعم، إن الكرام قليل ورجاؤنا أن يكونوا آخذين
في النمو لما تقتضيه حالة العصر ويزعج الأمة إليه موقفها الحرج ... ) إلخ.
كانت الجريدة تُرسَل إلى المشهورين من القراء فيردونها من غير أن يزيلوا
غلافها وينظروا فيها، ثم يتفق لهم النظر فيها عند بعض أصحابهم، فيطلبونها،
وأكثر الذين اشتركوا في أثناء هذه السنة - حتى في الشهرين الحادي عشر والثاني
عشر - طلبوا الجريدة من أولها، حتى احتجنا لإعادة طبع ما نفد من أعدادها، ولو
أن لنا وكلاء يسعون في نشرها لكان نموها أسرع وانتشارها أعم. أما رد الناس
للجرائد الحادثة من قبل الاطلاع عليها فهو لِما رأوه من كدورة مشاربها وعدم ثباتها
في الغالب:
وذنب جرّه سفهاء قوم ... وحل بغير فاعله العقاب
الانتقاد على المنار:
قلنا: إن المنار نال رِضَى العلماء والفضلاء، ولكنه لم يسلم من الانتقاد، أما
علماء الأزهر الكرام، فقد أنكر بعضهم علينا مسألة واحدة وهي ما جاء في
(محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر) من وجوب العمل بالحديث الشريف دون
قول الفقهاء المخالف له، ووعدناهم بأننا سنبسط الكلام في هذا الموضوع في مقالة
نكتبها في (الاجتهاد والتقليد) وأشار علينا بعض الفضلاء والكُتاب بأن نقلّ من
الألفاظ الغريبة والاصطلاحات العلمية، ونختار السهولة في الأسلوب ليتسنى لكل
الطبقات أن تفهم ما يُكتب؛ ولذلك ترى أن الأعداد الأولى من المنار أرقى في الغالب
أسلوبًا، وأكثر غريباً.
وأما غوغاء الناس فقد قام جماعة من سفهائهم فسلقونا بألسنة حِدَاد في جرائد
البذاء والنفاق لنبذة نشرناها في سبب الخلاف الذي كان وقع بين الرفاعية والقادرية،
وإنما ساقهم إلى هذا حب التقرب من صاحب السيادة والسماحة أبي الهدى أفندي
الرفاعي الشهير، وذلك أن عطوفة مخدومه حسن بك خالد كتبت مقالة في الموضوع
ينهى أتباعهم فيها عن الرد على المنار، ولكن طاش سهمهم وخاب ظنهم، وقد
علمت سماحته أننا لم نقصد بما كتبناه إلا خيرًا، وكتبت إلينا تقول بأن جميع ما
كُتب في الرد علينا غير ما كتبه المخدوم، ولم يكن مرضيًّا عندها، وأنها اعتقدت
إخلاصنا وحسن قصدنا.
وانتقد علينا من مصادر مختلفة مقالات منكرات الموالد ومسألة نفي الواسطة
بين الله تعالى وبين الناس إلا في الهدى والإرشاد، ومسائل في زيارة القبور
وتعميمها والقراءة للأموات، وفي الاقتصار على الحث على التربية والتعليم دون
الأعمال المادية، بل الإكثار من الأول والإقلال من الثاني، وفي تفضيل العلم على
الحرب، وفتح المدارس على فتح البلاد، وقد أجبنا عن ذلك كله بما فيه مقنع.
وعود المنار:
جاء في أطواء الكلام وتضاعيفه وعود كثيرة، منها ما وفينا به، ومنها ما
أرجأناه للفرص والنهز، ومن هذا الأخير الوعد بالكلام على القضاء والقدر والجبر،
وعلى التربية الجسدية والنفسية والعقلية، وعلى أن الأصل في الأمم الترقي لا
التدلي، خلافًا لما هو شائع عند المسلمين، وعلى تمثيل الروايات وموعدنا الأعداد
الآتية إن شاء الله تعالى، ويدخل في هذا ما كتبناه وقلنا أن له بقية، ولم نأتِ بها
كمقالات (سلطة مشيخة الطريق الروحية) ورسالة (فكاهة العلوم) لمكاتبنا
الإسكندري، أما تتمة مقالات مشيخة الطرق فقد منع من إكمالها مانع، وأما فكاهة
العلوم فاستطلناها على غير فائدة.
مستقبل المنار:
علمنا أن أكثر المشركين يحفظون أعداد المنار لأجل تجليدها في آخر السنة،
ومن ثم اقترح علينا كثيرون أن نجعله مجلة بشكل الموسوعات والهلال؛ لأن شكله
الآن يخرج في التجليد كبيراً وورقه يخسر بالطي بعض حسنه ومتانته، واقترح
علينا آخرون من الأفاضل أن نودعه نبذًا تعليمية للناشئين من البنين والبنات - تكون
في غاية البساطة والسهولة؛ لأن هؤلاء يرونه أحكم معلم للآداب والفضائل الدينية
والوطنية الخالية عن الشوائب ونزغات البدع، المسقمة للأخلاق الشريفة، المضنية
للعقول، المكسلة عن العمل، الباعثة على الغلو في الدين من جهة، والضعف
والتقصير فيه من جهة ثانية.
واقترح آخرون أن نضرب صفحًا عن الكلام في جزئيات المسائل السياسية
والجرح والتعديل فيها، ونكتفي بذكر الأخبار المهمة على الوجه الصحيح، كما هو
شأن المؤرخ البعيد عن الأغراض، فإننا قد انحرفنا عن هذه الخطة في بعض
المسائل انحرافًا، وقد صادفت هذه الاقتراحات عندنا قبولاً.
وها نحن أولاء نجعل جريدة المنار في أول سنتها الثانية مجلة أسبوعية،
ونجعل فيها - بعد المقالات الافتتاحية التي تبحث في جميع المواضيع - باباً
مخصوصاً لمباحث التربية والتعليم، ويدخل في التربية والتعليم علم تدبير المنزل
بجميع شُعبه وفي التعليم البحث في أساليبه ودروس مختصرة في فنون شتى، يسهل
تناولها على الناشئين والناشئات من تلاميذ المدارس وغيرهم، ووراء ذلك باب
الآثار العلمية الأدبية وتدخل فيه الأفاكيه والمُلَح، وبعده باب الأخبار التاريخية
تُذكر فيه الجوائب (الأخبار الطارئة) الداخلية والخارجية، مع ما يرشد إلى
الاستفادة منها والاعتبار بها من غير غميزة ولا إزراء بالحكومات أو
بسواهم.
ونرجو من إخواننا الأفاضل الذين استعذبوا مشرب الجريدة وراق في أعينهم
ما تحلَّت به من صادق الخدمة - أن يشدوا أزرنا بتعميم نشرها، ونحن نعدهم ببذل
الجهد في ترقية شأنها، واختيار ما نراه أفيد للأمة، وأنفع للوطن {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
... ... ... ... ... ... ... ... (محمد رشيد رضا)
__________(1/954)
المجلد رقم (2)(2/)
28 شوال - 1316هـ
11 مارس - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب وعظي للإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
أما بعد: فيا أيها الإنسان خلقك الله وسطًا بين العوالم الجسدية والروحية
وأعطاك سلطانًا على العوالم السفلية والعلوية، منحك المشاعر البادية والكامنة
وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، ولم يجعل لاستعدادك حدًّا معروفًا، ولا لرقيك
منتهى محدودًا، فلماذا قنع بعض أبنائك بالمرتبة الدنيا فوقفوا عند الدرجة السفلى؟
يتخطى إخوتهم رقابهم وهم سائرون، ويطؤون هامهم وهم صاعدون، ولكنهم
وادعون ساكنون، كأنهم لا يحسون ولا يشعرون، العبر أمامهم ووراءهم والمنبهات
عمت أرضهم وسماءهم. ولكنهم لا يعتبرون ولا يتنبَّهون {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يس: 9) .
يا أيها الإنسان، ما هذا الفرق الكبير الذي بين أفرادك. واحد كألف، وألف
كأف. بل واحد يدبر شؤون أمة كاملة حتى كأنه روح مدبرة، وهي أعضاء مسخرة
فأجدر بالإنسانية أن تقر لهذا بنسبته، وتنكر أولئك وإن كانوا على صورته
{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
ويا مَن خُلق على صورة الإنسان، ولكنه يعيش بروح أخس حيوان. أَفِقْ من
سكرتك، وهب من رقدتك، واكفُفْ عن التمادي في الشهوات البهيمية، والاسترسال
في التعديات الوحشية. واعلم أن لك روحًا أخرى إذا غلبتها على هواك، وحكَّمتها في
قواك. فإنك ترتقي إلى حال جديدة تحيا بها حياة سعيدة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .
ويا أيها الشرقي تذكر وتدبر، واعلم أن ذنوب الأمم لا تُغفر، فما من أمة فشا
في آحادها الكذب والخيانة والنفاق، وفسدت من آحادها الآداب والأخلاق. فانحرفت
عن الشريعة الإلهية، ولم تسترشد بالسنن الكونية - إلا وصب عليها مدبر الكون
سوط عذاب {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ} (الأنفال: 25) ، {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) .
إن شر الدوابِّ عند الله الصم الذين لا يسمعون سماع تعقل وتدبر، البُكم الذين
لا ينطقون بالحق فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. فاسمعوا وأطيعوا
واعلموا واعملوا. وألفوا الشركات المالية، واعقدوا الجمعيات العلمية والأدبية
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41) .
وهاكم هذه المجلة التهذيبية. الخادمة لجامعتكم الملية والوطنية. تنتقي لكم ما
هو أمسّ بمصلحتكم، وأقرب - إن شاء الله تعالى - لمنفعتكم، وأدعى - بفضل الله
تعالى - إلى نهضتكم. وأرجى - بتوفيق الله عز وجل - لجمع كلمتكم. فتبين البدع
التي مازجت العقائد، والمفاسد التي عرضت للسجايا والعوائد؛ فأمرضت العقول
وانحرفت بالنفوس عن سواء السبيل، وتهدي لعلاج هذه الأمراض الروحية
والأدواء الاجتماعية. بكشف الحجاب عن وجوه التربية النافعة، وتسهيل سبل
التعاليم الناجعة. وتختار من الآثار العلمية والأدبية، والملح والنوادر الفكاهية، ما
ترتاح له مع الفائدة النفوس، وتنجلي به على نزاهته الهموم والبؤوس.
أما جوائب الأخبار، وحوادث الأقطار والأمصار فنذكر منها أهم ما يفيد
القارئين - لا سيما المصريين والعثمانيين - وسالكين فيه منهج المؤرخ العادل، من
غير طعن ولا تحامل. فالخدمة الصحيحة للدولة والأمة إنما تكون بتبيين الرشد من
الغي، وتمييز الخطأ من الصواب، والتزييل بين النافع والضار؛ إذ التجريح
والترجيح، والذم والمديح - لا يخفض شيء منها قدرًا، ولا يرفع ذكرًا، ولا يكون
مناطًا لعزة ورقي، ولا لذلة وهُوي، وسواء كان ذلك في الأمم والدول، أم في الآحاد
والأشخاص. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في سنتنا هذه لأحسن ما وفقنا له في سنتنا
الخالية. ونرجو من فضلاء الأمة الذين استعذبوا مشرب الجريدة. واعتقدوا أن
مباحثها نافعة مفيدة أن يشدّوا أزرنا، ويساعدونا على تعميم نشرها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وتمسكوا من الإصلاح بالسبب الأقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة: 189) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
خلق الله الإنسان عالمًا صناعيًّا، ويسّر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع
والاختراع، وقدر له من الرزق من صنع يده بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه،
فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبدٍّ وحضارة صنيعة
أعماله: أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما
يقيه من الحر أو البرد والوجى من عمل يديه نسجًا أو خصفًا. وأكنانه ومساكنه
ليست إلا من مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتفنَّن فيه من دواعي ترفه ونعيمه
إنما هي صور أعماله ومَجَالِي أفكاره، ولو نفض من يديه من العمل لنفسه ساعة من
الزمان، وبسط أكفّه للطبيعة يستجديها نفسًا من حياة - لشحت به عليه بل دفعته إلى
هاوية العدم. وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه، وهادٍ يرشده، فكما
يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته - يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن
يعمل؛ فصنعته أيضًا من صنعه، فهو في جميع شؤونه الحيوية عالم صناعي كأنه
منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل.
هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
دعْه في هذه الحالة وخذ طريقًا من النظر إلى أحواله النفسية من الإدراك
والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية - تجدْه فيها أيضًا عالمًا صناعيًّا:
شجاعته وجبنه، وجزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه
عفته وشرهه وما يشابهها من الكمالات والنقائص. جميعها تابع لما يصادفه في
تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربَّى بينهم، مرامي
أفكاره، ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية،
أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء،
أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية، إنما هي ودائع
اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون. أما هواء المولد
والمربي ونوع المِزَاج وشكل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر
له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية،
على ضعف في ذلك الأثر؛ فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين
وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع. نعم، إن أفكارًا تتجدد،
ومعقولات من أخرى تتولد وصفات تسمو، وهممًا تعلو حتى يفوق اللاحقون فيها
السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه
أنه ثمرة ما غرس، ونتيجة ما كسب؛ فهو مصنوع يتبع مصنوعًا، فالإنسان في
عقله وفي صفات روحه عالم صناعي.
هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت مع هذا أن الأعمال
البدنية، إنما تصدر عن المهلكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان
القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يعزُب عن الأذهان،
إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين ولا أظن منكرًا يجحدها:
إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر تلقاه العقول عن المبشرين
المنذرين فهو مكسوب لمن يختصهم الله بالوحي [1] ، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة
والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة وتصبغ
النفوس بعقائده وما يتبعها من المَلَكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من
الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم
والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها. وكأنما الإنسان في
نشأته لوح صقيل، وأول ما يخطّ فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته
وإرشاده. وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق
عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات بل تبقى طبيعته فيه كأثر
الجرح في البشرة بعد الاندمال.
وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث
طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل: إن الديانة المسيحية
بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطِّراح الملك
والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم
المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية
والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: (مَن ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له
خدك الأيسر) ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية،
والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمَن يقف على مباني هذه
الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع
ملاحظة أن لكل خيال أثرًا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه - يعجب كل
العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فهم
يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفَه العيش فيها، ولا يقفون عند حد
في استيفاء لذَّاتها [2] ، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة،
ويخترعون كل يوم فنًّا جديدًا من فنون الحرب، ويُبدعون في اختراع الآلات
الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض ويصولون بها على غيرهم،
ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في
إحكام نظامها حتى وصلوا إلى غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون
وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلاً عن
الالتفات إلى طلب غيرها.
الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة،
ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية
على تنفيذ أحكامها؛ فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل
يحكم حكمًا لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم
وأن يسبقوا جميع المِلَل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية،
والتبحُّر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجرّ الأثقال والهندسة وغيرها.
ومن تأمل في آية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) -
أيقن أن مَن صُبغ بهذا الدين فقد صُبغ بحب الغَلَبَة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له
سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلاً عن الاعتصام بالمَنَعَة والامتناع من
تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق
والرماية - انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها.
ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات؛
إذ يراهم يتهاونوا بالقوة، ويتساهلون في طلب لوازمها، وليست لهم عناية في فنون
القتال ولا في اختراع الآلات، حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم،
واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم
تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا ورضخوا لأحكامها. ومَن وازن بين الديانتين حار
فكره كيف اخترع مِدفع الكروب والمتراليوز وغيرهما بأيدي الديانة الأولى قبل
الثانية؟ وكيف وجدت بندقية مرتين في ديار الأولين قبل وجودها عند الآخرين؟
وكيف أُحكمت الحصون ودُرعت البواخر وأُخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة
والسلم دون أهل الغلة والحرب؟ !
لِمَ لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيًّا؟ لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه
الحقيقة؟ ألم تكن القرون الخالية والأحقاب الماضية كافية لرسوخ الديانتين في نفوس
المستمسكين بعُرَاهما، هل نبذت كل ملة من الملتين عقائد دينها ظِهْريًّا من أجيال
بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى واقتفاء سيرة
يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض (آيات) الإنجيل من حيث يدري ولا يدري
بين الخطب والمواعظ التي تُتلى على منابر المسلمين، أو أُلقي شيء منها في أمانيّ
معلميهم وناشري شريعتهم عند ما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله
في الملتين؟ هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على
الأرواح؟ أو وُجد للأرواح مدبر سوى الفكر والخيال؟ أو انفلتت الأفكار من سلطة
الدين، أو تعاصت النفوس عن الانتقاش بنقشته وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر
فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟
ماذا عساه يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟ أينسب هذا إلى اختلاف
الأجناس، وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة ويتقاربون في الأنساب
الدانية؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع
البلدان، ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين - وهم في شبيبة
دينهم - أعمال بهرت الأبصار وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب
والترك الذين دوخوا الممالك واستووا على كرسي السيادة فيها؟
كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع فزع لها
المسيحيون، وغابوا عن معرفة أسبابها. ذكر ملكام سرجم (إنكليزي) في تاريخ
فارس أن محمودًا الغزنوي كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي الأسباب في
انهزامهم بين يديه سنة 400 للهجرة! وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئًا
منها. فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد
دينها، وأي صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخَّرتهم عن تعاطي
الوسائل ما هو أول مفروض في دينهم؟
مقام للحيرة وموضع للعجب، ويظن أنه لا بد لهذا التخالف من سبب، نعم،
وتفصيله يطول، ولكن نجمل على ما شرطنا:
إن الدين المسيحي إنما امتد ظله، وعمت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء
الرومانيين وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة
وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب
عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة،
فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم. ومع هذا فإن
صحف الإنجيل الداعية للسلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من
الناس بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين. ثم إن الأحبار الرومانيين لما
أقاموا أنفسهم في منصب التشريع وسنّوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين
التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية، وجرت فيها مجرى الأصول ولحقها على
الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا وافترقوا شيعًا وذهبوا مذاهب تنازع الدين
في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا، وتوسعوا
في فنون كثيرة وانفسح لهم مجال الفكر فيها. وكانت براعتهم في الفن العسكري
واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم في سائر الفنون.
وأما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال
حربي حظًّا، وضربوا في كل فَخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون
المقارعة، وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه
وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى
اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعِنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله
الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع، وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر
الوجود وعدّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كَذَبة النقل من
الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها بالكتب، وفيها
السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم وفتورًا
في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك - لم
يرفع تأثيره عن العامة؛ خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في
إرشاد العامة إلى أصول دينهم الحقة ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه،
فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة بين فئة
معينة، لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من
عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه.
إلا أن هذا العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته
وإن كان حجابها كثيفًا - لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يُحرَموها
بالمرة تدافُع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين
المرض وقوة المِزَاج، حيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا
يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلا بُدَّ يومًا أن يسطع
ضياؤها ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يُتلى بين المسلمين وهو كتابهم
المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم، يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم
ومغالبة المعتدين وطلب المنَعة من كل سبيل، لا يعين لها وجهًا، ولا يخصص لها
طريقًا - فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما
سلب منهم، فيتقدمون على مَن سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظًا
لحقوقهم وضنًّا بأنفسهم على الذل، وصونًا لملتهم من الضياع، وإلى الله تصير
الأمور.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (العروة الوثقى)
__________
(1) هذا ما كُتب بقلم الأستاذ الشيخ محمد عبده عن لسان الحكيم الإسلامي السيد جمال الدين الشهير وبالاتفاق معه؛ فليخشَ الله مَن كان يتهم هذين الحكيمين أو أحدهما بالقول بأن النبوة مكتسَبة، وما أعظم بهتان مَن يقول: إن المرحوم السيد جمال الدين صرح بهذا الاعتقاد في الخطاب العام الذي ألقاه في الآستانة في الحث على الصنائع، أما وسر الحق لو صرح به في الآستانة لما صرح بخلافه في باريس حيث كان يُصدر العروة الوثقى.
(2) ذكَّرنا هذا ما جاء في (المقتطف) الأغر (جزء 20، صفحة 860) في تقريظ منشور المجمع القسطنطيني الأرثوذكسي ردًّا على منشور البابا لاون الثالث عشر وهو بنصه:
ومن العجب أن رؤساء الطوائف المسيحية يتنازعون على العقائد المذكورة آنفًا (أي: ككون
العماد لا يصح بالتغطيس، وسر الشكر يجب أن يكون بالخبز المخمَّر) ولا يتحرك لهم قلم، ولا ينطق لهم لسان في طلب إنصاف المظلوم والقضاء لليتيم والمحاماة عن الأرملة، وقد نخر سوس الفساد عظام التمدن الأوربي، وصار المال معبود المسيحيين ولا همّ لرؤسائهم إلا لبس الوسامات واتساع السلطة، ونخشى أنه إذا جاء ابن الإنسان لم يجد إيمانًا على الأرض؛ لأن الاهتمام بالعَرَض شغل الناس عن الاهتمام بالجوهر، ولأن حب الدنيا سدل حجابًا على العيون.(2/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإيثار
جعلت الديانة الإسلامية الأعمال الفاضلة على قسمين: قسم حُكمه الوجوب،
وهو ما لا حرج فيه ولا مشقة على الناس كلهم باتباعه: كأداء الزكاة وإنظار المعسر
والمساواة والمماثلة في العقوبة. وقسم حكمه الندب والاستحباب؛ وهو ما لا يمكن أن
يكون عليه الناس كلهم: كالعفو عن الجاني، وإبراء المعسر والإيثار على النفس مع
الحاجة والخَصاصة، والأعمال الواجبة التي كلف بها جميع الناس جزمًا أفضل من
الأعمال المستحبة التي طُلبت طلبًا غير جازم في الغالب؛ فإن إبراء المعسر أفضل
من إنظاره كما لا يخفى، ويتراءى لغير المحقق أن الإيثار - ولو بالضروري -
أفضل من الإنفاق مما زاد على الحاجة الذي هو أصل الشريعة، ودونك ما أوردناه
في كتابنا (الحكمة الشرعية) من تحقيق هذا البحث وفاءً بوعدنا في العدد الماضي
وهو:
إن كتب السنة وأخبار السلف وآثارهم؛ تشهد لهم بفضيلة الإيثار على أنفسهم،
وقد مدح الله - عز وجل - به الأنصار بقوله - عز من قائل -: {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وأقوال العلماء المصرِّحة بأن المؤاثرة أفضل درجات البذل مالئة
بطون الدفاتر، ومع هذا فقد حقق إمام العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين أن مقام
أكمل الكملة تقديم أنفسهم وعدم المؤاثرة، فقد ذكرنا في رسالته (روح القدس) كلامًا
في مناظرة نفسه أقنعها فيه بأن ليس لها قدم مع الأنبياء ولا مع الصحابة، وأراد أن
يقنعها بذكر أحوال بعض التابعين بأنها لم تبلغ لهم أيضًا شأوًا أيضًا، فقصَّ عليها
أحسن القصص من أحوال أُويس القَرني (رضي الله عنه) وسيرته في الإنفاق.
قال قدس سره [1] :
فقالت النفس - يا سيدي -: ارفقْ بي ولا تعجل، فقد ظهر لي في مسألة
أويس هذا أمر خرج الحَلاَّج فيه فوقه، وذلك أن الحلاج رضي الله عنه قال مخبرًا
عن حالته: إذا قعد الرجل عشرين يومًا دون غذاء، ثم جاءه طعام فعرف أن في
البلد مَن هو أحوج منه لذلك الطعام فأكله، ولم يؤثر ذلك المحتاج به فقد
سقط.
وهذا مقام عالٍ كما رأيته. وهذا أويس - رضي الله عنه - ما كان يتصدق
إلا بفضل طعامه وثيابه، فيأخذ حاجته أولاً، ثم يعطي ما فضل عن قُوته كل، ليلة
وهو يعلم أن ثَمَّ جائعًا ولم يعطه وهذا كما رأيته قال:
قلت لها: يا نفس ما أنتِ إلا اعترضت اعتراض من لا يعرف الحقائق، ولكنك
جهلت المقال، فاسمعي الجواب، واعلمي أن أويس هو الإمام الذي لا يلحق.
واعلمي أيتها النفس أن العارف إذا كان صاحب حال مثل الحلاج فرق بين نفسه وبين
غيره، فعامل نفسه بالشدة والقهر والعذاب، وعامل نفس غيره بالإيثار والرحمة
والشفقة، وإذا كان العارف صاحب مقام وتمكين وقوة صارت نفسه عنه أجنبية، لا فرق عنده بينها وبين نفوس العالم، فما يلزمه في حق نفوس الغير من الرحمة
والشفقة - يلزمه في حق نفسه؛ لكونها صارت عنه أجنبية وارتفع هو علويًّا،
وبقيت، هي مع أبناء جنسها سفلية، فلزمه العطف عليها كما لزمه على غيرها؛
فإن صاحب الصدقة العارف إذا خرج بصدقته ولقي أول مسكين يدفع إليه الصدقة،
فإن تركه ومضى إلى مسكين آخر، فقد انتقل من رضى ربه إلى هوى نفسه وخرج
من ديوانهم، فإنها مثل الرسالة لا يخص بها شخصًا، أول مَن يلقاه يقول له: قل:
(لا إله إلا الله) .
ولا شك أن هذا العارف إذا وهبه الله تعالى رزقًا يعلم أنه مرسَل إلى عالم
النفوس الحيوانية فينزل من حضرة عقله إلى أرض النفوس، ليؤدي إليهم ذلك القدر
الذي وُجه به، فأول نفس تلقاه نفسه لا نفس غيره، وسبب ذلك أن نفوس الغير غير
ملازمة له ولا متعلقة به؛ لأنها لا تعرفه، ونفسه متعلقة به ملازمة لبابه فلا يفتحه
إلا عليها فتطلب أمانتها منه فيقدمها على غيرها؛ لأنها أول سائل.
وإلى هذا السر أشار الشارع بقوله: (ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول والأقربون أولى
بالمعروف) ؛ لتعلُّقهم بك ولزومهم بابك والغير لا يتعلق بك ولا يلازمك ملازمة
نفسك وأهلك، فلما تأخروا أخروا كما هي حال الأسرار سواء؛ تخرج من عند
الحق على باب الرحمة، فأي قلب وجد متعرضًا سائلاً عند الباب دفع إليه حظه من
الأسرار والحكم، وحظه منها على قدر ما يرى فيه من التعطش والجوع والمذلة
(أي: لله) والافتقار، وهم خاصة الله تعالى.
وإلى هذا المقام أشار المشايخ وعليه حرضت الشريعة بقولها: (تعرضوا
لنفحات ربكم) ومن تأخر أُخِّرَ، ومَن نَسِيَ نُسِيَ، فانظري كم بين المنزلتين: منزلة
الحلاج ومنزلة أويس؟ ! وانظري هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في
الظاهر صاحبه مع أحوال العامة، فإن العامة أول ما تجود على نفوسها، وحينئذ
يتعدى جُودها إلى غيرها , وإنما يتصرفون تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون،
ولما عموا عن هذا السر وصاروا مثل البهائم لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله
تعالى حرصوا على الإيثار ومدحوا به، وهو مقام الحلاج الذي ذكرت عنه ورأيت
أنه غاية فهكذا فلتُغزل الحقائق، وتُحاك حُلل الرقائق.
فقالت النفس: هذا شيء -واللهِ - ما قرع قط سمعي، و {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ
اليَقِينِ} (الواقعة: 95) ، و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61)
وفي مثل هذا {فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26) ، لقد شرحت صدرًا
ورفعت في المعارف قدْرًا. اهـ
هذا ما جاء في (روح القدس) بنصه الشائق، الذي هو صفوة الحقائق، هو
جدير بما وصفناه، لكن ربما توهم منه الغبي أنه يقتضي تفضيل أويس على
الصحابة في هذا المقام الذي أثنى به عليهم الملك العلام وأنَّى لأويس -على فضله -
بذلك؟ ! والذي يتجلى لنا في الجواب ما نقصّه عليك مفصلاً تفصيلاً.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: كنا إلى عهد نشر هذه المناظرة في المنار نأخذ جُلّ كلام الشيخ محيي الدين بالتسليم وما ننكره - وهو أقله - نتأوله أو نأخذ فيه بقول من قالوا: إن المراد منه غير ظاهره. وقد منَّ الله تعالى علينا من قبل إعادة طبع هذا منه - أن صار عندنا كغيره من العلماء والصوفية نحكّم في جميع أقوالهم الدليل، ولله الحمد.(2/12)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التربية والتعليم
(التربية)
هي مساعدة القوى التي من شأنها أن تربو وتنمو على بلوغ الكمال في
نموها المستعدة هي له في أصل الفطرة والخلقة، وذلك بإزالة الأسباب التي تعيق
النمو أو تنحرف بالقوى عن جادة الاعتدال المطلوب، وبإمداد هذه القوى بما تغتذي به
من المواد (في القوى المادية) والمعلومات (في القوى المدركة العاقلة) الخارجة
عنها. وأحوج العوالم الحية إلى التربية الإنسان؛ لأن سائر الحيوان والنبات يصل
غالبًا إلى كماله في الجملة من غير تربية إلا الطبيعة، وما يهبه البارئ تعالى للحيوان
الأعجم من الإلهام.
أما الإنسان فهو - كما مر في مقالة (العروة الوثقى) - عالم صناعي في
جميع أطواره الجسدية والروحية، فمتى أُطلق علم التربية ينصرف لتربيته، وإن كان
الكثير أو الأكثر من النبات والحيوان يصل بتربية الإنسان له إلى درجة من الكمال
لا يرتقي إليها بنفسه إذا تُرك لطبيعته، ولعِلْمَيْ تربية النبات والحيوان أسماء أخرى
عند الذين قسموا العلم.
اختلف علماء التربية في ابتداء تربية الإنسان: أتكون من يوم العلم بالحمل به
أو من يوم يولد؟ وأرى أن هذا الخلاف لفظي؛ إذ لا خلاف بينهم في أن أحوال الأم
الجسدية والنفسية يكون لها أثر في نمو الجنين واستعداده؛ ولذلك يأمرونها بالرياضة
المعتدلة وتناول الأغذية اللطيفة وعدم التعرض لما يهيج بالانفعال ولا سيما الخوف
والفزع والحزن. وكأيِّن من وليد خرج ذا عاهة لم يكن لها من سبب إلا ما ألمَّ
بوالدته وهي حامل به. ومن جراء هذا سنبتدئ مباحثنا في تربية الإنسان بالكلام
على الحوامل وما ينبغي لهن بعبارة واضحة تفهمها السيدات وإن كن غير متعلمات.
(التعليم)
له إطلاقان: أولهما: إمداد القوى المدركة بعرض الأشياء عليها تدريجًا بالقول
والفعل بحيث تدركها وتقدر عن التصرف فيها قولاً وعملاً (كل شيء
بحسبه) وهذا المعنى داخل في مفهوم التربية ويشمل، تعليم العلوم الاعتقادية
والأدبية والفنون الصناعية.
وثانيهما: علم أساليب التعليم وطرقه القريبة، وهو فن نفيس ارتقى المشتغلون
به الدرجات العلى في العلوم والفنون، حيث أمكنهم تحصيل الكثير في الوقت
القصير، ولا يأذنون في أوربة وأمريكة بالتدريس والتعليم إلا لمن أتقن هذا الفن في
مدارسه التي أنشئت له. هذا، ونحن لا علم لأكثرنا بأن أساليب التعليم قد وُضع لها
علم مخصوص، واختيار المعلمين عندنا يكون بالشفاعات التي تُبنى غالبًا على
كون هذا المعلم مستحقًّا للمساعدة المالية لفقره أو كونه من الأسرة أو الطائفة الفلانية
مثلاً. وأبعدُنا عن معرفة التعليم هم الشيوخ الذين يعلّمون الدين وفنون اللغة
في الجوامع والمساجد.
وسنكتب في ذلك نُبذًا مفيدة إن شاء الله تعالى في الأعداد الآتية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/15)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحوادث والأخبار التاريخية
أهم الحوادث الخارجية:
ما نُكبت به دولة فرنسة في 5 مارس وهو احتراق خمسين ألف كيلو من
البارود في دار الصناعة البحرية في طولون، حصل منه انفجار عظيم كانفجار
البراكين دمر به في المدينة مسطح عشرة آلاف متر وهلك جميع مَن في دار
الصناعة من الجند والصناع وخلق كثير من غيرهم. وأما الخسائر فهي عظيمة لا
تكاد تُقدر، وقد أرسل الملوك والأمراء رسائل التعزية لحكومة فرنسة على المصاب
بعد تعزيتهم لها على موت رئيس جمهوريتها السابق فلكس فور الذي مات قبل هذه
الحادثة الهائلة بأيام. وقد قام الفرنسيس يكتتبون لجمع المال من أول يوم وقعت فيه
النكبة إعانة للمصابين وإغاثة لأهالي المنكوبين، فهكذا تكون الحياة الوطنية، وهذا
هو الفرق بين الإنسانية والحيوانية.
وأهم الحوادث الداخلية:
ثبوت وقوع مرض في جدة يشبه الطاعون، وقد سمي طاعونًا كما كان في العام
الماضي، وضربت المحاجر على ما يرد من جدة، وأخذت الحكومة المصرية
الاحتياط كالعام الماضي، ونقل البرق أنه قد حدثت إصابة في مكة أيضًا. نسأل الله
السلامة.
اقتُرح علينا أن نفتح في المنار بابًا للسؤال والاقتراح، وجوابنا أننا نقبل ما يرد
علينا من الأسئلة والاقتراحات، ونُدخلها في الأبواب التي تناسبها.
__________(2/16)
6 ذو القعدة - 1316هـ
18 مارس - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإيثار
(تتمة لما سبق)
إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب:
(الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء
الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه
غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد.
(الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف
والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه
أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين.
(الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ
تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار
بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور.
فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس
به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون
الأولى في الأمة.
ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته.
ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى
الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ
بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة
غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم
تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون
مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى:
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار
هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي
وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم
في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره
مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي
رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا
الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول
الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي
فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من
فلان وفلانة [1] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار
على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم.
قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة
في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على
الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب
الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي
ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه
الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال.
والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم
الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم
يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل
أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في
حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح
مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه،
ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم
البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف
بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران
الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق
بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ
محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل
أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد
يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف
المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل.
وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء
سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء
الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع
والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران
البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت
والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛
لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن
منصور الحلاج [2] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية
على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني
وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص36) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة
الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛
لأنه خاص بأهله، ثم قلنا:
ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في
الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به
تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد
مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا
يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه
هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم
قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة
لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا.
وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء -
الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً.
بين تبذير وبخل رتبة ... وكلا هذين إن زاد قتل
ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها
حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في
جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح
الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان -
حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة،
بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف
التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة
غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل
بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ
فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: 29) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ.
فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن
المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا
فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ
- يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل
كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه
بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في
الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى
مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) فسرنا العجب أو الضحك في الطبعة الأولى بالرضا والقبول على طريقة الأشعرية ومذهب السلف أنه عجب أو ضحك يليق بكماله وتنزُّهه عن مشابهة.
(2) حاشية للطبعة الثانية: الذي ترجح عندنا بعد كتابة هذا بسنين أن الحلاج كان دجالاً محتالاً.(2/17)
الكاتب: أبو حامد الغزالي
__________
حقوق الأخوة
(الحق الثاني) في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال،
وتقديمها على الحاجات الخاصة. وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها
القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح
وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضِها فكبِّرْ عليه واقرأ
هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} (الأنعام: 36) وقضى ابن شبرمة حاجة
لبعض إخوانه كبيرة فجاءه بهدية فقال: ما هذا؟ ! قال: لما أسديتَه إليَّ. قال:
خذ مالك - عافاك الله - إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ
للصلاة وكبرْ عليه أربع تكبيرات وعُدّه في الموتى! قال جعفر بن محمد: إنى
لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني. هذا في الأعداء،
فكيف في الأصدقاء؟ !
وكان في السلف مَن يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم
بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا
عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يَرَوْا من أبيهم في حياته. وكان الواحد منهم يتردد
إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم مِلح، هل لكم حاجة؟
وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر
الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن
مهران: (مَن لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته) وقال صلى الله عليه وسلم:
(ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب، فأحبّ الأواني إلى الله تعالى
أصفاها وأصلبها وأرقها) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها
على الإخوان.
وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك وأهم من حاجتك، وأن
تكون متفقدًا لأوقات الحاجة، غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك،
وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك
قمت بها ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، تتقلد منه بقبول سعيك في حقه
وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة، بل تجتهد في البداية
بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد.
كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا. وقال عطاء: تفقدوا
إخوانكم بعد ثلاث؛ فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا
نسوا فذكِّروهم. روي أن ابن عمر كان يلتفت يمينًا وشمالاً بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه. فقال:
(إذا أحببت أحدًا فسلْه عن اسمه واسم أبيه وعن منزله؛ فإن كان مريضًا عدته
وإن كان مشغولاً أعنته) وفي رواية: (وعن اسم جده وعشيرته [1] ) وقال الشعبي
- في الرجل يجالس الرجل، فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه -: تلك
معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: مَن أحب الناس إليك؟ قال: جليسي. وقال: ما
اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إليَّ فعلمت ما مكافأته من الدنيا.
وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت
عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة
إلى تمام الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في
مسرة دونه، بل يتنغَّص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه. اهـ. من (الإحياء)
فهكذا تكون الأخوة، وهكذا تكون آداب الأمم في طور الحياة، وكأنِّي بالذين في
قلوبهم مرض تنفر نفوسهم من هذه الآثار، ولو نقل مثلها عن الإفرنج لأُعجبوا بها
وتنافسوا فيها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه الترمذي عمن قال: إنه لا نعرف له رواية. والخرائطي والبيهقي بسند ضعيف.(2/22)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحبالى وتربية الأجنة
(1)
نعني بتربية الجنين:عناية الحامل به بصحتها لما؛ لذلك من التأثير في صحته.
فقد قلنا في الجزء الماضي: إن لأحوال الأم الجسدية والنفسية أثرًا في نمو الجنين
واستعداده. ولا نعني بالأحوال النفسية إلا ما مثّلنا به من نحو الخوف والحزن لا ما
هو شائع من أن أية شهوة من شهوات الوحمى تؤثر في الجنين حتى تظهر صورة
المشتهى في جسده إذا هي لم تصبه؛ ولذلك يجتهد الناس في إنالة الوحمى كل ما
تشتهي. ويستدلون على هذا بحكايات قصاراها أنها تنهض استقراءً ناقصًا لا يثبت
به المدعى قطعًا. ولكن المعقول الذي يريده العلم أن الانفعالات القوية تؤثر في
الصحة، ويتبع هذا تأثيرها في الجنين، وبيانه باختصار: أن الجهاز التناسلي يتأثر
بالانفعال الشديد كالجهاز العصبي والهضمي وغيرهما، وهو في أثناء الحبل يكون
مشغولاً بأداء وظيفته؛ فما يطرأ عليه إما أن يساعده في عمله، وإما أن يعوقه عنه.
ولا يحسبنَّ الحبالى أن أقل كدر عادي أو حزن عارض أو خوف خفيف يؤثر
في أجنتهن فيستولي عليهن الوسواس كلما ألمّ بهن شيء مما لا يخلو عنه الإنسان في
الغالب. كلا، إن الجنين شخص مستقل في نفسه صلته بأمه صلة المظروف
بالظرف، وإنه يتغذَّى من دمها؛ ولذلك لا يؤثر فيه إلا ما يحدث أثرًا في الدم الذي
يتغذى به، وحصول هذا نادر، أو في الرحم الذي هو بيئته ووطنه، وما كل انفعال
يُحدث هذا الأثر، نعم، إن الأمراض الوراثية وما يطرأ على الأعضاء ولا سيما
البطن من نحو ضرب ووكز ولبس الثياب الضيقة إذا كانت تضغط البطن؛ كل ذلك
مقطوع بسوء تأثيره وضرره، ومن العلماء مَن زعم أن كل ما يعرض لعضو من
أعضاء الحبلى ينقل منها إلى مثله من الجنين، فعلى الحامل أن تراعي ما
سنذكره في النبذة الآتية في الجزء التالي لهذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/24)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم بالعمل
جاء في الحدث الشريف: (مَن عمل بما علم ورثه اللهُ علمَ ما لا يعلم) ويؤثر
عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أنه قال: (يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا
ارتحل) ، وقد أخذ الإمام هذا الأثر من مفهوم الحديث. وغاية ما انتهى إليه
الباحثون في فن التعليم أن الأعمال هي التي تطبع ملكات العلم والعمل في النفوس،
وأن المسائل العلمية التي تعرض على العقول من طريق السمع مرة أو مرات - لا
تكاد تثبت، وإذا ثبت بعضها فإنما يكون كآلة موجودة في بيت رجل لا يُحسن
استعمالها، بخلاف ما إذا عرضت المعلومات بأعيانها أو أمثلتها عند الكلام عليها
وكلف المتعلم أن يستعمل علمه ويطبقه على المعلومات. وهذا مما أرشد إليه النبي
والإمام من 13 قرنًا واهتدى إليه الأوربيون من عهد قريب.
فمَن أحب ألا ينسى ما يتعلمه من قواعد العربية مثلاً فليُكثرْ من الأمثلة في
كل مسألة، وليراعِ القواعد في كلامه بالتكلف قولاً وكتابة؛ حتى تنطبع في نفسه،
وتصير ملكة راسخة يصدر عنها الكلام العربي الصحيح بغير رويَّة ولا تكلف،
ونحن نرى الذين لا ينهجون هذا المنهاج يقضون أعمارهم في مدارسة الفنون
العربية، ولا يحسنون قولاً ولا كتابة. ولا بد في تحصيل ملكة الفصاحة والبلاغة من
كثرة قراءة الكلام البليغ مع تفهم معانيه وملاحظة أساليبه ومناحيه.
ومعرفة القواعد تعين على هذا ولكنها لا تفيد في الوصول إلى المطلوب بدون
هذا العمل، فكأيِّن من أستاذ قرأ كتب السعد وغيرها مرارًا وهو أعيى باقل،
وأعجز عن الكتابة البليغة من صبية المدارس. وقد أحسنت نظارة المعارف المصرية
بحظرها على معلمي العربية الكلام العُرفي (البلدي) في أثناء الدروس،
وإلزامها إياهم بأن يجعلوا شرح الدروس وتلقينها للتلاميذ بالكلام العربي الصحيح.
وأجدر بشيوخ الأزهر الأفاضل ونحوهم من معلمي المدارس الدينية - أن يكونوا هم
السابقين إلى هذه السُّنة الحسنة، وعسى أن يتداركوا ما فاتهم من السبق في البداية،
بالسبق والتبريز في النهاية؛ فإن السبق في نفس العمل المقصود خير من السبق
في الابتداء والشروع.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما قيل في الخال
قال مظفر الأعمى:
لا تحسبوا شامة في خده طبعت ... على صحيفة خد راق منظره
وإنما خده الصافي تخال به ... سواد عينيك خالاً حين تنظره
وأحسن منه في هذا المعنى قول بعضهم:
صقيل الخد أبصر مَن رآه ... سواد العين فيه فخال خالا
وقال ابن حمديس:
يا سالبًا قمر السماء جماله ... ألبَستني في الحب ثوب سمائه
أشعلت قلبي فارتمى بشرارة ... علقت بخدك فانطفت في مائه
ومثله قول المقري في مزدوجته:
وما أرى في خدك اليسار ... أنقطتا مسك بجلنار
أم ذاك لهيب النار ... رمى شرارتين في الأوار
... ... ... ... فانطفتا في ماء ذاكالورد ...
وينظر إليه قول الأستاذ الشيخ عبد الغني الرافعي الشهير وأحسن ما شاء:
وما نقط ذاك الخال في الخد خلقة ... ولا حيلة جاءت بها صنعة السحر
ولكننا لما اجتمعنا عشية ... وقدمت من أهوى اعتناقًا إلى صدري
تقاطر دمعي فوق جمرة خده ... فكان سواد الخال من ذلك القطرِ
وينظر إلى قول المقري: (أنقطتا مسك بجلنار) قول بعضهم:
ومهفهف من شعره وجبينه ... يبدو الورى في ظلمة وضياء
لا تنكروا الخال الذي في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء
وقال ابن رشيق في خال تحت الحنك:
حبذا الخال كائنًا منه بين الـ ... ـخد والجِيد رقية وحذارا
رام تقبيله اختلاسًا ولكن ... خاف من سيف لحظه فتوارى
وأحسن منه في بابه قول الشاب الظريف:
وبين الخد والشفتين خال ... كزنجي أتى روضًا صباحا
تحير في الرياض فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا
ويناسبهما قولي في الخال تحت الشعر:
والخال لص شام ثغرك ضاحكًا ... فأتى ليسرق منه ذاك الجوهرا
لكنه خاف اللحاظ وقد رأى ... آس العذار مخيمًا فتسترا
وقال غوث الدين العجمي في العذار والخال:
لهيب الخد حين بدا لعيني ... هوى قلبي عليه كالفراشِ
فأحرفه فصار عليه خالاً ... وها أثر الدخان على الحواشي
وللشيخ ناصيف اليازجي معنى في الخال غريب وهو:
مليح شهدنا أن نارًا بخده ... لأنا وجدنا بينها فحم خاله
وأنت ترى أنه أهان الخال ونقصه قدره، وهو ذنب لا يغفره له عشاق
الحسان، ويستحق عليه الهجر من الغوان! وقريب من هذا قوله:
في خدها نار المجوس التي ... قام لديها الخال كالموبذان
وقال في مطلع قصيدة وأحسن ما شاء:
ما بال تلك الشامة الخضراء ... في النار وهي كأنها في الماء
وقد تفننوا في تشبيه الخال بالمسك والعنبر، ومما قاله ابن سهل في ذلك من
قصيدة:
غزال براه الله من مسكة بري ... بها الحسن منا مسكة المتجلدِ
وأبدع فيها الصنع حتى أعارها ... بياض الضحى في نعمة الغصن الندي
وأبقى لذاك الأصل في الخد نقطة ... على أصلها في اللون إيماء مرشدِ
وله في الخال أيضًا:
لا أرى الخال فوق خد ... يك ليلاً على فلق
إنما كان كوكبًا ... قابل الشمس فاحترق
__________(2/26)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجامع الأزهر الشريف
من جملة التنظيم الجديد في الأزهر الامتحان السنوي لمن شاءه من طلاب العلم
فيه، ويمتحن في العلوم والفنون التي يختار الطالب أن يمتحن فيها، وقد خَصص
مجلس إدارة الأزهر ستمائة جنيه لمكافأة النابغين في التحصيل سنويًّا. ويؤخذ من
الرقيم الذي رفع من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع إلى عطوفة رئيس مجلس
النظار أن الذين طلبوا الامتحان في العام الماضي كانوا نحو ستمائة وامتحنوا في
ثمانية عشر علمًا. وأما الذين طلبوا في هذا العام فكانوا 1502 وامتحنوا في ثمانية
وعشرين علمًا، والذين نجحوا يعرفون بحساب النسبة المئوية مما يأتي:
الناجحون في علم التوحيد 18 في المائة، وفي علم التفسير 19 (نحذف لفظ
في المائة اختصارًا) والحديث 66، والفقه 50، والميراث 78، والنحو 47،
والصرف 26، والمعاني 75، والبيان والبديع، 49، والمنطق 43، ومصطلح
الحديث 60، والحساب للسنة الأولى 62، وللسنة الثانية 80، وتقويم البلدان
(الجغرافية) للسنة الأولى 65، والثانية 85، والهندسة 70، والميقات 75،
والتاريخ 85، والعَروض والقافية 70، وعلم الإنشاء 25، والخط 77، والأخلاق
الدينية 50، وآداب البحث 75. وفي كل من علم الحكمة والوضع والاشتقاق نجح
جميع الذين امتحنوا، ولم ينجح في علمي الجبر والمقابلة والهيئة أحد ممن امتحنوا،
ولم يحضر للامتحان في علم أصول الفقه أحد ممن كان طلبه!
والذين طلبوا الامتحان في كل من التفسير والحديث ومصطلحه والميراث
والبديع والعروض والقافية والتاريخ والإنشاء والميقات كانوا فوق العشرين ودون
المائة - وفي كل من علم الأصول والحكمة وآداب البحث والوضع والاشتقاق،
والأخلاق الدينية والجبر والمقابلة والهيئة أقل من عشرة، والذين امتحنوا في كل علم
مما عدا هذه العلوم - لا سيما التوحيد والفقه والنحو والمنطق والبيان والحساب
والهندسة وتقويم البلدان - يعدون بالمئات.
أما أخذ المكافآت فهو بحسب درجات التحصيل التي تقدر ويعبر عنها (بالنمر)
وقد جعلت الدرجة الثانية عشرة (نمرة 12) علامة النجاح، وكل من انتهى إليها
في العام الماضي أخذ المكافأة التي أقلها جنيه واحد، وأكثرها ثلاثة.
وأما في هذا العام فقد خصصت المكافأة بالنابغين لقلتها وكثرة الطالبين،وجعلت
درجة النبوغ 16، فأصحاب الدرجة 12 إلى 15 عدوا ناجحين غير نابغين فلم
يستحقوا مكافأة، وأصحاب الدرجة 16 فما فوقها أخذوا المكافآت على هذه الطريقة
العادلة، وهي أنه جمعت درجات النبوغ في العلوم كلها وقسم عليها مبلغ المكافأة
بتمامه، فما أصاب الدرجة الواحدة جعل سهمًا لمكافأة النابغ في فن واحد بدرجة
واحدة، فمن بلغت درجاته في العلوم التي امتحن فيها مائة مثلاً نال مائة سهم،
وهكذا، وظاهر أن هذه الطريقة أعدل وأحكم من الطريقة الأولى؛ لأن كل طالب
يأخذ فيها على قدر استحقاقه.
هذا ملخص الرقيم، ويسرنا منه حسن النظام الذي يجري عليه مجلس إدارة
الأزهر الشريف، ونرجو أن يترقى به إلى أعلى درج النجاح الممكن، فإن النظام
روح السعادة في أعمال الإنسان وساءنا أن الذين امتحنوا في علم الأخلاق - وإن
شئت قلت: علم الدين - جمعهم جمع، قلة؛ بل علمنا أنهم أربعة أخذ الجائزة منهم
اثنان، وعسى أن يكون في الأزهر ممن لم يطلب الامتحان عدد كبير من المشتغلين
بهذا العلم؛ فإنه هو الأساس الذي يقوم عليه بناء السعادة الدنيوية والأخروية.
__________(2/28)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الحج والوباء)
اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه
مجلس الصحة البحرية ضروريًّا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما
كان المنع من الحج منعًا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرًا إلا
بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب عطوفتلو رئيس مجلس النظار لحضور
الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار
المصرية والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية والشيخ عبد القادر الرافعي
رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من
المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار وهي
بحروفها:
الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم
وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه
على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا
المرض متى كان مستطيعًا.
وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول
على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا.
وأيضًا فإن النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول
أو الخروج كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: (وإذا
خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن عَلِمَ أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا
بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتُلي به كُره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج) اهـ. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في 2
ذي القعدة سنة 1316.
(المنار)
ولو قيل بجواز المنع إذا تحقق أن فيه المصلحة العامة لنِيطَ بالإمام الأعظم؛
لأنه من وظائفه ولم يكن لغيره أن يُقْدم عليه إلا بإذنه، وسوف نشرح هذه المسألة
في مقالة نكتبها في موضوع (ثبوت العدوى) إن شاء الله.
***
ورد على صاحب الدولة الغازي مختار باشا رسالة برقية من دولة والي
الحجاز ملخصها أن الاحتياطات الصحية في جدة في غاية الإتقان، وأنه لم يُصب أحد
في مكة بعد ذلك البخاري، وأن الوفيات في جدة بين واحدة واثنتين في اليوم، ورسالة
أخرى في 15 مارث ملخصها أنه لم يحدث في جدة إصابة ولا وفاة في تاريخها.
***
كتبت (ثمرات الفنون) الغراء مقالة وجيزة في (الانتقاد والجرائد) ومما
انتقدناه عليها فيها أنها جاءت بنبذة من (العروة الوثقى) في أطواء الكلام ولم تسندها
إليها أو تميزها بوضعها بين قوسين ليعلم أنها تضمين.
***
يؤخذ من الجرائد الإنكليزية أن سفير إنكلترا الجديد في الآستانة آنس من
الحضرة السلطانية ارتياحًا؛ لما أبداه لها من رغبة دولته في إعادة الوداد السابق بين
الحكومتين.
***
صدر الأمر العالي بفصل (تفتيش الوادي) عن نظارة المالية وإلحاقه
بديوان الأوقاف العمومية، ولكن بشرط أن تتولى نظارة الأشغال العمومية أعماله،
لتصلح شؤونه إحدى عشرة سنة، ثم يتولاه ديوان الأوقاف مباشرة.
***
وقفنا على قصيدة لطيفة في التهنئة بولي عهد الخديوية حرسه الله بعين
عنايته الأبدية، لناظمها الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندي نجل الأستاذ الكامل
الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي قاضي مديرية الغربية الشرعي مطلعها:
بزغت شموس الأنس من أفق الهنا ... وتبسم الإسعاد أي تبسم
ومنها وفيه تاريخ هجري:
فالكون أرّخ مصر يُنبي سعدها ... بولي عهد القطر (عبد المنعم) (1316)
(وختامها)
راق الهنا أرخ له شمس الكما ل محمد الأفضال عبد المنعم
(1899)
فنعتذر بضيق المقام عن شرحها كلها، كما نشكر لحضرة الناظم ما تفضل
علينا به من تقريظ المنار وتهنئتنا نظْمًا ونثرًا بإكماله السنة الأولى.
***
رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء - تعتذر فيها عن العلماء
الذين أهملوا وظائفهم الدينية بما يمثل الذنب ويؤيده، وسنرد عليها في العدد الآتي
إن شاء الله تعالى.
__________(2/30)
13 ذو القعدة - 1316هـ
25 مارس - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأثير العلم في العمل
] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [[1]
أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم
الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده
ومجموعه صحيحة منطبعة في النفس بتكرر العمل أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه
أعمال جليلة وآثار جميلة. ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام أو غير
منطبعة في النفس لعدم التربية عليها والعمل بها والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار،
فلا جرم أن الأعمال تأتي مختلة سيئة. والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة
الجاهلة بعيدة عن السعادة.
العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على
جزئياته من الشكوك التي لا تُنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أن أكثر
الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو
كان هذا العلم صحيحًا كاملاً لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك
تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة
يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس
والأرواح؛ لأن كل صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملاً
بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس
أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإن النزيه ربما ينطق
بالسب والهجر من القول لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده،
وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم ولا تنحرف بهم
عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ} (النساء: 17) .
خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أن
العلم لا يؤثر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنهم على شيء
من العلم ويمارون في القول؛ لأنه جاء مجملاً، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من
التمثيل.
إن الذي يعلم علمًا ناقصًا أن الحسد والكبر هو (غمط الحق واحتقار الناس)
رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها
من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر ويرى أنه غير حاسد
ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل فيقول في الحق الذي غمطه
ولم يخضع له - لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنه ليس بحق.
وينتحل ما تجود به قريحته من الشبه لإثبات أنه ليس بحق، وإذا لم يجد شبهة يطفئ
بها نور؛ الحق لقوة شعاعه يقول: إنه حق ولكن جاء في غير وقته ووضع في
غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته بل لأنه لم يأتِ على منهاج الحكمة. (وكأن الحكمة مختصة به لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور) ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إن ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره لم
أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به.
والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا وأعماه عن
جزئيات رذائله - أن ما وقع منه لو عرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم
بأنه حسد وكبر لا يحتمل التأويل وعجيب أن مثل هذه التعلاَّت تصدر من أمثل
العلماء. اجتمع الأستاذ فضيلتلو الشيخ حسين أفندي الجسر محرر جريدة طرابلس
بالسيد جمال الدين الحكيم الشهير فقال له السيد: إن جريدتكم قد جمعت بين الكفر
والإيمان! تكتب مقالة في تحريم الكذب وقبحه ثم تُملأ بعد ذلك بالكذب وغش الأمة
بمدح الجهلاء الأشرار الذين تجعلهم أئمة علماء: وأتقياء صلحاء. قال: (وإننا لا
نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نعطِ كل ذي حق حقه، فنقول في العالم: عالم.
وفي الجاهل جاهل وهكذا) فقال له الأستاذ المحرر: (إن هذا تَقِيَّة؛ لأن مَن
عنيت مُضِرُّون يُخشى شرُّهم) فقال له السيد: (التقية مذهب الشيعة) .
ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله حتى ما تصدر عنه
آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت - أن عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش
والمنكرات وهم يسلمون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في
الغالب إلا لأن علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين عارضتها وصارعتها
فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة فإنهم
يسمعون من الوعاظ والخطباء أن مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن
صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين - السنة السابقة والسنة اللاحقة - ومن صام
يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأن من سبّح كذا في وقت كذا غفرت له
ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأن الله يعتق في كل ليلة من رمضان
كذا، والمجموع يستغرق الأمة، وكالشفاعات فقد توسع فيها الوعاظ والقُصَّاص وفي
الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه بعد
الشفاعة لأهله وخلانه. ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم
الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع
(كما بيناه في مقالات سابقة) وبعضه له معانٍ صحيحة لا يترتب عليها هذا الغرور
الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان. مثلاً: إن ما ورد في
المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تكفَّر
هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات
كأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور والكذب والخيانة وعدم الوفاء بالوعد؛ فإن
مثل هذه لا تكفر إلا بالإقلاع عنها ورد الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين
عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يباح للإنسان معها كل شيء، ولبطلت فائدة
النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل.
كيف يصح أن نقول: إن حركة اللسان بكلمات أو صيام يوم أو أيام يكفر هذه
السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء وأنزلت بها صواعق البلاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى
وحج واعتمر: وقال إني مسلم - إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)
رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتج به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ
أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)
وظاهر هذا الحديث أن مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة ولا يغني
عنه ادعاء الإسلام والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة كالصوم والصلاة والحج، ولكن
العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به (النفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن
يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث
ورفْض له.
وأما العفو وشفاعة النبي - وهي عبارة دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله
تعالى له - فالحكمة في الأول أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنه إذا يئس
يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه والحكمة. في الثانية إظهار كرامة
للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسنة طافحان
ببيان ما يرتضيه تعالى وما لا يرتضيه ونكتفي هنا بقوله تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8) على أن العفو والشفاعة مبهَم
أمرهما، والأصل أن الجزاء على الأعمال {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ (الشعراء:214)
فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا،
يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني
عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا،
يا فاطمة يا بنت محمد سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا.
وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء الذين تتغير انفعالاتهم
ويمكن للمقرب منهم أن يؤثر في نفوسهم ويحملهم على ما يريد منهم ونحو هذا مما
هو ممتنع في جانب الله تعالى - هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات
جهرًا اتكالاً على عفو الأمير أو السلطان أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد
المقربين إليه؟ ! كلا، إن مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة
لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان أو المقرب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أن العفو
يناله، بل إنه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا
يتقيد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين سبحانه
وتعالى. وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أن العمل إنما ينشأ عن العلم
الأثبت والأقوى في النفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية
التي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28)
وحديث: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .
ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أن العلم الصحيح السالم من
الشوائب والعلل هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصح أن
يستدل بأعمال الأفراد وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها
وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أن سعادة الأمم
بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق
والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق وتقويم العادات وتصحيح العقائد التي يُبنَى
عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على
ذلك حديث: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء
ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي
الشقاء. فثبت بهذا كله أن مبدأ ما حل بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط
إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه
واصطلام الجراثيم التي يتولد هو منها؛ ولذلك جعلنا من مقاصد جريدتنا الأولية بيان
تقصير العلماء وأسبابه، والبحث في العلل التي أفسدت التعليم وحالت بين المتعلمين
وبين غايات العلوم والفنون التي يتدارسونها، ومزج هذه المباحث بلوم العلماء
تارة، وحثهم على الإصلاح تارة أخرى، وقد رأينا من أفاضل علماء مصر
المنصفين - وبلغنا عن مثلهم من علماء تونس والهند - استحسان عملنا هذا
وتقريظه، وأنه يُرجى الانتفاع به؛ فزادنا هذا نشاطًا واجتهادًا، والله يهدي مَن
يشاء إلى صراط مستقيم.
__________
(1) (فاطر: 28) .(2/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس
كم أداوي القلب قلَّت حيلتي ... كلما دويت جرحًا سال جرحُ
ذكرنا في العدد الماضي أننا رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء -
أي: طويلة مظلمة باردة، تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم في
إرشاد الأمة وتزعم أنهم غير مؤاخَذين بترك الواجب عليهم لأوهام وتخيلات، ذكرتها
ولولا خشية انخداع الناس بقولها وتوهم صاحبها أنه جاء بحق مقنع؛ لما تعرضنا للرد
عليها ولكن هذه المسألة التي تنفيها هي ونثبتها نحن (مؤاخذة العلماء بترك إرشاد
الأمة الذي هو مناط سعادتها بالاتفاق حتى من جريدة طرابلس) - هي القطب الذي
يدور عليه ما نرجوه من إصلاح حال الأمة؛ ولذلك نرى من الواجب أن نزيح عنها
شُبه المشتبهين، ونزيل تمويه المموهين {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) ؛ أي، ليظهر للمرتاب - في كونه
مؤاخَذًا- أنه مؤاخَذ، فيكون هلاكه بترك الواجب إذا هو تركه عن بينة، وحياته
بالقيام به إذا هو فعل عن بينة، والله سميع لأقوالنا عليم بنياتنا؛ فيجازينا عليها.
أما كون المقالة باردة فقد عنينا به ما فيها من التنديد بأحد الكُتاب ونبزه
بالألقاب. وقد انبعق قلم كاتب المقالة في هذا، ونضح إناؤه بما لعله يعيبه على غيره
إذا هو صدر منه، وعهدنا بأناته أنه لا ينطق بمثل ذلك الكلام إلا إذا غلب على
أمره بانفعال شخصي قوي، أما المصالح العامة فإنه فيها هين وكلامه لين. وأدب
الشرع في الوعظ معروف، وهو الشدة في الكلام العام الذي يوجه إلى صِنف من
الناس بحسب درجة انحرافهم، حتى جوَّز لعن الفاسقين ولم يجوِّز لعن كافر
معين بالشخص أو الوصف الذي يتعين به، ويا ليت شِعْري هل يقول: إن رمي
أحد الناس بالغلظة والفظاظة والسفه والحُمق - يكون من الرقة واللطافة
والحلم والعقل التي ينضح بها إناء الإنسان الكامل؟ !
وأما كونها مظلمة فلما فيها من العسلطة، واشتباه الحق بالباطل وتمويه
الصواب بالخطأ الذي يرمي الأمة في هوة اليأس والقنوط؛ بزعمها أن العلماء
سقط عنهم وجوب إرشاد الأمة مع الاعتراف بأن نهوض الأمة منوط بإرشادهم،
وأن التبعة ينبغي أن تُلقى على الأغنياء، وعللت ذلك بقولها: (إن المطالب أولاً
وبالذات بالإنشاءات العمومية التي بها نجاح الأمة هم أهل الثروة وذوي (كذا)
الغِنى) ثم اعترفت: (بأن أرباب الثروة ليسوا كلهم عارفين ثمرات تلك
المشروعات العمومية) وأنهم يحتاجون إلى موقظ ينبههم من هذا السبات، وأنه (ليس
ثمة من موقظ من ذلك الإيقاظ ومنبه ذلك التنبيه وباعث ذلك البعث - إلا قيام العلماء
نافذي الكلمة؛ يعظون المواعظ الحسنة ويخطبون الخطب الطنانة ويتكبدون مشاق
الأسفار وينشرون في الجرائد خطاباتهم دون إسرار) وأنت ترى أن هذا يرجع
باللائمة على العلماء أولاً وبالذات خلافًا لقوله الأول؛ لأن الأغنياء لا ينبعثون
إلى العمل إلا بإرشادهم كما قال فهم المطالِبون بالإصلاح قبل كل أحد.
إن صاحب العلم الإجمالي عندما يتكلم في مسألة غير محيط بأطرافها، وعلى
غير بيِّنة من جميع دخائلها وعوارضها ربما يحتج على النفي بما يقتضي الإثبات،
وعلى الإثبات بما يقتضي النفي، ويقر بالشيء في معرض الإنكار وينكره في معرض
الإقرار؛ فتأتي في تضاعيف كلامه القضايا الصحيحة في غير مواضعها، فلا يكاد
يستفاد منها، ولكن عندما تقوم الحجة عليه بنفي شيء أو إثباته - يتنصل ويخطِّئ
صاحب الحجة مستدلاً بأنه قال كذا في مكان كذا! ومن هذا القبيل ذكرت جريدة
طرابلس أن المطالب بنجاح الأمة - أو وبالذات الأغنياء - فإنه لا معنى لذكره في
مقام رقع التبعة عن عواتق العلماء إلا إذا كان صحيحًا على إطلاقه، لكنه ليس
بصحيح؛ لأن الأغنياء يحتاجون قبل ذلك إلى مَن يعرِّفهم بمنافع الإنشاءات العمومية
كالمدارس والمصانع، وقد اعترفت الجريدة بذلك كما علمت، وأهم من هذا حاجتهم
قبل ذلك إلى تهذيب يجمع كلمتهم وينفخ فيهم روح الثقة الوطنية؛ فإن أهل الشرق
الآن لا يكادون يثقون في الأعمال العمومية إلا بالأجانب!
الأعذار الثلاثة:
اعترفت الجريدة المذكورة بأن الواجب على العلماء إرشاد الخلق إلى مصالح
المعاش والمعاد، ولكن زعمت أنهم بتركه معذورون وبتفويته (كذا في الأصل) غير
موزورين وانتحلت لذلك أعذارًا ثلاثة نذكرها ونبين فسادها:
(العذر الأول) ملخصه أن العلماء - في الغالب - ليسوا أصحاب ثروة، وأن
أغلبهم يعيش من نحو تدريس أو إمامة أو خطابة ومداخيل (كذا في الأصل) ، هذه
الوظائف قلّ أن تزيد عن الكفاية، قال الكاتب: فإذا أرادوا أن يقوموا في تلك
(كذا) الوظيفة التي نقول: إنها واجبة عليهم. وهي وظيفة تحتاج لتفريغ أوقات
كثيرة للقيام بالخطب والمواعظ ونشر المقالات الحادثة في الجرائد وتجشُّم أسفار -
فمَن يا تُرى يقوم بمصارفهم (كذا) إن قاموا بتلك الأعباء؟ ! .. إلخ.
الجواب:
إن هذا العذر ممثل للذنب تمثيلاً لا يدع للتمويه والانتحال سبيلاً؛ ذلك أن ما
هو مورد رزقهم من الخطابة والتدريس لو قاموا به حق القيام لأدوا الواجب عليهم
للأمة، ولكن دروسهم وخطبهم هي مما يفسد الأخلاق والأعمال بما تنفثه من سُم الجبر
باسم القضاء والقدر والتكسيل عن العمل بحجة الزهد والتوكل، والتجرئة على
المعاصي بالتمنية بالشفاعات والمكفرات، والإياس من قوة الأمة وترقيها بما يزعمون
من أن سعادة الأمة وعزتها لا يكونان إلا على يد المهدي المنتظر، وأن هذا الشقاء
الذي وقعت فيه لا مفر منه؛ لأنه علامة على قرب الساعة وانتهاء الزمان، ولأن
القاعدة المقررة أنه لا يمضي يوم إلا والذي بعده شر منه، ونحو ذلك من التعاليم
الغامضة والفاسدة المنتشرة في الكتب والخطب وبها، يعظون ويعلِّمون. وقد فصلنا
القول في بعضها، وموعدنا - ببيان سائرها - الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى.
سبحان الله! كيف يعتذر بمثل هذا العذر سوري وأكثر العلماء المدرسين في
سوريا لا يقرؤون الدروس الوعظية إلا في شهر رمضان، ويأخذون من مال الأوقاف
أجور سنة كاملة، ويقضون معظم أوقاتهم في البطالة، وشأنهم في نواديهم وسُمَّارهم
الخوض مع الحائضين في اللغو واللهو، فهل نظرت للواقع - يا أستاذ طرابلس -
وراقبت الله تعالى عندما قلت: إن قيامهم بالواجب منه السفر الذي هم عاجزون عنه
لفقرهم؟ ! ورتبت على هذا أنهم عاجزون عن القيام بوظيفتهم على الإطلاق، وقلت
إن: (أهل الغفلة لا يعذرونهم وإنهم عند الله لمعذورون) ، ألا تذكر - يا أستاذ
طرابلس - أننا اقترحنا عليك أن تقرأ للطلبة في مدرستك درسًا في أخلاق الدين
كالجزء الثالث من الإحياء فاعتذرت بضيق الوقت، فقلت له: استبدل هذا الدرس
بدرس مقامات الحريري القليل الجدوى، فاعتذرت بما ملخصه أن التلامذة يستثقلون
مثل هذا الدرس ولا يرتاحون له، مع أن هذا العلم فرض عين وتعليمه من فروض
الكفاية، ولم يقم به في بلدك أحد، ومرت السنون ولم تقرأ في الأخلاق شيئًا، قلت:
لا يكفي مجرد وعظ العلماء في دروسهم المقامة في بعض المساجد لقلة مَن حضره.
فهل تقول مثل ذلك أيضًا في خطب الجوامع إن كنت تحب إرشاد الناس؟ ! فاعقد
بالله مجلس وعظ بعد صلاة الجمعة، واجعلْه كل أسبوع في مسجد وانظر أيجتمع
عليك الناس أفواجًا أفواجًا أم لا؟ ! قل لي - يا رعاك الله - هل يُنقص هذا من
رزقك الذي تأخذه من الأوقاف أو من خزينة الدولة أو من المطبعة والجريدة؟ وهل
تخشى منه على عيّلك الفقر والمسكنة.
اللهم بصِّرنا نفوسنا وأرنا الحقائق كما هي كيلا نضل ونشقى.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/39)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أيها الفتى
ما هذا اللهو واللغو، والفرح والمرح؟ ! تميل كالغصن مع الهوى. وأنت
ريَّان من ماء الشباب والصبا. ولكنك لا تجد على نار الحوادث هدى. أتحسب أنك
خُلقت عبثًا. أو أنك تترك سدى؟ ! كلا، إن أمامك خطوبًا فادحة. ونصالاً جارحة.
وأثقالاً بَيْتية ووطنية. تنوء بالعصبة أولي القوة، ولكن سُكر الشباب يفعل ما لا
يفعله سكر الأكواب. فهو الذي جعل في أذنيك وقرًا وعلى عينيك غشاوة. وران
على قلبك ما تعمل من السيئات. وتجترح من الخطيئات. تصور أن هذه الفتاة
الهيفاء والغادة الحسناء التي تغازلها وتناغيها. وتسايرها وتجاريها - ستكون ربة
بيتك. ومربية ولدك. ومالكة زمام أمورك، سعادتك بيدها. وراحتك في راحتها.
وشرفك بشرفها. ومستقبل ذريتك بآدابها ومعارفها. أفتحسب أن هذه الغر التي تميل
مع كل ريح. وتلين لكل صبيح أهل لما يُطلب منها. وكفؤ لما يناط بها؟ !
أفتحسب أنها - بعد أن تتشرف بالاقتران بك تتغير طباعها. وتنقلب أوضاعها.
وتتبدل صفاتها. وتستحيل ملكاتها. أم ترضى بها قرينة على ما تشاهد من علاَّتها.
وتعلم من هفواتها وسيئاتها؟ ! كلا، إنك سادر [1] في غفلتك، ملتخ [2] في سكرتك،
لا تفكر في أنك تجني على نفسك، وعلى جميع أبناء جنسك بإفساد آداب الفتيات
بتعرُّضك لهن حتى في الطرقات. وستذوق مرارتها في بيتك. إن لم تقلع عنها من
وقتك (دقة بدقة، ولو زدنا لزاد السَّقَّا) [3] .
***
أيتها الفتاة
لقد طوى الزمان الذي كان قدرك فيه مجهولاً. وجنسك اللطيف عند أهله
مفضولاً أو مرذولاً. وجاء زمان تنبه فيه الفضلاء والعظماء لما للمرأة من الشأن
الكبير في الارتقاء. وأنتِ مستقبلة عصر الكمال. الذي فيه يظهر سر قول النبي:
(النساء شقائق الرجال) ولكن من سماء عقلك يُشرق بدره. ومن بين ثناياك اللامعة
يتنفس فجره؛ لأن والدتك - وأعيذك بفضلك - جاهلة. وعن مقامها في المجتمع
الإنساني غافلة. فاعذريها على جهلها. ولا ترضي بأن تكوني مثلها. أتدرين - يا
سيدتي - بماذا يرتفع قدرك في هذا الزمن. وتكونين عقد زينة في جيد الوطن؟ !
إذا سألت عمتك (الست هانم) عن هذا السؤال، تقول لك: إن الذي يرفع المقدار،
ويستلفت الأنظار إنما هو تجعيد الطرة وعقص الذوائب. وكحل العيون وتزجيج
الحواجب. وحسن الالتفات والتثني. وأساليب الدلال والتجني. واللطف في
الإشارة. والظرف في العبارة. وإن خفة الحركات هي زينة البنات. وما وراء ذلك
إلا الثياب الحريرية. والحلية الذهبية والجوهرية. ولكن عمتك غالطة كالسيدة
الوالدة؛ فإن هذه الأمور هي التي أضرت بالوطن من قبل؛ لأن المرأة التي تجعل
همها في هذه الأمور، وتحسب أنها كالرياحين والزهور - ما خُلقت إلا نزهة للناس.
وزينة للحواس. يدل حسبانها هذا على أنها رضيت بما دون رتبة الحيوان. (أي:
حيث رضيت أن تكون قيمتها قيمة الزهر وهو من النبات والحيوان أشرف منه) ،
فكيف يقبل حكمها في رفعة شأن الأوطان. وهي من خصائص الكاملين من نوع
الإنسان؟ !
ولكن إذا سألت (المدام) فلانة أو تربك (المدموازيل) عن هذا
السؤال نفسه تسمعين جوابًا عجيبًا؛ لأنها تقول لك: إن قدر الفتاة إنما يكون رفيعًا
بعلومها وآدابها وفضائلها، وباستعدادها لمساعدة الرجل على إسعاد منزله وأهله
وإسعاد وطنه وأمته، فإذا كانت غير متخلقة بالأخلاق الفاضلة كيف يمكنها أن
تغرس فَسِيل الفضائل في نفوس أبناء الوطن الذين يعهد إليها بتربيتهم من يوم
يوجدون بحكم الطبيعة والشريعة معًا؟ وإذا كانت لا تعرف قيمة العلوم والفنون
والآداب التي تسعد بها البلاد فهل يخطر في بالها أن ترغِّب أولادها في ذلك وتسلك
بهم في هذه المسالك؟ ! بل ربما قالت لك حضرة المدموازيل: إن الفتاة كالفتى،
والمرأة كالرجل والوطن يطالبهما بحقوقه مطالبة واحدة؛ فيجب أن ترشح الفتاة نفسها
لأي عمل من الأعمال العظيمة النافعة التي يقوم بها الرجال حتى الأعمال
الحربية والسياسية. لكن هذا الأخير إفراط عظيم يقابله ما ترين عندنا من التفريط
والإهمال. والصواب أن البيت مثال المملكة الجمهورية؛ فالرجل هو الرئيس وناظر
الخارجية (أي: ما هو خارج البيت) ووظيفة المرأة نظارة الداخلية. والممالك
العظيمة إنما تتألف من هذه البيوت، فمتى كانت الحياة فيها سعيدة سعدت بذلك المملكة
كلها.
هذه إشارة لطيفة إلى مقامك السامي - أيتها الفتاة - وأفضل ما تستعدين له هو
تربية الأولاد، بل هو أفضل الأعمال كلها، والاستعداد له إنما يكون بمعرفة عقائد
الدين الصحيحة والتخلق بأخلاقه الفاضلة والتأدب بآدابه الكاملة ثم معرفة مبادئ
الفنون لا سيما حفظ الصحة وتدبير المنزل والحساب والتاريخ، فإذا التفت إلى هذه
الأشياء ووفيتها حقها من العناية؛ عرف لك الوطن العزيز حقك، ورقاك فضلاؤه إلى
الأوج الذي تستحقين ولا يغرنك هؤلاء الشبان الأغرار الذين يختالون في الشوارع
والمهايع ويرمون بأبصارهم إلى الكُوَى والنوافذ يفتنون الفتيات الغافلات،
ويستهوون السيدات المصونات. فليس تحت طرابيشهم المائلة إلا أحلام (عقول)
سفهة وأخلاق سافلة. وسيذهب فساد طباعهم وقبح أعمالهم. بما بقي لهم من
دثورهم وأموالهم. فويل لمَن اتصل بهم وقرب منهم، وهنيئًا لمَن إذا عرفهم قلاهم
وبعُد عنهم.
__________
(1) السادر: المتحير والذي لا يبالي بما صنع؛ ومن معانيه الذاهب عن الشيء ترفُّعًا عنه، والسادر ثوبه؛ أي: السادل له.
(2) يقال: سكران ملتخ؛ أي: طافح مختلط لا يفهم شيئًا لاختلاط عقله.
(3) يُحكى أن شيخًا عفيفًا صادف في الطريق امرأة فقبَّلت يده، فغمزها بيدها الناعمة، ولما بلغ منزله وجد السَّقَّاء يغمز يد امرأته؛ فقاله، فسار مثلاً.(2/43)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(الوشاح في شرح عروض المِفتاح)
أهدانا نسخة من هذا الكتاب مؤلفه حديثًا العالم الفاضل القاضي ظفر الدين
أحمد أستاذ الكلية الشرقية بلاهور، الهند ولما تتسنى لنا مطالعته فقصارى ما نقول
في هذا المقام: إن إحياء كتب فرسان البلاغة وجهابذة علوم اللسان (كالعلامة السكاكي
صاحب المفتاح) بالشرح والدرس - عمل شريف تحيا به اللغة العربية إن شاء الله
تعالى.
ثم نشكر لحضرة الأستاذ فضله. ونثني عليه كما أثنى علينا بما هو أهله، ومن
الله نسأل تحقيق ما أمله في خدمتنا (المنارية) من جمع كلمة الأمة الإسلامية.
ولا غرو؛ فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) وعد لمَّا
يتحقق كما قال بعض المحققين الأجلة. ولا بد من تحقيقه بفضل الله تعالى.
***
(الجامعة العثمانية)
ظهر العدد الأول منها يتدفق بالمباحث المفيدة لا سيما مباحث التربية والتعليم
التي نحن أحوج إليها من كل شيء، وأحسن تقريظ لها أن ننقل نبذة من أنفع نبذها
وأفيدها، فإليكها نموذجًا حسنًا، قال الكاتب:
(إن المدارس الأجنبية في بلاد الدولة العثمانية قد صنعت خيرًا عظيمًا، ولكنها
قد صنعت شرًّا عظيمًا أيضًا. فعلينا أن نجد دواءً لهذا الداء، قد أنشأ الغرب للشرق
مدارس يعلم فيها أبناء الشرق الميل عن دولتهم إلى دولة غريبة عنهم، فلتنشئنَّ - أيها
العثمانيون - بإزاء تلك المدارس مدارس جديدة، يكون أساس تعليمها حب الوطن
والأمة، وتعليم ما هو الوطن وما هي الأمة. لنؤسس مدارس جديدة نُدخل إليها طرق
التعليم الحديثة ووسائل التربية الحديثة، وندخل إليها قبل ذلك عناصر الأمة كلها،
فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروسًا واحدة ومبادئ واحدة؛ حتى تكون بعد
خروجها من حياة المدرسة إلى الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة، فإن هذا هو
السبيل إلى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم أو الهدم) .
فشكرًا لك - أيها الكاتب الفاضل - ونجَّح الله تعالى الجامعة العثمانية بمبادئك
الصحيحة.
***
(أنين مظلوم)
جريدة ظهرت في القاهرة تشكو من ظلم رجال الدولة لا سيما في ولاية بيروت،
وتستصرخ مولانا السلطان الأعظم طالبة تفويض الأعمال إلى الأَكْفَاء الصادقين.
وعسى أن يكون كلام صاحبها صادرًا عن غيرة صحيحة وتألم حقيقي، فعهدنا
بالذين ينشئون الجرائد للطعن بالحكام والشكوى منهم أنهم طلاب رزق ووظيفة أو
رتب ووسامات، كما ثبت ذلك للدولة العلية بالاختبار؛ ولهذا ارتفعت الثقة بكلام
أمثال هذه الجرائد من الدولة والأمة، فاشتبه الحق بالباطل والإخلاص بالنفاق، ولا
علاج لهذا إلا أن تقرر الدولة حرمان أصحاب الجرائد عمومًا من الرتب والرواتب
والأعمال والوظائف؛ لينقطع أملهم مما وراء عملهم وثمراته الذاتية، فمن أحسن
ونجح في عمله فحسبه إحسانه شرفًا وكسبًا، ومن ساء فعليه ما يلاقيه من الجزاء،
وما دامت الدولة تغدق النعم على السفهاء منعًا لسفههم؛ فإنها تغري بذلك غيرهم،
فتضيع الأجور ويكثر الفجور ومحاولةُ إرضاء جميع الناس غرورٌ.
__________(2/46)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار الحجاج
بلغ عدد الحجاج الذين قصدوا الأقطار الحجازية عن طريق الإسكندرية لغاية 16
الجاري 7602، والذين برحوا هذا الثغر في ذلك اليوم فقط 801، منهم 509
عثمانيون و136 مصريون و58 روسيون و40 فارسيون و29 من الزولوس و26 من
البوسنيين و3 من البرتغاليين.
أما الذين سافروا من القاهرة فيبلغ عددهم إلى اليوم نحو الثلاثمائة حاج. ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المؤيد
__________(2/48)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اعتذار
ضاق هذا العدد عن النصائح والوصايا التي أعددناها للحبالى، وعن باب
الأخبار والحوادث، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله تعالى.
__________(2/48)
20 ذو القعدة - 1316هـ
1 إبريل - 1899م(2/)
الكاتب: أحد علماء الأزهر
__________
الاتحاد
لأحد أفاضل العلماء المدرسين في الجامع الأزهر الشريف
الاتحاد هو الاتفاق على أمر من الأمور وبه يقوى هذا الأمر ويعظم، إلا أنه
تارة يكون ممدوحًا وتارة يكون مذمومًا، فإن كان المتفق عليه ممدوحًا كمقاومة العدو
الصائل كان ممدوحًا، وإن كان مذمومًا كالسلب والنهب واللهو واللعب ومنع خير
وجلب شر كان مذمومًا. ومما هو في المرتبة العليا في المدح - اتفاق أهل المملكة أو
المدينة أو المنزل على ما به صلاح مملكتهم أو مدينتهم أو منزلهم وعلى ما فيه
حفظها من الاضمحلال والتلاشي مما يضمن لهم بقاء المجد والشرف ويحفظ لهم
القوة والمَنَعَة، ألا وهو تدبير أمورهم بالقوانين العادلة والأفكار النيِّرة والتحابُب
والتوادد وعمل كلٍّ لنفسه ولغيره من أهل مملكته أو مدينته أو منزله، فيجتمعون
بالروح والجسد على من له العراقة في الإمارة عليهم، المحافظ على ترقيهم ومجدهم،
ويساعدونه في تدبير أمورهم بالقوانين المرضية مخلصين له ناصحين لا يتساهلون
فيما فيه النفع العام ولا يتغافلون عما فيه الضرر اللاحق بهم وبغيرهم، ولا يتخالفون
فيما بينهم لغرض نفساني أو حظ مالي؛ فتفتر همتهم وتضعف شوكتهم فيكونون
عرضة لتسلط الغير عليهم وتمكنه منهم واستيلائه عليهم، فيصيرون في ربقة الرق
ذليلين مقهورين لا يُبالَى بهم، ولا يكترث بكبيرهم ولا صغيرهم، ولا يُعتنى بشريفهم
ووضيعهم، ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يُؤْثِر أحدهم نفسه بالعمل فيعمل لحظ
وقتي له يراه وقت العمل ثم يكون كالهباء المنثور، بل كالسراب يحسبه الظمآن ماءً
وهو عدم، بل يعمل لأمته ومستقبله لا لنفسه فقط؛ لأن الإيثار ليس من الكمال في
مثل هذا، ولأن وقته الحاضر قد انكشف له ما فيه وظهرت له شؤونه إن كانت سارة
أو ضارة، وأما المستقبل فلم ينكشف له ما يكون فيه؛ فحقه أن يعمل ما يحفظ له حاله
فيه بحسب طاقته.
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده ... وليس عليه أن يساعده الدهر
فيا ذوي الأبصار، يا أولي الأنظار، عليكم بالتأمل في تقلبات الدهر وحوادثه؛
فإنه يكون لمن اتحدت كلمتهم واجتمعت قلوبهم، ويكون على من اختلفت كلمتهم
وتنافرت قلوبهم، فوحدوا كلمتكم واجمعوا قلوبكم {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وسارعوا جميعًا إلى ما به حفظ الأمة والدين كما
تسارعون إلى ما به حفظ المال والبنين، ولا يقعدكم عن هذا الانهماك في اللذات
والتقلب في الشهوات؛ فإن الإنسان ما خُلق للشهوة واللذة لما فيه كمال النفس التي
هو بها إنسان من التخلق بالأخلاق الحميدة التي منها عدم الاسترسال في الشهوات
واللذات، بل يأخذ من ذلك قدرًا يسيرًا يروِّح به نفسه فقط ويردعها عما زاد؛ لأن
الزائد تتعاصى به عليه فلا يطيقها فتجره إلى ما ليس فيه كماله وحفظ عشيرته، ولا
يحول بينكم وبين ذلك توهم أنه يصيبكم مكروه؛ فإن الإنسان لا يصيبه إلا ما قدر
عليه حتى لا تكونوا أكلة ذئب ولا فريسة أسد، لا سيما العلماء؛ فإنهم أئمة لغيرهم
ويُقتدَى بهم ويُهتدَى بهديهم، فعليهم أن يتحدوا وأن يتخلوا عن الرذائل والدناءات،
وأن يتجردوا من التعصب ورد الحق على قائله، وأن يتبعوا الخطة الحميدة والطريقة
المفيدة؛ ألا وهي ما أمر به أمير البلاد وخديويها المعظم، وارتضاه مشاهير العلماء
من ترك قراءة الحواشي وصرف الزمن في المناقشات والمشاغبات؛ فإنه اشتغال
وضياع للوقت في خدمة كلام المخلوق، وإعراض عن الاشتغال بكلام الخالق،
وتفويت للإحاطة بأحكام الشريعة الغراء والفنون الأدبية.
وما يتوهم من أن الاشتغال بالحواشي يقوي الذهن دون ما دعاهم إليه مجلس
إدارة الأزهر - فغلط أَوْقَعَهُمْ فيه حكم العادة التي شبُّوا عليها وذلك لأنه بترك
الحواشي والمناقشات يتيسر لهم الاشتغال بالفنون العقلية من الحساب والهندسة،
فتفيدهم في الذهن قوة أكثر مما يستفاد بالحواشي؛ ولذا كان الحكماء يشتغلون
بالرياضيات قبل العلوم الحكمية وقد أمرهم أمير البلاد بالخطة الجديدة لأجل أن يكون لهم إحاطة بالعلوم وترقٍّ في المعارف؛ ولأنه رأى ما لم يروه من تعييب أهل الوقت لخطتهم حتى كان من الحسن عندهم تفريق هذا الجمع، فعسى أن يلتفت قومنا
لما هو الأحرى والأنفع دنيا وأخرى.
__________(2/50)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس
(تتمة ما سبق)
(الاعتذار الثاني) ملخصه: إذا شرع العلماء في الخطب في المجامع
والنوادي، وركبوا الأخطار للمواعظ، ونشروا المقالات في الجرائد والدفاتر،
واجتمعوا للمذاكرة وتدبير شؤون الأمة واستنباط القواعد المتكفلة بالإصلاح،وجمعوا
الثروة لإقامة الشركات العمومية وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
قالت (طرابلس) :
(لا سيما لأهل السطوة والنفوذ، وشدوا على الكثير من فاسدي الأخلاق،
وحاولوا نزع خلالهم الفاسدة عنهم إلى أمثال ذلك من الشؤون التي يرجى عندها
نهضة الأمة، فهل يروق ذلك منهم في كل نظر، ويساعدون عليه من أهل البدو
والحضر، أو يعارضون أشد المعارضة ويقصدون بالأذى من ذوي الشرور وحقائب
الريب والعيب، ولا يقوم بمساعدتهم إلا من لا تجدي مساعدته نفعًا، وربما نسب إليهم
أنهم جماعات إفساد ودسائس ضد الحكومة أو الأمة أو مثل ذلك ويرشقون بسهام
الملام من أكثر الأنام حتى يقول قائلهم: ما لهؤلاء القوم يتعرضون لما لا يعنيهم. إذا
منوا بالأذى ظهرت الشماتة بهم حتى من أهليهم وقيل: هكذا جزاء التعرض لما لا
يعني الإنسان. فما كان أغنى هؤلاء العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) اهـ.
الجواب:
إذا كان وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطًا بأن
يروق عند الشروع فيه في كل نظر، ويساعد عليه أهل البدو والحضر كما يفهم من
صريح كلام الجريدة (طرابلس) ، فلا شك أن الوجوب ساقط عن العلماء بل لا
ريب في أن هذا الفرض لم يتحقق شرطه في عصر من الأعصار. وإن إيجابه في
الشرع لا معنى له، ولكن هذا الشرط لم يقل به شرع ولا عقل، فذِكره في معرض
الاعتذار عن العلماء وبيان سقوط الوجوب عنهم - لغو لا معنى له وأما المعارضة
والقصد بالأذى؛ فالأولى منهما لا معنى لذكرها أيضًا، ولكن القصد بالأذى محل نظر
ويحتاج القول فيه إلى تفصيل نكتفي بموجز منه؛ لأن كلامنا مع أهل العلم، فنقول:
أولاً - لأن القصد بالأذى لأجل الإرشاد غير محقق، وإنما هو احتمال يصح أن
يفرض وقوعه في كل عمل.
ثانيًا - أن القصد لا يوجب الإيقاع لاحتمال الموانع من جانب القاصد أو
المقصود أو الأحوال الخارجية.
ثالثًا - أن الأعمال الواجبة على العلماء كثيرة جدًّا، وغير جائز أن يكون كل
عمل متروك منها يعود على فاعله بالضرر والأذى، فيجب على العالم أن يأتي ما
يغلب على ظنه السلامة فيه حتى إذا ما ساوره البلاء وواثبه الإيذاء وتحقق أنه لا
يستطيع الغلب - يعدل عنه إلى عمل آخر.
رابعًا - أن الأذى أو الضرر الذي يخافه من يقوم بخدمة الأمة له درجات
سنفصل القول فيها عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونكتفي هنا
بقول أئمة العلماء: إن توقع الإيذاء الشديد حقيقة كالضرب المُبَرِّح والقتل والسلب
إذا غلب الظن بأَمارات واضحة - يُسقط وجوب الحسبة ويبقى الاستحباب، وأما
الرشق بسهام الملام - الذي يخاف منه أستاذ طرابلس وذكره في الاعتذار - فلا يسقط
الوجوب. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: (ولو تُركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب
فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله - لم يكن للحسبة
وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفكّ الحسبة عنه) .
ثم إن ما نحن في أشد الحاجة إليه من إرشاد العلماء يحصل بإصلاح التعليم
والخطابة الجمعية وكثرة المذاكرة في مواضيع الإصلاح في المنتديات والسّمار، ولا
خطر على العلماء في شيء من ذلك إلا في دار السلطنة حيث يمنع الاجتماع والكلام
في الإصلاح الذي يمس السياسة فقط، فعليهم أن يستبدلوا ما لا خطر فيه بما فيه
الخطر. ووراء هذا كله نقول: أين وراثة النبوة التي هي مفخر العلماء؟ أَمَا كان
الأنبياء يُضربون في سبيل تعليم الحق وإرشاد الناس ويهانون ويسبون ويشتمون
ويهجرون ويطردون بل وكثير منهم يقتلون؟ أليس العلماء أحق الناس بالأخذ
بآية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} (الأحزاب: 21) أما يعلم صاحب الأعذار أن رسوله أوذي في الله فأُلقي عليه سلا
الجَزور وهو يصلي ورمي بالأحجار وأُلجئ إلى ترك وطنه وشج رأسه وكسرت
رباعيته؟ أين الذين لا يخافون في الله لومة لائم؟ هل يرضى العلماء أن يكونوا
ممن قال تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) ؟ إذا كانوا يعلمون أن الله اشترى من
المؤمنين أموالهم وأنفسهم وكلفهم بأن يبذلوهما في سبيل الحق فكيف يعرضون عن
عمل يعترفون بأن فيه قوة الملة ومنعتها وعزها وشرفها إجابة لداعي الوهم وإخلادًا
إلى الراحة والكسل، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .
(العذر الثالث) ملخصه: كما في أسئلة جريدة طرابلس ما ترى: (هل لديك
من يضمن حسن العاقبة لهؤلاء الأخيار ويؤمّنهم على مستقبل حالهم إن تجشموا هذه
الأخطار) تأملوا - أيها الناس - وتعجبوا: (وتالله لئن كان لديك - أيها اللائم
حضراتِ العلماء على تقصيرهم المزعوم - من يضمن لهم أمر معاشهم ومعاش
عيالهم ويؤمنهم على حياتهم وشرفهم إن هم قاموا بما به عليهم حكمت أني أنا
الضمين بأنهم يتهالكون على إرشاد الأمة وبعث نفوس أهل الثروة إلى خدمة الأوطان
والسعي على مقتضى نوايا جلالة السلطان - نصره الله تعالى فهم - والله - ليسوا
في هِمَمهم دون همم سواهم من وعاظ الغرب، ولا أقل نشاطًا ولا أضعف قوةً، بل
فيهم الهمم العالية والنفوس السامية والإيمان الذي يحملهم على إخلاص النصيحة إن قدروا وسلموا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) .
الجواب:
إن هذا العذر مبني على سابقيه؛ لأن حاصل العذر الأول أن الإرشاد المطلوب
يتوقف على الثروة فإن كان يوجد من يمد العلماء بالمال؛ فإنهم يقومون به. وحاصل
الثاني أن الذي يقوم بالإرشاد يكون عرضة للوم اللائمين وإيذاء المفسدين واتهام
المتهمين (وما أغنى العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) نعوذ بالله من الغفلة،
وأما الثالث هذا فحاصله أن القيام بالإرشاد يشترط لوجوبه مع احتمال ما ذكر من
الأخطار أن يكون هناك ضامن يضمن للمرشد ولعياله حياتهم ومعاشهم وشرفهم،
ويدخل في ضمان الشرف ضمان الألسنة اللائمة والقلوب الشامتة، ولا شك أن
شركات الضمان الأوربية التي تضمن الأموال والأعمار إلى أجل مسمى لا تُقْدم على
ضمان الألسنة والقلوب التي يخاف صاحب طرابلس من لومها وشماتتها. فإن كان
يتنزل لنا عن ضمان الألسنة والقلوب اتباعًا لحكم الشرع واسترشادًا بنور العقل -
فإننا نضمن له ما عداهما.
ليؤلف في بلده جمعية من العلماء الذين وصفهم بما مر عنه، وليبحثوا في
أساليب التعليم النافعة والخطب المفيدة، وليتعاهدوا على التعاون بما يظهر لهم أنه
الأنفع، ثم ليعملوا، وليكن مما يتعاهدون عليه أن يكون كلامهم في النوادي والسمار
في مصلحة الأمة والملة عوضًا عن الكلام الذي يضيعون به الحياة العزيزة، وهو ما
نعلمه نحن ويعلمه هو. ليكفوا عن جعل الخطب في فضائل الشهور وبعض وقائع
الدهور. وليجعلوها سهلة العبارة. خالية من غريب المجاز والاستعارة ولا يتكلفوا
فيها التسجيع ولا أنواع البديع؛ ليفهم الناس جميع ما يقولون ويعلموا أنهم به
مخاطَبون، لا أنه مقصود بالذات، مكفر بأسراره للسيئات. ليجعلوا الخطب
والمناظرات والدروس والمذاكرات في هذه الأمراض الروحية والأدواء الاجتماعية
وفي مناشئها من العقائد الزائغة ومثاراتها من طريق الإرشاد الرائغة وبيان الحق بالحجج البالغة وزهق الأباطيل بالحقائق الدامغة. ليبينوا للناس حقائق التوحيد
والتوكل والزهد والتواضع والاقتصاد؛ ليعلموا أن مراعاة سنن الخلقة والتمسك
بالأسباب الظاهرة هو طريق السعادة في الدنيا، كما أن موافقة الأعمال للشريعة
الحقة هو سبب السعادة في العُقبى، وأن طلب الشهادتين بغير هاتين الوسيلتين غرور
وأن الكسل والذل والخمول والسرف والمخيلة والاحتجاج بالقدر والاستعانة بغير
الله تعالى والاعتماد على العفو والشفاعات مع التقصير في العمل - كل ذلك من
أسباب الشقاء والخذلان.
ولينظروا (أي: العلماء) مع ذلك في طرق التعليم والتأليف الجديدة،
ويعتمدوا على أقربها وأفيدها، ويرشدوا الناس إلى ما هم في أشد الحاجة إليه من
الفنون الرياضية والطبيعية، ويوضحوا لهم أن الدين والدنيا لا يُحفظان إلا بها.
هذه إشارة إلى ما تطلبه الأمة من العلماء، فهل يقول أستاذ طرابلس إن قيامهم
به يعود عليهم بالضرر والأذى -وإن الوجوب سقط عنهم لذلك أو يوجد ضامن يضمن
لهم ما ذُكر؟ إن كان يقول هذا فأنا الضامن له ولمن شاء من أهل بلده وغير بلده ما
سوى الألسنة والقلوب. حقًّا أقول: إنه إذا تدبر في الأمر فإنه يرجع عن أحكامه
واعتذاراته ويتثبت - بعد ذلك - في مثلها من الأحكام والإيمان وما يتذكر إلا مَن
ينيب.
__________(2/51)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اختيار المعلمين
لا ينبغي أن يكون الغرض من إنشاء المدارس إفادة التلامذة بعض مسائل من
العلوم والفنون التي تدرس فيها بحيث تكون تلك المسائل مخزونة في أذهانهم مع
سائر المعلومات التي يستفيدونها من خارج المدرسة في عامة أحوالهم. وإنما يجب
أن يكون الغرض من المدارس نفخ روح السعادة الإنسانية في التلامذة. ولا يُنفخ
هذا الروح إلا بتربية النفس وتهذيبها ثم دلالتها على طرق الحياة وكيفية سير الناس
فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المقصد من غير ضلال وبأقل تعب وعناء وبيان
قُطاع هذه الطرق التي تحول بين سالكيها وبين الغاية.
كل علم لا يهدي إلى طرق الحياة السعيدة فهو لغو، وأجدر به أن يسمى
جهلاً، والمشتغلون بهذا اللغو أو الجهل كثيرون بل هم الذين جعلوا العلوم والفنون
المرشدة إلى الأعمال النافعة لغوًا؛ إذ لا يوجد علم لا يهدي إلى عمل نافع للإنسان؛
فالعلم إما بيان للعمل اللساني أو العضوي أو القلبي، وإما ركن تستند إليه الهداية كعلم
العقائد، ولكن هؤلاء خرجوا بالعلم في التعليم والتأليف عن كونه مرشدًا هاديًا يبعث
الآخذ به ويزعجه إلى ما هداه إليه وجعلوه مقصدوًا لذاته. جعلوه عالمًا مستقلاًّ لا
مندوحة لمن يشرف عليه عن الانفصال عن العالم الوجودي. وعندما ينفصل عن
العالم الوجودي يمكنه أن يتصل بذلك العالم الخيالي (الذي يسمونه العلم) ويشاهد
بعض ما فيه من العجائب التي يتأتَّى له بها أن يحكم على بعض الجزئيات في عالم
الوجود بالصحة أو الخطأ إن هي عرضت له.
ويرى هؤلاء أن عالم الخيال الذي هو علمهم له الحكم والسلطان على عالم
الوجود. فإذا قرر بعض علمائهم مسائل مخالفة لما في الوجود، ولا تنطبق على سنن
الخليقة ومصالح البشر يذهبون إلى صحة ما قاله عالمهم وفساد ما في الوجود
والواقع، وإلى وجوب تبديل سنن الخلق وتحويل المصالح؛ لتوافق ما جال في خيال
المرحوم الأستاذ المؤلف، وهو في غرفته منقطعًا عن العالم أو ما أُلهمَه وهو في
خلوته بعيدًا عن الناس يستمد العلوم والحقائق من عالم الغيب، ولكن من عرف سنن
الخليقة يعلم أن محاولة تحكيم الخيال فيها عبث وجنون، وأن كل خيال يخالف الحقائق
ويصادم النواميس والمصالح جهل لا علم، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ولا في دينه
حرجًا.
تعليم أمثال هؤلاء مضر غير نافع فينبغي أن لا يفوض إليهم أمر التعليم فإنهم
إذا حكموا في نفوس الأحداث الضعيفة يجورون في الحكم ولا يعدلون، ويفسدون في
أرضها ولا يصلحون.
إن اختيار الأساتذة والمعلمين أهم ما تحتاج إليه الأمم المريدة للإصلاح
والطالبة للترقِّي كالأمم الشرقية عامة والمسلمين خاصة، أوّاه أواه! ينهض رجل
غيور محب للمجد الصحيح والكمال الحقيقي فيؤسس مدرسة وطنية لخدمة أمته
ورفعة شأنه فيختار لها مكانًا حسنًا، ويجلب لها من الأثاث والأدوات أحسن ما يكون
في أمثالها، وماذا يكون من أمره في اختيار المعلمين وهم روح ذلك الهيكل الحسن؟
ما هي المرجحات التي تلاحظ في الاختيار من صاحب المدرسة ومستشاريه؟ يختار
في الغالب من لديه شهادة بالتحصيل، ولهم الحق في ذلك؛ لأن أصحاب الشهادات
أعلم من غيرهم في الأكثر، فلا ينبغي العدول عنهم إلا لمن يفضلهم بالمزايا التي
سنذكرها، ثم يرجح من هؤلاء من يتصل بأهل الترجيح والاختيار بقرابة أو صحبة
أو من يتخذ وسيطًا من الوجهاء. ومن المرجحات المسلمة عند الشرقيين في مثل هذا
من الأمور العامة حتى أعمال الحكومة ووظائفها حاجة الرجل إلى التعيش بالوظائف
يقولون: فلان صاحب عيال، فلان من آل البيت الفلاني الذي انتابته
النوائب، فمن المروءة والكمال السعي في حفظ كرامته وإبقاء مظهره وبذلك نستحق
الأجر من الله تعالى، يقولون هذا ويعملون به وهم في غفلة عما يخربون من البيوت
بعمران هذا البيت وعما يذهبون به من كرامة الأمة كلها إذا كان الموظف غير أهل
لعمله، وعن حرمان الأمة من أبنائها النبلاء إذا لم يكن قادرًا على تربيتهم وتعليمهم
على الوجه الذي يكون هاديًا إلى سعادتهم وسعادة بلادهم.
أول ما تجب مراعاته في الأستاذ المعلم:
* حسن الخلق والآداب؛ فإن سيء الأخلاق يبني بتعليمه قصرًا ويهدم بإفساده
آداب التلامذة مصرًا.
* ويلي هذا معرفة أساليب التعليم وتمرنه عليها، فليس كل عالم يحسن التعليم.
* ثم معرفة جملة من علم الفلسفة العقلية وعلم الهيجين (مداراة الصحة)
ليعرف ما ينبغي أن يلقَّن للتلميذ بحسب سنه واستعداده العقلي.
* وبعد هذا وذاك يُشترط أن يكون الأستاذ واقفًا على أحوال عصره
الاجتماعية عارفًا بمواضيع جميع العلوم والفنون المتداولة فيه وغاياتها في الجملة،
لئلا ينفر التلامذة من غير الفن الذي يقرؤه لهم مما يكون نافعًا للبشر. ومعاداة العلوم
والفنون إنما تكون من الجهل بها، وهي من أكبر أسباب تأخر الأمم وضعفها لا سيما
إذا كانت من رجال الدين الذين يذمون ما يجهلون وينفرون عنه بحجة أنه مخالف
للدين، فتأخذ آحاد الأمة كلامهم بالقبول، فيُحرَمون من الإقبال على تلك الفنون النافعة
واجتناء ثمارها.
* وصفة أخرى من الصفات التي يرجح بها اختيار المعلمين وهي الغيرة
الملية والحمية القومية؛ فمن فقد هذه الصفة قلما تستفيد الأمة من تعليمه أبناءَها.
صاحب هذا النعت الشريف هو الذي ينفخ الكمال في جسوم التلامذة، ويحبب
إليهم أوطانهم، ويغرس في نفوسهم مبدأ الميل إلى المنافع العامة. وهذه الصفة من
كمال تهذيب الأخلاق الذي ذكرناه أولاً وإنما أفردناها بالذكر؛ لأن أكثر الناس لا
يخطر لهم هذا المعنى ببال عندما يذكر تهذيب الأخلاق، وقد قال بعض الباحثين في
فن التربية والتعليم من الإفرنج: إن مما تنبغي مراعاته في الأستاذِين: حسن
الوجه ونظافة الثياب لما لهما من التأثير في حب التلامذة لهم واقتدائهم بهم.
ولَعَمري إن حب التلميذ لأستاذه من أعظم أسباب انتفاعه به، ومن ينفر من
معلمه لأي سبب من الأسباب قلما ينتفع به.
هذا ما عَنَّ لنا في هذا المقام فعسى أن يلتفت إليه أصحابُ المدارس الوطنية
وطلابُ العلم المختارون في انتقاء الشيوخ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________(2/56)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وصايا للحوامل
أو تربية الجنين
1- تجتنب الحبلى المآكل الغليظة العسرة الهضم والكثيرة الدسم والتوابل،
ولا تزيد من تناول الأطعمة اللطيفة عن الاعتدال لا سيما في أوائل الحمل؛ حيث
تكون معرضة لسوء الهضم، وما تزعمه النساء الجاهلات من أن الحبلى تحتاج إلى
كثرة الأكل في أوائل الحمل خطأ، والصواب أن ضرر التخمة في أوله أكثر منه في
آخره، والاعتدال أسلم في كل حال.
2- تجتنب أشد الاجتناب شرب المسكرات؛ فإنها تهيج الدم وتكون
سببًا في قلة نمو الجنين فيأتي صغيرًا وضئيلاً، ولا تُكثر من شرب المنبهات
كالشاي والقهوة.
3- ينبغي أن تكون أوقات أكلها ونومها مرتبة ومعينة بانتظام.
4- تلبَس من الثياب والأحذية الواسع الذي لا يضغط الجسم والرجلين،
أما الجسم - لا سيما البطن - فظاهر، وأما الرِّجلان؛ فلأنهما في مدة الحمل يكونان
عرضة للتورم.
5 - تعتني بتنظيف جسمها، وتجتنب الاغتسال بالماء الحار والبارد؛ وفي
مهاب الهواء كالبحر والنهر، وأفضل الماء للاغتسال ما كانت حرارته كحرارة
الجسم أو تزيد قليلاً.
6- من أهم النظافة نظافة غرفة المنام وتجديد هوائها، وتعريضها للشمس؛ فإن
استنشاق الهواء النقي ضروري لحفظ الصحة.
7- من المهمات التي تهملها نساء الأغنياء الرياضة، وهي ركن من أركان
الصحة، وتتأكد العناية بها في وقت الحبل. أما نساء الفقراء فهن مضطرات إلى
الرياضة، وإنما يؤمرن بمراعاة الاعتدال في أثناء الحبل؛ لأن الرياضة العنيفة تضر،
وربما تفضي إلى الإسقاط، على أن اللواتي يعتدن الراحة والكسل أكثر تعرضًا
للإسقاط، وتألمًا من الولادة، فعلى الغنية الوهنانة (الكسلى من التنعم) أن تكلف
نفسها الرياضة المعتدلة ولو بالخدمة في البيت، وأن تمشي أحيانًا في الأماكن النقية
الهواء، وتجتنب العَدْو والوثبان والرقص. ونرى الكثيرات من الحوامل يقضين
معظم النهار مستلقيات، فيستولي عليهم الضجر والسآمة والإقهاء (فقد شهوة الطعام)
والاستلقاء أحيانًا لازم لا سيما عندما تثقل الحامل، وحيث يخشى من الإسقاط.
8- ينبغي الاحتراز من كل ما يهيج الانفعال الشديد كالخوف والفزع
والحزن، وذلك بالتباعد عن أسبابه، وبالتلاهي والتسلي إذا وقعت الأسباب.
9- ينبغي أن لا يحسب الحبل مرضًا من الأمراض، فتتوهم صاحبته أن
الأخطار محدقة بها؛ فإن هذا الوهم ربما يضنيها ويؤثر - إذا قوي - في جنينها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/60)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(دائرة المعارف)
كل مشتغل بالعلوم والفنون تعرض له عند المطالعة أو التأليف مسائل يحتاج
إلى المراجعة عنها في كتبها الخاصة بها، كما يعرض له ألفاظ مفردة لا يعرف
ضبطها أو معناها، فيفتقر إلى مراجعتها في معاجم اللغة، ولا يخفى أن في مراجعة
كل مسألة في كتب الفنون كلفة وإنفاق جزء كبير من الوقت؛ ومن ثم كانت الحاجة
شديدة إلى تأليف كتب في اصطلاحات العلوم والفنون، وأسماء المدن والأمكنة
والمعادن والنبات والحيوان، وتراجم مشاهير الرجال، وقد ألف علماء الإسلام في
كل نوع من هذه الأنواع كتبًا خاصة بها في أيام حضارتهم ومدنيتهم، ثم دالت العلوم
والفنون إلى الغرب فألفوا في ذلك كتبًا شتى، ومنها النوع الذي يسمونه
(إنسكلوبيديا) .
ولما اشتغل أهل المشرق بالعلوم الغربية لم يكن لهم بد من هذا النوع، ولم
ينتدب له من الناطقين بالعربية غير الحسن الذكر والأثر المعلم بطرس البستاني أحد
أركان النهضة العلمية الأخيرة في بيروت، فشرع في تأليف إنسكلوبيديا عربية
سماها (دائرة المعارف، قاموس عام لكل فن ومطلب) وساعده في ذلك ولده سليم
أفندي الذي كان خير مثال له في علمه وفضله وهمته وإقدامه. وبعد أن اخترمت
المنون الوالد ظل يشتغل بها الولد، ثم من بعده لم يؤلَّف إلا جزء واحد هو
التاسع، وتوقف العمل، ولكن بيت البستاني بيت العلم والهمة، وقد انتدب أخيرًا
لإتمام الدائرة منهم العلماء الأفاضل سليمان أفندي ونجيب أفندي ونسيب أفندي
فأصدروا الجزء العاشر على منوال الأصل في الفوائد والرسوم، ويزيد على الأجزاء
السابقة بما زاد في العلم من التحرير والاكتشاف وهو مفتتح بمادة (سليكون) من
حرف السين، ومختتم بترجمة السلطان (صلاح الدين) فنشكر لهؤلاء الأفاضل
سعيهم، ونرجو لهم النجاح والتوفيق لإكمال عملهم، وعسى أن يساعدهم قراء العربية في ذلك بالإقبال على الكتاب.
***
(تاريخ المشرق)
التاريخ من العلوم التي لم تبلغ كمالها إلا في الغرب، ولقد كان أقرب إلى
الأفاكية المسلية منه إلى العلوم المفيدة، فأمسى أعظم مرشد للناس في جميع الشؤون؛
لأنه هو الذي يشرح سير البشر في بداوتهم وحضارتهم، وفي علومهم وآدابهم
وأديانهم وأعمالهم، وما يحتف بها من أحوال معايشهم في كل قطر من أقطار
الأرض. وإن الأمم الشرقية في أشد الحاجة إلى كتب التاريخ المؤلفة على الطراز
الجديد النافع؛ لأنها ركن من أركان التقدم لا يقوم بدونه.
وقد أهدانا حديثًا الكاتب الشهير عزتلو أحمد بك زكي السكرتير الثاني لمجلس
النظار نسخة من ترجمته لكتاب (تاريخ المشرق) الذي ألفه بالفرنسية المسيو
ماسبيرو، وهو كتاب قد جمع على اختصاره ملخص التاريخ القديم لمصر والكلدانيين
والآشوريين والفينيقيين والماديين والفرس، وفيه من الرسوم والخرائط ما تتم
به الفائدة منه، وقد علق عليه جناب المترجم شروحًا في ضبط بعض الأسماء
المبهمة وبيان أصلها وغير ذلك مما لا غِنْية عنه، وقد قدرت نظارة المعارف الكتاب
المترجم قدرَه، فطبعته على نفقتها وأمرت بتدريسه في المدارس الأميرية.
فنشكر لحضرة المترجم فضله عسى أن يكون الشكر سببًا في المزيد.
__________(2/61)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحدود بين القطر المصري والسودان
جاء في جريدة الوقائع المصرية ما نصه:
صورة ما صدر من الداخلية لمحافظة النوبة بتاريخ 26 مارس سنة 1899
نمرة 9 إدارة بشأن الحدود الفاصلة بين مصر والسودان.
قد اطلعنا على إفادة حضرتكم رقم 14 مارس سنة 1899 نمرة 19 محاسبة
المتضمنة أنه بناءً على طلب جناب قومندان حلفا، وتنفيذًا للوفاق المبرم بين حكومة
جلالة ملكة إنكلترا والحكومة المصرية بتاريخ 19 يناير سنة 1899 فيما يختص
بالحدود الفاصلة بين مصر والسودان - قد تقرر فيما بين حضرة القومندان المُومَى
إليه وضابط بوليس التوفيقية من جهة، وبين مأمور فرقة أملاك الميري بمحافظة
ذلك الطرف ومعاون بوليس مركز حلفا من جهة أخرى على جعْل نهاية حدود بلاد
السودان شمالاً من الجهة الغربية على مسافة 200 متر شمالاً من البربه بناحية
فرص ومن الجهة الشرقية على البريّة الكائنة بناحية أدندان، وأنه وضع هناك
علامتان مكتوب على وجهة كل منهما الشمالية (مصر) والجنوبية (السودان)
وكان ذلك بحضور عُمد ومشايخ الناحيتين المذكورتين.
ونتج عن هذا أن ناحية فرص التي تتبعت للسودان تُرك من زمامها لمصر 3
أفدنة وقيراطان أطيانًا و58 نخلة، وترك السودان من زمام ناحية أدندان التابعة
لمصر 99 فدانًا و7 قراريط أطيانًا و150 نخلة، وأنه بهذا التحديد دخل حدود
السودان من بلاد المحافظة عشرة بلاد، زمامها 4094 فدانًا و12 قيراطًا و2 سهمًا
أطيانًا بما في ذلك 112 فدانًا و5 قراريط و11 سهمًا أطيانًا غير مربوطة و2206
نخلة ومقدار أهاليها 13138 نفسًا، وأنه بناءً على ما ذكر رأيتم تقسيم البلاد
الباقية من مركزي حلفا والكنوز على مركزين كما كانا حسب الآتي بعد:
أولاً: مركز حلفا يُسَمَّى بمركز الدر ويكون مقره ناحية كروسكو ويتبع له 22
بلدًا من أدندان إلى شاترمه شمالاً، حيث يكون امتداده 152 كيلو متر وزمامه
9117 فدانًا و10 قراريط و8 أسهم أطيانًا و254193 نخلة وتعداد أهاليه 31703
نفسًا.
ثانيًا: مركز الكنوز يسمى بمركز أبي هور ومقره بناحية أبي هور ويتبع له
18 بلدًا تبتدئ جنوبًا من ناحية المضيق إلى ناحية الشلال شمالاً، حيث يكون
امتداده 144 كيلو متر وزمامه 8025 فدانًا و5 قراريط أطيان و110440 نخلة
وتعداد أهاليه 22319 نفسًا.
وهذا حسب المبين بالكشف الوارد مع الرسم النظري على إفادتكم المذكورة،
وقد تصادف ورود مكتوب من نظارة المالية نمرة (5) أموال مقررة بأنها وافقت
على ما ذكر بناءً على الإخطار الذي أرسلتموه لها أيضًا، ولكنها ترى أن مركز
حلفا يكون اسمه مركز كروسكو لا الدر كما رأيتم وأن المديرية تسمى مديرية
(أصوان) وقد أوضحت في مكتوبها علاوة على ما بينتموه في إفادتكم الداخلية
أسماء العشرة بلاد المذكورة وهي نواحي سره شرق وفرص وجزيرة فرص ودبيرة
وسره غرب وأشكيت وأرفين ودغيم وعنقش وديروسه وأن فيها عدا الزمام الذي
ذكرتموه و720 فدانًا، و5 قراريط و8 أسهم أطيانًا من أملاك الميري الحرة،
وحررت لحضرتكم بذلك.
وحيث إننا قد وافقنا أيضًا على هذا التحديد الشامل لعدد البلاد والأهالي
ومقادير الزمام المذكورة مع تسمية مركز حلفا بمركز كروسكو كما رأت المالية
وكاسم الناحية التي سيكون بها وتسمية المحافظة بمديرية أصوان فاقتضى ترقيمه
لحضرتكم بذلك ولنظارات الحقانية والأشغال والمالية للعلم به.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ناظر الداخلية
... ... ... ... ... ... ... ... ... (مصطفى فهمي)
__________(2/63)
27 ذو القعدة - 1316هـ
8 إبريل - 1899م(2/)
الكاتب: أحد أفاضل الكتاب في دمشق ـ الشام
__________
الإصلاح الإسلامي
لأحد أفاضل الكتاب في دمشق -الشام
رنّ في هذه الأيام صدى كلمة الإصلاح في هيئة المجتمع الإسلامي لتقويم أوده
وإرجاع سالف مجده، وهي الكلمة التي أصغت لسماعها الآذان حينًا من الدهر،
ورصدت لها العيون ظهورًا في هذا العصر، وقد أخذ نبهاء الكتاب، ممن أوتوا
الحكمة وفصل الخطاب - في سلوك سبل توصل إلى هذا المقصد العزيز، وأناروا
مصباح رأيهم في هذا الميدان الرحيب، الذي ضربت عليه سرادق ظلام الجهل،
وخفيت فيه أنوار العلم والفضل، حتى تاهت في بيدائه العقول وحارت في أرجائه
الألباب، إلى أن أسفر للبعض منهم صبح من الإصلاح سار تحت ضيائه، وأرشد
الكافة إلى نوره وسنائه، والبعض لاح له حباحب يضيء، فظن أنه سيظهر شمسًا،
أو يكون في عالم الإصلاح بدرًا، والبعض رأى ما رأى مما وقفتم عليه في الجرائد،
ولكلٍّ وجهة اتجه إليها، وعول فكره عليها، إلا أن من سبر غور الحوادث وتتبع
سير تقلباتها وتنوع أطوارها - علم أن سيرها على جادة مستقيمة وخطة قويمة ما
كانت تحدث طفرة بل بسير متتابع بعضه خبب وبعضه عنق.
ونحن إذا نظرنا إلى ما اقترحه الكتاب من الأخذ بالأسباب المزعوم بها
الإصلاح وجدنا مقترحهم من نوع الطفرة التي هي محال في سير الزمان وتقلبات
الأحوال، وقد تبرعوا به في غير وقته، وكان الأجدر أن يلتفتوا إلى ما هو أمامه من
العقبات التي تعيق دون الوصول إليه فإذا مهدت ظهر نجاح مقترحهم [1] (لا ندري
من يريد بطالبي الطفرة) .
وما دامت هذه الأطواد الشوامخ حائلة في طريق الإصلاح ولها السيطرة القوية
والنفوذ التام على الخاص والعام فمن المحال الوصول إلى المطلوب إلا بالطريق
الذي سلكت عليه أوربا أول حضارتها، وقد علمتم أسبابه وكشفتم نقابه. وفي مقدمة
تاريخ (شرلكان) ما فيه كفاية للوقوف على نهضة الأمم الغربية من رقدتها، وكيف
زحزحوا العقبات الناشبة في طريق تقدمهم حتى ظفروا ببغيتهم، ولم يتنبه
المعترضون في سبيلهم إلا والقوة كانت في طرف أخصامهم فهبوا إلى إثارة شرار
الشر ضدهم فلم ينجحوا، وخاب مسعاهم فلم يفلحوا، أو بالطريق الذي سلكت عليه
اليابان في تقدمها ونشأة حضارتها إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك
الإسلام وإمدادهم فيه.
فأُولى هذه العقبات عقبة النفع الذاتي الذي يتخلل الأعضاء والجوارح وتنمو
الأجسام عليه حتى صار ملكة راسخة يعسر زوالها ولا يرجى برؤها، وهي أعظم
حائل دون المرام من الإصلاح، وما دامت هذه الروح الخبيثة تتردد في شغاف القلب
وتجول في ميدان اللب، فلا وأبيك نرى إصلاحًا لفسادنا ولا نجاحًا لأعمالنا (إنما
يضر حب الذات الذي تضيع به الحقوق العامة وهذا عرض يزول بالتربية والتعليم
الصحيحين) .
والثانية من هذه العقبات العصبية القومية التي إذا التفتنا إلى جهتها نقضي
لأول نظر باليأس من النجاح في خطة التقدم والفلاح؛ فإن ما نراه ونسمعه من
السعي في إفساد ذات البين الذي جاء الإسلام بحظره وخطره يحملنا على إنكار القول
بإمكان الإصلاح (هذا غلو في اليأس) ولا يخفى أن الأمة الإسلامية وحدت كلمتها
وضمت متفرقها برفع المغايرات الجنسية، فإذا انحلت هذه الرابطة ونظر كل شعب
وقبيل إلى نفعه حكم بتفريقها وتوزيع سلطتها ضرورة كالحبل المؤلف من أجزاء، فإذا
انحلت أجزاؤه ذهبت متانته وتلاشت منه القوة التي يقتدر بها على حمل الأثقال، وقد
استلفت الدين الإسلامي الجمهور إلى التمسك بعروة الإخاء الديني كيلا تتمكن
الدسائس الإبليسية والشهوات النفسانية من حل عُرَاه، وقد أبت السياسة الخرقاء إلا أن
تفرق هذه القبائل والشعوب التي أمر الله بتعارفها وائتلافها لوجهة من السياسة مظلمة
وطريق من التحكم وعر.
وإذا نظرنا إلى تقابل الطوائف الإسلامية التي فرقتها اللغات وجمعها الدين نراه
كالتقابل بين الأمم التي فرقتها الألسن، والأديان ولا يسعنا الحال الحاضر أن نبين
مقدار الانفراج الحاصل بين الشعوب الإسلامية؛ لئلا ينكشف الطلاء.
الثالثة منها الاختلافات الطرائقية والمذهبية، ولا يحقر شأن هذه الاختلافات
التي باعدت بين الأمة وقد أحدثت خللاً عظيمًا يصعب تلافيه.
الرابعة منها السعي في إفساد الأخلاق والآداب من أفراد يعلم شأنهم.
الخامسة منها السعي في انحطاط درجة علماء الدين من أنظار الأمة، وقد أخذ
بعضهم في لومهم لتقصيرهم عن القيام بإرشاد الأمة، وقد ذهل اللائم عن السبب
الباعث على سكوتهم وسكونهم وما هو إلا ما اتُّخِذَ من الحجر على أسباب معاشهم
وحصرها تحت يد مَن يتسنى له تسييرهم على مقتضى أغراضه وأهوائه (تأملوا
أيها العلماء بماذا يدافع عنكم من يعذركم من الأمة فما بال من يعذلكم؟ !) ولم يزل
السعي بتقليص نفوذهم من أنظار الأمة بأسباب معلومة واتخاذ من تشبه بهم من
أراذل الناس في الوظائف؛ لتتسع دائرة التهم عليهم فينحط شأنهم ويسقط سلطانهم.
ويكفي لانحطاط شأنهم ما يلقى في بعض المكاتب العالية إلى التلامذة من بعض
المعلمين من أن علماء الدين هم السد بين الأمة والترقي (ولماذا لا يكذبونهم بفعلهم؟)
وهذا الفكر تلقفوه من الأورباويين وقلدوهم في إطلاقه، وما علموا الفرق بين
سلطة العلماء في الدين الإسلامي وسلطة رؤساء الدين المسيحي؛ فإن من تتبع
تواريخ الأمة الإسلامية لا يقدر على إثبات حادثة تسند إلى علمائه تداخلاً في شؤون
الحكومات إلا ما كان من ضمن دائرتهم، ولم يكونوا في عصر ما حاجزين الناس عن
تعلُّم ما يفيد في معاشهم ومعادهم (في هذا نظر ظاهر إلا إذا أراد الحجز بالقوة
وليس من شأنهم) والتصانيف العديدة في أنواع العلوم والمعارف شاهدة (أين
مصنفات علماء هذا العصر من الفنون؟ !) وإعطاء حرية الأفكار ضمن صحائفها
مما يعلم به درجة التقدم، وثمة عقبات وسدود أرجأتها لوقت آخر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (م. ع. م)
(المنار)
لقد جمعت هذه المقالة على إيجازها ما لم تجمعه المطوَّلات التي كُتبت في
موضوعها، لكن فيها إجمالاً وإبهامًا لا بد معهما من بعض البيان والتفصيل.
أشار الكاتب إلى أن للإصلاح طريقين اثنين لا ترتقي أمة إلا بأحدهما أو
كليهما. ذلك بأن الارتقاء إما أن يكون من قبل الأمة كارتقاء أوربا، وإما أن يكون من
جانب الحكومة كارتقاء اليابان التي نهض بها إمبراطورها (الميكادو) نهضة واحدة
وقد أشار الكاتب إلى هذا بقوله: (إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك الإسلام
وإمدادهم فيه) ، وكان الأَوْلى أن يقول: متوقف على نهوض ملوك المسلمين وأمرائهم
وقيامهم به. وأما الأول فقد بينه بعض البيان بذكر العقبات الخمس. ذكر خمس
عقبات وسكت عن بعض العقبات والسدود أو أرجأها، ولكنه أهمل بيان الأطواد
الشوامخ التي يسهل بالنسبة إليها كل حَزَن وتقتحم كل عقبة.
تلك الأطواد مؤلفة من سلسلتين عظيمتين، وهما: رجال الدين، ورجال
الحكم والسلطان. فقد كان الفريقان متحدين في أوربا على مقاومة: كل ما يسمى
علمًا واكتشافًا واختراعًا وحرية وعدالة ومساواة، وإن شئت قلت: مقاومة كل ما
يصرف قلوب الناس عن العبودية لهما ويجعلهم مستقلين في إدارتهم كاملين في
إنسانيتهم. أما رجال الدين، فكانوا يعادون بالعقل والعلم ونتائجهما باسم الدين وكانوا
يزعمون أن كل علم أو عمل لم ينطبق على ما في كتبهم الدينية - فهو كفر وإلحاد،
ومن جاء به مباح الدم والمال. وكان الملوك والحكام تبعًا لهم ومنفذين لإرادتهم، وما
ذلك إلا لأن الفريقين كانا مشتركين في تلك السلطة المطلقة والمشيئة النافذة، وما كانا
يقابَلان به من الخضوع الأعمى والطاعة التامة. نعم، كانوا يعادون العلم؛ لأنهم
جهلاء، والناس أعداء ما جهلوا، فلما علموا صاروا أنصار العلم وأعوانه، كانوا
يرون أن العلم يصدهم عن حفظ الدين، فصاروا يعتقدون أنه لا يمكن حفظ الدين
وإبقاء شرفه إلا بالعلم؛ ولذلك ترى نظار المدارس وأكثر أساتيذها من الرهبان
والقسيسين، بل معظم المدارس في الغرب والشرق للجمعيات الدينية، وهل الترقي
إلا بالمدارس وفي المدارس ومن المدارس. فمبدأ ترقي أوربا الإصلاح الديني
وإمام المصلحين فيها هو الرجل العظيم (لوثر) .
ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء
ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية - التي هي محور الثروة والقوة والعزة -
ضرورية لا مندوحة عنها، ويجب أن تُعلم مع الدين وأن يقوم بتعليمها رجال الدين؛
لأن تركها للمدارس الأميرية والأجنبية التي يقولون: (لا دين فيهما) - يجعلها
خاصة بمن لا دين لهم وهؤلاء لا يرجى منهم خير للأمة والملة ولا يسقط الوجوب
بهم، وتركها بالكلية مُذهب للدنيا والدين؛ إذ الدين لا يمكن حفظه إلا بالدنيا فتعين
أن يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا (الرياضيات والطبيعيات) .
وإن الشريعة الإسلامية تصرح بأن تعلم الصناعات التي يحتاج إليها البشر في
معاشهم واجبة على مجموع الأمة، وأن ما يتوقف عليه الواجب المطلق كالجهاد واجب
أيضًا، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الجهاد والصناعات ممكنة بغير هذه الفنون،
مع هذا كله نجد أكثر رجال الدين عندنا يعادون هذه الفنون وأهلها بل يكفرونهم،
ومنهم من عمي عن الوقت والزمان فزعم أنها لا حاجة إليها ألبتة. ومن العجيب أن
فقههم يقتضي أن تعلُّم الفنون العسكرية التي يتوقف عليها الحرب - فرض عين في
أكثر البلاد الإسلامية وهذا الحكم الذي لا نزاع فيه بينهم يستلزم أن جميعهم فساق
تاركون للفريضة، وربما يستلزم أكثر من هذا لا سيما باستحلال هذا الترك.
هذا وإن هناك عقبات أخرى في طريق الإصلاح دخلت على الأمة من خروق
وكوى فتحت في جدار الدين، فإذا لم تسد هذه الخروق والكوى فإن الإصلاح يكون
كالعلاج مع تناول الأغذية المضرة، وقد أخذنا على نفسنا الدأب في هذا العمل
الشريف طول حياتنا، ولنا الرجاء في عقلاء العلماء أن يوازرونا ويعضدونا ولا بد
أن ينتهي هذا الجهاد بانتصار الحق وانكسار الباطل والعاقبة للمتقين.
وأما السلسلة الأخرى (الأمراء والحكام) فإنها لا تغلب إلا بالعلم فهي تستبد
في الأمر وتستعبد الرعية ما دامت الرعية جاهلة خرقاء، فإذا علمت ما لها وما عليها،
وصارت رشيدة عاقلة؛ يرتفع الحجْر والاستبداد بالطبع. ولله در السيد جمال الدين
الحكيم الإسلامي الشهير حيث كان يقول: (إن العاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) ؛
ولهذا نقول: إن المطالِب بالإصلاح قبل كل أحد العلماء وهذا. هو المراد بكونهم
ورثة الأنبياء. وكل العقبات التي ذكرها الكاتب الفاضل تزول بإرشادهم وإصلاحهم إذا هم قاموا به على وجهه إن شاء الله تعالى.
ثم إن لنا كلامًا في العقبة الخامسة: وهو أن ما ذكره من السبب في سكون
العلماء وسكوتهم عن الإرشاد صحيح إلا أنه لا ينهض حجة شرعية ولا عقلية على أنه
عذر لهم عند الله والناس، إلا إذا كانت الرشوة حجة على عذر المرتشي إذا هو ظلم
وضيع الحقوق، نعم، إن الحكومة استمالتهم إليها بجعل معاشهم من الأوقاف في
قبضتها، وبإعطائهم الرتب والوسامات حتى أذعنوا لباطلها وسكتوا على انحرافها
عن جادة الشرع، بل صاروا يمدحونها ويعظمونها تملقًا ونفاقًا حتى سقطوا من
عين الأمة والحكومة معًا، وضعف نفوذهم فيهما، ولو وقفوا عند الحدود المشروعة
وقاموا، بوظيفتهم المقدسة مع مراعاة الحكمة لزادهم الحكام والمحكومون تعظيمًا
وتبجيلاً، ولكل هذا أمثال مشهودة لا يستطيع أحد إنكارها.
ثم إن جماهيرهم مُعْرضون عن معرفة أحوال الوقت في غيبة عما يحتاجه
الناس وعن طرق الوصول إلى تلك الحاجات بحسب الزمان والمكان، ولذلك صار
الناس لا يشعرون بأن لهم حاجة إلى العلماء إلا في مسائل شاذة نادرة. ويسهل
عليهم أن يختبروا حال الأمة بالامتزاج بالعامة وتقصي أمورها المعاشية والدينية
والأدبية والوقوف على رغائبها ثم إيقافها على ما تحتاج الوقوف إليه من الطرق
التي يوافق رغائبها ويسهل عليها سلوكها.
عند هذا تشعر الأمة بشدة حاجتها إليهم فتزيد في تعظيمهم وتبجيلهم وإكرامهم
ولهذا أيضًا أمثلة مشهودة لا يستطيع إنكارها إلا من يكابر الحس وينكر الموجود. من
فهم هذا يتجلى له أن المنار قد خدم العلماء وتعمَّل في زيادة تعظيم شأنهم؛ حيث قد
ألقى معظم تبعة الأمة عليهم؛ لأن أكثر الناس كانوا يظنون أنه لا شأن لهم في
الإصلاح، كما أنه خدم الحكام بعدم حصر التبعة فيهم كما كان يعتقد السواد
الأعظم، وما أقصد بهذا وذاك إلا بيان الحق والإصلاح من طريقه، والله عليم
بذات الصدور.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كل ما كُتب بين قوسين في هذه المقالة فهو عن لسان المنار.(2/65)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأثير الوعظ والتذكير
كان منشئ هذه الجريدة جالسًا يومًا من أيام رمضان في مقصورة ضريح سيدنا
الحسين (عليه السلام والرضوان) وبجانبه شيخ من أكبر علماء القطر المصري
فنظرنا إلى القوم الذين يُقبّلون الأرض وقفص النُّحَاس الذي على القبر ويستغيثون
ويطلبون حاجاتهم، فقرأ الشيخ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم، فقرأت أنا: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 53) ثم قلت له: ما بالكم - معاشرَ العلماء - ساكتين على هذه
المنكرات وقد وصلت إلى هذا الحد؟ ! فقال: إن الزمان قد فسد فلا يلتفت الناس إلا
إلى الباطل. قلت: إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، فإذا تصارع هو والباطل
وثبت - فلا بد أن تنتهي المصارعة بالغلب له، فقال: (إذا ثبت!) قلت: وما
يمنعه من الثبات؟ ! قال: إن المشتغلين بالوعظ المضر والتعليم الممزوج بالخرافات
يسعون في منع من يُعلِّم تعليمًا صحيحًا ويَعِظ وعظًا نافعًا، ويساعدهم من يتصلون
به من الكبراء، ويطعنون بالواعظ الصادق المطاعن الدينية والسياسية. قلت له:
على كل حال يجب على صاحب الحق أن يُظهره حتى يُمنع، ويجاهد به جهادًا
كبيرًا أو يُغلب على أمره. قال الشيخ: لو تصدّى عالم لقراءة التوحيد الصحيح
والأخلاق لا يُقبِل عليه الناس؛ ولكنهم يقبلون على القُصّاص الذين يوافقون
أهواءهم. قلت: الأمر يخالف ذلك؛ فإن حوادث الزمان قد أعدت النفوس إلى
قبول الحق وطلب الإرشاد الذي ينتاشهم من هذه المهاوي وينقذهم من هذا
الشقاء، وإنني قد بلوت الناس فألفيتهم كما حدثتك، وها أنا ذا أقرأ درسًا هنا وقد
أقبل عليَّ الناس إقبالاً لم يكن يُنتظر، وصاروا يتحدّثون من أول يوم بنفعه، حتى
قال بعضهم: لو أن عندنا مائة مدرس كهذا لما حلَّ لنا ما نحن فيه من الرزايا. قال
الشيخ: وهل أقبلوا عليك كما يقبلون على فلان؟ فنقول إن التعليم النافع يروج كما
يروج غيره مثلاً؟ ! قلت له: لا، ولكن السبب في زيادة إقبالهم على فلان ليس هو
تفضيل تعليمه، ولكنهم اعتادوه بطول الزمن مع موافقته لرغائبهم كما قلتم، وأنا أرجو
أن يرجحوا جانب الحقيقة الذي فيه مصلحتهم على جانب التمويه الذي فيه لذّتهم إذا
وجد من يُمَيِّزُ ذلك لهم.
هذا ما دار بيننا من المحاورة والتَّجْرِبَة تشهد لما قلته آنًا بعد آن، وإليك هذه
الواقعة التي حدثت في هذه الأيام.
قام أحد الشيوخ في هذه الأيام يرغِّب الناس في الحج في مديرية الشرقية
ويحثهم على أدائه في هذا العام فجوَّل في مديرية الشرقية بهذا الوعظ، فأثّر في نفوس
الناس حتى استسهلوا المصاعب واستخفّوا بالنوائب وارتكبوا معصية الربا الفاحش
فاستدانوا ورهنوا أملاكهم للدائنين ثم استأجروا منهم الفدان الواحد بأربعة جنيهات؛
فكان مجموع الفضل الذي أُخذ منهم عشرين في المائة وهو ربا لا يصح في شرع
ولا قانون، ارتكبوا هذه الكبيرة عالمين بأن في بعض البلاد الحجازية وباءً يُخشى
أن يعلق بهم مكروبه وتلحق بهم كروبه ومستيقنين أن النفقات في هذا العام تكون
مضاعفة، كما أن أثقال السفر ومشقاته مضاعفة، وربما كان بعضهم يعتقد أن زيادة
الأجور والنفقات عن قدر الاعتدال تُسقِط الوجوبَ عن المستطيع.
لماذا حمل هؤلاء هذه الأوزار والأثقال وأقدموا على هذه الأعمال؟ ! أليس
إجابةً لداعي الوعظ الذي حملهم عليه العالم باسم الدين؟ ! بلى، قد امتثلوا أمر
الواعظ ولم يلتفتوا إلى قول الشاعر:
إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العيرُ
لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل مَن حج بيت الله مبرورُ
فإذا كان قول العلماء يقبل بمثل هذا، وتنتهي طاعتهم إلى هذا الحد؛ فماذا يكون
من أمرهم إذا أنشأوا يبيّنون للناس طرق سعادتهم في دينهم ودنياهم من الوجوه التي
تتغذى بها عقولهم وتتشرَّبها نفوسهم وقلوبهم؟ ! لَعَمْرُك، إن الأمة تنهض بذلك
نهضة الأسود؛ فتحفظ موجودًا، وتسترد مفقودًا، وتنال عند الله مقامًا محمودًا.
__________(2/72)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عبرة لمن يعقل
كان أحد أعيان الشرقية الأغنياء مغرمًا بحب الأولياء. معتقدًا بركاتهم ملتمسًا
لنفحاتهم. وكان يرى أن أفضل ما يتقرب به إليهم المتقربون. ويستحق به رفدهم
ونوالهم الطالبون - إنما هو الاحتفال بموالدهم وإنفاق الأموال في معاهدهم. فكان
يشد في كل سنة إليها الرِّحَال وينفق بَدر الأموال، حتى إنه كان يُسَيِّرُ إلى مولد
السيد البدوي مائة وسبعين راحلة. وإلى مولد البيومي مثل هذه القافلة. ويضرب
في تلك المعاهد الخيام ويذبح لإقراء الضيوف الأنعام حبًّا في أولئك السادات.
وتعرضًا لتلك الفيوضات. وما كان ريع أرضه الواسعة الخصبة ليفي بنفقاته وبهذه
القربة؛ ولذلك كان يستدين النقود من بعض صرافي اليهود. وأنت تعلم أن شعب
إسرائيل لا يقنع بالرباء القليل. فما زالت تلك البركات الوهمية. والفيوضات
الخيالية تمحق بالرباء أمواله. كما تُحبط بالمعاصي أعماله. حتى جعلته أفقر أهل
زمانه. وأمسى الصراف اليهودي يتمتع بمائتين وثمانين فدانًا من أطيانه، ولم يزل
ذلك الأحمق السفيه حيًّا يعيش في حجر أخيه!
فهذه الواقعة الحقيقية تفيد أحد أمرين: إما أن الأولياء - كسائر الأموات - لا
يملكون للناس (ولا لأنفسهم) ضرًّا ولا نفعًا لا بالذات ولا بالواسطة والشفاعة، وإما
أن الاحتفال بالموالد يُغضبهم ولا يرضيهم ويسوءهم ولا يسرهم؛ فلذلك يتصرفون
بفاعله أسوأ التصرف. ويتوسلون إلى الله أن ينتقم منه أشد الانتقام. فليتبصر
المسرفون في أمرهم الذين ذهبت الاعتقادات الفاسدة بدينهم ودنياهم. وليخش الله
أهل العمائم الذين يؤولون لهم بأنهم لا يعتقدون أن للولي قدرة يقدر بها على النفع
والضر فيكونون وثنيين مشركين وإنما يعتقدون أن البركات تنزل عليهم من عند الله
تعالى؛ فتزيد في أرزاقهم وأعمارهم وتشفي مرضاهم بواسطة الولي الذي يعظمونه
ويحتفلون في مولده، وليرجعوا بالمسلمين إلى السنة الصحيحة وسيرة السلف
الصالح؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عِمارة القبور وعن تعظيمها، وما
كان السلف يعرفون شيئًا من هذه البدع، وما كان يخطر ببال أحد منهم أن يوسّط
ميتًا في قضاء حاجته، كما سبق لنا تفصيل ذلك غير مرة.
__________(2/74)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إحصاء الأوقاف
في يوم الأحد الماضي احتفل ديوان الأوقاف العمومية هنا بافتتاح محله
الجديد الذي شيده في باب اللوق تابعًا لوقف المرحوم عباس باشا الأول.
وشرف هذا الاحتفال مولانا الخديوِ المعظم عباس باشا الثاني. وفي خلال
الاحتفال رفع سعادة فيضي باشا مدير عموم الأوقاف - خلاصة تضمنت إحصاء ما
جدده الديوان وعمَّره من المباني منذ سنة 1893 إفرنجية إلى الآن وهو العهد الذي
تولى هو إدارة الديوان فيه عقيب تولي الجناب الخديوي المعظم أريكة الخديوية
والنظر على الأوقاف، فكانت كما يأتي:
10200 ... مساجد وملاجئ خيرية إنشاءً.
100 ... ... مساجد وملاجئ خيرية ترميمًا.
10300 ... جملتها.
90 ... ... عمارات ريع إنشاءً.
2750 ... عمارات ريع ترميمًا.
ـــــ
2840 ... جملتها
60 ... ... مباني زراعية إنشاءً.
300 ... مباني زراعية ترميمًا.
ــــ
360 ... جملتها.
4230 ... جملة جميع المباني التي عُمرت.
وتلى ذلك إحصائية عامة شاملة لواردات ونفقات الأوقاف من تاريخ تولية الجناب الخديوي (سنة 1892) إلى هذا العهد مع فوائد أخرى كما ترى.
باب الإيرادات
... ... ... إيرادات ... ... ... إيرادات
جملة ... ... ... الأوقاف الخيرية ... ... الأوقاف الأهلية
جنيه ... ... ... جنيه ... ... ... ... جنيه
190735 ... ... 153775 ... ... ... 36960 ... سنة 1892
223114 ... ... 178487 ... ... ... 44627 ... سنة 1893
255131 ... ... 205451 ... ... ... 49680 ... سنة 1894
293841 ... ... 238941 ... ... ... 54900 ... سنة 1895
326097 ... ... 236962 ... ... ... 89135 ... سنة 1896
350644 ... ... 221474 ... ... ... 129170 ... سنة 1897
344303 ... ... 213112 ... ... ... 131190 ... سنة 1898
فيظهر مما تقدم أن الفرق بين إيرادات سنة 1892 وبين سنة 1898 هو الآتي:
... ... سنة ... ... سنة
الفرق ... ... 1892 ... ... 1898
153568 ... 190735 ... 344303
مصروفات ديوان عموم الأوقاف من سنة 1892 إلى سنة 1898:
جملة ... ... ... ... مصروفات الأوقاف الخيرية
إقامة الشعائر حفظ وترميم ... مصاريف ... مصاريف
... المساجد والأملاك عقارية وزراعية الإدارة العمومية
جنيه ... جنيه ... جنيه ... جنيه جنيه ...
117129 47774 20378 16010 32967 ... ... سنة 1892
172472 44354 42772 49665 35681 ... ... سنة 1893
206518 51528 74143 43521 27326 ... ... سنة 1894
197882 50125 54487 53493 39777 ... ... سنة 1895
234402 58644 46742 73296 55720 ... ... سنة 1896
194532 50919 34785 38134 70694 ... ... سنة 1897
185847 56759 31124 38470 59494 ... ... سنة 1898
فيظهر أن الفرق في المصروفات بين سنة 1892 وببن سنة 1898 هو الآتي:
... ... سنة ... ... سنة
الفرق ... ... 1892 ... ... 1898
جنيه ... ... جنيه ... ... جنيه
8985 ... 47774 ... 56759 ... إقامة الشعائر.
10746 ... 20378 ... 31124 ... حفظ وترميم.
22460 ... 16010 ... 38470 ... مصاريف عقارية وزراعية.
26527 ... 32967 ... 59494 ... مصاريف الإدارة.
__________
68718 ... 117129 185847
بيان الأملاك التي اشتراها ديوان الأوقاف من سنة 1892 لغاية سنة 1898:
... ... ... من ... ... من ...
جملة ... ... ... أموال البدل ... زائد الإيراد
جنيه ... ... جنيه ... جنيه ... فدان
153784 25212 128572 أطيان شباس والصافية 3417
102968 36417 6651 ... أطيان قلين والبكاتوش 4000
28152 ... 6120 22032 أطيان المنشأة الكبرى 662
51657 ... 33552 18105 ... أطيان الشناوية ... 854
26848 ... ... ... 26848 ... مباني وأراضي فضاء
_________________________
...
_________
... ... ...
363409 ... ... 101301 ... 262108 ... 8933
بيان الباقي للأوقاف الخيرية من النقود الموجودة بالخزينة لغاية سنة 98 تحت استعماله في صالح مصلحة الأوقاف
جنيه
27332 ... من زائد الإيرادات.
34668 ... من أموال البدل.
62000 ... الجملة.
بيان تقدير ميزانية إيرادات ومصروفات الأوقاف سنة 1899
جنيه ... ... ... ... الإيرادات
210500 ... الأوقاف الخيرية.
14000 ... الأوقاف الأهلية.
__________
350500
المصروفات
مصروفات الأوقاف الخيرية
63327 ... إقامة الشعائر
18435 ... حفظ وترميم المساجد والأملاك عدا الإنشاء.
38449 ... مصاريف عقارية وزراعية.
53648 ... مصاريف الإدارة العمومية.
___________
173859
بيان عدد الأوقاف التي يديرها الديوان وعدد المساجد والتكايا والمكاتب
والمستشفيات وعدد الخدمة القائمين بالعمل
عدد ... ... ... ... الأوقاف
1707 أوقاف خيرية
176 ... أوقاف أهلية
1362 مساجد وزوايا وأضرحة
20 ... تكايا
37 ... مكاتب
2 ... مستشفيات بالأزهر وب قلاوون
5200 خدمة إقامة الشعائر.
815 ... خدمة الإدارة العمومية.
بيان النقدية الموجودة بخزينة ديوان الأوقاف لغاية يوم الأحد 2 أبريل
سنة 1899 أي يوم الاحتفال بمحل الديوان الجديد
جنيه
878 ... ورق بون
150592 ... نقود
151470 ... الجملة
__________(2/75)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنازع الدول الأوربية
على الممالك الإسلامية
(تابع)
أشرنا في عدد سابق إلى تنازع الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية
وخصصنا بالذكر وداي وبرنو وعمان، وقد كتبنا ملخص ما جرى في شأن هذه
الممالك وفاتنا أن ننشره في العدد الأسبق وهو:
أما عمان فقد انتهى النزاع فيها الآن ورضيت إنكلترا بأن تأخذ فرنسا محطة
في ميناء مسقط بشرط أن لا تضم إليها أرضًا أخرى؛ وذلك بعد أن أجبرت أمير
مسقط على الرجوع بقوله فرجع. وأما وداي فقد جاءنا البرق من أيام بخبر اتفاق
الدولتين أيضًا في مسألة بحر الغزال، وهو:
(من لندرا في 22 مارس - أُمْضِيَ أمس الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا فكان
ذيلاً ملحقًا باتفاق النيجر. وقد أخذت إنكلترا بموجبه بحر الغزال ودارفور وأخذت
فرنسا وادي وبقرمي والبلاد الواقعة شرقي بحيرة تشاد وشماليها، واعترفت إنكلترا
بأن الأراضي التي في غربي الخط الممتد من جنوبي كانين على طول صحراء ليبيا
حتى الدرجة 15 من خطوط العرض الشمالي واقعة في منطقة النفوذ الفرنسوي، وقد
اتفق الفريقان على أن الحقوق التجارية بينهما متساوية في الجهات التي بين النيل
وبحيرة تشاد من الخط الخامس من خطوط العرض إلى الخط 15، فصار بذلك لفرنسا
منفذ إلى النيل. وقد تعاهدت الدولتان على أن لا تدعي واحدة منهما بحقوق سياسية
أو ملكية في الأراضي الخارجة عن الحدود المرسومة في هذه العهدة) .
مساحة وداي وبقرص نحو 172 ألف ميل مربع وسكانهما نحو الثلاثة ملايين
ومساحة كانم 30 ألف ميل مربع وسكانها مائة ألف نفس.
وفي الجوائب الأخيرة أن الدولة العلية احتجت على هذا الاتفاق؛ لأنه يمس
حقوقها لا سيما في طرابلس الغرب.
جاء في رسالة برقية من طنجة أن حكومة مراكش خنعت لبلاغ ألمانيا؛
فدفعت التعويض الذي طلبته منها وهو 60 ألف مارك.
__________(2/80)
5 ذو الحجة - 1316هـ
15إبريل - 1899م(2/)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
الإصلاح الإسلامي بعدل القوام
أو التكافل العام
لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء
قضت سنن الوجود المدني منذ فطر الله الإنسان على حب الاجتماع - أن تشد
أواخي الألفة العمومية بنظام شامل تطمئن إليه النفوس الخيِّرة وتتلاشى دونه الأهواء
النزَّاعة إلى الشر، ومناط ذلك النظام إنما هي الشرائع المؤسسة على العدل المبنية
على أساس المصلحة العامة دون أن يخالطها شيء من الحشو التابع لأغراض
النفوس، وإنما تتكفل هذه الشرائع بسعادة الأمم واستمرار نظام الألفة بأحد شرطين:
عدل القوام أو تكافل الأقوام. ومتى فقد هذان الشرطان امتنع الانتفاع بالشرائع مهما
كانت في نفسها عادلة، وتعذر التأليف بين النفوس المتغالبة والعناصر المتباينة،
وناهيك بما ينشأ عن فقد الألفة من التعطيل في سائر ما تدعو إليه الحضارة ويتطلبه
الاجتماع، كما يؤيده الاستقراء ويشهد به الحس في كل عصر وعند سائر الأمم.
وهذه صفحات التاريخ الاجتماعي تنبئ عن جميع الدول الغابرة والشعوب
الماضية كالفرس واليونان والرومان وغيرهم من جماعات الإنسان ودول الحضارة
التي كان يتناوبها الشقاء والسعادة بنسبة حال قوام الشرائع وحفاظ القوانين، وفي
النظر إلى تاريخ الإسلام ما يغني عن التوغل في العصور القديمة والأمم البائدة؛
فإن الشريعة الإسلامية في صدر الإسلام لما كانت قائمة على أساس التكافل العام
بلغت بالأمة مكانة من الألفة الاجتماعية ضمت تحت كنفها مئات الملايين من البشر
كانوا في أبسط أطوار المدنية الإسلامية أنعم حالاً وأرقى نظامًا وأعظم قوةً ومجدًا من
سائر مَن أقلتهم يومئذ الغبراء وأظلتهم السماء، حتى بلغ من الشعور عند المسلمين
بمنافع قيام شرائع الإسلام على أساس التكافل العام - أن بني أمية لما حاولوا حل
عُرى هذا النظام وتفريق ذلك الالتئام رغبة بالاستئثار بالسلطة بما كانوا يدسُّونه على
المسلمين دون علم الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وسرى ذلك في أفكار الأمة
سريان الشرارة الكهربائية في سائر الأقطار الإسلامية - هب الناس من مضاجع
الراحة منكفئين على المدينة المنورة من كل صوب يطالبون عثمان رضي الله تعالى
عنه بكف يد المستأثرين من عشيرته وقومه عن التسلط المطلق على النفوس
والأموال ثم استحكم أمر الفتنة وفعلوا به ما فعلوه مع أنه - علم الله - كان بريئًا من
تبعة فعل الأمويين، ولكن لا حيلة لتسكين الأفكار العامة إذا اندفع تيارها وتأججت
نارها، لا سيما وإن ما أتاه بنو أمية يومئذ من المبالغة في الاستئثار بمصالح
المسلمين - كان أهم دواعي الجرأة على هتك حرمة الخلافة وزوال هيبة عثمان
رضي الله تعالى عنه من نفوس المسلمين بخلاف ما كان عليه الحال على عهد عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من الاطمئنان الشامل والتكافل العام، بحيث لم
يكن من ذوي العصبيات في الإسلام مَن تحدثهم النفس بأدنى عمل من شأنه الإخلال
بقاعدة التكافل مهما بلغ بهم الأمر من حب الأثرة والميل إلى التسلط، وأين حادث
عثمان رضي الله عنه من حادث خالد بن الوليد لما كان في أرمينيا يقود خمسين ألف
مقاتل، كلهم طوع إشارته، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما كدّر
خاطره عليه فأرسل إلى أبي عبيدة في الشام أن استدعِ إليك خالدًا وسلْه عن الأمر
الفلاني فإن أقر فأقم عليه حد الشرع، وإن أنكر فابعث به إليَّ مع الرسول مقودًا
بعمامته. فاستدعاه أبو عبيدة إلى الشام وأبلغه أمر أمير المؤمنين أمام جماهير
المسلمين، فسمع وأطاع ثم ذهب مع الرسول قاصدًا المدينة المنورة دون أن ينبث
ببنت شَفَة؛ فإن هذه المبالغة بالطاعة والخضوع من مثل خالد بن الوليد وهو مَنْ
علمت مقاتل أهل الردة وفاتح العراق العربي والشام وأرمينيا - تدل على أن هناك قوة
أسمى من هيبة الخلافة في نفوس المسلمين، وهي قوة التكافل العام في حفظ
شرائع الإسلام، وقد كان منها على كل نفس رقيب عتيد يحمل سائر المسلمين على
معرفة الحقوق والواجبات التي تُلزم كل فرد منهم بالوقوف عند الطاعة والامتثال لأمر
الخليفة، ما لم يمس جانب الشرع أو يخل بنظام ذلك المجتمع الإسلامي العظيم، ولا
يخفى ما في هذا من نفوذ كلمة الخليفة وسلامة حياة الأمة.
هذا ومع ما عقب حادث عثمان رضي الله تعالى عنه من قيام الفتنة التي مهدت
لبني أمية سبيل الاستيلاء على الدولة والانفراد بالسلطة - فقد راعى بنو أمية أمر
التكافل في قيام الشريعة لارتباطها بقيام الملك، وكان قُوام الشرع بعدُ محافظين أشد
المحافظة على شرط العدل حتى تسنى للأمويين أن ساسوا الأمة سياسة أنتجت بسط
السلطة الإسلامية على معظم أنحاء المعمور. ولما أفضى المُلك إلى بني العباس
ورأى الخليفة السفاح وهو أولهم ما دخل على قاعدة التكافل العام من الفساد لاختلاط
الأمر باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام - اتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن
سليمان؛ ليستعين به على بسط جناح العدل والمراقبة العامة، فكان أول مَن لُقب
بالوزير في دولة الإسلام، وكانت وزراته يومئذ وزارة تنفيذ لا وزارة تفويض، فلم
تستقم بها الأمور للدرجة التي تقوم مقام التكافل العام وما زالت كذلك حتى قيام
الرشيد بأعباء الخلافة الإسلامية، حيث رأى أن الأقرب لقاعدة التكافل والأحسن في
تنظيم شؤون الدولة وسلامة أحكام الشرع - أن يجعل الوزارة وزارة تفويض تكون
مسؤولة أمام الناس والخليفة عن نتائج كل عمل تعمله في الدولة، وكان ذلك كذلك.
ووزارة التفويض هذه هي بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة عند
الحكومات المعتدلة؛ لأن من مقتضاها أن يفوض إلى الوزير تدبير الأمور بنفسه
وإمضائها باجتهاده، وأن يقلد وزارة الحرب والمظالم وغيرهما من شاء أو يتولى ذلك
بنفسه وبالجملة فقد قال العلماء فيها: إن كل ما صح عن الإمام صح عن الوزير إلا
في أمور ثلاثة استثنوها لتعلقها مباشرة بالخليفة. ووجه جواز هذه الوزارة في
الإسلام مأخوذ من قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ
أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32)
قالوا: فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فهي في الخلافة أولى.
ومنذ تأسست هذه الوزارة في دولة الإسلام أثرت في نظام الدولة آثارًا صالحة
دعت إلى ترقي الأمة في معارج التمدن ترقيًا ما زال ولن يزال مسطَّرًا على
صفحات الوجود إلى الأبد، ومن ثم أصبحت وزارة التفويض في الإسلام - بما
ارتبطت به من المسؤولية أمام الراعي والرعية - من أهم دواعي العدل عند قوام
الشريعة وحفاظ القوانين، ثم ما زالت تُجرَى عليها القوانين وتدون لها الدواوين على
أشكال شتى تترقَّى بترقِّي الدول الإسلامية وتتدلَّى بتدليها حتى استحكمت الصبغة
الأعجمية في الدول الإسلامية، وغلت يدي الوزارة وقيدتها بقيود الاستبداد المطلق؛
فانمحت آثار العدل الصالح من تاريخ الوجود الإسلامي، وزاغ قوام القانون عن
مناهج الاستقامة أجيالاً عديدة، لا يبالون بما يفعلون ولا يحذرون غائلة عدو ربما
يغتنم فرصة هذا الخمود المطلق والضعف المستمر، ولكن الدول الأخرى كانت يومئذ
أضعف حالة وأشد جهالة، ثم ظهرت بوادر النهضة الغربية وأخذت تنكفئ قوى
المدنية الجديدة على أنحاء المشرق تتزاحم فيها بالمناكب وتخترق الأمم وتسلب حرية
الشعوب وحاول منذ ذلك الحين - بعض قوام الشريعة والقانون وسُوَّاس الأمة أن
يتداركوا هذا الخطر المحدق، ولكن بوسائل بطيئة السير عديمة النفع؛ لابتعادهم فيما
حاولوه عما قام عليه الإسلام، وصِين به نظام الأمة وهو التكافل العام وعدل القوام،
وهما الركنان اللذان قامت على دعائمهما دول الإسلام ولا تحيا إلا بحياتهما الأمم
وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم من التقهقر ودخل على دولهم الضعف بضعف
هذين الشرطين، كما رأيت لا بضعف القانون أو حاجة الأمة إلى وضع أوضاع
جديدة أو تراتيب مفيدة في نظام الأمة وانتظام شؤون الدولة؛ إذ لو كان يغني وضع
القوانين وتدوين الدواوين عن هذا التقهقر المريع والضعف السريع - لأغنت
الشريعة الإسلامية نفسها وهي أعدل ما جاء من الشرائع وأعظمها مرشدًا لمصالح
البشر هاديًا لطرق السعادة وإنما هي تغنى عن ذلك بعدل قوامها، وهذا مفقود بفقد
المسؤولية، ولا يفيد دون هذه وضع الأوضاع العقلية والمنشورات السياسية بل
هي تكون كخط على ماء أو نقش في هواء. والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم. اهـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق) ... ... ... ... ... ...
(استدراك المنار)
يريد الكاتب الفاضل بقوله: (التكافل العام) . معرفة مجموع الأمة بحقوقها
العامة ومصالحها المشتركة معرفة صحيحة تحملهم على الاتفاق على حفظها
وصيانتها، بحيث إذا عبث بها عابث أو نال منها ظالم ينفعل ذلك المجموع ويهبّ
للذود عنها وحفظ كِيانها، وهذا الأمر هو روح سياسة الإسلام. وقد بيناه في
المقالة التي تكلمنا فيها عن السلطتين - الروحية والسياسية - وفي مقالات (الخلافة
والخلفاء) وغيرها، ولكن هذا الروح الشريف الذي جاء به الوحي عاش به الخليفتان
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقرراه بعملهما في نفوس المسلمين حتى كاد يكون
عامًّا، وظهر أثره في زمن عثمان عليه الرضوان فنسل الناس إليه من كل حدب
يلقون عليه تبعة ظلم عُماله، وبرهن لهم على احترامه سلطة الشعب واعترافه
بسيطرته اللتين جاءتا من ذلك الروح بقوله على المنبر: (أمري لأمركم تبع) كما
قال من قبله الخليفة الثاني على المنبر: (مَن رأى منكم فيَّ عِوَجًا فليقوِّمْه) . وبنو
أمية هم الذين اعتزوا بالعصبية وبدؤوا بإزهاق هذا الروح من عهد عثمان
(حاشا مثل عثمان وعمر بن عبد العزيز) لكن الروح كان قويًّا بنفسه والتعاليم
الإسلامية الأخرى: ككون إجماع الأمة واجب الاتباع وكقاعدة: لا طاعة على أحد
فيما يخالف الشريعة. وكوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان الآمر
والناهي عبدًا مملوكًا والمأمور المنهي خليفة أو مليكًا تمده وتغذيه؛ ولذلك قدر على
مقاومة سعي أكثر الخلفاء والملوك في إعادة الاستبداد والانفراد بالسلطة على نحو ما
كان معهودًا عند الدول والأمم السابقة على الإسلام والمعاصرة له مع أن ذلك
كان معززًا بالوراثة، وكان كلما ضعف الدين بانتشار البدع والفسوق وفساد التعاليم
واتباع علمائه لأهواء الحكام والسلاطين يضعف ذلك الروح. واشتد ظهور الضعف
عندما صارت السلطة في أيدي الأعاجم؛ لأن هؤلاء قد رثوا شدة الخضوع لملوكهم
ولو بالباطل عن أسلافهم الذين عبدوا كثيرًا من الملوك ولم يتناولوا الإسلام إلا بعدما
دخلته البدع ووهت أركان سياسته وقد انتهينا إلى زمان انقلبت فيه الأحكام وجهلت
أصول الإسلام، حيث يعتقد أكثر الناس أن الخليفة أو السلطان مقدس، وأن من
يقول: يجب عليه كذا أو يحرم عليه كذا؛ فهو منابذ للدين، وقد خلق علماء الفتنة
أحاديث في مدح السلاطين والخضوع الأعمى لهم يتبرأ منها الإسلام. وسنبين
ذلك كله في مقالة مخصوصة.
نحن على اتفاق مع صاحب المقالة في أن الإصلاح إنما يكون بعدل القوام أو
بالتكافل العام، وهذا هو معنى ما نكرره دائمًا من أن الإصلاح يكون إما من جانب
الحكام وإما من جانب الأمة وحيث كان أملنا في حكامنا ضعيفًا - جعلنا معظم كلامنا
في تربية الأمة على الوجه الذي تعرف به حقوقها وتقوم بحفظها بالتعاون وهو ما
سماه الكاتب (التكافل العام) ولكننا نخالفه في بعض الجزئيات ككون خلفاء بني أمية
حافظوا على التكافل العام وقد علم رأينا في ذلك مما كتبناه آنفًا، وكقوله: إن خضوع
الأمير خالد لأمر الخليفة سببه التكافل العام. ورأينا أن سببه حرمة الخلافة الدينية
واعتقاده أن الإسلام يفرض عليه أن يطيع أمر الخليفة فيما دعاه إليه من المحاسبة،
وبغير هذا يستحيل أن تقوم سلطة أو تثبت حكومة.
ثم لا شك أن سعادة الأمم إنما تكون بما عليه مجموع أفرادها من العلم والعمل
والفضائل. وعدل الحكام إنما يكون وسيلة للسعادة؛ لأنه يساعد الأمة على الترقي فيما
ذُكر بما يدفع عنها من العوارض التي تعيقها عن الترقي، فوظيفة الحكام في الهيئة
الاجتماعية كوظيفة الأطباء والحكماء بالنسبة للأشخاص وتمام السعادة إنما
يكون بصلاح الفريقين جميعًا وبالله التوفيق.
__________(2/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عداء وخداع
أوغلت الدول الطامعة في الاعتداء وغلت في هضم الحقوق غلوًّا كبيرًا
تتحالف وتتخالف. وتتعادى وتتناصف. وتتنازع على الممالك والبلاد. ويرضي
بعضها بعضًا بحقوق العباد. وأما العدل والفضيلة والإنسانية والمدنية وحقوق الدول
والأمم فهي تارة تكون طلاءً قوليًّا يموهون به أفعالهم الشنعاء وتعديهم المشوه، وطورًا
تكون سلاسل وأغلالاً يقيدون بها الضعيف؛ لكيلا يكدر صفاء كأسهم ويضطرهم إلى
شيء من التعب في كبحه إذا حمله اليأس على الاستبسال في المدافعة عن نفسه.
تنازع أمس الأشعبان [الإنكليز والفرنسيس] في النيل الأعلى، وانتهى التنازع
باقتسام تلك الأراضي الفيح والملك الفسيح، فأرضت إحداهما الأخرى بحقوق
غيرهما حتى كأن بلاد الضعفاء مختصة بهما، وهذا هو حكم الجبروت الظالم والقوة
القاهرة التي عبر عنها فقيد السياسة (بسمارك) بقوله المشهور: (القوة تغلب
الحق) وقد وقعت وداي وبقرمي في سهم فرنسا وهما من البلاد الداخلة في ظل سلطان
الدولة العلية. وكانت إيطاليا تنتظر في مثل هذه القسمة أن يكون لها سهم فتفوز
بطرابلس الغرب مطمح نظرها ومنتهى أمنيتها، ولقصر نظرها توهمت أن إنكلترا
تساعدها على هذا الأمر، فلما خاب الأمل طفقت جرائدها تسلق الإنكليز بألسنة حِدَاد،
ولكن العجب أن فرنسا التي تطمع في طرابلس لمجاورتها لها في تونس والتي زاد
طمعها فيها أخذ وداي وبقرمي في جنوبيها ذكرت إحدى جرائدها المعتبرة (الطان)
كلمة إغراء لإيطاليا باحتلال طرابلس الغرب، وطير هذا الخبر البرق إلى سائر
الأقطار.
فإذا لم يكن هذا القول تهكمًا وسخرية فهو خداع لإيطاليا كما أنه عداء ظاهر
للدولة العلية. أما وجه الخداع فهو أن ولاية طرابلس ليست مذللة بالظلم أو الترف
ولا مفتونة بمدنية أوربا، وأهلها أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم النظام العسكري
والسلاح الجديد، فإذا قدرت إيطاليا أن تدك بأسطولها الحصون والمعاقل الحربية
المنشأة على الطراز الحديث وتحل بعساكرها في الولاية؛ فإنها تلاقي من
الطرابلسيين ما ينسيها ألم الخذلان والانكسار في الجيش ويخرجها خاسئة خاسرة
فتستفيد فرنسا بذلك زيادة ضعف إيطاليا وهي من أعدائها والفلّ من حد الطرابلسيين
الذين يطمعون فيهم ويخشون بأسهم.
أعظم حسنات مولانا السلطان عبد الحميد: ثِنْتان - الآلايات الحميدية، وتعميم
التعليم العسكري، ولا يوجد في الدنيا بلاد إسلامية قائمة بواجب التعليم العسكري؛
بحيث يقدر جميع أهلها على المدافعة المفروضة شرعًا إذا دخل العدو البلاد إلا
طرابلس الغرب وأفغانستان، ولقد قوي الأفغانيون من قبل على الإنكليز وأخرجوهم
من ديارهم كرهًا بعدما احتلوها، ولم يكونوا كما هم الآن، وهم حتى الآن ليسوا كأهل
طرابلس فيما نعلم. الطرابلسيون أرمى من الثعلبين، لا تكاد تخطئ الغرض لهم
رصاصة، ولا يكلفون الدولة في الحرب شيئًا؛ فإن جراب الدخن الذي يضعه أحدهم
على ظهره وقت المجالدة والمكافحة - يكفيه شهرًا كاملاً! وهم يحتقرون عسكر
الأتراك الذين يذهبون إلى بلادهم، وقد علم الناس أجمعون أنه عسكر شهدت له أوربا
كلها بأنه لا يفوقه عسكر في العالم، ومن الطرابلسيين جماعة السنوسي وهم الذين قال
فيهم الفرنسيون: إنهم أشد من الصخور؛ لأن هذه قابلة للتفتت وهم لا يتفتتون.
ووراءهم أهل وداي وبقرمي وسائر السودان الغربي، وكلهم خاضعون للدولة العلية
فإذا ألمَّ بإخوانهم في طرابلس ما يكرهون كانوا أعوانًا لهم، والله نعم المعين.
__________(2/88)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تربية الأطفال
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) ، فأول ما يشعر به الطفل ألم الجوع وألم
البرد وأول ما يُلهَمه امتص حلمة الثدي ثم تزيد الإدراكات فيسمع ويبصر من غير
تمييز بين مدرك وآخر ثم يميز بين مرضعته وغيرها حتى إن بعض الأطفال الذين
يعودون على الرضاع من امرأة واحدة إذا اتفق أن حاولت مرضع أخرى إرضاع
أحدهم يأباها وينفر منها، وهو نوع من التمييز في سن اللبان ظاهر لكن التمييز بين
النافع والضار ووعي الخطاب والاعتبار به إنما يتم في بضع سنين؛ ولذلك قال
الفقهاء والحكماء: إن السنة السابعة هي سن التمييز. وأوجبوا على قيِّم الطفل أن
يأمره بالعبادة كالصلاة والصوم إن أطاقه في هذا السن، ويتوهم كثير من الناس أن
الابتداء بالتربية يكون من هذا الوقت، وهو خطأ لا يحتمل الصواب، والحق ما قدمناه
في نبذة سابقة من أن التربية تكون منذ الولادة أو الحمل في قول، ولا نعني بهذا
التربية الجسدية فقط بل التربية بأنواعها الثلاثة - الجسدية والنفسية والعقلية -
يُبتدأ بها من يوم الولادة.
يقول قائل: إن دماغ الطفل لا عمل له في أول طور الطفولة كما أنه لا عمل
عضويًّا اختياريًّا له يطبع في نفسه ملكات الفضائل أو الرذائل، فما معنى تربية نفسه
وعقله حينئذ؟ !
والجواب: إن خلايا الدماغ - الذي هو محل الإدراك - تنمو بنمو الجسد؛
فالعناية بتربية جسد الطفل عناية بتربية عقله، وقد قلنا: إنه يدرك في سن اللبان
بعض الجزئيات ويميز أيضًا بينها تمييزًا ما. وكل إدراك وتمييز له أثر في
الدماغ، وكل عادة يعود عليها الطفل يكون لها أثر في نفسه وإن لم تظهر آثار ذلك
كله إلا في المستقبل، فالمعاملة التي يعامَل بها الوليد من أول النشأة هي بمنزلة
الأساس لأخلاقه وملكاته وعاداته ومدركاته، لكن الغافلين يرون البناء الرفيع ولا
يتفكرون في أنه قائم على أساس خفي في الأرض وأن ثباته وقوته بذلك الأساس.
ومن الجهل الفاضح أن ينكر الإنسان الآثار التي لا تظهر فورًا. ألم تر أن الكبير
إنما تنطبع العادات في نفسه بتكرار العمل حتى تصير ملكات راسخة تتعسر عليه
مقاومة آثارها. يشرب من لم يكن معتادًا على التدخين سيجارة مسايرة لصديق له، ثم
أخرى إجابة لصديق آخر، فينصحه بعض العقلاء بترك هذه المسايرة والمجاراة
محذرًا له من صيرورة التدخين عادة، فلا يلتفت إلى قوله، وربما يصرح له بأن
من المُحال أن يعتاد هذا أو ينفق عليه درهمًا! فلا يزال يعمل التكرار في دماغه
في مركز مخصوص منه حتى تنطبع الملكة وتدفع الرجل إلى المواظبة وإنفاق
المال مهما كانت حاجته إليه شديدة. وهكذا شأن من يتعود على الميسر (القمار)
وغيره من الأعمال القبيحة أو الحسنة. فإذا كان العمل الاختياري من المميز
والعاقل لا يظهر أثره إلا في نفسه إلا بعد زمن طويل فهل يصح لنا أن نحكم بأن
ما نعامل به الطفل لا يؤثر في نفسه؛ لأننا لا نشاهد الأثر عقيب المعاملة؟ ! كلا.
فليعلم الآباء والأمهات أن سعادة أولادهم بل سعادة أوطانهم وبلادهم - تتوقف
على تربية أولئك الأولاد من أول النشأة، فالمرأة التي لا تعتني بتنظيف وليدها
وبإرضاعه وتقريمه [تعليمه الأكل] وتنويمه في أوقات معينة وبكيفيات منتظمة،
والتي تكذب عليه بالقول أو العمل لأجل الترغيب أو الترهيب، وتسبه وتفحش عليه
وتهينه وتضربه عند الغضب، والتي لا تبالي بسيئاته إذا أساء وتسترضيه إذا غضب
ولو بالباطل بالشهوات المضرة، والتي تؤْثر أحد أولادها على الآخر ذكرًا كان أم
أنثى - التي تعامل أولادها في الصغر بما ذكر لا ينبغي أن تعتب على الحظ أو تحيل
على القدر إذا رأتهم في الكبر قذرين متهاونين في شؤونهم وشؤون أوطانهم لا يتقنون
عملاً ولا يتحامون زللاً، كذَّابين منافقين مسرفين ظالمين فاحشين أرذلين متعادين
متباغضين يؤثر كل واحد شهوته على كل شيء ويزاحم أخاه بما يتسامح بمثله مع
الأجنبي. بل يجب أن تعتقد هذه الأم الشقية أن هذا البلاء هو ثمرة ما غرست
وعاقبة ما قدمت، وسنفصل القول في أنواع التربية الصحيحة تفصيلاً.
***
التعليم الفطري
جميع العلوم والفنون مأخوذة قواعدها الكلية من المحسوسات؛ فالصغير يدرك
في أول أمره الجزئيات الحسية ثم ينتزع الكليات من التوافق والتباين اللذين يراهما
فيها. ولا يخفى على العلماء أن تمحيص الحقائق وصيرورة حدود القواعد العامة
جامعة مانعة لم يصل إليهما الإنسان إلا بعد بحث طويل في سنين كثيرة. فإدراك
الكليات والإشراف منها على الجزئيات هو غاية العلم ومنتهى التحصيل، ومن
الحماقة والجهالة أن يطالَب الأحداث في ابتداء تعليمهم بغايات العلماء بعد الأبحاث الطويلة في العصور والأجيال، وهو فهم القواعد الكلية واستنباط الجزئيات منها.
والصراط المستقيم لحسن التعليم هو صراط الفطرة والطبيعة وهو أن تلقي
للتلميذ أمثلة محسوسة كثيرة ثم تنبهه على أن هذه الجزئيات يجمعها أمر كلي يسهل
على من تعقله أن يلحق كل ما يعرض له من الجزئيات به وهو كذا، ثم يطالَب بأن
يأتي بعدة أمثلة من عند نفسه، ويلي هذا الطريق أن يفهم التلميذ القاعدة إجمالاً ثم
توضح له بكثرة الأمثلة. وبهذا التعليم يستغني بقراءة كتاب واحد مرة واحدة عن
قراءة الكتب الكثيرة وتكرارها، وبهذا التعليم تُحفظ المسائل فلا تُنسى إلا ما شاء الله،
وكل طالب علم يعرف من نفسه أنه ينسى أو يذهل عن أكثر المسائل التي لا
يستعملها، ولا يأتي عليها بأمثلة كثيرة ما لم تكن المسألة من البديهيات.
الإتيان بالأمثلة الكثيرة على القواعد نوع من العمل، وقد كتبنا نبذة سابقة في
(التعليم بالعمل) بينا فيها أن العلم إنما يثبت وينمو بالعمل، والعلم الصحيح الذي
يجدر أن يسمى صاحبه عالمًا - هو ما كانت ملكته راسخة في النفس تصدر عنها
آثارها بلا تعمُّل ولا رويّة. وقد علمت مما تقدم آنفًا في نبذة (تربية الأطفال) أن
الملكات لا تنطبع في النفس إلا بتكرار العمل.
وإن تعجب فعجب قولهم: إن العالم مَن إذا قرأ الكتب التي درسها مرارًا يفهم
أساليبها ونكتها ويقدر أن يأتي في المسألة الواحدة باحتمالات كثيرة - وربما لا يجزم
بشيء منها - ولا يشترط فيه أن تكون المسائل والقواعد راسخة في نفسه بحيث
يأتي بجزئياتها بغير تكلف ولا ملاحظة قاعدة.
حقًّا أقول: إن كل هذا هو العلم فما أقل فائدة العلم! وما أبعد المسافة بينه وبين
سعادة البشر، بل أقول: إن العلم الذي لا يؤثر في أخلاق النفس ولا يبعث ويزعج
إلى إصلاح أعمالها لغو لا فائدة فيه ألبتة ولا يصح أن يسمى علمًا. فإن قيل: فائدته
القيام بإفادة الناس به بالتعليم. نقول: ولماذا يتعلم الناس ما لا أثر له في أخلاقهم
وأعمالهم التي هي مصدر سعادتهم؟ ! قال بعض علماء التعليم من أهل
الغرب: إن كثرة المطالعة تورث النسيان وكثرة المكث في المدرسة تورث البلادة.
وقال: قد ثبت بالاستقراء أن أكثر النابغين كانت مدة إقامتهم في المدارس قليلة.
فعسى أن يتنبّه طلاب العلم - لا سيما الأزهريين ومَن على شاكلتهم - إلى
طريقة التعليم المثلى، فيستفيدون في الوقت القصير علمًا كثيرًا وما يتذكر إلا مَن
ينيب.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/90)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(غرائب الزمان في فتح السودان)
صدر الكتاب الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الأديب محمود أفندي طلعت وفيه
الكلام على السودان من أيام فتحه في عهد إسماعيل باشا إلى أيام الفتنة العُرابية.
وصاحبه قد سافر إلى السودان وكان من عمال الحكومة المصرية فوصف ما شهده
واختبره بنفسه، ووضع الكتاب في شرح رحلته، وذكر فيه ما وقع معه من الشؤون
الغرامية فكان رواية تاريخية غرامية صحيحة، وهذا يضمن له الرواج. وقد تصفحنا
بعض صفحاته، فاستعذبنا القول على أن فيه غلطًا كثيرًا، لكنه مدرك بالبداهة.
***
(المناظر)
جريدة عربية جديدة ظهرت في (سان باولو - البرازيل) رئيس تحريرها
الكاتب الأديب نعوم أفندي لبكي ومديرها الأديب فارس أفندي سمعان. فماذا عسى
نقول في الثناء على همة أبناء وطننا السوري وحبهم للمعارف والآداب، وهذه
الشرذمة منهم في بلاد البرازيل لم تكتفِ بجريدة ولا جريدتين فهكذا هكذا وإلا فلا لا.
***
(شكوى الاحتلال بلسان الحال)
قصيدة غراء مما نسميه بالشعر العصري لناظمها الشاعرالمجيد أحمد أفندي
محرم وقد علق عليها شرحًا لطيفًا وطبعها به، وربما نذكر بعض غُرر أبياتها في
فرصة أخرى.
__________(2/94)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور
حملت إلينا جريدة (بيسه أكبر - لاهور) الهندية علاوة تبين فيها حال
هذه الجمعية وهذه ترجمتها:
وصل إلينا التقرير السنوي الذي أذاعه كاتب سر هذه الجمعية ومحصله أن
مسلمي بنجاب أسسوا منذ 14 سنة في مدينة لاهور بحاضرة بنجاب جمعية إسلامية
لتعليم أولاد المسلمين وتربيتهم وسموها (أنجمن حماية إسلام لاهور)
والغرض منها:
(1) تعليم العلوم الدينية والتربية عليها؛ لينشأ المتعلمون على الفضائل
والكمالات الصحيحة.
(2) تعليم العلوم الدنيوية واللغات الأجنبية؛ تسهيلاً لطرق المعاش.
(3) العناية بتربية اليتامى؛ إنقاذًا لهم من دعاة الديانة المسيحية ومن
الموت بالجوع.
ثم توسعت الجمعية في عملها فأنشأت مدارس للبنات، وأرسلت وعاظًا إلى
كثير من الأقطار؛ ليبينوا حقيقة الإسلام ويثبتوا حقيقته لمن يجهلها من الأنام.
والأمر الذي يستلفت الأنظار هو أن مؤسسي الجمعية ليسوا من الأمراء ولا
من كبراء الموظفين وإنما هم أفراد من عامة أهل العلم والمستخدمين، وكان زعيمهم
وصدرهم أحد مشاهير العلماء صاحب الفضائل الحاج مولوي خليفة حميد الدين
(رحمه الله تعالى) وابتدأ القوم عملهم بالاكتتاب العمومي وكانوا في أول الأمر
يجمعون الدقيق كل يوم من البيوت بواسطة شيوخ الحارات ويأخذون الصدقات من
الولائم والوضائم (طعام الخزن) حتى كان يخيل أن الجمعية إنما هي لإطعام
الفقراء والمساكين المضطرين. ولما شاهد الأمراء وكبراء الموظفين وعامة الناس
ثبات المؤسسين وحسن نظامهم ونجاح عملهم الذي كانوا يعتنون منه بالتربية وحسن
السيرة أكثر مما يعتنون بالتعليم - أقبلوا على الجمعية وتنافسوا في أن يكونوا من
أعضائها حتى إن بعض أمراء الحاضرة رضي بأن يتولى إدارتها وبعض موظفي
نظارة المعارف قبلوا أن يكونوا مفتشين فيها، كانت الجمعية في أقصى الهند، ولما
طار صيتها توالت عليها الوكلاء من كل جانب، وهُرِع الناس لحضور احتفالاتها
السنوية من كل صوب، وتنافس الخطباء والشعراء بإلقاء الخطب المؤثرة وإنشاد
القصائد البليغة في تعظيم شأنها حتى صارت منتجع العلماء ومورد الأمراء، وبلغ
شهود احتفالها ستة آلاف رجل في السنة، وأجمع أهل الحِجَا والفهم وأصحاب الغيرة
والهمة على مساعدتها وتعضيدها، فرسخت جذورها وامتدت فروعها وتشعبت
أفنانها فأنشأت بناءً فسيحًا للدروس الخارجية وشيدت غرفًا خاصة لليتامى، فهم في
معاهدها يأكلون وينامون ويصلون ويتعلمون ويشتغلون ويرتاضون.
أما عدد التلامذة فقد كان في السنة الماضية كما ترى في الأرقام:
أقسام المدرسة ... العدد في أول السنة ... العدد في آخرها
القسم الكلي ... ... ... 62 ... ... ... 63
القسم التجهيزي ... ... 52 ... ... ... 67
القسم المتوسط ... ... 205 ... ... ... 192
القسم الابتدائي ... ... 516 ... ... ... 561
المجموع ... ... ... 835 ... ... ... 883
وأما الواردات والنفقات والتوفير فقد كانت في السنة الماضية كما تراه بحساب
الروبيات والجنيهات:
التوفير من سنة 1897 (18902) ... ... روبية أو 1260 جنيه
واردات سنة 1898 ... ... (31043) ... روبية أو 2069 جنيه
المجموع إلى آخر ديسمبر منها (49945) ... روبية أو 3329 جنيه
النفقات إلى آخر ديسمبر منها (33837) ... روبية أو (2255) جنيه
فيكون الموفر لسنة 1899 ... (16108) ... روبية أو (1074) جنيه
وتجتهد الجمعية في اقتناء الأملاك وتشتغل بتأليف الكتب المدرسية وتطبعها
على نفقتها؛ لتربح من بيعها. وبيان مجموع ما عند الجمعية من النقود، الكتب
المطبوعة والأملاك المشتراة والتي تبرع بها أهل الغيرة والحمية إلى آخر ديسمبر
سنة 1899 ما يأتي:
قيمة الأملاك ... ... ... 32445 ... روبية أو 2163 جنيه
قيمة الكتب ... ... ... 13904 ... روبية أو 927 جنيه
النقود الموفرة من سنة 98 ... 16108 ... روبية أو 1074 جنيه
المجموع ... ... ... ... 62457 ... روبية أو 4164 جنيه
وقد أسست الجمعية منذ سنتين مدرسة خصوصية لتعليم العلوم العربية والدينية
على طريقة المتقدمين سمتها (المدرسة الحميدية) نسبة لرئيس الجمعية سابقًا
المرحوم مولوي خليفة حميد الدين وتذكارًا له. وتعد هذه المدرسة فرعًا من مدرسة
(أنجمن حماية الإسلام) وكان أكثر الناس تبرعًا بالنقود لتأسيس هذه المدرسة
المولوي خليفة عماد الدين أكبر أنجال المرحوم وأحد مفتشي المدارس الأميرية في
لاهور اهـ. من ترجمة الفاضل عبد الرحمن الهندي مُكاتب جريدة وكيل الهندية
الغراء.
فهكذا تكون الهمم وهكذا تكون العلماء، نجَّح الله مقاصد هذه الجمعية وجزى
الأفاضل الذي أسسوها وعضدوها أفضل الجزاء.
__________(2/95)
19 ذو الحجة - 1316هـ
29 إبريل - 1899م(2/)
الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي
__________
الأعياد
] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ [[1]
لحضرة الفاضل الأزهري صاحب الإمضاء
عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري
العيد اسم لما يحصل فيه الاجتماع العام على وجه معتاد، سواء كان سنويًّا أو
شهريًّا أو أسبوعيًّا، زمانيًّا أو مكانيًّا وقد يصدق على مجموع اليوم وما يصنع فيه،
وعلى المكان وما به وعلى الاجتماع وحده أو مع ما يصحبه من العبادات والعادات
وبضرورة تباين العرب في المذهب والمشرب - تباينت أعيادهم في الزمان والمكان
ولمناسبة عيدنا الأكرم أردت توضيح ذلك على وجه الإجمال والاختصار تفكهة لقراء
(المنار) بهاته النبذة التاريخية.
اعلم أن العرب كانوا في الجاهلية شيعًا متفرقين وفرقًا مختلفين فقد كانت
(النصرانية) في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت (اليهودية) في حِمير وبني
كنانة وبني الحارث بن كعب وكِندة، وكانت (المجوسية) في تميم، وكانت الزندقة
في قريش، أخذوها من الحيرة، والمراد بالزندقة هنا عدم الإيمان بالآخرة والربوبية
وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلهًا من حيس فعبدوه دهرًا طويلاً ثم أصابتهم
مجاعة فأكلوه، فقال فيهم رجل من تميم شعرًا:
أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة
ولا شك أن الأعياد من الديانات ولواحق العبادات، وإلى ذلك ذهب بعض
المفسرين في قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوه} (الحج: 67)
حيث فسروا المنسك بالعيد، فلم يكن العرب يومئذ متفقين في الأعياد كما لم يتفقوا
في الدين والاعتقاد.
أما المشركون من عَبَدَة الأصنام فقد كان لهم في الجاهلية أعياد كثيرة، منها
مكانية، ومنها زمانية:
أما (المكانية) فكثيرة وهي مواضع أصنامهم وأوثانهم وأمكنة طواغيتهم،
وكانت الطواغيت الكبار التي كانت تشد إليها الرحال وتقام عندها الأعياد ثلاثة:
(اللات) و (العزى) و (مناة الثالثة الأخرى) وكل من هذه الثلاثة لمصر من
أمصار العرب؛ فكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل
المدينة، يهلّون لها شركًا بالله تعالى. وكانت لهم مواسم من السنة مخصوصة
للاجتماع عند هذه الثلاثة وتقصدها العرب من كل فج وتعظمها كتعظيم الكعبة،
وكان لها سدنة وحُجَّاب، وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة ويطوفون بها وينحرون
عندها مع اعترافهم بفضل الكعبة؛ عليها لعِلمهم أنها بيت أبيهم إبراهيم الخليل عليه
السلام ومسجده. وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نُصُب يعبدونها ولهم
فيه من السنة موسم وعيد، وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة بين
أظهرهم لها في كل سنة موسم وعيد، وإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب
حسن وحُلي النساء ثم خرجوا إليها وعكفوا يومًا.
وأما (الزمانية) فهي كثيرة، منها أيام مسراتهم وأفراحهم لظفرهم على عدوهم
ونصرتهم على خصومهم ومحاربيهم، وذلك يختلف باختلاف الشعوب والقبائل،
فيتفق أن يكون يوم عيد لقوم يوم حزن وبؤس على آخرين. وكان لأهل المدينة
يومان يلعبون فيهما فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لهم: قد أبدلكم الله
بهما خيرًا منهما يوم الفطر والأضحى. ومنها يوم السبع وهو عيد من أعياد قبيلة من
قبائل العرب في الجاهلية، كانوا يشتغلون فيه باللهو واللعب، وكذلك يوم السباسب.
وأما أعياد المجوس - وهم الفرس وشرذمة من العرب وغيرهم - فهي كثيرة
جدًّا، إلا أنَّا نقتصر على المشهور منها الذي أولع الشعراء بذكره واعتنى الأمراء
بأمره وهو (النيروز) والمهرجان والسذق - فهو تعريب نوروز وهو أعظم
أعيادهم ويقال: إن أول مَن اتخذه جمشاد وهو أحد ملوك الطبقة الأولى من الفرس،
وسبب اتخاذهم هذا اليوم عيدًا أن طمهورة لما هلك ملك بعده جمشاد فسمي اليوم
الذي ملك فيه نوروزًا؛ أي: (اليوم الجديد) ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو
اليوم الذي خلق الله تعالى فيه النور، وأنه كان معظمًا قبل جمشاد. وبعضهم يزعم أنه
أول الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدوران ومدته عندهم ستة أيام، أولها اليوم الأول من
شهر أفرود ريزماه الذي هو أول شهور سنتهم، ويسمون اليوم السادس النيروز الكبير؛
لأن الأكاسرة كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس على اختلاف طبقاتهم
ثم ينتقلون إلى مجالس أُنسهم مع خواصهم فيه، وهو يعمل في 17 حزيران، وقيل:
في 11 منه. وأما المهرجان فوقوعه في 16 تشرين أول من شهور السريان، ومن
شهور الفرس في 16 من مهرماه وهو ستة أيام ويسمى اليوم السادس المهرجان الأكبر.
وسبب اتخاذهم له [2] أن بيوراسب وهو الضحاك ويقال له: أوذهاق. ذو الحبتين
والأفواه الثلاثة والأعين الست الداهية الخبيث المتمرد لما قتل جمشاد
وملك جاءه إبليس في صورة خادم فقبَّل منكبيه فبدت فيهما حبتان وكانتا تؤلمانِه
فوصف له دمعة الناس فكان يقتل كل يوم غلامين لذلك، فأجحف بقتل الولدان في
الرعية، فخرج رجل بأصبهان يقال له: كابي. وعقد لواءً من جلد أسد ودعا الناس
إلى محاربة الضحاك، فاجتمع له خلق كثير ولما تحقق عند الضحاك ذلك هابهم
وهرب منهم فاجتمع الفرس إلى كابي ليُملِّكوه فقال: ما أنا من أهله.
وذكر لهم أن معه صبيًّا من ولد جمشاد يسمى فريدون وقال: أرى أن تملكوه وتعيدوا
المُلك إلى أهله. فملكوه، فخرج فريدون في طلب الضحاك فوجده، فأخذه وشده
وحبسه في جبل دنياوند وجعل ذلك اليوم عيدًا وسماه المهرجان. وقيل في
سبب اتخاذه غير ذلك.
وكانوا يتهادون في النيروز والمهرجان بالمسك والعنبر والعود الهندي
والزعفران والكافور. وأول من رسم هداياهما في الإسلام الحجاج بن يوسف الثقفي،
وأول من رفع ذلك عمر بن عبد العزيز واستمر ذلك إلى أن فتح الهدية فيه أحمد بن
يوسف الكاتب، فإنه أهدى فيه للمأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هندي في طوله
وعرضه وكتب معه: (هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة) .. إلى آخر
ما قال.
وأما السذق فيعمل في ليلة 11 من شهر أيار - مايو - ويسمى هذا اليوم عند
الفرس روزابا؛ لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسمًا، ويقال في سبب اتخاذهم له
أن فراسياب لما تملك سار إلى بلاد بابك فأكثر فيها الفتنة وخرب ما كان عامرًا منها
فخرج عليه زفرب بن طهمازشب فطرده عن مملكة فارس إلى بلاد الترك، وكان ذلك
في يوم روزابان فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدًا وجعلوه ثالثًا لعيدي النيروز والمهرجان
ولما تملك وضع عن الناس خراج سبع سنين فعمرت البلاد. وقيل في السبب غير
ذلك، وللفرس أعياد دون ما ذكرناها منها عيد يسمى نيركان وأيام الفيروزجاة، أي:
تربية الروح وركوب الكوسج وبهمنجه.
أما القبط والنصارى فقد قيل: إن أعيادهم أربعة عشر عيدًا، سبعة يسمونها
كبارًا وسبعة أخرى يسمونها صغارًا.
فالكبار: البساره (1) والزيتون (2) والفصح (3) وخميس الأربعين
(4) وعيد الخميس (5) والميلاد (6) والغطاس (7) ، وأما الأعياد الصغار:
فالخنان (1) والأربعون (2) وخميس العهد (3) وسبت النور (4) وحد
الحدود (5) والتجلي (6) وعيد الصليب (7) .
وأما اليهود فقد قيل: إن أعيادهم خمسة، يسندونها إلى التوراة وهي:
(1) عيد رأس السنة يعملونه عند رأس سنتهم وينزل عندهم منزلة عيد
الأضحى عندنا. (2) وعيد صوماريا وهو عندهم الصوم العظيم الذي فرض
عليهم صومه ومدته خمس وعشرون ساعة، (3) وعيد المطل (4) وعيد الفطير
(5) وعيد الأسابيع - وهذه الثلاثة الأخيرة حجوج عندهم - والذي أحدثوه بعد
الخمسة عيد الفور وعيد الحنكة.
وأما المسلمون فلنذكر ما اشتهر من أعيادهم على سبيل الاختصار والإيجاز
فنقول:
قد تقدم أصل مشروعية عيدي الفطر والنحر وأنهما استبُدلا بيومين كان أهل
المدينة يلعبون فيهما في الجاهلية وقيل: هما النيروز والمهرجان. وسبب الاستبدال
أنه ما من عيد إلا وسببه إقامة شعار ديني أو تعظيم بعض أئمة الدين أو شيء مما
يضاهي ما ذُكر، فكان في هذا الاستبدال محو ما عساه يكون منشأ اللعب في ذينك
اليومين من شعار الجاهلية وإقامة سنة سلفهم الضالين وإثبات شعائر الملة الحنيفية
وإقامة سَننها، وشرع فيهما مع التجمل والتوسع والفرح والسرور - ذكر الله تعالى
وطاعات أخرى تنزهًا عن إمضاء الوقت كله في اللهو واللعب وخلوّه من إعلاء كلمة
الله.
أحد العيدين يوم الفطر من صيامهم وأداء نوع من زكاتهم، فيجتمع فيه الفرح
الطبيعي بالتفرغ من مشقة الصيام، وبتوسعة الأغنياء على أنفسهم وأخذ الفقراء
الصدقات، والفرح العقلي بالتوفيق لإكمال العدة والتعرض للمثوبة والأجر وببلوغ
الموسم مع النعم في الأهل والمال بالنسبة للأكثرين.
والثاني يوم الفراغ من معظم أركان فريضة الحج الواجب على مجموع الأمة،
ويقوم به بعضها في كل عام، وتذكار محاولة سيدنا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل
(عليهما الصلاة والسلام) وإنعام الله تعالى عليهما بأن فداه بذِبْح عظيم. وناهيك بتذكر
أئمة الملة الحنفية والاعتبار بهم في بذل المهج والأموال في طاعة الله تعالى وقوة
الصبر، وفيه تشبّه بالحجاج وتنويه بهم وتشويق لما هم فيه.
وشرعت في الأول زكاة الفطر وهي واجبة، وفي الثاني الأضحية وهي سنة
عند بعض الأئمة وواجبة عند آخرين. وبهذين النوعين من الصدقة تكون أيام العيدين
أيام سعة على الأمة كلها وهو معنى كونها ضيافة الله تعالى، وشرع في كل منهما
التكبير والصلاة المخصوصة والخطبة؛ ليجتمع لهم السرور الروحاني والجسماني
معًا، وفي العيدين مقصد من أهم مقاصد الشريعة وهو الاجتماع العام للتعارف
والتآلف، ومعلوم أنه لا بد لكل ملة من اجتماع في صعيد واحد؛ لتظهر شوكتهم وتعلم
كثرتهم؛ ولذلك استحب في العيدين خروج جميع المسلمين إلى المصلَّى حتى الصبيان
والنساء، ومن لا يصلي من النساء يعتزلن المصلى ويقفن جانبًا يشهدن المصلين؛
ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الطريق ذهابًا وإيابًا؛ ليطلع
أهل الطريقين على شوكة المسلمين. ولما كان الأصل في العيد إظهار الفرح
والسرور بالزينة ونحوها استحب فيهما حسن اللباس والتقليس - ضرب الدفوف -
وروي عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان
وتضربان - وفي رواية تغنيان - بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، والنبي صلى الله
عليه وسلم متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن
وجهه وقال: دعْهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد، وفي رواية: (يا أبا بكر لكل قوم
عيد وهذا عيدنا) حديث متفق عليه.
وتفصيل القول - فيما يُطلب شرعًا في الأعياد - يراجع في كتب الفقه.
... ... ... ... ... عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري
__________
(1) (الحج: 67) .
(2) المنار: هذه الحكاية من أساطير الفرس الخرافية يتناقلها المؤرخون الذين ألفوا الخرافات.(2/97)
الكاتب: أحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام
__________
الساكت عن الحق شيطان أخرس
لأحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام
عثرت - بطريق المصادفة والاتفاق - على مقالة في جريدة طرابلس في
العلاج الشافي من داء التأخر الملمّ بنا برّأ بها محررها ساحة العلماء من تبعة هذا
التأخر، وادعى أن العلاج الشافي هو عقد الشركات، وسكت عما سوى ذلك من الأمور المهمة مكتفيًا بالعَرَض عن الجوهر، فلم أشأ أن أسكت عن بيان الحق؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس فأقول:
أما تبرئته ساحة العلماء فلا أراه مصيبًا فيه؛ لأن العلماء هم هداة الأمة
ومرشدوها وهم المطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم إذًا المسئولون
بعد الأمراء الذين بيدهم الحل والعقد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا كلكم
راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) ، ولقوله أيضًا: (ما من عبد يسترعيه الله رعية
فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة) إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة التي
نكتفي منها بما تقدَّم.
ووجه مسئولية العلماء هي لأنهم عدلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إلى التزلف والتملق للأمراء وأصحاب الجاه واليسار، وعن الإرشاد الصحيح إلى
التضليل، وعن بث العلوم الصحيحة إلى التعلق بأهداب الخرافات والتُّرَّهَات، أما
الأول فهو ظاهر فيما نراه من إقبالهم على الأمراء وإطرائهم إياهم وتزيينهم لهم سوء
أعمالهم لرتبة ينالونها أو مال يصيبونه أو جاه يحصلون عليه؛ حتى إن واحدًا منهم
ألف كتابًا ضخمًا في مجلدين في إطراء أحد الظلمة الخونة. وأما الثاني فهو معلوم
من وعظهم وإرشادهم بحكايات يحكونها وروايات يروونها، ما أنزل الله بها من
سلطان؛ يُضلون بها العقول، ويفسدون الأفهام ويثبطون الهمم ويُقْعدون
العزائم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا ساء ما يعملون. وأما الثالث فلعدولهم
عن العلوم الصحيحة الحقة إلى السفاسف، ومزْجهم الحق بالباطل كما هو مثبت بتقاريرهم التي يلقونها في دروسهم المشحونة بالأقاصيص والحكايات، وبتآليفهم
السخيفة البعيدة عن التحقيق الحاوية ما تمجّه الأذواق وتأباه العقول السليمة.
نكتفي منها بإيراد ما يأتي من كتاب (الفواكه الجنوية في الملتقَطات النجوية
تأليف العالم العلامة البحر الفهامة مَن فضله في الأقطار ساري الأستاذ الشيخ عبد
الهادي نجا الإبياري أمد الله في حياته ونفع المسلمين بمؤلفاته، آمين) (كذا في
الأصل) ، فقد جاء في الصحيفة 145 من النسخة المطبوعة في القاهرة ما نصه
بالحرف الواحد:
(ومما جرب للقرينة وأخذناه عن بعض الأكابر أن يسقى الطفل لبن معزى
حمراء، ويدهن جسده كله من هذا اللبن، وأن يعلق عليه بندقى، وأن يحك عود
الصليب الهندي الأصلي في لبن البز، ويسقى له، وأن يؤخذ فراخ الحمام الصغار
وينتف ما على دبرها من الوبر ويوضع منفذ الدبر منها على منفذ دبر الصبي، فكل
حمامة ماتت توضع غيرها وهكذا. إلى أن يصيب الأخيرة شيء فيعلم أنها ذهبت،
ومما جربناه للقرينة أيضًا أن تحضر عجوز قد آيست من الحيض وتوضع وجه الطفل
أمام … وهو مفتوح، وتوضع إصبعها فتلطخه برطوبة ... وتخط به (صليبًا!)
على جبهة الطفل، ثم تأخذ قطعة شبه زفرة قدر البندقة وتخط بها (سبع) خطوط
على جبهته أيضًا، ثم تحرقها وتضعها في رغيف وترميه لكلب أسود يأكله، والشب
المذكور إذا وضع على رف في البيت بعد أن حك به جبهة الصبي مرارًا وأحرق
وكان بالصبي نظرة - فإنها تذهب ولا تعود) (انتهى) .
فهؤلاء هم العلماء والمرشدون في هذا العصر، وفي كل يوم نسمع منهم أشياء
كثيرة تماثل ذلك أو تزيد عليه ومن أنكر عليهم رموه بالزندقة وقالوا: إنه مارق من
الدين. ونفروا العامة منه، فعلى مثل هذا الجهل يؤاخَذ العلماء. أما ما ذهب إليه من
عقد الشركات فهو من الأمور الثانوية و (حاجتنا الكبرى) إنما هي إلى عمال
أمناء صادقين أكْفَاء عفيفين متهالكين متفانين في حب الدولة والوطن، يساعدون سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم على إنفاذ رغائبه في تعميم الإصلاح بنشر ألوية
العدل والضرب على أيدي الظلمة الخونة؛ فإن الظلم مُؤْذِن بخراب العمران، كما
أثبت ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته. وهذا لا يتم إلا بتوسيد المناصب
إلى أهلها، وتعميم العلوم والمعارف بين طبقات الناس والسيطرة على الأعمال
ومكافأة الأمين الصادق ومجازاة الخائن المارق ونهضة العلماء لإرشاد الناس لما
فيه صلاح دينهم ودنياهم فعندها تتوفر الأموال وتتوطد الأمنية فتعقد الشركات وتحيا
الصنائع وتنمو الثروة..إلخ، فعلى الجرائد الصادقة أن ترمي إلى هذا الغرض
وتبوح بهذا السر وتكشف عن هذا المُعمى؛ فإن كتمان الداء يزيده عياءً، والناصح
الأمين لا يماحك ولا يوارب ولا يغش ولا يخادع. وبالله التوفيق.
(المنار)
طفقت الأمة تتنبه إلى عذل العلماء ولومهم على تقصيرهم في إرشادها إلى ما
تقوم به مصالحها المعاشية والمَعادية وفقًا لدينها القويم، فهذه رسالة من أحد بلاد
سوريا، وعندنا رسالة أخرى أشد عذلاً من هذه. تنبهت الأفكار في جميع الأقطار فإذا
لم يلتفت العلماء إلى النظر الدقيق في أحوال العصر وما تقتضيه مصلحة الأمة فيه،
ويقوموا بالإرشاد الصحيح الموصل للغاية يوشك أن لا يمر بضع سنين إلا والرأي
العام منحرف عنهم أشد الانحراف بل ينتظر ما هو أعظم من هذا.
نعم، إن هذا مما تتوقع مضرته وتخشى مغبته، ولكنه ليس بأضر من الخضوع
الأعمى لهم، وهم على ما هم من الشؤون التي تكلمنا عنها في مقالات كثيرة وسنزيدها
شرحًا وبيانًا، أليس من العار أن تكون كتب المشهورين بالنباهة منهم مملوءة
بالخرافات والهذيان والغش من غير نكير، وأن ينقل عن بعض أكابرهم القول بأن فن
تقويم البلدان - بل وسائل الفنون الرياضية والطبيعية - لا لزوم لها ألبتة؟ !
أليس من الفضيحة أن يقول بعضهم: إن الانتظام والترتيب مفسد للأزهر ومُذهب
لبركته؛ لأن في الخلل القديم سرًّا روحانيًّا؟!
كفى كفى؛ مَن كتم داءه قتله. ليأخذ من لم يعرف أحوال العصر برأي من
عرف. ليخضع من تقوم عليه الحجة لها، وليتفقوا جميعًا على العمل قبل أن يخرج
الأمر من يدهم. والسلام.
__________(2/103)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تربية الأطفال
أول خدمة يخدم بها الطفل بعد فصله من أمه - غسله ودهنه وإلباسه ما يقي
بدنه من البرد وإرضاعه، وأما الغسل فينبغي أن يكون بماء فاتر مساوٍ لحرارة البدن
أو قريب منها، وأن لا تطول مدته، وأن يلف جسم الطفل كله بمنشقة ويدلك دلكًا
لطيفًا بغاية الرفق، ثم يدهن بزيت الزيتون ويلبَس ثيابًا واسعة لا تضغط جسمه،
ويحسن أن تكون في أيام الشتاء دافئة ولو بالعرض على النار، وأن تكون جافة؛
فالثياب الرطبة تضر الأطفال بل والكبار أيضًا، وبلغنا أن الإفرنج يمسحون في كل يوم أجساد أطفالهم بماء فاتر وماء بارد على التعاقب مرة من هذا ومرة من
ذاك ويقولون: إن تعويد الطفل على هذا يمنع سرعة تأثره بالتغيرات الجوية
كالانتقال الفجائي من الحرارة إلى البرودة ومن الجفاف إلى الرطوبة وبالعكس،
وقريب من هذا ما يؤثر في كتب الأدب العربية من أن رجلاً رأى أعرابية تغطس
طفلها في النهر في أيام الشتاء فسألها عن السبب في ذلك فقالت: أريد أن أجعله كله
وجهًا. تعني أن الوجه إنما لا يضره البرد لما اعتيد من تعريضه له من الصغر
فإذا عُود الجسم كله على برد الماء والهواء يصير يحتمله كما يحتمله الوجه.
ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه؛ فالذين اعتادوا الترف والتنعم
والاحتراس من البرد وتوارثوا ذلك خلفاً عن سلف إذا عرض أحدهم طفله للبرد
الشديد وحاول جعله وجهًا بالتعويد يوشك أن لا يتم له ما يريد فيولد الماء البارد في
ولده الالتهابات التي ربما تنتهي بالممات! وقياس مترفي الحضر على الأعراب
قياس مع الفارق.
أما المسح بالماء الفاتر فالبارد بإسفنجة في نحو بضع دقائق ثم تنشيف البدن
ودلكه، فلعله ينفع ولا يضر حتى المترفين أصحاب الأجسام النحيفة الضاوية، ولا
بأس أن يغطس الطفل في الماء البارد فالسخن على التوالي والتعاقب بعد أن يكون قد
اعتاد جسمه على ذلك المسح، وبعد طور الرضاعة يكتفى بمسح الوجه والرقبة
والصدر بما ذكر؛ فهو يغني عن مسح البدن كله أو تغطيسه.
أكثر الأمراض التي تفتك الأطفال في سن الطفولية تكون من التغيرات الجوية؛
لأن الجسم فيه يكون سريع التأثر لا يقوى على الحر والبرد والرطوبة فضلاً عن
مقاومة مكروبات الأمراض العفنة الوبائية كالنزلة الوافدة أو الصدرية. وهذا العمل
يقولون: إنه يقي من هذه النزلة ومن التهابات الرئتين والشعب وأنواع الزكام وسائر
الأمراض الصدرية والمتولدة من التغيرات الجوية حتى قالوا: إنه يُذهب بالاستعداد
للسل. وحسبك هذا.
أما الرضاعة فيراعى فيها أمور، أهمها: أن ترضع الطفل أمه إن لم يكن
مانع من نحو مرض معدٍ أو هزال وضعف يضر المرضع أو الرضيع، فإن
أرضعته امرأة أخرى فينبغي أن تكون في سن الشباب سليمة من الأمراض المعدية
جيدة الصحة حسنة الخُلق والخَلق. وحسن الأخلاق من أهم شروط المرضع؛ لأن
اللبن كما يؤثر في انتقال المرض بالوراثة يؤثر في الأخلاق وإذا قلنا: إنه لا يؤثر في
الأخلاق. فمعاملة الفاسدة الأخلاق للطفل تكون غير منتظمة وقد قلنا من قبل إن
المعاملة التي تعامل بها الأطفال يكون لها تأثير كبير في عاداتهم وسجاياهم. يحكى
أن إمام الحرمين أرضعته مرة امرأة كافرة فاسدة الأخلاق فعلم والده بذلك فأقاءه
(جعله يقيء) ما رضعه، ثم إن الإمام بعدما كبر وصار علاّمة عصره كان إذا عسر
عليه حلّ مشكلة علمية أو بدرت منه بادرة غير مُرضية قال: إن هذا من آثار تلك
الرضعة. وقد ورد في الحديث الشريف: (لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء؛ فإن
اللبن يعدي) ويحسن أن يكون سن ولد المرضع مساويًا لسن الرضيع، وأن يكون قد
سبق لها إرضاع اختبرت به التربية.
وإذا لم يتيسر وجود مرضع بهذه الصفات فالأولى أن يغذَّى الولد بلبن
الحيوانات كالمعز والبقر بواسطة الآلة المعروفة؛ فإنه أسلم، ولكن لبن الأنعام أغلظ
من لبن البشر وربما اشتمل على مكروبات مرضية، فينبغي أن يضاف إليه قليل من
الماء والسكر بحسب تقدير الطبيب، وأن يسخن بحيث تموت مكروباته، ويكفي في
تسخينه حرارة 70 درجة بميزان سنتغراد. واللبن المغليّ أعسر هضمًا فلا يغلي لبن
الإرضاع غليانًا. ويجب أن تكون الآلة جديدة صالحة فإن كانت مما استعمل في
الإرضاع يجب تنظيفها وتطهيرها مما عساه يكون بها من التعفن ومكروبات
الأمراض.
هذا ما يراعَى في المرضع واللبن بالاختصار، أما الإرضاع نفسه فينبغي أن
يكون موقتًا بأوقات منتظمة لا يقل الزمن بين الرضعة والأخرى عن ساعتين في
أول الأمر، ثم تزيد المدة بينهما تدريجًا؛ لأن الطفل يأخذ في أول الأمر قليلاً من
اللبن وكلما كبر زاد مقدار ما يرضعه،والزيادة تقتضي زيادة المدة لأجل الهضم، وإن
كانت القوة تزيد معها أيضًا. وأكثر النساء لجهلهن لا يقصرن الإرضاع على التغذية
بل يجعلنه وسيلة للترضية، فكلما بكى الطفل يلقمنه الثدي، وربما يتوهمن أنه لا
يبكي إلا لطلب الرضاع أو أن كل بكاء يسكته الرضاع فهو لأجله، وإلا فهو عن
مرض. والصواب أن الطفل يبكي لأقل سبب كابتلال لفائفه وتألم بدنه ولو
من عقدة خيط في ثوبه.
وإذا حاول الطفل الحركة التي تقتضيها طبيعته فحال دون ذلك شد القماط عليه
يبكي، فليتجنب الإرضاع في غير وقته لأجل البكاء، وليعلم أن أكثر قيء الأطفال
من الإرضاع قبل الهضم، وناهيك به بلاءً على الأمهات والأطفال جميعًا.
أما مدة الرضاع فأكملها حولان تامان وأقلها واحد وعشرون شهرًا؛ أخذ ذلك
العلماء من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن
يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) ، وقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً} (الأحقاف: 15) وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة (9 أشهر) من مدة
الحمل والفصال (أي: الفطام) معًا، كما استنبطوا من الآيتين أن أقل مدة لحملٍ ستة
أشهر، وسيأتي الكلام على إطعام الأطفال وتقريمهم إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/107)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(كتاب تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)
لكل عصر من الأعصار مناهج مخصوصة في شؤون أهله الحسية والمعنوية
أو المادية والأدبية والأمور الثابتة التي تتغير بتغيُّر الزمان يطرأ التغيير على
وسائلها وعوارضها، وقد قال العلماء: إن من أسباب تغير الشرائع حتى
السماوية اختلاف شؤون البشر باختلاف الزمان. وأجمع المسلمون على أن الدين
الإسلامي آخر الأديان وشريعته خاتمة الشرائع. وإنما كان كذلك؛ لأنه جاء بقواعد
عامة تنطبق على مصالح البشر في عصر التشريع وفي كل عصر يأتي بعده مهما
بلغوا من الترقي في العلوم والأعمال، لكن هذه القواعد الصحيحة الثابتة تحتاج إلى
من يجليها في هذا العصر بما يناسبه ويستنبط منها الأحكام التي توافق مصالح
أهله، ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل الشريف الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام وأهله
فضلاً عن انتشاره وعزة أهله - إلا مَنْ عرف وقته وعرف الدين معرفة صحيحة.
ومن الأسف أن أكثر التصانيف الإسلامية في القرون الأخيرة أو كلها مأخوذة
من كتب المتقدمين نسخًا يشبه المسخ، وأنه لم يكن يوجد عندنا كتاب في الدين إذا
عرض على متمدني هذا العصر يأخذ من قلوبهم مأخذًا يستلفتهم إلى النظر في الدين
بتمثيله سائقًا لهم إلى سعادة الروح والجسد على الوجه الذي يناسب زمنهم وعمرانهم
حتى قام حكيم المسلمين في هذا العصر العلامة الشيخ محمد عبده وألف (رسالة
التوحيد) الشهيرة. وأمامنا الآن كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس
المدنية) الذي نوهنا به في العدد 33 من السنة الأولى لجريدتنا عند الشروع في
طبعه وذكرنا أن مؤلفه صديقنا هو القاضي الشاب الذي فاق الشيوخ أناة وكمالاً
وعملاً بعمله محمد فريد أفندي وجدي.
أما الكتاب فقد تم طبعه وقرأناه فإذا هو قد وافق اسمه مسماه، افتتحه بمقدمات
في الدين والعلم والإسلام، بيَّن فيها أن الدين ناموس عام ضروري في الكون كسائر
نواميسه، وذكر آراء مشاهير فلاسفة أوربا في النسبة بين الدين والعلم وفيما ينبغي أن
يكون عليه الدين، وبيّن أن العلوم الطبيعية خدمت الإسلام وأنها كلما ترقت وزاد
الناس رسوخًا فيها زادوا قربًا من الإسلام، وأن القواعد التي وضعها الفلاسفة
للديانة الطبيعية موجودة في دين الإسلام، وهي أربع:
(1) الاعتقاد بأن الله غني عنا وعن أعمالنا.
(2) وأنه رحيم بنا ويود صلاحنا.
(3) أن العبادة يجب أن تنطبق على النواميس الثابتة للحياة وتلائم الطبيعة
البشرية لا أن تعارضها وتسعى في ملاشاتها.
(4) وأن العبادة الجسمية يجب أن تعتبر وسائل لتطهير النفوس وتهذيبها لا
أغراضًا مطلوبة لذاتها.
واستدل على وجواد هذه الأشياء في الإسلام بالكتاب والسنة، ثم عقد فصولاً
في نواميس المدنية وانطباقها على الإسلام مبينًا النواميس بأقوال علماء أوربا
مستشهدًا على الانطباق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأراني مضطرًّا لأن
أقول: إن من الأحاديث التي أوردها ما لا يصح رواية وإن كان معناه صحيحًا ومسلّمًا
في الدين ولو راجع كتب الحديث لوجد في معنى تلك الأحاديث الواهية الإسناد
أحاديث صحيحة، وعساه يستدرك هذا في طبعة ثانية.
وقد خاض الكتاب في كثير من المسائل العصرية وبيّن نسبتها إلى الدين
الإسلامي: كالحرية بأنواعها، والواجبات بأنواعها، وبراءة الإسلام من الحقد
الديني المعبر عنه بالتعصب والاسترقاق، وأن الإسلام راعى فيه ناموس، الحضارة
وكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي راعى حقوق الروح والجسد معًا، وختم الكتاب
بنظرة في الإسلام والمسلمين أجمل فيها القول في أمراض المسلمين وبيان دوائها
الذي هو الإسلام نفسه.
وكفى هذا الكتاب شرفًا أننا جعلناه ثاني كتاب رسالة التوحيد التي لم يؤلّف
مثلها في الإسلام قط، ولعمري إن مؤلفه الفاضل جرى على آثار الأستاذ في الرسالة
أسلوبًا وبحثًا، ولا يعيبه أنه لم يبلغ شأوه بلاغةً وتحقيقًا وتحريرًا؛ فالأستاذ حكيم
الأمة في هذا العصر وأبلغ كُتاب العربية أجمعين. ومن جملة ما تبع فيه رسالة
التوحيد تشبيه النوع الإنساني كله بشخص منه، وبيان أن جميع الأديان والشرائع
السابقة كانت مناسبة لأطوار النوع من الطفولية ومبادئ التمييز، وأن الإسلام هو
الدين الذي منَّ الله به على الإنسان عند ابتداء دخوله في طور الرشد والعقل؛ ولهذا
كان آخر الأديان، على أن في الكتاب من الفوائد الكثيرة ما ليس في الرسالة كما أن
فيها ما ليس فيه، فلا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر. ومما يمتاز به الكتاب سهولة
التناول؛ فيتسنى لجميع طبقات الناس فهمه. وسننقل منه نموذجًا تعرف به مكانته من
الفائدة إن شاء الله تعالى. ومما انتقدناه على صديقنا الفاضل مؤلفه أنه هضم حقنا في
خدمتنا في المنار؛ حيث قال - في فاتحة الكتاب - ما نصه:
(نسمع كل جمعة على المنابر قائلاً يقول: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا
من القرآن إلا رسمه. ولكنا لم نسمع قط بأن عاقلاً قام يبحث بدقة وثبات عن أسباب
هذا الاضمحلال الشديد الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية من منذ (كذا) قرون كثيرة،
أما والعلم لو بحث باحث عن علل هذا الهبوط الهائل بعد ذلك الصعود السريع -
ما وجدها إلا في ترك السنن واتباع البدع) .
نحن قد سبقناه إلى هذا في المنار إجمالاً وتفصيلاً؛ حتى إن عبارة الخطباء
التي قالها قد ذكرناها في مقالة افتتحنا بها العدد 19 من السنة الأولى أو تكلمنا فيها
على البدع. وقد كتب المؤلف - لهذا العاجز منشئ المنار - كتبًا كثيرة يثني فيها
على خدمتنا للإسلام، وكأنه ذهل عن ذلك عند كتابة ما ذكر، وسبحان المنزه عن
الذهول والنسيان.
***
(إظهار لفضل وإصداع بحق)
لبعض الأدباء التونسيين
لا يخفى على حضرة القراء أنه ظهر في عالم المطبوعات من عهد غير بعيد
جريدة المنار المصرية لمنشئها الفاضل السيد محمد رشيد رضا وهو أحد فضلاء
الشرقيين، ومن يوم بروز هاته الجريدة إلى عالم الوجود أخذت تنشر مقالات علمية
في مواضيع شتى، يكتب مضمونها بالنور على نحو الحور، ولقد تصفحنا ما صدر
منها عددًا عددًا؛ فوجدناها قد بينت الأسباب التي هدمت الهيكل الإسلامي وقوضت
مجده إلى أن أوصلته إلى حالة اليوم.
منها مقالة في الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية في تلافي
البدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا أضر بجامعتهم.
ومنها مقالات في أعمال المنتسبين للأولياء والصوفية التي خالفت الشرع
ظاهرًا وباطنًا والاحتجاج عليهم بكتاب الله وسنة رسوله وأعمال السلف الصالح، إلى
غير ذلك من المقالات التي وقع لها دوي عظيم في الأصقاع الإسلامية، وحيث كانت
هاته الأفكار لا تخفى على مَن له اطلاع على ما جاءت به شريعتنا السمحاء وعلى
ما يعتقده غالب الإسلام من الخرافات الباطلة والأوهام الفاسدة - وجب علينا أن
نعضد هذا الفكر بكل ما في الوسع، ونعلن بفضل هاته الجريدة على رؤوس الملأ.
ولا فائدة لنا في بيان ما اشتملت عليه من الحقائق المسلّمة، وإنما نحثّ أبناء
العلم والوطن على اقتناء هاته الجريدة الغراء؛ فإنها المرشدة الوحيدة واللؤلؤة الفريدة
والناصحة الأمينة والدرة الثمينة، ونقدم إلى صاحبها خالص الشكر والثناء عما قام به
من النصيحة نحو المسلمين، والله لا يضيع أجر المحسنين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الحاضرة)
(المنار)
إذا كان الإخلاص في النصيحة حسنًا فتوجيه النظر إلى سماعها يكون حسنًا
أيضًا، وإذا كانت خدمة الملة والأمة محمودة فلا شك أن المساعدة عليها محمودة،
وحيث كان الساعي بالخير كفاعله فصاحب هذه النبذة الحاضَّة على زيادة انتشار
المنار - هي مشاركة لنا في الخدمة به، فحمدًا له وشكري، ونسأل الله تعالى أن يكثر
في الأمة أمثاله من أهل الغيرة والفضل.
__________(2/109)
26 ذو الحجة - 1317هـ
6 مايو - 1899م(2/)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
رسالة مطولة لأحد فضلاء الكُتاب في سوريا
(1)
لم نر الحديث تسلسل في هذا الموضوع بين الكتاب مثلما رأيناه لهذا العهد، ولم
نعهد للأقلام جولة في هذا المضمار كجولتها في هذه الأزمنة المتأخرة شعور سماوي
قام في نفوس النبهاء من المسلمين وعقلائهم، وروح زكي هبط عليهم من عالم القدس
فبعث راقد هممهم. إذا تهامس أبناء طنجة بحديث في الإصلاح رنَّ صداه بين أبناء
سنغابور وحوّموا عليه، أو قدح هؤلاء زناد رأي في عمل لاح له وميض في جو
أولئك واشرأبُّوا إليه، وإن تموج الهواء من أقصى الجنوب لهمهمة مسلميها أصاخ له
إخوانهم في أقصى الشمال، وإن تناجَى اثنان هنا انتقلت نجواهما إلى هناك انتقال
الكهربائية بدون أسلاك، أهاب المتيقظ بالمهوّم [1] ، وصاح المنتبه بالغافل وتلتل
العامل المقصر واستحث السابق المتأخر، وهم - في حوارهم هذا - مجمعون على أن
الأمة في مرض يقرب من الحَرَض، وكادوا يصفقون على أن علاجه الناجع هو تعميم
التربية والتعليم. هل الأمة في عوز لتناول هذا العلاج، وهل يتسنى لها تناوله،
وإن أحجمت عن تناوله كيف يكون مصيرها وإلى أي بيئة تتحول بيئاتها؟
استدعى هذا السؤال جوابًا مسهبًا واستثار حديثًا طويلاً، وكنت في ملأ من أهل
اليسار والجاه والنعمة والرفاه؛ فأحببت أن أرفعه على صفحات (المنار) علّ فيه
موعظة وذكرى لأولي الأبصار.
قلت أولاً: إن الحكومات الإسلامية التي ما برحت تحافظ على استقلالها هي
أربع:العثمانية، والفارسية، والأفغانية، والمراكشية.أما بقية الجماعات الإسلامية
فهي إما إمارات مستضعفة تلوذ بالدول الإفرنجية أو تستظل بحمايتها. وإما قبائل
رُحَّل تضرب في صحارِ إفريقية ومجاهل آسيا، وهناك أقوام سقطوا في مهاوي
الاستعمار الأوربي وخنعوا لصولجان الحكم الأجنبي، ولا جرم أن النهضة في
إصلاح الخلل ورتق الفتق، إنما تُرجَى على أكملها في الحكومات الأربع المستقلة. إذا
لم تسعَ تلك الحكومات في التقرب من بعضها ولم تتدبر عاقبة أمرها فبشِّرْها
بسوء المنقلب وشؤم المآل.
كيف يؤمّل الإصلاح العام إذا لم يمشِ رجالات [2] من أهل المشرق إلى
رجالات من أهل المغرب، ويتحاوروا في إصلاح شؤونهم ويديروا الرأي في مواساة
عللهم وتضميد كلومهم؟ كيف تتحد القلوب وتلتئم الأهواء وعلماء تلك الحكومات
متخاذلون ومن الصراط السوي ناكبون، لا يعترف أحدهم للآخر بشأن ولا
يستصوب له رأيًا إلا إذا وافق هواه ولاءم ما قام في نفسه؟ إذا آنس أحدهم من
الآخر معارضة أو مخالفة بهره [3] بالزندقة والمروق، وزنه [4] بالكفر والإلحاد! -
كل ذلك ليلوي عنه أعناق السامعين ويصرف قلوب المعجبين، ويستأثر بالشهرة بين
العالمين. كيف يرجى الإشراف على الغاية التي تتوخى الوصايا إليها وأولو الأمر
في تلك الحكومات لا يهمهم سوى حفظ مراكزهم وصيانة جثمانهم؟ قصروا أيدي
نبهاء الأمة عن مشاركتهم في إدارة شؤونها ومشايعتهم في رأب صدوعها، وأخذوا
بأكظامهم [5] دون التفوه بكلمة تؤْذِن بإنعاشها وتعمل على إسعادها.
فعلوا ما فعلوا إرادة المحافظة على الإطلاق والاستئثار بالسلطة والانفراد
بالأمر، ليتهم يعلمون أن ذلك الإطلاق الذي توخوه هو عين التقييد والحجز، أليسوا
في هلع دائم وجبن خالع من حدوث ثورات تقضي على سلطتهم وتبزهم إطلاقهم
واستبدادهم؟ أليسوا في حذر وإشفاق من تألب الأمة عليهم وأخذها على أيديهم؟
أليس كل خطأ في سياسة البلاد أو خلل في إدارة مصالحها وأعمالها يُنسب في العادة
إلى عاهلها أو أميرها إذا كان مطلق التصرف ويُعزَى إلى أفن رأيه وسوء تدبيره؟
هذه شؤون المطلقين المستأثرين بالسلطة. اصرفوا أبصارَكم تلقاء أولئك الذين
زحزحوا عن عواتقهم عبء المسؤولية، وألقوا معظمه على رجال من أممهم، وقيدوا
أنفسهم بآراء المنتخبين والشرائع والقوانين - تروهم يتقلبون في شؤونهم وملء
عيونهم غمض، وحشو أجسامهم أمن، لا تسمع في بلادهم لاغية شكوى عليهم، ولا
تحس برِكْز أو حسيس [6] لثورة في خضد شوكتهم وثل عروشهم إذا ألمَّ بسياسة الأمم
ضعف أو فساد، أو حدث في مصالحها العامة تراخٍ أو خلل - كان المسؤول بتلك
التبعة والمطالب بسوء نتائجها هو الذي جناها واجترحتها يده، لا ينحى على الزعيم
الأكبر بلائمة ولا ينبس في النيل منه بكلمة. لا جرم أن المسمى بالإطلاق هو عين
التقييد، والمسمى بالتقييد هو عين الإطلاق.
أنى يُتاح للأمة إفاقة من هذا الخمار أو تفلت من أحابيل الجهل والضعف
والاستخذاء (المذلة) وروحها التي هي المال في قبضة أناس لا يهمهم سوى إنفاقه
في سبيل شهواتهم؟ ليت شعري بماذا يمتاز المسترسلون في ملاذهم المنغمسون في
شهواتهم عن البهائم المرسلة إذا لم يبذلوا جزءًا من دثرهم - مالهم الكثير - في إنقاذ
أمتهم من الجهالة، وتنوير عقول شبانها بالعلم والعرفان.
مهما تنعَّم المرء في ضروب الترف وتقلب في أنواع الرفه كان حظ البهيمة في
ذلك أكمل ولذاتها أتم، البهيمة تسعى في تلمس شهوة نفسها واستيفاء لذة حواسها،
فالخليق بالإنسان أن يباينها في ذلك ويسعى في تطلُّب شهوة عقله واستيفاء لذة
وجدانه وشعوره، شهوة العقل هي الارتياض بالكمالات والقيام بالواجبات. لا كمال
أرفع ولا واجب أقدس من خدمة المرء لأمته وسعيه في إصلاح قومه. لا عمل
يحفظه التاريخ ويشكره الله مثل عمل المرء في صيانة وطنه وإنقاذه من المخاطر
المحتفَّة به. ما ينتظر المتقاعدون عن العمل؟ ماذا يرجو المخلفون عن مشايعة
العاملين؟ ما الذي يثبط الهمم عن السعي؟ ما الذي يُضعف العزائم عن الجهر
بالحق والنصيحة؟ أينتظرون صيحة من العالم العلوي تثير الراكد وتوقظ الراقد؟!
أيرتقبون هُتافًا من عالم الأرواح يزعج الأنفس المطمئنة ويتلتل الهمم المستكنة؟!
أيصيخون إلى نبآت وهمسات من خلل برازخ الأموات تجمع البدد وتصلح ما
فسد وتعلم الجاهل وتنبه الغافل؟ !
جلت عظمة الله وتقدست حكمته، إن هي إلا نواميس كونية وسنن إلهية
وضعها تعالى من العالم موضع القطب من الرحى أو الروح من الجسد، فمَن رعاها
حق رعايتها، وتوخى السير عليها ظفر، ومن دابرها أو تنكّب جددها عثر تلك
النواميس والسنن لا تبديل فيها، ولا تخلف يعترض دون اطرادها إلا ما كان
في أزمنة النبوات أزمنة التحدي بالخوارق والمعجزات.
وبالجملة، إن ما تواتر على الأمة من القوارع وتتابع من وخزات الحوادث
كافٍ لإماطة غشاوة الغفلة عن أبصار آحادها وتفكيك هممهم من العقل والأغلال التي
كبلتها. وما رأيناه لهذه الآونة من تلك الروح العلوية الفائضة عن ألسنة عقلائنا
والطائفة على أسنان أقلامهم في خطبهم وكتاباتهم - جدير بإحياء ميت الآمال فينا
وإثارة رواكد الأماني في نفوسنا وحقيق بأن يبعثنا على اطِّراح اليأس والقنوط
والأخذ بأسباب الحيطة والحزم قبل تقلص الفرص وتجافي الأسباب وحدوث ما لم
يكن في الحسبان. فلنلُف اليأس بالكسل ونرمي بهما من حالق جبل. ولنضع أمام
أعيننا نور الأمل ثم لنُقبل على العلم والعمل، وعلى الله سبحانه العصمة من الزلل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أهاب به: زجره وصاح به، والمهوّم: مَن غلبه النُّعاس فجعل يهز رأسه.
(2) رجالات: جمع رجال فهو جمع الجمع ولكنه لا يستعمل إلا في أشراف القوم وعظمائهم.
(3) بهره: بهته ورماه بما هو براء منه.
(4) زنه: اتهمه.
(5) أخذ بأكظامه بمعنى: قبض على حلقه ومدارج أنفاسه.
(6) الرِّكْز والحسيس معناهما: الصوت الخفي.(2/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم القضائي
بينا في نبذة سابقة أن مُثْلَى طرائق التعليم هي التعليم بالعمل، وذلك إجمال لو
فُصل ببيان كيفياته بالنسبة إلى كل علم وفن - لاحتاج إلى مجلدات كثيرة، ولكن
العالِم بفن من الفنون تكفيه الإشارة؛ لأنه مهما كان جاهلاً بطريقة التعليم وغير
عامل بعلمه فلا بد أن يكون عالمًا بكيفية العمل وما عليه في تحصيل المَلَكَة إلا أن
يزاول العمل مرة بعد أخرى، وكلما مضى فيه سهل عليه حتى يصير بغير تكلف.
وهو ما يعبر عنه بالملكة.
ونريد الآن أن نقول كلمة في التعليم القضائي بالعمل وهي: يعلم القراء أن
الحكومة المصرية تحاول في هذه الأيام إصلاح المحاكم الشرعية بناءً على ما جاء
في (تقرير المستشار القضائي) الإنكليزي من نسبة الخلل إليها، وتريد أن تبتدئ هذا
الإصلاح بتعيين قاضيين من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية النظامية في المحكمة
الشرعية، يحضران الدعاوي المهمة. ويعلمون أن مجلس شورى القوانين رفض
هذا الاقتراح بناءً على فتوى شرعية صدرت من جانب سماحة قاضي القضاة
وفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، ملخصها: أنه ليس للحكومة المصرية
ولا لأمير البلاد الحق في نصب قاضٍ شرعي؛ لأن هذا خاص بالخليفة ونائبه الذي
هو في مصر قاضي القضاة، لا سمو الخديو، وأن القاضي الشرعي يجب أن
يحكم بالصحيح والراجح من المذهب النعماني، وأن يكون عالمًا بهما، وأن يكون قد
مارس المرافعات الشرعية والحكم فيها. وبناءً على اعتبار هذا الأمر الأخير في
القضاة - سواء أكان واجبًا وشرطًا كما يفهم مما مرّ أَمْ (لا) - نقول:
لا يجوز أن يراد بممارسة المرافعات ما يكون بالقضاء الحقيقي؛ لأنه يلزم منه
الدور، ولكن الممارسة تكون بأحد أمرين: أحدهما حضور المرافعات في
المحاكم وهو لا يتيسر لجميع المتعلمين الذين يترشحون للقضاء، ويلزم له زمن
طويل يصرف بعد طلب العلم في المحكمة. وثانيهما (التعليم القضائي) الوضعي
الذي نريده ونقترحه على فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومجلس
إدارته؛ لأنه أسهل الطرق للتحقق بما جاء في الفتوى.
هذا النوع من التعليم يُختار له الكتب التي تذكر الأحكام في ضمن الوقائع
وأكثر كتب المتقدمين - لا سيما قبل المئة الخامسة - كذلك؛ لأنهم كانوا يتعلمون
الفقه للعمل، وأول عمل ضاع به الفقه كغيره من العلوم والفنون الإسلامية - تأليف
المتون الوجيزة المختصرة، والعمل الثاني للضياع: اختيار هذه المتون للتدريس
والاستعانة على ذلك بشرحها، والعمل الثالث - وهو الذي تم به الضياع - هو
وضع الحواشي ثم التقارير عليها والخروج بذلك كله عن كون العلم مبينًا للعمل
شارحًا للوقائع إلى البحث في الألفاظ والأساليب وخلط الفنون بعضها ببعض. ولم
يكن وضع المختصرات في أول الأمر لأجل التعليم والتعلم، وإنما كان الغرض منها
تذكرة المنتهي لا سيما في السفر الذي يعسر فيه حمل الأسفار الكبيرة سيما في تلك
الأزمنة.
ومما يوجب لأسلافنا الفخر ويُظهر أننا شر خلف لهم أن الباحثين في فن
التعليم اهتدوا بعد العناء الطويل إلى أن خير طرق التعليم وأقربها هو (التعليم
بالعمل) وبيان المسائل في ضمن الأمثلة والأحكام الشرعية في صور الواقعات، وهو
ما كان عليه سلفنا من قبل ألف سنة، وإنما يكمل هذا النوع من التعليم بتأليف هيئة
للمحاكمات الوضعية كهيئة المحكمة الحقيقية - رئيس وقضاة (أعضاء) ومدَّعٍ
ومدعَى عليه أو وكلاء (محامون) وبينات وتحقيق وحكم.
وينبغي أن تكون المرافعة علنية وأن يتناوب طلاب العلم القضاء فيها وأن
تكون العناية بالدعاوى التي يحكم فيها بالشرع في هذه الأيام أشد من العناية بغيرها.
يقول قائل: أي حاجة للعناية بالأحكام التي لا يعمل بها؛ لأن أمراء المسلمين
نسخوها بالقوانين الوضعية؟
والجواب: أن عدم التعليم القضائي جعل الشريعة السماوية الواسعة ضيقة لا
تفي بحاجة العصر، والأمراء والحكام يرون أنفسهم مضطرين إلى مجاراة العصر في
شؤونه العامة، ويجب أن تكون الأحكام مطابقة لحاجات الناس في كل عصر بحسبه
لا أن تقاوم الطبيعة، وتغير أساليب العمران؛ لتوافق ما يفهمه العلماء على تقصيرهم
من الكتب الشرعية القديمة؛ لأن هذا غير ممكن للناس. فإذا حسنت حال التعليم
ووجد في الأمة علماء يعرفون حال العصر ويستنبطون من قواعد الشريعة العامة
التي نفتخر بها بأنها تنطبق على أحوال كل زمان ومكان ما يوافق مصلحة الناس
بحسب زمنهم هذا؛ فلا شك أن الأمراء والحكام المسلمين يحكمون بها مهما وَهَى بناء دينهم وسحلت مرائر يقينهم، لعلمهم بأنها أقرب لصلاح الناس لخضوع السواد
الأعظم لها ظاهرًا وباطنًا، اللهم إلا إذا غلبوا على أمرهم بالسلطة الأجنبية. ولا
نقصد مما ذكرنا تبرئة الأمراء من تبعة ذنب الانحراف عن الشريعة وحصره
بالعلماء! !
كلا ثم كلا، وإنما غرضنا بيان السبب، وقد بلغنا أن إسماعيل باشا الخديوي
الأسبق طلب من علماء الأزهر أن يؤلفوا له كتابًا شرعيًّا في الحقوق والجنايات سهل
العبارة مرتبًا على ترتيب كتب القوانين وموافقًا لحال العصر (كمجلة الأحكام
الشرعية التي يُعمل بها في محاكم ولايات الدولة العلية) فأبوا عليه ذلك وسمعت أن
إحجامهم كان خوفًا من طعن العامة في دينهم إذا هم وضعوا الأحكام الشرعية في
أسلوب كتب القوانين. ومهما كان من السبب فالتبعة الكبرى فيه على العلماء
كما هو ظاهر.
يقول المعترض إن الحكومة المصرية مغلوبة على أمرها للأجانب فكيف نرجو
تحويل المحاكم الأهلية شرعية ونحن نرى الحكومة تحاول إلغاء المحاكم الشرعية
والاكتفاء بالمحاكم الأهلية؟ وإذا لم يكن لنا أمل في الحكم بالشرع فعَلامَ العناية وإِلامَ
احتمال العناء في تعلمه تعلمًا قضائيًّا أو غير قضائي؟ !
ونقول في الجواب:
أولاً - أن التعليم موجود في الأزهر بالفعل، ونحن إنما نطلب تحسينه، وقد
ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه وما
ذكر قد يمنع من أصل التعليم ولكنه لا يمكن أن يمنع من تحسينه مع وجوده.
ثانيًا - أن الأزهريين يشتغلون جميعًا فيما لا يتعلق به عمل في هذا العصر
كأحكام الرقيق بأنواعها بناءً على أن مرادهم حفظ هذه العلوم وإن لم تكن تستعمل؛
ولذلك تبرم شيوخهم من زيادة بعض الفنون في الأزهر، لئلا تشغلهم عنها. وتعلمها
بالكيفية التي نريدها أقرب لتحصيلها ولحفظها.
ثالثًا - أن الأمل لم ينقطع من العمل بها ولا ينقطع إلا إذا بقي تعلمها على
حاله أو رجع القهقرى كما هو الشأن في أمتنا منذ قرون.
فإذا نفضنا عن رؤوسنا غبار الخمول والكسل واجتهدنا في تحصيل العلوم على
الوجه الذي يؤدي إلى إتقان العمل فلا يمضي زمن قليل إلا ونكون أمة من الأمم،
لها قول يُسمع ورأي يُحترم، وعند ذلك نحكم بما نريد ونرغب؛ لأن قوة الشعب قوة
إلهية لا تُغلب، فمن عمل لهذا الرجاء فأولئك هم المفلحون.
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)
__________(2/117)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تربية الأطفال
تكلمنا في العدد الماضي عن طور الرضاعة ووظائفه، ووعدنا بأن نتكلم عن
إطعام الأطفال وتقريمهم (تعليمهم الأكل) ، فنقول: لا هادي إلى تربية الطفل
كالطبيعة والفطرة، فعلى المربي أن يسترشد بها؛ لأنها هداية إلهية ممنوحة للجميع.
قلنا في بحث الرضاع: ينبغي أن ترضع الطفلَ أمُّه، وإلا فمرضع يكون ولدها
الرضيع في سنه والحكمة في ذلك أن الله تعالى جعل اللبن في الأم موافقًا لسن ولدها،
ففي أول الأمر يكون سهل الهضم جدًّا وكلما تقدم في السن وقويت معدته على
الهضم تزيد المواد المغذية في اللبن.
أما الأكل فيرشد إليه من الطبيعة ظهور الأسنان فمتى أسنَّ الطفل (نبتت
أسنانه) وصار قادرًا على المضغ يُطعَم، ولكن يبتدأ في إطعامه بما كان سهل الهضم
كلبن الحيوانات والأرروط والنشا، ولا يكون هذا إلا بعد بلوغه بضعة أشهر حتى إذا
ما كملت مواضغه (أضراسه) يطعم من سائر أنواع الطعام، ويراعَى فيه سنة الفطرة
بالتدريج؛ لأن آلات الأكل تظهر فيها تدريجًا. وإطعام الأطفال الأطعمة النشوية
والسكرية في سن اللبان يولد فيهم الأمراض ويكثر فيهم الموتان. ويحسب الأمهات
الجاهلات أن معالجة الطعام وتلويقه (جعْله لينًا) ، بحيث لا يحتاج إلى مضغ يسهل
هضمه على الوليد ويغتررن بواحد من عشرات ومئات يطعم فيسمن، ولا يعتبرن
بالعشرات والمئات الذين يمرضون ويموتون؛ وذلك لأنهن لا يعرفن سبب مرضهم
وموتهم، وهو في الغالب من المآكل الغليظة العسرة الهضم، لا سيما مع عدم الوقاية
من البرد.
ولا بد من التوقيت والانتظام في تقريم الأطفال، فيطعمون أربع مرات في
اليوم - بعد القيام من النوم وعند الظهر وعند العصر وبعد المغرب - فطعام الصباح
والعصر: اللبن والبيض والخبز وشيء من الحلوى، وطعام الظهر: اللحم والبقول
والفاكهة، وطعام المساء: الشوربا والبقول ولو باللحم والرز، أما مقدار ما يأكله
الطفل فليس بمحدود، بل يُترك وشأنه، يأكل ما شاء، لا يلزم بالزيادة، ولا يمنع
من الاستزادة، إلا إن كان شرهًا يأكل فوق طاقته، وقلما يكون الشره إلا من سوء
التربية. ويمنع الأطفال الإكثار من الفاكهة والحلوى، ويمنعون من شرب الشاي
والقهوة فضلاً عن المسكرات والأشربة الروحية التي هي سموم قاتلة، لا يقل فتكها
بالكبار عن فتك سائر الأمراض الخبيثة.
__________(2/121)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المتكلمة بالقرآن
قرأنا في كتاب روضة البلاغة للعلامة أبي الحسن البارزي ما نصه:
عن أحمد بن عبد الله الواسطي قال: خرجت إلى مكة فإذا بامرأة على الطريق
تتلو آية من كتاب الله تعالى وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: (من يهدِ الله فلا
مضل له ومن يضلل فلا هادي له) [1] ، فلم أشك أنها ضالة، فقلت لها: يا أمة الله،
أحسبك ضالة، فقالت (بعد البسملة - وهكذا كان كل الأجوبة مصدّرًا بالبسملة
فحذفناها للاختصار) : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء:
79) فقلت لها: يا أمة الله، أين تريدين؟ قالت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) فقلت: يا أمة الله، من أين؟
قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) فعلمت أنها من بيت المقدس، فقلت: يا أمة الله،
ما لك لا تكلمينا؟ فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)
فقلت لصاحبي: أحسبها حَرورية. قالت: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36) ، فقلت: لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنها لا تكلمنا إلا من كتاب الله، فقلت: يا أمة
الله، آخُذ بعيرك، فأقوده إلى مكة؟ قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215) ، فأخذت بعيرها أقوده، فبينما نحن كذلك إذ أشرفت من طريق
الشام قافلة، قالت: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل: 16) قلت: يا
أمة الله ما تريدين؟ قالت: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَه} (يوسف: 19) الآية، فقلت: في القافلة قرابة لها. قال: فلما أقبلت القافلة قلت:
يا أمة الله، بمَن أصيح ومَن لك في القافلة؟ قالت: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ
وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ} (مريم: 12) {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (مريم: 7) {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْض} (ص: 26) فصحت:
يا يحيى، يا زكريا، يا داود. فأجابني ثلاثة نفر، فقالوا: ما تريد؟ قلت:
معي عجوز لا تكلمنا إلا من كتاب الله تعالى. فقالوا: إنها أمنا، قد ضلت منذ ثلاثة
أيام قال: فلما أبصرتْهم تبسمت، وقالت: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى
المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف: 19) ، قال: فعلمت أنها تريد أن تزودني وتبرني، فقلت: لا حاجة لي
في زادكم وفي بركم، أخبرونا عن هذه العجوز ما لها لا تتكلم إلا من كتاب الله
تعالى؟ ! قالوا: إنها - منذ أربعين سنة - ما تكلمت إلا من كتاب الله مخافة
الكذب. اهـ
(المنار)
إن المحافظة على الصدق من أفضل الفضائل على الإطلاق، وقد يبلغ الغلو
بالشيء والتعمق فيه إلى ما يُستغرب وقوعه كما ينقل عن الأسخياء والشجعان. ومن
ذلك خبر هذه المرأة، ويلوح للذهن أن الحكاية مخترعة، لا لأن استحضار الآيات
التي تشير إلى المقاصد عسير؛ بل لأن الصبر عن الكلام هذه السنين الطوال محل
غرابة، ولكن الأصل في الكلام - لا سيما كلام أهل العلم - أن يكون صادقًا، ولله
في خلقه شؤون.
هذا، وقد نص بعض الفقهاء على أن استعمال القرآن للتخاطُب في الأمور
العادية محظور.
__________
(1) كذا في الأصل، ولا توجد آية بهذه الألفاظ، بل هي كلمات من خطبة الحاجة أو النكاح للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع إضافة الهاء لنهاية (يهد) ، وهناك آيات قريبة من ذلك: [وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ] (الإسراء: 97) ، [مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً] (الكهف: 17) ، [وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ] (الزمر:37) .(2/123)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقتطفات
(اليابان)
يؤخذ من تقرير وزير المعارف في اليابان عام 1894 أن عدد سكان اليابان
بلغ- إذ ذاك -: 42426921 نفسًا وعدد الطلبة: 7320191 ولم تكن تجد ثلثهم
عام 1873 وبلغ عدد المدارس: 23874 مدرسة وعدد المعلمين والمعلمات:
69845.
وبلغ عدد سكان اليابان في الإحصاء الصادر في السنة الجديدة: 43 مليونًا
و229 ألفًا من النفوس، نصفهم ذكور ونصفهم إناث على وجه التقريب، وقدرت
ميزانيتها للسنة الجارية: 189 مليون (ين) للواردات و113 مليونًا للنفقات؛
فتكون الزيادة في النفقات: 30 مليون (ين) والين - من الفضة - يساوي فرنكين
ونصفًا وهو يقابل (الكروان) الإنكليزي قيمة.
***
أهدانا الفاضل الأديب الشيخ محمد بشير ظافر المدني الأزهري قصيدة من
نظمه في التنفير عن المدارس الأجنبية؛ لأنها أُسست على دعائم الدعوة إلى
النصرانية والاستمالة إليها ونقش تعاليمها في ألواح نفوس الولدان، حتى كان الذي
يرسل ولده إليها لا يبالي أخرج مسلمًا أم غير مسلم! ، فنحثّ معه سائر الشعراء
على النظم في مثل هذا من المواضيع الاجتماعية، والخروج بالشعر من مضيق
الأماديح والأهاجي الشخصية.
__________(2/124)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(مراكش)
لمكاتبنا الفاضل في تونس
لم تزل الأخبار تتوارد علينا يومًا فيومًا بسوء حالة هاته المملكة الإسلامية
وتعاسة سكانها إلى درجة يخشى معها سوء العاقبة وفساد المنقلب. ولا تزال رجالها
في غفلة عما هم عيه من موجبات السقوط والاضمحلال فداخليتها على غاية من
الاحتلال والفوضى قد ضربت أطنابها بسائر أنحائها، فالقبائل بعضها لبعض عدو،
والدولة عدوة للجميع، والدول الأورباوية قد اشتدت وطأتها عليها بنزف أموالها ولولا
التحاسد لفقدت استقلالها من قديم فدولة الأسبان تود الاستيلاء عليها منذ عهد بعيد
وترى أنها أحق الدول بذلك؛ لقدم المجاورة التي بينهما وكل من فرنسا وإنكلترا
وألمانيا يزاحمها ويسعى في احتلال جزء منها، ولهذا السبب عاشت دولة
المغرب العليلة ولم يفارق جسمها المنهوك الروح.
كان على عهد السلطان مولاي الحسن نهضة تحريرية في جرائد الإسلام
حذرته وأنذرته سوء العاقبة وأطلعته على ما يجب عليه سلوكه لحفظ مملكته من
السقوط والتلاشي، ولم ينجح شيء. وبقي متماديًا في شأنه يقاتل رعاياه ويبتز أموالهم
التي حرم الله، وازداد نفوذ الأجنبي في أيامه زيادة لها بال، إلى أن وقعت حادثة
مليلة الشهيرة التي دفعت حكومة المغرب لأجلها عشرين مليونًا من الفرنكات
لحكومة الأسبان إرضاء لها عن تعدي قبائل الريف على حدودها وعلى رعاياها.
وهكذا كان يدفع الأموال الطائلة بغير انقطاع، وكانت أيامه كلها منقسمة إلى عملين
عظيمين: وهما سفك دماء الرعايا لأخذ أموالهم، ودفعها للأجانب على وجه
الترضية. ولم يصدر عنه أدنى عمل لإصلاح المملكة.
ولما تولى السلطان عبد العزيز عليها أملت الناس أن يجري فيها بعض
الإصلاحات لحداثة سنة المقارنة لنور التمدن الحالي الذي وقع له طنين لسمع الصم
ونطق به البكم فضلاً عن السامعين المبصرين، فذهب ذلك الأمل أدراج الرياح، وسار في إدارة المملكة سير أبيه وجده الخالي عن كل تنظيم وخروج عن المعتاد.
ومن تأمل في أحوال هاته الدولة وفيما هي عليه من سوء التدبير يدخله
الذهول والحيرة والاستغراب، فإن الإصلاح ولاسيما الابتدائي ضروري لكل ذي
عقل سليم وفكر مستقيم، ويحكم بعدم لياقة هاته العائلة الحاكمة وعدم صلوحيتها لأقل
الأعمال (وهنا ذكر الكاتب جملة غالى بها في ذم كل أفراد الأسر الإسلامية
المالكة لا سيما دولة المغرب اضربنا عن ذكرها صفحًا) .
هذا، ولقد كتبنا هذه الأسطر القليلة تمهيدًا لما سنكتبه بعد في هاته المملكة
الحاضرة وفيما يجب عليها اتباعه في الاستقبال لاستقامة أحوال المسلمين طبق
الشريعة المطهرة، وكتاب الله وسنة رسوله بين أيدينا وسيرة السلف الصالح بين
أظهرنا. وحيث كانت جريدتنا المنار موقوفة على خدمة المسلمين وموسمة بذلك
نطلب من محررها الفاضل ومن براعة قلمه ومن عموم جرائد الإسلام أن يعضدونا
في هذا العمل ويفوقوا سهام اللوم والتنديد نحو هاته المملكة أو تستقيم، والله بالسرائر
عليم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ش. د)
(المنار)
كلنا على علم إجمالي بحال هذه المملكة وبعدها عن الإصلاح، وكتبنا في ذلك
نبذًا متفرقة، وما كنا نظن أن ملوكها بهذه الدرجة التي ذكرها بل لا نزال نظن أن في
وصفه لهم مبالغة في الذم ونرجو أن يبين في مقالاته الآتية عنها الحقائق من غير
مذمة شعرية.
في ليلة الثلاثاء الماضية اخترمت المنية رجلًا من خيرة رجال العلم والفضل
وحملة الأقلام وهو السيد وفا أفندي زغلول أمين الكتبخانة الخديوية. مات رحمه الله
تعالى عن خمسين عامًا قضاها في خدمة العلوم والآداب، وقد ترك آثارًا علمية نافعة
منها كتاب الرد المبين، وكتاب البرهان الساطع على وجود الصانع. وكتاب التحفة
الوفائية في اللغة العامية، ورسالة في الرد على ابن خلدون. وكان محرر جريدة
الكوكب المصري التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، وكتب مدة في الوقائع
الرسمية، وله في الجريدتين مقالات تؤذن بفضله، أما وفاؤه ومحاسن أخلاقه فقد رأينا
وروينا عنها ما يدل على طيب أعراقه وكمال تهذبه، فنسأل الله تعالى أن يحسن عزاء
شقيقه المفضال السيد نصر الدين أفندي المحامي الشهير وسائر آله الكرام.
***
(تطبق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)
كتب إلينا صديقنا الفاضل مؤلف كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على
نواميس المدنية) يعترف بأن انتقادنا عليه بهضمه حق المنار في محله، ويعتذر واعدًا
بتوفيته حقه في طبعة ثانية قال: (فأثر لدي خطئي في بخس حق المنار كثيرًا وهو
في الحقيقة خطأ يخجل منه كل مؤلف لأنه جرم ضد التاريخ، ولكن لي من كرم
أخلاقكم أكبر شفيع على إسدال سترة المعذرة على هذه الهفوة وسأجعل أول واجب
علي عند الشروع في الطبعة الثانية إصلاح تلك الغلطة البينة.. إلخ) .
وهذا كما ترى دليل على فضل الرجل وأنه ما قال في الكتاب بأنه لم يسمع
بأن عاقلاً قام يبحث عن أسباب اضمحلال الأمة الإسلامية إلا ذهولاً عن المنار كما
هو ظننا الحسن به.
***
أقبل الحر على مصر وأقبل معه وفود حزب الأحرار من الأستانة العلية، ولا
يقدمون في مثل هذه الأيام إلا لأمر ذي بال، وممن حضر من زمن قريب الفاضلان
محمد توفيق أفندي مدير المكتب الإعدادي سابقًا في بلدتنا طرابلس الشام، وعلي
مظهر بك، فعسى أن تتلا في الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى هذه الحركة التي
كادت تكون عامة بالتي هي أحسن.
__________(2/128)
3 محرم - 1317هـ
13 مايو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاعتماد على النفس
] وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) يجني على نفسه ويلحق بها
البلاء بسعيه، ويهمل أسباب سعادته، ويتنكب طرق رفاهته ثم يتجرم على الناس أو
يتذقح ويتجنى على الطبيعة زاعمًا أنه ما مني بالنوائب ومنع من الرغائب إلا من
نكد الزمان وتقصير الإخوان، فإن ضاقت به سبل الأعذار أنحى باللوم على
المقدار، وقال: ما تنفع حيلة البشر إذا كان خصيمهم القضاء والقدر!
وغدَا يعتب القضاء ولا عذ ... ر لعاصٍ فيما يسوق القضاء
كل ملي يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق بإرادته واختياره على حسب ما سبق
في علمه، وممن خلق نوع الإنسان الذي يعمل بإرادة واختيار ينشآن عن العلم بوجوه
المصالح والمنافع والمفاسد والمضار، وهذا العلم منه ما يكون له بالضرورة، ومنه ما
يكتسبه اكتسابًا من طرق واضحة تؤدي إلى غاياتها إذا لم ينحرف السالك عن جادتها
فهل الاعتقاد بعلم الله وإرادته يكون عذرًا للإنسان إذا زاغ عن الصراط المستقيم
فوقع في الرجز الأليم؟ ! وهل إذا فرض أن العالم وُجد بالاتفاق من غير خالق أو
أن خالقه - تعالى وتقدس - جاهل أو مكره (سبحانه سبحانه) يزول عذر الإنسان؟
كلا، إن هذا هذيان لا يقول به عاقل.
ولكن ما بال المسلمين يحتجون بالقضاء والقدر حتى صاروا سخرية عند
سائر البشر. واعتقدت الأمم المتمدنة أن هذا الاعتقاد سد بينهم وبين الارتقاء. وإن
ساد به من قبل آباؤهم القدماء. بل وإن كانوا يعتقدون معهم أن الله لم يخلق شيئًا إلا
بإرادته. وأن جميع ما وجد في الكون موافق لما سبق في علمه أو مشيئته. ولا يخرج
معنى القضاء والقدر عند أئمة المسلمين عن هذا الذي قلناه، ولم يقل أحد
منهم بأنه يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر على تقصير الإنسان في علمه وإخفاقه في سعيه، بل صرحوا بالمنع منه تصريحًا؛ لأن فيه مع إساءة الأدب بنسبة
القبيح إلى الله تعالى - مخالفة هدي الكتاب والسنة ونصوص الأئمة؛ فقد ساق القرآن احتجاج الكفار بالمشيئة مساق التوبيخ والتقريع حيث قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ
أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) وقد فسر البيضاوي وغيره (الخرص)
هنا بالكذب ولو لم يكن في المسألة غير هذه الآية لكانت كافية في الزجر والردع
عن الاحتجاج بالقدر، كيف وهناك آيات كثيرة منها ما هو صريح في المعنى كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ
يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ومنها ما هو غير
صريح. والأحاديث وآثار الصحابة وأكابر السلف من الأئمة المجتهدين وغيرهم في
الأمر بالإمساك عن الكلام في القدر والنهي عن الخوض فيه - لا تكاد تُحصى.
الإسلام دين الفطرة (أي: الطبيعة والخليقة) فليس فيه شيء يخالف الواقع
الذي ثبت وجودًا أو ينابذ العقل الصحيح؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة
فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (كاملة
البدن) هل تحسون فيها من جدعاء؟ !) ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والفطرة تدلنا بالوجدان
الذي هو أقوى البراهين أننا نعمل باختيارنا، والاختبار والاستقراء الصحيحان يثبتان
لنا أن سعادة الإنسان في أفراده ومجموعه نتيجة أعماله، وأن شقاءه من آثار كسبه
وأنه متى استوفى الأسباب الطبيعية لأمر من الأمور- بلغه وأدركه، وأنه لا يخيب
أمله ويخفق سعيه إلا لأسباب أخرى تحول بين المبدأ والغاية، وأنه قلما تتعاصى هذه
الأسباب الحائلة عن قدرة الإنسان.
وجاء الإسلام موافقًا للفطرة فصرح كتابه الحكيم بقوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: 30) وبقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39-40) وبقوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123) الآية. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
وأكثرها عام لأعمال الدنيا وأعمال الآخرة.
وأما قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن
نَّفْسِكَ} (النساء: 79) وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)
فلا ينافيان ما تقدم؛ لأن الثاني بيان لأن الله تعالى خالق كل شيء، وقد جاء ردًّا على
الذين {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِندِك} (النساء: 78) وهم اليهود، وكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم، ومعنى: {مِنْ عِندِك} (النساء: 78) بشؤمك علينا، فنفى القرآن
اعتقاد الشؤم، وأثبت أن الأشياء إذا أضيفت إلى غير أسبابها الظاهرة فلا تضاف إلا
إلى خالق الأكوان الذي يرجع إليه الأمر كله، وأما الأولى فمعناها أن جميع ما خلقه
الله تعالى للإنسان من الحسنات والنعم فهو فضل منه وإحسان لا في مقابلة عبادتهم
له؛ لأن العبادة لا تنفعه وعدمها لا يضره، ومهما بلغ العبد من العبادة فلا يكافئ
نعمة الوجود فكيف يقتضي غيره؟ وأن جميع ما يصيبه من السيئات فهو من
نفسه؛ لأن الله تعالى بيّن له أسبابها بما هداه إليه من سنن الكون وأحكام الشرع التي تؤدب النفس وتقف بها عند حدود الاعتدال في الأعمال والمعاملات كلها، فمن
استرشد بسنن الكون ووقف عند حدود الشرع لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن
ذكر الله المبين لها فإن له معيشة ضنكًا في هذه الحياة الدنيا ولَعذابُ الآخرة أشد
وأبقى. فهذه الآية كالتي صدرنا بها المقالة في بيان أن شقاء الإنسان إنما هو من نفسه
بسوء أعماله وقبيح كسبه، وإعراضه عن هداية الله تعالى في الاعتبار بكتابه
وبخليقته. وأما الآية: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) فهي مبينة
للاعتقاد بالله تعالى لا للأسباب والمسببات، والكل حق لا يرتاب فيه عاقل وإن لم
يكن مسلمًا.
إذا علمنا هذا، فعلينا أن نرجع على أنفسنا بالتعنيف، وننحّي عليها بالعذل
والتوبيخ. ونطالبها بجميع ما نزل بنا من البلاء. وحل في أمتنا من الأرزاء، لا
أن نعتب الأقدار. ونحيل على الأغيار؛ فإن الله تعالى ما ظلمنا ولكن ظلمنا أنفسنا،
أليس قد هدانا النجدين وبيَّن لنا السبيلين، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة لعلنا
نشكره باستعمالها فيما خُلقت له. ألم يخبرنا بل لهذا الكون سننًا لا تتبدل ولا تتحول
فَلِمَ نُعرض عن مراعاتها؟ ! ألم نقرأ في كتابه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) فعلامَ لا نعتمد على أنفسنا
ونتكل - بعد الثقة بالله - على أعمالنا؟ ألم يأمرنا بالسير في الأرض والاعتبار
بأحوال الأمم وها نحن أولاء نشاهد الأمم النشيطة في الكسب العظيمة الهمة
المعتمدة أفرادها على أنفسهم مع مراعاة نواميس الخليقة قد سادوا على العالم
واستخدموا الأمم واستأثروا بالسلطان، وأصبح أضعف أفرادهم أكبر همة وأعز نفسًا
من أعظم الأمراء والملوك. أنكتفي في مصائبنا الشخصية بمعاداة إخواننا والعدوان
على أبناء أوطاننا وفي مصائبنا القومية ينبز الذين سلبوا استقلالنا بالألقاب ونسبتهم
للظلم والغشمرة؟ ونحن نعلم أن من سنن الكون استيلاء القوي على الضعيف
وامتصاص الغني ثروة الفقير. والاعتراض على نواميس الخلق اعتراض على
الحكيم العادل. وانتظار خرقها أو تغييرها لا يصدر إلا من أخرق أو جاهل.
سبحان الله، كلنا يحب أن يكون غنيًّا غير فقير، وعزيزًا غير ذليل وسعيدًا
غير شقي. كل مصري يتألم من احتلال الأجانب لبلاده واستيلائهم على ينابيع
الثروة والسيادة فيها حكامًا وتجارًا، حتى من يقول: إن الاحتلال نفع ولا يزال نافعًا
من بعض الوجوه. كل شرقي يتململ من استعمار الغربيين لجزء كبير من الشرق
وطموحهم لاستعمار باقيه، فإذا كان غير المسلمين من الشرقيين يعذر لتقاليده الدينية
بالجهل وعداوة العقل والتشاؤم من علم الاجتماع البشري ومن الفنون الطبيعية التي
تبين له طرق السيادة والسعادة، فهل يصح للمسلمين ذلك والقرآن بين أيديهم
يحذرهم وينذرهم ويستصرخ عقولهم ويستنجد هممهم ويرشدهم إلى سنن الخليقة
ويبين لهم الطريقة ويلحق بهم عار التقصير ويقول لهم: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) .
__________(2/130)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(2)
أما زعماء هذه النهضة والعاملون عليها والقائمون على مجاري الإصلاح فيها
فهم ثلاثة: حاكم، وعالم، وذو فضلة من مال.
أي امرئ مسلم يمكنه أن يقتصد شيئًا من نفقاته ويستبقي فضله من ماله فيعده
لخير المسلمين وفائدتهم ودفع الضر عنهم وتعليم نشئهم وأحداثهم ولم يفعل - كان
آثمًا إن لم يكن إثمًا شرعيًّا كان إثمًا عقليًّا سياسيًّا.
كل عالم في طاقته وعظ العامة وإرشادهم لما فيه خيرهم وتعليمهم ما يجب
عليهم وحثهم على الألفة وحسن المعاشرة والتخلق بالأخلاق الفاضلة والسعي وراء
الكسب وترك البطالة أو تأليف الكتب وإيداعها مسائل العلم الحق الذي ينور الأذهان
ويرشد إلى العمل ويبث روح النشاط في الأفراد أو إنشاء صحيفة سيارة يكتب فيها
ما فيه فائدة للأمة؛ كحثها على بذل المال في سبيل نجاحها وإشراع مناهج
الإصلاح، لها وإرشادها إلى ما به قوام وحدتها وحفظ جنسيتها وتحذيرها من مقاصد
الطامعين فيها وتنبيهها إلى الواجب لها وعليها، كل ذلك في طاقته ولم يفعل - كان
مجرمًا بغيضًا ممقوتًا إن لم يكن من جانب الشرع [1] فمن قِبَل العقل والطبع.
كل حاكم يلي عملاً من أمور المسلمين فيسلبهم الأمن ويأخذ عليهم الطريق في
أعمالهم المفيدة ويخزل (يعوق) العاملين منهم عن النهوض لما توخوه من الإصلاح،
ويوصد دون مشروعاتهم النافعة أبواب النجاح، ويتقاعد عن حماية حوزتهم،
ويتغاضى عن مصالحهم العامة أو يكون كنافذة يطل منها الأجنبي على أسرارهم
ومطويات شؤونهم - كان مذؤومًا (مذمومًا) مدحورًا على لسان العقل والشرع
والناس أجمعين.
أي فرد من أفراد الأمة دُعي إلى عمل فتقاعس عنه وهو مقدور له أو اعترض
في سبيل العاملين أو ثبط الهمم عن مشايعتهم ومظاهرتهم، أو طفق يقع في أعراضهم
وتناول منهم لؤمًا وخبثًا - كان مرذولاً مذمَّمًا عند الله والناس وفي الملأ الأعلى إلى
يوم الدين.
هذا ما يحسن بالأمة أن تتجه إليه أفكارها وتلهج به ألسنتها وتخفق لأجله أقدام
رجالها:
العلماء يصلحون كتب العلم وينقحون كتب التعليم، ويضعون في كل فن كتبًا
سهلة المأخذ فصيحة العبارة، ويعقدون اللجان للمذاكرة في إنجاز ذلك، ويلقنون العامة
والدهْماء عقائد الدين وتعاليمه الحقة ويطهرون نفوسهم من لوث الرذائل والخرافات
والأوهام.
والحكام من وراء العلماء يؤيدون أعمالهم ويعضدون أفكارهم ويحملون الكافة
على تلقي ما وضعوه وتقبل ما دونوه.
المتمولون يؤسسون الشركات المالية ويؤلفون الجمعيات الخيرية بغية نشر
الصنائع وأشغالها وتأييد الزراعة وأعمالها وافتتاح المكاتب الابتدائية والإعدادية
لتهذيب الأحداث وتثقيف عقولهم وتخريجهم على حب دينهم ووطنهم والذب عن
حوض جامعتهم. وليكن نشر العلم بين كافة الطلاب على وتيرة واحدة وطريقة فاذة
(واحدة) والحكام من وراء أصحاب الأموال تحافظ على حقوقهم وتحمي مصالحهم
وتمنحهم امتيازات تعضد مصنوعاتهم وتروج محصولات [2] مزروعاتهم وتخفف
عليهم الضرائب والمكوس والوضائع [3] بحيث يسهل عليهم العمل والقيام
بالمشروعات المفيدة للوطن والأمة.
هذا هو الدواء لمرض الأمة والعلاج الناجع بمعونة الله في شفائها وإبلالها، وما
عليها إلا أن تُقدِم على تناوله بهمم عالية وتتقحم مخاطره بعزائم صادقة، وعلى الله
قصد السبيل.
عظمة الأعمال وجلالة المشروعات يعوزها تخوّض [4] مشاق تَعذُب لديها
سكرات المنون، وتشرف بالقائم بها على مهاوي من الأخطار ينعكس من أعماقها
صدى أنين أرواح الشهداء من أنصار الحق ممزوجًا بخرير دمائهم وخشخشة
عظامهم. ما أجدر القائمين بتلك الأعمال المتعرضين لهاته العظائم والأهوال بأن
يكونوا ذوي سجايا جليلة ومزايا سماوية ومواهب قدسية ونفوس كبيرة، تقوى
وتقاوم وتصبر وتصادم وتستقبل الموت الزؤام بفرح وابتسام!
ما ظنكم يا قوم؟ ! أليس في الأمم الإسلامية رجال من هذا القبيل في الفتوة
والإقدام وعلى هذا النمط في الغيرة والشهامة؟ ألا يوجد فتيان من سلالة أولئك
الغطارفة الأمجاد يبذلون مهجهم في خدمة بلادهم وإنقاذ أمتهم؟ ألا يوجد بيننا من
يشري ثناء الدهر وعز الأبد ببذل فضلات أمواله - وهي حطام نافد وعرض زائل-
في افتتاح المدارس وإنشاء أندية العلم لتدريب أبناء أمته وأطفال قومه وترشيح
أنسالهم وأعقابهم في أنواع العلوم وضروب العرفان علّهم يقوون بذلك على مساورة
الأمم الطامحة ويدفعون عنهم غارات الشعوب الطامعة؟ ألا يوجد في سلائل أولئك
الأبطال العظام ذو نجدة يغلي في عروقه دم النخوة والحمية فيلوي عن زهرة الدنيا
وزبرجها (زينتها) يواصل العمل ويدأب في السعي وراء جمع شتات المسلمين
وإزاحة عللهم وتوحيد المتعدد من آرائهم وضم المتفرق من أهوائهم؟ ألا يوجد بقية
من سلالة أبطال بدر واليرموك ومغاوير القادسية ونهاوند تجيش نفوسهم وتضطرب
أرواحهم؛ حذرًا وإشفاقًا مِن فَقْدِ تراثِ أجدادهم، وثمن دماء آبائهم؛ حذراً وإشفاقاً من
أن ترى المعاهد الشريفة والمشاهد المكرمة والحضرات المباركة موطئاً لنعال
الأجنبي أو تكون في كلاءته وتحت حمايته. ألا يستحي مستحٍ ممن استودعنا كتابه المنزل واستحفظنا شريعته المطهرة واستوثق منا في العمل بهما والقيام
بالدعوة إليهما أن يرانا مفرطين في العمل عاكفين على الشقاق متفقين على
عدم الوفاق؟ أهذا ما أوصانا به نبينا من الاستمساك بأسباب الوحدة وتوثيق وشائج [5]
الأخوة بيننا؟ أهذا ما عهد إلينا به أن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضنا
بعضاً أو كالجسد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد؟ أهذا ما أمرنا به من
إعداد وسائل القوة وتوفير ذرائع المنعة للدفاع عن حمى الإسلام والذود عن حقيقة
الدين والذب من وراء حوزة الأمة؟ أيطيب لنا عيش ونحن نرى نسور المطامع
الأجنبية تحوّم حول جزيرة العرب وتحلق في أجوائها؟ أينعم لنا بال ونحن نسمع
أن الأجنبي يحلم باستعمار تلك الجزيرة المقدسة ومد رواق سلطته فوق الحرمين
الشريفين؟ !
ألا نفوس أبِيَّات لها همم ... أما على الخير أنصار وأعوان
الله الله يا قوم في مستقبلكم، احموا حقائقكم، اجمعوا أمركم، كونوا في ذات
الله إخواناً وأصلحوا إن الله يحب المصلحين.
الإصلاح المطلوب هو اتحاد الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها،
بحيث تبقى كل حكومة منها مطلقة اليد في إدارة شؤونها الداخلية مرتبطة مع باقي
أخواتها بالمصلحة العامة والوجهة السياسية الخارجية ومداره دفع غارات الناهبين
وقطع أطماع الطامعين. ولا يتم هذا إلا باتفاق الحكومات الأربع وارتباط كل منها
بالأخرى ارتباطًا دينيًّا سياسيًّا، وأن تتفق تلك الحكومات الأربع على توحيد التعاليم
الدينية فتنتشر بين كافة المسلمين عقائد دينية سمحة وتعاليم أدبية بسيطة، وتحمل
أولئك الشعوب على تقبلها وممارسة العمل بها.
إذا نجح ذلك المشروع وصدقت تلك الأمنية يوشك أن لا يأتي على الشعوب
الإسلامية حين الدهر حتى ينقلب خوفها أمناً وبؤسها رخاءً وشغفها عزةً وقوةً وتصل
بمشيئة الله من رفعة الشأن ونفوذ السلطان إلى مكانة عليا لا تسموها مكانة الاتحاد
الألماني ولا الاتفاق الأمريكي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: نقول: هو ممقوت في نظر الشرع ألبتة؛ فإن الله تعالى أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وفي الأحاديث وعيد شديد على كتمان العلم.
(2) لفظ (محصول) يستعمله الكُتاب اليوم بمعنى غلة الأرض وليس عربيًّا فيما أعلم.
(3) الوضائع - جمع وضيعة: ما يأخذه السلطان من الخراج والعشور.
(4) تخوّض الرجل: تكلف الخوض، لازم واستعمله الكاتب هنا متعديًا.
(5) الوشيجة: ليف يُشد بين خشبتين ينقل عليهما المحصود، فاستعير لما يجمع بين الناس من قرابة ونحوها (ج) وشائج.(2/134)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(الدين القويم)
كتاب ألّفه حديثًا الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد زناتي ناظر (مدرسة العزبة
المتمدنة) من مدارس سمو مولانا الخديوي الخصوصية بإرشاد سعادة أحمد شفيق بك
رئيس قلم التحريرات الفرنساوية الخديوية، وجعل الكتاب برسم تلك المدارس.
وهو بأسلوب جديد نافع حاوٍ - على اختصاره - أهم ما يحتاج إليه المبتدئ من
الاعتقادات والعبادات والأخلاق والآداب الدينية، وفيه بعض أحكام المعاملات
أيضًا، وقد جرى في الأحكام على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ولقد كنا نشكو من كتبنا الدينية أننا لا نكاد نجد فيها كتابًا مختصرًا سهل العبارة
خاليًا من اصطلاحات الفنون العربية والحشو، حاويًا أهم ما تمس إليه حاجة
الناس، ليقرأ للعوام والأطفال، وهذا الكتاب من هذا النوع إلا أنه أهمل بعض
الأبواب المهمة كالأيمان والنذور والصيد والذبائح والأضحية ونحو هذا مما هو أهم من الإجارة والحوالة والرهن.
***
(متانت)
وصل إلينا بعض الأعداد الأولى من هذه الجريدة التي تصدر في (قنديا -
كريت) وهي جريدة تركية أسبوعية سياسية أدبية لمديرها الفاضل قدسي زاده نوري
أفندي وهي عثمانية اللهجة، فنرجو لها الثبات والنجاح.
***
(المدارس)
جريدة علمية تهذيبية مصورة يحررها جماعة من الكتاب المصريين، وهي
تصدر مرة في الشهر، وقيمة الاشتراك فيها خمسة غروش في السنة، ولعل رخص
ثمنها يكون سببًا في سرعة انتشارها وإن كانت أربع صفحات صغيرة، لا سيما وهي
مزينة بالرسوم وورقها جيد ولا ينال أصحابها منها كسبًا ما لم يعد المشتركون فيها
بالألوف فنحث التلامذة على تعضيدها.
***
(تاريخ إنكلترا)
صدر الجزء الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الكاتب الفاضل جرجي أفندي زيدان
منشي الهلال الزاهر، وفيه تاريخ هذه الدولة من أول عهدها إلى انقضاء الدولة
اليوركية، وكان نشر فصولاً متتابعة في مجلد السنة الثانية من الهلال. ودقة مؤلفه
وذوقه وإنصافه في التاريخ يغني عن الإطناب في تقريظ الكتاب، وهو يُطلب من
مكتبة الهلال في مصر، وثمنه 4 غروش وأجرة البريد غرش واحد.
***
(جريدة الصبح)
لقد كنا قرظنا هذه الجريدة الغراء بعد ورود عددها الأول إلينا، وضاق يومئذ
عدد المنار عن نشر التقريظ، والجريدة سياسية أدبية تجارية أسبوعية، أصحابها من
أدباء وطننا السوري وهم: خليل أفندي ملوك، وشكري أفندي الخوري، ومحررها
الأول الكاتب الأديب خليل أفندي شاول، وقد قرأنا في العدد السادس منها مقالة
مفيدة في (السوري وتباين أخلاقه) بحث فيها كاتبها بحثًا فلسفيًّا، وحث فيها
أصحاب الجرائد على جمع الكلمة وأهل الوطن على تربية البنات، وهذا من أفضل
ما يكتب في الجرائد، فنتمنى للصبح أن يزيد ضياءً ولضيائه أن يزيد انتشارًا.
__________(2/138)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(الدعوة إلى الدين)
كثر حديث الناس في هذه المدة الأخيرة بدعوة المرسَلين الإنجيليين من الإنكليز
وغيرهم إلى ديانتهم، واستفاض الخبر في مصر بأنهم يخدعون الناس بإيهامهم أنهم
يعطون مبلغًا معينًا من المال لمن يعتنق مذهبهم، وأنهم استعملوا الخشونة في كيفية
الدعوة، ولكن رئيس الجمعية التي نسب إليها هذا كذَّب خبر إعطاء النقود وقال: إنه
غير صحيح. ونشر ذلك في جريدة المؤيد، وصرح به الدعاة في مجتمعهم الذي
عقدوه في المدرسة الإنكليزية ليلة الاثنين الماضية. وقد تكلمت الجرائد المسيحية
في هذه المسألة، ونددت بالمرسلين الإنكليز، وقد نقلت جريدة المؤيد مقالة في ذلك
عن جريدة الرأي العام، وإننا ننقل ما كتبته جريدة الفلاح في ذلك؛ لئلا نُنسب
إلى التحامل والتعصب إذا تكلمنا من نفسنا، قالت الجريدة ما نصه بحروفه:
شيء جديد
حضر إلينا بعض المعتبرين من الإسلام الكرام وأفادنا بأنه بينما كان مارًّا
بشارع محمد علي شاهد بعض المرسلين البروتستانت واقفين أمام المدرسة الإنكليزية
الكائنة في تلك الجهة، يحثون المسلمين على اعتناق الدين المسيحي على شكل
خارج عن دائرة الأدب؛ إذ إنهم كانوا يطعنون على الدين الإسلامي ويغررون الناس
بإعطاء الأموال إذا ارتدوا إلى الدين المسيحي، ويا ليتهم يقفون عند هذا الحد، بل
إنهم كانوا يجذبون الناس إلى داخل المدرسة كي يقنعوا بصحة دعواهم، حتى إنه
ترتب على ذلك اجتماع خلق كثير أمام المدرسة وعلت الغوغاء وكثرت الرِّعَاع
وتنوعت الأقوال بما استفز بعض صغار الوقوف إلى الرمي بالحجارة والسب واللعن
وخصام استوجب مداخلة البوليس، إلى غير ذلك مما لا يليق، وقد التمس منا هذا
البعض التنبيه إلى ذلك، واستلفات نظر الحكومة إلى منع مثل هذه الأفعال حذرًا من
أن يتولد من ورائها ما لا يستحسن، والبلاد في حاجة إلى الراحة والسكينة لا إلى
الفتن والثورات.
ثم بلغنا بعد ذلك أنه على إثر مداخلة البوليس طار الخبر إلى الحكومة، وأن
حضرة مستشار الداخلية بحث في هذه المسألة، ونبه على أولئك المرسلين أن لا
يتجاوزوا حدود الإرشاد بالمعروف.
هذا ما بلغنا وكيفما كان الحال فنحن نعلم أن الدين المسيحي يوجب علينا
احترام كافة الأديان والإرشاد بالمعروف فضلاً عن أننا في بلاد تحكمها الأمة
الإسلامية تحت ظل الشريعة الإسلامية والسواد الأعظم فيها من المسلمين، والسيد
المسيح في الإنجيل الجليل أوجب علينا بل حتم علينا الطاعة لكل حاكم والخضوع
لكل سلطة؛ فإنه قال عليه السلام: (اخضعوا للسلاطين فإن كل سلطة من الله) ،
بل إنه عليه السلام امتثل لشريعة حكام زمانه ودفع الجزية لهم.. إلخ، مما لو أردنا
استيفاء البحث عنه لطال بنا المطال، ومع ذلك الإنجيل الجليل يثبت لنا أن السيد
المسيح عليه السلام كان يرشد إلى الدين بالكلام المعقول وفعل المعجزات لا
باستعمال القوة ولا بالتغرير بالأموال بل إنه عليه السلام نهى تلامذته عن حمل
المال بالكلية، فإذا عرفنا ذلك وكان ما فعلناه صحيحًا - يكون تصرف أولئك
المرسلين مخالفًا للشرع المسيحي من جهة ومخالفًا للآداب لعدم احترامنا
السلطة الحاكمة من جهة أخرى.
ونحن لا ننكر أنه يجب على علماء كل ملة الإرشاد إلى ملتهم ولكن بطريقة
أدبية، وطالما نددنا على علماء الإسلام الكرام بالنسبة لتقاعدهم عما هو واجب عليهم
من هذا القبيل خصوصًا، بينما يرون أن أرباب كل دين يجاهدون في نشر دينهم
ويتجشمون المتاعب والمشقات لمثل ذلك، وكم تمنينا أن تتشكل جمعية من كرام
المسلمين باسم جمعية الإرشاد الديني الإسلامي، ويجمعون لها الأموال من ذوي الخير
وينفقونها على العلماء؛ لكي يطوفوا البلاد للإرشاد إلى الدين الإسلامي كما تفعل
الأجانب، ولكن لسوء الحظ لم نجد من يلبي هذا الطلب الذي لا صعوبة فيه
غير السعي والحركة.
ولا نظن أن كرام الأمة تأبى المساعدة في دفع شيء طفيف من فضلات ما
لهم إلى مثل هذه الغاية الحميدة. والمصيبة كل المصيبة أن كبارنا يتقاعسون عن
مثل ذلك، وصغارنا يبذرون الألوف من الجنيهات بسخاء لا مزيد عليه في المنكرات
وعلى المفاسد والملاهي.. إلخ إلخ، ونحن في غفلة عن مواجبنا، ولو فرضنا
وتحرك فريق من المسلمين وشكل جمعية إسلامية تحت اسم عمل خيري لاستدرار
أموال المسلمين وبحثنا بدقة عن نتيجة العمل فلا نرى من نتيجة هذا العمل شيئًا
يذكر. هذا، إن فرضنا أن ذلك الاجتماع خالٍ من المقاصد والغايات والمنافع
الشخصية.
وحاصل القول: إن الإفرنج في مساعيهم الدينية تجاوزوا حدود الآداب والكمال
في طرق الإرشاد واستعمال المنكر مثل التغرير بالأموال والمنافع وما شاكل مما
ينكره الدين المسيحي نفسه والإسلام قد قصروا في مساعيهم الواجبة لتنشيط علمائهم
فتقاعسوا وقصروا مع أنهم يعلمون أن كل مَن سار على الدرب وصل. وهذا التقاعس
قد أفاد الأجانب؛ لأنه ليس أمامهم من ذوي الإرشاد في الدين الإسلامي في القطر
المصري والجهات المتوحشة من يناظرهم فإن بقيت الهمم الإسلامية في القطر
المصري فاترة لا يعجبهم إلا الغرور الظاهر والتعصب في الغايات وعدم معرفة
النافع من الضار والسقيم من السليم. فعلى القطر المصري والسودان (الذي ستنشأ
فيه مدرسة إنكليزية كلية في الخرطوم ونحن في غفلة عن كل سعي يقاوم ما يماثلها
وغير جهات من إفريقيا وسواها) السلام؛ فإن الأقوال لا تقوم مقام الأعمال، فالعبرة
بالعمل، وألا نكون عبرة لمَن يقول ولا يفعل.
وعلى الأمة الإسلامية أن تفتكر في مستقبلها وتنتبه من رقدتها وتفعل ما ينفعها
في الحال والاستقبال، وإلا لو ملأت الدنيا صياحًا وهي واقفة وغيرها ماشٍ، فالهواء
يبدد الكلام، والعمل يغير الحال ولا تشعر إلا وهي في دور الاضمحلال.
فيا أمة الإسلام، هذه نصيحة من سليم ملخص في الخدمة للأمة بحسب ما
تقتضيه الهمة والذمة، فإن الحق أولى أن يقال على كل حال، وعلى الله
الاتكال. اهـ
(المنار)
نشكر لسعادة الكاتب غيرته ونصحه، ونقول لإخواننا المسلمين: أما كفاكم أن
المخالفين لكم في الدين يسجلون عليكم تقصيركم في خدمة دينكم بأموالكم وأنفسكم
وعلمكم وعملكم، ويحثونكم على القيام بحقوقه يائسين منكم، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي
الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
قد انتدب الفقير منشئ هذه المجلة صديقه الفاضل رفيق بك العظم ناظر
المدرسة العثمانية بأن يلقي في القسم الليلي الذي افتتح في المدرسة دروسًا في الدين
واللغة والمناظرة، أما درس الدين فبيان حقيقته وكيفية إسعاده للبشر، وأما درس
اللغة فهو عمل يخرج به المتعلم كاتبًا خطيبًا، وأما المناظرة فيتقدم العمل فيها دروس
في فن المنطق وآداب البحث، وقد شرعنا في هذه الدروس، فعلى الراغبين أن
يبادروا، والله الموفق.
***
(سوق تمشي)
رأت لجنة معرض 1900 أن الوسائط التي استعملت في معرض شيكاغو
وبرلين لانتقال المتفرجين على أقسام المعارض لم تكن كافية لراحتهم، وأن
قطارات (داكوتيل) التي استخدمت عام 1889 في باريس ما كانت لتفي بالمطلوب
مع شدة الاعتناء بها، وقدرت تلك اللجنة أن معرضها الآتي سيحشر فيه عدد يزيد
ثلاثة أضعاف العدد الذي كان في معرض 1889؛ فمن الضرورة إذًا أن تكون
وسائط الانتقال أهم وأوفر وأكثر سرعة وسهولة.
وبعد مباحث عنيفة واختبارات دقيقة اعتمدوا أن يضعوا سوقًا تمشي بعجلات
تدار على خطوط حديدية تدفعها قوة الكهرباء وتديرها الآلات بأيدي الساقة الماهرين.
أما تلك السوق أو بالحري تلك المدينة البهية فهي مؤلفة من ثلاث طبقات، كل
طبقة منها مستقلة بحركتها عن الثانية. فالطبقة السلفى لا حركة ذاتية بها بل هي
مرقاة إلى الطبقتين العلويتين.
أما الطبقة العالية فتدور 4 كيلو مترات بالساعة، وهي معدل مشي الإنسان
المسرع، وأهم من كلتيهما الطبقة العليا؛ لأن سرعتها مضاعف سرعة الثانية وأدق
صنعًا وألطف منظرًا.
وكل طبقة من هذه الطبقات تقسم إلى أقسام متتابعة مرتبة بغاية اللطف والهندام،
ولا يعيب هذه السوق غير أصوات العجلات المزعجة على أن المهندسين تعهدوا
إزالة كل علة. اهـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الصبح)
__________(2/140)
10 محرم - 1317هـ
20 مايو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التصرف في الكون
] سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [
واحسرتاه على أمة أعطيت أمثل التعاليم. وهديت إلى الصراط المستقيم.
فأُلبِست تاج السيادة. وأُفرغت عليها حلل السعادة. ثم ما عتمت. أن حرّفت
وانحرفت. وتمزقت بعدما اجتمعت، حرفت التعاليم فاشتبه عليها الباطل بالحق،
واتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الحق. وكانت أمة واحدة. فأمست شيمًا متعددة
فذاق بعضها بأس بعض. ثم امتهنت في جميع بقاع الأرض {انظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} (الأنعام: 46) .
سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا في معرفة المنافع والمصالح بأسبابها، وإتيان
البيوت من أبوابها. ويحصل هذا بالنظر والتأمل. والاختبار والتعقل. وبناء
اللاحق على عمل السابق. حتى تظهر السنن الكونية. والنواميس الطبيعية. التي
لا يضل من اهتدى إليها. ولا يصل إلى الغاية إلا من سار عليها. ولكن دون
الوصول إلى معرفة سنن الله في خلقه عقبات. وفي طريق النظرين - العقلي
والحسي - شبهات {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) .
ما أعظم عناية الله بالإنسان؛ منحه أنواعًا من الهداية ليصل بها إلى سعادته:
الإلهام الفطري والوجدان الطبيعي والمشاعر الظاهرة والباطنة والعقل والدين وكل
هداية من هذه الهدايات تُصلح ما يقع من الخطأ الذي يعرض للهداية الأخرى ولا
يصل الإنسان إلى حد كماله إلا بمجموعها، ولكن الإنسان خُلق ضعيفًا، فمع هذه
الهدايات كلها لم يزل الضلال آخذًا بزمامه والشقاء في شعوبه ضاربًا بجرانه، وما
ذلك إلا لغلبة ناموس الارتقاء التدريجي على جميع هذه الأشياء ولا بد أن يصل
الإنسان به إلى كماله ولو بعد قرون، فانتظروا إنا منتظرون.
الدين أعلى أنواع الهداية ومرشدها ومدبرها وقد سار كغيره على سُنَّة الارتقاء
فكان آخره (وهو الإسلام) أكمله، وإلى ذلك الإشارة بما جاء في إنجيل يوحنا عن
سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام من قوله: (16 إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي
16 وأنا أطلب من الآب فيعطيكم (فَارْقِلِيط) آخر ليثبت معكم إلى الأبد) أي:
تثبت تعاليمه فلا يأتي بعدها تعاليم إلهية، ثم قال: (26 و (الفارقليط) روح
القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم) ،
ومعلوم أنه لم يبعث نبي علَّم البشر كل شيء يحتاجونه في سعادتهم إلا نبي الإسلام
عليه الصلاة والسلام؛ فموسى جاء بشريعة عملية، وعيسى جاء بأخلاق روحية،
ومحمد علّم الناس العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة بأنواعها وجمع بتعليمه بين
مصالح الروح والجسد ومنافع الدنيا والآخرة ووفق بين العقل والدين وأرشد إلى سنن
الكون والاعتبار بها، فكان من مقتضى هذه التعاليم أن تكون أتباعه أسعد الناس حالاً
وأن يسودوا على سائر الأمم، ولقد كان هذا كله ثم اتبعوا سَنَن مَن قبلهم، فلما زاغوا
عن ذلك الصراط المستقيم في أخلاقهم وأعمالهم أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم
الفاسقين.
قال لهم هذا الدين: اطلبوا الأشياء بأسبابها {وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) وأرشدهم إلى أن سعادتهم وشقاءهم نتيجة أعمالهم وأنه {لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، فقام فيهم
محرفون زعموا أنه ليس في وسعهم شيء من العمل ولا طاقة لهم على القيام
بمصالحهم ومنافعهم، زاعمين أنهم يعظمون الله تعالى بمصادمة فطرته ومصادرة
شريعته. وقد فندنا هذا المذهب في مقالة (الاعتماد على النفس) من الجزء الماضي
وهو العقبة الكبرى في طريق الإصلاح الإسلامي، وأنشأنا هذه المقالة لتمهيد عقبة
أخرى ضررها يوازي ضرر الأولى في الحيلولة بين الأمة وسعادتها وإن كانت في
حقيقتها مناقضة للأولى عقلاً ودينًا ألا وهي: عقيدة تصرُّف بعض العباد في
الكون.
أليس من العجيب أن يسلب قوم أنفسهم العمل الثابت لهم بالوجود والوجدان
سواء كان بمبدئه أو بغايته لأجل تعظيم جانب الألوهية التي منحتهم إياه، ثم يزعمون
أن منهم من يتصرف في الكون ويقدر على قلب نواميسه وتبديل سننه وتحويلها
فيسعد ويشقي ويفقر ويغني من غير سبب غير مجرد تصرفه ذلك أو الاستعانة
بطلاسمه مما اختص الله تعالى بالقدرة عليه من دون عبادة كما هو ثابت بالدلائل
العقلية والنقلية جميعًا. أليس من الجهالة العمياء أن تُنبذ البراهين العقلية وتُصرف
الآيات القرآنية عن ظواهرها لأجل تصحيح هذه المسألة التي ما أنزل الله بها من
سلطان؟ ! أليس من البلاء العام أن تكون قلوب معظم أفراد الأمة متعلقة
بالأضرحة والقبور وبجماعة من الدجالين والمشعوذين أو البُلْه والمجانين؟ ! معتقدة
بهم أنهم يدفعون مصابًا ويزيلون أوصابًا. أو يملكون نفعًا وإسعادًا. وينيلون هدايةً
ورشادًا بمجرد أسرارهم الباطنية، وقواهم الغيبية؟ أليس من الانحراف عن الدين
أن تلهج الألسنة بالأموات، وتستعين بالعظام الرفات كلما نزل خطب أو ألمَّ كرب؟!
هذه العقيدة المضرة نفث سُمَّها في روح الأمة الإسلامية قومٌ من مدعي الصلاح
والإرشاد الذين رمقتهم العامة بعين الاعتقاد وذلك بعد امتزاج المسلمين بأهل الملل
الأخرى الذين خضعوا لرؤسائهم الروحيين خضوعًا أعمى بل اتخذوهم أربابًا،
وجعلوهم عن الحضرة الإلهية نوابًا. وما من أمتين تتمازجان إلا ويسري لكل واحدة
من الأخرى شيء مما هي عليه، تأخذه برمته أو تصبغه بغير صبغته. ولقد تلاعب
الدجالون بعامة هذه الأمة فزعزعوا بمثل هذه الأوهام عقائدها. وهدموا بالتمويهات
قواعدها؛ طلبًا للمال والجاه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد آل بهم الأمر إلى جراءة أفسق الفساق وأفجر الفجار من شيوخ الطريق
على دعوى التصرف في الكون والانتقام ممن لا يخضع له! فضلاً عمن ينال منه
بقول أو عمل، ويستدلون على ذلك بما لا يخلو عنه الكون من مصائب تنزل بأعدائهم
لحصول أسبابها الطبيعية، وبمثل هذا يستدل المعتقدون بتصرف الأموات يقولون:
حلف فلان بالولي الفلاني كاذبًا فرماه بسهم أمرضه أو أمات ولده أو قريبه ونحو ذلك
ولا يقولون ذلك فيمن يحلف بالله كاذبًا، ويوجد في المسلمين ألوف كثيرة يتجرؤون
على الحلف بالله كذبًا ولا يحرك أحدهم لسانه بالحلف بالولي أو الشيخ الذي يعتقده؛
لا سيما إذا كان عند قبره. وقد صرح الفقهاء بأنه لا يجوز الحلف بغير الله مطلقًا
وقالوا: من حلف بغير الله معظمًا له كتعظيم الله تعالى في ذلك كان كافرًا، فماذا
عساهم يقولون فيمن يزيد في تعظيم الشيخ على تعظيم الله تعالى كالذي علمت؟ !
ومن هؤلاء الدجالين من يسعى بإيقاع الضرر بعدوه بأسبابه العادية؛ لا سيما
النفوذ والجاه الدنيوي كمساعدة الحكام الظالمين وغيرهم، ثم يدعي بعد ذلك أنه
تصرف فيه بسره ومدد شيوخه وأجداده فيقول: إن فلانًا تكلم فيَّ فقُطع لسانه وفلانًا
ناوأني فعُزِلَ من وظيفته. وفلانًا آذى بعض أتباعي فحُبِسَ ونُكِبَ. ويغفل الأنوك عن
وقوف الناس على أسباب هذه النكبات وعرفانهم أن مثلها من تصرفات الأشرار لا
من تصرفات الأسرار، ولا يعتبر المغرور بما ينزل بأنصاره من البلاء كالنفي
والجنون ونتف اللحى وقلع العيون بل بما ينزل به نفسه أحيانًا؛ وذلك لأنه يؤوّل
لنفسه عند نزول البلاء بأن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فإذا كشفت عنه
قال: إنما نزل به ما نزل لتظهر أسراره وعناية الله تعالى به نعوذ بالله من
الاستدراج بالغرور والتغرير.
ألم يعلم المدعي الجاهلي بل الخادع المتجاهل أن الناس يعلمون بأن أكابر
شيوخهم كانوا يشتمون ويهانون وما كان يحل بمن أهانهم بلاؤه. هذا الشيخ أحمد
الرفاعي الكبير (رحمه الله تعالى) كان يغمطه ويغمزه أكابر العلماء في عصره [1]
ولم ينقل أنه تصرف بأحد منهم فقطع لسانه مثلاً مع أن أكثر أهل طريقته يدعونه
أكثر مما يدعون الله تعالى، وقد نسبوا له العظائم حتى قالوا إنه كان يتصرف في
الدنيا والآخرة وكان يبيع قصورًا في الجنة كما يفعل بعض رؤساء الأديان الأخرى
ويكتب بذلك صكوكًا [2] ويغفل الخادع والمخدوع عما أورده الإمام حجة الإسلام
الغزالي في الرد على الذين يدعون أن نزول البلاء بأعدائهم يكون انتقامًا لهم على
سبيل الكرامة من أن الذين كانوا يؤذون الأنبياء ويقتلونهم ما كان يحل بأشخاصهم
البلاء والعذاب، فهل كان هؤلاء الأشقياء أو الصلحاء أكرم عند الله من الأنبياء
(سبحانك هذا بهتان عظيم) ومما يقضي بالعجب أن مسألة التصرف في الكون
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
يدعيها الدجال المسترسل في الفجور الذي أغواه الشيطان بشهادة الفساق أو
الكفار له بالقطبية والغوثية من مراتب الولاية لينالوا منه مالاً أو جاهًا، وحسب العاقل
هذا في النفور عن أهل هذه الدعوى وتكذيبهم، فكيف والوجود بكذبهم والشواهد التي
أشرنا إليها تفند مزاعمهم؟! وفوق ذلك كله كتاب الله يخاطب نبي الله إرشادًا لعباد الله
بمثل قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ} (الأعراف: 188) وقوله: {قُلْ
إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21) نعم إن الدجالين قد جعلوا مسألة
التصرف من باب كرامة الله لأوليائه. وسيأتي الكلام على الكرامات إن شاء الله
تعالى.
__________
(1) ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني (رحمه الله تعالى) في كتاب لطائف المِنَن (صفحة 411 و 412 من النسخة المطبوعة في مطبعة بولاق الأميرية سنة 1288) ما نصه: (وكان الشيخ سالم السلماباذي يحط هو وأصحابه كثيرًا على سيدي أحمد بن الرفاعي فلقيه مرة سيدي أحمد في طريق ومعه أكبر أصحابه، فأول ما رآهم سيدي أحمد نزل عن دابته وكشف رأسه وقبَّل لهم الأرض (انظروا وتأملوا) وقال لأصحابه: بالله عليكم أن أغلظوا عليَّ القول فاصبروا ساعة، فلما قبَّل يد السلماباذي ورجله وهو راكب (اعتبروا) تلقاه بكل قبيح وشتمه وقال له: أي أعور، أي دجال، أي مستحل الحرام، أي مبدل القرآن، أي ملحد! حتى قال له: أي كلب! هذا كله وسيدي أحمد يقبل يده، ويقول: أي سيدي بفضلك ارضَ عني وأنا خادمك وحِلمك يسعني) إلخ وذكر في الصفحة 412 أيضًا ما نصه: (وكان الشيخ إبراهيم الأعزب يقول: كان البستي (وهو من أكابر العلماء) يحط على سيدي أحمد فأرسل مرة له كتابًا فيه: أي أعور، أي دجال، أي مبتدع، أي مَن جمع بين الرجال والنساء، الكلب ابن الكلب! (تأملوا) ، فأرسل له الجواب: صدقت فيما قلت: جزاك الله عنا خيرًا، فلا تخليني من دعائك - يا أخي - وحلمك يسعني) ، ثم قال الشعراني: (ورَوى الشيخ عبد الرحمن القوصي رضي الله تعالى عنه بسنده إلى يعقوب خادم سيدي أحمد، قال: كنت كلما لقيت الشيخ عبد الله الهندي، يقول لي: احمل هذه الرسالة إلى شيخك وقل له: أي ملحد، أي باطني، ونحو ذلك من الألفاظ القبيحة، فكنت أخبر سيدي أحمد بذلك، فيقول لي: قل له: صدقت) اهـ.
(2) من ذلك ما رأيته في البهجة الرفاعية عند بني الصياد في طرابلس الشام، وهو أن سيدي أحمد اشترى من الشيخ إسماعيل بن عبد المنعم شيخ أونيه بستانًا بقصر في الجنة، وكتب له بذلك صكًّا بخطه هذه صورته: (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي الضامن على كرم الله سبحانه وتعالى - قصرًا في الجنة، يجمعه حدود أربعة: الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس بجميع ولدانه وحوره وفرشه وأسرَّته وأنهاره وأشجاره عوض بستانه والله شاهد وكافل) ، ثم إنه طوى الكتاب وسلمه إليه اهـ والقصة مبسوطة في ذلك الكتاب وفيه من أمثالها كثير، وقد أتينا في كتابنا (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) على العجب العُجَاب من مثل ذلك وسيُطبع عن قريب إن شاء الله تعالى.(2/145)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(3)
قال قائل من مستمعي حديثي: وإذا تخاذلَتْ - والعياذ بالله - تلك الحكومات
وتباطأت عن الشروع في تأسيس هذه الوحدة ووضع مقدمات الإصلاح، وأخفق سعي
عقلاء الأمة العاملين على النهضة الساعين في تنبيه الأفكار وتنوير الأذهان، كيف
تكون النتيجة، وإلامَ تؤول حال المسلمين، وإلى أي منقلب ينقلبون، وهل يسلم
لواحدة من تلك الحكومات استقلالها أم يعجز كل منها عن الدفاع ويسقط بين يدي
العدو؟ هذا السؤال هو الذي حملنا على وضع هذه المقالة كما ألمعنا إلى ذلك في
فاتحتها.
ونقول في الجواب بالإجمال:
إن عاقبة تفريط المسلمين في لمِّ شعثهم وإفراطهم في لهوهم وغفلتهم وتثاقلهم
على مداركة الخلل الساري في شؤونهم - سقوط حكوماتهم بين أيدي الأمم الغربية
شيئًا فشيئًا، ثم تقلص ظل شعائرهم وشرائعهم عن وجه البسيطة حالاً فحالاً. ولا
إخالك إلا راغبًا في تقصّي الأحوال غير مجتزئ بهذا الإجمال لما أنه قلما يجهله إلا
مَن ران على قلبه وطمست عين بصيرته.
(المسألة الشرقية) وكل واحد على شيء من العلم بالمسألة الشرقية. هي
اقتسام دول الغرب لحكومات الشرق. ما منشؤها؟ هو ذلك الينبوع الذي انبثق في
ربوع الحجاز ثم تعاظم مده وطما سيله حتى غمر معظم الأصقاع الشرقية في آسيا
وأفريقيا وتنفست أمواجه على السواحل الجنوبية من قارة أوربا وتدرجت رويدًا رويدًا
حتى كادت تصافح أمواج البحر الشمالي لو لم يقف شارل مارتل (ملك فرنسا) في
وجهه ويعترض جريته، ففلّ سورته وعرامه [1] وأرجعه أدراجه.
ما غرض ساسة أوربا في المسألة الشرقية، وما الذي حملهم على التداخل في
خُويِّصة الشرق وشؤونه وأي عذر لهم في اقتسامه واستباحة التهامه؟ يزعمون أن
شعوب الشرق مسلوبو الخلال التي ترشحهم للمدينة فاقدو المزايا التي تؤهلهم لتكوين
أمة ذات حضارة وعمران على نسق حضارة أوربا وعمرانها. عامتهم جهلاء لا
إلمام لهم بشيء مما تتوقف عليه راحة الإنسان وانتظام معيشته الصحية والأدبية
أذلاء مستعبَدون لحكامهم، لا يعرفون كيف يطالبون بحقوقهم، ولا كيف يلزمون
حكامهم حدود العدل والإنصاف. عمالهم على جهل تام بأمور الإدارة الداخلية وكيفية
ارتباطها بسياسة الأمة الخارجية لا يعلمون الواجب عليهم ليقفوا عنده ولا يحفلون
بالحقوق ليبذلوها إلى أصحابها. معظم همهم في مخالسة رشا (جمع رشوة) أو
مجالسة رشا. أمراؤهم لاهون وعن النصيحة معرضون، لا يهمهم صلاح رعيتهم ولا
يبالون بشقوتهم، ولا يصيخون لشكيتهم. يتفننون في ابتداع الأساليب لابتزاز أموال
الرعايا وإنفاقها في ضروب ملاذهم وشهواتهم سعادة. أحدهم في مراوحته بين
الافتراش والاكتراش. وبالجملة إن حكام الشرق وأمراءه استذلوا رعاياهم
وتهضموهم وبخسوهم حقوقهم وتلاعبوا بهم، كما تتلاعب الزعازع بالنباتات الغضة
والغصون اللينة.
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وتدّعي دول الغرب أن إبقاء أهل الشرق على هذه البيئة السيئة والشؤون
البهيمية وتركهم وتعاليمهم المختلة وآدابهم المعتلة وحكمهم الظالم واستبدادهم الغاشم
جناية على الإنسانية وضربة قاضية على المزايا البشرية وإخلال بتعاليم الشريعة
الأدبية، وأن الواجب والضمير يأمران أولئك الدول بالدمور [2] على أهل الشرق
والاستيلاء عليهم شاؤوا أو أبوا، ثم إن كان الشرقيون عاجزين عن إدارة بلادهم
الداخلية قصروا أيديهم عنها وتناولوها منهم وكان استعمارًا صرفًا، وإلا خلوا بينهم
وبينها واستبدوا بسياسة البلاد الخارجية ومصالحها العمومية الكبرى، وسموا ذلك
حماية.
ويموهون بأن هذا الحجر إنما هو مُوَقَّت بزمن عجز المحجوزين وقصورهم
حتى إذا أدركوا وبلغوا الحالة التي يمكنهم معها القيام بشؤونهم الإدارية والسياسية
خلوا بينهم وبين بلادهم وودعوهم وانصرفوا مأجورين لا مأزورين. هكذا يزعمون.
ومما يقدمون عذرًا - بين يدي فعلتهم هذه - قولهم: إننا قد أرخينا الطِّوَل [3]
لحكومات الشرق منذ نصف قرن وأكثر، وانتظرنا إفاقة أمرائهم من غفلتهم وانتعاشهم
من عثرتهم، وما زلنا في أطواء تلك المدة نتقدم إليهم بالوعظ تارة وبالإنذار أخرى،
وننصح لهم بأن يصلحوا شأنهم ويرعَوُوا عن غشمرتهم، ويعرفوا لشعوبهم حقوقهم
وهم عن ذلك معرضون وبالترف لاهون وبالترهات مغترون.
هل المسألة الشرقية تقتصر في تناولها على الشعوب الإسلامية أو يتعدى
حكمها إلى سائر الأمم الأخرى؟ إنما وضعت تلك المسألة في أول أمرها لأجل
مقاومة الإسلامية ومساورة أهلها، واسترجاع ما افتتحوه من الأقطار المسيحية
والولايات الرومانية التي سقطت أمامها وعنت لسلطانها، فمن هذا تعلم أن حقيقة
المسألة الشرقية دينية، لكنها مموهة الظاهر بالصبغة السياسية التي تقدم شرحها.
ومن جرّاء ذلك لم يقتصروا في مدلول تلك الكلمة على الشعوب الإسلامية فقط، بل
تجاوزوا بها إلى سائر الشعوب على اختلاف أديانهم وتعاليمهم.
وما لي لا أتوخَّى في بحثي الصدق وأتحرى في حكمي الحق. إن فَسيلة تلك
المسألة وإن كانت زرعت حبتها الأصلية لأول عهدها في تربة التحمُّس الديني
وسقيت بمياه الأحقاد الملية، لكنها - والحق يقال - لم تستغلظ وتستوِ على ساقها إلا
في هذه الأزمنة المتأخرة وبين الأمم الغربية، حيث تعهدوها بالأسمدة السياسية وأتموا
تشذيبها وعذق تربتها بمعاذق الأطماع والأغراض والأثَرَة الجنسية؛ فبذلك أصبحت
تلك الفسيلة شجرة عظيمة غليظة الساق ممتدة الفروع ضاربة الأغصان تظل
بأوراقها وغصونها بقاع آسيا وإفريقيا وجزائرها وشبه جزيرة البلقان، بما يسرح
فيها من الشعوب المختلفة والأمم المتباينة والقبائل المتنوعة، لا فرق تحتها بين دين
ودين، ولا تمييز بين مذهب وآخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) عُرامه بالضم: بمعنى سورته أي: شدته وحدته.
(2) الدمور: الدخول بدون استئذان.
(3) الطِّوَل كعنب: قِيَاد الدابة يطال لها في المرعى للتوصل إلى الكلأ ويُكَنَّى به عن الإهمال.(2/151)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التربية النفسية
من الناس من يرغب عن قراءة ما يُكتب في شؤون الأطفال احتقارًا له كما أن
الأطفال محتقَرين عندهم ولا يلذّ لهؤلاء إلا الكلام عن الملوك والحكام وشؤون الدول
والأمم، وهذا دليل على أنهم أصحاب أهواء لا نفع لقراءتهم؛ فإن الملوك والحكام
كانوا أطفالاً وأحوالهم - في كبرهم - مبنيَّة على تربيتهم في صغرهم، والأمم مؤلفة
من الأفراد الذين لم يوجد واحد منهم كبيرًا قط. فتربية الأطفال هي المسألة الأساسية
في حياة الأمة، فمَن لا يكترث لها لا يكترث للأمة كلها، مهما ثرثر وتشدق في
الكلام عنها.
يرى المراقب للأطفال والولدان أن الكذب والشراسة والظلم والتعدي والأثرة
والدناءة والشَّرَه ونحوها من الرذائل - أغلب عليهم من الصدق والدَّعَة والإنصاف
والرضى بالحق والمؤاثرة على النفس والشهامة والعفة وأشباهها من الفضائل؛ ولهذا
ذهب بعض علماء الأخلاق إلى أن الإنسان شرِّير بالطبع وإنما يكتسب الخير
بالتربية والتعليم. وهذا باطل كمقابله وهو أن الإنسان خيِّر بالطبع ويطرأ عليه الشر
من فساد التربية والتعليم. والحق أنه - في أصل فطرته - قابل للأمرين على السواء
وهناك مرجِّحات ترجّح أحدهما على الآخر أضعفها حالة القطر ونوع المزاج
وأقواها الوراثة والتربية والتعليم وغلبة الشرور والرذائل على الأطفال، إنما هي
من سوء الوراثة والتربية معًا؛ لأن أهل التهذُّب والتهذيب في الدنيا قليلون. ولا
يكفي في وراثة الخير والفضيلة أن يكون الأبوان خيِّرين فاضلين؛ لأن الطفل كما
يرث من والديه يرث من أجداده وإن علوا، وهذه الوراثة لا يحجب الأدنى فيها
الأعلى كإرث الأعيان شرعًا.
يتهاون الناس بتربية الطفل الأدبية من أول النشأة زاعمين أنه لا يفهم ولا يعقل
فيغرسون في تربة نفسه الطيبة بذور الرذائل، فلا يلبث أن ينمو ذلك الغرس فيجنون
منه حنظلاً ويطعمون ضَريعًا وزقُّومًا. أول شيء يتعلمه الطفل الكذب الذي هو منبع
الشرور وجرثومة الرذائل، أرأيت كيف تُسكته جدته أو عمته إذا بكى في غيبة
المرضع بإلقامه ثديها الذي لا لبن فيه؟ ! أرأيت كيف يلاعبون الوليد فيأخذون منه
الألهية (ما يُتَلاهَى به) ويحجبونها عن عينه، قائلين: أخذها البعبع أو الغراب!
ثم يُظهرونها له؟ ! فيثبت مثل هذا الكذب في نفسه بالتكرار، ويكون ملكة راسخة
لا يتأتى الرجوع عنها بعدُ بمجرد قول أبيه أو معلمه: إن الكذب قبيح أو حرام إلا
إذا عقل وقويت إرادته وجاهد نفسه على الاحتراس من الكذب وتحري الصدق زمنًا
طويلاً، فقد جربنا هذا وقاسينا منه العناء عدة سنين ورُبَّ كلمة واحدة يتعلم بها الولد
عدة رذائل، وذلك كأن تعطيه أمه تفاحة وتقول له: اخفِ خبرها عن أخيك. تعلِّمه
بها الكذب والأَثَرَة والبخل والظلم، حيث لم تساوِ بينه وبين أخيه وسوء المعاشرة
والسرقة؛ لأن مبدأها أخْذ الشيء خُفية وغير ذلك.
ومن الجهالة الدائمة والمنتشرة ما يعتقده أكثر الناس من أن الكذب على
الصغار مباح، وأصل هذا قول بعض العلماء: يجوز ترغيب الصبي أو ترهيبه في
حمله على الذهاب إلى المكتب ونحوه، ولو بما لا ينوي المرغب والمرهب الوفاء
به، وهذا إذا تعذر حصول المصلحة بغير ذلك وكيف يعقل أن الشريعة الحكيمة تبيح
إفساد نفوس الولدان بطبع هذه الرذيلة في نفوسهم؟! روى ابن أبي الدنيا من حديث
أبي هريرة مرفوعًا: (مَن قال لصبيه: ها أعطيك. فلم يعطِهِ كُتبت كذبة) ومن
حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا من حديث طويل: (وأن الكذب لا يصلح منه جد
ولا هزل ولا يعِد أحدكم صبيًّا ولا ينجز له) وجميع ما ورد في الكتاب
والسنة من التشديد والوعيد على الكذب يتناول الكذب على الصغار، بل ربما
كان هذا النوع من الكذب أقبح من غيره؛ لأن المكذوب عليه يتضرر منه بطبع ملكة
الرذيلة فيه، بخلاف الكبير فإنه يبقى على ما رُبي عليه غالبًا، فليعتبر الآباء
والأمهات بما ذكرنا وما سنذكر بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/155)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(ثمرات الفنون)
قد تم لهذه الجريدة الغراء بانتهاء عام 1316 خمس وعشرون سنة ربع قرن
قمري كامل في خدمة الملة والدولة، فاحتفل صاحبها المفضال سعادتلو عبد القادر
أفندي القباني بموسمها الفضي في أول العام الجديد عام ست وعشرين للجريدة
احتفالاً بديعًا في ثلاث ليال، كان منزله فيها موردًا عذبًا للعلماء والوجهاء والأدباء
من جميع المذاهب والأصناف، وقد افتتح الاحتفال سعادته بخطاب لطيف خُتم
بالدعاء للحضرة السلطانية من الجميع ثم تأثره الخطباء والشعراء بألسنة تفيض الثناء
على هذه الجريدة الوطنية الصادقة ومؤسسها بما هما أهله.
وقد استغرق منظومهم ومنثورهم العدد الأول من السنة الجديدة الذي طبع بحبر
مذهب على ورق فضي كالورِق وبقي بقية. فنهنئ سعادة رصيفنا بالتوفيق لبلوغ
هذه الغاية في جهاده الأدبي، ونسأل الله تعالى أن يديم له التوفيق والنجاح حتى يهنأ
بالموسمين الذهبي والماسي وتبقى جريدته إلى ما شاء الله.
***
(تقويم المؤيد)
طبعت نفوس الغربيين على الترقي في كل شيء ولم يجدوا سبيلاً لترقية
التقاويم السنوية إلا بإيداعها كثيراً من الفوائد المقتطفة من كل فن وكذلك يفعلون.
ولم يتلُ أحد من أصحاب التقاويم العربية تلوهم في هذا إلا حضرة الكاتب البارع
محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الشهيرة؛ فقد أنشأ تقويماً أودعه فوائد
شتى من جميع الفنون، بحيث يجد حامله منه معلماً ومسلياً إذا نظر فيه، لا سيما
في أوقات الفراغ وقد انتقدنا عليه أن ذكر فيه مسألة خرافية وهي (معرفة حظ
الإنسان بمواقيت ميلاده) ، وإن كان يُسر بها أكثر الناس.
***
من عجيب تحامل الأوربيين وأنصارهم من العثمانيين نسبة الدولة العلية إلى
إهانة النصارى وعدم مساواتهم بالمسلمين، والواقع أنها تفضلهم على المسلمين في
كثير من الشؤون ونذكر الآن مسألة الصحافة فقد رقت الدولة أصحابها من النصارى
أكثر مما رقت أصحابها من المسلمين، ففي مصر يوجد مَن ارتقى من أولئك إلى
رتبة (مير ميران) وصاروا من باشاوات الدولة، ومن ارتقى إلى الرتبة الأولى،
ولا يوجد مسلم نال رتبة ما، وهذا عطوفتلو نجيب بك ملحمة رقته الدولة بسبب ما
كان يكتب في جريدة البصيرة إلى أهم مركز سياسي في بلادها، حيث جعلته
مندوبًا ساميًا في البلغار وما أدراك ما البلغار وفي هذه الأيام أنعمت عليه الحضرة
السلطانية مجددة مجد الدولة برتبة (بالا) الرفيعة ولا يمكن أن يحلم بهذا صاحب
جريدة مسلم.
وأعظم من هذا في معناه أنه بعد صدور جريدتنا المنار الإسلامية أراد بعض
كهنة المسيحيين إصدار جريدة دينية بهذا الاسم، فأنهى ملجأ ولاية بيروت رشيد بك
إلى ملجأ الخلافة العظمى بإصدار إرادة سنية بمنع المنار الإسلامي من بلاد الدولة
العلية، وإرادة أخرى بإصدار المنار المسيحي فصدرت الإرادتان على حسب الطلب
من مقام ثالث العمرين - أيد الله ملكه وأجرى في بحر التوفيق فُلْكه -
وفي هذه الأيام قرأنا في جرائد سوريا بأن مولانا أمير المؤمنين أنعم بالوسام
العثماني الرابع على حضرة الشماس أرسانيوس حداد صاحب جريدة المنار المسيحية
الغراء مكافأة له على إخلاصه وصدق تابعيه وهذا الإنعام وإن كان لم ينله ابتداءً
صاحب جريدة إسلامية - لكن قد نال مثله العلامة الشيخ حسين أفندي الجسر بعد
تأليف (الرسالة الحميدية) فهو ليس بامتياز عظيم، ونبشر رصيفنا الشماس بأن أول
الغيث قطر ثم ينهمل. ولا يختلجنَّ في فكر أحد أن في نفسنا شيئاً من رفيقتنا
وسَمّيتنا (المنار المسيحية) الغراء. كلا، إننا نعتقد أن الجرائد الدينية أنفع
لوطننا المحبوب من الجرائد السياسية إذا كانت كتابتها في تعاليمهم الدين الأصلية
وقد بينا في مقالات التعصب أن الغلو في التحمس الذميم لا يستأصله من نفوس
المسلمين والنصارى إلا الرجوع إلى آداب القرآن ومواعظ الإنجيل.
ولذلك نرجو أن تدعو جريدة المنار وجريدة المحبة وأمثالهما إلى الاتفاق
والائتلاف باسم الدين، كما دعوا إلى ذلك باسم الدين عندما كانت جريدتنا تدخل البلاد
العثمانية، وإنما غرضنا من هذه النبذة إعلام قراء منارنا في الشرق والغرب بأن من
ينسب إلى الدولة العلية تمييز المسلمين على النصارى متحامل عليها، وأن الأمر
بخلاف ذلك في كثير من الشؤون، وأما نحن فلا يسعنا إلا الرضى من دولتنا
وسلطاننا كيفما عُوملنا؛ إذ لا دولة لنا نلجأ إليها إذا هُضمت حقوقنا، وإلى
الله المصير.
***
كتبت جريدة المجلة العثمانية الغراء مقال في صدر العدد الثاني بيَّن فيها
منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون أن المسلمين والمسيحيين في بلاد الدولة العلية
على غاية الوفاق والوئام وأن ما تتهمهم به أوربا من خلاف ذلك مبني على
الأغراض السياسية، وأن إمبراطور ألمانيا أدرك هذه الحقيقة في سياحته الأخيرة،
وأن قول جلالته للخطيب المسيحي - الذي خطب أمامه بين أكابر المسلمين في مأدبة
بلدية دمشق: (إن خطابك بقي الليل كله يرنَّ في أذني) معناه أنه استدل منه على
حسن حال النصارى مع المسلمين، ويؤكد ذلك قوله لوزير خارجيته - بعد
خروجه من المأدبة -: (إن المسيحيين في بلاد الدولة أحسن حالاً من الأيرلنديين في
إنكلترا، والمسلمين في الهند والروسيا، واليهود في الجزائر وأكثر ميلاً إلى مسالمة
إخوانهم المسلمين والمسلمون أكثر رغبة في مسالمتهم مما يصفهم به الواصفون) ولم
نكد نقرأ هذه المقالة حتى صارت ترد علينا جرائد أميركا وفيها مقالات متسلسلة
تحت عنوان (حبذا الموت في سبيل الإصلاح) لإلياس أفندي أنطون شقيق
منشئ الجامعة، زعم كاتبها أن طرابلس الشام (التي قتل فيها رجل من أسافل
النصارى رجلاً من سراة المسلمين) فضلاً عن غيرها - قد خضبت أرضها بالنجيع
الأحمر من دماء النصارى، وأن المسيحيين في بلاد الدولة يكرعون السم، ويحث
إخوانه ويهيج نفوسهم على إضرام نار الثورة في سوريا لتحرير المسيحيين من
الاستعباد والظلم الذي مثَّله في مقالاته تمثيلاً يشبه تمثيلات بطرس الراهب التي
فاض عنها طوفان حرب الصليب.
كل هذا - وأعظم منه - يُكتب في تلك الجرائد، ولا تنبس الجرائد التي تدَّعي
خدمة الدولة في مصر بكلمة في الرد عليها، ولكنهم يُظهرون الغيرة على الدولة،
بقولهم: إن المصريين الذين احتفلوا بعيد الجلوس الهمايوني ليسوا مخلصين للدولة
والسلطان وإن المؤيد يظهر خدمة السلطان والدولة لأجل مصلحته. هكذا يشقون
الصدور ويردون على ما في القلوب، أما الكلام الشائن والطعن الصريح فلا يردون
عليه، فهكذا يكون الإخلاص في الخدمة!
__________(2/157)
17 محرم - 1317هـ
27 مايو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حياة الإسلام في مصر
كلما ذاق كأس مرير ... جاء كأس من الرجا معسول
يزداد في كل يوم طوفان السياسة الإنكليزية فيضانًا على مصر فيجرف كل ما
يعترض في سبيله ويغمر المصالح ويعلو جميع المنافع، حتى إنه ليتراءى للمشرف
على مجاري سيوله أن الأمة المصرية قد غرقت منه في بحر لُجي تعلوها أمواجه
والفيض على ما جاورها أثباجه. ففقدت بذلك الحياة السياسية. وأضاعت المزايا
القومية. وانقطعت منها الآمال في الحال والمآل. حكم ناموس تنازع البقاء العام
الذي لا يقبل النقض بعد الإبرام. فيلتهم القوي بمقتضاه حق الضعيف ويسود العالَمَ
الجاهلُ. ويقيس الناظر مصر على الهند وجاوا وسائر البلاد الإسلامية التي أظلتها
السلطة الأوربية؛ فحالت بينها وبين كل تقدم وارتقاء.
كل هذا يخطر في البال ويجول في فضاء الخيال، ولكن حديد النظر بعيد الفكر
يعلم أن من مقتضى ناموس تنازع البقاء أيضًا مجاراة كل أمة لمجاورتها في أسباب
الارتقاء وتقليد القوية للضعيفة في وسائله إذا كانت على علم بها ولو بالإجمال (وكل
مَن سار على الدرب وصل) وإن قياس المصريين على الهنديين والجاويين قياس
مع الفارق. والفرق من وجوه شتى:
أحدها - أن الأجانب استولوا على الأولين وهم على جهل تام بأحوال الاجتماع
البشري؛ فكان أهم عمل لهم بعد فقد استقلالهم معاداة كل ما عليه الأوربيون من
العادات، ومحاربة ما عندهم من العلوم والفنون وطرق السياسة والاقتصاد
وسائر الشؤون الاجتماعية، والمصريون ليسوا كذلك.
وثانيها - أنه لم يكن عندهم جرائد حرة تعرِّفهم ما لهم وما عليهم وما هم فيه،
ولم يكن لهم روح اجتماع بحيث تتلاقى أفكارهم في جو واحد، وإن تلاقي الأفكار في
جو واحد نافع وإن كان هواؤه فاسدًا؛ لأن التفرق لا يأتي إلا بالشرور، والاجتماع
ولو على الباطل والخطأ مبدأ للوحدة لِما يتوقع بعده من الانتقال إلى الاجتماع على
الحق والصواب. والمصريون قد سبق لهم اجتماع من عهد قريب باسم الأمة
والوطن وهو ما كان من أمر الثورة العرابية العشواء ثم ما كان من الغيرة على الدولة
العلية في حالة الحرب الأخيرة ثم في حالة الإعانة العسكرية الشاهانية، فقد ظهر من
المصريين في هاتين الحالتين من الإخلاص والغيرة والبذل مع ما يعتقدون من عدم
ارتياح حكومتهم لذلك ما لم يظهر من غيرهم من العثمانيين.
ثم إن لهم اجتماعات من دون هاتين كالاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني الذي
بُذلت فيه أموال كثيرة، وكالعناية والاهتمام بمحاكمة صاحب جريدة المؤيد التي يعتقد
السواد الأعظم بصدق وطنيتها وابتهاجهم بما كان له من الفلج على الحكومة التي
كانت خصمه في تلك المحاكمة، وهذا وما قبله ليس بالأمر الصغير من شعب هو
أشد الشعوب هيبة لحكومته وخضوعًا لها، وعندهم جرائد يعرفون من مجموعها ما
لهم وما عليهم، نعم، إن الدهماء منهم يرجحون فيها الوهم على الحقيقة ويختارون
الهزل على الجد وهذه هي العقبة الكبرى في طريق ارتقاء الجرائد.
ثالثها - أن المصريين يمتازون على سائر الشعوب الإسلامية بأمرين عظيمين
وهما: المنافسة، وسرعة قبول الإصلاح إذا جاء على يد عظيم محترم إما
لدينه وإما لما يُرجى من خيره أو يُخشى من شره، فإذا تسنى لبعض الكبراء فيهم
إشراع مناهج الارتقاء الاقتصادي والأدبي، وإن شئت قلت الديني والدنيوي، فلا
يلبثون أن يتباروا ويتنافسوا في السباق؛ حتى لا تدرك شأوهم الشعوب الأخرى التي
تفوقهم في الهمة والإقدام والثبات كالسوريين وغيرهم.
إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم يحُول بينهم وبين
السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقبوه، ولا أقول: أن
يدركوه. يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع.
وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم
وسلاسل في أيديهم وقيودًا في أرجلهم وغشاوة على أبصارهم ووقرًا في أسماعهم
ورينًا على قلوبهم. وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء فإنما نزل من سماء عظمتهم
واستبدادهم. وإن تعجب فعجب قول مَن ليس للدولة العثمانية في بلادهم أمر ولا
نهى ولا نفوذ ولا سلطان: (إن حياتنا بين يدي المابين! وإن السعادة ستهبط علينا
من أفق الباب العالي) وهم يعلمون أن البلاد التي تحت جناح المابين ونفوذ الباب
العالي تنقص من أطرافها ويتمزق أهلها كل ممزَّق، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من
المابين والباب العالي إلا الاعتراض على من مزق الأشلاء وشرب الدماء!
ماذا جنى ويجني أهل جاوا والهند ومصر من الظهور القولي في حب
مظاهرة الدولة العثمانية؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم؛ فإن هولاندا
وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً أو سمعتا منهم فيها قولاً - تزيدان عليهم الضغط
والاضطهاد والقهر والاستبداد. أَوَ لا يرَوْن أن الدولة لا تُرجِع إليهم قولاً ولا تملك
لهم ضرًّا ولا نفعًا؟ ! لا أقول لهؤلاء المسلمين: أبغضوا الدولة العثمانية. ولكني
أقول: إذا أحببتموها فاكتُموا حبها ولا ترجوا منها ما لا ينال واعتمدوا في رقيكم على
المعونة الإلهية ثم على جدكم وكدكم وعلمكم وعملكم، فإن رأيتم من الدولة نهضة
فعلية فانهضوا معها إن كنتم صادقين. كل عاشق يحذر العذال والرقباء فكيف لا
تحذرون؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها إلا مثلما ينالكم من
الضغط الأوربي والاضطهاد؟ نعم، إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له
ولهجكم بتمداحه، ولكن هل تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح
الدولة؟
أقول هذا، وأنا اعتقد أنه لباب النصح الذي يوجبه علينا ديننا وإخلاصنا لأمتنا
ودولتنا، ومن بين لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه. وإذا كان القول
صوابًا، فعلى إخواننا المسلمين أن يتدبروه، وعلى جرائدهم أن ترجع صداه،
والمنتظر من الجرائد الهندية التي تتفضل دائمًا بترجمة مقالات المنار أن تنقله إلى
لغتها ليحيط به قراؤها علمًا.
أيها الإخوان المصريون، لا يروعنّكم طوفان الاحتلال، ولا تقنطوا من النجاح
لاستئثار الأجانب بالوظائف والمناصب وعبثهم بالمصالح والمنافع، فنجاح وطنكم
بالزراعة والاقتصاد وحياة أمتكم كلها بالمعارف، وإن الإسلام لينتظر منكم ما لا
ينتظر من سواكم، فأنتم أكثر المسلمين بذلاً للدرهم والدينار، وأشدهم منافسة ومباراة
في طرق الفخار، تبذلون الألوف والملايين للدنيا وباسم الدين، ولا حاجة للإسلام
بعمارة المساجد؛ فإنها تزيد على حاجة المصلين، ولا لإقامة الموالد؛ فإنها من بدع
المحدثين، وليس الفخار بالنفقات الواسعة في الأفراح والمآتم والوضائم، ولا ببناء
القصور و (الأحواش) على القبور. وإنما حاجة الإسلام - وفيها الفخار الحقيقي
والشرف الصحيح - إلى بناء المدارس، والنفقات الواسعة على تعميم المعارف، لكن
لا لأجل خدمة الحكومة، بل لأجل خدمة الأمة، أفلا يوجد فيكم - يا قوم - عاقل
فهم هذا ووقف على سر أن تقدم أوربا هو الهبات المالية للعلم فأقدم على العمل لتقدم
أمته؟ !
ألا يوجد مسلم يوقن بأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمته
ونصرة دينه فيبذل ماله في سبيل الله؟ ألا يوجد فيكم محب للمحمدة الحقة والمجد
المؤثل يعمل عملاً، كهذا يحفظه له التاريخ إلى الأبد. ويكون مفخراً لقومه ما بقي
منهم أحد؟ ، بلى، إن الاستعداد لهذه الأعمال متأصل فيكم وأنتم أحق بها وأهلها،
ولكن عَدَتْ على الروابط العمومية عُوَّاد، اشتبه بها على الناس سبيل الرشاد،
و {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف: 51) وبادر إلى العمل أهل الإخلاص والصدق
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10-11) .
أول مَن فتح هذا الباب صاحب السعادة المِفضال عثمان باشا ماهر الذي كان
رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى عهد قريب، فإنه وقف منذ سنين 250 فدانًا
على الأزهر الشريف، ومنذ أيام ألحق بهذا الوقف أحد عشر فدانًا أخرى ثم وقف بقية
أطيانه - وهي 445 فدانًا أو تزيد، يبلغ ريعها في السنة نحو مائة جنيه - على
إنشاء مدرسة إسلامية تعلم العلوم الشرعية. والآلية من معقول ومنقول وفروع
وأصول. وقام في إثره الفاضل الغيور علي بك فهمي المهندس المقاول الشهير بالبر
والإحسان يشرع في عمل عظيم، ألا وهو إنشاء (دار علوم) على نحو دار العلوم
التي أنشأها الطيب الذكر والأثر علي باشا مبارك ناظر المعارف المصرية سابقًا
(رحمه الله تعالى) على نفقة الحكومة، تعلم فيها العلوم الدينية العالية وجميع الفنون
الرياضية والطبيعية التي يتوقف عليها ارتقاء الأمة ومجاراتها الأمم القوية العزيزة
وهذه هي الخدمة الكاملة للإسلام الذي بُني على دعائم السعادتين، ووُضع لفوز
الآخذ به بالحُسنيين، وستكون تلامذتها من نجباء طلاب العلم في الأزهر، يُختارون
بالامتحان، ويوقف عليها وقفًا يبلغ ريعه في السنة أربعة آلاف جنيه، وهذا هو السخاء الحقيقي والكرم الحميد.
إذا قام في المصريين عدة رجال مثل هذين الرجلين الكريمين ومثل العالم
الفاضل عزتلو علي بك رفاعة (وكيل وزارة المعارف سابقًا) الذي بنى مدرسة في
طهطا ووقف عليها ما يكفي لقوامها ودوامها إن شاء الله تعالى، ومثل الفاضل الهمام
سيد أحمد بك زعزوع الذي بنى مدرسة للذكور ومدرسة للبنات في بني سويف
ووقف عليهما سبعين فدانًا من أحسن أطيانه، فبمثلهم تنهض البلاد وتحيا الأمة، وإذا
حييت مصر فلا ريب أن روح الحياة يسري منها إلى جميع العالم الإسلامي.
نعم، نعم، إن الحياة في تعميم العلوم الدينية والدنيوية جميعًا لا بكون قاضينا
من الآستانة ولا حاجة لنا مع هؤلاء الرجال الأخيار الذين يجودون بالدرهم والدينار
إلا إلى معلمين أكْفاء ومدرسين أحياء، يستخدمون الدين والعلم لكشف الغمة ونفخ
روح الحياة في جسم الأمة، ولا يخفى على نبيه أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإلى هذا
نوجه أنظار هؤلاء المؤسسين، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله
ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى نحو رتبة ينالها أو حكومة يتقرب إليها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
__________(2/161)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(4)
هل تفلت من حبالة المسألة الشرقية شعب من شعوب الشرق؟
نعم قد تفلت من أطماع أوروبا وتخلص من نير تغلبها أمة حديثة في نشأتها
حكيمة في حَزْمها وتدبرها، وهي أمة اليابان ونهضت نهضة الأسد من عرينه
فأماطت غشاوة الجهل عن عينيها، ونزعت رداء الكسل عن منكبيها، وقرنت العلم
بالعمل، وجمعت بين الإرادة والسعي في إنجاز المراد وإنقاذه فاقتبست من أوروبا
فنونها وآدابها النافعة، وأعرضت عن مَقَاذِرِها ورذائلها الفاضحة، فلم يمض عليها
قرن حتى أمر (عظم) أمرها وعظم شأنها وعدت في مصاف الدول العظمى،
وسميت بإنكلترا الشرق. وقد أمست دول أوروبا تتوقى ضيرها، وتتوخى خيرها،
وتخطب مجاملتها، وتود محالفتها. يكفيك أنها قهرت الصين الضخمة وهي منها
بمنزلة الواحد من العشر بل الألف من الصفر (كذا) ولعمري إن الإصبع الواحدة
السليمة تقاوي عشرًا من الأصابع المشلولة ولو عززت بالذراعين.
وهناك دولة أُخرى من دول الشرق وهي وإن لم تكن كهذه في التمدن وحسن
الانتظام واقتباس أساليب الحضارة الأوربية لكنها يوشك أن تأمن على استقلالها
وتحافظ على مركزها، وتستبد بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية وهي أمة الأحبوش
فإن ذلك الشعب تحرشت به دولة إيطاليا وهي دولة متمدنة منظمة وهو شعب فيه
توحش وعلى غير نظام، فعاثت في أطراف بلاده، وعبثت بحقوقه السياسية، ولم
تبال بحرمته، فصمد إليها وصدمها صدمة زحزحتها عن موقف ثباتها، وكادت
تقضي على قوتيها العسكرية والمالية، فانسلت من بلاده، صاغرة انسلال الأفعى من
حجر الورل [1] ولما رأت أوروبا منه ذلك وأنست منه الرشد وتوسمت فيه القوة
ومنعة الجانب، وأحست بأن في نفسه شيئًا من الشهامة وفي دمه بقية من النخوة
والحمية؛ عرفت ذلك له، وحادت عن طريقه، وهابت التعرض له وخلت بينه
وبين نفسه؛ حاسبة أن تلك المزايا التي فيه والأخلاق الشريفة التي قامت بنفسه
كافية لسوقه إلى المدينة، وحمله على تناول العمران الأوروبي وهصر أفانينه،
واقتباس فنونه. وطفقت الدول من يومئذ تتزلف إلى ذلك الشعب وتدلي إليه
بالوسائط المختلفة. إنكلترا تمت إليه بالجوار ووحدة المصلحة في دفع غارة
المهدويين أعدائها وأعدائه، وصد هجمتهم وفلّ غرارهم وروسيا وفرنسا تمتان
إليه بوحدة المذهب، واشتباك الطقوس الكنائسية (كذا) وفائدتها من إمداده وارفاده
اتخاذه ظهيرًا لهما على مساورة إنكلترا في ضفاف النيل، ومقاومة نفوذها ثمة. إلا
أن في بلاد الأحبوش رؤساء وقوادًا تتكالب على تسنم الرئاسة وأحزابًا سياسية، كل
حزب يعضد رأسًا من تلك الرؤوس، ويقوم معه في منازعه العاهل الأكبر
(النجاشي) زمام السلطة والأمر.
وهذا لا ريب يضعف البلاد قليلاً، ويباعد بين قلوب رجال الشعب ويعده لنمو
مكروب الداخلة الأجنبية فيه، ويوقعه تحت أحكام مسألتنا الشرقية، ومن متناولات
فروعها، اللَّهم إلا أن يقال: إن الدين مهما تضاءل أثره في أعمال دول أوروبا
وضعفت عوامله في أفكار ساستها لا بد أن تكون له في بعض الأحايين صولة على
السياسات فيصرف مهابها، وسلطة على القلوب والنفوس؛ فيبعث بعواطفها وأميالها.
فالدين الذي شُدَّت أواصر تعاليمه بين الشعب الحبشي والشعوب الإفرنجية
وتوثقت وشائج طقوسه بين الكهنة ورجال الإكليروس من القبيلتين جدير بأن يشفع
بالأمة الحبشية لدى دول أوروبا ويثير في نفوس تلك الدول عواطف الرأفة والحنان
عليها فتمهلها لبينما تهب من الرقدة، وتستأنيها ريثما تستقيم على الطريقة، بل ربما
تواطأت الدول على أرفادها ومؤازرتها بالأموال والدثور، وتبرعت بإنشاء مدارس
وكليات لتهذيب أبنائها وناشئتها، ومتاحف وكتبخانات لتثقيف عقول طلبتها،
وتخريج شبانها كما يصنع بعض الدول لهذه الآونة في أمة اليونان وشعوب البلقان.
هل ابتدأ العمل بالمسألة الشرقية ومناجزة أهل الشرق في هذه الأعصر
المتأخرة أم كان الشروع قبل ذلك؟
حدثت مناوشات عديدة بين الفريقين في القرون الوسطى كان أمرها سجالاً
وأعظم تلك المناوشات وأظهرها أثرًا وأبعدها ذكرًا وأشدها صدى ودويًّا في بطون
التواريخ حملتان صادقتان، بل بركانان منفجران، وقد أنجحت إحدى هاتين
الحملتين وأخفقت الأخرى. أما الحملة المُنْجحة فهي حملة الشعب الأسبانيولي على
عرب الأندلس وإجلائهم عن تلك البلاد بعد رسوخ قدمهم في ترتبها قرابة عشرة
قرون. وتلك الحملة وإن تكن دينية النزعة فإن فيها شَوْبًا من النزعات السياسية
وعليها مسحة من الحقوق الدولية. وأما الحملة الأخرى التي أخفقت فهي حملة دينية
محضة لا شائبة للمنازع الساسية فيها، يدلك على هذا أن الذين حضوا نارها وأثاروا
غبارها إنما هم رجال الدين وحزب الكهنوت، وتلك حملة أمم أوروبا على مسلمي
فينقية وفلسطين.
تداعت شعوب الإفرنج إلى تلك البلاد من كل صوب ونسلوا إليها إرسالاً من
كل حَدَبٍ وأغاروا عليها بقضهم وقضيضهم [2] أو شابًّا [3] من أجناس مختلفة وأروم
متباينة، حتى أصبحت سواحل البحر المتوسط لذاك العهد كأرض بابل مذ تبلبلت
فيها الألسنة، وتفرقت اللغات، وبعد طول مراس وعراك بين تلك الشعوب وأهالي
البلاد نكصوا بالخذلان، وباءوا بالخيبة والخسران، ومهما كان من شأن هاتين
الحملتين وما حدث فيهما من إراقة الدماء، وإزهاق النفوس؛ فإن بعض حُذًّاق
المؤرخين يذهب إلى أن ما حصل في أصقاع الغرب من الانقلاب الفلسفي والسياسي
والمذهبي وما أعقب ذلك من الإصلاح العام في سائر الأوضاع والأعمال والشؤون
إنما نشأ عن تينك الحملتين ونتج من مخالطة أمم أوروبا للمسلمين، وإشرافهم على
مجاري أعمالهم في السياسات وأطوارهم في الإدارات ووقفوا على طرائِقِهم في
الصناعة والزراعة، وأساليبهم في الفنون والمعارف فتخيروا من فسائل حضارتهم
أجودها وأنضرها وغرسوها في تربة بلادهم وسقوها من عرق جبينهم؛ فنمت
وربت وأثمرت من كل زوج بهيج؛ وكأن أهل الغرب قبل أن يُظْعِنوا من رُبوعنا
تقصوا كل جراثيم العمران فيها، وتأثروا كل وسائل المدنية التي بين أهليها فسلبوهم
(واحرباه) إياها ثم تحملوا واستقلوا بها إلى أوطانهم.
أراك تتلع وتتشوف إلى معرفة الأسباب التي قضت بنجاح حملة الأندلس
وخيبة حملة فلسطين.
الذي مَكَّنَ يد العدو من مسلمي الأندلس إنما هو انغماسهم في الترف، وإكبابهم
على الشهوات، وتخاذلهم في الموازرة، وتواكلهم دون النجدة، ومناوأة أولى الأمر
بعضهم بعضًا، وتحرش المحاظي، وحاشية القصر بأعمال الإدارة والسياسة، وقيام
كل أمير في صقع يدعي الخلافة، ويجاذب الآخر زمام السلطة والرئاسة.
وتفرقوا شيعًا فكل مدينة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
بل بلغ بهم السفه والخرق إلى أبعد مما استفظعه شاعرنا فإن آخر مدن الأندلس
سقوطًا في يد العدو وهي غرناطة كان العدو محدقًا بها من الخارج متكالبًا على نهشها
عاملاً في تقويض أسوارها وافتتاحها وإجلاء أهلها. وهل تعلم ماذا يصنع جندها
ومقاتلها في داخلها؟ لعلك تسارع وتجيب لا شأن لهم إلا الاستبسال في الدفاع
واستفراغ الجهد في حماية الحوزة والاستماتة في صيانة الشرف والحريم، بل يمثل
لك الخيال أن سكان هذه المدينة في تلك السويعة شاكيهم وأعزلهم، ذكرهم وأنثاهم،
تألبوا على قلب رجل واحد وتراكضوا إلى الأسوار مصلتين سيوفهم مشرعين
رماحهم يكادون من شدة تغيظهم وفوران دم النخوة والحمية في عروقهم يلقون
بأنفسهم على عدوهم؛ يمضغون لحمه ويرشفون دمه. نعم إن ذلك العمل الشريف
لجدير بأن تأتيه شرذمة مقتطعة من إخوانها مختزلة عن سائر بني جنسها منتبذة في
ناحية عن أهل ملتها، جدير بأن تأتيه شرذمة أوشكت تغادر معاهد دينها وأضرحة
عظمائها وأبطالها ومعالم مدنيّتها وعمرانها لوطء أقدام عدوها، وعبث يده الجائرة؛
جدير بأن تأتيه شرذمة استنزلها الدهر على حكمه ونزع عنها لباس عزها ومجدها
وسلبها تراث آبائها وأجدادها، ومكن يد العدوّ من نواصي أوطانها.
جدير بأن تأتيه شرذمة هي بقية ملايين من أبطال المسلمين، وغطاريفهم
عَمَّروا تلك البلاد وتكونوا من ترابها، واقتبسوا أرواحهم من هوائها، نعم نعم ذلك
جدير بهم حق عليهم لو كانوا يفعلون. اسمع - كان العدو يصطدم بأسوار المدينة
من خارجها والأهالي داخلها يتخالسون مهجاتهم ويسفكون دمائهم بأيديهم؛ ذلك أنه
كان في غرناطة لذلك العهد حزبان، أهل المدينة حزب، وأهل البيازين وهي محلة
كبيرة من محلات غرناطة حزب آخر، وقلما يتفق الحزبان على بيعة خليفة
واحد، فمن جري ذلك كانت غرناطة لا تخلو من استشراء الفتن [4] واستعار نار
الثورات فيها حتى كان ذلك اليوم العصيب الذي أحدق فيه العدو بالمدينة وأخذ يناطح
أبراجها فلم يلفتهم ذلك عن المناهدة [5] والمناصاة [6] والمواثبة ولم يكن كافيًا لجمع
أهوائهم وتوحيد مشاربهم ريثما يدفعون بصدر العدو عن عقر دارهم [7] فامتشقوا
الصفاح وقوموا سمر الرماح، ونشبت بينهم في شوارع غرناطة وساحاتها وأرباضها
ملحمة بيعت فيها الأرواح بيع السماح. ماذا أصاب هؤلاء القوم يا رب؟ ما الذي
فتَّ في أعضادهم؟ ما الذي طأطأ من أعناقهم؟ ما الذي سلبهم مزايا أجدادهم؟ ما الذي أذال (أهان) نفوسهم وطأمن من أشرافها، ما الذي تلاعب بطبائعها وأوصافها؟
أي شيء طرأ على أرواح أولئك القوم حتى غَيَّرَ تكوينها؟ أي شيء لابسها حتى كاد
يمسخها؟ أليست هذه النفوس نفحات منبثقة من نفوس أولئك الفاتحين فما الذي دنسها؟
أليست هذه الأرواح أنوار مقتبسة من أرواح أجدادنا الأولين، فما الذي
أطفأها؟ تبارك شأن الله وتنزهت صفاته، حكيم فَطَرَ هذا الكون على سنن ونواميس
مطردة فلن تتبدل. عادل وضع لسير هذه الخلائق أحكامًا منتسقة فلن تتخلف. سبحانه
ما أجل شأنه. ذلك يا أخي قصص مسلمي الأندلس فكف من عبراتك، ونهنه من
زفراتك، وسل الله الحماية من أمثال هذه الغواية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الحجر: ما تحتمره الهوام والسباع لأنفسها، والورل: بالتحريك دابة كالضب أو العظم من أشكال الوزغ وهو العدو للأفعى فإنه يأكلها أكلاً ذريعًا.
(2) جاء القوم قضهم (بفتح القاف وكسرها وفتح الضاد وضمها) وقضيضهم أي: جميعهم. كما
يقال: جاؤوا عن بكرة أبيهم، وقيل: القض الحصى الصغار، والقضيض الكبار؛ أي: بكبيرهم وصغيرهم، وقيل: الأول بمعنى القاض أو الثاني بمعنى المقضوض من قضّ الخيل عليهم إذا أرسلها، ويقال: قضضهم بالفك ويقال جاؤوا قضيضهم.
(3) أخلاطًا ليسوا من جنس واحد.
(4) اشتدادها وانتشارها.
(5) قصد العدو والوثوب إليه وإنما كان يناهد بعضهم بعضًا لا عدوهم الحقيقي.
(6) التماسك بالنواصي.
(7) وسطها.(2/167)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الطاعون واتقاؤه
إن الطاعون يعد من الحميات الخبيثة الضعيفة، وأظهر ما يستدل الناس به
عليه دبول في الجسد وجمرات على الجلد، ولكن الأطباء يعتمدون اليوم على
مكروبه، فمتى وجدوا هذا المكروب في مصاب جزموا بأنه مطعون. وهو يبتدئ
عادة كما يبتدئ أكثر الحميات بتعب وضعف في القوى وقشعريرة وغثيان ووجع في
الرأس مع دوار وشعور بثقل فوق المعدة ثم يسخن الجلد ويشتد العطش وتخبث
رائحة النفس وربما تقيأ العليل قيئًا أسود اللون وربما أصابه رعاف؛ فنزل الدم من
أنفه ويغلب الذرب في معدته على القبض ثم لا يمضي على ذلك بضعة أيام حتى تظهر
أورام غُدية في العليل تسمى بالدبول ويغلب ظهورها في الرقبة والإبط والأربية
وتظهر الجمرات بعدها على أقسام متعددة من الجسد وهذا الطاعون هو المشاهَد في
الإسكندرية الآن وهو أقل شرًّا وأخف وطأةً من الطاعون الذي لا تظهر الدبول فيه،
لأن الأول يعدي بالملامسة فلا يتفشى ولا يكثر انتشاره، بخلاف الثاني فإنه يعدي
بالملامسة وبلا ملامسة، فهو شديد التفشي كثير الانتشار.
وقد ثبت قديمًا وحديثًا أن الطاعون يزداد انتشارًا غالبًا في البيوت الواطئة
المزدحمة الفاسدة الهواء الحارة الرطبة، حيث تكثر القاذورات والفضلات الحيوانية
والنباتية الفاسدة، وأن معظم الذين يصابون به يكونون من الفقراء الذين لا تغتذي
أبدانهم بما يكفيها، أو بما يلائمها من الطعام، حتى لقد سمي في بلاد الإنكليز قديمًا
بوباء الفقراء. وأما الذين يعتنون بنظافة منازلهم وإطلاق النور والهواء النقي فيها
ويعتنون أيضًا بنظافة أبدانهم ويأكلون ما يغذيهم ويقويهم، فقلما يصابَون بالطاعون؛
ولذلك لا يكاد يطعن أحد من الطبقات العليا في الناس إلا نادرًا؛ ولذلك أيضًا زال
من أوربا شيئًا فشيئًا بإحكام التدابير الصحية وزيادة النظافة بين الخاصة والعامة،
حتى إنه إذا دخل إليها ينقطع منها ولا يتفشى بين أهلها.
فأحسن الوسائط لاتقاء السليم شر الطاعون أن يعتني بنظافة جسده وثيابه
ومسكنه وكل آنيته وأمتعته ويطلق الهواء والنور في غرفه ويعتني اعتناءً تامًّا بكنفه،
فيتعهدها بالنظافة ومزيلات الفساد؛ حتى لا يجد مكروب الطاعون سبيلاً إليه. ومن
الحكمة في أيام الطاعون أن لا يُشرب ماء إلا بعد إغلائه لقتل الجراثيم التي تكون
فيه، ولا يؤكل طعام إلا بعد ما يُقتل كل ما عليه من الجراثيم، إما بالطبخ أو بالسلق
أو بالشيّ وما شاكل، ومن الحكمة أيضًا الابتعاد عن جميع الذين يتكاسلون عن تنظيف
أبدانهم وأثوابهم ومنازلهم.
هذا في ما يختص بالسليم، وأما إذا أصيب أحد بالأعراض التي ذكرناها فأحسن
ما يفعله محبوه لخيره أن يخبروا رجال الصحة حالاً بأمره ولا يخفوا خبره؛ لأن
رجال الصحة لا يفعلون شيئًا إلا ما يكون فعله واجبًا لشفاء المصاب ووقاية الذين
حوله، وفي خلال ذلك يقفل المنزل الذي يكون فيه ويمنع الناس من الدخول إليه ومن
الخروج منه حتى يأتي رجال الصحة ويطهروا ما يطهرون ويشيروا بما يشيرون.
ومن أعظم الضرر أن يخالط الأصحاء المطعونين؛ فلذلك تجتنب هذه
المخالطة إلا حيث تجب وجوبًا لتمريض المطعونين والاعتناء بصحتهم وحينئذ يجب
على الممرضين أن يعتنوا أتم الاعتناء بالنظافة ويكثروا من غسل الأيدي ويجتنبوا
نفس المطعونين ومبرزاتهم على قدر الإمكان ويحذروا من التعب وكثرة السهر؛ لئلا
يضعفوا فيتعرضوا للخطر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المقطم
__________(2/173)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب تحرير المرأة
أهدانا صديقنا الفاضل محمد أفندي كامل صاحب مكتبة الترقي نسخة من كتاب
(تحرير المرأة) الذي ألفه حديثًا العالم الفاضل والقانوني المحقق عزتلو قاسم بك أمين
المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية وقد عهد إلينا المؤلف بانتقاد الكتاب؛ ولذلك
أرجأنا الكلام عليه إلى أن نُتم مطالعته وهو مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد كما يليق
به، وثمنه عشرة قروش ويطلب (من) مطبعة الترقي.
__________(2/174)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مشروع المحكمة الشرعية)
قد أشرنا في كلام سابق إلى مشروع المحكمة الشرعية الذي قامت له قيامة
الجرائد وقد قُضي الأمر وصدر الأمر العالي بالمشروع، وقد انتدبت الحكومة أولاً
للمحكمة الشرعية الأستاذ الكامل الشيخ محمد عبده والفاضل عِزَّتْلُو سعد بك زغلول
من قضاة الاستئناف الأهلي فلم يقبلا، فانتدبت بعد ذلك عزتلو أحمد بك عفيفي
وعزتلو يوسف بك شوقي فقبِلا وصدر الأمر العالي بتعيينهما عضوين في المحكمة
الشرعية العليا. ومن حجة المنتقدين على الحكومة أن هذين القاضيين لم يدرسا الفقه
الإسلامي، فكيف يكون الإصلاح بمشاركتهما لأهل المحكمة في عملها وهو الحكم
والإفتاء الشرعيين، وقد رفض صاحب السماحة قاضي مصر المشروع قطعيًّا فعزمت
الحكومة على عزله وتعيين قاضٍ بدله من علماء مصر والموعد هذا النهار؛ حيث
يلتئم مجلس النظار تحت رئاسة الجناب الخديوي في الإسكندرية.
وقد كثر القيل والقال وظهر لجماهير المصريين أن تولية قاضي مصر من
حقوق السلطان الأعظم، لا من حقوق الجناب الخديوي ومما يلهج به الناس الآن
أن أحكام المحكمة لا تنفذ ولا تكون صحيحة شرعًا إذا كانت تولية القضاء من قبل
الجناب الخديوي، وهذا القول غير صحيح، وربما نوضحه في الجزء الآتي
بالأدلة إذا قُضي الأمر.
صدرت الإرادة السَّنِية بأن يلتزم منتخبو القرعة العسكرية الحق والعدل، وهذه
الإرادة يكون أثرها كأثر الإرادات التي صدرت بمعناها لسائر الولاة والحكام، ولا شك
أن مولانا السلطان الأعظم - وفقه الله تعالى - يعلم أن الطفل لا يتربى بالكلام فكيف
يترك الولاة والحكام - الذين أضلهم الله على علم - الظلم وهم يأتونه متعمدين، وإنما
التربية النافعة تكون بالمعاملة وقد ضجت السماء والأرض بالشكوى من والي بيروت
فلم يعزل ويناقش الحساب على عمله.
***
انعقد مؤتمر السلام في مدينة لاهي (عاصمة هولندا) وسنذكر ما يتفق عليه
الرأي وفي وقته ملخصًا.
ترسل جمعيات الأرمن في مكدونية ومصر وسائر البقاع رسائل الاستغاثة إلى
مؤتمر السلام لأجل استقلال بلادهم، فهكذا كل الشعوب تحيا والعرب، بل والترك
يموتون وتذهب بلادهم من أيديهم مملكة بعد مملكة.
يؤخذ من جرائد أوروبا أن الفتنة في اليمن قد استفحل أمرها وظهر الثوار
على عبد الله باشا، فمتى - يا رب - يهتدي حُكامنا للعدل الذي تسكن به العباد
وتسعد البلاد.
***
أمر الباب العالي سفيريه في لندن وباريس أن يعترضا كتابةً على وفاق النيل
الذي أبرمته إنكلترا وفرنسا؛ لأنه مجحف بحقوقه وراء طرابلس الغرب وقد امتثلا
الأمر ولكن الدول القوية لا تبالي بقول مَن لا يستطيع أن يفعل، لا سيما بالنسبة
للأمور التي انتهت، وليس الإجحاف واقعًا وراء طرابلس فحسب، بل في كل مكان،
فحسبنا الله، على أن الله لا يرضى بالحسبلة والاتكال مع الإهمال وترك الأعمال.
__________(2/175)
24 محرم - 1317هـ
3 يونيو - 1899م(2/)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(5)
ولنعد بك إلى الحملة الصليبية وذكر السبب الذي كان عاملاً في إخفاقها:
قيض الله للإسلام في ذلك العهد رجلين نبيلين أو وليين مقربين بل مَلَكين
سماويين - هبطا إلى العوالم السفلية وتجلببا بجلباب البشرية وسُميا بنور الدين
وصلاح الدين، يقولون: لكل اسم من مسماه نصيب. وما أظهر انطباق قولهم هذا
على الرجلين. فلقد كان الأول نورًا انسلخت بأشعته ظلمات الظلم واستبان بوميضه
مهيع العدالة والحكم وكان الثاني صلاحًا لأمته وعماد وجودها وملاك راحتها وقوام
سعادتها. لم يكُ الرجلان من صميم العرب ولا من سروات عدنان ولا من بيوتات
قريش ولا من معادن الخلافة، فإن أحدهما تركي والآخر كردي، لكنهما وصلا في
استجماع المزايا الإنسانية واستتمام الكمالات البشرية إلى مرتبة هي أقصى ما يُتاح
لغير الأنبياء والمرسلين، وبلغا من التزام حدود الشرع والاستمساك بعروة الدين
وانتهاج منهج السلف الصالح مبلغًا لم يبلغه - بعد الخلفاء الراشدين -أحد غيرهما.
هذا ما حمل بعض نقاد المؤرخين على إدماجهما في مصاف الخلفاء الراشدين وطي
اسمهما في سجل أسمائهم. وحق ما فعل. دين وعلم وعفة ونجدة ونخوة وبسالة
وحزم ودهاء وبصارة وحماية وزهادة ورأفة وتواضع، وهل يعوز الخلافة الراشدة
غير هذه الخلال؟
أليس نور الدين هو الذي كان يتبحث عن أحوال النبي صلى الله عليه
وسلم ويتقصى شؤونه كلها؛ ليقتدي بها ويهتدي بهدْيها؟ أليس هو الذي كان يخاطر
بنفسه في الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، فقال له بعض عظماء دولته: الله
الله في نفسك يا مولاي، ارفق بها ولا تعرض المسلمين بعدها للخطر، فغضب
من مقالته وقال: (مَن يكون محمود - يعني نفسه - حتى تتوقف سلامة المسلمين
عليه إن للمسلمين ربًّا يتولى حفظهم وكلاءتهم) ، الله أكبر هذا القول من نور الدين
جدير بأن يُتَّخذ قانونًا في معاملة الملوك لأممهم، فلا يرون لأنفسهم عليهم فضلاً
ولا منة، فضلاً عن استدراجهم في العبودية وامتهانهم بسلب إرادتهم واختيارهم
وإماتة نفوسهم وهضم حقوقهم وحرمانهم من واجباتهم بل إنزالهم منزلة البهائم
تغدو وتروح في حاجات أصحابها، ولا ينالها من سعيها إلا بعض العلف يلهو
به كرشها.
أما صلاح الدين فكان آية من آيات الإسلام في القرون الوسطى. كان جامعًا
بين شهامة الملوك وعظمة السلاطين وبين دعة الزهاد وسكينة النساك، وشؤونه في
إدارة بلاده الداخلية وفي سياستها الخارجية، وأعماله في إبان السلم وأوقات الحرب،
ومعاملته للعدو في كلتا الحالتين - كل ذلك لو دوِّن كان خير نظام للدول وأحسن قانون
تحذو على مثاله الشعوب والأمم. لو عرضت وقائع هذا البطل وأعماله وأطواره
وأقواله على ما اخترعته أوروبا ودعته حقوق الدول - لكانت منطبقة عليه، بل ربما
كانت على وضع أقرب إلى طبائع الناس وأضمن لمصالحهم وأوفق لنواميس
الاجتماع البشري وأكفل لانتظامه.
وقد كان - رحمه الله - كريم الأخلاق طيب النفس واقفًا عند حدود الشرع مع
معاهديه وأهل ذمته، يبذل لهم في حالة السلم والهدون من العدل والمساواة بينهم وبين
غيرهم والرحمة والرفق بهم وحسن المعاشرة والمجاملة معهم ما لا يطمعون به
إبان الحرب وساعة الطعن والضرب، ويريهم بعد انسلاخ الهدنة ومُضي مدة العهد
من الصلابة والحمس الديني والشدة والغلظة ما لا يتخيلونه فيه وقت السلم ولا
يستشعرونه منه في سُويعات الأُنس والمباسطة. بينما هو نور بسيط يبهج النفس ويلذ
المشاعر في وقت السلم إذا هو في الحرب شرارة كهربائية وصاعقة جوية
تقتنص الآجال. وتدك راسيات الجبال.
نسيم لطيف ينعش الحواس ويفرح القلب، فما أسرع ما يتحول إلى إعصار فيه
نار ينسف الأبراج والحصون وينزل بمن لحقه ريب المنون ماء زُلال سائغ
للشاربين، حتى إذا استصرخته الحرب عاد سيلاً أتيًّا (غريبًا) يقتلع ما يمر عليه ويجرف ما اعترض في سبيله. هكذا فليكن الرجل المسلم، هكذا أُمرنا أن نكون.
هكذا كان شأن الأمة في الصدر الأول. محاسنة ملائكية في وقت السلم، مخاشنة
غضنفرية في وقت الحرب. بهذا امتد رواق الدين على رؤوس الأمم. بهذا خضعت
الرقاب لتعاليم الإسلام. بهذا تقبَّلت الناس دين الله ودخلوا فيه أفواجًا أفواجًا.
وكان صلاح الدين نور الله مرقده غيورًا على مصالح أمته ولوعًا برفع شأنها
مقبلاً بشراشره (بكُليته) على حمايتها والذود عنها، ألا تعيرني إصغاءك وتسمع
من نجدة هذا الرجل وبُعد همته وكبر نفسه ما يُحدث لك عجبًا وتهتز نفسك له طربًا؟
لما كانت تضع الحرب العَوان أوزارها بين المسلمين والصليبيين ويتهادن
الطائفتان ويتحاجز العسكران - كان صلاح الدين يأذن لجنوده وأبطاله أن ينقلبوا إلى
منازلهم ويقضوا لباناتهم من لقيا أهليهم ومناغاة أطفالهم، وما تظنه فاعلاً هو؟ !
ما كان يناغي ويباغم [1] ويلهو وينادم، بل كان يعمد إلى هضبة مشرفة على
حدود العدو فينصب عليها خيمته ويرتبط بجانبها فرسه ويركز على بابها رمحه
ويعلق فيها شكته [2] ويرفع فوقها رايته، ويلبث هناك في نفر من مماليكه وبطانته
طول مدة الهدون والمتاركة، تتلاعب بخيمته الرياح المتناوحة. وتهطل عليه
السحب الغادية الرائحة. كل ذلك ليكون متبوَّؤه بمثابة مسلحة [3] للمسلمين تدرأ عنهم
الطوارئ. وهو فيها كربيئة [4] وعين تحرسهم من العدو المفاجئ.
يا سبحان الله! ما أشد كلف هذا الرجل ببذل ما وجب عليه. وما أنشطه
للقيام بحماية ما أُسند من أمر الأمة إليه. أما والله لو كان في الإسلام منقبة فوق
الخلافة الراشدة لوجبت لهذا البطل وكان أحق بها وأهلها. لِمَ نضنّ على الرجل بهذه
المفخرة الجليلة وهو قد سعى إليها سعيها؟ لِمَ لا نشيد بذكره وننوه باسمه على تعاقب
الأيام والسنين؟ لم لا يحفظ لنا تاريخنا شأنه ويوفيه حقه من الإطراء والثناء
والشكر؟ وحق الإنصاف لو كان هذا البطل في أمة اليونان القديمة لجذبوا بضبعه
إلى مصاف الآلهة وبوّءوا تمثاله أرفع مكان في (بانتيون) [5] .
أستغفر الله، إن هذا الإغراق في القول والتنطع في الوصف والتفنن في الألقاب
إنما بعثه في نفوسنا وهاجه في خواطرنا وحرك به ألسنتنا وأقلامنا ما نراه لهذا العهد
في أمراء المسلمين وملوكهم من التفريط في شؤون أممهم والتواكل في العمل للمّ
شعثهم، وإلا فالرجل لم يأتِ ببدع ولم يعمل عجبًا ولم يفعل ما فعل عن تبرع
وتطوع، ولم يلزم نفسه بمزاولة ما وراء المطلوب منه، ولم يكلفها بغير ما تتقاضاه
الذمة إياه، فهو إنما أتى بالواجب عليه لأمته وقضى حقًّا لها وقام بما تستوجبه
بيعتها؛ فإن للأمة على خليفتها حقوقًا وواجبات كما له عليها طاقة وإتاوات. وهذا
لم يكن بالشيء المجهول بين أهل الإسلام حتى عند عجائزهم.
ألم يبلغك قصة تلك العجوز مع الخليفة الثاني؟ حكي أن عمر رضي الله عنه
كان يعسّ حول المدينة فمر في تطوافه على خباء سمع فيه دندنة فتسمّع فإذا بعجوز
في صبية يتضاغَوْن (يتصايحون) من الجوع وهي تلهيهم وتعللهم بقدر وضعتها
على النار وجعلت فيها ماءً وألقت فيه حصيات، فجعل الأولاد كلما سمعوا أزيز
القدر هدءوا وهوَّموا فلامها عمر وقال: لِمَ لَمْ تأتِ الخليفة وتأخذي من بيت مال
المسلمين ما به كفايتك وكفاية أطفالك؟ فرفعت إليه بصرها وقالت له - كالمتعجبة-:
على أي شيء بايعناه إذا لم يتفقد حاجتنا ويتعهد ذوي الفاقة منا، بما يسد
عوزهم، ثم ذهب عمر إلى بيت المال واحتمل لهم بنفسه طعامًا وطلب من العجوز أن
تجعله في حل من هذه التبعة وكتب بذلك (قطًّا) أوصاهم أن يدسوه في مَطاوي
أكفانه. كل ذلك منه خشية أن يلقى الله وفي الأمة التي بايعته عجوز تدعي أنه لم
يفِ بحقوق البيعة. هذه هي الخلافة في الإسلام. هذه هي واجبات الخلافة المقدسة.
هذا هو الخليفة الذي يخشى أن تلحقه تبعة ولو من إحدى عجائز رعيته. هذه هي
الأمة التي تطالب بحقوقها. هذه هي الأمة التي خالط حب الحرية لحمها ودمها.
هذه هي الأمة التي يعرف كل فرد من أفرادها حتى العجائز، ما هو له وعليه. بهذه
المبادئ الشريفة سادت تلك الأمة على مَن ناوأها. بهذه المبادئ الشريفة غمرت
آداب تلك الأمة وتعاليمها سائر الآداب والتعاليم.
لا ريب أن الذكي الألمعي قد فهم مما ذكرناه عن نور الدين وصلاح الدين أن
البلاد الشامية لعهدهما كان فيها روح يمكنها به صد غارات الحملة الصليبية وفلّ
غربها، لكن بقي من شؤون تلك البلاد حينئذ شأن هو منها بمنزلة الأعصاب من
الجسم الحيواني، أو نسبة الشؤون إلى ذلك الشأن نسبة العين إلى بؤبئها الذي
تجتمع فيه الأشعة ويتوحد متعددها فتبصر العين المرئيات. ذلك الشأن هو الوفاق
والوحدة ليس ذلك بين الملكين المذكورين فقط، بل بين لفيف الأمراء والقواد
والأبطال ومساعر هاتيك الحروب. ومما يسر السامع ويزيد من ثلجه واستبشاره أنه
لم يكن تجاه الحملة الصليبية خليفتان كخليفتي غرناطة المشؤومة بل كانت الزعامة
الكبرى والسلطة العظمى في يد نور الدين والكل خاضعون له عارفون حقه واقفون
أنفسَهم على شد أزره وموازرته حتى إذا استأثر الله به وزفت الملائكة روحه
المباركة إلى حيث تسرح أرواح المقربين، قام بعده بالأمر صلاح الدين خير قيام
وساور وحده جميع ملوك الإفرنج ومارس أقيالهم وعلوجهم ودافع عن الوطن دفاعًا
قانونيًّا عرفه له الغربيون قبل الشرقيين، ولم تزل تلهج به ألسنة الإفرنج على اختلاف
اللغة والدين.
اتفاق أمراء الشرق حينئذ والتئام أهوائهم هو الذي سدد سهامهم في نحر العدو
ومكن عواليهم من مقاتله. نظروا - رحمهم الله - في سَوْرة تلك الحملة وشدة بأسها
وطغيان مدها وحدة تذمرها (تغيظها) ، فقابلوها من بأسهم بأشد، ومن طغيان هممهم
وحدتها بأطغى وأحدّ. علموا أن مغبة التفريط في صدها وخيمة، وعاقبة التخاذل عن
تلافيها مشؤومة فتآمروا وتذامروا [6] وأرهفوا أشفار العزائم ووطنوا النفوس على
استعذاب الموت الكريم أو تسترد عليهم بلادهم ويخلص إليهم استقلالهم. لا جرم
أنهم لو قصروا حينئذ في مدافعة العدو عن هذه البلاد وتقاعدوا عن تحريرها من
استرقاقه وانتياشها من فخ سلطته لما علم أحد غير الله ماذا كانت حالة الشعوب
الإسلامية الآن، ليست الشعوب المتوطنة في فينيقية وفلسطين فقط، بل كل
الشعوب المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وسوريا وبين النهرين وجزيرة
العرب؛ فإن ثمانية قرون كفاية لضعضعة دين ومحو تعاليم وتغيير لغات وتبديل
عادات. فالذي حفظ علينا ديننا وتعليمنا ولغتنا وعادتنا منذ ثمانية قرون إلى الآن -
هو تلك الشرذمة التي كان يقودها البطل صلاح الدين.
تلك الشرذمة العربية التي اصطدمت بتلك الزحوف الأعجمية؛ فأركستها
وجعلت عاليها سافلها وأبلت في مصابرتها بلاءً حسنًا، تلك الشرذمة التي تقحَّمت
ذلك البحر الخضم وعرضت نفسها للهلك فيه أو تنتشل من لججه الإسلام ومَن يَدين
به إلى أبد الأبيد؛ خشية امِّحائه من لوح الوجود وتجلجله في أعماق العدم، حيث
تختلط نغيته بزمزمة [7] مادي وآشور وبابل والكلدان والرومان، تلك الشرذمة
التي اعترضت ذلك السيل المتحدر بغية وقايتنا - نحن الذين أدركتنا أوائل هذا
السيل ولما نتفق بعدُ على كيفية سكره [8] أو تحويله عن دراجه [9] .
واعجبًا! شرذمة تفعل ما لا تقدر مئات من الملايين أن تفعله لا جرم، أما
أن تكون هذه الشرذمة ارتقت من أفق الإنسانية إلى عالم سماوي أعلى، أو تكون
الملايين انحطت عن أفقها الإنساني إلى أفق البهائم والعجماوات.
ترى ما هو قدر استبشار العالم الإسلامي باتفاق هذه الشرذمة ونجدة أبطالها؟
ماذا كان وقع عملهم الشريف بين العوالم السماوية، وكيف كانت مظاهر التهاني بهم
في (ملا) الحظائر القدسية. لو ترى كيف كانت تتناغى حور الجنان بأحاديث
أولئك الأبطال، كيف كانت تتغنى بذكر وقائعهم ومجيد غاراتهم. كيف كانت أولئك
العذارى تتمسح برشيح عرقهم وتتنافس بطيبه؟ كيف كانت تتخطف رشاش دم
شهدائهم وتتضمخ بمسكه وتتزين بخضابه، بل لو تسمَّعت إلى برازخ أرواح أجدادهم
لسمعت عجبًا - تسمع لأصوات الابتهاج والبشرى طنينًا وصدًى في جو ذلك العالم
المهيب. تسمع ضجيج الفرح يترجرج فوق تلك الجماهير النيرة اللطيفة. ترى
أرواح الآباء تستنشق روائح أولئك الأبناء وتنتعش برياها تشوفًا وسرورًا. ترى تلك
الأرواح تسرح عصائب عصائب في فضاء ذلك العالم وتتزاور وتباهي بصنيع
خلائفها وبرهم بوالديهم. ترى تلك الأرواح ترفرف أسرابًا أسرابًا ولها حفيف حول
شجرة طوبى والبيت المعمور تستنزل الرحمة الإلهية لأولئك الأبطال وتناجي الحق
برضاها وتسأل رضاه عنهم وتجأر إليه بالدعاء وطلب الغفر لهم إزاء أيامهم المأثورة
وجزاء مساعيهم المشكورة، والله لا يضيع أجر المحسنين.
واختزال الكلام في هذا المقام أن العامل في خيبة الحملة الصليبية هو اتفاق
أمراء ذلك العهد ونجدتهم وعدلهم ومحاكاتهم للسلف في أعمالهم واحتذائهم مثال
الصدر الأول في أطوارهم؛ فكل ذلك حببهم إلى قبيلهم وأمَّنهم غائلة ثورته وأذى
نائرته ودفع بذلك القبيل إلى الاستماتة مع أمرائه في سبيل حماية الوطن وصيانة
الشرف، علمًا بأن التقاعد عن الدفاع مصيره فقد الجنسية واللغة والدين، وفي ذلك
الشقاء والذل والخزي أبد الآبدين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) باغمها: حادثها بصوت رخيم.
(2) شكته: سلاحه وعدة حربه.
(3) المسلحة: موضع تمكث فيه المقاتلة ويلقون فيه أسلحتهم خوف مباغتة العدو.
(4) الربيئة: العين يربأ العدو ويراقبه.
(5) لفظ كان يطلقه اليونان على المعبد الجامع لآلهتهم وربما يقابله عند العرب لفظ الزون بضم الزاي، قال - في القاموس -: " الزون: موضع تجمع فيه الأصنام وتنصب وتزين ".
(6) تذمروا: تحاضّوا على القتال.
(7) النغية: الصوت اللطيف، والزمزمة: رطانة العلوج على الطعام التي لا تُفهم.
(8) سكره: سده.
(9) دراجه: مجراه.(2/177)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التربية النفسية
تدور التربية النفسية على قطبي الترغيب والترهيب؛ إذ هي عبارة عن
الحث على الفضائل والكمالات والتنفير عن الرذائل والنقائص، فالترغيب يحدث
الرجاء والأمل بالمثوبة وحسن الجزاء على العمل الصالح، والترهيب يورث الخوف
والرهبة من العقوبة. ووقوع البلاء على العمل القبيح. والخوف والرجاء هما
الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن في جو السعادة الدنيوية حتى ينتهي إلى مقعد
الصدق في جوار الحق.
الترغيب حليف اللين، والرأفة والترهيب قرين الشدة والغلظة، ولكل من
الأمرين موضع يليق به ووقت لا يصلح فيه سواه.
ووضع الندى في موضع السيف في العلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقد بحث علماء التهذيب في مسألة تغليب الخوف على الرجاء وعكسه وليس
هذا موضع بيان ذلك، وإنما نقول هنا: إن تربية الأطفال يُختار فيها اللين على
القسوة ويغلب الترغيب على الترهيب. خلافًا لجماهير الشرقيين الذين لا يفهمون
من تربية الطفل إلا شفاء الغيظ بنهره وسبه وإهانته وضربه كلما عمل عملاً لا
يرضى به أبواه أو أستاذه أو غيرهما من الأولياء والقُوَّام. وجدير بمن يسلك هذا
المسلك في تربية أولاده أن يعتقد أن التربية لا تنفع ولكن قد تضر؛ لأن هذه
المعاملة - معاملة الغلظة والإهانة - تُفسد الأخلاق وتسيء الأعمال. ولا أذم هذا لأنني أستحسن ما يقابله عند الأغنياء والمترفين من قومنا الذين يرخون لأولادهم
العنان ويتركونهم لطبيعتهم يتمتعون بأهوائهم ويسمونهم (مدلَّلين) . كلا، إن هذا شر
من ذاك وليس هو مرادنا باللين الممدوح. وكيف نجعل هذا الإهمال من التربية
والعامة أنفسهم لا يسمونه تربية، أمَا تسمعهم يقولون: (فلان مدلل لم يتربَّ) !
وهذا القول صحيح وإن كان مبنيًّا على فاسد وهو أن التربية هي الإهانة والغلظة في
المعاملة كما علمت تفريط وإفراط، والحق في الاعتدال وهو المطلوب في كل حال.
أما مضرة الغلظة والخشونة وآثارهما فهي من وجوه كثيرة، وإننا نمثل لك
بعضها تمثيلاً.
إذا كنت تهين ولدك وتشتمه عند صدور الذنب منه لأجل أن يكف عنه ولا
يعود إليه - فلا شك أنك تطبع في نفسه بذلك رذائل كثيرة تتولد منها ذنوب لا
تُحصى، كل واحد منها ربما تزيد مضرته على مضرة الذنب الذي كان سبب
الإهانة، وإذا كان الذنب الذي أُهين من أجله مما يتولد من تلك الرذائل فيزداد رسوخًا
ويقوي الملكة؛ لأن الأعمال حسنها وقبيحها تطبع الملكات في النفوس، وقلما تكون
الإهانة - لا سيما القولية - سببًا لترك الذنب وكثيرًا ما تكون مغرية به وباعثة
للإصرار عليه. وإنما يحال بين الوليد وبين الأفعال الذميمة التي يكون معرضًا
لاقترافها بقطع أسبابها عليه، من حيث لا يدري كما سنوضحه فيما بعد.
__________(2/185)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشعر العصري
أبيت ومن نفسي لنفسي لائم ... يخاصمني طورًا وطورًا أخاصم
تجردت من نفسي فأبصرت أنها ... سواي ولي منها سمير ينادم
فأشكو له بثي وحزني وتارة ... يبث لي الشكوى وما هو ناقم
يخاطبني أربع على ظلمك [1] الذي ... تريد محال عن ما أنت رائم
وقال ألم تدرِ بأنك عائل ... بمظهر مثر والمجالي حواكم
وإن ما في نفع أمته غدًا ... مرومًا به ما لا تطيق الروائم [2]
فقلت له هيهات ما أنا يائس ... ولو أن لي هذا الزمان مقاوم
فقد خاب من هاب العوادي وإنما ... (على قدر أهل العزم تأتي العزائم)
فقال اتل لا تلقوا فبسملت قارئًا ... ولا تيأسوا من روحه فهو راحم
كذلك شأني في الدجى طول ليلتي ... أراني في لوم وما ثَم لائم
وأرضك [3] للتسهيد والنوم أعيني ... فلا أنا يقظان ولا أنا نائم
وكيف يذوق النوم ولهان قرحت ... محاجر عينيه الدموع السواحم
له من جيوش الفكر كل ليلة ... وقائع يصلَى نارها وملاحم
أبيت على ذا كله وعواذلي ... على سُرُر فوق الحشايا نوائم
رجال بهم طبع الأنوثة سائد ... فلم تغنِ عنهن اللحى والعمائم
يريهم قصور العقل أن الظهور في ... عوالي قصور للظهور قواصم
وإن بتقليد الأوربي عزهم ... وما هو إلا ذلة ومآثم
وأعرق كل الناس بالنقص مقهل [4] ... تكلف أن تجبى إليه الذمائم
سعادته أن لا يزال ممتعًا ... بما فضلته في جناه البهائم
وأُشرِب حب المال في قلبه فلا ... تراه يبالي كيف تأتي الدراهم
يبيع بها الأوطان والدين يشتري ... بها وصل حب أغيد الجيد باسم
وضل على علم به فإلهه ... هواه وتلك الواجبات المحارم
لئن هام في حب الحسان فإنني ... بحب جمال الدين لا الجسم هائم
حكيم بأفق الشرق لاح فأشرقت ... بأنواره تلك في الغرب تلك المعالم
وطاف بقاع الأرض طائر صيته ... فنعمت خوافي ريشه والقوادم
وجاء لدين الله بالحق حجة ... تقصر في البرهان عنها الصوارم
دنت منه أفنان الفنون يوانعًا ... فنال جنى جناتها وهو ناعم
أحاذر أن آتيه بعض حقوقه ... فتفطن بي عذّالنا واللوائم
ولست أسمي عذّلي في تعلقي ... بأسباب حبيه لما أنت عالم
(ومنها)
وأزلف من غير ازدلاف ولم تكن ... دواعي ترقيه رقى وطلاسم
ولكن سجايا قد سمت ومعارف ... بها هتفت في الخافقين العوالم
عفاف وعدل حكمة وشجاعة ... فهل بعد هاته في السجايا كرائم
فإن زاحم الشاني علاه بمظهر ... فثم مزايا أعجزت من يزاحم
وما اشتبها في مظهر بل تشابها ... كما شابهت بعض الذباب التوائم [5]
فهل يتساوى بالمراد المريد أم ... تفاخر أملاك السماء البهائم
وبالضيف يسوى واغل متطفل ... لأن كِلا الشخصين حاس وطاعم
فهيهات ما البدء السري كمقنس ... دَعِي وذو جهل كمَن هو عالم [6]
ورُب حسود راح ينكر بعض ما ... خصصت به والله للفضل قاسم
لقد قرعت آي انفرادك في الورى ... مسامعه لكنه يتصامم
وباح لعينيه الوجود بسرها ... ولكن تعامى وانثنى وهو كاتم
يصانعه بالمدح قوم تَقِيَّة ... ولا حجة فيما يقول المآثم [7]
إذا ما دُعي رب الفصاحة والندى ... فبأقلهم قس وما در حاتم
ومن طمست بالعجب عين فؤاده ... فليس له من أمر ربك عاصم
فيا أيها الحبر الذي لطف طبعه ... كروض أريض باكرته النسائم
ويا أوحدًا في حبه لست أوحدًا ... فثم الأثابي جمة والتوائم [8]
ومن فصلت من عالم القدوس روحه ... ونِيطت بجثمان له الأم فاطم
نفخت بجسم الشرق روح تنبه ... وقد كاد يقضي وهو بالجهل نائم
فهبَّ بَنوه للمعالي وحاولوا ... نهوضًا فحالت دون ذاك الصواكم [9]
فأوضحت أعلام السلوك وإنما ... بآفاقهم غيم الونى متراكم
غزلت ولم ينسج سواك دقيق ما ... غزلت ولم تكسر لديك المبارم [10]
وأبديت من سحر البيان عجائبًا ... هي العروة الوثقى لمَن هو حازم
ولو أن أعمال الإدارة قارنت ... إرادتكم ما قاربتها المآزم
ولكن أباها الحاكمون فكارِه ... لها جاهل أو مُكرَه وهو عالم
يدليه شيطان العدا بغروره ... وللوهم سلطان على النفس حاكم
فأواه من دهر يقدم معشرًا ... مغانم هذا الشرق فيهم مغارم
(ولها بقية)
__________
(1) تقال هذه الكلمة لمَن يحاول ما لا يطيقه.
(2) الروائم: الأثافي؛ أي: أحجار القدر.
(3) أرضك عينيه: غمضهما وفتحهما.
(4) أقهل الرجل: تكلف ما لا يعنيه دنس نفسه.
(5) التوائم: النجوم المشابكة والمراد ببعض الذباب الحباحب (سراج الليل) .
(6) البدء: السيد الأول في السيادة والمقابل بفتح الباء: كريم النسب من الأبوين، والمقنس: المدعي إلى قنس شريف وهو خسيس.
(7) الكَذوب.
(8) الأثابي: الجماعات، والتوائم: الأزواج.
(9) النوائب.
(10) المغازل.(2/186)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع عدد 36 من السنة الأولى)
(دَيْن تركيا) :
جرت بين تركيا ودائنيها مخابرات على خطة من الصدق ارتاحت إليها أنفس
هؤلاء فأحلوها محلها من القبول وسارت من على نمط من الحنق عجيب يشاكل
المعجزة في خواصها فأفضت إلى حل مسألة الدين في 20 ديسمبر سنة 1881.
وكان كل الدين قد بلغ في ذلك الوقت 254292000 جنيه إنكليزي؛ لأن القروض
التي حصلت في عهد السلاطين السالفة من سنة 1858 إلى سنة 1875 وفي ضمنها
قرض السهام التركية ذات الفائض وهو رأس مال إيراده السنوي 14000 فرنك عن
كل كيلو متر من السكك الحديدية التي تنشأ في تركيا تضمنه سكة حديد الرومللي كل
هذه القروض مجموعها يبلغ 218436540 جنيهًا إنكليزيًّا وكان الذي دفع من هذا
المبلغ إلى وقت تأخر تركيا عن دفع أقساط الدين (الكوبون) هو 25947825
جنيهًا إنكليزيًّا فنقص بذلك الدين إلى 192488715 جنيهًا إنكليزيًّا، لكن بسبب
زيادة مبلغ 61803915 جنيهًا وهو متأخرات الفوائد المستحقة من شهر سبتمبر سنة
1875 قد وصل مجموع الدين العمومي في 20 ديسمبر سنة 1881 إلى المبلغ
السائب ذكره أي: 254292000 جنيه.
يجب أن يضاف إلى هذا المبلغ هذه المبالغ الأخرى وهي:
أولاً: مبلغ 8590000 جنيه مجيدي وهو مجموع مبالغ اقترضت من
مصارف غلطة قبل حلول سنة 1880 سدًّا لحاجات الخزينة وذلك الفرع من الدين قد
تنازلت بسببه حكومة تركيا لدائنيها بمقتضى الاتفاق المبرم في 22 نوفمبر - عن
إيرادات الِملْح والتبغ و (المشروبات الروحية) وطوابع البوستة والحرير والأسماك.
ثانيًا: الغرامة الحربية المستحقة لروسيا بمقتضى معاهدة الصلح وهي تقرب
من مبلغ 802500000 فرنك.
ثالثًا: التعويض المستحق للتجار الروسيين بسبب خسائر الحرب من سنة
1877 إلى سنة 1878.
لم يكن الغرض من الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 التعويض لما
كان يتوقع أن يكون لروسيا قبل تركيا من المطالب؛ فإن معاهدة برلين قد كفت
المتفقين مؤنة البحث في ذلك؛ إذ نص فيها صريحًا على أن هذه المطالب يقوم
بأدائها حاملو السندات التركية وإنما كان القصد من الاتفاق المذكور حينئذ مجرد
البحث في مسألة الدين العمومي.
بني هذا الاتفاق على أمرين؛ أحدهما: الحقيقي، وهو مجموع القروض التي
حصلت في سنين 1858 و 1860 و 1862 و1863 و 1865 و 1867 و 1872
و1875 والثاني: الأسهم التركية، وقُسم الدين الحقيقي هكذا:
أولاً: مبلغ 176756510 جنيهات إنكليزية وهو مجموع القروض الثمانية
المذكورة، استنزل منها مبلغ 18932060 جنيهًا إنكليزيًّا هو مجموع تسديدات
(استهلاكات) مختلفة حصلت إلى وقت كف تركيا عن دفع أقساط الدين واستنزل منه
بعد ذلك أيضًا مبلغ 8668450 جنيهًا إنكليزيًّا، كان إذ ذاك في الخزينة فانحط بذلك
رأس المال المقترض إلى 159156000 جنيه إنكليزي.
ثانيًا: مبلغ 1829685 أصدرت به سندات وقتية تدعى سندات رمضان
بمقتضى إرادة سنية صدرت في 6 أكتوبر سنة 1875 الموافق 6 رمضان سنة
1292 من أجل سداد المبلغ المستحق في سبتمبر سنة 1875 وهذه السندات تعطي
لحاملها الحق في نصف الربح ونصف المبلغ المستهلك من الدين بسببها.
هذا المجموع العام هو مبلغ 160985688 جنيهًا إنكليزيًّا قد نقص إلى مبلغ
92225827 جنيهًا إنكليزيًّا ومنشأ هذا النقص حط الدائنين لتركيا من رأس المال
الأصلي 71. 42 في المائة وهذا المبلغ كان يعطي فائدة سنوية قدرها 1 في المائة
وكان في حالة من شأنه فيها أن يزيد ربحه تدريجًا تبعًا للظروف إلى 4 في المائة.
أما الأسهم التركية فقد جزئت إلى 1980000 سهم قيمة كل منها 400 فرنك
وربحه السنوي 3 في المائة تسدد (تستهلك) في 104 سنين بست سحبات سنوية
تحصل في أول فبراير وإبريل ويونيه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر من كل سنة.
والذي استهلك منها حتى أول أكتوبر سنة 1875 هو 11000 سهم من ذات
الأربعمائة فرنك أي: 4440000 أو 177600 جنيه إنكليزي وبقي منها في أيدي
حامليها ما قيمته 31512400 جنيه إنكليزي وقد نقصت قيمة كل سهم من هذه
السهام بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر سنة 1881 - 09. 45 في المائة فصار ثمن
السهم على صورته الجديدة 180 فرنكًا و36 سنتيمًا، وحدد رأس مال السهام التركية
الجديدة بمبلغ 14211406 جنيهات إنكليزية. بلغ عدد السندات التركية ذات
الفائض التي أصدرت في خلال المدة الفاصلة بين الأمرين العاليين الصادرين في
أكتوبر وديسمبر سنة 1875 وجعل استهلاكها في هذه المدة 15350 سهمًا وهي
رأس مال اسمي قدره 28180000 فرنك وقد جعلت تركيا لنفسها في هذه السهام
الحق في حطيطة 25 في المائة من الدفعة السنوية المضافة إلى السهام التركية من
عهد رجوعها إلى دفع الأقساط والمضافة أيضًا مبلغ العشرين في المائة من قيم
السهام ذات الفائض المستهلكة.
كفت تركيا عن دفع فائدة السهام ولم يكن عليها أن تعود إلى الدفع حتى يتوفر
لديها مبلغ يزيد عن اللازم لسد طلبات السندات ذات الفائض، فإذا توفر هذا المبلغ
تكون الفائدة مستحقة الدفع هي وقيم السندات المسحوبة. ولما نقص الدين بهذه
الطريقة قد خصصت الحكومة التركية لمصلحته جملة إيرادات تنازلت عنها لدائنيها
حتى يتولوا إدارتها بأنفسهم وهذه الإيرادات هي ...
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/189)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة القضاء الحاضرة
بعد أن جعلنا المنار مجلة أخذنا على نفسنا ألا نناقش الحكومة على أعمالها
ولو كانت مخطئة في اعتقادنا وقد ذكرنا مشروع المحكمة الشرعية في الجزء
الماضي وكدنا نخرج فيه عن جادتنا الجديدة بسبب تأثير الحالة العامة؛ حيث ذكرنا
شيئًا من حُجة المنتقدين على الحكومة مع الإقرار عليها، فقلنا: (وظهر لجماهير
المصريين أن تولية قاضي مصر من حقوق السلطان الأعظم لا من حقوق الجناب
الخديوي) ولكن مع ذلك قام بعض الناس ينتقد عبارة قلناها في الموضوع تمهيدًا
لنصيحة دينية أردنا بيانها بالإيضاح إذا عين سمو الخديوي قاضيًا لمصر. قصاراها
أن أحكامه تنفد.
وقد نقل المقطم عنا تلك العبارة وهذا ما دفع ببعض الناس إلى انتقادها وزعمهم
بأنها تدل على أن للجناب الخديوي أن يولي قاضي مصر؛ ولهذا اضطررنا إلى
توضيح المسألة بعض التوضيح (وإن قرر مجلس النظار برئاسة سمو الخديوي في
يوم الخميس إبقاء قاضي مصر في منصبه وغضّ النظر عن مشروع انتداب
القاضيين من الاستئناف للمحكمة الشرعية العليا) ، فنقول:
لو ولى الخديوي القاضي فلا يخلو الحال في الواقع من أن تكون التولية بحق
بأن يكون مأذونًا بها من صاحب الحق، والأمر حينئذ ظاهر، أو تكون بالتغلب
وحينئذ تنفذ للضرورة، كما كانت الأحكام نافذة في السلطة العثمانية في أفضل
أيامها من عهد السلطان عثمان إلى عهد السلطان سليم الذي لُقب بالخليفة، وكما تنفذ
أحكام القضاة في هذه العصور ومع عدم استيفائها الشروط المنصوصة. ونقول مع
ذلك: إن سمو الخديوي ما دام يعتقد أن السلطان العثماني خليفة المسلمين فلا شك أنه
لا يجوز له تولية القضاة إلا إذا علم أنه مأذون منه بها وإذا ولى يكون الإثم عليه،
ولكن الأحكام الشرعية لا تتعطل؛ لأن تعطيلها أعظم حرج في الدين وهو مدفوع بنص القرآن.
__________(2/192)
2 صفر - 1317هـ
10 يونيو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العز والذل
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .
قالت السادة الصوفية إن الإنسان مجمع الحقائق ونسخة صغيرة تمثل العالم
الكبير، فروحه من عالم الملكوت الأعلى، وجسمه من عالم الملك الأسفل، وقد
خُلق في أحسن تقويم، فكان سيدًا لهذا العالم العظيم، وجعله الله في أرضه خليفة،
وكفاك بها منقبة شريفة، استعد بها لتسخير الحيوان لخدمته، وجعل قوى الطبيعة
تحت مشيئته بحيث يتصرف بجميع ما على وجه البر، ولا يتعاصى عليه شيء مما
في قاع البحر، بل بلغت به قدرته أن طار في الهواء، واستنزل البرق من السماء:
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
إذا رُبي الإنسان على مبدأ كرامة النفس التي منحها إياه مُبدِعه وبارئه تظهر
فيه استعداداته وتبرز عنها آثارها علمًا وعملاً؛ حتى يفوز بالسيادة والسلطان. وتتم
له الخلافة الإلهية في الأكوان. ولكن اعترض الإنسان في سبيل هذه التربية النافعة
التي تهديه إليها الفطرة القويمة استبداد الذين أداروا دولاب مجتمعه بسياسة تغلب
العصبية. أو باسم السلطة الروحية الدينية، ولا استغناء له عن هاتين السلطتين؛
لأنهما من لوازم الاجتماع المدني وهو مدني بالطبع.
ولقد كان من رحمة الله تعالى بهذا النوع الشريف أن منحه الديانة الإسلامية،
التي محت الامتيازات الجنسية، وقيدت بشريعتها السلطتين السياسية والروحية،
(كما أوضحنا ذلك من قبل) ووضعت أصل المساواة بين الناس، حتى إن الخليفة
الثاني لم يبالِ في سبيل المساواة بردة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان وكان قد أسلم
هو وقومه ولطم أعرابيًّا في المصاف فأراد عمر أن يقتص منه فأبى وفر مرتدًا إلى
النصرانية، وقد علمت ما كان من مساواته بين الإمام علي وبعض آحاد اليهود،
فأي عزة لمن يدخل في هذا الدين أعلى من مساواته بالأئمة والملوك؟ وأية نهضة
وسيادة تكون أرقى من سيادة أمة يرى كل صعلوك من أهلها أنه يزاحم بالمناكب
أصحاب العروش والمواكب؟ فإن قيل: إن هذا إذلال للملوك وإهانة للأئمة، نقول:
نعم، إنه كذلك في شريعة الاستبداد وقانون الاستعباد أما في شريعة الحق وقانون
العدل فإنه لا ذل ولا هوان في المساواة وإنما الذل في النقصان ولا عز ولا كرامة
في الاستعلاء وإنما هو بغي وطغيان.
عزة النفس تتبعها الشجاعة والمنعة وعلو الهمة وكلها من خلال الإيمان، ألم
تر أن الإمام العادل عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين استجازه في
انتفاع سلب الجالنوس من زهرة بن حوبة وكان زهرة قد قتله وأخذ سلبه يوم
القادسية فانتزعه منه سعد، (تعمد إلي مثل زهرة وقد صَلَى بما صَلَى به [1] وبقي
عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه [2] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه. وقد
بيَّن الحكيم الإسلامي ابن خلدون أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم،
ذاهبة بالمنعة منهم، ومما قال في هذا:
(وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به
ولم يدافع عن نفسه يُكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت
الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء (لمرباه)
على المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه؛ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل
البدو أشد بأسًا ممن تأخذه الأحكام ونجد أيضًا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن
مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم
كثيرًا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم
المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجلس
الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع
في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا
أشد الناس بأسًا؛ لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان
وازعهم فيه من أنفسهم لما يُتلى عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم
صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه الملقاة نقلاً يأخذون أنفسهم
بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما
كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر رضي الله عنه: (مَن لم يؤدبه
الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينًا بأن
الشارع أعلم بمصالح العباد. ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة
ثم صار الشرع علمًا وصناعةً يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة
وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم، فقد تبين أن الأحكام
السلطانية والتعليمية مفسدة البأس؛ لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشريعة فغير
مفسدة؛ لأن الوازع فيها ذاتي) اهـ.
أقول: وقد اهتدى إلى هذا أهل الغرب فتلافوا بقدر استطاعتهم ضرر
السيطرة والحكم وأقاموا جدار التربية والتعليم على أساس العزة والكرامة والحرية والمساواة وإذا كان هذا هو أثر التأديب والحكم بطبيعته أي وإنْ كان عادلاً فما بالك بمَن يحكمون بالظلم والاستبداد؟ ! لعمرك، إن تأخر الأمم على نسبة الظلم
فيها شدةً وضعفًا. ثم إن الديانة الإسلامية مع أن الوازع فيها ذاتي لا يذل النفس ولا
يُذهب بالبأس، وقد جعلت عزة النفس وكرامتها من سجايا الدين بشهادة {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ومن أحكام شريعتها أنه لا يجب على
مَن فقد ثوبًا يستر به عورته في مصلاه أن يستوهبه أو يستعيره لما في ذلك من المذلة
للناس، بل يصلي عاريًا. وليس وراء هذا غاية في حفظ كرامة النفس
وعزتها.
بهذا ساد الإسلام واستخلف أهله في الأرض، وبدلوا من خوفهم أمنًا، ومن
بعد فقرهم وضعفهم غنًى وسلطانًا. وبهذا كان المجتمع الإسلامي لا يحتمل الضيم،
فهاج تلك الهيجة الشؤمى على الخليفة الثالث انفعالاً من ظلم عماله وسوء أعمالهم
دون أعماله ولم تفتأ قدر الهيجان إلا بعد طل دم تأثرته سيوف مسلولة، ودماء
مطلولة، ومن كان يعلم ما خُبئ لهذه الأمة في ضمير الغيب من تحريف التعاليم
والانحراف عن الصراط المستقيم؟
انحراف الملوك عن هدي الدين فاستبدوا بالرعية وأذلوها حتى انتكث فتلها،
وسحبت مرائرها. وصارت طعمة لكل طاعم، وبلغت المهانة من الأمة التي قتلت
عثمان في القرن الأول - خير القرون - أن صارت تقدس الملوك والأمراء الذين
يمتصون دماءها ويهتكون أعراضها ويستلبون أموالها حتى من الجهة الدينية. وقد
بلغ من أمر بعض سلاطين المسلمين لهذا العهد أن أحد المارقين قال: إن حبي
للسلطان أشد من حبي لله تعالى! فأمر له السلطان بخمسمائة جنيه جزاءَ هذا
التهور، وسرق مصحف من المكتبة السلطانية ثم وجد وأرجع إليها فكتبت إحدى
الجرائد أن المصحف قد رُفع إلى الأعتاب السلطانية، فاستكبر ذلك واستنكره
بعض رجال الحاشية وأخبر به السلطان طالبًا منه أن ينهى عنه فانتهره وأهانه ...
ولا أُسمي هذا السلطان فهو يعرف نفسه ويعرف له هذه الأعمال الألوف من رعيته،
ومع ذلك كله ترمي جماهير المسلمين كل مَن ينسب له ولغيره من ملوكهم أدنى
تقصير - بالمروق من الدين، ويعدونه عدوًّا للمسلمين، فأي انحراف عن الإسلام
أشد من هذا الانحراف؟ !
وحرف بعض رجال الدين التعاليم، وأزاغوا الأمة عن صراطه فطفقوا ينفثون
في أرواح المسلمين سم الذل والمهانة باسم الدين حتى أماتوا هممهم ومحوا من ألواح
نفوسهم آيات العزة الإيمانية، والشهامة الإسلامية ولولا أولياء الشيطان وخطباء
الفتنة لما قدر الملوك بظلمهم على كسر سورة الحمية الإسلامية؛ لأن المسلمين لا
يذلون إلا لسلطان؛ ولذلك خلق علماء السوء الأحاديث الموضوعة في تعظيم
السلاطين، وإعلاء شأنهم على جميع العالمين. وسنبين فساد ذلك في وقت آخر.
ولا شبهة لوعاظ السوء على أن الذل والمهانة من الدين إلا إدخال ذلك في
مفهوم التواضع جهلاً وغباوةً وخداع الناس بحكايات عن بعض المتصوفة الذين لا
يُحتَج بأقوالهم، ولا يُقتدَى بأعمالهم، وهذا من أعظم المفاسد التي دخلت على الأمة
باسم التصوف وأهل التصوف الحقيقيون براء منها.
امتازت طائفة الرفاعية على جميع فرق المتصوفة باللفظ في هذا وزعموا أن
شيخ الطائفة الكبير أحمد بن الرفاعي قد يسبق جميع الأولياء إلى المقامات العليا
بالعدل والانكسار وأنه طرق جميع الأبواب الموصلة إلى الله تعالى فوجدها مزدحمة
بمريدي الحق وأهل قربه إلا باب الذل والانكسار فإنه وجده خاليًا فسبق القوم منه
(وإذا صح هذا فما دخلوه إلا لكونه غير موصل إلى الله تعالى فالنتيجة باطلة)
وينقلون عنه من ذلك أنه كان يتمرغ بتراب المقابر والطرق، وأنه كان ينام على
الطريق ويُسجَّى بنحو حصير ليطأ عليه الناس وأنه كان يؤاكل كل الكلاب الجربَى
ويسلم عليهم وعلى الخنازير ويحييهم وأنه كان يقبِّل الأرض والأحذية لأهل الجاه
والمظاهر ويقبل الشتم والإهانة والرمي بالإلحاد من غير أدنى انفعال وتأثر بل مع
التصديق ويزعمون أن هذا من مقامات الدين {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وإذا صح هذا كله فأحسن ما يقال فيه إنه
عن جذب خرج به صاحبه عن التكليف فلا يُلتفت إلى عمله ويحذر الناس منه؛ لأن
الدين والعقل والفطرة ترشد إلى السعادة البشرية ولا تنال إلا بعزة النفس وكرامتها ما
لم ينتهِ إلى الكبر وفي الحديث: (غمط الحق واحتقار الناس) ، فكرم نفسك ما
استطعت واجتنب هذين الأمرين، وأما التواضع فهو وسط بين الكبر الذي هو إفراط
في العزة وبين الذل الذي هو تفريط فيها وسنتكلم على الكبر والتواضع في مقالة
مخصوصة إن شاء الله تعالى.
هذا، وإن بعض المؤرخين قد أثنى على الشيخ أحمد الرفاعي الكبير بالصلاح
والتفقه وأرى من حسن الظن أن يؤخذ بقول هؤلاء ويرفض ما في كتب المناقب
التي من شأنها تؤلف للإغراب والإعجاب؛ فإن شذوذ هؤلاء القوم هو الذي جعل
الناس يتهمونهم بالخروج عن الشريعة [3] وقد أقمت الأدلة الكثيرة في كتاب (الحكمة
الشرعية) ، على أن هذه الكتب التي نشرها الرفاعية في هذه السنين وفيها من
التلاعب بالدين العجب العجاب - كلها مزورة لا تصح نسبتها للمتقدمين، على أنه
يحتمل أن يكون ما نُسب لابن الرفاعي من ذلك كان في بدايته ثم رجع عنه وحسنت
حاله وإن لم يقل ذلك الذين ينالون فيه بالإطراء حتى كادوا يفضلونه على الإنسان بل
حتى إن أشهر شيوخهم يجعل حضرة الذكر أدوارًا - دور يذكر فيه الله ودور يذكر
فيه الرفاعي - وهكذا شأن الجاهل يريد المدح فيذم، ويحاول النفع فيضر، وغرضنا
من ذكر هذه الكتب أن لا يغتر بها الجهلاء الذين يتوهمون أن جميع ما في الكتب
صحيح والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) أي في الحرب يقال: صَلَى النار وبالنار: إذا قاسى حرها واحترق بها وصلى بالأمر: قاسى شدته.
(2) الفوق بضم الفاء: مشق رأس السهم، حيث يقع الوتر ويأتي بمعنى النصيب.
(3) راجع الصفحة 315 من كتاب لطائف المنن للشعراني المطبوع بالمطبعة الأميرية سنة 1288.(2/193)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(6)
هذا ما كان من أمر المسألة الشرقية في القرون الوسطى، وأما شأنها في
الأعصر المتأخرة، فمُباين جدًّا شأنها الأول، رأى القوم أن الزحف على الشرق
بالقوة، وإعمال السلاح في شعوبه فيه إنهاك للبشر وضعضعة لأسس الاجتماع
الإنساني وهذا مفوت لمقصودهم، مانع مما يتوخونه في قيام دولهم، وراحة شعوبهم
إلى تأسيس الدولة ورفع بنيتها لها، يكون على قواعد وأركان، فيها تكاثر أفرادها
ونمو مواليدهم وانتشار أمور الصناعة، وطرق الزراعة بين أهلها، ودوران دولاب
التجارة فيهم؛ ليكون عاملاً على ترويج المصنوعات، وتصريف المحصولات،
وروح كل ذلك الوئام بين الأفراد والطوائف؛ فيورثهم تضافرًا وتعاونًا على تأييد
صناعتهم وزراعتهم، وصيانة مصالحهم العامة من الاختلال والاضمحلال، فافتتاح
الأقاليم بمقاليد الصوارم، وإخضاع أعناق المماليك بصدور اللهازم، والتغلب على
شعوبها بالحرب وسفك الدم، هادم بنيان الدولة قد عثر (مقوض) لقواعدهم
وأركانها، الحرب تحصد البشر وتمحق أرواحهم، وتوقف دولاب التجارة، وتبطل
حركته، وبوقوفه تتقهقر الصناعة والزراعة، والحرب تشرب قلوب المغلوبين
أَوغَارًا وأحقادًا على الغالبين، وتلوث نفوس هؤلاء بالريبة والحذر من أولئك، وزِِد
على ذلك ما إذا كان في القبيل المغلوب طوائف متضافرة متناصبة، وكان ضلع
القبيل الغالب مع إحدى تلك الطوائف، فإن أخوف ما يخاف على الدولة الغالبة
حينئذ استشراء الفتن في داخليتها، وشبوب نارها بين الشعوب المكونة لهيئتها،
وفوق ذلك كله: مناظرة الدول بعضها لبعض، وتسابقها في حلبة التمدن، وطمع
كل منها في إحراز النصيب الأوفر من الحضارة والعمران، واستتمام النظام
الاجتماعي، فلو تهورت إحداهن وتقحمت حربًا جرت عليها ضعضعة في الداخل،
وضعفًا في الخارج، كان ذلك باعثًا لأخواتها على مد أيدي الطامعين إلى أطرافها،
بل مدعاة لتطلعهن للظفر بقلبها. هذا ما أشعر قلوب الأمم الغربية التخوف من
الحرب، والتهيب لسوء عقابها، وحدا بهم لتنكُّب سبيلها، وسلوك سبل أخرى تؤدي
إلى ما تؤدي إليه الحرب من الفتح، والتغلب بدون أن يعترض سالكها ما يعترضه
في سلوكه سبيل الحرب، وتلك السبل هي شؤون مؤلفة من تعاليم دينية - سرية
وجهرية - ومبادئ فلسفية وأدبية، ووسائل تجارية وزراعية وصناعية، تتمشى
في الشعوب والبلدان، تمشي الوسن في الأجفان، وراء كل هذه الشؤون المعنوية
قوة من الإرهاب والتهويل والتخويف والتهديد، تؤيد تلك الشؤون وتحميها، فإذا
أجزأ ذلك، وكفى في التغلب على الشعب المطموع فيه، وافتتاح بلاده والإعزاز
بالقوة الجهنمية قوة الموزير والمكسيم، فأنت ترى أن تلك الشؤون السلمية المعنوية
التي اعتمدت عليها لدول في قهر شعوب الشرق، وإن لم تكن حربًا، فهي معتمدة
على الحرب معضدة بها، أو الحرب منها بمنزلة الروح من الجسد، هو يتقلب في
وظائفه، ويراوح بين أعماله، والروح تدبره وتسدد حركاته.
منذ اهتدت أوروبا إلى هذه السبل، والشؤون في الاستيلاء والفتح، أعملتها
في المسألة الشرقية، وتغلبت بها على جزء عظيم من ممالك الشرق وأصقاعه،
وأوقعت في فخاخها كثيرين من أقوامه وشعوبه، وهي لا تزال تنصب هذه الفخاخ،
وأمم الشرق لا تزال تقع فيها الواحدة بعيد الأخرى، كأن على البصائر رينًا، أو
على الأبصار غشاوة، ولم تكتب السلامة على واحدة منهن سوى أمة اليابان وربما
كانت مكتوبة أيضًا لأمة الأحبوش، وقد أتينا على تفصيل ذلك أولاً، أما سائر الأمم،
فيختلف قربها وبعدها من تلك الفخاخ باختلاف حسن الإدارة الداخلية في تلك الأمم
وقبحها، وانتظام شؤونها المالية والعسكرية وعدمه، وكثرة تنور أهلها بالعلم
والعرفان وقلته، وهكذا استعمار أوروبا في الشرق بلغ من النكاية في المسلمين مبلغًا
لم يبلغه في سائر أممه على اختلاف أديانها ولغاتها، ونكلت بهم سلطة الأجانب
تنكيلاً تركهم مثلاً وعبرة لكل معتبر غيرهم- إنكلترا تسوس من مسلمي الشرق
سبعين مليونًا ويتلوها هولانده في الجاوه فإنها تسوس ثلاثين مليونًا ثم البلجيك في
الكونغو وتسوس عشرين مليونًا ثم فرنسا وتسوس سبعة عشر مليونًا ولروسيا
وتسوس خمسة عشر مليونًا ثم وثم حتى الجبل الأسود يسوس من المسلمين أربعة
عشر ألفًا.
وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
ومجموع ما هو تحت سلطة الأجانب من المسلمين يناهز مائتي مليونًا، والذي
لم ترهقه بعد تلك السلطة يشارف مئة مليوناً، وهذه المئة المستقلة منها خمسون
مليونًا مندمجة في إمارات بسيطة هي أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة، ومطوية
في قبائل رحل ضاربة في موامي إفريقيا وفيافي آسيا وجزيرة العرب ليسوا على
شيء من الإدارة، لا نظام يسوسهم، ولا انتظام يقود مقاتلتهم، وأما خمسون مليونًا
الأخرى، فهي موزعة على الحكومات الأربع على هذا الحرص في الحكومة
العثمانية، ثلاثون مليونًا، وفي الفارسية تسعة، وفي المراكشية ثمانية، وفي
الأفغانية أربعة، وإنما كان ذلك خرصًا وتخمينًا؛ لأن عدد السكان في المراكشية لم
يدخل بعد تحت الإحصاء المدقق، وكذا سكان ولايتي طرابلس الغرب واليمن من
ولايات العثمانية [1] .
مهما يكن من سائر الشؤون، فإن الخطاب في الإصلاح الإسلامي، والتكليف
في القيام بمقدماته، والدعوة إلى الشروع فيه؛ إنما هو موجه نحو زعماء وعقلاء
تلك الحكومات الأربع المستقلة [2] التي تسوسها ملوك وسلاطين، وتشغل مركزًا
سياسيًّا، ويحكم فيها بشريعة ونظام، ولها وزراء وقواد وقضاة، وخرج ودخل
وصادر ووارد.
أما درجات تلك الحكومات الأربع في الانتظام، واتساق هيئة الاجتماع،
فالعثمانية أولاً، ثم الفارسية، ثم الأفغانية والمراكشية. العثمانية أكثر نفوسًا،
وأقوى نفوذًا، وأضخم سلطانًا، وأعظم شأنًا، وأعرق دولة، وأشد صولة، وهي
من سائر العالم الإسلامي بمكانة الدماغ من جسد الإنسان. هذا ما حمل عقلاء الأمة
ونبهاءها الساعين في دعم ما تداعى من بنائها على اللياذ بالخليفة العثماني،
وللصوق بسدته. تراهم متلعين بأعناقهم، شاخصين بأبصارهم، مصيخين بآذانهم،
علَّهم يتلقون من ذلك المقام الرفيع كلمات تكون محورًا تدور عليه الوحدة الإسلامية،
أو قانونًا يرجع إليه العاملون في إصلاح الشؤون.
جدير بالمسلمين أن تتصدى رجالاتهم وساداتهم للتأليف والتقريب بين تلك
الحكومات الأربع، وتوثيق وشائج الاتحاد بينها، وتسعى في إحالة الخلاف والمودة
من الخلاف والمحادَّة. هذه فرصة على مَقربة منهم فليغتنموها، ونهزة أغضى لهم
الدهر عنها فلينتهزوها، ومصلحة عامة يتوقف عليها استقلالهم، وبقاء أمرهم
فليبتدروها، ما لأمراء تلك الحكومات لا يميطون عن أنوفهم تلك الخنزوانة
(الكبرياء) الجاهلية، ويصطلمون من نفوسهم تلك العزة الوهمية؟ ! ليخفضوا لذي
السلطة الكبرى جناح الانقياد والطاعة؛ ليشايعوه في مدافعة تلك المخاطر التي
تحتف ببلادهم، وتهدد استقلالهم؛ ليمالئوه على إصلاح حال المسلمين، وتوحيد
متفرقهم، والتحلئة (الدفع) عن حرضهم؛ علَّهم بذلك يجددون للأمة عِزَّها،
ويرجعون إليها سالف مجدها؛ فيستوجبون من الله جزاء جليلاً، ومن التاريخ ثناء
جميلاً. ما لهم لا يأتسون بأمراء الشام؟ ! سالت عليهم الفجاج بشعوب الإفرنج؛
فالتفوا حول أميرهم الأكبر، وتلقوا تلك السيول المنحدرة -غمرة بعد غمرة -بعزائم
الأبطال؛ ففلُّّوا عزمها، وبَدَّدوا نظامها. ما أخوفني عليهم أن يتخاذلواتخاذل أمراء
الأندلس؛ فيفشلوا- لا قدَّر الله فشلَهم - ويصيبهم من الدواهي مثل ما أصابهم، ومن
هنا نلفت إلى ما كان اعترَضنا به في غضون الحديث أحد الحاضرين، وهو قوله:
كيف يكون انحلال عقد تلك الحكومات إذا لم نتفق وهل يسلم لواحدة منها استقلالها؟
فنقول:
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار) يوهم الكلام أن الإحصاء في سائر ولايات الدولة في إيران والأفغان دقيق محرر، وليس كذلك.
(2) يرى كثير من العقلاء أن الإصلاح الإسلامي بعيد المنال في ظل هذه الحكومات، وأنه يرجى في البلاد الهمجية كبعض إمارات إفريقية، وفي البلاد التي ظنتها، كمصر والهند، ما لا يرجى في تركيا وإيران ومراكش، ورأينا أن لا ييأس أحد من الإصلاح حيث كان.(2/199)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
(مستقبل الإسلام في الصين)
نشر مبعوثو البروتستان من الإنكليز تقريرًا ضافيًا عن أعمالهم في الصين
جاء فيه كلام عن حالة الإسلام في مملكة ابن السماء، فبعد أن ذكر كاتب التقرير
تاريخ دخول الإسلام في الصين، وكيف كان انتشاره، حتى صار المسلمون هناك
أكثر عددًا من سكان أكبر مملكة إسلامية - قال:
وإذا نظرنا إلى حالة المسلمين في الصين نجدهم على ثروة وسعادة يتمتعون
في ضروب الراحة والهناء، شديدو التمسك بدينهم، فلا تحولهم عنه الجبال،
ولا تغيرهم الوعود والآمال؛ إذ هم يعتقدون اعتقادًا لا يشوبه أدنى ريب أن
مستقبل البلاد الصينية لهم، وأنهم سيرفعون مجدها يومًا من الأيام.
ومن الكُتَّاب الذين كتبوا في هذا الموضوع البروفسور فاسليوف فهو يعتقد مثل
ذلك، كما صرح به في كتابه؛ ولذلك هو يخشى عواقب ذلك الانقلاب المنتظر على
أوروبا.
قال الكاتب: والحقيقة أن الظن ليس من الأمور البعيدة؛ لأن المسلمين في
الصين أرقى بكثير من البوذيين وغيرهم، تبعًا لترقي دينهم الذي يرشدهم إلى
آداب وفضائل تميزهم عمن عداهم، فضلاً عن اتحاد كلمتهم، وقوة جامعتهم،
وتراهم يهتمون كثيرًا بالزراعة والتجارة والفنون الحربية، أكثر من اهتمامهم
بالعلوم والمعارف، ولهم شهرة فائقة في خِلال الصدق والأمانة والوفاء، فقوم هذه
صفاتهم، وعددهم ليس بالقليل، لا يبعد أن يكون لهم مستقبل هذه البلاد التي أخنى
الزمان على سكانها الأصليين، وقضى الله عليهم بالضعة والهوان، والمستقبل
كشاف لما تطويه سجلات الأيام.
ثم انتقل الكاتب إلى شرح عوائد المسلمين في الصين واختلافها عن عوائد
غيرهم من السكان، ثم تكلم عما يعتقده الصينيون في أبناء وطنهم من المسلمين،
ومما قال: إن البوذيين لا ينفرون من المسلمين، بل يألفونهم، ويقولون: إنهم على
دين الفيلسوف الصيني القديم كونفوشيوس أو هم لا يختلفون عن مذهبه غير قليل.
وأما علاقتهم بالحكومة، فهم مخلصون للإمبراطور، لا يميلون إلى حزب من
الأحزاب، وجل مآربهم تقوية شأنهم، وازدياد ثروتهم، وما داموا على هذا الدأب
فإنَّ ظنَّ البروفيسور فاسليوف سيصدق فيهم، ويصبحون يومًا ما القابضين على
أزِمَّة الأمور في مملكة ابن السماء.
ثم قال الكاتب: والخلاصة أن الإسلام في الصين عقبة دون تقدم المسيحية
هناك، وأن المسلمين لا يفتئون يرشدون الناس إلى دينهم، ويُرَغِّبونهم فيه بكل
وسائل الترغيب، ولكونهم من أهل البلاد، ولغتهم لغتها، فهم يعرقلون مساعينا
دائمًا؛ لأنهم ينافسوننا، وكثيرًا ما يميل الصيني إلى اعتناق النصرانية، ثم لا نلبث
أن نراه مسلمًا، يصلي مع المسلمين في مساجدهم، وهذا ما يحدو بنا إلى القول:
بأن الإسلام سيكون له المستقبل العظيم في البلاد الصينية. اهـ ملخصًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المؤيد)
***
(أخبار فرنسية وإنكليزية)
من أهم الأخبار الخارجية أن محكمة النقض والإبرام في فرنسا قررت إعادة
دريفوس من منفاه في جزيرة الشيطان إلى فرنسا للنظر في قضيته، حيث أسفر
الصبح بعد خمس سنين عن التزوير والخيانة والتعصب على دريفوس، وإذا برأت
المحكمة دريفوس بعد كل ذلك التحامل عليه، ومع ما فيه من ثلم شرف الجيش
الفرنسوي، فلا يسع أحدًا أن ينكر أن الفضيلة في الحكومة الفرنسوية أقوى من
الرذيلة، وأن العدل والإنصاف غالب على الجور والاعتساف.
ومنها أن مجلس العموم الإنكليزي قرر إعطاء الحكومة للورد كتشنر حاكم
السودان العام ثلاثين ألف جنيه مكافأة على خدمته لدولته.
ومنها أن الخلاف قد اشتد بين إنكلترة وحكومة الترانسفال فقد أنبأ البرق أن
المذكرات في بلومفوتين بين الرئيس كروجر والسر ألفرد ملنر أسفرت عن تعسر
الاتفاق في مسألة التجنس بالترانسفالية، ومسألة حرية الانتخاب.
ولم يقبل الرئيس البحث إلا بشرط أن تقبل إنكلترا بالتحكيم في مسائل الخلاف،
فاستكبر للإنكليز هذا، وظن أن الحرب متوقَّعة.
***
(وفاة عالم جليل)
نَعَتْ إلينا أنباءُ بغداد الخصوصية وفاة العلامة الفاضل المتفنن السيد الشريف
الشيخ نعمان خير الدين أفندي الآلوسي نجل العلامة الكامل الشهير محمود شهاب
الدين الآلوسي مفتي بغداد سابقًا وصاحب تفسير (روح المعاني) وللفقيد - تغمده الله
برحمته - سيرة حسنة وآثار نافعة -إن شاء الله تعالى - منها كتاب (جلاء العينين
في محاكمة الأحمدين) وكتاب (غالية المواعظ) وكتاب في الرد على رسالة الكندي
الذي زعموا أنه ناظر الخليفة المأمون العباسي في الدين، وهو كتاب ضخم جليل،
وقد كانت وفاته في سابع المحرم الماضي، فاهتزت لها بغداد، بل العراق كله،
وكان يومًا مشهودًا شيعت جنازته بالاحتفال الذي يليق بمقامه، ومكانة أسرته
الكريمة، عوَّض اللهُ المسلمين منه خيرًا.
***
(الأحداث في القطر المصري)
بلغ عدد الذين أصيبوا بالطاعون في الإسكندرية إلى يوم الجمعة (أمس) 21
نفسًا، مات منهم 8، وشُفي 4، والباقون تحت المعالجة.
صدر الأمر العالي الخديوي بفصل الأستاذ الشيخ حسونة النواوي من مشيخة
جامع الأزهر وإفتاء الديار المصرية، ونوط المشيخة بالأستاذ الشيخ عبد الرحمن
القطب والإفتاء بالأستاذ الشيخ محمد عبده.
وكان ذلك في 24 من المحرم سنة 1317، و3 من يونيه سنة 1899 م.
***
(الوشاية في طرابلس الشام)
علمنا من أخبار طرابلس الشام أن بعض الوشاة والمفسدين طفقوا يسعون إلى
بني الأنجا بمن يحبون التشفي منهم، زاعمين أنهم هم الذين يكتبون للرائد المصري
الطعن فيهم، وقد دبت عقاربهم إلينا؛ فزعموا أن فلانًا وفلانًا يكتبان رسائل الطعن
ونحن نكتبها للرائد، ولو كَتَبَا، لم تكن حاجة لكتابتنا، وقد أرجف بنا فيما كتب
مُسَعِّرُ نار الفتنة، ولكن ليعلم أننا لا نتعرض للمطاعن الشخصية، بل غرضنا خدمة
الأمة ونصحها، ولو كان من مشربنا ما نُسب إلينا؛ لخصصناه بوالي بيروت الذي
أضرنا وأضر وطننا كله دون أبناء بلدتنا، ولكتبنا في جريدتنا - أو بإمضائنا -
فإننا في بلاد لا نخاف فيها غير الله تعالى، ولقد وُشي بنا إلى أعظم عظماء الأمة،
فما قدر على أن ينال منا شيئًا، فإذا عاد المرجف إلى إرجافه - تلويحًا أو تصريحًا-
فلينتظر ما هو أَمَرُّ مِمَّا مَرَّ …
***
(الجمعيات في مصر)
تألفت في هذا العام ثلاث جمعيات في القاهرة الأولى (جمعية مكارم الأخلاق)
وهي جمعية أدبية إسلامية، رئيسها الأستاذ الفاضل، والخطيب المفوه الشيخ زكي
الدين سندوهي تجتمع في كل ليلة جمعة، وتُلْقَى فيها الخطب، والثانية (جمعية
التعليم الإسلامي) ولم تزل اجتماعاتها إدارية محضة، ومتى حاولت الاجتماع
العمومي يعلن عنها في الجرائد، والثالثة (جمعية النهضة الأدبية) ألفتها فَعَلَةُ
المطابع، ووضعت لها قانونًا طُبِعَ، ويباع بقرش أميري واحد، وغرض الجمعية
التعاون المالي، والاعتصام الأدبي، والعمل لترقية الصناعة، وارتباط بعض
أعضائها ببعض، وهذه أول جمعية للفَعَلَةِ في بلاد الشرق، فيما نعلم.
***
قالت (ثمرات الفنون) الغرَّاء:
يقال: إن شورى الدولة يبحث الآن في مواد مهمة بشأن المعارف، وإنه
استعلم عن الحصة التي برسم الولايات، ومقدار ما يؤخذ من الأوقاف، وكيف
تصرف من هذه المبالغ، حتى إذا أورده الحساب بادر بعمل ما ينوي عمله، وعسى
أن يكون من وراء هذه الأعمال فوائد تذكر في ترقية أحوال المعارف في البلاد
العثمانية؛ لأن النجاح يتوقف عليها كما بَيَّنَّا مِرَارًا.
(المنار)
يعلم كل عثماني أن ما يؤخذ من الولايات باسم المعارف، لا ينفق فيها أعشار
عُشره، وأكثره يُحشر إلى الآستانة فإذا وُفِّقَت الدولة العلية إلى إنفاق مال كل ولاية،
أو أكثره فيها، فذلك كل ما تطلبه الرعية من الحكومة في هذا الباب.
وقالت الثمرات أيضًا: (إن الأراضي القابلة للزراعة، والتي هي بورغير
مأهولة في ولاية سورية - تبلغ مليونين ونصف مليون دونمًا؛ أي أن كل دونم من
الأرض يبذر من فيه مد الحبوب) . ونحن نقول: أفليس من سوء إدارة الحكومة أن
يهاجر أهل بلاد فيها هذا القدر من الأراضي الجيدة المهملة؛ لاستعمار أميركا
وإحياء أرضها؟ !
__________(2/204)
9 صفر - 1317هـ
17 يونيو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فهم الدين
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: 27) {قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28) .
قال مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في تفسير
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) ما مثاله بالإيجاز:
منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته:
أولاها: هداية الوجدان الطبيعي، والإلهام الفطري، وتكون للأطفال.
وثانيتها: هداية الحواس والمشاعر.
وثالثتها: العقل.
ورابعتها: الدين.
ثم بيَّن أن الهداية الأولى والثانية، يشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم وأن
الإنسان لا يمكن أن يصل إلى كماله المستعد هو له بهما؛ لما يعرض لهما من الخطأ
وسوء الاستعمال، وبعد أن ضرب المثل لهذا الخطأ، وبيّن وجه حاجة الإنسان إلى
العقل الذي ينتزع المعلومات الكلية من مدركات الحواس، ويُمَيّز بين خطئها
وصوابها، قال: إن العقل أيضًا عرضة للخطأ ومحل للقصور، فلا يمكن أن يحيط
بمصالح الإنسان في أفراده ومجموعه، ويحدد أسباب سعادته في معاشه ومعاده،
ومن ثَمَّ كان الإنسان في أشد الحاجة، لا سيما بالنسبة لأمر المعاد إلى الهداية الرابعة
هداية الدين، وقد منحه الله إياها، ولما كان معظم قصور الحس والعقل في الإنسان
إنما هو فيما يختص بسعادة المعاد، كان بيان طريق السعادة الأخروية أهم ما جاء به
الدين. وهل يعتور هذه الهداية ما يعتور غيرها من الخطأ وسوء الاستعمال،
فيتنكب أهلها جادة السعادة؟ ؟ نعم، فإنه كما يخطئ الإنسان في إدراك
المحسوسات؛ لمرض في حواسه، وفي فهم المعقولات؛ لآفة في عقله، أو لسوء
استعمال الحس والعقل، كذلك يخطئ في فهم الدين؛ بسبب الأمراض الروحية
التي تطرأ على مزاج الأمة.
إذا تمهد هذا، فغرضنا الآن كشف الغطاء عن شبهة أوردها على الدين
أصحابُ مجلة (المقتطف) في الجزء الصادر في أول يونيو، الذي نحن فيه عند
تقريظ كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) وملخص ما هنالك أنه
نُشر في القطر المصري كتب وجرائد، حاول كُتَّابُها التوفيق بين الأصول الدينية
والحقائق العلمية، قال: (وقد يجدون ذلك سهلاً؛ لأنه قَلَّما يَجْسُرُ أحدٌ على مخالفتهم،
ولكن لو كان في البلاد علماء أشداء كالجلال السيوطي ... لشبَّت نارُ الحرب منذ
الآن) (انظروا وتأملوا) ثم ذكر أن هؤلاء الكُتًَّاب يجيبون من سألهم عن السبب في
عدم وجود هذه المدنية في ربوع المشرق؛ بأن سبب ذلك سوء فهم الدين وحمْله
على غير المراد منه، وعلى هذا الجواب بنى شبهته الكبرى، فقال: (ولكن إذا
قيل له: ألاينتظر من الدين أن يكون معناه واضحًا؛ حتى لا يقع سوء في فهمه،
ولا يحمل على غير المراد منه، وهل أساء كل علماء الشرق فهم دينهم منذ ألف سنة،
أو حواليها إلى الآن، ولم يقم منهم من يحمله على المراد منه إلا في هذا العصر
وفي هذا العام؟ ! إذا قيل له ذلك لم يكن الجواب عليه بالأمر السهل) . اهـ.
ولا يخفى أنه يعني بكلامه الإسلام والمسلمين؛ لأن الكلام معهم، وهم الذين
نشروا الكتب والجرائد في القطر المصري، ويسهل عليهم الجواب الذي حسبه
صعبًا حضرة السائل، وهو ...
إن الكاتب اعترف معنا بأن فهم الدين على غير وجهه، إنما وقع في
الإسلام من نحو ألف سنة، أي من بعد انتشار البدع، وتفرق المذاهب في الدين
الواحد الذي جاء بالتوحيد والتأليف، ونهى عن التفرق والاختلاف، وبديهي أن
أصحاب الآراء والمذاهب من أهل الأهواء يحاولون تعزيز مذاهبهم بالشبه مهما
تضاءلت افتضاحًا.
ويؤولون الحجج المخالفة لهم، مهما أضاءت اتضاحًا. فهذا هو السبب الأول
في سوء فهم الدين الإسلامي، والانحراف به عن صراطه، والسبب الثاني:
اختلاط المسلمين بأمشاج من جميع الأمم والملل دخلوا في دينهم، ومنهم الصادق
ومنهم المنافق، وهؤلاء اجتهدوا في إفساد تعاليم الدين، وإدخال بعض مسائل من
أديانهم السابقة مصبوغة بصبغة الإسلام، ووضع الأحاديث المكذوبة على صاحب
الشرع - صلى الله عليه وسلم - والسبب الثالث: العدوى المعنوية، وهي أنه ما من
رجلين يتصاحبان، أو شعبين يتمازجان، إلا ويسري من أخلاق أحدهما وآدابه شيء
للآخر، وكذلك دَبَّ إلى الإسلام داء الأمم قبلهم، وكادوا يتبعون سَنَنَ مَنْ قبلهم شبرًا
بشبر وذراعًا بذراع كما في الحديث الصحيح، بُذِرَت بذور هذه التعاليم المضرة في
أرض الإسلام، وسُقيت بأمواه التعصبات والأهواء؛ فنمت بالتدريج حتى صارت
دوحات كبيرة؛ تتساقط منها الثمرات المضرة، وكان من تنبه لها من العلماء
الراسخين إنما يسعى في قطعها، لا في قلعها؛ ولذلك عاد كلما قطع منها أبسق
مما كان، نشير بهذا إلى ما كان من مقاومة تلك التعاليم الفاسدة في كل عصر،
وإن لم تقوَ عليها، وهو جواب عن قول المقتطف: (وهل أساء كل علماء المشرق
فهم دينهم منذ ألف سنة، أو حواليها) نعم، إن القرون الثلاثة الأولى هي التي كان
الغلب فيها لتعاليم الدين الصحيحة وأخلاقه وآدابه، كما هو الشأن في كل دين، ووفاقًا
للحديث الشريف خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فقول
المقتطف لا يفتش عن فعل الدين في حروف كتبه، بل في أخلاق أتباعه وأفعالهم،
غير مسلّم على إطلاقه؛ فإن الكِتَابَ الذي هو أصل الدين، كالقرآن مثلاً،
إذا كان مُصَرِّحًا بشيء، فلا مندوحة عن القول بأنه من الدين، وإن خالفه الذين
يدَّعون اتِّبَاعَه. نعم، لا يجوز أن يتفق المنتسبون لدين من الأديان على مخالفة
أصوله في عصر النبوة، وما يقرب منه، ولكن إذا طال الزمان تُفْتَن الأمةُ بالتحريف
والتأويل، وتضل سواء السبيل، إلا أفرادًا لا يكون لهم صوت في الأمة
مسموع، وأصحاب المقتطف يعرفون هذا من تاريخ الملل، وإلى هذا يشير قوله
تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) أي: خارجون عن هدي دينهم، ونحن نأتي بمثال واحد مما
خالف الجماهير فيه هدي الدين الإسلامي، وهو من أصول العقائد، ومن أهم ما
جاء به الدين، ومما له أثر كبير في سعادة الأمم وشقائها؛ ألا وهو الاعتقاد بأن
لبعض البشر تأثيرًا في النفع والضر بقوة غيبية وراء الأسباب الظاهرة
التي اقتضتها الحكمة الإلهية، وجعلتها مناط الأعمال.
هذا الاعتقاد هو الذي شَقِيَ به قبل الإسلام مَنْ لا يُحصَى مِنَ الأقوام، هذا
الاعتقاد هو الذي يُقَيِّد إرادة الإنسان بإرادة غيره من أبناء جنسه؛ فيفقد استقلال
الإرادة الذي هو العامل الأكبر في السعادة البشرية، هذا الاعتقاد هو الحجاب الكثيف
بين الإنسان، وبين معرفة السنن الإلهية في الترقي والتدلِّي، وإدراك أسباب الضُّرِ
والنفع، هذا الاعتقاد هو المرض الذي يُفسد العقل، ويجعله يرجو ما لا يُرجى
ويخاف مما لا يُخاف، هذا الاعتقاد هو شعبة من الشرك كانت أكثر شعابه امتدادًا
وانتشارًا في الأمم كلها؛ ولذلك كانت عناية الإسلام بمحوه فوق كل عناية.
يتوهم كثيرون أن الكفر والشرك اللذين يندد بأهلهما القرآن كثيرًا، هما عبارة
عن إنكار وجود الله تعالى، وعن اعتقاد أن للكون آلهة غيره، يَخْلُقون كما يخلق،
ويرزقون كما يرزق، مع أن هذين القسمين من الناس كانوا أقل الكفار والمشركين
في كل زمان ومكان، وإنما الشرك الذي كان فاشيًا في العرب، وغيرهم ممن ظهر
الإسلام فيهم، هو الذي قال القرآن في أهله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) ومثل هذه الآية آيات.
كانوا يعتقدون - كما يعتقد أكثر البشر - أن مبدع الكون وخالقه واحد، ولكنه لمَّا
كان غيبًا مطلقًا، جعلوا وِجْهَتَهُم في عبادته بعضَ مظاهر قدرته الباهرة من خلقه،
من جماد وحيوان وإنسان، وزعموا أن تلك المظاهر هي الواسطة بين الله وبين
عباده في نفعهم وضرهم، ويعلل علماؤهم ذلك؛ بأن عامة الناس من الخطاة
والمذنبين لا يليق بخستهم أن يخاطبوا الجناب الإلهي الرفيع بحاجهم، فلا جرم
كانوا في حاجة إلى واسطة بينهم وبينه، كما هو الشأن عند عظماء الملوك
والسلاطين، وهذا وإن كان في ظاهره تعظيمًا لله تعالى - فقد عدَّه القرآن شركًا،
وذكر شبهة ذويه في معرض التشنيع والإنكار، حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 2-3) ، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ
بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:
18) ، فانظر كيف لم يعتدّ بأن اتخاذهم شفعاء نافٍ لكونهم معبودين لهم، وكيف
صرح بأن دعوى الشفاعة افتئات على الله تعالى؛ حيث لم يكن بإعلام منه، وقال
فيمن كان يعتقد هذه الوساطة والشفاعة من أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) ومعلوم أن أهل الكتاب لم تقُل
فرقة منهم بأن رؤساءهم أرباب حقيقة، يشاركون الله تعالى في الإيجاد والإعدام كما
هو معروف من تاريخهم، وإنما هو اعتقاد الشفاعة والوساطة بين الله والناس في
مصالحهم [1] .
الواسطة الصحيحة بين الله وبين عباده هم الأنبياء، ووساطتهم إنما هي في
التعليم والإرشاد، لا في الخلق والإيجاد، وقد بيَّن الله في ذلك آيات كثيرة جاءت
بصيغة الحصر؛ لتكون نصًّا قاطعًا لأعناق الأباطيل، منها قوله تعالى: {وَمَا
نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105) ، وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقد نفى عن النبي الأعظم السيطرة والوكالة على الناس، بقوله:
{لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 22) ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام:
107) ، ونفى عنه الهداية بمعنى الإيصال إلى الخير بالفعل، بقوله:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272) ، وقوله:
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) ، بخلاف
الهداية بمعنى الدلالة بالتعليم؛ فقد قال فيها:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) [2] ، وأمره أن يتنصَّل من
دعوى النفع والضر بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ
اللَّهُ} (يونس: 49) [3] ، بل أمره أن يتبرأ مع ذلك من امتلاك الرشد لهم بقوله:
] قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً [4] * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ
أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً [5 {* إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 21-23) ، أي
لا أملك إلا البلاغ من الله تعالى فلم يبقَ إلا أنه كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ} (الكهف: 110) .. إلخ.
هذا كله نقطة من بحر توحيد القرآن، ومع ذلك كله كان من أمر المسلمين
نحو ما قاله المؤرخ المحقق دوزي الهولندي، فيما كتبه في الإسلام، حيث قال - ما
مثاله -: (إن محمدًا - عليه السلام - بذل كل فصاحته، وجميع عنايته في اجتثاث
جذور الوثنية، ومحو أساطيرها من لوح الوجود، وظل يجاهدها عشرين سنة،
حتى ظفر بها، واستبدل بها التوحيد الخالص، ولكن النوع البشري لما رسخ فيه
من جذور الوثنية بالوراثة المتمكِّنة في الأحقاب الطويلة، لم يكن مستعدًا للثبات على
هذه العقيدة، عقيدة التوحيد؛ ولذلك لم يمضِ على أتباع محمد أكثر من قرن واحد،
حتى ثابت إليهم الوثنية السابقة بأنواعها، ولكن بأسماء وألوان أخرى) ومَن عرف
الإسلام والمسلمين يعرف صحة قول دوزي هذا، دعْ عنك ذكرى الذين قالوا بألوهية
الإمام علي - كرَّم الله وجهه - في العصر الأول، فقد كان صوتهم ضعيفًا،
وضلالهم معروفًا، وارمِ بنظرك إلى فرق الباطنية الذين كانوا سُلاًّ في رئة الأمة،
لم تنجُ من كروب ميكروبه طائفة منها، خلقوا الأحاديث، وحرَّفوا كلم القرآن عن
مواضعه، وسرت فتنتهم إلى الطائفة المعتدلة من المسلمين باسم التصوف، فآل
الأمر إلى أن فشا في أهل السنة الغلو في شيوخ الصوفية كغلو الباطنية في أئمتهم
وخلفائهم، وهو اعتقاد أن لهم تصرفًا في الكون وراء الأسباب الظاهرة.
فالجاهلون يعتقدون أن هذا لهم بأنفسهم، ولا يتفكرون بالوساطة وما في معناها
من التأويلات، حتى إننا نشاهد عامتهم تتحامى الحلف كذبًا بالشيوخ المعتقدين، لا
سيما عند أضرحتهم، ويحلفون بالله كذبًا، وهم يعلمون.
ويشاركهم في هذا التعظيم والاعتقاد، كثير من اللابسين لباسَ العلماء،
ولكنهم يؤولون لهم ولأنفسهم بأن المحظور في الدين إنما هو الاعتقاد بالاستقلال،
وهم إنما يعتقدون أنهم واسطة بين الله والناس، ولكن إذا سألتهم: ما معنى هذه
الواسطة؟ وما هو الدليل عليها؟ وكيف لم يصرح بها القرآن، وهي في هذه
المكانة من الأهمية؟ والله يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38)
وكيف يمكن تأويل النصوص الكثيرة التي تنفيها - إذا سُئلوا عن هذا يرتكسون
بين أمواج الحيرة، يدفعهم ريب، ويتلقاهم شك إلى أبد الأبيد.
يا سبحان الله! إن الله تعالى وصف مشركي الجاهلية بأنهم عند شدة الضيق
يدعون الله تعالى وحده، مخلصين لا متوسطين، فقال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ
كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) ، ولكنَّا نرى المُتَّسمين بِسَمة الإسلام ينادون عند
أشد الضيق: يا باز يا سيد يا رفاعي يا متولي، وما أشبه هذه الأسماء التي ما أنزل
الله بدعوتها من سلطان، أليس من العجيب أن يقال: إن الدين لا يؤخذ من كتبه؟ !
فتترك نواهي القرآن البليغة الصريحة عن الشرك الظاهر والباطن، ويحكم على
الإسلام بقول هؤلاء الغوغاء الذين يزعمون أن المتصرفين في الكون أربعة:
الجيلي والرفاعي والبدوي والدسوقي. إذا كان لله سبحانه وكلاء من الأموات
يدبرون الكون، فلماذا لم يكن منهم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة
والسلام؟! تعالى الله عن ذلك كله علوًّا كبيرًا!
وقد طال بنا الشرح فلنمسك عِنان القلم؛ فقد حصحص الحق، وظهر أن
انحراف الكثير من الناس عن هدي الإسلام من سوء الفهم، وإن سوء الفهم ليس
لصعوبة أحكامه وبُعدها من الأفهام، وإنما هو لأمراض اجتماعية طرأت على الأمة؛
فحالت دون انتفاعها بدينها، كما حالت دون الانتفاع الكامل بعقولها وحواسها.
ولما كان الإسلام دين الفطرة بشهادة القرآن، فإننا نرجو - كما يرجو عقلاء
العلماء من المسلمين - أن يكون ظهور قوانين الفطرة ونواميسها من أعظم المنبهات
إلى فهم الإسلام على حقيقته، ولسنا نقول بهذا إنه بين جميع نواميس الطبيعة،
ولكن نقول: إنه بين ما يحتاج إليه الناس لسعادتهم في دينهم ودنياهم، وسنبيّن هذا
في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ليس غرضنا في هذا الكلام الرد على هذه الفرقة من أهل الكتاب، وإنما هو بيان ما هو تعليم القرآن في هذه العقيدة.
(2) المعنيان للهداية معروفان في اللغة، وفي الغالب يتعدى اللفظ بالمعنى الأول بنفسه، وبالمعنى الثاني بإلى.
(3) قوله تعالى: [إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ] (يونس: 49) هذه الكلمة جاءت في القرآن بمعنى التأبيد، كقوله تعالى: [خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ] (هود: 107) ، وقوله: [سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ] (الأعلى: 6-7) .
(4) في الآية احتباك، أي، لاأملك لكم ضرًا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غواية، فحذف من كل منهما ما أثبت مقابله في الأخرى.
(5) ملتحدًا: أي ملتجَأً ألتجئ إليه.(2/209)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(7)
إذا بقيت الحكومة المراكشية تتسكع في ظلمات الجهالة، وتتنكب مناهج العدالة
واسترسلت في إعراضها عن ملافاة الخلل، وشعب الصدوع التي تودي بمملكتها،
وتهوي بها إلى هاوية الاستعباد، وتزجُ بها في عالم الخفاء، لا جرم أنه يصيبها ما
أصاب جارتيها الأندلس والجزائر مما يبعث الشجن، ويزيد في الحزن، وتجيش
النفوس له حسرة ما نقرؤه لهذه الأيام في صحف الأخبار عن جوائب تلك البلاد من
أن المناصبة والمناوأة بلغت مبلغها بين صاحب مراكش مولاي عبد العزيز وبين
أخيه الرشيد ولكل منهما حزب يعضده وينافح معه، يا سبحان الله! ما أسرع ما
نسي هذان الخليفتان قصص خليفتي غرناطة المشئومين، وما حل ببلادهما؛ بسبب
شقاق بينهما، ما أسرع ما ذهلا عن تاريخ الأندلس، وهي على مرمى سهم منهما.
لَشَدَّ ما غفلا عن الأعداء المحدقة بالمملكة تتربص بها غير الدهر وكوارثه؛ لتلتهمها.
لَشَدَّ ما غفلا عن أمر الشارع بالاتحاد، ونهيه عن التعزي بعزاء الجاهلية، كيف
يفسحان بتباعد بينهما مجالاً يجري فيه العدو خيول مآربه وأطماعه؟ يوشك - إن
دام الشقاق والنزاع بين هؤلاء القوم - أن تتداخل الأعداء في شؤون مراكش
وتستعمرها، أو تتكفل بحمايتها، وتقوم بالوصاية عليها، كما فعلت بصُوَيْحِبَاتِها.
لا ريب أن الناشئين من الأسرة الملكية في مراكش إنما يَشُبُّون على ما وجدوا
آباءهم عليه؛ من البغضاء والشحناء، فإذا ترشحوا للمناصب العالية كانوا أسرع
إلى النزاع والمواثبة من السيل المنحدر إلى قرارة الوادي، وهذا مما يطيل أمد
الوبال والشقاء على الحكومة المراكشية، ويُمَكِّن يد العدو من ناصيتها.
لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
أعداؤها التي تتربص بها الدوائر جاراتها الثلاث: أسبانيا جارتها القديمة
وفرنسا التي تجاورها من جهة الشرق بمستعمرة الجزائر، ومن الجهة الجنوبية
بصحراء إفريقية، فإن تلك الصحراء المتسعة كادت تخلص لفرنسا بحذافيرها وأما
إنكلترا فتجاور مراكش ببوغاز جبل طارق.
وإذا كانت كل من تلك الدول الثلاث تُخفي في نفسها الاستيلاء على مراكش،
وتجاذب الأخرى زمام النفوذ فيها، فمَن التي يشتد ساعدُها منهن وتقوى على
رفيقتيها وتستخلص ذلك الزمام؟
أسبانيا تود من كل قلبها، وصميم فؤادها، أن تستولي على مراكش لكوْن
شفعتها في الجوار أحق وأقدم من شفعة فرنسا، لكنها لا تنال منها شيئًا؛ لتأخرها في
الانتظام، وتضعضع قوتها، لا سيما عقب الحرب الأخيرة الأميركية؛ فإنها لُطمت
فيها لطمة ألقتها لحلاوة القفا، وقد لا تستطيع معها قيامًا أبد الدهر، على أن أسبانيا
عاثرة الجلد لا حظّ لها في الاستعمار؛ فان جُل أميركا كان لها، والآن لم يبق لها قل
من ذلك الجل، وربما ودت، أو أملت من مناظرتيها أن يستأنياها ولا يمسا مراكش
بسوء؛ ريثما يشتد ساعدها وتقوى على مغالبتهما، لكني لا أظنهما يحفلان برجائها.
أما إنكلترا، فليست ممن يؤمل، أو يطمع في شيء من مراكش، لا خجلاً
وضعفًا عن مقاواة فرنسا، بل لأن همها الأكبر في نصف إفريقية الشرقي، ووصل
الإسكندرية برأس الرجاء الصالح بالسكة الحديدية، فهي إن عارضت فرنسا في
مراكش، إنما تعارضها إيهامًا وإرهابًا؛ لكي تحملها بذلك على التساهل معها فيما
ترومه من أمر إفريقية، وفي أطماعها في شبه جزيرة العرب وسوريا والنهرين،
فإن في هذه الغنائم ما يبعث إنكلترا على السماح لفرنسا بألف مراكش.
إذن مراكش لفرنسا، وإذا تمكنت من ولاية طرابلس الغرب كما سيأتي تفصيله
في محله، يخلص لها حينئذ نصف إفريقية الغربي، كما يخلص نصفها الشرقي
لإنكلترا، ويكونان قد اقتسما القارة شق الأبلمة. [1]
(الحكومة الفارسية والأفغانية) مكانتهما في نظر أوروبا، وأطماع سواسها
واحدة، وكل منهما مما يتنازعه عاملا الطمعين، ويحوم حوله نسر الأملين،
الإنكليزي والروسي.
الشعب الأفغاني يغلب عليه البسالة والعزة والتحمس، ولم يزل كارهًا
للإصلاحات العصرية، معرضًا عن اقتباس الشؤون المدنية، مستخفًا بهبوب
الأعاصير السياسية، مزدريًا باتفاقه مع جارته الفارسية، أو شقيقته العثمانية أميره
لهذا العهد، ضابط لسياسة البلاد، مقبل بشراشره على الذياد، يُطمع الروسيا تارة،
ويوالي الإنكليز أخرى. فالأفغانية من جرَّاء ذلك في حرز ومأمن من السقوط الآن،
لكنها بعد هذا الأمير يوشك أن تقع في أيدي غلمة من الأسرة المالكة؛ يتجاذبون
أطراف المملكة، ويتواثبون لتناول تاجها، وتسنم عرشها، فتهوي البلاد في عواثير
الاستعباد، كما هوت من عهد غير بعيد أختُها زنجبار ذلك أن النزوان على الرئاسة
الكاذبة شِنْشِنَة غريزية في أمراء الشرق، قد تبوَّأت من نفوسهم متبوَّأ النطق
والإدراك، بل ربما تضاءل أثر الإدراك في نفوسهم، وضعف بصيصه في زواياها
وتلك الشنشنة حية يشتد أصلها، وينمو فرعها، ويستعر شواظها، ويقوي عرامها، ألم
يبلغك ما حصل في تلك البلاد منذ ثلاثين سنة من الفتن والملاحم بين أمرائها
وأبناء أسرتها؟ حتى كاد يرميها بين يدي العدو، ويُنزلها على حكمه، لولا أن
تداركتها الألطاف وانتشلتها يد الأقدار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مثل، يُكنَى به عن اقتسام الشيء بالسوية والأبلمة: خوصة المقل، وهو شجر خوصته، أي: ورقته إذا فُصلت باليد كانت قسمين متساويين.(2/217)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع عدد 12)
(دَين تركيا) :
أ- الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، أو عوائد المِلْح والتبغ والمشروبات
الروحية، وطوابع البوستة، والحرير، والأسماك، التي يردها أصحاب مصارف
(بنوك) غلطة بعد تحصيلها إلى حاملي السندات العثمانية.
ب- زيادة رسوم الجمرك التي تنشأ من تغيير تعريفة الرسوم عند حصول
تنقيح في اللوائح التجارية؛ فتستفيد إدارة الدين العثماني من هذه الزيادة.
ت- زيادة الإيرادات التي تنشأ من تعميم تطبيق القانون الخاص بالامتيازات،
عند مقارنتها بالإيرادات التي كانت تُحَصَّل فيما سبق من رسوم التمتع.
ث- الجزية التي تدفعها إمارة البلغار إلى الوقت الذي حددتها فيه الدول
المُوَقّعة على معاهدة برلين بمبلغ 100000جنيه مجيدي يدفع مسانهة من رسوم
التبغ.
أما إن رأى الباب العالي بعد تقرير الجزية، أو الضريبة بهذه الصفة - أن من
صالحه استعمالها كلها، أو استعمال جزء منها في سبيل آخر، وجب عليه أن
يُعَوّض هذا المبلغ، الذي يكون بهذه الواسطة قد سحبه من حاملي السندات بمبلغ
مساوٍ لعوائد التبغ، وفي حالة عدم كفاية هذا المورد، يؤخذ المبلغ من مورد آخر
وافٍ به.
ج- الزيادة في إيرادات جزيرة قبرص وتعوض في الحالة التي تخرج فيها
هذه الجزيرة من قبضة الحكومة العثمانية بمبلغ سنوي قدره 130000 جنيه مجيدي،
يُستنزل من عوائد التبغ، بعد احتساب مبلغ 100000جنيه، الذي استبدلت به
جزية البلغار، فإذا لم تكفِ هذه الزيادة لتكملة مبلغ 130000 جنيه، كان على
مصلحة عموم الجمارك أن تعطي بالباقي سفاتج في كل نصف سنة.
ح- دَين الرومللي الشرقي الذي حُدد بمبلغ 240000 جنيه مجيدي في السنة،
مضافًا إليه الإيراد الصافي لعوائد هذا الإقليم، الُمقَدَّر بمبلغ 5000 جنيه مجيدي.
خ- إيراد التنباك المحدد بمبلغ 50000 جنيه مجيدي، تضمنه مصلحة
الجمارك بسفاتج، تسحب عليها في كل نصف سنة.
د- جميع المبالغ التي تدفعها للحكومة العثمانية كل من حكومات السرب
والجبل الأسود والبلغار واليونان مما فرض عليها دفعه من الدين الأهلي في معاهدات
برلين والاتفاق المبرم في القسطنطينية يوم 24 مايو سنة 1881.
الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، المذكورة في حرف (أ) ضُمِّنَت كما
قلنا لأصحاب مصارف (بنوك) غلطة دَينهم الذي على الحكومة العثمانية، وقدره
8590000 جنيه مجيدي، وقد تنازل هؤلاء بمقتضى اتفاق حصل بين الطرفين في
20 ديسمبر سنة 1881 عن إدارة هذه الأموال؛ لتكون تابعة لنِظَارة المالية في
مقابلة إيراد 371363 سهمًا، قيمة كل منها 22 جنيهًا مجيديًا، وربحه السنوي
خمسة في المائة، وذلك عبارة عن رأس مال قدره 8169986 جنيهًا مجيديًا.
لحاملي هذه السهام حق الأولوية على مَن عداهم من أصحاب قروض الدَّين العثماني
العمومي، وهذا الحق يكسبهم مبلغ 590000 جنيه مجيدي، بعضه فائدة، وبعضه
من أصل الدَّين، يُستنزل لهم في كل سنة بمقتضى هذا الامتياز من صافي إيراد
الأموال المتقدم ذكرها؛ ولذلك سميت هذه السهام بالسهام الممتازة.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار
(تداركها يا أمير المؤمنين!)
جاءتنا رسالة مطبوعة عنوانها (ضجيج الكون من فظائع عون) ، يُنسب فيها
للشريف أمير مكة لهذا العهد من الظلم والإلحاد في الحرم العجب العُجاب. ولم نلقِ
لها بالاً لأول وهلة، ولكننا أخذنا صباح أمس بريد الهند وجاوه فإذا فيه كتاب لنا
من مُكاتِبِنا في سنغافور يَذْكُر فيه الرسالة، ويعظم من أمرها، ومما قاله:
(الرسالة المذكورة تُرجمت، ووزعت في أقطار جمة، وهي حَرية بإمعان النظر؛ إذ
الاختلال الجاري بالحجاز أشهر من أن يُذكر، وقد صار لهذه الرسالة تأثير عظيم،
حتى إن بعض المساجد قطع الخطبة لمولانا الخليفة - أيده الله - تحاشيًا من الكذب
بأنه خادم الحرمين، وقد اغتنم بعض أعداء الدولة هذه الفرصة، وابتدأوا يجوسون
ويؤملون أن تجد الدول الأورباوية سبيلاً للتداخل في الحرمين (لا قدر الله ذلك) ،
فكان من الواجب التحذير والتنبيه لسد الذريعة، وحسم الداء؛ لعلنا نصل إلى
الاتحاد المرغوب، والعاقل حَذور.
ولو أَلْفُ بَانٍ خَلْفَهُم هادِمٌ كَفَى ... فكيفَ بِبَانٍ خَلْفَه ألْفُ هَادِم
وقد يسوءني - ككل مخلص للدولة - سعي كثير من الجرائد في سبيل
التمويه والمواربة، بل غش الدولة وتغريرها، والله المستعان) . اهـ المراد منه.
(المنار)
إن الذين يكتبون في تنبيه الدولة العلية، وانتقادها ثلاثة أقسام:
1- المخلص الذي يلتهب غَيْرَة عليها وقليلٌ ما هم. ... ... ... ... ... ... ...
2- والشامِتُ المتشفِّي.
3- والطامع بالرفد والنوال.
ولمّا ظهر لمُحبي الدولة أنه لم توجد جريدة منتقدة إلا وظهر أنها منبعثة بأحد
الغرضين المذكورين آنفًا، مقتوا كل منتقد، فصار النَّاصِحُ في حَيْرَة لا تسمح له
ذمته بمجاراة المنافقين الذين يغشون الدولة بتقديس جميع أعمالها، ولا تتسنَّى له
النصيحة؛ لأنها تُقابَل بالمقت والظنة، ويرمى صاحبها بالعداوة لدولته وأمته، لا
سيما والأكثرون لا يكادون يفقهون حديثًا، والحق أن الذي يبحث عن الخلل - وإن
كان متشفِّيًا - أنفع ممن يجعل السيئات حسنات؛ لأن هذا غاشّ خادع، وفي الحديث
الشريف: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) .
عِدَاتي لهم فضل عليَّ ومِنَّة ... فلا أَذَْهَبَ الرحمن ُعَنِّي الأعاديا
هم بحثوا عن زَلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وكأني بهؤلاء المنافقين، وقد استهانوا بمسألة الشريف، فمنهم مَن كتمها،
ومنهم يموه تمويهًا، ولكننا نحن نستلفت أنظار مولانا أمير المؤمنين إليها، ونسأله
أن يغضي عن سياسة استدراج الشرفاء، وملاينتهم الآن، ويتدارك هذا الأمر الجَلَل
ولو بما يقنع المسلمين في أقطار الأرض باهتمامه في شؤون الحرمين الشريفين
(والله له خير ناصر ومعين!) .
***
أنبأنا بريد سوريا بأن جماعة سماحتلو الشيخ أبي الهدى أفندي في طرابلس
الشام فأنشأوا يضطهدون أهلينا؛ لأن جريدتنا (المنار) غير مرضية عند سماحته،
وبلغنا أنهم سيخلقون تهمًا يلصقونها بإخوة هذا الفقير منشئ (المنار) إذا لم يبادر
بإرضاء صاحب السماحة، ويشهد له بالإمامة، والقطبية الكبرى، كما شهدت
له بعض الجرائد المنافقة.
وكيف يسمح لنا ديننا وضميرنا بهذه الشهادة لمن يسعى بعقاب طائفة شريفة
نزيهة إذا هو غضب على واحد منهم، وهم لا يعلمون بذنبه، بل كيف يمكننا أن
نصف مَن يعمل مثل هذا العمل بالإسلام، ونبي الإسلام، يقول: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ شَرِّ يَدِهِ وَلِسَانِهِ) فإذا كان حاكم طرابلس ومتصرفها، صنيعة الشيخ
أبي الهدى وابن عمه بالمصاهرة، فلِمَن يشكو أهلونا، وحاكمهم هو خصمهم،
وبينهم وبين السلطان الأعظم حُجُب، أكثفها أبو الهدى نفسه؟ !
نقول: ليشكوا أمرهم إلى الملك العدل، وهو الله العلي الكبير.
***
(إعطاء القوس باريها)
لا خلاف في أن المحاكم الشرعية في القطر المصري كله في اختلال عظيم
تحتاج بسببه إلى إصلاح عظيم، ولكن إصلاحها أعيا أطباء النظام، والجالسين
على أرائك الأحكام، فسماحة قاضي القضاة، على فضله ونُبْله - لم يُداوِ لها عِلَلاً،
ولم يُصلح خللاً، ولقد مكث في منصبه هذا بضع سنين، بحيث يصح أن يقال له:
{أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر: 37) وحَوَّمَتِ
الحكومةُ حول الإصلاح غير مرة، ولكن لم تقع عليه، ورمت إليه عدة سهام،
فأخطأت كلها الغرض، فأجمعت آراء أُولي الأمر. عقيب ذلك الأمر الأمَرّ، وبعد
إجالة قداح الفكرعلى إعطاء القوس باريها، علمًا بأن صاحب الدار أدرى بما فيها.
اتفق الجميع على تفويض العمل إلى علاَّمةِ الشرع والأحكام، وحكيم الإدارة والنظام.
الذي لم يُعرف له ثانٍ، متبحر على علم الدنيا والدين، جامع بين الإرادة الفعالة،
والغَيْرَة على مصلحة المسلمين. ألا وهو أستاذنا الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية.
أناطت الحكومة بفضيلته تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع الأصول التي
يراها كافية لإصلاحها، فتلقت جميع الجرائد هذه البُشرى بالبِشر والارتياح.
واتفقت على اختلاف منازعها ومشاربها، على أن هذا هو طريق النجاح. وأعربت
عن الأمل بإصلاح الخلل، وإزالة العلل. فدل هذا على أن الأستاذ هو الرجل الفرد
الذي نال الثقة الكاملة من مجموع الأمة، حاكمها ومحكومها، فليتأمل هذا بعض
المخدوعين. الذين يأخذون ترجمته من أفواه الحاسدين، وخرص المذاعين.
***
(الحياة)
مجلة علمية إسلامية شهرية، لصاحبها الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي
وجدي وقد صدر العدد الأول منها طافحًا بالمقالات المفيدة، منها مقالة في التمدن
والتديُّن، وأخرى في (تغذية الجَنان ببدائع الأكوان) ، ومقالة في إثبات وجود
الله تعالى، ومقالة في ما وراء المادة، وشذرات علمية مفيدة على فكاهة فيها. وقد
سلك في مباحثها مسلك كتابه تطبيق الديانة الإسلامية.. إلخ.
والجريدة في حجم المنار (ملزمتين) ، وقد طُبعت في مطبعته بحروفه
الصغيرة، وقيمتها 15 غرشًا في القطر المصري، و20 في غيره، ولطلاب العلم
10، فنحث القُرَّاء على الإقبال عليها.
تصحيح غلط
وقع غلطٌ في بعض الآيات في الملزمة الأولى؛ ففي السطر الذي قبل الأخير
من صفحة 3 (ألا لله الخالص) ، والصواب: {الدِّينُ الخَالِص} (الزمر: 3) ،
وفي السطر 3 من صفحة 214: (ما في السموات وما في الأرض) ، والصواب
{فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض} (يونس: 18) وفي السطر 15 منها (إن عليك
البلاغ) ، والصواب: {إِلاَّ البَلاغُ} (المائدة: 99) ، وفي السطر الذي بعده
(وما أنت عليهم بمسيطر) ، والصواب:] لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [ (الغاشية:22) .
__________(2/222)
16 صفر - 1317هـ
24 يونيو - 1899م(2/)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية
ألَّفه حديثًا؛ لتربية أفكار النشء الإسلامي على مبادئ الدين من طريق العلم
والعقل، ومبادئ العمل من طريق الدين، صديقُنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظْم
ناظر المدرسة العثمانية، وإننا ننقل دَرْسًا مُخْتَصَرًا مِن دروسه نموذجًا للقرَّاء، وهو:
(الدرس السابع: معرفة الدِّين واجبة)
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)
إذا كان الدين ضروريًّا لازمًا للاجتماع، فمعرفة الدِّين أيضًا لازمة لكل فرد
من أفراد أهله، بلا استثناء، ولا يكفي في هذه المعرفة كون المسلم مثلاً يعرف
الأركان الخمسة للإسلام، بل يلزمه أن يكون على بصيرة من دينه وعلم، ولو
إجمالي بشرائعه وسياسته، فإذا سمع قارئًا يقرأ، أو قرأ هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) -
يتدبر معنى هذه الآية؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص: 29) .
ويكون على علم، ولو إجمالي من فوائد هذه الطاعة، وأنه يترتب عليها
مصلحة المؤمنين، وترتبط بها سعادة المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر
عباده إلا بالخير، والرسول كذلك لايأمر إلا بخير أيضًا، فوجبت الطاعة لهما فيما
يأمران به، وينهيان عنه؛ لأنه خير ومصلحة للمؤمنين، وكذلك وليّ الأمر، إنما
وجبت له الطاعة من حيث وجبت لله وللرسول؛ لكونه منفِّذًا لأوامر الله والرسول،
وهي خير كما تقدم، فالطاعة له خير أيضًا. ولا جرم أن العلم بالشيء - من حيث
إنه خير - يوجب الرغبة فيه، والميل إليه، فعلم المسلمين بهذه الطاعة أنها خير
يوجب تأصل الشعور في نفس كل فرد منهم بأن هذه الطاعة واجبة لله في جميع ما
شرع من الأحكام للمسلمين، فوجب معها العمل بكل ما أمرهم به من التمسك بالعقائد
والمحافظة على الدين، والذود على حياض الشريعة، والقيام في وجه العدو،
والاتحاد على كلمة الإسلام، وغير ذلك من المصالح المتوقفة على الطاعة التي لا
سبيل إلى أدائها إلا بالعلم بها، وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب،
فالطاعة واجبة، والعلم بها واجب أيضًا، وهكذا الحال في سائر ما جاء به الدين؛
لأن التوحيد الذي هو أول ركن من أركان الدين إنما دعانا الله إليه من طريق العلم،
فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) فما بالكم ببقية فروع الدين
وأصوله؛ لهذا كان العلم بالدين واجبًا على جميع المسلمين، وبمعرفة هذا الواجب
عمل الصحابة الكرام بسائر ما جاء به القرآن، وأمر به نبيُّنا - عليه الصلاة
والسلام - فمن لم يكن منهم على علم تفصيلي بأمر الدِّين كفاه العلم الإجمالي، فدعا
إلى الله على بصيرة، وعمل بعلم، وبهذا وَصَفَ الله المؤمنين، وإليه أرشدهم في
قرآنه العظيم، فقال تعالى - مخاطبًا لنبيه -عليه الصلاة والسلام -: {قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وبهذا أَلَّفَ
الصحابةُ الكرام قلوبَ الأمم على الإسلام، وعَمَّموا الدين واللغة والسياسة بين الأنام؛
فملأوا الأمصار علمًا، وضربوا دون الجهالة سدًّا؛ فأخذوا بنواصي الأمم،
وانقادت لهم الشعوب، وانحطت دون هممهم الهمم، وأخضعوا قياصرة الروم
وأكاسرة العجم، ومرت على ما أسَّسوه من قواعد العمل بالعلم أعوام وأيام، أتى
بعدها خَلْف انقلب إلى الشهوات، وقنع بآثار المجد، وخَلْف آخر أحرجه مرض
القلوب؛ فلجأ إلى الحشو في الدين، والإكثار من القول على غير يقين؛ ففرقوا
وحدة الأفكار، وشتتوا أجزاء الأمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا بئس ما
كانوا يصنعون! اهـ.
__________(2/225)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(8)
وأما الشعب الفارسي، فهو حسن القابلية للحضارة، سريع الانقياد لدواعي
التمدن العصري، واقتباس أساليبه على مقربة من المعارف والآداب، لولا ما مُنِي
به من سوء إدارة أُمرائه، وتثاقل هممهم دون النهوض لإصلاح الشأن وبَثِّ العلم،
وجمع الكلمة. مضى الشاه السابق لسبيله، وخَلَفه ابنُه الحالي؛ فتطايرت الأنباء
بأنه راغب في الإصلاح، عامل على تهذيب أمته، مغذ السير في سبيل إسعادها،
ثم لم نلبث عشية أو ضحاها، حتى خاننا الأمل، وخامرنا اليأس، واستطارت
أخبارٌ عن شؤونٍ وأطوارٍ لا تنطبق على قانون انتظام الأمم، ولا تتمشى مع
نواميس نهضة الشعوب. وأهم ما سُطِّرَ في تاريخ الأمة الفارسية لهذه الأزمنة
المتأخرة، ظهورُ أحداث دينية، وتشعباتٍ مذهبية تَفَرَّقَ لها القومُ أحزابًا، وولجوا
في أطوائها من المصائب بابًا بابًا. فتح ميرزا علي محمد للشعب بابًا؛ فقلنا: هو
باب خير للإيرانيين يدخلون منه إلى جنات النعيم، فجاءهم من قِبَله العذاب الأليم!
يا ويح الشرق ولتعاسته! أتعترض السحب المكفهرّة في سماء أهل الغرب،
فتمطر عليهم النعماء، وتنبت في تربتهم أعشاب الفوائد، وثمرات المنافع؟ وإذا
اعترض مثلها في أفق الشرق، ورجا أهله منها ما أصاب أهل الغرب؛ رمتهم
بحجارة من سجيل، وأنبتت في أرضهم الحنظل والمرار (نبات مر) ، وأشواك
المحن والمضار. تُلَوِّحُ في جَوِّ أولئك بوارقُ تُرِيهم في ظلمات أحوالهم مواقع الخلل،
وتهديهم الجدد [1] ، وتعقبها صواعق تُقَوِّض صروح الاستبداد، وتمزق مسامع
ظالميهم، وتحصد رؤوس منافقيهم. وإذا لاحت بارقة من مثل ذلك في جو هؤلاء
المساكين؛ خطفت أبصارهم، وامتلخت قلوبهم، وبهرجت [2] بهم الجادة وأَرَتْهَا
لأعدائهم، فسلكوها إلى أذاهم، ومحو صواهم [3] ، وانقضّت معها صاعقة زلزلت
ديارهم، ومحقت خيارهم، ولبَّستهم شيعًا يذوق بعضهم بأس بعض. تهب أعاصير
الشقاق في ربوع أوروبا؛ فَتَقْتَلِع تماثيل الضلال، وتُقَوِّض هياكل الظلم والاستبداد،
حتى إذا هَبَّ في أصقاع الشرق ما يحاكيها؛ قَوَّضت صروح مجدهم، ونسفت معالم
عِزِّهم، وكشفت الغطاء لعدوهم عن عوارهم؛ فأغرته بهم، ومَهَّدَت أمامه طرق
الاستيلاء عليهم، يا سبحان الله! أما كانت التَّحَزّبات والتشعبات سببًا في نهضة
أوروبا وتنبهها؟ أما كانت مدعاة ليقظتها من غفلتها؟ أما هي التي رمت جذوة
الغيرة في قلوب الأحزاب والطوائف؛ فنشطوا للأعمال، وتنافسوا في إحراز
الكمالات؟ أما هي التي رفعت برجال كل قبيل؛ للعمل في خدمة قبيله، وتفضيله
مصلحته على مصلحة القبيل الآخر؟ أما هي التي بعثت رجال كل طائفة على
تذليل المشاق، والاستهانة بالأخطار في سبيل بث تعاليم طائفتهم، ونشر لغتها
وآدابها وعوائدها؟ مَن يصدق أن الثورة الفرنسوية العظمى، بل الفظاعة البربرية
الشؤمى هي كما زعموا جرثومة الإصلاح في الغرب، وأرومة تلك المدنية العبقرية
التي يتنافس فيها المتنافسون، وأن صُبْح الحرية لم يتنفس في جو الغرب إلا بعد أن
استمد أنواره من نيران ذلك البركان المتفجر، والجحيم المتسعر، فما لحباحب حادثة
الباب جرَّت على الشعب الإيراني الويل والبلاء، وسحبت على معالم عِزِّه ذيول
الخيبة والعفاء؟ أسباب ذلك كله أسرار مكتومة في مطاوي شؤون معلومة، وما
يعقلها إلا العالمون.
ومما شرحناه من حال الحكومتين الأفغانية والفارسية؛ يستبين للنبيه أنهما
على مقربة من مداخلة الأجنبي، والوقوع في حبالة طمعه، لا سيما والعدو منهما
على قاب قوسين أو أَدْنى - عدوهما اثنان الروسية تشرف عليهما من جهة الشمال،
وإنكلترا من الشرق، أما الروسية فدعواها بطمعها فيهما اعتراضهما في طريقها
إلى البحر؛ لأن لهفها زائد، وشوقها قوي لتوسيع دائرة تجارتها، وهي إن أصدرت
من داخليتها مصنوعاتها ومحصولاتها غمرت وجه البسيطة، وإن استوردت
حاجاتها من الخارج استنزفت ما للبشر من المصنوعات والمحصولات، كل ذلك
لوفرة عدد رعاياها، وكثرت انفساح بلادها، فهي في ظمأ شديد لورود بحار
تتناول منها وتناولها وماء البحر الأسود وقزوين والبلطيق ثماد ووشل لا ينفع لها
غلة، ولا يشفي علة، ولُجَج المحيط الباسفيكي التي تردها في الشرق الأقصى،
وإن كانت كافية لرِيِّها؛ لكنها بعيدة عن مركز التجارة العام، مترامية عن الجادة
العظمى التي تصل الشرق بالغرب، وتسلكها شعوب الخافقين، فليس على كثب منها
سوى البحر الهندي والذي يصدها عن وروده الحكومتان المذكورتان، وكذا الهند
والولايات العثمانية الشرقية، فهي في حاجة إلى احتلال هذه المراكز، وقوتها أحدثت
لها طمعًا في الاستيلاء عليها، أوالطمع في الاستيلاء أحدث لها القوة واستحثَّها لتوفير
وسائلها، وهذا الذي أَسْهَرَ عَيْنَ إنكلترا، واستطار لُبَّها.
وقد شرعت الروسية بالعمل؛ فتغلبت على كثير من الإمارات التترية، وأَلْقَتْ
بنفوذها في صحراء مرو المتاخمة لحكومتي الأفغان والفرس، وأنبأتنا الجوائب
الأخيرة أن السكة الحديدية التي مَدَّتها الروسية في صحراء مرو، قد أخذت
قضبانها تناطح حدود هاتين الحكومتين، فليطرب أفغانيي هرات وفارسي مشهد
لسماع تلك الألحان - أزيز مراجل السكة الروسية، وزمير بخارها، وزمزمة
رجالها.
إنكلترا حرصها على الهند، وتفانيها في حفظه أخرجها من الاعتدال،
وزحزحها عن موقف الكمال، وحملها على الجشع في كل ما له مساس بالهند؛
فتراها في ظمأ شديد لعبّ البحار، حتى كان بها داء الاستسقاء، وفي قرم زائد
لالتهام الشعوب، كأنها أصيبت بجوع البقر، وما ذلك إلا شغف بالهند، وحذر عليها
من أبناء أبيها آدم، والحكومتان الأفغانية والفارسية واقعتان في قارعة الطريق
الأعظم المؤدي إلى الهند، فلا غرو أن كان لهما خطر وشأن في نفس إنكلترا. ومما
يشحذ من غرار طمعها في هاتين الحكومتين، ما تراه من دأب الروسية في التقرب
منهما، والتزلُّف إليهما، والتحويم حولهما؛ فتخشى أن تصيبهما يومًا ما دائرةُ سوء
من قِبَلها، أو تمسي الروسية محتفَّة بالهند، وآخذة بأكظامه (مدارج أنفاسه) شمالاً
وغربًا؛ فإنكلترا في أوساط آسيا أخشى مَن تخشاه؛ بل لا تخشى أحدًا سوى
الروسية، تحذر من أن يشتد بها الظمأ؛ فتهوي بكتائبها الرجراجة من قمم جبال
هندكوش على تلك البسائط، ولا تقف إلا حيث تتنفس أمواج البحر الهندي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) (الجدد) بالتحريك: الطريق يؤمن فيه العثار.
(2) (بهرجت بهم) إلخ: أي عدلت بهم عنها، وغيَّبتها عن أنظارهم، فتنكّبوها.
(3) (الصوى) : جمع صوّة: وهي أَعْلام تُنصب في المفاوز؛ يهتدي بها المسافرون.(2/227)
الكاتب: كاتب من تونس
__________
مراكش
لمكاتبنا الفاضل في تونس
مضت السنون، وتطاولت الأزمان على سلطنة مراكش وهي على حالتها
الطبيعية، لم تسعَ - ولو بعض السعي - في تحسين أحوالها الداخلية، بل راضية
بما هي عليه من الحالة الراهنة التي أمست فيها رعاياها، كأمة فوضوية؛ حيث إننا
نرى كل يوم في أعمدة الجرائد أن القبيلة الفلانية شقت عصا الطاعة، وسكان الجهة
الفلانية نهبوا أو قتلوا بعض الرعايا الأجنبية، ونحو هذا من الأخبار المحزنة التي
تفتت لها أكباد مَن كانت لهم أدنى حمية إسلامية.
هذا، والسبب الوحيد في استدامة الأمة المغربية هذه السيرة، هو حب ملوكهم
للاستبداد والجهل المستولي على عقول الرعايا، ولو فَتَحَت بينهم المكاتب، وتغذت
أبناؤهم بلبان المعارف؛ لعرفوا اليوم ما لهم وما عليهم. ألا ترى أن أوروبا كانت
أتعس القارات؟ وكان الاستبداد والظلم فيها سائدَين، ولمَّا بثت بين سكانها العلوم؛
عرفوا حقائق الأمور، وقَيَّدوا استبداد حكامهم بسلاسل القوانين، ولم يَقِف في سبيل
عملهم هذا عظمة الملوك والإمبراطورين، ولا تَحَزُّب أحزاب الأشراف، وتعصب
النُبَلاء والكبراء.
إن هاتِه المملكة القائم استقلالها على أسِنَّةِ رماح أوروبا، لولا التحاسد؛
لاحتلتها أقلَّ الدول الأوربوية، ولم ينفعهم ذلك الكَرّ والفَرّ، وتلك الشجاعة البربرية
أمام النظام وصواعق الآلات. ومن العجيب أن القوم لم ينتبهوا، وقد تكررت
عليهم المصائب الأوربوية، ولم تدخل فيهم روح الغيرة، وقد جعلت أرضهم
للاستظهارات الحربية! ألم يقرأ سلطانهم وعلماؤهم وأعيانهم قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ؟ ألم يطَّلِعوا على الحديث
الشريف: (مَنْ قَاتَلَ فَلْيقَاتِلْ كَمَا يُقَاتِلُ) ؟ لقد كان الخلفاء الراشدون - رضوان الله
عليهم - عاملين بإرشاد كتابهم، وهَدْي نبيّهم، ولقد كانت وجوههم مشرقة بنور
الإسلام، وقلوبهم تخفق بأجنحة الإيمان، ولم يعتمدوا على ذلك، بل فعلوا ما أمرهم
الله من وجوب اعتبار السبب قبل الاتِّكَال؛ حتى بلغت الأمةُ الإسلامية في تلك
الأزمان أقصى درجات العز، وداست أقدام الجنود الإسلامية غالب المعمور،
وعبثت باستقلال مَن هُم أشد منها باسًا وأقوى سلطانًا. وهكذا كانت حالة الإسلام
نحو سبعة قرون، مع أن الخلافة انقلبت إلى الملك وانغمست الأمة في الترف، إلا
أنهم كانوا محافظين على الشريعة، عاملين بإرشادها، ولا سيما فيما يتعلق بأمر
المصاولة والمكافحة، وبذلك دام ملكهم، واتسعت فتوحاتهم، ووصل الإسلام إلى
أوْج الفخر، وقصارى العز، ولمَّا نَبَذْنا الشريعة وراءنا، وتَتَبَّعْنَا الأهواء والصالح
الذاتي؛ دارت علينا الدوائر، وفُقدت غالب الممالك الإسلامية من أيدينا، وصِرْنَا
اليوم موسومين بأننا لسنا قادرين على تدبير الملك.
إن الممالك الإسلامية هي التي جعلت الأمم الأجنبية في ريب من شريعتنا
السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، فزعموا أنها غير كافية في هذا العصر لإدارة
الأمور الدنيوية، بل يجزمون بأن ذلك التأخر الضارب أطنانه في كل شعب إسلامي
ناشئ عن دواعٍ دينية، ونحن لا نعترض على من يَعْتقد هذا الاعتقاد؛ إذ جهله
بالشريعة الإسلامية يجعلنا نضرب عن قوله صفحًا، وقد شَهِد العارفون منهم بحسن
شريعتنا، وصلاحيتها دينًا ودنيا، كما أننا لا نحتاج إلى استحسان قول زيد، وانتقاد
قول عمرو، وإنما أقول: إن الخلل المُحْدِق بالممالك الإسلامية في هاته القرون
الأخيرة، كان منشؤه الانحراف عن الدين؛ بإيثار الملوك منافعهم الشخصية على
المنافع العمومية، وانقسام السلطة، والانهماك في اللَّذات، فلم تسقط الممالك
الأندلسية التي سقط لسقوطها عِزُّ الإسلام شرقًا وغربًا إلا لانقسامها إلى ملوك
طوائف، ولو لم تخرق ملوكها سياج الشريعة؛ لكانت اليوم أعظم الدول نظرًا لما
أَبْدَته الأمةُ الأندلسية من الاستقامة والتدبير والمدنية. ولكن أنَّى لها ذلك، وقد سبق
في علم الله القديم أن تلك المملكة لا بد أن تُمحَى بسوء تدبير سواسها من لوح
الوجود. ولنُثنِ عِنان القلم إلى بيان أحوال مملكة الغرب الأقصى لهذا العهد، فنقول:
كلما وقع حادث سياسي في تلك الأصقاع يزداد النفوذ الأورباوي هناك، ويتخذ
الأجانب كل واقعة ذريعة إلى تنفيذ أغراضهم، وزيادة التداخل في أحوال المملكة
الداخلية، وهذا أمر يُخشى معه على استقلال تلك المملكة؛ إذ الحوادث الماضية
أرتنا ما تفعل يد الدسائس الأجنبية في الممالك الشرقية، وقد صارت اليوم هدفًا لنبال
الدسائس، وآلة بيد الأجانب، ومع ذلك لم يتعظ القوم، بل مازالوا على ضلالهم
القديم، ولو كانوا يتعظون لاتعظوا بحربهم مع فرنسا سنة 1260 الذي تسبب عن
دخول الأمير عبد القادر الجزائري الشهير إلى أراضي المغرب؛ إذ إن رجال
المغرب في ذلك الوقت كانوا غافلين عما صارت إليه الجنود الأورباوية من النظام؛
فلم يكترثوا بالجند الفرنساوي الذي كان ضاربًا أطنابه بالقرب منهم، وعندما قصد
المارشال الفرنساوي بجنوده المنظمة المحلة المغربية، لم يجد أمامه إلا قومًا مذبذبين،
ليس لهم نظام ولا معرفة بالمواقع الحربية، وقد قاد هذا الجند المختل الأمير محمد
ولم يكن على علم بقيادة الجيوش في ميادين القتال، ولكنه اكتفى بكثرة ما لديه من
الجنود، فلما التقى الجمعان، انهزمت الجيوش المغربية الجرَّارة أمام الجيوش
الفرنساوية القليلة أسوأ الانهزام، وما ذلك إلا بسبب النظام وحسن الآلات،
والمعلومات الحربية التي صارت اليوم علمًا طويلاً يتنافس فيه أولو الغيرة الوطنية،
والحمية الجنسية. وكم من حادثة مثلها، أو أشد منها عليهم. وغير بعيد ما حلَّ
بتلك الحكومة من المذلة والعار في واقعة مَلِيلَة التي دفعت فيها لحكومة الأسبان
عشرين مليون فرنك إرضاءً لها عن تعدي القبائل على حدودها ورعاياها، وليست
هذه بالأولى، بل في كل عام تدفع قسطًا عظيمًا من دخلها؛ إرضاءً لزيد، وتسكينًا
لغضب عمرو {أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ
هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
ولو حَسَّنت داخليتها، وكَفَّت أيدي رعاياها عن أي تعدٍّ، وجمعت تلك الأموال
التي تدفعها كل عام، وفتحت بها مكاتب أماطت بها حجاب التغفل عن عقول أولئك
القوم، لكان خيرًا لها، وأقوم لشرفها وبقائها بين الأمم، فكل ذي لب يعلم أن تقدم
تلك المملكة متوقف على بث العلوم والمعارف - لا سيما التاريخية والاقتصادية،
والزراعية والعسكرية - بين سكانها؛ حتى يعلموا أن وراء البحار أممًا
يسهرأهلهاعلى مصلحة بلادهم، والذَّبِّ عن أوطانهم، ويتعاضدون على كل ما يعود
عليهم بالفخر، وعلى أوطانهم بالعمران، وأن لهم جنودًا قد فاقت الحد عُدة وعددًا
وأساطيل، يَرْتَجُّ لها المحيطُ عندما تعلوه، وتَخِرُّ لها الاستحكامات والحصون،
وتميد لها الجبال، وأن العلوم والمعارف عندهم نافقة أسواقها، متدفقة سيولها، ولها
أبناء قد تغذوا بلبانها، وشَبُّوا وشابوا على حبها، ومطالعة جمالها، وهاهم اليوم
مثابرون على إصلاح أمورهم، ومتعاضدون على مصلحة أوطانهم، وكلما يرون
بلدًا مختل النظام كبلادكم، أو إقليمًا عديم التدبيركإقليمكم، يستولون عليه بدعاوي
سياسية، ويتخذون ذلك الاختلال حجة للاستيلاء، وإذا دافع عن نفسه ضربوه بحد
السيف، وأجبروه على ترك الاستقلال.
إِلامَ - أيها الإخوان - أنتم غافلون؟ ! وحَتَّامَ - يا أبناء الأعزاء - وأنتم
متكاسلون؟ ! ألم يَدْعُكم كتابُكم إلى تحسين أحوالكم الدنيوية، كما دعاكم إلى
تحسين أحوالكم الأخروية؟ ألم يَدْعُكم نبيُكم - عليه أفضل الصلاة، وأزكى
التسليم - إلى الذَّبِِِ عن حوزة المِلَّةِ والدِّين ؟ أم لم تُنَبِّهْكم الحوادثُ التي رأيتموها،
وتََزْجُرْكم المَذلة التي شاهدتموها؟ أم لم تتعظوا بما حَلَّ بإخوانكم، لمَّا كانوا مثلكم
غافلين؛ فعبثت يدُ الأجانب باستقلالهم، وداست أقدام العدو أعناقهم، ولم ينفعهم
الندم بعد حلول القضاء، ولم يُنجِ التأسف عند فتح باب البلاء. لِمَ لا تنبذون هذه
المذلة وأنتم قادرون على الابتعاد عنها؟ ! . وعَلامَ لا تنتقلون من هذه الحالة التي
يجب انتقالكم عنها؟ ! . أترضون أن تدخل بيوتكم الأعداء، أم تحبون أن تستولي
على أوطانكم الأخصام الألدَّاء.
تلك نصائح صادرة عن حمية إسلامية، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو
على ما نقول وكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ش. د)
__________(2/231)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
] أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[1]
منشئ هذه المجلة مسلم من سلالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُعبد غيره، ولا يُستعان إلا به {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، ولا يُتَقَرَّب إليه إلا بالإيمان والعمل الصالح،
وترك المحرمات والقبائح، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما أرسله مسيطرًا
على العباد، ولا وكيلاً ولا جبارًا، وإنما أرسله مبشرًا ونذيرًا، ويشهد أن جميع ما
جاء به عن الله حق؛ مَن تمسك به سَعِد، وإن كان عبدًا زنجيًّا، ومَن أعرض عنه
شقي، وإن كان قرشيًّا فاطِميًّا؛ ففي حديث البخاري مرفوعًا: (يا فاطمة يا بنت
محمد سَليني مِن مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا) ويعتقد أن الله تعالى لم
يجعل لأحد من عبيده الأحياء - فضلاً عن الأموات - قدرة على التصرف في الكون،
وإسعاد الناس وإشقائهم وراء الأسباب العادية التي يصل إليها الإنسان بجِدّه واجتهاده،
وكسبه واختياره، وإن هذه الأسباب منها ما هو مشهور يعرفه جماهير الناس، ومنها
ما هو خفي لم يصل إليه إلا بعضهم. هذا مجمل ما يعتقده ويدعو الناس إليه في
(المنار) ، ولكن هذه الدعوة ساءت الذين بنوا هياكل مجدهم وسيادتهم على أساس
الاعتقاد بأنهم هم وشيوخهم يتصرفون في الأكوان، فيُسعدون ويُشقون، ويُميتون
ويُحيون، ويغنون ويفقرون؛ فقادوا الناس بسلاسل الوهم إلى الخضوع لهم، حتى
فَسَد دِينُهم، وخربت دنياهم. وحَبَّبَ هذا الاعتقاد إلى الدَّهْماء ما فيه من تخفيف ثِقَل
التكليف، بل ما فيه من معنى الإباحة.
وأي إباحة أعظم من اعتقاد المنتسب للطريقة الرفاعية أن مَن يلمس يد الرفاعي
أو أحد خلفائه وذريته لا تحرقه النار! ، كما هو مذكور في كثير من كتب هذه الطائفة
التي نشرت بالطبع في هذه العشرين سنة الأخيرة، وأي تغرير بالمسلمين في دينهم
أعظم من قول هؤلاء القوم: إن السيد أحمد الرفاعي الكبير قال: إن الولي يصل
إلى درجة يقول فيها للشيء كن فيكون! (راجع صفحة 85 من كتابهم المسمى
إرشاد المسلمين) ، فناشر هذه الكتب والتعاليم، وهو الشيخ أبو الهدى أفندي،
الشهير لا شك أنه استاء مما يدعو إليه (المنار) ، فكتب إلى ابن عمه متصرف
طرابلس بدري باشا بأن يضطهد أهلينا، فاتفق مع العسكرية على إرسال إخوتي في
العسكرية، مع أنهم من طلاب العلم الذين استثناهم القانون، وأحدهم جاوز الأسنان
بهذا الاستثناء، ولم يكتفِ بهذا، بل هددهم بأكثر منه، مما لا نذكره إلا إذا وقع.
وقد علمنا من أخبار الآستانة أن سماحته عازمة على إرسال شخص من أتباعه إلى
مصر ليقتل منشئ (المنار) ، وليس هذا على أفكاره ببعيد؛ فقد كان صرَّح لمدير
الجريدة - عندما كان في الآستانة - بأنه يرسل كتابًا إلى اللورد كرومر يطلب فيه
إرسالي إلى الآستانة بالقوة، وإلا يرسل مَن يقتلني في مصر. وكأنه حسب أن
اللورد كرومر، كابن عمه بدري باشا متصرف طرابلس - يطيع أمره؛ لأنه يخدم
السفارة الإنكليزية أحيانًا، ولكن أخطأ حسبانه. أما عزمه على قتل هذا الفقير، فهو
لأجل أن يدَّعي - إذا تم له هذا - بأنه كرامة من كراماته، كما ادَّعى أن موت
المرحوم السيد جمال الدين كرامة له. {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51) ، إذا تم لبدري باشا استخدام الهيئة
العسكرية في اضطهاد قومنا، فإننا نأسف على إهانة الشرف العسكري العثماني أشد
مما نأسف لإهانة أهلينا، على أننا ممن يرى العسكرية شرفًا وأن تَرَفُّعَ أهل العلم
والشرف عن خدماتها خطأ، وعائق عن ترقيها، وبلوغها الكمال، وإننا ننتظر ما
يتم في هذه المسألة، فإذا ظَلُّوا متمادين في ظلمهم؛ نكشف الستار عن مخبآتهم في
الهيئتين الملكية والعسكرية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) غافر: 28.(2/235)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تابع
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
هذا الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 كثير النتائج الحسنة في زيادة
مالية المملكة العثمانية، لا من حيث ما لَقِيه من الفوائد العاجلة فقط، بل من حيث
الفوائد المستقبلة التي جعلها سهلة الحصول. وقد وضعت جلالة السلطان بما عهد فيها
من الحكمة في الإرادة السنية التي صدرت بهذا الاتفاق في شهر ديسمبر سنة 1881 -
مبدأ تحويل الدَّيْن العثماني الذي وحَّده توحيدًا، كان فيه أكبر فائدة لجميع المعاملات
العامة ولمصلحة حسابات المالية. لم يتوقف وكلاء البيوت المالية بلندرة وباريس
وفينا وبرلين، وهم أصحاب الأغلبية من حاملي السندات العثمانية في قبول هذا المبدأ،
فصدرت إرادة سنية في 31 يوليه سنة 1883 بالتصديق على مشروع مجلس إدارة
الإيرادات المتنازل منها للدائنين، الخاص بتحويل الدين العمومي الذي نقص مقداره
- كما علمت - وبالتصريح بإصدار سهام جديدة.
آخر الأعمال التي حصلت في هذا الشأن بعد تاريخ صدور هذه الإرادة - كان
في 13 مايو سنة 1884 ولمَّا تعين المندوبون لمراقبة التحويل في 23 يوليه من هذه
السنة، ابتدأت الأعمال في 20 نوفمبر منها، وتَحَرَّر لإنجازها ميعاد من أول مايو
سنة 1888 إلى 13 منه. غير أن هذا التحويل - أو توحيد الدين العمومي العثماني
- إن أردت تسميته باسمه الحقيقي، لم يكن إلا مقدمة لاتفاقات أخرى كان من شأنها
- فضلاً عن استمرارها على تقليل مقدار الدين العمومي والدين الداخلي المتداول -
أن تورد للخزينة العثمانية مبالغ مهمة. كذا كان تحويل الدين الممتاز وقرض الدفاع
في 27 إبريل سنة 1890.
وصدرت إرادة سنية مقتضاها، اقتراض مبلغ 19568500 فرنك يكون
ممتاز التحويل، بفائدة أربعة في المائة، تضمنه إيرادات الدين العمومي؛ لتحويل
السندات التي فائدتها السنوية 5 في المائة الممتازة المضمونة بتلك الإيرادات، أو
تسديد قيمها تبعًا لإرادة حامليها. قُسّم هذا القرض إلى 391363 سهمًا لحاملها،
قيمة كل منها 500 فرنك، وربحه السنوي عشرون فرنكًا، تُدفع أثمانها على أقساط
متساوية في أربع وأربعين سنة، أو على ثمانٍ وثمانين سحبة، تُحصل في كل
نصف سنة منها واحدة بالقسطنطينية في شهر فبراير وأغسطس من السنة، تحت
ملاحظة مجلس إدارة الدين العمومي، والمصرف (البنك) العثماني، وربح هذه
السهام يدفع ذهبًا في كل نصف سنة، يومي 13 مارس و13 سبتمبر من السنة بمدن
باريس والقسطنطينية ولندره وبرلين وفرنكفورت وأمستردام في مكاتب المصرف
العثماني، أو مكاتب وكلائه، حُدِّد ثمن السهم من هذه السهام الجديدة بمبلغ 411 فرنكًا
وخمسين سنتمًا، من 13 مارس سنة 1890 وأعطي الحق لحاملي السندات الممتازة
التي ربحها السنوي 5 في المائة في الاشتراك بالأولوية في تلك السهام بسعر 110
فرنكات، بدون أن ينقص هذا الحق شيئًا من حقوقهم، أو أن يدفعوا في نواله شيئًا.
إن مقدار الدفعة السنوية الواجبة لحاملي السندات الممتازة التي ربحها 5 في
المائة، والتي حُدِّد لتمام سدادها سنة 1906 - كان بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر
1880 مبلغ 537000 جنيه إنكليزي، أما السهام الجديدة، فلما كانت دفعتها
السنوية مبلغ 392000 جنيه إنكليزي فقط، فقد نتج من ذلك نقص، فيما كان يدفع
مسانهة قدره 145000 جنيه إنكليزي في السنة، خُصص لسداد (استهلاك) أربعة
أنواع الدين على نسب متساوية، إلا الأول منها، فإن ما خُصص له من هذا المبلغ
هو 10000 جنيه إنكليزي فقط.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/237)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقتطفات الأخبار
نَعى إلينا بريدُ سوريا الأخير رجلاً جليلاً من أشهر سروات طرابلس الشام
وأَمَاجِدِها، وهو الحاج عبد القادر أفندي علم الدين توفاه الله تعالى في يوم الأربعاء
الأسبق، لستٍ مضين من صفر، عن نحو ثمانين سنة. أما الرجل، فقد كان سيد
قومه، ومفخر وطنه، مشهورًا بالتقوى والصلاح، والبر والإحسان، والرفعة
والشَّمَم، والرفق والتواضع، وحسن المعاملة قضاءً واقتضاءً. وهل يسود التاجر
التجار، ويكون الوجيه في قومه محل الثقة والاعتبار، إلا بمثل هذه المزايا
والصفات؟ ! ، فنعزي آل علم الدين الكرام، بهذا الفقيد الجليل، لا سيما شقيقه
الهمام، صاحب العزة الحاج عبد الرازق أفندي أحد أعضاء محكمة الجزاء، وأنجاله
الفضلاء الذين يُحيون ذكره بغُرر خصالهم، ومحاسن أعمالهم، أحسن الله لهم العزاء،
وجزى الفقيد في مقعد الصدق خير الجزاء!
***
اجتمع مجلس النُّظَّار في يوم الأربعاء الماضي في نِظَارة الداخلية تحت رئاسة
عطوفتلو مصطفى فهمي باشا، وأهم ما قرره التصريح لشركة إنكليزية باحتكار
المِلح في القطر المصري، ولشركة طليانية بإنشاء ملاحات في بورسعيد؛ لخزن
الملح فيها. وعلى تعيين صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية عضوًا في مجلس شورى القوانين.
وقد عَظُم على المصريين أمر احتكار المِلح، ولقد كانوا في حَرج من احتكار
الحكومة له، فكيف وقد احتكرته شركة أجنبية؟ !
***
ذكرنا في الجزء الحادي عشر، الذي صدر في 17 محرم أن الباب العالي
أَمَر سَفيريه في لندن وباريس بالاعتراض على وِفَاق النيل بين إنكلترا وفرنسا؛
لأنه مجحف بحقوقه، وقد ذَكَر المؤيد الأغر في هذه الأيام أن الباب العالي بلَّغ
الحكومة المصرية مغزى الاحتجاج، ومما جاء فيه قوله: إن الباب العالي أبلغ
الحكومة الخديوية، بأنه رأى في المعاهدات الإنكليزية الفرنساوية بشأن السودان
أخيرًا ما يخالفه مقتضى قانون حقوق الدولة العلية؛ لأنها جعلت ما وراء طرابلس
داخلاً في النفوذ الفرنساوي، مع أن المعاهدات الدولية ناطقة من قبل بأن البلاد
السودانية من أملاك الدولة العلية؛ لذلك احتج الباب العالي على ما فعلت الدولتان،
وسارت العساكر الشاهانية؛ للمحافظة على أملاك الدولة العلية وراء طرابلس؛ مما
زعم أنه داخل بمقتضى الاتفاق الأخير ضمن دائرة النفوذ الفرنساوي. وأنه صار
من واجب الحكومة الخديوية إرسال قوة (فعلية) ؛ للمحافظة على الأراضي التابعة
للخديوية المصرية، التي هي من أملاك الدولة العلية. اهـ.
***
(المطالب)
جريدة أسبوعية كانت صدرت في القاهرة، ثم أُقْفِلت، وقد أُعيدت في هذه
الأيام ثانية، على أن تصدر في أيام الجُمع والآحاد، وانتهى إلينا أن صاحبيها
الأديبين حسين بك شاكر وحسن أفندي لبيب سيسلكان بها مسلكًا خيرًا من مسلكها
الأول، حقق الله لهما الآمال ورزقهما في عملهما النجاح!
***
(انتباه)
جريدة تركية، أصدرها في القاهرة الكاتبان البارعان علي مظفربك ومحمد
توفيق أفندي، ولم نقرأها، إلا أننا نستدل من تصديرها برسم السلطان مراد على
غرض صاحبيها منها، وهنا نستلفت الأنظار إلى ما كنا كتبناه عند ذكر جريدة
(أنين مظلوم) ، من أن الطمع في إرضاء الدولة لمَن ينتقد سياستها بالمال، هو الذي
أوجب زيادة القيل والقال؛ حتى صار يتعذر التمييز بين الصادق والمحتال، وبين
طالب الإصلاح ومبتغي الأرباح.
__________(2/239)
23 صفر - 1317هـ
1 يوليو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النهضة الإسلامية في مصر
قالوا: إن للأمم ثلاثة أدوار: نموٌ، ووقوفٌ، وهبوط يَتْلوه الموت، ولكن،
كيف تتكون الأمة، فتتقلب في هذه الأدوار؟
كانت الأمم تتكون بالعصبية والحرب، وتحيا بقوة الساعد، وكثرة عدد
المساعد، وأما في هذا العصر، فقد ارتقى النوع الإنساني عن أن تكون حياته بقواه
الحيوانية وكثرته العددية، وصارت حياتُه بالقوّتين: العلمية، والأدبية، وما ينشأ
عنهما من القوة الصناعية، وفي اليابان والصين آية مبصرة للناظرين. وكيف
تنهض الأمم الخاملة بالعلم، وتحيا بعد موتها بالآداب؟
يسوق الله تعالى إليها، أو ينشئ فيها أفرادًا من أصحاب العقول الكبيرة،
والهمم العالية، والفضائل السامية، تكون لهم هذه المزايا بالفطرة، فيدركون بها
علل ضعف الأمة وخمولها، وأسباب صحتها ونباهتها، ويجتهدون في نشر هذا فيها
بالتعليم الصحيح، فعندما تُُلقى هذه التعاليم في الأمة تضطرب لها - وكيف لا
يضطرب الساهي تفاجئه صيحة الحق؟ ! - ثم تقع في حيرة، لا تدري هل
الصواب بقاؤها على ما كانت عليه؟ ، وإن أُنذرت بأن فيه حينها وهلاكها، أو
الأخذ بما تُدعى إليه، وفيه مفارقة عادها ومألوفها. ثم يكون الناس أزواجًا ثلاثة:
(1) مقاومون معاندون ينفرون عن الدعوة إلى الإصلاح باسم الدين.
(2) مخضرمون يصيخون إلى الدعوة، فلا يعقلونها كما هي، فيكون من
أثرها فيهم: نبذ التعاليم العتيقة - حسنها وقبيحها - والاكتفاء من التعاليم الجديدة بما
لا يظهر أثره في الإصلاح؛ فيكونون بما استهانوا به، حتى من محاسن أسلافهم،
وبما عساه يوجد فيهم من المغامز الشخصية حجة للمعارضين المعاندين.
(3) وعقلاء فضلاء يكتنهون شؤون الأمة، ويقفون على عِلَلها وأمراضها،
ولو في الجملة، ومتى أخذوا بالعمل يزدادون بصيرة وعلمًا، ولكن أشعة أفكارهم لا
تخترق حجب الأوهام الضاربة في أذهان بني وطنهم إلا رويدًا رويدًا، كما هي سُنة
الله في الإنسان، يعرج في سلاليم الترقي درجة درجة، لا أنه يطفر طفورًا.
كان مبدأ هذه النهضة في مصر رجل أعجمي الوطن، علوي النسب، وهَبَه
الله من ذكاء العقل وذكاء الفطرة، ما يندر مثله في الأجيال الكثيرة والقرون الطويلة،
إلا وهو الحكيم الإسلامي الشهير السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني، نوَّر الله
مرقده! تربّى الرجل تربية دينية، فقرأ العلوم الإسلامية - وسائلها ومقاصدها -
وبرع في الفنون العقلية، كالحكمة القديمة والكلام والأصول، ثم نظر في الفنون
الرياضية والفلسفية على طريقة أوروبا الحديثة، وسلك طريق التصوف سلوكًا كاملاً
وأضاف إلى علمه الواسع في التاريخ الاختبار بالسياحة، وعني أشد العناية
بدراسة أحوال الإسلام، وتعرف أمراض المسلمين الاجتماعية، التي أرجعتهم من
مقدمة الأمم إلى ما وراءها.. إلخ، ما هو معروف من سيرته، وقد كان وقف نفسه
على تنبيه المسلمين من غفلتهم، وإرشادهم للقيام بواجب شؤونهم؛ لكي تلحق الأمة
بالأمم العزيزة، ولكن الأمة أمست كالمريض الأحمق، يأبى الدواء ويعافه من حيث
إنه دواء! ، وقد اعتادت منذ قرون على أن لا تقبل إصلاحًا إلا إذا كان صادرًا من
جانب القوة الحاكمة؛ ولذلك لم يوجد مستبد ظالم من سلاطينها وأمرائها حاول عملاً
مضرًا وقاومته فيه، بل تستبدل المساعدة له بالمعاندة، فإذا استفتى العلماء يحرفون
له الكلم، فيفتونه، وإذا استرفد الوجهاء يبذلون له النفس والنفيس، فيرفدونه،
ولأجل هذا لجأ السيد جمال الدين إلى عالم السياسة، وحاول أن يكون الإصلاح من
جانب الملوك والأمراء؛ لتخضع له الأعناق، ويسري سريان الرياح في جميع
الآفاق. ولقد كان سَلَك في مصر طريقة الإصلاح المثلى، وهي التربية والتعليم،
فانبرى له علماء السوء الذين أظهر تقصيرهم في العلم وخطأهم في التعليم،
فوضعوا في طريقه الأشواك والعواثير، وحاربوه بسلاح الدين الذي جعلوه آلة
للدفاع، وأُحبولة للانتفاع، وذلك بأن نفثوا في رَوْع الدَّهْمَاء من الناس بأنه منحرف
عن هدْيه، وشارك بعضَ علماء السوء في مظاهرته بعض ُالمخلصين، انخداعًا لهم،
وكان لهم في ذلك شبهات ثلاث:
(أولاها) : أنه كان يعرف الفلسفة، ومتوغلاً في العلوم العقلية، وهذا النوع
من السلاح هو الذي حاربوا به أساطين الأمة من قبل، وبهذه الشبهة كفَّروا الإمام
الغزالي وأضرابه وأحرقوا كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب، ثم
كتبوه بعد ذلك بماء الذهب، وسَمُّوا صاحبه (حجة الإسلام) ، وكذلك
يفعلون!
(الثانية) : عدم التقيد بالعادات التي ألفوها، ولوَّنوا الكثير منها بلوَن ديني؛
فصار في نظر العامة من شعائر الدين، وهو في الحقيقة مخالفٌ لأصوله أو فروعه.
(الثالثة) : أن كثيرًا من المترددين عليه والمتلقين عنه، كانوا لا يُبَالون
بأمر الدين، وإنما كان لهم هذا من فساد تربيتهم الأولى، لا من الاجتماع به؛ إذ لم
يكن هو الذي ربَّاهم وعلَّمهم من النشأة الأولى، والرجل كان يبذل الحكمة لكل مَن
يحضر مجلسه، من بر وفاجر، ولا يمنع منه مؤمن ولا كافر، والناس معادن كل
يؤخذ ما يلائم معدنه ويناسب مشربه، والحكمة كالمطر تُلقى في أرض النفوس،
فتتكيف كل نفس منها بحسب استعدادها، كما يغتذي البِطِّيخ والحنظل النابتين في
أرض واحدة من ماء واحد، ويكون ثمر أحدهما حلو المذاق، والآخر مُرًا زعاق:
{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .
كان فريق ممن يحضر مجلسه يُسيء الفهم، ويُسيء الأداء، ومنهم الذين
يلوون ألسنتهم بالكتاب ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومنهم الذين يقولون كذبًا
ويخلقون إفكًا. وكل هذه الفرق كانت توجد في زمان الإصلاح النبوي، وإبَّان نزول
الوحي وظهور الآيات البينات. فما بالك بأتْباع غير الأنبياء ومتبوعوهم مهما
عظمت حكمتهم ضعفاء؛ لأنهم - وإن مُنحوا الحكمة - لم يؤيَّدوا بالعصمة. إنني ما
لقيت الرجل، ولكنني استقريت أنباءه وتتبعت مواقع الانتقاد عليه حتى عرفت
مثارها، ووقفت على مهب أهوائها. علمت أن بعضها كان من سوء الفهم،
وبعضها من سوء قصد الناقلين المذاعين، ألا لعنة الله على الكاذبين.
أذْكُر لسوء الفهم مثالاً واحدًا، قال لي منتقد من أهل العلم: إنني حضرت
مجلس السيد جمال الدين حتى نهانا عن الصلاة في يوم من الأيام، فانقطعت عنه!
فقلت له: كيف كانت القصة؟ وهل نهاكم عن الصلاة نهيًا صريحًا بأن قال: لا حاجة
إلى الصلاة، أو لا تصلوا؟ ! فقال: لا وإنما تكلم عن الصلاة كلامًا أبان فيه عن
أن صلاتنا لا يعبأ اللهُ تعالى بها، ولا يقبلها بأن قال - ما ملخصه -: إن الأعمال
الظاهرة في الصلاة، كالركوع والسجود، هي كأعضاء الجسم والإنسان، ليس
إنسانًا بأعضاء جسمه، وإنما هو إنسان بروحه ونفسه، وروح الصلاة الشعور
بعظمة الله تعالى وكمال سلطانه فيها، وتدبر ما يُتلى من القرآن والذكر المعبر عن
ذلك بالخشوع. قال محدثي: وإذا كانت صلاتنا ليست على هذا الوجه الذي لا
يرضى الله تعالى إلا به، فلا شك أنه يعني بأن الأوْلى تركها، مع أن قصارى ما
قاله فقهاؤنا: إن الخشوع مستحب أو مسنون. فقلت له: يا أستاذ، إن الذي قاله
الرجل موافق للقرآن والأحاديث الصحيحة، وقد فصَّل الكلام فيه علماء الآخرة الذين
بيَّنوا للناس ما يقربهم من الله، وما يبعدهم عن رضوانه، كالإمام الغزالي في
(الإحياء) ، أما الشرنبلالية، والولوالجية، والتتارخانية، ونحوها من كتب الفقهاء
فإنما وُضعت لضبط الأعمال الظاهرة، وهلاَّ حملت قول السيد على طلب الخشوع
الذي أناط الله تعالى به الفلاح في كتابه دون الحمل على ترك الصلاة بالمرة، فرجع
الرجل إلى قولي وكان منصفًا، فلو أنني أخذت منه القول الأول على غرّة وأذعته،
كما هو دأب الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا - لما تعديت في ذلك ما
عليه الدهماء مِنَّا، ولقد وقع لتلامذة المرحوم السيد جمال الدين كثير من أمثال هذا،
لا سيما في المسائل الفلسفية الغامضة ونسبتها للدين.
أما سوء القصد وما يتبعه من الكذب والافتراء، فلا تسلْ عن حال أهله مع
المصلحين، لا سيما في مثل الدَّور الذي فيه أمتنا اليوم من الضعف والاضمحلال
وفساد الأخلاق. وأعجب ما سُمع فيه أن بعض علماء السوء والفتنة أشاع بين الناس
في العام الماضي بأن فلانًا من العلماء أنكر وحدانية الله، وبعضهم قال: أنكر
وجوده إنكارًا صريحًا على ملأ من العلماء والطلاب في الجامع الأزهر، ومع أن
هذا غير معقول - وأين من يعقل؟ ! - أن يصدر ممن له أدنى تمييز، وإن كان
فاسد الاعتقاد؛ فإن كتاب ذلك العالم الذي كان يقرؤه في التوحيد بين الأيدي، وفيه
أقوى البراهين العقلية على وجود الله تعالى ووحدانيته، وهو من تأليفه، ولكن ماذا
تقول فيمن سَفِه نفسه واستخف عقولَ الناس، ولم يراقب الله تعالى، فحمله إغواء
شياطينه على ذلك البهتان العظيم، فنزل به - ثم بمستشاره - الجزاء الأليم. لقد
جمح القلم في بيان ما يعرض للإصلاح من العلل، فلنرجع إلى ما كنا فيه.
قلنا: إن الحكمة كالمطر، يأخذ كل أحد منها ما يلائم تربيته، وقد كان عدد
الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين من المشتغلين بالعلوم الدينية - قليلاً؛ بسبب تنفير
الشيوخ عن حضور مجلسه لما علمت؛ ولذلك ظهرت النهضة القلمية في لابسي
الطرابيش أكثر من لابسي العمائم، وكان عدد الذين يسعون في إصلاح العلم والتعليم
الديني قليلين. وكما أننا في حاجة شديدة لرجال الأقلام الذين يجيدون الكتابة في
جميع المواضيع، لا سيما في الفنون العصرية التي عليها مدار التقدم الدنيوي -
كذلك نحن في أشد الحاجة لقوم يفهمون الدين على حقيقته التي ساد وسعد بها سلفنا
الصالح، وشَقي واستُعبِد بجهلها خلفُنا الطَّالح، إلى قوم يفهمونه ويحسنون تلْقينه
وتعليمه، فيأخذون بما ينبغي، وهو اللباب الخالص، ويلقون ما أُلحق به وتغلغل
في كتبه مما ليس منه، ولكنه صار حائلاً دون فهمه وتعلمه. ولقد كانت عناية السيد
- رحمه الله - بهذا النوع من إصلاح العلم والتعليم، أشد من غيره، ولكنه لم يجد
من المستمعين له إلا قليلاً، والكرام - كما قالوا: - قليل.
أمثل مَن اتّصل بالسيد مِن الذين تربَّوا في مهد الدين - علمًا وعملاً - العلاَّمة
المِفضال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وهو الرجل المفرد
الذي تُشبه فطرته الزكية فطرة السيد جمال الدين، وتُماثِل تربيتُهُ تربيتَهُ، حتى في
سلوك طريقة التصوف سلوكًا كاملاً. ولقد كان قبل معرفة السيد زيته صافيًا، يكاد
يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسَّته بالاتصال به نار غيرته وحكمته، فاشتعل نورًا
على نور. ووقف على نتيجة أبحاثه واختباره الطويل في الإصلاح الإسلامي، بل
والشرقي أيضًا، وعومل من الشيوخ الذين يخافون أن يُظهر الإصلاح العلمي
تقصيرَهم في العلم أو التعليم - بمثل ما عومل به سابقًا؛ حتى لم يكن بينه وبين
معهد التعليم الإسلامي في (الأزهر) اتصال قبل هذه السنين الأخيرة؛ وسبب ذلك
وشايات الشيوخ به للخديوِ السابق، وتنفيرهم طلاب العلم عنه، بأنه فيلسوف يُخشى
من فلسفته على دينهم، وكأن هؤلاء لا ثقة لهم بدينهم؛ لأنهم ليسوا على بينة منه،
فيخافون من كل شبهة أن تأتي على زلزاله، أو زواله، والموقِنُ بالشيء لا يتوقع
ولا يتصور زواله، ومن لا يكون موقنًا لا يكون مؤمنًا.
ولقد بقي لهذا الوهم بقية في نفوس بعض طلاب العلم في الأزهر إلى السنة
الماضية، فكانوا عندما قرأ الأستاذ رسالته في التوحيد يتوقعون أن يأتي بمسائل
الخلاف بين الفلاسفة والمسلمين، ويُرَجِّح أدلة الأوّلين، فلما رأوه قد سلك في العقيدة
مسلك السلف؛ اطمأنت قلوبهم وزايلتهم أوهامهم.
تلك الدسائس والوساوس هي التي حرّمت الترقي على الأزهر في السنين
الخالية، وانحصر سعي الأستاذ في الطباعة زمنًا - قبل الفتنة العرابية - فكان له
أثر عظيم في النهضة القلمية وفي القضاء زمنًا آخر، والعهد به قريب، وقد كان
للمتصلين به في كل طور من الأطوار، وكل زمن من الأزمان أثر ظاهر في
النهضة الحاضرة، بحسب معارفهم وبيئتهم (حالهم ومحلهم) ، انظرْ تَرَ القضاة
الثلاثة: سعد بك زغلول وأخوه فتحي بك وقاسم بك أمين - وهم الذين يفتخر بهم
القطر المصري، وبمثلهم يصِحُّ له الاحتجاج بأن المصريين أهلٌٌ لأن يَحْكُموا أنفسهم
بأنفسهم، هم من أخصّاء الأستاذ والمتلقين عنه.
تَعَلَّم كثيرٌ من المصريين في مدارس أوروبا، كما تعلم قاسم بك وفتحي بك،
ولكن لم نرَ واحدًا منهم يشغل أوقات فراغه بالتأليف والترجمة للكتب النفيسة التي
يحتاج إليها الوطن في رُقيّه، كما هو شأن هذين الفاضلين. هل يوجد بين أيدينا من
الكتب النافعة لنا في نهضتنا الدينية والدنيوية - (كرسالة التوحيد) للأستاذ، وكتاب
(تحرير المرأة) لقاسم بك وكتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) ، الذي ترجمه
حديثًا فتحي بك، وهو أَفْيَد كتاب أُلِّف في أوروبا في التربية والتعليم؟ كلا. إنه
يوجد كثير من المصريين لا يعرفون قيمة هذه الكتب، وآخرون لا يرفعونها إلى
مكانتها من الاعتبار التي تستحقها؛ لأغراض معلومة، وأمراض غير مجهولة،
ولكن سيأتي على مصر زمان تُجعل فيها دراسة هذه الكتب ضربة لازب، ويجزم
كل من يكتب في تاريخ مصر، بأن هذه الكتب كانت من أنفذ عوامل النهضة
الأخيرة، وأقوى أركانها (كما اعترف الذين كتبوا في ذلك كجرجي أفندي زيدان،
بأن السيد كان مبدأ هذه النهضة) ، وكما يجزمون بهذا يجزمون بأن هذه الكتب
الكثيرة التي وُضعت للبحث في ألفاظ الكتب وأساليبها، كانت عثرات في طريق العلم
بل وفي فهم تلك الكتب نفسها، وسدود أمام الترقي، وإن كانت ألقاب مؤلفيها
ضخمة، ونعوتهم كبيرة.
إن جهل الأمة هو الذي شبّه عليها النافع بالضار، وقد طفقت تتنبَّه إلى
مصالحها، وتخرج من مضيق الغرور والانخداع باللبوس والنعوت والألقاب، وهذه
حركة طبيعية اقتضتها سُنة الله في رقي الأمم، فمقاومتها جهلٌ وغرور؛ لذلك نرجو
من علمائنا العقلاء أن يسايروها ويساعدوها، لا أن يقاوموها ويعادوها، وأن يجعلوا
الحق ميزان الأعمال؛ إذ الرجال تُعرف بالحق، لا الحق يُعرف بالرجال.
__________(2/242)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(9)
لا يُحَدِّث مُحَدِّثٌ عن النزاع بين إنكلترا والروسيا في أواسط آسيا إلا وتتمثل
في مخيِّلة السامع صورة بِرَاز بين إنكليزي وروسي على ذروة جبل هندكوش،
أحدهما: مهاجم، والآخر: مدافع، يتساوران ويتواثبان، وينتطحان انتطاح الكباش،
ولا يمكننا الجزم والحكم بفلج واحد منهما بعينه وإخفاق الآخر؛ لأن عند كل واحدة
من الأمتين الإنكليزية والروسية من وسائل النصرة والفلج، وذرائع الغلبة والدفاع ما
يوجد مثله، أو ما يحاكيه عند الأمة الأخرى.
ربما يحكم حاكم - ذهابًا مع الوهم - بأن النصرة ستكون للروسية، لما أن
الحرب تنتشب بين الدولتين برية، وقد لا يتخللها عمل بحري قط، فقوة إنكلترا
البحرية - التي توازن قوة روسيا البرية - لا نجدة تُرتجَى منها في تلك الحرب،
وأَحَجَّ بأن يصح هذا الوهم (أي: ما أحجاه وأحراه بالصحة) لو لم تكن إنكلترا قد
تداركت أمرها، وأعتدت لدفع ذلك الخطر قوة أدبية منبثّة في البلاد الهندية انبثاث
الهباء في الهواء، تؤيد بها قوتها البرية الثانوية، فتقويان معًا على مقاومة القوة
الروسية. ذلك أن الشعب الإنكليزي قد امتزج بمعظم الشعب الهندي امتزاجًا تامًا،
وقد سعت إنكلترا في أحكام هذا الامتزاج منذ قوي نفوذها ثمة، فمدت شوابك الألفة
والوحدة الأدبية بين القبيلين، ومهدت للشعب الهندي سبل تعلم اللغة، حتى كاد
تعلمها ينطوي تحت الفرائض الدينية. واللغة كما لا يغرب عن فهم اللبيب مناط
الجنسية، أو هي الإكسير السياسي تحوِّل أخلاق الشعب وآدابه وعاداته وعواطفه،
بل وتعاليم دينه إلى أخلاق الشعب المتغلّب الذي تعلمت لغته وإلى آدابه وعاداته
وعواطفه وتعاليم دينه، فضلاً عن أن إنكلترا ضمَّت إلى تعليم لغتها، تعليم سائر
العلوم والفنون العصرية، وتخيرت أمثل الوسائل وأقرب الطرائق لبلوغ غايتها من
قلب الشعب الهندي إلى شعب إنكليزي [1] حتى إنها طمعت بما لم يطمع به إلا أبو
مرة من العبث بعقائد المسلمين، واستلانة عرائك المستضعفين منهم، فبثّت بينهم
مبادئ التعطيل، وتعاليم الإلحاد والكفر (النيشرية) ، وأقامت لها دعاة من أنفس
المسلمين ممن استذلهم الشيطان واستهواهم الغرور، وهذا وإن يظهر له أثر في
الآباء، يوشك أن يلصق من لوثه بنفوس خلائفهم وأنسالهم، فليتقِ مسلمو الهند شرَّ
ذلك بنشر التعاليم الدينية، وتخريج أحداثهم ونشئهم على آدابها وعقائدها؛ حتى
ترسخ في نفوسهم وتقيها من ذلك اللوث والطبع. بتعليم أبنائنا لغتَهم ودينهم نصون
أمتنا، ونحمي استقلالها الجنسي من الزوال إلى الأبد؛ بذلك نحارب أوروبا
ونعترض في طريق أطماعها، بتلك القوة الأدبية نقاوم قوتها، ونفل غرب عاديتها.
لا يتخيلنَّ أحدٌّ أن الحرب أو الثورة ضد الأمة المتغلبة هي التي تحرر الشعب
الضعيف وتفتكه من عقال سلطتها وتعيد إليه استقلاله.
ربما كان الهرج والشغْب من أنفذ العوامل في تضاؤل الشعب وتوهين قوته،
وتمكين يد المتغلب من عنقه. حملوا علينا بسلاح علومهم ولغاتهم وآدابهم،
فلنتحصن منهم بمثل تلك القوى، ولنحمل على أيدينا تعاليمنا وآدابنا، وننشر ذلك
بين أبناء ملتنا. لنأخذ بحُجَز أطفالنا عن الوقوع في أسر العدو الأسر الأعظم،
والاندماج في جنسيته والتحول إلى طينته. بعيني رأيت شابًا هنديًا مسلمًا رثََّ الهيئة
يلبث الخلقان والأسمال، وعلى رأسه كمة بالية، دأبه السياحة ومواصلة الرحلة -
وكل هذا منه على سبيل الزهادة ومحاكاة أهل الرياضة - درس العلوم في المدارس
الإنكليزية العالية، وهو يتكلم بالإنكليزية كأحسن متكلم من أهلها، وقد ترشَّح في
تلك المدارس، وتثقَّف عقلُه بعلومها وفنونها، ووقف على دقائقها ونتائج أبحاثها، لا
سيما العلوم الفلسفية والطبيعية. حدثني مَن باحثَه أنه أدهشه بسعة اطلاعه وغزارة
مادته، كان لا يسلك معه مجهلة من مجاهل تلك العلوم إلا ووجده خِرّيتها، ولا هوى
به من هوة عن الدقائق الفلسفية إلا وألفاه عِفريتها، ومما حكى عنه - وهو معجب
بفرط ذكائه - أنه يشرح ما حققه الفلاسفة الطبيعيون في أبحاثهم العصرية المتأخرة
شرحًا يخيل للسامع أن ذلك الشاب هو الذي وضع تلك الأبحاث واستنبط نتائجها،
لكنه - واخيبتاه! - لا يعلم من الإسلامية إلا اسمها، ولا يحفظ من تعاليمها سوى
فاتحة كتابها! . رجوت محدثي عنه أن يجمعني به ومُذْ وقع طرفي عليه تمثلت
لمخيلتي الأطوار الشرقية ملتفة بالغواشي الغربية، رأيت في يده أنبوبة يدخن بها
ويعَض عليها مثلما يفعل أصحابه الإنكليز، فكلمته بالعربية فإذا هو لا يعلم منها
سوى بضع كلمات، واستنطقته بواسطة ثالثنا عن بعض شؤون إسلامية فألفيته خالي
الذهن من أمر الدين، لا يهمه شأنه، ولمَّا سألته عن معلوماته الدينية، قال: إنه
يحفظ الفاتحة! قلت: اقرأها فتلكأ أولاً، ثم مضى في قراءتها على غير سداد،
فأطرقت حينئذ إلى الأرض واجمًا راثيًا لحال الأمة التي يستولي عليها الأجنبي، ثم
حوقلت وانصرفت.
وبالجملة، إن إنكلترا طمعت في ركس (قلب) كل شأن من شؤون الهند
ومسخه وتغييره، سوى تغيير اللون النُّحاسي الهندي إلى اللون الأبيض الإنكليزي.
وما يدرينا أنهم لا يطمعون بذلك أيضًا. علَّهم يلقون على الشعوب الهندية نظامًا عامًّا
يقضي بأن لا يتزوج الهندي النحاسي إلا بأوروبية بيضاء، والأوروبي إلا بهندية،
وهكذا دهرًا طويلاً، فيقاومون بذلك طبيعة الإقليم [2] ويستولدون شعبًا خِلاسيًا [3]
أبيض اللون مكونًا من الشعبين، اللهم غفرًا! .
ولم تألُ الحكومة الإنكليزية جهدًا بمد رواق العدالة والحرية والأمن فوق
الشعوب الهندية، وقد تحبّبت إليهم بما يملكها أزِمَّة أميالهم وعواطفهم، وأمتن آخية
وثقت بها سلطتها في الهند، وأشدها أحكامًا ما فعلته من مزج مالية الشعب الهندي
بمالية الشعب الإنكليزي، وأودعت تلك الأموال في المصارف الإنكليزية في جزائر
بريطانيا، ووحدت بذلك مصالح الشعبين العامة، بحيث تكونت مشروعاتهم الكبرى
وشركاتهم التجارية برجال القبيلين وأموالهم، ثم أخذت تشرف من وراء ذلك على
مجاري تلك الأعمال وجداول هاتيك الأموال، وتجتني لنفسها من كل ذلك ثمرات
سياسية وأدبية قلما يوفق لاجتنائها أحد غير الإنكليز. وقد مضى على إنكلترا في شد
تلك العُرَى والأواخي وتوثيقها سنون وأعوام، وهي لا تزال تواصل العمل في أمثال
ذلك ما واتاها الدهر، وهو مواتٍ. فهل بعد ذلك يجزم جازم بأن روسيا تطرد
إنكلترا من الهند وتقلص ظلال سلطتها عنها؟ ! ، والسداد في الرأي التوقف كما
توقفنا، وترك أمر الغيب إلى مَن تفرَّد بعلمه - سبحانه وتعالى -.
وكيفما كان الأمر، فالأحجى بالحكومتين - الأفغانية والفرنسية - أن تكونا
على حذر ويقظة من شَرِّ الدولتين اللّتين تتربصان بهما الدوائر، وتنتهزا فرصة
الشِقاق بين تلك الدولتين، فتبادرا لرتق الفتق قبل اتساعه، ومواساة العِلَّة قبل
استحكامها، وتسارعا لعقد حلاف بينهما، وشدّ عروة وِفَاق تصونان به أمتهما
ودينهما من الضياع، وتمد أيديهما إلى الحكومة العثمانية، فهي-إن شاء الله تعالى-
تلبيهما كما تلبي الجميع الحكومة المراكشية، فتتم للإسلام وحدة مقدسة؛ يُصان
بها شرفه، وتُحمَى حقيقته.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) المنار: لو كان هذا صحيحًا؛ لنجح الهنديون في دنياهم نجاحًا باهرًا، لكن قصارى ما فعل الإنكليز أنهم لم يجعلوا للهند ملجأً سوى إنكلترا.
(2) المنار: لو حصل هذا لكانت الغلبة لطبيعة الإقليم، ولَتحوَّل الأوروبيون إلى اللون النحاسي دون العكس، ولكن من أين للأوروبيين بمئات الملايين، فيتزاوجون مع الهنديين؟ ! .
(3) بكسر الخاء: الولد بين أبوين أبيض وأسود، والديك بين دجاجتين هندية وفارسية.(2/249)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إزالة شبهة
تُعرف أغراض الجرائد ومقاصدها من مجموع كلامها في الأعداد الكثيرة، ولا
يصِح الحكم على مقصد جريدة بجملة واحدة، يظهر أنها ترمي إلى غرض ما؛ لا
سيما إذا عُهِد منها في الكلام الكثير، تسديد سهامها إلى خلاف ذلك الغرض، أو إلى
ما وراءه، وإنما أصابه السهم؛ لأنه عرض في طريقه. ويعلم جميع قرَّاء (المنار)
أننا في مجموع كلامنا لم نخطئ الغرض الذي وضعناه له في العدد الأول وهو قولنا:
(وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا التحامل على الأمراء
والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة
والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة
في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكَسْب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي
مازجت عقائد الأمة.. .) ، إلى أن قلنا: (.. . وتنبيه العثمانيين على أن الشركات
المالية هي مصدر العمران وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوروبا في الفنون
والصنائع، لا على الملوك والأمراء..) إلخ إلخ.
وقد بيَّنا في أعداد كثيرة من السنة الأولى والثانية، بأن الأمم الشرقية أو
الإسلامية إذا لم تعتمد في تقدمها على أنفسها - لا على حكومتها - فإنها لا تنهض
من هذا الحضيض إلى أبد الأبيد. ولما كان الإجمال قلَّما ينبه الغافل، والهمس لا
يكاد يوقظ النائم المستغرق، صرَّحنا بهذه النصيحة بصوت عالٍ غير مرة. وأشد
صيحة أزعجت السامعين قولنا - في العدد الحادي عشر من هذه السنة -: (إن
أمام المصريين وسائر المسلمين سدًا منيعًا من الوهم، يحول بينهم وبين السير في
طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقِّبوه - ولا أقول أن يدكوه - يتسنى
لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع، وأن ذلك السد
هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم، وسلاسل في
أيديهم، وقيودًا في أرجلهم، وغشاوة على أبصارهم، ووقرًا في أسماعهم، ورَينًا
على قلوبهم.. .) إلخ. ثم تعجبنا من كون المسلمين الذين أظلتهم الأجانب يطمعون
بأن يكون ترقّيهم على يد الدولة العلية مع أنه من الجهالة والحمق أن يعتمد
العثمانيون أنفسهم في ترقيهم على الدولة من دون أنفسهم ما بالك بغيرهم؟ ! ولكن
بعض الذين تمكّنت السلاسل والأغلال والقيود من أعناقهم، وأيديهم وأرجلهم،
وتكاثفت الغشاوة على أبصارهم، وقوي الوقر في أسماعهم، وغلب الرين على
قلوبهم - سلقونا بألسنة حداد؛ لأننا نَهينا مسلمي الهند والجاوه وأمثالهم عن الاعتماد
على الدولة العثمانية، وأراهم سوءُ الفهم أن هذا ينافي ما ندعو إليه في (المنار)
من ارتباط المسلمين بعضهم ببعض بجميع أقطار الأرض. ولو كان المعترِض
صادقًا في حب المصلحة الإسلامية؛ لكتب إلينا حيث كان بعيدًا عنّا بما يراه
صوابًا؛ لأننا قلنا - في المقالة التي ذكرنا فيها ما مرّ - إنه اعتقادنا: (ومن
بيَّن لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه) وكذلك فَعَل بعضُ
المخلصين من المصريين ذاكرنا وفهم قصدنا تمامًا.
ومن البلاء على المسلمين أن كل إنسان يدعي كمال الفهم في علم الاجتماع
الإنساني، والمعرفة بأسباب ترقي الأمم وتدلِّيها، لا سيما إن كان لديه شيء من
الوساوس السياسية التي يتلقفها من الجرائد، ونرجو أن تزول هذه الأوهام بانتشار
علم الاجتماع في الكتب النافعة والجرائد الصادقة. وعسى أن يَعُمّ انتشار كتاب
(سر تقدم الإنكليز) الذي طُبع حديثًا، فيفهم المسلمون أن اعتماد الأمة على
الحكومات القوية المرتقبة - كفرنسا وألمانيا - فيه خطر على مستقبلها، فضلاً عن
الحكومات الضعيفة، فضلاً عن اعتماد الشعوب على الحكومات التي لا تحكمها،
وأن مستقبل السيادة إنما هو للشعوب التي يعتمد أفرادها في سعادتهم على أنفسهم
وعلى سعيهم وجدّهم، وإلى الله تصير الأمور.
__________(2/253)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اختبار علم كل عارف
من ألباء أرباب المعارف
جاءنا تحت هذا العنوان، السؤال المنظوم الآتي وما يتلوه من الذيل المنثور
من حضرة الأستاذ العلامة الفاضل الذي انتهت إليه الرئاسة في علوم الحديث واللغة
وآدابها في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي فنشرناه شاكرين له فضله
وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
أسائلكم أهل المعارف من عل ... إلى السفل والنحرير ينسى ويذهل
فعمّ السؤال العرب والعجم كلهم ... وخص النصارى ذا السؤال المفصل
عن اسمين مشهورين شرقًا ومغربًا ... أتى بهما الخنذيذ الاخطل دوبل
أبو مالك القس النزاري نسبة ... ربيب النصارى الراهب المتبتل
أتى بهشام ثم بعدُ بنوفل ... خلال مديح خالد ليس يجهل
مديح فتى الأعياص خالد مدحه ... فنِعم الفتى يرجى ونعم المؤمل
فأدرج ذين ضمن بيت مهذب ... يقر له بالحسن مَن كان يعقل
(أمية والعاصي وإن يدع خالد ... يجبه هشام للفعال ونوفل)
فمن نوفل بل من هشام وما هما ... أشخصان أم جنسان؟ عن ذاك أسأل
مجاز هما أم في المديح حقيقة ... ألا فليُجب منكم عليم مبجل
فمَن كان نحريرًا أجاب مبيّنًا ... براهين من علم له فيبجَّل
ومن كان ضِلِّيلاً أجاب مموهًا ... أباطيل من جهل به فيجهل
وقال الرسول: حدثوني بعد ما ... على صحبه ألقي سؤالاً، فأجبلوا
سوى ابن أبي حفص الكبير صغيرهم ... درى، وحياء لم يجب حين هلّلوا
وقالوا لِخَير الخلق: ما هي؟ أفتِنا؟ ... وكل امرئ لم يدرِ، يعنو ويسأل
فقال النبي المصطفى: النخلة التي ... لها شبه بالمسلم، القلب مسجل
وذا في حديث الجامع الفرد عندنا ... عليه اتفاق في الصحيح المعول
فهذا الذي سَنَّ الرسول محمد ... لنا؛ لاختبار العلم شرواه نفعل
وأنشأ ذاكم؛ لاختبار علومكم ... محمد محمود الأغرّ المحجل
وسَمَّيت هذا السؤال: (اختبار علم كل عارف من ألباء أرباب المعارف) .
وعَمَّمت ُأهل المعارف من العرب والعجم؛ لعلمي بأن الله عز وجل لم يحصر
العلم في أحد الفريقين دون الآخر، بل أعطى كل عبد من عباده قِسطه منه، لكنه
فضَّل بعضهم على بعض في العلم، تفضيله بعضهم على بعض في الرزق، والعلم
أفضل الرزق؛ لأنه يُعلم به أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والسبب الحامل
على إنشاء هذا السؤال: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، عملاً بما في
باب طرح الإمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم من كتاب الجامع
الصحيح للإمام البخاري، وذلك الحديث من مكرراته المفيدة، والحامل على
تخصيص النصارى بعض التعميم أمور: أولها: كونهم أكثر جنسهم مشاركة للعرب
في لغتهم من زمن الجاهلية، وهلمّ جرّا، ثانيها: كونهم أقرب الناس مودة للمؤمنين،
ثالثها: شدة اعتناء كثير منهم في هذا العصر بتعاطي لغة العرب ووضع التآليف
فيها، رابعها: كون نصارى بيروت هم الذين رفعوا ديوان الأخطل هذا - بطبعهم
إياه - من حضيض العدم إلى أعلى طود الوجود، فلهُم بذلك الفضل على غيرهم،
والحق يقال.
__________(2/254)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة
نَعَتْ إلينا أخبارُ وطننا (طرابلس الشام) صديقنا الشاب الأديب، وغصن
الكمال الرطيب توفيق أفندي نجل عين الأعيان صاحب الفضيلة شنبور زاده عبد
الحميد أفندي العضو العامل في مجلس إدارة طرابلس، فنعزي فضيلة والده، وآله
بهذا المُصاب الذي أحزن القلوب وأبكى العيون.
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156)
***
تخطئة
أسندت جريدة (انتباه) التركية الجديدة - في عددها الأول - جملة إلى (المنار)
تتعلق بجلالة مولانا السلطان الأعظم، و (المنار) بريء منها، فننبه القرَّاء إلى
ذلك.
__________(2/256)
29 صفر - 1317هـ
7 يوليو - 1899م(2/)
الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
ذكرى تمثل إعراض الناس عن أسباب سعادتهم، وضعها في سمط الأساطير
الخرافية التي كان يعتقدها قدماء اليونان المرحوم عالي بك أحد مشاهير كُتاب
الأتراك، فهي جد في قالب هزل، وموعظة في ثوب فكاهة، وقد نقلناها عن
ترجمة الكاتب البارع عمر خيري أفندي زغلول بتصرف كثير وهي:
سنح في خاطر (جوبيتر) الذي كان أكبر المعبودات عند اليونانيين الأولين
أن يجعل الناس كلهم سعداء، ويفيض عليهم الخيرات والبركات، فكاشف بما في
ضميره مستشاريه (نبتون) إله البحر و (بلوطون) إله الجنة، فأظهرا الدهشة
والإعجاب، واستهزآ بفكر مولاهما، ونسباه في أنفسهما إلى أفِن الرأي وسوء
التدبير.
ولقد كان هذا المعبود لا يتوانى في تنفيذ ما يعن له من الخواطر، ولا يتقاعد
عن إخراج مقاصده من القول إلى الفعل، وإن كانت من المستحيلات العادية تفكر
مليًا في هذا الأمر، ثم وجه نظره إلى السماء وحدّق إلى الكواكب السبعة السيارة؛
فتراءى له أن يعهد إليها بتنفيذ إرادته، فأمرها بالاجتماع في مكان واحد، فاجتمعت
فلما رأى أهل الأرض السيارات مجتمعات أخذتهم الحيرة، وشخصوا بأبصارهم إلى
السماء ذاهلين، وطفق المنجمون يخرصون ويخدعون الناس بأن هذا الاجتماع
المدهش علامة على قيام الساعة. ولما اجتمعت السيارات عند المعبود الأكبر دارت
بينهن وبينه هذه المحاورة.
السيارات: ها نحن أولاء قد جئناك - يا مولانا - فمُرنا بما تريد.
جوبيتر: عليكن بتجهيز أنفسكن للسفر، فقد اقتضت إرادتي أن تذهبن
إلى السياحة على سطح الأرض، فقد جعلت لكل منكن دينارًا للنفقة في كل
يوم.
السيارات: ما هو العمل الذي انتُدِبنا له، والخدمة التي سنؤديها؟
جوبيتر: قد ارتأيت أن أجعل الناس ناعمي البال، رافِلين في حُلل السعادة
والهناء، ورأيت من الصواب أن أبيعهم أسباب السعادة بيعًا؛ لأنني إذا أنعمت بها
عليهم إنعامًا بغير مقابل يستهينون بها؛ إذ لا يعرفون قيمتها، ولا يقدرونها حق
قدرها.
السيارات: سمعنا وأطعنا، فما هي بضاعتنا التي سنبيعها؟
جوبيتر: قفن أمامي صفًا، ثم امررن واحدة واحدة.
فامتثلن أمره ولما مرّت الأولى قال لها: أنتِ تبيعين (الذكاء والفَطانة) ، وقال
للثانية: وأنتِ تبيعين (العفة والاستقامة) ، وقال للثالثة: وأنتِ تبيعين (الصحة
والعافية) ، وللرابعة: وأنتِ تبيعين (طول العمر) ، وللخامسة: (الشرف والجاه) ،
وللسادسة: (الصفاء والمسرة) ، وللسابعة: (النقود والثروة) .
هذه الأشياء هي أسباب السعادة، ولا تتم للناس السعادة التي يطلبونها من
معبوداتهم في صلاتهم ومناجاتهم إلا بها، فعليكن - أيتها السيارات - بالجد
والاجتهاد في بيعها منهم؛ ليتمتعوا بالسعادة التي يطلبونها، وينجون من الشقاء
المحدق بهم، الذاهب بهنائهم ورفاهتهم. ولقد كان المعبود الأكبر يُشرف على
السيارات بالأمر والإرشاد، ويَدُلُّهن على طرق السعادة، والمعبودان (نبتون) ،
و (بلوطون) يستهزآن بهذا الرأي المأفون، ويقولان بلسان الاستغراب: إن هذا لشيء
عُجاب، وبعد أن تجهزت السيارات للرحلة الأرضية، وأحضرن بضاعتهن
السماوية في صناديق بديعة الصنع محكمة الوضع، هبطن إلى العوالم السفلية،
فكان نزولهن في عاصمة من عواصم الممالك الشرقية، فطفقت السيارة الأولى تنادي
بأعلى صوتها في الأسواق والشوارع (ذكاء وفطانة للبيع، ذكاء وفطانة طرية عال
هل من راغب، هل من مريد؟!) فأقبل الناس إليه يزفون، من كل حدب ينسلون
فاختلفت فيها الأقوال لاختلاف الوجدان والانفعال، فقال أصحاب الجرائد والمؤرخون
ومؤلفو الروايات والممثلون: هل جُنَّّت هذه الفتاة، أم غلبت على بائعة الفطانة بلادة
الحيوانات؟ ! وقال الشبان - الذين شاهدوا جمالها الرائع -: بئس المبيع وحبذا
البائع؛ فتاة حسناء، وغادة هيفاء، لكننا نغازلها باللحاظ، فلا تدير إلينا طرفًا،
ونناديها بأرق الألفاظ فلا نسمع منها حرفًا، فالظاهر أنها مملوءة بالتعصب،
وذلك مما يوجب التأسف والتعجب، وقالت النساء: لا شك أن هذه الفتاة مختلة
الشعور؛ حيث جاءت بهذه البضاعة التي تكسد في كل مكان وتبور، ولولا نقص
عقلها لعلمت أننا لا حاجة لنا بالذكاء والفطانة، ولا بالعقل والرصانة، فإن عندنا
الأنسجة الحريرية، والحلي الذهبية والجوهرية، وهل تستلفت الفتاة أنظار الشبان
بالفطنة وذكاء الجَنان، أم بالحرير ذي اللمعان والألماس واللؤلؤ والمرجان؟!
وقد أجمعت الآراء على أن تلك السيارة ستموت جوعًا إذا بقيت في تلك
العاصمة؛ لأنه لا يوجد فيها من يرغب في بضاعتها، وبعدما ملت من الجولان،
وتعبت منها القدمان، رأت بابًا مفتوحًا وعليها أمرة (يفطة) أميرية، مكتوب عليها
(نِظَارة المعارف العمومية) ، فقالت: ما أحوج أهل هذه الصناعة إلى ما عندي من
البضاعة، فههنا يحصل الرواج، وأُقابَل بالترحاب والابتهاج، ودخلت الباب مع
الداخلين، وترددت فيه ذات الشمال وذات اليمين، وأنشأت تنادي بصوت يقرع
جميع الآذان، ويستلفت كل ذي جَنان، فأثار نداؤها غضب الرئيس والأعضاء،
وقالوا: ما لنا وللفطانة وللذكاء! ، ثم قرروا - باتفاق الآراء - طرد السيارة من
تلك البطحاء، وصدر أمر الرئيس للحُجَّاب، الذين يقفون خارج الباب، بأن يمنعوا
بائعي الأشياء التي لا تنبغي للمجلس من الدخول، وأنه لا عذر لهم - في إدخالها -
مقبول، فخرجت السيارة تمشي على استحياء، يتنازعها عاملا اليأس والرجاء، ثم
رأت من الحزم تغليب عامل الأمل؛ لأنه لا ينجح بدونه عمل، وقالت: بالصبر
تَنفق السلع الخسيسة، فكيف لا تروج البضاعة النفيسة؟ ! ، ثم مضت في تطوافها
وتجوالها حتى انتهت إلى بناء كبير، قد اجتمع عنده خلق كثير، أخلاط من الوجهاء
والغوغاء، علت لهم جَلَبَة وضوضاء، فصاروا يتخاطبون بالإشارة، حيث لا تُفهم
العبارة، فقالت: لا شك أن هؤلاء الناس قد استحوذ عليهم الخبل والوسواس، فهم
لهذه البلادة والبلاهة في أشد الحاجة إلى الذكاء والفطنة والنباهة، فخاضت غمار
القوم، رافعة صوتها بالسوم، فلم يسمع أحد كلامها، ولا أُجيبت على سوامها،
حتى مرّ بالقرب منها رجلان في يد أحدهما نمط صغير (شنطة) ، ومع الآخر قلم
ودفتر يكتب فيه أرقامًا، فقالت لهما السيارة: هل لكما رغبة في الذكاء والفطانة؟ ،
فتوهم الرجلان أن الذكاء والفطانة نوعان من السهام المالية، قد أُنشئت لهما شركة
مساهمة حديثة، فانصرفا ولم يستوضحا منها عما تقول، وعلمت هي أن ذلك المكان
هو (البورصة) ، فاستأنفت النداء والسوم، فمر بها أحد الدلاَّلين وجرت بينهما هذه
المحاورة، (الدّلال) : ما هي بضاعتك؟ (السيارة) : الذكاء والفطانة،
(الدلال) : ذكاء ... فطانة ... ، (السيارة) : ألا تدري ما هو الذكاء والفطانة؟
(الدلال) : لا، ولكن قد بلغني عنهما شيء، وأذكر أنني سمعت هذين اللفظين من
قِبَل، (السيارة) : إذن خُذْ لك منهما شيئًا ولو يسيرًا، (الدلال) : هل هما من
السهام المقبولة في البورصة؟ (السيارة) : لا، (الدلال) : إذا لم يكونا مقبولين
في البورصة، فلأي شيء جئت بهما إلى هنا.
وبعد انتهاء الحديث، نُمِّي خبرها إلى الشرطة (البوليس) ، فأُلقي عليها
القبض؛ لإقدامها على بيع سهام غير مقبولة في البورصة، ولكن رئيس الشرطة
(القومسير) كان دمث الأخلاق رقيق الجانب، فعذر السيارة بجهلها، وعدم وقوفها
على طباع أهل تلك المدينة، فلم يعاملها بما يوجبه النظام من السجن والتغريم،
واكتفى بطردها وإبعادها عن تلك العاصمة؛ فرجعت أدراجها راضية من الغنيمة
بالإياب!
(سيأتي خبر بقية السيارات)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/257)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(10)
بقي علينا من الحكومات الأربع (الحكومات العثمانية) ، وهي ليست بأقل
تعرضًا للأخطار من أخواتها الثلاث الأُخَر، بل ربما كانت الدول الغربية أضرى
بها وأشد تكالبًا عليها، وزِدْ على ذلك أن الطمع في الحكومات الأُوَل مقصور على
دولتين أو ثلاث، أما الطمع بهذه الدولة - صانها الله - فوباء عام قد تفشى وخمه
بين الدول - كُبراها وصُغراها - من يُصَدِّقني إن قلت: إن دولة اليونان، ممن
يحلم بتبوأ فرق فروق (أي أعلا الآستانة) ؟ مَن يصدقني إن قلت: إنها تعربد
بنشر رفات الإمبراطورية الرومانية الشرقية من أجداث العدم؟ نعم، إنها تُعربِد
بإنشاء تحالف سياسي يطوي تحته الشعوب البلقانية بأجمعها، ويتولى ملكها زعامة
هذا التحالف الكبرى، وتكون قاعدته القسطنطينية متبوأ قياصرة المملكة الشرقية
المنقرضة، ويحتفل بتتويجه فيها. وقد أعتدت اليونان لأجل الاحتفال بهذا التتويج
كل المُعَدَّات الوهمية والأدوات الخرافية، ولم يبقَ عليها من ذلك سوى شيء واحد
أعوزتها الوسائل للوصول إليه، ولم تهتدِ لوجه الحيلة فيه، وأخيرًا فرضت على
نفسها جُعلاً وافيًا مما هي فيه من البهر [1] المالي لكل رومي (إذ غير الرومي لا
يحسن ما يحسنه) : يجوس خلال برازخ الأموات، ويتلطف ويختلس تاج
الباليولوغوس [2] عن مفرق آخر ملوكهم قسطنطين ويأتيها به؛ لكي تضعه على
هامة ملكها مُذْ يحتفل بتتويجه إمبراطورًا على ذلك التحالف الموهوم. ولنأتِ على
ذكر الأخطار المُحْدِقة بالحكومة العثمانية وولاياتها، والإيماء إلى نسور المطامع التي
تحوم عليها.
في الممالك العثمانية ولايتان تود الشعوب الإسلامية لو تشيد حولهما أسوارًا من
أفئدتها، وتناضل عنهما عِوَضًا من حبَّات الرصاص بحبات قلوبها، ولها كلف ببقاء
الاتصال البري بين تينك الولايتين، ولو بجسور من رقابها، وولوع بحفظ السكة
العسكرية التي تربطهما، وإمداد تُرَابها وحصاها، ولو بذرات أجسادها وشظايا
عظامها، لو أشرفت على شغاف قلوبهم؛ لرأيت فيه رسم هاتين الولايتين ارتسام
الصور الفوتوغرافية في ألواحها، بل لو تسمَّعت لخَرير دمائهم في مجاري عروقهم
لسمعتها تنطق بلسان فصيح عن ولاية الحجاز - ذودًا ذودًا - عن ولاية الآستانة -
دفاعًا دفاعًا - نعم، مهما غَلَوْنَا في وصف مكانة هاتين الولايتين من أنفس المسلمين
كنا مضجّعين مقصّرين. الولاية الحجازية مناط قيام دينهم، وأُسّ مكين ترفع عليه
صروح مِلتهم، وولاية القسطنطينية منقبتهم السياسية، ومجد حياتهم التاريخية،
ففي سقوط الولايتين سقوط للدين والشرف، نستعيذ بالله! نستعيذ بالله! .
العناصر الأصلية التي يتكون منها جسم المملكة العثمانية هي العنصر التركي
والعربي والكردي والأرمني والأرنؤوطي والرومي. ويندمج في مَطاوي تلك
العناصر الستة طوائف أُخَر حقيرة، لا شأن لها ولا غناء عندها.
أما العنصر التركي، فمجتمع في صعيد واحد قطبه الآستانة، ويشغل ما على
جنابتيها من الولايات المحدودة من جهة الرومللي بحكومة البلغار وولاية مكدونيا
ومن جهة الأناضول بولايات الأرمن والأكراد وسوريا، وهذا العنصر هو حياة
الحكومة العثمانية وبه قوامها؛ ولذا كان استواء الأجنبي على الآستانة استواء على
الممالك العثمانية بحذافيرها.
وأما العنصر العربي فيشغل أصقاعًا متشتتة - سوريا طرابلس الغرب والحجاز
واليمن وضفاف النهرين. ولا يحدث في الأصقاع التي يقطنها هذان
العنصران - التركي والعربي - قلاقل داخلية مهمة وتشعبات سياسية ذات شأن،
كما يحدث في الولايات التي تقطنها العناصر الأربعة الأُخَر؛ لأن كلاً من العنصرين
التركي والعربي صِرف، لا يمازجه غيره. ونعني بالتركي والعربي مَن يتكلم
بالتركية والعربية - مسلمًا أو مسيحيًا -، فما كان من ولاية تركية يقطنها أهل
ملتين كولاية أزمير مثلاً، لا تسمع فيها لاغية فتنة قط، وكذا الولاية العربية التي
من هذا القبيل كولاية بيروت. وما يصل إلى الآذان أحيانًا من هماهم ودمادم [3]
يتساود [4] بها القوم في أنديتهم، فإنما هي كبوارق تعترض من الأفق في ليالي
الصيف، لا صواعق تصحبها، ولا سيول تعقبها، ومنشؤها جهل أحداث ونزق
أغرار، يتكفل بمحو ذلك من نفوسهم انتشار التعليم والتهذيب [5] ، فالولايات التركية
والعربية في مأمن من شبوب نيران فتن الأجنبي، للمداخلة في شؤونها على نورها،
وهو إن طَمِع فيها، فإنما يُطمعه ضعف المملكة العمومي، وتراخي إداراتها
الداخلية.
فانظر إلى اللغة كيف تحنو على المتكلمين بها وترثي لتبددهم؟ ! ، فتسعى في
ضم أهوائهم وتوحيد مشاربهم، وتورثهم تحابًا وائتلافًا، وإن كانوا ذوي مِلَل مختلفة
ونحل متباينة، فتوحيد اللغة من أقوى العوامل في إسعاد الأمة، وأقرب الوسائل لِلَمِّ
شَعَثها، وهي المتكفّلة بتوثيق أواخي الإخاء، وسد منافذ الشقاق بين المتكلمين بها
على شريطة أن يكون ذلك الشعب المتوحد في اللغة، المتفرق في المذهب، على
مقربة من التهذيب، وفيه عبقة من المدنية، وإلا اعترض علينا بلبنان فإن لغته
واحدة مع أن اختلاف ملِلَه أرهق أهله ويلاً، وجَرَّ عليهم من المصائب ذيلاً.
ويُقال - في رد الاعتراض -: إن شعب لبنان لعهد استشراء الفتن فيه كان
في غمرة مِن توحش، وغشاوة من جهل، مما أعان على ذلك من انتشار شياطين
الأغراض بين طوائفه، يوسوسون إليهم بالمواثبة، ويسولون لمناصبهم (زعمائهم
وهي كلمة عرفية هناك) المناصبة، حتى كان من أمره ما كان.
ولنرجع إلى العناصر العثمانية فنستوفِ أقسامها، بقي شفعان، كل شفع منهما
يقطن صقعًا واحدًا، فالشفع الأول الكردي والأرمني يشغل الصقع الواقع في نهاية
آسيا الصغرى لجهة الشرق، المحفوف بولايات الأناضول وسوريا والعراق
والعجم، والروسية، والشفع الثاني الأرنؤوطي، والرومي يشغل صقعًا واحدًا أيضًا،
ويسمى مكدونيا وهو الذي تحتفِ به ولايات البلقان والآستانة واليونان، وهذان
الشفعان أضرّ بهما اختلاف اللغة وتباين المشارب، فباعد بين الآحاد المكونة لهما،
وخالف بينهم في الأهواء والأخلاق والعادات والآداب؛ فتمهدت بذلك سبل المداخلة
الأجنبية فيهم، وانبعثت رسل الأطماع تجوس خلالهم وتوقظ آمالهم، حتى حدث
لعهد قريب ما حدث من الفتن الأرمنية التي وقعت رزاياها من تلك الديار مواقع
القطر، ورمت أهاليه من وطيس أذاها بشرر كالقصر. وكريد وإن لم تكن من
مكدونيا - لكنها كقطعة منها من حيث مشارب سكانها ومنازعهم، وكلنا يعلم ما
جرى في تلك الجزيرة، وما آل إليه الحال فيها، وكيف تلاعبت بها السياسات
والأطماع تلاعب الرياح بالسفينة ذات الشراع، ولم يكد يهدأ اضطرابها وتفتأ
ثوراتها حتى نجمت رءوس الشقاق والفتن في مكدونيا، وانغمس أهلوها بالشغب،
وطفقوا ينسجون على المنوال الذي نسجت عليه كريد، ولا نعلم كيف يكون نسيجهم،
وماذا يلبسون منه.
هذه مصاصة من شؤون ولايات الحكومة العثمانية الداخلية، ولنسردها الآن
واحدة فواحدة، ونلم بشيء من تعلق سياسة الدول بها وأطماعها فيها.
(طرابلس الغرب) تحالف الدول بتطلب وصالها دولة إيطاليا وهي إن
لم تكن تجاورها برًّا، فإنها (تصافها) بحرًا، وقد كان لهذه الدولة أماني
أشعبية في تونس؛ لشدة قربها منها، وأكثر ما أرادتها على الخضوع لها واحتالت
لتناول قيادها؛ فأخفقت سعيًا لما أن فرنسا أولى لدفعة منها فيها لاتصالها بها برًّا.
وقد انتطحت الدولتان في شأن تونس والاستئثار بالنفوذ فيها انتطاح الكباش، وكان
الفلج أخيرًا لفرنسا، فاضطرت إيطاليا للتسلي بطرابلس الغرب، والتعلل بأماني
وصالها. وليست في هواها هذا بأخسر منها صفقة في هواها الأول، لما أنه إن
شاركها في تونس شريك واحد فلها في طرابلس شريكان، فرنسا غربًا وإنكلترا في
مصر شرقًا، لا سيما وليس لها من القوة الحربية والمقدرة المالية ما يساعدها على
نيل أمانيها، فلا نراها إلا خائبة كما تخيب صاحبتها أسبانيا في مراكش.
أما إنكلترا فتطمع في تلك الولاية، لكن طمعها بالولايات المعترضة في سبيلها
إلى الهند أشد وأقوى؛ فهي ربما تساهلت مع فرنسا في أمرها وأغضت لها عنها؛
لكي تكافئها هذه بمثل ذلك في مواطن أطماعها ومواقع أمانيها، وربما تذرعت بهذا
التساهل لحمل فرنسا على أن تناصفها إفريقيا، وتستأثر هي بالنصف الشرقي كما
هو متمناها. فقد ظهر الآن أنه ربما يخلو الجو لفرنسا في شأن طرابلس الغرب،
وإعمال أطماعها فيها. ومما يزيدها طمعًا وقوع تلك الولاية في شمالي قسم كبير من
الصحراء الإفريقية، وهي عاملة على التِهَام تلك الصحراء برمالها وعواصفها، وإن
شئت قلت: بسفائنها وأمواجها لما أنها يأملون بتحويل هذه الصحراء إلى بحر عجاج
متلاطم بالأمواج، ويتم ذلك العمل بواسطة بثق البحر المتوسط (أي: كسر حافة
وشطه؛ لينفجر الماء إلى ما تحته) من سواحل تونس أو طرابلس. وكيفما كان
الحال، فولاية طرابلس ستكون مركزًا مهمًا لإنجاز هذا المشروع الأعظم، وموطنًا
لإدارة أشغاله وأعماله (أي إذا تمَّ لهم أملهم، لا سمح الله!) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) البهر: الضعف الشديد، وأصله: انقطاع النفس من الإعياء.
(2) اسم العائلة التي هي آخر ملوك القسطنطينية.
(3) الهمهمة: الكلام الخفي، والدمدمة: الكلام بغضب، جمعهما: هماهم ودمادم.
(4) أي يتسار؛ لأن المتسارين يحني كل منهما سواده - أي جسمه - للآخر.
(5) آه لو كان التعليم بصبغة وطنية، لكنه من الأجانب، فمتى يفيد هذه الفائدة؟ ! .(2/261)
الكاتب: نصير الدين أفندي أحمد محرم
__________
الشعر العصري
لحضرة الشاعر العصري المجيد نصير الدين أفندي أحمد محرم
هل الدين إلا ما رأى المتأمل ... فماذا نرجّي أو، فمَن ذا نؤمّل
تحمل عنا اليوم، أو كاد ركبه ... حَنَانَيْكَ فينا أيها المتحمل
حنانيك فينا إن تكن ثَمَّ ريبة ... فإن عقابًا يدرأ الشر أجمل
غوينا، فلا الداعي إلى الخير بيننا ... يُعان، ولا الداعي إلى الشر يخذل
ألا رب هادٍ مرشد، خاب سعيه ... وقد كان عهدي أن يخيب المضلل
عذلنا غُواة الناس، فازداد غيّهم ... كذاك غواة الناس أيَّان تعذل
أيا قومنا، والنفس جمّ عناؤها ... أما فيكم من ذي رشاد فيعقل؟ !
ألمّا يَئِنْ أن تبصروها محجَّة ... هي الحق ما عنها لذي الحق معدل
دعونا فأسمعنا إليها كما دعا ... فأسمع رعد في السماء مجلجل
وجدناكمو في مجهل من أموركم ... وكل أمور المبغض النصح مجهل
لقد قتلت منكم نفوس كرائم ... وقد تتبع الغيّ النفوس فتقتل
بنى لكم الآباء مجدًا مؤثلاً ... تساما فما يحكيه مجد مؤثل
سلامٌ عليكم كيف مالت عروشه؟ ... وكيف هوت أطواده الشمّ من عل؟
غدا دارسًا كالربع عفى رسومه ... جنوب تجر الذيل فيه وشمأل
أصم إذا ساءلته عن قطينه ... وهل يسمع الربع اليباب فيسأل
بَني الدين يدعوكم إليه نصيره ... فلا تخذلوه يا بني الدين تخذلوا
دعوتكم إني إلى الله راغب ... وإني بأن أدعوكم لموكل
وفي النفس مما استودع الدين حاجة ... تجيش لها همًا كما جاش مرجل
فإن أبدها هالت وإن أخفها أبت ... فيا ليت شعري أي أمريّ أفعل
جهلتم فأنآكم عن الخير جهلكم ... ألا هكذا شأن الفتى حين يجهل
عدلتم عن النهج السويّ وجُرتم ... أما فيكم مَن لا يجور ويعدل؟ !
لقد عطلت تلك الحدود ولم نكن ... نخال حدود الله يومًا تعطل
ألا ليت شعري والحوادث جمة ... تجدّ بهذا الخلق طورًا وتهزل
أبدّلت الأرضون والناس أم ترى ... ليالينا اللائي بنا تتبدل
أَهَبْت فهل أسمعت أم تلك دعوة؟ ... تظل بها هوج الرياح تنقّل
عفاء على الدنيا إذا الدين لم يسُد ... عليها كما قد كان والدهر مقبل
***
هذه قصيدة الشاعر المفلق نابغة شعراء المشرق. حضرة محمد أفندي حافظ
يهنئ بها حضرة العلامة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية لتوليه منصب
الإفتاء الجليل:
بلغتك لم أنسب ولم أتغزل ... ولما أقف بين الهوى والتذلل
ولما أصف كأسًا ولم أبكِ منزلاً ... ولم أنتحل فخرًا ولم أتنبّل
فلم يُبق في قلبي مديحك موضعًا ... تجول به ذكرى حبيب ومنزل
رأيتك والأبصار حولك خُشّع ... فقلت: أبو حفص ببرديك أم علي
وخفّضت من حزني على مجد أمة ... تداركتها والخطب للخطب يعتلي
طلعت له باليُمن من خير مطلع ... وكنت لها في الفوز قدح ابن مقبل
وجردت للفُتيا حسام عزيمة ... بحدَّيه آيات الكتاب المنزّل
محوت به في الدين كل ضلالة ... وأثبت ما أثبت غير مضلل
لئن ظفر الإفتاء منك بفاضل ... لقد ظفر الإسلام منك بأفضل
فما حل عُقد المشكلات بحكمة ... سواك ولا أربى على كل حوّل
هذا ما جاء في مصباح الشرق بنصه، وما كان مصباح الشرق مبالغًا في مدح
هذا الشاعر البليغ، ولقد هُنِّئ الأستاذ بقصائد كثيرة منها ما نُشر في الجرائد،
ولكن ما كان أحد منهم ليداني محمد حافظ أفندي، بل قلَّما رأينا في منظوم العصر
مثل هذه الأبيات في جزالتها العربية وبلاغتها، فإذا ظل الحافظ حافظًا لشعره
بإحلاله محله، ووضعه في مواضعه، كهذه المرة، وبالنظم في المسائل الاجتماعية
(كالقصيدة السابقة) - لا بد أن يكون له في عالم الآداب العربية مكان رفيع.
__________(2/265)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع مالية الدولة)
لو أن تحويل الديون الممتازة كان قاصرًا على تلك المَزِيَّة لم يكن فيه أدنى
فائدة عاجلة للخزينة العثمانية، وإن كان قد يفيد من حيث حالة الدين العمومي في
تركيا، في هذا المقام قد تجلى لأعين الناس حِذق جلالة السلطان في الأمور بأعجب
منظر وأبهاه، فإنه قد حمل أرباب الدَّيْن الداخلي المتداول، وهم حَمَلَة الأوراق
المسماة بالسهام المؤقتة والاستقراضية على الانتفاع من هذا التحويل، أخذ الوكلاء
الماليون المكلَّفون بتحويل الديون الممتازة على أنفسهم أن يقترضوا خمسة ملايين من
الجنيهات المجيدية بإصدار سهام ربح كل منها أربعة في المائة، وله من أجر
الاستهلاك واحد في المائة، خصص من هذا المبلغ نصفه (مليونان ونصف)
لتحويل الأوراق المسماة بالسهام المؤقتة وغيرها، وخصص 100000 لدفع بعض
مطاليب الخزينة العثمانية، أما باقي المبلغ - وهو مليون ونصف - فقد واظب
أولئك الوكلاء على أخْذه بسعر 75 باعتبار جملة السهام المصدرة، ودخل بسبب
ذلك في خزينة الحكومة التركية مبلغ 1100000 جنيه مجيدي.
قد نُشر في 3 يونيه سنة 1870 في جرائد القسطنطينية مذكرة رسمية بيّنت
حالة تحويل جزء من سهام الدَّين المتداول؛ فجاء فيها أن الأوراق المسماة بالسهام
المتحولة والجديدة والعادية والمؤقتة والاستقراضية ذات التحويلات الأهلية [1] (وهذه
السهام هي أوراق الدَّين الأهلي المقترض أثناء الحرب التركية الروسية وبعدها) ،
يجب أن تبدل بالسندات الجديدة التي تدفع قيمتها لحاملها المسماة بالسهام التركية.
حدد رأس المال الذي أُرِيدَ تحويله على هذه الطريقة، وهي:
(1) بالنسبة للسهام المحوّلة والجديدة حدد بمبلغ مساوٍ لربحها مدة عشر سنين
محسوبًا هذا الربح بالسعر المقرر لهذه السهام.
(2) بالنسبة للسهام العادية والمؤقتة حُدد بمبلغ مساوٍ لربحها مدة ثمان سنين.
(3) بالنسبة للدّين الداخلي برأس ماله الموجود.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: الأصل المنقول عن الإنكليزي هكذا: (بأهيل تحويلاتي) ، فليُتَأَمَّلْ.(2/268)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أرزاء وطنية
ما مرّ هذا الأسبوع على مصر إلا وهدم للعلم أركانًا، وقوّض للفضائل
والمكارم بنيانًا.
ففي يوم السبت (الماضي) باغتت المنية العلامة الجليل الشيخ حسن الطويل
أحد أركان النهضة العلمية الأدبية في مصر. شَرَع الفقيد في طلب العلم، وهو في
سن العشرين؛ فنبغ في العلوم الأزهرية في مدة قريبة، ووجّه عنايته للعلوم
الرياضية والفلسفية، وكانت قد ركدت ريحها في الأزهر من عهد بعيد، فتناول منها
بنفسه ما يعز تناوله من غير تلقٍّ إلا على أفراد أصحاب العقول الكبيرة، فالتفّت
عليه أذكياء الطلاب يتلقون عنه الحكمة، ولما قدم السيد جمال الدين الأفغاني الحكيم
الشهير إلى مصر، وتصدى لقراءة العلوم العقلية والحكمة، كان جُل مَن حضر عليه
وأخذ عنه من الأزهريين من تلامذة الشيخ، فكان بذلك ممهدًا له، أما الشيخ نفسه
فلم يتلقَّ عن السيد شيئًا، وإنما كان يزوره قليلاً، وجاء في المؤيد ما نصّه: (ومع
أنه لم تكن بين السيد جمال الدين وبين الشيخ حسن الطويل صلة وداد، كان يقول
السيد: ليس في علماء الأزهر كالشيخ الشربيني والشيخ الطويل) ، وبالجملة كان
الشيخ - رحمه الله تعالى - في مقدمة الطبقة الأولى من علماء الأزهر الشريف،
ومتميزًا عن عامة علمائه بكثير من الفنون، وقضى عمره بالتدريس فيه، وفي
مدرسة دار العلوم الأميرية، وتخرّج على يديه كثير من العلماء الأفاضل والشبان
النابغين.
أما سيرته في أخلاقه وآدابه، فقد كان سليم الصدر، طاهر السّريرة، عفيفًا
متواضعًا، زاهدًا حرًا، لا يخاف في الحق لومة لائم، فيُصَرِّح بانتقاد الحُكّام في
السياسة، كما يصرح بانتقاد سائر الناس في عاداتهم التي أضرّت بدينهم ودنياهم،
ولا سيما الغُلوّ بتعظيم القبور وطلب الحوائج من الأموات؛ ولذلك كان يخوض في
دينه بعضُ الناس الذين لا يعرفون من الدين إلا ما عليه الناس، ولا حجة لهم على
ما يعرفون إلا سكوت أكثر أرباب العمائم عن المنكرات الفاشية، وتأويل بعضهم لها،
وإنني أعد هذا من مناقب الشيخ كما أعد مثله من مناقب السيد جمال الدين؛ لأن
جميع الذين امتازوا في عصرهم بالعلوم العقلية والاستقامة كانوا يُرمون بمثل ما
رُمي به هذان الفاضلان (راجع تاريخ الإمام الأشعري والإمام الغزالي، وأضرابهما) .
تُوفي - رحمه الله تعالى - فجأة عن نحو 75 سنة، ولم تكد الدهشة بفجيعته
تزايل القلوب، وتجف لها الغروب حتى تأثرتها.
***
الفجيعة الثانية
ففي يوم الاثنين (25 صفر) قضى أستاذ العلماء الأكبر، وقطب الفقه
النعماني والمحور، مولانا الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخ الجامع الأزهر.
قضى إثْر أَلَم ألمَّ به في صبيحة ذلك اليوم، ولم يمهله إلى مسائه، ففاضت روحه
الزكية وقت العصر من ذلك اليوم، وكان - سقى الله لَحْده - من أكابر علماء
الأزهر، وله براعة في الفقه الحنفي قلَّما يساويه فيها أحد، وقد تقلب في المناصب
الشرعية الدينية؛ فكان فيها مِثال العفة والاستقامة، وقد أُسنِدت إليه مشيخةُ الأزهر
الشريف من نحو شهر، وكان مفتيًا للحقانية، وعضوًا في المحكمة الشرعية العليا،
ومن ورعه وتَحَرّيه ما أخبرني به أحد أعضاء هذه المحكمة من أنه كان لا يوافق
على حكم من الأحكام ما لم يراجع عنه ويشاهد النص، وإن كان قريب عهد
بالموافقة على مثله عن مراجعة؛ لأنه يرى أن الدعاوي - وإن تماثلت - فاحتمال
الذهول أو الخطأ في المراجعة التي بُني عليها الحكم الأول يقضي بالتكرار لتطمئن
النفس.
أما لين جانبه ومكارم أخلاقه، فحدِّثْ عنها ولا حرج. وقد احتُفِل بتشييع
جنازته ودفنه في اليوم التالي ليوم موته (الثلاثاء) بما يليق بمقامه ومنصبه -رحمه
الله تعالى رحمة واسعة!
***
الفجيعة الثالثة
وبينما الناس يؤدون سُنَّة التعزية بفقيدي العلوم والفضائل، إذ صاح بهم نعي
رب المكارم والفواضل. قد مات عثمان باشا ماهر. صاحب المبرات والمآثر.
وكانت وفاته في مساء يوم الثلاثاء على فراش المرض، وماذا عسانا نَذْكُر من
خيراته ومبراته، وقد وقف جميع أطيانه الواسعة على إحياء العلوم الدينية والعربية
كما ذكرنا ذلك في (المنار) من قبل، وقد تقلب في المناصب والوظائف، وكان
رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى قُبيل مرضه الأخير، وعضوًا وطنيًا في
مصلحة الأراضي الأميرية حتى الموت. وقد احتُفِل بتشييع جنازته في صبيحة يوم
الأربعاء احتفالاً موافقًا للسنّة الشريفة، فلم يمشِ فيها حَمَلةُ المجامر والقماقم،
ونحوهم، رحمه الله تعالى عداد حسناته، وأسكنه فسيح جناته!
***
المصيبة الرابعة
وفي يوم الأربعاء استأثرت رحمة الله تعالى بالعلامة المدقق، والمؤرخ المحقق
أوحد علماء الأزهر في فنون الآداب والتاريخ، الشاعر النَّاثِر الشيخ عثمان مدوخ،
ومن مزاياه أنه كان أعرف الناس بخطط مصر وآثارها، ويقال: إن علي باشا
مبارك كان يَرْجِع إليه في أثناء الاشتغال بتأليف خُطَطِه المشهورة، ويستفيد منه،
وقد احتُفل بتشييع جنازته في يوم الخميس الماضي، تغمده الله برحمته الواسعة!
***
تعلقت إرادة سمو الخديوي المعظَّم بتعيين العلامة الشهير الشيخ سليم البِشْري
شيخ السادة المالكية شيخًا للجامع الأزهر الشريف، فنسأل الله تعالى أن يجعل أيامه
أيام نجاح وتقدم في الإصلاح! ونقدم التهنئة لفضيلته بهذا المنصب الجليل!
__________(2/269)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
يستحيل إرضاء الناس
لما كان (المنار) في شكله الأول رغب إلينا الكثيرون من القرّاء بأن نجعله مجلة؛ ليسهل عليهم حفظه؛ فإنهم يضِنّون بكل عدد من أعداده، فأجبناهم إلى ذلك، فقام
بعضهم يقول: إنه قلّت مادّته؛ لأن الصفحات الثمانِ الأولى كانت تسع زيادة عمّا
تسعهُ الست عشرة صفحة في الشكل الجديد. ولكن تلك الزيادة ما كانت مفيدة
للمصريين الشاكين من قلة المادة؛ لأنه لم ينقص أقل من صفحة التلغرافات التي كنا
ننشرها لأجل المشتركين في خارج القطر المصري، ومع ذلك نتوخى مرضاتهم
بزيادة المادة بأن نطبع ملزمة من (المنار) أو أكثر بحروف صغيرة؛ فإن سلمنا من
اعتراض أصحاب الأبصار الضعيفة الذين ربما يقولون: يحتاج مَن يقرأ (المنار)
إلى نظارة معظّمة (ميكرسكوب) ، فإننا نطْبع الملزمة الأخرى بالحروف الصغيرة
أيضًا.
ومما يحسن هنا ذكره أن قومنا أمسوا يؤاخذون أخاهم الصادق في خدمتهم
بالهفوات، أو بما يخلقونه له من السيئات. ويساعدون الأتاوي (السيل الغريب)
على ما يجرف من بنيانهم ويهدم من أركانهم. فقد ورد علينا كتاب بإمضاء (منتقد)
يزعم صاحبه أننا أنكرنا في العددين الماضيين وجود الأولياء، وكيف ننكر مَن
شاهدْنا بأعيننا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) ، وما كان مِنَّا إلا أن
نصحنا لقومنا بأن لا يتَّخذوا الأولياء أربابًا من دون الله، كما فعل مَن قبلهم من الأمم.
وزعم أننا ذممنا فيهما الأمة الإسلامية، وما فهم أن تنبيه المُقَصِّر على تقصيره
وإرشاده إلى طرق منافِعه - ليس من الذم المهين الذي يُلام صاحبه، وإنما يلام مَن
يغش أمته بالمديح الكاذب الذي يزيدها غرورًا، وإن زاد أغرارها سرورًا.
وانتقد علينا استشهادنا على فضل السيد جمال الدين بأحد الأجانب عن الدين -
كجرجي زيدان - دون علماء الإسلام، ونجيبه عن هذا بأننا إنما استشهدنا بقول هذا
الرجل في مسألة تاريخية، وهو من المؤرخين المدققين، لا على أن السيد كان من
أعلام الدين الإسلامي. على أن الاستشهاد بمدح الأجنبي أَبْلَغ؛ لأنه إما أن يقول
الحق، وإما أن يذم، ولا يتوقع منه أن يكون ذا ضلع مع المخالف له في دينه.
وهذا، وإن للسيد المرحوم المكانة العالية عند عقلاء المسلمين ما لم يرتقِ إليه إلا
القليل، وحسبك أن أكبر العلماء المحققين في مصر قد سُروا بدلالته. واغترفوا من
فضالته. دعْ ذكر فضيلة مفتي الديار المصرية. وارمِ ببصرك إلى قُضاة محكمة
مصر الشرعية تجدْ أكابرهم من تلامذته. والشاهدين بعلوِّ مكانته، كالشيخ بخيت
والشيخ محمد أبي خطوة والشيخ عبد الكريم سلمان وغيرهم ...
وعجيب من المنتقد كيف لا ينكر على إخوانه المسلمين الذين يسألون مثل
جورجي أفندي زيدان عن المسائل الدينية المحضة التي ليس هو من أهلها، وينكر
علينا الاستشهاد لكلامه في المسائل التي هو من أمثل أهلها وأشدهم تحريًا وإنصافًا،
ثم نوجِّه نظره إلى أن من هدي القرآن الشريف {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) ، وأن الحسنة بعشر أمثالها، فليعذرنا بما عساه يراه من المسائل
النادرة التي لا تروق له، ولا يبهتنا بما نحن بَرَاء منه، وليعذرنا على عدم نشر
كتابه؛ فإنه على ضعف عبارته لا يفيد القُرّاء، وقد علم ما فيه، والله مع
الصادقين!
__________(2/271)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
] وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[1]
تأتينا الجرائد الهندية من عدة أسابيع مملوءة بالحثّ والترغيب في مساعدة
مشروع شريف أخذ على عاتقه القيام به صاحب الهمة العلية والغيرة الإسلامية محمد
سعيد أحد أفاضل الهنديين الكرام، وهو إنشاء مدرسة كبيرة في مكة المكرمة، تُعَلَّم
فيها العلوم الدينية والحرف والصنائع النافعة التي تحتاج إليها البلاد الحجازية، وبماذا
نُرَغِّب القُرّاء في مساعدة هذا العمل، وهم يعتقدون أن السعي في عمران بيت الله
وإغنائه عما سواه من أعظم ما يُتقرب به إلى الله. فمَن أحَبَّ من قُرَّاء (المنار) أن
يتشرف بهذه القربة فليكتب إلينا؛ لِنَدُله على طريق إيصال ما يبذله، أو نسعى نحن
في إيصاله، وسنعود إلى الموضوع.
__________
(1) المائدة: 2.(2/272)
7 ربيع الأول - 1317هـ
15 يوليو - 1899م(2/)
الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
(2)
بينما كانت السيارة تُسام سوء العذاب، وتقاسي مرارة الاغتراب، وحرارة
الخيبة والاكتئاب، إذ هبطت السيارة الثانية في تلك العاصمة النائية، وطفقت تنادي
بصوت رفيع: (عفة واستقامة للبيع) ! ، هل من طالِب فيُعطَى طِلْبته، هل من
راغب فينال رغيبته؟ ! فما سمعها إنسان إلا تخيّل أنها مختلة الشعور، فرت من
البيمارستان، ولكن استلفت إليها الأنظار جمالها الباهر، وما يلوح عليها من مخايل
الوقار والكمال الظاهر، فأحاط بها الناس إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر،
معتقدين صِدق لهجتها، ونفاسة سلعتها، فقالت الأغنياء: لو كانت دُورُنا كبيرة
كدُور آبائنا الأولين لاشترينا منها هذا المتاع الثمين، واخترناه في مخازنها الكبيرة،
واحتكرناه إلى وقت الضرورة، ولكن مخازن بيوتنا اليوم صغيرة، لا تكاد تسع
أثاثنا وبضاعتنا الكثيرة، فكيف نضم إليها من الأزواج (أي: الأصناف) ، ما لا
يُرْجَى له رواج؟ ! لا سيما ونحن مضطرون إلى إهماله، أو الوقوع في سوء
استعماله، وقالت الفقراء: بماذا نشتري هذا المتاع الفاخر؟ ، الذي هو زينة أرباب
الغنى والمظاهر، وحِلْية الكبراء، ومفخر الأمراء، بل ومِعْرَاج العُبّاد الناسكين،
يرقون فيه إلى مقامات الأولياء المقربين، وإذا تكلفنا تحصيل ثمن العفة والاستقامة،
وإنه لأمَرّ مما يجرعنا الفقر من الضجر والسآمة، فهل يصدق هؤلاء الناس بأننا
ملكنا هاتين السلعتين النفيستين، ويعترفون لنا بأننا صرنا أعِفَّاء مستقيمين؟ ، كلا،
بل يقولون: إننا نُسمِّي عجزنا عن تناول الشهوات عفة، وإننا ما استقمنا على
الطريقة إلا مُكرَهين، وبلجام الفقر مكبوحين، وقالت النساء: إذا اشترينا العفة
والاستقامة، فإننا نرجع بالخيبة والندامة؛ لأن هؤلاء الرجال الأشرار لا تحظى
عندهم إلا منهتكات الأستار، فما لم تتبرج إحدانا تبرج الجاهلية، وتتجلى لهم بأبهى
مجالي الزينة الصناعية - لا تجد فيهم خاطبًا، ولا تلقى منهم راغبًا، فإذا اشترى
الرجال فإنَّا مشتريات، وإذا عفّوا واستقاموا فإنا نكون عفيفات نزيهات؛ فالرجال
قوّامون على النساء، لا النساء قوّامات على الرجال، ولا نستطيع أن نكون على
نقيض ما هم عليه في حال من الأحوال، ثم تقدمت امرأة من الأيامى إلى السيارة
مستامة، فقالت (المرأة) : هل هذه العفة غالية الثمن؟ ! (السيارة) : لا
(المرأة) : ما ثمنها؟ (السيارة) : أربعة وعشرون درهمًا من الصبر، ومخالفة
النفس الأمَّارة بالسوء، (المرأة) : هل يؤخذ هذا الثمن دفعة واحدة وتؤخذ به العفة؟
(السيارة) : لا، وإنما يُدفع أقساطًا في مدة طويلة، ولا تتم هذه الأقساط إلا
ويرى المشتري العفة ملك يمينه، (المرأة) : إذن العفة غالية جدًّا، ثم غادرتها
المرأة وانصرفت وانفضّ في إثرها الجَمع، فلم تجد السيارة بعد انصراف الناس
عنها بُدًّا من التطواف والجولان، وعَرض بضاعتها على كل إنسان، فمرت في
طوافها ببناء شاهق، قد ازدحمت عليه أصناف الخلائق، ولما سمعت أقوالها،
وتعرفت بالفراسة أحوالهم، رأتهم يتبادلون النظر الشزر، ويتعاملون بالدهاء والمكر،
كأنهم خصماء، قد أُلقيت بينهم العداوة والبغضاء، فعَرَضت عليهم بضاعتها
الثمينة، وأخبرتهم بأنها تُذهب بالحقد والضغينة، فأعرضوا عن التذكرة، كأنهم
حمر مستنفرة فرت من قسورة، وعَلِمت هي من القرائن الحالية، أن البِناء الشامخ
هو نظارة العدلية (الحقانية) ، فطافت في أرجاء المكان، ثم دخلت إحدى غرفه
بغير استئذان، وإذا هي محكمة النقض والإبرام، ومكان التشريع العام، وإذا
بالقضاة فيها يأتمرون، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النحل: 19) ،
فصاحت السيارة: يا معشر الحُكَّام، القابضين على أزِمَّة مصالح الأنام، هل أدُلكم
على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتنالون بتناولها الفخر العظيم، تتمتعون منها
بالنعماء، وتفيضون من بركاتها على الدَّهماء؛ لأن من ربحها العدل في القضاء،
والإنصاف بين الخصماء، وناهيكم به عمرانًا للبلاد، وإسعادًا للعِباد، وذلك أن
تبتاعوا مني بعض بضاعتي السماوية، التي أرسلني لبيعها رئيس المعبودات العلية
وهي العفة التي تقف بالنفس البهيمية موقف الاعتدال، والاستقامة التي ترتقي
بالنفس الناطقة إلى أوْج الكمال، ولا ريب أنكم أيها الأكياس، أوْلى بهاتين من سائر
الناس.
كانت السيارة تتكلم بقوة روحية، وعيناها النجلاوان تنبعث منهما أشعة نورية
كادت تخطف الأبصار، وتحقق الاعتبار، فاعترت القضاة الدهشة، وهزَّتهم
الرعشة، وعَلتهم الهيبة، وصمَّموا على التوبة، ولولا ذلك لأوقفوها عن المقال،
في أول المجال، وبعد أن أتمَّت الخطاب، وسكن من القضاة الاضطراب، ثَابَت
إليهم حالتُهم الأصلية، وعادت إليهم خواطرهم العادية؛ فرأوا أنها تدعوهم إلى محو
ملكات، وتبديل صفات بصفات، وتسدل بينهم وبين الاستعلاء على الناس حجابًا،
وتغلق دونهم من الثروة أبوابًا، فقالوا: إن هذه الفتاة قد هَتكت حرمة النظام،
واحتقرت بكلامها الحكام والأحكام، فيجب أن تُُُزَج في أعمق السجون، حتى يأتيها
المَنون، وحَكَم الرئيس بهذا الجزاء، باتفاق الآراء، وعهد إلى الشرطة بتنفيذه في
الحال، أو تفتدي بمبلغ عظيم من المال، لا من بِضاعتها المُزْجاة، وسلعتها المزجَّاة فأخرجها رئيس الشرطة (قومسير البوليس) ، من الديوان، وانفرد بها في مكان
يريد استنطاقها، وتعرّف أخلاقها، وكان ذا فراسة، وصاحب كياسة، وكفى
بالتجاريب عِبْرة وتهذيب، ولمّا رأى من كمالها ما رأى، ووقف على حُسن
مقاصدها، وإرادتها الخير لبني الإنسان ببيعهم العفة والاستقامة اللتين هما من أهم
أسباب سعادتهم، قال لها: (أي بُنية، اختاري لك محلاًّ آخر لبيع هذه البضاعة
النفيسة، وإياك أن تمُري بهذا المكان ثانية؛ فإن أهله أعداء العفة والاستقامة،
ونسأل الله السلامة!) ، فعقلت ما قال من الكلام، وتقبَّلت نصيحته الأبوية،
وانصرفت بسلام.
ثم مرت بمكان آخر يشبه الأول في فخامة بنائه، وكثرة اجتماع الناس في
فنائه، فخطر لها أولاً أنها ربَّما تلقى في هذا ما لقيته في الأول؛ لشبهه به وقربه
منه، ولكن حملتها قوة الأمل، وشدة الثبات على العمل - وهما سبب كل نجاح،
وعُنوان كل فلاح - أن تمازج أهله، فمازجتهم، وأن تساومهم فساومتهم، وابتدأت
بقوم جلوس على الأرض، يشتغل بعضهم بمحاورة بعض، فقالت لهم: هل من
مريد للعفة، هل من راغب في الاستقامة، فإنني كُلفت باستبضاعهما؛ لأجل بيعهما،
فطفِق بعضهم يضحك منها مغربًا، وبعضهم يسخر منها مستغربًا، وقال لها أحدهم:
أيتها الفتاة السليمة النية، الصادقة الطوية، إن العفة والاستقامة قد أوقعتانا في
الحسرة والندامة، وإن تيارهما هو الذي قذف بنا في هذا المكان؛ حيث نقاسي الذل
والهوان، فقال له آخر: دعْ عنكَ هذه الفتاة الحمقاء، لقد كان عندي هذا المتاع.
وكنت أحافظ عليه جهد المستطاع. ولولا أنني ألقيته في قاع البحر. لأهلكني الذل
والفقر. وقد فاض عليَّ بتركه معين الثروة والغنى، ونلت بعده غاي المُنى، أترقى
في الوظائف العالية، وأتقلب في الرتب السامية، وأتحلى بالوسامات الزاهية، وإذا
عزلت أجيء هذا المكان، مملوء الجيب بالأصفر الرنَّان، فلا يمر عليَّ شهران،
إلا وأنال أقصى ما في الإمكان، ولولا توبيخ الضمير على ترْك ذلك الإكسير،
لكنت أنعم بَالاً مِن كل أمير، وأطْيب عيشًا من كل وزير، ولكنها خواطر تمر مرَّ
السحاب، لا تداني ذلك البؤس والاكتئاب، وما أنا بمجنون، فأعود إلى ذلك الهون،
بابتياع الاستقامة والعفاف، من هذه الفتاة الكاملة الأوصاف، ثم التفتَ إلى السيارة،
وقال لها: أنصحك - أيتها الفتاة المسكينة - أن تذهبي بسلام قبل أن يَحُلّ بك
الانتقام، فأنت الآن مع المعزولين، وإياك وإيَّا الموظفين، وإذا بالمكان (نظارة
الداخلية) ، والذين كلَّموها هم من الموظفين المعزولين (كالمديرين والمأمورين)
جاءوا ينتظرون وظائف تخلو من عُمَّالِها؛ ليطلبوها لأنفسهم، فتذكرت السيارة ما
لَقِيت من النِظَارة الأولى، وما كانت ناسية، وقالت - في نفسها -: ما أشبه الليلة
بالماضية، وانْسَلَّت من النظارة حزينة، ثم طافت قليلاً في المدينة، تَعْرِض
البضاعة بالثمن الزهيد، راجية أن تَحْظَى برجل رشيد، فوجدت الناس في سلوكهم،
على دين ملوكهم، فخرجت من المدينة خائفة تترقب أن يلحقها العذاب المهين،
وتوجهت إلى الملأ الأعلى وهي تقول:] رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [ ... (القصص: 21) .
(وللكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/273)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(11)
بقية الولايات العربية يكاد يكون الكلام عليها متقاربًا متشابهًا من حيث أطماع
إنكلترا فيها؛ لوقوعها في قارعة الطريقين المؤديين إلى الهند البحري والبري، فهي
ربما كانت تضمر في نفسها التقام جزيرة العرب برمتها، وتتمنى لو تكرع فوقها
الرافِدَين دجلة والفرات.
(سوريا) ونعني بها البلاد الواقعة بين آسيا الصغرى شمالاً ومصر غربًا،
إن للدول الغربية بواعث جمة للتطلع إلى سوريا والاندساس بينها وبين صاحبها،
وأقوى تلك البواعث وأعظمها خطرًا أمران: (الأول) كونها معدِن الديانة
النصرانية، ومنبثق الأشعة العيسوية، وكِفافًا [1] يضم المعاهد المقدسة التي تنتابها
الأمم المسيحية من كل جنس، وعلى أي نِحلة يتقاطرون إليها على قصد الزيارة
والتبرك، و (الثاني) تكاثر النصارى في ربوعها، والتفافهم بمسلمي أهلها، بما
أربى على سائر الولايات العربية. أحد هذين الباعثين كافٍ في انبعاث دول أوربا
للاهتمام بسوريا، والمساجلة في نيل النفوذ فيها، فما بالك وقد اجتمعا معًا،
والمعهود من شِنْشِنَة القوم التحمس في خدمة الدين، ورفع شأن كهنته، والتظاهر
بحماية النصارى المنبثّين في الأقطار الشرقية، والتشوف لسبر أغوار سرائرهم،
وجس نبض حميتهم، والإشراف على شؤونهم مع متبوعهم ومواطنيهم، فكانت
سوريا - لِمَا ذكرنا - أفسح مجال لتسابق خيول أماني هؤلاء القوم، وأوسع فضاء
لتحويم نسور أطماعهم.
كان المجلي في هذا المضمار قبل احتلال الإنكليز لمصر هو فرنسا، فكادت
تخلص إليها أميال نصارى سوريا وتستحوذ على عواطفهم، سيما طائفة الموارنة
منهم، بل كاد اسمها يزاحم حكومة البلاد (لا سيما في لبنان) ، ولغتها تتغلب على
اللغة الوطنية، فما احتلت إنكلترا وادي النيل حتى أخذت ظلال نفوذها تتقلص من
سوريا شيئًا فشيئًا، وجواسيس آمالها تتراجع من خلال تلك الديار قليلاً قليلاً، وبقي
لها من ذلك بقية ربما كانت توازي ما خامر البلاد من شأن الإنكليز وأظلها من
نفوذها. أما الإنكليز أنفسهم فليس لهم في سوريا روّاد نفوذ، ولا دعاة مدنية، لكن
رُزقوا من ذلك أقوامًا هم يزرعون والإنكليز يحصدون، وهم يغرسون والإنكليز
يجنون، بل تراهم يأكلون ويشربون والإنكليز يشبعون ويرتوون! نعني بهم
الأميركان؛ فإنهم أنشأوا منذ سنين - بين ظهرانينا - مدارس ومطابع وكتبخانات،
ولهم قِسيسون ومبشّرون ينشرون اللغة الإنكليزية، ويبثون آدابها بين الفتيان
والفتيات؛ فيجني الإنكليز عواطفهم وأميالهم، ويعتدهم كُوى يطل منها على أسرار
البلاد وما في زواياها.
(الروسيا) لم تفتأ الحروب بينها وبين الدولة العلية حتى حَلَّت من نفوس
نصارى سوريا - سيما الروم منهم - محلاً رفيعًا، ولا تزال تسعى في استمالة
القلوب وإشرابها حبها. ولها في فلسطين جمعية كبرى تُدْعى (الجمعية الفلسطينية)
تحت رئاسة عم القيصر، وقد تبسطت من عهد قريب في فينيقية والشام، وغيرهما
من سوريا، وغرض تلك الجمعية الأكبر تعليم اللغة الروسية، ونشر آدابها
وتعاليمها بين أهالي البلاد. وقد مَهَّدوا بين يدي مشروعهم السبل، ووطؤا المسالك؛
فهُرعت الأقوام إلى مدارسهم؛ للارتشاف من هذا المنهل العذب، وازدحموا حوله،
حتى لم يعد ماؤه المتفجر يكفي وُرَّادهم وناهليهم، وربما أجروا ينابيع أُخَر أغزر
ماءً وأشد تفجُّرًا.
أنْشَأت تلك الجمعية في طرابلس الشام مدرستين، واحدة للذكور والأخرى
للإناث، وبذلت الجهد في تذليل العقبات أمام الطالبين والطالبات، واعتنت في
تسهيل الصعوبات عليهم اعتناءً ينطبق على حالتهم في العسر واليسر، والكبر
والصغر، فما ظنك بعِداد تلامذة تينك المدرستين الآن؟ ، يَبْلغون قرابة ألف ولد ما
بين ذكر وأنثى، أكثرهم أطفال حديثو عهد بمهد، تحنو عليهم المدرسة حنوّ
المرضعات على الفطيم، تواسي فقيرهم بحاجاته، وتتعهد صغيرهم بضروراته،
وترضعهم لبان العلم والتهذيب من صغر؛ كي يتمكن من نفوسهم تمكُّن النقش في
الحجر.
(الألمان) تبوَّؤوا من سواحل فلسطين عدة محال ومنازل، ولم يزل نسر
طمعهم - علي ما يروون - يحوّم حول البحر المتوسط، طورًا يسفّ، وآونة يُحَلِّق
يتخير لنفسه وُكنات أُخر؛ يبيض فيها ويفرخ. وغاية هذا الشعب في بلادنا
اقتصادية تجارية، ولا نعلم إن كانت له مآرب سياسية أو استعمارية، بَيْدَ أنه
يتراءى من خلال شؤون دول أوروبا أن الألمان أقل نهمًا، وأوفى ذِممًا من سائر
الدول، وإن كانوا كلهم سواسية (سواء) في خشونة الطبع عند الحفيظة والطيران
إلى معامع الشر، ولو في أقصى الشرق، واستباحة التغلب على الأمم المستضعفة،
والصيال عليها بذراع من حديد.
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يَخْلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا
أما الطليان فقد حاولوا مِرارًا أن يكون لهم في بلادنا من الأثر والنفوذ ما
لغيرهم، وسعوا في افتتاح مدارس لنشر لغتهم وتعاليمهم؛ فلم يفلحوا وباؤوا بالخَيبة
والحرمان. وأكثر هاته الدول طمعًا في سوريا وأشدهن ضراوة بها - إنكلترا بعد
الاحتلال، وربما كسبت الدعوى عليهن وآبت بالفلج، فيما لو جرروها إلى المحكمة
الدولية الكبرى. أعظم حجة لها بين يدي دعواها التاريخ؛ فهو يشهد بأن سوريا
حريم لنهر النيل، وأن كل مَن ملك النهر حق له وضع اليد على ذلك الحريم، ثم
يتبع شهادته بقوله: على ذلك جَرى تعامل الأمم منذ أسَّس الملك (مينا) مدينة
(منف) إلى زمن تولية محمد علي باشا وزحف ابنه إبراهيم على سوريا. وبناءً على
اعتبار شهادة الواحد في قوانين تلك المحكمة يحكم الرئيس بصحة دعوى إنكلترا،
ويمنع دعوى المدّعين. وإذا تلكأ المدّعون في قبول هذا الحكم الجائر وحاولوا
استئنافه أو تمييزه إلى محكمة رئيسها المكسيم - يمشي حينئذ بعض أعضاء المحكمة
بالصلح بينهم، قائلاً: إن في إفريقيا والصين لَمندوحة عن قعقعة السلاح ومخر
السفين.
هذا، وإن نسبة مصر وسوريا إلى الهند كنسبة غلقي الباب إلى الدار، فكيف
يكتحل رب الباب بغمض قبل أن يطمئن على خزائن داره بإيصاد الغلقين؟ ، وزِد
على ذلك أن المداولات لم تَزَل جارية في أمر مشروع السكة الحديدية التي تصل
بين سواحل البحر المتوسط وسواحل الخليج العجمي؛ لتكون أقرب طريق بين
أوربا والهند والشرق الأقصى، فلا جرم أن يكون لسوريا مكانة عُليا في نفسها.
(المنار)
لن ترضى الدول بإعطاء سوريا لإنكلترا إلا أن تفنى روسيا وفرنسا!
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كِفاف الشيء بالكسر: ما يضمه ويحيط به، فكفاف المنخل إطاره، وكفاف المرآة والصورة هو ما يسمونه اليوم (برواز) .(2/278)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكتابان الجليلان
نوَّهنا في أجزاء من (المنار) بكتاب (تحرير المرأة) وكتاب (سر تقدُّم
الإنكليز السكسونيين) ، وكيف لا ننوِّه بهما؟ ! وهما غاية الغايات في فن التربية
الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ونحن نعتقد - كما يعتقد جميع العقلاء الذين لهم
نظر ولو بوجه ما في علم الاجتماع - أن تقدم الأمم وتأخرها، وسعادتها وشقاءها،
وغناها وفقرها، واستقلالها واستعباد الأغيار لها - كل ذلك مَنوط بتربيتها، فمتى
صَلُحت التربية صَلُح كل شيء، ومتى فسدت فسد كل شيء، ونعتقد أيضًا أن كمال
التربية إنما يكون بتربية الذكران والإناث جميعًا؛ فوجود الرجال الكملة متوقف على
وجود النساء الكوامل، وبالعكس.
وقد استوفى أحد الكتابين المنوَّه بهما أهم مباحث تربية النساء، واستوفى
ثانيهما أهم مباحث تربية الرجال؛ لأن مدار كتاب (سر تقدم الإنكليز) على تربية
الرجال المستقلين بأنفسهم في معيشتهم، القادرين على الاستعمار وتحصيل الثروة
في كل مكان وزمان؛ بحيث تكون أمتهم بمجموعهم أكثر الأمم ثروة، ودولتهم أكبر
الدول سيادة , وإنما كان هذا الكتاب غاية الغايات في بابه؛ لأن مؤلفه درس فن
الاجتماع، حتى صار من الراسخين فيه، ثم درس أحوال الأمم الثلاث التي هي في
مقدمة أمم الأرض في العلم والعمل والمدنية: الفرنسيس (قومه) ، والألمان
والإنكليز السكسونيين (بريطانيين وأميركانيين) ؛ فاهتدى بدراسته إلى السر في
تقدم الآخرين على مَن قبلهم في الثروة والاستعمار، وهو التربية التي شرحها في
كتابه هذا، وفضَّلها على سائر أنواع التربية تفضيلاً.
مَن ينكر أن بريطانيا العظمى تَسُود على ربع العالم أو أكثر، وهي أقل الأمم
الثلاث عناية بالحرب ومزاولة له، وإذا تم ما يحاوله بعض رجالها من الحلاف
والاتحاد مع الولايات المتحدة فلا يمضي قليل من الزمن إلا ونرى عنصر
(الأنكلوسكسون) يسود نصف العالم. ربّما يفوق بعض الأمم الإنكليز السكسونيين في
بعض ما يسميه الفلاسفة وعلماء الأخلاق أدبًا وفضيلة، ولكن من يلاحظ أن العزة
والقوة القائمتين على أصول العلم هما مناط الترقي المادي والأدبي معًا، وأن الذلة
والضعف المتولدين من الجهل وفساد التربية يُذهبان بكل فضيلة ويمحوان معالم
الآداب، إلا أن يُعالَجا بالعلاج الصحيح - يتجلى له أن ما اعترض به على كتاب
(سر تقدم الإنكليز) من أن الإنكليز إذا كانوا أكثر تقدمًا ماديًا من الفرنسويين،
فالفرنسويون أرقى منهم في التقدم الأدبي - هو ناشئ عن نظر سطحي وعدم إمعان؛
فإن بعض تلك الأمور الأدبية وهمي أو عرفي غير حقيقي، وما عساه يكون حقيقيًا؛
فإن رُقي الإنكليز في مراقي التقدم يكفل لهم إدراكه والتبريز فيه، ولا يقول
صاحب الكتاب ولا غيره: إن الإنكليز يفضلون قومه وسائر الناس بكل شيء.
كيف وقاعدة (يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل) - لا يمكن أن ينكرها
أحد، وإنما ألممنا بهذا ليتم لنا الاحتجاج بأن الكتاب أمثل الكتب في فنه.
هذا ما أُقرِّظ به الكتاب على وجه الإجمال، ولا أرضى لقراء (المنار) بأن
يكون هذا كل نصيبهم منه، بل أعِدُهم بأنني سألخص لهم أجَلَََََََََََََّ فوائده، وأصلهم بما
يناسب حالهم من مسائله، وربما أتحفتهم بجُل مقدمة معرِّبه الفاضل؛ فإنها آية في
الحكمة وتمثيل مرض الأمة. وقد أحسن كل الإحسان في تشخيص مرض الأمة في
مقدمة الكتاب، الذي يصف الدواء لأدواء الأمم. فمَن عرف الداء يتناول علاجه من
أمم. ولا حاجة للتنويه ببلاغة ترجمته العربية؛ فان القُرَّاء يعلمون أن حضرة فتحي
بك زغلول معرِّبه في مقدمة بُلغاء كُتاب العربية، ومَن يقرأ الكتاب لا يكاد يشعر
بأنه معرَّب تعريبًا!
وأما كتاب (تحرير المرأة) ، فإنني وددت لو يُنشر في (المنار) إلا قليلاً.
حكمة رائعة. في عبارة بارعة، ومعنى دقيق. في لفظ رقيق، وما رأيتُ مكتوبًا
في الأنام. ما جعل الحكمة على طرف الثمام - مثل الذي رأيت في هذا الكتاب.
ومن خصائصه أنه أحدث أثرًا في الأمة التي كِدنا نحسبها ميتة، لا تشعر بمؤلم،
ولا ملائم؛ لأننا أمسينا كما قال شاعرنا:
غوينا فلا الداعي إلى الخير بيننا ... يعان ولا الداعي إلى الشر يُخذل
أثر فيها حتى لا تسمع ممن قرأه كله أو بعضه إلا الإطراء والإطناب. والثناء
والإعجاب. أو الانتقاد على بعض ما جاء في باب الحجاب. بالغ جمهور القارئين
في هذا الانتقاد، كما بالغ في استحسانه المغرمون بالإصلاح، ولقد كتب إليَّ أحد
أفاضل أهل العلم العقلاء في سوريا ما نصه: (اطَّلعنا على بضعة عشر عددًا من
(المؤيد) ولقد دُهِشْنا مما قرأناه من (تحرير المرأة) ! - حيَّا الله مؤلفه، وجزاه عن
الإسلام والمسلمات خيرًا -، ولَعمري إنه تصدّى لأمر عظيم وبقدر عظم الأمر
سيكون أثره عظيمًا في نفع الأمة. ولقد أعَدت قراءة تلك الأعداد مِرارًا؛ لأنها
وافقت هوى في فؤادي، وهواجس في خاطري، على نحو ما كتبه ذلك الكاتب
الفاضل، ولقد حَملت الأعداد إلى فلان … لأُطلعه عليها؛ إذ كان قد جرى قُبيل ذلك
بيننا حديث في هذا المعنى، طالت فيه المناظرة، ونتيجتها أن المرأة إذا تثقف عقلها
بالعلم والأدب؛ كان ذلك كافيًا في صيانتها، ومُغنيًا لها عن الحجاب العادي، أما
الحجاب الشرعي - الذي مَداره إخفاء مواضع الزينة ومواقع النظر، وعدم الخلوة
بالأجنبي - فهذا لا بد منه، كيفما كانت حالة المرأة مهما استكملت علمًا
وفضلا ً) . اهـ.
هذه خلاصة صدى صوت المؤلف ترجّعه الأقطار البعيدة، ولم يكن قائلاً إلا
بالحجاب الشرعي الذي استدل عليه بالكتاب والسنة وأقوال فقهاء المذاهب، ثم
بالنظريات العقلية والتاريخية والخطابيات أو الشعريات على بُعد الكتاب عن هذا
النوع الأخير في مجموعه، أريد بهذا مثل قوله:
(عجبًا، لِمَ لَم تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا
الفتنة عليهن؟ ! هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبر
الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه؟ ! . واعتبرت المرأة
أقوى منه في كل ذلك؛ حتى أُبيح للرجال أن يَكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما
كان لهم من الحسن والجمال. ومُنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعًا
مطلقًا؛ خوف أن ينفلت زِمامُ هوى النفس من سلطة عقل الرجل؛ فيسقط في الفتنة
بأية امرأة تعرضت له، مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخَلْق؟ ! إن زعم
زاعِمٌ صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافًا منه بأن المرأة أكمل استعدادًا من الرجل،
فلم توضع حينئذ تحت رِقه في الحال؟ ! ، فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحًا فَلِمَ
هذا التحكم المعروف؟ !) . اهـ
والجواب عن هذا، إن الذين يقولون: يَحْرُم على الرجل النظر إلى وجه
المرأة، يقولون أيضًا: يحرم عليها النظر إلى وجْهِه، سواء في ذلك مَن قيّد الحرمة
بخوف الفتنة في الجانبين - وهم المتقدمون - ومَن أطلقها في كل حال سدًّا للباب -
وهم المتأخرون - وهؤلاء يمنعون حضور المرأة مجلسًا فيه أعمى أجنبي، وإنما
أمروا المرأة بستر وجهها - دون الرجل - لأن شأن النساء أن يلزمن الحجال
ولا يتعرضن لأنظار الرجال. والتعرض لنظر أحد الفريقين للآخر إنما يكون في
الأسواق ونحوها من المجتمعات العمومية، التي هي للرجال بالأصالة، ولا يغشاها
النساء إلا نادرًا للضرورات؛ فلا جرم أن الصواب أن يتكلف مشقة الستر مَن يكون
وجوده فيها عارضًا على سبيل الندور، وليس له فيها عمل مهم، وهو صِنف النساء
ويسهل عليهن لذلك غض أبصارهن، وليس من الصواب أن يؤمر أهل السوق كلهم
بالانتقاب؛ لما عساه يعرض من دخول امرأة أو أكثر عليهم فيه.
فإن قيل: إن دخول النساء الأسواق كثير وليس بالنادر، وربما ساوين فيه
الرجال - أقول: إنهم يبنون كلامهم على أصلهم، وهو لزوم النساء البيوت في
الغالب، وما جاء على خلاف الأصل لا يُحتج به، وإن أمكن الاحتجاج على بطلان
الأصل، على أن هذا ليس في جميع البلاد الإسلامية؛ ففي نابلس والقدس وبلاد
أخرى من سوريا وفلسطين لا تكاد ترى امرأة مسلمة في السوق إلا نادرًا.
يقول المؤلف بوجوب الوقوف بالحجاب عند حدود الدين، وقد راعى جانب
الحكمة، فقال: لا ينبغي أن تخفف وطأة الحجاب العادي إلا بعد التربية الصحيحة،
ولكنه توسَّع في بيان مضار هذا الحجاب، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه النساء بعد
التربية من مخالطة الرجال ومشاركتهم في الأقوال والأعمال، حتى إنه ذكر من
مضاره الاقتصادية حاجة الدار إلى بيتين للمائدة، ومثلهما لاستقبال الزائرين
والزائرات. ومثل هذا القول يجرئ المتفرنجين على تعجل ما يشتهون من مشايعة
الإفرنج في عاداتهم، مما كانوا يأبونه؛ حذرًا من انتقاد أبناء وطنهم عليهم باسم
الدين، فهذه المصادمة للعادات والمألوفات في المسألة هي التي أطلقت الألسن
بالانتقاد.
والحق أنه (ما كل ما يعلم يقال) ، وأنه ينبغي لمَن يكتب في الإصلاح أن
يُجمل في الكلام عن المسائل التي لا يطلب العمل بها في الحال، حتى إذا ما جاء
وقت العمل؛ فإن الحاجة تتكفل بالبيان، ولا أنكر أن أكثر المنتقدين يسيرون في
انتقادهم على غير هدى، ويثرثرون بما تمليه عليهم خيالاتهم التي أثارتها أهواؤهم
وعاداتهم، وموضع النقد الصحيح هو ما عملت أنفًا.
وثَمَّ منتقد آخر وهو ما في الكتاب من المَنَازِع الاجتهادية، وقد توسع فيها
المؤلف في الكلام على الطلاق، وكان يُنتظر أن ينتقد هذا العلماءُ، ولكن علماءنا
أمسوا في الغالب لا ينكرون منكرًا، ولا يعرفون معروفًا. ونحن مع المؤلف في أن
الإصلاح الذي يضطر إليه المسلمون لا يتم لهم ما داموا مقيدين بقول إمام واحد في
الأحكام والمصالح العامة، وفي أن ما يحتاجون إليه في أمورهم الدينية التي تنطبق
على حال هذا العصر موجود في شريعتهم، متفرقًا في كتب المذاهب، فيجب
استخراجه والعمل به. ونقول أيضًا: إن ذلك لا يتوقف على التلفيق الذي يمنعه
أكثر العلماء، وسنتوسع في هذا عند سنوح فرصة أخرى - إن شاء الله تعالى -.
ونختتم التقريظ بكلمة ثناء على الشاب المهذب الفاضل محمد علي أفندي كامل
صاحب مكتبة الترقي ومطبعتها لأجل عنايته بطبع ونشر هذين الكتابين ونحوهما من
الكتب النفيسة، ككتاب (أسباب ونتائج) ، وتطلب هذه الكتب من مكتبته في مصر
وثمن (تحرير المرأة) 10 قروش و (سر تقدم الإنكليز) 20 قرشًا، ويختزل
لبائعي الكتب وطلاب العلم 15 قرشًا في المائة، وليس هذا الثمن بكثير على حسن
ورقها وجودة طبعها، فضلاً عن فائدتها التي تُقَدّر، ولا تثمن بمال. فنحث كل
قارئ على اقتنائها، وتكرار مطالعتها والاعتبار بها.
__________(2/282)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع مالية الدولة)
في سنة 1891 ابتُكر تدبير جديد لا يزال في معرض البحث، إذا تحقق رُجِيَ
من ورائه خير كثير لمالية الدولة العثمانية ذلك هو تأصيل المبلغ الذي يتوفر مسانهة
من تحويل الديون الممتازة، وهو 145000 جنيه إنكليزي (تأصيله جعله رأس
مال) ، ينشأ بهذا المبلغ السنوي قرض قدره 2900000 جنيه إنكليزي بإصدار
سهام عثمانية ممتازة بنفس السعر الذي أصدرت به سهام 27 إبريل، أعني: أربعة
في المائة من الربح، وواحدًا في المائة من أجر الاستهلاك تدفع قيمة هذه السهام في
أربع وأربعين سنة.
لما كان الفرعان من الدَّين العثماني المشار إليهما بحرفي (ت) و (ث) ،
فيما تقدم مقدّرين بقيمة أقل من الفرعين السابقين لهما، كانت الهمة موجهة طبعًا
لإيجاد طريقة استهلاك إضافية لتسديدهما؛ فلهذا القرض أخذ وكلاء الديون على
أنفسهم أن يدفعوا فيما يطلب منهم سهامًا من هذين الفرعين، حرصًا منهم على أخذ
السهام الممتازة الجديدة التي قيمتها 80، وبما كانت تقتضيه سهام النوعين
المذكورين في ذلك الوقت من الثمن الذي لم يغير في رأس مال حقيقي قدره
2320000 جنيه إنكليزي يخرج من أيدي المتعاملين 11600000 جنيه إنكليزي
من الدَّين العمومي، هذا المبلغ لما كان للحكومة فيه بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر سنة
1881 واحد في المائة، أعني 116000 جنيه إنكليزي، فستكفي مصلحة الدين
بسبب تأصيل مبلغ 145000 جنيه إنكليزي مؤنة المطالبة السنوية بمبلغ 116000
جنيه إنكليزي.
هذا العمل هو من الأهمية بحيث إن الحكومة العثمانية لا تتسرع في القطع
بإجرائه، بل إنها لا تجزم به إلا بعد الإحاطة بجميع وجوهه، وتقدير كل
الاعتبارات فيه. وقد استفادت السهام التركية أيضًا استفادة تُذكر من المزايا الناشئة
من تحويل السهام الممتازة، فبلغ استهلاك هذه السهام من 58 إلى 72 في المائة،
وحينئذ فالذي كان ينال في الاقتراع (يانصيب) على مبلغ 600000 فرنك -
جائزة قدرها 348000 فرنك، صار يقبض - من الآن فصاعدًا - جائزة قدرها
422000 فرنك.
لننظر الآن في تحويل قرض الدفاع بواسطة تأصيل جزء من الخراج الذي
تأخذه الدولة من مصر. في سنة 1887 كانت حكومة جلالة السلطان افتكرت في أن
تحول القروض المختلفة المضمونة بهذا الخراج الذي تدفعه مصر للباب العالي إلا
أنه قد مَنع من إنفاذ ذلك في حينه جملة موانع سياسية ومالية، ولكن عندما رأت
جلالة السلطان أنه قد جاء الوقت المناسب لإنفاذه صَمَّم عليه في سنة 1891، وقد
تُوجت مساعيه إلى الآن بالنجاح التام، إن قرض الدفاع الذي أُصدرت سهامه في
سنة 1887 - وهو آخر القروض المضمونة بالخراج المصري - يبلغ 5000000
جنيه إنكليزي، وربحه خمسة في المائة وأجر استهلاكه واحد في المائة. في شهر
فبراير سنة 1891 نقص أصل هذا القرض بسبب الاستهلاك إلى 4316520 جنيهًا
إنكليزيًّا، وذلك في أثناء المذكرات الأولى بين الحكومة العثمانية ووكلاء الدائنين.
انحط من الدفعة السنوية التي يضمنها هذا القرض - وهي 280622 جنيهًا إنكليزيًّا
بمقتضى الإرادة السنية الصادرة في 2 مارس سنة 1892 الخاصة بتحويل القرض
المذكور - مبلغ 1403 جنيهات إنكليزية، نفقات وأجرة عمل (عمولة أو قومسيون)
ومبلغ 26543 من أجل الاستهلاك وبقي بهذا النقص من أصل الدفعة 252676
جنيهًا إنكليزيًّا لتأصيله؛ فإذا جُعل ربحه 4 في المائة كان الحاصل رأس مال قدره
6326930 جنيهًا إنكليزيًّا، فبالثمن الذي أصدرت به تلك السهام - وهو 90 - كان
رأس المال الاسمي هذا يعطي رأس مال حقيقي وقدره 5685237 جنيهًا إنكليزيًّا،
وقد نقص هذا المبلغ بما سقط منه من أجرة عمل الضمانة (العمولة) وهي واحد في
المائة على رأس المال الاسمي إلى مبلغ صافٍ وهو مبلغ 5622068 جنيهًا إنكليزيًّا.
من هذا المبلغ استغرق تحويل ما يوجد من سندات قرض الدفاع مبلغ 4316530
جنيهًا إنكليزيًّا، وينتج من ذلك للخزينة العثمانية ربح صافٍ قدره 2305538 جنيهًا
إنكليزيًّا، وتلك - بلا شك - نتيجة عظيمة لا تحتاج لشرح في تقدير القارئ إياها
حق قدرها.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/286)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بتذكار
المولد النبوي الشريف
بُدئ من أوائل هذا الشهر بالاحتفال بتذكار المولد النبوي الشريف في
العباسية؛ فنُصبت الخيام، ورُفعت الأعلام، كما هو معتاد في كل عام، ولعمر
الحق إن كل ذي مسكة من الدين جدير بأن يقشعرّ جلده، ويقف شعره عندما يرى أو
يسمع بأن يقام احتفال باسم الدين؛ ليكون ذكرًا لسيد المرسلين، الذي بُعث لتطهير
الفساق، وتتميم مكارم الأخلاق، وإزالة المنكرات والرذائل، وإتيان المعروف،
والتحلي بالفضائل، وتقام فيه - أي الاحتفال - للفسوق كل سوق، وتؤتى فيه جميع
أنواع الفجور والعقوق، وما عساه يوجد فيه من عمل ظاهره خير وبر، فهو مخالف
لسنن الدين وأحكام الشريعة، وممزوج بالبدع والمنكرات امتزاج الماء بالراح،
وذلك كالرقص الذي يسمونه ذكرًا، ولو أن صاحب السماحة الشيخ محمد توفيق
البكري شيخ مشايخ الطرق طلب من الحكومة إزالة مواخير الرقص والبغاء،
وحانات الخمر والحشيش لأجابت دعوته، ولو أمر مشايخ الطرق بإقامة الأذكار
على الطريق الموافق للسنة لامتثلت أمره، ولو عهد إلى بعض الأفاضل بإلقاء
الخُطب المناسبة للموسم التي يحصل بها التذكار الحقيقي للمولد الشريف للبّوا دعوته،
فنرجو من سماحته أن يبدأ في هذه السنة بهذا الإصلاح الذي يشكره له الإسلام،
ويحفظه التاريخ، وبالله التوفيق.
***
اهتمام السلطان بالتعليم الديني
إن مولانا السلطان الأعظم - أيد الله دولته وأنفذ شوكته - قد وجه عنايته
الشريفة للتعليم الديني، فأصدر إرادته بانتخاب معلمين، يرسلون إلى الولايات لهذا
العمل الشريف، وعسى أن يكون للمدارس الأميرية من هذه العناية أجلها؛ فإنها
أحق بها وأهلها.
__________(2/288)
14 ربيع الأول - 1317هـ
22 يوليو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المولد النبوي الشريف
في ليلة الخميس ويومه الماضيين (12 ربيع الأول الأنور) احتفل المسلمون
في مشارق الأرض ومغاربها بتذكار مولد سيد الخلق على الإطلاق، ومتمم مكارم
الأخلاق، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله تعالى
عليه وسلم.
وهذا الاحتفال من المواسم الحادثة في المِلّة وأول مَن سنَّه الملك المظفر
صاحب أربل المتوفي سنة 630 للهجرة الشريفة، وقد تقبله المسلمون كافة بقبول
حسن، وتنافس الملوك والأمراء وسائر الطبقات بالاحتفال به من ذلك العهد إلى الآن،
وألّف العلماء في خبر المولد وما جاء في تاريخه قصصًا تُتلى في الاحتفالات.
تتخللها المدائح والصلوات، وتوزع بعدها العطايا والصدقات. وفي هذا العصر
يزيد المسلمون على هذه الأعمال إقامة معالم الزينة من رفع الأعلام، وإيقاد الشموع
والمصابيح، وإحراق المواد الملتهبة التي تصعد في الجو وتُحدث فيه أشكالاً نورانية
ملونة بألوان تَسُرّ النواظر، وتشرح رؤيتها الخواطر.
وفي بلاد مصر وكثير من البلاد الإسلامية الأخرى تقام هذه الزينة على نفقة
الحكومة، كسائر الزينات التي يعملونها في الاحتفال بتذكار موالد الملوك والأمراء
المستقلين بالحكم وأيام جلوسهم على منصات الأحكام.
ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذه الحدود ولم يتعدوها، وإن كان المعروف في
الفقه أن إتلاف المال - في غير غرض شرعي صحيح - مُحرّم؛ لما تقتضيه
الأصول الاقتصادية التي جاء بها الإسلام، ولكنهم تعدّوا الحدود، لا سيما في هذا
القطر، وصار هذا الموسم الشريف في مصر ينبوع المنكرات، ومحط رحال
الفواحش، واتسعت بذلك دائرة الموالد؛ فصاروا يقيمون لكل شيخ معتقد من
الأموات مولدًا يحتفل به الأهلون بإذن الحكومة، لا بمشاركتها، حتى إن للسيد
البدوي (رحمه الله تعالى) ثلاثة موالد في السنة؛ لشدة اعتقادهم فيه، ويعلم قرّاء
(المنار) ما في هذه الموالد من البدع والمنكرات مما كتبناه قبل فلا نعيده، وإنما نذكر
رأينا في الاحتفال بالمولد، وما ينبغي له وفيه، وهو:
(1) يجب السعي في تطهير الاحتفال من الفواحش والمنكرات، وهذا
واجب على الحكومة، ولكنها لا تفعله من نفسها، فيجب على العلماء وشيخ مشايخ
الطرق أن يتّفقوا على طلب هذا من الحكومة، وهي - بلا شك - تجيبهم إليه،
وإنما خصصنا العلماء بالذكر - مع أن النهي عن المنكر فرض على كل مَن أمكنه،
وهو الآن ممكن لكل أحد؛ لأن الحكومة لا تعاقِب أي إنسان على مِثل هذا الطلب -
لأن الحكومة قلّما تلتفت في مثل هذا الأمر لقول غير العلماء؛ لا سيما مع سكوتهم
ورضاهم به، ويسرنا أن سعادة محافظ مصر قد أزال بعض المنكرات في هذه السنة
كرقص النساء، ولا ندري هل كان ذلك عن باعث ديني فيدوم المنع ويتعدى إلى
منع سائر المنكرات؟ أم كان عن باعث صحي لأجل تقليل الاجتماع خوفًا من الوباء،
فيعود في سنة أخرى كما كان؟ ، وقد كان اجتماع الناس وحضورهم الاحتفال في
هذه السنة أقل منه فيما قبلها، فيا تُرى هل السبب في ذلك قلة المنكرات التي كان
يسعى إليه الفُجار؟ أم شعور المسلمين بأن مَن يحضر هذا الاجتماع يشاهد
منكرات لا يقدر على إزالتها، فيحرم عليه السعي لمشاهدتها وتكثير سواد أهلها؟
ونسأل مَن يعلم السر وأخفى أن يوفِّق الراعي والرعية إلى خير الأمرين وأقصد
السبيلين.
(2) أن قصص المولد النبوي - التي سمعناها ورأيناها - كلها مشتملة على
ما لا يصح، وخالية عن أهم ما ينبغي أن يكون فيها وهو التنويه بالإصلاح العظيم
الذي حصل في العالم على يد صاحب المولد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به
من قواعد المدنية والعمران، وأسباب السعادة للإنسان، وجمْعه أشتات الأمة العربية،
وانتياشه إياها من هوة الهمجية، ونفخه في شعوبها روح الوحدة والمدنية، مع
ضعف استعدادها، ومنافاة ذلك لأخلاقها وعادها ... إلى غير ذلك من المحاسن
والمزايا الصحيحة، والمناقب الفاضلة الرجيحة، التي تجذب قلوب الناظرين في
الفنون العصرية، والمغرمين بالمدنية الأوروبية، إلى تعاليم دينهم العالية، التي
كانت مبدأ هذه المدنية الزاهية، ولا تقصر عن إفادة سائر الطبقات، وهدايتهم بأبين
الآيات، فينبغي تأليف رسائل للمولد تشتمل على ما ذكر، ولعل الله تعالى يوفقنا
للسبق إلى كتابة (قصة مولد) تحْسن الخطابة ارتجالاً لإلقاء الخُطَب في المسائل
التي أشرنا إليها في كل مجتمع من مجتمعات على هذا النحو.
(3) انتداب طائفة الاحتفال؛ فإن الخطب أوقع في النفوس وأشد تأثيرًا في
القلوب، وقد أومأنا إلى هذا في (المنار) الماضي، وإذا لم يسعَ في إبطال سائر
الموالد فلينحُ فيها هذا النحو، وما يتذكر إلا أولو الألباب.
__________(2/290)
الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
(3)
بعد فِرَار السيارتين الأولى والثانية. جاءت السيارة الثالثة تحمل (الصحة
والعافية) . وما كادت تعرض بضاعتها هذه على الناس، من جميع الأجناس، إلا
ونفروا خفافًا وثقالاً، وأقبلوا عليها إقبالاً، ولقد كثروا عددًا، حتى كادوا يكونون
عليها لبدًا، متسابقين إلى الابتياع، متنافسين في هذا المتاع، وما منهم إلا شاكٍ من
ألم، أو باكٍ من سقم، وأهونهم حالاً مَن يشكو الإقهاء (فقد شهوة الطعام) ، أو
ضعف عضو من الأعضاء، وقد علمت السيارة أن أكثر القوم هم الجانون على
صحتهم، والمضيعون لها بجهالتهم؛ ولذلك توقفت عن المبيع، وأمسكتها عن
الجميع؛ لأنها مأمورة بأن لا تبيع سلعتها، إلا لمن يعرف قيمتها، ثم أنشأ بعضهم
يساومها، فقال:
(المساوم) : هل ثمن الصحة والعافية كثير؟ (السيارة) : لا، وإذا لم يكن
بَخْسًا فهو معتدل، (المساوم) : ما هو الثمن؟ (السيارة) : (1) النظافة في
المأكل والمشرب والملبس والمسكن، و (2) أن يكون الأكل معتدلاً وعند الجوع،
و (3) الإمساك عن تناول أي نوع من أنواع المُسْكِرات (لغط وجَلَبَة من
المستمعين وترديد لفظ: بِضاعة غالية لا يقدر على شرائها إلا العُبّاد والنُّساك!) ،
و (4) النوم في أول الليل، و (5) القيام من النوم باكرًا، و (6) المراوحة
بين الرياضة الجسمية والعقلية، قالت: وشرط البيع عدم الإفراط في شيء من
الأشياء؛ لأن الإفراط في الراحة يضر الجسم، ويُذهب بالصحة، كالإفراط في
التعب، وما من تفريط إلا ويقابله إفراط، وملاك الصحة الاعتدال وملازمة الأوساط.
فلما فرغت السيارة من كلامها، أعرض أكثر القوم عن سوامها، قائلين:
يستحيل أن يشتري هذه البضاعة أحد! ، من أهل هذا البلد؛ فليس عندنا حكماء،
ولا عُبّاد أتقياء، يقدرون على الاعتدال في جميع الأعمال والأحوال، ولمّا سمع
الأطباء والتُّرَبِيَّة (الذين يدفنون الموتى) أن فتاة من العوالم العلوية، هبطت إلى
هذه الدنيا الفانية، تبيع للناس الصحة والعافية، رأوا في ذلك هضمًا لحقهم، وقطعًا
لسبب من أسباب رزقهم؛ فعزموا على إبطال هذه التجارة، أو الإيقاع بالسيارة،
وبعد المؤامرة، وطول المذاكرة، اتفقوا على أن يتولى الأطباء من تلك الساعة،
السعي في إتلاف تلك البضاعة؛ لأنهم مأذونون من الحُكّام، بالعبث بصحة الأنام!
ومعهم إجازة قانونية، بالتصرف بأرواح البَرِيَّة، وتوهموا أنهم بإتلاف هذه
البضاعة النافعة، يتمكنون من إزهاق روح البائعة، وعندما تُسقى كأس المنية،
تأتي في حقها وظيفة التُّرَبية، فيودعونها الرمس، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} (يونس:
24) ، ثم اقترب من الفتاة، أحد التُّرَبيّة العتاة، وخطف منها الصندوق، ومَرّ
بأسرع من وميض البروق، فصاحت وأعولت، وبكت وولولت، وقالت: أيها
الناس أدركوا الغاصب اللعين، ورُدوا عليَّ متاعي الثمين، فبادر إليها أحد الأطباء،
وأوهمها بالمكر والدهاء، بأنه قد أشفق عليها، وعزم على رد بضاعتها إليها،
وطلب منها أن تتبعه، وتذهب إلى حيث شاء معه، فأجابته لسلامة نيتها، وخلوص
طويتها، فأدخلها إلى بناء، علمت أنه دار الشفاء، فحاولت الرجوع من قريب،
فحال دون ذلك الطبيب، وقال لها: أنت ذات مرض، يكاد يبلغ الحرض، فلا
تخرجين من هنا بحال، إلا بعد تمام الإبلال (الشفاء التام) ، (السيارة) : كلا،
إني في صحة وعافية، ونِعَم ضافية، (الطبيب) لها: كلا، لا مفر؛ فإن علامات
مرضك تنذر بالخطر (السيارة) : كيف وأنا أشعر بكمال القوة والنشاط، ولساني
نظيف ونبضي نبض الأصحاء، وأكلي وشربي ونومي في غاية الاعتدال،
(الطبيب) : علامة منذرة، علامة منذرة، علامة منذرة! ثم أمر الممرضات،
فنزعن عنها ثيابها وألبسنها ثياب المرضى رغمًا عنها، وحملنها إلى السرير، فعند
ذلك أقبل عليها الدكتور، وكاشفها بما في نفسه قائلاً: كان يجب عليك - أيتها الفتاة-
أن تأتينا أولاً ببضاعتك هذه، وتعقدين معنا شركة للاتجار بها، ونحن الأطباء
نقدر أن نبيعها بأغلى الأثمان! ، ولكن لجهلك بحال الناس في هذه العاصمة؛ بذلت
لهم الصحة والعافية بثمن بخس، يقدر عليه كل أحد، ولم تعلمي أنك بصنيعك هذا
قاومت طائفة كبيرة لها مكانة عالية، تبيع لأجلها الأمراض بأثمان غالية، وعاديت
أيضًا طائفة التُّرَبية، حيث تقل الوفيات بنشر الصحة العمومية، وقد تبين لك الآن
أنك جئت شيئًا فرياً، وكأنك كنت تجهلين قاعدة (ضعيفان يغلبان قويًا فحلّ بك البلاء
بمقاومة طائفتين من الأقوياء، ثم دعا الدكتور جماعة من إخوانه لعقد مؤتمر طبي (قونسولتاسيون) ، فكان كل منهم لدعوته أسرع مُلَبٍّ، وكذلك يشترك الجم الغفير،
في اقتراف الجرم الكبير؛ ليوقعوا الناس، في الريب والالتباس، بل ليوهموهم بأن
الخطر جاء من طبيعة الداء، لا من تقصير الأطباء، وقد أجمع رأي جماعة المؤتمر،
على أن السيارة في أشد الخطر، يجب أن تفصد مرتين في كل يوم؛ ليخف
استغراقها في النوم، وأن تُحقَن بالمورفين بكرة وعشية؛ لتنجو من آلامها العصبية،
وإنما قصدوا إيقاعها في داء يُعَجِّل لها المنية، وإن شئت قلت قتلها بالطريقة
القانونية، ومازالوا يزاولون هذه الأعمال المهلكة، حتى وقعت السيارة في الأمراض
المنهكة، ولولا أنها من العوالم الخالدات، لأدركها الممات، وتيقنت أنه لا نجاة لها
من هذا البلاء، إلا بالفرار من (دار الشفاء) ، فأصابت غِرَّة من الخفراء، في
جنح ليلة درعاء، فانسلَّت انسلال الأفعى، وولت مدبرة تسعى، ومرت في طريقها
بالمقبرة وهي كما علمت متنكرة، فأبصرت الأموات بالصحة متمتعين، وبحُلل
العافية رافلين فعلِمت أن التُّرَبية قد دفنوا الصندوق في ذلك المكان المهجور؛
فصارت الصحة والعافية نصيب أهل القبور، ثم طارت السيارة في الهواء،
صاعدة إلى السماء، عازمة أن لا تعود، ولو أمرها جوبيتر المعبود!
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/292)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(12)
ألْمَعْنَا - فيما سبق - أن إنكلترا تسعى جهدها في صيانة هندها، فاستئجارها
لقبرص واحتلالها، وفتحها لسودانها واعتراضها في باب المندب واستعمارها لعدن،
ومخاللتها للإمارات ومشايخ القبائل المنتشرة على شطوط الشمر وظفار والسارحة
في مهامه حضرموت وحمايتها لإمامة مسقط وتبوُّئها بعض المراكز المهمة في خليج
العجم وإنشاؤها الشركات التجارية التي تمخر ببواخرها النهرين دجلة والفرات
وقيامها بشؤون الملاحة فيهما، ورغبتها في الاستئثار بمد السكة الحديدية من
طرابلس الشام إلى الكويت على خليج العجم، كل ذلك ما حمل إنكلترا عليه إلا
محافظتها على الهند، أو يقال: إن امتلاكها للهند جرّ للقيام بهذه الأعمال والشؤون
مصادفةً واتفاقًا. وهذا لا يعنينا، إنما الذي يجدر بنا أن نفكر فيه، ونمعن النظر في
نتائجه هو أن تلك الأعمال التي أتتها إنكلترا في شطوط جزيرة العرب والبلاد التي
على جنابتيها يُخشى أن تشعر قلب تلك الدولة طمعًا في الجزيرة، فتصيبها دائرة من
قبلها، وتزجّ في سلطتها، وتصبح خالصة لها من دون المؤمنين، فعليهم أن
يتآمروا ويستفرغوا وسعهم في تلمُّس الوسائل العاملة في صيانتها وحماية حوزتها،
ويندفعوا اندفاع السيل وراء ما تشير به عقلاؤهم، وتتعاهد عليه نبهاؤهم من عقد
جمعيات وإنشاء شركات وفتح مدارس، وغير ذلك مما يكوّنهم أمة تعرف لها الأمم
حقًا، وتحفظ لها حرمة، وليكن على ذكر منك أن إنكلترا إن طمعت في جزيرة
العرب، فإنما تطمع باستعمار سواحلها، ولا وصول لها إلى أحشائها وداخليتها من
بلاد حضرموت ونجد. على أنه إن تعذر ذلك على الإنكليز في زمن، فلا يتعذر
على أنسالهم فيما يأتي من الأزمان، لا سيما وهم قوم حزم وتدبير، يهتمون لشؤون
أمتهم المستقبلة، ولو بعد مئات من السنين، كما يهتمون لشؤونهم الحاضرة؛ لأن
حب الذات والجنس بلغ من نفوسهم مبلغًا لم يبلغ مثله من نفوس قوم آخرين. هذه،
وأستراليا ملكوها كلها بتبوُّء سواحلها، أما جوفها، فلم يزل مجهولاً غامض
الشؤون، لكنهم يستشرفونه شيئًا فشيئًا، ويتبسَّطون في بسائطه رويدًا رويدًا.
ليس في الدول مَن يُضارِع إنكلترا في نفوذها في جزيرة العرب، فيعارضها
فيما تروم مطامعها منها، ويُسَهِّل عليها أن تلقم فرنسا لقمة من أصقاع إفريقيا
وتسقيها من فوقها نهرًا من أنهارها، أو بحيرة من بحيراتها إذا هي وقفت في
طريقها. إن تمكن الإنكليز من عدن هو في المعنى تمكنٌ من بلاد اليمن. كَمُنوا في
تلك الزاوية ردحًا، ثم طَفِقوا يتجسسون شؤون تلك البلاد، ويتنسَّمون أخبار أهلها،
ويتعرفون سِيَر حكامها، فألفوا مجالاً واسعًا لجري خيول دهائهم، وبيئة صالحة
لنمو ميكروب نفوذهم، واتفق أن المريض جاهل بعلم الهيجين (حفظ الصحة) ،
فتمكنت منه علة (السُّل الرئوي) وطبيبه ممن يرى رأي أهل الطب القديم الذاهبين
إلى أن الفصد العام من أنجع الأدوية في شفاء الأدواء، وقد عالجه بتلك الطريقة أولاً
وثانيًا، فلم تنجع وهو الآن يعمل في جسمه المباضع، فعسى أن يكون قد اقترب
شفاؤه.
اتخذ الإنكليز بلدة عدن مستودعًا للفحم الحجري الذي تحتاجه سفنها، وهي
ماخرة في عرض تلك البحار، وكانت إذ ذاك بلدة حقيرة قليلة السكان، رديئة الهواء،
لا تجارة لها تُذكر، فاهتم الإنكليز بشأنها اهتمامه بكل أرض حلَّها، ومَهَّد للتجارة
سُبلاً تئول لاتساعها، وتأمين أصحابها، فتحوَّل إلى عدن معظم تجارة جدة
والحُدَيِّدَة وقنفده ومخا والبصرة أيضًا. وتكاثر سكانها حتى أربوا على الأربعين
ألفًا. وقد رُفع هيكل الإصلاح فيها على أركان العدل والأمن والحرية، وألزم كلاً من
الأهلين بواجباته وعرّفه حقوقه، ونبّهه للمطالبة بها، ووجوب المحافظة عليها،
وجد في تحسين حال البلدة، وتوسيع طرقاتها ونظافتها، وإصلاح ماء الشرب فيها
حتى اعتدل هواؤها، وتبرّج جمالها، وأضحت تحاكي المدن الأوروبية ومن
جري ذلك تقاطر إليها السواح والتجار من كل الجهات، وترددت عليها وفود أهل
اليمن للتجارة والنزهة، فكانوا كلما رأوا حسنًا فيها تذكروا ضده في بلادهم، فنغلت
نياتهم على حكومتهم، وأرصدوا لها الشر، وهي قد أعيتها الحيلة في أمرهم،
وسلكت في إرضائهم كل سبيل إلا سبيل الحكمة، فلم تفلح. ولم تجتزئ إنكلترا
بعدن وتقصر طرفها عليها، بل شحت [1] فاها لالتقام ما حولها من البلاد، وطفقت
تتبسط في مخاليفها [2] رويدًا رويدًا، حتى أنشأت لنفسها منطقة منفسحة الأطراف
تزاحم بتخومها منطقة النفوذ العثماني.
أما ولايات الحجاز فلا طمع للإنكليز فيها، حتى لو أُلقيت إليه مقاليدها
(والعياذ بالله) قلص يده عنها، لكنه يتمنى لو تنتظم شؤون إدارتها الداخلية؛ ليكون
الحجيج الهندي على راحة في أداء نسكه، والإتيان بواجباته الدينية [3] .
(ولايات النهرين العربية) المُعارِض لإنكلترا فيها هو الروسية؛ لأنها تطمع
- كما قلنا - في الوصول إلى الخليج العجمي؛ لتجعله فوَّهة الطريق لتجارتها،
وتستولي في سبيلها على جميع الولايات التي تسقى بمياه النهرين، وإنكلترا تحذر
ذلك منها وتكرهه أشد الكره؛ لأن الخليج العجمي يشبه أن يكون خليجًا هنديًّا؛ لقربه
من الهند ولكونه طريق التجارة البَريّة بين الهند وبين سائر بلاد العراق والأرمن
وآسيا الصغرى وحلب، بل هو فوهة طريق أوروبا التجاري البري. ومما يزيد في
أهميته ما قلناه من أنهم يتداولون في إيصال السكة الحديدية إليه من إحدى حواضر
(موانئ) البحر المتوسط؛ فيمسي أقرب طريق يصل أوروبا بالهند والشرق
الأقصى حتى إنه يقلل من أهمية ترعة السويس أو يزيلها.
فأنت ترى أن مصلحة إنكلترا في الخليج العجمي قوية، وما معنى قوة
مصلحته فيه إلا قوة مصلحتها في البلاد التي تواصله بمحصولاتها الزراعية وسلعها
التجارية، وتتناول منه مثل ذلك: وكما قيل في ولايات النهرين من تعارض
سياستي إنكلترا والروسية يقال في:
(ولايات الأرمن والأكراد)
وتلك الولايات في قلق دائم واضطراب داخلي شديد، كما أشرنا إلى السبب
فيه؛ فالأرمن يطلبون من الدولة إصلاحات، أو بعض امتيازات يصعب عليها
إجابتهم إليها، أما الأكراد فلا يرغبون فيما يطلبه الأرمن؛ لأنه يئول في المعنى
إلى انفصالهم عن تابعيتهم للأتراك، وهذا مما يأنفون منه، ومن جرّاء ذلك حدثت
مذابح جمّة بين القبيلين، وقد شايعت دول أوروبا الأرمن على طلباتهم ورغائبهم،
وواطأتهم على مناصبة الدول العثمانية، لا سيما إنكلترا؛ فإنها كادت تتظاهر
بتعضيدها لهم. واللبيب يفهم غايتها بعد ما قدّمنا من الشرح ما قدّمناه، ولا يخلو
التصريح من فائدة.
إنكلترا تودُ أن تستقل الولايات الأرمنية؛ لتقوم حاجزًا وسدًّا بين الروسية وبين
العراق، فيُصان العراق والخليج العجمي من شَرِّها وكيدها، ثم تتربص هي به
الدائرات فتلتهمه. أما الروسية فكان شأنها في ثورة الأرمن عكس شأن إنكلترا؛
وذلك أنها عضدت الدولة العلية في كبح جماحهم، وتسكين ثائرتهم لا حبًّا بالدولة،
بل حبًا بمصلحتها وتمهيدًا لآمالها؛ فإنها تتربص بالدولة الانحلال الطبيعي؛ لتكون
أول من يُسارِع إلى ابتلاع الولايات الأرمنية، يرشد إلى ذلك أن الروسية أيّدَت
مطالب الكريديين، وراشت سهام فتنتهم، فنالوا ما نالوا، وما فضل الكريديين على
الأرمنيين لولا ما ذكرنا من أطماعها في هؤلاء دون أولئك؟ إذن التزاحم بين
إنكلترا والروسية في شأن الأصقاع الواقعة بين جبل أراراط شمالاً وخليج العجم
جنوبًا، شديد جدًا، وكيف النتيجة يا تُرى؟ النتيجة غامضة لتكافؤ القرنين وتوازن
القوتين، ولعل إنكلترا تصانع الروسية وتجاملها بإطلاق يدها في المملكة الصينية
وتستعيض هي عن ذلك بمد سرادقات سلطتها فوق تلك الأصقاع العراقية والأرمنية
بل ما يدرينا أن تتجسم الأطماع في مخيلة الدولتين فيقتسمان آسيا شرقًا لغرب كما
تريدُ إنكلترا مناصفةَ فرنسا إفريقيا شمالاً لجنوب، فتستبد إنكلترا بنصف آسيا
الجنوبي ويُسلم للروسية نصفها الشمالي.
دعنا من عالم الخيال، ولنأخذ في الكلام على العنصرين الأرنؤطي والرومي
المتوطنين في مكدونيا.
(المنار)
لا ينسى أن الكلام في المسألة الشرقية وتمثيل المطامع الأوروبية، وقد صرّح
الكاتب بأن هذا من قبيل الخيال، فلا يعترض عليه الأغبياء بأنه يهب بكتابته بلاد
الدولة العلية (صانها الله) ويولي عليها أعداءها (خذلهم الله)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) شحت كغزت: فتحت فاها بأقصى جهدها.
(2) مخاليف جمع مخلاف: وهو لليمن مثل الرستاق والكورة لغيره، ومعناه السواد، والأصقاع تجمع القرى والمزارع.
(3) لا نخال أن حضرة الكاتب على اعتقاد فيما قال هنا، وأن القول على حقيقته عنده؛ فإن الإنكليز لا تهمهم راحة الهنديين إلا بالدعاوي السياسية، ومن أقصى أمانيهم أن تكون الحجاز تحت حمايتهم، (دفع الله السوء، ولا أنالهم ذلك) .(2/295)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة
تكلمنا في (منار) سابق عن اللين والقوة في التربية، ووعدنا بتفصيل مضار
التربية، ونقول: إن مَن يُربي ولده، أو تلميذه بالغلظة والخشونة، ويعامله بالقسوة
والإهانة يطبع في نفسه أخلاقًا فاسدة، وسجايا رديئة؛ تكون سبب شقائه في أحواله
وعلة خذلانه في أعماله، فمن تلك السجايا:
(1) بُغض الوالد المربي ونحوه، والتربية الصحيحة النافعة لا تقوم إلا
على أساس المحبة. وبُغض الولد لوالده أو معلمه، يحمله على عدم تلقي شيء من
نصائحه بالقبول في نفسه؛ لأنه يُعد تلك النصائح إهانة وتعذيبًا، وتحكمًا سببه القوة
والاستعلاء، ومَن لا يُحب والده ومعلمه، لا يحب وطنه وأمته بالضرورة.
(2) الظلم عند القدرة، والتحكم بالغير عند الإمكان، والانتقام لمجرد شفاء
الغيظ وإجابة داعي الغضب.
(3) الكذب، فإن مَن يتوقع الانتقام على عمل أو قول يعتقد أنه لا يُرضي
مربيه - يندفع إلى إنكاره.
(4) المكر والحِيَل.
(5) الذلة والمَهانة.
(6) الغِلْظة والقسوة.
وهذه الصفات في الظاهر كالمتناقضة، ولكن آثارها تُشاهَد فيمن يتربون هذه
التربية السُّوأَى؛ فإن أحدهم يقسو أشد القسوة على مَن دونه، ويذل أقبح الذل لمَن
فوقه، فهو بعيد عن الفضيلة وكرامة النفس في كل حال.
وإن أمة هذا شأن أفرادها لا يمكن أن تسود على غيرها، أو تستقل في نفسها؛
لأن كرامة النفس وفضيلتها هما روح السيادة والاستقلال.
(7) الرضا بالضَّيم وهضم الحقوق - مهما كانا - من قوي أو حاكم ظالم.
(8) عدم الرضا بالحق طوعًا؛ حيث يهضم حقوق الآخرين إذا قدر، كما
يخنع لهم إذا هضموا حقوقه.
وهاتان الرذيلتان مرتبطتان بما تقدم ومِن آثاره، وهكذا ترتبط الرذائل بعضها
ببعض؛ فتكون سلسلة واحدة.
(9) الخيانة.
(10) الحقد.
(11) الحسد.
(12) الوقاحة والتهتُّك:
فإن مَن يُعامَل بالإهانة قولاً وفعلاً يذهب حياؤه بالضرورة، ويزول انفعاله،
مما يذم ويجلب اللائمة؛ لاعتياده عليه من أول النشأة، وكفاك بفقد الحياء بلاءً؛
فإنه ينبوع الفضائل والكمال، والزاجر النفسي عن سيئات الأعمال، لا سيما إذا كان
ميزان الحُسن والقُبح هو الشرع، وقد جاء في الحديث الشريف: (لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ،
وخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ)
(13) وطوءة الهمة:
لأن عُلوّ الهِمَّة لا يكون إلا لأصحاب النفوس الشريفة العزيزة. وإن علوّ الهمم
ركن من أركان تقدم الأمم؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنَ
الإِيمَانِ) .
(14) ضعف الإرادة وخمود العزيمة:
وأي جوهر لا ينسحق بشدة الضغط؟ وأي نار لا تنطفئ بفيضان طوفان
الجَوْر والإهانة؟ ، وهل ينجح فرد من الأفراد تجرف إرادتَه وعزيمتَه سيولُ الجور
والاستبداد؟ ! كلا.
(15) فَقْدُ الاستقلال الشخصي:
لأن الذين يربُّون أولادهم بالشدة والعنف لا يدَعون لهم مجالاً للاستقلال في
شؤونهم والاعتماد في مصالحهم على أنفسهم؛ فيكون أحدهم كَلاًّ على مولاه أينما
يوجِّههُّ لا يأتِ بخير! ، فهل يستوي هو ومَن يُرَبَّى على مبدأ الاستقلال والاعتماد
على سعيه في كل الأعمال؟ ! كلا {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم:9) .
(16) فقد الاستقلال الفكري والعقلي:
وسببه أن من شِنْشِنَة هؤلاء القُساة - الذين يُربون الأولاد بالشدة والفظاظة -
أنهم لا يقبلون لمَن يربونه رأيًا، ولا يستحسنون له فكرًا - وإن كان حسنًا في نفسه-
ولا يجعلون لهم حقًا في إبداء رأي أو اقتراح أمر أو المشاركة في مصلحة،
وإن ظهر منهم شيء من هذا قُوبلوا بالتفنيد واللّوم الشديد؛ فتَخْمُد نار لَوْذَعيتهم،
وينشئون على التقليد الأعمى، فإذا أخذوا بعد الكبر في الاشتغال بالعلوم، أو
الأعمال التي يُحتاج فيها إلى الفكر والرَّوِيَّة - لا ينجحون أبدًا، لا سيما إذا كان
تعليمهم على نسق تربيتهم كما هو الغالب في بلادنا، أو في الشرق كله؛ وذلك لأن
مَن يرى قُصارى نجاحه أن يعلم ما قيل - من غير تمييز ولا تزييل - لا يهتدي إلى
تحرير الدلائل، ولا يقف على حقائق المسائل؛ لأن الأقوال في كل شيء متعارضة
والآراء في كل مشكلة متناقضة، فمَن لا يجتهد يخيب، (ولكل مجتهد نصيب) .
(17) فقد الحرية في القول والعمل:
وهو الذي يحمل على ما ذكرنا أولاً من الكذب والمكر والحيلة، وعندي أن
التربية الصحيحة الكاملة تتوقف على معرفته جميعَ شؤون المُرَبَّى النفسية والعملية،
ولا يمكن أن يقف المربي على هذا إلا بالتحبُّب إلى المربَّى وإعطائه الحريةَ التامة
في إبداء كل ما يعنُّ له، وإطلاع مربيه عليه، ولا تنجلي هذه المسألة إلا بشرح
طويل لا تسعه هذه النُبذة.
ويكفينا أن نقول: إذا علم الوالد أو المعلم أن الذي يربيه قد عرض له
الرسيس (أول الحب) ، وخاف عليه الشغف والولوع في العشق، ولم يقدر على
أن يحُول بينه وبين الغرام، من حيث لا يشعر - فينبغي له أن يجذبه بزمام اللطف
ويسلس له؛ حتى يكاشفه بما في نفسه، ويستشيره في كل أمره؛ وبذلك يتسنّى له
أن يقيَه مصارع الهوى، ويقف به في الحب عند حدود الشرف.
(18) الدناءة.
(19) اللؤم.
(20) كُفر النعمة.
هذا أقبح وأضرّ ما يتولد من الغلظة والقسوة في التربية من الرذائل، ولو
استملينا الفكر لأمْلى علينا غير ذلك؛ لا سيما إذا لاحظنا ما يحتفُّ بالغلظة من هُجْر
القول وسيء العمل؛ مما يُهوِّن على الوِلدان القذْع بألفاظ الفُحش وبذاءة اللسان، ولو
قلت: إن من سيئات هذه التربية الاندفاع إلى ارتكاب الجنايات الكبرى كالسرقة
والغصب والضرب، بل والقتل بنحو سُمٍّ أو غيره - لكنت غير مبالغ، فعلى مَن
يهمهم تربية أولادهم أن يُمعنوا النظر فيما ذكرنا، وعسى أن يلتفت إليه الذين
يتكلمون في ضعف الأمة، ويبحثون عن أسباب قوتها؛ فيوافقون على أن سوء
التربية أصل كل فساد، وبإصلاحها يتم كل رشاد.
ونسأل الله تعالى أن يهبنا جميعًا التوفيق والسداد.
__________(2/299)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأييد عالم وتفنيد واهم
ليس في قوة البشر أن يحيط الرجل بجميع العلوم، أو يتقن جميع الأعمال،
ويتوقف نجاح الأمم وتقدمها في العلوم والفنون والصنائع وسائر الشؤون العامة
على اتباع قاعدة التوزيع، وإناطة كل علم وكل نوع من العمل بطائفة من الناس
ينفردون بالعناية به، حتى يبلغوا درجة التبريز فيه؛ بحيث تكون الأمة - في
مجموعها - نابغة في كل شيء، وقد اهتدت إلى هذه القاعدة الأمم المتمدنة،
وعملت بها؛ فانتهت في كل علم وعمل إلى الغايات التي نسمع ونشاهد. وقد
اتسعت عندهم دوائر المعارف؛ حتى صار ينفرد للفرع الواحد من العلم طوائف
مخصوصة، يحررونه، ويفردونه بالتأليف. ولا يزال قومنا في غفلة من هذا؛
ولذلك لا يبرع عندنا أحد في شيء من الأشياء. ومن الخذلان أن تضل الأمة عن
طرق رشادها، ومناهج إسعادها، ولكن ماذا نقول في قوم يعيبون الهدى والرشاد،
ويذمون مناهج التوفيق والسداد، ويقدحون في عِرض مَن يبرز في علم أو فن،
فيُظهر غوامضه، ويبدي خوافِيَه؛ محتجين بأن الأمة أحوج إلى غير المسائل التي
حررها منها إليها، وكأني بهؤلاء النوكى يطعنون بمَن يتكلم في دقائق المساحة
وتقويم البلدان؛ لأن البلاد المصرية أحوج إلى فن الزراعة منها إلى هذين الفنين،
وإن كانوا يعلمون أن الجهل بدقائق تقويم البلدان وعدم التفرقة بين (سرس)
و (فرس) اختزل جزءًا مهمًا من البلاد المصرية، وألحقه بالحكومة
السودانية.
ساق الله إلى هذه البلاد رجلاً من الغرب، قد نبغ في علوم اللغة وآدابها روايةً
ودرايةً؛ حتى صار إمامًا يُقتدَى به فيها، ألا وهو العلامة المُحَدِّث الشيخ محمد
محمود الشنقيطي، واللغة - كما لا يَخفى على بصير - هي من سائر العلوم بمثابة
الجسد من الروح، فمَن يذم المشتغل بدقائقها زاعمًا أن الأوْلى له الاشتغال بعلم
الأخلاق الباحث عن صفات النفس مثلاً - هو كمَن يذم المشتغل بدقائق الطب،
زاعمًا أن الفلسفة العقلية أفضل منه؛ لأن العقل والنفس أفضل من الجسد.
لو كان المصريون على هدى في طلب العلم؛ لأحلّوا الأستاذ الشنقيطي أعلى
مكانة في الأزهر، ولكان الطلاب في حلقته يعدون بالألوف، ولكنهم لم يرضوا
بهضم حقه، وعدم إحلاله محلَّه؛ حتى وُجد فيهم مَن ينتقصه على إظهار دقائق لغة
دينهم وكشف مخبّآتها!
نُشر في عدد سابق من (المنار) وفي (مصباح الشرق) سؤال منظوم لهذا
الأستاذ، يطلب فيه بيان كلمتين جاءتا في شعر الأخطل وهما لفظ (نوفل)
و (هشام) ، هل هما شخصان أم جنسان؟ ولا يَخفى أن مَن لا يفهم كلام أهل الطبقة
الأولى من بُلغاء لغته، ولا يفرق بين أسماء الأشخاص والأجناس في لسان أمته
ودينه - يكون في دركة من الجهالة سافلة. ولكن لم يكد السؤال ينتشر إلا وأنشأ
المتحذلقون ينددون بالأستاذ الذي يشتغل بمثل هذه المسائل، ويعذلوننا و (مصباح
الشرق) على نشر سؤاله، ولم يقفوا عند حد الكلام باللسان؛ حتى كتب أحدهم -
محمد طلعت - نبذة في جريدة (الرائد المصري) في شأن المسألة - ويا خجلتاه مما
كتب! - كتب إلى مدير تلك الجريدة (نقولا شحاده) ، يقول: (إنني - بكل شوق
ورغبة - أطالع جريدتكم الغرّاء، وأستوعب كل ما تحويه من المواضيع المستحبة
التي تستحقون عليها أطيب الثناء، على أني ألاحظ أنكم نسيتم - أو تناسيتم - أمر
العلماء الذين أهملوا واجباتهم الأدبية والدينية، وشُغلوا بسواها) ثم ذكر
الأستاذ الشنقيطي ومسألته، وختم نُبذته بقوله: (فأنَّى للأمة المصرية أن تتقدم
إذا كان علماؤها يشتغلون بحل مثل هذه المسائل) . اهـ
هذا، وإن السماء والأرض تقولان أنَّى للأمة المصرية أن تتقدم إذا كان شبانها
يحتقرون التدقيق في لغتهم وفهم كلام بُلغائها ومعرفة تاريخها، ويستوعبون جميع ما
يُنشر في مثل (الرائد المصري) ، ويرونها مفيدة للأمة، ويرفعون صاحبها إلى
درجة يطلبون منه بمقتضاها أن يُرشد علماءهم إلى واجباتهم الدينية والأدبية، أما
خجل هذا المصري - الذي يبحث عن ترقية أمته من العهد إلى الأجنبي عن الدين
بتعليم علماء الدين واجباتهم الدينية والأدبية؟ !
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كُلاها وحتى سامها كل مفلس
أما رصيفنا صاحب (الرائد) المحترم، فلا نلومه بمشايعة الكاتب عليه،
وقوله بعدم فائدة الاشتغال بهذه المسائل، ولكننا نستلفته إلى مراجعة السؤال،
والتأمل فيه؛ ليتضح له أن في تخصيص النصارى بالذكر مدحًا لهم وثناءً عليهم،
فإننا تنسَّمنا مما ذيّل به نبذة محمد أفندي طلعت أنه استثقل هذا التخصيص،
واستشعر منه ما لم يقصده صاحبه، ولا يدل عليه اللفظ في نفسه.
ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا؛ لنمدح عن بينة، وننتقد عن بينة، ونلزم
حدودنا عن بينة {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: 40) .
__________(2/301)
الكاتب: محمد محمود الشنقيطي
__________
شعر في حب العلم
أنشدنَا الأستاذ محمد محمود الشنقيطي قال: أنشدني محمد بن حنبل الشنقيطي
تغزُّلاً بلوحه:
عِم صباحًا أفلحت كل فلاح ... فيك يا لوح لم أطع ألف لاح
أنت يا لوح صاحبي وأنيسي ... وشفائي من غلتي ولُواحي [1]
فانتصاح امرئ يروم اعتياضي ... طلب الوفر منك شر انتصاح
بك لا بالثرى كلفت قديمًا ... ومُحياك لا وجوه الملاح [2]
رُبَّ خود ماء النعيم عليها ... جريانَ الزلال في الصُّفاح [3]
تستبي المرعوي بنور الأقاحي ... وجبين مثل انبلاج الصباح
وبجيد كأنه حين يبدو ... جيد جيداء من ظباء الرُماح [4]
وعلى ثغرها بعيد كرها ... طيّب الرّاح بالمعين القراح
خدلة غص قلبها وبُراها ... غصص المرط وهي غرثى الوشاح [5]
لا تبالي هبّ الرياح إذا ما ... أشفق الرسح من هبوب الرياح [6]
بفؤادي من لحظها داميات ... فعل نبل صوائب ورماح
قد تسليت عن رسيس هواها ... بك حتى كأنني جدّ صاحٍ [7]
بل يمينًا بواردات البطاح ... يتبارين ضمرًا كالقداح
قد برى النصّ نيّها والتغالي ... ودؤوب الإمساء والإصباح [8]
بعد ليل سرينه بعد ليل ... تصل الهجر بانسلاب الرواح
بعد خرق قطعنه بعد خرق ... تقذف الطرف نحو خرق فساح [9]
أفتأ الدهر هاجرًا للغواني ... ووصولاً للكتب والألواح
وأنشدنا أيضًا لأحد شيوخ مشايخه المختار ابن بونا الشنقيطي من قصيدة
طويلة:
إِلامَ فِيمَ عَلامَ إذا السكوت لكم ... كأن بينكم حقدًا وهُجرانا
ففاكهون بحلو الجد عن أدب ... نجلو به ما على ألبابنا رانا
شيئًا من أحسن ما قد قاله عمر ... وما استطبناه من أشعار غيلانا
ولابن زيدون قولٌ في الحبيب أنا ... أحق منه به سرًا وإعلانا
(أيا نسيم الصَّبَا بلِّغ تحيتنا ... مَن لو على البُعد حيًّا كان أحيانا)
ونحن ركْب من الأشراف منتظم ... نُجلّ ذا الخلق قدرًا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العِيس مدرسة ... بها نُبَين دينَ الله تِبيانا
__________
(1) اللواح بالضم: العطش.
(2) الثرى هنا: كثرة المال.
(3) جريان: منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف: أي يجري جريان والصفاح كرمان: حجارة طويلة دقيقة.
(4) الرماح بالضم: اسم مكان في نجد، قاله الأستاذ.
(5) الخدلة: الممتلئة الساقين، والقُلب بالضم: سوار غير ملوي، وقيل: ما كان من الأسورة مفتولاً من طاق واحد لا من طاقين، والبُرى بالضم: (ج) برة، وهي الحلقة من سوار وقُرط
وخلخال، والمِرط بالكسر: كساء يُؤتزَر به، والمعنى: أن هذه الخوذ (الشابة) ممتلئة، بحيث تغص حليتها وإزارها، لكنها غرثى الوشاح، أي هيفاء دقيقة الخِصر، والغرث في الأصل: الجوع، والتجوز فيه ظاهر.
(6) الرسح: (ج) رسحاء، والرسح: قلة لحم العجز والفخذين.
(7) يضاف لفظ (جد) إلى الوصف فيفيد المبالغة فيه، يقال: فلان جد عالِم وجد صاحٍ، أي متناهٍ في العلم وفي الصحو.
(8) النص: استفراغ الجهد في السير، والني: الشحم والسمن.
(9) الخرق: القفر.(2/303)
21 ربيع الأول - 1317هـ
29 يوليو - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة المِلِّية
(ملخص خطاب ألقاه منشئ هذه المجلة في جمعية شمس الإسلام)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)
أيها الإخوان:
لا أرى موضوعًا أمَسّ بحالنا من موضوع (الحياة المِلِّية) الذي ذكَّرتني به
الآية الكريمة التي جاءت في خطاب الأخ الأكبر رئيس الجمعية، وافتتحت بها
كلامي هذا. لا أبحث في التقدم والتأخر، ولا في الترقي والتدلي، ولا في القوة
والضعف، ولا في العزة والذلة؛ فإن جميع هذه الشؤون والأطوار إنما تكون للأمم
الحية النامية؛ إذ منها الآخذ في النمو بحركة الاستمرار، وهي ذات التقدم والترقي
والقوة والعزة، ومنها ما تتجاذبه قوتا التحليل والتركيب، فيكون حظه من هذه
الأطوار وما يقابلها تابعًا لغلبة إحدى القوتين اللتين هما ميزان الحياة القومية الأمية
ولا شك أن رجحان كفة التحليل يؤدي إلى الفناء وفقد الحياة بالكلية.
لقد بدا هذا التحليل في جسم حياتنا الملية من عهد بعيد حتى تلاشى هذا الجسم
أو كاد، ولم يبق فيه ما يقبل التحليل فكان أول واجب علينا أن نتلمّس العلاج الذي
يعيد إلينا حياتنا المفقودة. يدل على فقدنا هذه الحياة حديث: (بدأ الإسلام غريبًا
وسيعود كما بدأ) ، ومن الناس من يفهم من هذا الحديث أن الإسلام إذا وصل إلى
هذه الحجالة لا يعود إليه مجده ولا ترد إليه حياته. ولنا أن نقول: إنه صريح في
أن نشأته الثانية ستكون كنشأته الأولى. غربة وضعف، ثم معرفة وقوة وسيادة،
تجمع أطراف السعادة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 28) .
بماذا نحيا؟! لا حياة لنا إلا بما حيي به أسلافنا من قبل، وما كانت حياتهم إلا
بروح القرآن، أترون من البعيد أن تعود إلينا حياتنا بهذا الروح الشريف؟! كيف
وقد عاش آباؤنا الأولون بالاستقاء من ينبوعه المتفجر من عين الحياة الأزلية الأبدية؟
وإنما مِتنا بترك الاستقاء منه اكتفاء بالوشل الآجن الذي ينضح من آنية أمثالنا
المخلوقين، إن القرآن قد صارع الهمجية العربية فصرعها، وغالب جيوش الوثنية
فغلبها، وزرع فسيل المدنية الفُضلى في تلك الأرض التي كانت معشوشبة بجميع
الأعشاب الخبيثة فاجْتَثَّ هذه الأعشاب، وأنمى ذلك الفسيل فكان أدواحًا عظيمة
أثمرت من كل زوج بهيج.
اشتهر عند مشركي العرب أن القرآن ما خالط قلبًا إلا وجذبه إلى الحنيفية،
وقاده إلى جنة الإسلام بسلاسل الإقناع والبرهان، فحملهم الحرص على عقائدهم،
وحب البقاء على تقاليدهم على مقاواته بما يمكنهم، فكان أمثل رأي ارتأوه في ذلك
ما قصّه الله علينا بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) رأوا عدم السماع له بالمرة، وهو رأي الجبناء في الهزيمة
ورأوا مقابلته باللغو واللغط لئلا يسبق منه إلى الأذهان شيء، فيقتادها إلى ما لم
يكن من مرادها، وإن كان فيه هدايتها ورشادها، ولم يكونوا مع هذا على ثقة من
الغلب، وإنما هو الأمل والرجاء تتشبث به النفوس في البأساء والضراء، وبلغ من
عدائهم للقرآن ما قصه الله تعالى علينا بقوله - عز من قائل -: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن
كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) .
فإذا كان القرآن قد أحيا أولئك الأقوام مع شدة كراهتهم لهذا النوع من الحياة
ومقاومتهم له بما عَلِمنا من المقاومة، وكانوا منه في أمر مريج، فكيف لا يحيينا
ونحن نوقن بأنه كلام الله الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .
إن الحياة التي تفيض علينا أمواهها من أنابيب القرآن تكفل لنا سعادة الدارين
وتمنحنا الفوز بالحسنين، ولا نعلم دينًا جمع بين مصالح الروح والجسد،ومنافع
الدنيا والآخرة على وجه الكمال، إلا دين القرآن الذي علّمنا أن ندعو الله تعالى بقوله:
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201)
يقول نبي هذا الدين - صلى الله عليه وسلم -: اليد العليا خير من اليد السفلى،
ويقول: لَئَنْ تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون. ويُفَضِّل بمثل
هذا علماؤنا الغنيَ الشاكر على الفقير الصابر، والشاكر هو الذي يصرف من فضل
ماله في وجوه البر والمنافع العامة، هذا وإن كتب الأديان الأخرى تقول: (لا
يدخل الغني ملكوت السماء حتى يدخل الجمل في سم الخياط) .
كان من أهل هذا الدين من أفرط في الزهادة وبالغ في البعد عن أعمال الدنيا،
بل وفي التنفير عنها وهؤلاء قد عملوا بنصف الدين الإسلامي، وتركوا النصف
الآخر، ولا أعيبهم جميعًا فإن منهم قومًا قاموا بخدمة مولاهم، وأخلصوا له في سرّهم
ونجواهم، ولكن أقول: إنهم لا يصلحون للقدوة والإرشاد، وإن الذين يتمسكون
بركني الإسلام كليهما - ركن الدنيا وركن الآخرة - أفضل منهم. ذُكر رجلٌ للنبي -
صلى الله عليه وسلم - ووصف من صيامه وقيامه وانقطاعه للعبادة ما أوجب العجب،
فسألهم عن معاشه، فقالوا: إن له أخًا يكتسب وينفق عليه، فقال: أخوه أفضل منه.
القرآن صريح في طلب إقامة الركنين معًا، ولكن الغالين في الزهادة أغضوا عن مثل
قوله: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) ومثل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) وأخذوا بالآيات التي تتعلق بركن الآخرة فقط، إن
الأحاديث في الزهادة كثيرة جدًّا؛ ولكن الكثير منها بين ضعيف وموضوع لا أصل
له، وما كان منها صحيحًا فالغرض منه كبح جماح النفوس المجبولة من طينة الطمع؛
كيلا تتعدى حدود الحق وتحب المال لذاته؛ فيمسك أصحابها الفضل منه عن
المنافع العامة وأعمال البر، بل ويمنعون الحقوق، فيكونون عبيد المال والهوى،
أذكر من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد
الخميصة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس ولا انتعش، وإذا شيك فلا
انتقش) . رواه البخاري من حديث طويل.
أشار الأخ الأكبر في خطابه إلى أن مدنية أوروبا مقتبسة من الإسلام، وما
قال إلا حقًّا اعترف به فلاسفة الأوروبين ومؤرخيهم من قبل. لا أقول: إن كل فرع
من فروع هذه المدنية يوجد في الكتاب والسنة، كما لا أقول: إن كل فرع من فروع
الفقه منصوص عليه فيهما، وإنما جاء هذا الدين بقواعد عامة، وإرشادات كلية
يمكن للإنسان أن يهتدي بها إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا، فكما استنبط الفقهاء
وعلماء الأخلاق الأحكام والمسائل القضائية والأدبية، وغيرهما من تلك القواعد،
كذلك اهتدى علماء الاجتماع بها إلى المسائل والفروع المدنية التي تتعلق بالعمران
وترقي نوع الإنسان، أشير الآن إلى بعض تلك القواعد بالإيجاز،وإذا أمهل الزمان،
فإنني أفصل القول فيها تفصيلاً في اجتماع آخر، إن شاء الله تعالى.
من تلك القواعد: قاعدة سنن الكون ونواميس الاجتماع والعمران التي بها
تعرف أسباب ترقي المجتمع الإنساني وتدليه، ومن راعاها في سيره فاز بأمانيه،
وقد أرشدنا القرآن إلى هذه السنن الإلهية، وهي التي يعبرعنها الفلاسفة بالنواميس
الطبيعية، وبيَّن لنا أنها تعرف بالسَّير في الأرض والنظر في أحوال الأمم، فقال:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) وقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)
وقد اهتدى الأوروبيون إلى معرفة هذه السنن، ورعوها في سيرهم حق
رعايتها؛ فعرجت بهم إلى الأوج الذي نراهم فيه. ومن تلك القواعد: استعمال
العقل في العلم والدين، والأخذ بالبرهان، وقد كانت الأمم الأوروبية كغيرها،
محجورًا عليها أن تعتقد غير ما يقوله رؤساء الدين، حتى جاء القرآن يخاطب العقل
وينعي على أهل التقليد ويقول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} (البقرة:
111) وينادي على رءوس الأشهاد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) ومنها حرية الفكر والقول والعمل داخل حدود
شريعة الأمة والبلاد، واستقلال الإرادة وتقييد سلطة الرؤساء الروحانيين
والسياسيين، إلى غير ذلك مما لا محل لشرحه وتفصيله.
على هذه القواعد والأركان قامت مدنية أوروبا، وهي لم توجد في العالم إلا
بوجود القرآن. هذه القواعد أهم أركان السعادة الدنيوية، وقد أعرضنا عنها فشقينا
في دنيانا، وأخذوا بها فسعدوا وسادوا حتى علينا، ولو أعادوا النظر إلى القرآن كَرَّة
أخرى لرأوا فيه أسباب السعادة الأخروية، والقوم إذا علموا عملوا، ولا يبعد أن
يسبقونا في السعادة الثانية ما دمنا على هذا الكسل والإهمال، فأقترح على إخواني -
أعضاء هذه الجمعية - أن يطالب كل فرد منهم نفسه بتدبر القرآن وفهم معانيه عند
التلاوة، ومن وقف فهمه في شيء، فليراجع عنه في كتب التفسير إن كان أهلاً
للمراجعة، وإلا فليرجع إلى الذين يفهمون {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) . اهـ
هذا ما أحببت نشره في (المنار) مما استحضرته من الخطاب، وربما زِدت
كلمات ونقَصتُ مثلها؛ لأنني لم أكن ممن يبقى حافظًا ما يقوله ارتجالاً.
__________(2/306)
الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
(4)
بعد ما صَعَدت السيارةُ الثالثة إلى العلاء، هبطت السيارة الرابعة من السماء؛
تريد بيع (العمر الطويل) بالثمن القليل؛ ليتمتع الناس بما اشتروه من السيارات
السالفات، من النعم السابغات، وهي الذكاء والفطانة، والعفة والاستقامة، والصحة
والعافية، وكفى بها نعمة ضافية، ولم تكن تعلم ما قوبلت به بضاعتهن من الكساد،
وماذا حلّ بهن من الطرد والإبعاد، فوقفت في مكان فسيح، ونادت بكلام فصيح: يا
أصحاب العقل والفكر! هل لكم في (طول العمر) ؟ فقد أُمرت بأن أبيعه لمن أراد
بشرط الأهلية والاستعداد، فهرع الناس إليها، وتكأكأوا عليها حتى صار يموج
بعضهم في بعض، كأنهم في يوم العرض، وطمع أحد الأغنياء باحتكار هذه
البضاعة لنفسه، والاستئثار ببيعها دون أبناء جنسه، فأرسل وكيل أشغاله، وكبير
عمّاله، يساوم السيارة بجميع التجارة، ولمّا عَلِم الناس بذلك، ضاقت بهم المسالك؛
لعلمهم بما وراء هذا الاحتكار، ومن أنواع المِحَن والمضار، وناهيك بطمع التجار؛
فوقع القيل والقال، وحمي وطيس النزاع والجدال، ولما علمت الحكومة أن الجدال
أوشك أن يفضي إلى الجلاد، وأن الاسترسال في المحادة سينتهي بالسيوف الحداد،
حكمت على مثير الفتنة بالإعدام؛ لإخلاله بالراحة والأمن العام، وأمرت بأن تباع
هذه البضاعة للناس بالسواء؛ لأنها من حقوق الدهماء كالماء والهواء، لا فرق فيها
بين الأغنياء والفقراء، ولا بين الصعاليك والأمراء، فانحسمت أسباب الضغينة،
وثابت إلى الناس السكينة، وطفقوا يساومون الفتاة، طالبين طول العمر والحياة،
وعلت الجلبة والضوضاء من الرعاع والغوغاء، فهذا يقول: أعطيني أعطيني،
وهذا يقول: أنا جئت أولاً، وأخر يقول: أنا أزيد، فقالت السيارة: قد كشفت
لكم عن الحقيقة حجاب الالتباس، حيث قلت لكم: لا يفوز بالمراد، إلا صاحب
الأهلية والاستعداد، فصاح بها الناس أجمعون: إننا أيتها الفتاة لمستعدون، فقالت:
عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ثم أنشأت تمتحنهم فقالت السيارة: هل
اشتريتم من بضائع رفيقاتي اللاتي جئن من قبلي؟
- الناس: ما هي تلك البضائع؟ ومن هن رفيقاتك؟
- السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة - الناس: هذه لم نشتر
منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة.
- السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة.
- الناس: هذه لم نشتر منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة
المعارف العمومية.
- السيارة: أسامحكم بهذه، فهل اشتريتم من بضاعة الثانية، وهي العفة
والاستقامة؟
- الناس: وهذه لم نشتر منها أيضًا، وقد طردتها نِظَارة الحقانية.
- السيارة: والثالثة جاءت لتبيع الصحة والعافية.
- الناس: قد أتينا لنشتري من هذه، فجاء التُّرَبيّة وخطفوا صندوقها، ثم احتال
عليها الأطباء فأخذو ما إلى المستشفى ولا ندري ماذا فعلوا بها.
السيارة: الحق أقول لكم: إنني غير مأذونة بأن أبيعكم شيئًا من بضاعتي،
وما أردت بالاستعداد والأهلية، إلا هذه الصفات المُرضية، ثم ما هي لذة طول
العمر بدون الذكاء والفطنة، ومع فَقْدِ العفة والاستقامة، والصحة والعافية، ألا إن
الموت خير من الحياة التعيسة بفقد هذه الصفات النفيسة، على أن طول العمر
مع عدم الصحة والعافية مُحال، كما أن الصحة مع فقد العفة غاية لا تُنال.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/310)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(13)
(مكدونيا) لا تقرأ صحيفة من صحف الأخبار الطائرة في هذه الأيام [1] إلا
وترى فيها ذكر مكدونيا، والقلاقل التي تدوي فيها، وأن أهلها يتطلبون إصلاحات
داخلية، أو امتيازات إدارية، وكأنهم طمحوا إلى هذه الرغيبة وسمَوا بأبصارهم إلى
تلك الأمنية مُذ رأوا فوز الكريديين، وإنجاح طلبتهم، وما بالهم لم يعتبروا بخيبة
الأرمينيين وإخفاق مأمولهم؟ ولا نعلم إذا كان مسلمو الأرنؤوط على وفاق مع ثائري
مكدونيا في هذا الطلب، أو ليسوا على وفاق معهم؟ يغلب على الظن أنهم
متواطئون جميعًا على القيام بهذا الشأن، وإلا لحصل بين القبيلين جدال أو جلاد،
وجرى ما كان يجري بين الأكراد والأرمن مذ تمنى هؤلاء على الدولة الأماني
وعارضهم أولئك.
وكيف نتيجة حوادث مكدونيا يا ترى؟ يظهر أن مقاطعة مكدونيا ربما نالت
إصلاحات خاصة، أو امتيازات داخلية تكون بمثابة استقلال إداري، كما
هو الشأن في سائر ولايات البلقان وفي كريد أيضًا، ولا يوجد في طريق هؤلاء من
العَثرات ما وجد في طريق الأرمن. ليس بينهم من يأخذ بأكظامهم، ويحفر لهم
الحفائر كما كان من مقاومة الأكراد للأرمن، ولا تتاخم بلادهم إحدى الدول القوية؛
لتعارضهم الآن وتمالئ الدولة العلية عليهم، فتزعهم وتنقمهم، وتنتظر هي أن
تلتهمهم كما فعلت الروسية مع الأرمن في ثورتهم فإنه يجاورهم من الشمال ولايات
البلقان، ومن الجنوب اليونان، وكلهم ليسوا ممن تُرهب صولته، أو تخشى شرته،
وإن كانت لهم مهارة في إثارة القلاقل، وحذق في إيقاظ نائم الفتن. نعم إن للنمسا
شيئًا من جوار لمكدونيا بواسطة البوسنة والهرسك، غير أن النمسا الآن لا تودّ أن
تغيظ الدولة العلية، ولا أن تثير عليها حنق إحدى الدول الأوروبية، فهي تواطئ
الروسية في حادثة مكدونيا، وتتابعها متابعة الظل، وسياسة الروسية هي حفظ
الحالة الحاضرة في تلك الولاية، بمعنى أن تُبقي على تابعيتها الصرفة للدولة العلية،
ولا نعلم إذا كانت تحافظ على سياسة الحياد هذه، أو يبدو لها، فتعضد أهالي
مكدونيا، وتروج طلباتهم لدى الدول كما فعلت في كريد.
المرجح الأول لما أن القيصر الآن يبذل مجهوده في توسيع نطاق نفوذه في
أصقاع الشرق الأقصى، ويهتم في شأن المؤتمر الذي ينظر في المشروع السلمي
الذي اقترحه على الدول، فمساعدته لثوار مكدونيا ربما كانت منافية لمشروعه لما
ينشأ غالبًا عن تأييد مطالبهم من إيغالهم في الشر والفظائع، وارتكابهم ما يزيل الأمن
ويخل بالسلم، وحادثة كريد أقرب شاهد على ما ذكرنا، فقد استبان لك الآن مما
تقدم أن مصير مكدونيا في الغالب هو الاستقلال الإداري. أما ولايات الأرمن
والأكراد، فمصيرها يتردد بين الاستقلال الإداري وبين الاندماج في السلطة
الروسية، وأما الولايات العربية فمصيرها إلى مهاوي التغلب الأجنبي - كل ذلك
إذا تقاعدت الحكومات الإسلامية عن الحلاف والمؤازرة، وبقيت الحكومة العثمانية
على الحال التي نذوق مرارها ونشاهد آثارها، ونسأل الله تعالى أن يحوِّلها إلى
أحسن حال.
إذا فار التنور، ووقع المحذور، وتجردت الدولة - لا كان ذلك - عن تلك
الولايات، فأجدر بها أن تحافظ على ولاية الأستانة التي هي معدن العنصر التركي،
ومهد مفاخره التاريخية، فتنهض القسطنطينية حينئذ بما على جنابتيها من البرّين
الرومللي والأناضول نهوض الطير بجناحيه.
قال الكاتب: اعْترض الحديث حينئذ بعضُ من حضر، وقال: إن عَجْزَ
العثمانيين عن حماية سائر الولايات مؤذِن بعجزهم عن حماية ولاية الأستانة أيضًا؟
فأجبته [2] : إن نعرة المرء وحفاظه في الدفاع عن جسمه وشواه (أطرافه) تكون
أشد من حفاظه في الدفاع عن سرابيله، وقص الذيل والردن أهون على النفس من
جدع الأنف وصلم الأذن، فما بالك إذا آنس المرء من آخر غارة في اختلاس مهجته
والإيداء بحياته، لا جرم أنه يستميت مستبسلاً، ولا يموت مستسلمًا، ومن أخص
غرائز القوم البسالة والحمية، وقد هذبهم الملك، ودَرّبتهم الآداب العسكرية، وفي
نصف القرن الماضي (الهجري) قام بينهم رجال اختطُّوا للأتراك خُطط التقدم،
وأشرعوا لهم من السياسة وحسن الإدارة مناهج، لو لم يتنكبوها لأشرفت بهم على
الغاية، وأوصلتهم إلى بحابح السعادة، حيث ترتع الأمم المتمدنة [3] ، ونبغ فيهم
خطباء، وكتبة أذكياء، فَكّوا عن اللغة التركية أغلال الركاكة والتعقيد، وأطلقوا
لسانها في الخطابة، وقلمها في الكتابة، وأشعروا قلوب الناشئين والفتيان حب
الحرية والوطن، حتى كثُر اللهج بهاتين الكلمتين بين القوم في أشعارهم، وضروب
كتاباتهم، ولا تزال تلك الروح منبعثة في الأمة التركية ما دامت آثار أولئك الكَتبة
يدوي صداها في أصماخ الناشئين وتصل نغيتها إلى سويداواتهم - مادام أولئك
الناشئون يتذامرون [4] بمثل قول سياسيهم الشهير: (نحن العثمانيين فتحنا
القسطنطينية بثلاثة آلاف رجل، ولا نُسَلِّمها إلا إذا بقي مِنَّا ذلك العدد) . لا تشفقن
على تلك الروح من ثقل الضغطة وشدة الوطأة، فإن حجر الماس لا يفتته صدم،
ولا يسحقه صك، بل لا يغررك سعي الساعين في إزهاقها، ولا تأميلهم استلالها من
بين اللحم والعظم والمصل [5] والدم، فإن السعي في استعباد الأمة وهضم حقوقها قد
يتسنى للعامل بواسطة حجب نور العلم عن عقولها، واستئصال جراثيم الفضائل من
نفوسها، لكنّه لن يتسنى له ذلك قط بواسطة محو التعلق من النفوس، واختلاس
العقل من الرءوس، وإلا لم يكن راعي بَشَر، بل راعي بقر. هذا المعنى [6] الذي
قام في نفوس العثمانيين وأُشربوه في قلوبهم حلّ من فطرتهم محل الإدراك والنطق.
إن قدر أحد على انتزاع الإدراك من الفطرة الآدمية كان قادرًا على انتزاع ذلك
المعنى من نفوس القوم وقلوبهم.
هذه المزايا التي ذكرنا التصاقها بنفوس العثمانيين، وممازجتها لأرواحهم،
هي التي تحملنا على الحكم ببقاء دولتهم، ودوام أمرهم، واقتدارهم على حفظ
استقلالهم من صولة الصائل، ولا نخال أن شيئًا من ذلك متوفر في مسلمي الولايات
العربية، أو معروف لديهم؛ لأن التعليم المدرسي يكاد يكون مفقودًا من بينهم
وتهذيب النشء والأحداث أمسى مقتصرًا على نفر منهم، وعلى غير الوجه الذي
ترجى فائدته لهم. أما لغتهم التي يُضرب بها المثل في اتساع نطاقها، وتشعب
أقانينها، فقد اكتفوا منها بقطر من بحر، وكلمة من سفر، حتى أضحت أشبه
باللغات الميتة التي وظيفتها تصحيح العبادات، وتفهيم النصوص الدينية، وحل
أساليب الكتب القديمة، ولولا استحداث الجرائد بين المتكلمين بها لكانت أسوأ حالاً
وأظلم مآلاً، ولحاكت اللغة الكرشونية التي يزاول بها الكهنة وظائفهم الدينية. ولم
يقم في العرب رجال درسوا السياسات، وتخرجوا في أعمالها؛ كي يلقنوا شعبهم
شيئًا من مبادئها، ويلقوا في نفسه بذور الإصلاح، ويعرفوه كيف يكون نظام هيئة
الاجتماع، وكيف يحافظ على الحقوق، ويطالب بها، ولم يَنْبُغ بينهم كتبة أو خطباء،
أو ذوو نباهة من العلماء يطلقون أفكار الشعب العربي من سلاسل الأوهام
ويطهرون نفوس آحاده من لوث الخرافات، ويميطون عن أبصارهم غواشي التقليد
الأعمى الذي يطوح بالأمم إلى عماية العدم.
منزلة الخطابة في الأمة منزلة الإرادة من الشخص، فاندفاع المرء في أعماله
وتقلبه في تلمس مصالحه، وانبعاثه في إنقاذ مقاصده إنما يكون على قدر ما عنده
من قوة الإرادة ومضاء العزيمة، فإذا قويت الإرادة فيه بحيث أضحت تتسلط على
ضعف نفسه، وتكفكف من جماح هواه بشره بالنجح، وسداد الأعمال، وانتظام
المعيشة، أما إذا ضعفت تلك الإرادة فيه وتضاءلت دون مقاومة أهواء نفسه وتقليص
غشاوات جهله، تحكمت حينئذ فيه تلك الأهواء، وسلطت عليه الرذائل، فتفسد
أعماله ويسوء مصيره، كذلك حال الأمة ومزية الخطابة فيها وتأثيرها في نفوس
آحادها. إذا رأيت أمة كثر الخطباء فيها، وانطلقت ألسنتهم في هدايتها لما فيه
خيرها، وقَدَروا بسبب ما أوتوه من البلاغة وقوة الخطابة على تحويل أفكار
الشعب، وتصريف مهابها من جهة إلى أخرى، وتمكنوا من هيج النفوس الجامدة،
واستثارة الحفائظ الخامدة، يوشك أن تنهض تلك الأمة من غفلتها، وتقتحم الأخطار
في سبيل صيانة شرفها ووقاية مصالحها، والذود عن استقلالها. فَكّر ماذا يكون حال
الأمة التي تفقد صدى الخطابة في نواديها، وتهدأ شقاشق الخطباء على منابرها؟
أجدر بأن تكون حالتها كحالة الأخرس يعجز عن إفهام ما في نفسه. الأخرق لا
يحسن شيئًا من الأعمال. القُلّب يشرع بعمل فلا يلبث حتى يدعه ويشرع بآخر،
أوهي كالطفل لا إرادة له تُلهمه سداده وتقيه من الغوائل، بل كالنفش السارب،
والهمل المرسل، لا راعي له يجمع متفرقه، ويهدي ضاله، وينعق بالسابق
المتقدم يسترجعه، وبالمتخلف المتباطئ يستحثه.
وبالجملة: إن وسائل النهضة لم تتوفر بعد في مسلمي العرب، كما توفرت في
الأتراك، فلذا كان مستقبل هؤلاء على مَقْرُبة من النجاح والاستقلال، ومستقبل
أولئك فيه شوب من غموض، وعليه غواشٍ من ظلام. ولولا ما أمرنا الله به من
الثقة بوعده، وآذننا بالتسجيل على اليائس من روحه بالكفر، مع ما نستحسه لهذه
الآونة من اهتزاز خواطر البعض من نُبهاء الأمة في إصلاح شأنها، وتموج نفوسهم
في العمل لإنهاضها وتقوية ذمائها (هو الحركة وبقية الحياة) لولا ذلك لما خامرنا
ريب في هويها، ولم يعترضنا شك في إمحاء جنسيتها، وانغماسها في غمار الأمم
المتغلبة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يريد بهذه الأيام أيام كتابة الرسالة، وقد مضى عليها شهور، أما الآن فقد سكنت الفتنة بحكمة مولانا السلطان الأعظم - أيّده الله تعالى - ولكن القوم قد نغلت نياتهم، ولا بد أن يعودوا إذا نفخ الأجنبي الرماد عن نارهم.
(2) هذه الرسالة كانت بسطًا لحديث جرى للكاتب في ملأ من أهل سوريا كما تقدم، وما يقوله في الجواب من أن سلطة الترك لا تزول هو رأي له قديم، وهو معجب بالأتراك إعجابًا كبيرًا كما ترى في كلامه، ومن يعرف القوم يعطيه الحق.
(3) (المنار) نقول: إنما لم ينجحوا بتلك المناهج؛ لأنها اتباع لخطوات أوروبا حتى في الإعراض عن هدي الدين، ولو أشرعوا لهم منهاجًا إسلاميًّا واحدًا لتم لهم ما يريدون.
(4) أي يتحاضون، ويحث بعضهم بعضًا على الإقدام.
(5) المصل: أعظم الأجزاء التي يتركب منها السائل الدموي.
(6) يريد بهذا المعنى ما أسنده إلى سياسيهم الشهير من قوله: (نحن العثمانيين) إلى هنا، وهي معاني يُراد بها شيء واحد، والسياسي الشهيرهو كمال بك رئيس النهضة القلمية.(2/312)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع مالية الدولة)
بقي علينا مما نسرده على القراء من تحويلات القروض العثمانية سردًا سريعًا،
الكلام على مشروع قد تقرر مبدئيًّا، ولاشك أنه لا يمضي عليه زمن حتى يتم
إنفاذه، وهو إصدار سهام لقرض قدره خمسة ملايين جنيه إنكليزي، ربحها ثلاثة
في المائة، وأجر استهلاكها واحد في المائة، ستتمكن به الحكومة العثمانية من شراء
سهام الدين الموحد (وهي سهام إيصال خطوط حديد الرومللي بأوروبا المركزية)
وقدر هذا الدينَّ 810000 جنيه إنكليزي. وتتمكن أيضًا من شراء مدرعتين من
مدرعات الدرجة الأولى من أوروبا بمبلغ 1400000 جنيه إنكليزي، ولما كانت
السهام المصدرة بثمن 60 (في المائة) سيحصل منها 3000000 جنيه إنكليزي،
فسيبقى للحكومة العثمانية من هذا المبلغ 700000 جنيه إنكليزي، حددت الدفعة
السنوية لهذا القرض بمبلغ 173000 جنيه إنكليزي، وهذا في مقابلة مبلغ 87000
جنيه إنكليزي كان يطلب ربحًا للقرض الموحد، ومبلغ 86000 جنيه إنكليزي كان
ينتج من احتكار التنباك الذي كان منح لأصحاب هذا القرض من سنتين (من تاريخ
تأليف الرسالة) وبدئ بالعمل به.
قد رأى القارئ فيما سلف أن الأمر العالي الصادر في 20 ديسمبر منح لحاملي
السندات التركية تلكم الأجزاء من الدين العمومي التي ألزمت بها معاهدة برلين كلاًّ
من حكومة البلغار واليونان والجبل الأسود والصرب، ولكن أوروبا قد تساهلت
مع هذه الحكومات، ولم تلزمها بأداء ما فرض عليها مع أن الحكومة العثمانية قامت
بما فرض عليها في تلك المعاهدة بصدق أضاع كثيرًا من منافعها، وهذا يدل دلالة
واضحة على عدم ثبات الدول التي كان لها نواب في مؤتمر برلين، ولولا ذلك لما
رضيت قط بنقض تلك الحكومات الصغيرة ما أبرمته الدول الكبرى، ووقّع عليه
نوابها.
سيتضح للقارئ مما نورده عليه بالاختصار من أجزاء الدَّين التي ألزمت به
الحكومات المذكورة، وما عرضته الحكومة العثمانية من طرق تسديدها عرضًا
رسميًّا، ومما في هذه الطرق من أمارات العدل ودلائل الإنصاف - أهمية حل
هذه المسألة السيئة بالنسبة لتركيا ودائنيها، وما ظهر فيها من اعتدال لحكومة جلالة
السلطان ظهورًا واضحًا، حكومة البلغار مدينة لخزينة الحكومة العثمانية - بحسب
الأرقام المأخوذة من مصلحة الدين العمومي -بمبلغ إسمي قدره 10888528
جنيهًا مجيديًّا فائدته واحد في المائة، فما يدفع من الفائدة مسانهة يكون 108885
جنيهًا مجيديًّا، وهذا المبلغ (الفائدة) هو الذي كان من الضروري تأصيله، إذا
اعتبرنا أن متوسط سعر ربح سهام الحكومات في أوروبا أربع في المائة، نستفيد أنه
لا يبقى على البلغار شيء مما لزمها من الدين بعد نهاية المدة المقررة لدفعه؛ فإن ربح
الدفعة السنوية من رأس المال الواجب عليها هو أربع في المائة، والمدة المقررة
لاستهلاك المال مائة سنة، ففي هذه الأحوال يكون المبلغ اللازم لتعويض الدفعة
النسوية وهي 108883 جنيهًا مجيديًا هو 2667240 جنيهًا مجيديًا، فإذا سلمنا أن
حكومة البلغار لا يتيسر لها الحصول على هذا المبلغ بفائدة أقل من ست في المائة بشرط تسديده في 25 سنة، لكان ما تدفعه مسانهة هو 208650 جنيهًا مجيديًا،
وجدت الحكومة المذكورة في هذا التدبير مزايا عظمى من حيث تقوية الثقة بها،
والحصول على الوفور المهمة الناتجة لها من المبلغ التي هي مدينة به للحكومة
العثمانية، هذه المزايا كان من شأنها أن تحملها على المشاركة في إنقاذ ذلك
المشروع، وفي الحقيقة لو أن حكومة البلغار كانت تسير في دفع القسط الواجب عليها
من الدين مسانهة على طريقة الحكومة العثمانية في الدفع (وهو الذي يجب عليها أن
تفعله) لاضطرت في هذه الحالة أن تدفع في كل سنة مبلغ 544425 جنيهًا مجيديًّا،
وذلك بسبب زيادة هذا القسط تدريجيًا إلى 50 في المئة على حسب زيادة
الواردات المتنازل عنها للدائنين، وفوق ذلك ما كان يتيسر لها أبدًا أن تعرف
المبلغ الذي كان يجب أن يحتسب لخزينتها من قبل أن تسدد الدين كله، فإذا
تحامينا خطر احتمال ما قد يعرض من الشك في لزوم دفع ذلك المبلغ في خلال مدة
القرن المقررة لدفع الدين، وقدرنا ما تدفعه حكومة البلغار كل سنة باثنين في
المائة، لكانت دفعتها السنوية 217770 جنيهًا مجيديًّا في مدة مائة سنة، فدفعها
مبلغ 208650 جنيهًا مجيديًّا مسانهة، مدة خمس وعشرين سنة فقط، هو إذن
تدبيرٌ كله فائدة لها.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/316)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة الجمعية الخلدونية
كما تم في هذه الأيام امتحان المدارس التعليمية في مصر تم في بلاد الهند
وتونس وغيرها، وقد جاءتنا كراسة من إدارة (مدرسة محمدي) في مدارس الهند
تبين خلاصة أعمالها، وإذا تسنى لنا من يترجمها من لغة أوردو ننشر خلاصتها،
ووردت جريدة (الحاضرة) الغراء من تونس شارحة احتفال المدرسة العلوية،
ومدرسة الجمعية الخلدونية، وامتحان جامع الزيتونة الشريف، وقد سرّنا جدًّا ترقي
(الجمعية الخلدونية) عامًا بعد عام، وقرأنا فيما نشرته الجريدة من خبر الاحتفال
خطابًا بليغًا لجناب (الوزير المقيم) في تونس من جانب فرنسا وافق فيه ما كتبه
منشئ هذه المجلة من أيام في (المؤيد) الأغر تحت عنوان (السياسة الأدبية) ،
حيث قلت: لا بد للمسلمين من الجمع بين علوم الدنيا والآخرة، وقد قال الوزير مثل
ذلك، وقابل بين تعليم الجمعية الخلدونية، وبين جامع الزيتونة، كما قابلت أنا بين
تعليم (دار العلوم) وتعليم الأزهر، وسائر المدارس الأميرية، وهاؤم اقرؤوا كلامه
نقلاً عن (الحاضرة) الغراء بالحرف:
قال جنابه: يسرني كل السرور أن حضرت في هذا الاحتفال لمشاهدة تقدم
الخلدونية ونجاحها، ولا حاجة لي للإعراب عما يختلج بين أضلعي من دواعي
الخير والتقدم لهاته البلاد، أما الجمعية الخلدونية، فلما كنت ممن أعان على غرس
شجرتها، يسرني اليوم ما نراه من ثبات أصلها، ونمو فرعها، وتفتق أزهارها،
وطيب ثمارها ... ثم قال: وحيث حدا بنا المقام لتشبيه الخلدونية بشجرة يانعة
نقول: إن جامع الزيتونة هو الدوحة المباركة العلمية، والمدرسة الخلدونية بمثابة
لقاح بها حتى إذا ثبت مغرسها أثمرت ثمارًا شهية مكملة للذة ثمرات الدوحة الأصلية،
ووجه التشبيه بالشجرة كما تقدم نراه من وضع الشيء في محله ضرورة أن الجامع
الأعظم مسمى بجامع الزيتونة (نسبة للشجرة المباركة) فلا غرو أن كانت
الخلدونية فرعًا من فروعها (فاستحسن الحاضرون هذا المجاز) ثم قال: وقد
كنت وعدت في مناسبة أخرى بتقديم مَن أحرز على شهادة التحصيل مِن نجباء
الخلدونية للوظائف الإدارية، والآن نؤكد ذلك الوعد بوفاق، وبمشهد من رجال
الدولة التونسية، وليس معنى تخويل الوظائف إعطاؤها لمستحقيها بمجرد التحصيل
على تلك الشهادة، بل بمجرد شغور الخطط بالمصالح الإدارية التي ترشحوا لها
بأنوار المعارف، ثم قال: وهاته المعارف، لاتنافيها الشريعة الإسلامية، بل جاءت
بالحث عليها حثًّا لاينكر، كما برهن على ذلك الأستاذ العلامة الشيخ سالم بوحاجب
في درسه البليغ بمناسبة افتتاح الخلدونية، ثم قال: ومما يدل على نفع العلوم
المزاولة بالخلدونية، ما نراه من الاعتناء بتلك العلوم في البلاد الشرقية كالأستانة
والقاهرة، ومع ذلك فلا تكاد توجد بها مدرسة تحاكي الخلدونية في وضعها ومقصدها،
كما تأكدنا من الفضلاء الثقات، ومن الأميرة نزلي هانم (من الأسرة الخديوية
المصرية، وقد كانت بتونس لعهد قريب) فإن طلبة العلم بالجامع الأزهر مثلاً
منقطعون لمزاولة علوم الدين وما تعلق بها معرضون عن التعاليم الوقتية التي لا
يُنْكَر فضلها ولزومها في الأوقات الحالية، كما أن تلاميذ المكاتب المصرية لا
يتعاطون إلا الفنون الوقتية، وليس لهم أدنى إلمام بعلوم الدين، بحيث افترق جمهور
الطلبة المصريين فريقان، كلاهما مضاد الآخر في أفكاره ونزعته وأخلاقه، وليس
هناك رابطة بين ذينك الفريقين، وإن شئت قلت: بين ذينك التعليمين، بخلاف
المملكة التونسية، فقد امتازت بوجود المدرسة الخلدونية التي أضحت الرابطة
الجامعة بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي، سيما والقائمون بتلك الوساطة نخبة من
نجباء المسلمين التونسيين.
ثم تخلص جنابه لمبحث سياسي دقيق، فقال: ولفرنسا اهتمام عظيم بشأن
الديانة الإسلامية، وثقة تامة بمن حصل على نصابها بحيث إنها تعتمد من كان
متمسكًا بأمور دينه محافظًا على شعائر قومه، متثقفًا بالكمالات الإنسانية، وذلك أن
الدولة الفرنسوية لا تزال خاطبة ود الإسلام، لما تعلم أن غرس محبتها في قلوب
المسلمين، وترويج سياستها في دواخل البلاد الإفريقية معلقان على موالاة المسلمين
في شمال أفريقيا، لا سيما عاصمة المملكة التونسية التي تكون مركزًا علميًّا تنبعث
أشعته على سائر أرجاء البلاد السودانية (تصفيق استحسان) اهـ ما أردنا نشره.
(المنار)
أسست مدرسة دار العلوم في مصر قبل المدرسة الخلدونية بسنين، ولكن
السياسة الإنكليزية ضغطت عليها حتى كادت تسحقها، واجتهدت في محو ما كان
للدين وللغة في المدارس الأخرى من الأطلال والرسوم، وإنما فعلوا هذا بخيانة
الأمين ومساعدة المارقين من اللابسين لباس المسلمين، الذين لا يزال يقترح
بعضهم تعليم التاريخ الإسلامي بالإنكليزية بدلاً من العربية، وبعضهم إبطال حفظ
شيء من القرآن، فصبر جميل والله المستعان.
__________(2/318)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إحصاء عن عدد سكان أوربا
وضعت إحدى الجرائد الفرنسوية إحصاء عن عدد سكان أوربا، فقالت: إنهم
يبلغون الآن 380 مليونًا، وكانوا في عام 1887 نحو 343 مليونًا، فيكون عدد سكان
أوروبا قد زاد منذ نحو اثنتي عشرة سنة 37 مليونًا، ويوجد من هذا العدد 106
ملايين، و200 ألف نفس في روسيا، و52 مليونًا و800 ألف في ألمانيا، و43
مليونًا ونصف مليون في النمسا، و39 مليونًا و800 ألف في إنكلترا و38 مليونًا
ونصف مليون في فرنسا، و31 مليونًا و300 ألف في إيطاليا، و18 مليونًا في
أسبانيا، و6 ملايين ونصف مليون في بلجيكا، و5 ملايين و800 ألف في تركيا
أوروبا، و5 ملايين و600 ألف في رومانيا، وخمسة ملايين في البرتغال، و5
ملايين في أسوج، و4 ملايين و900 في هولندا، و3 ملايين و300 ألف في
بلغاريا، و3 ملايين في سويسرا، ومليونان و400 في الدنمارك، ومثل هذا العدد في
سربيا، ومليونان في نروج.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام)
__________(2/320)
28 ربيع الأول - 1317هـ
5 أغسطس - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجنسية والدين الإسلامي
البداوة في النوع الإنساني سابقة على الحضارة، ولكن الإنسان مدني بالطبع،
ميال للاجتماع بالفطرة، وقد كان مبدأ اجتماعه تكوّن الشعوب والقبائل بالعصبية
النسبية، فكانت هي مناط الجنسية، ثم صعد النوع في سلم الارتقاء الاجتماعي،
فاتسعت دائرة جنسيته، فكان مناطها اللغة، وكما كانت تتألب القبيلة التي يجمعها
نسب واحد، وتزحف لقتال قبيلة أخرى من أهل لغتها لأقل عدوان يقع بين أفراد
القبيلتين، صارت تتألب القبائل الكثيرة التي يرتبط بعضها ببعض برابطة اللغة
ويلتحم بلُحمتها، على قتال الأجناس التي تجمعها لغة أخرى غير لغتهم، وبهذه
الجنسية تكونت الأمم، فكان منها العربي والتركي، والفارسي والهندي والصيني
إلى غير ذلك.
ما كانت عناية الله تعالي بالإنسان لتقف به عند هذا الحد من الاجتماع
والتمدن، بل أعطاه سلمًا ليعرج عليه إلى الأفق الأعلى من المدنية وسعة دائرة
الاجتماع، وهو المُعبر عنه بناموس الارتقاء العام، ولما استعد بمقتضى هذا
الناموس لامتزاج بعض أجناسه ببعض، ومؤاخاة العربي للعجمي والرومي
والفارسي، منحه رابطة أعلى من جميع روابط الاجتماع، رابطة تضم متفرق
العناصر وأشتات الأجناس، وتصوغها فتجعلها عنصرًا واحدًا، رابطة يمكن لكافة
البشر أن يكونوا بها أمة واحدة، وإخوانًا على سرر متقابلين، هذه الرابطة هي
الديانة الإسلامية، التي بُني أساسها على الوحدة في الاعتقاد، والتهذيب والأحكام
القضائية والمدنية التي يخاطب قرآنها البشر كافة بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ويخاطب أهل الكتاب خاصة بقوله:
{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) .
ما كان ليعزب عن شارع هذا الدين - وهو عالم الغيب والشهادة - أن الناس
لا يعتنقونه مرة واحدة، وأن هذا موجب للاختلاف والتفرق، وهو إنما وضع للوفاق
والتوحيد، ولذلك جعل الرابطة ذات طرفين، طرف يمكن أن يضم جميع البشر على
اختلاف مذاهبهم وعقائدهم، وهو كونهم يحكمون بشريعة واحدة عادلة، تساوي بين
مؤمنهم وكافرهم، ومليكهم وصعلوكهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم،
وهذا الطرف هو طرف الجامعة الدنيوية، ويمكن لأهله أن يعملوا لإحراز سعادة الدنيا بالاشتراك، حتى يصلوا إلى الغاية التي في استعدادهم الوصول إليها،
والطرف الثاني هو طرف الجامعة الروحية الأخروية، وهو يؤلف بين الآخذين بهذا
الدين تأليفًا روحيًّا زائدًا عن ذلك التأليف الجثماني تأليفًا جرثومته وحدة المعتقد
والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغذاؤه الأخلاق الفاضلة،
والعبادات الكاملة، وثمرته الإخاء الصحيح، وجعل المؤمنين في تضافرهم وتعاونهم
على البر والتقوى كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى له عضو
تداعى له سائر الجسد.
لا تحقرن أمر الرابطة الأولى، رابطة الشريعة العادلة، فهي على كونها أعم
من رابطة اللغة وأشمل، قد كانت أقوى وأكفل، كان أبناء اللغة الواحدة والدين
والواحد يفرون من هجير ظلم قومهم، المشاركين لهم في جنسيتهم، ويستظلون بظل
العدل الإسلامي الظليل، حتى أن الروم في بلاد الشام لما رأوا في أثناء الفتوح وفاء
المسلمين لهم وحسن سيرتهم فيهم، صاروا عونًا لهم على قومهم، وعيونًا للمسلمين
عليهم، يتجسسون لهم الأخبار، ويوقفونهم على الأسرار.
جاء في رسالة (الجزية) التي نشرت في المجلد الأول من (المنار) أن أبا عبيدة
رضي الله عنه لما أراد أن يشخص من حمص إلى دمشق لتألّب الروم على المسلمين
وجمعهم لهم، أمر حبيب بن سلمة أن يرد على القوم ما كان أخذه المسلمون منهم من
الجزية، فرد عليهم ذلك، وأفهمهم بأن الأمير أبا عبيدة يقول: ما كان لنا أن نأخذ
أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي أن أخذ المال هو بإزاء الحماية، وقد عجزوا عنها في
ذلك الوقت لاضطرارهم إلى الخروج من البلد، فردوا عليهم المال) فقال أهل
البلد: (ردكم الله إلينا، ولعن الذين يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم
ما ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا) هذه
الرابطة مناط للجنسية، اتخذه الأوروبيون أحبولة لصيد الأمم والشعوب التي
ثقلت عليها وطأة ظلم حكامها، فنجحوا مع بُعدهم عن العدل الصحيح والمساواة اللذين كان عليهما المسلمون عندما كانوا متمسكين بدينهم وحاكمين بشريعتهم، ولكن
هذه الرابطة مهما كانت وثيقة وقوية، فهي لن تبلغ مبلغ رابطة وحدة الاعتقاد
بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها، ولذلك ترى المسلمين يتململون من
سلطة الأجنبي عن دينهم، وإن كان عادلاً، ويودون الفرار من ظل عدل، ولو
لفحهم مثل لهيب جهنم من ظلم المتحدين معهم في الاعتقاد والمذهب، وبهذا لم يكن
للمسلمين جنسية في غير دينهم، ولا يخضعون باختيارهم سرًّا وجهرًا إلا لحكومة
شوروية تحكمهم بشريعتهم، وتقيم حدودها العادلة فيهم، مقتفية آثار خلفائهم
الراشدين، بحيث يكون لديها الخليفة والصعلوك في الحق سواء، لو اهتدت لهذا الأمر
أية حكومة إسلامية، ووفقت للعمل به مع الحكمة، من غير زيغ ولا زلل،
لأمكنها أن تجمع كلمة المسلمين في مدة قصيرة، بل لو أن دولة حكيمة كإنكلترا
اعتنقت الإسلام وأقامت شريعته، لتسنى لها امتلاك باقي الشرق وإفريقيا كلها.
عرف الأوروبيون من المسلمين ما ذكرنا، فانتفعوا بمعرفتهم واجتهدوا
في إزاحة القابضين على أزمَّة الحكومات الإسلامية عن صراط شريعتهم،
وأدخلوا عليهم القوانين الوضعية؛ فنفرت قلوب الرعايا منهم وكرهت سلطتهم،
حتى صارت تخرج عليهم. واجتهدوا في حل عروة الرابطة الدينية من نفوس
المسلمين باسم المدنية الجديدة التي تسمي التمسك بالدين تعصبًّا، وتمثل هذا
التعصب بمثال مشوه قبيح ينفث السموم في الأرواح فيقتلها، ويعترض دون شمس
العلوم والمعارف فيحجب أنوارها [1] وما كان الأوروبيون ليتمكنوا من خلابة
المسلمين بأنفسهم فيجعلوا اسم التعصب (بمعنى التمسك بالدين) بينهم سبة
وعارًا، ويتخذوا هذا ذريعة لفصم عروة الدين وتوهين رابطته العامة، ولكنهم
تمكنوا من فتنة بعض المسلمين الجغرافيين [2] بمدنيتهم، واتخذوهم أعوانًا لهم على
كل ما يقصدونه من المسلمين. يردد المصريون الشكوى مع التوجع والتألم من
المستر دنلوب سكرتير المعارف العام، القابض على أزِمَّة المدارس كلها حيث يجتهد
في محو معالم اللغة العربية، وطمس آثار الديانة الإسلامية من المدارس، وجعل رسومها مواثل ودوارس، ولا لوم على من يخدم دولته وملته بالصدق والنشاط،
وإنما اللوم والتثريب - بل اللعن والتأنيب - على الذين رضوا بأن يكونوا معاول في
يديه لهدم بناء جامعتيهم الدينية واللغوية، وهم يعلمون أن هدمهما يعدم
جنسيتهم بالكلية، وفي هذا محو الملة والأمة من لوح الوجود، هؤلاء هم الذين
يجب أن يحفظ التاريخ ذكرهم محفوفًا بالخزي والمقت، ملوثًا بقذر الخيانة والغش،
حيث يحفظ للمستر دنلوب في خدمة ملته اسمًا سميًّا، ويرفعه في صدق وطنيته
مكانًا عليًّا، ويوجد في غير مصر كثير من هؤلاء المارقين.
فعلى كل مسلم حقيقي أن يسعى جهده في توثيق الرابطة الإسلامية الروحية
بين كل من ينتسب للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بأن يعرف أهل كل بلاد
تاريخ أهل البلاد الأخرى، وشؤونها الغابرة والحاضرة، وأن يكون لهم طرق
للتعارف، وأمثل هذه الطرق الجرائد، والاجتماع في موقف الحجيج العام، ومما
يقضي بالأسف واللهف أن الحجاج بعد ما يرجعون من أداء الفريضة يقضون
أعمارهم في الحديث عن سفر الحج، وما لاقوه وجرى لهم فيه، ولا نسمع منهم
خبرًا عن أحوال إخوانهم من أهل الأقطار الأخرى الذين ضمتهم وإياهم عرفات
حتى كأنهم لم يشهدوا ذلك الموقف الشريف الذي لم يسم بهذا الاسم (عرفات) إلا
لأنه موقف التعارف بين الشعوب والقبائل، واحسرتاه، فقدنا كل شيء، حتى
معاني أركان ديننا الكبرى، وأسرارها وفوائدها، ومن الضروري في هذا أن يكون
منا أمة يدرسون اللغات التي ينطق بها إخواننا في كل قطر، أليس من البلاء أن
لغةأوردو التي ينطق بها ثمانون مليونًا من المسلمين في الهند لا يوجد تركي في
الرومللي أو الأناضول ولا عربي في العراق أو سوريا أو مصر أو المغرب يتعلمها
ليتعرف بها شؤون أولئك الملايين من إخوانه؟ ونرى الجم الغفير من دعاة
النصرانية يتعلمون هذه اللغة، وسائر لغات العالم لأجل دعوة أهلها
إلى دينهم.
متى عرف بعضنا تاريخ بعض، وتعارفنا بما يمكن من طرق التعارف،
وتبادلنا الأفكار بالجرائد، يتسنى لنا حينئذ أن نتفق على وحدة التربية والتعليم،
وكمال هذه الوحدة إنما يكون بتعميم اللغة العربية، وعلى وحدة الاشتراك في
المشروعات والأعمال النافعة، وبهذين الوحدتين تكون (الجامعة الإسلامية) التي
أكثر من ذكرها الكُتاب، وبحثوا فيها من وجوه كثيرة غير محررة، فتضاربت
أقوالهم، وتناقضت آراؤهم.
قلنا: إن الجامعة الإسلامية لها طرفان، أحدهما يضم المعتقدين بالدين
الإسلامي، ويربطهم برابطة (الأخوة الإيمانية) حتى يكونوا جسمًا واحدًا، وقد
انحلت هذه الرابطة، ولكنها مازالت، ولن تزول، والطريق إلى توثيقها وشدها
هو ما قرأت آنفًا، وثانيهما يربط المسلم وغيره من أرباب الملل برابطة الشريعة
العادلة، التي يحكمون بها جميعًا بالمساواة، وقد طرأ على هذه ما حل عقدتها في
بعض الحكومات، وما أزالها في حكومات أخرى، وعلى كل حال ينبغي للمسلمين
في كل قطر أن يسعوا بالاشتراك مع مواطنيهم الذين يحكمون معهم بحكومة واحدة
إلى كل ما يعود على وطنهم وبلادهم بالعمران، ويفجر فيها ينابيع الثروة، هذا ما
يجب على الأمة الإسلامية في إحياء جنسيتها، بتقوية الرابطتين بقدر الإمكان، وأما
الحكومات الإسلامية، وفي مقدمتها الدولة العلية، فيجب عليها أن تساعد رعاياها
على هذه الأعمال، وتسهل لهم سبلها، وأن تجتهد بتقوية نفسها بالإصلاحات
الداخلية، والاستعدادات الحربية؛ ليمكنها حماية الحوزة والدفاع عن البيضة،
وأرى من الضروري لصيانة الدولة العلية من طمع الطامعين أن يسلك مولانا
السلطان الأعظم (أيده الله تعالى بروح منه) في جميع الولايات، الطريقة العسكرية
التي سلكها في طرابلس الغرب، وهو جعل كل فرد مستعدًّا للقتال إذا دخل العدو
بلاده، كما هو الواجب في الدين الإسلامي، وأن لا يحرم ولاية من الولايات من
فرسان الألايات الحميدية؛ فإن استعداد الدولة نفسها مهما بلغ، لا يمكن أن تقاوم به
أوروبا المتحدة عليها باطنًا، وإن اختلف دولها ظاهرًا، وأما استعداد الرعايا
لمصادمة كل قوة أجنبية تدخل بلادهم حتى الفناء، فهو يمنعهم من كل عداء.
هذا هو رأينا في تكوين الجامعة الإسلامية بالطرق الممكنة، ولا سبيل لدول
أوروبا إلى الاعتراض على شيء من ذلك، أما الإصلاحات الداخلية، فأهمها جعل
الحكومة شوروية، والعدل والمساواة بين الرعية، وانتقاء جميع الموظفين من
الأكْفاء المستعدين، وقد شرحنا رأينا في الإصلاح في مقالات سابقة، فلا نعيده
(ومن يتق الله) مسترشدًا بسننه الكونية وشريعته السماوية (فهو حسبه)
وكافيه ما يهمه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .
__________
(1) قد شرحنا حقيقة هذه المسألة في مقالات نشرت في أعداد السنة الأولى للمنار، فلتراجع.
(2) أعني بالمسلمين الجغرافيين: الذين يعدون في اصطلاح الجغرافيا مسلمين، وهم كل من ينتسب للإسلام ولو اسمًا، وقد سنحت لي هذه الكلمة أثناء خطاب كنت ألقيته في جمعية (مكارم الأخلاق) في القاهرة، فقلت: يقال: إن المسلمين ثلاثمائة مليون أو يزيدون، وهؤلاء هم المسلمون الجغرافيون، أما المسلمون الحقيقيون الذين يفهمون الإسلام حق فهمه ويعملون به، فهم قليلون.(2/321)
الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
(5)
ثم انصرفت السيارة، واضعة طول العمر في صندوقها، فمرت بالببغاء في
طريقها، فقالت له: هل أنت في جوع؟ فقال: نعم، وإنه لجوع ديقوع دهقوع،
وكان في يدها نموذج بضاعتها، فنفحته به لساعتها، فحسبه طعامًا، فالتهمه التهامًا،
ومن ذلك الحين صار الببغاء يعيش ثلاثمائة سنين، وفي إثر ذلك جاءت السيارة
الخامسة لتبيع الشرف والفخر، والكمال ورفعة القدر، فسألها الناس عن الثمن،
فقالت: هو خدمة الوطن، والقيام بالأعمال المهمة التي ترتقي بها الأمة، أو دفع
العدو عن البلاد، وتخليصها من ذل الاستبداد أو الاستعباد، أو اكتشاف حقيقة
علمية، أو اختراع آلة صناعية، فقالوا لها: إن الشرف والكمال يشترى عندنا
بالمال؛ لأنه إما رتبة أو وسام، أو منصب من مناصب الحكام، ولا يتوقف شيء
من ذلك على سلوك تلك المسالك التي تعود بالإسعاد على الأمة والبلاد، فقالت
السيارة: ما سمي الوسام بهذا الاسم إلا لأنه علامة ووسم على أعمال عظيمة،
يقوم بها أصحاب العزيمة، ولو كان الشرف في التحلي بالمعادن والجواهر، أو
التزين بالملبوس الفاخر لكانت الغانيات من ربات الحجال أفضل وأشرف من عظماء
الرجال كالفلاسفة والحكماء، والعلماء والصلحاء، ولتسنى لبعض الأغنياء المترفين
أن يكون أعلى شرفًا من الملوك الفاتحين، بل ومن النبيين والمرسلين، وأما الألقاب
الشريفة التي يتهافت عليها أرباب العقول السخيفة، كصاحب السماحة والسيادة، أو
صاحب الدولة أو السعادة، فهي كلام إذا لم يطابق الواقع بأن يكون أصحابها
ينابيع المصالح والمنافع، فهي على كونها عرضًا يتلاشى في الهواء، جديرة بأن
تدل على السخرية والاستهزاء، كوصف النذل الجبان بأوصاف الشجعان، وكإطلاق
ألقاب أكابر العلماء على سفلة الجهلاء، فقالوا لها: إن الشرف والمجد ما قوبل
صاحبه بالتعظيم والحمد، ولا يتشرط عندنا أن يطابق مدحه الواقع ولا أن يكون
مظهرًا للمنافع، فخير للمرء أن يؤذي فيُكرم ويُعان، من أن ينفع فيؤذَى ويُهان،
فقالت: أما وقد فسدت هكذا الطباع، وتغيرت كما ذكرتم الأوضاع، فقد بطل الدليل
والمدلول، وظهرت العلة والمعلول، وتبين أنه لم يبق من شرف لهذه الوسامات،
ولا لأكسية التشريفات، بل ربما دلت على خسة ذويها، وسخافة رأي الراغبين فيها،
وأرى من الفضيلة التنائي عنها، وتطهير صندوقي منها، ثم ألقتها وتخلت،
وأذنت لربها وولت، فتهافت لالتقاطها الأشرار، تهافت الفراش على النار، فكان
الشرف بهذه الأشياء من نصيب هؤلاء، وما أصاب بعض الكرام من رتبة أو
وسام، فإنما كان بالمصادفة والاتفاق، لا لكونه من أهل الاستحقاق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/328)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(14)
إن ما ذكرنا من حركة خواطر المسلمين، وتناجي أرواحهم في إصلاح
شؤونهم، لابد أن يعقبه انصلات عزائمهم، وتحفز هممهم للوثوب، فيندفعون وراء
الأعمال اندفاع السيل المنهمر، تتحاور علماؤهم في شأن العلوم الإسلامية الدينية
واللغوية، وتنقيحها وميز كل علم عن آخر، ووضع تآليف جديدة سهلة المأخذ،
خالية عن الركاكة والتعقيد في كل فن، مرتبة على حساب مقدرة الطالب، ونبش ما
لأسلافنا من الآثار والتآليف النفيسة التي أودع فيها طرائق السلف الصالح وأعمالهم،
وأخلاقهم وآدابهم ومشاربهم، ونشرها بين الكافة لينتفعوا بها، وإحياء العلوم
الأدبية والأخلاقية والتاريخية، وحمل الطلاب والناشئين على دراستها، ثم النظر
في طريقة التعليم وتحسينها، وجعلها بحيث يمكن للطلاب من تحصيل العلم
الإسلامي بمدة قصيرة، ثم إذا رأى بعض أولئك الطالبين من نفسه ميلاً للتبحر في
العلوم الإسلامية والتعمق فيها، أو الإخصاء [1] في علم واحد منها والتوسع فيه -
كان له أن يكب على تقصي الأبحاث في مسائل تلك العلوم، وانخزالاً دون تتبع
أبحاثها، وتأثر نتائجها، حق له أن يعكف على دراسة الفنون العصرية في كتب
مؤلفة لهذه الغاية، ويتخير له علمًا منها يخصي فيه ويتضلع من مسائله، فيستفيد
منه، ويفيد أهل وطنه وأبناء قومه.
لا تنهمك الطلبة في علوم عقيمة لا تنتج فائدة ولا تبعث على عمل. العلم
هو ما يربي في نفس الطالب ملكات فاضلة وأخلاق شريفة تحركه في تحصيل ما
به منفعة تعود على ذاته بالخير الدنيوي أو الأخروي، أو مصلحة عامة تورث
مجموع الأمة مجدًا وسعادة وعزًّا، وسيادة العلم ما يتوقف عليه انتظام مصالح البشر،
ويحتاجون إليه في قيام شأنهم، وحسن معيشتهم وراحتهم. ليس من العلم النافع
في شيء العلم الذي يضعف قوة العقل الحاكمة ويوهنها، ويقتصر أثره على تقوية
الذاكرة وتنميتها، ليس من العلم في شيء علم من ينفق عمره ويبذل ثمين وقته في
تفهيم أساليب المتقدمين أو المتأخرين، وتحليل عباراتهم، وتفكيك عقد أبحاثهم،
وتصحيح أغلاطهم، وتأويل أوهامهم.
هذا ما يخلق بالعلماء أن ينظروا فيه، ويتوخوا إصلاحه، ومداركة خلله،
والمتمرنون على الخطابة منهم يعظون العامة في المحافل والمجامع، ويحثونهم على
العمل والنشاط في الكسب، ويوقظون أفكارهم من سِنَةِ الغفلة، ويشعرون قلوبهم
العزة والنخوة، ويشربونها حب المجد والميل إلى المعالي، ويفهمونهم أنهم لم يزالوا
بعد في مرتبة الإنسانية، وأن مزاياها الفاضلة لم تزل متأصلة في نفوسهم، وأن تلك
المزايا قد يورثونها لخلائفهم وأعقابهم، فتقوى فيهم، وربما ينشأ عنها في بعضهم
أعمال شريفة، تكون عاملة في نهضة الأمة، ونشلها من حضيض الخمول إلى بقاع
القوة والسيادة، لا ريب أن مثل هذا الكلام يحض العامة على النظر، ويبعث هممهم
للعمل، ويحبب إليهم تربية أطفالهم، وتخريج أحداثهم في العلوم والآداب، فينتشر
التعليم والتهذيب بين الدهماء وسواد الأمة الذين هم حقيقة الأمة، ومنهم تكون هيئتها
ويرتفع بنيانها.
وينشئ الكتبة البارعون المقالات المسهبة في العصر ومقتضياته، وفائدة
التعاون والتكاتف في قيام المشروعات الكبرى، ويبينون لهم كيف يشرعون؟ ومن
أين يبتدأون؟ ويقوم ذوو اليسار والمال بتأسيس جمعيات خيرية، وشركات مالية،
تتبارى في خدمة الأمة، والأخذ بعضدها، كل منها يبادر إلى عمل أو مشروع يعلم
احتياج الأمة إليه، وتوقف نهضتها عليه، ووراء ذلك السلطة الوازعة، تحدو
بالمقصرين، وتأخذ بحُجُز المعتدين الجائرين، إلى آخر ما تكفلتْ باستيفاء
تفاصيله وإيضاح طرائقه صحائف مجلة (المنار) الغراء.
أما والله لو هبت الأمة للإصلاح كما ذكرنا، وخف كل فرد من أفرادها للعمل
كما شرحنا، واستقاموا على الطريقة التي نهجها الله تعالى لإسعاد الأمم، وقيام
الدول لما أتى عليها من الزمان الأمثل ما أتي على أمة اليابان حتى تُزاحم السابقين،
وتسود مع السائدين، وتأمن على جنسيتها ولغتها، وتبوأ مستقبلها متبوأً رَحْبًا.
فما أتممت كلامي حتى اعترض الحديث معترض يسأل: كيف يتسنى للأمة
العمل والنهوض، وهذه عقبان المطامع تحوّم حول البلاد، وتهم بالهوىّ عليها
لتمزيقها واختطاف أشلائها؟ أم كيف ينفسح الوقت للشروع في الإصلاح، وأراه
لو انفسح للشروع فيه لا ينفسح لإنجازه والتمتع بنتائجه فما الفائدة إذن من
العمل، ولماذا ننضي العزائم، ونعيي الهمم في تحصيل ما نُصد عن إتمامه، ونُرد
دون بلوغ غايته.
ومذ سمعت ما قاله هذا القانط الساخط، وجمت [2] وحسبلت [3] ، وقلت: إن
بين أيدي العاملين لنهزة تكفي - بمعونة الله - لوضع مقدمات الإصلاح والانتفاع
بنتائجها واجتناء ثمراتها، لكن عليهم أن يغتنموا تلك النهزة، ويسارعوا لاختلاسها
قبل جموحها وشماسمها، وقد استبان القارئ مما ألممنا به من شؤون الولايات
العثمانية، ومطامع الدول فيها أن الاضطراب السياسي والانشقاق الداخلي بلغا
مبلغهما في ولايتي الأرمن ومكدونيا بحيث تذهب النفس إلى أن الزمان قد لا ينفسح
لترقيهما، قبل أن يُختزلا من بين أخواتهما، أما سائر الولايات التركية والعربية
فليست بهذه المثابة، وإن كانت مهددة بالأخطار، ومحتَّفة بالأطماع، فالمدة بين
يديها أفسح، والأمل في حفظ استقبالها ووقاية استقلالها أقوى وأرجح.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الإخصاء: مصدر خصي يخصي، إذا تعلم علمًا واحدًا واقتصر عليه.
(2) وجمت: سكت على غيظ عابسًا مطرقًا؛ لشدة الحزن.
(3) قلت: حسبي الله.(2/329)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعليم النساء
كانت المرأة مهضومة الحقوق، يعاملها الرجال بالاستبداد في جميع الأجيال
والأعصار، حتى جاء الإسلام فسوى بين الرجل وامرأته في جميع الحقوق
والواجبات، إلا أنه جعل الرجل كافلاً للمرأة، وأعطاه حق الولاية العامة لقوته
وضعفها، فقال القرآن: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) بل رفقت الشريعة الإسلامية بالمرأة، فوضعت عنها بعض
العبادات في بعض الأوقات، ومما ساوت به بينهما وجوب التعليم، فجعلت طلب
العلم النافع فريضة على كل مسلم ومسلمة.
ولكن المبادئ التي وضعها الإسلام لترقية النساء، لم يعتنِ بها المسلمون
العناية التي تؤدي إلى بلوغ غاية الكمال، كما كان شأنهم في كثير من المبادئ
والقواعد الاجتماعية العامة التي شغلوا عنها بالتوسع في سواها، مما لا يستحق
أكثره العناية مثلها، وما صدهم عن مثل هذا إلا ما ورثوه من العادات عن أسلافهم،
ولما كانت نصوص الكتاب والسنة المادحة للعلم والمرغبة فيه والحاثَّة عليه،
تشمل الرجال والنساء - كما هي القاعدة الأصولية في الدين الإسلامي - زعم بعض
الفقهاء أن طلب العلم لا يشمل طلب الكتابة (الخط) ولا يقتضيه، ثم أوردوا
أحاديث تدل على منع النساء من تعلم الكتابة، ولما لم يعترف لهم المحدثون بصحة
شيء منها رجعوا إلى قياسهم، فزعموا أن في تعلمهن الكتابة مفاسد تقتضي
كراهتها على الأقل، وقد أورد عليهم المعارضون حديث الشفاء بنت عبد الله قالت:
دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال
لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟ رواه الإمام أحمد وأبو داود
والنسائي وأبو نعيم والطبراني، ورجاله ثقات. فأجاب الذين تمسكوا بأحاديث
النهي بأن هذا الحديث يدل على الجواز، وتلك تدل على الكراهة التنزيهية ولا
منافاة بينهما ولا حاجة لهذا الجمع؛ لأن أحاديث النهي لا يحتج بها، وأجاب
بعضهم بأن تعلم الكتابة خاص بحفصة رضي الله عنها، وهو فاسد لوجوه منها أن
الأصل عدم الخصوصية، فلا بد لمن يدعيها من دليل، وأين الدليل هنا؟ ومنها:
أنه لو كان تعليم النساء الكتابة مكروهًا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء عن
تعليم غير حفصة لئلا تفهم من حضها على تعليمها أن غيرها مثلها، كما هو المتبادر.
وأجاب الشيخ علي القاري بأنه يحتمل أن يكون جائزًا لنساء السلف دون الخلف؛
لفساد النسوان في هذا الزمان، وهو كما ترى احتمال لا قيمة له، وقد تبع القاري
في هذا أستاذه العلامة ابن حجر، فإنه قال بكراهة تعليمهن الكتابة في فتاواه الحديثية،
محتجًّا بالأحاديث التي لا يصح الاحتجاج بها، وأورد حديث الشفاء، وقال: إنما
يدل على الجواز، وأن النهي للتنزيه - لما تقرر من المفاسد المترتبة عليه، وما
تلك المفاسد إلا احتمالات أو وقائع جزئيات، لا تبنى عليها أحكام ولا ينقض بها
قانون عام، وما من عمل مبرور إلا ويحتمل أن تنشأ عنه شرور، فلقد ضل
بالقرآن المؤلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .
وقد أهديت إلينا في هذه الأيام رسالة من الهند في هذه المسألة (تعليم النساء
الكتابة) من مؤلفات علامة المعقول والمنقول صبغة الله بن محمد غوث الهندي،
وقد طبعت بعناية محمد عبد الله سلمة بن ناصر الدين عبد القادر (ابن المؤلف)
جزاه الله خيرًا، بحث المؤلف في المسألة من الوجوه التي خُضنا فيها، وبيَّن
تخريج الأحاديث الواردة فيها، وهذه أعظم فائدة استفدناها من الرسالة، فإن إخواننا
الهنديين لا يزالون يشتغلون بعلم رواية الحديث الذي أضاعه أهل البلاد المصرية
والسورية والتركية، وإننا نورد كلامه في حديث الحاكم الذي هو عمدة المانعين،
وهو ما رواه في مستدركه عن عائشة مرفوعًا: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن
الكتابة (يعني النساء) وعلموهن المغزل وسورة النور. قال الحاكم: هذا حديث
صحيح الإسناد ولم يخرجاه، يعني الشيخين. قال مؤلف الرسالة بعد ما أورده
وغيره من أحاديث النهي وجزم بعدم صحتها والاحتجاج بها ما نصه: (أما
حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو عبد الله الحاكم وصححه، ففيه نظر؛
لأن الحاكم قد تساهل فيما استدركه على الشيخين. لموته قبل تنقيحه، أو لكونه قد
ألفه في آخر عمره وقد تغير حاله، أو لغير ذلك، ومن ثم تعقب المحدثون على
كثير منها بالضعف والنكارة، كما نص عليه الحافظان الذهبي والعسقلاني وغيرهما،
وهذا الحديث في سنده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي قال أبو حاتم الرازي:
كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان يسرق
الحديث، لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال أبو داود:
يضع الحديث، وقال الحافظ العسقلاني في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك بن
أبان العُرضي (بضم المهملة، وسكون الراء بعدها معجمة) أبو الحارث الحمصي
نزيل سلميه: متروك كذبه أبو حاتم. اهـ
مَن يُلاحظ أن هذا الحديث الذي في سنده كذاب وضّاع، قد وصف بالصحة
واتُّخِذ حجة على إبطال مسألة من أهم مسائل الاجتماع والتمدن، يتجلى له فساد قول
القائلين: إن البحث في رواية الحديث لا لزوم له في هذا العصر؛ لأنه قد فرغ منه
المتقدمون - نعم قد فرغوا منه، ولكن يجب علينا أن نقف على جميع ما قاله
المحققون، لا أن نُسلم بكل ما نراه في كِتاب مات مؤلفه ويتجلى له نموذج الضرر
الذي ألمّ بالمسلمين من اختلاق الأحاديث ونسبتها لصاحب الدين، ومن التسليم
بجميع ما قاله أموات المؤلفين.
__________(2/332)
الكاتب: أحمد أفندي محرم
__________
الشعر العصري
لحضرة الشاعر المجيد أحمد أفندي محرم
أهذي ديار القوم غيَّرها الدهر ... فعرجوا عليها - نبكها - أيها السفر
محا آيها مر العصور وكرها ... إذا مر عصر كر من بعده عصر
فقد أنكرتها العين بعد تعرف ... وللمرء من أيامه العرف النكر
عكفنا عليها قد عقلنا ركابنا ... ولا خبر يشفي الفؤاد ولا خبر
نسائلها أين استقل أنيسها ... وهل تنطق الدار المعطلة القفر
فما من مجيب غير تهطال عبرة ... يروي صداها لا كما هطل القطر
وكائن ترى من ذي ثمانين خضبت ... لطول البكى من شيبه الأدمع الحمر
وما إن عهدت الشيخ يبكي بدمنة ... ولكن عصاه حلمه فله العذر
ولم يبك حتى ضاق بالهم صدره ... وحتى تولّى ما يرق له الصبر
بكى وطنًا أودت بسالف زهوه ... حوادث دهر من خلائقها الغدر
أغارت عليه دارعات كماتها ... فما برحت حتى أتيح لها النصر
إذا عسكر مجر سما لقتاله ... فأعيي عليه جاءه عسكر مجر
فقد نهلت منه المثقفة السمر ... وقد كرعت فيه المهندة البتر
ألا إنها مصر التي نحن أهلها ... فيا ويح مصر ما الذي لقيت مصر
مضى عزها القدموس ما يستعيده ... بنوها فلا عز لديهم ولا فخر
همو رقدوا عنها فطال رقادهم ... فديتكمو هُبّوا فقد طلع الفجر
أنومًا كِلا يوميكم؟ إن ذلكم ... لوزر كبير لا يعادله وزر
ألمَّا تروا أن قد تقسم أمركم ... بأيدي العدى نهبًا فهل لكمو أمر
أما فيكم حر إذا قام داعيًا ... إلى صالح أوفى يجاوبه حر
كريمان لما يجثما عن عظيمة ... ولا بهما إذ يدعوان لها وقر
هما هضبتا عزم وحزم كليهما ... يخافهما الهول المخوف فما يعرو
هما الذخر للأوطان إن حل حادث ... فضاقت به ذرعا وأعوزها الذخر
أما ويمين الله لولا بقية ... أؤمل أن لا يستبد بها الدهر
لقد هلكت منا نفوس كثيرة ... يصبحها أمن ويطرقها ذعر
__________(2/334)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع مالية الدولة)
إذا بحثنا في أقساط الحكومة الأخرى من الدين، كما بحثنا في قسط دين
البلغار وجدناها كما ترى: قسط اليونان هو 574373 جنيهًا مجيديًّا، يسدد في مائة
سنة، إن كانت دفعته السنوية 28459 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4 في المائة ويسدد
في 25سنة إن كانت دفعته السنوية 44931جنيهًا مجيديًّا، وربحه 6في المائة قسط
الصرب هو 568075 جنيهًا مجيديًّا يسدد في مائة سنة إن كانت دفعته السنوية
23182جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4 في المائة، وفي 25 سنة إن كانت دفعته السنوية
34084 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 6 في المائة. قسط الجبل الأسود هو 26659 جنيهًا
مجيديًّا يدفع في مائة سنة، إن كانت دفعته السنوية 1088 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4
في المائة، وفي 25 سنة إن كانت دفعته السنوية 2085 جنيهًا مجيديًا، وربحه 6
في المائة.
لوأن الدول التي وقعت على معاهدة برلين اختارت هذا التدبير الذي هو
غاية في سهولة الجري على مقتضاه، ولا وجه للنقد عليه، وألزمت الحكومات
المذكورة باتباعه؛ لحصلت تركيا عاجلاً على مبلغ 3836347 جنيهًا مجيديًّا،
ولنقص دينها بسبب ذلك مبلغ 19000000 في بضع سنين، باستعمالها هذا المبلغ
استعمالاً رائده العقل والحكمة، اللذين تبعتهما في تدبير جميع رؤوس أموالها من
عهد جلوس جلالة السلطان عبد الحميد على أريكة الملك. للدائنين الأوربيين - إذن -
أن يأسفوا على أن حكوماتهم لم يؤيدوا مطالب تركيا الحقة المبنية على
الإنصاف، ولكن عليهم أن يتحملوا شهادة حق مدهشة على صدق تركيا في الوفاء
بعهودها، وقدرتها على تنفيذ التزاماتها بأحسن طريقة نافعة لمعاقديها، كانت السهام
المكونة للدين العمومي العثماني معتبرة إلى ذلك العهد في معظم الأحيان، كأنها
وسائل ضمان استرباحية، ويحسن بنا أن نبحث الآن فيها لنرى هل هذه هي قيمتها
الحقيقية في الوقت الحاضر أم لا؟ كان الدين العمومي العثماني في خلال
العشرين سنة الأولى من تشكيل إدارته يزداد على الدوام بإصدار سهام جديدة،
ويستميل عددًا كبيرًا من أرباب الأموال بسبب الفائدة المرتفعة التي كانت تعرض
على مشتري سهامه، ولما حدثت حوادث سنة 1875 تفرق من كانوا متكالبين على
تلك السهام، وبقيت أسواق الأوراق المالية بأوروبا غاصة بها إلى سنة 1881، ثم
ابتدأ دور آخر لإقبال الناس عليها بعد الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة
1881، واستمر بلا انقطاع مدة السنين العشر الأخيرة، فإذا لم يتم للآن بيعها،
وكان لا يزال جزء عظيم منها في الأسواق؛ فليس ذلك إلا لأن حالة الدين
الحالية، وما حصل فيه أثناء هذه السنين العشر من التغيير الكلي الناتج من
الإصلاحات التي منشأها عناية جلالة السلطان، لم يفهمها كثير من الناس حق
الفهم، ومع ذلك لو أنا نسبنا مبلغ الدين السنوي إلى عدد سكان الدولة العلية، وعدد
ما فيها من الأميال المربعة، وقارنَّا بينها وبين البلاد الأخرى لأوروبا في ذلك؛
لنتج لنا من هذا البحث الإحصائي حقيقتان:
(أولاهما) إن الدين العثماني أقل بكثير من معظم ديون البلاد الأخرى
باعتبار عدد السكان في كل منها.
(ثانيهما) إن مساحة أرض الدولة العثمانية لما كانت تسع من السكان أكثر
مما فيها الآن بكثير، فيمكن اعتبار أن هذه الدولة لم يعمر إلا جزء منها فقط (لو
صح أن يقال هكذا) ولما كانت غنية بأكبر مصادر الثروة الطبيعية كان ينتج من هذه
المصادر فوائد خارقة للعادة، لو أنها دبرت أحسن تدبير يؤدي إلى الانتفاع بها.
مما ذكر يتضح لك إذن أن ما تنوقل عن سهام تركيا من أنها طرق ضمان
استرباحية، غير صحيح.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/335)
5 ربيع الثاني - 1317هـ
12 أغسطس - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجامعة الإسلامية
وآراء كتاب الجرائد فيها
أول من كتب وخطب في بيان أحوال المسلمين الاجتماعية، وتمثيل أمراضهم
ودلالتهم على علاجها، وإرشادهم إلى الاتحاد وجمع الكلمة، حكيم الأمة الكبير
وفيلسوفها الشهير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني (تغمده الله تعالى برحمته)
فإنه كان قد وقف نفسه على تكوين ما نسميه اليوم (الجامعة الإسلامية) وكان
أكثر سعيه لها من الطريق الأقرب، طريق تنبيه الحكومات المسلمة المستقلة إلى
الاتحاد.
ولكن أباها الحاكمون فكاره ... لها جاهل أو مكره وهو عالم
ثم أشرب في قلبه مذهبه هذا الحكيم الثاني، صاحب الفضيلة الشيخ محمد
عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد (كما ألمعنا إلى ذلك في عدد سابق) ولم يدع
الرجلان بابًا للإصلاح الإسلامي إلا طرقاه، وقد بدأا بباب السياسة، فكتبا وخطبا،
ما شاء الله أن يكتبا ويخطبا، فلم تأت النتيجة كما طلبا ورغبا، ثم استقر رأيهما
على أن هذه الأمة بالدين وجدت وتكونت، وبالدين سادت وعزت، ومن قبِل الدين
(أي الإعراض عنه) أُخذت وابتُزَّت، ومن قِبله ضعفت وذلت، وبه يرجع إليها
مجدها. ومن أفقه يبزُغ كوكب سعدها، فأنشأ جريدة (العروة الوثقى) لدعوة
المسلمين إلى الوحدة الصحيحة، وأن يجعلوا إمامهم الأعظم القرآن الحكيم،
أرشدت هذه الجريدة العلماء إلى إماتة البدع وإحياء السنن، كما أرشدت الملوك
والأمراء، ولا سيما المختلفين في المذاهب (كأهل السنة والشيعة) إلى الاتحاد
والاتفاق، وأن لا يجعلوا الخلاف الفرعي في الدين من أسباب التفرق والانقسام الذي
يقضي على الجميع، نبهت وحذرت، وبشرت وأنذرت، بكلام أصاب مواقع
الوجدان، وبراهين ملكت قياد الجنان، فاهتز لها العالم الإسلامي هزة، لو طال
عليها العهد لزلزلت الأرض زلزالاً، ولنفر المسلمون إلى الاتحاد خفافًا وثقالاً.
قال الأستاذ المفتي محرر الجريدة: حدثني بعض أهل العلم من بغداد قال: كنا
نقرأ العدد من (العروة الوثقى) في مجلس السيد سلمان أفندي نقيب السادة
الأشراف، فيتفق رأينا على أنه لابد أن يظهر في العالم الإسلامي عمل كبير، قبل أن
يصدر العدد الذي بعد هذا، ونقل نحو هذا القول عن بعض فضلاء الغرب والشرق،
وسمع كاتب هذه السطور الأستاذ الشيخ حسين أفندي الجسر مؤلف (الرسالة
الحميدية) يقول ما مثاله: لو طال الأمد على جريدة (العروة الوثقى) لحدث في العالم
الإسلامي انقلاب مهم، ولهّب المسلمون من رقادهم، ونشطوا لاسترجاع مجد آبائهم
وأجدادهم، ولقد بلغ من تمام غرام نبهاء المسلمين بهذه الجريدة، أن حفظها
بعضهم عن ظهر قلب، وبعضهم يحفظ نسخها الأصلية، وبعضهم كتبها فلم يغادر منها
شيئًا، وهم يعيدون تلاوتها ويسترشدون بها آنًا بعد آن، يحفظها أكابر العلماء في
الشرق والغرب، وإنني وجدت كل ما فاتني من أعدادها عند فضيلة الأستاذ
الجسر فنسختها من عنده، وحدثني الفاضل صاحب جريدة (ثمرات الفنون) أنه
يحفظها في صندوق الحديد، حيث يحفظ أثمن ما يملك، وبالجملة كانت (العروة
الوثقى) قبسًا من نور القرآن، ونفخة من روحه، وجدولاً من ينبوعه، ظهرت
في ضوئها العلة والمعلول، وانتعشت بانتشاقها مشام العقول، ورويت من معين
نصائحها الأكباد، حتى رجي أن تكون (وهي العروة الوثقى) رابطة الاتحاد، وقد خافت الدولة الإنكليزية يومئذ مغبة الأمر، ولم تكن أقدامها استقرت في مصر
فحملت حكومة مصر على منعها من دخول البلاد المصرية، كما منعتها هي من البلاد الهندية. وكان هذان القطران أهم موارد إمدادها ومعاهد امتدادها، فبطلت -
وهيهات أن تنفصم عروة تعليمها وإرشادها.
ظهرت العروة الوثقى في جمادى الأولى سنة 1301 هـ، وكل ما صدر منها
18 عددًا، ثم مرت فترة من الزمن لم تذكر فيها الشؤون الإسلامية العامة في
الجرائد، إلا ما يجيء في عرض القول، أو يصيبها من رشاش أقلام غير أهلها من
الكتاب، مما لا يروي غليلاً، ولا يغني فتيلاً، حتى أنشأ نابغة الخطباء والكتاب
السيد عبد الله نديم المصري الشهير، مجلة (الأستاذ) في أوائل سنة 1310 هـ،
وكتب فيها المقالات الطنانة الرنانة في تنبيه المسلمين إلى الأخطار المحدقة بهم
وبسائر الشرقيين، وتنشيط هممهم لتلافيها، إلا أن بيئة النديم (حاله ومحله)
وزمنه وسياسته، اقتضت أن يكون أكثر خطابه عامًّا للشرقيين، وفي كليات الأمور
الاجتماعية، وأن لا ينحي باللوم على الرؤساء من الأمراء والحكام والعلماء
والمرشدين، فكانت فائدة كلامه في التنبيه المطلق، وفي جزئيات وطنية وأدبية،
وفروع دينية، وكان كلامه مؤثرًا فيما نقل إلىّ، فلو بقي لأحدث في مصر تأثيرًا
سياسيًّا أدبيًّا له شأن، ولكن أخرج النديم من مصر بدعوى أن جريدته تنفخ روح
التعصب الديني، وتنفث سموم الثورة، ولم يكن تم لها سنة، ولقد قرأت منها أعدادًا
في سوريا رأيته يحترس فيها كل الاحتراس من الوقوع في هاتين التهمتين، وإنما
ينفع الاحتراس بالنسبة للمؤاخذة القانونية دون المؤاخذة السياسية التي أخذ بها.
فتر بعد (الأستاذ) الكلام الذي يرمي إلى (الجامعة الإسلامية) حتى وفقنا الله
تعالى في العام الماضي لإنشاء (المنار) لإحياء تعاليم (العروة الوثقى) فوضعنا
قاعدته على أساسها، وأضأنا قمته بنبراسها، إلا ما كان فيها من السياسة التي تتعلق
بالمسألة المصرية، والتحريض على الإنكليز، فإن هذا أمر ذهب بذهاب وقته،
و (العروة الوثقى) نفسها صرحت مرارًا بأن تلك الفرصة إذا ذهبت لا تكاد تعود،
ويستقر قدم الإنكليز في مصر - وقد كان - ولكنها قالت في شأن النهضة
الإسلامية الاجتماعية المطلقة التي كانت تعمل لها ما نصه: (إن الرزايا الأخيرة
التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة
بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت
أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم
فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة المرض
وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومؤملين أن تمهد
لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وأن في الحاضر منها
لنهزة تغتنم، وإليها بسطوا أكفهم ولا يخالونها تفوتهم، ولئن فاتت فكم في الغيب
من مثلها؟ ! وإلى الله عاقبة الأمور) اهـ من مقدمة العدد الأول، ولا ريب أن
المسألة المصرية ليست في هذا العام كما كانت في سنة 1301 هـ (1884م)
أما المسألة الإسلامية فهي هي، بل تقدمت إلى الأمام بالنسبة إلى ما كانت عليه
في ذلك العام.
قلنا: إن (المنار) وافق (العروة الوثقى) في تعاليمها الاجتماعية وقواعدها
التي وضعتها للوحدة الإسلامية، وخالفها في وجهتها السياسية المصرية، ونقول
أيضا: إنه زاد عليها بالبحث في جزئيات البدع، وتفصيل القول في التعاليم الفاسدة
والعقائد الزائغة، والتربية المفيدة، ونحو ذلك مما أرشدت إليه إجمالاً، ولم يتسع
معها الزمان لتفصيله، ولهذا يقول قرّاء (المنار) : إنه لم توجد قبله جريدة في
موضوعه، وقد اعترف لنا الكتاب المسلمون والمسيحيون، ومن هؤلاء أصحاب
(المقتطف) و (المقطم) وصاحب (الأهرام) وصاحب (الهلال) بأننا تصدينا
لخدمة نافعة، ولكن أصحاب (المقطم) كانوا يقولون لنا: إن في طريق هذه الخدمة
خطرًا عظيمًا، وهو مقاومة أوربا للمسلمين إذا هم حاولوا الترقي من وجهة الدين،
وقد كاشف برأيه هذا بعضُ أكابر علماء الإسلام العارفين بالسياسة منذ بضعة أشهر،
فراجعه العالمُ القول، وكتب يومئذ صورة المذاكرة في (الأهرام) واجتمع به
كاتب هذه السطور بعد ذلك، وكنت في صحبة الأستاذ صاحب (المؤيد) ففتح باب
المذاكرة في المسألة، وكان الكلام مشتركًا، ولم نتفق معه على نتيجة واحدة، أما
صاحب (الهلال) فإننا لم نر منه إلا استحسانًا وتحبيذًا، وإبانة عن اعتقاد أن هذه
الخطة لا أنفع منها للمسلمين، ومثله كتاب (دائرة المعارف) وغيرهما من أفاضل
المسيحيين المنصفين، وفي هذه السنة كثرت الكتابة في تنبيه المسلمين، فنشر
(المؤيد) كثيرًا من المقالات لكتاب من المسلمين في الشرق والغرب، ومنهم الفقير
منشئ هذه المجلة، وبعض تلك المقالات عُرِّب من جريدة (محمدان) الهندية،
وكتبت مجلة (الموسوعات) أيضًا عدة مقالات لكتاب متعددين، ورأينا في جريدة
(زمان) التركية التي تصدر في قبرص مقالات تحت عنوان (الاتحاد الإسلامي)
ولم نظفر بمن يعرّبها لنا، وسرى السر من الجرائد المصرية إلى جريدة (معلومات)
العربية في الآستانة العلية، وإلى جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت، فَكُتِبَ فيهما
مقالات كثيرة في الموضوع، ولو سمحت لهما حكومة البلاد لتوسعا في الكتابة، ثم
أصاب الرشاش غيرهما من الجرائد الإسلامية في الديار السورية، أما الجرائد
الهندية فكثير ما كتبت، وقد ترجم بعضها كثيرًا من مقالات (المنار) ، وكذلك
جريدة (الحاضرة) التونسية.
والحاصل أن أكثر الجرائد الإسلامية قد خاضت في مسألة الاجتماع الإسلامي
من نحو سنة أو أكثر، ولم تكن تذكر قبل ذلك إلا نادرًا على ما علمت من صدر هذه
المقالة، وفي هذين الأسبوعين كتب فيها (الأهرام) بعنوان (الجامعة الإسلامية)
ثم كتب (المقطم) وناقشهما (المؤيد) فيما كتبا، هذا ملخص تاريخ الكلام في هذه
المسألة بحسب ما وصل إليه علمنا. وبلغنا أن رجلاً عظيمًا من فضلاء مسلمي
القريم في بلاد روسيا اسمه إسماعيل بك، قد أنشأ جريدة سمّاها (ترجمان) جعل
جُل مباحثها في الشؤون الإسلامية، وأنشأ مدرستين لتربية أبناء المسلمين،
وتعليمهم في تلك البلاد، ولم نقف على شيء من أعماله، ولكن رائحته العطرية
تدل على أن عمله عظيم.
أما الطرائق التي بحث فيها الكتاب فهي كثيرة، ولم تنجلِ للناس الطريقة
المثلى بقول أحد، إذ ما من قول إلا وله وجه يعتمد عليه قائله، وما من شبهة على
فساد رأي إلا ولصاحبها تكأة يستند عليها في تقويتها، والأمر في نفسه أكبر من كل
هؤلاء الكتاب، وكيف لا وهو ترقية أمة يبلغ عددها ثلاثمائة مليون من النفوس،
يتبوأُون كل قطر، وينطقون بكل لغة، وحكامهم من أنفسهم ضعفاء، ومن الأجانب
عنهم أقوياء، وأضعفهم هذا الفقير قد اشتغل بدراسة هذه المسألة بضع سنين، وهو
في كل يوم يزداد بها علمًا لم يكن عنده، ويزيح جهلاً كان يغشاه، إن لم يكن في
أصولها وقواعدها، ففي جزئياتها وشواردها، وما يقف عليه الإنسان في سنين، لا
يمكن أن يجليه لمن لم يقف عليه في مقالة أو عشر مقالات (مثلاً) بحيث يؤدي
إليه فكره ووجدانه تامّين بتلك المقالات، ولكن الميزان الذي يجب أن نزن به
الأقوال والآراء لنعلم النافع منها والغير النافع، هو أن ننظر فيما يعرض علينا،
فما كان منها مقومًا لفكر، ومصححًا لرأي أو اعتقاد، فهو نافع، وما كان منها
مرشدًا إلى عمل مفيد ممكن، فهو نافع، وما عدا هذين النوعين، فهو إما خيالات
وأوهام، وإما غش وتغرير، وأقل ضرر فيه أنه حجاب على وجه الحقيقة، وتعليل
للآمال بما لا ينال، وإزاغة للقلوب عن صراط الحق، ومن انحرف عن الصراط
المستقيم فهو يزداد بعدًا عن الغاية كلما جد في السير، وأي خذلان أكبر من كون
سعي المرء واجتهاده مبعدًا له عن غايته ومراده، لا يعرف الحق بقائله وكونه
صديقًا أو عدوًّا، ولا بكونه يستلزم تعظيم كبير ومرضاته، أو عدم ذلك، وإنما
يعرف الحق بذاته، فمن رعى هذا حق رعايته، رجي له التمييز بين الحق والباطل،
والتزييل بين النافع والضار، فاحفظ هذا الميزان، وانظر ما يرجح فيه مما سيُلقي
عليك من الآراء والأقوال.
(الأهرام) و (المقطم) تتفقان على أن الدعوة إلى (الجامعة الإسلامية) باسم
الدين، مُضرة وغير موصلة إلى الغاية، وأنه لا سبيل إلى ترقي الأمة الإسلامية إلا
باتباع خطوات أوروبا كما فعلت اليابان، و (المؤيد) رد عليهما قولهما الأول، ولم يبد
رأيًا جديدًا، إلا أنه وافق على أن مسلك الكتَّاب المسلمين في الدعوة الدينية مفيد،
كما أن الأخذ بالفنون والصنائع الأوروبية مفيد مع ذلك، وذكر في كلامه عن
(الجامعة الإسلامية) مقالة لبعض أفاضل كتاب الهند نقلت في (المؤيد) من نحو شهر،
وذكر أنه موافق على كل ما جاء فيها، وخصص بالذكر اقتراح عقد مؤتمر
إسلامي في دار الخلافة العظمى، وقال: إن (المؤيد) كان قد سبق إلى اقتراح هذا
المؤتمر منذ أربع سنين، ومن الآراء التي تناقلتها الكتاب فكانت مسلمة عند أولي
الألباب: تعميم التربية والتعليم - إنشاء الجمعيات والشركات والمنتديات العلمية
والأدبية - تكثير الجرائد باللغات التي ينطق بها المسلمون - اتحاد الحكومات
الإسلامية - العناية بأمر القوة الحربية - تعليم النساء بخصوصهن.
ومهما تخالفوا وتناقشوا، فلكلٍّ وجه، وقد جمعنا بين الأقوال في مقالة نشرت في
(المؤيد) حديثًا، ولكن قد ظهر في (المقطم) قول جديد في مقالة نسبت إلى
(مسلم حر الأفكار) لم يتابع به قائله مسلمًا، ولن يتابعه عليه مسلم؛ لأنه ناسفٌ
لبناء الدين الإسلامي، ومقوض لعمود بنائه، وهو زعم أن الدين والدولة أمران
متبائنان يجب أن ينفصل أحدهما عن الآخر.
ولقد وجد للإسلام أعداء اجتهدوا في كل عصر بمحوه أو إضعافه، منهم من
حاول إفساد العقائد بالتأويل، ومنهم من وضع الأحاديث الكاذبة، ومنهم من سهل
للملوك طريق الاستبداد، ومنهم ومنهم، ولكن مجموع مفاسدهم ومضراتهم لن تبلغ
بعض ما يرمي إليه هذا القول الخبيث الذي لم يخطر في بال إبليس، فهو أبلغ
قول يشير إلى أحكم رأي لمحو السلطة الإسلامية من لوح الوجود، قاتل الله قائله
ولا كثر فيمن يدَّعون الإسلام من أمثاله، وكفى بمقالتنا التي صدرنا بها العدد ردًّا
عليه، ولدينا مزيد.
هذا فإذا وزنت سائر الآراء بالميزان الذي وضعناه آنفًا، يظهر الراجح
والمرجوح من سائر الأقوال.
يظهر لك من تلك الآراء ما لا يقوّم رأيًا واعتقادًا، ولا يرشد إلى عمل نافع
يرجى القيام به، وذلك كعقد مؤتمر في الآستانة العلية، على أن (المنار) كان قد
اقترح في مقالات (الإصلاح الديني) التي نشرت في أوائل شعبان من السنة
الماضية تأليف جمعية إسلامية تحت حماية الخليفة يكون مقرها في مكة المكرمة،
ولها شعب في سائر البلاد الإسلامية، وجريدة مخصوصة، أو جرائد، وبينا هناك
وجوه ترجيح مكة على الآستانة، كما بينا أصول وظائف الجمعية وأعمالها ونتائجها،
أما الأصول فهي التوحيد في العقائد، والتعاليم الأدبية التهذيبية، والأحكام
القضائية والمدنية، واللغة، وأما الأعمال، فأهمها تلافي البدع والتعاليم الفاسدة،
وإصلاح الخطابة، والدعوة إلى الدين، وأما نتائجها، فأهمها اتحاد الحكومات
الإسلامية، وكل قول فصلناه تفصيلاً.
وإذا ارتقينا في الأسباب، وسبرنا أعماق الأقوال والآراء، ننتهي إلى القول
بأن سبب النهضة الذي يجمع الأسباب كلها، هو تعميم التربية العملية والتعليم
الصحيح من الوجهة الدينية الجامعة لمصالح المعاش والمعاد، وهو ما صرحنا به
في فاتحة العدد الأول من (المنار) وأقمنا عليه البرهان في العدد الثاني، وجرينا
في سائر الأعداد إلى الآن على تفصيل إجماله، وبيان إبهامه (خلافًا لما قاله
مصباح الشرق) وأكبر عقبة أمامنا في هذا الطريق هي ندرة الرجال القادرين
على التعليم الذي نريده والتربية التي نبتغيها، ومع ندرتهم لا تعرف الأمة قيمتهم،
ولا تنيط بهم ما خلقوا لأجله، فالجامعة الإسلامية والاتحاد الإسلامي، وكل ما
يرجوه الإسلام، متوقف على وجود الرجال العارفين بحاجة الأمة، وإناطة الأعمال
بهم، فنسأل الله تعالى أن يكثر فينا من أمثالهم، وينفع أمتنا بعلومهم وأعمالهم.
__________(2/337)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
استنهاض همم
(15)
ليس الشأن كل الشأن في استقلال الأمة الإداري ومستقبلها السياسي فقط، فإن
هذا وإن كان مطمح كل قبيل، وضالة ينشدها كل شعب، وغاية تتزاحم في
الإشراف عليها الأمم، لكن وراءه مزية دونها كل المزايا، نسبة تلك المزية إلى
الأمة كنسبة الحياة للشخص، هل يقوم المرء بدون حياة؟ فكذا الأمة لا تقوم بدون
تلك المزية، إذا تقلصت الحياة عن هيكل الشخص عاد جمادًا، أو كان الجماد خيرًا
منه، الجماد يقاوي الفواعل الطبيعية ويصابرها، أما الشخص بعد زوال حياته فلا
بقاء له، بل تتلاعب به تلك الفواعل، وتحلل عناصره، وتمحو وجوده، كذلك
الأمة إذا فقدت تلك المزية، تسلط عليها الفناء، وانغمست بالعدم، إذا نفث المرء
روحه [1] لا يلبث حتى تتحلل دقائق جسمه، وتتفرق عناصرها، فيتناولها ما أحاط
به من المكونات، وتدخل في بُنى (جمع بنية) الأجسام الأخرى، وهذا شأن الأمة
إذا زايلتها تلك المزية، انفصمت عُرى هيئتها، وعادت أفرادًا متبددة تدخل في
تراكيب بقية المجتمعات البشرية، وتتحد بعناصر الفاتحين والمتغلبين، وتلتحم
بأجناسهم، مزية هذا شأنها لا تعذر الأمة إذا تهاملت في احتفاظها وتواكلت في
توفيرها والذبّ عنها. أي شخص لا يستميت في الذب عن حياته؟ أي شخص لا
يستبسل في الدفاع عن روحه؟ من يرى شخصًا يعرض نفسه للتهلكة ويخاطر
بحياته، ولا يحكم بأنه مختلط، أو لا يسجل عليه بالجنون؟
لا جرم أن استقلال الأمة الجنسي هو حياتها، وبدونه لم تكن الأمة أمة.
الاستقلال الجنسي مناطه اللغة والدين، فكل أمة حافظت على لغتها، واستمسكت
بدينها، كان لها أن تأمن على جنسيتها من الضياع، وكل أمة عرضت لغتها للزوال،
ودينها للابتذال، فبشِّرها بانطفاء على جنسيتها قليلاً قليلاً، وانغماسها في غمار
الأمم شيئًا فشيئًا، الاستقلال السياسي هو أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، والاستقلال
الجنسي هو أن تحافظ على لغتها ودينها، إذا فقد القبيل استقلاله السياسي كأهالي
الجزائر مثلاً، كان عليه أن يصون استقلاله الجنسي، وإلا لم يمض عليه قرون
حتى يتحول جنسه إلى جنس الأمة الغالبة، ويدغم فيها، ويسبك معها في قالب واحد.
لتجتهد الأمة المغلوبة في تنمية جنسها وتقوية حياته، كي لا ينفعل بفعل جنس
الأمة الغالبة، ويتضاءل أمام مساورته ومغالبته فيتحول إليه ويمتزج بعناصره
ويدخل في تكوينه، إذا سدك الحيوان (لبث ولزم) بأرض ملاحة، وافترش معدنها
الملحي زمنًا طويلاً تبقى له هيئته الحيوانية ما دامت فيه حياة، فإذا زالت حياته
يقوى حينئذ عنصر الملح على جسمه، ويغلب على مواده وعناصره، ويحول كل
ذلك إلى عنصره الملحي، ويصير ذلك الحيوان جرمًا معدنيًّا بعد أن كان جسمًا آليًّا،
هذا أجلى مثال نضربه للأمة التي تحافظ على جنسها، والأمة التي تهمل ذلك أو
تقصر فيه. إذا تغلبت أمة على أخرى وابتزت استقلالها السياسي وملكت عليها
أمرها، كانت كمن استرق الآخر وحجر عليه، أما إذا عملت في ضعضعة دينها،
واستئصال لغتها لتتوصل بذلك إلى محو جنسيتها، كانت كمن يقتل الآخر ويسلبه
حياته، إذا فرط المرء بحريته. وتوانى في صيانتها حتى اختلسها العدو واستعبدها،
فالأحجى به حينئذ أن يجدَّ في حفظ حياته وتنمية قوامها، لعلّه يتوصل به يومًا
ما لاسترداد حريته ومعاودة استقلاله، وما أشد حمقه لو فرّط في الحياة أيضًا،
ومكن العدو من الصيال عليها وإعفاء أثرها، إذا زالت حياة الإنسان لا يمكنه
استرجاعها، بله استرجاع حريته. لا جرم أن يكون مَثَل الأمة التي تتوانى في حفظ
جنسيتها، كمَثَل ذلك الأحمق الذي يلقي بنفسه في الهلكة، ويعرض حياته للخطر.
وبالجملة يجب على الأمة صيانة جنسيتها وبذل أقصى الجهد في مقاومة
المتعرض لثلمها، كما يجب على الشخص أن يتذرع بكل ما لديه من الوسائل
لحفظ حياته، ولو ببذل حياته، نعم، إن الكريم يموت حرًّا، ولا يموت صبرًا.
وإذا لم يكن من الموت بُدّ ... فمن العجز أن تموت جبانًا
الفرنسويون في الإلزاس واللورين يغلون غلوًّا كبيرًا في حفظ جنسيتهم
الفرنسوية، كما هو شنشنة الألمانيين في البلاد النمسوية، مع أن وراء كل قبيل
منهما أمة موطدة الأركان، ودولة مشيدة البنيان، تعمل كل من تينك الأمتين في
تأييد جنسيتها، وإلباس ردائها لكل من تصل إليه يدها، فكم هو خليق بالمسلمين أن
يجتهدوا في حفظ جنسيتهم، ويعملوا في توثيق عُرى دينهم، وتمديد سرادقات لغتهم
وليس لهم من الحكومات حكومة ثابتة الأساس، عاملة على نشر الدين وحمايته،
وصيانة اللغة العربية من الضياع والاضمحلال، لعمري إن أوجب ما يجب عليهم
أن يتفانوا في صيانة جنسيتهم، ويتقحموا المخاطر في سبيل حفظ دينهم ولغتهم،
وإلا غشيتهم من الطمطمانية ظلم، وتلاطمت فوقهم أمواج العدو، والعياذ بالله.
فرنسويو الإلزاس واللورين لو أُكرهوا على التجرد من الجنسية الفرنسوية،
والاصطباغ بالصبغة الألمانية، لاستحبوا الموت، وتجرعوا كأسه دون ما أُكرهوا
عليه، مع أنهم لو تجلببوا بالجنسية الألمانية، كان لهم بعض التسلية والعزاء؛ لأنهم
يعلمون أن الجنسية الفرنسوية لها رجال على ضفاف السين يخدمونها خدمة العبد
الأمين لسيده، يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تتألق شمسها في ربوع فرنسا تألق
شمس الضحى في سمائها لا يعتري تلك أفول أو تكور هذه، وتنسلخ عن أضوائها،
يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تنبعث أشعتها من فرنسا، وتمتد إلى كثير من أطراف
المعمور، وتخلل في ظلمات أفريقيا الغربية، يعتقدون أنها عمّا قليل تحول ليلها
نهارًا، وغياهبها أنوارًا.
هذا شأن القول في الحمس الوطني، والغيرة على الجنس، تُرى ماذا يجب أن
يكون شأن أحد الشعوب الإسلامية لو عدا عادٍ على جنسيته، وحاول مسّها والعبث
بها؟ أما يجب عليه أن يلتهب ويتبخر تأمور قلبه (دمه) حمية في الدفاع عنها،
وصيانة استقلالها، وهو يعلم أن كل قبيل من بين جنسه معرض مثله لضياع الجنس
وفساد اللغة، وليس ثمة دولة حية تعمل في تنمية الحياة الإسلامية وتقوية جنسيتها
الدينية واللغوية. فقد تبين للسائل الآن أن العمل والجد في الإصلاح لا مندوحة عنه،
ولا هوادة فيه، وهو واجب متعين على كل من له قدرة على العمل، سواء سلم
للأمة استقلالها السياسي والإداري، أو لم يسلم لها شيء من ذلك، كما في البلاد
التي ملك عليها أمرها الأجنبي، فكل جماعات الأمة يلزمها النظر في الإصلاح؛
لتحفظ جنسها، وتصون دينها؛ كي يتسنى لها فيما بعد التفلت من أحبولة الاستعمار،
والانطلاق من مطمورة الرق والعبودية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) فسر الكاتب نفث بنفخ، وما رأيت هذا الحرف مستعملاً بهذا المعنى، ومن معاني نفث رمى الشيء من فمه، وهو أليق هنا.(2/346)
الكاتب: محمد محمود الشنقيطي
__________
حقوق الجار ومدح المنار
بما يبديه من هدي الكبار
تفضل علينا إمام لغة العرب، ومرجع أهل العلم والأدب، الأستاذ محمد
محمود الشنقيطي بقصيدة بدوية في أسلوبها، إرشادية في موضوعها، يقرظ بها
(المنار) فنشرناها خلافًا لعادتنا لأننا نرى رضاء مثل هذا الأستاذ عن عملنا من
موجبات الفخر لنا والشكر له، وما كان لنا أن نمنعه حق شكرنا له؛ لأن فيه فخرًا
بشكره لنا (وهذه هي) :
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(الحمد لله تعالى وحده)
(حقوق الجار، ومدح (المنار) بما يبديه من هدي الكبار)
ألا قف بالديار وقوف دار ... حقوق الجار محترم الجوار
وغادر ظلمه ما دمت حيًّا ... وبادر نصره حق البدار
وعظم قدره سرًّا وجهرًا ... تحُز فخر الملا يوم الفخار
تذكر قولي الحربي صخر ... وجار أبي دواد للمجار
تجد قوليهما حكمًا وعلمًا ... مفيدًا للكبار وللصغار
وإن تعمل بما قالاه تفلح ... وتندب في الورى يا خير جار
وإن جهِل السفيه حقوق جار ... وسيم الخسف من غاوٍ وزار
فعلمي الجار محمي حماه ... كجار الدار محفوظ الوقار
فجار الدار أجعله دثاري ... وجار العلم أجعله شعاري
وكل منهما عندي منيع ... بمنزلة الرداء مع الإزار
فجار الدار أمنع باختياري ... وجار العلم أمنع باضطرار
غذاء الروح علمي طول عمري ... أجوب له البحار مع البراري
أؤم العرب ثم العجم فردًا ... لضبط العلم ليلي مع نهاري
وطبع الحر منع الجار دأبًا ... وردع تحوت أوغاد شِرار
فدع عنك التحوت [1] وعد عنهم ... ووثق وصل حبلك بالخيار
أشاقك بالغميّم ضوء نار ... أم الضوء المضيء من (المنار)
فما نار الغميم شوقتني ... ونجل الريب شاقت وهو سار
وشاقت قبله الشماخ ليلاً ... على بعد المسافة والمزار
ولكن (المنار) حوى اشتياقي ... لما يبديه من هدي الكبار
منار هداية للدين يعلو ... مكان النيرات من الدراري
على التقوى يحض بلين قول ... وصد المفسدين عن الضرار
يحض على اتباع الشرع نصحًا أولي الألباب من كأس وعار
ويحمي حوزة العلم احتسابًا ... حماية ضيغم شبليه ضار
يؤيد بالدليل عليم صدق ... يسفهه السفيه أخو الصغار
يدل التاركين سدى هداهم ... على سبل النجاة من التبار
وينكر منكرات صرن عرفًا ... تباشر في البراز بلا تواري
فمنشئه (الرشيد) أحل قومًا ... عمين عن الهدى دار القرار
ولن يرضى (رضى) أفعال قوم ... أحلوا قومهم دار البوار
وأنشد في هداه وفي عماهم ... من الأشعار مطرب كل قاري
إذا ازداد العمون عمى عرفتم ... هدى الإسلام واضحة (المنار)
__________
(1) التحوت الأراذل السفلة جمع الظرف (تحت) وعُرّف واستُعمل هكذا.(2/349)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(المؤيد)
مضى على (المنار) زمن لا يفتح فيه باب التقريظ، حتى كثر علينا ما
يلزمنا تقريظه، فنفتح الباب في هذا العدد بتهنئة صديقنا الفاضل الأستاذ الشيخ
علي يوسف صاحب (المؤيد) الأغر بتوسيع دائرة جريدته السابقة جميع الجرائد
العربية في ميدان الانتشار؛ فإنه قد جعل صفحاتها 8 فزادت فوائدها السياسية
والأدبية والتجارية، وإنا لنرجو له فوق ذلك مظهرًا.
(مجلة الجامعة العثمانية)
علمنا من العدد الأخير الذي صدر من هذا المجلة المفيدة أنها ناجحة نجاحًا حمل
أصحابها على زيادة صفحاتها، بأن تجعل 40 بدلاً من 30، ولكن بحجم أصغر من
حجمها الحاضر الذي تكاثرت شكوى القراء منه، وقد عزموا على زيادة أبوابها
وأبحاثها وإتقان رسومها على إبقاء قيمة الاشتراك على حالها، فنهنئ صديقنا
منشئ هذه المجلة بنجاحه السريع، ونتمنى له زيادة الإقبال.
__________(2/350)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام في البرازيل
ذكرت جريدة (بيروت) الغرّاء خبر القريتين اللتين أسلم أهلهما في الهند، ثم
قالت: اجتمعنا بأحد مواطنينا المسيحيين القادمين من البرازيل، فأخذنا معه بأطراف
الحديث، وتنقلنا من القديم إلى الحديث، ودار بيننا الكلام على أحوال تلك البلاد،
وعادات أهلها، وما هم عليه من السذاجة والبساطة، إلى غير ذلك، ففهمنا منه أن
في مدينة ريوجانيرو عاصمة البرازيل قومًا من المسلمين النازحين إلى تلك الديار
منذ قرون متطاولة، وأصل هؤلاء القوم - على ما يقولون - من أفريقيا، وقد
امتزجوا بالأهالي امتزاجًا عظيمًا، وعلى كر السنين والأعوام قد نسوا لغتهم
الإفريقية، واستعاضوا عنها بلغة البلاد، فكان من نتيجة ذلك أنهم نسوا أيضًا قواعد
دينهم، إذ لم يتسنَّ لهم المحافظة عليها باللغة البرازيلية.
ومع ذلك فهم لم يزالوا مسلمين ينطقون بالشهادتين مع التحريف في لفظهما،
مما دل على أنهم لبثوا محافظين على دين أجدادهم، قال: وفي داخلية البرازيل
ألوف كثيرة من هؤلاء المسلمين، وأكثرهم مزارعون.
وكان الدون بدرو إمبراطورالبرازيل منعهم عن الاسترقاق والاتجار بالعبيد،
فامتنعوا، ولكنهم اتبعوا فيه الكيفية التي كانت من عهد غير بعيد مألوفة في روسيا،
وهي أن صاحب المزرعة أو القرية إذا أراد بيعها، باعها بما فيها من الماشية
والأهالي، فيصبحون كلهم طوع أمر الشاري وفي خدمته، يشتغلون بالأمور
الزراعية في مقابل العيش الذي به يتبلغون، أما محاصيل تلك القرية فكلها
لسيدهم.
قال: وقد سمعت مرة صاحبًا لي من هؤلاء المسلمين يقول: (لا إله إلا الله
محمد رسول الله) قالها بتحريف كثير؛ لأن اللغة المألوفة بينهم لا تساعدهم على
لفظ الهاء والحاء، أما أنا فتعجبت جدًّا؛ لأني مكثت في البرازيل نحو سنتين لم
أسمع في غضونهما كلمة الشهادة، ولا كنت أعلم أن صاحبي هذا مسلم، فقلت له:
وما علَّمَك هذا اللفظ؟ قال: ديني، قلت: وما دينك؟ قال: الإسلام والحمد لله،
فما كدت أصدق منه ذلك، ولأجل أن أقف على حقيقة باطنه قلت مداعبًا: إن
المسلمين لا ينفعون، فنهض للحال وقد احمرت عيناه، وارتجفت شفتاه، وظهرت
ملامح الغضب على وجهه، وكاد يبطش بي لو كان على يقين أن الحكومة لا تقتص
منه، فلما رأيته على هذه الحال لاطفته، وأفهمته أن بلادنا بلادٌ إسلامية، وأننا
عائشون مع المسلمين على غاية المحبة والولاء، وأني لم أقصد بما قلته له إلا
مداعبته واختباره فيما إذا كان مسلمًا حقيقيًّا أم لا، فقال: الحمد لله على الإسلام،
وأنت يا صاحبي مخير أن تهزل معي بما شئت، أما الدين فإياك إياك؛ لأنك تبيت
عدوي، ثم تصافحنا وتصالحنا، وخرجنا إلى التنزه سوية.
قال مخبرنا: وقد فهمت من صاحبي المسلم أن المسلمين كثيرون هناك، وأنهم
لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين، فلا جامع ولا معبد ولا صلاة، ولا
ولا ... وما ذلك إلا لأنهم نبذوا لغتهم الأصلية، وتعلموا اللغة البرازيلية المشيدة على
أركان المسيحية، ولذلك تراهم يسمون أولادهم بأسماء المسيحيين، وما عدا
الشهادتين لم يحافظوا على شيء من سنن الإسلام، إلا سنة الختان، فهم يختنون
أولادهم، ولكنهم لا يعلمون لأي شيء.
هذا ما فهمنا من مخبرنا القادم من بلاد البرازيل، فلو كان لهؤلاء المسلمين
علماء مبعوثون ينبثون بينهم، فيتعلمون لغتهم في بادئ الأمر، حتى إذا أحسنوها
علَّموهم أصول الدين الحنيف، فلا يكاد يمضي ربع جيل حتى ينتشر الإسلام في
جميع أنحاء أميركا.
ولا يخفى أن تعليم هؤلاء القوم أركان دينهم، وأصول عقائدهم لِمَن أسهل
الأمور التي يمكن تناولها؛ لأنه ظهر من كلام مخبرنا أن الغيرة على الدين لم تزل
مستعرة في صدورهم، فإذا جاءهم العلماء والفقهاء أقبلوا عليهم إقبال الظمآن على
ورود الماء؛ لأن أساس الدين الحنيف راسخ في صدورهم.
وما أجدر الأغنياء من المسلمين بجمع الدراهم اللازمة؛ ليتسنى لهم إرسال
المعلمين إلى هؤلاء القوم أولاً، ثم إلى وثنيي الهند الذين تكلمنا عنهم في الفصل
السابق، فإنهم ولا شك يُقبلون على اعتناق الإسلام؛ لأنهم على درجة من الفهم
والذكاء يميزون الغث من السمين، ويدركون حقائق الأشياء، فإذا وقفوا على مبادئ
الدين الإسلامي البسيطة السهلة التي يقبلها العقل، وتشربها النفس، كان من المؤكد
إقبالهم التدين به، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
(انتهى)
__________(2/351)
12 ربيع الثاني - 1317هـ
19 أغسطس - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدين والدولة
أو الخلافة والسلطنة
ارتأى بعض من كتب في (الجامعة الإسلامية) أن هذه الجامعة تتوقف على
الفصل بين الدين والدولة، وبين الخلافة والسلطنة، بأن يكون الخليفة رئيسًا روحيًّا،
والسلطان رئيسًا سياسيًّا لا علاقة له بالدين، واقترح أصحاب هذا الرأي من كتاب
النصارى على كتاب المسلمين أن يكتبوا مبينين رأيهم فيه، وها نحن أولاء قد
لبَّينا طلبهم، ونبدأ ببيان معاني هذه الألفاظ، فنقول:
(الدين)
عرَّفه علماء المسلمين بأنه وضع إلهي، سائق لذوي العقول
باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وإن شئت قلت: إلى سعادتهم
الدنيوية والأخروية. وقواعده عندهم ثلاث: تصحيح العقائد، وتهذيب الأخلاق،
وإحسان الأعمال، والأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات، ومن الثاني: الأحكام
بأنواعها، قضائية ومدنية، وسياسية وحربية، ومن الناس من جعل الأحكام قسمًا
مستقلاًّ بنفسه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والدين عند النصارى هو - كما في
دائرة المعارف - عبارة عن مجموع النواميس الضابطة لنسبة الإنسان إلى الله، أو
يبين صفات لتك النسبة، وهو كما ترى لا علاقة له بالأمور الدنيوية، ولا بالأحكام
والسلطة، ومن المشهور أن الديانة النصرانية مبنية على الخضوع لأية سلطة
حكمت أصحابها، لِما في الإنجيل من أن سلطة الملوك إنما هي على الأجسام الفانية،
وأن سلطة الدين على الأرواح فقط، فيجب على كل متبع لهذا الدين أن يدين لكل
سلطة، ويذعن لكل شريعة حكمته، بخلاف الدين الإسلامي؛ فإنه مبني على
السلطة والغلب، وأن يحكم العالم كله بشريعته، وإن لم يدينوا كلهم به، إذ لا سبيل
إلى اتحاد النوع الإنساني وجعله أمة واحدة إلا بإحدى الوحدتين: وحدة الاعتقاد،
ووحدة الحكم العادل الذي يساوي بين الجميع، وقد بيَّنا هذا في العدد الأسبق فلا
نعيده، فيجب على المسلمين أن لا يدينوا إلا لمن كان على دينهم، وإذا حاول أجنبي
العبث باستقلالهم، ودخل فاتح إلى بلادهم يتعين عليهم أن ينفروا خفافًا وثقالاً،
ويقاتلوا نساءً ورجالاً حتى يدفعوا العدو، أو يفنوا عن آخرهم، بل يجب عليهم أن
يسعوا في نشر دينهم، ورفع لواء سلطتهم حتى تزول الفتنة والشرك من الأرض،
ويكون الناس أمة واحدة، تجمعها رابطة الاعتقاد الحق والحكم العادل، أوالثاني فقط
كما قدمنا، وبهذا الأخير كان الإسلام لا إكراه فيه، ولا تنافي سلطته تقدم غير
متبعيه، فضلاً عن إيذائهم وهضم حقوقهم {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) .
(الدولة)
لهذه الكلمة إطلاقان، فتطلق على سلسلة من الملوك تجمعهم أسرة واحدة أو
جنس واحد، يحكمون مملكة من الممالك، يقال: دولة الأمويين، ودولة العباسيين
والعثمانيين، كما يقال: دولة الفرس، ودولة الرومانيين، وتطلق على الحكومة
والسلطة، فيقال: الدولة الفرنساوية، ويعني به حكومتها الحاضرة في مجموع
بلادها، والحكومة في أصل اللغة: مصدر حَكَمَ، واسمٌ مِن تَحَكَّم بمعنى فصل
الخصومة، وفي العرف عبارة عن السلطة ورجالها القائمين عليها.
(الخلافة)
هي في الشرع الإسلامي النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة
الدين وسياسة الدنيا، فهي جامعة للرئاستين معًا، ويجب تفويض الأمور العامة إلى
الخليفة، ولا تصح الأحكام في السعة إلا إذا كانت صادرة عنه مباشرة، أو بواسطة
نوابه، قال في الأحكام السلطانية: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
(أحدها) حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فإن نجم
مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما
يلزم من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
(الثاني) تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم
النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم. (الثالث) حماية البيضة والذب
عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير
بنفس أو مال، و (الرابع) إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك،
وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
و (الخامس) تحصين الثغور بالعُدَّة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر
الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا، و (السادس)
جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسلم، أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى
في إظهاره على الدين كله، و (السابع) جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه
الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف، و (الثامن) تقدير العطايا،
وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا
تأخير، و (التاسع) استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من
الأعمال، ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال
بالأمناء محفوظة، و (العاشر) أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛
لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو
عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ} (ص: 26) فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة، ولا عَذَره في اتباع الهوى، حتى وصفه بالضلال، وهذا وإن كان مستحقًّا عليه
بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترعٍ (لعله مسترعى)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) . اهـ،
فهذه وظائف الخلافة بالإجمال.
(السلطنة)
كلمة أخذها المولدون من لفظ (سلطان) ويعنون بها الدولة أو الحكومة،
يسمى حاكمها الأكبر سلطانًا، ولم يطلق لقب السلطان على أحد من خلفاء الأمويين
والفاطميين والعباسيين، وإنما حدث هذا اللقب في طور ضعف الخلافة
العباسية الذي كان من أثره افتئات العمال في الأقاليم على الخلفاء، واستبدادهم
بالأمر من دونهم، واختراع الألقاب الضخمة وتحليهم بها، ثم جعل الخلافة اسمًا
مهملاً، ليس لأربابها من الأمر شيء، إلا نحو ذكر أسمائهم في الخطب، وما هو
بالأمر المهم في الدين ولا في الدنيا، وكان من تلك الألقاب الضخمة التي تلقب بها
العمال والأمراء الذين استبدوا على الخلفاء لقب (سلطان) وأول من تلقب به
الأمراء المستقلين في عهد الخلافة العباسية محمود بن سبكتكين الغزنوي الفاتح
الشهير في القرن الرابع للهجرة الشريفة.
مَن تدبر ما شرحناه من معاني هذه الكلمات الأربع يتجلى له أن الدين
الإسلامي جامع لمصالح المعاش والمعاد، ومبني على أساس السلطتين الزمنية
والروحية، وأن الديانة النصرانية على خلاف ذلك، وأن الخليفة هو رئيس
المسلمين القائم على مصالحهم الدينية والدنيوية، وأن كل حكومة تخرج عن طاعته
الشرعية فهي منحرفة عن صراط الإسلام، وأن القول بفصل الحكومة والدولة عن
الدين هو قول بوجوب محو السلطة الإسلامية من الكون، ونسخ الشريعة الإسلامية
من الوجود، وخضوع المسلمين إلى من ليس على صراط دينهم ممن يسمونهم
فاسقين وظالمين وكافرين؛ فإن القرآن العزيز الذي هو أساس الدين يقرع دائمًا
آذانهم، بل يناديهم من أعماق قلوبهم قائلاً بلسان عربي مبين {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) .
إذا تمهد هذا، فنقول للذين يدعوننا إلى فصل الدين عن الدولة، والتفريق بين
السلطة والخلافة لأجل تأييد (الجامعة الإسلامية) إن كنتم تدعوننا هذه الدعوة
جاهلين بمعنى هذه الألفاظ عندنا، فها نحن أولاء قد بيناها لكم فارجعوا عن دعوتكم،
فقد علمتم أن قياس الإسلام على النصرانية قياس مع الفارق؛ فإن فصل السلطة
الروحية عن السلطة الزمنية هو أصل النصرانية، وقد كان رؤساء الدين تعدوا
الحدود، وتسلقوا عروش السلاطين والملوك، مخالفين لصاحب الدين الذي:
قد جاء لا سيف ولا رمح ولا ... فرس ولا شيء يباع بدرهم
يأوي المغارة مثل راعي الضأن لا ... راعي الممالك في السرير الأعظم
فلا بدع إذا ترقّى الدين بانصراف رؤسائه إلى خدمته، وتركهم الاشتغال بما
ليس منه في شيء.
ونحن والنصارى في هذا الأمر على طرفي نقيض؛ فإننا إذا تَلَوْنَا تِلْوَهُم فيه
نكون قد تركنا نصف ديننا الذي هو السياج الحافظ للنصف الباقي، كلا إن الدين كله
يكون بهذا العمل عرضة للاضمحلال، ومهددًا بالزوال، لا جرم أن ما تدعوننا
إليه هو أقرب طريق لإعدام (الجامعة الإسلامية) فكيف جعلتموه طريق إيجادها
وهو أقوى علل شقائها، فأني يقنعوننا بأنه علة إسعادها؟
وإن كنتم تدعوننا إليه عن بينة وعلم، ووقوف على حقيقة الحكم، خدمة لمن
فُتِنْتم بمدنيتهم، واتصلتم بهم بجاذبية تعليمهم وتربيتهم - فاعلموا أن العلة لم تهبط بنا
إلى هذا الحضيض الذي يقال فيه: (حال الجريض دون القريض) وأن الجهالة ما
امتلخت أحلامنا وأزاغت أبصارنا، ولا رمتنا بالأفن وضيق العطن، بحيث
صِرنا نختبل بهذه الوساوس، ونختلب بتلك الهواجس، أو ننخدع لذي (خواطر
خواطر) ونغتر بكلام مارق غادريصف نفسه بأنه (مسلم حر الأفكار) وما
جاءت حريته إلا من رق الكفار، فإن كان اتخذ لقب المسلم ذريعة لهدم منار الشريعة
فكأين من منتسب مثله للإسلام ينتهك حرماته بالفعل لا بالكلام، ويساعد الأجانب
على نقض أساسه وإطفاء نبراسه متبجحًا، بأنه من الأحرار المتمدنين، البرآء من
لوث التعصب للدين.
ربما كان الحامل لبعض الكتاب المسيحيين على اقتراح ما ذُكِرَ هو اعتقادهم
بأن زوال السلطة الشرعية الإسلامية هو الذي يساوي بين طائفتهم وبين المسلمين،
ويخمد نيران الغلو في التعصب، فيتفقون على إعلاء شأن الوطن، ويخدم كل دينه
من الوجهة الروحية التي لا مثار فيها للتنافر ولا مبعث للتنافس والتفاخر. ويسهل
علينا أن نبين لهم خطأهم في اعتقادهم هذا فنقول:
(1) إن بناء الشريعة الإسلامية قام على قاعدة العدالة والمساواة بين
المسلمين وغيرهم في الأحكام والحقوق المعبر عنها بهذه الجملة التي يتناقلها الإسلام
خلفًا عن سلف، وهي (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وقد دلنا التاريخ على أن
الحكومات الإسلامية كانت تراعي هذه القاعدة بحسب تمسكها بالدين قوة وضعفًا
ومن قابل بين مساواة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا صهر النبي وربيبه،
وابن عمه، برجل من آحاد اليهود في المحاكمة، وانتقاد علي عليه بقوله له: (يا
أبا الحسن) وعده التكنية إخلالاً بالمساواة لما فيها من التعظيم، وبين ما هو جارٍ
اليوم في فرنسا من التحامل على دريفوس وهو من أكابر عظماء اليهود، حتى إنهم
حاولوا قتل وكيله الذي يحامي عنه، وهم أصحاب العلم الذي ينطق بالحرية والعدالة
والمساواة - يظهر له الفرق بين المسلمين في بدايتهم والأوروبيين في نهاية مدنيتهم.
فالشريعة في نفسها عادلة، ولا يضر المسيحيين أن مواطنيهم المسلمين يعتقدون أنها
سماوية، بل هو ينفعهم كما يأتي، وهم لا فرق عندهم بين الشرائع، إذ دينهم
يوجب عليهم اتباع أي شريعة حكموا بها.
(2) إن الترقي الديني والمدني الذي نقصده من إحياء (الجامعة الإسلامية)
يتوقف على التهذيب وقيام الأفراد بما عليهم من الحقوق والواجبات لمن يعيشون
معهم، وهذا القول لا يخالف فيه أحد، ومعلوم أن المسلمين لا يعتقدون بحق ولا
واجب إلا إذا كان مبينًا في شريعتهم ومأخوذًا من أصول دينهم، فإذا فصل بين
الدين والدولة كان جميع ما تكلفهم به الدولة من الحقوق والواجبات غير واجب
الاتباع في اعتقادهم، فإذا أخذوا به في العلانية لا يأخذون به في السر، ولا يتم
تهذيب الأمة ما لم يكن الوازع لها عن الشر والحامل لها على الخير ثابتًا في نفسها
مقررًا في اعتقادها، فخير للمسيحيين أن يحكم المسلمون بشريعة ودولة توجب
عليهم احترامهم، والقيام بحقوقهم سرًا وجهرًا، وبدون هذا يتضرر المسيحيون،
ولا يرتقي المسلمون، بل يتدلون ويهبطون كما علم بالاختبار والمشاهدة، فقد أنبأ
التاريخ أن مبدأ الخلل والضعف الذي ألمّ بنا كان إهمال وظائف الخلافة والخروج
بها عن معناها الذي هو حراسة الدين وسياسة الدنيا، ولما ضعف الخلفاء عن القيام
بالوظيفتين لجهلهم وانغماسهم في الترف والرفاهية استبد العمال بسياسة الدنيا،
فكانوا ملوكًا وسلاطين، وأهملت حراسة الدين فلم يكن لها زعيم يقيم السنن ويميت
البدع، غير ما كان يأتيه بعض صلحاء الملوك أحيانًا، فتمزق بهذا نسيج الوحدة،
وتفرق شمل (الجامعة الإسلامية) حتى وصلت إلى ما نحن فيه الآن، وكان هذا
أمرًا اقتضته طبيعة العمران، ولن يعود للإسلام مجده إلا بإحياء منصب الخلافة
واتفاق المسلمين على إمام واحد يعتقدون وجوب الخضوع له سرًّا وجهرًا، ولا إمام
اليوم للمسلمين بهذا المعنى إلا القرآن الكريم، فيجب على من يهمه ترقية شؤونهم
أن يدعوهم به إلى العلم والعمل، ونفض غبار الجهل والكسل، والقيام بمصالح
المعاش والمعاد على ما تقتضيه سنن الترقي والإسعاد، فهو إمام كل إمام، وكما كان
المبدأ في ترقيهم كذلك يكون الختام.
__________(2/353)
الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
(6)
ثم هبطت السيارة السادسة، وكانت كانسة آنسة، فنادت: يأيها الناس
المتجرعون كؤوس الكدر والابتئاس، إلام تصبرون على هذه الحياة المرة، هلموا
أبعكم (الصفاء والمسرة) فأقبلوا إليها يزفون، كأنهم إلى نصب يوفضون،
عازمون على انتهاب ما لديها، واغتصاب ما في يديها، شفاءً لغيظهم من صواحبها
اللائي كن شبيهات بها، وقد كُن يعرضن بضاعتهن على من لا يشتريها، ويمنعنها
من الراغبين فيها، وما بعُد العهد ببائعة الشرف والجاه، وأسباب المفاخرة والمباهاة،
وارتأوا أن يُغروا بها الصبيان والمجانين ليختلسوا متاعها الثمين، فاجتذبوا منها
الصندوق، وهم ممن لا يطالب بهضم الحقوق، فوقع بين أيديهم فانكسر، وتفرقت
البضاعة شذر مذر، فطفقوا يتلقطونها، وحالوا بين الناس وبينها، فأخذوها إسرارفًا
وبدارًا , ولم يتركوا لسائر الناس إلا أسارًا، ومن ذلك الآن صار الصفاء والسرور
من نصيب المجانين والولدان، وأما تلك البقية فقد تفرقت في جميع البرية،
فأصاب كل عروسين منها وشل يتمتعان به في شهر العسل، ثم تعود إليهم الأكدار؛
فيتجرعون كؤوسها إلى منتهى الأعمار , ولا يصيب غير هؤلاء من السرور إلا
فلتات، ولا يصفو لهم العيش إلا في لمحات، وأما عامة الأوقات فهي أكدار
وحسرات، وأهنأهم عيشًا مَن يمر عليه معظم الزمان مِن غير سرور ولا أحزان،
ولا يغرنك ما تشاهده في كثير من المعاهد من غناء وعزف ورقص وقصف،
وضحك وغناء، وتصدية ومكاء، فالغم أكثر حروف النغم، والطير يرقص مذبوحًا
من الألم، والسبب في هذه المظاهر التي تخدع الناظر أن ما يجلب المسرة والصفاء
أمسى مجهولاً عند الدهماء، إذ لم يؤخذ هذا الشيء من معدنه، ولم يشتر بثمنه،
ولما بصروا بالولدان والمجانين فرحين في الأغلب ومسرورين، ظنوا أن العقول
والأفكار، التي هي تجلب الأحزان والأكدار، فأنشأوا يطفئون نور العقل والفكر،
بما يريقونه من أكواب الخمر، ويتغلبون على قوة الأفكار، بتلاحين الغناء ونغمات
الأوتار، وما يتبع ذلك مما هنالك، وهيهات أن يظفروا بالمسرة الحقيقية، إلا
بتنظيم حال الهيئة الاجتماعية؛ فإن الحالة العامة تؤثر في الأفراد، وهيهات أن
يوجد في الأمة الشقية عاقل يهنأ بالإسعاد. ولو سئلت السيارة عن الثمن، لما تعدى
طلبها هذا الأمر الحسن.
ولما كان ما كان، من أمر المجانين والصبيان، فرت وهم مشغولون بالانتهاب
راضية من الغيمة بالإياب، فلقيت في طريقها السيارة السابعة، التي جاءت لبيع
الثروة الواسعة، فسألت كل منهما الأخرى عن رحلتها، وبيان نتيجة تجارتها، فكان
مما قالت السابعة: إنني جئت هذه العاصمة الواسعة، وما كدت أذكر اسم بضاعتي
الثمينة، حتى أقبل علىّ كل من سمع الخبر في المدينة - يعدون سراعًا، فُرادى
وأوزاعًا - يتساءلون: ما هي ثروة هذه الغنية؟ وهل هي ذهبية أم فضية؟ وهل
تهبها أم تقرضها لطالبها؟ أم جاءت لتدينها وتربيها؟ فقلت لهم: أيها الناس، عداكم
الشك والالتباس، إن الهبة تفنى، والرباء يُفني، والقرض بالمماثلة لا يثمر ولا
يغني، وإنما جئت لأبيعكم الثروة الحقيقية، بالدلالة على منابعها الأصلية، وتلقينكم
علم الاقتصاد الذي هو أساس الإسعاد، ومن لم يعمل بمسائل هذا العلم النافعة، لا
يكون صاحب ثروة واسعة؛ لأن الإسراف والتبذير، يُذهب المال الكثير في الزمن
القصير، فقالوا: إننا لا نفقه كثيرًا مما تقول، ويوشك أن يكون عقلها مخبول، ولو
أنها علمتنا حل الرموز لفتح الكنوز وأسرار الأرصاد والطلسمات، لاستخراج
الخبايا العاديات، لأنالتنا المُنى، وحبتنا بالثروة والغنى، ولو أطلعتنا من علم
الكيمياء على حقيقة الإكسير، لتحويل المعادن إلى الذهب النضير، لكانت الفائدة أتم
والسعادة أعم، فقلت لهم: إن هذا هذيان مبين، وخرافات من أساطير الأولين،
فقالوا: إنها تسفه أحلامنا، وتحقر أسلافنا، فهلموا بنا نوقع بها، ونعاقبها على سوء
أدبها، فخِفْتُ أن يبطشوا بي طعنًا وضربًا فوليت منهم فرارًا وملئت منهم
رعبًا، ولولا المبادرة بالفرار، لتأخرت عنك يا أختي في التسيار.
ثم إنهما صعدتا إلى السماوات، واجتمعتا بسائر السيارات، وذهبن جميعًا إلى
جوبيتبر رئيس الآلهة الكبير - بحسب ما كان يعتقد في ذلك الزمان من خرافات
اليونان - فقصصن عليه ما لقينه من البشر، من إعراضهن عن النفع واختيارهن
الضرر، بسبب الجهالة الغالبة، والتقاليد الباطلة الكاذبة، فتولاه الغضب الشديد،
حيث لم يتم له ما يريد، وشمت به نبتون وبلوطون، وقالوا له: ألم نقل لك إن
هذا لا يكون؟ فسكت واجمًا، وانثنى كاظمًا، ولا غرو فإن نوع الإنسان، لا
يسعد إلا بالعلم المؤيد بالبرهان، الذي يشهد له الحس، ولا يكذبه الامتحان.
(تمت الأسطورة الحكمية)
أقول: إنني عندما كتبت النبذة الأولى منها مستندًا إلى الأصل التركي، كنت
لم أقرأ الأسطورة كلها، وبعد ما قرأتها وجدت أكثر كلامها لغوًا، فأنشأتها خلقًا
جديدًا، فقد كانت عشر صفحات، حذفنا الكثير منها لأنه هذيان، وجعلناها في
قالب مقبول، تنتشي به العقول، ومَن عَلِم أن صاحب الأصل كتب في السيارة التي
تبيع الشرف والجاه نحو خمسة أسطر فقط، وفي السيارة التي تبيع الغنى والثروة
مثل ذلك، وملخص ما كتبه: إن الناس نهبوا من السيارتين الوسامات وملابس
التشريفات والنقود والثروة، مَن عَلِم هذا يتجلى له معنى التصرف الذي ذكرناه أولاً،
وأرجو أن لا يكون هذا الأسلوب حجابًا على وجه النصائح التي تضمنتها
الأسطورة {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
__________(2/360)
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
__________
خاتمة رسالة
استنهاض همم
هذا هو حديثنا بالأمس، جلوناه على منصة (المنار) الأغر، وضممناه إلى
ما يكتب فيه من قلم منشئه، صديقنا الفاضل، ورَفَعْنَا صوتنا على ذروته مع
أصوات أولئك الكتبة الأكارم الذين يلقون إليه بمنشآتهم، ويتخذونه منبرًا لإبلاغ
خطبهم وعظاتهم، ولا أكتم القراء أني لم أقتصر فيما كتبته على مجرد الحديث الذي
دار بيننا، بل أضفت إليه ما كان يسنح في الخاطر، ويهجس في النفس أثناء كتابته،
وزدت فيه بعض أمور يتطلبها المقام، وشيئًا من الشواهد التي توضح خفايا الكلام،
وقد أتيت على ذكر معظم الأخطار التي تحدق بالشعوب الإسلامية، والمهاوي التي
يُخشى أن يواقعوها، ولم آلُ جهدًا في التحذير، وإمحاض النصح، واستنهاض
الهمم؛ لملاقاة الخلل والفساد الذي لصق بنفوسنا، ولابَسَ أعمالنا، صرحت بذلك
في بعض المواطن، وفضلت التلميح والتعريض في مواطن أخر.
وليس من رأينا ما يراه البعض من وجوب كتم مساوي الأمة، وإخفاء عللها
وأمراضها، صونًا لحرمتها عن الابتذال، وكرامتها من الامتهان، وذهابًا إلى أن
في الإشادة (رفع صوت والإعلان) بالتشنيع عليها، وتشهير عوراتها، واللهج
بسوء حالتها، ووخامة عاقبة توانيها - توهينًا لعزائم آحادها، وتثبيطًا لهممهم، مع ما
في ذلك من اطلاع العدو على ضعفها، والإشراف به على تراخي شؤونها، فيحدث
له طمع فيها، ويتوسل بذلك للتسجيل عليها بالانحطاط الأدبي والتأخر المدني،
وأن الطريقة المثلى في خدمة الأمة إنما هي التمويه والتأويل، والتخييل والتعليل،
وإرخاء الحبال على الغوارب، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
كذا يزعم البعض، ولا أراه إلا خطأ وغبانة (أي ضعفًا في الرأي) من
يقول: إن الجهل المركب خير من الجهل البسيط؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم
صحيح. من يقول: الأحسن في حق المريض الجاهل بفن (الهيجين) أن لا يخبر
بمرضه ولا يعرَّف بدرجاته وتطوراته، ولا يحذر من عاقبة إهماله؟ إن كان يقول
أحد فزعم الزاعم صحيح. من يقول: إن تربِيت [1] الغلام والبشاشة في وجهه
عندما يقترف ذنبًا ويأتي منكرًا، هو الأفضل في تربيته وأقرب طريق لتقويم
طباعه؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم صحيح. لا يقول بشيء من ذلك أحد فزعم
الزاعم باطل.
إن اهتمام عقلاء الأمة ونبهائها في إصلاح شؤون أمتهم، وتشخيص أمراضها،
وتحديد درجات المرض، وتحذيرها مغبة التفريط في تناول العلاج، والاعتراف
بأن هناك خللاً تجب مداركته، وصدعًا ينبغي شعبه، والإقرار بأن البدع التي
خالطت تعاليم الأمة وعقائدها، والفساد الذي سرى في عادها وسائر شؤونها يؤدي
إلى اضمحلالها، ويودي بحياتها والنعي على أفرادها انحطاط هممهم، وصغر
نفوسهم، والتسجيل عليهم بالحرمان من مزايا الأمم الحية إن لم ينشطوا للعمل،
ويقوموا بما وجب عليهم، كل ذلك مما تقوى به في الاحتجاج على أوروبا وينهض
دليلاً على أن في الأمة رمقًا يتموج، وأنفاسًا من الحياة تترقرق [2] ولا تلبث إن
أُمهلت حتى يقوى ذلك الرمق، وتنتعش تلك الحياة، فتنهض بالأمة إلى ذرى المجد
والعزة، وتعرج بها في معارج السعادة.
مسافر أمامه طريق ذات تضاريس وأشواك، وفيها عواثير وهُوًى، وعلى
جنابتيها أضباس [3] تزأر فيها الأسود، وأدغال وأجم تدب تحتها الهوام والأفاعي
وعدوه يترصده في معاطف تلك الطريق ومخارمها، ويعترض سيره مجاهل وقفار
لا يجد فيها حسوة ماء، ولا لماظة قوت، وذلك المسافر مضطر لسلوك تلك الطريق
وبلوغ الغاية التي ينتحيها وهو خالى الذهن مما يوشك أن يشارفه على غفلة من
وعورة الطريق وأخطارها، هل من وفاء الذمم ترك نصيحته؟ هل من سداد الرأي
ونفاذ البصيرة ترك تحذيره وتخويفه؟ أليس إخباره بما سيلاقيه يكون أدْعَى لأخذ
أهبته، وإيقاظ نفسه، وإثارة عزيمته؟ لا جرم أنه حينئذ يبذل من الاهتمام والتأهب،
ويستنزف من الحذر والتيقظ على قدر ما يعلم من مخاطر تلك الطريق، وما يصل
إلى سمعه من أهوالها ومخاوفها، ويوفر من وسائل الدفاع وأدوات الصيال، ومواد
الغذاء ومرافق المعيشة ما يأمن معه على حفظ حياته وبلوغ غايته، بل يبلغ به
الحزم وأصالة الرأي أن يستصرخ إخوانه، وكل من يؤم وجهته ويستفز هممهم
للمشايعة في العمل، والمرافقة في السير؛ كي يقووا جميعًا على مدافعة الصائل،
ومقاومة الغوائل؟ والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(انتهى)
__________
(1) التربيت: الضرب اللطيف، على نحو الكتف تحببًا.
(2) ترقرق: تحرك، وجاء وذهب، والشيء لمع، والدمع دار في الحملاق.
(3) جمع ضبس، وهو الأشجار الملتفة.(2/363)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيه
كثر في هذه الأثناء خوض الجرائد الأسبوعية الحديثة النشأة في المسائل
الدينية من غير علم ولا بصيرة، وماذا نقول وجهل الكاتبين مركب، وقد تركت
الحكومة أمر الصحافة والطباعة فوضى، ولكننا ننبه هؤلاء الكاتبين إلى أمر لا
يرفضه مسلم، وهو أن لا يكتب أحد منهم حديثًا ينسبه للنبي صلى الله عليه وسلم إلا
بعد العلم بتخريجه، ومعرفة أنه غير موضوع ولا منكر، وإذا أرادوا الاحتجاج به
فيجب أن يعلموا بأنه مما يحتج به، وإلا دخلوا في عموم قوله صلى الله عليه وسلم
في الحديث المتواتر (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وبعض
الروايات لم يُذكر فيها (متعمدًا) فالخطر فيها أعظم.
وأمر آخر مما ينبغي التنبيه عليه، والعناية به، وهو كثرة ذكر الآيات
القرآنية في هذه النشرات التي هي عرضة للابتذال والامتهان، وإننا كنا نجد في
النفس حرجًا من ذكر الآيات في أعداد السنة الأولى من (المنار) مع علمنا بأن
معظم القراء يحفظونها لأجل تجليدها، بحيث كانوا يطلبون منا ما يفقدونه من
الأعداد، ولكن شكل الجريدة كان مظنة للابتذال، وهذا هو السبب الأول في جعلنا
(المنار) بشكل الكتب، ولا نشك في أن رصفاءنا الأفاضل يعتنون بهذه النصيحة
بقدر قوة دينهم وصحة يقينهم، والله الموفق.
__________(2/365)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دم أضاعه أهله
يشكو المصريون من المدارس الأميرية، ويرون أن سعادة البلاد إنما تكون
بمدارس الجمعيات الخيرية الوطنية، وأنّى تفي الجمعيات بالغرض إذا لم يكن
القائمون بها والنظار عليها من الأطباء العارفين بمرض الأمة، المندفعين بطبيعتهم
إلى إصلاحها؟
نوَّهنَا بمدرسة زعزوع بك مع أن بنيّانها أُسِّسَ على شفا جُرُفٍ هارٍ، حيث
جعلت السيطرة عليها للحكومة، ورجونا بذلك أن يرغب غيره بمثل عمله،
ويأتي سالمًا من علله، وقد رأينا في هذه الأيام إعلانًا من جانب جمعية (العروة
الوثقى) الإسلامية في الإسكندرية كاد يذهب ببقايا أملنا بالمدارس الأهلية، إعلانًا
يطلب فيه أستاذ للغة الفرنسوية براتب شهري قدره 600 غرش، ومثله للإنكليزية،
وأستاذان للغة العربية براتب شهري قدره 200 غرش لكل منهما، واشترط في
أستاذي الفرنسوية والإنكليزية المعرفة التامة، ولم يشترط ذلك في أستاذي العربية،
وكيف يشترط ذلك، ولا يمكن أن يوجد معلم ماهر بهذا الراتب القليل؟ أليست هذه
الجمعيات هي التي تحيي اللغات الأجنبية، وتميت لغة الأمة والدين؟ ! بلى، إنها
تفعل ما لا تفعله الحكومة في مدارسها؛ فإن في المدارس الأميرية من معلمي العربية
كثيرًا من نخبة النابغين يأخذون الرواتب الكافية، ويعلمون أحسن التعليم، فعسى أن
تتنبه جمعية (العروة الوثقى) لملاحظتنا هذه، فتتلافى الأمر، وتنتقي لتعليم العربية
في كل مدرسة من مدارسها أفضل المهرة من المعلمين، مهما بلغت أجورهم، لتكون
محل ثقة الأمة، وموضع رجائها، ولا تكون مجهزة على الأمة فيقال فيها: (د م
أضاعه أهله) .
__________(2/365)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عناصر النمسا
جاء في نبذة سياسية في جريدة (الشام) الغرّاء أن في مملكة النمسا
10690000 نفس من العنصر الألماني، و 7770000 من العنصر البوهيمي،
و7508000 من العنصر المجري، و4879000من العنصر الكرواتي والصربي
و3900000من العنصر البولوني، و3668000 من العنصر الروتيني،
و2940000 من العنصر الروماني، و 1325000 من العنصر السلوفاني،
و729000 من العنصر الإيطالي، و 1920000 من اليهود، وكل من هذه
العناصر ينزع إلى الاستقلال، ولا سيما العنصر البوهيمي صاحب المجد القديم؛ فإن
رجاله أبدًا دائبون وراء إحراز الغاية من الإصلاح، ونشر لغتهم ومباديهم، ويسألون
لبلادهم الامتيازات التي نالتا المجر. اهـ
__________(2/366)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع مالية الدولة)
قد قررت غرامة الحرب الروسية التركية في اتفاق 11 مايو سنة 1882
المبرم بين الحكومة العثمانية وحكومة روسيا وأخذت الحكومة العثمانية تسدد هذه
الدين الذي قدره 802500000 فرنك أو 35000000 جنيه مجيدي بدفعة سنوية
قدرها 350000 جنيه مجيدي ومدة استهلاكه مائة سنة، ومما خص لتسديده رسوم
الأغنام والأعشار التي تجيء من ولايات حلب وقونيه وقسطموني واطنه وسيواس
وهي إيرادات كان مجموعها يبلغ إلى سنة 1882 مبلغ 427500 جنيه مجيدي لكن
بسبب القحط الذي أكل آسيا الصغرى وتركية آسيا كما أكل المزروعات القليلة
واستمر عدة سنين، قد قلَّت تلك الإيرادات عما كان مقدرًا لها وتسبب عن ذلك زيادة
دين الغرامة فبلغ في سنة 1888 إلى 600000 جنيه مجيدي. وقد أُبرم اتفاق جديد
بين الحكومتين المختصتين بتصفية هذه المتأخرات من أقساط الغرامة أعطيت روسيا
بمقتضاه أجزاء الخراج المتحصلة من ولاية حلب مع بقاء هذه حرة، وأعشار ولاية
معمورة العزيز وبقيت الروسيا تقبض في الدفعة السنوية مبلغ 450000 جنيه
مجيدي عوضًا عن الدفعة الأصلية التي قدرها 350000 جنيه مجيدي وذلك مدة
ست سنوات. أما التعويض الذي اشترط دفعه للتجار الروسيين الذين كانوا يقيمون في
تركيا وحصلت لهم خسائر من الحرب التي حصلت في سنة 1877 فقد حددته اللجنة
التي شُكِّلَتْ للبحث في مطالب أولئك التجار البالغ مجموعها 19000000 فرنك
بمبلغ 6000000 فرنك، وفي ديسمبر سنة 1884 دفع أول قسط من هذا الدين
وقدره 50000 جنيه مجيدي للدائنين ذوي الشأن. قد نشر جرنال
المجلس التجاري بالقسطنطينية في 7 أبريل سنة 1892 مقالة عظيمة الشأن في
الإيرادات المتنازل عنها لمصلحة الدين العمومي هاك ترجمتها: (إنا نحفظ لأنفسنا
الحق في أن ننشر في أقرب وقت كالعادة تقريرا مفصلاً لمجلس الإدارة خاصًّا
بالإيرادات المتنازل عنها لمصلحة الدين العثماني عن أعماله في سنة 1309 هجرية
الموافقة لسنة 1893 مسيحية المتداخلة في سنة 1894، إلا إنّا قبل ذلك
نقدم للقراء بعض الأرقام الدالة على الحالة العمومية للدين في آخر السنة التي نهايتها
28 فبراير سنة 1894 مقارنة بها في سنة 1892 المتداخلة في سنة 1893
... ... ... ... ... ... ... سنة ... ... سنة
... ... ... ... ... ... 1893-1894 ... 1892-1893
... جنيه مجيدي
إيرادات مجملة من كل المصادر ... ... 2542735 2508760
مصاريف الإدارة ومصاريف أخرى ... ... 350271 119939
... ــــــ ... ــــــ
... ... ... ... ... 2192464 2188821
... ======== ... ========
إيرادات صافية
مبلغ ما يوجد في المصلحة المركزية ... 2186405 2184545
باقي المبالغ المخصص للاستهلاك ... ... 21555 2321
في السنة الماضية ... ... ... ... ... ــــــ ...
__________
...
... ... ... ... ... ... ... 2210960 ... 2187866 ...
باقي حساب يستنزل مما قبله ... 108715 104826
مبلغ احتياطي لزيادة الربح يضاف إلى ... ــــــ ... ــــــ
ما قبله وهو ربح ... ... ... ... ... 2102245 ... 2083040
صافٍ للسهام المستهلكة خالص لمصلحة الدين 85895 ... ... 71307
ــــــ
__________
يستنزل من ذلك ... ... ... سنة ... ... سنة ...
... ... ... 1892-1894 ... 1892-1893
إيراد القروض الممتازة ... ... 430500 ... 430500
إيراد القروض التي ربحها ...
واحد في المائة المتنازل لأربابها ... ... ...
عن الإيرادات المشار إليها ... 1161351 ... ... 1161351 ...
بحروف (1) و (ب) و (ت) و (ث) 9459 ... ... 9459
والسندات التركية ... ... ــــــ ... ــــــ
إيرادات مصلحة القروض ... ... ... 1601310 ... 1601310
التي حصلت في سني
1863و 64و65-73
باقي يستعمل في الاستهلاك ... ... 586830 ... 553037
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/367)
19 ربيع الثاني - 1317هـ
26 أغسطس - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة في الحجاب
من علامات الحياة الاجتماعية في الأمة اهتمام أفرادها بما يقال ويكتب في
شؤونها بحيث يرتاحون مما يرونه حسنًا ونافعًا، ويسعون في إيجاده أو إنمائه إن
كان موجودًا، وينفرون ممتعضين مما يرونه قبيحًا ومضرًّا ويجتهدون في إزالته
وإعدامه، أو التوقي منه إذا كان معدومًا يُتوقع حدوثه.
ولقد كنا نكتب في انتقاد العادات المضرة التي لونت بلون الدين، والبدع القبيحة
التي صبغت بصبغة الإسلام، وأحب شيء إلينا أن نقابَل بالتأييد أو التفنيد وإنما كنا
نُسَر بالتفنيد لأنه يدل على وجود رمق من الحياة المعنوية في الأمة تفند به مَن
قَبَّح لها ما تراه حسنًا؛ ولأن من يفند الحق لاعتقاده أنه باطل لا يلبث أن يؤيده
متى تبين له أنه الحق، وليس ظهور الحقيقة على طالبها ببعيد.
لم نر في مكتوب العصر كلامًا أثر في نفوس أمتنا كالذي جاء في كتاب
(تحرير المرأة) من بحث الحجاب. مسألة أنطقت الألسن بالكلام، وأجرت في
ميادين الجرائد جياد الأقلام، وشغلت السامر والنادي، وتحدث بها الملاح والحادي،
وقد قلنا فيها كلمة عند تقريظ الكتاب، ونقول الآن كلمة أخرى: غرض صاحب
هذا الكتاب لا يمكن أن ينكره عليه عاقل عرف مكان أمته من الأمم، ووقف على
حاجاتها وما يعيد إليها حياتها، ألا وهو تربية المرأة لتكون - كما قال - إنسانًا
يعقل ويريد، وتعليمها مقدارًا من العلوم الدينية والعقلية والأدبية يمكنها به إدارة
منزلها، ويُعدّ (عقلها لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي
تفتك بعقول النساء) وأخذها بالفضائل التي يكون لها أثر في سعادة المنزل، ثم في سعادة الأمة، ومن أهمها أن يكون بينها وبين الرجل مشاكلة ومشابهة في الصفات
النفسية والمدارك العقلية، فتكون بين الزوجين منهما محبة حقيقية، محبة يكون منها
نصيب العقل والنفس - لا يبعد من نصيب الوجدان والحس، وإن امرأة لا تعرف لها
شأنًا من شؤون البشر إلا إنها خلقت لأن تكون فراشًا، بعيدة من أن تحب أو تحب
محبة حقيقية من إنسان ذي عقل وفضيلة، ويستحيل أن يتربى ولدها، وينتظم أمر
منزلها، فتكون عاملة في سعادة وطنها وترقية أمتها. ويعتقد صاحب الكتاب أن هذه
التربية التي لا بد منها تتوقف في حصولها أو في كمالها على مكالمة النساء اللائي
يتعلمن ويتربين للرجال ومراجعتهن لهم في الأقوال، ومبادلتهن إياهم الآراء، وقد علم
أن اعتقاد قومه في الحجاب، وعادة أهل الطبقة العليا والوسطى من أهل المدن فيه
(وهم الذين يرجى منهم المبادرة إلى التربية والتعليم) مانِعان من قبول ما تتوقف
عليه التربية والتعليم في اعتقاده، ولذلك توسع في الكلام على الحجاب بما انتقدناه
عليه في التقريظ، وحاول إزالة الاعتقاد بما أورده من نصوص بعض الأئمة في
جواز النظر إلى الوجه والكفين من المرأة، واجتماعها بالرجال في غير خلوة بين
أجنبي وأجنبية، فقام الناس يحاربونه في هذه المسألة النظرية بسلاح جماهير العلماء
الذين رجحوا وجوب ستر الوجه والكفين إلا في أحوال مستثناة وردت في الشرع
كالإحرام والشهادة والتطبب، وملخص ما يمكن أن يجيب به هؤلاء أن المسألة
خلافية، وأن الأولى أن نرجح ما فيه المصلحة والمنفعة، ولا شك أن المصلحة هي
في ما يمكن معه التربية والتعليم المحتاجة إليهما الأمة في نهوضها من الحضيض
التي هي فيه، فإن سلَّم له المعارضون بأنهما يتوقفان على كشف الوجه ومكالمة
الرجال، فلا مندوحة عن التسليم بترجيح القول بالكشف والمكالمة، أو تقليد القائلين
به أو تخريجه على قاعدة (يرتكب أخف الضررين) إذ لا ريب أن ضرر شقاء
الأمة وتقدم سائر الأمم عليها لا يدانيه ضرر احتمال وقوع الفتنة بكشف الوجه من
بعض الناس، وإذا لم يسلموا له بالتوقف فليكن البحث معه في بيان عدم التوقف، لا
في إيراد نصوص اللغويين والمفسرين التي لا ينكرها، كما لا ينكر من أوردوها
عليه ما جاء هو به من النصوص المعارضة لها، وإنما يتكلمون في الترجيح.
والذي نراه نحن في المسألة أن التربية والتعليم لا يتوقفان على كشف الوجه،
ولكنهما يتوقفان في كمالهما على مكالمة الرجال، ومبادلتهن الأفكار والأقوال، وربما
كان في الأقارب غنية عن الأجانب.
والنظر في المكالمة من ثلاثة وجوه:
(1) الواقع في الوجود (2) وقعها من نفوس الأمة (3) حكم الشرع.
أما الأول: فمن المشاهد أن نحو تسعين في المائة من المُسلِمات يكالمن الرجال
جهرًا، ويشاركنهم في أعمالهم، وهن نساء الفلاحين والأعراب، وصنوف الفقراء
الذين يشتغلون بالكسب، ويقيمون في المساكن التي لا يتيسر معها الحجاب، فهؤلاء
قد حكمت عليهن بيئتهن (أي الوسط الذي يعشن فيه) بذلك، وكلهن أو جلهن لا
يسترن الوجوه أيضًا، وأما نساء المدن المحتجبات، وقدَّرناهن بالعُشر فمنهن تسع
وتسعون في المائة (تقريبًا) يجُلن في الأسواق، ويشترين من الرجال ما يحتجن
إليه، ويراجعنهم في القول، ويتظلمن لرجال الحكم في المحاكم والدواوين وفي
البيوت، فالمرأة منهن تكلم الرجال في كل مكان ولو منفردًا - لا في مشهد زوجها
ووليها. ولا أطيل في هذا المقام الشرح؛ لأن علم القرَّاء به ربما كان أوسع من
علمي، وواحدة منهن في المائة أو واحدة في الألف من مجموع المسلمات لا تخاطب
من الرجال إلا المحارم والخدم، وبعض الأقربين من غيرهم إذا كانوا معها في دار
واحدة كما هو الشأن في أكثر الأسر (العائلات) التي لها شأن، وأنت ترى
أن هذا الواقع غير مطابق لما يعتقده غالب المسلمين في الحجاب ولكنه وقع
بحكم الزمان والمكان وأحوال المعيشة، فكان السبب في الحجاب، ولكنه وقع بحكم
الزمان والمكان وأحوال المعيشة فكان السبب فيه طبيعيًّا اجتماعيًّا، فرضي به الناس
من غير نكير، وأما موقع مكالمة النساء للرجال من نفوس الأمة، فلا شك أن كل
رجل اعتاد أهله الحجاب تنفعل روحه ويهيج وجدانه إذا هو تصور في نفسه
دخول امرأته أو بنته أو أخته مجلسه مع أصدقائه وزائريه، ومحادثتها له وهو
معهم، أو مشاركتهم في الحديث، وإن كانت منتقبة أو متبرقعة، وربما كان يعلم أو
يأذن لها بنزول السوق، وابتياع اللبوس والحلي وغير ذلك، فهل ذلك الانفعال
والهيج من تصور محادثة أهله للرجال الكملة في مشهده، وسماحه لهن أو تساهله
معهن بشراء أدوات الزينة من الرجال بانفرادهن - متولد من الدين أم من العادة،
وهل الرد على قاسم بك أمين والتنديد بكتابه (تحرير المرأة) من الانتصار للدين،
أم من الانتصار للهوى وحكم الوجدان؟
وأما الأمر الثالث،وهو حكم الشرع في هذه المكالمة، فالمعروف أن الشرع إنما
حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأخبار الصدر الأول مستفيضة بمكالمة النساء
للرجال، وحديثهن معهم في الملأ دون الخلوة، وكفاك أن نساء النبي صلى الله عليه
وسلم وهن اللاتي أمرن بالمبالغة في الحجاب كن يحدثن الرجال، حتى إن السيدة عائشة كانت قائدة عسكر ومدبرة له في وقعة الجمل المعروفة، وما أخال أن مكابرًا
يقول أنها لم تكن تكلم أحدًا منهم إلا ذا محرم.
وبالختام نقول: إن هذه المسألة من المسائل الاجتماعية التي لا يمكن أن تتغير
إلا بتغير أحوال الأمة الاجتماعية، وإننا نرى حركة التغيير تسوق الطبقة العليا وما
يليها من الأمة إلى محاكاة الإفرنج في أساليب معيشتهم وتمدنهم، وإن الحجاب ينهتك
فيها بالتدريج، فيعود إلى تبذل بعيد من الدين ومذاهبه، وقد دبت مبادئ هذا
التفرنج إلى بيوت الشيوخ ورجال الدين، فظهرت بوادره في أزياء نسائهم، ولا
ندري ماذا تكون أواخره؟ هذا سير طبيعي لا بد أن يبلغ مَدُّه غاية حده إلا إذا حولت
مجاريه تحويلاً طبيعيًّا، فكان منبعه الشريعة الإسلامية، وقراره مصلحة الأمة
ومنفعتها، وهذا ما يطلبه كل ذي غيرة على ملته وأمته، وما كتب فيه أحد مثلما
كتب الفاضل قاسم بك أمين، فلنساعده في عمله ولا يصدنا عن ذلك مخالفته لنا في
بعض الجزئيات، واعتقادنا خطأه في بعض المسائل، فالعصمة إنما هي لكتاب الله
تعالى وحده: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .
(خاتمة)
(كتاب تحرير المرأة)
تبين للقارئ مما سبق أن ما نريد إدخاله من الإصلاح في حالة النساء ينقسم
إلى قسمين: قسم يختص بالعادات وطرق المعاملة والتربية، والقسم الثاني يتعلق
بدعوة أهل النظر في الشريعة الإسلامية والعارفين بأحكامها إلى مراعاة حاجات
الأمة الإسلامية وضروراتها فيما يختص بالنساء، وأن لا يقفوا عند تطبيق الأحكام
عند قول إمام واحد، إنما كان اجتهاده موافقًا لمصلحة عصره، وأن يدققوا البحث فيما
تغير من الأحوال والشؤون، فإن وجدوا في قول إمام ما تتعسر معه المحافظة على
كرامة الشرع، أقاموا مقامه قول إمام آخر يكون في مذهبه ما يسد الحاجة بدون
خروج عن أصول الشريعة العامة، والعمل على تحقيق هذين النوعين من
الإصلاح هو كغيره من سائر الأعمال النافعة، إنما يتم بالعلم والعزيمة:
(1) أما العلم فهو وسيلة الأمة لمعرفة حاجاتها، وبه تتنبه أذهان أفرادها
إلى ما هم فيه وما درجوا عليه من الأخلاق والعوائد والكمالات والنقائص، بحيث
يكونون على شعور دائم بأحوالهم، وتكون تلك الأمور دائمًا موضوع بحثهم.
إن من الغفلة - بل من أسباب الشقاء - أن تكون شؤوننا في حياتنا قائمة بعوائد
لا نفهم أسبابها، ولا ندرك آثارها في أحوالنا، بل إنما نتمسك بها لأنها جاءت إلينا
ممن سلفنا وورثناها عمن تقدمنا، وذلك كل ما فيها من الحسن عندنا، مع أن هذا
وحده لا يكفي لأن يكون سببًا في الأخذ بها، ولا في الثبات عليها، بل يجب أن
نفهم أن لنا مصالح ولمن سبقنا مصالح، ولنا شؤون، ولهم شؤون ولنا حاجات لم
تكن لهم، وكانت لهم حاجات ليست لنا اليوم، وذلك من البديهي الذي لا يختلف فيه
اثنان.
فعلينا أن نأخذ من العوائد، وأن نكسب من الأخلاق ما يلتئم مع مصالحنا،
فنكون مالكين لمصادر أعمالنا، كما يطلب منا العقل والشرع، لا أن نكون عبيدًا
لعاداتنا التي وجدنا عليها آباءنا، فيكون مثلنا مثل رجل وجد لباسه ضيقًا، فرأى أن
يجوع ليهزل ويضعف وينحل حتى يصغر جسمه فيسعه لباسه، لا أن يصلح لباسه
بتوسعته حتى يتفق مع جسمه.
إنا لا نجد عقبة في طريقنا إلى السعادة أصعب اجتيازًا من شدة تمسكنا بعادات
مِن سلفنا من غير أن نميز بين تلك العادات: صالحها وطالحها، نعم إن الماضي لا
يصح أن يطرح جملة، لكن يجب أن ينظر فيه بالتبصر والروية لمعرفة ما أظهر
من منافع ومضار.
لا أرى أعجب من حالنا، هل نعيش للماضي أو للمستقبل؟ هل نريد أن نتقدم
أو نريد أن نتأخر؟ نرى العالم في تقلب مستمر، وشؤونه في تغير دائم، ونحن
ننظر إلى ما يقع فيه من تبدل الأحوال بعين شاخصة، وفكرة حائرة، ونفس ذاهلة،
لا ندري ماذا نصنع، ثم ننهزم إلى الماضي نلتمس فيه مخلصًا، ونطلب منه عونًا
فنرتد دائمًا خائبين [1] .
رأينا في هذا القرن حادثة عجيبة أظنها وحيدة في التاريخ رأينا أمة بتمامها
خلعت عوائدها وأبطلت رسومها وتخلت عن نظاماتها وقوانينها وطرحتها وراء
ظهرها، فقطعت كل وصلة بينها وبين ماضيها إلا ما كان متعلقًا بجامعة شعبها،
ثم همت فبنت بناءً جديدًا مكان البناء القديم فلم يمض عليها نصف قرن إلا وقد
شيدت هيكلاً جميلاً على آخر طرز أفاده التمدن، فهبت من نومها، ونشطت من
عقالها، وشعرت بأن الحياة تدب في بدنها وتجري في عروقها دمًا حارًا قويًّا فتيًّا،
تلك هي الأمة اليابانية صارت تعد اليوم في صف الأمم المتمدنة بعد أن قهرت في
بضعة أيام دولة الصين الجسيمة التي لم يقتلها إلا إعجابها بماضيها، أليس في ذلك
عبرة لكل متبصر؟ !
لو كانت عوائدنا فيما يتعلق بالنساء لها أساس في شريعتنا لكان في ميلنا إلى
المحافظة عليها ما يشفع لنا، أما وقد برهنَّا على أن كل ما عرضناه من أوجه
الإصلاح يتفق تمام الاتفاق مع أحكام الشريعة ومقاصدها، فلم يبق لنا عذر في
التمسك بها سوى أنها قد تقدست بمرور الزمان الطويل، وأننا غفلنا عن مصالحنا
وتدبير شؤوننا.
إذا توهم بعض القراء أن ما ورد في كتب الفقهاء من استحسان عدم كشف
وجه المرأة وعدم مخالطتها بالرجال دفعًا للفتنة - هو من الأحكام الدينية التي لا
يجوز تغييرها، فنقول: إن هذا الاعتراض مردود بأن الأحكام الشرعية في الغالب
مطلقة وجارية على ما تقتضيه العادات الحسنة ومكارم الأخلاق، ووكلت فهم
الجزئيات إلى أنظار المكلفين، ووضعتها تحت تصرف اجتهادهم، وعلى هذا جرى
العمل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه وأتباعه.
ولما اتسعت خطة الإسلام وكثر اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم، وعرضت
عليهم حاجات وضرورات اقتضت أحكامًا ومشروعات جديدة، قام المجتهدون بينهم
واستنبطوا لهم من أصول الشريعة العامة ما يناسب الوقائع الخاصة، ففصَّلوا ما
أجمله القرآن والسنة من الأحكام، وفرَّعوا منها ما يناسب الأحوال والأمصار
والأعصار، فهم لم يضعوا بذلك شرعًا، ولم يضيفوا على الدين شيئًا، وإنما كان
اجتهادهم قاصرًا على النظر في الجزئيات وردها إلى كلياتها المقررة في الكتاب
والسنة.
ألا ترى أن القرآن لم يبين أهم الفروض مثل أحكام الصلاة ومواقيتها وركوعها
وسجودها، ولا مقادير الزكاة وأوقاتها، ولا مناسك الحج، وأن السُّنَّة هي التي
رسمت جميع تلك الأحكام مجملة، ثم جاء المجتهدون ففصَّلوا أحكامها، وقرروا
فروعها؟ على هذا النمط تألفت شريعتنا من فروع كلها راجعة إلى أصل واحد،
فالشريعة الإسلامية إنما هي كليات وحدود عامة، ولو كانت تعرضت إلى تقرير
جزئيات الأحكام لما حق لها أن تكون شرعًا عامًّا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل
أمة ما يوافق مصالحهما [2] .
فهذه القواعد الكلية التي تحدد أعمالنا بحدود يجب الانتهاء إليها على حسب ما
ورد في الكتاب والسنة الصحيحة - هي التي لا تقبل التغيير والتبديل، أما الأحكام
المبنية على ما يجري من العوائد والمعاملات فهي قابلة للتغيرعلى حسب الأحوال
والأزمان، وكل ما تطلبه الشريعة فيها هي أن لا يُخِل هذا التغير بأصل من أصولها
العامة، فكشف الرأس مثلاً قبيح في البلاد الشرقية؛ لأنه كان معتبرًا في العادة
مخلاًّ بالمروءة، ولهذا السبب اعتبر عند أهل الشرق قادحًا في العدالة , ولكنه غير
قبيح في البلاد الغربية، فلا يكون عندهم قادحًا، فالحكم الشرعي يجب أن يختلف
باختلاف ذلك، وجواز إثبات التصرفات الشرعية بالشهادة لم يكن الغرض منه معنى
مخصوصًا في أشخاص الشهود، وإنما الغرض منه إثبات هذه التصرفات بالطريقة
التي وقع الاصطلاح عليه، ولم يكن غيرها مألوفًا، فإذا تغيرت الأحوال وتبدل
الاصطلاح واعتاد الناس على التعامل فيما بينهم بالكتابة، تغير كذلك الحكم الشرعي،
وتحولت طريقة الإثبات من الشهادة إلى الكتابة [3] وإذا قيل باستحباب ستر المرأة
وجهها عن الرجال لخوف الفتنة وعدم اقتضاء الحال لكشفه في زمان كان هناك محل
لخوف الفتنة ولا تقضي ضرورات الحياة على المرأة بكشف وجهها - فلا مانع من
أن يتغير هذا الاستحسان إلى ضده في زمان آخر [4] ذلك لأن اختلاف الأحكام
باختلاف العوائد والمصالح ليس في الحقيقة اختلافًا في الشريعة، وإنما هو رد
لأحكام الجزئيات إلى أصولها الكلية، ورجوع بها إلى مقاصدها الشرعية.
تبين من ذلك أن لنا في مأكلنا وملبسنا ومشربنا وجميع شؤون حياتنا العمومية
والخصوصية، الحق في أن نتخير ما يليق بنا ويتفق مع مصالحنا بشرط أن لا
نخرج عن تلك الحدود العامة التي أشرنا إليها.
(2) وأما العزيمة: فهي حث الإرادة إلى كل خير أرشدنا إليه العلم
والعرفان، والفرار بها من كل شر دلَّنا عليه البحث والتنقيب، العزيمة هي أشرف
قوى الإنسان وأجلُّها، وأعظمها أثرًا في أعماله، فالتعليم والتهذيب وسعة العقل
والأميال الحسنة والغرائز الطيبة، كل ذلك لا يفيد فائدة تذكر عند شخص مجرد عن
العزيمة ولهذا كان ضعف الإرادة أكبر عيب في الإنسان، نرى الكثير من أهل بلادنا
يستحسنون فكرة أو عملاً، ولكنهم لا يجدون من أنفسهم همة كافية لخدمة تلك
الفكرة أو ذلك العمل، ويكفي أنهم يعلمون أن بعض الناس لا يتفق معهم في رأيهم
لتلاشي إرادتهم وسقوطها، أما إذا علموا أنهم ربما يمسهم ضرر ما من ناحية ذلك
العمل رأيتهم يفرون منه فرارًا.
إن كان لنا أمل في نجاح ما نعده صالحًا لنا، فإنما يكون في الرجل الذي يجب
أن يعرف، ويبحث ليعرف، ويعرف بالفعل ما تحتاج إليه بلاده، وله عزيمة
تدفعه إلى العمل في جَلْب ما ينفعها، ودفع ما يضرها بالوسائل التي تؤدي إلى
المطلوب بطبيعتها طال الزمان أو قصر.
فعلى مثل هذا الرجل الكامل نعرض طريقة للعمل فيما نحن بصدده بعد العلم
بأن الخطوة الأولى في كل شيء هي من أصعب الأمور؛ لأن الانتقاد جميعه ينصب
على من يبتدئ في أمر خطير، ومن النادر أن يوجد شخص يحس من نفسه قوة
كافية لمقاومة تيار الانتقاد العام، فأحسن طريقة أراها لتنفيذ ما عرضناه في هذا
الكتاب هي أن تؤسس جمعية يدخل فيها من الآباء من يريد تربية بناته على الطريقة
التي شرحناها، وأن يُختار لتلك الجمعية رئيس من كبار المصريين (ولا أظن أن
الطبقات العليا من أهل بلادنا تخلو من واحد منهم) وأن يكون عمل هذه الجمعية
في أمرين، الأول: التعاون على تربية البنات على هذه القاعدة الجديدة، والثاني:
السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن للمرأة حقوقها بشرط أن لا
تخرج في شيء من ذلك عن الحدود الشرعية، ولكن بدون أن تتقيد بمذهب من
المذاهب، بل تأخذ من كل منها ما هو موافق لحاجتنا الحاضرة وضرورات
عصرنا، كما حصل مثل ذلك في وضع المجلة العثمانية، وكما حصل عندنا مرارًا
في بعض المسائل المتعلقة بالمحاكم الشرعية، فإذا تشكلت هذه الجمعية يخف اللوم
عن كل واحد من أعضائها، فإن قوة الانتقاد تأتي متوزعة على جملة من الأفراد
فيسهل احتمالها ومقاومتها، فلا يكون من شدة الانتقاد ما يبعث على فتور الهمة
وضعف الإرادة عن العمل؛ لأن في قوة الجماعة من الاقتدار على المدافعة ما ليس
في قوة الفرد الواحد، والاجتماع هو القوة الحقيقية التي بدونها لا ينجح شيء، نرى
حكومتنا تهتم بمسألة صغيرة كمسألة الشفعة، فتعين لها لجنة شرعية لتبحث في
المذاهب، وتجمع ما تراه منها مناسبًا من الأحكام، ونرى كثيرًا من المصريين
يدخلون في كثير من الجمعيات مثل جمعية (الرفق بالحيوان) و (معارض الأزهار)
وغيرها، ولا يضنون بقوتهم ولا بمالهم في تعضيد مشروع من هذه المشروعات
يعتقدون صلاحيته، ونرى الجرائد تنشر بين طبقات الأمة من المعارف ما يساعد
على تربيتها وتهذيبها، وقد آن الوقت الذي يجب فيه على الحكومة وعقلاء الأمة
وأرباب الأقلام أن يوجهوا التِفَاتهم إلى حال المرأة المصرية، فإني لا أرى مسألة
تمس بحياة الأمة أكثر منها، ولا أحق منها بأن تكون موضوعًا لنظرهم، ومجالاً
لآرائهم وأفكارهم.
__________
(1) المنار - إن الماضي الذي ننهزم إليه إنما هو ماضينا القريب من يوم بدأ فينا الضعف في كل شيء إلى اليوم ولو تجاوزنا في رجوعنا القهقري بضعة قرون وأخذنا بما كان عليه أسلافنا من الجد في العلم والعمل والأخلاق الكريمة وأخذ الحكمة من حيث وجدت وجلب المنافع أينما ألفيت وتحكيم الأوقات بالعادات لا العادات بالأوقات لنجحنا نجاحًا باهرًا وسبقنا سبقًا ظاهرًا، ولكننا مع تفضيلنا للأولين قد تركنا كل ما كانوا عليه حتى إننا لا نقرأ كتابًا من كتبهم، ولا يوجد أمة تتقدم بالرجوع إلى الوراء إلا نحن ولا ينكر المنصف هذا.
(2) المنار - ليس كل ما ورد في الكتاب والسنة قواعد عامة بل منها أحكام جزئية، ولكن الجزئي الذي ليس له علة معروفة ترجع إلى أصل عام لا يقاس عليه ولا يرجع إليه في استنباط الاحكام التي تعرض لها أسباب مختلفة باختلاف الزمان والمكان، بل يرجع بهذه إلى القواعد العامة التي منها نفي الحرج وتحكيم العرف ودرء المفاسد وجلب المنافع.
(3) كان ينبغي أن يقول ويضم إلى الإثبات بالشهادة الإثبات بالكتابة المأمونة من التزوير، لأن كلامه يُفهِم عدم اعتبار الشهادة من أنها من الأحكام الكلية المنصوص عليها ولا يمكن الاستغناء عنها بالكلية.
(4) العلماء متفقون على وجوب الستر لا استحبابه عند خوف الفتنة، ولا يمكن أن يتغير هذا الحكم إلا إذا زال سببه وأمنت الفتنة، أما الضرورات فإنها تقدر بقدرها وتجري على قاعدة (يرتكب أخف الضررين) وهي من القواعد الشرعية العقلية التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان.(2/369)
الكاتب: عبد الرحمن قراعة
__________
تهنئة الأستاذ المفتي
قد وقفنا على قصائد كثيرة في تهنئة فضيلة الأستاذ محمد عبده مفتي الديار
المصرية بمنصب الإفتاء، وأرسل إلينا أصحابها كثيرًا منها ابتغاء نشرها، فكنا
نغضي عنها لضيق نطاق الجريدة عن نشر المدائح الشخصية إلا ماله مزية
خصوصية، ومن هذا النوع قصيدة غرّاء للعالم الفاضل عبد الرحمن قراعة مفتي
جرجا في تهنئة الأستاذ المفتي وهي:
بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي ... ومن فيض هذا الفضل نجدي ونجتدي
سَمَتْ بك للعلياء نفس أبية ... وعزمة ماض كالحسام المجرد
ورأى رشيد في الخطوب وحنكة ... وتجربة في مشهد بعد مشهد
وعلم كَنُورِ الشمس لم يك خافيًا ... على أحد إلا على عين أرمد
فضائل شتى في الأفاضل فُرِّقت ... ولكنها حلت بساحة مفرد
ولو جاز تعدادي لها لعددتها ... ولكنها جازت مقام التعدد
ففيم أطيل القول والشعر قاصر ... وماذا يفي قولي ويغني تزيدي
أمولاي يا مولاي دعوة مخلص ... تقول فيصغي أو تؤم فيقتدي
لكل زمان مِن بنيه مجدد ... لِما أبلت الأهواء من دين أحمد
وقد علم الأقوام أن (محمدًا) ... مجدد هذا الدين في اليوم والغد
يمينًا من الفضل خصص (عبده ... محمدًا) الداعي لهدي محمد
وقلده عقد الفتاوى فأصبحت ... تتيه به الفتيا بخير مقلد
لنخترقن الجب بالرشد لا الهوى ... وتبني منار الحق بالفكر واليد
فتوضح من إشكاله كل غامض ... وتفتح من أبوابه كل موصد
إليك أزف المدح شعرًا مقصَّدًا ... على بعد عهدي بالقريض المقصد
لأبلِّغ نفسي بامتداحك سؤلها ... وأقضي حقًّا لم يمكن بمجدَّد
فجاء على قدري ولكن شافعي ... لدى قدرك السامي نبالة مقصدي
وهنأت نفسي ثم هنأت معشر ... وهنأت أوطاني بما نال سيدي
وقلت لمصر: هنئيه، وأرى ... بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي
لقد سبق التاريخ عشرًا فلم أجد ... من الياء بُدًّا بعد طول تردد
فزدت كما أبغي ومن يلف مخلصًا ... من النقص بطلب للكمال ويزدد
فلا زلت يا مولاي فينا محسّدًا ... وحاسدك المغبون غير محسد
__________(2/380)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بعيد
الجلوس الهمايوني
كان المصريون يستعدون للاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني من أول شهر
أغسطس، وقد أظلَّنا العشر الأخير منه في هذا العام، ولم نحس منهم عملاً، ولم
نسمع لهم ركزًا إلا ما يُتهامس به في هذه الأيام، ويرجى أن يأتي بالغرض بهمة
المتفاوضين الكرام، وإن كان الزمن قصيرًا، هذا ما نعلم من أمر الاحتفال العمومي
الذي كانت زينته تقام في حديقة الأزبكية بإدارة جمهور من وجوه المصريين، وأما
الاحتفالات الخصوصية التي كانت تقام في مواضع كثيرة، فلم نسمع لها حسًّا، ولم
نر لها حتى الآن أثرًا إلا ما كان من جمعية (شمس الإسلام) التي أنشئت في مصر
حديثًا لأجل الحض على التمسك بالكتاب والسنة، والاعتصام بهدي الدين الذي فسق
عن هديه الجماهير، فإن إخلاص هذه الجمعية لمقام الخلافة الإسلامية حملها على
الاستعداد لزينة باهرة واحتفال بليلة الجلوس الهمايوني تدعو إليه الوجوه من العلماء
الأعلام والموظفين الكرام وسائر الوجوه، وسيكون الاحتفال في سراي حسن بك
ساطع التي استأجرتها الجمعية حديثًا لها وللمدرسة التحضيرية التابعة لها والمطبعة
المنسوبة إليها، وهي على يمين الداخل من أول درب الجماميز من جهة السيدة
زينب رضي الله عنها، أما الحكمة في قيام الرعية بمثل هذا الاحتفال لراعيها؛ فهو
أمران، الأول: التقرب من أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وابتغاء مرضاته
والثاني: إيقاظ الشعور العام بمعنى التابعية، وتقوية روح الوطنية الحقيقية،
وتوثيق رابطة الجامعة العثمانية، فإذا كان يوجد في الآستانة عدو للمصريين، بل
ولسلطانهم -أمير المؤمنين- يحول دون إبلاغه تهنئتهم في بعض الأحوال،
ويسعى بالإساءة إليهم عقيب كل احتفال بحيث يفوتهم الرضوان من مولانا السلطان،
فينبغي أن يواظبوا على عادتهم الماضية لأجل الحكمة الثانية، وعسى أن تزول تلك
الآلة المحللة، وتعاذ الأمة من هاتيك الوسوسة المضللة، فتتم لهم الحكمتان، والله
المستعان.
__________(2/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ
(إرشاد شوارد أرباب النفوس إلى رحمة مولانا القدوس)
ديوان (خطب جمعية) ألَّفه وطبعه من عهد غير بعيد الأستاذ الشيخ محمد
الجنبيهي وقد تصفحنا بعض خطبه، فألفيناه يمتاز على الدواوين التي في الأيدي
بالزجر والتنفير عن المعاصي الدائمة المنتشرة في هذا العصر، كأنواع الفحش
والمنكرات، ويماثلها في كل ما ننتقدها به من إيراد الأحاديث التي لا تصح رواية ولا
معنى، والمبالغة في التزهيد، والكلام في فضائل المواسم والشهور، وغير ذلك مما
نبهنا عليه مرارًا، وينتقد عليه شيء آخر لم نره في سائر الدواوين وهو إيراد ألفاظ
لا ترضاها النزاهة، ولا يليق أن تلقى على ذرى المنابر، فإذا حذفت هذه الألفاظ،
وعني بتخريج أحاديث الديوان، ونقحت خطب المواسم كان من أحسن الدواوين
المتداولة إن لم نقل أحسنها، طبع في المطبعة الأميرية مشكولاً، وطبع على هيئة
كتاب (متابعة الأسرار) وهو يتضمن أورادًا وحكمًا مأثورة عن الصوفية وأشعارًا
إلهية ونبوية، ولنا في هذه الأوراد كلام نرجئه لفرصة أخرى.
__________(2/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع مالية الدولة) ... ... ... ... ... سنة ... ... ... سنة
... ... ... ... ... ... 1893-1894 ... 1892-1893
مبالغ الاستهلاك العادي ... ... ... ... ... ... جنيه مجيدي
المخصص لشراء الدخل المدلول ... ... 205047 ... 292895
عليه بحرف (أ) وفيه ربح السندات المستهلكة
المخصص لشراء الدخل المدلول ... ... 99206 ... ... 74329
عليه بحرف (ب) وفيه ربح السهام المستهلكة
... ... ... ... ... ... ... ـــــــــــــــ
الناتج من تحويل السهام الممتازة والمستعمل ... 11338 ... 11554
عادة في الاستهلاك
مبالغ مشتملة على ربح السندات المستهلكة ... 55751 ... 54027
ومستعملة في الاستهلاك
الديون المضمونة بالإيرادات المدلول عليها ... 58274 ... 55538
بحروف (أ) ، (ب) ، (ت) ، (ث)
... ... 45448 ... 43139 ...
ــــــــــــــــ
مجموعها ... ... 565464 ... ... 531482
يضاف إليها
هذا المبلغ لأجل استعماله في المستقبل ... 21366 ... ... 21555
... ــــــــــــــــ
المجموع ... ... 586830 ... ... 553037 ... ...
... ... ... ... ... ... ... ========== ========
... ... ... ... ... ... ... متوسط الثمن ... متوسط الثمن
رأس المال الاسمي المستهلك في ...
خلال السنة ... في المائة ... جنيه إنكليزي ... في المائة ... جنيه إنكليزي
القسم (أ) ... 30. 57 ... 4899000 ... 53. 64 ... 516000
القسم (ب) 34. 87 ... 404000 ... 30. 70 ... 380000
القسم (ت) 23. 75 ... 232080 ... 21. 58 ... 234000
القسم (ث) 22. 31 ... 285300 ... 21. 08 ... 186000
... ــــــ ـــــ ... ـــــ ... ـــــ
... 39. 50 ... 1301280 36. 71 ... 2316000
***
... ... ... مبالغ مخصصة للاستهلاك
... ... ... جنيه مجيدي
... ... ... رأس مال اسمي أصلي ... رأس مال اسمي مستهلك
الجملة الأولى قسم حرف (أ) ... ... 1119682 ... ... 5170110
الجملة الثانية قسم حرف (ب) ... 10044825 ... 1234500
الجملة الثالثة قسم حرف (ت) ... 30549251 ... ... 842881
الجملة الرابعة
قسم حرف (ث) ... ... 34651965 ... ... 757500
السندات التركية التي ربحها 58 في المائة ... ... ... ... 281000
السندات التركية التي ربحها 20 في المائة 14211407 ... ... 110741
السندات التركية التي ربحها المشتراة ... ... ... ... ... 332548
... ... ... ... ... ... ــــــــــــــــــــ المجموع ... ... ... ... 105577330 ... 8828479
يتبع هذا حساب تفصيلي للإيرادات والمصروفات وهو
سنة 1893-1894 سنة 1892-1893
... ... ... جنيه مجيدي
إيراد المشروبات الروحية والملح ... 1104605 ... ... 1091037 ...
وطوابع البوستة والأسماك والحرير
ومتأخرات التبغ ... ...
أعشار التبغ ... ... 95359 ... 100865
عوائد التبغ ... ... 750000 ... ... 750000
جزء من ربح الرسوم ... 37084 ... ... 22745
خراج الروملي الشرقي ... 152026 ... 152026
سفاتج على مصلحة الجمارك من ... 102596 ... ... 102596
أصل خراج جزيرة قبرص
وخراج التنباك ... ... ... ... 50000 ... ... 50000
... ... ... ... ... ــــ ... ... ـــــ
... ... ... ... 2291630 ... ... 2268269 ...
... ... ...
سنة 1893-1894 ... سنة 1892-1893
... ... ... جنيه مجيدي
مصروفات ...
مصروفات الإدارة المركزية ... ... 83514 ... ... 67483
لمصلحة الدين ... ...
الخسارة الناتجة من تبديل الفضة ... ... 1009 ... ... ... 742
نفقات وأجر عمل (عمولة) ... ... 16188 ... 17735
... ... ... ... ... ... ــــــ ... ــــــ
المجموع ... ... 100711 ... ... 85960
فائدة الحطيطة في بيع الكمبيالات ... 7861 ... ... 2878
ستنزل من ذلك الربح على المبالغ ... 6307 ... 5114
المودعة وهو ...
__________
...
__________
المجموع ... ... ... 2189405 ... ... 2184545
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/382)
26 ربيع الثاني - 1317هـ
2 سبتمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحريف الكلم عن مواضعه
(رد على مسلم حر الأفكار)
يعلم القراء ما كان من خوض الجرائد في مسألة (الجامعة الإسلامية) وأن
بعض كتاب النصارى ارتأوا أن تَرقِّي المسلمين يتوقف على الفصل بين الدين
والدولة، والخلافة والسلطنة، كما هو مقتضى أصول دينهم، وخالفهم كتاب
المسلمين في هذا؛ لأنه مخالف لأصول الديانة الإسلامية وفروعها، ولكن نشر في
(المقطم) مقالتان طويلتان بإمضاء: (مسلم حر الأفكار) وافق فيهما صاحبهما
كتاب النصارى وجعل قاعدته فيها أن تكون وظيفة الدولة والحكومة (تأمين الناس
على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وسن القوانين العادلة لهم) وهذا انحراف عن
صراط الإسلام وتحول عنه، لا يقول به إلا مَن لا يعرف ما هو الإسلام، أو مَن
يرى أن نجاح المسلمين وترقيهم إنما يكونان بتركهم أصل دينهم والأخذ بأصل
النصرانية في هذه المسألة، وقد أسهب (المنار) في الرد على هذا الكاتب وبين
حكم الدين الإسلامي في المسألة، والفرق بينه وبين الدين المسيحي، وأثبت أن كل
بلاء حلَّ بالإسلام والمسلمين فمرجعه إلى ما طرأ على الخلافة والخلفاء، ففصل بين
السلطة الدينية والسياسية، وأنه لا يعود للإسلام كمال مجده إلا برجوع هذا الأمر
إلى نصابه، وإناطته بمن يقوم به حق القيام، فإذا سلَّمنا لحضرة الكاتب (أن الغاية
التي تسعى إليها الدولة في زماننا هذا دنيوية محضة) وهي ما مر عنه آنفًا من
التأمين وسن القوانين، فيجب علينا أن نطالبها بحفظ الدين والعمل بالشرع دون ما
يخالفه من القوانين لا أن نشايعها على تعدي حدوده وإبطال شعائره تقليدًا لديانة
أخرى تعتبر أن الدولة والدين أمران متبائنان يفترقان ولا يجتمعان، ويجب علينا
أيضًا أن نقف مع ذلك عند هذه الحدود العادلة، ونقوم بتلك الشعائر الشريفة ونربي
عليها أبناءنا وبناتنا إلى أن يكون للأمة رأي عام تقدر به على إلزام دولتها بالتزام
دينها وشريعتها.
ووجهة (المنار) في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي الأمة الإسلامية دون
حكوماتها؛ لأن بعض تلك الحكومات أجنبية لا كلام لنا معها، والأمراء
والسلاطين من المسلمين قلَّما يلتفتون لإرشاد جريدة، أو يجيبون مطلب رجل إنما
شأنه في لسانه وقلمه، فإذا خافوا تأثير كلامه في بلادهم منعوه دونها.
وبعد انتشار (المنار) - المشتمل على الرد - بأسبوع رأينا في (المقطم)
مقالة بإمضاء ذلك الكاتب (مسلم حر الأفكار) يرد فيها على (المنار) لكنه حرَّف
الكلم عن مواضعه، ونسب إلينا ما ليس لنا، فزعم أننا حملنا عليه حملة منكرة؛
لأنه نصح لأبناء ملته في (المقطم) أن يجعلوا اتكالهم على أنفسهم في تدبير
مصالحهم، ولا يلقوا كل اعتمادهم على الحكومة، وأن يراعوا دوران الزمان وتغير
الأحوال طبقًا لمقتضى العمران ... إلخ، وأننا أنكرنا الخلافة العثمانية، والصواب أن
الحملة المنكرة إنما كانت لأجل المسألة المتقدمة التي زعم أن (المنار) موافق له
فيها، و (المنار) أول جريدة أنشئت في العربية تحث الأمة على الاعتماد بعد الله
على نفسها إلى آخر ما تقدم آنفًا، ولنا في هذا مقالات ونبذ كثيرة في المجلد الأول
وفي المجلد الثاني، وما وافقناه ولن نوافقه على جعل الفصل بين الدين والدولة،
وإقرار الدولة على ترك الشريعة السماوية وقيامها بتشريع جديد - من اعتماد الأمة
على نفسها المطلوب منها ولا على جعله إياه من الأمور التي يجب أن تراعي به
الأمة أحكام الزمان وتغيير الأحوال، فإننا نعتقد أن شريعتنا صالحة لكل زمان،
ويمكن اتباعها في كل حال بشرط أن لا تتقيد بقول مجتهد واحد من علمائها.
أما احتجاجه علينا بما شرحناه من سبب ضعف الخلافة واستبداد العمال
بسياسة الدنيا، وإهمال حراسة الدين، وقولنا في إثر ذلك: (فتمزق بهذا نسيج
الوحدة، وتفرق شمل (الجامعة الإسلامية) إلى قولنا: (وكان هذا أمرًا اقتضته
طبيعة العمران) فهو حجة عليه لا له، وظاهر في خلافه لا في وفاقه، وبيانه من
وجهين؛ أحدهما: إننا صرَّحنا بأن خروج السلطة الدنيوية من أيدي الخلفاء واستبداد
السلاطين فيها هو الذي مزق (الجامعة الإسلامية) كل ممزق، فكيف نعود فنقول
اليوم بأن ما كان سبب النقض والانفصام، يكون اليوم سبب الفتل والإبرام؟ وثانيها:
إن ما تقتضيه طبيعة العمران لا يكون ضربة لازب إلا إذا وجدت أسبابه ودامت
علله، ويدلنا علم الاجتماع على أن للقوة والترقي نواميس، وللضعف والتدلي
نواميس أخرى، وأن لكل أمة من الأمم شؤونًا مخصوصة في تقدمها وتأخرها،
وصعودها وهبوطها وأفادنا التاريخ - وهو مورد علم الاجتماع ومصدره - أن
الأمة الإسلامية ما بلغت ذلك السؤدد الرفيع وما أشرفت على العالم بالأمر والنهي
من شواهق العزة والسلطان، وما أشرقت على كرة الأرض بالعدل والإحسان من
سماء العلم والعرفان إلا بدينها من حيث أنه جمع بين السلطتين في رئيس واحد مقيد
بالشريعة العادلة التي يدين لها هوومرءوسوه سرًّا وجهرًا، ويرون اتباعها إيمانًا،
والإعراض عنها كفرًا، وأن ذلك السؤدد ما تداعى سوره، وزلزل عرشه
وسريره إلا بما ذكرنا من إهمال وظيفة الخلافة التي ضمت السيادة من قطريها،
وجمعت للسعادة بين طرفيها، وكل واحد من الأمرين اقتضته طبيعة العمران، ولم
تخرج فيه الأمة عن نواميس الأكوان، فكيف نظر (ناصحنا حر الأفكار) بإحدى
العينين، واختار لأمته أمرَّ الأمرين؟ هذا ملخص ما قلناه في المسألة من حيث هي
اجتماعية إسلامية، وجوابنا عن شبهته فيه، وهو صريح في أننا نحن وإياه على
خلاف لا على وفاق.
وما كان لنا أن نتكلم في مسألة اجتماعية من الوجه النظري من غير أن نبين
وجهتها من حيث الوجود والواقع؛ لئلا نغش الناس بإيهامهم أننا نطلب منهم ما ليس
في أيديهم، كإمكان توحيد السلطة الإسلامية في هذا العصر بالنسبة لما نحن فيه من
البحث، ولذلك بيَّنا في آخر تلك المقالة، مقالة (الدين والدولة والخلافة والسلطة)
أن السعي في إعادة مجد الإسلام متوقف على اتفاق المسلمين على إمام واحد يعتقدون
الخضوع له سرًّا وجهرًا، ليس من العبث (كما يدعي حر الأفكار) فإنهم إذا لم
يكونوا متفقين على خليفة واحد فهم متفقون على القرآن، وهو الإمام الأعظم
والمصلح الأول الداعي إلى كل هدى، والناهي عن جميع أسباب الردى، وقلنا:
إنه يجب على من يهمه ترقية شؤون المسلمين أن يدعوهم بالقرآن إلى العلم والعمل
والقيام بمصالح المعاش والمعاد مع مراعاة سنن الكون في السير، فحرَّف (حر
الأفكار) الكلم عن مواضعه، وزعم أنني أنكرت (أن للمسلمين اليوم خليفة حقيقيًّا)
و (أن سلاطين الدولة خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم) والحق أنني إنما
أنكرت وجود إمام غير القرآن يخضع له جميع المسلمين سرًّا وجهرًا، وهذا لا
ينافي وجود خليفة حقيقي يخضع له البعض أو الأكثر دون الجميع، ومعلوم لكل أحد
أن مسلمي مراكش وإيران لا يخضعون لخلافة آل عثمان، فإذا كان الإخبار بهذا
يدل على الاعتقاد ببطلان خلافة سلاطين آل عثمان، فالإخبار بأن بعض الناس
ينكر وجود الله تبارك وتعالى يدل على اعتقاد المخبر عنهم بأنه ملحد مثلهم، والحق
أن حاكي الكفر ليس بكافر، وأنني ما تعرضت في مقالتي تلك للخلافة العثمانية بنفي
ولا إثبات، لا تصريحًا ولا تلويحًا وأن (حر الأفكار) حرَّف الكلم، ورماني بهذه
التهمة عن سوء قصد، لا عن سوء فهم فيما يظهر، والله أعلم بالسرائر.
فتبين للبيب مما بسطناه أن صاحب (المنار) ما وافق ولن يوافق ذلك الملقّب
بـ (مسلم حر الأفكار) وأغرب من زعمه الموافقة وأعجب أن كتابته تشيد عليه
إحدى الغميزتين: عدم فهم الإسلام، أو اعتقاد أن تركه سعادة للأنام، وهو مع ذلك
ينفي التهمة عن نفسه بالاعتزاز بالأوربيين، والتبجح بالانتماء إليهم، والأخذ
بتعاليمهم، وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم، أو الحمل على هذا، حيث قال بعد ما زعم أنني موافق له على ما اتهمته فيه بالغدر والمروق ما نصه: وأغرب من ذلك
وأعجب أن صاحب (المنار) يعيرني بقوله عني (يصف نفسه بأنه مسلم حر
الأفكار، وما جاءت حريته إلا من رق الكفار، فمن هم الكفار الذين يعنيهم؟
الأوروبيون الذين يعيبني على الدرس في مدارسهم أم الإنكليز المحتلون لهذه
الديار) اهـ.
وأقول في الجواب: (أولاً) إنني ما عبته على الدرس في مدارس
الأوربيين؛ بل لا أعرف أين دَرَس، ولا أعرف شخصه الكريم أيضًا. (ثانيًا) إن
احتلال المحتلين لهذه البلاد أمر سياسي عسكري لا علاقة له بالكفر والإيمان، ولا نعلم
عن الإنكليز أنهم أكرهوا أحدًا على ترك دينه، اللهم إلا أن يُظهر مارق كفره
الذي أشربه من قبل، اعتزازًا بهم، واعتمادًا على منعهم قومه من إيذائه أو امتهانه.
(ثالثًا) إن الدين الذي ينتسب إليه ويتكلم في ترقي أهله يسمي كل من لم يكن مسلمًا
بالكافر، وهذا الاستعمال مستفيض في الكتاب والسنة وكتب الأئمة، وهو اصطلاح
شرعي لم يقصد به الذم والإهانة، كما بيّنتُ ذلك في العدد الأول من (المنار) معززًا
بالشواهد من كتب الدين واللغة. (رابعًا) إنني أنا قد ذكرت في ذلك العدد أيضًا أن
لفظ الكفر صار من أقبح ألفاظ السب والشتم؛ لأنه يطلق في اصطلاح كُتَّاب العصر
على من لا دين له، أو على من ينكر وجود الباري تعالى، وأنه ينبغي لذلك أن
يخصص في الكتابات العصرية بهذا المعنى، وذكرت هناك صورة فتوى شرعية
بعدم جواز مخاطبة الذمي بـ (يا كافر) إذا كان يستاء من ذلك، ولكن الاصطلاحات
الشرعية لا تتغير، ومثل هذه المسألة إنما خصصت بالحكم الشرعي المقرر
بالإجماع، وهو عدم جواز إهانة الذمي ونحوه، كالمعاهد والمستأمن (خامسًا) إن
الذي أملى على الفكر كلمة (رق الكفار) هو النكتة البديعية، فإن في العبارة
الطباق بين الرق والحرية، والجناس المطلق بين الأفكار والكفار، وأعني بالكفار
الذين يتعلمون العلوم الحديثة وهم ليسوا على شيء من الدين غير ما يتلقونه بالتقليد
الناقص وما يرونه بالمشاهدة ممن يعيشون معهم فيخرجون على غير دين بالكلية، لا
سيما إذا كانوا مسلمين وتعلموا في مدارس أجنبية، وذلك أن التلميذ المسلم لا
يتعلم في المدارس الأجنبية الديانة النصرانية فيكون نصرانيًّا، ولا يعرف الإسلام
فيكون مسلمًا وهؤلاء هم أضر على المسلمين من جميع العالمين، ويصدق
على المارقين منهم لفظ الكفر بمعنييه الشرعي والاصطلاحي.
هذا وإنني أختم كلامي بالنصيحة لحضرة الكاتب، كما ختم كلامه بالنصيحة
لي، وأحب كما يحب أن أعيش معه ومع جميع الناس بحب وسلام، فأقول: إذا
كنت تحب أن تتكلم في الشؤون الإسلامية، فيجب عليك أولاً أن تقف على علوم
الشريعة من عقائدها، وأصولها وفروعها، وتفسيرها وحديثها، وفقهها وآدابها؛
لتكون على بصيرة من أمرك وأمر ما تدعوإليه، كما هو شأن المسلم، بمقتضى قوله
تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:
108) وإلا فالزم شأنك مكتفيًا بعلومك الأوروبية، والسلام على من اتبع الهدى.
__________(2/385)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحديث الموضوع
نشرت مجلة (الموسوعات) الغرَّاء مقالة تحت هذا العنوان لأحد الفضلاء
رأينا أن ننشرها في (المنار) إفادة للقراء وهي:
الحديث الموضوع هو: المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم زورًا وبهتانًا، وهو أشد خطرًا على الدين، وأنكى ضررًا بالمسلمين من
تعصب أهل المشرقين والمغربين؛ لأنه يصرف الملة الحنيفية عن صراطها
المستقيم، ويقذف بها في غياهب الضلالات حتى ينكر الرجل أخاه، والولد أباه،
وتطيرالأمة شعاعًا، وتتفرق بِدَادًا بَدَادًا لالتباس الفضيلة وأفول شمس الهداية،
وانشعاب الأهواء، وتباين الآراء، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضية وبابية
ونصيرية وزيدية وخوارج ووهابية وسنوسية ودرزية ونيشرية إلخ - لهو أثر
قبيح من آثار الوضع في الدين، ولقد قام الحُفَّاظ الثقات، وكادوا يزهقون هذا الروح
الخبيث بضبطهم الحديث حفظًا وكتابة وتلقينًا، ومازوا الخبيث من الطيب، وقشعوا
سحب اللبس فتلألأ نور اليقين أحقابًا طويلة حتى ابتلي الإسلام بموت الحفاظ الذين
آخرهم جلال الدين السيوطي رحمه الله، فأطفئ المصباح من مشكاة مصر وأغلب
الشعوب الإسلامية، وعدا الباطل على الحق عدوانًا شديدًا، ولولا كتاب الله فينا
وبقية من أهل العلم صالحة، لقلت: إن الباطل خذل الحق خذلانًا لا يقوم بعده أبدًا.
ورب سائل يقول: أنى ساغ للمسلمين أن يضعوا في دينهم ما ليس منه،
فالجواب أن أسباب الوضع كثيرة منها غفلة المُحَدِّث، أو اختلاط عقله في آخر
حياته، أو التكبر عن الرجوع إلى الصواب بعد استبانة الخطأ لسهو مثلاً، ومنهم
قوم وضعوا الأحاديث لا يقصدون إلا الترغيب والترهيب ابتغاء وجه الله فيما
يزعمون، وآخرون وضعوها انتصارًا لمذهبهم، ومنهم طائفة أهمتهم أنفسهم
فاختلقوا ما شاءوا للتقرب من السلاطين والأمراء، أو لاستمالة الأغنياء إلى الإعطاء،
ومن هذا الصنف القصاص الذين انتحلوا وظيفة الوعظ والتذكير في المساجد
والمجامع، وأخذوا يهدمون من أركان هذا الدين لفلس يقتنونه، أو حطام خبيث
يلتهمونه، ولقد شاهدت منهم في المسجد الحسيني رجلاً بيده رقاع صغيرة فيها دعاء
يقول: إنه دعاء موسى، وأن من قرأه أو حمله تسقط عنه الصلوات المفروضة،
والزحام حوله شبيه بزحام الحشر، حتى لا تكاد ترى إلا عمائم وطرابيش وبرانس
وخمرًا وأيديًا ممتدة بفلوس أو دراهم، وهو في بهرة حلقتهم كأنه أبوزيد السروجي
يوزع الرقاع، ويجمع المتاع، ويخلب الأسماع، حتى كاد يبيح للمتصدقين
والمتصدقات كل ما دخل تحت الحرمة وشمله اسم النهي، هذا وقد بلغني أن بعضهم
نبه السيد التقي الورع النقي شيخ الجامع والسادات إلى إزالة هذا المنكر من مسجد
سبط الرسول، فأجاب بأن هذا تجسس، والله يقول: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (الحجرات: 12) . ولا أدري - إن صح هذا عنه - من الذي أخطأ؟ أهو أم
عمر بن الخطاب الذي كان يطرد القصاصين أمثال هؤلاء من المساجد، مع أنهم لم
يكونوا بهذه المثابة من التغرير والتضليل.
(ولنرجع إلى الوُضاع) فمنهم زنادقة قصدوا إفساد الشريعة والتلاعب بالدين
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة:
32) فعملوا على لبس الحق بالباطل، وخلط السم بالترياق وهيأت لهم الفرص
في الأزمان الغابرة مجالاً فسيحًا لهذا البهتان حتى شحنوا الأذهان وسودوا الدفاتر،
وأفعموا الكتب بمفتريات ما أنزل الله به من سلطان.
وقد سرى هذا الداء في كتب التفسير والسير والتاريخ، وتلقتها العامة عن
سلامة صدر، إما لشهرة المعزوّ إليه، أو لاستبعاد كذبه على الرسول صلى الله
عليه وسلم، فخبطوا وحادوا عن الجادة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فمن
تلك الكتب التي تحرم قراءتها إلا على العالم المقتدر على درء باطلها تفسير الكلبي،
وتفسير مقاتل بن سليمان، وكتاب محمد بن إسحاق في المغازي، وكتب الواقدي،
ومنها (فتوح الشام) ، وكتاب (فضل العلماء) للمحدث شرف البلخي ومسائل عبد الله
بن سلام في امتحانه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث نسطور الرومي
ووصايا علي المبدوءة بـ (يا) إلا (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ،
وقد وقع لطائفة من متأخري المفسرين والمحدثين كثير من هذا، لا يعرفه تحقيقًا إلا الواقف على الأحاديث الصحاح.
(وللحديث الموضوع علامات)
(1) منها المجازفات التي لا يقول مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم
مثل: من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان
لكل لسان سبعون ألف ألف لغة، إلى آخر المفترى.
(2) ومنها تكذيب الحس له، كحديث الباذنجان شفاء من كل داء، وحديث
إن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه، وحديث رد
الشمس إلى علي بن أبي طالب.
(3) ومنها سماجة الكلام، وكونه مما يسخر منه كحديث لو كان الرز
رجلاً لكان حليمًا، ما أكله جائع إلا شبّعه، وحديث قدس العدس على لسان سبعين
نبيًّا آخرهم عيسى عليه السلام.
(4) ومنها مناقضته لما جاءت به السنة الصريحة، فمن ذلك أحاديث
مَن اسمه محمد وأحمد وأن كل من يسمى بهذا الاسم لا تمس جسده النار، إذ
المعلوم من الدين أن النار لا يُجَار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجدة منها
بالإيمان والعمل الصالح المقبول.
(5) ومنها قيام الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق
من أن طوله 3360 ذراعًا، وأنه كان يشوي الحوت في عين الشمس، وأنه
قال لنوح احملني على قصعتك، يريد السفينة، وأنه قلع صخرة عظيمة على
قدر عسكر وأراد أن يسحقهم بها، فقورها الله على عنقه إلخ. إذ هذا يدل على
أنه عاصر نوحًا وموسى وأنه ليس من ذرية نوح مع أن الله يقول: {وَجَعَلْنَا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} (الصافات: 77) وفي هذا الهذيان مناقضات أخرى
تدرك بأقل مسكة، وكحديث إن (ق) جبل من زمرذة خضراء محيطة بالدنيا،
كإحاطة الحائط بالبستان، والسماء واضعة أكتافها عليه فزرقتها منه، وحديث
الأرض على صخرة، والصخر على قرن ثور ... إلخ
(6) ومنها مخالفته لصريح القرآن، كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة
آلاف سنة، وأن الذاهب منها كذا، فإن ذلك يدل على علم الساعة مع أن تعالى
يقول: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّه} (الأعراف: 187) .
(7) ومنها اقترانه بما يبطله، كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر؛
لأنها لم تكن نزلت إذ ذاك، وإنما نزلت بعد عام تبوك، ووضعها الرسول صلى
الله عليه وسلم على نصارى نجران واليمن.
(8) ومنها مناقضته للفضيلة، كالأحاديث الدالة على الشره في الأكل،
كوصفهم أَكْلِه صلى الله عليه وسلم العنب بما لا مساغ لذكره، أو الدالة على
ترغيب في شهوة، كحديث النظر إلى الوجه الجميل عبادة.
(9) ومنها مناقضته العقيدة كحديث لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه،
ولا بد أن يكون هذا من وضع المشركين عُبَّاد الأوثان، ولقد رسخ هذا الحديث
المزور في أذهان أغلب أهل هذا الزمان رسوخًا متينًا، حتى كاد يكون معناه
ملكة فيهم، فهم يتسابقون إلى العمل بمعناه أكثر مما يتسابقون إلى الجماعة
والصف الأول، حتى لو أنك نهيتهم عن التمسك بعامود السيد في مسجد
الحسين، أو شجرة الحنفي، أو باب زويلة (بوابة المتولي) أو أخشاب ضريح،
لأجابوك جميعًا بهذا الحديث، كأن الشيطان ما ترك نسمة فيهم إلا ولقَّنَها
الضلال البعيد.
ومن الأحاديث التي لا أصل لها أحاديث الحمام، واتخاذ الدجاج، وذم الأولاد
والتواريخ المستقبلة، وفضائل السور، ومدح العزوبة، والنهي عن الطعام في
السوق، وفضائل الأزهار والحناء، وحديث إن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم،
وغير ذلك مما يطول بي إيراده، ولست أعجب من العامة وصنعهم هذا، ولكن
العجب العُجَاب من أهل العلم الذين يرون هذا المنكر رأي العين صباح مساء،
ويتأولون له، كأنما أعمال هؤلاء السوقة وحي سماوي متشابه يجب تأويله في رأي
العلماء المتأخرين، اللهم ألهمنا السداد، ووفقنا إلى سبيل الرشاد.
والداهية الدهياء أن الناس الآن أخذت تروي الأحاديث من غير إجازة ولا
تلقين، وحَوَّل العلماء وجهتهم إلى فروع الفقه وآلات التفسير والتوحيد، وانصرفوا
عن الحديث إلا ما كان منه قراءة على سبيل التبرك، فراجت سوق الأراجيف
المعزوّة للدين، واختلط الباطل بالحق فمهدوا بهذا للطاعنين على الدين سبلاً كانت
عذراء، وخططًا كانت وعثاء، فلا تكاد ترى حمَّارًا، أو حوذيًّا، أو خادمًا أو طاهيًا،
أو أكارًا أو قصارًا، أو كناسًا أو رشاشًا، إلا ويستشهد في كل شيء من أعماله
بالحديث، سواء صح معناه ولفظه، أو لم يصح، فإذا جلست في مرتاض أو نادٍ،
أو سوق أو حانوت، أو محفل عرس أو مأتم، سمعت من خلطهم وخبطهم في الدين
ما تخرج لأجله النفوس من العيون، وتمشي له القلوب في الصدور، وربما كان في
مجلسهم عالم فيسئل عن اختلافهم، فلا يجيب إلا بأظن كذا، ويمكن أن يكون كذا،
والورع يقول: لا أدري حتى أراجع الصحاح، وقد يكون الحديث مشهورًا بين كل
الطبقات وهو موضوع، فيظن أنه صحيح لشهرته، خصوصًا على ألسنة بعض
الأشياخ، فيفتي بأنه صحيح، وهنالك الطامة الكبرى.
هذا ومما يؤسف عليه أنك لو سألت عمن هو أقرب إلى درجة الحفاظ في
مصر لقالوا: رجلان أحدهما توفي قريبًا وهو المرحوم محمد بك المكاوي، والآخر
العلامة اللغوي الشهير الشيخ الشنقيطي رضي الله عنه، ولا تكاد تسمع باسم ثالث.
ولقد كنت عقدت النية على أن أجمع طائفة من الأحاديث الموضوعة التي
يستدل بها الناس الآن على عقيدة أو حكم أو فضيلة أو نهي عن رذيلة، وأقترح
على حضرة الفاضل خادم الأمة والدين صاحب (المؤيد) أن يقف بضعة أسطر من
جريدته الغرَّاء على نشر حديث أو حديثين منها كل يوم ليُمَيِّز عامة المسلمين الخبيث
من الطيب، ويبتعد حملة القرآن وخطباء المنابر ووعاظ المساجد عن رواية
الأكاذيب المضادة للشرع والعقل باسم الدين وهم لا يشعرون، فلما علمت أن السيد
السند الجليل الشيخ محمود الشنقيطي هو ابن بجدتها ونسيج وحده في هذا الموضوع،
خلعت هذا من عنقي وجعلته في عنقه لتعينه لهذا الأمر الجلل، كما أجمع عليه
الثقات، فإن كان في علماء مصر وجهابذة العصر من يحب أن يسبق إلى خدمة
الدين ونصح المسلمين، وكان بهذا الشأن أحرى - فليتفضل، فإنما الغرض إحياء
السنة وإماتة البدعة ودرء المطاعن الأجنبية بشيء ليس من ديننا، وألتمس من
المتصدر لهذا الأمر أن يجمع أولاً الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة والخاصة
في احتجاجهم وأمرهم ونهيهم ومعاملاتهم، فإن ضررها عميم، وخطبها جسيم،
وذلك كحديث حب الوطن من الإيمان الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا
الحث على تفرق (الجامعة الإسلامية) التي تنشد ضالتها الآن، فإنه يقضي بتفضيل
مسلمي مصر مثلاً على من سواهم، وأن من في الشام يفضِّل إخوته هناك على
غيرهم، وهكذا، وهو الانحلال بعينه والتفرق المنهي عنه والله يقول: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ولم يقيد الأخوة بمكان، ويقول: {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) وأقل ما فيه تفويت فضيلة
الإيثار، ومن ذلك (شاوروهنَّ وخالفوهنَّ) إلى غير ذلك.
ومما هو جدير بالعناية قصص المولد النبوي الذي اشتمل على كثير من الخيال
الشعري والأحاديث التي وضعها المطرون الغلاة، كحديث لولاك ما خلقت الأفلاك،
وقولهم: إن الميم من اسمه الشريف تدل على كذا، والدال على كذا، إلخ تصرفات
الخيال، ووصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بضروب من الغزل لا تليق إلا
بمتخذات أخذان مما يجل مقام النبوة عنه، وتنفر طبيعة الجلال منه، وكروايتهم من
المعجزات ما ليس له أصل كحديث الضب، وأن الورد من عرقه إلخ ما ينسبونه
للمناوي، ولا أظنه إلا مصطنَعًا باسم الشيخ رحمه الله ورضي عنه.
والخلاصة أنه يجب تدارك هذا الأمر الخطير وفينا حياة علمية، فعلى العلماء
المسارعة، وعلى أصحاب الجرائد القبول، ولا أظن صاحب (المؤيد) إلا مرتاحًا
لهذا الاقتراح، وعلى الله تمام النجاح.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (الناصح الأمين)
(المنار)
إن لنا كلامًا في المقالة وفي الموضوع نرجئه لأقرب فرصة تسنح.
__________(2/391)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني
في مثل يوم الخميس الماضي 31 أغسطس سنة 1876م (12 شعبان سنة
1293 هجرية) بويع سيدنا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد
خان بالخلافة الإسلامية، ورقى سرير السلطنة العثمانية، وقد هبَّ المصريون
للاحتفال بهذا العيد الوطني السعيد هبة واحدة، فعملوا في أيام ما كان يعمل في شهر
كامل، وأقيمت الزينة في كل مكان، والزينة الكبرى في حديقة الأزبكية، وكان
أبهج الاحتفالات الخصوصية احتفال جمعية (شمس الإسلام) احتفال حضره سعادة
محافظ العاصمة الهمام، والأستاذ الأكبر شيخ الإسلام والجامع الأزهر، وجماهير
العلماء والوجهاء، وبعد افتتاح الاحتفال قام الفقير منشئ هذه المجلة، فألقى خطبة
بَيَّن فيها من مآثر مولانا الخليفة ما ارتاحت له النفوس، وتلاه الخطباء والشعراء،
وكان تلامذة المدرسة التحضيرية التابعة للجمعية تُنشد الألحان الوطنية في مدح
الحضرة السلطانية والحضرة الخديوية، واخْتُتِم الاحتفال كما افْتُتِح بتشريف الأسماع
بتلاوة القرآن الكريم، وانفض الاجتماع بكل هدوء وسكون، خلافًا لما جاء في
(مقطم) أمس، فنرفع واجب التهنئة إلى أعتاب مولانا بهذا العيد السعيد، ونسأله
تعالى أن يعيده على الأمة في ظله بالعز والتأييد، آمين.
__________(2/396)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي
جاءنا في بريد (جاوا) الأخير كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي يقول فيه أنه
قرأ ما كتبناه في حث الأمم الإسلامية على الاعتماد في ترقيهم على أنفسهم، لا على
الدولة العلية، لا سيما أهل الهند والجاوا وأمثالهم ممن تحت سلطة الأجانب، ثم
قال: (اعلم أيها الفاضل أننا معاشر الجاويين ليس قصدنا بأن تكون ترقيتنا على يد
الدولة العلية، ولكن غرضنا الوحيد هو مساعدة الدولة العلية لنا في فك الأغلال التي
وضعتها حكومة هولندا في أعناقنا، وقيدت بها أرجلنا، وضيقت علينا في كل أمر
نقصده، فليس لنا مدارس، وليس لنا أساتذة، وتداخلت في كثير من أمورنا الدينية
كعقود الأنكحة، وتعطيل بعض المساجد من إقامة الجمعة بعد ما استمرت فيها
قرونًا عديدة، والتضييق علينا في شأن الاجتماع، فيمتنع أن يجتمع أكثر من
سبعة نفر بدون إذن الحكومة، ولو لقراءة المولد الشريف، أو وليمة زواج، ونحو ذلك، هذا كله في وقت الإقامة، وأما التضييق في السفر، فقد فرضت على كل من
يريد السفر، ولو ميلين أن يكون معه تذكرة لها شروط طويلة عريضة، بحيث يضيع
على الإنسان أكثر وقته في السعي بالحصول عليها، وتسمى عندهم (باسفور)
ولو شرحنا هنا شروط التذكرة في حملها وحطها لاحتجنا إلى كراريس، ولكن
بهذا القدر كفاية، واللبيب تكفيه الإشارة، فأنَّى لنا الترقي وهذا حالنا، فهل من
نصير، وهل من مجير لنا؟ فالمُشْتَكى إلى الله وحده، ونرجو أن تساعدنا الدولة
العلية في طلاب المساواة من حكومة هولندا؛ لأن هذه الحكومة تزن بميزانين،
وتكيل بمكيالين مختلفين، وتفعل كلَّ ما تريده بالمسلمين من العسف والجور، وليس
لها مُعَارِض ولا منازع، فإذا حصلت لنا مساعدة، وإنشاء مدارس في سائر مدائن
جاوا، ففي مدة قريبة ترى عجبًا؛ لأن الجاويين أهل ذكاء وفطنة، ليسوا كغيرهم،
هذا وإن أحببتم نشر هذا في (المنار) يكون بدون إمضاء والسلام) اهـ.
(المنار)
لا يخلو حال الدولة معكم معاشر الجاويين من ثلاثة أحوال:
(الأول) أن لا تكون عالمة بما حل بكم وما أصابكم من سهام الظلم
والاضطهاد، وماذا تنتظرون ممن يجهل من أمركم ما علمه العالمون، ومرت
عليه السنون؟
(الثاني) أن تكون عالمة بما أصابكم وهي قادرة على إغاثتكم، ولكنها لا
تبالي بكم، والأمر في هذا ظاهر لا يحتاج إلى ناهٍ ولا إلى آمر.
(الثالث) أن تكون عالمة بالمصاب والبلاء، ولكنها عاجزة عن الإغاثة
والإنجاء، والأمر في هذا أظهر وأبين، وهو الواقع لا ريب فيه، فتبين أن نصيحتنا
لكم ولأمثالكم بالاعتماد على جدكم وهمتكم حقيقة صادرة عن إخلاص وغيرة قلبية.
ولا تحسبوا أن سبب عجز الدولة العلية عن إنقاذكم ورفع الضغط عنكم هو
قوة الدولة المتسلطة عليكم، فإن مملكة هولندا ليست إلا كولاية من الولايات
العثمانية، ولو كانت متصلة ببلاد الدولة العلية لأمكن الدولة أن تدمرها في وقت
قريب، كما دمرت اليونان، ولكن السبب الصحيح هو أن الدول الأوروبية بعضها لبعض ظهير بإزاء الدولة العلية، فيُلزمنها باتفاقهن إجابة ما تطلبه كل واحدة منهن
لنفسها، أو للنصارى في بلاد الدولة، ولا يجبن لها طلبها فيما يتعلق بمصالحها
أو مصالح المسلمين الذي هم تحت رعايتهن، على أنه لو كان لها أسطول قوي يليق
بموقعها البحري لأجيب لها كل طلب، ولأمكنها أن تتبع للوصول إلى مقاصدها
كل سبب. فإن أمرالدول مبني على قاعدة بسمارك (القوة تغلب الحق) وأما ما
تُثَرثر به ساستهم وجرائدهم من العدالة والإنصاف، والمرحمة والإنسانية،
والتبري من التعصب الديني، فهي تمويهات خادعة وخلابة كاذبة.
اشتهر المستر غلادستون بأنه السياسي الفرد الذي أفاض على السياسة أمواه
الآداب والفضائل، فلانت قناتها وراعت العدالة رعاتها. ولقد كان يعلم أن أهل
جاوا يسامون من هولندا سوء العذاب، ويقاسون من الظلم والاضطهاد ما لم يقاسه
أحد في بلاد متوحشة همجية، وما كان ينبض له عرق ولا يهيج له انفعال، هذا
ودم القوة يجري في عروقه، وماء الفتوة يترقرق في أديم وجهه، ولما كبحت الدولة
العلية جماح بُغاة الأرمن الذين أضرموا نيران الثورة وخرجوا عن الطاعة، قام
على شفير قبره، وقد تبيغ دمه بعد ما كاد يغيض من الضعف والكبر، وتدفقت
الفصاحة من لسانه بعد ما أوشك يصاب بالحصر، وطفق يهيج الأمة الإنكليزية
خاصة، والأمم الأوروبية عامة على التنكيل بالدولة العثمانية، ومحو اسمها من لوح
البرية، شفقة على أولئك البغاة اللئام، والعصاة الطغام، حتى قال فيه البرنس
بسمارك: (إن المعلم غلادستون أضاع على دولته بغلوه في بضعة أيام ما اكتسبته
من وداد الدولة العلية في بضع عشرات من السنين) فليعتبر هؤلاء الشبان
الأغرار الذين يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار، وليكفوا عن طلب الإصلاح
بواسطة الأوروبيين، وليخدموا أمتهم بالتربية والتعليم إن كانوا صادقين.
__________(2/397)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع مالية الدولة)
لما كان المُطَّلع على الجداول المتقدمة يمكنه أن يقتنع بما جاء فيها، فالنتيجة
العامة لأعمال سنة 1893م المتداخلة في سنة 1894م هي أحسن وأدل على التقدم
من نتائج أعمال السنين المتقدمة.
قد نشر أخيرًا تقريرالموسيو فنسان كيارد عن الدَّين الأهلي العثماني في سنة
1893م المتداخلة في 1894م، وهو يحتوي كالعادة على بيان مفيد لحالة دَين
المملكة العثمانية.
قال الموسيو فنسان كيارد في هذا التقرير: لا شك في أني أؤمل أن الإيرادات
المتنازل عنها للدائنين يمكن أن تزيد في كل سنة زيادة مهمة، كالتي تكلمت عنها في
تقريري عن أعمال السنة الماضية، وأن التقدم لم تظهر بعد علائمه كما ظهرت في
السنة المذكورة، إلا أن الأمور يظهر أنها ستجري في نفس مجراها.
قد زادت جملة الإيرادات إلى أن بلغت 2542735 جنيهًا مجيديًّا، يقابلها في
السنة الماضية 3508760 جنيهًا مجيديًّا، أو 1.35 في المائة، لكن من جهة
أخرى قد زادت المصاريف مبلغ 30332 جنيهًا مجيديًّا عنها في السنة الماضية،
وكان من ذلك أن صافي الإيراد لم تكن زيادته إلا مبلغ 3643 جنيهًا مجيديًّا، فإذا
قورنت سنة 1893م المتداخلة في سنة 1894م بسنة 1892م المتداخلة في سنة
1893م وجد أن زيادة الإيرادات في الأولى عن الثانية هي 110631 جنيهًا مجيديًّا
أو 5.38 في المائة.
السبب الأول في زيادة المصاريف هو زيادة أجر العمال، وهذه طريقة
اختارتها إدارة مصلحة الديون؛ لتكفل بها لنفسها الحصول على عمال أكفاء خبيرين
بالأعمال، فزيد في عدد المفتشين، وكانت نتائج ذلك حسنة، وسيكون أثر هذه
الإصلاحات أظهر في نهاية السنة الحالية.
لاحظ المسيو فنسان كيارد أيضًا من جهة أخرى أن تحصيل الإيرادات كان
يجري مع صعوبات عظيمة بسبب قلة الحاصلات الزراعية جدًّا، وانحطاط أثمانها
في جميع الجهات، ولكنه يفتكر أن المبلغ المتحصل لا بد أن يكون وافيًا بالمطلوب
وأردف هذا بقوله بعد في هذا الموضوع (سيتضح لك أن إيرادات سنة 1893م
المتداخلة في سنة 1894م أحسن من إيرادات السنة الماضية، نعم إنك لا تسر كثيرًا
في هذا الموضوع؛ لأن انحطاط أسعار الحبوب قد ثبَّط همم المزارعين، وقلل
موارد أرزاقهم، وهذه المصيبة أصيب بها أمة زراعية بطبعها، وهي الأمة التركية،
ولا يبرح عن ذهنك أيضًا الحجر الصحي الذي خرب آسيا الصغرى بسبب وجود
الكوليرا بها، وحينئذ ففي سنة لم تساعد فيها الظروف كهذه قد ظهر من أوائلها أن
الإيرادات حفظت نسبتها، مع أن الأحوال في هذه السنة كانت أبعد من أن تكون
أحسن منها في السنة الماضية، بل كانت أسوأ، لكني أظن من العبث أن نؤمل
استمرار زيادة الإيرادات، وإذا جرينا على ما جرينا عليه في السنة الماضية كانت
النتيجة راضية) .
وإليك عبارة الموسيو فنسان كيارد في تقريره عن مسألة المال الاحتياطي
بزيادة ربح الدَّين العمومي قال: إن المال الاحتياطي يصل في نهاية سنة 1893م-
1894م إلى مبلغ 224893 جنيهًا مجيديًّا، وسيصل في مارس سنة 1893ما
إلى مبلغ337000 جنيه مجيدي، فالآن إن أريد أن يدفع لمصلحة الدين مسانهة ربع
الاحتياطي زيادة عما يدفع لها اقتضى ذلك وجود مبلغ 292700 جنيه مجيدي،
وحينئذ يكون الدفع ممكنًا، ولكن لا يستنتج من ذلك إمكان حصوله عاجلاً؛ فإن
المادتين 10، 11 من الأمر العالي المكرم يظهر من فحواهما أن سعر الربح يلزم أن
يقرر قانونًا، وهذا هو السبب في إيجاد المال الاحتياطي، لم يكن ليتأتى
لواضعي هذا الأمر أن يطلعوا على الغيب فيعرفوا ما يتعاور أسعار الربح من
التغير، وما ينتج من ذلك من التشويش المشكل في إنقاذ مشروع الاستهلاك، ربما
أنهم كانوا يقصدون أن أسعار الربح إذا زادت تبقى على هذه الزيادة، ولكي يقدموا
لمجلس إدارة الديون الطريقة الكافلة لتحقيق هذا النتيجة منحوه الحق في إيجاد مبلغ احتياطي يمكن أن يؤخذ منه من المال حسب مقتضيات الأحوال ما يكمل به النقص من أحد نصفي السنة إلى نصفها الآخر، ومع ذلك فها هي عبارة موسيو فنسان كيارد في إبداء رأيه الذي هو متمسك به من غير شك، كما قال في صحيفة 17 من تقريره، قال هذا السيد:
(هذه المجازفة دون جميع المجازفات يظهر أنها أحسن تدبير في الأمور
المالية، ولا يمكنني مع هذا أن أنكر أن نص الأمر العالي فيه دليل معقول جدًّا
لأولئك الذين يريدون أن يدفعوا فورًا واحدًا في المائة من الربح الذي هو أربعة في
المائة، وقد دفعه أكثرهم حتى حصل من المال الاحتياطي المبلغ اللازم، ولم يعد ثَم
حاجة إلى البحث في أن سعر الربح يمكن أن يبقى على الدوام محفوظًا من التغيير، أو لا يمكن) اهـ.
(للرسالة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(2/399)
3 جمادى الأولى - 1317هـ
9 سبتمبر - 1899م(2/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كرامات الأولياء
يعلم الناظرون في تاريخ الأممِِ المختلفةِ الأديانِ والنِحَلِ أن كل أمة منها تدَّعِي
وقوع خوارق العادات وأنواع الكرامات على أيدي رجال الدين ورؤسائها الروحيين
وتنقل من ذلك في كتبها ما يتوهم الناظر فيها أنه بلغ مبلغ التواتر المعنوي على
الأقل، وأن أولئك الرؤساء يتخذون هذا الاعتقاد من الأمة ذريعة للتصرف في
إرادتها، ووسيلة للسيطرة عليها، بل لرفع أنفسهم إلى مرتبة الربوبية، وادعاء قوة
غيبية مفاضة عليهم من الحضرة الإلهية، يتصرفون بها في العوالم الكونية، وقد
كتبنا في العدد العاشر من هذه السنة مقالة في مسألة (التصرف في الكون) بَيَّنَّا فيها
أنه لا قوة غيبية وراء الأسباب الظاهرية إلا لله تعالى وحده، وحيث كنا لا ننكر أن
الله تعالى قد يهب لبعض أوليائه من الكرامة ما يهب لغيرهم، وَعَدْنَا في تلك المقالة
بأن نكتب مقالة مخصوصة في كرامات الأولياء، وقد آن لنا أن ننجز وعدنا.
والنظر في هذه المسألة من وجوه: حقيقتها والحكمة فيها، حجج القائلين
بجوازها ووقوعها، حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها
ومضرته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات. وقد فَصَّلنَا جميع ذلك في خاتمة
كتابنا (الحكمة الشرعية) وافتتحنا الكلام هناك بمقدمة في نواميس الكون وإثبات
الألوهية، والكلام في النبوات والمعجزات فالكرامات، وإننا نثبت ههنا معظم تلك
المقدمة لتكون أساسًا لبقية المسائل، وهي:
] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ [[1]
جرت سنة الله تعالى كما اقتضته حكمته في هذه النشأة الأولى والحياة الدنيا
بأن يكون جميع ما يحدث فيها من الذوات والأعيان الحيوانية والنباتية والجمادية،
وما يطرأ عليها ويعتورها من الأحوال المختلفة، ويتناوبها من الشؤون المتبائنة،
وما بين أرضنا هذه وسائر كواكب النظام الشمسي من الارتباط - كل ذلك جارٍ على
نواميس لا اختلاف فيها، وسنن ثابتة لا يعتريها تبديل ولا تحويل، فهذه الحجارة
ونحوها من الأجرام التي تزيد على الهواء بالثقل النوعي تسقط إلى جهة الأرض،
والدخان، وجميع الأبخرة التي هي أخف من الهواء ترتفع إلى جهة العلو
حتى إذا ما تكاثفت وزاد ثقلها على ثقل الهواء في طبقة من طبقات الجو، وقفت
عن التعالي والارتفاع، وربما تكاثف ما فيها من الماء المتبخر بسبب البرودة؛
فعاد كما كان سائلاً أو جامدًا، وهبط لثقله إلى الأرض، ثم تخلل في الأتربة، وفي
هذه الحالة يدلي إليه النجم والشجر خراطيم جذوره، فيمتص منه ما يحتاجه لحياته
النباتية، وقد يتخلل الأرض ويسري فيها، فيعترض سيره صخور ونحوها،
فيجتمع إليها، ويزداد عليه الضغط من الجهة التي جرى منها حتى يندفع إلى سطح
الأرض ويتفجر، فيكون ينبوعًا يرد الحيوان الناطق والأعجم فيعل منه وينهل، وللناس في الماء منافع أخرى حاجية وكمالية، وناهيك ببخاره الذي هو روح العمران
في هذا الزمان، ولولا أن ذلك كله جارٍ على قوانين ثابتة وسنن مطَّردة لما تيسر
الانتفاع به للناس.
وهذا النبات الذي يسقى بماء واحد، وثبتت أصوله في تربة واحدة، وسبحت
أفنانه وشعابه في هواء واحد - حصل فيه التباين والتخالف في أشكال ثمراته وألوانها
وطعومها وروائحها وخواصها، فكان أنواعًا متمايزة، وأزواجًا متعددة،
ومع ذلك لا يحمل نوع منها ثمرة نوع آخر، ولا يزاحمه في خاصيته التي أودعت
فيه، وإلا لما اهتدى الناس للانتفاع بها، ولضل سعيهم بعدم حصول المرء على
مطلبه، أو إصابته غير غرضه، وربما أفضى بهم اختلال هذا النظام إلى
التلف، وألقاهم في مهاوي الهلكة، فإن بعض النبات مغذٍّ يقتات منه الإنسان،
وبعضها سام تهلك به الأبدان، فلو أن خواص العقاقير تنتقل أحيانًا إلى الفاكهة
وبالعكس، لوقع المحذور الذي أشرنا إليه.
وهذه الحيوانات العجم من نَعم وطير، ووحش وسمك وهوام؛ فإن كيفيات
معيشتها وتوالدها وحفظ ذريتها، وأشكال أعضائها، وبنيتها الموافقة للقيام بأود
حياتها، ككون الطير ذا منقار يلتقط به الحبوب، ونحو الصقر والشاهين ذا منسر
ومخلب يمزق بهما اللحم ليطعمه، وكون الطويل الأرجل منها طويل العنق على
نسبة طول رجليه؛ ليسهل عليه تناول الغذاء حيث لم يكن مما يتناوله بالأيدي،
وكون الضعيف منها أقدر على العَدْو والطيران، أو الحيلة والروغان من القوي الذي
من شأنه اقتناصه وافتراسه؛ ليكون استيلاؤه عليه من تقصيره لا من طبيعته ونقص
خلقته، وكونها تنفر مما يضرها بالطبع والإلهام إلى غير ذلك من الحكم التي لا
تحصى، كل ذلك جاء على نظام بديع وسنن مطردة، وبه تيسر للإنسان انتفاعه بما
يمكن الانتفاع به، واحترازه مما يخشى ضرره.
وهذا الإنسان في جميع أطواره وأدواره؛ من بداوة وحضارة، وشظف
ورفاهة، وعلم وجهل، وقوة وضعف، وعزة وسلطان، وذلة وامتهان، وسائر
أنواع السعادة والشقاء التي تتناوبه مجتمعًا ومنفردًا، كل ذلك منطبق على السنن
الإلهية والنواميس الكونية، فالأعمال - نافعها وضارها - تابعة لمعارف العاملين
وما انطبع في نفوسهم من العقائد والأخلاق، وما تربوا عليه من العادات، ولولا
أن لترقى الإنسان وتدليه سننًًا ثابتة وقوانين طبيعية مطردة، لما انتظم لهذا النوع
حال، ولما طمع ببلوغ مراتب الكمال.
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وهداه النجدين، فكان بفطرته مستعدًّا لتعرف
سنن الخليقة، واستخراج النواميس من سير الطبيعة، ولكنه ظل غافلاً عن هذه
السنن، ومنصرفًا عن استنباطها من جزئياتها إلا ما يبدو للنظر ويسبق إلى الفكر
حتى منحه الله تعالى بفضله الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة بمقتضى قوله
تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) فاسْتَلْفَتَهُ القرآن إلى هذه السنن، وبين له أنها لن تتبدل ولن تتحول،
فالتفت هذا النوع بذلك إلى الخليقة، وصار يتعرف نواميسها رويدًا رويدًا بمقتضى
ناموس التدرج في الاتقاء، وقد شرح حكماء العلماء ما وصل إليه علمهم من تلك
النواميس والقوانين التي طبع الله عليها هذا العالم، وفصَّلوا ما عرفوه من سننه فيها،
وجعلوا ذلك فنونًا كثيرة كتبوا فيها الأسفار، ودونوا فيها الدواوين، ووضعوا لها
الاصطلاحات كما هو شأنهم في سائر فنون العلم، ولا ينفكون في كل عصر من
الأعصار التي استحكمت فيها الحضارة ينقبون عنها ويبحثون فيها ابتغاء الزيادة،
وحرصًا على كمال الاستفادة، وما كان أجدر هؤلاء الواقفين على أسرار الطبيعة
(وأعني بالطبيعة النظام الذي أنشأ الله الكون وطبعه عليه) أن يكونوا من أقوى الناس
إيمانا بالله الحكيم القدير الذي أحسن هذا الإبداع وأتقن هذا الاختراع و {أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) لكن قد ذهل الكثيرون منهم بإتقان الصنعة عن
وجود الصانع وعظمته، والمتأخرون الذين وصلوا إلى ما لم يصل إليه من كان
قبلهم، وعرفوا من سنن الاجتماع الإنساني ما لم يكن يعرفه الناس قبل هذا العصر
الذي مبدؤه ظهور الإسلام - قد غفلوا عن القرآن الذي كان منشأ استلفات الإنسان
إلى هذا النوع من العرفان، لا سيما وقد بَعُد العهد وطال الزمان، وأعرض المنتسبون
للقرآن عن فنون الطبيعة وعلم العمران.
اشتغلوا - كما - قلنا بالصنعة عن الصانع وغرَّهم شيطان الوهم الخادع بأن
هذه النواميس هي الفاعلة والمدبرة لهذه الأكوان مع أنهم ما علموا إلا أقل القليل منها
{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85) وعَلَّلوا الكثير من ذلك القليل بعلل لا
يقبلها العقل، وقد صرح بعضهم أن النواميس ليست عللاً وأسبابًا للترتيب
والنظام الطبيعي، وأنّى يحكم العقل بأن ثبوت كل جرم من الأجرام الفلكية، وحفظ
النسبة بينه وبين الكواكب الأخرى إنما هو بِعِلَّة شيء مجهول أو معدوم، وهو الذي
سموه الجاذبية العامة، وأين هذه الجاذبية؟ وما حقيقتها؟ وما الدليل عليها؟ نعم
إذا قالوا: إنا وجدنا الأمر هكذا، فوضعنا له هذا الاسم، فإننا نسلم لهم إذ لا
مشاحة في الاصطلاح، ثم إننا نقيم الدليل من ذلك على أن له صانعًا حكيمًا،
وكذلك يقال في جاذبية النقل، وجاذبية الملاصقة والالتصاق وغيرها.
وأكثر الناس قد أرشدتهم الفطرة أو هداهم النظر إلى أنه لابد لهذا الكون المحكم
الصنع، البديع الإتقان من فاعل مدبر له، ثم أخطأوا في تعيينه لما عنَّ لهم من
الشبه في ذلك، فبعضهم زعم أنه الشمس أو كوكب آخر، وتخيل بعضهم أن صانع
العالم هو جوهر النار (وإذا التفتنا إلى قول المحققين: إن النار عرض يكون إله
العالم عند هؤلاء عرضًا تابعًا في وجوده لغيره) وبعضهم أسند الألوهية إلى بعض
الحيوانات، ومنهم من ارتقى به هذا الوهم، فأضافها إلى بعض البشر، إلى غير
ذلك من النِحَل التي لا تحصى، وشبهة الذين أشرنا إليهم هي ما شاهدوه من
المظاهر العجيبة التي أظهر الله تعالى بها الشمس والنار، أو قوة الحرارة وما خص
به بعض الحيوان من المنافع أو المضار، وما ظهر على أيدي بعض البشر من
الخوارق والعجائب التي لم تُعْهَد من أمثالهم، قالوا: ولولا أن سر الألوهية في هذه
الأشياء لما وجدت فيها تلك الخصائص أو المنافع دون غيرها، والحاصل أن البشر
يشعرون بفطرتهم أن للعالم إلهًا ومدبرًا به قامت الأكوان [2] ، ولما كان غيبًا مطلقًا
لم تهتد نفوسهم إلى التوجه إليه وعبادته وتعظيمه إلا بتقييده لما يعرفون، فكان من
أمرهم ما كان.
فتبين بهذا أن العقل البشري لا يستقل بما يجب من المعرفة الحقيقية لله تعالى،
وما ينبغي أن يقوم له به العبد من العبادة والشكر في مقابلة نِعَمه التي لا تُحصى،
ولذلك تفضل سبحانه وتعالى على الخلق فأرسل إليهم رُسلاً من أنفسهم جعلهم سفراء
بينهم وبينه في بيان ما يرضيه من الناس أن يكونوا عليه، وأيدهم بما يدل على
صدقهم من خرق بعض تلك النواميس على أيديهم، ووقوع بعض الأمور على
خلاف ما تقضيه السنن المطردة التي لم يعهد فيها خرق وانتقاض، أو فعل شيء لم
يعهد في العالم، ولا دخل فيه للبشر بصناعة ولا كسب، بحيث يجزم العقل بأنه لا
يقدر على ذلك إلا الذي سَنَّ تلك السنن ووضع تلك النواميس وأبدع جميع الأشياء
بقدرته الباهرة، فهدى الله تعالى بهم من شاء من الخلق فعرفوه بما يجب أن يُعرف
به، وعبدوه بما يجب أن يعبد به، وقد مضت سنة الأولين بأن المؤمنين بالأنبياء
يكونون في زمنهم بغاية الطاعة والخضوع وكمال الانقياد للشرائع والاتباع للهدى،
وأنه كلما طال الأمد على البعثة، وبعُد العهد بالأنبياء تقسو القلوب، ويميل الناس عن
الحق، ويؤولون تعاليم أنبيائهم بحيث تنطبق على أهوائهم، ومنهم من حَرَّفوا حتى في
اللفظ، ومن نسوا حظًّا مما ذكروا به، فكان لذلك من رحمة الله تعالى بعباده أنه كلما
طال الزمن من بعد رسول يبعث إليهم رسولاً آخر حتى ختم الله النبيين بالسيد
الأعظم، والسند الأقوى والأعصم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم،
وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم أجمعين، وكان مما أنذر به أمته في كتابه
العزيز قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ
الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ولكن لا تبديل لسنة الله؛ فإنه كلما طال
الأمد وبَعُد الزمان تقسو القلوب، ويفسق الكثير عن أمر ربهم.
من مقتضى ختم النبوة أن تكون شريعة الخاتم عليه السلام باقية إلى آخر
الزمان، وأن تكون الآية الدالة عليها باقية ببقائها، ولذلك كانت المعجزة العظمى
للنبي صلى الله عليه وسلم محفوظة من التحريف والتبديل، وهي القرآن الكريم
الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) وحيث قد جعلوا كرامات الأولياء تابعة للمعجزة، دالة على صدق
نبوة من ينتسب الولي إلى دينه، ويعرف بكمال الاتباع له، كان وجودها بمعنى
وجود المعجزة يجذب بالقلوب إلى مرضاة الله تعالى، والاعتصام بالدين، قال
البوصيري:
والكرامات منهم معجزات ... حازها من نوالك الأولياء
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي بعد أن ذكر أن الكرامة تحصل بكمال الاتباع:
(والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن
لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي على يدي وارثه ومتبعه في سائر
حركاته وسكناته) ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: إن كرامات الأولياء من تتمة
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تشهد بالصدق المستلزم لكمال دينه،
المستلزم لحقيقته، المستلزم لصدق نبيه فيما أخبر به من الرسالة، وكانت الكرامة
من جملة المعجزات بهذا الاعتبار. اهـ
وقال العلامة تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:
(اعلم أن كل كرامة ظهرت على يد صحابي أو ولي، أو تظهر إلى يوم القيامة،
فإنها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن صاحبها نالها بالاقتداء به، وهو
معترف له بأنه سيد البشر الذي من بحره تستخرج الدرر) اهـ
هذا ما جاء في كتابنا (الحكمة الشرعية) في معنى المعجزة والكرامة،
والحكمة فيهما، وسنذكر بقية المباحث في الأجزاء التالية، إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) (البقرة: 105) .
(2) قرر هذا المعنى في درس التوحيد الذي قرأه في الأزهر الأستاذ الكامل الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وقال: إن الشرذمة التي أنكرت وجود صانع الكون قد طرأت على نفوسها أعراض حرفتها عما في أصل فطرتها، فهي لقلتها وللمرض الروحي الذي طرأ عليها لا يصلح إنكارها نقضًا للقاعدة العامة التي ثبتت في جميع أصناف البشر، وهي الاعتقاد بالألوهية.(2/401)
الكاتب: أبو حامد الغزالي
__________
حقوق الأخوة
(3)
كنا شرعنا في بيان حقوق الأخوة والصداقة ملخصة من الإحياء، فذكرنا منها
حَقَّين، وهما المتعلقان بالنفس والمال، وحالت كثرة المواد دون شرح سائر الحقوق
(وهي ستة) فكففنا عنها ناوين الرجوع إليها عند سنوح الفرصة، وقد سنحت
الآن، فنقول:
(الحق الثالث) في اللسان بالسكوت مرة، وبالنطق أخرى، أما السكوت
فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن
الرد عليه فيما يتكلم به، وأن لا يماريه ولا يناقشه، وأن يسكت عن التجسس
والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة ولم يفاتحه بذكر غرضه من
مصدره ومورده لا يسأله عنه، فربما يثقل عليه ذكره، أو يحتاج إلى أن يكذب فيه
وليسكت عن أسراره التي بثها إليه، ولا يبثها إلى غيره ألبتة، ولا إلى أخص
أصدقائه، ولا يكشف شيئًًًا منها، ولو بعد القطيعة والوحشة؛ فإن ذلك من لؤم الطبع
وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن
حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سَبَّك مَن بَلَّغَك، وقال أنس: كان صلى الله عليه
وسلم لا يواجه أحدًا بما يكرهه، والتأذي يحصل أولاً من المُبَلِّغ ثم من القائل، نعم
لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه، فإن السرور يحصل من المُبَلِّغ ثم من
القائل، وإخفاء ذلك من الحسد.
وبالجملة: فليسكت عن كل كلام يكرهه - جملة وتفصيلاً - إلا إذا وجب عليه
النطق بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت، فإذ ذاك لا
يبالي بكراهته، فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق، وإن كان يظن أنه إساءة في
الظاهر، وأما ذكر مساويه وعيوبه ومساوي أهله فهو من الغيبة المحرمة، ويزجرك
عنه أمران (أحدهما) أن تطالع أحوال نفسك، فإن وجدت فيها شيئًا مذمومًا فهوِّن
على نفسك ما تراه من أخيك، وقَدِّر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة، كما
أنك عاجز عما أنت مُبتلى به، ولا تستثقله بخصلة واحدة مذمومة، فأي الرجال
المهذب، وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله، فلا تنتظره من أخيك في حق
نفسك، فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك، و (الأمر الثاني) إنك تعلم أنك
لو طلبت مُنَزَّهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة، ولن تجد من تصاحبه أصلاً،
فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوٍ، فإذا غلبت المحاسن على المساوي
فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبدًا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من
قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم، فإنه أبدًا يلاحظ المساوي
والعيوب، قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات،
وقال الفضيل: الفتوة العفو عن زلات الإخوان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:
استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيرًا ستره، وإن رأى شرًّا أظهره، وما
من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه، ويمكن تقبيحه أيضًا، روي أن
رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد ذَمَّه،
فقال عليه السلام: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه؟ فقال: والله لقد صدقت
عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما علمت فيه،
وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما علمت فيه، فقال عليه السلام: إن من البيان لسحرًا [1]
وكأنه كره ذلك، فشبهه بالسحر، ولذلك قال في خبر آخر: البذاء والبيان
شعبتان من النفاق، وفي حيث آخر: (إن الله يكره لكم البيان كل البيان) [2] ، ولذلك
قال الشافعي - رحمه الله -: ما أجد من المسلمين مَن يطيع الله عز وجل فلا
يعصيه، ولا أحد يعصي الله عز وجل فلا يطيعه، فمن كان طاعاته أغلب من
معاصيه فهو عدل، وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله، فلئن تراه عدلاً في حق
نفسك، ومقتضى أخوتك أولى، وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه يجب
عليك السكوت بقلبك، وذلك بترك إساءة الظن، فسوء الظن غيبة بالقلب، وهو
منهي عنه أيضًا، وحَدّه أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على
وجه حسن، فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة، فلا يمكنك أن لا تعلمه، وعليك أن
تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفَرُّسًا،
وهو الذي يستند إلى علامة، فإن ذلك يحرك الظن تحريكًا ضروريًّا لا يقدر على
دفعه، وإلى ما منشؤه سوء اعتقادك فيه، حتى إذا صدر منه فعل له وجهان فيحملك
سوء الاعتقاد فيه أن تنزله على الوجه الأردأ من غير علامة تخصه بها، وذلك
جناية عليه بالباطن، وذلك حرام في حق كل مؤمن، إذ قال صلى الله عليه وسلم: إن
الله حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء
(هو في مسلم بلفظ آخر) وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن
أكذب الحديث، أي حديث النفس. وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس، وقال
صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث الذي ذُكِر آنفًا: ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا
تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا
يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. رواه مالك وأحمد والشيخان
والترمذي، والتجسس يكون في تطلع الأخبار، وتعرف الأسرار بالواسطة،
والتحسس يكون بالمراقبة بالعين، واستراق السمع بالنفس لا بالواسطة، والتناجش
هو أن تستام السلعة بأكثر من ثمنها ليراك الآخر فيقع فيها، فستر العيوب
والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين، وقد وُصف الله تعالى بالستر والتجاوز
والمَرضيّ عنده التخلق بأخلاقه، فإذا كنت تحب أن يرضى فيتجاوز عنك فتجاوز
أنت عمن هو مثلك أو فوقك، وما هو بكل حال عبدك ولا مملوكك. وقد روي أن
عيسى عليه السلام، قال للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا، وقد
كشفت الريح ثوبه عنه، قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته، قالوا:
سبحان الله! من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع الكلمة في أخيه فيزيد عليها،
ويشيعها بأعظم منها.
واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما ورد في
الصحيحين وغيرهما، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به
ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوي والعيوب ولو ظهر منه
نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه، فما أبعده عن الإنصاف إذا كان ينتظر
منه ما لا يضمره له، ولا يعزم عليه لأجله، وويل له بنص كتاب الله تعالى حيث
قال: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو
وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1-3) وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما
تسمح به نفسه، فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية، ومنشأ التقصير في ستر العورة
أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد؛ فإن الحقود
الحسود يملأ بطنه بالخبث، ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له
مجالاً، وإذا وجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء، ويترشح الباطن بخبثه
الدفين، ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى، قال بعض الحكماء:
(ظَاهِرُ العِتَاب خَيْرٌ مِنْ مَكْنُونِ الحِقْدِ، ولا يزيد لُطف الحقود إلا وحشة منه،
ومَنْ في قلبه سخيمة على أخيه فإيمانه ضعيف، وأمره مخطر، وقلبه خبيث لا
يصلح للقاء الله تعالى) اهـ بتصرف
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الحديث عند أحمد والبخاري وأبي داود والترمذي، وسببه أنه لما جاء وفد تميم كان فيهم الزبرقان وعمرو بن الأهتم، فخطبا ببلاغة وفصاحة، ثم قال الزبرقان: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم، والمطاع فيهم، والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم، وآخذ بحقوقهم، وهذا يعلم ذاك، فقال عمرو: إنه شديد المعارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذينه، فقال الزبرقان: والله لقد علم مني أكثر مما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟ فوالله إنه للئيم الحال، حديث المال، ضعيف الطعن، أحمق الولد، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولاً، وما كذبت فيما قلت أخرًا، ولكني رجل إن أُرضيت قلت أحسن ما علمت، وإن أغضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحرًا.
(2) هذا الحديث رواه ابن السني وهو ضعيف، والذي قبله رواه الترمذي وحسنه، والمراد بالبيان المذموم: بيان الخلابة الذي يُري الحق باطلاً والباطل حقًّا، فينخدع به الناس.(2/407)