وقال تعالى: (أو لامستم النساء) المائدة6. وقال تعالى: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) النساء21. ومن الكنايات قوله: والله لا اجتمع رأسي ورأسكِ أما لو قال: والله لا كسوتكِ أو لا أطعمتك لم يكن مولياً بصريح ولا كناية لأن ذلك لا يتضمن ذكر الجماع.
ولو قال: إن وطئتكِ فعبدي حرٌّ فزال مِلكه عنه زال الإيلاء لأنه لا يلزمه بعد زوال ملكه عن العبد شيء. ولو قال: إن وطئتك فعبدي حرٌّ عن ظهاري وكان قد ظاهر فمولٍ لأنه وإن لزمه العتق عند الظهار فتعجيله وربطه بمعين زيادة زيادة التزمها بالوطء على موجب الظهار وإلا أي وإن لم يكن ظاهر فلا ظهار ولا إيلاء باطناً لكذبه ويحكم بهما ظاهراً فيحكم بالظهار لإقراره ويحكم بالإيلاء بوقوع العتق عن الظهار ولو قال: إن وطئتكِ فعبدي حرٌّ عن ظهاري إن ظاهرتُ فليس بمولٍ حتى يظاهر لأنه لا يلزمه شيء بالوطء قبل الظهار.
أو قال: إن وطئتكِ فضرتك طالق فمولٍ أي فإن وطيء المُولي منه طلقت الضرة لأنه علق طلاقها بصفة فوجدت الصفة وزال الإيلاء والأظهر أنه لو قال لأربع: والله لا أجامعكن فليس بمولٍ في الحال لأن المعنى لا أطأ الأربعة فإن جامع ثلاثاً منهن فمولٍ من الرابعة لحصول الحنث بوطئها فلو مات بعضهن بعضهن قبل وطء وزال الإيلاء لانحلال يمينه لعدم جماع إحداهن أو أكثر ولو قال: لا أجامع كل واحدة منكن فمولٍ من كل واحدة في الحال لأن تقدير الكلام لا وطئتكن ولا واحدة منكن فإن فإن ثبت هذا ففإنه يتربص بهن أربعة أشهر فيأتيهن طالبته فإن لم يطلقها ولكن وطئها فقد أوفاها حقها وسقط حكم الإيلاء أما إن طلقها ولم يطأها لم يسقط حق الباقيات والفرق أن اليمين واحدة فإذا انحلت في واحدة فقد انحلت في الجنيع بخلاف الطلاق مثل أن يقول: والله لا كلمتُ واحدة منكنَّ ثم كلَّمَ واحدة منهن فإنه يحنث ويسقُطُ حكُمُ اليمينِ وتنحلُ هذه اليمين.
ولو قال: لا أجامع إلى سنة إلا مرة فليس بمولٍ في الحال في الأظهر لأنه لا يلزمه بالوطء مرةً شيء فإن وطِيء وقد بقي منها أي السنة أكثر من أربعة أشهر فمولٍ لأنه لو وطِيء في بقية السنة لحصل الحنث.
? فصل في ضرب مدة الإيلاء ?
يمهل أربعة أشهر من الإيلاء بلا قاضٍ. قال الشافعي: ولا سبيل على المُولي لامرأته حتى تمضي أربعة أشهر ولا مطالبة للزوجة عليه في مدة الرتبص بفئية ولا طلاق إلى أن تنقضي. روى الشافعي عن سليمان بن يسار أنه قال: (أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يوقف المولي) أي لا يكون الإيلاء طلاقاً حتى يقف المولي إما يراجع وإما يطلق آلى منها يبتدأ الإمهال من حين الرجعة لا من حين الإيلاء لأنها قد تبين منه ولو ارتدَّ أحدهما أي الزوجين بعد دخول في المدة انقطعت مدة الإيلاء لأن النكاح يختلّ بالردة فلا يحسب زمن الردة من مدة الإيلاء فإن أسلم المرتدُّ استؤنفت المدة ولا يحسب منها قبل الردة لأن الإضرار إنما يحصل بالامتناع المتوالي في نكاح مدة أربعة أشهر وما يمنع الوطء ولم يُخلَّ بنكاح إن وجد فيه أي الزوج لم يمنع المدة كصوم وإحرام ومرض وجنون سواء قارن الإيلاء أو حدث بعده فلا يحسب منه أو فيها وهو حسيٌ كصغر ومرض منع أي إذا كان المانع لصغرها أو مرضها الذي يمنع الوطء فإنه يمنع ابتداء مدة التبرص وإن حدث في المدة أي مانع الوطء كنشوزها قطعها فإن زال استؤنفت المدة زلا تبني على مضى لانتفاء التوالي المعتبر في حصول الإضرار وقيل تُبْنى عليه المدة السابقة أو شرعي كحيض وصوم نفلٍ فلا أي لا يقاطع المدة بل يحسب زمنه منها لأن المرأة لا تخلو من حيض عادة وإن كان الصوم نفل فهو قادر على تحليلها ووطئها ويمنع فرضٌ في الأصح وقيل لا يمنع صوم الفرض لتمكنه من الجماع ليلاً. فإن وطِيءَ في المدة انحل الإيلاء وإلا وإن لم يطأ فلها مطالبته بأن يفيء أي يرجع إلى وطئها أو يطلق للآية (للذين يؤلون من نساهم تربص أبرعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) البقرة227،226. ولو تركت حقها فلها المطالبة بعده لأنها حاجة متجددة وتحصل الفيئة بتغييب حشفة بقبل فلا يكفي ما دونها ولا تغييب بدبر لأنه مع حرمته لا يحصل به الغرض ولا مطالبة إن كان بها مانع وطءٍ كحيض ومرضٍ لأنه يمكنه وطؤها لو اختاره وإن كان فيه مانع طبيعي كمرض يمنع الوطء أو يُخافُ منه زيادة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/2)
المرض أو بُطء البرء طولب بالفيئة باللسان بأن يقول: إن قدرت فئت أو طلقت أو شرعي كإحرام فالمذهب أنه يطالب بطلاقٍ لأنه الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله أما الوطء فحرام فلو طلبه حَرُمَ عليه تمكينه منه. فإن عصى بوطء سقطت المطالبة وانحلت اليمين لأنها وصلت إلى حقها. وإن أبى الفيئة والطلاق فالأظهر أنم القاضي يطلق عليه طلقة لأنه حقٌّ تدخله النيابة لمعين وهو الزوجة فإن امتنع المستَحقُ عليه وهو الزوج قام القاضي مقامه وقيل لا بل يحسبه القاضي ويضيق عليه حتى يطلق لقوله تعالى: (وإن عزموا الطلاق) فأضاف الطلاق إلى الأزواج وهذا يدل على أن القاضي لا يطلق ولما روى ابن ماجة عن ابن عباس (الطلاق لمن أخذ بالساق). والزوج هو الذي يأخذ بالساق وليس الحاكم. وأنه لا يُمْهَلُ ثلاثة أيام لفيء أو يطلق لما في ذلك من زيادة الضرر وأنه إذا وَطِيء بعد مطالبة لزمه كفارة يمين وإن كان حلفه بالله تعالى لحنثه أما إن كان حلف بالتزام قربى تخير بين ما التزمَهُ وكفارة يمين أو علقه بنحو طلاق وقع لوجود الصفة.
? كتاب الظهار ?
والظهار مشتق من الظهر وإنما خص الظهر من بين أعضاء البدن لأن كلَّ مركوب يسمى ظهراً لحصول الركوب على ظهره فشبهت الزوجة به وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقاً وكذلك في أول الإسلام ثم نقل في الشرع إلى التحريم والكفارة والأصل فيه قوله تعالى: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنَّ أمهاتهم) المجادلة2.
وقوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا) المجادلة3. وأخرج الحاكم وابم ماجه عن عائشة (أن خولة بنت مالكٍ بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوسُ بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه فذكرت أموراً وقلت: قَدُمَتْ منه منه صحبتي ونثرت له كنانتي ولي منه صبيةٌ إن ضمَّهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا أشكو إلى الله عجزي وكبري ورسول الله يجادلني فيه ويقول: (اتقِ الله فإنه ابن عمك) فما برحت حتى نزل القرآن (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) المجادلة1، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعتق رقبة، قُلتُ: لا يجد، قال: (فيصوم شهرين متتابعين)، قلت: يا رسول الله ما به من صيام، قال: (فليطعم ستينَ مسكيناً)، قلت: ما عنده شيء يتصدق به، فأتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَرَقٍ من تمر، قلت: يا رسول الله وأنا أعنيه بعَرَق آخر، قال: (قد أحسنت اذهبي فأطعمي منه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمكِ)) والعرق زنبيل كبير يصنع من خوص وأصل الحديث في البخاري ولم يذكر اسم المرأة.
وقيل الظهار محرم لأن الله قال: (وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً) المجادلة2، أي أن الزوجة لا تكون محرمة كالأم والظهار يصح في كل زوج مكلف ولو ذمي. قال تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا) المجادلة3، ولم يفرق بين حر وعبد ومسلم وذمي. (وخصي) ومجبوب وممسوح وعنيّن كالطلاق. وظهار سكران كطلاقه فيصح ظهار السكران لتعديه وصريحه أن يقول لزوجته: أنتِ عليَّ أو مني أو معي أو عندي كظهر أمي أي في التحريم وكذا أنتِ كظهر أمي صريح على الصحيح لأن المتبادر إلى الذهن أنه قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي. وقوله: جسمكِ أو بدنكِ أو نفسك كبدن أمي وجسمها أو جملتها صريح لتضمنا للظهر والأظهر أن قوله: أنتِ عليَّ كيدها أو بطنها أو صدرها ظهارٌ وقيل ليس بظهار لأنه ليس على صورة الظهار المعهودة في الجاهلية الحاكمين بأنه طلاق وقد أبطل الله الحكم دون الصورة فقال: (الذين يظاهرون من نسائهم) المجادلة2. وكذا كعينها إن قصد ظهاراً كان ظهاراً وإن قصد كرامة فلا يكون ظهاراً.
وكذا لا يكون ظهاراً إن أطلق في الأصح محلاً على الكرامة وقوله رأسك أو ظهرك أو يدك عليَّ كظهر أمي ظهار في الأظهر وإن لم يقل عليَّ ويظهر أنه يلحق بالظهر كل عضو ظاهر ليس باطن وقيل ليس بظهار لأنه ليس على صورة الظهار المعهودة في الجاهلية والتشبيه بالجدة ظهار كأن قال: أنتِ عليَّ كظهر جدتي وسواء في ذلك الجدة من قبل الأب أو من قبل الأم والمذهب طَرْدُهُ في كل مَحْرَمٍ لم يطرأ تحريمها كبنته وأخته ومرضعة أبيه أو أمه وزوجة أبيه التي نكحها قبل أن يولد المظاهِر. لا مرضعة له وزوجةَ ابنٍ له أيضاًً لطروء التحريم وكذا أم زوجته وقيل ليس بظهار لأنه ليس على الظهار المعهود عندهم ولو شبه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/3)
زوجته بأجنبية ومطلقة وأخت زوجة وأب وملاعَنَةٍ له فلغو لأن الثلاثة الأول لا يشبهان الأم في التحريم المؤبد والأب ليس محلاً للاستمتاع وتحريم الملاعنة للمقاطعة لا للصلة. ويصح تعليقه أي الظهار كقوله: إن ظاهرت من زوجتي الأخرى فأنتِ عليَّ كظهر أمي فظاهر من زوجته الأخرى صار مظاهراً منهما عملاً بالتنجيز في التي ظاهر منها وبالتعليق في الأخرى ولو قال: إن ظاهرتُ من فلانة وفلانة أجنبية فخاطبها أي الأجنبية بظهار لم يصح مظاهراً من زوجته إلا أن يريد اللفظَ أي يريد إن خاطبتُ فلانةً بالظهار فأنتِ عليَّ كظهر أمي فيقع الظهار. فلو نكحها وظاهر منها بعد نكاحها صار مظاهراً من زوجته الأولى لوجود المعلق عليه ولو قال: إن ظاهرت من فلانة الأجنبية فزوجتي عليَّ كظهر أمي فكذلك أي إن خاطبها قبل نكاحها لم يكن مظاهراً من زوجته إلا أن يريد اللفظ وقيل لا يصير مظاهراً منها حتى وإن نكحها وظاهر منها بعد نكاحها لأنها ليست بأجنبية حين الظهار فلم يوجد المعلق عليه. وإن قال: إن ظاهرت منها وهي أجنبية فأنت عليَّ كظهر أمي فلغو لأنه تعليق بمستحيل وذلك لقوله وهي أجنبيةٌ.
ولو قال: أنتِ طالق كظهر أمي ولم ينوِ أو نوى الطلاق أو الظهار أو هما أو الظهار بأنت طالق والطلاق بكظهر أمِّي طلقت ولا ظهار فوقع الطلاق لأنه صريح في حكم الزوجية فلم يصرْ كناية في حكم آخر من الزوجية ولا يقع الظهار لأنه لم يأتِ به مستقلاً ولم ينوهِ ولم يقل قبله أنتِ أما إذا كان الطلاق بائناً فلم تعد محلاً للظهار فلا يقع. أو نوى الطلاق بأنت طالق أو لم ينوِ به شيئاً أو نوى به الظهار والظهار أي ونوى الظهار بالباقي وهو كظهر أمي طلقت قطعاً وحصل الظهار إن كان طلاق رجعة لأن الظهار يقع على الرجعية ويحمل الكلام على تغدد الخبر فيجعل طالق وظهر أمي خبرين عن أنتِ وأما قوله أنت عليَّ حرام كظهر أمي ونوى بمجموعه الظهار فمطاهر لأن لفظ أنتِ عليَّ حرام مع نية الظهار ظهار فمع اللفظ أولى كما أنه إن قال: أنتِ عليَّ حرام ونوى الطلاق فهي كصريح الطلاق.
? فصل فيما يترتب على الظهار من تحريم ?
على المظاهر كفارة إذا عاد لقوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) المجادلة3. فقد أوجب الله الكفارة بالظهار والعود والعود هو حل الاستمتاع وهو أن يمسكها بعد ظهار زوجة زمن إمكان فرقة لأن العود في الشيء مخالفته ونقضه فيكون العود أن يمسكها بعد الظهار زوجة زمناً يمكنه أن يُطلَّقها فيه فلا يطلِّق.
فلو اتصلت به أي بالظهار فرقة بموت أو فسخ أو طلاق باين أو رجعيولم يراجع أو جُنَّ فلا عود لتعذر الفراق بسبب الجنون ولعدم المراجعة في الأول وكذا لو ملكها أو لاعنها في الأصح لأنه لو ملكها لانقطع النكاح بالملك ولأن الفرقة في المُلاعَنَة تقع باللفظة الخامسة من لاعنه (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) النور5، بشرط سبق القذف والرفع إلى القاضي ظهارَهُ في الأصح وقيل لا يشترط حتى لو اتصل مع كلمات اللعان مع كلمة الظهار لم يكن عائداً ولو راجع من طلقها أو ارتدَّ متصلاً بالظهار بعد الدخول ثم أسلم بعد ردته في العدة فالمذهب أنهما قد اجتمعا على النكاح فعاد الظهار وأحكامه أنه عائد بالرجعة لا بالإسلام بل بعده والفرق أن الرجعة إمساك في ذلك النكاح أما الإسلام بعد الردة فتبديل للدين الباطل بالحق فلا يحصل به إمساك وإنما يحصل بعده ولا تسقط الكفارة بعد العود بفرقة سواء فرقة الطلاق والموت لأ، التحريم حصل في النكاح الأول وقد قال تعالى: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) المجادلة3. ويحرم قبل التكفير ويحرم وَطْءٌ لأن الله تعالى أوجب التكفير قبل الوطء فقال: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) المجادلة3. وقال: (فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) ويقدر من قبل أن يتماسا في الإطعام حملاً للمطلق على المقيد للاتحاد الواقعة. وكذا لمس ونحوه في الأظهر لأن ذلك يدعو إلى الوطء قلت: الأظهر الجواز والله أعلم لأن التماس في الآية محمول على الوطء.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/4)
ويصح الظهار المؤقت موقتاً عملاً بالتأقيت كقوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي سنةً أو شهراً أو يوماً وفي قول يصح ظهاراً مؤبداً ويلغو التأقيت وفي قول هو لغو لأنه إذا لم يصح التشبيه بمن تحرم عليه على التأبيد لم يصر مظاهراً لأنه شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد وإنما تحرم عليه إلى وقت وهي مطلقته ثلاثاً. فعلى الأول والأصح وهو صحة الظهار المؤقت كما في حديث سلمة بن صخر (أنه ظاهر من امرأته شهر رمضان) رواه الترمذي عن سلمة بن صخر البياضي وحسنه. أن عوده لا يحصل بإمساك بل بوطء في المدة لتحصيل المخالفة لقوله ويجب النزع بمغيب الحشفة لحرمة الوطء قبل التكفير كما لو قال لزوجته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً فبمجرد الوطء بانت منه فوجب النزع حالاً والوطء المعتبر ما كان بتغييب الحشفة ولأن استمرار الوطء وطءٌ ولو قال لأربع نسوة: أنتن عليَّ كظهر أمي فمظاهر منهن فإن طلقهن فلا كفارة عليه فإن أمسكهن فأربع كفارات تجب عليه لوجود الظهار والعود في حق كل واحدة منهن فلا يرتفع التحريم بكفارة واحدة. وفي القديم كفارة واحدة باعتبار أن الظهار يمين بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأوس بن الصامت: (كفِّر عن يمينك) ورواه البيهقي من رواية سعيد بن المسيب فلزمه بمخالفتها كفارة واحدة كالإيلاء.
? كتاب الكفارة ?
والكفارة من الكَفر وهو المحو وعدم المؤاخذة أو الستر ومنه الكافر لأنه يستر الحق بالباطل ومن سمي الزارع كافراً لأنه يتسر الحب. قال تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) الحديد20.
وهل الكفارات زواجر كالحدود والتعازير أو جوابر للخلل، الراحج أنها جوابر للخلل لأنها عبادة تفتقر للنية كسجود السهو. وكفارة الظهار يشترط نيتها لا تعنيها بأن ينوي أن يعتق أو يصوم أو يطعم ولا يشترط تعينها بأن تقيد بالظهار أو غيره كما لا يُشْتَرط بالزكاة تعين المال المُزكَّى بجامع أن الكفارة والزكاة عبادة مالية.
وخصال كفارة الظهار عتق رقبة مؤمنة بلا عيب يخل بالعمل والكسب فيجزيء صغير أقرع وأعرج يمكنه تِبَاعُ مشي وأصم وأخرش وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه لأن كلاً من الصفات المذكورة لا تخل بالعمل والكسب. والأخشم هو فاقد حاسة الشمِّ. قال تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) المجادلة3،4.
وقال تعالى في كفارة القتل (فتحرير رقبة مؤمنة) النساء92. فحمل الشافعي المطلق في آية الظهار بالمقيد بالمؤمنة في آية كفارة القتل.
وأخرج أبوداود وغيره عن أبي هريرة (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إن عليَّ رقبةً مومنة، فقال لها رسول الله: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء يعني أنت رسول الله – فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) لا زَمِن ومنه المشلول والمسلول وكل صاحب مرض لا يُرجى برؤه ولا فاقدُ رِجْلٍ أو خِنْصَرٍ وَبِنْصَرٍ من يد أو أنملتين من غيرهما قلت أو أنملة إبهام والله أعلم ولا هَرمٌ عَاجزٌ لإخلال كل الصفات المذكورة بالعمل والكسب ولا يجزيء فاقد يدٍ ولا فاقد أصابع يدٍ ويجزيء فاقد خنصرٍ من يدٍ وبنصر من الأخرى ويجزيء أنملة من غير الإبهام.
ولا بجزيء مَنْ أكثرُ وقْتِهِ مجنونٌ ومريضٌ لا يُرْجَى فإن بَرَأ بأن الأجزاء في الأصح فإذا كان زمن الإفاقة في الجنون أكثر من ومن الإطباق جاز ولا يجزيء شراء قريب بنية كفارة كأحد والديه أو أحد أولاده ونوى أن يعتق عن الكفارة وعتَقَ عليه ولم يجزئه عن الكفارة لأن تحريره وجب بالشرع فلم يقع عنها. ولا أمَّ ولد وذوي كتابة صحيحة لأن عتق أمِّ ولد مستحقٌ بالإستيلاء والمكاتب عتقه مستحق بسبب سابق عن الكفارة فلم يجزيء عنها. ويجزيء مدبر ومعلق بصفة لجواز التصرف بهما فإن أراد جعل العتق المعلق كفارة عند حصول صفة التعليق لم يجزْ بأن يقول إن دَخلتَ الدار فأنتِ حرٌ ثم يقول: إن دخلت الدار فأنت حرٌ عن كفارتي لأن عتقه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/5)
مستحق بالتعليق وله تعليق عتق الكفارة بصفة كأن يقول ابتداءً إن دخلت الدار فأنت حرٌّ عن كفارتي فيعتق بالدخول. وله إعتاق عبديه عن كفارتيه عن كُلٍ منهما نصف ذا العبد ونصف ذا العبد فإن فعل وقع العتق كذلك لحصول المقصود من إعتاق العبدين عن الكفارتين. ولو أعتق معسرٌ نصفين عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما حراً لأنه بإعتاق النصفين جاء بواحدة كما أنه أكمل حريتهما معاً فكملت بعتقه أحكام حريتيهما. ولو أعتق بغوض لم يجز عن الكفارة لعدم تجرد العتق للكفارة حيث أضاف إليها عوضاً والإعتاق بمال كطلاق به فهو من جانب المالك معاوضة فيها شائبة تعليق ومن المستدعي معاوضة فيها شائبة جعالة فلو قال: أعتق أمَّ ولدك على ألف فأعتق نفذ الإعتاق ولزمه العوض المذكور وكان ذلك إفتداءً من الأجنبي كاختلاع الأجنبي. وكذا لو قال: أعتق عبدك على كذا فأعتق نفذ العتق ووجب العوض في الأصح لالتزامه به. وإن قال: أعتقه عني على كذا ففعل عتق عن الطالب وعليه العوض والولاء للمعتَقِ عنه وإن كان عليه كفارة وأعتقه المالك عنه أجزأ المعتَقَ عنه عن كفارته وكان الولاء له. والأصح أنه يملكه عقب لفظ الإعتاق ثم يعتق عليه لتأخر العتق عن الملك ومن ملك عبداً أو ثمنه فاضلاً عن كفاية نفسه وعياله نفقة وكسوة وسكنى وأثاثاً لابد منه لزمه العتق بخلاف من لا يملك أو ملك عبداً وهو محتاج إلى خدمته لمرض أو كبر سنٍّ ولا يجب بيع ضيعة أرض أو عقار ورأس مال للتجارة لا يفضل دخلهما أي الضيعة ورأس مال التجارة عن كفايته ليشتري عبداً يعتقه عن الكفارة ولا يجب بيع مسكن وعبد نفيسين ألفهما في الأصح لعسر مفارقة المألوف ولا شراء عبد بغَبْنٍ كأن وجد عبداً فأبى سيده بيعه إلا بثمن أكبر من المألوف وأظهر الأقوال اعتبار اليسار الذي يلزم به الإعتاق بوقت الأداء للكفارة لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها كوضوء وتيمم وقيام في الصلاة وقعود فيها فاعتبر وقت الأداء فإن عجز عن عتق صام شهرين متتابعين بالهلال بنية كفارة إن كان قادراً على الصوم قال تعالى: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) المجادلة4.
ولا يشترط نية التتابع في الأصح إكتفاءً بالتتابع الفعلي ولأن التتابع شرط في العبادة فلا تجب نيته كستر العورة في الصلاة فإن كان قد نوى الصوم عن الكفارة أول ليلة من الشهر صام شهرين متتابعين هلالين سواء كانا تامّين أو ناقصين أو كان أحدهما تاماً والآخر ناقصاً لأن الله أوجب صيام شهرين وإطلاق الشهر ينصرف إلى الهلالي قال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) البقرة189. وأخرج البخاري عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهر هكذا وهكذا وأومأ بأصابع يديه وحبس إبهامه في الثلاثة كأنه يعد ثلاثين). وأتمَّ الأول من الثلاث ثلاثين تاماً كان أو ناقصاً لأنه لما فاته شيء من الشهر الأول يصمه ولم يُمكن اعتباره بالهلال فاعتبر بالعدد فإن كان صام ستة صام أربعة وعشرين من الثالث.
ويفوت التتابع بفوات يوم بلا عذر وكذا بمرض في الجديد لأن المرض لا ينافي الصوم وقد أفطر باختياره لا بحيض في كفارة المرأة إن كفرت عن القتل لأنها أفطرت في الشرع وكذا جنون على المذهب لمنافاته للصوم كالحيض فإن عجز عن صيام بهرم أو مرض قال الأكثرون: لا يرجى زواله أو لحقه في الصوم مشقة شديده أو خاف زيادة مرض كفّرَ بإطعام ستين مسكيناً أو فقيراً لأنه أسوأ حالاً من المسكين لا كافراً ولا هاشمياً ولا مطلبياً كالزكاة ستين مُدّاً مما يكون فِطرةً. قال تعالى: (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) المجادلة4. أي يطعم ستين مسكيناً كلَّ مسكين مُدّاً من طعام. وروى الترمذي وحسنه من حديث سلمة بن صخر البياضي (فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من التمر) وقيل لو عجز عن الجميع استقرت في ذمته وقيل تسقط الكفارة.
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[21 - 07 - 07, 02:57 ص]ـ
الجزء الخامس عشر
? كتاب اللعان ?
اللعان مشتق من اللعن واللعن هو الطرد والإبعاد فسُمِّي المتلاعنان بذلك لأن في الخامسة اللعنة والأصل فيه قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) النور6.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/6)
وأخرج البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين هلال بن أمية وامرأته). وأخرج البخاري عن سهل بن سعد (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته).
واللعان يسبقه قذف وصريحه أن القذف (الزنى كقوله لرجل أو امرأة: زنيتَ أو زنيتِ أو يا زاني أو يا زانية) لشهرة ذلك بين الناس وتكراره والرمي بإيلاج حشفة في فرج مع وصفه بتحريم أي وصف الإيلاج بالتحريم أو دبر صريحان أي هو رمى صريح لأن ذلك لا يقبل تأويلاً وزنأت في الجبل كناية وكذا زنأت فقط في الأصح لأن أصل الزنء هو الصعود وزنأت في الجبل أي صعدت فيه ومثله زنأت دون ذكر الجبل لأن ظاهره يقتضي الصعود وزنيت في الجبل صريح في الأصح لأن اللفظ لا ينصرف عادة إلى غير الزنى وقوله: يا فاجرُ يا فاسقُ ولها يا خبيثةُ وأنتِ تحبين الخلوة ولقرشي أو عربي يا نبطي ولزوجته لم أجدك عذراء كناية لاحتمال القذف وغيره وقوله: يا نبطي هو قذف لأم المخاطب وهم قوم ينزلون في البطائح في العراق بين العرب والعجم فإن أنكر إرادة قذف صدق بيمينه أنه لم يرد القذف وقوله لآخر: يا ابن الحلال وأما أنا فلستُ بزانٍ ونحوه كقوله: أمي ليست بزانية وأنا لستُ من أهل اللواطة تعريض ليس بقذف وإن نواه لأن اللفظ إن لم يشعر بالنوي لم تؤثر النية فيه وإنما تؤثر فقط إذا احتمل اللفظ المنويَّ. وقوله لامرأته وأجنبية: زنيتُ بكِ إقرار بزنا على نفسه وقذف في المخاطبة ولو قال لزوجته: يا زانية فردت عليه فقالت: زنيتُ بك أو أنتَ أزنى منّي فقاذف وكانية فهو قاذف لصراحة لفظه فيه وهي كانية لاحتمال قولها إني لم أفعل كما لم تفعل أو تريد أن تقول: ما وطئني غيرك ووطؤك مباح فإن كنتُ زانيةً فأنت أزنى منّي لأني ممكنةٌ وأنت فاعلٌ. فلو قالت: زنيت وأنت أزنى منّي فمقرّةٌ بالنى عن نفسها وقاذفة لزوجها وقولُهُ: زنى فرجلٌ أو ذَكَرُكَ قذفٌ لأن المذكور آلة الوطء أو محله والمذهب أن قوله زنى يدك وعينُكَ ورجلك ولولده لستَ منّي أو لستَ ابني ولولد غيره لستَ ابن فلان صريح إلا المنفي بلعان لأن زنى الأعضاء قد يعني اللمس والمشي والنظر فقد روى مسلم من حديث ابن عباس (كتب على ابن آدم حظه في الزنى أدرك ذلك لا محالة العينان تزنيان واليدان تزنيان) وروى ابن حبان من حديث أبي هريرة (بلفظ العينان تزنيان واللسان يزني واليدان تزنيان) وأصله في الصحيحين. وأما قوله لابنه: لستَ مني ولستَ ابني فغالباً ما يريد به أنه ليس على سيرته وإنما يراد بتلك الكلمة الزجر أما في الأجنبي فلا يوجد ذلك عادة وأما في الملاعن فيقبل قوله أنه لا يشبه أبيه خُلُقَاً أو خَلْقَاً أو إن أراد شرعاً وقد نفاه المُلاعِنُ فيصدق بيمينه.
ويحد قاذف محصن ويعزر غيره قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) النور4. وأما قاذف غير المحصن فيعزر كالعبد والصبي والذمي والزاني لما في ذلك من الإيذاء.
والمحصن مكلف أي بالغٌ عاقلٌ حرٌّ مسلم عفيف عن وطء يُحدُّ به كوطء زوجته المعتدة عن وطء شبهة أو وطء زوجته وأمته في الحيض أو النفاس أو الإحرام أو الاعتكاف أو المظاهر منها قبل التكفير وفي النكاح الفاسد كنكاح بلا ولي ولا شهود ونكاح الشغار والرجعية في العدة وبصورة عامة لا يسقط الحصانة إلا ما أوجب الحدَّ. وتبطل العفة بوطءِ مُحْرَمٍ مملوكاً على المذهب كأخته أو عمته أو خالته من نسب أو رضاعة لا زوجته في عدة شبهة وأمة ولده ومنكوحته بلا ولي في الأصح وإن كان ذلك محرماً عليه لقيام الملك في الأولى وثبوت النسب فيما بعدها إذا حصل علوق في ذلك الوطء. ولو زنا مقذوف سقط الحدُّ عن قاذفه لأن الزنا يخلصه من القذف حيث أن الإحصان لا يستيقن بل يظن أو ارتدَّ فلا يسقط الحدُّ والفرق أن الزنا يكتم عادة فظهوره يدل على سبق مثله والردة عقيدة والعقيدة لا تخفى غالباً فإظهاره لا يدل على سبق الإخفاء
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/7)
ومن زنا مرة ثم صلح لم يعد محصناً فلا يحدُّ قاذفه لأنه أسقط حصانته بالقذف وحد القذف يُوْرَثُ ويسقط بعفو لأنه حق آدمي لتوقف استيفائه على مطالبةِ الآدمي به وحق الآدمي يُورَث ويسقط بالعفو والأصح أنه يرثه كلُّ الورثة وذلك إذا مات المقذوف قبل أن يستوفي حقه كالمال والقصاص وأنه لو عفا بعضهم فللباقين كلُّه لأنه حق ثبت لهم جميعاً فإذا تركه بعضهم ثبت للباقين كولاية التزويج والشفعة ولا يكون كالقصاص إذا عفا البعض سقط لأن للقصاص بدل ولا بدل لحد القذف.
? فصل قذف الزوج ونفي الولد ?
له قذف زوجة علم زناها أو ظنه ظناً مؤكداً كشياع زناها بزيد مع قرينة بأن رآها في خلوة فقد أخرج مالك في الموطأ عن سهل بن سعد الساعدي (أن عويمراً العجلاني أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً لو وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك اذهب فأت بها فأتى بها فتلاعنا) فإذا زنت الزوجة فقد أفسدت على الزوج فراشه وخانته فيما أتمنها عليه وربما ألحقت به نسباً ليس منه ولو أتت بولد وعلم أنه ليس منه لزمه نفيه وإلا كان بسكوته مستلحقاً ولداً ليس منه ولا يجوز ذلك كما أنه يحرم عليه نفي من هو منه وطريق نفيه اللعان المسبوق القذف إن أراد نفيه ولم ينتفِه بالنية لأن الشهود لا سبيل لهم إلى ذلك. وإنما يُعْلَمُ ذلك أن الولد ليس منه إذا لم يطأ أصلاً أو وطيء وولدته لدون ستة أشهر من الوطء وهي أقل مدة الحمل أو فوق أربع سنين والتي هي أكثر مدة للحمل فلو ولدته لما بينهما أي ستة أشهر وأربعة سينين ولم تستبريء بعد الوطء بحيضة حرم النفي للولد باللعان رعلية للفراش ولا عبرة لريبة يجدها في نفسه. فقد روى أبوداود والنسائي عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجلاً جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الخلائق)).
وإن ولدته لفوق ستة أشهر من الاستبراء بحيضة حلَّ النفي في الأصح قالوا: إذا ولدته لأكثر من ستة أشهر بعد الاستبراء من بدء الحيض جاز نفيه لأن الاستبراء إمارة ظاهرة على أنه ليس منه، وقيل يسنُّ عدم النفي لأن الحامل قد تحيض. قال النووي في الروضة: أنه إذا رأى بعد الاستبراء قرينة بزناها لزمه نفيه لغلبة الظنِّ بأنه ليس منه ولو وطيء وعزل حرم النفي على الصحيح فإن كان يجامع ارمرأته ويعزل عنها وهو: أنه إذا أراد الإنزال نزع وأنزل الماء بعد النزع فأتت بولد لمدة الحمل لحقه ولا يجوز له نفيه لما روي (أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نصيب السبايا ونحب الأثمان أفنعزل عنهن فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا قضى خلق نسمته خلقها)) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وفي لفظ مسلم (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة). ولو علم زناها واحتمل كون الولد منه ومن الزنا حرم النفي رعاية للفراش وكذا يحرم القذف واللعان على الصحيح لأن القذف لنفى الولد وقطع النكاح وقد حصل الولد ويمكن قطع النكاح بالطلاق وقيل له أن يلاعن لأن الله تعالى قال: (والذين يرمون أزواجهم) النور6 ولم يفرق بين أن يكون وطئها أو لم يطأها كما يجوز ذلك انتقاما منها لأنها لطخت فراشه وأفسدت عليه نكاحه وقيل لا لتضرر الولد بنسبته إلى أمه إذ يعير بذلك وتطلق فيه الألسنة.
روى الشيخان عن أبى هريرة (أن رجلا جاء إلى النبى فقال إن امرأتى ولدت غلاما أسودا قال هل لك من إبل؟ قال نعم قال فما ألوانها؟ قال حمر قال هل فيها من أورق قال نعم قال فأنى أتاها ذلك قال عسى أن يكون نزلة عرق قال فلعل هذا نزعة عرق) والأورق جمل أبيض يخالط بياضه سواد.
? فصل فى كيفية اللعان وشروطه وثمراته ?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/8)
اللعان قوله أى الزوج أربع مرات أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميت به هذه من الزنا ويشير إلى زوجته والأصل فيه قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم بكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادةأحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليهإن كان من الكاذبين) النور6 - 7. فإن غابت سماها ورفع نسبها بما يميزها عن غيرها والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا ويشير إليها إن كانت حاضرة ويميزها بالإسم واللقب لينتفى الإلتباس كما فعل فى الكلمات الأربع لأن الخامسة مؤكدة للكلمات الأربع قبلها ويأتى بصيغة المتكلم فيقول لعنة الله علىّ إن كنت من الكاذبين وإن كان ولد ينفيه ذكَرَه فى الكلمات الخمس لينتفى عنه فقال وأن الولد الذى ولَدَتْهُ أو هذا الولد من زنا ليس منى ولو قال من زنا ولم يقل ليس منى لم يكف لإحتمال أن يعتقد أن الوطء فى النكاح بلا ولى زناً ولا يكفى قوله ليس منى لاحتمال أن يقصد أنه لا يشبهه خلقاً ولا خلقاً وتقول هى:أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنا والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيه وتشير إليه إن كان حاضراً وتميزه فى الغيبة فى الكلمات الخمس وتأتى فى الخامسة بضمير المتكلم فتقول غضبُ الله علىّ إن كان من الصادقين.
ولو بدل لفظ شهادة بحلف ونحوه كأن قال أحلف بالله أو أقسم بالله أو اُولى بالله أو غضب بلعن وعكسه أى بأن تذكر المرأة اللعن ويذكر الرجل الغضب أو ذكرا اللعن أو الغضب قبل إتمام الشهادات لم يصح ذلك فى الأصح لأنه ترط المنصوص عليه إلى غيره ويشترط فيه أمر القاضى لأنه يمين فلم تصح إلا بحضرة القاضى او نائبه كما فى سائر الدعاوى ويلقَّنُ كلماته أى يلقن الرجل والمرأة كلمات اللعان وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحد الذى وجب عليها بلعان الزوج ويلاعن أخرس بإشارة مُفهمة أو كتابة فالأخرس الذى له إشارة مفهمة أو كان يحسن الكتابة فحكمه حكم الناطق فيصح بيعه وشراؤه ونكاحه وطلا قه وقذفه ولعانه ويصح القذف بالعجمية لأنه يمين يصح بالعجمية مع القدرة على العربية كسائر الأيمان وفيمن عرف العربية وجه أنه لا يصح بالعجمية لعدوله عما ورد الشرع به مع القدرة عليه. ويغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر جمعة لأنه أفضل الأزمنة. قال تعالى: (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمانم بالله) المائدة 106 قال أهل التفسير هو بعد العصر لأن فى الزمان تأثير فى اليمين وقد روى البخارى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم رجل حلف بعد صلا العصر يمينا فاجرة ليقتطع بها مال إمريْ مسلم ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر لقد أُعطى بسلعته أكثر مما أُعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماءٍ فإن الله تعالى يقول:اليوم امنعُك فضلى كما منعتً فضل مالم تعمله يداك) متفق عليه من حديث أبى هريرة. ويستحب أن يشهد الرجل وهو قائم لقلوه صلى الله عليه وسلم: (قُمْ يا هلال فاشهد) وإذا أرادت المرأة أن تلاعن قامت لقوله صلى الله عليه وسلم: (قومي فاشهدي). ومكان وهو أشرف بلدة بمكة بين الركن الذي فيه الحجر الأسود والمقام أي مقام إبراهيم ويسنى الموضع الذي بينهما بالحطيم والمدينة عند المنبر فقد روى البيهقي من حديث عبدالله بن جعفر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته على المنبر).
وروى ابن وهب في موطئه عن شهاب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الزوج والمرأة فحلفا بعد العصر على المنبر). وروى الشيخان عن أبي هريرة (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة). وبيت المقدس عند الصخرة لأنها قبلة الأنبياء فهي أشرف بقاع بيت المقدس وغيرها عند منبر الجامع لأنه المعظم فيه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/9)
وحائض بباب المسجد وذمي في بيعة وكنيسة وكذا بيت نار مجوسي في الأصح لأن الحائض لا يحل لها دخول المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض). وبالنسبة للكافرين فيلاعنون عند الموضع الذي يعظمونه فاليهود في الكنيسة والنصارى في البيعة والمجوس في بيت النار وقيل تكون ملاعنتهم في المسجد أو في مجلس الحكم لأنه لا حرمة لبيت النار لأن المقصود الزجر عن الكذب فيكون في مكان معظم ليرتدع لا بيت أصنام وثني لأنه لا حرمة له واعتقادهم فيه غير شرعي فلا رعاية له وجمع أقله أربعة قال تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) النور2. وقد روى اللعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة: سهل بن سعد وابن عمر وابن عباس وكان هؤلاء أحداث لا يحضرون المجالس إلا تبعاً لغيرهم وروى البخاري وأحمد عن سهل بن سعد قال: (حضرته وكان لي خمسَ عشرة سنةً وحضرته مع الناس).
والتغليظان سنة لا فرض على المذهب كتغليظ اليمين بتعدد أسماء الله تعالى. ويسن للقاضي وعظهما ويبالغ عند الخامسة فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: (حسابكما على الله والله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب)).
وروى أبوداود عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقِ الله يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة). وروى النسائي من حديث كليب بن شهاب عن ابن عباس (أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده عند الخامسة على فيه فيقول إنها موجبة) أي موجبة للنار.
وأن يتلاعنا قائمين لأنه أبلغ فقد روى البخاري وغيره عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته فقال له: قُمْ فاشهد أربعاً وذكر اللعن في الخامسة ثم قال لها: قومي فاشهدي أربعاً وذكر الغضب في الخامسة ثم فرّق بينهما).
وشرطه زوج يصح طلاقه فلا يصح لعان أجنبي لأن الله سبحانه وتعالى أوجب الحدَّ في القذف إن لم يأتِ ببينة وذلك يشمل الزوج وغيره فقال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأجلدوهم ثمانين جلدة) النور4.
ثم خصَّ الزوج بدفع الحدّ باللعان فقال: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات) النور6.
ولو ارتدَّ بعد وطء فقذف وأسلم في العدة لاعَنَ لأن رجوعه إلى الإسلام في العدة يبين أن القذف واللعان صادفا الزوجية فصح اللعان ولو لاعن ثم أسلم أي إذا لاعن في الردة ثم أسلم في العدة صح لعانه لأنه صادف النكاح.
أو أصرَّ على الردة حتى انقضت العدة صادف لعانُه بينونة لوجود الفرقة حال الردة ويتعلق بلعانه فرقة وحرمة مؤبدة لما روى البيهقي في السنن الكبرى والدارقطني في السنن عن ابن عمر (المتلاعنان لا يجتمعان أبداً) وتكون الحرمة مؤبدة (وإن أكذب نفسه) للحديث السابق (المتلاعنان لا يجتمعان أبداً) وهذا نص لوم يفرق بين من أكذب نفسه وبين غيره ويتعلق بلعانه أيضاً سقوط الحدِّ عنه أي حد قذفها للآية (والذين يرمون أزواجهم) النور6. ووجوب حدِّ زناها إن لم تلاعن وانتفاء نسبٍ نفاه بلعانه لما روى الشيخان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين هلال بن أمية وامرأته وفرّق بينهما وقضى أن لا يُدْعى الولد لأب وأنها لا ترمي ولا ولدها فمن رماها أو ولدها فعليه الحدُّ).
وإنما يحتاج إلى نفي ممكن منه فإن تعذر أن يكون الولد منه بأن ولدته لستة أشهر من العقد أو طلق في مجلسه أي مجلس العقد أو نكح وهو بالمشرق وهي بالمغرب وثبت انتفاء إمكان الاجتماع في المدة المذكورة لم يلحقه لاستحالة كونه منه وله نفيه ميتاً لأن النسب لا ينقط بالموت والنفي على الفور في الجديد كالردِّ بالعيب لأنه شرع لدفع ضرر محقق فكان على الفور ويعذر الملاعن لعذر كأن بلغه الخبر ليلاً أو كان جائعاً أو غائباً أو محبوساً فإن كان خائفاً أو محبوساً بعث إلى القاضي ليبعث إليه نائباً ليلاعن عنده وله نفي حمل وانتظار وضعه ليتحقق من كونه ولداً لا ريحاً فبلاعن على يقين وينفي الولد كما في خبر الصحيحين أن هلال بن أمية لاعن على الحمل.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/10)
ومن أخرّ نفي الولد وقال: جهلت الولادة صدق بيمينه إن كان غائباً وكذا الحاضرُ يصدق في مدة يمكن جهله فيها كأن كانا في منطقتين متباعدتين بخلاف ما لو كانا في دار واحدة فإنه لا يصدق ولو قيل له مُتعتَ بولدك أو جعله الله لك ولداً صالحاً فقال آمين أو نعم تعذر نفيه لتضمن إجابته الإقرار بالولد والإقرار لا يرتفع بالنفي وإن قال: جزاك الله خيراً أو بارك عليك فلا يمتنع النفي لأن هذا الجواب لا يتضمن الإقرار بالولد وله اللعان مع إمكان وجود بينة لزناها لأن كلاً منهما حجة ولها اللعان أيضاً لدفع حد الزنا الذي وجب عليها بلعانه قال تعالى: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) النور8.
? فصل فى نفي النسب ?
له اللعان لنفي ولد وإن عَفَتْ عن الحدِّ وزال النكاح بطلاق أو خلع بل يجب عليه اللعان إن علم أن الولد ليس منه لحديث هلال بن أمية (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بينهما على الحمل قبل وضعه) ولدفع حد القذف عنه. روى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية: (البينة أو حدٌّ في ظهرك)). وإن زال النكاح ولا ولد بينهما ولتعزيره أي لدفع التعزير عن نفسه بأن كانت الزوجة غير محصنة كأمة أو ذمية أو صغيرة يمكن جماعها إلا تعزير تأديب لكذب معلوم كقذف طفلة لا توطأ أي لا يمكن وطؤها أو قذف كبيرة ثبت زناها بالبينة ويسمى هذا التعزير تعزير تأذيب لأن التعزير فيه للسب والإيذاء.
ولو عَفَتْ عن الحدِّ أو أقام البينة بزناها أو صدّقته هي ولا ولد ولا حمل ينفيه أو سكتت عن طلب الحدّ أو جنت بعد قذفه فلا لعان في الأصح ولا ولد في هاتين الصورتين فلا يلاعن لعدم الحاجة للعان لسقوطه أو لعدم طلبه أما إذا كان فله اللعان لنفيه قطعاً. ولو أبانها بطلاق أو فسخ أو ماتت ثم قذفها بزنا مطلق أو مضاف إلى وقت ما بعد النكاح لاعن إن كان ولد يلحقه بحكم النكاح ويريد نفيه. فإن أضاف إلى ما قبل نكاحه فلا لعان إن لم يكن ولد في الأصح ولكنه يُحَدُّ بقذف أجنبية. لكن له إنشاء قذف غير مقيد بزمن ويلاعن لنفي النسب ويسقط عنه بلاعنه حدُّ القذف ولا يصح نفي أحد التوأمين لأنه لا يجوز أن يكون بعض الحمل منه وبعضه ليس منه فالتوأمان من ماء واحد فلو استلحق أحد توأمين لحقه الآخر ولا يُلْحَقُ ما أقرّ به بالمنفي لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يُحْتَاطُ لنفيه.
? كتاب العدد ?
العِدد: مأخوذ من العَدد لاشتمالها على عدد من الأقراء والأشهر وشرعاً: اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو لتفجعها على زوجها.
عدة النكاح ضربان: الأول متعلق بفرقة هي بطلاق أو فسخ كلعان ورضاع وإنما تجب بعد وطء أو استدخال مينه وإن يتَقَن براءة الرحم كما في الصغيرة والآيسة تعبداً بخلاف ما قبل الوطء فلا تجب عليها العدة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً) الأحزاب49. فإنه سبحانه لما لم يوجب عليها العدة بعد المسيس لا بخلوة في الجديد لمفهوم الآية (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) الأحزاب49، فلم يقِّرق أن يكون خلا بها أو لم يخلو بها ولأنها خلوة عريت عن الإصابة فلم يتعلق بها حكم كالخلوة في غير نكاح.
وعدة حرة ذات أقراء ثلاثة أقراء وإن اختلفت مدتها وتطاول ما بينها. قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) البقرة228. والقرء الطهر والقرء في اللغة يقع على الطهر والحيض وهو من أسماء الأضداد وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم كلَّ واحد منهما قُرءاً فقال لفاطمة بنت أبي حبيش: (دعي الصلاة أيام أقرائك) رواخ مسلم وغيره عن عائشة أي اتركي الصلاة أيام الحيض وقال لابن عمر حين طلق زوجته وهي حائض (وإنما السنة أن تطلقها في كلِّ قُرْءٍ طلقة) وأندبه الطهر رواه مسلم عن ابن عمر وأصل القرء في اللغة الجمع يُقال: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته ويسمى الحوض المقرأة ومذهب الشافعي أن المقرء المراد في الآية (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) البقرة228، هو الطهر فقد أدخلاهاء في قوله ثلاثة قروء والهاء إنما تدخل على المذكر دون المؤنث فلو أراد الحيض لقال: ثلاث لأنه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/11)
يقال ثلاث حيضات أو ثلاث حيض ويقال ثلاث أطهار. لأن الله قال: (فطلقوهن لعدتهن) الطلاق1، أي في وقت عدتهن ولا خلاف أن الطلاق الشرعي هو حالة الطهر.
فإذا طلقت طاهراً انقضت عدتها بالطعن في حيضة ثالثة. قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) البقرة228, لحصول الأقراء الثلاثة في ذلك بأن يحسب ما بقي من الطهر الذي طلقت فيه قرءاً لأن العرب تسمي اليومين وبعض الثلاثة ثلاثة فيقولون: لثلاث ليالٍ خلون وهو في بعض الثالثة وكقوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) البقرة197، ومعلوم أن أشهر الحج شوال وذي القعدة وبعض ذي الحجة أو طلقت حائضاً فتنقضي عدتها إذا طعنت في رابعة إذ أن الطهر الأخير إنما يتبين كماله فيما يعقبه وهو الحيضة الرابعة وفي قول يشترط يوم وليلة بعد الطعن في الحيضة الثالثة في الحالة الأولى والطعن في الحيضة الرابعة في الحالة الثانية وهل يحسب طهر من لم تحض قرءاً أي من لم تكن تحيض ثم حاضت في أثناء عدتها بالأشهر قولان بناءً على أن القُرء انتقال من طهر إلى حيض أم هو طُهر محتوَشَ بدمين. وإذا قلنا بالأول قتنقضي عدتها بالطعن في حيضة ثالثة وإذا قلنا بالثاني فلا يحسب طهرها هذا وإنما تنقضي عدتها بالطعن في حيضة رابعة والثاني أظهر وكذا ما يُبنى عليه فلا يحسب طهرها المذكور قرءاً.
وعدة المستحاضة بأقرائها المردودة إليها حيضاً وطهراًُ فترد المعتادة إلى عادتها في الحيض والطهر والمميزة إلى التمييز الفاصل بينهما والمبتدأة ترد في قول إلى أقل الحيض وهو يوم وليلة وفي قول آخر إلى غالبه وهو ستة أوسبعة وفي الطهر إلى باقي الشهر أي إلى الثلاثين يوماً من حين رأت الدم فتنقضي عدتها بثلاثة أشهر عددية أي تسعون يوماً.
ومتحيرة ثلاثة أشهر هلالية في الحال. قال تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) الطلاق4. لاشتمال كل شهر على طهر وحيض فإن بقي من الشهر الذي طلقت فيه أكثر من خمسة عشر يوماً عُدَّ قُرءاً لاشتماله لعى طهر لا محالة وتعتد بعده بهلالين أما إذا بقي خمسة عشر يوماً فأقل لم تحسب تلك البقية لاحتمال أنها حيض فتبتديء العدة من الهلال وقيل بعد اليأس وهذا مردود بطول الانتظار والضرر في ذلك وأمُّ ولد ومكاتبة ومن فيها رقٌّ تعتدُّ بقرأين كالغبد الخالص (القن). وإن عنقت الأمة في عدة رَجْعَةٍ كملت عدة حرة في الأظهر لأن الرجعية زوجة فكأنها عتقت قبل الطلاق أو عتقت في عدة بينونة فأمة في الأظهر لأن البائن كالأجنبية لقطع الميراث وعدة حرة لم تحض أو يئست من المحيض بثلاثة أشهر قال تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) الطلاق4. فإن طلقت في أثناء شهر فبعده هلالان وتكمل المنكر ثلاثين كما تقدم فإن حاضت فيها وجبت الأقراء لأن الأقراء هي الأصل في العدة وقد قدرت عليها قبل الفراغ من بدلها. قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) البقرة228،. وأمة بشهر ونصف إن يئست أو لم تحض لأنها على النصف من الحرة كالحد فقد روى البيهقي في السنن عن علي (تعتد الأمة بحيضتين إن كانت من ذوات الأقراء وإن كاتنت من ذوات الشهر فشهرٌ ونصف). وفي قول شهران لأنهما مقابل قرأين وقول ثلاثة تشبيهاً بالحرة لأن الأمر يتعلق بالطبع فلا يختلف بين الحر والعبد ومن انقطع دمها بعلة كرضاع ومرض تصبر حتى تحيض أو تيأس فتعتد بالأشهر. فقد أخرج البيهقي في السنن وابن أبي شيبة في المصنف (أن حبان بن منقذ طلق امرأته طلقة واحدة وكانت له منها ابنةٌ ترضع فتباعد حيضها فمرض حبان بن منقذ فقيل له إن متَّ ورثتك فمضى إلى عثمان وعنده على وزيد بن ثابت فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد ما تريان في ذلك؟ فقالا: نرى أنها إن ماتت ورثها وإن مات ورثته لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض فرجع حبان إلى أهله فانتزع ابنته فعاد إليها الحيض فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة فورّثها عثمان) وإن تباعد حيضها لغير عارض يعرف فقال فب الجديد تقعد إلى اليأس من الحيض ثم تعتد بالأشهر قال تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن اربتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) الطلاق4، أو لعلة فكذا في الجديد وفي القديم تتربص تسعة أشهر لأن التسعة الأشهر غالب مدة الحمل فإن لم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/12)
يتبين بها حمل فالظاهر براءة الرحم وهذا أرفق بها وأبعد عن الضرر. وفي قول أربع سنين لأنه اليقين في براءة الرحم ثم تعتد بالأشهر قال الشافعي: وكان عمر يقضي به بين المهاجرين والأنصار ولم يُنْكَرْ عليه. فعلى الجديد لو حاضت بعد اليأس في الأشهر وجبت الأقراء لأنها الأصل أو بعدها أي بعد الأشهر فأقول أظهرها إن نكحت فلا شيء عليها وصح النكاح وإلا أي إن لم تنكح فالأقراء واجبة في عدتها والمعتبر في سن اليأس يأس عشيرتها وفي قول كلُّ النساء للاحتياط وطلباً لليقين قلت ذا القول أن كل النساء أظهر والله أعلم.
? فصل في العدة ?
عدة الحامل بوضعه بشرط نسبته إلى ذي القعدة ولو احتمالاً كمنفي بلعان قال تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) الطلاق4. وانفصال كله حتى ثاني توأمين فلا تنقضي العدة بانفصال الأول منهما ومتى تخلل بين وضع التوأمين دون ستة أشهر فتوأمان أي حمل واحد وتنقضي بحيث أي تنقضي العدة بوضع الحمل ميتاً لا علقةٌ لأنها لا يتيقن أنها أصل ولد وبمضغة فيها صورة آدمي خفية أخبر بها القوابل فإن لم يكن صورة وقلن أي القوابل هي أصل آدمي انقضت على المذهب لحصول براءة الرحم به ولو ظهر في عدة أقراء أو أشهر حمل للزوج اعتدت بوضعه ولا اعتبار لما مضى من الأقراء أو الأشهر لوجود الحمل ولو ارتابت فيها أي في العدة لم تنكح حتى نزول الريبة فإن نكحت فالنكاح باطل للشك في انقضاء العدة. أو بعدها أي بعد انقضاء العدة وبعد نكاح استمر النكاح إلا أن تلد لدون ستة أشهر من عقده أي من عقد النكاح فإنه يحكم ببطلان هذا العقد أو بعدها أي ارتابت بعد العدة قبل نكاح فلتصبر ندباً لزوال الريبة احتياطاً فإن نكحت ولم تصبر فالمذهب عدم إبطاله أي النكاح في الحال لعدم وجود المبطل فإن عُلِمَ مُقْتَضِيه أي البطلان بأن ولدت لأقل من ستة أشهر أبطلناه أي حكمنا ببطلانه لتبين فساده ولو أبانها فولدت لأربع سنين فأقل ولم تتزوج بغيره لحقه المولود وبان وجوب سكناها ونفقتها أو لأكثر من أربع سنين من وقت البينونة فلا يلحقه الولد ولو طلق زوجته رجعياً فولدت لأربع سنين وأقل لحقه الولد وحسبت المدة أي السنين الأربع من وقت الطلاق لأن الرجعية كالبائن في تحريم الوطء وفي قول تحسب المدة من انصرام العدة أي انقضاؤها لانسحاب أحكام الزوجية على الرجعية في الطلاق والإيلاء والإرث والظهار فكذا يكون في لحوق الولد ولو نكحت بعد العدة فولدت لدون ستة أشهر من النكاح فكأنها لم تنكح أي من حيث لحوق الولد وعدمه ويكون الولد للأول إن كان لأربع سنين فأقل من طلاقه أو لأكثر لم يلحقه وإن كان وضع الولد لستة أشهر من النكاح فالولد للثاني لقيام فراشه وإن أمكن كونه من الأول ولو نكحت في العدة رجلاً آخر نكاحاً فاسداً فولدت للإمكان من الأول بأن ولدته لأربع سنين فأقل من الطلاق ولدون ستة أشهر من وطء الثاني لحقه أي لحق الولد الزوج الأول وانقضت عدتها من الأول بوضعه ثم تعتد للثاني لأن وطأه وطأَ شبهة أو أتت بالولد إمكان أن يكون منهما بأن وضعته لأربع سنين من الأول ولستة أشهر من الثاني عرض على قائف فإن ألحقه بأحدهما فكالإمكان منه فقط أي في حكم الولد.
? فصل في تداخل العدتين ?
لزمها عدتا شخص واحد من جنس واحد بأن طلق ثم وطيء في عدة أقراء أو أشهر جاهلاً كأن نسي طلاقها أو ظنها زوجته الأخرى أو وطيء جاهلاً أو عالماً في رجعتيه تداخلتا أي العدتان عدة الطلاق وعدة الوطء فتبتديء عدة من الوطء بالأقراء أو الأشهر ويدخل فيها بقية عدة الطلاق وتلك البقية واقعة عن الجهتين: الطلاق والوطء وله الرجعة فيها إن كان الطلاق رجعياً أما بعدها فليس له الرجعة لأنها بانت منه. فإن كانت العدتان من جنسين كإن كانت أحدهما حملاً والأخرى أقراءً كأن وطئها وهي حامل أو وطئها في العدة فحملت تداخلتا في الأصح فتنقضيان بوضعه ويكون واقعاً عنهما جميعاً. ويراجع قبله إن كان الطلاق رجعياً وقيل إن كان الحمل من الوطء في العدة فلا يراجع بناءً على انقطاع عدة الطلاق بالوطء. أو لزمها عدتان لشخصين بأن كانت في عدة زوج أو شبهة فَوطِئت لشبهةٍ أو نكاح فاسد أو كانت زوجة معتدة عن شبهة فطلقت فلا تداخل لتعدد المستحق للعدة بل تعتد لكل منهما عدة كاملة فإن كان حمل قدمت عدته سواء كان الحمل سابقاً أو لاحقاً لأن عدة الحمل لا تحتمل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/13)
التأخير لارتباطها بالحمل. وإلا أي وإن لم يكن حمل فإن سبق الطلاق وطء الشبهة أتمت عدته لسبقها وقوة عدة الطلاق ثم عقب عدة الطلاق استأنفت العدة الأخرى أي عدة الشبهة وله الرجعة في عدته أي عدة الطلاق إذا كان الطلاق رجعياً.
فإذا راجع انقضت عدتها منه وشرعت حينئذ في عدة الشبهة ولا يستمتع بها الزوج ما دامت في عدة الشبهة لأنها معتدة من غيره حتى تقضيها أي تقضي العدة وإن سبقت الشبهة الطلاق قُدِّمتْ عدة الطلاق لقوتها كما ذكرنا وقيل تقدم عدة الشبهة لسبقها.
? فصل في حكم معاشرة المفارق ?
عاشرها كزوج بلا وطء في عدة أقراء أو أشهر فأوجه أصحه ا إن كانت بائناً انقضت عدتها وإلا أي وإن لم تكن بائناً فلا تنقضي عدتها لأنها بالمعاشرة تشبه الزوجات دون المطلقات ولا رجعة بعد انقضاء الأقراء والأشهر وإن لم تنقض بهما العدة قلت ويلحقها الطلاق إلى انقضاء العدة تغليظاً عليه لتقصيره وقولُهُ إلى انقضاء العدة أي إلى وقت التفريق بينهما ويلزمها بعد ذلك التفريق عدة كاملة وليس لها أن تتزوج فيها وتتداخل فيها عدة طلاق قبل التفريق ولو عاشرها أجنبي من غير وطء إنقضت عدتها مع معاشرته لها والله أعلم أما لَو وَطِئها وهو عالم فهو زانٍ.
ولو نكح معتدةً بظنِّ الصحة ووطيء انقطعت عدتها من حين وطيء لكونها فراشاً بالوطء وفي قول من العقد لأنها بالعقد معرضة عن العدة وتعود إلى عدتها من حين التفريق بينهما ولو راجع حائلاً ثم أطلق استأنفت عدة جديدة لأنها بالرجعة عادت إلى النكاح وفي القديم تبني على عدتها السابقة إن لم يطأ بعد الرجعة أو راجع حاملاً ثم طلقها فالبوضع تنقضي عدتها سواء وطيء أم لم يطأ. فلو وضعت ثم طلق بعد الوضع استأنفت عدة بالأقراء وقيل إن لم يطأ بعد الوضع فلا عدة بناءً على أن الحامل تبني لتعذر بناء الأقراء على الحمل والراجح هو أنها تستأنف عدة ولو خالع موطوأة ثم نكحها في العدة ثم وطيء ثم طلق استأنفت عدة لأجل الوطء ودخل فيها البقية من العدة لأنها انقطعت بمجرد العقد عليها وتتداخل العدتان لأنهما من شخص واحد.
?فصل في عدة الوفاة ?
عدة حرة حائل لوفاة وإن لم توطأ أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها. قال تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) البقرة234، ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة وأمة نصفها وهو شهران وخمسة أيام بلياليها لأنها على النصف من الحرة وروى الشيخان وغيرهما عن أم عطية (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَ على ميت فوق ثلاث إلا المرأة على زوجها فإنها تُحِدُ عليه أربعة أشهر وعشراً)). وإن مات عن رجعية انتقلت إلى عدة وفاة أو مات عن بائن فلا تنتقل إلى عدة وفاة بل تكمل عدة الطلاق وحامل بوضعه قال تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) الطلاق4، ولم يفرق أن تضع لأربعة أشهر وعشرٍ أو لأقلَّ فقد روى الشيخان عن أم سلمة (أن سُبيعة الأسلمية وضعت بعد زوجها بليال فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حللت فانكحي من شئت الأزواج)) بشرطه السابق من انفصاله كله ونسبته إلى صاحب العدة. فلو مات صبي عن حامل فبالأشهر تكون عدتها لأن الحمل منفي عنه ولا يمكن نسبته إليه لأنه لم ينزل. وكذا ممسوح أي مقطوع الذكر والأنثيين إذا مات اعتدت زوجته بالأشهر إذ لا يلحقه الولد على المذهب لأنه لم تجرِ العادة أن يُخلق له ولدٌ حيث أنه لا ينزل ويلحق مجيوباً بقي أنثياه لبقاء أوعية المني وقد تستدخل فيه فيكون الحمل من غير إيلاج فتعتد به أي بوضع الحمل وكذا مسلول حصيتاه بقي ذكره لأنه قد يبالغ في الإيلاج فيلتذ فيكون حمل فإن العدة تكون بوضع الحمل.
ولو طلق إحدى امرأتيه ومات قبل بيان أو تعيين فإن كان لم يطأ اعتدتا لوفاة لأن كل احدة منهما يحتمل أن تكون في عدة طلاق أو في عدة موت بأربعة أشهر وعشراً احتياطاً وكذا إن وطيء وهما ذواتا أشهر أو أقراء والطلاق رجعي لأن الرجعية تنتقل إلى عدة الوفاة فإن كان الطلاق بائناً إعتدت كلُّ واحدة بالأكثر من عدة وفاة وثلاثة من أقرائها احتياطاً. وعدة الوفاة من الموت أي تحسب من الموت والأقراء تحسب من الطلاق فلو مضى قرءٌ أو قرأن اعتدت بالأكثر من عدة وفاة ومن قرأين أو قرء.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/14)
ومن مات أو انقطع خبره ليس لزوجته أن تنكح حتى يُتَيقن موته أو طلاقه قال في الجديد تتربص ولا تفسخ بل تصبر إلى أن تتيقن موت زوجها لما روى الدارقطني والبيهقي عن المغيرة بن شعبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (امرأة المفقود امرأته حتى يأْتِيَها زوجها) وروي: حتى يأتيها يقين موته). وقال عمر وعلي: (هذه امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق)، رواه عبدالرزاق في المصنف. وفي القديم تتربص أربع سنين ثم تعتد لوفاة وتنكح لما أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن ابن أبي ليلى (أن امرأة أتت عمر فقالت: زوجي خرج إلى مسجد أهله ففقد، فقال لها: تربصي أربع سنين، فتربصت ثم أتته فأخبرته، فقال: اعتدي بأربعة أشهر وعشرٍ، فلما انقضت أتت إليه فأخبرته، فقال لها: حللت فتزوجي. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة). فلو حكم على القديم قاضٍ نقض على الجديد في الأصح لأنه حكم مخالف للقياس الجلي لأنه لا يجوز أن يكون حياً في حكم حاله ميتاً في حكم زوجته. وروي أن الشافعي رجع عن القديم وقال في الجديد إذا حكم به قاضٍ (أي القديم) نقض قضاؤه.
ولو نكحت بعد التربص والعدة فبان ميتاً فصح على الجديد في الأصح لأنها خالية من الأزواج وأنه وقع موقعه ويجب الاحداد على معتدة وفاة لما أخرج أحمد في المسند عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَ على ميت فوق ثلاث إلا المرأة على زوجها فإنها تُحِدُ عليه أربعة أشهر وعشراً)). لا رجعية أي لا تُحِدُّ الرجعية لأنها تتوقع رجوع الزوج بل قيل عليها أن تتزين بما يدعو الزوج إلى رجعتها ويستحب الإحداد لبائن بخلع أو فسخ أو طلاق ثلاث وفي قول يجب عليها الإحداد كما في المتوفي عنها زوجها لإظهار الألم على الفرقة وجفاء الزوج. والإحداد هو ترك مصبوغ لزينة وإن خَشن لحديث أم عطية السابق: (كنا نُنهى أن نُحِدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، وأن نكتحل وأن نتطيب وأن نلبس ثوباً مصبوغاً) رواه الشيخان عن أم عطية وقيل يحل ما صُبغ غزله ثم نُسج لانتفاء الزينة فيه بخلاف ما صُبغ بعد النسج كالمعصفر والمزعفر وكل ما يدل على زينة مُلْفِتَةٍ يباح غير مصبوغ من قطن وصوف وكتان وكذا أبريسم أي حرير في الأصح إذا لم تكن فيه زينة ويباح مصبوغ لا يقصد لزينة كالأسود والأخضر والكحلي والأزرق وكل ما ليس عليه نقوش وزينة ظاهرة. ويحرم حُلي ذهب وفضة لما روى أبو داود وأحمد عن أمِّ سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل)). والممشق هو المصبوغ بالمغرة وهي الطين الأحمر ويستوي في الحلي الخلخال والسوار والخاتم لإطلاق الحديث. قال الإمام الغزالي يجوز لها التختم بخاتم الفضة وكذا يحرم لؤلؤ في الأصح لظهور الزينة فيه ويحرم طيب في بدن وثوب لحديث أمِّ عطية السابق ويحرم طيب في طعام وكُحْلٍ والضابط أن كل ما حرم على المُحْرِم من الطيب والدهن لنمو الرأس واللحية حَرُم هنا لكن لا فدية ويحرم اكتحال بإثمد إلا لحاجة كرمد وإن لم يكن فيه طيب. وروى الشيخان عن زينب بنت أمِّ سلمة قالت: (سمعتُ أمَّ سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينُها أفنكحلها؟ قال: لا مرتين أو ثلاثاً) ويحرم اسفيذاج وهو ما يصنع من الرصاص ويتخدم لتبييض الوجه ودُمامٌ وهو ما يسمى بالحمرة وخضاب حناءٍ ونحوه وأيضاً يحرم الخضاب بكافة الأصبغة المعروفة وكذلك الخضاب بالزعفران والورس ويحرم على المحدة تطريف أصابعها بالحناء وبغيرها وتصفيف شهر طرتها وحشو حاجبيها بالكحل وتدقيقهما بالحفِّ.
ويحل تجميل فراش وأثاث وتنظيف بغَسْلِ نحو رأس وقَلْمٍ لأظفار واستمداد لعانة ونتف إبط وإزالة وسخ قلت ويحل امتشاط بلا ترجيل شعر بنحو دُهْن وحمام إن لم يكن أي في الحمام خروج مُحرَّمٌ فإن كان هناك خروج محرم حَرُمَ الحمام ولو تركت الإحداد الواجب عليها كلَّ المدة أو بعضها عصت وانقضت العدة كما لو فارقت المسكن الذي يجب عليها ملازمته بلا عذر فإنها تعصي وتنقضي عدتُها بمضي المدة. قال تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) البقرة234.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/15)
وروى أحمد والشافعي وأبوداود ومالك عن الفريعة بنت مالك (أخت أبي سعيد الخدري) أنها قالت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: يا رسول الله إن زوجي خرج في طلب عبيد له هربوا فلما وجدهم قتلوه ولم يترك لي منزلاً افأنتقل إلى أهلي؟ فقال لها: نعم، ثم دعاها قبل أن تخرج من الحجرة فقال: اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أحله أربعة أشهر وعشراً) ولو بلغتها الوفاة بعد المدة أي بعد عدة الوفاة كانت العدة منقضية لمضي وقتها ولها أي المرأة إحداد على غير زوج من الموتى ثلاثة أيام فما دونها وتحرم الزيادة والله أعلم لحديث عائشة: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَ على ميت فوق ثلاث إلا المرأة على زوجها فإنها تُحِدُ عليه أربعة أشهر وعشراً)) رواه مسلم وغيره عن عائشة.
وروى البخاري عن زينب بنت أبي سلمة أنها قالت: (دخلت على أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب حين توفي أبوها أبوسفيان فدعت بطيب فيه خلوقٌ فأخذت منه فدلكته بعارضيها وقالت: والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَ على ميت فوق ثلاث إلا المرأة على زوجها فإنها تُحِدُ عليه أربعة أشهر وعشراً)).
? فصل في سكنى المعتدة ?
تجب سكنى لمعتدة طلاق ولو طلاق بائن قال تعالى: (ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) الطلاق1. إلا ناشزة وذلك بأن يقع طلاقها أثناء نشوزها فإنه لا سكنى لها في العدة حتة تعود للطاعة كما في النكاح ولمعتدة وفاة في الأظهر وفسخ على المذهب لحديث فريعة بنت مالك السابق وقيل لا سكنى لها ولا نفقة لقوله تعالى: (والذين يتوفون ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) البقرة234. فذكرت الآية العدة ولم تذكر السُكْنى. وتسكن في مسكن كانت فيه عند الفرقة. قال تعالى: (ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) الطلاق1. وقال تعالى: (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كنَّ أولات حمل فأجلهن أن يضعن حملهن) الطلاق6. وهذه في البائن لأنه شرط لها النفقة في الحمل وأما الرجعية فتجب لها النفقة في كل حال. أما نقله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس من بيتها الذي طلقت فيه فلأنها بذت على أهل زوجها. أي أفحشت في القول وفي رواية للبخاري أنها أي فاطمة كانت في مكان وحش مخيف فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم في الانتقال.
وليس للزوج وغيره إخراجها ولا لها خروج. قال تعالى: (ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) الطلاق1.
قلت: ولها الخروج في عدة وفاة وكذا باين في النهار لشراء طعام وغزل ونحوه وكذا ليلاً إلى دار جارة لغزل وحديث ونحوهما بشرط أن ترجع وتبيت في بيتها فقد روى الشافعي من طريق ابن جريح عن مجاهد (أن رجالاً استشهدوا بأحد فقال نساؤهم يا رسول الله إنا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا؟ فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن فإن كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها) وأخرجه عبدالرزاق في المصنف.
وروى أبوداود وابن حبان والحاكم عن جابر بن عبدالله قال: (طُلِقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تَجذُّ نخلاً لها فنهاها رجل فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكلات لذلك له، فقال: اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تصدقي منه أو تعملي معروفاً) والمعتدة لها أن تنتقل من المسكن لخوف من هدم أو غرق أو على نفسها أو تأذت بالجيران أو هم بها أذىً شديداً لحديث أبي داود عن عائشة قالت: (كانت فاطمة بنت قيس في مكان موحش فلذلك رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم) وفسر ابن عباس وغيره قوله تعالى: (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) بالبذاء على الأحماء وروى مسلم عن عائشة (أن فاطمة بنت قيس كانت تبذر على أحمائها فنقلها صلى الله عليه وسلم إلى بيت ابن أمِّ مكتوم) ولو انتقلت إلى مسكن فإذن الزوج فوجبت العدة قبل وصولها إلى البيت اعتدت فيه أي المسكن الذي نُقلت إليه على النص لأنها مأمورة على الإقامة فيه أو انتقلت بغير إذن الزوج ففي البيت الأول تعتد وإن لم تجب العدة إلا بعد وصولها للثاني لعصيانها وكذا لو أذن في النقلة ثم وجبت العدة قبل الخروج منه فتعتد فيه لأنه الذي وجبت فيه العدة ولو أذن في الانتقال إلى بلد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/16)
فكمسكن فيما ذكر فإن وجبت العدة قبل الخروج من البلد اعتدت في مسكنها منه أو بعد الخروج منه وقبل الوصول إلى الثاني فقيل الأول وقيل الثاني وبعد وصولها إلى الثاني فتعتد فيه أو في سفر حج أو تجارة ثم وجبت العدة في الطريق فلها الرجوع إلى الأول والمضي في السفر لأن في قطع الطريق مشقة فإن مضت أقامت فيه لقضاء حاجتها من غير زيادة بحسب الحاجة ثم يجب الرجوع بعد قضاء الحاجة لتعتد البقية في المسكن الذي فارقته لأنه الأصل ولو خرجت إلى غير الدار المألوفة فطلّق وقال ما أذنت في الخروج وقالت بل أذنت صدق بيمينه أنه لم يأذن وكذا يصدق وارثه بأنه لم يعلم بأن وارثه قد أذن في النقلة. ولو قالتْ: نقلتني، فقال: بل أذنت في الخروج لحاجة صدق على المذهب لأن الأصل عدم الإذن وقيل تصدق هي لأن الظاهر معها ومنزل بدوية وبيتها من شَعْرِ كمنزل حضرية فعليها ملازمته إلى انقضاء عدتها فإن ارتحل أثناء العدة قومها ارتحلت معهم وإذا كان المسكن له أي للزوج ويليق بها أي الزوجة تعين للعدة ولا يصح بيعه إلا في عدة ذات أشهر فكمستأجر لأن المدة معلومة وقيل باطلٌ لأنها قد تموت في المدة وقيل هو كبيع استثنى فيه المنفعة فهو باطل والأصح الأول أو مستعاراً لزمتها العدة فيه فإن رجع المعير في عاريته ولم يرضَ بأجرة المثل نقلت منه وجوباً للضرورة. وكذا هو حكم المستأجر انقضت مُدَتُهُ ولم يرضَ مالكُهُ بتجديد عقد الإجارة لما روى ابن حبان في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسه)) أو لها أي كان المسكن لها استمرت فيه وطلبت الأجرة من صاحب العدة لأن السُكْنى عليه. فإن كان مسكن النكاح نفيساً فله النقل إلى لائق بها لعدم وجوب النفيس عليه أو خسيساً فلها الامتناع من الإقامة فيه وطلب النقل إلى بيت لائق بها وليس له مساكنتها ولا مداخلتها لأنها أجنبية عنه لما روى أحمد من حديث عامر بن ربيعة (لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان) وروى الشيخان عن ابن عباس (لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم).
فإن كان في الدار محرم لها مميز أو له أنثى أو زوجة أخرى أو أمة أو امرأة أجنبية جاز لما روى الشيخان عن ابن عباس (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم). ولو كان في الدار حجرة فسكنها أحدهما والآخر سكن الأخرى فإن اتحدت المرافق كمطبخ ومستراح اشترط محرم حذراً من الخلوة وإلا بأن لم تتحد المرافق واختصت كل حجرة بمرافق فلا يشترط المحرم وينبغي أن يُغْلَق ما بينهما من باب وأن لا يكون ممر إحداهما أي الحجرتين بحيث يمر على الأخرى وحكم سُفْلٌ وعلو دار وحجرة أي إن كان في الدار علوٌ وسُفْلٌ يصلح كل واحدٌ لسكنى مثلها وبينهما باب فللزوج أن يُسْكِنَها في أحدهما ويسكن هو في الآخر كالدارين المتلاصقين والأولى أن يُسْكِنَها في العلو لئلا يمكنه الاطلاع عليها.
? باب الاستبراء ?
الاستبراء لغة طلب البراءة وشرعاً تربص الأمة مدة بسبب حدوث ملك أو زواله لمعرفة براءة الرحم وخلوه من الولد أو للتعبد.
يجب الاستبراء لسببين أحدهما مِلْكُ أمة بشراء أو إرث أو هبة أو سبي أو ردٍّ بعيب أو تحالف أو إقالة وسواء في الاستبراء بكرٌ من استبرأها البائع قبل البيع ومنتقلةٌ من صبي وامرأة وغيرها كصغيرة وآيسة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس (لاتوطأ حامل حتى تضع حملها ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) رواه أحدم في المسند وأبوداود في السنن عن أبي سعيد الخدري ويجب الاستبراء في مكاتبة عُجِّزت لعدم تمكنها عن النجوم فعاد الرقُّ إليها وكذا مرتدة في الأصح أي عادت للإسلام فيجب استراؤها لا من خلت من صوم واعتكاف وإحرام لأن حرمتها مؤقتة ل تخلُّ بالملك وفي الإحرام وجه أنه يجب استبراؤها بعد الحل كالردة لتأكد الحرمة بالإحرام ولو اشترى زوجته بأن كانت أمة فانفسخ نكاحها استحب الاستبراء وإنما استحب ذلك لمعنيين: أحدهما أنها قد تكون حاملاً وقت الشراء فلا تصير به أمَّ ولد وإذا حملت بعد الشراء صارت به أمَّ ولد فاستحب الاستبراء لتمييز حكمها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/17)
والثاني: أن الولد الذي حملت به قبل الشراء يملكه ويعتق عليه ويكون له عليه الولاء والولد الذي حملت به بعد الشراء لا يملكه ولا يعتق عليه ولا يثبت له عليه الولاء فاستحب الاستبراء لتمييز حكم الولد في ذلك في ذلك وقيل يجب الاستبراء لأنه ملك جديد وهو بعيد لأن الاستبراء لئلا يختلط الماء إن ويفسد النسب والماءان له. ولو ملك مزوجة أو معتدة لم يجب الاستبراء لانشغالها بغيره فإن زالا أي الزوجية والعدة وجب الاستبراء في الأظهر بأن انقضت العدة أو طلقت فبل الدخول فيجب الاستبراء لحدوث الملك وزوال مانع الوطء الثاني: زوال فراش عن أمة موطوءة أو مستولدة بعتق أو موت السيد فيجب عليها الاستبراء كما تجب العدة على المفارقة عن نكاح ولو مضت مدة استبراء على مستولدة ثم اعتقها سيدها أو مات عنها وجب عليها الاستبراء في الأصح كما تلزم العدة من زوال نكاحها قلت ولو استبرأ أمة موطوءة فاعتقها لم يجب إعادة الاستبراء وتتزوج في الحال والفرق بينها وبين المستولدة معلوم إذ لا تشبه هذه منكوحة والله أعلم لأن فرشها لا يزول بالاستبراء ويحرم تزويج أمة موطوءة ومستولدة قبل الاستبراء لئلا يختلط الماءان لأن مقصود التزويج الوطء فينبغي أن يستعقب استبراءً.
ولو اعتق مستولدته فله نكاحها بلا استبراء في الأصح لأن الماء لواحد ولو اعتقها أو مات وهي مزوجة فلا استبراء لأنها ليست فراشاً له بل للزوج وهو بقرء وهو حيضة كاملة في الجديد لحديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس (ولا حائل حتى تحيض حيضة) لأن القرء يراد لبراءة الرحم والحيض أدل على براءة الرحم ويخالف الأقراء في العدة فإنها تتكرر ويتخللها الحيض. فإذا كانت حال وجوب الاستبراء وحلت أما إذا كانت حال وجوب الاستبراء حائضاً لم تعتد ببقية الحيض قُرءاً فإذا طهرت وطعنت في الحيض بعده دخلت في القرء فإذا طهرت خرجت من الاستبراء وحلت.
وذات أشهر وهي الصغيرة والآيسة تستبرأ بشهر لأن كل شهر في مقابلة قُرء وفي قول بثلاثة أشهر لأن الماء لا يظهر أثره في الرحم في أقل من ثلاثة أشهر فهي أقل ما يدل على براءة الرحم فلا يختلف الحال بين الحرة والرقيقة وحامل مسبية أو زال عنها فراش سيد بوضعه أي بوضع الحمل. وإن ملكت بشراء وهي في نكاح أو عدة فقد سبق أن لا استبراء في الحال وأن الاستبراء يجب عد زوالها أي النكاح والعدة قلت: يحصل الاستبراء بوضع حمل زنا في الأصح لحديث أبي سعيد السابق (لا توطأ حامل حتى تضع) ولم يفرّق ولو مضى زمن استبراء بعد الملك وقبل القبض حُسِب إن مَلَكَ بإرث لأن المملوك به نازل منزلة المقبوض بدليل صحة بيعه وكذا شراء في الأصح لتمام الملك ولزومه لا هبة إذا مضى زمن الاستبراء لم يعتد به لتوقف المِلْك على القبض في الهدية ولو اشترى مجوسية فحاضت ثم أسلمت لم يكفِ لأن الاستبراء يجب أن يستتبع حل الاستمتاع فالمجوسية ليست أهلاً للوطء ويحرم الاستمتاع بالمستبرأة قبل انقضاء مدة الاستبراء إلا مسبية فيحل له منها غير الوطء لما روى الترمذي وغيره من حديث رويفع بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُسقِ ماءَكَ زرع غيرك)) قال الحاكم صحيح الإسناد. وقيل لا يحل الاسمتماع بها أيضاً وإذا قالت أمة في زمن استبرائها حضت صدقت لأنها لا يُعْلم ذلك إلا منها غالباً.
ولو مَنَعَت السيد من وطئها فقال هي أخبرتني بتمام الاستبراء صُدِّقَ السيد لأن أمر الاستبراء مفوض إلى أمانته ولا تصير أمةٌ فراشاً لسيدها إلا بوطء لا بملك إجماعاً. فإذا ولدت للإمكان من وطئه لحقه الولد وإن لم يعترف به لثبوت الفراش بالوطء لما روى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد بزمعة والد عبد بن زمعة لما قال له عبد: هو أخي وابن وليدة أبي وُلِدَ على فراشه، فقال صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر) ولو أقر بوطء ونفى الولد وادعى استبراءً لم يلحقه على المذهب لأن فراش النكاح أقوى من فراش التسري فلابدَّ من الإقرار بالوطء في حالة التسري فقد أخرج الشافعي عن خارجة بن زيد قال: (كان زيد بن حارثة يقع على جارية له بطيب نفسه فلما ولدت انتفى من ولدها). فإن أنكرت الاستبراء حُلِّف أن الولد ليس منه وقيل يجب تَعَرُّضهُ للاستبراء ليثبت بذلك دعواه ولو ادعت استيلاداً فأنكر أصل الوطء وهناك ولد لمْ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/18)
يُحلَّف على الصحيح لموافقته للأصل من عدم الوطء. ولو قالت وطئت وعزلت لحقه في الأصح لأن الماء قد يسبقه إلى الرحم وهو لا يُحسَّن به فقد أخرج الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه عبدالله بن عمر أن عمر قال: (ما بال رجال يَطَؤون ولائدهُم ثم يعتزلوهن لا تأتيني أمُّ ولد يعترف سيدها بأنه ألمَّ بها إلا ألحقت به ولدها فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن).
? كتاب الرضاع ?
هو بفتح أوله وكسره لغة اسم لمصِّ الثدي وشرب لبنه وشرعاً اسم لحصول لبن امرأة في جوف طفل فأركانه ثلاثة رضيع ولبن ومرضع والأصل فيه قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) النساء23.
وأخرج البخاري وغيره عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة)) وقد أخرج مسلم وغيره عن علي بن أبي طالب أنه قال: (قلت: يا رسول الله هل لك في ابنة عمك حمزة فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أما عملت أن حمزة أخي من الرضاع، وأن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب)).
والرضاع إنما يثبت بلبن امرأة حية بلغت تسع سنين فلا يثبت بلبن رجل لأنه لم يُخْلق لغذاء الولد ولا بلبن خنثى مالم تظهر أنوثته ولا بلبن بهيمة حتى إذا شرب منه صغيران ذكر وأنثى لم يثبت بينهما أخوة لأنه ليس كلبن الآدميات ولو حَلَبتْ فَأُجِرَ أي صُبَّ بعد موتها حرَّم في الأصح لانفصاله منها وهو حلال محترم ولو جُبِّنَ أو نزع منه زُبْدٌ حرَّم لحصول التغذي به ولو خُلِطَ بمائع حرّم إن غَلَبَ على المائع فإن غُلِبَ بأن زالت أوصافه أو شُرِبَ الكلُّ قيل أو البعض حرَّمَ في الأظهر لوصول اللبن إلى الجوف وقيل لايحرم لأن المستهلك كالمعدوم. ويحرِّم إيجار وهو الصب في الفم وكذا يحرم اسعاط وهو صب اللبن في الأنف على المذهب لأنه منفذ مفتوح إلى الجوف لا حقنة وهي ما يصب في الدبر أو القبل من دواء في الأظهر لانتفاء التغذي فيه عادة. وشرطه ليحرّمَ أن يأخذه رضيع حي لم يبلغ سنتين. قال تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) البقرة233. وروى البيهقي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا رضاع بعد حولين)). وأخرج عبدالرزاق في مصنفه عن علي وابن عباس وابن عمر (لا رضاع بعد فصال) والفصال إنما هو في العامين. لقوله تعالى: (وفصاله في عامين) لقمان14.
وأما من قال أن الرضاع غير مؤقت بسِنٍّ فدليله ما روى مالك في الموطأ عن سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة قالت: (يا رسول الله كنا نرى سالماً ولداً وكان يدخل علىَّ وأنا فضلٌ وليس لنا إلا بيت واحدٌ فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرضعيه خمس رضعات معلومات فَيَحْرُم بلبنك) ففعلت فكانت تراه ابناً من الرضاع. قال الشافعي: حديث سهلة رخصة بسالم وكذلك قالت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهنَّ أعلم بالخاص والعام والناسخ والمنسوخ وخمس رَضَعَاتٍ تحرّم فقد روى مسلم عن عائشة أنها قالت: (كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يُحرمْنَ فنسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنَّ فيما يقرأ من القرآن)، تقصد يقرؤهن من لم يبلغه النسخ وقيل يُتلى حكمهن.
وأخرج مسلم عن أم الفضل (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُحرم إلاملاجة والإملاجتان)) أي الرضعة والرضعتان وضبطهن الرضعات بالعرف فلو قطع الرضيع إعراضاً تعدد الرضاع أو للهو وعاد في الحال أو تجول من ثدي إلى ثدي فلا تعدد ولو جُلِبَ منها دفعةً وأَوجَرَهُ خمساً أو عكسه أي جلب منها في خمس مرات وأوجره في مرة فرضعة واحدة لانفصاله من المرأة ف واحدة ولارتضاعه في الثانية مرة واحدة وفي قول خمس نظراً لتعدد ايجاره في الأولى وانفصاله عن المرأة في الثانية ولو شك هل رضع خمساً أم أقل أو هل رضع في الحولين أم بعد فلا تحريم للشك وفي الثاني أي الرضاع بعد الحولين قول أو وجه بأنه يحرم لأصل بقاء الحولين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/19)
وتصير المرضعة أمه والذي منه اللبن أباه وتسري الحرمة إلى أولاده لما روى الشيخان عن عائشة (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). وقال تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) النساء23. ولو كان لرجل خمسٌ مستولداتٌ أو أربع نسوة وأمُّ ولد فرضع طفل من كل رضعة صار ابنه في الأصح لأن اللبن للفحل فيحرمن أي المستولدات أو الأربع النسوة وأم الولد لأنهن موطوءات أبيه ولا أمومة لهن من جهة الرضاع لأنه لم يرتضع من واحدة منهن خمس رضعات ولو كان المرضعات للصبي بدل المستولدات بناتٌ أو أخواتٌ فرضع من كلٍ رضعة فلا حرمة بين الرجل والطفل في الأصح لأن الأمومة تُثبت الخؤلة والجدودة ولا أمومة هنا.
وآباء المرضعة من نسب أو رضاع أجداد للرضيع فإن كان الرضيع أنثى حرم عليهم نكاحها وأمهاتُها جداتُه فإن كان ذكراً حرم عليه نكاحهن وأولادها أي المرضعة من نسب أو رضاع إخوته وأخواتُه وإخوتُها وأخواتُها من نسب ورضاع أخواله وخالاته فيحرم التناكح بينه وبينهم وكذا بينه وبين أولاد الأولاد وأبو ذي اللبن أي والد من نسب إليه اللبن جده وأخو صاحب اللبن عمه وكذا الباقي من أقارب صاحب اللبن واللبن لمن نسب إليه ولدٌ أو سقطٌ نزل به اللبن بنكاح أو وطء شبهة لا زنا فإنه لا حرمة للبن الزنا لما روى الشيخان عن عائشة (الولد للفراش وللعاهر الحجر). ولو نفاه بلعان إنتفى اللبن عنه اللبن النازل بسببه ولو وطئت منكوحة بشبهة أو وَطِيء اثنان مرأة بشبهة فولدت ولداً فاللبن النازل به لمن لحقه الولد منها إما بقائف أو غيره من أسباب الإلحاق ولا تنقطع نسبة اللبن عن زوج مات أو طلق لأن اللبن له وإن طالت المدة بالإرضاع أي اللبن أو انقطع وعاد ثانية فله اللبن فإن نكحت آخر وولدت منه فاللبن بعد الولادة له وقبلها للأول إن لم يدخل وقت ظهور لبن حمل الثاني لأن الأصل بقاء اللبن ولم يحدث ما يغيره وكذا إن دخل وقت ظهور لبن حمل الثاني لأن اللبن غذاء للولد لا للحمل وفي قول الثاني فيما إذا انقطع وعاد الحمل وفي قول لهما معاً لاحتمال الأمرين.
? فصل في حكم الرضاع الطاريء على النكاح ?
إذا كان تحته صغيرة لها دون الحولين فأرضعتها من تحرم عليه ابنتها كأن أرضعتها أمه أو أخته أو زوجة أخرى له انفسخ نكاحه من الزوجة الصغيرة لأنها صارت أخته أو بنت أخته أو بنت زوجته ومن الكبيرة ينفسخ أيضاً لأنها صارت أم زوجته وللصغيرة نصف مهرها المسمّى وله على المرضعة نصف مهر مثل بضمان ما أتلفته عليه من البُضع سواءً تعمدت فسخ النكاح أو لم تتعمد قال تعالى: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقو الله الذي أنتم به مؤمنون) الممتحنة11. وفي وقولٍ كله لأن حكمها كما لو شهد شاهدان على رجل أنه طلق زوجته ثم رجعا عن الشهادة.
ولو رضَعَتْ من نائمة فلا غُرم ولا مهر للمرتضعة فلا تغرم الكبيرة لأنها لم تكن سبباً في الفسخ ولا شيء للصغيرة لأنها كانت سبب الفسخ. ولو كان تحته كبيرة وصغيرة فأرضعت أمُّ الكبيرة الصغيرة انفسخت الصغيرة لأنها صارت أختاً للكبيرة وكذا انفسخت الكبيرة في الأظهر لأنه لا سبيل للجمع بين الأختين فإن جمعهما بطل نكاحهما وقيل الصغيرة فقط لأن الجمع حدث بإرضاعها. وله نكاح من شاء منهما لأن المحرم هو جمعهما وحكم مهر الصغيرة وتغريمه المرضعة ما سبق وهو أن للصغيرة نصف المهر وعلى الكبيرة نصف المهر للمثل وفي وقوله كله وكذا الكبيرة إن لم تكن موطوءة أي حكمها أي لها عليه نصف المسمى.
فإن كانت موطوءة فله على المرضعة مهر مثل في الأظهر كما يجب عليه لابنتها المسمى الصحيح ولو أرضعتْ بنتُ الكبيرةِ الصغيرةَ حَرُمَتْ الكبيرة أبداً لأنها صارت بنت زوجته الموطوءة أي ربيبته ولو كان تحته صغيرة فطلقها فأرضعتها امرأة صارت المرضعة أمَّ امرأته فتحرم عليه أبداً ولو نكحت مطلقته صغيراً وأرضعته بلبنه حَرُمت هي على المطلق والصغير أبداً أما على المطلق فلأنها صارت زوجة ابنه وأما الصغير فلأنها صارت أمه أو زوجة أبيه.
ولو زوّج أمَّ ولده عبده الصغير فأرضعته لبن السيد حرمت عليه وعلى السيد فبالنسبة للعبد لأنها أمه وموطوءة أبيه وبالنسبة للسيد فلأنها زوجة ابنه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/20)
ولو أرضعت موطوءَتُهُ الأمةُ صغيرةً تحته بلبنه أو لبن غيره حرمتا عليه. لأن المرضعة أصبحت أمَّ زوجته والصغيرة بنته إن كانت أرضعت بلبنه أو بنت موطوءته إن كانت أرضعت بلبن غيره ولو كان تحته صغيرة وكبيرة فأرضعتها انفسختا وحرمت الكبيرة أبداً لأنها أمُّ زوجته وكذا الصغيرة إن كان الإرضاع بلبنه لأنها ابنته وإلا بأن كان الإرضاع بلبن غيره فربيبة له فإن دخل بالكبيرة حرمت وإن لم يدخل بالكبيرة فلا تحرم عليه ولو كان تحته كبيرة وثلاث صغائر فأرضعتهن حرمت أبداً لأ، ها أمُّ زوجاته وكذات الصغائر إن أرضعتهن بلبنه أو لبن غيره وهي موطوءة لأنهن إما بناته أو بنات موطوءَته وإلا بأن لم يكن اللبن له ولا كانت موطوءة له فإن أرضعتهن معاً بإيجارهن الخامسة انفسخن لصيرورتهن أخوات ولا يحرمن مؤبداً لعدم الدخول بأمهنّ أو أرضعتهن مرتباً لم يحرمن مؤبداً لعدم الدخول بأمهن وتنفسخ الأولى لاجتماعها مع مَنْ في النكاح والثالثة تنفسخ بإرضاعها لاجتماعها مع أختها الثانية في النكاح وتنفسخ الثانية بإرضاع الثالثة لاجتماعها مع أختها في النكاح وفي قول لا تنفسخ الثانية لأنه اجتماع الأختين إنما كان بإرضاع الثالثة فيختص الانفساخ بها.
ويجري القولان السابقان فيمن تحته ضغيرتان أرضعتهما أجنبية مرتباً أينفسخان أم الثانية أي يختص الفسخ فيها فقط أما إن أرضعتهما معاً انفسخ نكاحهما معاً لصيرورتهما أختين معاً.
? فصل في الإقرار بالرضاع ?
قال رجل هند بنتي أو أحتي برضاع أو قالت هو أخي أو ابني برضاع حرم تناكحهما مؤاخذة لكل منهما بإقراره. ولو قال زوجان بيننا رضاع مُحرَّم فرق بينهما عملاً بقولهما وسقط المسمى ووجب مهر المثل إن وَطِيء وإن لم يطأ فلا يجب شيء وإن ادعى رضاعاً فأنكرت انفسخ النكاح ووجب مهر المثل إن وطيء مؤاخذة له بقوله ولها المسمّى إن وطيء وإلا فنصفه لأنه سبب الفرقة وإن ادعته أي الرضاع فأنكر صدق بيمينه إن زُوجتْ برضاها لتضمن الرضا الإقرار بحل النكاح وإلا بأن زوجها وليها فالأصح تصديقها بيمينها ولها مهر مثل إن وطيء وإلا أي وإن لم يطأ فلا شيء لها عملاً بقولها ويحلف منكر رضاع على نفي علمه بالرضاع ومدعيه أي الرضاع على بتٍ لأن الإرضاع فعل الغير ومن ادعى فعلاً للغير حلف على تأكد الفعل لأنه مثبت له.
ويثبت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين وبأربع نسوة لأنه مما يطلع عليه النساء عادة وما قُبل فيه أربعة نسوة قُبل فيه رجلان والإقرار به أي بالرضاع شرطه رجلان لأنه مما يطلع عليه الرجال وتقبل شهادة المرضعة مع غيرها إن لم تطلب أجرة على الإرضاع ولا ذكرت فعلها بل شهدت أن بينهما رضاعاً لانتفاء الشهادة التي تجر نفعاً وكذا إن ذكرت فقالت أرضعته في الأصح أما إذا طلبت أجرة فإنها لا تقبل شهادتها لأنها تجرُّ نفعاً فقد روى البخاري عن عقبة بن الحارث (أنه نكح بنتاً لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأةٌ فقالت: قد أرضعتُ عقبة والتي نكحها، فقال لها عقبة: لا أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتيني، فأرسل إلى آل أبي إهاب فسألهم، فقالوا: ما علمناها أرضعت صاحبتك فركب، إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فسأله عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: كيق وقد قيل ففارقها ونكحت زوجاً غيره).
والأصح أنه لا يكفي في أداء الشهادة أن يقال بينهما رضاع مُحرِّم لاختلاف الفقهاء في عدد الرضعات التي تحرم وفي وقت الإرضاع بل يجب ذكر وقت الرضاع وعدد الرضعات ووصول اللبن إلى جوفه ويعرف ذلك بمشاهدة حَلَبٍ أي مشاهدة اللبن المحلوب وإيجار أي تجرع للبن واردراد أي ورد اللبن الذي مصه أو قرائن أخرى كالتقام ثدي ومصه وحركة حلقه بتجرع وازدراد بعد علمه أي الشاهد بأنها لبون.
? كتاب النفقات ?
النفقات جمع نفقة وهي الإفراج ولا يستعمل إلا في خير والمراد هنا: ما يُعْرَضُ للزوجة على زوجها من مال مقدر وأسباب وجوبها مِلْكُ النكاح ومِلْكُ اليمين والقرابة.
يجب على موسرٍ لزوجته كلَّ يومٍ مدَّا طعام ومعسر مدٌّ ومتوسط مدٌّ ونصف والأصل في وجوب نفقة الزوجات قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة233. والمولود له هو الزوج.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/21)
وقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله وبما أنفقوا من أموالهم) النساء34، وقوله تعالى: (لينفق كل ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) الطلاق7.
وروى أبوداود وغيره عن معاوية بن حيدة قال: (قلت: يا رسول الله ما حق الزوجة؟ قال صلى الله عليه وسلم: أن تطعمها إذا طعمت وأن تكسوها إذا اكتسيت) وزاد ابن ماجة (ولا يُضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر إلا في المبيت). (هكذا وردت بالمخاطب والغائب).
وتقدير النفقة على الزوجة معتبر بحال الزوج فإن كان الزوج موسراً وجب لها كلَّ يوم مدان وعلى معسر وهو الذي لا يقدر على النفقة بماله ولا كسبه كلَّ يومٍ مدُّ لأن أكثر ما أوجب الله في الكفارات للواحد مدان وهو في كفارة الأذى وذلك في قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأيه ففدية من صيام أو صدقة) البقرة196. وأقل ما أوجب للواحد مدٌّ كما في كفارة الظهار (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) المجادلة4. وقال صلى الله عليه وسلم لسلمة بن صخر: (أطعم ستين مسكيناً كلَّ مسكين مداً من طعام) أخرجه أحمد في المسند عن سلمة بن صخر. فقيست نفقة الزوجات على الكفارة لأن الله سبحانه شبه الكفارة بنفقة الأهل بقوله (من أوسط ما تطعمون أهليكم) المائدة9. والمتوسط أعلى حالاً من المعسر وأدنى حالاً من الموسر فوجب عليه من نفقة كلِّ واحد نصفها.
والمدُّ مائة وثلاثة وسبعون درهماً وثلث درهم وهو رطل وثلث بالبغدادي ورطل بغداد مائة وثلاثون درهماً. قلت الأصح مائة وأحد وسبعون وثلاثة أرباع درهم والله أعلم.
بناءً على قوله أن الرطل مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع الدرهم ومسكين الزكاة معسرٌ وهو من قدر على مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه ومن فوقه إذا كان أو كلف مدّين رجع مسكيناً فمتوسط وإلا فمُوسرٌ وهو من يزيد دخله على خرجه ويختلف باختلاف الأحوال والبلدان.
والواجب غالب قوت البلد قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة233. والمعروف عند الناس غالب قوت البلد فإن اختلف غالب قوت البلد وجب لائق به أي بالزوج ويعتبر اليسار وغيره طلوع الفجر والله أعلم لأنه الوقت الذي يجب فيه التسليم وعليه تمليكها حباً كالكفارة فإن دفع الدقيق أو الخبز لم يجز وفي وجه أنه يجوز قال تعالى: (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) المائدة89. وكذا طحنه وخبزه في الأصح للحاجة إليهما ولو طلب أحدهما بدل الحب لم يجبر الممتنع منها لأن الواجب هو الحب كما لو كان لها طعام قرضٌ فلا تجبر على قيمته فإن اعتاضت جاز في الأصح لأنه طعام وجب على وجه ِ الرفق فجاز أخذ العوض عنه كالقرض إلا خبزاً أو دقيقاً على المذهب لما فيه من الربا ولو أكلت على العادة سقطت نفقتها في الأصح لأن العادة جرت بذلك في جميع الأعصار والأمصار. قلت: إلا أن تكون غير رشيدة ولم يأذن وليها بالأكل معه والله أعلم ويكون الزوج متبرعاً وأفتى جمع بأن نفقتها تسقط إذا أكلت معه. ويجب أُدْمُ غالب البلد كزيت وسمن وجبن وتمر ويختلف بالفصول ويقدره قاضٍ باجتهاده ويفاوت يبن موسر وغيره والأدم جمع إدام وهو ما يستمرأ به الخبز ويرجع في قدره وجنسه إلى العرف. روى عكرمة أن امرأة سألت ابن عباس وقالت له: ما الذي لي من مال زوجي؟ فقال: الخبز والأدم. ويجب لحم يليق بيساره وإعساره كعادة البلد وقدره الإمام الشافعي برطل من كل جمعه والرطل يزن 406.25 لأن العادة أن الناس يطبخون اللحم في كلِّ جمعة. وقالوا وقدر الشافعي رطل لحم في كل جمعة لأنه كان يعيش في مصر واللحم فيها يقل أما إذا كان بموضع يكثر فيه اللحم فإن الحاكم يفرض لها ما يراه مناسباً من رطلين أو أكثر.
ولو كانت عادتها أن تأكل الخبز وحده وجب الأُدْم ولا نظر لعادتها لأن ذلك حقها ولأن ذلك من المعاشرة بالمعروف. قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) النساء19.
روى جابر عن مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/22)
وكسوة تكفيها فيجب قميص وسراويل وخمار ومكعبٌ يداس فيه في كل من فصل الشتاء والصيف ويزاد في الشتاء على ذلك جبة محشوة قطناً أو فروة فإن لم تكف شدة البرد زيد عليها بقدر الحاجة وجنسها قطن أي جنس الكسوة من القطن فتكون لامرأة الموسر من لينه ولامرأة المعسر من غليظه فإن جرت عادة البلد لمثله أي مثل الزوج بكتان أو حرير زجب في الأصح ويفاوت في جنسه بين الموسر والمعسر ويجب ما تقعد عليه كزلية أي سجادة صغيرة أو بساط أو لِبْدٍ وهو من الصوف الملبد بعضه على بعض يجلس عليه أو حصير في الصيف وقيل هذا للمعسر أما للموسر فطنفسة في الشتاء ونطع في الصيف وكذا فراش للنوم في الأصح ومخدة ولحاف ويزاد إن كانت البلاد باردة قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة233. وقال صلى الله عليه وسلم: (ولهن عليكم زرقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم عن جابر.
وآلة تنظيف كمشط ودهن من زيت للشعر حتى لو اعتدن المطيب بالورد أو البنفسج وجب ذلك على الزوج وكل ما يلزم لترجيل الشعر وما يستعمل في البدن مما تستعمله نساء بلدها عادة وما تغسل به الرأس من صابون وغيره وكذلك ما يغسل به الثياب ومَرْتَكٌ وهو ما يقطع الرائحة الكريهة.
ونحوه مما يستخدم عادة لدفع صُفان لأنها تتأذى ببقائه فيها لا كُحْلٍ وَخضَاب وما تزيّن به فإن أراد ذلك فعليه تهيأته لها ولا يجب عليه دواء مرض وأجرة طبيب وحاجم لأن ذلك لحفظ الأصل فلا يجب على مستحق المنفعة كعمارة الدار المستأجرة.
ولها طعام أيام المرض وأومها لأنها محبوسة عليه ويجوز صرف ذلك إلى الدواء ونحوه والأصح وجوب أجرة حمام بحسب العادة وثمن ماء غُسْل جماع ونفاس منه إن احتاجت إلى شرائها ولا يجب ثمن ماء حيض واحتلام في الأصح لأنه لا مدخل له في حدوثه وقيل يجب لكثرة الحيض ومنعها من ثمنه إجحاف بحقها.
ولها آلات أكل وشرب وطبخ كقدر وقصعة وكوز وجرة للماء ونحوها من آلة الأكل والتنظيف وحفظ الطعام فإن ذلك من المعاشرة بالمعروف قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) النساء19، ومسكن يليق بها ولا يشترط كونه مِلْكَهُ لعموم قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) فمن المعاشرة بالمعروف أن يسكنها بمسكن يليق بها ويسترها عن العيون عند التصرف والاستمتاع ويقيها الحرَّ والبرد فوجب عليه كالكسوة ويعتبر ذلك بيساره وإعساره وتوسطه.
وعليه لمن لا يليق بها خدمة نفسها وإخدامها بحرة أو أمة أو مستأجرة أو بالإنفاق على من صحبتها من حرة أو أمة لخدمة وذلك من المعاشرة بالمعروف وقال الإمام مالك: إذا كانت تُخْدَمُ في بيت أبيها بخادمين أو أكثر أو تحتاج إلى أكثر من خادم وجب عليه ذلك، والمذهي لا يجب أكثر من خادم وسواء في هذا في وجوب الإخدام موسر ومعسر وعبد كسائر المؤن فإن أخدمها بحرة أو أمة بأجرة فليس عليه غيرها أو غير الأجرة أو أخدمها بأمته أنفق عليها بالملك أو بمن صحبتها لزمه نفقتها وجنس طعامها أي المصحوبة جنس طعام الزوجة وقد سبق ذكره وهو مدٌّ على معسر وكذا متوسط في الصحيح وموسر مدٌّ وثلث اعتباراً بأن نفقة الخادمة ثلث نفقة المخدومة وقيل نفقة الخادمة كنفقة المخدومة. ولها كسوة تليق بحالها من لباس فس الشتاء وفي الصيف وما تخرج به لحاجتها إلى الخروج ويجب لها ما تفرشه ما تتغطى به ويكون ذلك دون ما يجب للمخدومة جنساً ونوعاً وقدراً لا آلة التنظيف لأن اللائق أن تكون شعثة لئلا تمتد إليها الأعين فإن كثر وسخ وتأذت بقَمْلٍ وجب أن ترفِّه بما يزيل ذلك من مشط وصابون ودهن وغير ذلك ومن تخدم نفسها عادة فليس لها أن تتخذ خادماً وتنفق عليه من مالها إلا بإذن زوجها ولكن إن احتاجت إلى خدمة لمرض أو زمانة وجب إخدامها لأنها لا تستغي عن ذلك ولا إخدام لرقيقة لنقصانها وفي الجميلة وجه أنها تخدم ويجب في المسكن إمتاع لا تمليك وما يستهلك كطعام تمليك وتتصرف فيه فلو قترت بما يضرها منعها من ذلك لما يؤثر في حق الاستمتاع وما دام نفعه أي كل شيء يدوم نفعه ككسوة وظروف أي آنية طعام ومشط تمليك كالنفقة وقيل إمتاع للانتفاع مع بقاء عينه كالمسكن فيجوز مستأجراً ومستعاراً. وتعطى الكسوة أول شتاء وصيف من كل سنة فإن تلفت فيه أي قبل مضي الشتاء والصيف بلا تقصير منها لم تبدل إن قلنا تمليك لأنه وفاها ما عليه من حق فإن ماتت فيه لم تُردَّ أي ماتت في الفصل من شتاء أو صيف أو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/23)
أبانها لم يسترد الكسوة لأنها ملك لها. ولو لم يَكْسُ مدة فدين عليه إن قلنا تمليك والواجب في الكسوة الثياب وخياطتها ولها بيعها لأنها ملكها وإلباسها لغيرها ولو لبست دونها في القيمة منعها لحقه في الاستمتاع بها.
? فصل في موجب المؤن ومسقطها ?
الجديد أنها أي النفقة تجب بالتمكين لا العقد فلو امتنعت من التمكين سقطت نفقتها فإن اختلفا فيه أي التمكين صدق لأن الأصل عدم التمكين فإن لم تعْرِض عليه مدة فلا نفقة لها فيها لانتفاء التمكين وإن عَرَضت عليه وهي بالغة عاقلة كأن أرسلت إليه أنّي مُسلِّمة نفي إليك وجبت نفقتها من بلوغ الخبر له فإن غاب أي إن كان غائباً عن البلد كتب الحاكم في بلدها لحاكم بلده ليعلمه أي يعلم الزوج فيجيء أو يوكل من يستلمها أو يحملها إليه وتجب النفقة من وقت التسليم فإن لم يفعل شيئاً من المجيء أو التوكيل ومضى زمن وصوله فرضها القاضي في ماله من حين إمكان وصوله والمعتبر في مجنونة ومراهقة عرض ولي لهما ولا عبرة بعرضهما أنفسهما لأن المخاطب في ذلك هو الولي وتسقط النفقة بنشوز أي خروج من طاعة الزوج ولو بمنع لمس بلا عذر لأن التمكين شرط في النفقة قال تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللهُ فيه خيراً كثيراً) النساء19.
وعبالة زوج أي كبر آلة الجماع بحيث لا تحتملها الزوجة أو مرض ألمَّ بها يضر معه الوطء عذر في منعها له من وطئها وتستحق النفقة كاملة لعذرها. والخروج من بيته بلا إذن نشور سواء خروجها لحج أو عيادة أو في عمل خاص لها وكذلك الخروج من البلد بغير إذنه لأنها بخروجها غير ممكنة من نفسها فلا تجب لها النفقة إجماعاً. فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصومنَّ المرأة التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه)) وفي رواية (لا تصومنَّ امرأة سوى شهر رمضان وزجها شاهد). وسفرها بإذنه معه أو لحاجته لا يسقط النفقة ولحاجتها تسقط في الأظهر لانتفاء التمكين وقيل لمّأ كان السفر بإذنه فلم تسقط نفقتها كما لو أنها سافرت في حاجته. ولو نشزت في حضور الزوج فغاب فأطاعت في غيابه لم تجب نفقتها في الأصح لانتفاء التسليم والتسلم وطريقها أي الطريق لوجوب النفقة أن يكتب الحاكم كما سبق أي يكتب لحاكم بلده ليعلمه بالحال فإن عاد أو وكيله لتسلمها عادت النفقة وإن مضى زمن إمكان العود ولم يعد عادت النفقة. ولو خرجت في غيبته لزيارة ونحوها لم تسقط نفقتها والأظهر أن لا نفقة لصغيرة لا يتأتى جماعها لأن الاستمتاع متعذر وقيل يجب لأن تعذر وطئها ليس بفعلها وإنما تجب لكبيرة على صغير لأن التمكين والتسليم التام قد وجد منها وإنما العذر من جهته فوجبت نفقتها كما لو سُلِّمت زوجةٌ لزوجها البالغ ثم هرب عنها. وإحرامها بحج أو عمرة بلا إذن نشوز إن لم يملك تحليلها بأن كان الذي أحرمت به فرضاً فإن ملك فلا أي إذا ملك تحليلها فليس إحرامها بنشوز حتى تخرج فمسافرة لحاجتها فإن سافرت بإذنه سقطت نفقتها في الأظهر كما تقدم أن خروجها بغير إذن نشوز أو أحرمت بإذن ففي الأصح لها نفقة مالم تخرج لأنها ما زلات في قبضته وقيل لا نفقة لفوات الاستمتاع وردَّ ذلك بأن الخروج بإذنه ويمنعها صوم نفل فإن أبت فناشزة في الأظهر لتفويت حقه في الجماع، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه) رواه الشيخان عن أبي هريرة والأصح أن قضاءَه لا يتضيق بأن لم يجب فوراً كنفل فيمنعها أي يجوز له منعها قبل الشروع بالصوم وبعده لأن القضاء متراخٍ وحقه على الفور والأصح أنه لا منع له من تعجيل مكتوبة أول وقت وسنن راتبة فلا يجوز لها منعها من الحصول على فضيلة أول الوقت ويجب لرجعية المؤن جميعها إلا مؤنة تنظف لامتناع الزوج عنها وسواء في ذلك الحامل والحائل إلا إذا تضررت بالوسخ فقد وجب لها ذلك فلو ظُنتْ أي مطلقته الرجعية حاملاً فأنفق عليها فبانت حائلاً استرجع ما دفع لها بعد عدتها وتصدَّق بقدر أقرائها باليمين. والحائل البائن بخلع أو ثلاث لا نفقة لها ولاكسوة ويجبان لحامل لها وفي قول لحمل. أي قيل إذا النفقة والكسوة لها وقيل هي لها عن طريق الحمل لأنه يتعذى بغذائها. قال تعالى: (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهنَّ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/24)
لتضيقوا عليهن وإن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) الطلاق6. فأوجب السكنى للمطلقات بكل حال وأوجب لهنَّ النفقة بشرط إن كنَّ أولات حمل فدل على أنهنَّ إن يكن أولات حمل أنه لا نفقة لهنَّ.
وروي أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثاً وهو غائب بالشام فحمل إليها وكيله كفّاً (أي ما يكفيها من الشعير) فسخطته، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملاً واعتدي عند أمِّ شريك) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس. فعلى الأول أنها للحامل لا تجب نفقتها لحامل عن شبهة أو عن نكاح فاسد لأنه لا نفقة لها في حال التمكين فبعده أولى قلت: ولانفقة لمعتدة وفاة وإن كانت حاملاً والله أعلم فقد روى البيهقي عن ابن عباس وعن جابر بن عبدالله (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحامل المتوفى عنها زوجها: (لا نفقة لها)) وفي رواية (لا نفقة لها حسبها الميراث). قال الشافعي رحمه الله: ولا أعلم مخالفاً في ذلك.
ونفقة العدة مقدرة كزمن النكاح أي كنفقة وقت النكاح من غير زيلدة ولا نقصان لأنها من توابعه وقيل تجب الكفاية ولا يجب دفعها قبل ظهور حمل فإن ظهر وجب يوماً بيوم سواء قلنا لها أو للحمل وقيل إنما يجب دفعها حين تضع فتدفع دفعةً واحدة لأنه من زمن تأكد وجود الحمل لأن الأصل البراءة حتى يتبين السبب. قال تعالى: (وإن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) الطلاق6، ولا تسقط بمضي الزمن على المذهب إن قلنا إن نفقة العدة للزوجة أما إن قلنا للحمل فتسقط لأن نفقة القريب تسقط بمضي الزمن وقيل لا تسقط بكل حال لأنها حتى لو كانت للحمل فهي التي تنتفع بها.
? فصل في حكم الإعسار بمؤن الزوجة ?
أعسر بها أي بالنفقة فإن صبرت صارت ديناً عليه كسائر الديون لأنها في مقابلة التمكين وإلا أي وإن لم تصبر فلها الفسخ في الأظهر كما تفسخ بالجبِّ والعنة بل هذا أولى لأن الصبر عن الاستمتاع أهون من الصبر على النفقة والأصح أن لا فسخ بمنع موسر حضر أو غاب لتمكنها من الحصول على حقها بالحاكم ولو حضر وغاب ماله فإن كان المال بمسافة القصر وأكثر وإلا بأن كانت المسافة دون مسافة قصر فلا فسخ ويؤمر بالاحضار لأن المال دون مسافة القصر كالحاضر في البلد. ولو تبرع رجل بها أي بالنفقة لم يلزمها القبول لما في ذلك من المنّة وقدرته أي الزوج على الكسب كالمال فلو كان يكسب كل يوم قدر النفقة فلا خيار لها في القسخ وإنما يُفْسَخ بعجزه عن نفقة معسر لأن الضرر إنما يتحقق حينئذ والإعسار بالكسوة كهو النفقة إذ لابد منها فالنفس لا تبقى بدون كسوة وكذا بالأدم والمسكن في الأصح للحاجة إليها وللحوف الضرر بعدمهما قلت الأصح المنع من الفسخ في الأدم والله أعلم لأن الحياة تقوم بدونه أما بدون المسكن فيستبعد قيام الحياة وفي إعساره بأظهر أقوالٌ: أظهرها تفسخ قبل الوطء لا بعده كالمبيع لا يسلم قبل دفع الثمن أما بعد الوطء فإن المعوض قد تلف بعد الوطء ولأنها ازتضت الوطء قبل دفع المهر روى البيهقي والدارقطني عن أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته يفرق بينهما).
ولا فسخ حتى يثبت عند قاضٍ إعساره فيفسخه أو يأذن لها فيه فيفسخه بعد الثبوت عنده وليس لها مع علمها الفسخ قبل الرفع إلى القاضي لأنه أمر مجتهد فيه فلا ينفذ منها ثم بعد تحقق الإعسار في قول ينجَّز الفسخ لثبوت سببه والأظهر إمهاله ثلاثة أيام لتحقق عجزه لأن العجز قد يوجد لطاريء ثم يزول هذا الطاريء ولها بعد الإمهال الفسخ صبيحة اليوم الرابع لتحقق الإعسار إلا أن يسلم نفقته أي يسلم نفقة اليوم الرابع ولا مضى يومان بلا نفقة وأنفق الثالث وعجز الرابع بنت على اليومين الأولين وفسخت صبيحة اليوم الخامس وقيل تستأنف مدة جديدة لأن العجز الأول قد زال. ولها الخروج زمن المهلة لتحصيل النفقة وليس له منعها من ذلك لانتفاء مانع الحبس وهو الإنفاق وعليها الرجوع ليلاً لأنه وقت الراحة دون العمل والكسب ولكن لا يلزمها أن تمكنه من نفسها ولو رضيت بإعساره الحادث أو نكحته عالمة بإعساره فلها الفسخ بعده لأن الضرر يتجدد فإن عنَّ لها أن تفسخ النكاح كان لها ذلك لأن وجوب النفقة يتجدد ساعة بعد ساعة. ولو رضيت بإعساره في المهر فلا فلا فسخ لأن خيارها يسقط فالمهر يجب دفعة واحدة ولا يتجدد وجوبه ولا فسخ لولي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/25)
صغيرة ومجنونة بإعسار بمهر ونفقة لأن ذلك يتعلق بشهرتها واختيارها والولي لا ينوب عنها في ذلك.
ولو أعسر زوج أمة بالنفقة فلها الفسخ وليس لسيدها أن يفسخ نكاحها وعادت نفقتها في مال سيدها فإن رضيت بإعسار الزوج فلا فسخ للسيد في الأصح وله أن يلجئها إليه أي إلى الفسخ بأن لا ينفق عليها ويقول: افسخي أو جوعي فإذا فسخت اسمتع بها وأنفق عليها أو زوجها غيره.
? فصل في مؤن الأقارب ?
يلزمه نفقة الوالد وإن علا من ذكر أو أنثى. قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) الإسراء23. وقال تعالى: (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) لقمان15. ومن الإحسان والمعروف أن ينفق عليهما. وروى أحمد وأصحاب السنن عن عائشة (إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وولده من كسبه فكلوا من أموالهم).
وفي رواية أبي داود (أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم). والولد وإن سفل من ذكر أو أنثى. قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة233. وقال تعالى: (فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن) الطلاق6. فإن لزمه أجرة الرضاع فالنفقة عليه وكفايته ألزم. روى الشيخان عن عائشة: (أن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذته منه سراً وهو لا يعلم فهل عليَّ في ذلك شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)). وأن اختلف دينهما أي الأب والابن بشرط يسار المنفق بفاضل عن قوته وقوت عياله في يومه. فإن لم يفضل شيء فلا شيء عليه لأنه ليس من أهل المواساة. فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله معي دينارٌ. فقال: (أنفقه على نفسك) قال: معي آخر، قال: (أنفقه على ولدك)، قال: عندي آخر، قال: (أنفقه على أهلك)، قال: معي آخر، قال: (أنفقه على خادمك)، قال: معي آخر، قال: (أنت أعلم به)).
وفي رواية لمسلم (ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك).
ويباع فيها أي النفقة القريب ما يباع في الدين من عقار وغيره لشبهها به ويلزم كسوتا كسبها أي النفقة في الأصح كما يلزمه الكسب لنفقة نفسه ولا تجب لمالك كفايته ولا مكتسبها لاكتفائه بما يملك أو ما يكسب عن حاجته إلى غيره وتجب لفقير غير مكتسب إن كان زمناً وهو صاحب المرض الذي يلازم صاحبه طويلاً أو ضغيراً أو مجنوناً لعجزه عن كفاية نفسه ومثله الأعمى والمريض وإلا بأن كان قادراً على الكسب ولم يكتسب فأقوال أحسنها تجب الأصل والفرع لأنه يَقْبُح به أن يكلف بعضه الكسب مع اتساع ماله والثاني لا تجب لهما للقدرة على الكسب والثالث تجب لأصل لا فرع لعظمة حرمة الأصل قلت الثالث أظهر والله أعلم لتأكد حرمة الأصل ولأن تكليفه الكسب مع كبر سنه ليس من المعاشرة بالمعروف وهي نفقة الكفاية لحديث هند السابق فقال صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف) الشيخان عن عائشة فيجب أن يعطيه قوتاً وأدماً وكسوة وسكناً يليق به وأن يخدمه ويداويه إن احتاج إلى ذلك وتسقط بفواتها ولا تصير ديناً عليه إلا إذا فرضها قاضٍ أو إذنه في افتراض لغيبة أو منع أي إذا غاب المنفق أو امتنع وفرضها القاضي أو أذن بالإقتراض فعندئذ تصير ديناً وعليها إرضاع ولدها اللبأ أي على الأم لأنه حق الولد ولا يعيش عادة إلا به وهو اللبن الذي ينزل بعد الولادة ويرجع في تقدير مدته إلى أهل الخبرة وقيل مدته ثلاثة أيام ثم بعده أي بعد إرضاع اللبأ إن لم يوجد إلا هي أي الأم أو أجنبية وجب على مَنْ وجد منهما إرضاعه إبقاءً للولد ولها طلب الأجرة من مال الولد إن كان مال وإلا فممن تلزمه نفقته وإن وجدتا أي الأم والأجنبية لم تجبر الأم على إرضاعه قال تعالى: (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) الطلاق6. وإذا امتنعت فقد تعاسرت.
وقال تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة233.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/26)
فإن رغبت في إرضاعه وهي منكوحة أبيه فَلَهُ منعها في الأصح لأن من حقه الاستمتاع بها وقت الإرضاع لكن يكره له المنع لما فيها من الشفقة قلت الأصح ليس له منعها وصححه الأكثرون والله أعلم لأنها أشفق على الولد من الأجنبية ولبنها له أصلح وأنفع. فإن اتفقا على إرضاعه وطلبت أجرة مثل أُجيبت قال تعالى: (فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن) الطلاق6. أو طلبت فوقها فلا أي فوق أجرة مثل لم تُجب وكذا إن تبرعت أجنبية أو رضيت بأقل من أجرة المثل، قال تعالى: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم) البقرة233. أي فلا تجاب الأم إلى طلب أجرة المثل في الأظهر وقيل تجاب الأم لوفور شفقتها، قال تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف) الطلاق6. ومن استوى فرعاه في القرب والتعقيب أنفقا عليه بالسوية لأن لا مزية لأحدهما على الآخر وإلا أي وإذا كان أحدهما أقرب من الآخر فالأصح أقربهما لأن القرب أولى بالاعتبار من الإرث فإن استوى قربهما كبنت ابن وابن بنت فبالإرث في الأصح فالاعتبار هنا بالإرث لقوته فيجب الإنفاق على بنت الإبن.
والثاني وهو المقابل لقوله: فالأصح أقربهما أن يُعتبر وجوب النفقة بالإرث ثم القرب فيقدم على هذا الوارث البعيد على غير الوارث القريب فإن استويا في الإرث قُدِّم أقربهما والوارثان إذا استويا في أصل الإرث دون غيره كابن وابنة هل يستويان في مقدار الإنفاق أم يوزع الإنفاق بينهما بحسبه أي بحسب الميراث وجهان أحدهما: تجب عليهما نصفين. والثاني: تجب عليهما قدر ميراثهما. ومَنْ له أبوان فعلى الأب نفقته ولو كان كبيراًلعموم حديث هند وقياساً على الصغر قيل عليهما أي على الأب والأم لبالغ لاستوائهما في القرب وإنما قدّم الأب في الصغر لولايته على الصغير. أو كان للمُنفَق عليه أجداد وجدات إن أدلي بعضهم ببعض فالأقرب منهم تجب عليهم النفقة وإلا فبالقرب أي وإن لم يدّلِ بعضهم ببعض فلاعتبار بالأقرب وقيل الإرث كالخلاف المتقدم في طرف الفروع وقيل بولاية المال لأن الولاية على المال تشعر بتفويض التربية إليه.
ومن له أصل وفرع أي له أب وولد أو جد وولد وهو عاجز ففي الأصح النفقة على الفرع وإن بعد لأنه الأولى بالقيام بشؤون أصله لعظم حقه أو له محتاجون ولم يقدر على كفايتهم يقدم زوجته ثم الأقرب وقيل الوارث وقيل يقدم الولي في الأصل كما تقدم.
? فصل في الحضانة ?
الحضانة مشتقة من الحضن وهو الجنب لأن الحاضنة تضمُ الطفل إليها وهو ما دون الإبط إلى الخصِر. وشرعاً حفظ من لا يستقل بأمره عما يؤذيه لعدم تمييزه وتربيته بما يصلحه وانتهائها بالتمييز وما بعد التمييز إلى البلوغ تسمى الكفالة.
الحضانة حفظ من لا يستقل بأموره وتربيته بما يصلحه ويقيه ما يضره ومراقبته على مدار الوقت والأناث أليق به لأنهن عليها أصبر وبالولد أشفق وأهدى إلى التربية فقد روى أحمد وأبوداود والبيهقي عن عبدالله بن عمرو (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وأباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنتِ أحق به مالم تنكحي)). وأولاهن أمٌّ ثم أمهات يدلين بإناث يقدم أقربهن. روى البخاري عن ابن عباس (أن علياً وجعفراً وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة بن عبدالمطلب، فقال جعفر: أنا ابن عمها وخالتُها تحتي، وقال علي: أن أحقُ بها أنا ابن عمها وابنة رسول الله تحتي، وقال زيد: أنا أحق بها لأنها ابنة أخي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين حكزة وزيد بن حارثة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لخالتها، وقال: (الخالة أمٌّ)، فقضى بها لخالتها وهي مزوجة). والجديد يقدم بعدهن أم أب ثم أمهاتها المدلياتُ بإناث. قال الشافعي في الجديد: إذا عُدِم من يصلح للحضانة من أمهات الأم انتقلت الحضانة إلى أمهات الأب الوارثات فإن عدم من يصلح لها من أمهات الأب انتقلت إلى أمهات الجدِّ ثم أم أبي أبٍ كذلك ثم أم أبي جد كذلك والقديم تقدم الأخوات والخالات عليهن أي على أمهات الأب والجد المذكورات.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/27)
وتقدم حتماً أخت على خالة لأنها أقرب منها وخالة على بنت أخ لقوله صلى الله عليه وسلم (الخالة أمٌّ) رواه البخاري. وبنت أخت فالخالة تدلي بالأمِّ بخلاف بنت الأخ وبنت الأخت وتقدم بنت أخ وبنت أخت على عمة كما يقدم ابن الأخ في الميراث على العمِّ وأخت لأبوين تقدم على أخت من أحدهما لتقدم قرابتها عليهن والأصح تقديم أخت من أب على أخت من أمٍّ بقوة الميراث وتقدم خالة وعمة لأب عليهما أي على خالة وعمة لأم لقوة جهة الأبوة وسقوط كل جدة لا ترث وهي التي تدلي بِذكَرٍ بين أنثيين كأمِّ أبي الأمِّ لأنها أولت بمن لا حق له في الحضانة فكانت كذلك لا حضانة لها.
دون أنثى غير محرم كبنت خالة وبنت عمة وبنت خال وبنت عم فلا تسقط في الأصح بكونها غير محرم لوفور الشفقة. وتثبت لكل ذكر مَحْرَمٍ وارث كالأب والجد والأخ وابن الأخ والعم لقوة قرابتهم على ترتيب الإرث وكذا تثبت الحضانة لذكر وغير مَحْرم كابن عم على الصحيح لوفور شفقته بالولاية ولا تسلّم إليه مشتهاةٌ بل تسلَّم إلى ثقة يعينها حذراً من الخلوة المحرمة فإن فقد الأرث والمحرمية في الذكر كإبن الخال وابن العمة أو الأرث دون المحرمية كالخال والعمِّ لأم والجد أبي الأم فلا حضانة في الأصح لضعف القرابة.
وإن اجتمع ذكور وإناث فالأم تقدم ثم أمهاتها ثم الأب وقيل تقدم الخالة والأخت من الأم لادلائها بالأم بخلاف الأخت لأب ويقدم الأصل من ذكر أو أنثى على الحاشية كالأخ والأخت فإن فقد الأصل من الذكر والأنثى وهناك حواش فالأصح يقدم الأقرب فالأقرب منهم فتقدم الأخوة والأخوات كالإرث وإلا بأن لم يكن فيهم أقرب فإن استووا وفيهم أنثى وذكر فالأنثى مقدمة على الذكر كأخت على أخ وبنت أخ على ابن أخ وإلا بأن كانا ذكرين أو أنثيين فيقرع بينهما قطعاً للنزاع ولا حضانة لرقيق ومجنون وفاسق لأنها ولاية وليسوا هم من أهلها وكافر على مسلم قال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء141.
وناكحة غير أبي الطفل لا حصانة لها لأنها مشغولة عنه بحق الزوج. قال صلى الله عليه وسلم: (أنتِ أحق به مالم تنكحي) وهذا يعني أنها إذا نكحت سقطت حضانتها. إلا عمه وابن عمه وابن أخيه إذا رضوا بذلك في الأصح لأن لكل واحد منهم حقاً في الحضانة فإن كان رضيعاً اشترط في ثبوت الحضانة أن ترضعه على الصحيح فإن لم يكن لها لبن أو امتنعت من الإرضاع فلا حضانة لها فإن كملت ناقصة بأن عتقت رقيقة أو أفاقت مجنونة أو تابت فاسقة أو أسلمت كافرة حضنت لزوال المانع من الحضانة وإن غابت الأم أو امتنعت عن فللجدة على الصحيح كما لو ماتت الأم أو جُنّتْ.
هذا كله في غير مميز والمميز إذا افترق أبواه كان عند من اختار منهما أي من أبويه إن كانا صالحين للحضانة كما روى أحمد وغيره عن أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم خيَّر غلاماً بين أبويه) قال الترمذي حديث حسن صحيح. وأخرج ابن حزم في المحلى عن عمر (أن عمراً خيَّر غلاماً بين أبويه).
وأخرج النسائي وأبوداود عن أبي هريرة أنه قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة فقالت يا رسول الله: إن هذا ولدي وإنه نفعني وسقاني من بئر أبي عتَبة وإن أباه يريد أن يذهب به فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فأخذ بيد أمه فانطلقت به).
فإن كان في أحدهما جنون أو كفر أو رقٌّ أو فسقٌ أو نكحت فالحق للآخر فقط ولا تمييز لوجود المانع من الحضانة ويخير بين أم وجد كما يخير بين الأم والأب وكذا يميز بين أم وأخ أو عم أو أب مع أخت أو خالة في الأصح لأن كلاً منهما قائم مقام الأم والثاني تقدم الأم على الأخ والعم يقدم الأب على الأخت والخالة فإن اختار أحدهما ثم اختار الآخر حوّل إليه لأنه قد يظهر له الأمر على خلاف ما ظنه. روى أبوداود وأحمد والنسائي من حديث رافع بن سنان (أن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر غلاماً بين أبيه المسلم وأمه المشركة فمال إلى الأم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهده)، فمال إلى الأب).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/28)
فإن اختار الأب ذكرٌ لم يمنعْهُ زيارة أمه ولا يكلفها الخروج إلى زيارته لئلا يكون ساعياً في قطع الرحم والولد أولى من أمه بالخروج لأنه ليس بعورة ويمنع أنثى أي يمنع الأب الأنثى من زيارة أمها لتألف القرار في المنزل وعدم البروز والأم تخرج لزيارتها لأنها أقدر على حفظ النفس. ولا يمنعها دخولاً عليها زائرة أي تزور الولد ذكراً كان أو أنثى والزيارة مرة في أيام على الدائرة بين الناس فلا بأس أن تكون كل يومين أو ثلاثة أو كل يوم إذا كان البيت قريباً. فإن مرضا فالأم أولى بتمريضها لأنها أهدى في ذلك من الأب وأصبر على تمريض الأولاد منه فإن رضي به أي التمريض في بيته فحسنٌ وإلا ففي بيتها يكون التمريض ويزورهما على أن يحترز من الخلوة المحرمة وإن اختارها ذكر فعندها ليلاً وعند الأب نهاراً يؤدبه ويسلِّمُهُ مكتب أو مدرسة ليتعلم أو يرسله إلى ذي حرفة ليتعلمها فيكون محترفاً أو أنثى اختارت أمها فعندها ليلاً ونهاراً ويزورها الأب على العادة وإن اختارهما معاً أو لم يختر واحداً منهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر كما ذكرنا.
ولو أراد أحدهما سفر حاجة كان الولد المميز وغيره مع المقيم منهما حتى يعود المسافر من سفره أو أراد أحدهما سفر نقلة فالأب أولى من الأم بالحضانة حفظاً للنسب حتى ولو كان الذي يريد السفر الأب بشرط أمن طريقه والبلد المقصود السفر إليه قيل ومسافة قصر بين البلد الأصلي وبلد الانتقال أما دون مسافة القصر فالبلدان كبلدة واحدة. ومحارم العصبة كالجد والعم والأخ حكمهم (في هذا) أي سفر النقلة كالأب فهم في ذلك أولى من الأم بالحضانة حفظاً للنسب لما ذكرنا.
وكذا ابن عم لذكر له الحق في حضانته وانتزاعه من أمه ولا يعطى أنثى حذراً من الخلوة لانتفاء الحرمية بينهما فإن رافقته في النقلة بنته سلّم الولد الأنثى إليها وبذلك تؤمن الخلوة.
? فصل في مؤنة المماليك ?
عليه كفاية رقيقه نفقة وكسوة وإن كان أعمى زَمِناً ومديراً ومستولدة من غالب قوت رقيق البلد وأدمهم وكسوتهم فقد روى مسلم عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق)). وزاد الشافعي في روايته بالمعروف أي (طعامه وكسوته بالمعروف).
وأما حديث (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس) رواه الشيخان من حديث أبي ذر، فحمله الشيخان على الندب. وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كفى أحدكم خادمه طعامَه وحرَّه ودخانه فليجلسه معه فإن أبى فليروِّ له لقمة)). وقوله فليروِّ له لقمة أي يطعمه لقمة مغموسة بدسم الطعام تحبباً وإكراماً.
ولا يكفي ستر العورة بل يلبسه ما يكفيه لكل بلد حسب حاجته في الحرِّ والبرد ويسن أن يناوله مما يتنعم به من طعام وأّدم وكسوة للأمر بذلك في الصحيحين عن أبي هريرة (فليروِّغ له لقمة أو لقمتين).
وتسقط بمُضي الزمان كنفقة القريب لا تصير ديناً كما ذكرنا. ويبيع القاضي فيها أي في نفقة العبد ماله أي مال السيد فإن فقد المال أمره ببيعه أو إعتاقه فإن لم يفعل السيد فلم يبيعه ولم يعتقه باعه القاضي أو آجَرَهُ لينفق على نفسه من كسبه فإن تعذر ففي بيت مال المسلمين ويجبر أمته على إرضاع ولدها إن كان الولد منه أو من غيره لأن منافع الأمة ولبنها لسيدها وكذا إرضاع غيره إن فضل عنه أي عن إرضاع ولدها شيء ولم يضره و يجبرها على فطمه قبل حولين إن لم يضره الفطام ويجبرها على إرضاعه بعدهما أي الحولين وإن لم يضرُها ذلك فليس لها استقلال بفطام ولا إرضاع وللحرة حق في التربية فليس لأجرهما أي الأبوين الحرين فطمه قبل حولين من غير رضا الآخر ولهما ذلك إن لم يضرْ قال تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) البقرة233 ولأحدهما فطمه بعد حولين من غير رضا الآخر لأن الحولين تمام مدة الرضاع ولهما الزيادة على الحولين إن اتفقا على الزيادة ولم تضره ولا يكلف رقيقه إلا عملاً يطيقه لخبر مسلم عن أبي هريرة (ولا يُكَلَّفُ من العمل ما لا يطيق).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/29)
ويجوز مخارجته أي مخارجة العبد بأن يقول السيد لعبده أو أمته خارجتك على أن تعطيني كلَّ يوم من كسبك كذا والباقي لك ورضي العبد بذلك بشرط رضاهما وهي خراج يؤديه كل يوم أو إسبوع حسبما يتفقان عليه. وعليه أي صاحب الدواب علْف دوابه وسقيها لحرمة الروح أو تخليتها لترعى وترد الماء. فإن امتنع أجبر في المأكول على بيع أو علف أو ذبح وفي غيره على بيع أو علف صوناً لها من التلف فإن لم يفعل ناب الحاكم عنه في ذلك وفعل ما يراه مناسباً فإن للبهائم حرمة بنفسها روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كلِّ كبد حرَّى أجر).
وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعت على النار ليلة أُسْريَ بي فرأيت امرأة فيها فسألت عنها فقيل إنها ربطت هرة فلم تطعمها ولم تسقها ولم تَدَعْها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت فعذبها الله تعالى بذلك)).
ولا يحلب ما ضر ولدها وإنما يحلب ما زاد عن حاجة ولدها وما لا روح له كقناة ودار لا تجب عمارتها إلا إذا أدى ذلك إلى خراب الديار ويكره ترك سقي الزروع حذراً من إضاعة المال المعرِّض لسخط الله.
? كتاب الجراح ?
القتل بغير حق حرام والأصل في الكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) الأنعام151. وقال تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً) النساء92. وقال تعالى: (ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً أليماً) النساء93. وروى الشيخان عن ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الذنب أكبر عند الله؟ فقال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك). وروى النسائي من حديث بُريدة: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا).
وروى مسلم وغيره عن عثمان بن عفان (لا يحل قتل إمرءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنى بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس).
والجراحات جمع جِراحة وهي إما مزهقة للروح أو مبينة للعضو أو غير ذلك وقيل التعبير بالجنايات أشمل لأنه يشمل القذف والزنا والسرقة والقتل بالسمِّ أو بالمثقّل وغير ذلك الفعل المزهن أي القاتل للنفس ثلاثة: عمد وخطأ وشبه عمد فأخر ذكره لأنه يشبه العمد ويشبه الخطأ روى البيهقي عن محمد بن خزيمة قال: حضرت مجلس المزني يوماً فسأله رجل من العراق عن شبه العمد فقال: إن الله وصف القتل في كتابه بصفتين عمد وخطأ فَلِمَ قلتم أنه ثلاثة أصناف؟ فاحتج عليه المزني بما روى أبوداود والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن سفيان بن عينة عن علي ين زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن عبدالله بن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط أو العصا مائة من الإبل أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها) فقال المناظر: أتحتج عليَّ بعلي بن زيد بن جدعان؟ (يريد أنه لا يحتج به) فسكت المزني فقلت للمناظر قد رواه جماعة غيره منهم أيوب السختياني وخالد الحذاء فقال للمزني: أنت تناظر أم هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر لأنه أعلم به مني ثم أتكلم.
ولا قصاص إلا في العمد وهو قصد الفعل والشخص بما يقتل غالباً جارح أو مثقَّلٌ والجارح كالسيف والمثقّل كل شيء ثقيل كأن يرض رأسه بحجر كبير.
قالب تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) المائدة145. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) البقرة178. وقال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) البقرة179. ومعنى الآية أن الإنسان إذا علم أنه يُقتَلُ إذا قَتَلَ لم يَقْتُلْ فكان في ذلك حياة لهما.
وروى الشيخان عن أنس (أن يهودياً رضَّ رأس جارية بين حجرين فقتلها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برضِّ رأسه بين حجرين). والرضّ: هو الدق.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/30)
فإذا فُقِدَ قَصْدُ أحدهما أي الفعل أو الشخص بأن وقع عليه فمات أو رمى شجرة فأصابه فمات أو رمى شخصاً فأصاب غيره فمات فخطأ لعدم قصد عين الشخص وإن قصدهما أي الفعل والشخص بما لا يقتل غالباً فشبه عمد لأنه أشبه العمد في قصده ومنه الضرب بسوط أو عصا خفيفتين لا يقتلان عادة من غير موالاة للضرب وفي غير المَقَاتِل فلو غرز إبرة بِمَقْتلٍ كدماغ أو عين أو حلق أو إحليل أو مثانة فعمدٌ لخطر الموضع وشدة تأثره وكذا بغيره أي غير مَقْتَل كالألية والفخذ واليد إن تورم وتألم حتى مات فعمد لظهور أثر الجناية وسرايتها إلى الهلاك فإن لم يظهر أثرٌ ومات في الحال فشبه عمد لأن مثله لا يقتل عادة وقيل عمْدٌ لأن الموت في الحال يشعر بإصابته في مقتل خفي وقيل لا شيء فيه من قصاص أو دية لأن مثله لا يقتل عادة فكأن الموت بسبب آخر ولو حبسه ومنعه من الطعام والشراب والطلب للطعام والشراب حتى مات بسبب المنع فإن مضت مدة يموت مثله فيها غالباً جوعاً أو عطشاً فعمدٌ وإلا فإن لم يكن به جوع وعطش سابق على الحبس فشبه عمد لأنه لا يقتل غالباً وإن كان به جوع وعطش سابق على الحبس فشبه عمد لأنه لا يقتل غالباً وإن كان به جوع وعطش وعلم الحابسُ الحال فعمدٌ لظهور قصد الإهلاك فقتله بما يقتل غالباً فهو كما لو قتله بالسيف وإلا أي إن لم يعلم الحال فلا أي فليس بعمد في الأظهر لأنه لم يقصد إهلاكه ويجب القصاص بالسبب المؤدي للقتل مثل ترويته في البئر فيجب فيه القصاص كما يجب في المباشرة فلو شهدا بقصاص أي شهد رجلان بقصاص على رجل فقُتِلَ بحكم القاضي بناءً على شهادتها ثم رجعا عن الشهادة وقالا تعمدنا الكذب في الشهادة لزمهما القصاص إلا أن يعترف الولي أي ولي الدم بكذبهما بالشهادة فلا قصاص عليهما ويكون القصاص على الولي أخرج البخاري عن الشعبي (أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة عليه لقطعت أيديكما)). وغرمهما دية يده.
ولو ضيّفَ بمسموم صبياً أو مجنوناً فمات وجب القصاص لأنهما تمييز لهما وقيد بعضهم القصاص بالصبي غير المميز لأنه كالآلة أما المميز فله اختيار وتجب دية مغلظة أو ضيف به بالغاً عاقلاً ولم يعلم حال الطعام فدية ولا قصاص لأنه تناوله باختياره من غير إكراه وفي قول قصاص ورجحه كثيرون مستدلين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في قتل اليهودية التي سممت له الشاة بخيبر وهذا مردود من جهتين الجهة الأولى: أنها أهدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي أضاف أصحاب والجهة الثانية أنه صلى الله عليه وسلم عفا عنها أولاً فلما مات بذلك بشر بن البراء بن المعرور قتلها. فقد روى أصحاب السنن ومسلم عن عائشة وعن أبي هريرة وعن جابر (أن يهودية بخيبر أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مصليَّة، فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إرفعوا أيديكم فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة) فأرسل إلى اليهودية فقال: (ما حملك على ما صنعت؟) فقالت: قلت إن كنت نبياً لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكاً أرحنا الناس منك فأكل منها بشر بن البراء بم معرور فمات فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فقتلها وقال صلى الله عليه وسلم: ما زالت أكلة خيبر تُعادني فهذا أَوانُ قطعت أبهري). وقوله تعادني: أي يأتيني ألمها في أوقات معلومة، أبهري: هو شريان القلب الذي يحمل إليه الدم.
وفي قول لا شيء لأنه تناوله باختياره وهو بعيد لأنه متسبب بالقتل كمن حفر بئراً في طريق الناس فتردى بها إنسان فهلك. ولو دسَّ سماً في طعام شخص الغالب أكْلُهُ منه فأكله جاهلاً فمات فعلى الأقوال في المسألة التي قبلها فعليه دية شبه عمد في أظهر الأقوال.
ولو ترك المجروح علاج جُرْحٍ مهلكٍ جَرَحَهُ إياه آخر فمات وجَبَ القصاص لأن العلاج لا يوثق أنه يحقق البرء فلا يمنع ترك العلاج القصاص من الجاني ولو ألقاه في ماء لا يعد مغرقاً كمنبسط فمكث فيه مضطجعاً حتى هلك فهدرٌ لأنه المهلك لنفسه فلا قصاص ولا دية أو مغرق لا يخلص منه إلا بسباحة فإن لم يحسنها أو كان مكتوفاً أو زمناً أو عاجزاً فَعَمْدٌ يوجب القصاص وإن منع منها أي السباحة عارضٌ كريحٍ وموجٍ فشبه عمد أي فمات فشبه عمد يوجب الدية.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/31)
وإن أمكنتْهُ السباحة فتركها فهلك فلا دية في الأظهر لأنه سبب إهلاك نفسه بإعراضه عما ينجيه وقيل قد يمنعه من السباحة عارض كدهشة أو خوف أو ألقاه في نار يمكن الخلاص منها فمكث فيها ففي الدية القولان في الماء والأظهر عدم الوجوب ولا قصاص في الصورتين أي الإلقاء في الماء أو في النار. وفي الإلقاء في النار وجه بأنها توجب الدية بخلاف الماء لأن النار تؤثر بأول ملاقاتها للجسد ولو أمسكه واحد فقتله آخر أو حفر بئراً فرداه فيها آخر أو ألقاه من شاهق فتلقاه آخر فقدّه أي قطعه نصفين مثلاً قبل وصوله إلى الأرض فالقصاص في الأولى على القاتل وفي الثانية على المردي وفي الثالثة على القادِّ فقط أي دون الممسك والحافر والملقي ولكن يغررون. بالحبس ومثله ولو أمسك رجل بامرأة وزنا بها آخر فيحد الزاني. قال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة194، فلو أوجبنا على الممسك القوَدَ مثلاً لكنّا قد اعتدينا عليه بأكثر مما اعتدى وأخرج الدارقطني في السنن عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن رجل أمسك رجلاً حتى جاء آخر فقتله فقال صلى الله عليه وسلم: (يقتل القاتل ويصبر الصابر)). قال أبو عبيد: قوله صلى الله عليه وسلم يصبر الصابر أي يحبس أي يعزر بالحبس. ولو ألقاه في ماء مغرق فالتقمه حوت وجب القصاص في الأظهر لأن الإلقاء سبب الهلاك والثاني لا يجب القود بل عليه الدية لأن الهلاك لم يكن بفعله ولو أكره على قتل شخص فعليه أي المُكْرِه القصاص وكذا يجب القصاص على المُكْرَه في الأظهر لأنهما شريكان في القتل فقد آثر المُكْرَه نفسه على نفس غيره وهذا يوجب القود. فقد روى البخاري وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتِلَ له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُودَى أو يُقاد)) فالمُكْرَه قاتل. وقيل لا يجب القود لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
فإذا وجبت الدية وزِّعت أي إذا عفا أولياء القتيل فقبلوا الدية وزعت عليهما المُكْرِه والمُكْرَه فإذا كافأه أحدهما فقط فالقصاص عليه دون الآخر وللولي تخصيص أحد المكافئين بالقتل أو أخذ حصته على الدية. ولو أكره بالغٌ مراهقاً أو صبياً أو مجنوناً على قتل إنسان فقتله فعلى البالغ القصاص إن قلنا عمد الصبي عمد وهو الأظهر لأن المأمور بالقتل لا يميز فهو كالآلة بيد الآمر فصار كما لو قتله بيده، وإن قلنا عمد الصبي خطأ فلا قصاص على البالغ لأنه شريك المخطيء.
ولو أكَرَه رجلٌ آخرَ على رمي شاخص بارز أمامه قد عَلِمَ المُكْرِه أنه رجلٌ وظنه المُكْرَهُ صيداً فرماه فقتله فالأصح وجوب القصاص على المُكْرِه وإن كان شريكه مخطئاً لأن خطأ شريكه كان نتيجة إكراه فجُعِلَ معه كالآلة أو أكرهه على رمي صيد فرماه فأصاب رجلاً فقتله فلا قصاص على أحدٍ منهما لأنهما ما تعمدا قتله أو أكرهه على صعود شجرة فَزَلِقَ ومات فشبه عمد لأن صعود الشجرة لا يقتل غالباً وقيل عمد لأنه متسبب بالقتل وهذا بعيد.
أو أكرهه على قتل نفسه بأن قال له اقتل نفسك وإلا قتلتك فقتل نفسه فلا قصاص في الأظهر لأن هذا ليس إكراهاً على الحقيقة حيث أن المخوف به والمأمور به شيء واحد ولأنه لا يخفى على أحد أن قتل نفسه غير جائز. ولو قال شخصٌ لآخر أقتلني وإلا قتلتك فقتله ذلك الشخص فالمذهب لا قصاص على القاتل لأن المقتول أهدر دم نفسه والأظهر لا دية أيضاً ولو قال اقتل زيداً أو عمراً فليس بإكراه على القتل ولو هدده بالقتل فإذا قتل واحداً منهما فعليه القصاص لاختياره للمقتول وعلى الآمر الإثم فقط.
? فصل في اجتماع مباشرتين ?
إذا وُجِد من شخصين معاً فعلان مُزْهِقان للروح مذففان أي مسرعان للقتل كحزّ للرقبة وقدٍّ أي قطع للجسم أو لا أو كانا غير مذففين كقطع عضوين فمات المقطوع بسببهما فقاتلان أي فعليهما القصاص وإن انهاه رجلٌ إلى حركة مذبوح بأن لم يبق له إبصارٌ ونطقٌ وحركة اختيار ثم جنى آخر فالأول القاتل لأنه أوصله إلى حالة الموت وعليه أعطي حكم الأموات ويعزر الثاني لهتكه حرمة ميت وإن جنى الثاني قبل الإنهاء إليها أي حركة مذبوح فإن ذفف الثاني كحز رقبة بعد جرح من الأول فالثاني قاتل وعليه القصاص وعلى الأول قصاص العضو أو مالٌ بحسب الحال من عمدٍ أو غير عمدٍ ولا اعتبار لإمكان السراية
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/32)
لأن الثاني حين ذفف كانت الحياة مستقرة. وإلا أي ولم يذفف الثاني بل جنى الإثنان ومات بسراية جنايتيهما فقاتلان بطريق السراية وعليهما القصاص ولو قتل مريضاً في النزع وعيشه عيش مذبوح وجب القصاص لأنه قد يعيش بخلاف من وصل بالجناية إلى حركة مذبوح فإنه ينتهي إلى الموت عادة.
ملاحظة: من انتهت حركته إلى حركة مذبوح لا يصح منه إسلام ولا ردة ولا وصية ولا لعان ولا قذف ولا بيع ولا شراء ولكن لا تشرعُ زوجتُهُ في العدة ولا تنقضي عدتها إذا ولدت وهو في هذه الحالة لأنه لا يحكم بموته في هذه الحالة.
? فصل في شروط القود ?
إذا قتل مسلماً ظن كفره بأن كان عليه زي الكفار أو رآه يعظم آلهتهم أو يتعبد في كنائسهم بدار الحرب لا قصاص عليه وكذا لا دية في الأظهر وتجب الكفارة أو وجده في دار الإسلام وجب أي فقد وجبت الدية والكفارة. وفي القصاص قولٌ أنه يجب وهذا مردود لأنه أبطل حرمته بظهوره بزي الكفار.
أو من عَهِدَه مرتداً أو ذمياً أو عبداً أو ظنه قاتل أبيه فقتله فبان خلافه فالمذهب وجوب القصاص على القاتل ولا يعفيه جهله عن القصاص لأن إقامة الحدود للإمام ولو ضرب مريضاً جهل مرَضَهُ يقتل المريض غالباً دون الصحيح وجب القصاص لأن جهله لا يبيح ضربه. قيل لا يجب القصاص لأن ما أتى به ليس بمهلك عادة.
ويشترط لوجوب القصاص في القتيل أن يكون قد عصمه إسلام أو أمان كما في الذمي والمعاهد فيهدر الحربي لقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة50.
والمرتد يهدر دمه فقد روى الدارقطني عن جابر (أن امرأة ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها). وروى البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)). ومن عليه قصاص فهو معصوم على غير المستحق كغيره فيلزم قاتله غير المستحق القصاص قال تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل) الإسراء33.
والزاني المحصن إذا قتله ذمي قُتِلَ به لأنه لا تسليط له على المسلم ثبت عليه ذلك ببينة أو اعتراف لم يرجع فيه وإنما يعوز القاتل لافتياته على الإمام. ويشترط لوجوب القصاص في القاتل بلوغ وعقل فلا قصاص على صبي ومجنون لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق) والقصاص من حقوق الأبدان وحقوق الأبدان لا تجب على الصبي والمجنون والمذهب وجوبه أي القتل على السكران إذا قتل لتعديه بشرب الخمر ولو قال الجاني كنت يوم القتل صبياً أو كنت يوم القتل مجنوناً صجق بيمينه إن أمكن الصبا فيه وعهد فيه الجنون قبل ذلك. ولو قال القاتل أنا الآن صبيٌ فلا قصاص عليه ولا يحلّف على أنه صبي لأن التحليف لإثبات أنه صبي والصبي لا اعتبار ليمينه وحيث سقط القصاص عن الصبي والمجنون فقد وجبت دية عمد في مالهما.
ولا قصاص على حربي وهو الذي يدخل بلادنا بلا أمان فإن أسلم بعد القتل أو عقد له عقد ذمة ولو كان إسلامه بين جَرْحِهِ المقتولَ وبين موته لأن الحربي غير ملتزم لأحكام الشرع ولأنه قد تواترت الأخبار عن النبي وأصحابه من عدم القصاص ممن أسلم بعد جنايته كوحشي قاتل حمزة ويجب القصاص على المعصوم بإيمان أو أمان لالتزامه الأحكام ويجب القصاص على المرتد لبقاء علقة الإسلام فيه بالتزامه الأول.
ويشترط أيضاً في القاتل مكافأة للمقتول فلا يقتل مسلم بذمي لما روى البخاري عن علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: (ألا لا يقتل مؤمن بكافر)) وفي رواية مسلم (ألا يقتل مسلم بكافر). ويقتل ذمي به أي إذا قتل مسلماً ويقتل أيضاً بذمي إذا اختلفت ملتهما كيهودي ونصراني ومعاهد ومستأمن لأن الكفر كله ملة واحدة فكل واحد منهما مساوٍ للآخر. قال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) المائدة45.
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرُّ بالحرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) البقرة178.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/33)
فلو أسلم القاتل لم يسقط القصاص لأن جنايته كانت حال كفره فوجب القصاص كما لو زنا وهو بكر فلم يُحدّ حتى أحصن اعتبر حال الوجوب ودليلهم في ذلك ما روى أبوداود في مراسيله عن ابن البيلماني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بذمي وقال: (أنا أحقُّ من وفّى بذمته)). ولو جرح ذميٌّ ذمياً وأسلم الجارح ثم مات المجروح فكذا يجب القصاص في الأصح للتكافؤ حال الجناية والثاني لا يقتل به نظراً إلى أن القصاص يجب حال الزهوق (ولا يقتل مسلم بكافر) فلا قصاص. وفي الصورتين السابقتين إنما يقتص الإمام بطلب الوارث ولا يفوضه إليه لأن في ذلك تسليط للكافر على المسلم.
والأظهر قتل مرتد بذمي لاستوائهما في الكفر وقيل لابقاء ربقة الإسلام في عنقه ويقتل مرتد بمرتد لتساويهما كما لو قتل الذمي ذمياً. لا ذمي بمرتد لأن الذمي أشرف من المرتدّ ولأن المرتد مهدور الدم. ولا يقتل حرٌّ بمن فيه رقٌّ لما رى الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس (لا يقتل حرٌّ بعبد) ويُقْتل مِنٌّ ومدبر ومكاتب وأم ولد بعضهم ببعض لتكافئهم في المملوكية ولو عبدٌ عبداً ثم عَتَقَ القاتل أو عتق الجارح بين الجُرح والموت فكحدوث الإسلام للذمي القاتل أو الجارح وهو عدم سقوط القصاص.
ومن بعضه حرٌّ لو قتل مثله لا قصاص عليه لأنه لم يقتل بالبعض الحرِّ البعضَ الحرَّ وبالبعض الرقيق البعض الرقيق فلا مكافأة وقيل إن لم تزدْ حرية القاتل وجب القتل لأن المقتول حينئذ مساوٍ أو فاضل على القتال ولا قصاص بين عبد مسلمٍ وحرٍّ ذمي لأن المسلم لا يقتل بالذمي مطلقاً ولا تجبر الفضيبلة في كل منهما نقيصتَهُ (ألا لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ). ولا يُقْتل والدٌ بقتل ولدٍ له وإن سفل كولد الوالد لحرمة الأب ولأن الأب كان سبباً في وجود الولد فلا يكون الولد سبباً في إعدامه لما روى الترمذي والدارقطني وغيرهما عن عمر بن الخطاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يُقادُ والدٌ بولده)). والبنت كالولد والأم كالأب. ولا قصاص له أي للولد على الوالد كأن قتل الوالد زوجته أمّ الولد ويقتل الولد بوالديه وإن علوا لأن الوالد أكمل منه فقتل به كما يقتل الكافر بالمسلم والعبد بالحرِّ والمرأة بالرجل إجماعاً.
ولو تداعيا مجهولاً فقتله أحدُهُما فإن ألحقه القائف بالآخر إقتُصَ لانقطاع نسبه عن القاتل وإلا أي وإن لم يلحقه القائف بالآخر فلا قصاص لجواز أن يكون ابنه.
ولو قتل أحد أخوين الأب والآخر قتل الأم معاً في وقت واحد فلكلٍ قصاصٌ على الآخر ولا يقدم أحدهما للقصاص على الآخر ولكن يقدم أحدهما للقصاص عند التنازع بقرعة إذ لا مزية لأحدهما على الآخر وإن اقتص الآخر بها أي بالقرعة أو مبادراً قبل القرعة فلوارث المُقْتَص منه قتل المقتَصِّ إن لم نورث قاتلاً بحق وهو المعتمد فيكون المقتصُّ قد استوفى حقه في القصاص ويكون لوارث المقتول أن يقتل المقتصَّ. وكذا إن قتلا أي الأخوان مرتباً ولا زوجية بين الأب والأم وإلا بأن كانت الزوجية قائمة فعلى الثاني فقط القصاص لأنه إذا سبق قَتْل الأب لم يرث منه قاتِلُه ويرثه أخوه وأمه وإذا قتل الآخر الأمَّ ورثها الأول أي قاتل الأب فتنتقل إليه حصتها من القصاص ويسقط باقيه ويستحق القصاص على أخيه ولو سبق قتل الأم سقط القصاص عن قاتلها واستحق قتل أخيه.
ويقتل الجميع بواحد وإن تفاضلت جراحتهم في العدد والفحش وسواء أقتلوه بمحدد أو مثقل أو ألقوه من شاهق لما روى مالك عن عمر أنه قتل خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة أي خديعة في مكان لا يوجد فيه أحد. وقال لو تمالأ أهل صنعاء على رجل لقتلتهم فيه. وللولي العفو عن بعضهم على حصته من الدية باعتبار الرؤوس على اعتبار أن الدية توزع على الرؤوس فعلى الواحد من خمسة خُمُسُ الدية ولا يُقْتَلُ شريكُ مخطيءٍ وشريكُ شبه عمد لأن الزهوق حصل بفعلين أحدهما يوجبه والآخر ينفيه فغلِّب المُسقْطُ لوجود الشبهة في الفعل المتعمد وعليهما الدية على الأول نصفها عَمْداً وعلى الثاني نصفها خطأ. ويقتل شريك الأب في قتل ولده ويقتل غبد شارك حراً في عبد وذميٌ شاركَ مسلماً في ذمي وكذا يقتل شريك حربي في قتل مسلم لأن كلاً من المذكورين لو انفرد اقتص منه ويقتل شريك قاطع قصاصاً أو قاطع حداً كأن جرحه بعد القطع فمات من القطع والجُرح وشريك قاتل النفس بأن جرح شخص نفسه وجرحه غيرُهُ فمات منهما
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/34)
فيقتل الشريك ويقتل شريك دافع الصائل بأن جرحه بعد جرح الدافع فمات منهما في الأظهر والثاني لا يقتل في الصور المذكورة جميعاً لأنه شريك من لا يضمن فهو كشريك المخطيء.
ولو جرحه جُرحين عمداً وخطأً ومات بهما أو جرح حربياً أو مرتداً ثم أسلم وجرحه ثانياً فمات لم يقتل لتغليب مُسْقِط القصاص على موجبه ولو داوى جُرْحَه بسُمٍّ مذفف مزهق للنفس فلا قصاص على جارحه لأنه قاتل نفسه وإن لم يقتل السمُّ الذي وضعه غالباً فشبه عمد فلا يوجب القصاص بل نصف دية مغلظة وإن قتل السمُّ غالباً وعلم الجارح حاله فشريك جارح نفسه فعليه القصاص في الأظهر كما سبق وقيل المعالج نفسه بالسمِّ لا يقصط قتل نفسه فالجارح شريك مخطيء فقد قصد التداوي فأخطأ فلا قصاص على شريكه. ولو ضربه بسياط فقتلوه وكان ضرب كل واحد غير قاتل ففي القصاص عليهم أوجه أصحها يجب القصاص إن تواطؤوا على ضربه وكان لفعل كلُّ واحدٍ منهم سبب في زهوق نفسه ومن قتل جمعاً مرتباًَ قُتِل بأولهم قصاصاً أو قتلهم معاً فبالقرعة تجري بينهم فمن خرجت قرعتُهُ قُتِل الجاني به وللباقين الديات قلت فلو قتله غير الأول في الأولى عصى القاتل لأن الحق للأول في القتل ويعزر لتفويته حق غيره ووقع القتل قصاصاً لأن الأول إنما استحق التقديم فقط وللأول دية والله أعلم لعدم تمكنه من القصاص.
? فصل في تَغَيّر حال المجني عليه ?
قد يتغير حال المجني عليه من وقت الجناية إلى الموت ويعتبر في ذلك قاعدة تُبْنَى عليها أكثر المسائل القادمة وهي أم كلَّ جُرح أولُهُ غيرُ مضمون لا ينقلب مضموناً بتغير الحال في الانتهاء وما ضمن فيهما يعتبر فيه قدر الضمان بالانتهاء وأما القصاص فيشترط فيه العصمة والمكافأة من أول أجزاء الجناية إلى الزهوق فإذا جرح مسلمٌ أو ذميٌ حربياً أو مرتداً أو عبد نفسه فأسلم الحربي أو المرتد وعتق العبد ثمَّ مات المجني عليه بالجرح فلا ضمان من قصاص أو دية اعتباراً بوقت الجناية ولو رماهما أي الحربي أو المرتد والعبد شخص فأسلمَ وعتقَ قبل إصابة السهم ثم مات فلا قصاص لعدم الكفاءة في أول أجزاء الجناية والمذهب وجوب دية مسلم مخففة على العاقلة اعتباراً بحال الإصابة وقيل لا تجب اعتباراً بحال الرمي ولو ارتدّ المجروح ومات بالسراية فالنفس هدر لا قود فيها ولا دية وكفارة لأنه لو قتل حينئذ فلا يجب فيه شيء ويجب قصاص الجُرح كالموضِحة وقطع الطرف في الأظهر اعتباراً بحال الجناية يستوفيه قريبه المسلم لأن القصاص للتشفي ولو كان قريبه ناقصاً وقيل يستوفيه الإمام لأنه لا وارث للمرتد فإن اقتضى الجُرح مالاً وجب أقل الأمرين من أرشِهِ أي أرش الجرح ودية النفس كأن قطع رجليه ويديه ففيه دية نفس لأنها الأقل وقيل أرشه بالغاً ما بلغ ففي قطع يديه ورجليه دينان وقيل هدر أي جرحه هدر لأنه لما سرى الجُرح قُتِلَ ودم المرتد هدر الجراحات تابعة للنفس فلا شيء فيها. ولو ارتدَّ المجروح ثم أسلم فمات بالسراية فلا قصاص لأنه بعد الجرح كان مهدور الدم. وقيل إن قصرت الردة وجب القصاص ولا يضر تخلل يسير للردة وتجب الدية على اعتبار أن الجرح والموت كان حال العصمة وفي قول نصفها توزيعاً على حالتي العصمة والإهدار ولو جرح مسلمٌ ذمياً فأسلم بعد الجرح أو جرح حرٌ عبداً فعتق العبد ومات بالسراية فلا قصاص في الحالتين لأنه لم يقصد بالجناية من يكافئه وتجب دية مسلم لأن حال الجناية مضمون وعند الموت مسلم وهي لسيد العبد ساوت الدية قيمة العبد أو نقصت عنها فإذا زادت الدية على قيمته فالزيادة لورثته أي لورثة الميت لأنها وجبت بسبب الحرية ولو قطع حرٌّ يد عبد ثم مات العبد بسراية الجراحة فللسيد الأقل من الدية الواجبة ونصف قيمته لأن أرش اليد نصف قيمة العبد فإن كان كل الدية أقل من نصف قيمة العبد فلا واجب للسيد غيره وفي قول الأقلُّ من الدية وقيمته على تقدير موت المقطوع رقيقاً وهذا مردود بأن السراية لم تحصل حالة الرقِّ حتى تعتبر في حق السيد والنقصان إذا كانت الدية أقل من القيمة جاء بسبب العتق لأنه حال موته كان حراً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/35)
ولو قطع يده أي قطع شخص يد العبد فعتق بعد القطع فجرحه آخران ومات بسرايتهم أي بسراية قطعهم فلا قصاص على الأول إن كان حراً لعدم التكافؤ حال الجناية لخبر الدارقطني (لا يقتل حرٌّ بعبد). ويجب القصاص على الآخرين للتكافؤ حال الجناية وحال الموت.
? فصل في شروط قود الأطراف زالجراحات والمعاني ?
يُشترط لقصاص الطَرَف كاليد والجُرح ما شرط للنفس من كون الجناية عمداً عدواناً ومن كون الجاني مكلفاً وكونه غير أصل للمجني عليه وكون المجني عليه معصوماً ومكافئاً للجاني ولا يشترط التساوي في البدل فيقطع الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ويقطع الذمي بالمسلم ولا يقطع المسلم بالذمي لعدم المكافأة. ولو وضعوا سيفاً على يده وتحاملوا عليه دفعة فأبانوها قُطِعوا كلهم إن تعمدوا كما في النفس لما روى البيهقي في السنن عن الشعبي (أن رجلين شهدا عند علي على رجل بالسرقة فقطع يداه ثم أتياه برجل آخر وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا في ذلك، فلم يقبل شهادتهما على الثاني وغرمهما دية يد وقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما)) ولا مخالف له في الصحابة.
وشجاج الرأس والوجه عَشْرٌ: إحداها: حارصة وهي ما شق من الجلد قليلاً نحو الخدش والثانية: دامية تدميه أي تدمي موضعها من شق وخدش والثالثة: باصعة تقطع اللحم الذي بعد الجلد أي تبعضه والرابعة: مُتلاحمة تغوص فيه أي في اللحم ولا تبلغ جلدة العظم والخامسة: سمحاق تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم وتسمى جلدة العظم سمحاق أيضاً والسادسة: موضِحة توضح العظم بعد أن تخرق جلدة العظم فتكشفه والسابعة: هاشمة تهشمه أي تهشم العظم أي تكسره والثامنة: مُنقِّلة تنقله أي تنقل العظم من موضع إلى موضع ويقال هي التي تكسر وتنقل و التاسعة: مأمومَةٌ تبلغ خريطة الدماغ أي الجلدة التي تحيط بالدماغ وتسمى أمَّ الرأس والعاشرة: دامغة تخرقها أي تخرق خريطة الدماغ وتصل إلى الدماغ وهي قاتلة غالباً.
ويجب القصاص في الموضحة فقط لتيسر ضبطها واستيفاء مثلها وقيل فيما قبلها أي قبل الموضحة من الشجاج يجب القصاص شوى الحارِصة فلا يجب فيها القصاص لعدم ضبطها أي أن التي قبل يجب فيها القصاص هي: الدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق لإمكان الوقوف على نسبة المقطوع في كل منها.
ولو أوضخ في باقي البدن أو قطع بعض مارن أنف أو أذن ولم يُبِنْهُ وجب القصاص في الأصح إذا تيسر ضبط ذلك ويقدر ما عدا الموضِحَة بالجزئية كثلث العضو أو ربعه أما في الموضحة فقد قدرت بالمساحة أما إذا أبانه أي قطع العضو فقد وجب القصاص جزماً. ويجب القصاص في القطع من مِفْصَلٍ لانضباطه حتى في أصل فخذٍ ومنكب إن أمكن بلا إجافة أي إذا كان القطع ممكناً لأن المماثلة ممكنة وإلا أي إن لم يمكن إلا بالإجافة فلا يجب القصاص على الصحيح لأن الجوائف لا تنضبط ضيقاً وسعة والجائفة هي الجرح الذي ينفذ إلى الجوف. قال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) المائدة45.
ويجب القصاص في فقء عين أي تعويرها وقطع أذنٍ وجفنٍ ومارن وهو ما لان من الأنف وذكر وأنثيين أي جلدتي البيضتين لأن لها نهايات منضبطة وكذا أليان وهي تثنية ألية وهما العظمان الناتئان بين الظهر والفخذ وشُفران وهما حرفا الفرج في الأصح لإمكان الضبط في ذلك وقيل لا يمكن الضبط إلا بقطع جُزْءٍ مما جاورهما. ولا قصاص في كسر العظم لعدم الوثوق بالمماثلة وله أي للمجني عليه قطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر وحكومة الباقي لأنه لم يأخذ كامل حقه هذا في حال الإبانة أما إذا كان كَسْرٌ بغير قطع فليس له القصاص ولو أوضحه وهشم أَوْضَحَ المجنيُ عليه لإمكان القصاص في الموضحة وأخذ خمسة أبعرة عن أرش الهشم لتعذر القصاص ولو أوضح ونقل أَوْضَحَ المجنيُ عليه الجاني وله عشرة أبعرة أؤش التنقل المتضمن الهشم ولو قطعه من الكوع أي قطعه من كوع كفه فليس له أي المجني عليه التقاط أصابعه أي أصابع الجاني فإن فعله المجني عليه عُزِّرَ ولا غُرْم عليه لأن له إتلاف الجملة والأصح أن له قطع الكف بعده أي بعد التقاط الأصابع بدلاً من قطع الكف.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/36)
ولو كسر عَضُدَه وأبانه أي وأبان العضو المكسور قُطِعَ من المرفق لأنه أقرب مفصل إليه وله حكومة الباقي لاستيفاء تمام حقه فلو طلب القطع من الكوع مُكِّن في الأصح لعجزه عن مجل الجناية ومسامجته عن الزائد والثاني لا يمكّن لأنه إذا أمكنه إستيفاء حقه قصاصاً لم يكن له أن يستوفي بعضه قصاصاً وبعضه أرشاً زالعضو من مفصل المرفق إلى الكتف ولو أوضحه في رأسه فذهب ضوؤه أي ضوء عينيه أوضحه قصاصاً فإن ذهب الوضوء فقد استوفى منه وإلا أي وإن لم يذهب ضوء عينيه أذهبه بأخف ممكن كتقريب حديدة محماة من حدقته أو وضع في عينيه شيئاً يذهب بضوئهما والحدقة هي سواد العين أما المقلة فهي السواد والبياض. ولو لطمه لطمةً تُذهب ضوءَه غالباً لطمه مثلها فإن لم يذهب ضوء عينيه أُذْهِب بالمعالجة كما سبق. والسمع كالبصر يجب القصاص فيه بالسراية في الأصح لأن له محلاً منضبطاً وكذا البطش والذوق والشمُّ يجب القصاص فيه. قال تعالى: (والجروح قصاص) المائدة45.
ولو قطع أُصْبَعاً فتآكل غيرها بالسراية كأصبه أخرى أو كفٍ قلنا لا يجب القصاص بالسراية فلا قصاص في المتآكل بالسراية.
? باب كيفية القصاص ومستوفيه والاختلاف فيه ?
والمماثلة معتبرة في وجوب القصاص في الطرف كاعتبارها في النفس ولذا قال المصنف لا تقطع يسار بيمين من يد ورجل وأذن وجفن ومِنْخَرٍ وألية لإختلاف المنفعة والمكان.
ولا شفة سفلى بعليا وعكسه أي ولا شفة عليا بسفلى ولا أنملة بأخرى ولا زائد بزائد في محلٍ آخر بأن كان له أصبع زائدة بجنب الخنصر فقطعت فلا يقطع زائدة الجاني إذا كانت بجانب الإبهام لانتفاء المساواة ولا يضر تفاوت كبر وطول وقوة بطش في عضوٍ أصلي وكذا في عضوٍ زائد في الأصح لأن المماثلة يتعسر ويندر وجودها ويعتبر قدر الموضِحَة بالمساحة أي طولاً وعرضاً عند القصاص لا يعتبر بالجزئية من العضو فيقاس مثله من رأس الشاج ويحدد عليه بعلامة ويُوضَحُ بالموس لا بالسيف ولا بالحجر وإن كانت جناية الجاني بهما لاحتمال التعدي وعدم الضبط ولا يضر تفاوت غلظ لحم وجلدٍ لأن الموضحة هي التي توصل إلى العظم ولو أوضح كلَّ رأسه وكان رأس الشاج أصغر استوعبناه أي نستوعب الرأس ولا نتممه أي الرأس من الوجه والقفا لأن محل الجناية هو الرأس فلا تنتقل إلى غيره، قال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة194. بل يؤخذ قسط الباقي من أرش الموضحة لو وزع على جميعها أي يؤخذ قسط ما بقي من الأرش إذا وزع على جميع الموضحة فإن كان الباقي ربع الموضحة مثلاً أخذ أرش ربع موضحة وإن كان رأس الشاجِّ أكبر أخذ قدر رأس المشجوج فقط معتبراً بالمساحة والصحيح أن الاختيار في موضعه أي موضع القصاص إلى الجاني لأن جميع الرأس محل لأداء القصاص فأي موضع اختاره للأداء تعين.
ولو أوضح ناصية وناصيتُهُ أصغر من ناحية المشجوج تمم باقي الرأس لأن الناصية من الرأس ولو زاد المقتصُ في موضحةٍ على حقه عمداً لزمه قصاص الزيادة لتعمده ولكن بعد اندمال الموضحة التي في رأسه فإن كان الزائد خطأً نتيجة اضطراب يده أو كانت الجناية عمداً ولكنه عفا على مال وجب للمجني عليه أرشٌ كاملٌ لأن الزائد موضحة وقيل قسط منه لاتحاد الجارح والجراحة ولو أوضحه جمع بأن تحاملوا على آلة بها أوضح من كل واحد مثلها أي مثل جميعها فأشبه ما لو اشتركوا في قطع عضو وقيل قسطه لإمكان التجزئة فتوزع عليهم. ولا تقطع صحيحة بشلاء من يد أو رجل وإن رضي الجاني بذلك لعدم تعلق القصاص بها فلو فعل المجنيُ عليه وقطع الصحيحة من غي إذن الجاني بل يقع قصاصاً بل عليه ديتها وله حكومة يده الشلاء فلو سرى القطع فقتل فعليه قصاص النفس لتفويتها بغير حق أما إذا أذن الجاني فلا قصاص وعليه دية اليد وله حكومة والنفس هدرٌ للإذن وتقطع الشلاء بالصحيحة لأ، ها دون حقه إلا أن يقول أهل الخبرة لا ينقطع الدم إذا قطعت الشلاء بأن لا تنسدُّ العروق بالمعالجة بالحسم أو غيره فعندئذ لا تقطع وتجب ديةُ صحيحةٍ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/37)
ويقنع بها أي بالشلاء إن قطعت مستوفيها ولا يطلب أرشاً لأنها يد بيد والفرق بالصفة والصفة المجردة لا تقابل بمال فلو قُتِلَ الذمي بالمسلم لم يجب لفضيلة الإسلام شيء، قال تعالى: (فمن اعتدى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة194. ويقطع سلِمٌ يداً أو رجلاً بأعسَمَ وأعرج والعَسَمُ تشنج ويباس في المفصل يجعل الكفَّ مائلة وكذلك في الرجل يجعل القدم مائلة.
ولا أثر لخضرة أظفار وسوادها فيقطع بطرفها الطرف السلِم أظفاره منهما والصحيح قطع ذاهبة الأظفار بسليمتها دون عكس فلا تقطع سليمة الأظفار بذاهبة الأظفار لأنها أعلى منها وفي قول ضعيف أن السليمة تقطع بالذاهبة لأن الأظفار زوائد تتم الدية بدونها. والذكر صحة وشللاً كاليد فيما تقدم فلا يقطع الصحيح بالأشل ويقطع الأشل بالصحيح ويقطع الأشل بالأشل بشرط أن يقول أهل الخبرة إذا قُطِعَ الأشلّ لا يخاف على الجاني من عدم انحسام العروق فيستمر النزف فيهلك والشلل من اليد انعدام الحس والحركة وقيل الحركة فقط والأشل مُنقبض لا ينبسط أو عكسه أي منبسط لا ينقبض ولا أثر للانتشار وعدمه فيقطع فحل بخصي وعنّين أي يقطع ذكر الفحل بذكر كل من الخصي والعنين لأن تعذر الانتشار ليس لخلل بالعضو بل لخلل في أعضاء أخرى والخصي من قطع خصياه أي جلدتا البيضتين ويطلق الخصي أيضاًً على مَنْ قطعت خصيتاه وأما العنين فهو العاجر عن الوطء وأنف صحيح يقطع بأخشم أي لا يشم لأن الشمَّ ليس في جشم الأنف وأذن سميع تقطع بأصم لأن السمع ليس في جرم الأذن.
لا عين صحيحة بحدقة عمياء لأ، الضوء في جرم العين ولا لسان ناطق بأخرس فلا يقطع الناطق بالأخرس لأنه لا تماثل بينهما حيث أن النطق في جرم اللسان ويقطع أخرس بناطق إن رضي المجني عليه. وفي قلع السنِّ قصاص قال تعالى: (والسن بالسن) المائدة45. لا في كسرها لعدم الوثوق من المماثلة وبصورة عامة لا قود في كسر العظام. ولو قلع شخص سنَّ صغير لم يُثْغَر أي لم تسقط أسنانه الرواضع فلا ضمان في الحال لانها تعود في جملة الوراضع عادة فإن جاء وقت نباتها بأن سقطت البواقي وعُدْن أي البواقي دونها ولم تعد السن المقلوعة وقال أهل البصر أي أهل الخبرة فسد المنبت وجب القصاص أو قالوا يتوقه نباتها وقت كذا انتظر فإن جاء ولم تنبت وجب القصاص ولو عادت بعد القصاص بان أنه لم يقع الموقع فتجب دية المقلوعة قصاصاً. ولا يُسْتَوفى له في صغره بل يؤخر لبلوغه لاحتمال أن يعفو إذا بلغ فلو مات قبل البلوغ اقتص وارثه فوراً أو أخذ أرش الجناية ولو قلعَ سنَّ مثغور أي قد نبتت أسنانه بعد الرواضع فنبتت قبل أخذ مثلها من الجاني أو أرش الجناية لم يسقط القصاص في الأظهر لأن عددها نادر فهي نعمة متجددة فلا يسقط بها ما وجب للمجني عليه من القصاص ولو نقصت يده أصبعاً فقطعَ يداً كاملة قُطِعَ وعليه أرش أصبع للمجني عليه وله أن يأخذ دية يد كاملة ولو قطع كاملٌ يداً ناقصة أصبعاً فلو شاء المقطوع أخذ دية أصابعه الأربع وإن شاء لقطها أي الأصابع وليس له قطع يد الكامل كلها لزيادتها والأصح أن حكومة منابتهن أي الأصابع الأربع تجب إن لقط لأ، ها ليست من جنس القصاص فلا تستتبعها لا إن أخذ ديتهن فتستتبعها لأنها من جنسها. والأصح أنه تجب في الحالتين حكومة خُمْسِ الكف الباقي والثاني تستتبع الأصابع فلا حكومة. ولو قطع كفاً بلا أصابع فلا قصاص عليه لفقد المساواة. إلا أن يكون كفه مثلها حال الجناية فيجب القصاص ولو قطع فاقد الأصابع كاملها أي كامل الأصابع قطع المجني عليه كفه أي الجاني وأخذ دية الأصابع ناقصة حكومة الكف لأن الكف تستتبع الأصابع وقد أخذ مثلها فلزم إسقاط مقابلها من دية الأصابع ولو شَلتْ اصبعاه فقطع يداً كاملة فإن شاء المجني عليه لقط الأصابع الثلاث السليمة وأخذ دية أصبعين وإن شاء قطع يده وقنع بها وليس له طلب أرش الأصبعين الشلاوين كما لو كانت يده شلاء كلها لا يستحق شيئاً مع قطعها كما سبق الكلام فيه.
? فصل في اختلاف مستحق الدم والجاني ومثله وارثه ?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/38)
إذا قدَّ ملفوفاً أي قطع ملفوفاً في ثوب وزعم موته حين قدّه صدّق الولي بيمينه في الأظهر أنه كان حين قده حياً لأن الأصل بقاء الحياة وقل الأصل براءة الذمة وقيل يفرق بين أن يكون ملفوفاً على هيئة الأموات أم على هيئة الأحياء ولو طَرَفاً وزعم نقصه أي زعم الجاني نقص الطرف فالمذهب تصديقه أي تصديق الجاني بيمينه إن أنكر أصل السَّلامة في عضو ظاهر كاليد واللسان والعين لأن ذلك مما يراه الناس فيسهل إقامة البينة بسلامة العضو وإلا أي وإذا اعترف بأصل السلامة في العضو الظاهر وأنكره في عضو باطن كالفخذ فلا يصدقُ الجاني بل يصدق المجني عليه لأن الأصل السلامة أو قطع يديه ورجليه فمات بعد القطع وزعم الجاني سرايةً أدت إلى موته أو قال قتلته قبل موته حتى تجب عليه دية نفس واحدة وزعم الولي اندمالاً ممكناً قبل الموت أو ذكر سبباً آخر للموت كأن يقول قتل نفسه أو تردى في بئر فالأصح تصديق الولي لأن الأصل عدم السراية فتجب ديتان وكذا لو قطع يده فمات وزعم الجاني سبباً وزعم الولي سراية فيصدق الوليُّ ولو أوضح الجاني موضَحَتين ورفع الجاني الحاجز بينهما واتحدَ الكلُّ وزعمه قبل الاندمال أي أن الرفع كان قبل الاندمال حتى لا يلزمه إلا أرش موضحة واحدة صدق الجاني بيمينه إن أمكن عدم الاندمال حين رفع الحاجز وإلا يمكن الاندمال حلف الجريح أ، الجاني رفع الحاجز بعد الاندمال وثبتت له أرشان أي ثبت بذلك حق المجني عليه بأرشين أرش لكل موضحة. قيل وثالث أيضاً والأرش الثالث لرفع الحاجز بين الموضحتين فأصبح عددها ثلاثة.
? فصل في مستحق القود ومستوفيه ?
الصحيح ثبوته لكل وارث أي يثبت القصاص على كل وارث بحسب الإرث وقيل ثبوت القصاص للعصبة فقط لأنه لدفع العار فيختص بهم وَيُنْتَظرُ غائبهم إلى أن يحضر وجوباً وينتظر كمال صبيهم ببلوغه ومجنونهم بإفاقته ويحبس القاتل أي يجب على القاضي حبس الجاني على النفس وغيرها إلى حضور المستحق أو كماله ضبطاً للحق ولا يخلّى بكفيل لأنه قد يهرب ويفوت الحق وليتفقوا أي مستحقو القصاص على مستوفٍ منهم أو من غيرهم بالتوكيل وإلا أي إذا لم يتفقوا على مستوفٍ وأراد كل واحد منهم أن يستوفيَ القصاص بنفسه فقرعة بينهم فمن خرجت قرعته تولاه بإذن الباقين ويدخلها العاجز عن الاستيفاء مثل الشيخ الهرم والرأة لأنه صاحب حق ويستنيب إذا خرجت القرعة له. وقيل لا يدخل العاجز وإنما تجري القرعة بين المستويين في أهلية الاقتصاص. ولو بدر أحدهم فقتله أي أسرع أحدهم فقتل الجاني فالأظهر أنه لا قصاص عليه لأن له حقاً في قتله والباقين قسط الدية من تركته أي من تركة الجاني لأن المبادر فيما وراء حقه كالأجنبي وله مثله على المبادر وفي قول لهم قسط الدية من المبادر لأنه أتلف ما يستحقه هو وغيره فلزمه ضمان حق غيره وإن بادر أحدهم فقتل الجاني بعد عفو غيره من المستحقين لزمه القصاص لأن حقه من القصاص يسقط بعفو غيره وقيل لا قصاص إن لم يعلم بالعفو ولم يحكم قاضٍ به أي يمنع القصاص وأحدهما يكفي فإن لم يعلم أو لم يحكم قاض فلا قصاص ونفي الحكم بالقصاص. ولا يستوفى قصاص إلا بإذن الإمام لاحتياجه إلى اجتهاد ولاختلاف العلماء في شروطه سواء في النفس والطرف.
فإذا استقل مستحق القصاص به دون إذن القاضي أو نائبه عُزِّرَ واعْتُدَّ بالقصاص ويأذن القاضي لأهل أن يستوفي القصاص في نفس لا طرف في الأصح بل يقوم بذلك من هو أهل في الطرف مخافة الحيف وتعمد الأذى.
فإن أذن القاضي في ضرب رقبة فأصاب المأذون له غيرها عُزِّر ولم يعزله بعد التعزير لأهليته للاقتصاص. وإن قال أخطأت وأمكن وقوع الخطأ كأن ضرب كتفه بدلاً من ضرب رقبته لقرب الموضع عزله لأن حالَهُ يوحي بعجزه وقد يخطيء ثانية ولم يُعزّر على خطأه لأنه لم يتعمد التعدي وأجره الجلاد وهو المنصوب لاستيفاء القصاص على الجاني على الصحيح إن لم ينصب الإمام جلاداً ويرزقه من المصالح ويقتص المستحق على الفور لأن القصاص وجب بالإتلاق فيتعجل كسائر قيم المتلفات ويقتص في النفس والطَرَف في الحرم فإن التجأ إليه أو إلى مسجده أو إلى الكعبة فيخرج من المسجد ويقتل لخبر الصحيحين: (إن الحرم لا يعيذ فاراً بدم). وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: أن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال صلى الله عليه وسلم: اقتلوه. قال تعالى: (واقتلوهم حيث
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/39)
وجدتموهم) المائدة89. ويقتص في الحرِّ والبرد والمرض ومن قال يؤخر القصاص في الحرم والحر والبرد والمرض فقد حمل ذلك على الندب وتُحْبَسُ الحامل في قصاص النفس أو الطرف حتى ترضعه أي طفلها اللبأ وهو اللبن أول النتاج لضرورته لحياة الولد ويستغني ولدُها بغيرها من بهيمة يحل لبنها أو امرأة أو فطام حولين إن لم يوجد من يرضعه غيرها فنصبر عليها حتى تفطمه لحولين إن لم يضره الفطام.
والصحيح تصديقها في حملها بغير مَخِيلَةٍ حتى ولو لم تبدُ عليها علائم الحمل فتصدق المرأة بحملها لأنها قد تجد من أمارات الحمل ما لا يطلع عليه غيرها. قال تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) البقرة228. ومَنْ قُتِلَ بمحدد أو خنق أو تجويع ونحوه اقتص به أي اقتص الولي بمثله قال تعالى: (فمن اعتدى عليه فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة194.
وروى البيهقي في السنن عن البراء بن عازب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غرَّقَ أغرقناه ومن حرَّقَ حرقناه)). وروى الشيخان عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برضِّ رأس يهودي بين حجرين وكان قتل جارية بذلك).
أو قتل بسحر فبسيف يُقْتلُ وكذا يقتل مَنْ قتل ببول أو خمر بأن أوجره خمراً حتى مات ولواط في الأصح فإذا لاط بصغير فمات فيقتل بالسيف لامتناع المماثلة ومثل اللواط إذا جامع صغيرة فماتت فيقتل بالسيف.
ولو جُوِّع كتجويعه فلم يمت زِيْدَ أي إذا حَبَسَ إنساناً ومنعه الطعام فمات فَيجوُّع مثل ذلك فإن لم يمت زيد فيه حتى يموت الجاني ليكون قتله بالطريقة التي قتل بها وفي قول يكون السيف آلة القتل ومَنْ عَدَلَ عن المماثلة إلى السيفِ فله ذلك سواء رضي الجاني أم لم يرضَ خروجاً من خلاف من أوجبه.
ولو قطع يده مثلاً فسرى القطع إلى النفس فهلك المجني عليه فللولي حزُّ رقبته تسهيلاً على الجاني وله أي الولي القطع للمماثلة ثم الحزُّ للرقبة للسراية وإن شاء انتظر بعد القطع السراية لتكمل المماثلة. فقد روى عبدالرزاق في المصنف عن طريق بن ربيعة (أن رجلاً جرح حسان بن ثابت فجاءه رهطه من الأنصار ليُقْتصَّ لهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبروا حتى يستقرَّ الجرح فإذا اندمل أخذتم القصاص في الجرح وإن صار نفساً أخذتم القصاص في النفس)).
ولو مات بجائفة أو كسر عضوٍ فالحز لرقبته فقط لأن المماثلة لا تتحقق وفي قول أن للولي أن يفعل بالجاني كفعله تحقيقاً للمماثلة قال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة194. فإن لم يمت لم تُزَدِ الجوائف في الأظهر بل تُحزُّ رقبته ولو اقتص مقطوع ثم مات سراية بعد أن اقتص من الجاني ثم مات المجني عليه سراية فلوليه حزٌّ لرقبة الجاني في مقابلة مورثه وله عفو بنصف دية واليد المقطوعة مقابل نصف الدية ولو قٌطِعَتْ يداه فاقتصَّ ثم مات سراية فلوليه الحزُّ للرقبة فإن عفا فلا شيء له لأنه استوفى ما يقابل الدية كاملة ولو مات جانٍ من قطع قصاص فهدرٌ لما أخرج عبدالرزاق في المصنف عن عمر وعلي أنهما قالا: (من مات من حدٍّ أو قصاص فلا دية له، الحقُّ قتله). ولا مخالف لهما من الصحابة فكان إجماعاً.
وإن ماتا سراية معاً أو سبق المجنيُّ عليه موت الجاني فقد اقتصَّ بالقطع والسراية وإن تأخر موته فله نصف الدية في الأصح لأن السراية سبقت وجوب القصاص فلم تقع قصاصاً وإنما تكون السراية هدراً وعلى هذا يجب للمجني عليه في مال الجاني نصف الدية لأنه قد أخذ يداً بنصف الدية والثاني أن السراية إلى نفس الجاني تكون قصاصاً كما لو مات المجني عليه أولاً ثم مات الجاني ثانياً. ولو قال مستحقُ قصاص يمينٍ للجاني أخرجها أي أخرج يمينك فأخرج يساره عالماً أنها اليسار وأنها لا تجزيء وقصد إباحتها فمَهدُرَةٌ لا قصاص فيها ولا دية وإن قال المخرج بعد قطعها جعلتها على اليمين وظننت إجزاءها عنها فكذبه المستحق فالأصح لا قصاص في اليسار لأنه حين أخرجها أقمنا ذلك مقام الإباحة في قطعها وتجب دية فيها لأنه لم يبذلها مجاناً وقيل يجب القصاص لأن القطع كان بغير استحقاق ويبقى قصاص اليمين فقيل يجب لكل واحد دية يد وعليه دية يد فيتقاصان إذا استويا وإن تفاضلا بأن كان أحدهما رجل والآخر امرأة رجع الرجل على المرأة بماله من فضل. وقيل لا يسقط حقه من قصاص اليمين لأنه إنما رضي بإسقاط حقه من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/40)
القصاص بأن تكون اليسار بدلاً من اليمين فإذا لم يصحَّ أن تكون بدلاً عنها كان حقه باقياً في المُبْدَلِ كما لو صالح على الإنكار وعلى هذا فليس له أن يقتص في اليمين إلا بعد اندمال اليسار لئلا يؤدي ذلك إلى الهلاك. وكذا لو قال مَنْ أخرج اليسار دُهِشْتُ أي أخذتني الحيرة والمفاجأة فظننتها اليمين أو ظننته قال أخرج يسارك وقال القاطع ظننتها حين أخرجها اليمين فلا قصاص فيها في الأصح وتجب ديتها ويبقى قصاص اليمين كما ذكرنا.
? فصل في موجب العمد وفي العفو ?
مُوجَب العمد في نفس أو طرف القَوَد أي القصاص وسمي بذلك لأنهم يقودون الجاني بحبل أو غيره إلى مكان الاستيفاء. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر) البقرة178.
وروى الشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في العمد القود)). والدية أو الأرش بدلٌ عند سقوطه بعفو أو غيره كموت الجاني. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرُّ بالحرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) البقرة178. وفي قول أحدهما مبهماً أي القود أو الدية فإن استقاد الولي علمنا أن الواجب كان هو القود وإن عفا عن القود إلى الدية علمنا أن الواجب كان هو الدية. لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خَيَرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية) رواه الشيخان عن أبي هريرة.
قال ان عباس (الولي في ذلك فخيرٌ بين القتل والدية). ومثله عن ابن مسعود ولا مخالف لهما فدل على أنه إجماع وعلى القولين للولي عفو عن الدية بغير رضا الجاني لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن قَتَلَ بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية) ولم يعتبر رضا القاتل. وروى البيهقي في السنن عن زيد بن وهب (أن رجلاً دخل على امرأته فوجد معها رجلاً فقتلها فقال بعض أخوتها: قد تصدقت بنصيبي فقضى عمر رضي الله عنه لسائرهم بالدية).
وورى البيهقي وغيره عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ما رفع إليه قصاص قطٌّ إلا أمر فيه بالعفو) وعلى الأول وهو موجب العمد القود لو أطلق أطلق العفو فالمذهب لا دية لأن القتل على هذا لم يوجب الدية. وفي قول تجب الدية لأنها بدل القتل. ولو عفا عن الدية لغا بناءً على أن الدية غير واجبة لأنه عفو عن غير موجود. ولهُ العفو بعده أي بعد العفو عن القصاص على الدية ولو عفا على غير جنس الدية ثبت له ذلك إن قبل الجاني بذلك وسقط القصاص وإلا بأن لم يقبل الجاني فلا يثبت له شيء لأنه اعتياض فاشترط رضاهما ولا يسقط القَوَدُ في الأصح لأن العوض لم يحصل وليس لمحجور فلس عفو عن مال إن أوجبنا أحدهما لأن ذلك يفوت حق الغرماء وإلا بأن أوجبنا القود فقط فإن عفا عن القود على الدية ثبتت له الدية وإن أطلق العفو فكما سبق أنه لا دية وإن عفا المحجور عليه بفلس على أن لا مال فالمذهب أنه لا يجب شيء وقيل تجب الدية كما ذكرنا بناءً على أن العفو يوجبها فليس له تفويتها والمبذر حكمه بعد الحجر عليه بالتبذير في إسقاط القود واستيفائه كرشيد أما في الدية فهو فيها كمفلس يحجر عليه لحق نفسه وقيل كصبي أي قيل المبذر كصبي فلا يصح عفوه عن المال مطلقاً. ولو تصالحا على القود على مئتي بعير لغا إن أوجبنا أحدهما لأنه زيادة على المنصوص فقد روى أحمد والترمذي وغيرهم عن ابن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل متعمداً سُلِّم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل: ثلاثين حقة وثلاثين جَذَعة وأربعين خَلِفةً في بطون أولادها)). رواه الترمذي وابم ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وإلا فالأصح الصحة أي إذا أوجبنا القود بعينه فأخذ بدلاً عن الواجب فهو بالخيار. ولو قال رشيد لآخر اقطعني ففعل الآخر فهدرٌ لأنه أذن في ذلك وفي قول تجب دية كاملة بناءً على الخلاف هل الدية تثبت للوارث ابتداء أم تثبت للميت ابتداءً ثم تنتقل إلى الوارث ولو قُطِعَ من شخص عضو فعفا عن قوده وأرشه فإن لم يَسْرِ الجرح فيقتل فلا شيء لإسقاطه الحق بعد ثبوته. وإن سرى فلا قصاص لأ، السراية تولدت من مَعفوٍ عنه فصارت شبهة دافعة للقصاص وأما أرش العضو فإن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/41)
جرى في لفظ العفو عنه لفظ وصيةٍ كأوصيت له بأرش هذه الجناية فوصية لقاتل فالمشهور صحتها وحينئذ يسقط الأرش إذا خرج من الثلث أو أجاز الوارث الوصية وإن لم يدز الوارث سقط من الإرث قدر الثلث.
أو جرى في العفو لفظ إبراء أو لفظ إسقاط أو لفظ عفو عن الجناية سقط الأرش قطعاً وقيل ما جرى في هذه الألفاظ وصية فيعتبر الثلث. وتجب الزيادة عليه أي الزيادة على الأرش إلى تمام الدية للسراية وفي قول إن تعرض في عفوه عن الجناية لما يحدث منها سقطت الزيادة وقيل لا تسقط لأن إسقاط الشيء غير ثبوته. قال جماعة غير صحيح وقال آخرون هو صحيح إذن وُجِدَ سببه. فلو سرى إلى عضو آخر فاندمل ضمن دية السراية في الأصح لأنه إنما عفا عن موجب جناية موجودة فلا يتناول غيرها وقيل لا يضمن لأنها سراية معفو عنه.
ومن له قصاص نفس بسراية طرف قُطِعَ لو عفا عن النفس فلا قطع له لأن مستحَقَهُ القتل وقد عفا عنه أو كان عفا عن الطرف فله جزُّ الرقبة في الأصح كلاً منها حقه وقيل لا لأن استحقاق القتل نتيجة القطع الساري وقد عفا عنه ولو قطعه ثم عفا عن النفس مجاناً أي عفا الولي عن النفس بعد القطع مجاناً فإن سرى القطع بان بطلان العفو ووقعت السراية قصاصاً لأن السبب وجد قبل العفو وترتب عليه مقتضاه فلم يؤثر فيه العفو. وإلا أي إن لم يسرِ قطع الولي بل وقف فيصح عفوه لأنه أثر في سقوط القصاص.
ولو وكّل ثم عفا بعد التوكيل فاقتصَّ الوكيل من الجاني جاهلاً بالعفو فلا قصاص عليه لأنه معذور بجهله والأظهر وجوب دية عليه لتقصيره بعدم التثبت قبل الإقدام على القصاص وأنها أي الدية عليه لا على عاقلته مغلظة لورثة الجاني والأصح أنه لا يرجع بها على العافي لأنه محسن بالعفو وما على المحسنين من سبيل وقيل يرجع لأنه غرهولو وجب قصاص عليها أي وجب قصاص على امرأة فنكحها عليه أي جعل القصاص صداقاً جاز وسقط القصاص لأن ذلك يتضمن العفو فإن فارق قبل الوطء رجع بنصف الأرش لتلك الجناية وفي قول يرجع بنصف مهر مثل لأن مهر المثل هو بدل البضع والمعتمد الأول.
? كتاب الديات ?
الديات جمع دية: وهي شرعاً المال الواجب بالجناية على حرٍّ في نفس أو غيرها وبناءً على هذا فإن الحكومة أو الأرش تسمى دية. والأصل فيها قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة ودية مسلَّمةٌ إلى أهله) النساء92.
وما روى النسائي عن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمين (وفي النفس مائة من الإبل)، وقال ابن المنذر في الإشراف (أجمع أهل العلم على أن دية الرجل مئة من الإبل).
في قتل الحرِّ المسلم مائة بعير مثلثة في العمد: ثلاثون حقةً وثلاثون جذعةً وأربعون خَلِفَةً أي حاملاً. فقد روى الترمذي عن عبدالله بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل متعمداً سُلِّم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا أخذوا العقل: ثلاثين حقةً وثلاثين جذعةً وأربعين خلفةً في بطونها أولادها)). والبعير يطلق على الذكر والأنثى والدية هذه مغلظة من حيث السنِّ وأنها على الجاتي دون عاقلته وأنها حالة غير مؤجلة.
ومخمسةٌ في الخطأ عشرون بنتَ مخاض وكذا بناتُ لبون وبنو لبون وحقاق وجذاعٌ فقد أخرج الترمذي وغيره من ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الخطأ بمائة من الإبل مخمسَّةٌ: عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقةً وعشرون جذعةً)، وهذه الدية مخففة من ثلاثة أوجه: كونها على العاقلة ومؤجلة لا حالَّةٌ ومخمسّة فإن قتل خطأ في حرم مكة أو الأشهر الحرم: ذي القعدة وذي الحجة والمحرّم ورجب أو فعل شخصٌ قريباً له محرماً ذا رحم كالأم أو الأخت مثلثة أي تكون الدية مغلظة في القتل في حرم مكة أو في الأشهر الحرم أو قتل أحد المحارم من ذوي الرحم. وبذلك أفتى ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم من الصحابة ولم ينكر ذلك أحدٌ من الصحابة فكان إجماعاً. وانفراد المحرمية عن الرحم كما في المصاهرة والرضاع لا تغليظ فيه وكذلك انفراد الرحمية عن المحرمية فلا تغليظ في أولاد الأعمام والأخوال والخطأ وإن تثلث فعلى العاقلة مؤجلةٌ أي أن صفة التغليظ إيجاب دية العمد في الخطأ لا غير ولا يجمع بين تغليظين. فقد روى الترمذي عن أبي شريح الكعبي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/42)
(وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية)). وهذا القتل كان بمكة في حرم الله تعالى فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على الدية في العدد.
ودية العمد على الجاني معجلة في ماله كسائر المتلفات وشبه العمد مثلثةٌ أي مقسمة على ثلاث سنين على العاقلة مؤجلة. فقد روى الشيخان عن أبي هريرة (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فماتت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلتها).
ولا يُقْبَلُ مَعيبٌ ولا مريضٌ إلا برضاه أي برضاه المستحق ويثبت حمل الخلفة بأهل الخبرة أي بعدلين منهم والأصح اجزاؤها أي الخلفة قبل خمس سنين إذا عُلِمَ حملها وإن كان الغالب أي الناقة لا تحمل قبل خمس سنين ومن لزمته الدية وله إبلٌ فمنها أي تخرج الدية من إبله وقيل من غالب إبل بلده تؤخذ الدية إن كانت إبله غير إبل البلد وإلا فغالب قبيلة بدوي وذلك إن لم يكن له إبل وإلا بأن لم يكن في بلده أو البلدة إبل بصفة الإجزاء ولا يعدل بنوع وقيمة إلا بتراضٍ منهما ولو عدمت الإبل بأن لم توجد أو شرعاً بأن وجدت بأكثر من ثمن مثلها فالقديم الواجب ألفُ دينار على أهل الدنانير أو إثنا عشر ألف درهم فضة على أهل الدراهم فقد روى الشافعي عن مكحول وعطاء أنهما قالا (أدركنا الناس على أن دية الحر المسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل فقوّمَهَا عمرُ بألف دينار واثنا عشر ألف درهم).
وروى أبوداود عن ابن عباس (أن رجلاً قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحعل ديته اثنى عشر ألف درهم) والجديد قيمتها بنقد بلده بالغة ما بلغت ويلزم الولي قبولها وإن وُجدَ بعضٌ من الدية أُخِذَ وقيمة الباقي سواء كان الموجود من إبله أو إبل بلده أو إبل أقرب البلدان إليه.
والمرأة والخنثى في الدية كنصف دية رجل نفساً وجرحاً لما روى البيهقي عن معاذ بن جبل (دية المرأة نصف دية الرجل) وألحق بديتها في النفس ديتها في الجرح وألحق بالأنثى الخنثى. ويهودي ونصراني فديته ثلث دية مسلم وكذا دية المعاهد والمستأمن ثلث دية المسلم لما روى الشافعي عن عمر وعثمان أنهما قضيا بذلك. وأما غير المعصوم من المرتدين ومن لا أمان لهم فيقتل في كل حال قال تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة5.
ومجوسي ثلثا عُشْرِ مسلم قال الشافعي في الأم قضى بذلك عمر وعثمان وهذا التقرير لا يعقل بلا توقيف وهذا قول أكثر أهل العلم فمن قال بذلك: عمر وعثمان وابن مسعود وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء وعكرمة والحسن ومالك وأحمد وإسحاق. وكذا دية وثني له أمان وهي دية كل عابد صنم وشمس وقمر وملائكة وكل من لا ينتحل ديناً فمن دخل ديارنا بأمان أما من لا أمان له فدمه هدر.
والمذهب أن من لم يبلغه الإسلام أن تمسك بدين لم يُبَدْل فدية دينه فإن كان كتابياً فدية كتابي وإن كان مجوسياً فدية مجوسي وقيل دية مسلم لأنه ولد على الفطرة ولم يظهر منه عناد وإلا أي إذا تمسك بدين بُدّل ولم يبلغه ما يخالفه أو لم تبلغهُ دعوة نبي أصلاً فكمجوسي أي ديته دية مجوسي وأما المتولد بين كتابي ووثني مثلاً فإن ديته دية كتابي لأن القاعدة أن المتولد يتبع أشرف الأبوين ديناً.
? فصل في الديات الواجبة فيما دون النفس ?
تجب في مُوضِحَة الرأس أو الوجه لخبر مسلم خمسة أبعرة فقد روى الترمذي وغيره عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في المُوضِحَة خمس من الإبل)). قال الترمذي حديث حسن صحيح. وفي هاشمةٌ مع إيضاح عشرة لما روى الدارقطني والبيهقي عن زيد يبن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشراً من الإبل) وَدُونَهُ أي وفي هاشمة من دون إيضاح خمسة أبعرة لأن العشرة في الإيضاخ والهشم وأرش الموضحة خمسة فتعين أن الخمسة الباقية في مقابل الهشم فوجبت عند انفراده وقيل في الهشم إذا خلا عن الإيضاح حكومة لا يبلغ بها خمسة أبعرة لأنها كسر كسائر الكسور. وفي مُنقِّلة خمسة عشر بعيراً لما روى أبوداو والنسائي وابن حبان والحكم عن عمرو بن حزم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له (وفي النقلة خمسَ عشرة))، وقال الحاكم: هذا حديث كبير مفسر في هذا الباب (أي حديث عمرو بن حزم في باب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/43)
الديات) يشهد له أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز وإمام العلماء قي عصره محمد بن مسلم الزهري بالصحة وجاء فيه (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبدكلال ونعيم بن عبدكلال والحارث بن عبدكلال قيل ذي قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد: .... وأن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول وأن في النفس مئةٌ من الإبل وفي الأنف إذا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدية وفي اللسان الدية وفي البيضتين الدية وفي الشفتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي اللسان الدية وفي العينين الدية وفي الرِّجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي النقلة خمسَ عشرةَ وفي كل إصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل وفي السنِّ خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألفُ دينار). قال الحافظ يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا قوله: اعتبط: قتل من غير جناية ولا ذنب.
ومأمومة ذلث الدية لما روى عمر بن الخطاب وعمرو بن حزم (وفي الآمَّة ثلث الدية) وهو قول علي وزيد بن ثابت ولا مخالف لهما ولو أوضح واحد فهشم آخر ونقل ثالث وأمَّ رابع فعلى كل من الثلاثة خمسةٌ من الأبعرة والرابع تمام الثلث. وهو ثمانية عشر بعيراً وثلث بعير وهذا كله في المسلم الذكر. وفي المرأة النصف من ذلك والشِجَاجُ قبل الموضِحَة إذا عُرفت نسبتُها منها وجب قسط من أرشها بالنسبة بأن كان في رأس المجني موضحة ثمَّ شَجَّ في رأسه دامية أو باضعة فإن عُرِف قدر عمقها من عمق الموضِحة التي في رأسه وجب فيها بقدر ذلك من أرش الموضحة وإلا أي إذا لم يمكن معرفة عمقها من عمق الموضحة فحكومة لا تبلغ أرشَ موضِحة كجرح وسائر البدن أي باقيه كالإيضاح والهشم والتنقيل فإن فيه الحكومة فقط.
وفي جائفة ثُلثُ ديةٍ لخبر عمرو بن حزم السابق وهي أي الجائفة جُرحٌ ينفذ إلى الجوف كبطن وصدر وثغرة نحر وجبين وخاصرة أي وسط الجسم جاءت من الخصر ولا فرق بين أن تكون الإجافة بحديدة أو خشبة ولا يختلف أرش موضحة بكبرها فقد روى البيهقي فن السنن والبزار عن عمر بن الخطاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الموضحة خمسٌ من الإبل)) ولم يفرق بين صغيرة وكبيرة.
وأخرج أبوداود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي المُواضِح خمسٌ من الإبل)).
ولو أوضح موضعين بينهما لحم وجلدٌ قيل أو أحدهما أي لحم فقط أو جلد فقط فمُوضِحَتَان لوجود حاجز بين الموضعين ولو انقسمت موضِحَتُهُ عمداً أو خطأً أو شملت رأساً ووجهاً فموضحتان لاختلاف الحكم أو المحل والأولى لتعدد الصورة. ولو وسع موضحة فواحدة على الصحيح كما لو أتى بها واسعة ابتداءً لأن فِعْلَ الإنسان يبنى بعضه على بعض كما لو قطع يديه ورجليه ثم مات فإنها دية واحدة. أو وسع موضحة غيره فثنتان لأن فِعْلَهُ لا يبنى على غيره والجائفة كموضحة في التعدد وفي عدم التعدد أيضاً فلو أجافه في موضعين بينهما لحم وجلد قيل أو أحدهما فجائفتان ولو رفع الحاجز بينهما أو تآكل الحاجز فواحدة على الصحيح وكذا لو انقسمت عمداً أو خطأً فواحدة على الصحيح. ولو نفذت في بطن وخرجت من ظهر فجائفتان في الأصح فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن سعيد بن المسيب (أن أبا بكر قضى في رجل رمى رجلاً بسهم فنفذت من البطن حتى خرجت من الظهر بثلثي الدية). ولو أوصل جوفه سناناً له طرفان فثنتان إذا كان الحاجز بينهما سليماً كما لو أجافه جائفتين ولا يسقط أرش بالتمام موضِحة وجائفة لأن مبنى كتاب الديات على اختلاف الاسم وقد وجد كما أن الأرش في مقابلة الجزء الفائت من الجسد والألم الحاصل والمذهب أن في الأذنين دية لا حكومة لما روى الدارقطني والبيهقي عن عمرو بن حزم (وفي الأذن خمسون من الإبل). ومن قال حكومة فقج بنى على أن السمع لا يحلُّ بهما وليس فيهما منفعة ظاهرة وهذا بعيد. وبعض منهما بقسطه من الدية ولو أيبسهما بالجناية بحيث لو حُرِكَتَا لم تتحركا محل السمع. ولو قطع يابستين فحكومة كقطع اليد الشلاء أو جفن أو أنف استحشف أي يبس وفي قول دية لإزالة منفعتهما.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/44)
وفي كل عين نصف دية لما روى مالك عن عمرو بن حزم (وفي العين خمسون من الإبل). وروى النسائي عن عمرو بن حزم (وفي العينين دية). ولو كانت عينُ أحولَ وهو من كان بعينه خلل وأعشى وهو من يسيل دمعه غالباً مع ضعف في البصر وأعورَ وهو من فقد ضوء إحدى عينيه لبقاء أصل المنفعة. وكذا مَنْ بعينه بياض لا ينقص الضوء فيجب في قلعها نصف الدية فإذا نقص الضوء وأمكن ضبط النقص بالقياس إلى الصحيحة التي لا بياض فيها فقسط ما نقص يسقط من الدية فإن لم ينضبط النقص فحكومة تجب فيها وسواء في ذلك كان البياض على البياض أو كان البياض على السواد وفي كل جَفْنٍ رُبُع دية ولو لأعمى لأن فيها جمالاً ومنفعة وإن قطع بعضها وجب فيها من الدية بقسطه فإذا قلع العينين والأجفان وجبت عليه ديتان كما لو قطع يديه ورجليه ومارنٌ ديةٌ وفي كل طرفيه والحاجز ثلثٌ أي ثلث دية لما روى البيهقي عن عمرو بن حزم (وفي الأنف إذا استؤصل المارن الدية الكاملة) وروى البيهقي عن طاووس قال: عندنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفي الأنف إذا قطع مارنه مائة من الإبل) وتندرج القصبة في ديتهما وقيل في الحاجز حكومة وفيهما دية أي في كل مَنْخِر ديه لأنه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة. وكل شفة فيها نصف دية كحديث عمرو بن حزم وفي الشفتين دية. ولسان ولو لألكنوهو من في لسان لكنة أو عجمة وأرت وألثغ وهو مَنْ يصيّر الراء لاماً أو غيناً والسين ثاءً ونحو ذلك أي أنه يعدل من حرف إلى حرف وطفل دية لحديث عمرو بن حزم (وفي اللسان دية) وقيل شرط وجوب الدية في لسان الطفل ظهور أثر نطق مثل نطق بابا ودادا ونحوهما بتحريكه لبكاء ومصٍّ فإن لم يظهر فحكومة ولأخرس حكومة قال الشافعي: (وفي لسان أخرس حكومة). وقد أخرج البيهقي عن مسروق أنه قال: (في لسان الأخرس حكومة). أي يحكم به حكم عدل لأن لسان الأخرس قد ذهبت منفعته فهو كاليد الشلاء.
وفي كل سنٍّ لذكر حرٍّ مسلم خمسة أبعرة لحديث عمرو بن حزم ولما روى أبوداود عن عبدالله بن عمرو بن العاص (وفي كل سنٍّ خمس من الإبل) سواءٌ أكسر الظاهر منها دون السِّنخ وهو أصل الأسنان المستتر باللحم أو قلعها به أي قلعها من أصلها لأن السِّنخ تابع للسنِّ فلا يفرد بدية وفي سنٍّ زائدة حكومة وهي السنُّ الخارجة عن سمت الأسنان وحركة السنِّ المتولدة من مرض أو كبر سنٍّ إن قلت ولم تنقص منفعتها فكصحيحة في وجوب القود أو الدية لبقاء الجمال والمنفعة وإن بطلت المنفعة أي منفعة المضغ والكلام لشدة حركة الأسنان فحكومة تجب فيها أو نقصت بأن بقي فيها أصل منفعة المضغ فالأصح هي كصحيحة فيجب القود أو الدية وقيل فيها حكومة للنقص ولو سنَّ صغير لم يُثغَر أي لم تسقط رواضعه فلم تعد وقت عودتعا عادة وبان فساد المنبت وجب الأرش أو وجب فيها القصاص كسن المثغور والأظهر أنه لو مات الصغير قبل البيان لحاله فلا شيء على الجاني لأن الأصل براءة الذمة والعادة أن يعود السنُّ لغير المثغور بعد قلعه وأنه لو قلع سنَّ مثغور فعادت لا يسقط الأرش لأن الأصل عدم العود فإن عادت فهي نعمةٌ متجددة ولو قُلِعَتِ الأسنان فنجسا به والأسنان ثنتان وثلاثون وفي كل سنٍّ خمس من الإبل فيكون ديتها مائة وستون بعيراً والأسنان هي: أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب وأربعة أضراس واثنتا عشرة رحاً وتسمى الطواحن وأربعة نواجذ وهي آخر ما ينبت من الأسنان وفي قول لا يزيد الأرش على دية نفس إن اتحد جانٍ وجناية لأن كلَّ جنس من البدن ويجب فيه أرش مقدر لم يجب فيه أكثر من دية نفس. وكل لَحِيْ نصف دية وهي خمسون من الإبل واللَّحيان هما العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان ولا يدخل أرش الأسنان في دية اللحيين في الأصح لأن كلاً منهما له دية مقدرة واسم مُعينٌ كما أن اللحيين كانا موجودين قبل وجود الأسنان وكل يد نصف دية إن قُطِعَ من كف لما روى البيهقي عن عمرو بن جزم (وفي اليد خمسون من الإبل وفي الرِّجل خمسون من الإبل) فإن قُطِعَ من فوقه أي من فوق الكف فحكومة أيضاً قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة38. وقج قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفصل الكف فكان فعله بياناً أن المقطوع من اليد هو من عند المفصل. وفي كل أصبع عشرة أبعرة لما روى أبوداود والنسائي عن عمرو بن شعيب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في كل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/45)
أصبع بعشر من الإبل). وكذلك في رواية عمرو بن حزم. وفي أَنملة غير الإبهام ثُلثُ العَشَرَةِ وأَنْمُلةُ الإبهام نصفها أي نصف العشرة والرجلان كاليدين ففي قطع كل رجل من مفصل القدم نصف دية ومن فوقه حكومة أيضاً وفي كل أصبع عشرة أبعرة لما ذكرناه من حديث عمرو بن حزم وفي حَلَمَتيها ديتها لأن المنفعة الإرضاع وجمال الثدي بهما كمنفعة اليدين وجمالهما. والحلمة هي المجتمع الناتيء في رأس الثدي وفي حلمتيه حكومة إذ ليس فيهما منفعة مقصودة سوى الجمال وفي قول ديته أي دية الرجل كاملة وهو بعيد. وفي أنثيين ديةٌ لما روى النسائي عن عمرو بن حزم (وفي الأنثيين الدية) وفي رواية البيهقي عن علي (في البيضة النِصْفُ).
وكذا ذكر ولد كان الذكر لصغير وشيخ وعنين لخبر عمرو بن حزم (وفي الذكر الدية). وأخرج ابن أبي شيبة عن عليٍ مثله. والخبر عام ولم يفرق بين صغير وكبير وصحيح ومريض.
وحشفة كذكر ففيها دية لأن معظم منافع الذكر فيها وبعضها بقسطه منها وقيل بقسطه من الذكر لأن المقصود بكمال الدية وكذا حكم بعض مارن بقسطه من المارن وقيل بقسطه من جميع الأنف وفي بعض حلمة يكون بقسطه من الحلمة وقيل من جميع الثدي. وفي الأليين الدية لأ، فيهما جمالاً ومنفعة فقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن عمر بن شعيب (وفي الأليتين إذا قطعتا حتى يبلغ العظم الدية وفي إحداهما النصف) وكذا في شفراها الدية، قال الشافعي: وفي إسكتَّينها إذا أوعبتا ديتها. والاسكتَّيان هما اللحمتان المحيطان بالفرج كإحاطة الشفتين بالفم فوجبت بهما الدية لأن فيهما جمالاً ومنفعة. وكذا سَلْخُ جلدٍ إن بقي حياة مستقرة ففيه دية إن بقيت حياة وهذا نادر وَحَزَّ غيرُ السالخ رقبته فيجب على الحازِّ قصاص.
? فرع في موجب إزالة المنافع ?
في إزالة العقل دية لما روى البيهقي عن عمرو بن حزم (في اللعقل الدية). ونقل ابن منذر فيه الإجماع فإن زال عقله بجرحٍ له أرش أو جرح فيه حكومة وجبا إضافة إلى الدية وفي قول يدخل الأقل في الأكثر مثل إذا أوضحه فذهب عقلهوالصحيح الأول لأنها جناية أذهبت منفعة مكانها غير مكان الجناية.
ولو ادعى المجني عليه زواله أي زوال العقل وأنكر الجاني فإن لم ينتظم قوله أي قول المجني عليه وفعله في خلواته وذلك بمراقبته فله دية بلا يمين لأن يمينه لإثبات جنونه والمجنون لا يحلف وفي السمع ديةٌ لما روي للبيهقي عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم (في السمع دية).
ورى البيهقي في السنن وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي المهلب (أن رجلاً ضرب رجلاً بحجر في رأسه فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه فقضى فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات وهو حيٌّ).
و في إبطال السمع مِنْ أُذنٍ نصفٌ أي نصف دية وقيل قسط النقص من السمع ولو أزال أذنيه وسمعه فديتان لأن السمع ليس في الأذنين ولو ادعى زواله أي زوال السمع وانزعج للصياح في نوم وغفلة فكاذبٌ لأن ذلك يدل على التصنع وإلا بأن لم ينزعج للصياح وغيره فصادق في دعواه حلِّف لاحتمال تجلده عند سماع الأصوات ليستحق الدية وأخذ ديةً لسمعه وإن نقص سمعه فقسطه إن عُرِفَ النقص وإلا فحكومة باجتهاد قاضي وقيل يعتبر سمع قرنه وهو من له نفس سنه في صحته ويضبط التفاوت بين سمعيهما وذلك بتقدير مسافة السمع وإن نقص السمع من إذن سدت هذه الأذن وضبط منتهى سماع الأخرى ثم عكس بأن تسد الصحيحة ويضبط منتهى سماع العليلة ووجب قسط التفاوت من الدية فإن كان النصف في أذن واحدة وجب ربع الدية تلد فقأها لم يزد على النصف كما لو قطع يده.
وإن ادعى زواله أي زوال بصره سُئِلَ أهل الخبرة أو يمتحن بتقريب عقرب أو حديدة محماة من عينيه بغتة ونُظِرَ هل ينزعج أي يخاف ويحذر ويبتعد. فإن انزعج صدق الجاني بيمين وإن لم ينزعج صدق المجني عليه بيمين وإن نقص البصر فكالسمع في النقص.
وفي الشمِّ دية على الصحيح لما روي عن عمرو بن حزم (في الشمِّ دية) وهو غريب قال الإمام ابن حجر لم أجده في النسخة وإنما فيها (وفي الأنف إذا أوعب جدعاً مائة من الإبل) والثاني في اذهاب الشمِّ حكومة لأنه ضعيف النفع إذ منفعته إدراك الروائح وهي التي تشمل الطيبات والأنتان.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/46)
وفي الكلام دية أي إذا جنى على لسانه فأبطل كلامه ففيه دية كاملة فقد روى البيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في اللسان دية إن منع الكلام). وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي السان الدِّيَّةُ). وفي بعض الحروف قسط والموزع عليها ثمانية وعشرون حرفاً في لغة العرب ففي نصف الحروف نصف دية وفي كل حرف ربع سُبع الدية لأن الكلام يتركب من جميعها وقيل لا يوزع على الحروف الشفهية والحلقية أي الاعتبار بحروف اللسان وهي ثمانية عشر حرفاً لا غير ولا تعتبر حروف الحلق وهي ستة الهمزة، والهاء, والحاء, والخاء, والعين والغين ولا تعتبر حروف الشفة وهي أربعة: الباء والميم والفاء والواو. ولو عجز عن بعضها أي ن بعض الحروف خلقة كالأرت والألثغ أو آفة سماوية فدية كاملة لأن له كلاماً مفهوماً وقيل قسط من الديةبالنسبة لجميع الحروف أو عجز عن بعض الحروف بجناية فالمذهب لا تكمل دية في إبطال كلامة لئلا يتضاعف العزم فيما أبطله الجاني الأول ولو قطع نصف لسانه فذهب رُبُعُ كلامه أو عكس أي قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه فنصف دية اعتباراً لأكثر الأمرين المضمون كلٌ منهما بالدية وكذا لو قطع النصْفَ فذهب نصف كلامه فنصف دية أيضاً وفي إبطال الصوت مع بقاء اللسان على اعتداله ديةٌ فإن بطل معه حركة لسان فعجز عن التقطيع والترديد فديتان لأنهما منفعتان في كل منهما دية وقيل دية لأن المقصود هو الكلام وهو يفوت بطريقتين بانقطاع الصوت ويعجز اللسان عن الحركة. وقد روى البيهقي عن زيد بن أسلم أنه قال: مضت السنة في الصوت إذا انقطع الدية وفي الذوق دية ويدرك به حلاوة وحموضة وحرارة وملوحة وعذوبة وتوزع عليهن فإذا أبطل الجاني واحدة فقد وجب خُمسُ الدية فإذا نقص الإحساس بالطعام فحكومة تجب في ذلك وتجب الدية في ذهاب المضغ لأنه المنفعة العظمى للأسنان وفي الأسنان دية فيكون ذهاب منفعها دية و تحب دية ذهاب قوة إمناء بكسر صلب وقوة حَبَلٍ وذهاب الجماع لخبر عمرو بن حزم في ذلك وأخرج البيهقي وغيره عن زيد بن ثابت (في الصلب مئة من الإبل) وعن ابن المسيب عند البيهقي (في الصلب دية). وفي إذهاب قوة حبل من المرأة ديتها لفوات النسل وإذا كسر صلبه فذهب شبه جماعه فتجب ديتان لأنهما منفعتان تجب في كل وحدة منهما الدية عند الانفراد فوجب في كل واحدة منهما دية عند الاجتماع كالسمع والبصر وقيل دية واحدة لأنهما منفعة عضو واحد وهو بعيد. وفي إفضائها من الزوج وغيره دية امرأة وهو رفع ما بين مدخل ذكر ودبر بحيث يصير سبيل جماعها ومخرج غائطها واحداً وقبل الافضاء هو أن يجعل مسل بول وذكرواحداً. فإن أفضاها واسترسل البول ولم يستمسك وجب عليه مع دية الإفضاء حكومة للشين الحاصل باسترسال البول. فإن لم يتمكن الوطء للزوجة الذي هو حق الزوج إلا بالإفضاء فليس للزوج الوطء ولا يلزمها تمكينه من ذلك ومن لا يستحق إفتضاضها فأزال البكارة بغير ذكر كأصبع وعود فأرشها أي أرش البكارة أو بذكر لِشُبْهَةٍ أو مكرهةً فهمرُ مثلٍ ثيباً وأرش البكارة يجب لها وقيل إذا أزال بكارتها فعليه مهر بكر ولا أرش لأن القصْدَ من هذا الفعل الاستمتاع ولا يحصل إلا بإزالة تلك الجلدة فتكون تابعة له. وَمُسْتَحَقُّهُ وهو الزوج ولا شيء عليه في إفتضاضها وإزالة بكارتها وقيل إن أزال بكارتها بغير ذكر فأرش لعدوله عن الطريق المستحق له فيكون كالأجنبي وهذا بعيد. وفي إبطال البطش دية كأن ضرب يديه فشلتا وكذا في إبطال المشي دية كأن ضربه على رجليه فشلتا أو ضرب صلبه فشلتا فعليه دية لأن المشي والبطش من أهم المنافع للإنسان. ونقصيهما حكومة أي البطش والمشي ولو كسر صلبه فذهب مشيه وجِمَاعَهَ أو مشيه ومنيّهُ فديتان لأن كل واحد منهما مضمونٌ بدية عن الانفراد فيكون الآخر كذلك عند الاجتماع ففي كتاب عمر بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الصلب ديةٌ). وقال زيد بن ثابت: (إذا كسر ظهره فذهب مشيه ففيه الديةُ). رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
وروى عبد الرزاق بن المصنف عن مجاهد أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلب إذا كسر فذهب ماؤه الدية كاملة). وقيل دية واحدة لاتحاد مكان الجناية.
فرعٌ: في اجتماع جنايات على شخص واحد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/47)
وإذا أزال أطرافاً ولطائف تقتضي دياتٍ متعددة فمن الأطراف اليدين والرجلين ومن اللطائف السمع والبصر والعقل فمات من هذه الجناية سراية فدية واحدة للنفس وتدخل الديات الأخرى لدخولها في النفس وهي مائة من الأبل لما روى أحمد النسائي من حديث أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب ذكر منه الفرائض والسنن والديات وفيه (أن في النفس المؤمنة مائة من الإبل).
وكذا لو جزه الجاني قبل اندماله في الأصح لأن دية النفس وجبت قبل استقرار ما عداها ولاتحاد الجاني والمجني عليه أما لو حزَّ بعد الاندمال فقد وجب مع دية النفس ديات ما تقدمها لاستقرارها بالاندمال فإذا حزَّ عمداً والجناياتُ خطأٌ أو عكسه فلا تداخل بل يجب واجب كل من النفس والأطراف لاختلاف حكمهما ولو خرَّ الرقبة غيرهُ أي غير الجاني الذي جنى تلك الجنايات تعددت أي الديات ولا يدخل فعل إنسان في فعل إنسان آخر.
? فصل في الجناية التي لا تقدير لأرشها ?
تجب الحكومة فيما لا مقدر فيه من الدية وهي أي الحكومة جزء نسبته إلى دية النفس وقيل إلى عضو الجناية نسبة نقصها أي نسبة ما تنقصه الجناية مِنْ قيمته لو كان رقيقاً بصفاته قبل الجناية فإن كانت قيمته بدون الجناية عشرة وبعد الجناية تسعة فالنقص العشر فيجب عُشْرُ دية النفس وقيل عُشُر دية العضو المجني عليه كاليد لأنه لما اعتبر العبد بالحرِّ في الجنايات التي لها أرش مقدر اعتبر الحرُّ بالعبد في الجنايات التي ليس لها أرش مقدر.
فإذا كانت الحكومة بطرف له مُقدَّرٌ كاليد والرجل مثلاً اشترط أن لا تبلغ تلك الحكومة مُقدَّرهُ أي مقدر الطرف لئلا تكون الجناية على العضو مع بقائه مضمونة بما يضمن به العضو مع بقائه فإن بلغته نَقَصَ القاضي شيئاً باجتهاده لئلا تبلغ الحكومة مُقدَّر دية العضو أو كانت الحكومة لطرف لا تقدير فيه كفخذ وساعد وكف وظهر فأن لا تبلغ الحكومة دية نفس ويجوز أن تبلغ دية طرف مقدر ويقوَّمُ المجني عليه بعد اندماله أي اندمال جرحه على تقديره رقيقاً وينظر كم نقصت الجناية من قيمته فإن قوّم بعشرة دون الجناية وبتسعة بعد الجناية فالتفاوت العُشُرُ وعليه فيجب عُشْرُ دية النفس وقبل عُشر دية العضو كما ذكرنا سابقاً فإن لم يبقَ بعد الاندمال نقص بقيمته ولا في منفعته اعتبر أقرب نقص قبل الاندمال مما ينقص القيمة ويعتبر أقربها إلى الاندمال للجرح وقيل يقدره أي النقص قاضٍ باجتهاده حتى لا تخلو الجناية عن غرم وقيل لا غرم على الجاني وحينئذ يلزم التعزير والجرح المقدر أرشه كموضِحة متبعه الشين حواليه ولا يفرد بحكومة وما لا يتقدر أرشه يفرد بحكومة في الأصح كأن جرحه دون الموضحة كالدامية مثلاً فإنه تجب عليه حكومتان إحداهما للدامية والأخرى للشين في مكان الجرح وما حوله كأن يظهر على المجني عليه حول مكان الجرح سواد أو بياض أو ظهر عيب فتجب فيه حكومة غير حكومة الجرح وقيل الشين يتبع الجرح وفي نفس الرقيق قيمته فإن قتل حرٌّ عبداً أو أمةً لغيره وجبت عليه قيمتُهُ بالغة ما بلغت وسواء في ذلك قتله عمداً أو خطأً وفي غيرها أي في غير النفس يضمن الجاني ما نقص من قيمته إن لم يتقدر في الحرِّ مثل الحارصة أو الدامية وإلا أي كان له أي كان له مقدّرٌ في الحرِّ كقطع الأطراف والموضِحَةِ فنسبته من قيمته من الدية في الحرِّ وفي قول يجب ما نقص من قيمته نظراً إلى أن قيمة العبد مال مملوك كالبهيمة ولو قطه ذكره وأنثياه وغيرهما مما يجب فيه الدية للحر ففي الأظهر يجب قيمتان والثاني يجب ما نقص من قيمة العبد فإن لم ينقص من قيمته فلا شيء فيه على الجاني لعدم النقص ويعزر الجاني للاعتداء.
? باب موجبات الدية والعاقلة والكفارة ?
صاح على صبي لا يميز على طرف سطح فوقع بذلك الصياح فمات الصبي فدية مغلظة على العاقلة مثل الموت ولو تلف بعض أعضائه أو لطائفه كزوال عقله ففيه الدية كاملة لسرعة تأثير الصبي بالصياح ولكنه لا يفضي إلى الموت عادة فاعتبرت دية مغلظة مثلثة على العاقلة فقد روى أبوداود عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال: (دية شبه العمد ثلاثون حِقة وثلاثون جَذَعةً وأربعون خلفة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/48)
وفي قول يجب قصاص لأن الغالب تأثير الصياح على الصبيان ولو كان بأرض صبي وصاح عليه إنسانٌ فمات أو صاح على بالغ بطرف سطح أو طرف بئر فسقط فمات فلا دية فيهما في الأصح لندرة الموت بذلك. وشهر سلاح كصياح فيما ذكر من الأحكام ومراهقٌ متيقظ كبالغ فيما ذكر من الأحكام فلا دية في الأصح لعدم تأثره بذلك غالباً.
ولو صاح على صيد فاضطرب صبي وسقط فدية مخففة على العاقلة إذا كان الصبي غير مميز لأنه لم يقصد الشخص. ولو طلب سلطان مَنْ ذُكِرَتْ عنده بسوء فأجهضت فزعاً من طلبه ضُمِنَ الجنين بغرةٍ عبد أو أمةٍ فقد روى عبدالرزاق في مصنفه (أن امرأة ذكرت عند عمر بسوء فبعث إليها فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر؟ فبينما هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولداً فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان وعبدالرحمن بن عوف: لا شيء عليك إنما أنت والٍ ومؤدب، وصمت عليٌ، فقال عمر: ما تقول؟ فقال عليٌ: إذا اجتهدا فقد أخطآ وإن لم يجتهدا فقد غشّاك إن ديته عليك لأنك أنت أفرعتها فألقت، فقال له عمر: أقسمتُ عليك لا برحت حتى تقسمها على قومك)، يعني على قوم عمر.
ولو وضع صبياً في مسبعة أي مكان تأوي إليه السباع فأكله سبع فلا ضمان عليه لأن الوضع ليس إهلاكاً كما أنه لم يُلجِيء السَبُعَ إلى أكله وقيل إن لم يمكنه انتقالٌ عن موضع الهلاك ضمن لأنه اجتمع السبب وهو الإلقاء والمنع من الانتقال مع الفعل وهو أكل السبع فوجب الضمان ولو تبع بسيف هارباً منه فرمى نفسه بماء أو نار أو من سطح فلا ضمان إن مات الهارب لأنه حصل الفعل من الطالب بسبب غير مُلجِيء وحصلت المباشرة من المطلوب فتعلق الحكم بالمباشرة دون السبب كما لو خاف منه فقتل نفسه فلو وقع جاهلاً لعمىأو ظلمة ضمن الطالب لأنه ألجأ المطلوب إلى إلقاء نفسه وكذا لو انخسف به سقف في هربه في الأصح إن حَسِبَ السطح قوياً فانخسف به أما إذا علمه ضعيفاً لا يتماسك فلا ضمان.
ولو سلّم صبياً إلى سباح ليعلمه السباحة فغرق الصبي وجبت ديتُهُ أي دية الصبي على عاقلة السباح وعليه الكفارة في ماله لأن الغالب في غرق المتعلمين بسبب تفريط المعلمين للسباحة ويضمن بحفر بئرٍ عدوانٍ لأنه متعدٍ بذلك لا في مِلْكِهِ وموات كان حفرها فلا يضمن لأن الحفر في ملكه أو ليتملكها فإنه يملكها بالإحياء فكانت في حكم ملكه.
ولو حفر بدهليزه بئراً ودعا رجلاً فسقط فالأظهر ضمانه لأنه غرر بالمجني عليه ولم يقصد المجني عليه إهلاك نفسه وقيل هو غير مُلجِيء فلا يضمن أو حفر بئراً بملك غيره أو بملك مشترك بلا إذن من الشريك فمضمونٌ أي أن المجني عليه مضمون في الحالتين لأن الجاني متعدٍ بالحفر أو بطريق ضيق كان الحفر بحيث يضر المارة فكذا أي هو مضمون حتى ولو أَذِنَ له الإمام لأن إِذْنَ الإمام فيما يضر ممنوع أو يضر المارة وأَذِنَ الإمام في الحفر فلا ضمان لأن للإمام أن يقطع من الطريق إذا كان واسعاً كما أن له أن يقطع من الموات. وكذلك إن حفرها بغير إِذْنِ الإمام وكان الطريق متسعاً وأَذِنَ الإمام فلا ضمان. وإلا أي وإن لم يأذن الإمام فإن حفر لمصلحته فقط فالضمان عليه أو حفره لمصلحة عامة كالحفر للاستسقاء أو لجمع ماء المطر ليستقي منه المسلمون عند الحاجة ومسجد عند الحفر فيه كطريق في حفر بئر على ما مرَّ فيه من التفصيل السابق.
وما تولد عن جناح وهو ما زاد عن سمت الجوار باتجاه الطريق إن كان من خشب أو حديد أو اسمنت أو غير ذلك إلى شارع فمضمون سواء أكان يضر أم لا وسواء أَذِن فيه الإمام أم لا لأن الارتفاق بالطريق مشروط بسلامة العاقبة وأما الضرر المتولد من جناح إلى درب مفسد بغير إذن أهله ففيه الضمان وما كان بإذنهم فلا ضمان فيه ويحل إخراج الميازيب إلى شارع فقد روى أبوداود وغيره عن ابن عباس (أن عمر رضي الله عنه مرَّ تحت ميزاب العباس بن عبدالمطلب فقطرت عليه قطرات فأمر عمر بقلعه، فخرج العباس وقال: قلعت ميزاباً نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال عمر: والله لا ينصبه إلا من يرقى على ظهري، فانحنى عمر وصعد العباس على ظهره فنصبه). والتالف بها أي الميزاب أو بما تقاطر منها مضمونٌ في الجديد لأن صاحب الميزاب ارتفق بهواءطريق المسلمين فإن تلف به إنسان وجب عليه ضمانه فإن كان بعضه في الجدار فسقط الخارج
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/49)
فكل الضمان يجب على صاحب الميزاب وإن سقط كله الذي علبى ملكه والخارج منه وقتل إنساناً فنصفه أي نصف الضمان لأن التلف بالجزء الذي في ملكه غير مضمون فضمن بالجزء الخارج في هواء الشارع فقط وإن بنى جدارَهُ مائلاً إلى شارع فكجناح فحكمه كالجناح فيضمن الكلَّ إن وقع التلف بالمائل ويضمن النصف إن وقع التلف بجميع الجدار أو مستوياً فمال وسقط فلا ضمان لأن الميل لم يحصل بفعله وقيل إن أمكنه هدمه أو إصلاحه ضمن لتقصيره بترك النقض والإصلاح ولو سقط الجدار بعد ميله بالطريق فعَثَرَ به شخص فهلك أو تلف به مالُ فلا ضمان في الأصح لأن السقوط لم يحصل بفعله والثاني يضمن لأن التلف وقع بسبب الأحجار الموجودة في الطريق التي كان واجباً عليه رفعها من طريق المارّة. ولو طرح قُمامات وقشور بطيخ بطريق فتلف بها شيء فمضمون على الصحيح لأن الانتفاع بالطريق مشروط بسلامة العاقبة وقيل لا ضمان لأن إلقاء القمامات في الطريق مما يتسامح الناس به عادة أما لو طرح في موات فلا ضمان قطعاً.
ولو تعاقب سببا هلاك فعلى الأول بأن كان كل سبب منهما مُهْلِكاً فعلى الأول الضمان لأنه إما مهلك بنفسه أو مهلك بواسطة الثاني وذلك بأن حفر شخصٌ بئراً ووضع آخرُ حجراً على طرف البئر مثلاً وكان الحفر عدواناً ووضْعُ الحجر عُدْواناً فَعُثِرَ به ووقع العاثر بها أي وقع بالبئر بسبب تعثره بالحجر فعلى الواضع أي واضع الحجر الضمان فإن لم يتعدَ الواضعُ فالمنقول تضمين الحافر وذلك بأن وضع شخص حجراً في ملكه وحفر آخر فيه بئراً تعدياً فوقع فيه ثالث فالضمان على حافر البئر لتعديه. ولو وضع حجراً في طريق ووضع آخران حجراً في نفس المكان فَعُثِرَ بهما أي بالحجرين ففالضمان أثلاث وإن تفاوات فعلهم نظراً إلى عدد الرؤوس وقيل نصفان على الأول نصف وعلى الآخر ين نصف نظراً إلى عدد الموضوع.
ولو وضع شخص حجراً في طريق سواء متعدياً أو غير متعدٍ فَعَثَرَ به رجلٌ آخر فدحرجه فعثر به آخر أي ثالث ضمنه المدحرج وهو الذي عثر أولاً لأنه دحرج الحجر إلى الموضع الذي عَثَرَ به الآخير ولو عثر ماشٍ بقاعد أو نائم أو واقف بالطريق وماتا معاً أو أحدهما فلا ضمان إن اتسع الطريق لتعديهما معاً لأن الطريق للسير وهم بالنوم والقعود والوقوف في طريق المشاة مقصرون والعاثر كان يمكنه تجنبهم. وإلا فالمذهب إن لم يتسع الطريق إهادر قاعد ونائم لتقصيرهما باستخدام الطريق في غير ما يستخدم له عادة لا عاثر بهما لعدم تقصيره بل على عاقلتهما ديته وضمان واقف للاضطرار للوقف أحياناً والحالة هنا ضيق الطريق.
? فصل في الاصطدام ونحوه ?
إذا اصطدما أي اصطدم شخصان كاملان ماشيان أو راكبان مقبلان أو مدبران أو أحدهما مقبل والآخر مدبر بلا قصد للاصطدام فوقعا فماتا فعلى عاقة كل منهما نصف دية مخففة لوارث الآخر لأن كل منهما قُتِلَ بفعله وفعل صاحبه ففعله في حق نفسه هدر وفي حق صاحبه مضمون وإن قصدا أي قصد كل واحد منهما الآخر لأن القتل حينئذ شبه عمد أو قصد الاصطدام أحدُهما ولم يقصده الآخر فلكل حكمه من التخفيف والتغليظ هذا إذا لم تكن إحدى الدابتين ضعيفة فإذا كانت ضعيفة لم يتعلق بفعلها حكم والصحيح أن على كل واحد منهما كفارتين واحدة لقتل نفسه والأخرى لقتل صاحبه وإن ماتا مع مركوبيهما فالحكم كذلك دية وكفارة ومن تركة كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر لاشتراكهما في الاتلاف وصبيان أو مجنونان إذا اصطدما ككاملين فيما ذُكِرَ على اعتبار أن عمدهما عَمْدٌ. وقيل إن أركبهما الولي تعلق به الضمان لأن في الإركاب خطر وقيل على الولي أن يركب الصغير ليعلمه فلا يضمن عندئذ ولو أركبهما أجنبي ضمنهما ودابتيهما إجماعاً لتعديه فتضمنهما عاقلته ويضمن هو دابتيهما في ماله. أو اصطدمت امرأتان حاملان فالدية كما سبق فإن مات جنينياهما وجب على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية الأخرى وكذلك يجب على عاقلة كل منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لأن قتل الجنينين تمَّ بفعل الأولى وفعل الثانية وعلى كل واحدة أربع كفارات لأن كل واحدة قاتلة لنفسها ولجنينها وقالتة للأخرى وجنينها وعلى عافلة كلٍ نصف غرتي جنينيهما كما ذكرنا أو اصطدم عبدان فهدرٌ إذا ماتا لأن كل واحد منهما تعلق برقبته نصف قيمة الآخر فلما تلف سقط نصف ما تعلق برقبته أو اصطدمت سفينتان فكدابتين اصطدمتا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/50)
وماتتا والملاحان كراكبين ماتا باصطدام فيما مرَّ من أحكام إن كانتا أي السفينتان لهما أي إذا تلفت السفينتان المملوكتان للملاحين اللذين يقودان السفينتين وهلكا معهما بالاصطدام ففي تركة كل منهما نصف قيمة سفينة الآخر بما فيها وعلى عاقلة كلٍ منهما نصف دية الآخر وفي مال كل منهما كفارتان على الصحيح السابق.
فإن كان فيهما مالُ أجنبي لزم كلاً منهما نصف ضمانه أي نصف ضمان الآخر ويتحيز الأجنبي بين أخذ بدل جميع ماله من أحد الملاحين ثم هو يرجع على الآخر وبين أن يأخذ نصفه منه ونصفه الآخر من الآخر.
وإن كانتا السفينتان لأجنبي والملاحان فيهما أمينان أو أجيران لزم كلاً منهما نصف قيمتهما لأن القاعدة أم مال الأجنبي لا يهدر منه شيء ولو أشرفت سفينة على غرق بأن نزلت في الماء لثقل المتاع وخافوا الغرق جاز طرح متاعها حفظاً للروح ويجب طرح المتاع لرجاء نجاة الراكب إذا خيف هلاكه كما يجب إلقاء ما لا روح له لتخليص ذي الروح وتلقى الدواب لتخليص الآدميين.
فإن طرح مال غيره بلا إذن من صاحب المال ضمنه للإتلاف وإلا أي وإن طرحه بإذنه رجاء السلامة فلا ضمان ولو قال شخصٌ لآخر أَلْقِ متاعك في البحر وعليَّ ضمانه أو على أني ضامن ضمن إن ألقاه وهو إجماع إلا ما كان من أبي ثور فإنه قال: (لا يضمن لأنه ضمان ما لم يجب). ولو اقتصر على ألقِ متاعك في البحر فألقاه فلا ضمان على المذهب وقيل يرجع عليه بقيمته أو مثله كمن قال لرجل أدِ ديني فأداه فإنه يرجع عليه وأجيب عليه أن قضاء الدين يتحقق نفعه للطالب لأن ذمته تبرأ بالقضاء وها هنا لا يتحقق النفع بذلك فيجوز أن يَسْلموا ويجوز ألا يَسْلموا وإنما يضمن ملتمسٌ لخوف غَرَقٍ أما لو قال في حال الأمن ألقه وعليَّ ضمانه فلا ضمان إن لا غرض من الإلقاء. ولم يختص نفع الإلقاء بالمُلْقِي بل كان النفع مختصاً بالملتمس ولو عاد حجرُمَنْجَنيقٍ فقتل أحد رماته هُدِرَ قِسْطُهُ فلو كانوا عشرة سقط من ديته العشر و وجب على عاقلة كل واحد من الباقين بالباقي وهو تسعة أعشار الدية على عاقلة كل واحد منهم عُشْر ديتهأو قتل حجر المنجنيق غيرَهُمْ ولم يقصدوه فخطأ ومنه دية مخففة على عاقلة كل واحد منهم عُشْرها إن كانوا عشرة أو قصدوه بالرمي فعمدٌ في الأصح إن غَلَبت الإصابة منهم في العادة وقيل لا يكون عمداً محضُ لأنه لا يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق فتجب ديتهُ مغلظة على عاقلة كل واحد منهم عُشْرها إن كانوا عشرة.
? فصل في العاقلة وكيفية تحملهم ?
دية الخطأ وشبه العمد تلزم العاقلةَ فقد روى الشيخان عن أبي هريرة: أن امرأتين من هُذيل اقتتلتا فحذفت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فضى الرسول صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو أمة على العاقلة. وهم أي العاقلة عصبته إلأا الأصل والفرع أي عصبته من النسب إلأا الأب وإن على الإبن وإن سَفَلَ. فقد روى أبو داوود وابن ماجة عن جابر أن امرأتين من هُذيل اقتتلتا ولكل واحدة منهما زوج وولد فقتلت إحداهما الأخرى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرَّأ زوجها وولدها فقالت عصبة المقتولة: ميراثها لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لاَ ميراثها لزوجها وولدها. وروى البيهقي عن أبي رمثة قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقلت: ابني فقال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه). ومعلوم أنه لم يرد أنه لا يجرحك ولا تجرحُهُ وإنما أراد أنك لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك. وقيل لعقل ابن هو ابن ابن عمها وذلك إذا كانت القاتلة امرأة والأصح لا يعقل لأنه إذا وُجِدَ المقتضى عمل عمله وهو أنه ابنها فلا يؤخذ بجريرتها. فقد روى أحمد عن ابن مسعود وأصله في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يؤخذ ابنٌ بجريرة أبيه). ويقدم الأقربُ منهم على الأبعد في التخمل كالإرث وولاية النكاح فإن وفوا به لقلته أو لكثرتهم فذاك وإن بقي شيء فمن يليه أي يلي الأقرب وهكذا والأقرب هم الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأعمام ثم بنوهم كالإرث وومدلٍ بأبوين يقدم على مدلٍ بأب والقديم التسوية بينهما نظراً إلا أن المرأة لا تعقل ثم إن لم يكن عصبة عقل مُعْتِقٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولاء لُحمة كلحمة النسب). ولا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/51)
يحملُ المولى إلا بعد العاقلة من النسب كما لا يرث إلا بعدهُم ثم عصبته من النسب ثم مُعْتِقَهُ ثم عصبتُهُ أي عصبة معتق المعتق إلا أصله وفرعه وإلا أي وإن لم يوجد معتق ولا عصبة فمعتقُ أبي الجاني ثم عصبته من النسب ثم مُعْتِقُ مُعتقِ الأب وعصبته وكذا أبداً أي بعد معتق الأب معتق الجد وعصبته وهكذا.
وعتيقها أي المرأة يعقلُهُ عاقلتُها كما يزوج عتيقتها من يزوجها لأن المرأة لا تعقل إجماعاً ومُعتِقون كمعتق فيتحملون ما يتحمل لأن الولاء لهم جميعاً وكلُّ شخص من عصبة كلِّ معتق يحمل ما كان يحمله ذلك المعتق قبل موته لأن الولاء يتوزع على الشركاء ولا يتوزع لعى العصبة بل يرثون به ولا يورثونه. ولا يعقل عتيقٌ عن معتقه في الأظهر وقيل يعقل لأن العقل للنصرة والإعانة والعتيق أولى بهما. فإن فُقِدَ العاقل أو لم يَفِ بما على الجاني من الواجب عَقَلَ بيتُ المال عن المسلم لأنه لما نُقِلَ ماله إلى بيت مال المسلمين إرثاً حَمَلَ عنه بيتُ المال كالعصبة أما الكافر فلا يحمل عنه بيت المال لأنه للمسلمين وليس هو منهم أما ماله فينقل إلى بيت المال فيئاً لا إرثاً.
لما روى الترمذي من حديث أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: أنتم يا خزاعة قتلتهم هذا القتيل أنا والله عاقِلُهُ. وقد وُجِد رجل مقتولاً في زحام زمن عمر بن الخطاب فلم يُعْرف قاتله فقال علي لعمر: يا أمير المؤمنين لا يَطِلُّ (لا يهدر) دم امرئ مسلم فأدى ديته من بيت المال. وروى أبو داوود والنسائي أن النبيي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه).
فإن فُقِدَ بيت المال أو منع الظلمة وحالوا بينه وبين المستحقين فكله أو الباقي من الواجب بالجناية على الجاني في الأظهر بناءً أن الواجب عليه ابتداءً ثم تتحملع العاقلة. وتؤجل الدية على العاقلة دية نفس كاملة وهي دية المسلم أخرِّ الذكر ثلاث سنين في كل آخر سنة ثلثٌ لما روى البيهقي من طريق الشافعي عن عمر وعلي وابن عباس (أنهم أجلوا الدية ثلاث سنين) وقال الشافعي في المختصر: هو قضاء النبي صلى الله عليه وسلم. في كل سنة ثُلُثٌ فقد أخرج عبد الرزق عن ابن جريح أنه قال: (أُخْبرتُ عن أبي وائل أن عمر بن الخطاب جعل الدية كاملة في ثلاث سنين وجعل نصف الدية في سنتين وما دون النصف في سنة وذمي ديته تدفع في سنة لأنها قدر ثلث دية المسلم لما روى الشافعي عن الفضيل بن عياض عن منصور بن المعتمر عن ثابت الحداد عن ابن المسيب (أنّ عمرَ قضى في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف وفي دية المجوسي ثمانمائة درهم).
وقد أخرج أبو داوود عن ابن عباس أن رجلاً قُتِل على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فجعل ديته اثني عشر ألف درهم. أي أن دية الذمي على الثلث من دية المسلم. وقيل ثلاثاً لأنها دية نفس فتثلث وامرأة مسلمة تؤجل ديتها على سنتين في الأولى ثلثٌ وقيل تؤجل ثلاثاً لأنها دية نفس وتحملُ العاقلة قيمة العبد في الأظهر لأنها بدل نفسٍ وقيل هي حالّةٌ في مال الجاني كبدل البهيمة. فقد روى البيهقي عن عمر وعلي أنهما قالا: (في الحرِّ يَقْتُلُ العبد ثمنه بالغاً ما بلغ). ففي كل سنة يؤخذ من قيمته قدر ثلث دية كاملة زادت على ثلث قيمته أم نقصت فإن وجب دون ثلث أخذ في سنة أيضاً. وقيل تجب في ثلاث سنين. ولو قتل رجلين ففي ثلاث سنوات تؤخذ ديتهما في كل سنة لكل ثلث دية وقيل تؤخذ في ستٍ في كل سنة لكل سُدُس دية. والأطراف والأروش والحكومات كذلك في كل سنة قدْر ثُلُثُ دية فيؤخذ في آخر السنة الأولى قدر ثلث دية فإن بقي أقل من الثلث أُخذ في آخر السنة الثانية ثلث فإن بقي شيء ففي آخر السنة الثالثة وهكذا وقيل كلها في سنة قَلَّت الدية أو كثرت. فقد روى البيهقي من طريق الشافعي أنه قال: وجدنا عامّاً في أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جناية الحر المسلم على الحرِّ مائة من الإبل على عاقلة الجاني وعامّاً منهم أيضاً أنها في مضى الثلاث سنين. وروى ابن رزق عن ابن جريح أنه قال: أخبرت عن أبي وائل أن عمر بن الخطاب جَعَلَ الدية كاملة في ثلاث سنين وجعل نصف الدية في سنتين وما دون النصف في سنة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/52)
وأَجَلُ النفسِ مِنْ الزهوق أي يعتبر وقت دية النفس من وقت خروج الروح بمزهق أو بسوايةِ جُرحٍ لكن لا مطالبة. إلا بعد اندمال الجرح فإن حصل قبل تمام سنة من الجناية طوليبت العاقلةُ وغيرها أي إذا كانت الجناية على غير النفس كان ابتداء الأجل من حين الجناية لأنه حين الوجوب ومن مات من العاقلة ببعض سنة سقط من واجب هذه السنة ولا يؤخذ من تركته شيء ولا يعقل فقير لأن العاقلة إنما تحمل الدية عن القاتل على طريق الرفق والمواساة والفقير ليس من أهل المواساة ورقيقٌ لأنه لا ملك له وصبيٌ ومجنونٌ وامرأةٌ لأن العقل مبني على النصرة وهؤلاء ليسوا من أهل النصرة. ومسلم لا يعقل عن كافر وعكسه أي كافر لا يعقل عن مسلم إذ لا توارث بينهما ولا موالاة ولا مناصرة. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (المائدة: 751).
وروى الشيخان عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم). وروى أبو داوود عن عمر بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتوارث أهل ملتين). أما بالولاء فيرث المسلمُ من الكافرِ فقد روى عن جابر مرفوعاً (لا يرث المسلمُ الكافرَ إلا أن يكون عبده أو أميّه).
ويعقل يهودي عن نصراني وعكسه أي يعقل نصراني عن يهودي في الأظهر كما في الميراث لأن الكفر ملة واحدة.
وعلى الغني من العاقلة نصف دينار والمتوسط رُبُع دينار كلَّ سنة من الثلاث السنين لأنها مواساة تتعلق بالحول فتكررت بتكرره كالزكاة وقيل هو أي النصف والربع واجب الثلاث سنوات جميعاً فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم أن من كَثُرَ ماله يحمل نصف دينار ومن كان دونه يحمل ربع دينار والتقدير بالنصف لأنه أول درجة المواساة حيث أنه في عشرين مثقالاً نصف مثقال. وبالربع لأنه متوسط بين من لا شيء عليه ومن عليه نصف دينار. ويعتبران أي الغني والمتوسط في آخر الحول لأنه حق متعلق بالمال فاعتبر بآخر الحول كالزكاة. ومن أعسر فيه سقط عنه الأداء لأنه ليس أهلاً للمواساة وإن كان قبل آخر الحول غنياً كالزكاة بخلاف الجزية فإنها لا تسقط لأنها كالأجرة لمن سكن دار الإسلام من أهل الجزية.
فائدة: من كان أول الحول صبياً مجنوناً أو كافراً وصار في آخر الحول بصفة الكمال لا يكلف الدفع في هذا الحول بل يكلف في الحول الذي بعده.
? فصل في جناية الرقيق ?
مالُ جناية العبد أي إذا جنى العبد جناية تستوجب مالاً بأن كانت غير عمد أو كانت عمداً وعفى على مال يتعلق برقبته ومعنى التعلق بالرقبة أن يباع ويصرف ثمنه إلأى الجناية ولا يملكه المجني عليه بنفس الجناية وإن كانت قيمته أقلَّ من أرش الجناية لما في ذلك من إبطال حق السيد وإذا أراد فداءه ولسيده بيعه لها أي لهذه الجناية أو تسلميه للمجني عليه ليباه فيها فقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (ما جنى العبد ففي رقبته ويخير مولاه إن شاء فداه وإن شاء دفعه). وفداؤه كما في الخبر السابق بالأقل من قيمتها وأرشها أي أرش الجناية لأنه إذا كانت القيمة أقل فليس عليه إلا تسليم الرقبة وإن كان الأرش أقل فهو الواجب في الجناية.
وفي القديم يفديه سيده بأرشها بالغاً ما بلغ أرش الجناية ولا يتعلق بذمته مع رقبته في الأظهر شيء من مال الجناية لأنه لم يجب بالجناية إلا قدر القيمة كديون المعاملات حتى لو بقي شيء من الأرش بعد قيمته لا يبيع به بعد عتقه والثاني يطالب بالباقي بعد العتق لأنه كان قبل العتق معسراً فإن أُعْتِقَ وملك المال طولب به. ولو فداه ثم جنى سلَّمه للبيع أو فداه كما سبق لأنه الآن لم يتعلق به غيرُ هذه الجناية ولو جنى ثانياً قبل الفداء باعه فيهما أي في الجنايتين أو فداه بالأقل من قيمته والأرشين على الجديد وفي القديم بالأرشين يفديه كما تقدم ولو أعتقهُ السيد وكان غنياً أو باعه وضمناهما بناءً على القول الراجح أو قتله السيد فداه وجوباً بالأقل من قيمته وأرش الجناية وقيل فنه القولان السابقان إما يفديه بالأقل أو يفديه بأرش الجناية بالغة ما بلغت. ولو هرب العبد الجاني أو مات تبرئ منه سيده إلا إذا طُلِبَ منه تسليمه فمنعه فإنه لا يبرأ ولو اختار السيد الفداء فالأصح أن له الرجوع عن الفداء
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/53)
وتسليمه ويجب عند ذلك ليباع بالجناية لأن اختياره للفداء وعد فلا يجب الوفاء به.
ويفيدي أم ولده بالأقل من قيمتها وأرش الجناية وقيل فيها القولان السابقان من بيعها إن أمكن في بعض الصور أو الأرش بالغاً ما بلغ وجناياتها مهما تعددت حكمها كجناية واحدة في الأظهر فيلزم السيد الأقل من قيمتها وأرش الجناية لأن الاستيلاد في حكم الاتلاف.
? فصل في الغرة ?
في الجنين الحرِّ المُسْلِم غرة إن انفصل ميتاً بجناية على أُمِّه إذا كانت الضربة مؤثرة لا ضربة خفيفة أو لطمة فقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هُذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها (بغرةٍ عبدٍ أو أمةٍ).
وروى الشيخان أيضاً عن المغيرة بن شعبة أن عمر بن الخطاب استشارهم في إملاص المرأة فقال المغيرة: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبدٍ أو أمة).
قوله إملاص المرأة: هي التي تضرب بطنها فتلقي جنينها. وقيل وقيل الغرة أن يكون العبد أبيضاً والأمة بيضاء. واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون منتفعاً به فشرط أن لا تكون دية الجنين عبداً أو أمةً دون سبع سنين لأنه لا يستقل عن ذلك بنفسه فلا يجبر المستحق عن أخذه في حياتها أو موتها أي إذا انفصل بالجناية في حياتها أو موتها بجناية في حياتها.
وكذا إن ظهر بعضُ الجنين كرسه مثلاً بلا انفصال ميتاص وجبت الغرة في الأصح لتحقق وجود الجنين عند الجناية وإلا أي وإن لم ينفصل ولا ظهر بالجناية على أمه فلا شيء فيه لأنا لم نتيقن وجوده أو انفصل حياً وبقي زماناً بلا الم ثم مات فدية نفس كاملة على الجاني لأنا تحققنا حياته وقد مات بالجناية ولو ألقت المرأة جنين فغرتان تجبان على الجاني لحديث المغيرة السابق (أن النبي صلى قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة) فالغرة متعلقة باسم الجنين فقد تعدد بتعدده أو ألقت المرأة يداً أو رجْلاً فماتت فغرةٌ تجب على الجاني لن العلم قد ثبت بوجود الجنين وكذا لحمٌ ألقته المرأة قال القوابل فيه صورة خفية لإنسان تخفى على غر أهل الخبرة قيل أو قلن لو بقي لتصور أي لتخلق إنساناً فقد وجبت فيه الغرة وهي أي الغرة عبد أو أمة مميز سليم من عيب مبيع لما روى الشيخان عن أبي هريرة (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم فيها بغرة عبد أو أمة).
والأصح قبول كبير لم يعجز بهرم أي يضعف عن العمل لأن أكثر ما يراد له الرقيق العمل والثاني لا يجبر على قبولها لأن الغرة هي الخيار والكبير ليس من الخيار ويشترط بلوغها أي قيمة الغرة من عبد أو أمة نصف عُشْر دية المسلم الذكر الحر فقد قضى بذلك عمر وزيد بن ثابت ولا مخالف لهما من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فإن فقدت الغرة حساً أو شرعاً فخمسة أبعرة بدلاً منهما وقيل لا يشترط بلوغها نصف عُشر دية بل متى وجدت الغرة سليمة مميزة وجب قبولها وإن قلت قيمتها لإطلاق لفظ العبد والأمة في الخبر دون ذكر القيمة كما في خبر أبي هريرة السابق فللفقد قيمتها فعلى هذا تجب قيمتها بالغة ما بلغت وهي أي الغرة لورثة الجنين بتقدير انفصاله حياً ثم موته لأنها دية نفس وعلى عاقلة الجاني تجب الدية لما روى البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغرة عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها).
وقيل إن تعمد الجاني فعليه الدية إن تعمد الجناية على الجنين والمذهب أن قصد الجنين لا يتصور. والجنين اليهودي والنصراني قيل كمسلم فيه غرة مقدرة بنصف عُُشْر دية الأب أو عُشْر دية الأم وقيل هدرٌ لتعذر تحديد الدية وهو بعيد والأصح غرةٌ كثلث غرة مسلم قياساً على دية والديه.
والرقيق عشر قيمة أمه يوم الجناية على اعتبار أن قيمة الغرة في الحر بعُشْر دية أمه المساوي لنصف دية أبيه. وقيل يوم الإجهاض وقيل أقصى القيم من يوم الجناية إلى الإجهاض وهي لسيدها لمْلكه الجنين كما يملكها.
فإن كانت مقطوعة أي إذا كانت الأم مقطوعة الأطراف والجنين سليم قومت الأم سليمة في الأصح لسلامة الجنين وتحمله العاقلة في الأظهر كما مر سابقاً في حديث أبي هريرة في الغرة.
? فصل في الكفارة?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/54)
يجب بالقتل الكفارة وإن كان القاتل صبياً أو مجنوناً وعبداً أو ذمياً وعامداً ومخطئاً متسبباً بقتل مسلم ولو بدار الحرب. فقد روى أبوداود والنسائي وغيرهم عن واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل فقال صلى الله عليه وسلم: اعتقوا عنه رقبة يعتق الله كل عضو منها عضواً من النار.
قال تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) النساء92.
وأما إذا قتل مسلماً في دار الحرب فقد وجبت الكفارة وإن لم يجب فيه القصاص لأن وجود المسلم في دار الحرب لا يهدُرُ دمه وسبب العصمة وهو الإسلام قائم. قال تعالى: (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) النساء92، أي إذا كن القتيل من قوم عدوكم وهو مؤمن وذمي ومعاهد ومستأمن تجب بقتله الكفارة لقوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق بدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) النساء92.
وجنين فتجب بقتله الكفارة وعبد نفسه ونفسه لحق الله تعالى وفي نفسه وجه أنه لا تجب فيها كفارة حيث لاضمان فيها ولكن هذا مردود لأن الكفارة حق لله تعالى فلا تلحق بالضمان.
لا امرأة وصبي حربيين لهدر دمهما ولأنه ليس لهما عصمة وباغ وصائل ومقتص منه لإباحة دم الأخير وللحاجة إلى دفع الباغي والصائل.
وعلى كل من الشركاء كفارة في الأصح لأن الكل اشتركوا في سببها فوجب أن تكون على كل واحد من الجماعة كفارة
وهي أي كفارة القتل كظهار أي مثل كفارة الظهار في جميع ما مر فيها فيعتق من يجد فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لكن لا إطعام في الأظهر قال تعالى: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) النساء92. فإن لم يقد على الصوم فظاهر الآية يدل على أنه لا يجب عليه الإطعام وقيل من لم يقدر على الصوم أطعم ستين مسكيناً كما في ككفارة الظهار (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله) المجادلة4. حيث يُحْمَلُ المطلق في القتل غلى المقيد في الظهار كما قيد سبحانه الرقبة في القتل بالإيمان وأظلقها في كفارة الظهار والأصح الأول.
? كتاب دعوى الدم والقسامة?
القسامة مأخوذة من القَسم وهي اليمين وشرعاً: القسامة هي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم يشترط ان يفصل مدعي القتل ما يدعيه من عَمْد وخطأ وشبه عمد وانفراد وشركة لأن الأحكام تختلف بذلك فإن أطلق المدعي الدعوى ولم يفصل كأن قال هذا قتل أبي استفصَلَهُ القاضي أي طلب منه القاضي تفصيل ما ذكر في دعواه وقيل يعرض القاضي عنه لئلا يُتَهَمَ بتلقينه الحجة ولكن هذا مردود بأن الاستفصال غير التلقين فالتلقين هو أن يقول له قُلْ كذا وكذا ولا تقل كذا وكذا أما
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[21 - 07 - 07, 03:05 ص]ـ
الجزء السادس عشر
الاستفصال فكأن يقول له كيف قتلته؟ ولماذا قتلته ومن كان معك وفي أي ساعة وهل كان مقبلاً أم مدبراً وهل كان نائماً أو مستيقظاً ...
وأن يعين المدعي المدعَى عليه فلو قال في دعواه على مجموعة من الناس قتله أحدهم أو قتله هذا أو هذا أو هذا فأنكروه فطلب تحليفهم لا يحلفهم القاضي في الأصح أي لا يحلف لقاضي أحد منهم لعدم تحدد المدعي عليه وهذا ما يجعل الدعوى غير صحيحة وقيل يحلفهم القاضي إذا كان ثمة دليل عسى أن يتعرف القاضي على الجاني. ويجريان أي الأصح ومقابله في دعوى غصب وسرقة وإتلاف ونحوها مما يكون فيه أحد طرفي الدعوى مجهولاً يلزم تعينه وإنما تسمع الدعوى من مكلف أي بالغ عاقل حال الدعوى فلا تسمع دعوى مجنون أو صبي ملتزم أي لأحكام الشرع قال الدعوى كالمعاهد والمستأمن على مثله أي مكلف ملتزم ولو كان محجوراً عليه بسفه أو فلس ولو ادعى شخص على شخص إنفراده بالقتل ثم ادعى على آخر إنفراده بالقتل أو مشاركته فيه لم تسمع الثانية لأن الأولى تكذبها أو ادعى أن القتل كان عمداً ووصفه بغيره من خطأ أو شبه عمد لم يبطل أصل الدعوى وهي دعوى القتل في الأظهر لأنه قد يظن أن ما وصف به هو العمد والثاني يبطل أصل الدعوى لأن ف دعوى القتل العمد إعتراف ببراءة العاقلة وتثبت القسامة في القتل بمحل لوث وهو اي اللوث قرينة مُبَينة لصدق المدعي فيما ادعاه ولو بغلبة الظن ثم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/55)
فسر القرينة بقوله بأن وجد قتيل في محله أو قربة صغيرة لأعدائه وسواء في ذلك العداوة الدينية أو الدنيوية والتي تبعث على الانتقام وبحيث لم يساكنهم في القرية أو المحلة وغيرهم أو تفرق عنه جمع ولو كانوا من غير أعدائه في نحو متجر أو طريق أو زيارة أو مكن اجتماع لهم وأصل ذلك ما رواه الشيخان عن سهل بن حثمة قال: (انطلق عبدالله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبدالله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه ثم قَدمَ المدينة، فانطلق عبدالرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبدالرحمن يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم فسكت فتكلما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نرَ؟ قال: فَتُبرئُكُم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار، فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده).
ولو تقابل صفان لقتال وانكشفوا عن قتيل من أحد الصفين فإن التحم قتال فلوث في حق الصف الآخر لأن الظاهر أن أهل صفه لا يقتلونه سواء أَوُجدَ بين الصفين أم في صف قومه. وإلا بأن لم يلتحم قتال ولا وصل سلاح أحدهما إلى الآخر ففي حق صفه لوث وشهادة العدل لوثٌ وذلك بأن شهد بأن فلاناً قتل فلاناً لحصوول لظن بصدقه وكذا شهادة عبيد أو نساء لوث لأن ذلك يفيد غلبة الظن قيل يشترط لتكون شهادتهم لوث تفرقهم لاحتمال التواطؤ حالة الاجتماع وقول فسقة وصبيان وكفار لوث بالأصح لأن اتفاقهم على الإخبار عن شيء يكون غالباً على الحقيقة وقيل قول الكافر ليس بلوث.
ولو ظهر لوث فقال أحدُ ابنيه قتله فلان وكذبه الآخر بطل اللوث لتعارض الاخبار وقيل لأن جبلة الإنسان التشفي من قاتل قريبه فحين نفي ذلك كان نفيه أقوى من إثبات أخيه وفي قول لا يبطل اللوث وعلى هذا يحلف المدعي خمسين يميناً ويأخذ حقه من الدية فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) رواه الشيخان من حديث سهل بن أبي حثمة.
وقيل لا يبْطُلُ أي اللوث بتكذيب فاسق لعدم اعتبار قوله في الشرع وقيل لا فرق بينه وبين العدل لانتفاء التهمة في قوله لإسقاط حقه.
ولو قال أحدهما أي أحد ابنيه قتله زيد ومجهول عندي وقال الآخر قتله عمرو ومجهول عندي حلف كلٌ على مَنْ عينه وله ربع الدية لأن حقه النصف واعترف بأن على من عينه النصف وبذلك يستحق ربع الدية.
ولو أنكر المُدعى عليه اللوث في حقه فقال: لم ألم أكن من المتفرقين عنه صدق بيمينه أنه لم يقتل وعلى المدعي البينة. ولو ظهر لوث في قتيل لكن بأصل أي مطلق قتل دون تقييد القتل بصفة عمد وخطأ وشبه عمد فلا قسامة في الأصح لأن ذلك لا يفيد مطالبة العاقلة ولا القاتل ولا يُقْسَمُ في طرف ولا جرح وإتلاف مال إلا في عبد في الأظهر بناء على أن بدل العبد تحمله العاقلة ولأن النص ورد في النفس ولم يرد ف غيرها ولعظم حرمة النفس وهي أي القسامة أن يحلف المدعي ابتداءً على قتل ادعاه خمسين يميناً لخبر الصحيحين عن سهل بن حثمة وفيه (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وفي رواية (يحلفون خمسين يميناً ويستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم) وهذا الخبر مُخصصٌ لخبر البيهقي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده (البينة على من ادعى و اليمين على المدعى عليه) ولا يشترط موالاتها على المذهب فلو حلفه القاضي خمسين يميناً في خمسين يوم جاز لأن الإيمان مثل الشهادات فجاز تفريقها بخلاف اللعان لأنه قد احتيط له أكثر من غيره لما فيه من العقوبة البدنية واختلال النسب وشيوع الفاحشة وهتك للعرض ولو تخللها أي الأيمان جنون أو إغماء بنى بعد الإفاقة حتى لو اشترطنا الموالاة لقيام العذر ولو مات الولي المُقْسمُ في أثناء الأيمان لم يبن وارثه على ما مضى من أيمانه بل يستأنف أماناً جديدة على الصحيح لأن الأيمان كالحجة الواحدة ولا يجوز أن يستحق أحدٌ شيئاً بيمين غيره ولو كان للقتيل ورثة اثنان أو أكثر وزعت أي الأيمان الخمسون عليهم بحسب الإرث لأنهم يقتسمون ما وجب بالأيمان حسب إرثهم فوجب كونها كذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق لأخيه وابن عمه (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم). وجُبِرَ المنكسر إن لم تنقسم صحيحة لأن اليمين لا يتبعض وفي قول يحلف كلٌ خمسين يميناً لأنها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/56)
كيمين واحدة في غير القسامة تتبعض فإن قلنا: إن كل واحد من الورثة يحلف خمسين يميناً فلا تفريع وإذا قلنا إن كلَّ واحد يحلف على قدر حصته من الدية وعليه التفريع فإذا كان المُدِّعي ابنين للمقتول حلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً وإن كان أولاده ثلاثة حلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً لأن اليمين لا يمكن تبعيضها فيجبر الكسر منها كما ذكرنا وإن كان أولاده أكثر من خمسين ولداً حلف كل واحد منهم يميناً واحدة. وأما إذا قُتِلَ رجلٌ من موضع اللوث وخلف ابناً وبنتاً وقلنا يحلف كل واحد على قدر حصته من الدية حلف الابن أربعاً وثلاثين يميناً وأخذ ثلثي الدية وحلفت البنت سبع عشرة يميناً وأخذت ثُلِث الدية ولو نكل أحدهما حلف الآخر خمسين يميناً وأخذ حصته لأن الدية لا تستحق بأقل من خمسين يميناً ولو غاب أحدهما حلف الآخر خمسين يميناً وأخذ حصته لأن الخمسين أقل الحجة وإلا أي وإن لم يحلف الحاضر صبر للغائب حتى يحضر فيحلف معه ما يخصه من الأيمان ولو حضر الغائب بعد حلف الحاضر خمسين حلف الغائب خمساً وعشرين كما لو كان حاضراً عند حلف الآخر.
والمذهب أن يمين المدّعى عليه بلا لوث واليمين المردودة من المدعى عليه على المدعي أو المردودة بنكول المدَّعي على المدَّعى عليه مع لوث واليمين مع شاهد خمسون لأنه يمين دم حتى لو تعدد المدعي حلف كلُ واحدٍ خمسين يميناً لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سهل بن أبي حثمة (فَتُبْرِئكمُ اليهود بخمسين يميناً).
ويجب بالقسامة في قتل الخطأ وشبه العمد دية على العاقلة مخففة في الأول مغلظة في الثاني كما مرَّ في القصاص وفي العمد دية حالّةٌ على المُقْسَمِ عليه ولا قصاص في القسامة لما روى الشيخان من حديث سهل بن أبي حثمة (إما أن تَدُوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب من الله).
وفي القديم قصاص لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أتحلفون وتستحقون صاحبكم) أ دم قاتل صاحبكم ولما روى أبوداود عن عبدالله بن عمرو (يُقْسمُ خمسون منكم على رجل منهم فيُدفَعُ بِرُمَّتِهِ) والرمَّة هو الحبل الذي يقاربه للقتل والأول أصح لأن القسامة حجة ضعيفة فلا قصاص.
ولو ادّعى قتلاً عمداً على ثلاثة أشخاص حضر أحدُهُم أقسم عليه خمسين وأخذ منه ثلث الدية من ماله فإن حضر آخرُ أقسمَ عليه خمسين لأن الأيمان السابقة لم تتناوله وأخذ منه ثلث الدية وفي قول يقسم خمساً وعشرين كم لو حضرا معاً إن لم يكن ذَكَرَهُ أي الثاني في الأيمان السابقة وإلا بأن كان ذكره في الأيمان السابقة فينبغي الاكتفاء بها أي الأيمان السابقة ولا يحلف ثانية بناءً على صحة القسامة في غيبة لمدَّعى عليه وهو الأصح بناءً على إمكان سماع البينة في غيبته.
ومن استحق بدل الدم من وارث أو سيد أقسم سواء في ذلك المسلم والكافر والعدل والفاسق ولو كان المستحق مكاتب لقتل عبده لأنه هو المستحق لبدله ولا يقسم سيده ومن ارتدَّ بعد استحقاقه الدم بأن مات المجروح وارتد وليه قبل أن يقسم فالأفضل تأخير أقسامه ليُسْلِمَ فغن المرتد لا يتورع عن الأيمان الكاذبة فإن عاد إلى الإسلام أقسم فإن اقسم في الردة صح إقسامه واستحق الدية على المذهب لأن الحاصل به نوع اكتساب للمال فلا يُمْنَعُ منه الردة كالاحتطاب والاصطياد ومن لا وارث له معيناً لإقسامه فيه وإن كان هناك لوث لعدم المستحق المعين وديته لعامة المسلمين وتحليفهم غير ممكن.
? فصل فيما يثبت به موجب القود?
إنما يثبت موجب القصاص مِنْ قَتْلٍ أو جرحٍ بإقرار الجاني بما يوجب القصاص أو بشهادة عدلين بموجب القصاص والمال يثبت موجبه بذلك أي بإقرار به أو بشهادة عدلين به أو برجلين وامرأتين أو برجل ويمين لا بامرأتين ويمين ولو عفا عن القصاص لِقْبَلَ المال رجلٌ وامرأتان أو رجل ويمين لم يُقْبل أي لم يحكم له بذلك في الأصح لأن العفو على المال إنما يثبت بعد ثبوت القصاص ولا يثبت موجب القصاص بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل ويمين المدعي.
ولو شهد هو وهما اي الرجل والمرأتان بهاشمة قبلها إيضاحٌ لم يجب أرشها أي الهاشمة على المذهب لأن الإيضاح الموجب للقصاص لا يثبت برجل وامرأتين بل يثبت بجحة كاملة وهي رجلان عدلان قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات6، وقال تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) الطلاق2.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/57)
وروى الزهري أنه قال: مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود.
وليصرح الشاهد بالمدَّعى بحيث يذكر إضافة التلف إلى الفعل فلو قال ضربه بسيف فجرحه فمات المجني عليه لم يثبت هذا القتل المدَّعى به حتى يقول فمات منه أو فقتله لاحتمال أن يكون مات بغير الجرح المدَّعى به ولو قال ضرب رأسه فأدماه أو فأسال دمه ثبتت دامية عملاً بقوله أما لو قال فسال دمه لم تثبت الدامية لاحتمال حصول السيلان بسبب آخر ويشترط لموضِحة أي للشهادة بها قول الشاهد ضربه فأوضح عظم رأسه لنفي أي سبب آخر للإيضاح وقيل يكف فأوضح رأسه وهو المعتمد لفهم المقصود منه عادة ويجب بيان مَحَلِّها وقدرها أي الموضحة الموجبة للقود ليُمْكنَ القصاص لأنهم إن تبينوا ذلك فلا قود وإن لم يكن برأسه إلا موضحة واحدة لاحتمال أنها وسعت من غير الجاني.
ويثبت القتل بالسحر بإقرار به من الساحر فإن قال قتلته بسحري وهو يقتل عادة فقتْلُ عمد فعليه القود أو قال يقتل نادراً فشبه عمد أو قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه فإقرار بالخطأ ولا يثبت السحر ببينة لأن الشاهد لا يعلم قصد الساحر ولا يشاهد تأثير سحره وأما لو اعترف شخص بقتله إنساناً بالعين فلا ضمان ولا كفارة لأنها لا تقضي إلى القتل عادة. روى الطبراني في الأوسط من حديث عمران بن الحصين (ليس منا مَنء سَحَرَ أو سُحِرَ له أو تكهن أو كُهِنَ له)، وروى الإمام مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العين حق ولو كان شيءٌ سابق القدر سبقته العين)).
ولو شهد لمورثه بجُرحٍ قبل الاندمال لم تقبل شهادته لأنه مات كان أرش الجناية له فكأنه شهد لنفسه وبعده أي بعد الاندمال يقبل لعدم وجود التهمة وكذا بمال في مرض موته في الأصح أي لو شهد لمورثه في مرض موته لم تقبل شهادته لأنه يشهد بمال يجب حالاً ولم يشهد بسبب ينقل المال إليه ولا تقبل شهادة العاقلة بفسق شهود قَتْلٍ يحملونه أي العاقلة من خطأ أو شبه عمد لأنهم متهمون بدفع التحمل عن أنفسهم ولو شهد اثنان على اثنين بقتله أي المجني عليه فشهدا أي المشهود عليهما في ذات المجلس وعلى الفور على الأَولين بقتله فإن صدق الولي الأولين حكم بهما وسقطت شهادة الآخرين لأنهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما القتل الذي شهد به الأولان والدافع منهم في شهادة أو صدق الآخرين أو صدق الجميع أو كذب الجميع بطلتا في الجميع لأن تصديق أي فريق تكذيب الآخر وفي تكذيب أي فريق تصديق الآخر وفي تكذيب الجميع إسقاط الحجة.
ولو أقرَّ بعض الورثة بعفو بعضٍ منهم عن القصاص سقط القصاص لأن القصاص لا يتبعض ووجبت الدية.
ولو اختلف شاهدان في زمان للقتل كأن قال أحدهما كان في الليل وقال الآخر كان في النهار أو مكان كأن قال أحدهما قتله في الدار وقال الآخر في السوق أو آلة كأن قال أحدهما حزَّ رقبته وقال الآخر حطّم رأسه لغت شهادتهما للتناقض فيها قيل شهادتهما لوث لاتفاقهما على القتل والاختلاف على القتل والاختلاف في الصفة غلط من أحدهما أو نسيان فيقسم الولي وتثبت الدية.
? كتاب البغاة?
البغاة جمع باغٍ والبغي هو الظلم ومجاوزة الحدِّ. قال النووي: البغاة هم المحالفون للإمام الخارجون من طاعته بالامتناع من أداء ما عليهم وتعتبر فيهم خصلتان: إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام أو منع الحق المتوجه عليهم فلو خرج قوم على الطاعة ومنعوا الحق بلا تأويل سواء كان حداً أو قصاصاً أو مالاً لله تعالى أو للآدميين عناداً ومكابرة ولم يتعلقوا بتأويل فليس لهم أحكام البغاة والثانية: أن يكون تأويلهم باطلاً ظناً أو قطعاً.
وروى الشيخان عن أبي سعيد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: (تقتله الفئة الباغية)، وروى مسلم من حديث أم الحصين: (اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّرَ عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف) هم مسلمون مخالفون للإمام بخروج عليه وترك الانقياد له أو منع حق توجه عليهم كالزكاة بشرط شوكة لهم وتأويل والشوكة تكون إما بكثرة أو قوة بحيث يمكنهم مقاومة الإمام ويشترط في التأويل أن يكون فاسداً ومن ذلك تأويل الخارجين من أهل الجمل وصفين على علي رضي الله عنه بأن يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر على الاقتصاص منهم ولم يفعل ذلك لمواطأته إياهم وتأويل بعض ما بغي الزكاة من أبي بكر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/58)
بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكناً لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومطاع فيهم أي ويشترط وجود مطاع فيهم يصدرون عن رأيه وإن لم يكن منصوباً إذ لا شوكة لمن لا مطاع فيهم.
قيل وإمام لهم منصوب منهم عليهم ليحكم بينهم وهذا الوجه مردود بأن علياً قاتل أهل الجمل ولم يكن لهم إمام. ولو أظهر قومٌ رأي الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذي كبيرة وكانوا في قبضة السلطان ولم يقاتلوا أهل العدل تُرِكوا فلا يجوز التعرض لهم لأنّا لا نكفرهم بفعلهم وقولهم السابقتين وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منّا) رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة قدر شهر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) رواه أحمد وغيره عن أبي ذر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية) رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية) رواه مسلم عن ابن عمر.
فهذه الأحاديث حمولة على من خرج عن الطاعة بلا تأويل أو بتأويل فاسد قطعاً كمن مع الزكاة عناداً أو كتأويل ابن ملجم أنه وليُّ امرأة قتل عليٌ أباها فاقتص منه، وإلا أي قاتلونا أولم يكونوا في قبضتنا فقطاع طرق أي لهم ذات حكمهم فإن قتلوا أحداً ممن يكافئهم اقتص منهم كغيرهم وتقبل شهادة البغاة لأنهم ليسوا بكفرة ولا فسقة وقضاء قاضيهم يقبل فيما يقبل قضاء قاضينا إذا توافرت صفات القاضي فيه فيقبل قضاؤه لأن لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد إلا أن يستحل دماءنا فلا يقبل قضاؤه لانتفاء العدالة المشترطة في القاضي وكذلك الشاهد إن كان يستحل دماءنا لا تقبل شهادته وسواءٌ في ذلك الشهادة في المال والدم والفروج. ويُنَفَّذُ كتابه بالحكم فإذا كتب قاضيهم إلى قاضينا جاز له قبول حكمه وتنفذه وقيل الأولى ألا ينفذ كتابه بالحكم إستخفافاً بهم وإظهاراً للغضب على بغيهم ويحكم بكتابه بسماع البينة في الأصح لأنهم ليسوا بفسقة عندنا فهم كأهل العدل المختلفين في الأحكام.
ولو أقاموا حداً وأخذوا زكاةً وخراجاً وجزية وفرقوا سهم المرتزقة على جندهم صح فقد روي أن علياً رضي الله عنه لمّا غلب أهل البغي وقد كانوا حكموا مدة طويلة بأحكام لم يطالب بشيء مما قد كانوا حبوه من ذلك. وإن ادعى مَنْ عليه الجزية أنه دفعها إليهم فإن عَلِمَ الإمام بذلك أو قامت به بينة لم يطالبه بشيء وإن لم يعلم الإمام بذلك ولا قامت به بينة لم يُقْبَل قولُ مَنْ عليه الجزية لأنه يجب عليه الدفع إلى الإمام فهم كفار ليسوا بمؤمنين وفي الأخير وجه أي أنه لا يقبل توزيعهم سهم المرتزقة على جندهم لأن في ذلك تشجيع للناس على الخروج على الإمام. وما أتلفه باغٍ على عادل وعكسه إن لم يكن في قتال ضمن أي يضمن كلٌ منهما ما أتلفه للآخر من نفسٍ ومالٍ لأن فعل البغاة خطأ معفو عنه لتأويلهم وبذلك فارق إتلاف الحربي. قال تعالى: (ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء33، ولأن إتلاف أحدهما على الآخر بغير قتال محرَّمٌ فوجب ضمانه كما لو أتلفوه قبل البغي. وإلا أي وإذا كان الإتلاف في قتال بسبب البغي فلا فلا ضمان على واحد منهما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات9. فقد أمر بقتالهم ولم يوجب ضمان ما أتلفوه عليهم، أخرج عبدالرزاق في المصنف والبيهقي في السنن (أن هشام بن عبدالملك أرسل إلى الزهري يسأله عن اكرأة من أهل العدل ذهبت إلى أهل البغي وكفَّّرت زوجها وتزوجت من أهل البغي ثم تابت ورجعت هل يقام عليها الحد؟ فقال الزهري: كانت الفتنة العظمى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم البدريون فأجمعوا على أنه لا حدَّ على من ارتكب فرجاً محظوراً بتأويل القرآن وأن لا ضمان على من سفك دماً محرماً بتأويل القرآن وأن لا غرم على من أتلف مالاً بتأويل القرآن).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/59)
وفي قول يضمن الباغي ما أتلفه من نفسٍ أو مالٍ ولو كان الإتلاف في قتال. قال تعالى: (ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً) الإسراء33. والباغي ظالم ويُرَدٌّ على هذا أن علياً رضي الله عنه قاتل أهل الجمل وقتل منهم خلقاً عظيماً وأتلف مالاً عظيماً ثم مَلَّكَهُم ولم يُنقل أنه ضمن أحداً منهم ما أتلف من نفس أو مال فدل على أنه إجماع.
والمتأول بلا شوكة أي بلا قوة وامتناع لا يثبت له شيء من أحكام البغاة فحينئذ يضمن ما أتلفه ولو في قتال. وعكيع كباغٍ وهو من له شوكة بلا تأويل فحكمه في الضمان وعدمه مثل حكم الباغي ولا يقاتل البغاة حتى يبعث الإمام إليهم أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما ينقمون فقد بعث عليٌ ابنَ عباس إلى أهل النهروان من الخوارج فرجع بعضهم إلى طاعة الإمام وأبى كثيرون فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها فقد أخرج عبدالرزاق في المصنف (أن علياً رضي الله عنه لما كاتب معاوية رضي الله عنه وحكَّمَ خرج من معسكره ثمانيةُ آلاف ونزلوا بحروراء وأرادوا قتاله فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنه، فقال لهم: ما تنقمون منه؟ قالوا: ثلاثٌ، فقال ابن عباس: إن رفَعَها رجعتُم؟ قالوا: نعم، قال: وماهي؟ قالوا: حكَّمَ في دين الله ولا حكم إلا لله، وقتل ولم يَسْبِ فإن حلَّ لنا قَتْلُهُم حلَّ لنا سَبيُهُم، ومحا اسمه من الخلافة فقد عزل نفسه يعنون اليوم الذي كتب فيه الكتاب بينه وبين أهل الشام فكتب فيه: أميرُ المؤمنين، فقالوا: لو أقررنا بأنك أمير المؤمنين ما قاتلناك فمحاه من الكتاب) فإن أصرّوا بعد الإزالة نصحهم بالعودة إلى الطاعة ولزوم الجماعة ثم إن لم يرجعوا آذنهم أي أخبرهم بالقتال فإن استمهلوا أي جعلوا إنكارهم مدة إجتهد الإمام في الإمهال وعدمه وفعل ما رآه صواباً من الإمهال وعدمه ولا يُقَاتِلُ مُدْبرَهم إذا وقع قتال ولا مُثخَنَهم وهو من أضعفته الجراح عن القتال وأسيرهم لايُقْتَلُ ولا يُطْلَقُ أسيرهم خاصة إذا كان شاباً جَلِداً ما دامت الحرب قائمة إذ بحبسه تضعف البغاة، روى الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن ابن عمر عن ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أمِّ عبدٍ ما حُكْمُ من يفيء من أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يُتْبَعُ مُدْبِرهُم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يُقْسَمُ فَيؤُهُم). وإن كان أي حتى وإن كان أسيرهم صبياً وامرأة حتى تنقصي الحرب ويتفرق جمعهم إلا أن يطيع باختياره وذلك بمبايعة الإمام والرجوع عن البغي إلى الطاعة فيطلق بعد انقضاء الحرب. قال تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات9. وَيَرُدُّ الإمام وجوباً سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب واُمِنَتْ غائلتهم أي شرهم بتفرقهم أو رجوعهم إلى الطاعة لأنهم إنما قوتلوا لدفع شرهم وكفهم على الاعتداء وقد حصل ذلك ولا يُسْتَعْمَلُ في قتال أي سلاحهم وخيلهم إلا لضرورة وذلك بأن لم يجد أهل العدل إلا سلاحَهُم وخيلهم للدفاع فيستعملونه. فقد روى البيهقي في السنن عن أبي هرَّة الرقاشي عن عمه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: (ألا إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)).
ولا يُقَاتَلُون بعظيم كنار ومنجنيق والمنجنيق هو آلة تُرمَى بها الحجارة على مواقع العدو عادة إلا لضرورة بأن قاتلوا به فنحتاج إلى المقاتلة بمثله لدفعهم عنّا أو أحاطوا بنا ولم يمكننا كفهم وردهم إلى الطاعة ولا يُستعان عليهم بكافر لأنه يحرم تسليطه على المسلم ولا بمن يرى قتلهم مدبرين لأنه لا يُأمَنُ أن يفعل ذلك إلا أن يكون بنا حاجة إليهم وعلى الإمام عند ذاك منعهم من قَتْلهم مدبرين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/60)
ولو استعانوا علينا بأهل حرب وآمنوهم أي عقدوا لهم عقد أمان لم يَنْفُذْ أمانهم علينا فيجوز لنا قتلهم مقبلين ومدبرين ويجهز على جريحهم ويجوز سبي ذراريهم ويتخير الإمام فيمن أسر منهم بين القتل والمنِّ والاسترقاق والفداء لأن شرط صحة العقد لهم أن لا يقاتلوا المسلمين فإن وقع العقد على شرط قتال المسلمين لم يصح هذا العقد ونفذ عليهم أمانهم أي ينفذ على أهل البغي لأنهم قد بذلوا لهم الأمان فوجب عليهم الوقاية والثاني أنهم لا يكونون في أمان منهم لأن من لم يصحَّ أمانه في حق بعض المسلمين لم يصحَّ في حقِّ الآخرين.
ولو أعانهم أي أعانوا أهل البغي أهل الذمة عالمين بتحريم قتالنا انتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتال المسلمين أو أعانوهم مكرهين فلا ينتقض عهدهم لشبهة الإكراه وكذا لا ينتقض عهدهم إن قالوا ظننا جوازه أي أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض أو قالوا ظننا أنهم محقون فيما فعلوه وأن لنا إعانة المحق فلا ينتقض عهدهم على المذهب لموافقتهم لطائفة من المسلمين مع إمكان تصديق دعواهم بالجهل ويقاتلون كبغاة إذا قلنا بعدم انتقاض عهدهم لأن الأمان حقن دماءهم كماأن الإسلام حقن دماء البغاة.
? فصل في شروط الإمام الأعظم?
الإمامة فرض كفاية كالقضاء إذ لابد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة ويستوفي الحقوق ويجهز الجيوش في جهاد الكفار ويأخذ الجزية والصدقة ويضعها مواضعها. فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جُنّةً يُقاتل من ورائه ويُتقى به فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر وإن يأمر بغيره كان عليه منه)).
شرط الإمام كونه مسلماً ليراعي مصلحة الإسلام والمسلمين مكلفاً ليَليَ أمر الناس فلا تصح إمارة صبي ولا مجنون إجماعاً. حراً ليكون موقراً مهيباً كاملاً. أما ما رواه مسلم عن أم الحصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّرَ عليكم عبد حبشي)) فمحمول على غير الإمامة العظمى وهو حث على طاعة الإمام لأنها قضية شرطية ذكراً ليتمكن من مخالطة الرجال وليتفرغ لمصالح الأمة فقد روى البخاري عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة)) فاقتضى الخبر أنها إذا وليت فسدُ أمر مَنْ وَليتْهُم.
قرشياً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) رواه النسائي عن أنس وروى البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس تبع لقريش)). وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بق منهم اثنان)). عدلاً عالماً مجتهداً ليعرف الأحكام ويعرف الناس شجاعاً ليغزو بنفسه ويقود الجيوش ويدبر أمرها ويقهر الأعداء ويقيم الحدود ذا رأي وسمع وبصر ليعرف الناس ويدبر مصالحهم الدينية والدنيوية. وتنعقد الإمامة بطرق أحدها البيعة كما بايع الصحابة أبا بكر رضي الله عنه وكان أول من بايعه عمر بن الخطاب فقد روى البخاري عن عمر أنه قال لأبي بكر: (بل نبايعُكَ أنت سيدُنا وخيرنُا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه الناس)، والأصح أم المعتبر هو بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم، والمعتبر بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس وأقلهم ثلاثة وذلك أقل الجمع عندنا ولا يلتفت لاجتماع العامة لأنهم تبع لأهل الاجتهاد وقيل يشترط كونهم أربعين رجلاً. وشرطهم صفة الشهود أي ذكراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً ولابد أن يكون بينهم مجتهدٌ على الأقل لينظر في الشروط المعتبرة في الإمامة.
وباستخلاف الإمام تنعقد البيعة أيضاً وذلك بتعين شخص في حال حياته ليكون خليفة له على أن تجتمع فيه شروط الإمامة ويقال عند ذاك عَهِِدَ إليه كما عَهِدَ أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما فلو جُعِلَ الأمر شورى بين جمع اثنين فصاعداً فكاستخلاف في الحكم غير أن المستخلف غير معين فيتشاورون فيرتضون أحدهم بعد موت الخليفة كما جعل عمر الأمر شورى بين ستة: علي والزبير وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة، فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه وأرضاه وباستيلاء جامع الشروط اللازمة للإمامة تنعقد الإمامة وذلك بأن قهر الناس بشوكته وجنوده من غير عهد ولا بيعة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/61)
وذلك بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين.
وكذا فاسق وجاهل تنعقد به الإمامة في الأصح وإن كان عاصياً ولا يختص الحكم بالفاسق والجاهل بل بسائر الشروط إذا فُقِدَ واحد منها كذلك كالعبد والمرأة والصبي المميز ولا تنعقد الإمامة بالكافر مطلقاً ولو تغلب لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء141. قلت: لو ادعى أهل بلد عادت من أيدي البغاة إلينا دفع زكاة إلى البغاة صدق إن علم الإمام بذلك أو أقامت عنده بذلك بينة بلا يمين وإن لم يعلم الإمام بذلك ولا قامت بينة بذلك فإن دعوى من عليه الزكاة مخالفة للظاهر فيحلِّفهُ الإمام وَيُصَدَّقُ بيمينه على الصحيح أو جزية أي إذا ادعى مَنْ عليه الجزية دفعها إلى البغاة ولم تقم بينة بذلك ولا علم الإمام فلا يقبل قول من عليه الجزية على الصحيح لأنهم كفَّارٌ فليسوا بمؤمنين.
وكذا إذا ادعى من عليه الخراج دفع خراجٍ لأرض فلا يصدق في دفعه من غير بينة كدفع ثمن المبيع والثاني يصدق لأنه مسلم فَقُبِلَ قوله مع يمينه.
ويصدق من عليه حدٌّ في إقامة حدٍّ إلا أن يثبت ببينة أي الحدُّ ولا أثر له في البدن يدل على إقامة الحدِّ أما لو ثبت الحدُّ بالإقرار فيصدق مَنْ عليه الحدُّ أنه قد أُقيمَ الحدُّ لأنه يُقْبَلُ رجوعه عن الإقرار فتصديقه بإقامة الحد يكون كقبول رجوعه عن الإقرار والله أعلم.
خاتمة: إذا كان هناك إمامٌ فقهره رجلٌ يصلح للإمامة بالسيف وغلبَهُ فإذا كانت إمامة الأول ثبتت بالوجه الشرعي لم ينعزل الأول وإن كانت إمامة الأول قد ثبتت بغلبة السيف انعزل الأول وثبتت إمامة الثاني لأن إمامة الأول ثبتت بالغلبة وقد زالت غلبته بتغلب الثاني عليه ولا يجوز خلع الإمام بغير موجب لخلعه لأن أمر الجماعة لا يصلح فوضى لا سراة لها من أهل العقل والحكمة والتقى وقد أجمع الصحابة على نصب الإمام ليقيم العدل لأن الظلم طبع في بعض النفوس وإنما تظهره القدرة ويخفيه العجز.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) النساء59.
وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منّا)). وروى الشيخان عن ابن عباس (من رأى منكم من أميره شيئاً فكرهه فليصبر لإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتتة جاهلية).
وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: (بايَعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله).
? كتاب الردة ?
الردة لغة الرجوع عن الشيء إلى غيره ومنه قوله تعالى: (فارتدا على آثارهما قصصاً) الكهف64، أي رجعا وهي أفحش الكفر وأغلظه وهي شرعاً قطع استمرار الإسلام وهي محبطة للعمل إن اتصلت بالموت. قال تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة217. وقال تعالى: (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن] ُقْبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران85. رورى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدّل دينه فاقتلوه)). وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)).
والردة هي قطع الإسلام بنية كفر أو قول كفر أو فعل مكفر أي أن قطع الإسلام يكون بأحد هذه الأمور الثلاثة وقدّم النية لأنها الأصل والمقدمة للقول والفعل ثم ذكر القول لأنه أغلب من الفعل سواءٌ في الحكم عليه عند قوله الكفر قاله استهزاءً. قال تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنا كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة65،66. أو عناداً بأن عرف بباطنه أنه حق وأبى أن يقرَّ به. قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) النمل14. أو اعتقاداً كمن اعتقد أنه لا جنة ولا نار ومنه لو اعتقد من ابتلي بمرض أن الله ظلمه بإمراضه ومن اعتقد أن اليهود والنصارى خير من المسلمين أو اعتقد وجود صلاة سادسة ومنه من شك في كفر من دان بغير الإسلام كدين اليهود والنصارى فمن نفى الصانع وهو الله سبحانه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/62)
وتعالى وليس الصانع من أسمائه سبحانه لأن أسماؤه توقيفية في الأصح وهذا الاسم خارج عن الأسماء الحسنى وهو مشتق من قوله تعالى: (صنع الله) النمل88، وروى الحاكم في المستدرك من حديث حذيفة بن اليمان (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله صانع كلِّ صانع وصنعَتِهِ)). وقال إنه حديث صحيح على شرط مسلم. ومن نفى ما هو ثابت لله عز وجل بالإجماع كالعلم والقدرة أو أثبَتَ ما هو منفي عنه بالإجماع كحدوثه وقدم العالم فهو مرتدٌّ.
أو نفى الرسل فقال إن الله تعالى لم يبعثهم أو قال عن نبي لم يبعثه الله أو حجد القرآن أو صدّق مدّعياً للنبوة أو قال إن النبوة مكتسبة وتنال رتبتها بصفاء القلوب أو سبَّ نبياً مجمعاً على نبوته أو رسولاً. أو كذّب رسولاً أو نبياً أو حلل محرماً بالإجماع كالزنا وعكسه بأن حرّم حلالاً بالإجماع كالنكاح والبيع والشراء أو نفى وجوب مُجْمَعٍ عليه كصلاة الظهر أو قال إن شئت فصلِ الظهر ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو نفى سنة مؤكدة كصلاة العيد فقال إنها لا أصل لها أو عكسه كأن اعتقد وجوب صوم شوال أو قال إن صلاة الفجر أربع ركعات أو اعتقد أو شرع أن نصيب الأنثى من الميراث كنصيب الذكر أو عزم على الكفر غداً أو علق كفره على شيء أو تردد فيه كفر أي هل يكفر أو لا مثل من تردد في إلقاء مصحف في نجاسة أو لا فإنه يكفر حالاً ومن نفى صحبة أبي بكر كفر ومن نفى براءة الصديقة عائشة كفر لأنه مكذب لله ورسوله ومكذب للقرآن وقوله (أو عزم) شملها قوله (بنية كفر) لأن النية أعم من العزم حيث أن النية تشمل الحال والمستقبل وأما العزم فيشمل المستقبل.
تنبيه: ذكر الغزالي أن مَنْ زعم أن له مع الله حالاً أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم نحو خمر وجب قتله وإن كان في حكم خلوده في النار نظر، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر، انتهى كلامه. ولا نظر في خلوده في النار لأنه مرتد لاستحلاله ما عُلِمَتْ حرمته أو نفيه وجوب ما عُلِمَ ضرورة فيهما.
والفعل المُكَفِّر ما تَعَمَّدَه القائل استهزاءً صريحاً بالدين عِناداً له أو جحوداً له كإلقاء مصحف أو شيء من القرآن وخرج بالعمد السهو كالنوم وغيره بقاذورة. لأنه استخفاف صريح بكلام الله وهذا استزاء بالله سبحانه وتعالى ومثل القرآن كتب الحديث. ومن الأفعال المكفرة التي يحكم على صاحبها بالردة إجماعاً وإن كان صاحبها مصرحاً بالإسلام السجود للصليب أو النار أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها اختياراً وكذا من أنكر مكة أو البيت أو المسجد الحرام أو صفة الحج وأنه ليس على هذه الهيئة المعروفة أو قال لا أدري أن هذه المسماة بمكة هي مكة أو غيرها وكذلك من أنكر الجنة والنار أو البعث أو الحساب أو قال الأئمة أفضل من الأنبياء ومن الأفعال الناشئة عن الاستهزاء بالدين أو الجحود به ذكر المصنف أشياء فقال وسجود لصنم أو شمس وغيرها من المخلوقات كالملوك والأشجار والأبقار وغيرها.
ولا تصح ردة صبي ولا مجنون ومكره: فقد روى أحمد وأبوداود والحاكم عن علي وعمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)). وقال تعالى: (إلا مَنْ أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) لنمل106.
ولكن من أكره على كلمة الكفر فالأفضل له أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه فقد روى البخاري عن خباب بن الأرت (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن كان الرجل ممن كان قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار فتوضع على رأسه يشق باثنتين فلا يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحمٍ وعصبٍ ما يصده ذلك عن دينه)). ولو ارتدَّ فجُنَّ لم يُقْتَلْ في جنونه لأنه قد يعقل ويعود إلى الإسلام والمذهب صحة ردة السكران وإسلامه لأنه مكلف ولأنه يصح طلاقه فصحت ردته كالصاحي فإن ارتدَّ في ٍسُكْرِهِ وجب القتل لكن لا يقتل حتى يفيق فيعرض عليه الإسلام ولو عاد إلى الإسلام في حال سكره قُبِلَ منه ذلك وإن قتلَهُ قاتل في حال سكره لم يضمنه لأن عصمته زالت بردته.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/63)
وتقبل الشهادة بالردة مُطْلَقاً دون تفصيل لأن الشاهد بها لا يقدم على ذلك إلا بمزيد من التحري والدقة لخطر الحكم بها وقيل يجب التفصيل وذلك بأن يذكر الشاهد سببها لاختلاف الناس فيما يوجبها فعلى الأول لو شهدوا بردة فأنكر حُكِمَ بالشهادة أي فلو شهد عدلان بردته فقال كذبا عليّ أو قال ما ارتددت قُبِلَت شهادتهما ولا يغنيه التكذيب بل يلزمه بما يصير به الكافر مسلماً ولا ينفعه في ذلك بينونة زوجته. فلو قال: كنت مُكْرَهاً، واقتضته قرينة كأسر كفار يُنْظَرُ إلى القرائن التي تشهد له بأن كان أسيراً عند الكفار أو كان محفوفاً بجماعة منهم وقد قيدوه فيقبل قوله ولا يحكم بكفره لأن الحبس والقيد إكراهٌ على الظاهر. وإن قامت بينة على أنه كان يشرب الخمر ويأكل الخنزير في دار الكفر لم يحكم بكفره لأنها معاصٍ وقد يفعلها المسلم وهو يعتقد تحريمها فلم يُحْكَمْ بكفره وإن مات وَرِثَهُ وَرَثتُهُ المسلمون لأنه محكوم ببقائه على الإسلام.
صدق بيمينه عملاً بالقرينة المشعِرَة بصدقه وإلا أي وإن لمتقتضيه قرينة كأن كان بدار كفر وهو مخلّى السبيل ولا سلطان عليه للكفار فلا يقبل قوله فيحكم ببينونة زوجته التي لم يدخل بها ويطالب بالنطق بالشهادتين ولو قالا لَفَظَ لفظَ كُفْر فادّعى إكراهاً صدق مطلقاً أي إذا لم يقل الشاهدان ارتدَّ وإنما قالا تلفظ بكلمة الكفر فقال: صدقا في قولهما ولكنني كنت مُكْرَهاً فيقبل قوله لأنه ليس مكذباً للشاهدين والأصل أن يجدد كلمة الإسلام لأن لفظ الردة وجِدَ والأصل في الإنسان الاختيار لا الإكراه. ولو مات معروفٌ بالإسلام عن ابنين مسلمين فقال أحدهما ارتدَّ فمات كافراً كأن قال رأيته يسجد لصنم أو سمعته ينطق بكلمة الكفر لم يرثْهُ ونصيبه فيءٌ وكذا يكون نصيبه فيئاً إن أطلق أي أن لم يبين سبب كفره في الأظهر معاملة له بإقراره والقول الثاني يُستفْصَلُ فإن ذكر ما هو كفر كان فيئاً وإن ذكر ما ليس بكفر صرف إليه ولو قال مات وهو يشرب الخمر فيرثه لأنه من أهل المعاصي ويجب استتابة المرتدِّ والمرتدّة لما روى مالك في الموطأ والبيهقي في السنن عن عمر ومثله عن أنس (أنه لما ورد على عمر بن الخطاب فتح تُسُتَرَ قال لهم: هل من مُغَرِّبَة خبر؟ (أي خبر غريب) قالوا: نعم رجل ارتدَّ عن الإسلام ولحق بالمشركين فلحقناه فقتلناه، قال: فهلا ادخلتموه بيتاً وأغلقتم عليه باباً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه ثلاثاً؟ فإن تاب وإلا قتلتموه، اللهم إني لم أشهد ولم آمُرْ ولم أرضَ إذ بلغني).
وكتب ابن مسعود إلى عثمان في قوم ارتدوا فكتب إليه عثمان: (اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوا فخلِّهم وإن أبوا فاقتلهم).
وفي قول تستحب استتابة المرتد والمرتدة كالكافر فقد أخرج البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدّل دينه فاقتلوه ولا تعذِّبوا بعذاب الله تعالى) فأوجب قتله ولم يوجب استتابته ولأنه لو قتله قاتل قبل الاستتابة لم يجب عليه ضمانه كما أن عمر لم يوجب الضمان على الذين قتلوا المرتد قبل استتابته فلو كانت واجبة لوجب ضمانه. وهي أي الاستتابة في الحال فإن تاب تُرك وإلا قُتِلَ ولأن قتله حدٌّ فلا يؤخر كسائر الحدود وهو الذي نصره الإمام الشافعي فقد روى البيهقي والدارقطني عن جابر (أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت) وفي رواية: فأبت أن تُسلِمَ فقتلت، قال الحافظ ابن جحر: وقع في الأصل أمّ رومان وهو تحريف والصواب أمّ مروان.
وفي قول ثلاثة أيام أي يمهل المرتد ثلاثة أيام أن الاستتابة إنما تُراد لزوال الشبهة فَقُدِّرَ ذلك بثلاث لأنها أخرجت القلة وأول حد الكثرة. ولقد روى البيهقي في السنن عن محمد بن عبدالله بن عبدالقاري عن أبيه أن عنر قال في المرتدّ (فهلا أدخلتموه بيتاً وأعلقتم عليه باباً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه ثلاثاً). قال الشافعي رحمه الله: مَنْ لم يتأنى بالمرتد زعموا أن هذا الأثر ليس بمتصل.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/64)
فإن أصّرا أي المرتد والمرتدة على الردة قُبِلا لما روى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدّل فاقتلوه)) وإن أسْلَمَ صح إسلامه إذا أتى بالشهادتين وهما أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وَتُرِكَ أي قبلت توبته فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) وهذا قد قالها فيَعْصَمُ دمه ومالُه وقيل لا يُقْبَلُ إسلامه إن ارتدّ إلى كفر خَفيّ كزنادقةٍ وباطنية والزنديق من يظهر الإسلام ويخفي الكفر وقيل هو المنافق أما الزنديق فهو الذي لا ينتحل ديناً أبداً وأما الباطني فهو من يعتقد أن للقرآن ظاهراً وباطناً وأن الباطن هو المراد منه، والأول أصح فتقبل توبة المرتد وإسلامه سواء كان مسلماً أصلياً فارتد أو كافراً أسلم ثم ارتدّ وسواء كان ظاهر الكفر أو زنديقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر وسواء تكررت منه الردة والإسلام أم لا. قال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف) الأنفال38. فأمر الله سبحانه بمخاطبة الكفار بالإنتهاء ولم يفرق بين صنف وصنف.
وأخرج البخاري عن المقداد بن الأسود أنه قال: (يا رسول الله أرأيت لو أن مشركاً لقيني فقاتلني وقطه يدي ثم لاذ عني بشجرة، فقال: أسلمت لله أفأقتله؟ فقال: لا، قال: فقد قالها بعد ما قطع يدي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما هو مثلك قبل أن تقتله). ولقد كان المنافقون يظهرون الإسلام ويسرون الكفر والرسول يعرفهم بأسمائهم وكناهم ولا يتعرض لهم.
وولد المرتد إذا انعقد قبلها أي قبل الردة أو بعدها أي في الردة وأحد أبويه مسلم فمسلم بالتبعية تغليباً للإسلام، روى الطبراني في الصغير عن عائذ المزني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)) أو أبواه مرتدان فمسلم لبقاء علقة الإسلام في أبويه وفي قول مرتدٌّ بالتبعية لوالديه المرتدين. وفي قول كافرٌ أصلي لتولده بين كافرين ولم يباشر إسلاماً حتى يحكم بردته بعد الإسلام. قلت الأظهر هو مُرْتدٌّ إن لم يكن في أصول أبويه مسلم ونقل العراقيون الاتفاق على كفره والله أعلم فلا يُسترق لأن حُكمَ الولد الصغير في الدين حكم أبويه وإذا لم يجز سبي أبويه لم يَجُزْ سبيُهُ كولد المسلمين أما إذا كان في أحد أصوله مسلم وإن بَعُدَ فهو مسلم تبعاً له كما هو الحكم في اللقيط.
وفي زوال ملكه عن ماله بها أي بالردة أقوال أظهرها إن هلك مرتداً بأن زواله بها أي زال ملكه بالردة وإن أسلم بان أنه لم يَزُلْ لأن بطلان عمله يتوقف على موته مرتداً فكذا زوال ملكه وعلى الأقوال كلها يقضى منه دين لزمه قبلها أي قبل الردة لأنّا إذا قلنا يوقف ماله فيؤدي دينه وإن قلنا يزول ملكه فيعتبر كالموت فيقدم الدين على حق الورثة وينفق عليه منه أي من ماله مدة الاستتابة والأصح يلزم غُرْمُ إتلافه مال غيره فيها أي أثناء ردته ونفقة زوجات وقَفَ نكاحهن وقريب من أصل أو فرع وإن تعدد لأنها حقوقٌ متعلقةٌ به فوجب دفعها من ماله وإذا وقفنا ملكه وهو الأظهر وفرعنا عليه فتصرفُهُ إنِ احتملَ أي قَبِلَ الوقْفَ بأن قبل التعليق كعتق وتدبير ووصية موقوف إن أسلم نفذ أي بان صحته ونفوذه وإلا فلا وذلك بأن مات مرتداً فلا ينفذ من ذلك شيء وبيعه وهبته وكتابته مما لا يقبل الوقف باطلةٌ بناء على الجديد وهو بطلان وقف العقود وعلى القديم وهو صحة وقف العقود هي موقوفة فإن أسلم حكم بصحتها وإلا فلا.
وعلى الأقوال السابقة يجعل ماله مع عَدْلٍ وأمته عند امرأة ثقة لتعلق حق المسلمين به ويؤدي مُكَاتَبُهُ النجوم إلى القاضي حفظاً لها ولا يقبضها المرتدُّ لأن قبضه غير معتبر.
? كتاب الزنا ?
الزنا هو القصد الزنى لغة حجازية وبالمد الزنا لغة تميمية وأجمعت الملل على تحريمه ومن ثم كان أكبر الكبائر بعد القتل وقيل هو أعظم من القتل ولهذا كان حده أشدُّ الحدود لأنه جناية على الأعراض والأنساب والدليل على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: (ولا تقربوا الزنى إنه فاحشةًً وساء سبيلاً) الإسراء32. وقال تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقَ أثاماً) الفرقان68.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/65)
وروى الشيخان عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك). وأخرج أبويعلى عن عائشة (في قصة بيعة هند بنت عتبة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً ولا تسرقي ولا تزني، قالت: أوتزني الحرة؟). فكان أهل الجاهيلة يتشرفون عنه. وقد أجمعت الأمة على تحريمه وقد أوجب الإسلام الحدَّ في الزنا وكان الحد في الزنا في أول الإسلام الحبس والإيذاء بالكلام والتقريع والتوبيخ قال تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الوت أو يجعل الله لهن سبيلاً. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً) النساء15.
وقد نُسِخَ الحد بالحبس والأذى فَجُعل حدٌّ البكر الجلد لقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) النور2. وجُعِلَ حدُّ الثيب الرجم وهو إجماع الأمة.
وحقيقة الزنا الشرعية الموجبة للحد إيلاج الذكر بفرج محرم وهو قُبُلُ آدمية ولو كان الذكر أشلاً أو ملفوفاً بخرقة لعينه خالٍ من الشبهة أي الإيلاج قد خلا عن الشبهة المسقطة للحد. مشتهى يوجب الحد يشهيه الطبع السليم ويوجب الرجم حتى الموت في المحصن والجلد والتغريب في غيره ودُبُرُ ذكر وأنثى كقبل على المذهب فاللواط من الكبائر قال تعالى: (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم مبصرون) النمل54. فسماها فاحشة ولقد قال تعالى: (إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الأعراف33، وروى البيهقي عن أبي موسى الأشعري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان)). وأجمه المسلمون على تحريم اللواط فكان فيه رجم الفاعل المحصن وجلد وتغريب غيره لأنه زنا وقيل يقتل الفاعل والمفعول. لما روى أحمد وأبوداود واللفظ له عن ابن عباس (لعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، لعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، لعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط – قالها ثلاثاً- من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) واستنكره النسائي. ولا حد بمفاخذة ولا غيرها مما ليس فيه تغييب وحشفة ولا بإيلاج في نحو سُرّةٍ وبطن ولا بمقدمات وطءٍ من نحو لمس وقبلة وغير ذلك.
ووطء زوجته وأمته في حيض وصوم وإحرام لا حدَّ فيه لأن التحريم ليس لعينه بل لأمر عارضٍ وكذا لا يُحَدُّ إذا وطِئَ أمته المزوجة والمعتدة من غيره وكذلك أمته المجوسية والوثنية وكذا لا يُحَدُّ بوطء مملوكته المحْرَمِ بنسب أو رضاع كأخته منهما أو بمصاهرة كموطوءة أبيه أو موطوءة ابنه فلا حدَّ لشبهة الملك فقد اجتمع في المذكورات ما يوجب الحدَّ والإسقاط فَغُلِّبَ افسقاط لأن الحدود تدرأ بالشبهات فقد أخرج الترمذي وغيره من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يُخْطئ في العفو خير أن يُخْطِئَ في العقوبة).
ومُكْرَهٍ في الأظهر لشبهة الإكراه مع قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات). ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
وكذا لا يوجبُ حداً كلُّ جهة أباحها عالم أي قال عالم بجوار الوطء بها كنكاح بلا شهود كما قال مالك وإن كان قد أوجب الشهرة حالة الدخول أو نكاح بلا ولي كما قال أبو حنيفة أو بولي وشهود ولكنه مؤقت وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس على الصحيح وإن اعتقد تحريمه لشبهة الخلاف وفي قول يجب الحدُّ في نكاح المتعة لأن النسخ قد ثبت فيه كما روى البيهقي أن ابن عباس رجع عن القول بجوازه ولا حدَّ بوطء ميتة في الأصح لأنه مما ينفر فيه الطبع السليم فلا يحتاج للزجر عنه ولا بهيمة في الأظهر لأن وطء البهيمة تأباه النفوس السليمة فلا يُحَدُّ فاعله لأن الحدَّ إنما يجب بالإيلاج في فرج يُبْتَغى فيه كمال اللذة ولكن فيه التغرير لتجاوز فاعله المباح. قال تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/66)
المؤمنون5 - 7، وقيل يقتل وتقتل البهيمة لما روى أحمد وأصحاب السنن عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) قيل لابن عباس: فما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك إلا لأنه كره أن يأكل لحمها وقد عُمِلَ بها ذلك العمل) قال الحافظ بن حجر وفي إسناد هذا الحديث كلام.
ويحدُّ في وطء مستأجرة للزنا بها لانتفاء الملك والزوجية وعقد الإجارة في هذه الحالة باطل ولا يكون شبهة مؤثرة في الحد ومبيحة فرجها للوطء يُحدُّ بها كما يلزمها الحدُّ ومَحْرَمٍ بنسب أو رضاع أو مصاهرة يحدُّ بها وإن كان تزوجها لأنه وطءٌ صادف محلاً لا شبهة فيه وهو مقطوع بتحريمه وشرطه أي شرط إيجاب حد الزنا في الرجل والمرأة التكليف فلا يحدّ الصبي والمجنون ومن جهل تحريم الزنا لقرب عهده بالإسلام إلا السكران فإنه يحدُّ وهو غير مكلف وَعِلْمُ تحريمه فلا يحدُّ من جهل تحريم الزنا لقرب عهده باسلإم أو بعده عن العلماء أو عن المسلمين أما إذا نشأ بين المسلمين وادعى الجها فلا يُقْبَلُ ذلك منه. وحدُّ المُحْصَنِ رجلاً كان أو امرأة الرجمُ لأمره صلى الله عليه وسلم به فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة (أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنا عند رسول الله فرجمه) والإحصان هنا التزوج. قال تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) النساء24، أي المزوجات. وأخرج مسلم وغيره عن عمران بن الحصين (ان امرأة من جهينة اعترفت بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حُبلى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها وقال: (أحسن إليها حتى تضع فإذا وضعت فَجِئ بها)، فلما وضعت جاء بها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها وأن يُصلى عليها).
وهو مكلف حرٌّ أي المحصن مكلف ويلحق به هنا السكران حرٌّ كله فمن فيه رقٌّ فهو غير محصن لنقصه. قال تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) النساء25.فجعل على الأمة مع إحصانها نصف ما على المحصنات من العذاب والرجم لا يتبعض فعلى هذا فلا رجم على مَنْ فيه رقٌّ. وروى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فإذا زنت فليجلدها فإن زنت فليبعها ولو بضفير)) والضفير هو الحبل من الشَعْر. ولو كان المحصن ذمي غيب حشفته بقبل في نكاح صحيح لا فاسد فقد روى الشيخان عن ابن عمران (أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا) فالإسلام ليس شرطاً في الإحصان عندنا. في الأظهر لحرمة النكاح الصحيح أما الفاسد فلا يحصل به الإحصان والثاني يصير محصناً لأن حكم الوطء في النكاح الفاسد هو ذات الحكم في النكاح الصحيح في العدة والنسب فكذلك يكون في الإحصان والأصح الأول والأصح اشتراط التغييب لحشفة الرجل أو قدرها من ذكره عند قطعها حال حريته وتكليفه لأن أحكام الوطء تتعلق بتغييب الحشفة والحدُّ من أحكام الوطء فلا حدَّ دون تغييب الحشفة كما أن الحدَّ لا يجب على من وَطِيء في ننكاح صحيح وهو صبي أو مجنون أو رقيق لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) فإذا سقط عنهما التكليف في العبادات والإثم في المعاصي فسقوط الحدِّ أولى. وكذلك الرقيق لعدم الكمال كما أسلفنا.
وأخرج الشيخان عن ابن مسعود (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأتة في البستان فأصبت منها كلَّ شيء إلا الجماع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استغفر الله وتوضأ) وتلا (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات)) هود114،.
وأن الكامل الزاني بناقص محصن فالكامل المحصن إذا زنا بناقص فلا أثر لذلك لوجود المقصود وهو تغييب الحشفة حال الكمال والناقص كصغيرة أو أمة والبكر الحرّ حده مائة جلدة وتغريب عام لما روى مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عم والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). والبكر هو غير المحصن المكلف من رجل وامرأة. قال تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) النور2. والتغريب يكون إلى مسافة القصر فما فوقها لأن ما دون مسافة القصر في حكم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/67)
الحضر والمقصود بالتغريب الإيحاش بالبعد عن الأهل والوطن فقد غّرب عمر إلى الشام وعثمان إلى مصر وعليٌّ إلى البصرة وإذا عين الإمام جهة فليس له أي المُغَرَّبُ طلب غيرها في الأصح وله استصحاب زوجة ومال للنفقة وله استصحاب من يخاف عليهم من بعده ويحبس إن خيف إفساده للنساء أو الغلمان وكذا كلُّ من خيف منه الإفساد ولو كان غير زانٍ. فقد روى أبوداود عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟ قيل: يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع). وقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: (أخرجوهم من بيوتكم)). قال الحافظ بن حجر واستدل به علىأن المراد بالمخنثين المتشبهون بالنساء لا من يؤتى فإن ذلك حده الرجم ومن وجب رجمه لا يُنْفَى.
ويُغَرَّبُ غريبٌ من بلد الزنا إلى غير بلده فإن عاد إلى بلده هو مُنِعَ في الأصح لأن المقصود من التغريب الإيحاش ولا وحشة في تغريبه إلى بلده ولا تغرب امرأة زانية وحدها في الأصح بل مه زوج أو محرم لما روى مسلم من حديث ابن عمر (لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها).
وروى الشيخان بألفاظ متقابرة من حديث أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا معها أبوها أو أخوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها). ولو بأجرة طلبها منها فتلزمها فإن أعسرت ففي بيت المال فإن تعذر اُخِّرَ التغريب حتى تُوسِرَ كأمن الطريق. فإن امتنع أو الزوج أو المحرم حتى بالأجرة لم يجبر في الأصح لأن في إجباره تعذيب من لم يذنب وعلى هذا يؤخر تغريبها إلى أن يتيسر.
والعبد حده خمسون جلدة ويغرب نصف سنة قال تعالى: (فإن أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) النساء25. وفي قول يُغَرَّبُ العبد سنة لأن الأمر يتعلق بالطبع فلم يفرقوا بين العبد والحر كمدة العُنَّةِ ومدة الإيلاء وفي قول لا يغرب لأن في تغريبه تفويت حق السيد والرقيق لا أهل له فلا يستوحش بالتغريب.
ويثبت الزنا ببينة ويشترط في البينة التفصيل بذكر المزني بها وكيفية الإيلاج ومكانه ووقته كأن يقول الشاهد: أشهد أنه أدخل حشفته أو قدرها في فرج فلانة بمحل كذا وقت كذا على سبيل الزنا والبينة أربعة شهود لقوله تعالى: (فاستشهدوا عليهنَّ أربعة منكم) النساء15.
أو إقرار ولو مرة لأنه صلى الله عليه وسلم علق الرجم بمطلق الاعتراف فقج روى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأغدُ يا أُنيس –رجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت) ولم يذكروا تعدد الإقرار. وأما ما رواه الشيخان عن جابر وابن عباس أن ماعز بن مالك اعترف عند النبي أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: هل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجموه) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كرر الإقرار على ماعز لأنه شك في عقله فقد قال له: (أبك جنون؟). ولم يكرر في خبر الغامدية.
ولو أقر ثم رجع عن إقراره بالزنا سقط الحدُّ عنه لما روى أبوداود عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: لعلك قبلت أو غمزت؟ قال: لا) يعرض له بالرجوع عن الإقرار. ولما روى أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة (أنهم ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ماعزاً فرّ حين وجد مسَّ الحجارة ومسَّ الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه) ولو قال لا تحدوني أو هرب فلا يسقط عنه الحد في الأصح لأنه أقرَّ صراحة بالزنا ولم يقرَّ بالرجوع عن قوله أو لو رجع عن إقراره أو هرب لم يُطْلَب لأن ماعزاً لما هرب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه) قال ابن عبدالبر: وهذا أوضح دليل على أنه يُقْبَلُ رجوعه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/68)
ولو شهد أربعة بزناها وأربعة نسوة شهدن أنها عذراء لم تُحَدَّ هي لشبهة بقاء العذرة ولا قاذفها لقيام البينة بزناها ولاحتمال عودة بكارتها لترك المبالغة في الإيلاج ولا يُحَدُّ الشهود أيضاً لقوله تعالى: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) البقرة282. ولما روى الترمذي وغيره عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ادرأوا الحدود بالشبهات) ولو عين شاهد من الأربعة زاوية لزناه والباقون منهم عينوا زاوية غيرها أو عين واحد زمناً والآخرون زمناً آخر لم يثبت زناها لعد تمام العدد في الشهود ويستوفيه أي الحد الإمام أو نائبه من زانٍ حرٍ ومبعضٍ لأنه لا ولاية للسيد على البعض الحرِّ منه.
ويستحب عند استيفاء الحد حضور الإمام وحضور شهوده أي شهود الزنا. قال تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) النور2. وقد روى أبوداود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يَحْضُر ويَحدُّ الرقيقَ سيدُهُ أو الإمام فإن تنازعا فيمن يحده فاًلأصح الإمام لعموم ولايته. فقد روى أبوداود والنسائي والبيهقي من حديث علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم)) وروى الشيخان من حديث أبي هريرة (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها). وأن السيد يغربه كما يجلده لعموم الخبر (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) لأن التغريب من جملة الحد وأن المكاتب كحُرٍّ فلا يستوفي الحدّ إلا الإمام أو نائبه لخروج المكاتب عن قبضة السيد وأن الفاسق والكافر والمكاتب يَحُدُّون عبيدهم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم). وأن السيد يعزر ويسمع البينة بالعقوبة لأنه يملك إقامة الحد فملك سماع البينة به.
والرجم بمَدَرٍ وهو الطين المتحجر وحجارة معتدلة قيل هي التي تملأ الكف ولا يحفر للرجل عند إقامة الحد عليه بالرجم والأصح استحبابه للمرأة إن ثبت الحد ببينة إلى صدرها لئلا تنكشف فقد روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمه –أي رجم ماعز- فانطلقنا إلى أن وصلنا إلى بقيع الغرقد فما أوثقناه ولا حفرنا له ورميناه بالعظام والمدر والخزف).
وروى مسلم من حديث بُريد قال: (ثم أُمِرَ بها فحفر لهاإلى صدرها وأمر الناس فرجموها). ولا يؤخر الرجم لمرضٍ وحرٍ وبرد مفرطين لأن المراد من الرجم استيفاء الحد وهو النفس بكل حالٍ. وقيل يؤخر الرجم إن ثبت الزنا بإقرار لأن له سبيلاً إلى الرجوع عن الإقرار ويؤخر الجلد لمرض أو جُرحٍ يرجى برؤه أو لكونها حاملاً لأن مقصود الجلد الردع لا القتل.
فقد روى مسلم وغيره عن عمران بن الحصين (أن امرأة من جهينة إعترفت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا فقالت: أنا حُبلى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال: أحسن إليها فإذا وضعت فأخبرني) فإن لم يُرجَ برؤه جلد لا بسوط بل بهُثْكال عليه مائة غصن فإن كان خمسون ضُرِب به مرتين وتمسه أي المجلود الأغصان جميعها أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم لئلا تتعطل حكمة الجلد وهي الزجر فقد روى الدارقطني وعيره عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: (كان بين أبياتنا رجل مخدج ضعيف فلم يُرعَ إلى وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها فرَفَعَ شأنه سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اجلدوه مائة سوط) فقال: يا نبي الله هو أضعف من ذاك لو ضربناه مائة سوط لمات، قال صلى الله عليه وسلم: (فخذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه واحدة وخلوا سبيله)) فإن بَرَأ المجلود بعد أن ضرب بما ذكر أجرأه الضرب السابق ولا يعاد عليه الحدُّ ولا جلد في حرٍّ وبرد مفرطين ولا في مرض بل يؤخر إلى البُرْء واعتدال الوقت وإذا جلد الإمام في حرٍّ وبرد أو مرض فهلك المجلود فلا ضمان على النص لحصول التلف من واجب شرعي أقيم عليه فيقتضي هذا النص أن التأخير مستحب وقيل بل هو واجب فقد قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المريض لا يجلد حتى يصح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/69)
والقتول حداً بالرجم أو غيره له حكم موتى المسلمين من غسل وتكفين وصلاة ودفن ومثله تارك الصلاة إذا قُتِلَ بتركها فقد روى مسلم من حديث بريدة (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالغامدية فرُجِمَتْ ثم صلى الله عليه وسلم عليها، فقال عمر: يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها؟ فقال: لقد تابت توبت لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى).
? كتاب القذف ?
القذف لغة الرمي وشرعاً: الزمي بالزنا في معرض التعبير لا الشهادة وهومن الكبائر، قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) النور4. وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله عز وجل والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات)). وأجمعت الأمة على تحريم قذف المحصنة والمحصن شرط حد القاذف التكليف فلا يحدُّ صبي ومجنون لرفع القلم عنهما إلا السكران فإنه يُحَدُّ والاختيار فلا يحدُّ مُكْرَه لرفع القلم عنه أيضاً ولأنه لم يقصد الأذى بقوله والدليل على حد القاذف ما روى أبوداود والترمذي عن عائشة أمِّ المؤمنين أنها قالت: (لمّا أنزل الله سبحانه عُذري صعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر الله تعالى وتلا –تعني آيات من كتاب الله تعالى- ثم نزل فأمر بأن يُجْلَد الرجلان والمرأة حدودهم) تعني: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.
ويعزر المميز للزجر والتأديب ولا يُحَدُّ الأصل بقذف الولد وإن سَفَلَ كما لا يقتل فيه لكنه يُعَزَرُ للإيذاء فالحرُّ القاذف حده ثمانون جلدة. قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) النور4. والرقيق حده أربعون جلدة ولو كان مكاتباً أو مبعضاً أو مدبراً لأن حده النصف من الحرفقد روى مالك في الموطأ من حديث عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: (أدركت عمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا أربعين سوطاً) والمقذوف الذي يُحَدُّ قاذفه شرطه الإحصان وسبق في كتاب اللعان ما يحصل به الإحصان. قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) النور4. فدل على أنه إذا قذف غير محصن لم يُجْلد والمحصن من الرجال والنساء من اجتمع فيه البلوغ والعقل والإسلام والحرية والعفة من الزنا ولو شهد في مجلس الحكم دون أربعة من الرجال بزنا رجل أو امرأة حُدُّوا في الأظهر لما روة البخاري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب حدَّ الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا وقيل لا حدَّ عليهم إذا جاءوا شاهدين لا هاتكين وكذا إذا شهد أربع نسوة وعبيد وكفرة حدّوا على المذهب لأنهم ليسوا من أهل الشهادة فلا يكون قصدهم إلا القذف وهتك الأعراض.
ولو شهد واحد على إقراره بالزنا فلا حدّ عليه لأنها شهادة على إقرار حتى ولو قصد من ذلك قذفه ولو تقاذفا فليس ذلك التقاذف تقاصاً بل لكل واحد منهما أن يَعُدَّ الآخر لأن شرط التقاص إنما يكون عند اتحاد الجنس والصفة وهو متعذر هنا لاختلاف القاذف والمقذوف في الخلقة والضعف والقوة فيختلف تأثير الحدِّ فيهما ولو استقل المقذوف بالاستيفاء للحدِّ من قاذفه ولو بإذنه لم يوقع الموقع لأن إقامة الحدود من منصف الإمام فيترك حتى يبرأ ثم يُحَدُّ إلا إذا بَعُدَ السلطان وقدر على الاستيفاء بنفسه من غير تجاوز فله أن يُحِدَّ قاذفه.
? كتاب قطع السرقة ?
ثبت القطع في السرقة في الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) المائدة38. وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مِجنٍّ قيمته ربع دينار) وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن عائشة أنها قالت: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه). وقال ابن هبيرة في الإفصاح: وأجمعوا على وجوب قطع السارق والسارقة في الجملة إذا جمع أوصافاً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/70)
يشترط لوجوبه أي قطع السرقة في المسروق أمور الأول كونُهُ ربع دينار دينار خالصاً أو قيمته أي مقوماً به على أن الأصل في التقويم هو الذهب الخالص. قال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الذهب لأنه الأصل في حواهر الأرض كلها حتى قال: إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع. والدينار وزن مثقال فقد روى البخاري عن عائشة أنها قالت: (لم يُقْطَع السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من المحجن) وثمن المحجن عندهم ربع دينار وفي خبر مسلم (لا تُقْطَعُ اليد إلا في ربع دينار فما فوقه) على أن يكون خالص الذهب في المسروق ربع دينار والتقويم بالذهب المضروب خالصاً ولو سرق رُبُعاً سبيكة لا يساوي رُبُعاً مضروباً فلا قطع في الأصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب القطع في ربع دينار والدينار إنما يقع على المضروب أو ما يقوم مقامه. فقد روى الشافعي في المسند والبخاري ومسلم عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقطعوا السارق في ربع دينار فأما بدون ربع دينار فلا تقطعوه)). ولو سرق دنانير ظنها فلوساً لا تساوي في ظنه ربع دينار فبلغت رُبُعاً قُطِعَ لأنه قصد سرقة وبلغ المسروق ربع دينار ولا عبرة بالظن. وكذا ثوبٌ رثٌّ إذا سرقه وكان وفي جيبه تمام ربعٍ جهله السارق فإنه يقطع به في الأصح لأنه أخرج نصاباً من حرز على قصد السرقة ولو أخرج نصاباً من حرز مرتين وذلك بأن لم يكن نصاباً في المرة الأولى فتمَّ نصاباً في المرة الثانية فإن تخلل بين المرتين عِلْمُ المالك وإعادة الحرز بنحو إصلاح نقب وغلق باب فالإخراج الثاني سرقة أخرى ولا قطع لأن كل واحدة منفصلة عن الأخرى ولم تبلغ نصاباً وإلا أي وإن لم يتخلل علم المالك أو تخلل ولم يُعِدِ الحرزَ قُطِعَ في الأصح لأنه أخذ النصاب من حرز هتكه بنفسه والحرز باقٍ بالنسبة إليه وقيل إن علم المالك بالحال ولم يُعِدِ الحرز فلا قطع قطعاً لأن المالك مضيع لحقه وقيل إن كانت السرقتان في ليلة واحدة قطع وإن كانت الثانية في غير ليلة الأولى فلا قطع. ولو نقب شخصٌ وعاء حِنْطةٍ ونحوها كوعاء زيت أو سمن فانصبَّ نصابٌ أي انصب منه شيء قيمته ربع دينار قطع به في الأصح لما فيه من هتك الحرز وتفويت المال فَعُدَّ الفاعل سارقاً والثاني لا يقطع لأنه متسبب فقط والسبب ضعيف لا يقطع به.
ولو اشتركا في إخراج نصابين قُطِعا لأن كلاً منهما سرق نصاباً من حرز وإلا أي وإذا كان المخرج دون النصابين فلا قطع على واحد منهما توزيعاً للمسروق بينهما بالسوية ولو سرق خمراً وخنزيراًً وكلباً وجلد ميتة بلا دبغ فلا قطع به على الصحيح لأن جميع ما ذكر ليس بمال فإن بلغ إناء الخمر نصاباً ولم يقصد بإخراجه من الحرز إراقتها وكان دخوله بقصد سرقتها قطع بالإناء على الصحيح لأنه أخذه من حرزه ولا شبهة له فيه كما لو سرق إناء من نجاسة فإنه يقطع باتفاق. وقيل الخمر في اٌناء شبهة في دفع الحدِّ عنه عنه لأنه واجب الإراقة ولا قطع في طُنْبور ونحوه كمزمار وغيره من آلات اللهو ومثل الطنبور كل آلة معصية كالصليب والكتاب الذي ينشر الباطل المحرم ويصور المنكر ويذيع الفساد وقيل إذا بلغ مُكسَّرُهُ أي إذا نُقِضَ تأليفه وصار خشباً أو معدناً يستعمل في أشياء مباحة وبلغت قيمته نصاباً قُطِعَ لأنه سرق ما يساوي ربع دينار من حرزه قلت: هذا الثاني أصح والله أعلم لسرقته نصاباً من حرزه ولا شبهة له فيه ولو كانت لذمي قطع قطعاً الثاني من شروط المسروق كونه ملكاً لغيره فلا قطع بماله فيه ملك كسرقة ماله الذي في يد غيره وإن كان مرهوناً أو مؤجراً ولا يقطع فقر في مال موصى به للفقراء لأن له فيه حقاً فهو كسرقة المال المشترك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات). وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر (أنه أوتي برجل سرق من بيت المال فكتب إليه بعض عماله بذلك فقال: خلُّوه لا قطع عليه ما من مسلم إلا وله حق في بيت المال). فلو ملكه بإرث وغيره قبل إخراجه من الحرز فلا قطع لأنه ملكه وكذلك بعد إخراجه من الحرز وقبل الرفع للحاكم لأن القطع إنما يتوقف على الدعوى أو نقص فيه أي الحرز عن نصاب بأكل لبعضه وغيره أي وغير الأكل كالإحراق والتضمخ بالطيب والاغتسال بالصابون وشرب الدواء لأن ذلك يعتبر تلفاً له في الحرز وكذا إن ادعى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/71)
مِلْكَهُ على النص أي إن ادعى ملك المسروق أو بعضه لاحتمال صدقه فصار ذلك شبهة دارئة للحدِّ أما بالنسبة للمال فلا يقبل قوله فيه بل لابد من بينة أو يمين مردودة ولو ادعى المسروق منه أن المال للسارق فلا قطع حتى ولو كذبه السارق ولو أقرَّ بسرقة مال شخص فأنكر المُقرُّ له ولم يدعه قُطِعَ لأن الثبوت بالإقرار كالثبوت بالبينة ولو سرقا أي سرق اثنان مالاً بقدر نصابين فأكثر وادعاه أي ادعى المسروق أحدهما له أولهما فكذبه الآخر لم يقطع المُدَّعي لاحتمال صدقه وقطع الآخر في الأصح لأنه قد أقرّ بسرقة نصاب من حرز لا شبهة له فيه.
وإن سرق من حرز شريكه مالاً مشتركاً بينهما فلا قطع في الأظهر وإن قلَّ نصيبه لأن له شبهة في كل جزء منه ولأن المال المشترك لا يُحْرَزُ عن الشريك الثالث من شروط المسروق عدم شبهة فيه لما روى الترمذي وغيره بسند صحيح عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)) وفي رواية عن المسلمين.
فلا قطع بسرقة مال أصل وفرع فإن سرق الوالد من مال ولده وإن سفل من قِبَلِ البنين أو البنات لم يجب عليه القطع وكذلك إن سرق الولد من مال أحد آبائه أو أمهاته وإن علوا لم يجب القطع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) فالأب له شبهة في مال ولده وللابن شبهة في مال الوالد ويستأنس لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه). وسيد إن سرق العبد من مال سيده لم يقطع لأن له شبهة في مال سيده لاستحقاقه النفقة في مال سيده. فقد روى الدارقطنيعن السائب بن يزيد أنه قال: (شهدت عبدالله بن عمرو الخضرمي أتى عمر رضي الله عنه بغلام له فقال: اقطعه فإنه سرق، فقال: ما الذي سرق؟ قال: مرآة لامرأتي قيمتها ستون درهماً، فقال عمر: أرسِلْهُ فلا قطع عليه خادمكم سَرَقَ مالكم). والأظهر قطع أحد الزوجين بالآخر لأن النكاح عقد على المنفعة فلا يُسْقِطْ القطع في السرقة كالإجارة لا يسقط ابها الحد عن الأجير والثاني أنه لا يقطع لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر على الزوجة ويمنعها من التصرف على قول بعض أهل العلم فصار ذلك شبهة.
ومن سرق مال بيت المال إن فُرِزَ لطائفة ليس هو منهم قُطِعَ إذ لا شبهة له في ذلك وإلا بأن لم يفرز لطائفة فالأصح أنه إذا كان له حقٌ في المسروق كمال مصالح وكصدقة وهو فقير فلا يقطع للشبهة قال عمر: (ما مِنْ مسلم إلا وله في بيت المال حقٌّ). وإلا أي وإن لم يكن له فيه حقٌّ قُطِعَ لانتفاء الشبهة كأن كان المال موقوفاً على الفقراء والسارق غني فإنه يقطع في السرقة.
والمذهب قطعه بباب مسجد وجذعه وسواربه وسقوفة لانتفاء الشبهة لا حُصْرِهِ وقناديل تُسْرَج فيه لأنه مُعَدٌّ لانتفاع المسلمين فكان كمال بيت المال ويقطع فيه الذمي قطعاً لأنه لا حق له في الانتفاع فيه.
والأصح قطعه بموقوف على غيره أما إذا كان المال موقوفاً على الناس فلا قطع لأنه من الناس والأصح أنه يقطع بسرقة أمِّ ولدٍ سرقها نائمة أو مجنونة أو عمياء أو أعجمية لا تميز بين وجوب طاعة سيدها وغيره لأنها مضمونة بالقيمة كالقنِّ الرابع من شروط المسروق كونه محرزاً بالإجماع فقد روى أحمد في المسند والبيهقي في السنن وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من مُزينة فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: (ليس في شيء من الماشية قطع إلا ما آواه المَرَاحُ وليس في شيء من التمر المعلق قطع إلا ما آراه الجرَين)) فدل على أن الحرز شرط في إيجاب القطع وحريسة الجبل أي التي ترعى في الجبل والمحترس هو السارق أصلاً والمَرَاح هو المكان الذي تبيت فيه الماشية. والجرين: موضع يجفف فيه التمر وهو الجرن أيضاً ويسمى أيضاً المِرْبد والبيدر. بملاحظةٍ أو حصانةِ موضعه أي ملاحظة المسروق أو حصانة موضع والمحكّمُ في الحرز العرف ويختلف باختلاف الأموال والأحوال والأوقات فإن كان المسروق بصحراء أو مسجد اشتُرط دوام لحاظ أي دوام مراقبة إلا في فترات عارضة فلو تغفله وأخذ في تلك الفترة قُطِعَ. وإن كان بحصنٍ كفر لحاظ معتاد أي إذا كان المسروق في مكان محصن كدار وحانوت كفر لحاظمعتاد وكم يشترط دوام اللحاظ وإصطبلٌ وهو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/72)
بيت الخيل وغيرها حرز دواب وإن كانت نفسية لأنه صلى الله عليه وسلم جعل حرز الماشية المَرَاح وكذلك الإصطبل واشترطوا كون الإصطبل متصلاً بالدور حتى يكون حرزاً أما إذا كان منفصلاً عن الدور فلابد من اللحاظ الدائم لا آنية وثياب ولو زهيدة الثمن لأن حرز الماشية يختلف عن حرز الثياب ولأن إخراج الماشية يَبْعُدُ الإجتراء عليه بخلاف الثياب.
وعَرْصَةُ دار أي صحن الدار وَصُفَّتُها حِرْزُ آنية وثياب بِذْلة لا حُلِيٍّ ولا نقدٍ وأوان وثياب نفيسة فليست العرصة والصُفَّة حرزاً لها إنما حرزها البيوت المحصنة ولو نام بصحراء أو مسجد على ثوب أو عمامة أو مداسٍ أو توسّدَ أي وضع تحت رأسه متاعاً أو إتكأ عليه فمحرزٌ فيقطع السارق به فقد روى مالك والشافعي واللفظ له وأصحاب السنن من طرق عن صفوان بن أمية (أنه نام في المسجد فتوسَّدَ رداءه فجاء سارق فأخذه من تحت رأسه فأخذ صفوان السارق وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده. فقال صفوان: إني لم أُرد هذا وهو عليه صدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا كان قبل أن تأتينيَ به). واشترطوا في التوسد بكيس النقد أو الجوهر أن يشده بوسطه والتوسد مفرداً ليس حرزاً له. فلو انقلب صاحب المال في نومه فزال عنه الثوب فلا يكن الثوب في هذه الحالة محرزاً فلا يقطع سارقه وثوبٌ ومتاعٌ ووضعه بقربه بصحراء إن لاحظه مُحْرَزٌ إذا دام لحاظُهُ له أما إذا وضعه بعيداً عنه بحيث لا ينسب إليه فإنه مضيع له ومثل الصحراء المسجد والشارع وإلا يلاحظه كأن نام عنه أو ولاه ظهره أو ذهل عنه فلا إحراز. وإن كان عنده متجر فأذن للناس في دخوله للشراء فمن دخل مشترياً وسرق لم يقطع ومن دخل قاصداً السرقة فسرق قُطِعَ وإن لم يأذن لأحد في الدخول قطع كل من دخل وسرق وشرط المُلاحِظِ قدرته على منع سارق بقوة أو استغاثة فإن كان الملاحظ ضعيفاً لا يبالي به السارق والموضع بعيداً عن الغوث فليس بحرز ودار منفصلة عن العمارة إن كان بها ملاحظ قوي يقظان حرزٌ لما فيها من متاع مع فتح الباب وإغلاقه لاقتضاء العرف ذلك وإلا أي وإن لم يكن بها أحدٌ أو كان بها ضعيف وهو بعيد عن الغوث أو بها قوي لكنه نائم فلا أي فليست حرزاً مع فتح الباب وإغلاقه والمعتمد أنه لو كان بها نائم وكان الباب مغلقاً أو كان طرف الباب مفتوحاً والنائم خلفه بحيث لو فُتِحَ الباب أصابه فأيقظه كانت الدار حرزاً ومتصلة أي دار متصلة بالعمران حرزٌ مع إغلاقه أي إغلاق الباب وحافظ ولو هو نائم ليلاً أو نهاراً ومع فتحِهِ أي الباب ونومه أي الحافظ فالدار غير حرز ليلاً بلا خلاف وكذا نهاراً ف الأصح وقيل هي حرزٌ لأن الجيران يرونها ويراقبونها وكذا يقظان تغفّله سارق في الأصح أي في دار فسرق فإنها في ذلك غير حرز لتقصيره في المراقبة مع فتح الباب وقيل هي حرز اعتماداً على نظر الجيران ومراقبتهم فإن خلت الدار المتصلة عن حافظ بها فالمذهب أنها حرزٌ نهاراً زمن أمن وإغلاقه أي الباب ما لم يوضع مفتاحه بمكان ظاهر فإنه في ذلك يكون مضيعاً له فإن نُقِدَ شرطٌ مما ذكر بأن كان الباب مفتوحاً أو الزمن زمن خوفٍ أو الوقت ليلاً فلا تكون هذه الدار حينئذ حرزاً. وخيمة بصحراء إن لم تُشَدَّ أطنابها أي حبالها التي تشد الأوتاد كثبيت الخيمة ونحوها وتُرْخَىَ أذيالها أي أطراف الخيمة فهي وما فيها كمتاع بصحراء فيشترط في كون ذلك حرزاً دوام لحاظ من قوي لأن العادة لم تجرِ بأن الخيمة تضرب في الصحراء ولا يكون فيها أحدٌ وإلا أي إذا شدّت أطنابها وأرخيت أذيالها فهي حرز لما فيها بشرط حافظ قوي فيها أو على بابها ولو نائمٌ فيها أو على بابها وماشية بأبنية مغلقة متصلة بالعمارة محرزة ولو بلا حافظ وإذا دَخَلَ رجلٌ مَرَاحاً لغنم فحلب من الألبانها أو أخذ من أصوافها ما يساوي نصاباً قُطِعَ لأن حرز الغنم حرز لما فيها من لبن وما عليها من الصوف وببرية يشترط في إحراز الماشية إلى جانب الأبنية المغلقة خافظٌ قوي أو ضعيف يُهتَمُ لأمره وَيُبالى به ولو نائم فإن كان الباب مفتوحاً اشترط حافظ مستيقظ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/73)
وإبل بصحراء محرزة بحافظ يراها ويبلغها صوته فإن كان الحافظ ضعيفاً لم يُبَالِ به السارق ولا يلحقه غوث فكالعدم وإبلٌ وخيلٌ ونحوها بصحراء محرزة بحافظ يراها أي ينظر إليها فإن كان لا ينظر إليها ولكنها معقولة أو معها حافظ ينظر إليها فهي محرزةٌ سواءٌ كان مستيقظاً أو مشتغلاً عنها أو نائماً لأن العادة جرت أن الرعاة والمسافرين إذا أرادوا النوم عقلوا إبلهم وناموا بقربها أو كانت معقلة ولا حافظ معها فهي غير محرزة فلا يقطع سارقها لأن العادة لم تجرِ بإحرازها هكذا ومقطورةٌ يقودها قائد وهي سائرة يُشْتَرَطُ التفات قائدها إليها كلَّ ساعة بحيث لا يراها جميعها وراكبٌ أولها كقائدها فإن لم يرَ بعضها لحائل فهو غير مُحْرَزٍ وأن لا يزيد قطار على تسعة لأن هذا العرف في القطار فإن زاد القطار على ذلك كان القطار غير مُحْرَزٍ وغير مقطورة غير محرزة في الأصح بأن تساق لأن الإبل لا تسير هكذا غالباً والثاني هي محرزة بسائقها الذي يراها كالمقطورة وهو أولى الوجهين وَكَفَنٌ في قبر ببيت مُحْرَزٍ مُحْرَزٌ فيقطع سارقه وإن كان القبر في موضع بعيد عن العمران مثل مفازة لا يحتاج السارق في السرقة إلى انتهاز الفرصة لم يُقْطَع وكذا بمقبرة بطرف العمارة فيكون محرزاً فيقطع سارق الكفن في الأصح لأن القبر في المقابر حرز في العادة كما أن البيت المغلق في العمران حرزٌ وإن لم يكن فيه أحد لا كفن في قبر بمضيعةٍ فلا يكون محرزاً في الأصح إذ لا حظر في أخذه ولا يحتاج إلى انتهاز فرصة وإنما يُدْفَنُ في البرية للضرورة.
? فصل في فروع تتعلق السرقة ?
يُقْطَعُ مُؤَجِّر الحرز وكذا يقطع معيره في الأصح لأنه سرق نصاباً لا شبهة فيه من حِرز مثله فوجب عليه القطع كما لو سرقه من بيت صاحب المال وقيل المُعِيرُ لا يقطع إذا نقب المُعار وسرق منه نصاباً لأن له الرجوع في عاريته متى شاء فإن نقب البيت فقد رجع في عاريته ولو غصب حرزاً لم يقطع مالكُهُ بسرقة ما أحرزه الغاصب فقد روى أبوداود وغيره عن سعيد بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لِعِرْقِ ظالم حق)) وكذا أجنبي لا يقطع بسرقته منه في الأصح لأن الحرز منفعة والغاصب لا يستحق هذه المنفعة والثاني يقطع لأنه لا حق له في المسروق بخلاف المالك فإنه إنما هتك الحرز لأخذ ماله ولو غصب مالاً وأحرزه بحرزٍ فسرق المالك منه مال الغاصب أو سرق أجنبي منه المال المغصوب أو المسروق فلا قطع على واحد منهما في الأصح أما المالك فإن له هتك الحرز وأخذ ماله منه وأما الأجنبي فإنه قد هتك حرزاً لم يوضع برضا المالك ومثل غصب المال في جميع ما ذُكِرَ سرقته.
ولا يقطع مختلس وهو الذي يأخذ المال مع معاينة المالك ويهرب ومنتهب لا يقطع أيضاً وهو مَنْ يأخذ المال مع معاينة المالك ويعتمد في ذلك على القوة والغلبة وجاحدُ وديعة لا يقطع أيضاً وكذلك جاحد العارية لا يقطع والفرق بين هؤلاء وبين السارق أن السارق يأخذ المال خفية ولا يتأتى منعه فشرع القطع شرعاً أما هؤلاء فيدفعان بالسلطان العادل القائم بالحق إن وجد فقد روى أحمد والترمذي وغيرهما عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المختلس ولا على المنتهب ولا على الخائن قطع)) قال الترمذي هو حديث حسن صحيح. ولو نقب وعاد في ليلة أخرى قبل إعادة الحرز ولم يكن سرق في الليلة الأولى فسرق في الليلة الثانية قطع في الأصح كما لو نقب في أول الليل وسرق في آخره قلتُ: هذا إذا لم يعلم المالك النقب ولم يظهر أي لم يعرف ويشتهر للطارقين لخفائه عليهم وإلا بأن عُلِمَ أو اشتهر لهم فلا يقطع قعطاً والله أعلم لأنه لم يسرق من حرز ولو نقب واحدٌ وأخرج غيره فلا قطع على واحد منهما لأن الأول لم يسرق والثاني أخذ من غير حرز ويجب والحالة هذه على الأول ضمان الجدار وعلى الثاني ضمان المأخوذ. ولو تعاونا بالنقب وانفرد أحدهما بالإخراج لنصاب فأكثر أو وضعه ناقب أي أحدهما بقرب النقب فأخرجه وكان نصاباً فأكثر قطع المخرج في الصورتين لأنه السارق ولو وضعه بوسط نَقْبِهِ أراد بوسط النقب موضع النقب فأخذه خارج أي أخذه آخر وكان خارج الحرز لم يقطعا في الأظهر لأنهما لم يخرجاه من تمام الحرز والثاني يقطعان لاشتراكهما في النقب والإخراج. ولو رماه إلى خارج حرزٍ أو وضعه بماءٍ جارٍ فخرج به الماء الجاري من الحرز أو وضعه على
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/74)
ظهر دابة سائرة فخرجت به من الحرز أو عرضه لريح هابّة فأخرجته من الحرز قُطِع في هذه الصور كلها لأنه أخرجه من الحرز بفعله أو وضعه على ظهر دابة واقفة فمشت بوضعه حتى خرجت من الحرز فلا يقطع في الأصح لأن لها اختياراً في السير ولا يُضْمَنُ حرٌّ بيدٍ ولا يُقْطَعُ سارقه لأنه ليس بمال وأما خبر الدارقطني عن عائشة (أنه صلى الله عليه وسلم أُتيَ برجل يسرق الصبيان ثم يخرج بهم فيتبعهم في أرض أخرى فأمر به فقطعت يده) فالخبر ضعيق وعلى تقدير صحته فهو محمول على أنه كان يسرق الأرقاء. وحكمهم أنه من سرق من حرز رقيقاً غير مميز لصغر أو حنون أو عجمة قطع فيه كسائر الأموال.
ولو سرق حراً صغيراً لا يميز أو مجنوناً أو أعجمياً بقلادة أي عليه قلادة أو حل ييليق به ويبلغ نصاباً أو معه مالٌ يبلغ نصاباً فكذا لا يقطع لأن الصبي حرز فيده ثابتة على ما معه من الحلي. ولو نام عبدٌ على بعير فجاء سارق فقاده وأخرجه عن القافلة قُطِع لأنه كان محرزاً بالقافلة فأخرجه من حرزه إلى مضيعة. أو نام حرٌّ على بعير فقاده وأخرجه فلا قطع في الأصح لأن البعير من حرزه وهو القافلة أما إذا رماه بعد الخروج من القافلة فلا قطع لأنه أخذ البعير من غير حرز. ولو نقل من بيت مغلق إلى صحن دار فيها ذلك البيت بابها مفتوح بفعل غيره قُطِعَ لأنه أخرجه من حرزه إلى محل الضياع وإلا بأن كان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مغلقاًً أو كانا مفتوحين ولا حافظ فلا قطع لأنه في الأولى لم يخرج من حرز وفي الثانية المال غير محرز وقيل إن كانا مغلقين قُطِعَ أي باب البيت وباب الدار مغلقين قطع لأنه أخرجه من حرزه والأصح أنه إذا كان الصحن محرزاً لم يقطع وإن لم يكن حرزاً قُطِعَ. وبيت في خان ورباط ومدرسة وكل ما تعدد ساكنو بيوته وصحنه في الحكم كبيت وصحن دار لواحد في الأصح فيقطع إن أخرج من البيوت إلى صحن الخان لأن الصحن ليس حرزاً.
? فصل في شروط السارق الذي يقطع ?
وشروط السارق: تكليف واختيار وعدم الشبهة والتزام الأحكام وعلم تحريم السرقة لا يقطع صبي ولا مجنون ومُكْرَه لرفع القلم عنهم فقد روى أبوداود وغيره عم عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) وقال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) المائدة38.
وأخرج عبدالرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة في مصنفه غن ابن أبي مُليكة وسليمان بن يسار (أن عمر بن الخطاب أُتي بغلام قد سرق فقال: اشبروه، فكان ستة أشبار إلا أنملة واحدة فلم يقطعه فسماة نُميلة). وفعل مثل ذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولا مخالف لهم في الصحابة فكان ذلك إجماعاً.
ويقطع مسم وذمي بمال مسلم وذمي لأن الذمي معصوم بذمته وقيل لا يقطع المسلم بمال الذمي قياساً على أنه لا يقتل به وأما قطع الذمي فلأنه التزم الأحكام بعقد الذمة سواء أرضي بحكمنا أو لا.
وفي مُعَاهَدٍ أي إذا سرق أقوال أحسنهاإن شُرِطَ عليع عند المعاهدة أو الأمان قطعه بسرقة لمال المسلم قُطِعَ وإلا فلا قطع إن لم يشرط عليه. قلت: الأظهر عند الجمهور لا قطع مطلقاً والله أعلم لأنه غير ملتزم للأحكام فأشبه الحربي ولكن يطالب قطعاً بردِّ ما سرقه ولا يقطع مسلم أو ذمي بسرقتهما ماله وتثبت السرقة بيمين المدّعي المردودة فإذا ادعى عليه سرقة توجب القطع فأنكر وحلف فلا شيء عليه وإن نكل ردت اليمين على المدّعي فإن حلف وجب المال والقطع لأن اليمين الردودة كالإقرار والبينة وهذا قول مرجوح لأن القطع حق لله تعالى فلا يثبت باليمين المردودة في الأصح والمعتمد الذي في الأم والمختصر وقول جمهور الأصحاب أنه لا يثبت القطع إلا بشاهدين أو إقرار السارق. أما المال فيثبت باليمين المردودة قطعاً. أو بإقرار السارق مؤاخذة له بقوله بعد الدعوى عليه أما إقراره قبل الدعوى عليه فلا يقطع به حتى يدعى المالك لأن القطع حدٌّ والحدُّ يسقط الشبهة. والمذهب قبول رجوعه عن الإقرار بالسرقة كالزنا لكن بالنسبة للقطع فقط دون المال ومن أقر بعقوبة لله تعالى أي أقرّ بما يوجب عقوبة كالسرقة والزنا فالصحيح أن للقاضي أي يستحب للقاضي أن يعرِّض له بالرجوع عن إقراره فيقول له لعلك قلت ذلك وأنت غاضب أو لعلك أخذت من غير حرز أو لعلك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/75)
أخذت منه هدية أو لعلك أخذتها بسيف الحياء فقد روى الدارقطني وأبوداود من طرق عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت، قال: بلى سرقت، فأمر به فقطع) وروى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز لمّا أقرّ بالزنا: لعلك قبلت لعلك لمست) ولا يقول ارجع عنه أو احجده لأن ذلك أمر بالكذب وله أن يعرّضَ للشهود بالتوقف في حدٍّ لله تعالى إن رأى المصلحة في الستر وإلا فلا يجوز له التعريض ولا لهم التوقف إن ترتب على ذلك ضياع المسروق أو حدِّ الغير. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)).
ولو أقرَّ بلا دعوى أنه سرق مال زيد الغائب لم يقطع في الحال بل يُنْتَظَرُ حضوره أي حضور زيد في الأصح لاحتمال أن يقرَّ أنه أباحه له أو يقرَّ بأن المال المسروق للسارق فيسقط الحدُّ وإن كذبه السارق للشبهة وقيل يقطع في الحال كمن أقرَّ بالزنا والفرق أن الفروج لا تباح بالإباحة بخلاف الأموال. أو أنه أكره أمة غائب على زنا حُدَّ في الحال ولم ينتظر حضور الغائب في الأصح لأن حدَّ الزنا لا يتوقف على الطلب.
وتثبت السرقة الموجبة للقطع بشهادة رجلين كسائر العقوبات غير الزنا قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة282. فلو شهد رجل وامرأتان بسرقة أو أقام المدَّعي شاهداً بالسرقة وحلف المدَّعي مع الشاهد ثبت المال ولا قطع على السارق فشهادة الرجل مع المرأتين تثبت المال ولا تثبت الحدَّ. ويُشْترطُ ذكر الشاهد بالسرقة شروط السرقة فلا تقبل شهادة مطلقة فيشترط بيان السارق بالإشارة إليه إن كان حاضراً أو ذكر اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائباً ويشترط أن يبين المسروق والمسروق منه وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته ولو اختلف شاهدان كقوله أي قول أحدهما سرق بكرة والآخر قال سرق عشية فباطلة هذه الشهادة ولا قطع وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما فيثبت له المال على المتهم وعلى السارق ردُّ ما سرق إن كان باقياً لما روى أبوداود عن سمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديَهُ)). فإن تلف ضمنه ببدله جبراً لما فات بمثله في المثلي وأقصى قيمة في المتقوم وتقطع يمينه إجماعاً لأن البطش بها أقوى فكان البداءة بها أردع قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة38. وروى البغوي من حديث الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق فقطع يمينه). لإإن سرق ثانياً بعد قطعها فرجله اليسرى تقطع إن برئت يده اليمنى وإلا أخرت للبُرْء فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: إن سَرَقَ فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سَرَقَ فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله)، ورواه الشافعي عن أبي هريرة مرفوعاً. وثالثاً يده اليسرى وخامساً رله اليمنى ولا يقطع عضو إلا بعد اندمال ما قبله لئلا تفضي الموالاة إلى الهلاك أما في الحرابة فيقطعان معاً لأنهما حدٌّ واحد. وبعد ذلك أي بعد قطع اليدين والرجلين إذا سرق يُعزّر ولا يقتل لأن القطع ثبت بالكتاب والسنة ولم يثبت بعد ذلك شيء آخر ويغمس مكان القطع بزيت أو دهن مُغلى فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ برجل أقرَّ أنه سرق شملة، فقال: (اقطعوه واحسموه)) والحسم لسدِّ أفواه العروق لينقطع الدم وقيل هو أي الحسم تتمة للحد فيلزم الإمام فعله لأن فيه مزيدَ إيلام والأصح أنه حق للمقطوع لأنه تداوٍ يدفع هلاك المقطوع بنزف الدم وعلى هذا فلا يجبر على فعله فمؤنته عليه أي على السارق إلا إذا نصب الإمام من يقيم الحدود ورزقه من مال المصالح. وللإمام إهماله أي الحسم إذا لم يؤدِ إهماله إلى هلاك المقطوع وتقطع اليد من الكوع أي من مفصل الكف فقد روى البيهقي عن عمر (أنه كان يقطع السارق من المفصل) وروى أبو الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبابكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون السارق من المفصل). والرجل من مفصل القدم إتباعاً لعمر كما رواه ابن المنذر ومن سرق مراراً مرتين فأكثر بلا قطع كفتْ يمينه أي قطع يمينه عن جميع المرار لاتحاد السبب كما لو زنى أو شرب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/76)
مراراً كفاه حدٌّ واحد لأن الحق لله تعالى ولا حقّ فيها لآدمي وإن نقضت يده أربع أصابع أجرأت في الحدِّ قلت وكذا تجزيء ولو ذهبت الأصابع الخمس منها والله أعلم لإطلاق اسم اليد عليها حينئذ مع وجود الزجر بما حصل من الإيلام والتنكيل وتقطع يدٌ زائدة أصبعاً في الأصح لإطلاق الآية اسم اليد واسم اليد يتناول ماعليه خمس أو أكثر.
ولو سرق فسقطت يمينه بآفة كمرض أو ظلماً أو قصاصاً أو شلت وخشي من قطعها نزف الدم سقط القطع ولم تقطع رجله لتعلق الحق بعينها فسقط الحق بفواتها أو سقطت يساره بآفة فلا يسقط القطع على المذهب لبقاء محل القطع أما إذا قطع الجلاد اليسار أو أخرج السارق اليسار ظناً منه أنها يمينه أو أن قطعها يجزيء عن اليمين أجزأت لوجود القطع والإيلام بعلةالسرقة.
? باب قاطع الطريق ?
سُميَ بذلك لمنعه الناس من المرور أو لامنتاع الناس من سلوك الطريق خوفاً منه لأنه يأخذ المال أو يقتل أو يرهب الناس اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث والأصل فيه قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً) المائدة33، إن جمهور الفقهاء على أنها نزلت في قاطع الطريق لا في الكفار بدليل قوله تعالى: (إلا الذيت تابوا من قبل أت تقدروا عليهم) المائدة34.
هو أي قاطع الطريق مسلم مكلف له شوكة ولو امرأة والشوكة هي القوة والقدرة ولو واحداً يغلب جمعاً أو يساويهم وقد تعرض للنفس أو البُضعِ أو المال مجاهرة مع البعد عن الغوث لا مختلسون يتعرضون لآخر القافلة مثلاً ويعتمدون الهرب لانتفاء الشوكة والذين يغلبون شرذمة أي طائفة من الناس بقوتهم لو قاموهم فهم قطاع في حقهم لاعتمادهم الشوكة بالنسبة إلى الجماعة اليسيرة حتى ولو هربوا منهم وتركوا الأموال لعلمهم بعجز أنفسهم عن مقاومتهم لا لقافلة عظيمة إذ لا قوة لهم بالنسة إليهم فلو وجدت الشوكة بالنسبة لجمع يقاومونهم لكانوا استسلموا لهم حتى أخذوهم لم يكونوا قطاعاً فلم يصدر فعلم عن شوكتهم بل عن تفريط الآخرين وحيث يلحق غوث يمنع شوكتهم لو استغاثوا فليسوا بقطاع بل منتهبون وفقد الغوث يكون للبعد عن العمران وعساكر السلطان أو للقرب ولكن لضعف في السلطان وقد يغلبون أي ذوو الشوكة والحالة هذه أي مع ضعف السلطان أو بعده في بلد لعدم وجود من يقاومهم فيها فهم قطاع رغم أنهم لم يخرجوا من البلد ولأنهم إذا وجب عليهم الحد في الصحراء وهو موضع الخوف فلأن يجب في البلد وهو موضع الأمن أولى ولو علم الإمام قوماً يخيفون الطريق أي يخيفون المارين فيها ولم يأخذوا مالاً ولا نفساً عزرهم بحبس وغيره لارتكابهم معصية فلابد من ردعهم فقد روى البيهقي عن ابن عباس أنه قال: (وإذا حارب وأخاف السبيل فإنما عليه النفي) والحبس هو تفسير النفي بالآية والحبس في غير موضعهم أولى لأ، ه أحوط وأبلغ في الزجر وإذا أخذ القاطع نصاب السرقة قطع يده اليمنى ورجله اليسرى دفعة أو على الولاء لأنه حد واحد فقد أخرج الشافعي في ترتيب المسند عن ابن عابس أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتِّلوا وصلِّبوا وإذا لم يأخذوا المال قُتِّلوا ولم يُصلَّبوا وإن أخذوا المال ولم يَقْتُلوا قُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً ينفيهم --أي الإمام- وإذا هربوا يطلبُهُم حتى يُؤخَذُوا فتقام عليهم الحدود). ولا يقول ابن عباس هذا إلا توقيفاً وإن قاله تفسيراً فهو ترجمان القرآن وأعرف بالتأويل. فإن عاد بعد قطعهما إلى الحرابة وأخذ المال فيسراه ويمناه تقطعان للآية (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة33. وإن قتل قُتِلَ حتماً فيجب قتله قَوداً لوليِّ المقتول ويتحتم قتله لحق الله تعالى. قال تعالى: (ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل) الإسراء33. وقال تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا) المائدة33.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/77)
وإن قَتَلَ وأخذ مالاً نصاباً فأكثر قُتِلَ ثم صلب حتماً زيادة في التنكيل ثلاثاً أي يُصْلَب ثلاثاً من الأيام وقيل يبقى حتى يسيل صديده والغرض من صلبه بعد قتله التنكيل به وزجر غيره والأول أصح لأن المقصود النكال والزجر يحصل بالثلاثة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن تعذيب الحيوان) رواه البخاري عن أبي هريرة وهذا من الحيوان وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) رواه البخاري عن شداد بن أوس. وفي قول يصلب حياً قليلاً ثم ينزل فيقتل لأن الصلب عقوبة فيفعل به حياً لينزجر من يراه عن فعله وبعد قتله يغسل ويكفن ويصلى عليه ومن أعانهم وكثر جمعهم ولم يأخذ مالاً ولا قتل نفساً عُزِّرَ بجبس وتغريب وغيرهما أي بواحد منهما وذلك برأي الإمام فلا يجب حدُّ قطع الطريق إلا على من باشر أخذ المال القتل فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زناً بعد إحصان أو قتل بغير حق) رواه الشيخان عن ابن مسعود وهذا لم يفعل أحد هذه الأشياء. وقيل يتعين التغريب حيث يراه الإمام مكاناً منعه العدول إلى غيره وقيل للإمام أن يأمر بحبسه وضربه مع الغريب إن رأى ذلك وقتل القاطع يغلب فيه معنى القصاص لأنه حق آدمي وفي قول يغلب فيه معنى الحدِّ فهو حق لله تعالى ولا يصح العفو فيه ويستوفيه الإمام من دون طلب الولي فعلى الأول لا يقتل والدٌ بولده الذي قتل في قطع الطريق ولا يُقْتَلُ بقتل ذمي لعدم الكفاءة بل تلزمه الدية ولو مات القاتل بلا قتل فدية للمقتول من ماله إن كان حراً وقيمته إن كان عبداً ولو قتل جمعاً معاً قُتِلَ بواحد منهم وللباقين الديات أما إذا قتلهم مرتباً فيقتل الأول ولو عفا وليه أي المقتول بمال وجب المال وسقط القصاص ويقتل بعد ذلك حداً كما لو ارتدَّ شخص فقتل فعفا ولي المقتول فقد وجب المال ويقتل بالردة. والعتمد والذي عليه الجمهور لا يصح العفو بمال ولا بغير مال ولو قتل بمثقِّل أو بقطع عضو فُعِلَ به مثله. فقد روى البيهقي في السنن عم البراء بن عازب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حرّق حرّقناه ومن غرّق غرّقناه)). وقيل يقتل بالسيف وهو المشهور ولو جرح جرحاً فيه قصاص كقطع يد مثلاً فاندمل الجرح لم يتحتم قصاص في الأظهر بل يتخير المجروح بين القصاص والعفو لأ، التغليظ حق لله تعالى فاختص بالنفس كالكفارة فلا تجب إلا في النفس وتسقط عقوبات تخص القاطع من تحتم القتل والصلب والقطع من خلاف بتوبته قبل القدرة عليه قال تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) المائدة34. لا بعدها على المذهب أي لا بعد قدرة الإمام عليه لأن الآية السابقة شرطت في سقوط أحكام الحرابة أن تكون التوبة قبل القدرة على القاطع لأن المحارب إذا وقع في قبضة الإمام وجب على الإمام إقامة الحدِّ عليه ولا تسقط سائر الحدود بها أي بالتوبة إن كان قبل القدرة أو بعدها فالآية (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) المائدة34، هي خاصة بالمحارب فلا تسقط الحدود الخاصة بالله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر بالتوبة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق والذي اعترف بالسرقة ورجم ماعزاً بعد أن اعترف بالزنا ولا شك أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائباً فلما أقام عليه الحد دلَّ على أن الاستثناء في المحارب وحده.
? فصل في اجتماع عقوبات على شخص واحد ?
من لزمه لأشخاص قصاص لنفس وقطع لطرف وحد قذف وطالبوه جلداً أولاً للقذف ثم قطع لقصاص الطرف ثم قتل لقصاص النفس لأن ذلك هو السبيل لاستيفاء جميع الحقوق.
ويبادر بقتله بعد قطعه ا بلا تأخير بينهما لأن الغرض استيفاء الحدود والنفس مستوفاة فلا فائدة من التأخر إلى أن يَبَرأ من القطع لا قطعه بعد جلده إن غاب مُستحقٌّ قتله لأن قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاص النفس وكذا إن حضر مستحق النفس وقال عجلوا القطع وأنا أبادر بالقتل بعده فإنا لا نعجله في الأصح لأنه قد يهلك بالموالاة فيفوت القتل قصاصاً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/78)
وإن أخر مستحق النفس حقَّه وطلب الأخران حقهما جُلد فإذا بَرَأ منن الجلد قطع ولا يُوَالى بينهما مخافة الهلاك فيفوت قصاص النفس ولو أخر مستحقِ طَرَفٍ حقه وطلب المقذوف حقه جُلِدَ وعلى مستحق النفس الصبر بحقه حتى يستوفيَ الطرف سواء أتقدم استحقاق النفس أم تأخر حتى لا يفوت قصاص الطرف ولو قال مستحق النفس لمستحق الطرف إما أن تستوفيَ أو تعفو أو تأذن لي في التقديم فله ذلك قال تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء33، فإن بادر فقتل فلمستحق الطرف ديةٌ في تركة المقتول لفوات محل الاستيفاء وهو الطرف بزهوق النفس. ولو أخر مستحق الجلد حقه فالقياس على ما سبق في هذه المسألة صبر الآخرين حتى يستوفي حقه لئلا يفوت حقه باستيفائهما أو استيفاء أحدهما لأن الجُرح عظيم الخطر فربما سرى وأدى إلى الزهوق ولو اجتمع حدود لله تعالى كأن زنا بكراً وسرق وشرب وارتد قُدِّم وجوباً الأخف فالأخف وأخفها حد الشرب فيقام ثم يمهل وجوباً حتى يبرأ ثم يجلد للزنا ويمهل ثم يقطع ثم يقتل من غير إمهال لأن النفس مستوفاة.
أو اجتمع عقوبات لله تعالى الآدميين بأن انضم إلى حدود الله قذف قُدِمَ حدُّ قذف على حد زنا لأنه حق لآدمي وقيل لأنه أخف والأول أصح والأصح تقديمه أي حد القذف على حدِّ شُرْبٍ لأنه حق آدمي. وأن القصاص قتلاً وقطعاً يقدم على حدِّ الزنا إن كان رجماً تقديماً لحق الآدمي ولو اجتمع مع الحدود تعزير قدم عليها كلها لأنه أخف لأنه حق آدمي.
? كتا بالأشربة ?
والأشربة جمع شراب بمعنى مشروب وحقيقته الخمر بجميع أنواعه ولاختلاف أنواعها جمعها والخمر محرم والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع والخمر المجمع على تحريمه هو المتخذ من ماء العنب إذا اشتدَّ وقذف ربدَهُ وألحق به غيره.
قال تعالى: (ياأيها الذبن آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) المائدة90. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن اله الخمرة وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه)).
وروى الدارقطني عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخمر أمُّ الخبائث)). وأجمعت الأمة على تحريم الخمر.
كلُّ شراب أسكر كثيره فقليله حَرُمَ قليله وهو ما كان من العنب أو التمر أو الزبيب أو الذرة أو الشعير وغير ذلك فيحرم قليلها وكثيرها فقد روى مسلم عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلُّ مسكر خمرٌ: وكلُّ خمر حرام)). وروى أبوداود والترمذي وغيرهما عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)). وروى أحمد والترمذي وحسنه عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر الفَرَقُ منه فملءُ الكف منه حرام)) والفَرَقُ مكيال يتسع 12.5 لتراً تقريباً.
وحدُّ شاربه قليلاً أو كثيراً من عنب أو غيره لما روى البيهقي وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر فاجلدوه)). إلا صبياً ومجنوناً وحربياً وذمياً ومُؤجَراً وهو من صُبَّ الخمر في حلقه قهراً. وكذا مكره على شربه على المذهب فلا يحدون لعدم تكليف الصبي والمجنون والمؤجر والمكره وعدم التزام الحربي والذمي حرمة الشراب. روى ابن اماجة عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)). ومن جهل كونها خمراً فشربها لم يحد للعذر ولو قرب إسلامه فقال جهلت تحريمها لم يُحدَّ لأنه قد يخفى عليه ذلك والحدود تدرأ الشبهات بالشبهات أو قال جهلت الحدَّ حُدَّ لأن الواجب على من علم التحريم أن يمتنع ويُحَدُّ بِدَرْدَي خمر وهو ما يبقى أسفل إناء الخمر ثخيناً لأنه خمرٌ لا بخبز عُجن دقيقه بها لأ، عين الخمر أكلتُهُ النار فلا يُحدُّ به ومعجون هو فيه أي عجن فيها لاستهلاكه في المعجون وقيل يحدُّ وكذا حقنة وسَعوط لا يحدُّ بهما في الأصح لأنه ليس بأكل ولا شرب وهذا بعيد لأن حكم الاستعاط والاحتقان حم الشرب في إبطال الصوم فكان كذلك في الحدِّ ومن ثرد بالخمر وأكله حُدَّ لأن الخمر غير مستهلكة وإن عجن الطيب بالخمر كان نجساً ومن غصّ بلقمة أساغها بخمر إن لم يجد غيرها قيل وجوباً لحفظ النفس ولا شيء عليه والأصح تحريمها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/79)
لدواء وعطش حتى إذا لم يجد غيرها لعموم النهي ولأنها لا تزيل العطش بل تزيده لأن طبعها حارٌّ يابس وفي التداوي روى مسلم عن وائل بن جُحْر أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها وكره أن يصنعها فقال: (إنه ليس بدواء ولكنه داء). وروى البيهقي من حديث أمِّ سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)). وروى النسائي من حديث عثمان بن عفان مرفوعاً (الخمر أمُّ الخبائث).
وقيل يجوز التداوي بها بالقدر الذي لا يسكر كبقية النجاسات بشرط إخبار طبيب مسلم وأما الدواء المعجون بها مما يستهلك فيه فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه مما يحصل به التداوي من الطاهرات.
وحدُّ الحرِّ أربعون لما روى مسلم عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والمعال أربعين) وروى أبوداود عن عبدالرحمن بن أزهر (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الشارب أربعين) وروى الشافعي في ترتيب المسند عن عبدالرحمن بن أزهر قال: (أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب الخمر فقال: (اضربوه) فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال صلى الله عليه وسلم: (بَكْتِوهُ) فبكتوه) والنبكيت أن يقال للرجل أما خشيت الله أما اتقيت الله؟
(فلما كان زمن أبي بكر رضي الله عنه أُتي بشارب فسأل من حضر ذلك الضرب فقوَّمَه فضرب أبوبكر في الخمر أربعين جلدة ثم عمر ثم تتابع الناس في الخمر فاستشار عمر الصحابة رضي الله عنهم فضربه ثمانين) ذكره الشافعي في المسند ورقيق عشرون بسوط أو أيدٍ أو نعال أو أطراف ثياب وحد العبد على النصف من حد الحرِّ ولأنه حدٌّ يتبعض فكان الجلد على النصف من الحرِّ كالجلد في الزنا. فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه فمنّا من ضربه بيده ومنا من ضربه بنعله ومنا من ضربه بثوبه). والمراد بالضرب بالثوب أن يُفْتَلَ الثوب حتى يشتد ثم يضرب به وقيل يتعين للجلد سوط كحدِّ الزنا والقذف. قال ابن الصلاح والسوط متخذ من جلود سيور تلوى وتلف وسمي بذلك لأن يسوط اللحم بالدم أي يخلطه هذا عند الجلد القوي أما جلد الضعيف فلا يكون بالسوط جزماً لأنه قد يؤدي إلى هلاكه.
ولو رأى الإمام بلوغه أي الحدِّ ثمانين جاز في الأصح لما روى الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي وبرو الكلبي قال: (أرسلني خالد ين الوليد إلى عمر فأتيته ومعه عثمان وعلي وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير فقلت: إن خالداً يَقْرأ عليك السلام ويقول إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: فما ترون؟ فقال عليٌ: إنه إذا شرب سكر وإذا سَكِرَ هذى وإذا هذى افترى فيُحَدُّ حدَّ المفتري، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجلد خالدٌ ثمانين وجلد عمر ثمانين).
وروى مسلم وأحمد عن علي أنه قال: (جلد رسول الله أربعين وأبوبكر أربعين وعمر ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحبُّ إليَّ). وكان عمر إذا أُتي بالرجل المنهمك بالشرب جلده ثمانين وإذا أُتي بالرجل الضعيف الذي كان منه الزلَّة جلده أربعين. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن أبي وبرة الكلبي.
والزيادات على الأربعين في الحرِّ والعشرين في العبد تعزيراتٌ لأ، ها لو كانت حداً لما جاز تركها وقيل حدٌّ لأن الصحابة بلغوا في حدِّ الحرِّ ثمانين كما أن التعزير لا يكون إلا عن جناية مخففة كما أنه لا ينحصر في ثمانين وعلى هذا فإن حدَّ الشرب مخصوص من بين الحدود بأنه يتحتم بعضه ويتعلق بعضه باجتهاد الإمام.
ويُحدُّ شارب الخمر بإقراره أو شهادة رجلين لا بشهادة رجل وأمرأتين لأ، البينة ناقصة والأصل براءة الذمة. لا بريح الخمر وسكر وقيء لاحتمال كونه غالطاً أو مكرهاً والحدود تدرأ الشبهات ويكفي في وجوب الحدِّ في إقرار وشهادة شَرِبَ فلانٌ خمراً أو شربت خمراً أو شرب مما شرب منه فلان فسكر وقيل يُشْتَرَط في كلٍّ من المقر والشاهد أن يقول شربها وهو عالم بتحريمها وأنها خمرٌ مختارٌ في شربها غير مكره لأنه إنما يعاقب باليقين ولا يُحَدُّ حال سكره بل يؤخر حتى يفيق ليرتدع وسوط الحدود في الشرب والزنا والقذف بين قضيب وهو الغصن الرقيق جداً وعصا متو سطة رطب ويابس ويفرقه على الأعضاء أي يفرق الضرب على الجسم إلا المقاتل فلا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/80)
يضرب عليها والمقاتل مواضع يسرع القتل إليها بالضرب كالقلب وثغرة النحر والفرج لأن القصد زجره لا إهلاكه فقدروى البيهقي عن علي أنه قال للجلاد: (أعطِ كل عضو حقه واتقِ الوجه والمذاكير). والوجه فلا يضربه فقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)) قيل والرأس فلا يضربه أيضاً والأصح خلافه فقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للجلاد: (اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس). ولا تشدُّ يده أي المجلود بل تترك مطلقة يتقي بها فإذا وضعها على موضع ضرب غيره ولا تجرد ثيابه الخفيفة التي لا تمنع أثر الضرب أما يمنع أثر الضرب كالجبة المحشوة والفروة فتنزع عنه وجوباً لحصول المقصود من الضرب.
ويُوالى الضرب بحيث يحصل زجر وتنكيل فلا يجوز أن يضرب في كل يوم سوط أو سوطين وكذلك لا يجوز تفريق الضرب على الساعات لعدم الإيلام المقصود من الحدِّ.
? فصلٌ في التعزير ?
والتعزير في الأصل الردع والمنع وفي الشرع التأديب دون الحدِّ من كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة سواء كانت من مقدمات ما فيه حدٌّ كمباشرة أجنبية بغير الوطء وسرقة ما لا قطع فيه والسبُّ والإيذاء بغير قذف أو ما لا حدَّ فيه كشهادة الزرو والضرب بغير حق والتزوير وسائر المعاصي والأصل فيه قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) [النساء:304].
وأخرج الشيخان عن أبي بريدة بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير من حدود الله).
يُعَزر في كل معصية لا حدَّ لها ولا كفارة. فقد روى أبو داوود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سرقة التمر: (إذا كان دون نصاب غُرْمُ مِثْلِه وجلداتُ فعالٍ).
وروى البيهقي عن علي أنه سُئِل عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث فقال: (هنَّفواحش فيهن تعزير وليس فيهن حدٌّ).
بحبس أو ضرب أو صفع أو توبيخ والضرب بجمْع الكفِوالتوبيخ باللسان ويجوز بإركاب دابة مقلوباً ودورانه بين الناس والنفي وتسويد الوجه والإقامة في المجلس ويجتهد الإمام في جنسه وقدره فالتعزير غير مقدَّرٍ بل إن رأى الإمام أن يحبسه حبسه وإن رأى أن يجلده جلده ولا يبلغ به أدنى الحدِّ فقد روى أبو داوود والترمذي وغيرهما من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة).
وقد أخرج الترمذي عن معاوية بن حيده (أن معن بن زائدة زدَّ على عمر كتاباً فعزَّرَهُ). وعلى الإمام مراعاة اللائق بالحال في القدر والنوع فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافياً ومؤثراً. فقد روى أحمد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود).
وقيل إن تعلق التعزير بآدمي لم يكف فيه توبيخ لتأكد حق الآدمي وأفتى الإمام العز بن عبد السلام بإدامة حبس من يكثر الجناية على الناس ولم ينفع فيه التعزير
فإن جلد وجب أن ينقُصَ في عبد عن عشرين جلدة وحرٍّ عن أربعين لما أخرج البيهقي في السنن وأبو نعم في الخلية عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم: (من بلغ بما ليس بحدٍّحدّاً فهو من المعتدين). وأخرج وكيع بن الجراح في أخبار القضاة عن أبي موسى الأشعري أن عمر بن الخطاب كتب إليه (أنه لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً). وفي رواية (ما بين الثلاثين إلى الأربعين). وقيل عشرين أي يجب أن ينقص في تغزير الحدِّ عن عشرين جلدة للحر (من بلغ بما ليس بحدٍّ حداً فهو من المعتدين). والعشرين حدُّ العبد في الشرب زلكن عمل الصحابة على خلانه من غير إنكار.
ويستوي في هذا أي النقص المذكور جميع المعاصي في الأصح وقيل بل يعتبر كل معصية منها بما يناسبها ممكا يوجب الحدَّ فتعزير مقدمات الزنا أو وطء الحرام الذي لا يوجب الحدَّ ينقص عنن حدِّ الزنا لا عن حد القذف والشرب وتعزير السبِّ بما ليس بقذف ينقص عن حدِّ القذف لا عن حدِّ الشرب وتعزير سرقة ما دون النصاب يعتبر بأعلى حدود الجلد وهو مائة جلدة لأن القطع أبلغ من الجلد مائة.
ولو عفا مستحق حَدٍّ عنه كحد القذف فلا تعزير للأمام في الأصح لأنه حق آدمي فجاز الإبراء منه والثاني للإمام التعزير لأنه لا يخلو عن حقِّ الله تعالى.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/81)
أو لو عفا مستحق تعزير فله أي الإمام التعزير في الأصح لحق الله تعالى ولأن التعزير متعلق أصلاً بنظر الإمام والفرق أن الحد مقدر لا يتعلق بنظر الإمام فلا سبيل إلى العدول إلى غيره بعد سقوطه والتعزير راجع لنظر الإمام في الأصح فإذا عفا المستحق فللإمام أن يعزر لما يراه في ذلك من الإصلاح حتى ينكف العاصي عن نظير ذلك فيما بعد.
? كتاب الصيال وضمان الولاة ?
الصيال عو الاستطالة والوثوب على الغير والصائل هو الظالم لغيره والأصل في الباب قول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين). [البقرة: 194].
وأخرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل: يا رسول الله انصره مظلوماً فكيف إذا كان ظالماً قال بحجزه أو منعه عن الظلم فإن ذلك نصره).
له دفع كل صائل عن نفس أو طَرَف أو منفعه أو بُضْع أو مالٍ سواء كان الصائل مسلماً أو كافراً عاقلاً أو مجنوناً بالغاً أو صغيراً قريباً أو أجنبياً آدمياً أو غيره فقد روى أبو داوود والترمذي عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قاتل دون أهله وماله فَقُتِلَ فهو شهيد). والشهادة لا تكون إلا بقتال جائز. فإن قتله أي قتل المصول عليه الصائل فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا إثم لأنه مأمور بدفعه ولا يجتمع الأمر بالقتال والضمان فقد روى عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في السنن عن عبيد بن عمير (أن امرأة خرجت تحتطب فتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بفهر فقتلته فَرُفِع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: (هذا قتيل الحقِّ والله لا يؤدي أبداً).ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة فكان ذلك إجماعاً. والفهر هو الحجر الذي يملأ الكف.
ولا يجب الدفع عن مال لأنه لا يجوز إباحة المال للغير هذا بالنسبة لمال النفس أما ذا تعلق به حق للغير فيجب الدفع عنه كما يجب على الإمام ونوابه الدفع عن أموال رعاياهم ويجب الدفع عن بُضع إن لم يخف على نفسه أو عضوه أو منفعته ويحرم عليها الاستسلام لمن صال عليها ليزني بها وإن خافت على نفسها لأن البُضْعُ لا يباح بالإباحة. وكذا يجب الدفع عن نفسٍ قصدها كافر ولو معصوماً بعهد أو ذمة إذ غير المعصوم لا حرمة له والمعصوم قد أبطل عصمته بصياله ولأن الاستسلام للكافر ذل في الدين أو قصدها بهيمةٌ لأن البهيمة تذبح لحفظ حياة الآدمي فلا يجوز الاستسلام لها بحال لا إن قصدها مسلم في الأظهر بل يجوز الاستسلام له بل قيل يُسَنُّ ذلك لما روى أحمد وأبو داوود وغيرها عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كن خير ابني آدم). أي القائل (لئن بسطت يدك إليَّ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) [المائدة:28].
وأخرج أحمد عن خالد بن عرفطة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل).وأيضاً لا يلزم المسلم الهربُ من المشركين إذا اجتمعوا عليه لما روى الشيخان عن جابر أن رجلاً قال يا رسول الله أريت لو انغمست في المشركين فقاتلتُ فقتلتُ أليَ الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم إن قاتلت وأنت مقبلٌ غير مدبرٍ) فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قُتل ومعلوم أن الواحد من المسلمين إذا انغمس في صف المشركين أنه يهلك فدل أنه يجوز التعرض للشهادة كما يجوز له الفرار.
والدفع عن غيره كهو عن نفسه فيجب تارة ولا يجب ويجوز أخرى إذ لا يزيد حق غيره على حق نفسه ومحل الوجوب إذا أمن الهلاك إّ لا يلزم المسلم أن يجعل روحه بلاً عن روح غيره وقيل يجب قطعاً أي يجب الدفع عن غيره لأن له إيثار غيره على نفسه فقد روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أُذِلَّ عنده مسلم فلم ينصره وهو قادرٌ أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة).
وروى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال يا رسول الله انصره مظلوماً فكيف انصره ظالماً قال تحجزه عن الظلم).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/82)
ولو سقطت جرةٌ ولم تندفع عنه إلا بكسرها ضمنها في الأصح أي جاز كسرها صيانة لروحه وإذا كسرها ضمنها في الأصح إذ لا قصد لها ولا اختيار ذلك إذا كانت موضوعة بمحل بحق لا عدواناً لأن إحالة الفعل عليها غير ممكن والثاني: لا يضمن تنزيلاً لها منزلة البهيمة الصائلة وهذا مردود حيث أن البهيمة لها اختيار ويدفع الصائل بالأخف فالأخف باعتبار غلبة ظن المصول عليه فإن أمكن دفع الصائل بكلام واستغاثة حَرُمَ الضرب أي لم يكن له الضرب إن أمكنه الاستغاثة بالناس أو أمكن دفعه بضرب بيد حَرُمَ سوطٌ أو بسوط حروم عصا أو أمكن دفعه بقطع عضو حرم قتل لأنه جوِّز للضرورة ولا ضرورة للأغلظ مع إمكان الأسهل ولو لم يجد المصول عليه إلا سيفاً جاز الدفع به وإن كان مندفع بالعصا إذ لا تعقيد منه في عدم حملها والمعتبر في حق كل شيء حاجته فإن أمكن هربٌ أو التحصن بموضع حصين أو الالتجاء إلى فئة فالمذهب وجوبه لأنه مأمور بنخليص نفسه بالأهون وفي قول له أن يثبت ويقاتل وتحريم قتال إن أمكن الهرب لأنه مأمور بالأهون هذا إن يتقن النجاة بالهرب أما لو صال عليه مرتد أو حربي لم يجب هرب ولو عُضّتْ يده خلصها بالأسهل فيقدم الإنذار والتهديد ثم فك لحي ثم ضرب فم ثم ضرب بطن أو عصر خصيته أو غير ذلك من الوسائل المتاحة له من فك لحييه أي رفع أحد اللحيين عن الآخر وضرب شدقيه والشدقان جانبا الفم فإن عجز عن تخليص يده بالأسهل فسلها أي سلَّ يده فنذرت أسنانه أي سقطت فهدر أي لا شيء على المعضوض لما روى الشيخان عن يعلى بن أمية أنه خرج في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان له أجير فخاصم رجلاً فعضَّ أحدهما يدَّ صاحبه فانتزع يده من فم العاضِّ فذهبت ثنيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأهدر ثنيته وقال: (أيدع يده في فيك تعضها كأنها في رخي فحل). ومن نُظِرَ إلى حُرَمِهِ أي إلى أهل بيته في داره من كوَّةٍ أو ثُقب أي خرق في الدار عمداً ولم يكن للناظر شبهة في النظر فرماه بخفيف أو ثقيل لم يجد غيره كحصاة فأعماه أو أصاب قرب عينه فجرحه فمات فهدر كما روى الشيخان عن أبي هريرة (لو اطلع أحدٌ في بيتك ولم تأذن له فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح). وفي رواية البيهقي وابن حبان (فلا قود ولا دية). بشرط عدم مَحْرَمٍ وزوجة للناظر فإن كان له شيء من ذلك حرم رميه لأن له في النظر شبهة قيل واستتار الحُرَمِ أي وقيل بشترط لجواز الرمي عدم الاستتار فإن كن مستترات بالثياب أو بمنعطف من الدار بحيث لا يراهن الناظر لم يجز رميه لعدم اطلاعه عليهن والأصح عدم اشتراط ذلك لعموم الأخبار فقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي أن رجلاً اطلع من جُحْرٍ في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو علمت أنك تنظر لطعنت بها عينك (وكان في يده مِدْرى) إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) والمدري: مشط يسوى به الشعر يشبه في هيئته الآلة التي يُفْصَلُ بها الحب عن التبن.
قيل وإنذار قبل رميه قياساً على الدفع بالأهون فالأهون والأصح عدم اشتراطه لظاهر الحديث ولو عزَّر ولي وزوج ومعلم من تحت سلطتهم فمضمون تعزيرهم لأن التعزير مشروط بسلامة العاقبة إذ المقصود منه التأديب لا الإهلاك فإذا حصل به هلاك تبين أنه تجاوز الحد المشروع. ولو حَدَّ الإمام أو نائبه مقدراً بنص فيه كحد القذف فهلك المحدود فلا ضمان على الصحيح إجماعاً ولو كان الجلد في حرٍّ أو برد مفرطين أو في مرض يرجى برؤه أو لا. ولو ضُرِبَ شارب للخمر بنعال وثياب فلا ضمن على الصحيح قيل بل يتعين السوط والأول أصح لما روى مسلم وغيره عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بشارب خمر فأمر بضربه فضربوه بالجريد والنعال). ولما روى الشافعي عن عبدالرحمن بن الأزهر قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب خمر فقال: اضربوه، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب) وكذا أربعون سوطاً ضربها الشارب فمات فلا ضمان فيه على المشهور لأن الأمة أجمعت على الضرب بأربعين جلدة في الشرب أو أكثر وجب قسطه أي إذا جُلِدَ بأكثر من أربعين جلدة بالعدد أي بعدد الجلدات الزائدة على الأربعين وفي قول نصف دية لأ، ه مات من غير مضمون ومضمون ويجريان في قاذف جُلِدَ أحداً وثمانين جلدة فمات ففي الأظهر يجب حزء من أحد وثمانين جزءاً من الدية وفي قول نصف
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/83)
دية.
ولمستقل بأمر نفسه وهو الحرُّ البالغ العاقل قطع سِلْعَةٍ وهو خراج كهيئة الغدة يخرج بين اللحم والجلد لأن له غرضاً في إزالة الشين عن الظاهر على العضو إلا سِلْعة مخوفة من حيث قطعها بقول من أهل الخبرة لأنه ممنوع من هلكة نفسه قال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يب المحسنين) البقرة195. لا خطر في تركها إن تركت أو كان الخطر في قطعها أكثر منه في تركها فلا يجوز له قطعها في هاتين الصورتين لأن ذلك يؤدي إلى الهلكة أما إذا كان الترك والقطع سيان فيجوز له قطعها كغير المخوفة ولأب وجد قطعها من صبي ومجنون مع الخطر فيه إن زاد خَطَرُ الترك على خطر القطع لا لسلطان لأن الأمر يحتاج رحمة ودقة نظر وشدة اهتمام ولا يوجد ذلك إلا في الأب والجد أو الأمِّ إن كان لها وصاية وأما السلطان فلا فراغ له للنظر في هذه الأمور وله أي الولي إن كان أباً أو جداً ولسلطان قطعها بلا خطر في القطع لعدم الضرر. وفصدٌ وحجامةٌ ونحوهما من كل علاج نافع يشير به طبيب حاذق فللولي والسلطان فعل ذلك والأمر به عند وجود المصلحة مع عدم الضرر فلو مات الصبي أو المجنون بجائز من هذا فلا ضمان بالقطع أو الفصد أو الحجامة وما في معناها في الأصح لئلا يمتنع الناس من ذلك فيتضرر الصبي والمجنون ولو فعل سلطان بصبي أو مجنون ما مُنِعَ منه فمات فدية مغلظة في ماله لتعديه ولا قصاص لشبهة الإصلاح وما وجب بخطأ إمام في حدٍّ أو حكم في نفس أو طرف أو غير ذلك فعلى عاقلته كسائر الناس وفي قول في بيت المال إن لم يظهر منه تقصير لأن خطأه يكثر لكثرة الوقائع بخلاف غيره فيضر ذلك بالعاقلة ولو حده أي حدَّ الإمام شخصاً بشاهدين بانا عبدين أو فاسقين أو ذميين أو مراهقين ومات المحدود فإن قصّر الإمام في اختبارهما أي في التحقق من حالهما فالضمان عليه لأن الهجوم على القتل ممنوع منه إجماعاً وإلا فالقولان أي وإذا لم يقصر فالمسألة على قولين من حيث الضمان هل هو ماله أو في بيت المال فإن ضمنّا عاقلة أو بيت مال فلا رجوع على الذميين والعبدَيْنِ في الأصح لزعمهما الصدق ولأنه لم يوجد تعدٍ منهما أنما المتعدي هو الإمام بعدم بحثه عنهما.
ومن فَصَدَ أو حَجَمَ بإذن معتبرٍ ممن جاز له ذلك لم يضمن التلف إن حصل وقال ابن المنذر وأجمعوا على أن الطبيب إذا لم يتعدَّ لم يضمن وقَتْلُ جلاد وضربُهُ بأمر الإمام كمباشرة الإمام إن جَهِلَ ظلمه وخطأه فيتحمل الإمام الضمان لأن الجلاد آلته وإلا بأن عَلِمَ الجلادُ ظلمَ الإمام وخطأه فالقصاص والضمان على الجلاد وهذه لأنه المباشر للعمل إن لم يكن إكراه من جهة الإمام إذا كان الجلاد لما عَلِمَ الحال أن يمتنع عن القتل لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) رواه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك عن عمران بن الحصين وصححه الذهبي وإن أكرهه الإمام فالضمان عليهما والقصاص على الإمام ويجب ختان المرأة بجزء أي بقطع جزء من اللحْمَة بأعلى الفرج وهو فوق ثُقْبة البول ويكفي قطع ما يقع عليه الاسم قال النووي في التحقيق وتقليله أفضل فقد روى أبوداود وغيره عن أمِّ عطية (أشِمِّي ولا تُنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب للبعل) وفي رواية أسرى للوجه أي أكثر لماء وجهها ودمه.
والرجل ختانه يكون بقطع ما أي بقطع جلدة تغطي حشفته حتى تنكشف كلها ولا يكفي قطع بعض الجلدة التي تغطي الحشفة ويقال لتلك الجلدة القَلْفَة (القُلفة) بعد البلوغ الذي هو مناط التكليف للأمر به فقد روى أحمد وأبوداود والطبراني والبيهقي من رواية ابن جريح عن عُتيم بن كليب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين جاءه مسلماً: (ألقِ عنك شعر الكفر واختتن)). ويندب تَعْجيلُهُ أي الختان في سابعه أي سابع يوم الولادة لما روى الحاكم والبيهقي من حديث عائشة والبيهقي من رواية جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحسنِ والحسين وختنهما لسبعة أيام) فإن ضعف الطفل عن احتماله أي الختان أُخِّرَ إلى وقت أن يحتمله ومن خَتَنَهُ في سنٍّ لا يحتمله الطفل لنحو مرض أو ضعف أو حر أو برد شديدين لزمه أي الخاتن قصاص إن علم أنه لا يحتمله إلا والداً فلا قصاص عليه ولا دية فإن احتمله أي احتمل الختان وختنه وليٌّ من أب وجد أو إمام إن لم يكن له ولي غيره فمات فلا ضمان في الأصح لأنه لابد من الختان وهو في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/84)
الضعر أسهل وقد عمل ما فيه المصلحة فلم يكن متعدياً. وأجرته أي أجرة الختن في مال المختون لأنه لمصلحته فإن لم يكن له مال فعلى من عليه مؤنته.
? فصل في حكم إتلاف الدواب ?
من كان مع دابة أودواب سواء في ذلك المالك والمستأجر ضمن إتلافها لأ، يده عليها لأن المتلف نفساً فعلى العاقلة ومالاً في ماله ليلاً ونهاراً لأن فعلها منسوب إليه وعليه حفظها وتعهدها ولو بالت أو راثت بطريق فتلف به أي بولها وورثها نفس أو ملا فلا ضمان لأن الطريق لا يخلو من ذلك ولو مُنِع الناس من ذلك لامتنع الناس من المرور.
ويحترز راكب الدابة عمّا لا يُعْتاد فعله في طريق المشاة كركض شديد في وَحَلٍ أو في مكان يجتمع فيه الناس فإن خالف ضمن ما تولد منه لتعديه أما الركض المعتاد فلا يضمن ما يحدث وقيل يضمن في الحالين ومن حمل حطباً على ظهره أو على بهيمة وهو معها فحكَّ بناء فسقط هذا البناء ضمنه ليلاً أو نهاراً لأنه المتسبب بالتلف وإن دخل حامل الحطب سوقاً فتلف به أي بالحطب نفس أو مال ضمن ما تلف بالحطب إن كان زحام لتقصيره بالدخول في مكان ازدحم فيه الناس فإن لم يكن زحام وتمزق بالحطب ثوب مثلاً فلا يضمنه إن كان لابس الثوب مستقبلاً البهيمة لأن عليه الاحتراز منها إلا ثوبَ أعمى ومستدبر البهيمة فيجب تنبيهه أي كلاً من الأعمى والمستدبر فإن لم ينبهه ضمن لتقصيره. وإنما يضمنه إذا لم يقصِّر صاحب المال فإن قصَّر بأن وضعه أي المال بطريق أو عرضه للدابة فلا ضمان على صاحب الحطب لأن صاحب المال هو المقصر بتعريضه للضياع فإن كانت الدابة وحدها من دون صاحبها فأتلفت زرعاً أو غيره نهاراً لم يضمن صاحبها أو ليلاً ضمن لما روى مالك في الموطأ والشافعي في المسند وأحمد وأبو داوود وغيرهم عن البراء بن عازب قال: (كانت لي ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها نهاراً وعلى أهل المواشي حفظها ليلاً وأن عليهم ما تتلفه مواشيهم ليلاً وهو على وفق العادة في حفظ الزرع ونحوه نهاراً وحفظ الدواب ليلاً إلا أن لا يفرط في ربطها أي لا يأتي تفريط من صاحب الدابة في حفظها ليلاً بأن أحكم رباطها فانحل أو أغلق الباب عليها ففتحه لص أو انهدم الجدار فخرجت الدابة فأتلفت فلا ضمان لعدم التقصير أو فرط صاحب الدابة في ربطها ولكن حضر صاحب الزرع وتهاون في دفعها عنه فلا يضمن صاحب الدابة لتفريط صاحب الزرع في الدفع عن زرعه.
وكذا لا ضمان على صاحب الدابة إن كان الزرع في مَحُوطٍ له باب تركه صاحب الزرع مفتوحاً لتفريط صاحب الزرع.
وهرة تتلف طيراً أو طعاماً إن عُهِدَ ذلك منها ضمن مالكها أي الذي يؤديها يضمن ما تتلفه في الأصح ليلاً كان أو نهاراً لأن ما عُهِدَ منها ذلك يجب أن تربط ويكف شرها وقيل لا ضمان لأن العادة في الهرة ألا تربط وإلا أي وإن لم يعهد ذلك منها فلا يضمن مالكها في الأصح لأن العادة أن يحفظ الطعام عن الهرة لا أن تربط الهرة والثاني يضمن في الليل دون النهار كسائر الدواب.
? كتاب السِيَر ?
السير جمع سيرة مثل سدر وسدرة وهي الطريقة الهيئة والحالة والمقصود بالكلام ذكر الجهاد وأحكامه وعدل عن الترجمة به لأن الأحكام المودعة فيه ملتقاة من سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته والأصل فيه قبل الإجماع آيات كقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) البقرة190، وقوله تعالى: (وأذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا) الحج39، وقوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً) التوبة41.
وأخبار كخبر الصحيحين عن عمر وأبي هريرة وابن عمر (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وخبر الصحيحين عن أنس (والذي نفسي بيده لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).وخبر الصحيحين عن عائشة (لا هجرة بعد الفتح).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/85)
وروى البخاري عن زيد بن جالد الجُهَنِي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خَلَفَ غازياً في أهله وماله بخير فقد غزا). وقد غزا رسول الله سبعاً وعشرين غزوة في تسع سنين قاتل في ثمان منها بنفسه وهي: بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر وحنين والطائف وكان الجهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض كفاية فإذا فعله البعض سقط الفرض عن الباقين قال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) [النساء: 95].ففاضل سبحانه وتعالى بين المجاهدين والقاعدين والمفاضلة لا تكون إلا بين جائزين ولو كان القاعد تاركاً لفرض لَمَا وعِدَ بالحسنى وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بنفسه تارة ويبعث بالسرايا تارة فدل ذلك على أنه ليس فرضاً على الأعيان وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني لحيان وقال: (ليخرج من كل رجلين رجلُُ ويَخْلُفِ الآخر الغازي في أهله وماله). وقال: (أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) أخرجه سعيد ابن منصور في سننه عن أبي سعيد الخدري. وقيل عين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً) [التوبة: 39].
وأما القاعدون في المدينة فقد كانوا حراساً لها والحراسة نوع من الجهاد ويجاب على هذا بأن الوعيد في الآية إنما كان لأشخاص عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد لأن الإمام إذا عين شخصاً للقيام بغرض الكفاية يتعين عليه ولا يجوز له إنابة غيره فيه ولا أخذ أجرة عليه وأما بعده أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فللكفار حالان أحدهما يكونون ببلادهم مستقرين غير قاصدين شيئاً من بلاد المسلمين ففرض كفاية إجماعاً دلَّ على ذلك سيرة الخلفاء الراشدين ويحصل بشحن الثغور بالمقاتلين والعتاد والثغور هي محال الخوف التي تلي بلاد الكفار ويتولى ذلك أمراء مؤتمنون مشهورون بالشجاعة والنصح للمسلمين كما يحصل فرض الكفاية بأن يدخل الإمام أو نائبه دار الكفار بالجيوش لقتالهم إخماداً لشوكتهم وإظهارهم لعجزهم عن الظفر بشيء من بلادنا قال تعالى: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) [التوبة: 162]، قال مجاهد: نزلت في الجهاد وقد فعله صلى الله عليه وسلم فلم يترك الجهاد في سنة من سنوات حياته منذ أذن له في ذلك فكانت بدر الكبرى في الثانية وأحد وبني النضير في الثالثة والخندق في الرابعة وذات الرقاع ودُمَة الجندل وبني قريظة في الخامسة والحديبة وبني المصطلق في السادسة وخيبر في السابعة ومؤتة وذات السلاسل وفتح مكة وحنين والطائف والثامنة وتبوك في التاسعة وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين لاثنا عشر خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة وفيها نزلت (اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة: 3].
إذا فعله من فيهم كفاية سقط عن الباقين لأن هذا شأن فروض الكفاية ويأثم الجميع بترك فرض الكفاية حيث كانوا من أهل الوجوب.
ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحُجَجِ العلمية وهي البراهين على إثبات الصانع عز وجل وما يجب له من صفات وما يستحيل عليه منها وعلى إثبات النبوات للأنبياء وعلى إثبات ما ورد الشرع به من إثبات البعث والحساب والقامة والجنة والنار.
وحل المشكلات في الدين ودفع الشُبَهِ عنه ومعرفة أمراض القلوب وحدودها وأسبابها كالحسد والرياء والكبر. وبعلوم الشرع كتفسير وحديث فمن فروض الكفاية القيام بعلوم الشرع ويدخل في ذلك التفسير والحديث وما يتعلق بهما من علم العربية كعلم النحو والصرف والاشتقاق والمعاني والعروض وغير ذلك.
والفروع الفقيه زائداً على ما لا بد منه بحيث يصلح للقضاء والفتيا لشدة الحادجة إلى ذلك فإن قدر على الترجيح دون الاستنباط فهو مجتهد الفتوى وإن قدر على الاستنباط من قواعد إمامه وضوابطه فهو مجنهد المذهب وإن قدر على الاستنباط من الكتاب والسنة فهو المجتهد المطلق ويجب تعدد المفتي بحيث يكون في كل مسافة قصر واحد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/86)
ومن فروض الكفاية علم الطب وعلم الحساب وأصول الفقه وأسماء الرواة وعلم الجرح والتعديل واختلاف الفقهاء واختلافهم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من فروض الكفاية اجماعاً وهو من أعظم قواعد الإسلام ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه بل يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الذكرى تنفع المؤمنين ويكون برفق وأن لا ينكر العالم إلا مجمعاً على تحريمه لا ما اختُلِف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه وأما صفة النهي عن المنكر وضابطه فقد روى مسلم عن أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فاستطاع أن ينكره بيده فليفعل فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقله وهو أضعف الإيمان)).فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ولا تكفي كراهة القلب لم قدر على النهي باللسان وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن رأى شيئاً غيره. قال الماوردي فإن غلب على ظن المحتسب (وهو من عينه الإمام ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) استمرار قوم بالمنكر بإمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان أحدهما: أن يكون فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزني بها فيجوز التجسس والإقدام على الكشف والإنكار والثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز فيه الكشف والتجسس. ويجب العلم أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله أو يخافوا على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع.
وإحياء الكعبة كل سنة بالزيارة ومن فروض الكفاية والمقصود الأعظم من بناء الكعبة الحج فكان به إحياؤها والفرض أن يحجها كل سنة بعض المكلفين بحيث يظهر الشعار سواء في ذلك مَنْ عليه فرض ومن هو متطوع بالحج ودفع ضرر المسلمين وإزالة فاقتهم ككسوة عار وإطعام جائع وإغاثة مستغيث في نائبة فكل ذلك من فرو ض الكفاية وذلك إذا لم يندفع ضررهم بزكاة أو بيت مال أو وقف أو سهم مصالح أو كفارة أو وصية. وتحمّل الشهادة من فروض الكفاية وأداؤها كذلك وعانة القضاة على استيفاء الحقوق وتجهيز الموتى غسلاً وتكفيناً وصلاة ودفناً. والحرف والصنائع وما تتم به المعايش كالبيع والشراء والحراثة من فروض الكفاية لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه. ويروى أن الإمام أحمد رحمه الله سمع رجلاً يقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلق، فقال: هذا رجل تمنى الموت. وجواب سلام على جماعة من فروض الكفاية قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [النساء: 86].
وروى أبو داود عن علي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجزيء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزيء عن الجلوس أن يرد أحدهم)).وأخرج البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسلم الراكب على القائم والماشي والقائم على القاعد والماشي على القائم والقليل على الكثير)). وإذا سلَّم فرد على جماعة فيكفي جواب أحدهم. ويسن ابتداؤه أي ابتداء السلام فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: ((تُطْعم الطعام وتَقْرَاُ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)). وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلالم بينكم)).
وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً (إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدر أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضاً).قال تعالى: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم) [النور:61].لا على قاضي حاجة وآكل فلا يُسَنُّ ابتداؤه لأن الآكل مشغول بأكله ولا يسن على قاضي الحاجة للنهي عن ذلك فقد روى الإمام مسلم من حديث الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر (أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يردَّ عليه).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/87)
وروى الترمذي عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه رجل وهو يبول فسلَّم عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ فإنك إن فعلت لم أردَّ عليك)).
وفي حمام فلا يسن السلام على من في الحمام لاشتغاله بالاغتسال ومن الذي لا يُسَنُّ السلام عليهم المصلي والمؤذن والخطيب والملبي في النسك والمستغرق في القراءة والفاسق والمبتدع ويستحب مراعاة صيغة الجمع عند السلام وصيغته السلام عليكم أو سلام عليكم وإن كان المُسَلَّمُ عليه واحداً خطاباً له ولملائكته وأن لا يقول عليك السلام لما روى أبو داوود والترمذي بسند صحيح عن أبي جُري قال: (قلت: عليك السلام يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى)).
ولا جواب عليهم فلا يجب الجواب على من سلم على واحد من المذكورين لوضعه السلام في غير محله.
ولو تلاقى رجلان فسلم كل واحد على صاحبه وجب على كل واحد منهما جواب الآخر ولا يحصل الجواب بالسلام وإن جاء السلامان الواحد تلو الآخر وسلام النساء على النساء كسلام الرجال على الرجال فلو سلم رجل على امرأة أو عكسه فإن كان بينهما زوجية أو محرمية وجب الرد وإلا فلا يجب إلا أن تكون عجوزاً خارجة عن فطنة الفتنة ويستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على أهله ولمن دخل بيتاً أو مسجداً ليس فيه أحد أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
والانحناء لا أصل له في الشرع. فقد روى الترمذي عن أنس وحسنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله الرجل منّا يلقى أخاه وصديقه أينحني له؟ قال: ((لا)) قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: ((لا))، قال: فيؤخذ بيده ويصافحه؟ قال: ((نعم)).
وتسن المصافحة فقد روى البخاري عن قتادة قال: (قلت لأنس (أكانت المصافحة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم). وأخرج الترمذي عن البراء وحسنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقان).
قال النووي في الروضة: وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل لتخصيصه لكن لا بأس به فإنه من جملة المصافحة وقد حث الشرع على المصافحة ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها.
ولا جهاد على صبي ومجنون وامرأة ومريض وذي عرج بيّن فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)).
وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ أنساً وابن عمر وعشرين من أصحابه استصغرهم). وروى البخاري عن البراء قال: (اسْتُصْغِرْتُ أنا وابنُ عمرَ يوم بدر).
وقال تعالى: (ليس على الأعمر حرج ولا على الأعرج وعلى المريض حرج) [النور: 61]. وقال تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ا ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) [التوبة: 91].
وأقطع وأشل يد أو معظم أصابعها فلا جهتد عليهما وعبد وعادم أهبة قتال لا جهاد عليهما أيضاً لأن العبد لايملك ومن لا يملك نفقة وسلاحاً ومركوباً لا يمكن أن يقاتل أما لو كان القتال على باب داره أو حوله فقد سقط اعتبار المؤن ولو بذل بيت المال الأهبة لزمه القتال.
وكل عذر منع وجوب الحج منع الجهاد إلا خوف طريق من كفار وكذا من لصوص المسلمين على الصحيح أي أن الخوف المذكور لا يمنع وجوب الجهاد لبناء الجهاد على مصادمة المخاوف والدين الحالُّ حَرِّم سَفَرَ جهاد وغيره إلا بإذن غريمه أي صاحب الدين مسلماً كان أو ذمياً ولو منعه السفر لأن في الجهاد خطر الهلاك فإن استناب من يقضيه من مال له جاز له أن يجاهد من غير إذن الغريم فقد روى مسلم وأحمد وغيرهم ‘ن أبي قتادة (أن رجلاً قال يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً أليَ الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إلا الدين بذلك أخبرني جبريل عليه السلام)). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدين يمنع الجنة أي يمنع الشهادة فإذا منع الشهادة عُلِمَ أن جهاده ممنوعٌ به. والمؤجل لا يحرم السفر فليس لربِّ الدين منعه من السفر وقيل يمنع سفراً مخوفاً كسفر الجهاد لأن القصد من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/88)
الجهاد طلب الشهادة والدين يمنع الاستشهاد كما مرَّ فلم يَجُزْ من غير إذن من له الدين ويحرم الجهاد إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين أو أحدهما فقد أخرج البيهقي في السنن عن أبي سعيد الخدري (أن رجلاً هاجر إلى النبي من اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هجرة الشرك وبقي هجرة الجهاد) ثم قال له: ألك أحد في اليمن؟ فقال: أبواي، فقال: أذنا لك؟ فقال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرّض إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإن لم يأذنا لك فبرهما)).
وأخرج الشيخان عن اب مسعود قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لميقاتها، قلت: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فدلّ هذا على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد.
لا سفر تعلم فرض عين فلا يحتاج إلى إذن الأبوين لأن الغالب من سفره السلامة وقيل هذا مشروط بعدم وجود من يعلمه من بلده فعند إذن يتعين عليه الخروج إن كان له ماله وليس للأبوين منعه فإذا إذن أبواه والغريم بالجهاد ثم رجعوا عن الإذنوعلم بذلك قبل التقاء الجمعين وجب عليه الرجوع لأنه في هذه الحالة كما لو كان في وطنه قال الشافعي: إلا أن يخاف إذا رجع تلفاً فلا يرجع إن لم يحضر الصفة فإن كان الرجوع من الوالدين أو الغريم بعد التقاء الصفين فليس له أن يرجع قال تعالى: (ومن يولهِّم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله) الأنفال16. فإن رجوعه في هذه الحالة ربما كان سبباً لهزيمة المسلمين فلم يكن له ذلك.
فإن شرع من قتال حَرُمَ الانصراف في الأظهر لوجوب المصابرة قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) الأنفال45. والانصراف من المعركة يشوش الصفوف ويكسر القلوب الثاني من حال الكفار أن يدخلوا بلدة لنا أو ينزلوا في جزر أو حبل في دار الإسلام ولو كان بعيداً عن المدن المأهولة بالسكان فليزم أهلها دفع بالممكن ويكون الجهاد حينئذ فرض عين قال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً) التوبة41. فالنفير يعم الجميع المقل منهم والمكثر ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يُحْتَاجُ إلى تخلفهم لحفظ المكان والأهل والمال روى الشيخان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا استُنْفِرتم فانفروا)) فإن أمكن تأهب لقتال بأن لم يهجموا علينا بغتة وجب الممكن لدفع الكفار بحسب القدرة حتى على فقير بما يقدر عليه وولد ومدين وهو من عليه دين وعبد بلا إذن من أبوين وصاحب دين وسيد وينحلُّ الحجر عنهم لأن دخول الكفار إلى أرض الإسلام أمر عظيم لا يهمله إلا من لا دين له ولا غيره ويجوز لآحاد الناس أو يردوا الكفار دون استئذان الإمام إن كان إمام وتعذر استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم لتعين الفساد في تركهم ولذلك (لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خير رجالتنا سلمة بن الأكوع) وأعطاه سهم فارس وراجل) وقيل إن حصلت مقاومة بأحرار اشتُرِطَ إذن سيدهم أي العبد لأن في الأحرار غنية والأصح لا يشترط الإذن لتقوى شوكة المسلمين ويشتد ساعدهم وإلا بأن لم يمكن أهل البلدة التأهب لقتال الكفار وذلك بأن هجموا فجأة فمن قُصِدَ من المكلفين ولو امرأة أو مريض دفع عن نفسه الكفار بالممكن إن علم أنه إذا أخذ قُتِلَ أو لم تأمن المرأة فاحشة إذا أخذت وإن جوّزَ المكلف الأسرى إن ظن أنه إن امتنع منه قتل لأن ترك الاستسلام حينئذ تعجيل للقتل إن أمن الفاحشة أو القتل ولو أريدت منه الفاحشة فله الدفع ولو بعد الأسر. أما المرأة فإن علمت امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإنت قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل وإن توقعت امتداد الأيدي بالفاحشة بعد الاستسلام جوّزَ ذلك على أن تدفع عن نفسها إذا أُريد منها ذلك.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/89)
ومن هو دون مسافة قصر من البلدة التي دخلها الكفار فحكمه كأهلها فيجب عليه المضي إليهم إن وجد زاداً ولا يعتبر الركوب لقادر على المشي للوصول إليهم هذا إذا لم يكن في أهل البلد التي دخلها الكفار كفاية والأصح أن عليه الدفع وإن كان في أهلها كفاية لأنه في حكمهم. ومَنْ على المسافة أي مَنْ كان على مسافة القصر فما فوقها يلزمهم في الأصح إن وجدوا زاداً ومركوباً الموافقة لأهل ذلك المحل في الدفع بقدر الكفاية أي هو فرض كفاية بحقهم إن لم يَكْفِ أهلها ومن يليهم دفعاً قيل وإن كفوا أي أهل البلد ومن يليهم في دفع الكفار والأصح أنه يجب الموافقة على الأقرب فالأقرب بلا ضبط حتى يصل الخبر بأنهم قد كفوا ودفعوا العدو ولو أسروا أي الكفار مسلماً فالأصح وجوب النهوض إليهم وإن لم يدخلوا داراًَ لنا لخلاصِهِ إن توقعناه أي توقعنا خلاص المسلم كما ننهض إليهم عند دخول دار الإسلام لدفعهم عنها لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار أما إذا لم نتوقع خلاصه لبعد أو قله مؤنة أو عدم معرفة مكانه تركنا ذلك للضرورة وننتظر الوقت المناسب.
? فصل في مكروهات الغزو ومن يجوز قتله ومن يحرم قتله من الكفار ?
يكره غزو دون إذن الإمام أو نائبه تأدباً معه ولأنه أعرف بما فيه مصلحة المسلمين ولا يحرم الغزو بغير إذن الإمام لأن أكثر ما فيه التغرير بالنفس وتعريضها للقتل وهو جائز في الجهاد فقد روى الحاكم عن أنس (أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قُتِلت أليَ الجنة؟ قال: نعم فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل) قال الحاكم هو حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وروى الشيخان عن جابر قال: (قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قُتلتُ؟ قا: في الجنة، فألقى تمرات كنَّ يده ثم قاتل حتى قُتِلَ).
وروى ابن اسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: (لما التقى الناس يوم بدر قال عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يُضْحِكُ الرب تعالى من عبده؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أن يراه غمس يده في القتال يقاتل حاسراً) فنزع عوف درعه ثم تقدم فقاتل حتى قُتِلَ) واستثنى البلقيني من كراهة الغزو دون إذن الإمام صوراً: أحدها أن يفوته المقصود بذهابه للإستئذان، ثانيهما: إذا عطل الإمام الغزو وأقبل هو وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد، ثالثهما: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذنه لم يأذن له.
وَيُسَنُّ للإمام أو نائبه ّإذا بعث سرية إلى بلاد الكفار والسرية قطعة من الجيش يبلغ أقصى عددها أربعمائة رجل. روى ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)) رواه الترمذي وأبوداود وزاد أو يعلى الموصلي (إذا صبروا وصدقوا). أن يؤمِّر عليهم أميراً مطاعاً يرجعون إليه في أمورهم. قال الشافعي في الأم: (وأحبُّ للإمام أن يبعث إلى كل طرف من أطراف الإسلام جيشاً ويجعلهم بإزاء من يليهم من المشركين ويولّيَ عليهم رجلاً عاقلاً ديّناً قد جرب الأمور لأنه إذا لم يفعل ذلك فربما خرج عسكر المشركين وأضروا بمن يليهم إلىأن يجتمع عسكرٌ من المسلمين). ويأخذ البيعة بالثبات على الجهاد وعدم الفرار وأن يحرضهم على القتال وأن يدخل دار الحرب بتعبية الحرب لأنه أحوط وأهيب روى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف قال: (عَبْأَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر) وأن يدعو عند التقاء الصفين فقد روى أبوداود وغيره عن سهل بن سعد مرفوعاً (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء عند حضور الصلاة وعند الصف في سبيل الله). وفي رواية لابن حبان (عند النداء للصلاة والصف في سبيل الله).
وله أي الإمام الاستعانة على الكفار بكفار تؤمن خيانتهم وإنما تجوز الاستعانة بهم بشرطين أمن الخيانة مع حسن رأي في المسلمين والشرط الثاني ذكره بقوله (ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر قاومناهم لإمن ضررهم حينئذ فإذا كانوا إذا انضموا إلى بعضهم زادوا عن ضعف المسلمين لم تجز الاستعانة بهم وشرط الماوردي رحمه الله شرطاً ثالثاً وهو أن يخالفوا معتقد العدو الذي نقاتله كاليهود مع النصارى فقد روى البيهقي عن سعد بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (غزا بقوم من اليهود فرضح لهم وفي رواية: لم يضرب لهم بسهم) والرضح هو العطاء من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/90)
الغنيمة وهو دون السهم.
وأما ما رواه مسلم وغيره عن عائشة (إنا لا نستعين بمشرك) فلا يقتضي المنع بل إن الأولى أن لا يفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك لطالب إعانة به تفرس النبي فيه الرغبة في الإسلام فرده فلما رده أسلم فصدق ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يدل على ذلك الخبر السابق فقد روى مسلم عن عائشة أنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فلما بلغنا موضع كذا لقينا رجل من المشركين موصوفاً بالشدة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أقاتل معك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا لا أستعين برجل من المشركين) قالت: فأسلم وانطلق معنا.
وبعبيد بإذن السادة إذا رأى الإمام الفائدة والنفع فيهم ومراهقين أقرياء في القتال كما يستعان بهم في نقل الماء ونقل السلاح وإعداد الطعام ومداوة الجرحى ولا بأس بالاستعانة بالنساء في مثل ذلك فقد روى مسلم عن أم عطية أنها قالت (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى) وله أي الإمام بذل الأهبة والسلاح من بيت المال ومن ماله وكذا إذا تبرع أحد من الرعية بذلك لينال ثواب الإعانة على الجهاد فقد روى الشيخان عن يزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله وماله بخير فقد غزا).
ولا يصح استئجار مسلم لجهاد لأنه إن جاهد إنما يقع الجهاد عن نفسه لأن الجهاد فرض على الكفاية فإذا حضر المجاهد الصف تعين عليه الهاد بنفسه ويصح اسئجار ذمي ومعاهد ومستأمن وقيل وحربي لجهاد، والأمر للإمام وتكون أجرتهم من خمس الخمس وهو سهم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاز ذلك لأن الجهاد لا يقع لهم قيل ولغيره من آحاد الناس أن يستأجره والأصح المنع من استئجار الكافر للجهاد من غير الإمام لأن الجهاد من المصالح العامة فلا تتولاها العامة وأما قياسه على الأذان فبعيد لأن الأجير في الأذان مسلم وهذا كافر لا يؤتمن.
ويكره لغاز قتل قريب له ومحرم قتله أشد لقوله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً) لقمان15 فأمره بمصاحبتهما بالمعروف وقتلهما ليس من المصاحبة بالمعروف فقد أخرج البيهقي في السنن من طريق الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر حين أراد قتل ابنه (دعه يتولى قتله غيرك) وكذلك قال لأبي حذيفة حين أراد قتل أبيه. وقلت: إلا أن يسمعه يسبُُ الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أي يذكره بسوء فلا كراهة عند ذلك والله أعلم فيستحب عند ذلك تقديم حق الله وحق رسوله على ما سواهما. قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم) المجادلة22.
وروى الشيخان عن أنس بن مالك (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) وفي لفظ لمسلم والناس أجمعين. وقد أخرج السيوطي في الدر المنثور أن أبا عبيدة بن الجراح سمع أباه يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقتله ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحرم قتل صبي ومجنون وامرأة وخنثى مشكل إن لم يقاتلوا فقد روى الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قتل النساء والصبيان) وألحق المجنون بالصبي والخنثى المشكل بالمرأة لاحتمال أنوثته. ويحل قتل راهب وأجير وشيخ وأعمى وزمن لا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر لعموم قوله تعالى (واقتلوهم حيث وجدتموهم) التوبة5. وقد روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: (لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتله فهزم الله أصحابه) وذكر ابن اسحاق في السيرة أن دريد قتل يوم حنين وقد نيف على المائة فيسترقون وتسبى نساؤهم وأموالهم أي يجوز للإمام أن يضرب عليهم الرق إن شاء كما تغنم أموالهم وإذا لم يقتلوا كانوا أرقاء بنفس الأسر. ولكن لا يقتل رسولهم لما روى أحمد وغيره عن ابم مسعود أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة الكذاب لعنه الله فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدان أني رسول الله؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال النبي: (لو كنت قاتلاً رسولاً لضربت
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/91)
أعناقكما) وقد جرت السنة في فعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه الراشدين من بعد ألا يقتل الرسل.
ويجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع وإرسال الماء عليهم ورميهم بنار ومنجنيق وإن كان فيهم نساء وصبيان كما يجوز قطع الماء عنهم. قال تعالى (فاقتلوا المشركين جيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم) التوبة5. وقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف).
وروى أبو داود في المراسيل عن أبي ثور عن مكحول (أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب على أهل الطائف المنجنيق). وتبيتهم في غفلة أي يجوز تبيتهم أي الإغارة عليهم ليلاً وهم غافلون. فقد روى الشيخان من حديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم).
وروى الشيخان من حديث الصعب بن جثامة (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم). هذا فيمن بلغتهم الدعوة أما من لم تبلغهم الدعوة فلا يجوز قتالهم حتى يدعوا إلى الإسلام.
فإن كان منهم مسلم أسير أو تاجر جاز ذلك على المذهب أي إذا كان في الكفار أسارى من المسلمين جاز رميهم بالنار والمنجنيق وإرسا اماء عليهم إن دعت إلى ذلك ضرورة أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك لئلا يتعطل الجهاد لحبس مسلم عندهم وإصابة المسلم متوهمة وإن أصيب رزق الشهادة.
ولو التحم حرب فتترسوا بنساء وصبيان جاز رميهم إذا دعت الضرورة إلى ذلك لأنهم لو تركوا لغلبوا المسلمين ولكان ذلك سبباً لتعطل الجهاد. وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم لأن في ذلك منع قتل النساء والصبيان من غير ضرورة (ولأنا نهينا عن قتل النساء والصبيان) رواه الشيخان عن ابن عمر.
وإن تترسوا بمسلمين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم وجوباً فلا نرميهم صيانة لهم فإن حرمتهم لأجل الدين فإن الحق في المسلم لله سبحانه وتعالى. وإلا جاز رميهم وذلك إذا تترس الكفار بهم حال الحرب والتحام القتال لأنا لو كففنا عنهم لظفروا بنا أو عظمت نكايتهم فينا وتوقع هلاك طائفة من المسلمين يحتمل من أجل الدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية. ويحرم الانصراف عن الصف ولو كان الغالب على ظنه أنو لو ثبت قتل. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) الأنفال16. وفي الصحيحين عن أبي هريرة (اتقوا السبع الموبقات وعدََ منها التولي يوم الزحف) إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا بأن كانوا مثلينا أو أقل حرم الانصراف قال تعالى (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) الأنفال66. فأوجب على كل مسلم مصابرة الإثنين.
قال ابن عباس (من فرََ من ثلاثة فلم يفرََ ومن فرََ من اثتين فقد فرََ) أي من فرََ من ثلاثة فلم يفرََ الفرار المذموم في القرآن ومن فرََ من اثنين فقد فرََ الفرار المذموم في القرآن. قال بعضهم: الآية جاءت على صيغة الخبر فكيف جعلتموه أمراً؟ والجواب أن الله تعالى قال (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً) الأنفال66 بعد أن قال (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) والتخفيف يقع في الأمر لا في الخبر فكانت الآية على الأمر.
إلا متحرفاً لقتال أي منتقلاً من مكان لا يمكن القتال فيه إلى متسع يمكن القتال فيه أو متحيزاً إلى فئة يستنجد بها للقتال وينضم إليها محارباً فيجوز انصرافه. قال تعالى (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) الأنفال16.
وأخرج أحمد في المسند والطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال (لما ولّى المسلمون يوم حنين بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون نفساً فنكصنا على أعقابنا أربعين خطوة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعطني كفاً من تراب فأعطيته فرماه في وجه المشركين فقال لي: اهتف بالمسلمين فهتفت بهم فأقبلوا شاهرين سيوفهم).
وروى الشافعي في الأم عن طريق الزهري عن عمر بن الخطاب أنه قال: (أنا فئة كل مسلم) وكان بالمدينة وكانت جيوشه بالأفاق.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/92)
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (وإن كان هربه على غير هذا المعنى خفت عليه -إلا ان يعفو الله تعالى- أن يكون باء بغضب من الله) أي إذا تعين عليه فرض الجهاد وولََى غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فقد باء بغضب من الله.
ويجوز إلى فئة بعيدة في الأصح والبعيد هي التي إذا استغاث بها لم تسمعه ولا يشارك متحيز إلى بعيدة الجيش فيما غنم بعد مفارقته لفوات نصرته بالمفارقة ويشاركه فيما غنم قبل مفارقته ويشارك متحيز إلى قريبة الجيش فيما غنم بعد مفارقته له في الأصح لبقاء نصرته فإذا زاد عدد جنود الكفار على مثلين من جنود الإسلام جاز الانصراف عن الصف لقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) الأنفال66. فالواجب على المسلم مصابرة الإثنين إلا أنه يحرم انصراف مائة بطل عن مائتين وواحد ضعفاء في الأصح، لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا نظراً للمعنى وإنما يراعى العدد عمد تقارب الأوصاف ولذا لا يختص الخلاف بزيادة الواحد أو نقصه.
وتجوز المبازرة بلا كراهة فقد روى أبو داود عن علي (أن علياً وحمزة وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة) ورواه البخاري مختصراً من حديث قيس بن عباد عن أبي ذر.
وروى الحاكم عن ابن العباس (أن علياً بارز يوم الخندق عمرو بن ودِّ العامري).
رورى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه (أن الزبير بن العوام بارز يم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وقتله). فإن طلبها كافر استحب الخروج إليه لأن ترك المبارزة دليل على الضعف ودافع للكفار على الاستهانة بالمسلمين وازدرائهم. فقد روى الشيخان عن عبدالرحمن بن عوف أن عوفاً ومعوذاً ابني عفراء خرجا يوم بدر فلم ينكر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى ابن اسحاق في المغازي عن عاصم بن عمرو عن قتادة (أن عبدالله بن رواحة خرج يوم بدر إلى البراز فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وإنما تَحْسُنُ أي تندب المبارزة ممن جرب نفسه بأن عرف منها القوة والصبر والجرأة وبإذن الإمام أو أمير الجيش لأن القائد المحنك هو الذي يعرف مقاتليه وقدراتهم ويجوز اتلاف بنائهم وشجرهم لحاجة القتال والظفر بهم فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّق نخيل بني النضير) وروى البيهقي عن عروة بن الزبير (أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى الطائف فأمر بقصر مالك بن عوف فهُدِم وأقر بقطع الأعناب). وروى البيهقي عن طريق الشافعي بغير اسناد (أن حنظلة الراهب عقر فرس أبي سفيان يوم أحد فسقط عنه فجلس حنظلة على صدره ليذبحه فجاء ابن شعوب فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة). قال تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) الحشر50 واللينة: النخلة. والعقر: قطع إحدى القوائم من الدابة لتسقط وليتمكن من ذبحها. وكذا يجوز إتلافها إن لم يُرجَ حصولها لنا فإن رُجيَ ندب الترك وكُرِه الإتلاف لأنها تصير غنيمة للمسلمين ويحرم إتلاف الحبوان إلا للأكل لأن للحيوان حرمتين حرمة لحق مالكه وحرمة لحق الله فإذا اسقطت حرمة مالكه لكفره بقيت حرمة الله سبحانه وتعالى ولذا حرم على مالك الحيوان إجاعَتُهُ ومنعه الماء بخلاف الأشجار فقد روى الإمام مسلم عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الحيوان صبراً) وصبر البهائم أن تحبس وترمى لتقتل إلا ما يقاتلونا عليه لدفعهم أو الظفر بهم لأنها آلة للقتال وإن جاز قتل نسائهم وأطفالهم إن تترسوا بهم فقتل خيلهم أولى فقد أخرج أحمد في المسند ومسلم عن عوف بن مالك (أن رجلاً اختبأ لرومي خلف صخرة فلما مرََّ عليه خرج فعقر دابته فقتله وأخذ سلبه ولم ينكر النبي عليه ذلك).
أو غنمناه وخفنا رجوعه إليهم وضرره لنا يجوز إتلافه دفعاً لهذه المفسدة لأن الكفار إذا أخذوه تقووا به علينا.
?فصل: في حكم الأسر وما يؤخذ من أهل الحرب?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/93)
نساء الكفار وصبيانهم إذا أسروا رَقُّوا أي صاروا أرقاء بنفس الأسر فخمسهم لأهل الخمس وأربعة أخماسهم للغانمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهم إذا لم يقاتلوا فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد امرأة نقتولة في بعض المغازي فنهى عن قتل النساء والصبيان). وكذا العبيد فإتهم يصيرون بالأسر أرقاء لنا ويجتهد الإمام في الأحرار الكاملين إذا أُسِروا ويفعل فيهم الأحظ للمسلمين من قتلٍ بضرب رقبة ومَنٍّ عليهم بتخلية سبيلهم وفداء بأسرى أو مال يؤخذ منهم وسواءفي ذلك مِنْ مالهم أو من أخذ منّا وهو في أيديهم واسترقاق قال تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوثاق) محمد4. وقوله فشدُّوا الوثاق أي بالأسر قال الشافعي حدثنا عدد من أهل العلم من قريش وغيرهم من أهل العلم بالمغازي (أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر النضر بن الحارث العبدري وقتله صبراً). وروى البيهقي من طريق محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل بالأسرى أمر عاصم بن ثابت فضرب عُنُقَ عقبة بن أبي معيط صبراً.
وروى مسلم عن عمران بن حصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسره أصحابه برجلين أسرتهما ثقيف). وروى أبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن عباس قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يومئذ (يعني في بدر) أربعمائة).
وروت عائشة (أن أهل مكة لما وجهوا فداء أسراهم وجهتْ زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء زوجها أبي العاص بن الربيع فكان فيما وجهت قلادة أدخلتها بها خديجة على أبي العاص فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها فرقَّ لها وقال للمسلمين (إذا رأيتم أن تُخَلُّوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها ففعلوا ذلك)) رواه عن عائشة أبو داود وأحمد والحاكم.
وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قَبِلَ نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: يا محمد عندي خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تُنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تُعْطَ ما شئت. فترك حتى كان الغد ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: ما قلت لك إت تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك. فقال: أطلقوا ثمامة). فإن خفي الأحظ على الإمام في الحال حبسهم حتى يظهر له الأحظ فيفعله وسواءٌ في الاسترقاق العربي والوثني والكتابي غيرهم وقيل لا يسترق وثني لأنه كالمرتد فإنه مَنْ لم يجزْ حقنُ دمه بالجزية لم يَجُزه حقن دمه بالاسترقاق وكذا عربي في قول قديم وفيه حديث ضعيف لا يحتج بمثله رواه البيهقي عن معاذ (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: لو كان الاسترقاق ثابتاً على العرب لكان اليوم وإنما هو إسارٌ وفداءٌ. وقد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل العرب وأجرى عليهم الرق) رواه الشيخان عن ابن عمر.
ولو أسلم أسير عصم دمه لما روي الشيخان عن ابن عمر وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم) وبقي الخيار في الباقي. وهو المَنُّ والفداء والإرقاق لأن المخير بين أشياء إذا سقط بعضها لتعذره لا يسقط الخيار في الباقي كمن عجز عن العتق في الكفارة فإنه ينتقل إلى غيره وإسلام كافر قبل ظَفَرٍ به يعصمُ دمَهُ ومالَه وصغارَ ولده للحديث السابق وسواءٌ في ذلك أسلم وهو محصور وقد قَرُبَ الفتحُ أو أسلم في حال أمنه وسواءٌ أسلم في دار الحرب أو في دار الإسلام أما أولاده البالغون العقلاء فلا يعصمهم إسلام الأب لاستقلالهم بالإسلام لا زوجَتَه فإسلام الزوج لا يعصم زوجته عن الاسترقاق على المذهب المنصوص لاستقلالها وقيل لا تسترق زوجته لئلا يبطل حقه من نكاحها فإن استرقت انقطع نكاحه في الحال لأنه زال ملكها عن نفسها بالاسترقاق فملك الزوج أولى بالزوال ولأنها صارت أمة كافرة ولا يجوز إمساك الأمة الكافرة للنكاح كما يمتنع ابتداء نكاحها. فقد روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال (أصبنا نساء يوم أوطاس فكأن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجلَّ في ذلك (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) النساء24). أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن والمراد بالمحصنات هنا المتزوجات.
وروى أحمد في المسند وأبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس (لا تُوطأ حاملٌ حتى تضع ولا حائل حتى تحيض) وفي رواية البيهقي في السنن (حتى تحيض حيضة). ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ذات زوج وغير ذات زوج.
وقيل إن كان بعد الدخول بها انتُظرتِ العدَّةُ فلعلها تعتق فيها. كالمرتدة فإن اعتقت استمر النكاح وإن تسلم فلا لأن إمساك الحرة الكتابية جائز وهذا الوجه مرجوح لأن حدوث الرقِّ يقطع النكاح فأشبه الرضاع.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/94)
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[21 - 07 - 07, 03:06 ص]ـ
الجزء السادس عشر
الاستفصال فكأن يقول له كيف قتلته؟ ولماذا قتلته ومن كان معك وفي أي ساعة وهل كان مقبلاً أم مدبراً وهل كان نائماً أو مستيقظاً ...
وأن يعين المدعي المدعَى عليه فلو قال في دعواه على مجموعة من الناس قتله أحدهم أو قتله هذا أو هذا أو هذا فأنكروه فطلب تحليفهم لا يحلفهم القاضي في الأصح أي لا يحلف لقاضي أحد منهم لعدم تحدد المدعي عليه وهذا ما يجعل الدعوى غير صحيحة وقيل يحلفهم القاضي إذا كان ثمة دليل عسى أن يتعرف القاضي على الجاني. ويجريان أي الأصح ومقابله في دعوى غصب وسرقة وإتلاف ونحوها مما يكون فيه أحد طرفي الدعوى مجهولاً يلزم تعينه وإنما تسمع الدعوى من مكلف أي بالغ عاقل حال الدعوى فلا تسمع دعوى مجنون أو صبي ملتزم أي لأحكام الشرع قال الدعوى كالمعاهد والمستأمن على مثله أي مكلف ملتزم ولو كان محجوراً عليه بسفه أو فلس ولو ادعى شخص على شخص إنفراده بالقتل ثم ادعى على آخر إنفراده بالقتل أو مشاركته فيه لم تسمع الثانية لأن الأولى تكذبها أو ادعى أن القتل كان عمداً ووصفه بغيره من خطأ أو شبه عمد لم يبطل أصل الدعوى وهي دعوى القتل في الأظهر لأنه قد يظن أن ما وصف به هو العمد والثاني يبطل أصل الدعوى لأن ف دعوى القتل العمد إعتراف ببراءة العاقلة وتثبت القسامة في القتل بمحل لوث وهو اي اللوث قرينة مُبَينة لصدق المدعي فيما ادعاه ولو بغلبة الظن ثم فسر القرينة بقوله بأن وجد قتيل في محله أو قربة صغيرة لأعدائه وسواء في ذلك العداوة الدينية أو الدنيوية والتي تبعث على الانتقام وبحيث لم يساكنهم في القرية أو المحلة وغيرهم أو تفرق عنه جمع ولو كانوا من غير أعدائه في نحو متجر أو طريق أو زيارة أو مكن اجتماع لهم وأصل ذلك ما رواه الشيخان عن سهل بن حثمة قال: (انطلق عبدالله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبدالله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه ثم قَدمَ المدينة، فانطلق عبدالرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبدالرحمن يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم فسكت فتكلما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نرَ؟ قال: فَتُبرئُكُم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار، فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده).
ولو تقابل صفان لقتال وانكشفوا عن قتيل من أحد الصفين فإن التحم قتال فلوث في حق الصف الآخر لأن الظاهر أن أهل صفه لا يقتلونه سواء أَوُجدَ بين الصفين أم في صف قومه. وإلا بأن لم يلتحم قتال ولا وصل سلاح أحدهما إلى الآخر ففي حق صفه لوث وشهادة العدل لوثٌ وذلك بأن شهد بأن فلاناً قتل فلاناً لحصوول لظن بصدقه وكذا شهادة عبيد أو نساء لوث لأن ذلك يفيد غلبة الظن قيل يشترط لتكون شهادتهم لوث تفرقهم لاحتمال التواطؤ حالة الاجتماع وقول فسقة وصبيان وكفار لوث بالأصح لأن اتفاقهم على الإخبار عن شيء يكون غالباً على الحقيقة وقيل قول الكافر ليس بلوث.
ولو ظهر لوث فقال أحدُ ابنيه قتله فلان وكذبه الآخر بطل اللوث لتعارض الاخبار وقيل لأن جبلة الإنسان التشفي من قاتل قريبه فحين نفي ذلك كان نفيه أقوى من إثبات أخيه وفي قول لا يبطل اللوث وعلى هذا يحلف المدعي خمسين يميناً ويأخذ حقه من الدية فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) رواه الشيخان من حديث سهل بن أبي حثمة.
وقيل لا يبْطُلُ أي اللوث بتكذيب فاسق لعدم اعتبار قوله في الشرع وقيل لا فرق بينه وبين العدل لانتفاء التهمة في قوله لإسقاط حقه.
ولو قال أحدهما أي أحد ابنيه قتله زيد ومجهول عندي وقال الآخر قتله عمرو ومجهول عندي حلف كلٌ على مَنْ عينه وله ربع الدية لأن حقه النصف واعترف بأن على من عينه النصف وبذلك يستحق ربع الدية.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/95)
ولو أنكر المُدعى عليه اللوث في حقه فقال: لم ألم أكن من المتفرقين عنه صدق بيمينه أنه لم يقتل وعلى المدعي البينة. ولو ظهر لوث في قتيل لكن بأصل أي مطلق قتل دون تقييد القتل بصفة عمد وخطأ وشبه عمد فلا قسامة في الأصح لأن ذلك لا يفيد مطالبة العاقلة ولا القاتل ولا يُقْسَمُ في طرف ولا جرح وإتلاف مال إلا في عبد في الأظهر بناء على أن بدل العبد تحمله العاقلة ولأن النص ورد في النفس ولم يرد ف غيرها ولعظم حرمة النفس وهي أي القسامة أن يحلف المدعي ابتداءً على قتل ادعاه خمسين يميناً لخبر الصحيحين عن سهل بن حثمة وفيه (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وفي رواية (يحلفون خمسين يميناً ويستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم) وهذا الخبر مُخصصٌ لخبر البيهقي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده (البينة على من ادعى و اليمين على المدعى عليه) ولا يشترط موالاتها على المذهب فلو حلفه القاضي خمسين يميناً في خمسين يوم جاز لأن الإيمان مثل الشهادات فجاز تفريقها بخلاف اللعان لأنه قد احتيط له أكثر من غيره لما فيه من العقوبة البدنية واختلال النسب وشيوع الفاحشة وهتك للعرض ولو تخللها أي الأيمان جنون أو إغماء بنى بعد الإفاقة حتى لو اشترطنا الموالاة لقيام العذر ولو مات الولي المُقْسمُ في أثناء الأيمان لم يبن وارثه على ما مضى من أيمانه بل يستأنف أماناً جديدة على الصحيح لأن الأيمان كالحجة الواحدة ولا يجوز أن يستحق أحدٌ شيئاً بيمين غيره ولو كان للقتيل ورثة اثنان أو أكثر وزعت أي الأيمان الخمسون عليهم بحسب الإرث لأنهم يقتسمون ما وجب بالأيمان حسب إرثهم فوجب كونها كذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق لأخيه وابن عمه (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم). وجُبِرَ المنكسر إن لم تنقسم صحيحة لأن اليمين لا يتبعض وفي قول يحلف كلٌ خمسين يميناً لأنها كيمين واحدة في غير القسامة تتبعض فإن قلنا: إن كل واحد من الورثة يحلف خمسين يميناً فلا تفريع وإذا قلنا إن كلَّ واحد يحلف على قدر حصته من الدية وعليه التفريع فإذا كان المُدِّعي ابنين للمقتول حلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً وإن كان أولاده ثلاثة حلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً لأن اليمين لا يمكن تبعيضها فيجبر الكسر منها كما ذكرنا وإن كان أولاده أكثر من خمسين ولداً حلف كل واحد منهم يميناً واحدة. وأما إذا قُتِلَ رجلٌ من موضع اللوث وخلف ابناً وبنتاً وقلنا يحلف كل واحد على قدر حصته من الدية حلف الابن أربعاً وثلاثين يميناً وأخذ ثلثي الدية وحلفت البنت سبع عشرة يميناً وأخذت ثُلِث الدية ولو نكل أحدهما حلف الآخر خمسين يميناً وأخذ حصته لأن الدية لا تستحق بأقل من خمسين يميناً ولو غاب أحدهما حلف الآخر خمسين يميناً وأخذ حصته لأن الخمسين أقل الحجة وإلا أي وإن لم يحلف الحاضر صبر للغائب حتى يحضر فيحلف معه ما يخصه من الأيمان ولو حضر الغائب بعد حلف الحاضر خمسين حلف الغائب خمساً وعشرين كما لو كان حاضراً عند حلف الآخر.
والمذهب أن يمين المدّعى عليه بلا لوث واليمين المردودة من المدعى عليه على المدعي أو المردودة بنكول المدَّعي على المدَّعى عليه مع لوث واليمين مع شاهد خمسون لأنه يمين دم حتى لو تعدد المدعي حلف كلُ واحدٍ خمسين يميناً لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سهل بن أبي حثمة (فَتُبْرِئكمُ اليهود بخمسين يميناً).
ويجب بالقسامة في قتل الخطأ وشبه العمد دية على العاقلة مخففة في الأول مغلظة في الثاني كما مرَّ في القصاص وفي العمد دية حالّةٌ على المُقْسَمِ عليه ولا قصاص في القسامة لما روى الشيخان من حديث سهل بن أبي حثمة (إما أن تَدُوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب من الله).
وفي القديم قصاص لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أتحلفون وتستحقون صاحبكم) أ دم قاتل صاحبكم ولما روى أبوداود عن عبدالله بن عمرو (يُقْسمُ خمسون منكم على رجل منهم فيُدفَعُ بِرُمَّتِهِ) والرمَّة هو الحبل الذي يقاربه للقتل والأول أصح لأن القسامة حجة ضعيفة فلا قصاص.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/96)
ولو ادّعى قتلاً عمداً على ثلاثة أشخاص حضر أحدُهُم أقسم عليه خمسين وأخذ منه ثلث الدية من ماله فإن حضر آخرُ أقسمَ عليه خمسين لأن الأيمان السابقة لم تتناوله وأخذ منه ثلث الدية وفي قول يقسم خمساً وعشرين كم لو حضرا معاً إن لم يكن ذَكَرَهُ أي الثاني في الأيمان السابقة وإلا بأن كان ذكره في الأيمان السابقة فينبغي الاكتفاء بها أي الأيمان السابقة ولا يحلف ثانية بناءً على صحة القسامة في غيبة لمدَّعى عليه وهو الأصح بناءً على إمكان سماع البينة في غيبته.
ومن استحق بدل الدم من وارث أو سيد أقسم سواء في ذلك المسلم والكافر والعدل والفاسق ولو كان المستحق مكاتب لقتل عبده لأنه هو المستحق لبدله ولا يقسم سيده ومن ارتدَّ بعد استحقاقه الدم بأن مات المجروح وارتد وليه قبل أن يقسم فالأفضل تأخير أقسامه ليُسْلِمَ فغن المرتد لا يتورع عن الأيمان الكاذبة فإن عاد إلى الإسلام أقسم فإن اقسم في الردة صح إقسامه واستحق الدية على المذهب لأن الحاصل به نوع اكتساب للمال فلا يُمْنَعُ منه الردة كالاحتطاب والاصطياد ومن لا وارث له معيناً لإقسامه فيه وإن كان هناك لوث لعدم المستحق المعين وديته لعامة المسلمين وتحليفهم غير ممكن.
? فصل فيما يثبت به موجب القود?
إنما يثبت موجب القصاص مِنْ قَتْلٍ أو جرحٍ بإقرار الجاني بما يوجب القصاص أو بشهادة عدلين بموجب القصاص والمال يثبت موجبه بذلك أي بإقرار به أو بشهادة عدلين به أو برجلين وامرأتين أو برجل ويمين لا بامرأتين ويمين ولو عفا عن القصاص لِقْبَلَ المال رجلٌ وامرأتان أو رجل ويمين لم يُقْبل أي لم يحكم له بذلك في الأصح لأن العفو على المال إنما يثبت بعد ثبوت القصاص ولا يثبت موجب القصاص بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل ويمين المدعي.
ولو شهد هو وهما اي الرجل والمرأتان بهاشمة قبلها إيضاحٌ لم يجب أرشها أي الهاشمة على المذهب لأن الإيضاح الموجب للقصاص لا يثبت برجل وامرأتين بل يثبت بجحة كاملة وهي رجلان عدلان قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات6، وقال تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) الطلاق2.
وروى الزهري أنه قال: مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود.
وليصرح الشاهد بالمدَّعى بحيث يذكر إضافة التلف إلى الفعل فلو قال ضربه بسيف فجرحه فمات المجني عليه لم يثبت هذا القتل المدَّعى به حتى يقول فمات منه أو فقتله لاحتمال أن يكون مات بغير الجرح المدَّعى به ولو قال ضرب رأسه فأدماه أو فأسال دمه ثبتت دامية عملاً بقوله أما لو قال فسال دمه لم تثبت الدامية لاحتمال حصول السيلان بسبب آخر ويشترط لموضِحة أي للشهادة بها قول الشاهد ضربه فأوضح عظم رأسه لنفي أي سبب آخر للإيضاح وقيل يكف فأوضح رأسه وهو المعتمد لفهم المقصود منه عادة ويجب بيان مَحَلِّها وقدرها أي الموضحة الموجبة للقود ليُمْكنَ القصاص لأنهم إن تبينوا ذلك فلا قود وإن لم يكن برأسه إلا موضحة واحدة لاحتمال أنها وسعت من غير الجاني.
ويثبت القتل بالسحر بإقرار به من الساحر فإن قال قتلته بسحري وهو يقتل عادة فقتْلُ عمد فعليه القود أو قال يقتل نادراً فشبه عمد أو قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه فإقرار بالخطأ ولا يثبت السحر ببينة لأن الشاهد لا يعلم قصد الساحر ولا يشاهد تأثير سحره وأما لو اعترف شخص بقتله إنساناً بالعين فلا ضمان ولا كفارة لأنها لا تقضي إلى القتل عادة. روى الطبراني في الأوسط من حديث عمران بن الحصين (ليس منا مَنء سَحَرَ أو سُحِرَ له أو تكهن أو كُهِنَ له)، وروى الإمام مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العين حق ولو كان شيءٌ سابق القدر سبقته العين)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/97)
ولو شهد لمورثه بجُرحٍ قبل الاندمال لم تقبل شهادته لأنه مات كان أرش الجناية له فكأنه شهد لنفسه وبعده أي بعد الاندمال يقبل لعدم وجود التهمة وكذا بمال في مرض موته في الأصح أي لو شهد لمورثه في مرض موته لم تقبل شهادته لأنه يشهد بمال يجب حالاً ولم يشهد بسبب ينقل المال إليه ولا تقبل شهادة العاقلة بفسق شهود قَتْلٍ يحملونه أي العاقلة من خطأ أو شبه عمد لأنهم متهمون بدفع التحمل عن أنفسهم ولو شهد اثنان على اثنين بقتله أي المجني عليه فشهدا أي المشهود عليهما في ذات المجلس وعلى الفور على الأَولين بقتله فإن صدق الولي الأولين حكم بهما وسقطت شهادة الآخرين لأنهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما القتل الذي شهد به الأولان والدافع منهم في شهادة أو صدق الآخرين أو صدق الجميع أو كذب الجميع بطلتا في الجميع لأن تصديق أي فريق تكذيب الآخر وفي تكذيب أي فريق تصديق الآخر وفي تكذيب الجميع إسقاط الحجة.
ولو أقرَّ بعض الورثة بعفو بعضٍ منهم عن القصاص سقط القصاص لأن القصاص لا يتبعض ووجبت الدية.
ولو اختلف شاهدان في زمان للقتل كأن قال أحدهما كان في الليل وقال الآخر كان في النهار أو مكان كأن قال أحدهما قتله في الدار وقال الآخر في السوق أو آلة كأن قال أحدهما حزَّ رقبته وقال الآخر حطّم رأسه لغت شهادتهما للتناقض فيها قيل شهادتهما لوث لاتفاقهما على القتل والاختلاف على القتل والاختلاف في الصفة غلط من أحدهما أو نسيان فيقسم الولي وتثبت الدية.
? كتاب البغاة?
البغاة جمع باغٍ والبغي هو الظلم ومجاوزة الحدِّ. قال النووي: البغاة هم المحالفون للإمام الخارجون من طاعته بالامتناع من أداء ما عليهم وتعتبر فيهم خصلتان: إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام أو منع الحق المتوجه عليهم فلو خرج قوم على الطاعة ومنعوا الحق بلا تأويل سواء كان حداً أو قصاصاً أو مالاً لله تعالى أو للآدميين عناداً ومكابرة ولم يتعلقوا بتأويل فليس لهم أحكام البغاة والثانية: أن يكون تأويلهم باطلاً ظناً أو قطعاً.
وروى الشيخان عن أبي سعيد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: (تقتله الفئة الباغية)، وروى مسلم من حديث أم الحصين: (اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّرَ عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف) هم مسلمون مخالفون للإمام بخروج عليه وترك الانقياد له أو منع حق توجه عليهم كالزكاة بشرط شوكة لهم وتأويل والشوكة تكون إما بكثرة أو قوة بحيث يمكنهم مقاومة الإمام ويشترط في التأويل أن يكون فاسداً ومن ذلك تأويل الخارجين من أهل الجمل وصفين على علي رضي الله عنه بأن يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر على الاقتصاص منهم ولم يفعل ذلك لمواطأته إياهم وتأويل بعض ما بغي الزكاة من أبي بكر بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكناً لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومطاع فيهم أي ويشترط وجود مطاع فيهم يصدرون عن رأيه وإن لم يكن منصوباً إذ لا شوكة لمن لا مطاع فيهم.
قيل وإمام لهم منصوب منهم عليهم ليحكم بينهم وهذا الوجه مردود بأن علياً قاتل أهل الجمل ولم يكن لهم إمام. ولو أظهر قومٌ رأي الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذي كبيرة وكانوا في قبضة السلطان ولم يقاتلوا أهل العدل تُرِكوا فلا يجوز التعرض لهم لأنّا لا نكفرهم بفعلهم وقولهم السابقتين وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منّا) رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة قدر شهر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) رواه أحمد وغيره عن أبي ذر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية) رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية) رواه مسلم عن ابن عمر.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/98)
فهذه الأحاديث حمولة على من خرج عن الطاعة بلا تأويل أو بتأويل فاسد قطعاً كمن مع الزكاة عناداً أو كتأويل ابن ملجم أنه وليُّ امرأة قتل عليٌ أباها فاقتص منه، وإلا أي قاتلونا أولم يكونوا في قبضتنا فقطاع طرق أي لهم ذات حكمهم فإن قتلوا أحداً ممن يكافئهم اقتص منهم كغيرهم وتقبل شهادة البغاة لأنهم ليسوا بكفرة ولا فسقة وقضاء قاضيهم يقبل فيما يقبل قضاء قاضينا إذا توافرت صفات القاضي فيه فيقبل قضاؤه لأن لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد إلا أن يستحل دماءنا فلا يقبل قضاؤه لانتفاء العدالة المشترطة في القاضي وكذلك الشاهد إن كان يستحل دماءنا لا تقبل شهادته وسواءٌ في ذلك الشهادة في المال والدم والفروج. ويُنَفَّذُ كتابه بالحكم فإذا كتب قاضيهم إلى قاضينا جاز له قبول حكمه وتنفذه وقيل الأولى ألا ينفذ كتابه بالحكم إستخفافاً بهم وإظهاراً للغضب على بغيهم ويحكم بكتابه بسماع البينة في الأصح لأنهم ليسوا بفسقة عندنا فهم كأهل العدل المختلفين في الأحكام.
ولو أقاموا حداً وأخذوا زكاةً وخراجاً وجزية وفرقوا سهم المرتزقة على جندهم صح فقد روي أن علياً رضي الله عنه لمّا غلب أهل البغي وقد كانوا حكموا مدة طويلة بأحكام لم يطالب بشيء مما قد كانوا حبوه من ذلك. وإن ادعى مَنْ عليه الجزية أنه دفعها إليهم فإن عَلِمَ الإمام بذلك أو قامت به بينة لم يطالبه بشيء وإن لم يعلم الإمام بذلك ولا قامت به بينة لم يُقْبَل قولُ مَنْ عليه الجزية لأنه يجب عليه الدفع إلى الإمام فهم كفار ليسوا بمؤمنين وفي الأخير وجه أي أنه لا يقبل توزيعهم سهم المرتزقة على جندهم لأن في ذلك تشجيع للناس على الخروج على الإمام. وما أتلفه باغٍ على عادل وعكسه إن لم يكن في قتال ضمن أي يضمن كلٌ منهما ما أتلفه للآخر من نفسٍ ومالٍ لأن فعل البغاة خطأ معفو عنه لتأويلهم وبذلك فارق إتلاف الحربي. قال تعالى: (ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء33، ولأن إتلاف أحدهما على الآخر بغير قتال محرَّمٌ فوجب ضمانه كما لو أتلفوه قبل البغي. وإلا أي وإذا كان الإتلاف في قتال بسبب البغي فلا فلا ضمان على واحد منهما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات9. فقد أمر بقتالهم ولم يوجب ضمان ما أتلفوه عليهم، أخرج عبدالرزاق في المصنف والبيهقي في السنن (أن هشام بن عبدالملك أرسل إلى الزهري يسأله عن اكرأة من أهل العدل ذهبت إلى أهل البغي وكفَّّرت زوجها وتزوجت من أهل البغي ثم تابت ورجعت هل يقام عليها الحد؟ فقال الزهري: كانت الفتنة العظمى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم البدريون فأجمعوا على أنه لا حدَّ على من ارتكب فرجاً محظوراً بتأويل القرآن وأن لا ضمان على من سفك دماً محرماً بتأويل القرآن وأن لا غرم على من أتلف مالاً بتأويل القرآن).
وفي قول يضمن الباغي ما أتلفه من نفسٍ أو مالٍ ولو كان الإتلاف في قتال. قال تعالى: (ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً) الإسراء33. والباغي ظالم ويُرَدٌّ على هذا أن علياً رضي الله عنه قاتل أهل الجمل وقتل منهم خلقاً عظيماً وأتلف مالاً عظيماً ثم مَلَّكَهُم ولم يُنقل أنه ضمن أحداً منهم ما أتلف من نفس أو مال فدل على أنه إجماع.
والمتأول بلا شوكة أي بلا قوة وامتناع لا يثبت له شيء من أحكام البغاة فحينئذ يضمن ما أتلفه ولو في قتال. وعكيع كباغٍ وهو من له شوكة بلا تأويل فحكمه في الضمان وعدمه مثل حكم الباغي ولا يقاتل البغاة حتى يبعث الإمام إليهم أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما ينقمون فقد بعث عليٌ ابنَ عباس إلى أهل النهروان من الخوارج فرجع بعضهم إلى طاعة الإمام وأبى كثيرون فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها فقد أخرج عبدالرزاق في المصنف (أن علياً رضي الله عنه لما كاتب معاوية رضي الله عنه وحكَّمَ خرج من معسكره ثمانيةُ آلاف ونزلوا بحروراء وأرادوا قتاله فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنه، فقال لهم: ما تنقمون منه؟ قالوا: ثلاثٌ، فقال ابن عباس: إن رفَعَها رجعتُم؟ قالوا: نعم، قال: وماهي؟ قالوا: حكَّمَ في دين الله ولا حكم إلا لله، وقتل ولم يَسْبِ فإن حلَّ لنا قَتْلُهُم حلَّ لنا سَبيُهُم، ومحا اسمه من الخلافة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/99)
فقد عزل نفسه يعنون اليوم الذي كتب فيه الكتاب بينه وبين أهل الشام فكتب فيه: أميرُ المؤمنين، فقالوا: لو أقررنا بأنك أمير المؤمنين ما قاتلناك فمحاه من الكتاب) فإن أصرّوا بعد الإزالة نصحهم بالعودة إلى الطاعة ولزوم الجماعة ثم إن لم يرجعوا آذنهم أي أخبرهم بالقتال فإن استمهلوا أي جعلوا إنكارهم مدة إجتهد الإمام في الإمهال وعدمه وفعل ما رآه صواباً من الإمهال وعدمه ولا يُقَاتِلُ مُدْبرَهم إذا وقع قتال ولا مُثخَنَهم وهو من أضعفته الجراح عن القتال وأسيرهم لايُقْتَلُ ولا يُطْلَقُ أسيرهم خاصة إذا كان شاباً جَلِداً ما دامت الحرب قائمة إذ بحبسه تضعف البغاة، روى الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن ابن عمر عن ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أمِّ عبدٍ ما حُكْمُ من يفيء من أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يُتْبَعُ مُدْبِرهُم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يُقْسَمُ فَيؤُهُم). وإن كان أي حتى وإن كان أسيرهم صبياً وامرأة حتى تنقصي الحرب ويتفرق جمعهم إلا أن يطيع باختياره وذلك بمبايعة الإمام والرجوع عن البغي إلى الطاعة فيطلق بعد انقضاء الحرب. قال تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات9. وَيَرُدُّ الإمام وجوباً سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب واُمِنَتْ غائلتهم أي شرهم بتفرقهم أو رجوعهم إلى الطاعة لأنهم إنما قوتلوا لدفع شرهم وكفهم على الاعتداء وقد حصل ذلك ولا يُسْتَعْمَلُ في قتال أي سلاحهم وخيلهم إلا لضرورة وذلك بأن لم يجد أهل العدل إلا سلاحَهُم وخيلهم للدفاع فيستعملونه. فقد روى البيهقي في السنن عن أبي هرَّة الرقاشي عن عمه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: (ألا إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)).
ولا يُقَاتَلُون بعظيم كنار ومنجنيق والمنجنيق هو آلة تُرمَى بها الحجارة على مواقع العدو عادة إلا لضرورة بأن قاتلوا به فنحتاج إلى المقاتلة بمثله لدفعهم عنّا أو أحاطوا بنا ولم يمكننا كفهم وردهم إلى الطاعة ولا يُستعان عليهم بكافر لأنه يحرم تسليطه على المسلم ولا بمن يرى قتلهم مدبرين لأنه لا يُأمَنُ أن يفعل ذلك إلا أن يكون بنا حاجة إليهم وعلى الإمام عند ذاك منعهم من قَتْلهم مدبرين.
ولو استعانوا علينا بأهل حرب وآمنوهم أي عقدوا لهم عقد أمان لم يَنْفُذْ أمانهم علينا فيجوز لنا قتلهم مقبلين ومدبرين ويجهز على جريحهم ويجوز سبي ذراريهم ويتخير الإمام فيمن أسر منهم بين القتل والمنِّ والاسترقاق والفداء لأن شرط صحة العقد لهم أن لا يقاتلوا المسلمين فإن وقع العقد على شرط قتال المسلمين لم يصح هذا العقد ونفذ عليهم أمانهم أي ينفذ على أهل البغي لأنهم قد بذلوا لهم الأمان فوجب عليهم الوقاية والثاني أنهم لا يكونون في أمان منهم لأن من لم يصحَّ أمانه في حق بعض المسلمين لم يصحَّ في حقِّ الآخرين.
ولو أعانهم أي أعانوا أهل البغي أهل الذمة عالمين بتحريم قتالنا انتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتال المسلمين أو أعانوهم مكرهين فلا ينتقض عهدهم لشبهة الإكراه وكذا لا ينتقض عهدهم إن قالوا ظننا جوازه أي أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض أو قالوا ظننا أنهم محقون فيما فعلوه وأن لنا إعانة المحق فلا ينتقض عهدهم على المذهب لموافقتهم لطائفة من المسلمين مع إمكان تصديق دعواهم بالجهل ويقاتلون كبغاة إذا قلنا بعدم انتقاض عهدهم لأن الأمان حقن دماءهم كماأن الإسلام حقن دماء البغاة.
? فصل في شروط الإمام الأعظم?
الإمامة فرض كفاية كالقضاء إذ لابد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة ويستوفي الحقوق ويجهز الجيوش في جهاد الكفار ويأخذ الجزية والصدقة ويضعها مواضعها. فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جُنّةً يُقاتل من ورائه ويُتقى به فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر وإن يأمر بغيره كان عليه منه)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/100)
شرط الإمام كونه مسلماً ليراعي مصلحة الإسلام والمسلمين مكلفاً ليَليَ أمر الناس فلا تصح إمارة صبي ولا مجنون إجماعاً. حراً ليكون موقراً مهيباً كاملاً. أما ما رواه مسلم عن أم الحصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّرَ عليكم عبد حبشي)) فمحمول على غير الإمامة العظمى وهو حث على طاعة الإمام لأنها قضية شرطية ذكراً ليتمكن من مخالطة الرجال وليتفرغ لمصالح الأمة فقد روى البخاري عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة)) فاقتضى الخبر أنها إذا وليت فسدُ أمر مَنْ وَليتْهُم.
قرشياً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) رواه النسائي عن أنس وروى البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس تبع لقريش)). وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بق منهم اثنان)). عدلاً عالماً مجتهداً ليعرف الأحكام ويعرف الناس شجاعاً ليغزو بنفسه ويقود الجيوش ويدبر أمرها ويقهر الأعداء ويقيم الحدود ذا رأي وسمع وبصر ليعرف الناس ويدبر مصالحهم الدينية والدنيوية. وتنعقد الإمامة بطرق أحدها البيعة كما بايع الصحابة أبا بكر رضي الله عنه وكان أول من بايعه عمر بن الخطاب فقد روى البخاري عن عمر أنه قال لأبي بكر: (بل نبايعُكَ أنت سيدُنا وخيرنُا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه الناس)، والأصح أم المعتبر هو بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم، والمعتبر بيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس وأقلهم ثلاثة وذلك أقل الجمع عندنا ولا يلتفت لاجتماع العامة لأنهم تبع لأهل الاجتهاد وقيل يشترط كونهم أربعين رجلاً. وشرطهم صفة الشهود أي ذكراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً ولابد أن يكون بينهم مجتهدٌ على الأقل لينظر في الشروط المعتبرة في الإمامة.
وباستخلاف الإمام تنعقد البيعة أيضاً وذلك بتعين شخص في حال حياته ليكون خليفة له على أن تجتمع فيه شروط الإمامة ويقال عند ذاك عَهِِدَ إليه كما عَهِدَ أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما فلو جُعِلَ الأمر شورى بين جمع اثنين فصاعداً فكاستخلاف في الحكم غير أن المستخلف غير معين فيتشاورون فيرتضون أحدهم بعد موت الخليفة كما جعل عمر الأمر شورى بين ستة: علي والزبير وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة، فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه وأرضاه وباستيلاء جامع الشروط اللازمة للإمامة تنعقد الإمامة وذلك بأن قهر الناس بشوكته وجنوده من غير عهد ولا بيعة وذلك بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين.
وكذا فاسق وجاهل تنعقد به الإمامة في الأصح وإن كان عاصياً ولا يختص الحكم بالفاسق والجاهل بل بسائر الشروط إذا فُقِدَ واحد منها كذلك كالعبد والمرأة والصبي المميز ولا تنعقد الإمامة بالكافر مطلقاً ولو تغلب لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء141. قلت: لو ادعى أهل بلد عادت من أيدي البغاة إلينا دفع زكاة إلى البغاة صدق إن علم الإمام بذلك أو أقامت عنده بذلك بينة بلا يمين وإن لم يعلم الإمام بذلك ولا قامت بينة بذلك فإن دعوى من عليه الزكاة مخالفة للظاهر فيحلِّفهُ الإمام وَيُصَدَّقُ بيمينه على الصحيح أو جزية أي إذا ادعى مَنْ عليه الجزية دفعها إلى البغاة ولم تقم بينة بذلك ولا علم الإمام فلا يقبل قول من عليه الجزية على الصحيح لأنهم كفَّارٌ فليسوا بمؤمنين.
وكذا إذا ادعى من عليه الخراج دفع خراجٍ لأرض فلا يصدق في دفعه من غير بينة كدفع ثمن المبيع والثاني يصدق لأنه مسلم فَقُبِلَ قوله مع يمينه.
ويصدق من عليه حدٌّ في إقامة حدٍّ إلا أن يثبت ببينة أي الحدُّ ولا أثر له في البدن يدل على إقامة الحدِّ أما لو ثبت الحدُّ بالإقرار فيصدق مَنْ عليه الحدُّ أنه قد أُقيمَ الحدُّ لأنه يُقْبَلُ رجوعه عن الإقرار فتصديقه بإقامة الحد يكون كقبول رجوعه عن الإقرار والله أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/101)
خاتمة: إذا كان هناك إمامٌ فقهره رجلٌ يصلح للإمامة بالسيف وغلبَهُ فإذا كانت إمامة الأول ثبتت بالوجه الشرعي لم ينعزل الأول وإن كانت إمامة الأول قد ثبتت بغلبة السيف انعزل الأول وثبتت إمامة الثاني لأن إمامة الأول ثبتت بالغلبة وقد زالت غلبته بتغلب الثاني عليه ولا يجوز خلع الإمام بغير موجب لخلعه لأن أمر الجماعة لا يصلح فوضى لا سراة لها من أهل العقل والحكمة والتقى وقد أجمع الصحابة على نصب الإمام ليقيم العدل لأن الظلم طبع في بعض النفوس وإنما تظهره القدرة ويخفيه العجز.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) النساء59.
وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منّا)). وروى الشيخان عن ابن عباس (من رأى منكم من أميره شيئاً فكرهه فليصبر لإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتتة جاهلية).
وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: (بايَعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله).
? كتاب الردة ?
الردة لغة الرجوع عن الشيء إلى غيره ومنه قوله تعالى: (فارتدا على آثارهما قصصاً) الكهف64، أي رجعا وهي أفحش الكفر وأغلظه وهي شرعاً قطع استمرار الإسلام وهي محبطة للعمل إن اتصلت بالموت. قال تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة217. وقال تعالى: (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن] ُقْبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران85. رورى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدّل دينه فاقتلوه)). وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)).
والردة هي قطع الإسلام بنية كفر أو قول كفر أو فعل مكفر أي أن قطع الإسلام يكون بأحد هذه الأمور الثلاثة وقدّم النية لأنها الأصل والمقدمة للقول والفعل ثم ذكر القول لأنه أغلب من الفعل سواءٌ في الحكم عليه عند قوله الكفر قاله استهزاءً. قال تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنا كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة65،66. أو عناداً بأن عرف بباطنه أنه حق وأبى أن يقرَّ به. قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) النمل14. أو اعتقاداً كمن اعتقد أنه لا جنة ولا نار ومنه لو اعتقد من ابتلي بمرض أن الله ظلمه بإمراضه ومن اعتقد أن اليهود والنصارى خير من المسلمين أو اعتقد وجود صلاة سادسة ومنه من شك في كفر من دان بغير الإسلام كدين اليهود والنصارى فمن نفى الصانع وهو الله سبحانه وتعالى وليس الصانع من أسمائه سبحانه لأن أسماؤه توقيفية في الأصح وهذا الاسم خارج عن الأسماء الحسنى وهو مشتق من قوله تعالى: (صنع الله) النمل88، وروى الحاكم في المستدرك من حديث حذيفة بن اليمان (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله صانع كلِّ صانع وصنعَتِهِ)). وقال إنه حديث صحيح على شرط مسلم. ومن نفى ما هو ثابت لله عز وجل بالإجماع كالعلم والقدرة أو أثبَتَ ما هو منفي عنه بالإجماع كحدوثه وقدم العالم فهو مرتدٌّ.
أو نفى الرسل فقال إن الله تعالى لم يبعثهم أو قال عن نبي لم يبعثه الله أو حجد القرآن أو صدّق مدّعياً للنبوة أو قال إن النبوة مكتسبة وتنال رتبتها بصفاء القلوب أو سبَّ نبياً مجمعاً على نبوته أو رسولاً. أو كذّب رسولاً أو نبياً أو حلل محرماً بالإجماع كالزنا وعكسه بأن حرّم حلالاً بالإجماع كالنكاح والبيع والشراء أو نفى وجوب مُجْمَعٍ عليه كصلاة الظهر أو قال إن شئت فصلِ الظهر ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو نفى سنة مؤكدة كصلاة العيد فقال إنها لا أصل لها أو عكسه كأن اعتقد وجوب صوم شوال أو قال إن صلاة الفجر أربع ركعات أو اعتقد أو شرع أن نصيب الأنثى من الميراث كنصيب الذكر أو عزم على الكفر غداً أو علق كفره على شيء أو تردد فيه كفر أي هل يكفر أو لا مثل من تردد في إلقاء مصحف في نجاسة أو لا فإنه يكفر حالاً ومن نفى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/102)
صحبة أبي بكر كفر ومن نفى براءة الصديقة عائشة كفر لأنه مكذب لله ورسوله ومكذب للقرآن وقوله (أو عزم) شملها قوله (بنية كفر) لأن النية أعم من العزم حيث أن النية تشمل الحال والمستقبل وأما العزم فيشمل المستقبل.
تنبيه: ذكر الغزالي أن مَنْ زعم أن له مع الله حالاً أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم نحو خمر وجب قتله وإن كان في حكم خلوده في النار نظر، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر، انتهى كلامه. ولا نظر في خلوده في النار لأنه مرتد لاستحلاله ما عُلِمَتْ حرمته أو نفيه وجوب ما عُلِمَ ضرورة فيهما.
والفعل المُكَفِّر ما تَعَمَّدَه القائل استهزاءً صريحاً بالدين عِناداً له أو جحوداً له كإلقاء مصحف أو شيء من القرآن وخرج بالعمد السهو كالنوم وغيره بقاذورة. لأنه استخفاف صريح بكلام الله وهذا استزاء بالله سبحانه وتعالى ومثل القرآن كتب الحديث. ومن الأفعال المكفرة التي يحكم على صاحبها بالردة إجماعاً وإن كان صاحبها مصرحاً بالإسلام السجود للصليب أو النار أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها اختياراً وكذا من أنكر مكة أو البيت أو المسجد الحرام أو صفة الحج وأنه ليس على هذه الهيئة المعروفة أو قال لا أدري أن هذه المسماة بمكة هي مكة أو غيرها وكذلك من أنكر الجنة والنار أو البعث أو الحساب أو قال الأئمة أفضل من الأنبياء ومن الأفعال الناشئة عن الاستهزاء بالدين أو الجحود به ذكر المصنف أشياء فقال وسجود لصنم أو شمس وغيرها من المخلوقات كالملوك والأشجار والأبقار وغيرها.
ولا تصح ردة صبي ولا مجنون ومكره: فقد روى أحمد وأبوداود والحاكم عن علي وعمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)). وقال تعالى: (إلا مَنْ أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) لنمل106.
ولكن من أكره على كلمة الكفر فالأفضل له أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه فقد روى البخاري عن خباب بن الأرت (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن كان الرجل ممن كان قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار فتوضع على رأسه يشق باثنتين فلا يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحمٍ وعصبٍ ما يصده ذلك عن دينه)). ولو ارتدَّ فجُنَّ لم يُقْتَلْ في جنونه لأنه قد يعقل ويعود إلى الإسلام والمذهب صحة ردة السكران وإسلامه لأنه مكلف ولأنه يصح طلاقه فصحت ردته كالصاحي فإن ارتدَّ في ٍسُكْرِهِ وجب القتل لكن لا يقتل حتى يفيق فيعرض عليه الإسلام ولو عاد إلى الإسلام في حال سكره قُبِلَ منه ذلك وإن قتلَهُ قاتل في حال سكره لم يضمنه لأن عصمته زالت بردته.
وتقبل الشهادة بالردة مُطْلَقاً دون تفصيل لأن الشاهد بها لا يقدم على ذلك إلا بمزيد من التحري والدقة لخطر الحكم بها وقيل يجب التفصيل وذلك بأن يذكر الشاهد سببها لاختلاف الناس فيما يوجبها فعلى الأول لو شهدوا بردة فأنكر حُكِمَ بالشهادة أي فلو شهد عدلان بردته فقال كذبا عليّ أو قال ما ارتددت قُبِلَت شهادتهما ولا يغنيه التكذيب بل يلزمه بما يصير به الكافر مسلماً ولا ينفعه في ذلك بينونة زوجته. فلو قال: كنت مُكْرَهاً، واقتضته قرينة كأسر كفار يُنْظَرُ إلى القرائن التي تشهد له بأن كان أسيراً عند الكفار أو كان محفوفاً بجماعة منهم وقد قيدوه فيقبل قوله ولا يحكم بكفره لأن الحبس والقيد إكراهٌ على الظاهر. وإن قامت بينة على أنه كان يشرب الخمر ويأكل الخنزير في دار الكفر لم يحكم بكفره لأنها معاصٍ وقد يفعلها المسلم وهو يعتقد تحريمها فلم يُحْكَمْ بكفره وإن مات وَرِثَهُ وَرَثتُهُ المسلمون لأنه محكوم ببقائه على الإسلام.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/103)
صدق بيمينه عملاً بالقرينة المشعِرَة بصدقه وإلا أي وإن لمتقتضيه قرينة كأن كان بدار كفر وهو مخلّى السبيل ولا سلطان عليه للكفار فلا يقبل قوله فيحكم ببينونة زوجته التي لم يدخل بها ويطالب بالنطق بالشهادتين ولو قالا لَفَظَ لفظَ كُفْر فادّعى إكراهاً صدق مطلقاً أي إذا لم يقل الشاهدان ارتدَّ وإنما قالا تلفظ بكلمة الكفر فقال: صدقا في قولهما ولكنني كنت مُكْرَهاً فيقبل قوله لأنه ليس مكذباً للشاهدين والأصل أن يجدد كلمة الإسلام لأن لفظ الردة وجِدَ والأصل في الإنسان الاختيار لا الإكراه. ولو مات معروفٌ بالإسلام عن ابنين مسلمين فقال أحدهما ارتدَّ فمات كافراً كأن قال رأيته يسجد لصنم أو سمعته ينطق بكلمة الكفر لم يرثْهُ ونصيبه فيءٌ وكذا يكون نصيبه فيئاً إن أطلق أي أن لم يبين سبب كفره في الأظهر معاملة له بإقراره والقول الثاني يُستفْصَلُ فإن ذكر ما هو كفر كان فيئاً وإن ذكر ما ليس بكفر صرف إليه ولو قال مات وهو يشرب الخمر فيرثه لأنه من أهل المعاصي ويجب استتابة المرتدِّ والمرتدّة لما روى مالك في الموطأ والبيهقي في السنن عن عمر ومثله عن أنس (أنه لما ورد على عمر بن الخطاب فتح تُسُتَرَ قال لهم: هل من مُغَرِّبَة خبر؟ (أي خبر غريب) قالوا: نعم رجل ارتدَّ عن الإسلام ولحق بالمشركين فلحقناه فقتلناه، قال: فهلا ادخلتموه بيتاً وأغلقتم عليه باباً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه ثلاثاً؟ فإن تاب وإلا قتلتموه، اللهم إني لم أشهد ولم آمُرْ ولم أرضَ إذ بلغني).
وكتب ابن مسعود إلى عثمان في قوم ارتدوا فكتب إليه عثمان: (اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوا فخلِّهم وإن أبوا فاقتلهم).
وفي قول تستحب استتابة المرتد والمرتدة كالكافر فقد أخرج البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدّل دينه فاقتلوه ولا تعذِّبوا بعذاب الله تعالى) فأوجب قتله ولم يوجب استتابته ولأنه لو قتله قاتل قبل الاستتابة لم يجب عليه ضمانه كما أن عمر لم يوجب الضمان على الذين قتلوا المرتد قبل استتابته فلو كانت واجبة لوجب ضمانه. وهي أي الاستتابة في الحال فإن تاب تُرك وإلا قُتِلَ ولأن قتله حدٌّ فلا يؤخر كسائر الحدود وهو الذي نصره الإمام الشافعي فقد روى البيهقي والدارقطني عن جابر (أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت) وفي رواية: فأبت أن تُسلِمَ فقتلت، قال الحافظ ابن جحر: وقع في الأصل أمّ رومان وهو تحريف والصواب أمّ مروان.
وفي قول ثلاثة أيام أي يمهل المرتد ثلاثة أيام أن الاستتابة إنما تُراد لزوال الشبهة فَقُدِّرَ ذلك بثلاث لأنها أخرجت القلة وأول حد الكثرة. ولقد روى البيهقي في السنن عن محمد بن عبدالله بن عبدالقاري عن أبيه أن عنر قال في المرتدّ (فهلا أدخلتموه بيتاً وأعلقتم عليه باباً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه ثلاثاً). قال الشافعي رحمه الله: مَنْ لم يتأنى بالمرتد زعموا أن هذا الأثر ليس بمتصل.
فإن أصّرا أي المرتد والمرتدة على الردة قُبِلا لما روى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدّل فاقتلوه)) وإن أسْلَمَ صح إسلامه إذا أتى بالشهادتين وهما أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وَتُرِكَ أي قبلت توبته فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) وهذا قد قالها فيَعْصَمُ دمه ومالُه وقيل لا يُقْبَلُ إسلامه إن ارتدّ إلى كفر خَفيّ كزنادقةٍ وباطنية والزنديق من يظهر الإسلام ويخفي الكفر وقيل هو المنافق أما الزنديق فهو الذي لا ينتحل ديناً أبداً وأما الباطني فهو من يعتقد أن للقرآن ظاهراً وباطناً وأن الباطن هو المراد منه، والأول أصح فتقبل توبة المرتد وإسلامه سواء كان مسلماً أصلياً فارتد أو كافراً أسلم ثم ارتدّ وسواء كان ظاهر الكفر أو زنديقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر وسواء تكررت منه الردة والإسلام أم لا. قال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف) الأنفال38. فأمر الله سبحانه بمخاطبة الكفار بالإنتهاء ولم يفرق بين صنف وصنف.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/104)
وأخرج البخاري عن المقداد بن الأسود أنه قال: (يا رسول الله أرأيت لو أن مشركاً لقيني فقاتلني وقطه يدي ثم لاذ عني بشجرة، فقال: أسلمت لله أفأقتله؟ فقال: لا، قال: فقد قالها بعد ما قطع يدي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما هو مثلك قبل أن تقتله). ولقد كان المنافقون يظهرون الإسلام ويسرون الكفر والرسول يعرفهم بأسمائهم وكناهم ولا يتعرض لهم.
وولد المرتد إذا انعقد قبلها أي قبل الردة أو بعدها أي في الردة وأحد أبويه مسلم فمسلم بالتبعية تغليباً للإسلام، روى الطبراني في الصغير عن عائذ المزني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)) أو أبواه مرتدان فمسلم لبقاء علقة الإسلام في أبويه وفي قول مرتدٌّ بالتبعية لوالديه المرتدين. وفي قول كافرٌ أصلي لتولده بين كافرين ولم يباشر إسلاماً حتى يحكم بردته بعد الإسلام. قلت الأظهر هو مُرْتدٌّ إن لم يكن في أصول أبويه مسلم ونقل العراقيون الاتفاق على كفره والله أعلم فلا يُسترق لأن حُكمَ الولد الصغير في الدين حكم أبويه وإذا لم يجز سبي أبويه لم يَجُزْ سبيُهُ كولد المسلمين أما إذا كان في أحد أصوله مسلم وإن بَعُدَ فهو مسلم تبعاً له كما هو الحكم في اللقيط.
وفي زوال ملكه عن ماله بها أي بالردة أقوال أظهرها إن هلك مرتداً بأن زواله بها أي زال ملكه بالردة وإن أسلم بان أنه لم يَزُلْ لأن بطلان عمله يتوقف على موته مرتداً فكذا زوال ملكه وعلى الأقوال كلها يقضى منه دين لزمه قبلها أي قبل الردة لأنّا إذا قلنا يوقف ماله فيؤدي دينه وإن قلنا يزول ملكه فيعتبر كالموت فيقدم الدين على حق الورثة وينفق عليه منه أي من ماله مدة الاستتابة والأصح يلزم غُرْمُ إتلافه مال غيره فيها أي أثناء ردته ونفقة زوجات وقَفَ نكاحهن وقريب من أصل أو فرع وإن تعدد لأنها حقوقٌ متعلقةٌ به فوجب دفعها من ماله وإذا وقفنا ملكه وهو الأظهر وفرعنا عليه فتصرفُهُ إنِ احتملَ أي قَبِلَ الوقْفَ بأن قبل التعليق كعتق وتدبير ووصية موقوف إن أسلم نفذ أي بان صحته ونفوذه وإلا فلا وذلك بأن مات مرتداً فلا ينفذ من ذلك شيء وبيعه وهبته وكتابته مما لا يقبل الوقف باطلةٌ بناء على الجديد وهو بطلان وقف العقود وعلى القديم وهو صحة وقف العقود هي موقوفة فإن أسلم حكم بصحتها وإلا فلا.
وعلى الأقوال السابقة يجعل ماله مع عَدْلٍ وأمته عند امرأة ثقة لتعلق حق المسلمين به ويؤدي مُكَاتَبُهُ النجوم إلى القاضي حفظاً لها ولا يقبضها المرتدُّ لأن قبضه غير معتبر.
? كتاب الزنا ?
الزنا هو القصد الزنى لغة حجازية وبالمد الزنا لغة تميمية وأجمعت الملل على تحريمه ومن ثم كان أكبر الكبائر بعد القتل وقيل هو أعظم من القتل ولهذا كان حده أشدُّ الحدود لأنه جناية على الأعراض والأنساب والدليل على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: (ولا تقربوا الزنى إنه فاحشةًً وساء سبيلاً) الإسراء32. وقال تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقَ أثاماً) الفرقان68.
وروى الشيخان عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك). وأخرج أبويعلى عن عائشة (في قصة بيعة هند بنت عتبة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً ولا تسرقي ولا تزني، قالت: أوتزني الحرة؟). فكان أهل الجاهيلة يتشرفون عنه. وقد أجمعت الأمة على تحريمه وقد أوجب الإسلام الحدَّ في الزنا وكان الحد في الزنا في أول الإسلام الحبس والإيذاء بالكلام والتقريع والتوبيخ قال تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الوت أو يجعل الله لهن سبيلاً. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً) النساء15.
وقد نُسِخَ الحد بالحبس والأذى فَجُعل حدٌّ البكر الجلد لقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) النور2. وجُعِلَ حدُّ الثيب الرجم وهو إجماع الأمة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/105)
وحقيقة الزنا الشرعية الموجبة للحد إيلاج الذكر بفرج محرم وهو قُبُلُ آدمية ولو كان الذكر أشلاً أو ملفوفاً بخرقة لعينه خالٍ من الشبهة أي الإيلاج قد خلا عن الشبهة المسقطة للحد. مشتهى يوجب الحد يشهيه الطبع السليم ويوجب الرجم حتى الموت في المحصن والجلد والتغريب في غيره ودُبُرُ ذكر وأنثى كقبل على المذهب فاللواط من الكبائر قال تعالى: (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم مبصرون) النمل54. فسماها فاحشة ولقد قال تعالى: (إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الأعراف33، وروى البيهقي عن أبي موسى الأشعري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان)). وأجمه المسلمون على تحريم اللواط فكان فيه رجم الفاعل المحصن وجلد وتغريب غيره لأنه زنا وقيل يقتل الفاعل والمفعول. لما روى أحمد وأبوداود واللفظ له عن ابن عباس (لعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، لعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، لعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط – قالها ثلاثاً- من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) واستنكره النسائي. ولا حد بمفاخذة ولا غيرها مما ليس فيه تغييب وحشفة ولا بإيلاج في نحو سُرّةٍ وبطن ولا بمقدمات وطءٍ من نحو لمس وقبلة وغير ذلك.
ووطء زوجته وأمته في حيض وصوم وإحرام لا حدَّ فيه لأن التحريم ليس لعينه بل لأمر عارضٍ وكذا لا يُحَدُّ إذا وطِئَ أمته المزوجة والمعتدة من غيره وكذلك أمته المجوسية والوثنية وكذا لا يُحَدُّ بوطء مملوكته المحْرَمِ بنسب أو رضاع كأخته منهما أو بمصاهرة كموطوءة أبيه أو موطوءة ابنه فلا حدَّ لشبهة الملك فقد اجتمع في المذكورات ما يوجب الحدَّ والإسقاط فَغُلِّبَ افسقاط لأن الحدود تدرأ بالشبهات فقد أخرج الترمذي وغيره من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يُخْطئ في العفو خير أن يُخْطِئَ في العقوبة).
ومُكْرَهٍ في الأظهر لشبهة الإكراه مع قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات). ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
وكذا لا يوجبُ حداً كلُّ جهة أباحها عالم أي قال عالم بجوار الوطء بها كنكاح بلا شهود كما قال مالك وإن كان قد أوجب الشهرة حالة الدخول أو نكاح بلا ولي كما قال أبو حنيفة أو بولي وشهود ولكنه مؤقت وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس على الصحيح وإن اعتقد تحريمه لشبهة الخلاف وفي قول يجب الحدُّ في نكاح المتعة لأن النسخ قد ثبت فيه كما روى البيهقي أن ابن عباس رجع عن القول بجوازه ولا حدَّ بوطء ميتة في الأصح لأنه مما ينفر فيه الطبع السليم فلا يحتاج للزجر عنه ولا بهيمة في الأظهر لأن وطء البهيمة تأباه النفوس السليمة فلا يُحَدُّ فاعله لأن الحدَّ إنما يجب بالإيلاج في فرج يُبْتَغى فيه كمال اللذة ولكن فيه التغرير لتجاوز فاعله المباح. قال تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) المؤمنون5 - 7، وقيل يقتل وتقتل البهيمة لما روى أحمد وأصحاب السنن عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) قيل لابن عباس: فما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك إلا لأنه كره أن يأكل لحمها وقد عُمِلَ بها ذلك العمل) قال الحافظ بن حجر وفي إسناد هذا الحديث كلام.
ويحدُّ في وطء مستأجرة للزنا بها لانتفاء الملك والزوجية وعقد الإجارة في هذه الحالة باطل ولا يكون شبهة مؤثرة في الحد ومبيحة فرجها للوطء يُحدُّ بها كما يلزمها الحدُّ ومَحْرَمٍ بنسب أو رضاع أو مصاهرة يحدُّ بها وإن كان تزوجها لأنه وطءٌ صادف محلاً لا شبهة فيه وهو مقطوع بتحريمه وشرطه أي شرط إيجاب حد الزنا في الرجل والمرأة التكليف فلا يحدّ الصبي والمجنون ومن جهل تحريم الزنا لقرب عهده بالإسلام إلا السكران فإنه يحدُّ وهو غير مكلف وَعِلْمُ تحريمه فلا يحدُّ من جهل تحريم الزنا لقرب عهده باسلإم أو بعده عن العلماء أو عن المسلمين أما إذا نشأ بين المسلمين وادعى الجها فلا يُقْبَلُ ذلك منه. وحدُّ المُحْصَنِ رجلاً كان أو امرأة الرجمُ لأمره صلى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/106)
الله عليه وسلم به فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة (أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنا عند رسول الله فرجمه) والإحصان هنا التزوج. قال تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) النساء24، أي المزوجات. وأخرج مسلم وغيره عن عمران بن الحصين (ان امرأة من جهينة اعترفت بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حُبلى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها وقال: (أحسن إليها حتى تضع فإذا وضعت فَجِئ بها)، فلما وضعت جاء بها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها وأن يُصلى عليها).
وهو مكلف حرٌّ أي المحصن مكلف ويلحق به هنا السكران حرٌّ كله فمن فيه رقٌّ فهو غير محصن لنقصه. قال تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) النساء25.فجعل على الأمة مع إحصانها نصف ما على المحصنات من العذاب والرجم لا يتبعض فعلى هذا فلا رجم على مَنْ فيه رقٌّ. وروى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فإذا زنت فليجلدها فإن زنت فليبعها ولو بضفير)) والضفير هو الحبل من الشَعْر. ولو كان المحصن ذمي غيب حشفته بقبل في نكاح صحيح لا فاسد فقد روى الشيخان عن ابن عمران (أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا) فالإسلام ليس شرطاً في الإحصان عندنا. في الأظهر لحرمة النكاح الصحيح أما الفاسد فلا يحصل به الإحصان والثاني يصير محصناً لأن حكم الوطء في النكاح الفاسد هو ذات الحكم في النكاح الصحيح في العدة والنسب فكذلك يكون في الإحصان والأصح الأول والأصح اشتراط التغييب لحشفة الرجل أو قدرها من ذكره عند قطعها حال حريته وتكليفه لأن أحكام الوطء تتعلق بتغييب الحشفة والحدُّ من أحكام الوطء فلا حدَّ دون تغييب الحشفة كما أن الحدَّ لا يجب على من وَطِيء في ننكاح صحيح وهو صبي أو مجنون أو رقيق لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) فإذا سقط عنهما التكليف في العبادات والإثم في المعاصي فسقوط الحدِّ أولى. وكذلك الرقيق لعدم الكمال كما أسلفنا.
وأخرج الشيخان عن ابن مسعود (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأتة في البستان فأصبت منها كلَّ شيء إلا الجماع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استغفر الله وتوضأ) وتلا (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات)) هود114،.
وأن الكامل الزاني بناقص محصن فالكامل المحصن إذا زنا بناقص فلا أثر لذلك لوجود المقصود وهو تغييب الحشفة حال الكمال والناقص كصغيرة أو أمة والبكر الحرّ حده مائة جلدة وتغريب عام لما روى مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عم والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). والبكر هو غير المحصن المكلف من رجل وامرأة. قال تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) النور2. والتغريب يكون إلى مسافة القصر فما فوقها لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر والمقصود بالتغريب الإيحاش بالبعد عن الأهل والوطن فقد غّرب عمر إلى الشام وعثمان إلى مصر وعليٌّ إلى البصرة وإذا عين الإمام جهة فليس له أي المُغَرَّبُ طلب غيرها في الأصح وله استصحاب زوجة ومال للنفقة وله استصحاب من يخاف عليهم من بعده ويحبس إن خيف إفساده للنساء أو الغلمان وكذا كلُّ من خيف منه الإفساد ولو كان غير زانٍ. فقد روى أبوداود عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟ قيل: يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع). وقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: (أخرجوهم من بيوتكم)). قال الحافظ بن حجر واستدل به علىأن المراد بالمخنثين المتشبهون بالنساء لا من يؤتى فإن ذلك حده الرجم ومن وجب رجمه لا يُنْفَى.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/107)
ويُغَرَّبُ غريبٌ من بلد الزنا إلى غير بلده فإن عاد إلى بلده هو مُنِعَ في الأصح لأن المقصود من التغريب الإيحاش ولا وحشة في تغريبه إلى بلده ولا تغرب امرأة زانية وحدها في الأصح بل مه زوج أو محرم لما روى مسلم من حديث ابن عمر (لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها).
وروى الشيخان بألفاظ متقابرة من حديث أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا معها أبوها أو أخوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها). ولو بأجرة طلبها منها فتلزمها فإن أعسرت ففي بيت المال فإن تعذر اُخِّرَ التغريب حتى تُوسِرَ كأمن الطريق. فإن امتنع أو الزوج أو المحرم حتى بالأجرة لم يجبر في الأصح لأن في إجباره تعذيب من لم يذنب وعلى هذا يؤخر تغريبها إلى أن يتيسر.
والعبد حده خمسون جلدة ويغرب نصف سنة قال تعالى: (فإن أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) النساء25. وفي قول يُغَرَّبُ العبد سنة لأن الأمر يتعلق بالطبع فلم يفرقوا بين العبد والحر كمدة العُنَّةِ ومدة الإيلاء وفي قول لا يغرب لأن في تغريبه تفويت حق السيد والرقيق لا أهل له فلا يستوحش بالتغريب.
ويثبت الزنا ببينة ويشترط في البينة التفصيل بذكر المزني بها وكيفية الإيلاج ومكانه ووقته كأن يقول الشاهد: أشهد أنه أدخل حشفته أو قدرها في فرج فلانة بمحل كذا وقت كذا على سبيل الزنا والبينة أربعة شهود لقوله تعالى: (فاستشهدوا عليهنَّ أربعة منكم) النساء15.
أو إقرار ولو مرة لأنه صلى الله عليه وسلم علق الرجم بمطلق الاعتراف فقج روى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأغدُ يا أُنيس –رجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت) ولم يذكروا تعدد الإقرار. وأما ما رواه الشيخان عن جابر وابن عباس أن ماعز بن مالك اعترف عند النبي أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: هل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجموه) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كرر الإقرار على ماعز لأنه شك في عقله فقد قال له: (أبك جنون؟). ولم يكرر في خبر الغامدية.
ولو أقر ثم رجع عن إقراره بالزنا سقط الحدُّ عنه لما روى أبوداود عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: لعلك قبلت أو غمزت؟ قال: لا) يعرض له بالرجوع عن الإقرار. ولما روى أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة (أنهم ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ماعزاً فرّ حين وجد مسَّ الحجارة ومسَّ الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه) ولو قال لا تحدوني أو هرب فلا يسقط عنه الحد في الأصح لأنه أقرَّ صراحة بالزنا ولم يقرَّ بالرجوع عن قوله أو لو رجع عن إقراره أو هرب لم يُطْلَب لأن ماعزاً لما هرب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه) قال ابن عبدالبر: وهذا أوضح دليل على أنه يُقْبَلُ رجوعه.
ولو شهد أربعة بزناها وأربعة نسوة شهدن أنها عذراء لم تُحَدَّ هي لشبهة بقاء العذرة ولا قاذفها لقيام البينة بزناها ولاحتمال عودة بكارتها لترك المبالغة في الإيلاج ولا يُحَدُّ الشهود أيضاً لقوله تعالى: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) البقرة282. ولما روى الترمذي وغيره عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ادرأوا الحدود بالشبهات) ولو عين شاهد من الأربعة زاوية لزناه والباقون منهم عينوا زاوية غيرها أو عين واحد زمناً والآخرون زمناً آخر لم يثبت زناها لعد تمام العدد في الشهود ويستوفيه أي الحد الإمام أو نائبه من زانٍ حرٍ ومبعضٍ لأنه لا ولاية للسيد على البعض الحرِّ منه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/108)
ويستحب عند استيفاء الحد حضور الإمام وحضور شهوده أي شهود الزنا. قال تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) النور2. وقد روى أبوداود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يَحْضُر ويَحدُّ الرقيقَ سيدُهُ أو الإمام فإن تنازعا فيمن يحده فاًلأصح الإمام لعموم ولايته. فقد روى أبوداود والنسائي والبيهقي من حديث علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم)) وروى الشيخان من حديث أبي هريرة (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها). وأن السيد يغربه كما يجلده لعموم الخبر (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) لأن التغريب من جملة الحد وأن المكاتب كحُرٍّ فلا يستوفي الحدّ إلا الإمام أو نائبه لخروج المكاتب عن قبضة السيد وأن الفاسق والكافر والمكاتب يَحُدُّون عبيدهم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم). وأن السيد يعزر ويسمع البينة بالعقوبة لأنه يملك إقامة الحد فملك سماع البينة به.
والرجم بمَدَرٍ وهو الطين المتحجر وحجارة معتدلة قيل هي التي تملأ الكف ولا يحفر للرجل عند إقامة الحد عليه بالرجم والأصح استحبابه للمرأة إن ثبت الحد ببينة إلى صدرها لئلا تنكشف فقد روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمه –أي رجم ماعز- فانطلقنا إلى أن وصلنا إلى بقيع الغرقد فما أوثقناه ولا حفرنا له ورميناه بالعظام والمدر والخزف).
وروى مسلم من حديث بُريد قال: (ثم أُمِرَ بها فحفر لهاإلى صدرها وأمر الناس فرجموها). ولا يؤخر الرجم لمرضٍ وحرٍ وبرد مفرطين لأن المراد من الرجم استيفاء الحد وهو النفس بكل حالٍ. وقيل يؤخر الرجم إن ثبت الزنا بإقرار لأن له سبيلاً إلى الرجوع عن الإقرار ويؤخر الجلد لمرض أو جُرحٍ يرجى برؤه أو لكونها حاملاً لأن مقصود الجلد الردع لا القتل.
فقد روى مسلم وغيره عن عمران بن الحصين (أن امرأة من جهينة إعترفت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا فقالت: أنا حُبلى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال: أحسن إليها فإذا وضعت فأخبرني) فإن لم يُرجَ برؤه جلد لا بسوط بل بهُثْكال عليه مائة غصن فإن كان خمسون ضُرِب به مرتين وتمسه أي المجلود الأغصان جميعها أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم لئلا تتعطل حكمة الجلد وهي الزجر فقد روى الدارقطني وعيره عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: (كان بين أبياتنا رجل مخدج ضعيف فلم يُرعَ إلى وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها فرَفَعَ شأنه سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اجلدوه مائة سوط) فقال: يا نبي الله هو أضعف من ذاك لو ضربناه مائة سوط لمات، قال صلى الله عليه وسلم: (فخذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه واحدة وخلوا سبيله)) فإن بَرَأ المجلود بعد أن ضرب بما ذكر أجرأه الضرب السابق ولا يعاد عليه الحدُّ ولا جلد في حرٍّ وبرد مفرطين ولا في مرض بل يؤخر إلى البُرْء واعتدال الوقت وإذا جلد الإمام في حرٍّ وبرد أو مرض فهلك المجلود فلا ضمان على النص لحصول التلف من واجب شرعي أقيم عليه فيقتضي هذا النص أن التأخير مستحب وقيل بل هو واجب فقد قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المريض لا يجلد حتى يصح.
والقتول حداً بالرجم أو غيره له حكم موتى المسلمين من غسل وتكفين وصلاة ودفن ومثله تارك الصلاة إذا قُتِلَ بتركها فقد روى مسلم من حديث بريدة (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالغامدية فرُجِمَتْ ثم صلى الله عليه وسلم عليها، فقال عمر: يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها؟ فقال: لقد تابت توبت لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى).
? كتاب القذف ?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/109)
القذف لغة الرمي وشرعاً: الزمي بالزنا في معرض التعبير لا الشهادة وهومن الكبائر، قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) النور4. وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله عز وجل والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات)). وأجمعت الأمة على تحريم قذف المحصنة والمحصن شرط حد القاذف التكليف فلا يحدُّ صبي ومجنون لرفع القلم عنهما إلا السكران فإنه يُحَدُّ والاختيار فلا يحدُّ مُكْرَه لرفع القلم عنه أيضاً ولأنه لم يقصد الأذى بقوله والدليل على حد القاذف ما روى أبوداود والترمذي عن عائشة أمِّ المؤمنين أنها قالت: (لمّا أنزل الله سبحانه عُذري صعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر الله تعالى وتلا –تعني آيات من كتاب الله تعالى- ثم نزل فأمر بأن يُجْلَد الرجلان والمرأة حدودهم) تعني: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.
ويعزر المميز للزجر والتأديب ولا يُحَدُّ الأصل بقذف الولد وإن سَفَلَ كما لا يقتل فيه لكنه يُعَزَرُ للإيذاء فالحرُّ القاذف حده ثمانون جلدة. قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) النور4. والرقيق حده أربعون جلدة ولو كان مكاتباً أو مبعضاً أو مدبراً لأن حده النصف من الحرفقد روى مالك في الموطأ من حديث عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: (أدركت عمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا أربعين سوطاً) والمقذوف الذي يُحَدُّ قاذفه شرطه الإحصان وسبق في كتاب اللعان ما يحصل به الإحصان. قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) النور4. فدل على أنه إذا قذف غير محصن لم يُجْلد والمحصن من الرجال والنساء من اجتمع فيه البلوغ والعقل والإسلام والحرية والعفة من الزنا ولو شهد في مجلس الحكم دون أربعة من الرجال بزنا رجل أو امرأة حُدُّوا في الأظهر لما روة البخاري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب حدَّ الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا وقيل لا حدَّ عليهم إذا جاءوا شاهدين لا هاتكين وكذا إذا شهد أربع نسوة وعبيد وكفرة حدّوا على المذهب لأنهم ليسوا من أهل الشهادة فلا يكون قصدهم إلا القذف وهتك الأعراض.
ولو شهد واحد على إقراره بالزنا فلا حدّ عليه لأنها شهادة على إقرار حتى ولو قصد من ذلك قذفه ولو تقاذفا فليس ذلك التقاذف تقاصاً بل لكل واحد منهما أن يَعُدَّ الآخر لأن شرط التقاص إنما يكون عند اتحاد الجنس والصفة وهو متعذر هنا لاختلاف القاذف والمقذوف في الخلقة والضعف والقوة فيختلف تأثير الحدِّ فيهما ولو استقل المقذوف بالاستيفاء للحدِّ من قاذفه ولو بإذنه لم يوقع الموقع لأن إقامة الحدود من منصف الإمام فيترك حتى يبرأ ثم يُحَدُّ إلا إذا بَعُدَ السلطان وقدر على الاستيفاء بنفسه من غير تجاوز فله أن يُحِدَّ قاذفه.
? كتاب قطع السرقة ?
ثبت القطع في السرقة في الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) المائدة38. وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مِجنٍّ قيمته ربع دينار) وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن عائشة أنها قالت: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه). وقال ابن هبيرة في الإفصاح: وأجمعوا على وجوب قطع السارق والسارقة في الجملة إذا جمع أوصافاً.
يشترط لوجوبه أي قطع السرقة في المسروق أمور الأول كونُهُ ربع دينار دينار خالصاً أو قيمته أي مقوماً به على أن الأصل في التقويم هو الذهب الخالص. قال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الذهب لأنه الأصل في حواهر الأرض كلها حتى قال: إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع. والدينار وزن مثقال فقد روى البخاري عن عائشة أنها قالت: (لم يُقْطَع السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من المحجن) وثمن المحجن عندهم ربع دينار وفي خبر مسلم (لا تُقْطَعُ اليد إلا في ربع دينار فما
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/110)
فوقه) على أن يكون خالص الذهب في المسروق ربع دينار والتقويم بالذهب المضروب خالصاً ولو سرق رُبُعاً سبيكة لا يساوي رُبُعاً مضروباً فلا قطع في الأصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب القطع في ربع دينار والدينار إنما يقع على المضروب أو ما يقوم مقامه. فقد روى الشافعي في المسند والبخاري ومسلم عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقطعوا السارق في ربع دينار فأما بدون ربع دينار فلا تقطعوه)). ولو سرق دنانير ظنها فلوساً لا تساوي في ظنه ربع دينار فبلغت رُبُعاً قُطِعَ لأنه قصد سرقة وبلغ المسروق ربع دينار ولا عبرة بالظن. وكذا ثوبٌ رثٌّ إذا سرقه وكان وفي جيبه تمام ربعٍ جهله السارق فإنه يقطع به في الأصح لأنه أخرج نصاباً من حرز على قصد السرقة ولو أخرج نصاباً من حرز مرتين وذلك بأن لم يكن نصاباً في المرة الأولى فتمَّ نصاباً في المرة الثانية فإن تخلل بين المرتين عِلْمُ المالك وإعادة الحرز بنحو إصلاح نقب وغلق باب فالإخراج الثاني سرقة أخرى ولا قطع لأن كل واحدة منفصلة عن الأخرى ولم تبلغ نصاباً وإلا أي وإن لم يتخلل علم المالك أو تخلل ولم يُعِدِ الحرزَ قُطِعَ في الأصح لأنه أخذ النصاب من حرز هتكه بنفسه والحرز باقٍ بالنسبة إليه وقيل إن علم المالك بالحال ولم يُعِدِ الحرز فلا قطع قطعاً لأن المالك مضيع لحقه وقيل إن كانت السرقتان في ليلة واحدة قطع وإن كانت الثانية في غير ليلة الأولى فلا قطع. ولو نقب شخصٌ وعاء حِنْطةٍ ونحوها كوعاء زيت أو سمن فانصبَّ نصابٌ أي انصب منه شيء قيمته ربع دينار قطع به في الأصح لما فيه من هتك الحرز وتفويت المال فَعُدَّ الفاعل سارقاً والثاني لا يقطع لأنه متسبب فقط والسبب ضعيف لا يقطع به.
ولو اشتركا في إخراج نصابين قُطِعا لأن كلاً منهما سرق نصاباً من حرز وإلا أي وإذا كان المخرج دون النصابين فلا قطع على واحد منهما توزيعاً للمسروق بينهما بالسوية ولو سرق خمراً وخنزيراًً وكلباً وجلد ميتة بلا دبغ فلا قطع به على الصحيح لأن جميع ما ذكر ليس بمال فإن بلغ إناء الخمر نصاباً ولم يقصد بإخراجه من الحرز إراقتها وكان دخوله بقصد سرقتها قطع بالإناء على الصحيح لأنه أخذه من حرزه ولا شبهة له فيه كما لو سرق إناء من نجاسة فإنه يقطع باتفاق. وقيل الخمر في اٌناء شبهة في دفع الحدِّ عنه عنه لأنه واجب الإراقة ولا قطع في طُنْبور ونحوه كمزمار وغيره من آلات اللهو ومثل الطنبور كل آلة معصية كالصليب والكتاب الذي ينشر الباطل المحرم ويصور المنكر ويذيع الفساد وقيل إذا بلغ مُكسَّرُهُ أي إذا نُقِضَ تأليفه وصار خشباً أو معدناً يستعمل في أشياء مباحة وبلغت قيمته نصاباً قُطِعَ لأنه سرق ما يساوي ربع دينار من حرزه قلت: هذا الثاني أصح والله أعلم لسرقته نصاباً من حرزه ولا شبهة له فيه ولو كانت لذمي قطع قطعاً الثاني من شروط المسروق كونه ملكاً لغيره فلا قطع بماله فيه ملك كسرقة ماله الذي في يد غيره وإن كان مرهوناً أو مؤجراً ولا يقطع فقر في مال موصى به للفقراء لأن له فيه حقاً فهو كسرقة المال المشترك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات). وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر (أنه أوتي برجل سرق من بيت المال فكتب إليه بعض عماله بذلك فقال: خلُّوه لا قطع عليه ما من مسلم إلا وله حق في بيت المال). فلو ملكه بإرث وغيره قبل إخراجه من الحرز فلا قطع لأنه ملكه وكذلك بعد إخراجه من الحرز وقبل الرفع للحاكم لأن القطع إنما يتوقف على الدعوى أو نقص فيه أي الحرز عن نصاب بأكل لبعضه وغيره أي وغير الأكل كالإحراق والتضمخ بالطيب والاغتسال بالصابون وشرب الدواء لأن ذلك يعتبر تلفاً له في الحرز وكذا إن ادعى مِلْكَهُ على النص أي إن ادعى ملك المسروق أو بعضه لاحتمال صدقه فصار ذلك شبهة دارئة للحدِّ أما بالنسبة للمال فلا يقبل قوله فيه بل لابد من بينة أو يمين مردودة ولو ادعى المسروق منه أن المال للسارق فلا قطع حتى ولو كذبه السارق ولو أقرَّ بسرقة مال شخص فأنكر المُقرُّ له ولم يدعه قُطِعَ لأن الثبوت بالإقرار كالثبوت بالبينة ولو سرقا أي سرق اثنان مالاً بقدر نصابين فأكثر وادعاه أي ادعى المسروق أحدهما له أولهما فكذبه الآخر لم يقطع المُدَّعي لاحتمال صدقه وقطع الآخر في الأصح لأنه قد أقرّ بسرقة نصاب من حرز لا شبهة له
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/111)
فيه.
وإن سرق من حرز شريكه مالاً مشتركاً بينهما فلا قطع في الأظهر وإن قلَّ نصيبه لأن له شبهة في كل جزء منه ولأن المال المشترك لا يُحْرَزُ عن الشريك الثالث من شروط المسروق عدم شبهة فيه لما روى الترمذي وغيره بسند صحيح عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)) وفي رواية عن المسلمين.
فلا قطع بسرقة مال أصل وفرع فإن سرق الوالد من مال ولده وإن سفل من قِبَلِ البنين أو البنات لم يجب عليه القطع وكذلك إن سرق الولد من مال أحد آبائه أو أمهاته وإن علوا لم يجب القطع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) فالأب له شبهة في مال ولده وللابن شبهة في مال الوالد ويستأنس لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه). وسيد إن سرق العبد من مال سيده لم يقطع لأن له شبهة في مال سيده لاستحقاقه النفقة في مال سيده. فقد روى الدارقطنيعن السائب بن يزيد أنه قال: (شهدت عبدالله بن عمرو الخضرمي أتى عمر رضي الله عنه بغلام له فقال: اقطعه فإنه سرق، فقال: ما الذي سرق؟ قال: مرآة لامرأتي قيمتها ستون درهماً، فقال عمر: أرسِلْهُ فلا قطع عليه خادمكم سَرَقَ مالكم). والأظهر قطع أحد الزوجين بالآخر لأن النكاح عقد على المنفعة فلا يُسْقِطْ القطع في السرقة كالإجارة لا يسقط ابها الحد عن الأجير والثاني أنه لا يقطع لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر على الزوجة ويمنعها من التصرف على قول بعض أهل العلم فصار ذلك شبهة.
ومن سرق مال بيت المال إن فُرِزَ لطائفة ليس هو منهم قُطِعَ إذ لا شبهة له في ذلك وإلا بأن لم يفرز لطائفة فالأصح أنه إذا كان له حقٌ في المسروق كمال مصالح وكصدقة وهو فقير فلا يقطع للشبهة قال عمر: (ما مِنْ مسلم إلا وله في بيت المال حقٌّ). وإلا أي وإن لم يكن له فيه حقٌّ قُطِعَ لانتفاء الشبهة كأن كان المال موقوفاً على الفقراء والسارق غني فإنه يقطع في السرقة.
والمذهب قطعه بباب مسجد وجذعه وسواربه وسقوفة لانتفاء الشبهة لا حُصْرِهِ وقناديل تُسْرَج فيه لأنه مُعَدٌّ لانتفاع المسلمين فكان كمال بيت المال ويقطع فيه الذمي قطعاً لأنه لا حق له في الانتفاع فيه.
والأصح قطعه بموقوف على غيره أما إذا كان المال موقوفاً على الناس فلا قطع لأنه من الناس والأصح أنه يقطع بسرقة أمِّ ولدٍ سرقها نائمة أو مجنونة أو عمياء أو أعجمية لا تميز بين وجوب طاعة سيدها وغيره لأنها مضمونة بالقيمة كالقنِّ الرابع من شروط المسروق كونه محرزاً بالإجماع فقد روى أحمد في المسند والبيهقي في السنن وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من مُزينة فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: (ليس في شيء من الماشية قطع إلا ما آواه المَرَاحُ وليس في شيء من التمر المعلق قطع إلا ما آراه الجرَين)) فدل على أن الحرز شرط في إيجاب القطع وحريسة الجبل أي التي ترعى في الجبل والمحترس هو السارق أصلاً والمَرَاح هو المكان الذي تبيت فيه الماشية. والجرين: موضع يجفف فيه التمر وهو الجرن أيضاً ويسمى أيضاً المِرْبد والبيدر. بملاحظةٍ أو حصانةِ موضعه أي ملاحظة المسروق أو حصانة موضع والمحكّمُ في الحرز العرف ويختلف باختلاف الأموال والأحوال والأوقات فإن كان المسروق بصحراء أو مسجد اشتُرط دوام لحاظ أي دوام مراقبة إلا في فترات عارضة فلو تغفله وأخذ في تلك الفترة قُطِعَ. وإن كان بحصنٍ كفر لحاظ معتاد أي إذا كان المسروق في مكان محصن كدار وحانوت كفر لحاظمعتاد وكم يشترط دوام اللحاظ وإصطبلٌ وهو بيت الخيل وغيرها حرز دواب وإن كانت نفسية لأنه صلى الله عليه وسلم جعل حرز الماشية المَرَاح وكذلك الإصطبل واشترطوا كون الإصطبل متصلاً بالدور حتى يكون حرزاً أما إذا كان منفصلاً عن الدور فلابد من اللحاظ الدائم لا آنية وثياب ولو زهيدة الثمن لأن حرز الماشية يختلف عن حرز الثياب ولأن إخراج الماشية يَبْعُدُ الإجتراء عليه بخلاف الثياب.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/112)
وعَرْصَةُ دار أي صحن الدار وَصُفَّتُها حِرْزُ آنية وثياب بِذْلة لا حُلِيٍّ ولا نقدٍ وأوان وثياب نفيسة فليست العرصة والصُفَّة حرزاً لها إنما حرزها البيوت المحصنة ولو نام بصحراء أو مسجد على ثوب أو عمامة أو مداسٍ أو توسّدَ أي وضع تحت رأسه متاعاً أو إتكأ عليه فمحرزٌ فيقطع السارق به فقد روى مالك والشافعي واللفظ له وأصحاب السنن من طرق عن صفوان بن أمية (أنه نام في المسجد فتوسَّدَ رداءه فجاء سارق فأخذه من تحت رأسه فأخذ صفوان السارق وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده. فقال صفوان: إني لم أُرد هذا وهو عليه صدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا كان قبل أن تأتينيَ به). واشترطوا في التوسد بكيس النقد أو الجوهر أن يشده بوسطه والتوسد مفرداً ليس حرزاً له. فلو انقلب صاحب المال في نومه فزال عنه الثوب فلا يكن الثوب في هذه الحالة محرزاً فلا يقطع سارقه وثوبٌ ومتاعٌ ووضعه بقربه بصحراء إن لاحظه مُحْرَزٌ إذا دام لحاظُهُ له أما إذا وضعه بعيداً عنه بحيث لا ينسب إليه فإنه مضيع له ومثل الصحراء المسجد والشارع وإلا يلاحظه كأن نام عنه أو ولاه ظهره أو ذهل عنه فلا إحراز. وإن كان عنده متجر فأذن للناس في دخوله للشراء فمن دخل مشترياً وسرق لم يقطع ومن دخل قاصداً السرقة فسرق قُطِعَ وإن لم يأذن لأحد في الدخول قطع كل من دخل وسرق وشرط المُلاحِظِ قدرته على منع سارق بقوة أو استغاثة فإن كان الملاحظ ضعيفاً لا يبالي به السارق والموضع بعيداً عن الغوث فليس بحرز ودار منفصلة عن العمارة إن كان بها ملاحظ قوي يقظان حرزٌ لما فيها من متاع مع فتح الباب وإغلاقه لاقتضاء العرف ذلك وإلا أي وإن لم يكن بها أحدٌ أو كان بها ضعيف وهو بعيد عن الغوث أو بها قوي لكنه نائم فلا أي فليست حرزاً مع فتح الباب وإغلاقه والمعتمد أنه لو كان بها نائم وكان الباب مغلقاً أو كان طرف الباب مفتوحاً والنائم خلفه بحيث لو فُتِحَ الباب أصابه فأيقظه كانت الدار حرزاً ومتصلة أي دار متصلة بالعمران حرزٌ مع إغلاقه أي إغلاق الباب وحافظ ولو هو نائم ليلاً أو نهاراً ومع فتحِهِ أي الباب ونومه أي الحافظ فالدار غير حرز ليلاً بلا خلاف وكذا نهاراً ف الأصح وقيل هي حرزٌ لأن الجيران يرونها ويراقبونها وكذا يقظان تغفّله سارق في الأصح أي في دار فسرق فإنها في ذلك غير حرز لتقصيره في المراقبة مع فتح الباب وقيل هي حرز اعتماداً على نظر الجيران ومراقبتهم فإن خلت الدار المتصلة عن حافظ بها فالمذهب أنها حرزٌ نهاراً زمن أمن وإغلاقه أي الباب ما لم يوضع مفتاحه بمكان ظاهر فإنه في ذلك يكون مضيعاً له فإن نُقِدَ شرطٌ مما ذكر بأن كان الباب مفتوحاً أو الزمن زمن خوفٍ أو الوقت ليلاً فلا تكون هذه الدار حينئذ حرزاً. وخيمة بصحراء إن لم تُشَدَّ أطنابها أي حبالها التي تشد الأوتاد كثبيت الخيمة ونحوها وتُرْخَىَ أذيالها أي أطراف الخيمة فهي وما فيها كمتاع بصحراء فيشترط في كون ذلك حرزاً دوام لحاظ من قوي لأن العادة لم تجرِ بأن الخيمة تضرب في الصحراء ولا يكون فيها أحدٌ وإلا أي إذا شدّت أطنابها وأرخيت أذيالها فهي حرز لما فيها بشرط حافظ قوي فيها أو على بابها ولو نائمٌ فيها أو على بابها وماشية بأبنية مغلقة متصلة بالعمارة محرزة ولو بلا حافظ وإذا دَخَلَ رجلٌ مَرَاحاً لغنم فحلب من الألبانها أو أخذ من أصوافها ما يساوي نصاباً قُطِعَ لأن حرز الغنم حرز لما فيها من لبن وما عليها من الصوف وببرية يشترط في إحراز الماشية إلى جانب الأبنية المغلقة خافظٌ قوي أو ضعيف يُهتَمُ لأمره وَيُبالى به ولو نائم فإن كان الباب مفتوحاً اشترط حافظ مستيقظ.
وإبل بصحراء محرزة بحافظ يراها ويبلغها صوته فإن كان الحافظ ضعيفاً لم يُبَالِ به السارق ولا يلحقه غوث فكالعدم وإبلٌ وخيلٌ ونحوها بصحراء محرزة بحافظ يراها أي ينظر إليها فإن كان لا ينظر إليها ولكنها معقولة أو معها حافظ ينظر إليها فهي محرزةٌ سواءٌ كان مستيقظاً أو مشتغلاً عنها أو نائماً لأن العادة جرت أن الرعاة والمسافرين إذا أرادوا النوم عقلوا إبلهم وناموا بقربها أو كانت معقلة ولا حافظ معها فهي غير محرزة فلا يقطع سارقها لأن العادة لم تجرِ بإحرازها هكذا ومقطورةٌ يقودها قائد وهي سائرة يُشْتَرَطُ التفات قائدها إليها كلَّ ساعة بحيث لا يراها جميعها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/113)
وراكبٌ أولها كقائدها فإن لم يرَ بعضها لحائل فهو غير مُحْرَزٍ وأن لا يزيد قطار على تسعة لأن هذا العرف في القطار فإن زاد القطار على ذلك كان القطار غير مُحْرَزٍ وغير مقطورة غير محرزة في الأصح بأن تساق لأن الإبل لا تسير هكذا غالباً والثاني هي محرزة بسائقها الذي يراها كالمقطورة وهو أولى الوجهين وَكَفَنٌ في قبر ببيت مُحْرَزٍ مُحْرَزٌ فيقطع سارقه وإن كان القبر في موضع بعيد عن العمران مثل مفازة لا يحتاج السارق في السرقة إلى انتهاز الفرصة لم يُقْطَع وكذا بمقبرة بطرف العمارة فيكون محرزاً فيقطع سارق الكفن في الأصح لأن القبر في المقابر حرز في العادة كما أن البيت المغلق في العمران حرزٌ وإن لم يكن فيه أحد لا كفن في قبر بمضيعةٍ فلا يكون محرزاً في الأصح إذ لا حظر في أخذه ولا يحتاج إلى انتهاز فرصة وإنما يُدْفَنُ في البرية للضرورة.
? فصل في فروع تتعلق السرقة ?
يُقْطَعُ مُؤَجِّر الحرز وكذا يقطع معيره في الأصح لأنه سرق نصاباً لا شبهة فيه من حِرز مثله فوجب عليه القطع كما لو سرقه من بيت صاحب المال وقيل المُعِيرُ لا يقطع إذا نقب المُعار وسرق منه نصاباً لأن له الرجوع في عاريته متى شاء فإن نقب البيت فقد رجع في عاريته ولو غصب حرزاً لم يقطع مالكُهُ بسرقة ما أحرزه الغاصب فقد روى أبوداود وغيره عن سعيد بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لِعِرْقِ ظالم حق)) وكذا أجنبي لا يقطع بسرقته منه في الأصح لأن الحرز منفعة والغاصب لا يستحق هذه المنفعة والثاني يقطع لأنه لا حق له في المسروق بخلاف المالك فإنه إنما هتك الحرز لأخذ ماله ولو غصب مالاً وأحرزه بحرزٍ فسرق المالك منه مال الغاصب أو سرق أجنبي منه المال المغصوب أو المسروق فلا قطع على واحد منهما في الأصح أما المالك فإن له هتك الحرز وأخذ ماله منه وأما الأجنبي فإنه قد هتك حرزاً لم يوضع برضا المالك ومثل غصب المال في جميع ما ذُكِرَ سرقته.
ولا يقطع مختلس وهو الذي يأخذ المال مع معاينة المالك ويهرب ومنتهب لا يقطع أيضاً وهو مَنْ يأخذ المال مع معاينة المالك ويعتمد في ذلك على القوة والغلبة وجاحدُ وديعة لا يقطع أيضاً وكذلك جاحد العارية لا يقطع والفرق بين هؤلاء وبين السارق أن السارق يأخذ المال خفية ولا يتأتى منعه فشرع القطع شرعاً أما هؤلاء فيدفعان بالسلطان العادل القائم بالحق إن وجد فقد روى أحمد والترمذي وغيرهما عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المختلس ولا على المنتهب ولا على الخائن قطع)) قال الترمذي هو حديث حسن صحيح. ولو نقب وعاد في ليلة أخرى قبل إعادة الحرز ولم يكن سرق في الليلة الأولى فسرق في الليلة الثانية قطع في الأصح كما لو نقب في أول الليل وسرق في آخره قلتُ: هذا إذا لم يعلم المالك النقب ولم يظهر أي لم يعرف ويشتهر للطارقين لخفائه عليهم وإلا بأن عُلِمَ أو اشتهر لهم فلا يقطع قعطاً والله أعلم لأنه لم يسرق من حرز ولو نقب واحدٌ وأخرج غيره فلا قطع على واحد منهما لأن الأول لم يسرق والثاني أخذ من غير حرز ويجب والحالة هذه على الأول ضمان الجدار وعلى الثاني ضمان المأخوذ. ولو تعاونا بالنقب وانفرد أحدهما بالإخراج لنصاب فأكثر أو وضعه ناقب أي أحدهما بقرب النقب فأخرجه وكان نصاباً فأكثر قطع المخرج في الصورتين لأنه السارق ولو وضعه بوسط نَقْبِهِ أراد بوسط النقب موضع النقب فأخذه خارج أي أخذه آخر وكان خارج الحرز لم يقطعا في الأظهر لأنهما لم يخرجاه من تمام الحرز والثاني يقطعان لاشتراكهما في النقب والإخراج. ولو رماه إلى خارج حرزٍ أو وضعه بماءٍ جارٍ فخرج به الماء الجاري من الحرز أو وضعه على ظهر دابة سائرة فخرجت به من الحرز أو عرضه لريح هابّة فأخرجته من الحرز قُطِع في هذه الصور كلها لأنه أخرجه من الحرز بفعله أو وضعه على ظهر دابة واقفة فمشت بوضعه حتى خرجت من الحرز فلا يقطع في الأصح لأن لها اختياراً في السير ولا يُضْمَنُ حرٌّ بيدٍ ولا يُقْطَعُ سارقه لأنه ليس بمال وأما خبر الدارقطني عن عائشة (أنه صلى الله عليه وسلم أُتيَ برجل يسرق الصبيان ثم يخرج بهم فيتبعهم في أرض أخرى فأمر به فقطعت يده) فالخبر ضعيق وعلى تقدير صحته فهو محمول على أنه كان يسرق الأرقاء. وحكمهم أنه من سرق من حرز رقيقاً غير مميز لصغر أو حنون أو عجمة قطع فيه كسائر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/114)
الأموال.
ولو سرق حراً صغيراً لا يميز أو مجنوناً أو أعجمياً بقلادة أي عليه قلادة أو حل ييليق به ويبلغ نصاباً أو معه مالٌ يبلغ نصاباً فكذا لا يقطع لأن الصبي حرز فيده ثابتة على ما معه من الحلي. ولو نام عبدٌ على بعير فجاء سارق فقاده وأخرجه عن القافلة قُطِع لأنه كان محرزاً بالقافلة فأخرجه من حرزه إلى مضيعة. أو نام حرٌّ على بعير فقاده وأخرجه فلا قطع في الأصح لأن البعير من حرزه وهو القافلة أما إذا رماه بعد الخروج من القافلة فلا قطع لأنه أخذ البعير من غير حرز. ولو نقل من بيت مغلق إلى صحن دار فيها ذلك البيت بابها مفتوح بفعل غيره قُطِعَ لأنه أخرجه من حرزه إلى محل الضياع وإلا بأن كان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مغلقاًً أو كانا مفتوحين ولا حافظ فلا قطع لأنه في الأولى لم يخرج من حرز وفي الثانية المال غير محرز وقيل إن كانا مغلقين قُطِعَ أي باب البيت وباب الدار مغلقين قطع لأنه أخرجه من حرزه والأصح أنه إذا كان الصحن محرزاً لم يقطع وإن لم يكن حرزاً قُطِعَ. وبيت في خان ورباط ومدرسة وكل ما تعدد ساكنو بيوته وصحنه في الحكم كبيت وصحن دار لواحد في الأصح فيقطع إن أخرج من البيوت إلى صحن الخان لأن الصحن ليس حرزاً.
? فصل في شروط السارق الذي يقطع ?
وشروط السارق: تكليف واختيار وعدم الشبهة والتزام الأحكام وعلم تحريم السرقة لا يقطع صبي ولا مجنون ومُكْرَه لرفع القلم عنهم فقد روى أبوداود وغيره عم عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) وقال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) المائدة38.
وأخرج عبدالرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة في مصنفه غن ابن أبي مُليكة وسليمان بن يسار (أن عمر بن الخطاب أُتي بغلام قد سرق فقال: اشبروه، فكان ستة أشبار إلا أنملة واحدة فلم يقطعه فسماة نُميلة). وفعل مثل ذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولا مخالف لهم في الصحابة فكان ذلك إجماعاً.
ويقطع مسم وذمي بمال مسلم وذمي لأن الذمي معصوم بذمته وقيل لا يقطع المسلم بمال الذمي قياساً على أنه لا يقتل به وأما قطع الذمي فلأنه التزم الأحكام بعقد الذمة سواء أرضي بحكمنا أو لا.
وفي مُعَاهَدٍ أي إذا سرق أقوال أحسنهاإن شُرِطَ عليع عند المعاهدة أو الأمان قطعه بسرقة لمال المسلم قُطِعَ وإلا فلا قطع إن لم يشرط عليه. قلت: الأظهر عند الجمهور لا قطع مطلقاً والله أعلم لأنه غير ملتزم للأحكام فأشبه الحربي ولكن يطالب قطعاً بردِّ ما سرقه ولا يقطع مسلم أو ذمي بسرقتهما ماله وتثبت السرقة بيمين المدّعي المردودة فإذا ادعى عليه سرقة توجب القطع فأنكر وحلف فلا شيء عليه وإن نكل ردت اليمين على المدّعي فإن حلف وجب المال والقطع لأن اليمين الردودة كالإقرار والبينة وهذا قول مرجوح لأن القطع حق لله تعالى فلا يثبت باليمين المردودة في الأصح والمعتمد الذي في الأم والمختصر وقول جمهور الأصحاب أنه لا يثبت القطع إلا بشاهدين أو إقرار السارق. أما المال فيثبت باليمين المردودة قطعاً. أو بإقرار السارق مؤاخذة له بقوله بعد الدعوى عليه أما إقراره قبل الدعوى عليه فلا يقطع به حتى يدعى المالك لأن القطع حدٌّ والحدُّ يسقط الشبهة. والمذهب قبول رجوعه عن الإقرار بالسرقة كالزنا لكن بالنسبة للقطع فقط دون المال ومن أقر بعقوبة لله تعالى أي أقرّ بما يوجب عقوبة كالسرقة والزنا فالصحيح أن للقاضي أي يستحب للقاضي أن يعرِّض له بالرجوع عن إقراره فيقول له لعلك قلت ذلك وأنت غاضب أو لعلك أخذت من غير حرز أو لعلك أخذت منه هدية أو لعلك أخذتها بسيف الحياء فقد روى الدارقطني وأبوداود من طرق عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت، قال: بلى سرقت، فأمر به فقطع) وروى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز لمّا أقرّ بالزنا: لعلك قبلت لعلك لمست) ولا يقول ارجع عنه أو احجده لأن ذلك أمر بالكذب وله أن يعرّضَ للشهود بالتوقف في حدٍّ لله تعالى إن رأى المصلحة في الستر وإلا فلا يجوز له التعريض ولا لهم التوقف إن ترتب على ذلك ضياع المسروق أو حدِّ الغير. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة (أن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/115)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)).
ولو أقرَّ بلا دعوى أنه سرق مال زيد الغائب لم يقطع في الحال بل يُنْتَظَرُ حضوره أي حضور زيد في الأصح لاحتمال أن يقرَّ أنه أباحه له أو يقرَّ بأن المال المسروق للسارق فيسقط الحدُّ وإن كذبه السارق للشبهة وقيل يقطع في الحال كمن أقرَّ بالزنا والفرق أن الفروج لا تباح بالإباحة بخلاف الأموال. أو أنه أكره أمة غائب على زنا حُدَّ في الحال ولم ينتظر حضور الغائب في الأصح لأن حدَّ الزنا لا يتوقف على الطلب.
وتثبت السرقة الموجبة للقطع بشهادة رجلين كسائر العقوبات غير الزنا قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة282. فلو شهد رجل وامرأتان بسرقة أو أقام المدَّعي شاهداً بالسرقة وحلف المدَّعي مع الشاهد ثبت المال ولا قطع على السارق فشهادة الرجل مع المرأتين تثبت المال ولا تثبت الحدَّ. ويُشْترطُ ذكر الشاهد بالسرقة شروط السرقة فلا تقبل شهادة مطلقة فيشترط بيان السارق بالإشارة إليه إن كان حاضراً أو ذكر اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائباً ويشترط أن يبين المسروق والمسروق منه وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته ولو اختلف شاهدان كقوله أي قول أحدهما سرق بكرة والآخر قال سرق عشية فباطلة هذه الشهادة ولا قطع وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما فيثبت له المال على المتهم وعلى السارق ردُّ ما سرق إن كان باقياً لما روى أبوداود عن سمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديَهُ)). فإن تلف ضمنه ببدله جبراً لما فات بمثله في المثلي وأقصى قيمة في المتقوم وتقطع يمينه إجماعاً لأن البطش بها أقوى فكان البداءة بها أردع قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة38. وروى البغوي من حديث الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق فقطع يمينه). لإإن سرق ثانياً بعد قطعها فرجله اليسرى تقطع إن برئت يده اليمنى وإلا أخرت للبُرْء فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: إن سَرَقَ فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سَرَقَ فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله)، ورواه الشافعي عن أبي هريرة مرفوعاً. وثالثاً يده اليسرى وخامساً رله اليمنى ولا يقطع عضو إلا بعد اندمال ما قبله لئلا تفضي الموالاة إلى الهلاك أما في الحرابة فيقطعان معاً لأنهما حدٌّ واحد. وبعد ذلك أي بعد قطع اليدين والرجلين إذا سرق يُعزّر ولا يقتل لأن القطع ثبت بالكتاب والسنة ولم يثبت بعد ذلك شيء آخر ويغمس مكان القطع بزيت أو دهن مُغلى فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ برجل أقرَّ أنه سرق شملة، فقال: (اقطعوه واحسموه)) والحسم لسدِّ أفواه العروق لينقطع الدم وقيل هو أي الحسم تتمة للحد فيلزم الإمام فعله لأن فيه مزيدَ إيلام والأصح أنه حق للمقطوع لأنه تداوٍ يدفع هلاك المقطوع بنزف الدم وعلى هذا فلا يجبر على فعله فمؤنته عليه أي على السارق إلا إذا نصب الإمام من يقيم الحدود ورزقه من مال المصالح. وللإمام إهماله أي الحسم إذا لم يؤدِ إهماله إلى هلاك المقطوع وتقطع اليد من الكوع أي من مفصل الكف فقد روى البيهقي عن عمر (أنه كان يقطع السارق من المفصل) وروى أبو الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبابكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون السارق من المفصل). والرجل من مفصل القدم إتباعاً لعمر كما رواه ابن المنذر ومن سرق مراراً مرتين فأكثر بلا قطع كفتْ يمينه أي قطع يمينه عن جميع المرار لاتحاد السبب كما لو زنى أو شرب مراراً كفاه حدٌّ واحد لأن الحق لله تعالى ولا حقّ فيها لآدمي وإن نقضت يده أربع أصابع أجرأت في الحدِّ قلت وكذا تجزيء ولو ذهبت الأصابع الخمس منها والله أعلم لإطلاق اسم اليد عليها حينئذ مع وجود الزجر بما حصل من الإيلام والتنكيل وتقطع يدٌ زائدة أصبعاً في الأصح لإطلاق الآية اسم اليد واسم اليد يتناول ماعليه خمس أو أكثر.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/116)
ولو سرق فسقطت يمينه بآفة كمرض أو ظلماً أو قصاصاً أو شلت وخشي من قطعها نزف الدم سقط القطع ولم تقطع رجله لتعلق الحق بعينها فسقط الحق بفواتها أو سقطت يساره بآفة فلا يسقط القطع على المذهب لبقاء محل القطع أما إذا قطع الجلاد اليسار أو أخرج السارق اليسار ظناً منه أنها يمينه أو أن قطعها يجزيء عن اليمين أجزأت لوجود القطع والإيلام بعلةالسرقة.
? باب قاطع الطريق ?
سُميَ بذلك لمنعه الناس من المرور أو لامنتاع الناس من سلوك الطريق خوفاً منه لأنه يأخذ المال أو يقتل أو يرهب الناس اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث والأصل فيه قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً) المائدة33، إن جمهور الفقهاء على أنها نزلت في قاطع الطريق لا في الكفار بدليل قوله تعالى: (إلا الذيت تابوا من قبل أت تقدروا عليهم) المائدة34.
هو أي قاطع الطريق مسلم مكلف له شوكة ولو امرأة والشوكة هي القوة والقدرة ولو واحداً يغلب جمعاً أو يساويهم وقد تعرض للنفس أو البُضعِ أو المال مجاهرة مع البعد عن الغوث لا مختلسون يتعرضون لآخر القافلة مثلاً ويعتمدون الهرب لانتفاء الشوكة والذين يغلبون شرذمة أي طائفة من الناس بقوتهم لو قاموهم فهم قطاع في حقهم لاعتمادهم الشوكة بالنسبة إلى الجماعة اليسيرة حتى ولو هربوا منهم وتركوا الأموال لعلمهم بعجز أنفسهم عن مقاومتهم لا لقافلة عظيمة إذ لا قوة لهم بالنسة إليهم فلو وجدت الشوكة بالنسبة لجمع يقاومونهم لكانوا استسلموا لهم حتى أخذوهم لم يكونوا قطاعاً فلم يصدر فعلم عن شوكتهم بل عن تفريط الآخرين وحيث يلحق غوث يمنع شوكتهم لو استغاثوا فليسوا بقطاع بل منتهبون وفقد الغوث يكون للبعد عن العمران وعساكر السلطان أو للقرب ولكن لضعف في السلطان وقد يغلبون أي ذوو الشوكة والحالة هذه أي مع ضعف السلطان أو بعده في بلد لعدم وجود من يقاومهم فيها فهم قطاع رغم أنهم لم يخرجوا من البلد ولأنهم إذا وجب عليهم الحد في الصحراء وهو موضع الخوف فلأن يجب في البلد وهو موضع الأمن أولى ولو علم الإمام قوماً يخيفون الطريق أي يخيفون المارين فيها ولم يأخذوا مالاً ولا نفساً عزرهم بحبس وغيره لارتكابهم معصية فلابد من ردعهم فقد روى البيهقي عن ابن عباس أنه قال: (وإذا حارب وأخاف السبيل فإنما عليه النفي) والحبس هو تفسير النفي بالآية والحبس في غير موضعهم أولى لأ، ه أحوط وأبلغ في الزجر وإذا أخذ القاطع نصاب السرقة قطع يده اليمنى ورجله اليسرى دفعة أو على الولاء لأنه حد واحد فقد أخرج الشافعي في ترتيب المسند عن ابن عابس أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتِّلوا وصلِّبوا وإذا لم يأخذوا المال قُتِّلوا ولم يُصلَّبوا وإن أخذوا المال ولم يَقْتُلوا قُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً ينفيهم --أي الإمام- وإذا هربوا يطلبُهُم حتى يُؤخَذُوا فتقام عليهم الحدود). ولا يقول ابن عباس هذا إلا توقيفاً وإن قاله تفسيراً فهو ترجمان القرآن وأعرف بالتأويل. فإن عاد بعد قطعهما إلى الحرابة وأخذ المال فيسراه ويمناه تقطعان للآية (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة33. وإن قتل قُتِلَ حتماً فيجب قتله قَوداً لوليِّ المقتول ويتحتم قتله لحق الله تعالى. قال تعالى: (ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل) الإسراء33. وقال تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا) المائدة33.
وإن قَتَلَ وأخذ مالاً نصاباً فأكثر قُتِلَ ثم صلب حتماً زيادة في التنكيل ثلاثاً أي يُصْلَب ثلاثاً من الأيام وقيل يبقى حتى يسيل صديده والغرض من صلبه بعد قتله التنكيل به وزجر غيره والأول أصح لأن المقصود النكال والزجر يحصل بالثلاثة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن تعذيب الحيوان) رواه البخاري عن أبي هريرة وهذا من الحيوان وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) رواه البخاري عن شداد بن أوس. وفي قول يصلب حياً قليلاً ثم ينزل فيقتل لأن الصلب عقوبة فيفعل به حياً لينزجر من يراه عن فعله وبعد قتله يغسل ويكفن ويصلى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/117)
عليه ومن أعانهم وكثر جمعهم ولم يأخذ مالاً ولا قتل نفساً عُزِّرَ بجبس وتغريب وغيرهما أي بواحد منهما وذلك برأي الإمام فلا يجب حدُّ قطع الطريق إلا على من باشر أخذ المال القتل فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زناً بعد إحصان أو قتل بغير حق) رواه الشيخان عن ابن مسعود وهذا لم يفعل أحد هذه الأشياء. وقيل يتعين التغريب حيث يراه الإمام مكاناً منعه العدول إلى غيره وقيل للإمام أن يأمر بحبسه وضربه مع الغريب إن رأى ذلك وقتل القاطع يغلب فيه معنى القصاص لأنه حق آدمي وفي قول يغلب فيه معنى الحدِّ فهو حق لله تعالى ولا يصح العفو فيه ويستوفيه الإمام من دون طلب الولي فعلى الأول لا يقتل والدٌ بولده الذي قتل في قطع الطريق ولا يُقْتَلُ بقتل ذمي لعدم الكفاءة بل تلزمه الدية ولو مات القاتل بلا قتل فدية للمقتول من ماله إن كان حراً وقيمته إن كان عبداً ولو قتل جمعاً معاً قُتِلَ بواحد منهم وللباقين الديات أما إذا قتلهم مرتباً فيقتل الأول ولو عفا وليه أي المقتول بمال وجب المال وسقط القصاص ويقتل بعد ذلك حداً كما لو ارتدَّ شخص فقتل فعفا ولي المقتول فقد وجب المال ويقتل بالردة. والعتمد والذي عليه الجمهور لا يصح العفو بمال ولا بغير مال ولو قتل بمثقِّل أو بقطع عضو فُعِلَ به مثله. فقد روى البيهقي في السنن عم البراء بن عازب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حرّق حرّقناه ومن غرّق غرّقناه)). وقيل يقتل بالسيف وهو المشهور ولو جرح جرحاً فيه قصاص كقطع يد مثلاً فاندمل الجرح لم يتحتم قصاص في الأظهر بل يتخير المجروح بين القصاص والعفو لأ، التغليظ حق لله تعالى فاختص بالنفس كالكفارة فلا تجب إلا في النفس وتسقط عقوبات تخص القاطع من تحتم القتل والصلب والقطع من خلاف بتوبته قبل القدرة عليه قال تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) المائدة34. لا بعدها على المذهب أي لا بعد قدرة الإمام عليه لأن الآية السابقة شرطت في سقوط أحكام الحرابة أن تكون التوبة قبل القدرة على القاطع لأن المحارب إذا وقع في قبضة الإمام وجب على الإمام إقامة الحدِّ عليه ولا تسقط سائر الحدود بها أي بالتوبة إن كان قبل القدرة أو بعدها فالآية (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) المائدة34، هي خاصة بالمحارب فلا تسقط الحدود الخاصة بالله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر بالتوبة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق والذي اعترف بالسرقة ورجم ماعزاً بعد أن اعترف بالزنا ولا شك أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائباً فلما أقام عليه الحد دلَّ على أن الاستثناء في المحارب وحده.
? فصل في اجتماع عقوبات على شخص واحد ?
من لزمه لأشخاص قصاص لنفس وقطع لطرف وحد قذف وطالبوه جلداً أولاً للقذف ثم قطع لقصاص الطرف ثم قتل لقصاص النفس لأن ذلك هو السبيل لاستيفاء جميع الحقوق.
ويبادر بقتله بعد قطعه ا بلا تأخير بينهما لأن الغرض استيفاء الحدود والنفس مستوفاة فلا فائدة من التأخر إلى أن يَبَرأ من القطع لا قطعه بعد جلده إن غاب مُستحقٌّ قتله لأن قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاص النفس وكذا إن حضر مستحق النفس وقال عجلوا القطع وأنا أبادر بالقتل بعده فإنا لا نعجله في الأصح لأنه قد يهلك بالموالاة فيفوت القتل قصاصاً.
وإن أخر مستحق النفس حقَّه وطلب الأخران حقهما جُلد فإذا بَرَأ منن الجلد قطع ولا يُوَالى بينهما مخافة الهلاك فيفوت قصاص النفس ولو أخر مستحقِ طَرَفٍ حقه وطلب المقذوف حقه جُلِدَ وعلى مستحق النفس الصبر بحقه حتى يستوفيَ الطرف سواء أتقدم استحقاق النفس أم تأخر حتى لا يفوت قصاص الطرف ولو قال مستحق النفس لمستحق الطرف إما أن تستوفيَ أو تعفو أو تأذن لي في التقديم فله ذلك قال تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء33، فإن بادر فقتل فلمستحق الطرف ديةٌ في تركة المقتول لفوات محل الاستيفاء وهو الطرف بزهوق النفس. ولو أخر مستحق الجلد حقه فالقياس على ما سبق في هذه المسألة صبر الآخرين حتى يستوفي حقه لئلا يفوت حقه باستيفائهما أو استيفاء أحدهما لأن الجُرح عظيم الخطر فربما سرى وأدى إلى الزهوق ولو اجتمع حدود لله تعالى كأن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/118)
زنا بكراً وسرق وشرب وارتد قُدِّم وجوباً الأخف فالأخف وأخفها حد الشرب فيقام ثم يمهل وجوباً حتى يبرأ ثم يجلد للزنا ويمهل ثم يقطع ثم يقتل من غير إمهال لأن النفس مستوفاة.
أو اجتمع عقوبات لله تعالى الآدميين بأن انضم إلى حدود الله قذف قُدِمَ حدُّ قذف على حد زنا لأنه حق لآدمي وقيل لأنه أخف والأول أصح والأصح تقديمه أي حد القذف على حدِّ شُرْبٍ لأنه حق آدمي. وأن القصاص قتلاً وقطعاً يقدم على حدِّ الزنا إن كان رجماً تقديماً لحق الآدمي ولو اجتمع مع الحدود تعزير قدم عليها كلها لأنه أخف لأنه حق آدمي.
? كتا بالأشربة ?
والأشربة جمع شراب بمعنى مشروب وحقيقته الخمر بجميع أنواعه ولاختلاف أنواعها جمعها والخمر محرم والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع والخمر المجمع على تحريمه هو المتخذ من ماء العنب إذا اشتدَّ وقذف ربدَهُ وألحق به غيره.
قال تعالى: (ياأيها الذبن آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) المائدة90. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن اله الخمرة وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه)).
وروى الدارقطني عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخمر أمُّ الخبائث)). وأجمعت الأمة على تحريم الخمر.
كلُّ شراب أسكر كثيره فقليله حَرُمَ قليله وهو ما كان من العنب أو التمر أو الزبيب أو الذرة أو الشعير وغير ذلك فيحرم قليلها وكثيرها فقد روى مسلم عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلُّ مسكر خمرٌ: وكلُّ خمر حرام)). وروى أبوداود والترمذي وغيرهما عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)). وروى أحمد والترمذي وحسنه عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر الفَرَقُ منه فملءُ الكف منه حرام)) والفَرَقُ مكيال يتسع 12.5 لتراً تقريباً.
وحدُّ شاربه قليلاً أو كثيراً من عنب أو غيره لما روى البيهقي وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر فاجلدوه)). إلا صبياً ومجنوناً وحربياً وذمياً ومُؤجَراً وهو من صُبَّ الخمر في حلقه قهراً. وكذا مكره على شربه على المذهب فلا يحدون لعدم تكليف الصبي والمجنون والمؤجر والمكره وعدم التزام الحربي والذمي حرمة الشراب. روى ابن اماجة عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)). ومن جهل كونها خمراً فشربها لم يحد للعذر ولو قرب إسلامه فقال جهلت تحريمها لم يُحدَّ لأنه قد يخفى عليه ذلك والحدود تدرأ الشبهات بالشبهات أو قال جهلت الحدَّ حُدَّ لأن الواجب على من علم التحريم أن يمتنع ويُحَدُّ بِدَرْدَي خمر وهو ما يبقى أسفل إناء الخمر ثخيناً لأنه خمرٌ لا بخبز عُجن دقيقه بها لأ، عين الخمر أكلتُهُ النار فلا يُحدُّ به ومعجون هو فيه أي عجن فيها لاستهلاكه في المعجون وقيل يحدُّ وكذا حقنة وسَعوط لا يحدُّ بهما في الأصح لأنه ليس بأكل ولا شرب وهذا بعيد لأن حكم الاستعاط والاحتقان حم الشرب في إبطال الصوم فكان كذلك في الحدِّ ومن ثرد بالخمر وأكله حُدَّ لأن الخمر غير مستهلكة وإن عجن الطيب بالخمر كان نجساً ومن غصّ بلقمة أساغها بخمر إن لم يجد غيرها قيل وجوباً لحفظ النفس ولا شيء عليه والأصح تحريمها لدواء وعطش حتى إذا لم يجد غيرها لعموم النهي ولأنها لا تزيل العطش بل تزيده لأن طبعها حارٌّ يابس وفي التداوي روى مسلم عن وائل بن جُحْر أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها وكره أن يصنعها فقال: (إنه ليس بدواء ولكنه داء). وروى البيهقي من حديث أمِّ سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)). وروى النسائي من حديث عثمان بن عفان مرفوعاً (الخمر أمُّ الخبائث).
وقيل يجوز التداوي بها بالقدر الذي لا يسكر كبقية النجاسات بشرط إخبار طبيب مسلم وأما الدواء المعجون بها مما يستهلك فيه فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه مما يحصل به التداوي من الطاهرات.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/119)
وحدُّ الحرِّ أربعون لما روى مسلم عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والمعال أربعين) وروى أبوداود عن عبدالرحمن بن أزهر (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الشارب أربعين) وروى الشافعي في ترتيب المسند عن عبدالرحمن بن أزهر قال: (أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب الخمر فقال: (اضربوه) فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال صلى الله عليه وسلم: (بَكْتِوهُ) فبكتوه) والنبكيت أن يقال للرجل أما خشيت الله أما اتقيت الله؟
(فلما كان زمن أبي بكر رضي الله عنه أُتي بشارب فسأل من حضر ذلك الضرب فقوَّمَه فضرب أبوبكر في الخمر أربعين جلدة ثم عمر ثم تتابع الناس في الخمر فاستشار عمر الصحابة رضي الله عنهم فضربه ثمانين) ذكره الشافعي في المسند ورقيق عشرون بسوط أو أيدٍ أو نعال أو أطراف ثياب وحد العبد على النصف من حد الحرِّ ولأنه حدٌّ يتبعض فكان الجلد على النصف من الحرِّ كالجلد في الزنا. فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه فمنّا من ضربه بيده ومنا من ضربه بنعله ومنا من ضربه بثوبه). والمراد بالضرب بالثوب أن يُفْتَلَ الثوب حتى يشتد ثم يضرب به وقيل يتعين للجلد سوط كحدِّ الزنا والقذف. قال ابن الصلاح والسوط متخذ من جلود سيور تلوى وتلف وسمي بذلك لأن يسوط اللحم بالدم أي يخلطه هذا عند الجلد القوي أما جلد الضعيف فلا يكون بالسوط جزماً لأنه قد يؤدي إلى هلاكه.
ولو رأى الإمام بلوغه أي الحدِّ ثمانين جاز في الأصح لما روى الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي وبرو الكلبي قال: (أرسلني خالد ين الوليد إلى عمر فأتيته ومعه عثمان وعلي وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير فقلت: إن خالداً يَقْرأ عليك السلام ويقول إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: فما ترون؟ فقال عليٌ: إنه إذا شرب سكر وإذا سَكِرَ هذى وإذا هذى افترى فيُحَدُّ حدَّ المفتري، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجلد خالدٌ ثمانين وجلد عمر ثمانين).
وروى مسلم وأحمد عن علي أنه قال: (جلد رسول الله أربعين وأبوبكر أربعين وعمر ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحبُّ إليَّ). وكان عمر إذا أُتي بالرجل المنهمك بالشرب جلده ثمانين وإذا أُتي بالرجل الضعيف الذي كان منه الزلَّة جلده أربعين. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن أبي وبرة الكلبي.
والزيادات على الأربعين في الحرِّ والعشرين في العبد تعزيراتٌ لأ، ها لو كانت حداً لما جاز تركها وقيل حدٌّ لأن الصحابة بلغوا في حدِّ الحرِّ ثمانين كما أن التعزير لا يكون إلا عن جناية مخففة كما أنه لا ينحصر في ثمانين وعلى هذا فإن حدَّ الشرب مخصوص من بين الحدود بأنه يتحتم بعضه ويتعلق بعضه باجتهاد الإمام.
ويُحدُّ شارب الخمر بإقراره أو شهادة رجلين لا بشهادة رجل وأمرأتين لأ، البينة ناقصة والأصل براءة الذمة. لا بريح الخمر وسكر وقيء لاحتمال كونه غالطاً أو مكرهاً والحدود تدرأ الشبهات ويكفي في وجوب الحدِّ في إقرار وشهادة شَرِبَ فلانٌ خمراً أو شربت خمراً أو شرب مما شرب منه فلان فسكر وقيل يُشْتَرَط في كلٍّ من المقر والشاهد أن يقول شربها وهو عالم بتحريمها وأنها خمرٌ مختارٌ في شربها غير مكره لأنه إنما يعاقب باليقين ولا يُحَدُّ حال سكره بل يؤخر حتى يفيق ليرتدع وسوط الحدود في الشرب والزنا والقذف بين قضيب وهو الغصن الرقيق جداً وعصا متو سطة رطب ويابس ويفرقه على الأعضاء أي يفرق الضرب على الجسم إلا المقاتل فلا يضرب عليها والمقاتل مواضع يسرع القتل إليها بالضرب كالقلب وثغرة النحر والفرج لأن القصد زجره لا إهلاكه فقدروى البيهقي عن علي أنه قال للجلاد: (أعطِ كل عضو حقه واتقِ الوجه والمذاكير). والوجه فلا يضربه فقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)) قيل والرأس فلا يضربه أيضاً والأصح خلافه فقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للجلاد: (اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس). ولا تشدُّ يده أي المجلود بل تترك مطلقة يتقي بها فإذا وضعها على موضع ضرب غيره ولا تجرد ثيابه الخفيفة التي لا تمنع أثر الضرب أما يمنع أثر الضرب كالجبة المحشوة والفروة فتنزع عنه وجوباً لحصول
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/120)
المقصود من الضرب.
ويُوالى الضرب بحيث يحصل زجر وتنكيل فلا يجوز أن يضرب في كل يوم سوط أو سوطين وكذلك لا يجوز تفريق الضرب على الساعات لعدم الإيلام المقصود من الحدِّ.
? فصلٌ في التعزير ?
والتعزير في الأصل الردع والمنع وفي الشرع التأديب دون الحدِّ من كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة سواء كانت من مقدمات ما فيه حدٌّ كمباشرة أجنبية بغير الوطء وسرقة ما لا قطع فيه والسبُّ والإيذاء بغير قذف أو ما لا حدَّ فيه كشهادة الزرو والضرب بغير حق والتزوير وسائر المعاصي والأصل فيه قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) [النساء:304].
وأخرج الشيخان عن أبي بريدة بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير من حدود الله).
يُعَزر في كل معصية لا حدَّ لها ولا كفارة. فقد روى أبو داوود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سرقة التمر: (إذا كان دون نصاب غُرْمُ مِثْلِه وجلداتُ فعالٍ).
وروى البيهقي عن علي أنه سُئِل عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث فقال: (هنَّفواحش فيهن تعزير وليس فيهن حدٌّ).
بحبس أو ضرب أو صفع أو توبيخ والضرب بجمْع الكفِوالتوبيخ باللسان ويجوز بإركاب دابة مقلوباً ودورانه بين الناس والنفي وتسويد الوجه والإقامة في المجلس ويجتهد الإمام في جنسه وقدره فالتعزير غير مقدَّرٍ بل إن رأى الإمام أن يحبسه حبسه وإن رأى أن يجلده جلده ولا يبلغ به أدنى الحدِّ فقد روى أبو داوود والترمذي وغيرهما من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة).
وقد أخرج الترمذي عن معاوية بن حيده (أن معن بن زائدة زدَّ على عمر كتاباً فعزَّرَهُ). وعلى الإمام مراعاة اللائق بالحال في القدر والنوع فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافياً ومؤثراً. فقد روى أحمد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود).
وقيل إن تعلق التعزير بآدمي لم يكف فيه توبيخ لتأكد حق الآدمي وأفتى الإمام العز بن عبد السلام بإدامة حبس من يكثر الجناية على الناس ولم ينفع فيه التعزير
فإن جلد وجب أن ينقُصَ في عبد عن عشرين جلدة وحرٍّ عن أربعين لما أخرج البيهقي في السنن وأبو نعم في الخلية عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم: (من بلغ بما ليس بحدٍّحدّاً فهو من المعتدين). وأخرج وكيع بن الجراح في أخبار القضاة عن أبي موسى الأشعري أن عمر بن الخطاب كتب إليه (أنه لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً). وفي رواية (ما بين الثلاثين إلى الأربعين). وقيل عشرين أي يجب أن ينقص في تغزير الحدِّ عن عشرين جلدة للحر (من بلغ بما ليس بحدٍّ حداً فهو من المعتدين). والعشرين حدُّ العبد في الشرب زلكن عمل الصحابة على خلانه من غير إنكار.
ويستوي في هذا أي النقص المذكور جميع المعاصي في الأصح وقيل بل يعتبر كل معصية منها بما يناسبها ممكا يوجب الحدَّ فتعزير مقدمات الزنا أو وطء الحرام الذي لا يوجب الحدَّ ينقص عنن حدِّ الزنا لا عن حد القذف والشرب وتعزير السبِّ بما ليس بقذف ينقص عن حدِّ القذف لا عن حدِّ الشرب وتعزير سرقة ما دون النصاب يعتبر بأعلى حدود الجلد وهو مائة جلدة لأن القطع أبلغ من الجلد مائة.
ولو عفا مستحق حَدٍّ عنه كحد القذف فلا تعزير للأمام في الأصح لأنه حق آدمي فجاز الإبراء منه والثاني للإمام التعزير لأنه لا يخلو عن حقِّ الله تعالى.
أو لو عفا مستحق تعزير فله أي الإمام التعزير في الأصح لحق الله تعالى ولأن التعزير متعلق أصلاً بنظر الإمام والفرق أن الحد مقدر لا يتعلق بنظر الإمام فلا سبيل إلى العدول إلى غيره بعد سقوطه والتعزير راجع لنظر الإمام في الأصح فإذا عفا المستحق فللإمام أن يعزر لما يراه في ذلك من الإصلاح حتى ينكف العاصي عن نظير ذلك فيما بعد.
? كتاب الصيال وضمان الولاة ?
الصيال عو الاستطالة والوثوب على الغير والصائل هو الظالم لغيره والأصل في الباب قول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين). [البقرة: 194].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/121)
وأخرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل: يا رسول الله انصره مظلوماً فكيف إذا كان ظالماً قال بحجزه أو منعه عن الظلم فإن ذلك نصره).
له دفع كل صائل عن نفس أو طَرَف أو منفعه أو بُضْع أو مالٍ سواء كان الصائل مسلماً أو كافراً عاقلاً أو مجنوناً بالغاً أو صغيراً قريباً أو أجنبياً آدمياً أو غيره فقد روى أبو داوود والترمذي عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قاتل دون أهله وماله فَقُتِلَ فهو شهيد). والشهادة لا تكون إلا بقتال جائز. فإن قتله أي قتل المصول عليه الصائل فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا إثم لأنه مأمور بدفعه ولا يجتمع الأمر بالقتال والضمان فقد روى عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في السنن عن عبيد بن عمير (أن امرأة خرجت تحتطب فتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بفهر فقتلته فَرُفِع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: (هذا قتيل الحقِّ والله لا يؤدي أبداً).ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة فكان ذلك إجماعاً. والفهر هو الحجر الذي يملأ الكف.
ولا يجب الدفع عن مال لأنه لا يجوز إباحة المال للغير هذا بالنسبة لمال النفس أما ذا تعلق به حق للغير فيجب الدفع عنه كما يجب على الإمام ونوابه الدفع عن أموال رعاياهم ويجب الدفع عن بُضع إن لم يخف على نفسه أو عضوه أو منفعته ويحرم عليها الاستسلام لمن صال عليها ليزني بها وإن خافت على نفسها لأن البُضْعُ لا يباح بالإباحة. وكذا يجب الدفع عن نفسٍ قصدها كافر ولو معصوماً بعهد أو ذمة إذ غير المعصوم لا حرمة له والمعصوم قد أبطل عصمته بصياله ولأن الاستسلام للكافر ذل في الدين أو قصدها بهيمةٌ لأن البهيمة تذبح لحفظ حياة الآدمي فلا يجوز الاستسلام لها بحال لا إن قصدها مسلم في الأظهر بل يجوز الاستسلام له بل قيل يُسَنُّ ذلك لما روى أحمد وأبو داوود وغيرها عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كن خير ابني آدم). أي القائل (لئن بسطت يدك إليَّ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) [المائدة:28].
وأخرج أحمد عن خالد بن عرفطة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل).وأيضاً لا يلزم المسلم الهربُ من المشركين إذا اجتمعوا عليه لما روى الشيخان عن جابر أن رجلاً قال يا رسول الله أريت لو انغمست في المشركين فقاتلتُ فقتلتُ أليَ الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم إن قاتلت وأنت مقبلٌ غير مدبرٍ) فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قُتل ومعلوم أن الواحد من المسلمين إذا انغمس في صف المشركين أنه يهلك فدل أنه يجوز التعرض للشهادة كما يجوز له الفرار.
والدفع عن غيره كهو عن نفسه فيجب تارة ولا يجب ويجوز أخرى إذ لا يزيد حق غيره على حق نفسه ومحل الوجوب إذا أمن الهلاك إّ لا يلزم المسلم أن يجعل روحه بلاً عن روح غيره وقيل يجب قطعاً أي يجب الدفع عن غيره لأن له إيثار غيره على نفسه فقد روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أُذِلَّ عنده مسلم فلم ينصره وهو قادرٌ أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة).
وروى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال يا رسول الله انصره مظلوماً فكيف انصره ظالماً قال تحجزه عن الظلم).
ولو سقطت جرةٌ ولم تندفع عنه إلا بكسرها ضمنها في الأصح أي جاز كسرها صيانة لروحه وإذا كسرها ضمنها في الأصح إذ لا قصد لها ولا اختيار ذلك إذا كانت موضوعة بمحل بحق لا عدواناً لأن إحالة الفعل عليها غير ممكن والثاني: لا يضمن تنزيلاً لها منزلة البهيمة الصائلة وهذا مردود حيث أن البهيمة لها اختيار ويدفع الصائل بالأخف فالأخف باعتبار غلبة ظن المصول عليه فإن أمكن دفع الصائل بكلام واستغاثة حَرُمَ الضرب أي لم يكن له الضرب إن أمكنه الاستغاثة بالناس أو أمكن دفعه بضرب بيد حَرُمَ سوطٌ أو بسوط حروم عصا أو أمكن دفعه بقطع عضو حرم قتل لأنه جوِّز للضرورة ولا ضرورة للأغلظ مع إمكان الأسهل ولو لم يجد المصول عليه إلا سيفاً جاز الدفع به وإن كان مندفع بالعصا إذ لا تعقيد منه في عدم حملها والمعتبر في حق كل شيء حاجته فإن أمكن هربٌ أو التحصن بموضع حصين أو الالتجاء إلى فئة فالمذهب وجوبه لأنه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/122)
مأمور بنخليص نفسه بالأهون وفي قول له أن يثبت ويقاتل وتحريم قتال إن أمكن الهرب لأنه مأمور بالأهون هذا إن يتقن النجاة بالهرب أما لو صال عليه مرتد أو حربي لم يجب هرب ولو عُضّتْ يده خلصها بالأسهل فيقدم الإنذار والتهديد ثم فك لحي ثم ضرب فم ثم ضرب بطن أو عصر خصيته أو غير ذلك من الوسائل المتاحة له من فك لحييه أي رفع أحد اللحيين عن الآخر وضرب شدقيه والشدقان جانبا الفم فإن عجز عن تخليص يده بالأسهل فسلها أي سلَّ يده فنذرت أسنانه أي سقطت فهدر أي لا شيء على المعضوض لما روى الشيخان عن يعلى بن أمية أنه خرج في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان له أجير فخاصم رجلاً فعضَّ أحدهما يدَّ صاحبه فانتزع يده من فم العاضِّ فذهبت ثنيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأهدر ثنيته وقال: (أيدع يده في فيك تعضها كأنها في رخي فحل). ومن نُظِرَ إلى حُرَمِهِ أي إلى أهل بيته في داره من كوَّةٍ أو ثُقب أي خرق في الدار عمداً ولم يكن للناظر شبهة في النظر فرماه بخفيف أو ثقيل لم يجد غيره كحصاة فأعماه أو أصاب قرب عينه فجرحه فمات فهدر كما روى الشيخان عن أبي هريرة (لو اطلع أحدٌ في بيتك ولم تأذن له فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح). وفي رواية البيهقي وابن حبان (فلا قود ولا دية). بشرط عدم مَحْرَمٍ وزوجة للناظر فإن كان له شيء من ذلك حرم رميه لأن له في النظر شبهة قيل واستتار الحُرَمِ أي وقيل بشترط لجواز الرمي عدم الاستتار فإن كن مستترات بالثياب أو بمنعطف من الدار بحيث لا يراهن الناظر لم يجز رميه لعدم اطلاعه عليهن والأصح عدم اشتراط ذلك لعموم الأخبار فقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي أن رجلاً اطلع من جُحْرٍ في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو علمت أنك تنظر لطعنت بها عينك (وكان في يده مِدْرى) إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) والمدري: مشط يسوى به الشعر يشبه في هيئته الآلة التي يُفْصَلُ بها الحب عن التبن.
قيل وإنذار قبل رميه قياساً على الدفع بالأهون فالأهون والأصح عدم اشتراطه لظاهر الحديث ولو عزَّر ولي وزوج ومعلم من تحت سلطتهم فمضمون تعزيرهم لأن التعزير مشروط بسلامة العاقبة إذ المقصود منه التأديب لا الإهلاك فإذا حصل به هلاك تبين أنه تجاوز الحد المشروع. ولو حَدَّ الإمام أو نائبه مقدراً بنص فيه كحد القذف فهلك المحدود فلا ضمان على الصحيح إجماعاً ولو كان الجلد في حرٍّ أو برد مفرطين أو في مرض يرجى برؤه أو لا. ولو ضُرِبَ شارب للخمر بنعال وثياب فلا ضمن على الصحيح قيل بل يتعين السوط والأول أصح لما روى مسلم وغيره عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بشارب خمر فأمر بضربه فضربوه بالجريد والنعال). ولما روى الشافعي عن عبدالرحمن بن الأزهر قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب خمر فقال: اضربوه، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب) وكذا أربعون سوطاً ضربها الشارب فمات فلا ضمان فيه على المشهور لأن الأمة أجمعت على الضرب بأربعين جلدة في الشرب أو أكثر وجب قسطه أي إذا جُلِدَ بأكثر من أربعين جلدة بالعدد أي بعدد الجلدات الزائدة على الأربعين وفي قول نصف دية لأ، ه مات من غير مضمون ومضمون ويجريان في قاذف جُلِدَ أحداً وثمانين جلدة فمات ففي الأظهر يجب حزء من أحد وثمانين جزءاً من الدية وفي قول نصف دية.
ولمستقل بأمر نفسه وهو الحرُّ البالغ العاقل قطع سِلْعَةٍ وهو خراج كهيئة الغدة يخرج بين اللحم والجلد لأن له غرضاً في إزالة الشين عن الظاهر على العضو إلا سِلْعة مخوفة من حيث قطعها بقول من أهل الخبرة لأنه ممنوع من هلكة نفسه قال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يب المحسنين) البقرة195. لا خطر في تركها إن تركت أو كان الخطر في قطعها أكثر منه في تركها فلا يجوز له قطعها في هاتين الصورتين لأن ذلك يؤدي إلى الهلكة أما إذا كان الترك والقطع سيان فيجوز له قطعها كغير المخوفة ولأب وجد قطعها من صبي ومجنون مع الخطر فيه إن زاد خَطَرُ الترك على خطر القطع لا لسلطان لأن الأمر يحتاج رحمة ودقة نظر وشدة اهتمام ولا يوجد ذلك إلا في الأب والجد أو الأمِّ إن كان لها وصاية وأما السلطان فلا فراغ له للنظر في هذه الأمور وله أي الولي إن كان أباً أو جداً ولسلطان قطعها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/123)
بلا خطر في القطع لعدم الضرر. وفصدٌ وحجامةٌ ونحوهما من كل علاج نافع يشير به طبيب حاذق فللولي والسلطان فعل ذلك والأمر به عند وجود المصلحة مع عدم الضرر فلو مات الصبي أو المجنون بجائز من هذا فلا ضمان بالقطع أو الفصد أو الحجامة وما في معناها في الأصح لئلا يمتنع الناس من ذلك فيتضرر الصبي والمجنون ولو فعل سلطان بصبي أو مجنون ما مُنِعَ منه فمات فدية مغلظة في ماله لتعديه ولا قصاص لشبهة الإصلاح وما وجب بخطأ إمام في حدٍّ أو حكم في نفس أو طرف أو غير ذلك فعلى عاقلته كسائر الناس وفي قول في بيت المال إن لم يظهر منه تقصير لأن خطأه يكثر لكثرة الوقائع بخلاف غيره فيضر ذلك بالعاقلة ولو حده أي حدَّ الإمام شخصاً بشاهدين بانا عبدين أو فاسقين أو ذميين أو مراهقين ومات المحدود فإن قصّر الإمام في اختبارهما أي في التحقق من حالهما فالضمان عليه لأن الهجوم على القتل ممنوع منه إجماعاً وإلا فالقولان أي وإذا لم يقصر فالمسألة على قولين من حيث الضمان هل هو ماله أو في بيت المال فإن ضمنّا عاقلة أو بيت مال فلا رجوع على الذميين والعبدَيْنِ في الأصح لزعمهما الصدق ولأنه لم يوجد تعدٍ منهما أنما المتعدي هو الإمام بعدم بحثه عنهما.
ومن فَصَدَ أو حَجَمَ بإذن معتبرٍ ممن جاز له ذلك لم يضمن التلف إن حصل وقال ابن المنذر وأجمعوا على أن الطبيب إذا لم يتعدَّ لم يضمن وقَتْلُ جلاد وضربُهُ بأمر الإمام كمباشرة الإمام إن جَهِلَ ظلمه وخطأه فيتحمل الإمام الضمان لأن الجلاد آلته وإلا بأن عَلِمَ الجلادُ ظلمَ الإمام وخطأه فالقصاص والضمان على الجلاد وهذه لأنه المباشر للعمل إن لم يكن إكراه من جهة الإمام إذا كان الجلاد لما عَلِمَ الحال أن يمتنع عن القتل لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) رواه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك عن عمران بن الحصين وصححه الذهبي وإن أكرهه الإمام فالضمان عليهما والقصاص على الإمام ويجب ختان المرأة بجزء أي بقطع جزء من اللحْمَة بأعلى الفرج وهو فوق ثُقْبة البول ويكفي قطع ما يقع عليه الاسم قال النووي في التحقيق وتقليله أفضل فقد روى أبوداود وغيره عن أمِّ عطية (أشِمِّي ولا تُنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب للبعل) وفي رواية أسرى للوجه أي أكثر لماء وجهها ودمه.
والرجل ختانه يكون بقطع ما أي بقطع جلدة تغطي حشفته حتى تنكشف كلها ولا يكفي قطع بعض الجلدة التي تغطي الحشفة ويقال لتلك الجلدة القَلْفَة (القُلفة) بعد البلوغ الذي هو مناط التكليف للأمر به فقد روى أحمد وأبوداود والطبراني والبيهقي من رواية ابن جريح عن عُتيم بن كليب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين جاءه مسلماً: (ألقِ عنك شعر الكفر واختتن)). ويندب تَعْجيلُهُ أي الختان في سابعه أي سابع يوم الولادة لما روى الحاكم والبيهقي من حديث عائشة والبيهقي من رواية جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحسنِ والحسين وختنهما لسبعة أيام) فإن ضعف الطفل عن احتماله أي الختان أُخِّرَ إلى وقت أن يحتمله ومن خَتَنَهُ في سنٍّ لا يحتمله الطفل لنحو مرض أو ضعف أو حر أو برد شديدين لزمه أي الخاتن قصاص إن علم أنه لا يحتمله إلا والداً فلا قصاص عليه ولا دية فإن احتمله أي احتمل الختان وختنه وليٌّ من أب وجد أو إمام إن لم يكن له ولي غيره فمات فلا ضمان في الأصح لأنه لابد من الختان وهو في الضعر أسهل وقد عمل ما فيه المصلحة فلم يكن متعدياً. وأجرته أي أجرة الختن في مال المختون لأنه لمصلحته فإن لم يكن له مال فعلى من عليه مؤنته.
? فصل في حكم إتلاف الدواب ?
من كان مع دابة أودواب سواء في ذلك المالك والمستأجر ضمن إتلافها لأ، يده عليها لأن المتلف نفساً فعلى العاقلة ومالاً في ماله ليلاً ونهاراً لأن فعلها منسوب إليه وعليه حفظها وتعهدها ولو بالت أو راثت بطريق فتلف به أي بولها وورثها نفس أو ملا فلا ضمان لأن الطريق لا يخلو من ذلك ولو مُنِع الناس من ذلك لامتنع الناس من المرور.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/124)
ويحترز راكب الدابة عمّا لا يُعْتاد فعله في طريق المشاة كركض شديد في وَحَلٍ أو في مكان يجتمع فيه الناس فإن خالف ضمن ما تولد منه لتعديه أما الركض المعتاد فلا يضمن ما يحدث وقيل يضمن في الحالين ومن حمل حطباً على ظهره أو على بهيمة وهو معها فحكَّ بناء فسقط هذا البناء ضمنه ليلاً أو نهاراً لأنه المتسبب بالتلف وإن دخل حامل الحطب سوقاً فتلف به أي بالحطب نفس أو مال ضمن ما تلف بالحطب إن كان زحام لتقصيره بالدخول في مكان ازدحم فيه الناس فإن لم يكن زحام وتمزق بالحطب ثوب مثلاً فلا يضمنه إن كان لابس الثوب مستقبلاً البهيمة لأن عليه الاحتراز منها إلا ثوبَ أعمى ومستدبر البهيمة فيجب تنبيهه أي كلاً من الأعمى والمستدبر فإن لم ينبهه ضمن لتقصيره. وإنما يضمنه إذا لم يقصِّر صاحب المال فإن قصَّر بأن وضعه أي المال بطريق أو عرضه للدابة فلا ضمان على صاحب الحطب لأن صاحب المال هو المقصر بتعريضه للضياع فإن كانت الدابة وحدها من دون صاحبها فأتلفت زرعاً أو غيره نهاراً لم يضمن صاحبها أو ليلاً ضمن لما روى مالك في الموطأ والشافعي في المسند وأحمد وأبو داوود وغيرهم عن البراء بن عازب قال: (كانت لي ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها نهاراً وعلى أهل المواشي حفظها ليلاً وأن عليهم ما تتلفه مواشيهم ليلاً وهو على وفق العادة في حفظ الزرع ونحوه نهاراً وحفظ الدواب ليلاً إلا أن لا يفرط في ربطها أي لا يأتي تفريط من صاحب الدابة في حفظها ليلاً بأن أحكم رباطها فانحل أو أغلق الباب عليها ففتحه لص أو انهدم الجدار فخرجت الدابة فأتلفت فلا ضمان لعدم التقصير أو فرط صاحب الدابة في ربطها ولكن حضر صاحب الزرع وتهاون في دفعها عنه فلا يضمن صاحب الدابة لتفريط صاحب الزرع في الدفع عن زرعه.
وكذا لا ضمان على صاحب الدابة إن كان الزرع في مَحُوطٍ له باب تركه صاحب الزرع مفتوحاً لتفريط صاحب الزرع.
وهرة تتلف طيراً أو طعاماً إن عُهِدَ ذلك منها ضمن مالكها أي الذي يؤديها يضمن ما تتلفه في الأصح ليلاً كان أو نهاراً لأن ما عُهِدَ منها ذلك يجب أن تربط ويكف شرها وقيل لا ضمان لأن العادة في الهرة ألا تربط وإلا أي وإن لم يعهد ذلك منها فلا يضمن مالكها في الأصح لأن العادة أن يحفظ الطعام عن الهرة لا أن تربط الهرة والثاني يضمن في الليل دون النهار كسائر الدواب.
? كتاب السِيَر ?
السير جمع سيرة مثل سدر وسدرة وهي الطريقة الهيئة والحالة والمقصود بالكلام ذكر الجهاد وأحكامه وعدل عن الترجمة به لأن الأحكام المودعة فيه ملتقاة من سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته والأصل فيه قبل الإجماع آيات كقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) البقرة190، وقوله تعالى: (وأذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا) الحج39، وقوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً) التوبة41.
وأخبار كخبر الصحيحين عن عمر وأبي هريرة وابن عمر (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وخبر الصحيحين عن أنس (والذي نفسي بيده لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).وخبر الصحيحين عن عائشة (لا هجرة بعد الفتح).
وروى البخاري عن زيد بن جالد الجُهَنِي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خَلَفَ غازياً في أهله وماله بخير فقد غزا). وقد غزا رسول الله سبعاً وعشرين غزوة في تسع سنين قاتل في ثمان منها بنفسه وهي: بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر وحنين والطائف وكان الجهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض كفاية فإذا فعله البعض سقط الفرض عن الباقين قال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) [النساء: 95].ففاضل سبحانه وتعالى بين المجاهدين والقاعدين والمفاضلة لا تكون إلا بين جائزين ولو كان القاعد تاركاً لفرض لَمَا وعِدَ بالحسنى وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بنفسه تارة ويبعث بالسرايا تارة فدل ذلك على أنه ليس فرضاً على الأعيان وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني لحيان وقال: (ليخرج من كل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/125)
رجلين رجلُُ ويَخْلُفِ الآخر الغازي في أهله وماله). وقال: (أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) أخرجه سعيد ابن منصور في سننه عن أبي سعيد الخدري. وقيل عين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً) [التوبة: 39].
وأما القاعدون في المدينة فقد كانوا حراساً لها والحراسة نوع من الجهاد ويجاب على هذا بأن الوعيد في الآية إنما كان لأشخاص عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد لأن الإمام إذا عين شخصاً للقيام بغرض الكفاية يتعين عليه ولا يجوز له إنابة غيره فيه ولا أخذ أجرة عليه وأما بعده أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فللكفار حالان أحدهما يكونون ببلادهم مستقرين غير قاصدين شيئاً من بلاد المسلمين ففرض كفاية إجماعاً دلَّ على ذلك سيرة الخلفاء الراشدين ويحصل بشحن الثغور بالمقاتلين والعتاد والثغور هي محال الخوف التي تلي بلاد الكفار ويتولى ذلك أمراء مؤتمنون مشهورون بالشجاعة والنصح للمسلمين كما يحصل فرض الكفاية بأن يدخل الإمام أو نائبه دار الكفار بالجيوش لقتالهم إخماداً لشوكتهم وإظهارهم لعجزهم عن الظفر بشيء من بلادنا قال تعالى: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) [التوبة: 162]، قال مجاهد: نزلت في الجهاد وقد فعله صلى الله عليه وسلم فلم يترك الجهاد في سنة من سنوات حياته منذ أذن له في ذلك فكانت بدر الكبرى في الثانية وأحد وبني النضير في الثالثة والخندق في الرابعة وذات الرقاع ودُمَة الجندل وبني قريظة في الخامسة والحديبة وبني المصطلق في السادسة وخيبر في السابعة ومؤتة وذات السلاسل وفتح مكة وحنين والطائف والثامنة وتبوك في التاسعة وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين لاثنا عشر خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة وفيها نزلت (اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة: 3].
إذا فعله من فيهم كفاية سقط عن الباقين لأن هذا شأن فروض الكفاية ويأثم الجميع بترك فرض الكفاية حيث كانوا من أهل الوجوب.
ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحُجَجِ العلمية وهي البراهين على إثبات الصانع عز وجل وما يجب له من صفات وما يستحيل عليه منها وعلى إثبات النبوات للأنبياء وعلى إثبات ما ورد الشرع به من إثبات البعث والحساب والقامة والجنة والنار.
وحل المشكلات في الدين ودفع الشُبَهِ عنه ومعرفة أمراض القلوب وحدودها وأسبابها كالحسد والرياء والكبر. وبعلوم الشرع كتفسير وحديث فمن فروض الكفاية القيام بعلوم الشرع ويدخل في ذلك التفسير والحديث وما يتعلق بهما من علم العربية كعلم النحو والصرف والاشتقاق والمعاني والعروض وغير ذلك.
والفروع الفقيه زائداً على ما لا بد منه بحيث يصلح للقضاء والفتيا لشدة الحادجة إلى ذلك فإن قدر على الترجيح دون الاستنباط فهو مجتهد الفتوى وإن قدر على الاستنباط من قواعد إمامه وضوابطه فهو مجنهد المذهب وإن قدر على الاستنباط من الكتاب والسنة فهو المجتهد المطلق ويجب تعدد المفتي بحيث يكون في كل مسافة قصر واحد.
ومن فروض الكفاية علم الطب وعلم الحساب وأصول الفقه وأسماء الرواة وعلم الجرح والتعديل واختلاف الفقهاء واختلافهم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من فروض الكفاية اجماعاً وهو من أعظم قواعد الإسلام ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه بل يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الذكرى تنفع المؤمنين ويكون برفق وأن لا ينكر العالم إلا مجمعاً على تحريمه لا ما اختُلِف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه وأما صفة النهي عن المنكر وضابطه فقد روى مسلم عن أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فاستطاع أن ينكره بيده فليفعل فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقله وهو أضعف الإيمان)).فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ولا تكفي كراهة القلب لم قدر على النهي باللسان وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن رأى شيئاً غيره. قال الماوردي فإن غلب على ظن المحتسب (وهو من عينه الإمام ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) استمرار قوم بالمنكر بإمارة وآثار ظهرت
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/126)
فذلك ضربان أحدهما: أن يكون فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزني بها فيجوز التجسس والإقدام على الكشف والإنكار والثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز فيه الكشف والتجسس. ويجب العلم أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله أو يخافوا على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع.
وإحياء الكعبة كل سنة بالزيارة ومن فروض الكفاية والمقصود الأعظم من بناء الكعبة الحج فكان به إحياؤها والفرض أن يحجها كل سنة بعض المكلفين بحيث يظهر الشعار سواء في ذلك مَنْ عليه فرض ومن هو متطوع بالحج ودفع ضرر المسلمين وإزالة فاقتهم ككسوة عار وإطعام جائع وإغاثة مستغيث في نائبة فكل ذلك من فرو ض الكفاية وذلك إذا لم يندفع ضررهم بزكاة أو بيت مال أو وقف أو سهم مصالح أو كفارة أو وصية. وتحمّل الشهادة من فروض الكفاية وأداؤها كذلك وعانة القضاة على استيفاء الحقوق وتجهيز الموتى غسلاً وتكفيناً وصلاة ودفناً. والحرف والصنائع وما تتم به المعايش كالبيع والشراء والحراثة من فروض الكفاية لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه. ويروى أن الإمام أحمد رحمه الله سمع رجلاً يقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلق، فقال: هذا رجل تمنى الموت. وجواب سلام على جماعة من فروض الكفاية قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [النساء: 86].
وروى أبو داود عن علي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجزيء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزيء عن الجلوس أن يرد أحدهم)).وأخرج البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسلم الراكب على القائم والماشي والقائم على القاعد والماشي على القائم والقليل على الكثير)). وإذا سلَّم فرد على جماعة فيكفي جواب أحدهم. ويسن ابتداؤه أي ابتداء السلام فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: ((تُطْعم الطعام وتَقْرَاُ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)). وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلالم بينكم)).
وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً (إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدر أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضاً).قال تعالى: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم) [النور:61].لا على قاضي حاجة وآكل فلا يُسَنُّ ابتداؤه لأن الآكل مشغول بأكله ولا يسن على قاضي الحاجة للنهي عن ذلك فقد روى الإمام مسلم من حديث الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر (أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يردَّ عليه).
وروى الترمذي عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه رجل وهو يبول فسلَّم عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ فإنك إن فعلت لم أردَّ عليك)).
وفي حمام فلا يسن السلام على من في الحمام لاشتغاله بالاغتسال ومن الذي لا يُسَنُّ السلام عليهم المصلي والمؤذن والخطيب والملبي في النسك والمستغرق في القراءة والفاسق والمبتدع ويستحب مراعاة صيغة الجمع عند السلام وصيغته السلام عليكم أو سلام عليكم وإن كان المُسَلَّمُ عليه واحداً خطاباً له ولملائكته وأن لا يقول عليك السلام لما روى أبو داوود والترمذي بسند صحيح عن أبي جُري قال: (قلت: عليك السلام يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى)).
ولا جواب عليهم فلا يجب الجواب على من سلم على واحد من المذكورين لوضعه السلام في غير محله.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/127)
ولو تلاقى رجلان فسلم كل واحد على صاحبه وجب على كل واحد منهما جواب الآخر ولا يحصل الجواب بالسلام وإن جاء السلامان الواحد تلو الآخر وسلام النساء على النساء كسلام الرجال على الرجال فلو سلم رجل على امرأة أو عكسه فإن كان بينهما زوجية أو محرمية وجب الرد وإلا فلا يجب إلا أن تكون عجوزاً خارجة عن فطنة الفتنة ويستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على أهله ولمن دخل بيتاً أو مسجداً ليس فيه أحد أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
والانحناء لا أصل له في الشرع. فقد روى الترمذي عن أنس وحسنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله الرجل منّا يلقى أخاه وصديقه أينحني له؟ قال: ((لا)) قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: ((لا))، قال: فيؤخذ بيده ويصافحه؟ قال: ((نعم)).
وتسن المصافحة فقد روى البخاري عن قتادة قال: (قلت لأنس (أكانت المصافحة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم). وأخرج الترمذي عن البراء وحسنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقان).
قال النووي في الروضة: وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل لتخصيصه لكن لا بأس به فإنه من جملة المصافحة وقد حث الشرع على المصافحة ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها.
ولا جهاد على صبي ومجنون وامرأة ومريض وذي عرج بيّن فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)).
وروى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ أنساً وابن عمر وعشرين من أصحابه استصغرهم). وروى البخاري عن البراء قال: (اسْتُصْغِرْتُ أنا وابنُ عمرَ يوم بدر).
وقال تعالى: (ليس على الأعمر حرج ولا على الأعرج وعلى المريض حرج) [النور: 61]. وقال تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ا ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) [التوبة: 91].
وأقطع وأشل يد أو معظم أصابعها فلا جهتد عليهما وعبد وعادم أهبة قتال لا جهاد عليهما أيضاً لأن العبد لايملك ومن لا يملك نفقة وسلاحاً ومركوباً لا يمكن أن يقاتل أما لو كان القتال على باب داره أو حوله فقد سقط اعتبار المؤن ولو بذل بيت المال الأهبة لزمه القتال.
وكل عذر منع وجوب الحج منع الجهاد إلا خوف طريق من كفار وكذا من لصوص المسلمين على الصحيح أي أن الخوف المذكور لا يمنع وجوب الجهاد لبناء الجهاد على مصادمة المخاوف والدين الحالُّ حَرِّم سَفَرَ جهاد وغيره إلا بإذن غريمه أي صاحب الدين مسلماً كان أو ذمياً ولو منعه السفر لأن في الجهاد خطر الهلاك فإن استناب من يقضيه من مال له جاز له أن يجاهد من غير إذن الغريم فقد روى مسلم وأحمد وغيرهم ‘ن أبي قتادة (أن رجلاً قال يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً أليَ الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إلا الدين بذلك أخبرني جبريل عليه السلام)). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدين يمنع الجنة أي يمنع الشهادة فإذا منع الشهادة عُلِمَ أن جهاده ممنوعٌ به. والمؤجل لا يحرم السفر فليس لربِّ الدين منعه من السفر وقيل يمنع سفراً مخوفاً كسفر الجهاد لأن القصد من الجهاد طلب الشهادة والدين يمنع الاستشهاد كما مرَّ فلم يَجُزْ من غير إذن من له الدين ويحرم الجهاد إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين أو أحدهما فقد أخرج البيهقي في السنن عن أبي سعيد الخدري (أن رجلاً هاجر إلى النبي من اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هجرة الشرك وبقي هجرة الجهاد) ثم قال له: ألك أحد في اليمن؟ فقال: أبواي، فقال: أذنا لك؟ فقال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرّض إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإن لم يأذنا لك فبرهما)).
وأخرج الشيخان عن اب مسعود قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لميقاتها، قلت: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فدلّ هذا على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/128)
لا سفر تعلم فرض عين فلا يحتاج إلى إذن الأبوين لأن الغالب من سفره السلامة وقيل هذا مشروط بعدم وجود من يعلمه من بلده فعند إذن يتعين عليه الخروج إن كان له ماله وليس للأبوين منعه فإذا إذن أبواه والغريم بالجهاد ثم رجعوا عن الإذنوعلم بذلك قبل التقاء الجمعين وجب عليه الرجوع لأنه في هذه الحالة كما لو كان في وطنه قال الشافعي: إلا أن يخاف إذا رجع تلفاً فلا يرجع إن لم يحضر الصفة فإن كان الرجوع من الوالدين أو الغريم بعد التقاء الصفين فليس له أن يرجع قال تعالى: (ومن يولهِّم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله) الأنفال16. فإن رجوعه في هذه الحالة ربما كان سبباً لهزيمة المسلمين فلم يكن له ذلك.
فإن شرع من قتال حَرُمَ الانصراف في الأظهر لوجوب المصابرة قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) الأنفال45. والانصراف من المعركة يشوش الصفوف ويكسر القلوب الثاني من حال الكفار أن يدخلوا بلدة لنا أو ينزلوا في جزر أو حبل في دار الإسلام ولو كان بعيداً عن المدن المأهولة بالسكان فليزم أهلها دفع بالممكن ويكون الجهاد حينئذ فرض عين قال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً) التوبة41. فالنفير يعم الجميع المقل منهم والمكثر ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يُحْتَاجُ إلى تخلفهم لحفظ المكان والأهل والمال روى الشيخان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا استُنْفِرتم فانفروا)) فإن أمكن تأهب لقتال بأن لم يهجموا علينا بغتة وجب الممكن لدفع الكفار بحسب القدرة حتى على فقير بما يقدر عليه وولد ومدين وهو من عليه دين وعبد بلا إذن من أبوين وصاحب دين وسيد وينحلُّ الحجر عنهم لأن دخول الكفار إلى أرض الإسلام أمر عظيم لا يهمله إلا من لا دين له ولا غيره ويجوز لآحاد الناس أو يردوا الكفار دون استئذان الإمام إن كان إمام وتعذر استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم لتعين الفساد في تركهم ولذلك (لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خير رجالتنا سلمة بن الأكوع) وأعطاه سهم فارس وراجل) وقيل إن حصلت مقاومة بأحرار اشتُرِطَ إذن سيدهم أي العبد لأن في الأحرار غنية والأصح لا يشترط الإذن لتقوى شوكة المسلمين ويشتد ساعدهم وإلا بأن لم يمكن أهل البلدة التأهب لقتال الكفار وذلك بأن هجموا فجأة فمن قُصِدَ من المكلفين ولو امرأة أو مريض دفع عن نفسه الكفار بالممكن إن علم أنه إذا أخذ قُتِلَ أو لم تأمن المرأة فاحشة إذا أخذت وإن جوّزَ المكلف الأسرى إن ظن أنه إن امتنع منه قتل لأن ترك الاستسلام حينئذ تعجيل للقتل إن أمن الفاحشة أو القتل ولو أريدت منه الفاحشة فله الدفع ولو بعد الأسر. أما المرأة فإن علمت امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإنت قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل وإن توقعت امتداد الأيدي بالفاحشة بعد الاستسلام جوّزَ ذلك على أن تدفع عن نفسها إذا أُريد منها ذلك.
ومن هو دون مسافة قصر من البلدة التي دخلها الكفار فحكمه كأهلها فيجب عليه المضي إليهم إن وجد زاداً ولا يعتبر الركوب لقادر على المشي للوصول إليهم هذا إذا لم يكن في أهل البلد التي دخلها الكفار كفاية والأصح أن عليه الدفع وإن كان في أهلها كفاية لأنه في حكمهم. ومَنْ على المسافة أي مَنْ كان على مسافة القصر فما فوقها يلزمهم في الأصح إن وجدوا زاداً ومركوباً الموافقة لأهل ذلك المحل في الدفع بقدر الكفاية أي هو فرض كفاية بحقهم إن لم يَكْفِ أهلها ومن يليهم دفعاً قيل وإن كفوا أي أهل البلد ومن يليهم في دفع الكفار والأصح أنه يجب الموافقة على الأقرب فالأقرب بلا ضبط حتى يصل الخبر بأنهم قد كفوا ودفعوا العدو ولو أسروا أي الكفار مسلماً فالأصح وجوب النهوض إليهم وإن لم يدخلوا داراًَ لنا لخلاصِهِ إن توقعناه أي توقعنا خلاص المسلم كما ننهض إليهم عند دخول دار الإسلام لدفعهم عنها لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار أما إذا لم نتوقع خلاصه لبعد أو قله مؤنة أو عدم معرفة مكانه تركنا ذلك للضرورة وننتظر الوقت المناسب.
? فصل في مكروهات الغزو ومن يجوز قتله ومن يحرم قتله من الكفار ?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/129)
يكره غزو دون إذن الإمام أو نائبه تأدباً معه ولأنه أعرف بما فيه مصلحة المسلمين ولا يحرم الغزو بغير إذن الإمام لأن أكثر ما فيه التغرير بالنفس وتعريضها للقتل وهو جائز في الجهاد فقد روى الحاكم عن أنس (أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قُتِلت أليَ الجنة؟ قال: نعم فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل) قال الحاكم هو حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وروى الشيخان عن جابر قال: (قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قُتلتُ؟ قا: في الجنة، فألقى تمرات كنَّ يده ثم قاتل حتى قُتِلَ).
وروى ابن اسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: (لما التقى الناس يوم بدر قال عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يُضْحِكُ الرب تعالى من عبده؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أن يراه غمس يده في القتال يقاتل حاسراً) فنزع عوف درعه ثم تقدم فقاتل حتى قُتِلَ) واستثنى البلقيني من كراهة الغزو دون إذن الإمام صوراً: أحدها أن يفوته المقصود بذهابه للإستئذان، ثانيهما: إذا عطل الإمام الغزو وأقبل هو وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد، ثالثهما: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذنه لم يأذن له.
وَيُسَنُّ للإمام أو نائبه ّإذا بعث سرية إلى بلاد الكفار والسرية قطعة من الجيش يبلغ أقصى عددها أربعمائة رجل. روى ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)) رواه الترمذي وأبوداود وزاد أو يعلى الموصلي (إذا صبروا وصدقوا). أن يؤمِّر عليهم أميراً مطاعاً يرجعون إليه في أمورهم. قال الشافعي في الأم: (وأحبُّ للإمام أن يبعث إلى كل طرف من أطراف الإسلام جيشاً ويجعلهم بإزاء من يليهم من المشركين ويولّيَ عليهم رجلاً عاقلاً ديّناً قد جرب الأمور لأنه إذا لم يفعل ذلك فربما خرج عسكر المشركين وأضروا بمن يليهم إلىأن يجتمع عسكرٌ من المسلمين). ويأخذ البيعة بالثبات على الجهاد وعدم الفرار وأن يحرضهم على القتال وأن يدخل دار الحرب بتعبية الحرب لأنه أحوط وأهيب روى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف قال: (عَبْأَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر) وأن يدعو عند التقاء الصفين فقد روى أبوداود وغيره عن سهل بن سعد مرفوعاً (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء عند حضور الصلاة وعند الصف في سبيل الله). وفي رواية لابن حبان (عند النداء للصلاة والصف في سبيل الله).
وله أي الإمام الاستعانة على الكفار بكفار تؤمن خيانتهم وإنما تجوز الاستعانة بهم بشرطين أمن الخيانة مع حسن رأي في المسلمين والشرط الثاني ذكره بقوله (ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر قاومناهم لإمن ضررهم حينئذ فإذا كانوا إذا انضموا إلى بعضهم زادوا عن ضعف المسلمين لم تجز الاستعانة بهم وشرط الماوردي رحمه الله شرطاً ثالثاً وهو أن يخالفوا معتقد العدو الذي نقاتله كاليهود مع النصارى فقد روى البيهقي عن سعد بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (غزا بقوم من اليهود فرضح لهم وفي رواية: لم يضرب لهم بسهم) والرضح هو العطاء من الغنيمة وهو دون السهم.
وأما ما رواه مسلم وغيره عن عائشة (إنا لا نستعين بمشرك) فلا يقتضي المنع بل إن الأولى أن لا يفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك لطالب إعانة به تفرس النبي فيه الرغبة في الإسلام فرده فلما رده أسلم فصدق ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يدل على ذلك الخبر السابق فقد روى مسلم عن عائشة أنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فلما بلغنا موضع كذا لقينا رجل من المشركين موصوفاً بالشدة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أقاتل معك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا لا أستعين برجل من المشركين) قالت: فأسلم وانطلق معنا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/130)
وبعبيد بإذن السادة إذا رأى الإمام الفائدة والنفع فيهم ومراهقين أقرياء في القتال كما يستعان بهم في نقل الماء ونقل السلاح وإعداد الطعام ومداوة الجرحى ولا بأس بالاستعانة بالنساء في مثل ذلك فقد روى مسلم عن أم عطية أنها قالت (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى) وله أي الإمام بذل الأهبة والسلاح من بيت المال ومن ماله وكذا إذا تبرع أحد من الرعية بذلك لينال ثواب الإعانة على الجهاد فقد روى الشيخان عن يزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله وماله بخير فقد غزا).
ولا يصح استئجار مسلم لجهاد لأنه إن جاهد إنما يقع الجهاد عن نفسه لأن الجهاد فرض على الكفاية فإذا حضر المجاهد الصف تعين عليه الهاد بنفسه ويصح اسئجار ذمي ومعاهد ومستأمن وقيل وحربي لجهاد، والأمر للإمام وتكون أجرتهم من خمس الخمس وهو سهم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاز ذلك لأن الجهاد لا يقع لهم قيل ولغيره من آحاد الناس أن يستأجره والأصح المنع من استئجار الكافر للجهاد من غير الإمام لأن الجهاد من المصالح العامة فلا تتولاها العامة وأما قياسه على الأذان فبعيد لأن الأجير في الأذان مسلم وهذا كافر لا يؤتمن.
ويكره لغاز قتل قريب له ومحرم قتله أشد لقوله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً) لقمان15 فأمره بمصاحبتهما بالمعروف وقتلهما ليس من المصاحبة بالمعروف فقد أخرج البيهقي في السنن من طريق الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر حين أراد قتل ابنه (دعه يتولى قتله غيرك) وكذلك قال لأبي حذيفة حين أراد قتل أبيه. وقلت: إلا أن يسمعه يسبُُ الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أي يذكره بسوء فلا كراهة عند ذلك والله أعلم فيستحب عند ذلك تقديم حق الله وحق رسوله على ما سواهما. قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم) المجادلة22.
وروى الشيخان عن أنس بن مالك (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) وفي لفظ لمسلم والناس أجمعين. وقد أخرج السيوطي في الدر المنثور أن أبا عبيدة بن الجراح سمع أباه يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقتله ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحرم قتل صبي ومجنون وامرأة وخنثى مشكل إن لم يقاتلوا فقد روى الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قتل النساء والصبيان) وألحق المجنون بالصبي والخنثى المشكل بالمرأة لاحتمال أنوثته. ويحل قتل راهب وأجير وشيخ وأعمى وزمن لا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر لعموم قوله تعالى (واقتلوهم حيث وجدتموهم) التوبة5. وقد روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: (لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتله فهزم الله أصحابه) وذكر ابن اسحاق في السيرة أن دريد قتل يوم حنين وقد نيف على المائة فيسترقون وتسبى نساؤهم وأموالهم أي يجوز للإمام أن يضرب عليهم الرق إن شاء كما تغنم أموالهم وإذا لم يقتلوا كانوا أرقاء بنفس الأسر. ولكن لا يقتل رسولهم لما روى أحمد وغيره عن ابم مسعود أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة الكذاب لعنه الله فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدان أني رسول الله؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال النبي: (لو كنت قاتلاً رسولاً لضربت أعناقكما) وقد جرت السنة في فعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه الراشدين من بعد ألا يقتل الرسل.
ويجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع وإرسال الماء عليهم ورميهم بنار ومنجنيق وإن كان فيهم نساء وصبيان كما يجوز قطع الماء عنهم. قال تعالى (فاقتلوا المشركين جيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم) التوبة5. وقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/131)
وروى أبو داود في المراسيل عن أبي ثور عن مكحول (أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب على أهل الطائف المنجنيق). وتبيتهم في غفلة أي يجوز تبيتهم أي الإغارة عليهم ليلاً وهم غافلون. فقد روى الشيخان من حديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم).
وروى الشيخان من حديث الصعب بن جثامة (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم). هذا فيمن بلغتهم الدعوة أما من لم تبلغهم الدعوة فلا يجوز قتالهم حتى يدعوا إلى الإسلام.
فإن كان منهم مسلم أسير أو تاجر جاز ذلك على المذهب أي إذا كان في الكفار أسارى من المسلمين جاز رميهم بالنار والمنجنيق وإرسا اماء عليهم إن دعت إلى ذلك ضرورة أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك لئلا يتعطل الجهاد لحبس مسلم عندهم وإصابة المسلم متوهمة وإن أصيب رزق الشهادة.
ولو التحم حرب فتترسوا بنساء وصبيان جاز رميهم إذا دعت الضرورة إلى ذلك لأنهم لو تركوا لغلبوا المسلمين ولكان ذلك سبباً لتعطل الجهاد. وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم لأن في ذلك منع قتل النساء والصبيان من غير ضرورة (ولأنا نهينا عن قتل النساء والصبيان) رواه الشيخان عن ابن عمر.
وإن تترسوا بمسلمين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم وجوباً فلا نرميهم صيانة لهم فإن حرمتهم لأجل الدين فإن الحق في المسلم لله سبحانه وتعالى. وإلا جاز رميهم وذلك إذا تترس الكفار بهم حال الحرب والتحام القتال لأنا لو كففنا عنهم لظفروا بنا أو عظمت نكايتهم فينا وتوقع هلاك طائفة من المسلمين يحتمل من أجل الدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية. ويحرم الانصراف عن الصف ولو كان الغالب على ظنه أنو لو ثبت قتل. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) الأنفال16. وفي الصحيحين عن أبي هريرة (اتقوا السبع الموبقات وعدََ منها التولي يوم الزحف) إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا بأن كانوا مثلينا أو أقل حرم الانصراف قال تعالى (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) الأنفال66. فأوجب على كل مسلم مصابرة الإثنين.
قال ابن عباس (من فرََ من ثلاثة فلم يفرََ ومن فرََ من اثتين فقد فرََ) أي من فرََ من ثلاثة فلم يفرََ الفرار المذموم في القرآن ومن فرََ من اثنين فقد فرََ الفرار المذموم في القرآن. قال بعضهم: الآية جاءت على صيغة الخبر فكيف جعلتموه أمراً؟ والجواب أن الله تعالى قال (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً) الأنفال66 بعد أن قال (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) والتخفيف يقع في الأمر لا في الخبر فكانت الآية على الأمر.
إلا متحرفاً لقتال أي منتقلاً من مكان لا يمكن القتال فيه إلى متسع يمكن القتال فيه أو متحيزاً إلى فئة يستنجد بها للقتال وينضم إليها محارباً فيجوز انصرافه. قال تعالى (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) الأنفال16.
وأخرج أحمد في المسند والطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال (لما ولّى المسلمون يوم حنين بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون نفساً فنكصنا على أعقابنا أربعين خطوة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعطني كفاً من تراب فأعطيته فرماه في وجه المشركين فقال لي: اهتف بالمسلمين فهتفت بهم فأقبلوا شاهرين سيوفهم).
وروى الشافعي في الأم عن طريق الزهري عن عمر بن الخطاب أنه قال: (أنا فئة كل مسلم) وكان بالمدينة وكانت جيوشه بالأفاق.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (وإن كان هربه على غير هذا المعنى خفت عليه -إلا ان يعفو الله تعالى- أن يكون باء بغضب من الله) أي إذا تعين عليه فرض الجهاد وولََى غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فقد باء بغضب من الله.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/132)
ويجوز إلى فئة بعيدة في الأصح والبعيد هي التي إذا استغاث بها لم تسمعه ولا يشارك متحيز إلى بعيدة الجيش فيما غنم بعد مفارقته لفوات نصرته بالمفارقة ويشاركه فيما غنم قبل مفارقته ويشارك متحيز إلى قريبة الجيش فيما غنم بعد مفارقته له في الأصح لبقاء نصرته فإذا زاد عدد جنود الكفار على مثلين من جنود الإسلام جاز الانصراف عن الصف لقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) الأنفال66. فالواجب على المسلم مصابرة الإثنين إلا أنه يحرم انصراف مائة بطل عن مائتين وواحد ضعفاء في الأصح، لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا نظراً للمعنى وإنما يراعى العدد عمد تقارب الأوصاف ولذا لا يختص الخلاف بزيادة الواحد أو نقصه.
وتجوز المبازرة بلا كراهة فقد روى أبو داود عن علي (أن علياً وحمزة وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة) ورواه البخاري مختصراً من حديث قيس بن عباد عن أبي ذر.
وروى الحاكم عن ابن العباس (أن علياً بارز يوم الخندق عمرو بن ودِّ العامري).
رورى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه (أن الزبير بن العوام بارز يم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وقتله). فإن طلبها كافر استحب الخروج إليه لأن ترك المبارزة دليل على الضعف ودافع للكفار على الاستهانة بالمسلمين وازدرائهم. فقد روى الشيخان عن عبدالرحمن بن عوف أن عوفاً ومعوذاً ابني عفراء خرجا يوم بدر فلم ينكر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى ابن اسحاق في المغازي عن عاصم بن عمرو عن قتادة (أن عبدالله بن رواحة خرج يوم بدر إلى البراز فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وإنما تَحْسُنُ أي تندب المبارزة ممن جرب نفسه بأن عرف منها القوة والصبر والجرأة وبإذن الإمام أو أمير الجيش لأن القائد المحنك هو الذي يعرف مقاتليه وقدراتهم ويجوز اتلاف بنائهم وشجرهم لحاجة القتال والظفر بهم فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّق نخيل بني النضير) وروى البيهقي عن عروة بن الزبير (أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى الطائف فأمر بقصر مالك بن عوف فهُدِم وأقر بقطع الأعناب). وروى البيهقي عن طريق الشافعي بغير اسناد (أن حنظلة الراهب عقر فرس أبي سفيان يوم أحد فسقط عنه فجلس حنظلة على صدره ليذبحه فجاء ابن شعوب فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة). قال تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) الحشر50 واللينة: النخلة. والعقر: قطع إحدى القوائم من الدابة لتسقط وليتمكن من ذبحها. وكذا يجوز إتلافها إن لم يُرجَ حصولها لنا فإن رُجيَ ندب الترك وكُرِه الإتلاف لأنها تصير غنيمة للمسلمين ويحرم إتلاف الحبوان إلا للأكل لأن للحيوان حرمتين حرمة لحق مالكه وحرمة لحق الله فإذا اسقطت حرمة مالكه لكفره بقيت حرمة الله سبحانه وتعالى ولذا حرم على مالك الحيوان إجاعَتُهُ ومنعه الماء بخلاف الأشجار فقد روى الإمام مسلم عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الحيوان صبراً) وصبر البهائم أن تحبس وترمى لتقتل إلا ما يقاتلونا عليه لدفعهم أو الظفر بهم لأنها آلة للقتال وإن جاز قتل نسائهم وأطفالهم إن تترسوا بهم فقتل خيلهم أولى فقد أخرج أحمد في المسند ومسلم عن عوف بن مالك (أن رجلاً اختبأ لرومي خلف صخرة فلما مرََّ عليه خرج فعقر دابته فقتله وأخذ سلبه ولم ينكر النبي عليه ذلك).
أو غنمناه وخفنا رجوعه إليهم وضرره لنا يجوز إتلافه دفعاً لهذه المفسدة لأن الكفار إذا أخذوه تقووا به علينا.
?فصل: في حكم الأسر وما يؤخذ من أهل الحرب?
نساء الكفار وصبيانهم إذا أسروا رَقُّوا أي صاروا أرقاء بنفس الأسر فخمسهم لأهل الخمس وأربعة أخماسهم للغانمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهم إذا لم يقاتلوا فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد امرأة نقتولة في بعض المغازي فنهى عن قتل النساء والصبيان). وكذا العبيد فإتهم يصيرون بالأسر أرقاء لنا ويجتهد الإمام في الأحرار الكاملين إذا أُسِروا ويفعل فيهم الأحظ للمسلمين من قتلٍ بضرب رقبة ومَنٍّ عليهم بتخلية سبيلهم وفداء بأسرى أو مال يؤخذ منهم وسواءفي ذلك مِنْ مالهم أو من أخذ منّا وهو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/133)
في أيديهم واسترقاق قال تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوثاق) محمد4. وقوله فشدُّوا الوثاق أي بالأسر قال الشافعي حدثنا عدد من أهل العلم من قريش وغيرهم من أهل العلم بالمغازي (أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر النضر بن الحارث العبدري وقتله صبراً). وروى البيهقي من طريق محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل بالأسرى أمر عاصم بن ثابت فضرب عُنُقَ عقبة بن أبي معيط صبراً.
وروى مسلم عن عمران بن حصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسره أصحابه برجلين أسرتهما ثقيف). وروى أبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن عباس قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يومئذ (يعني في بدر) أربعمائة).
وروت عائشة (أن أهل مكة لما وجهوا فداء أسراهم وجهتْ زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء زوجها أبي العاص بن الربيع فكان فيما وجهت قلادة أدخلتها بها خديجة على أبي العاص فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها فرقَّ لها وقال للمسلمين (إذا رأيتم أن تُخَلُّوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها ففعلوا ذلك)) رواه عن عائشة أبو داود وأحمد والحاكم.
وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قَبِلَ نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: يا محمد عندي خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تُنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تُعْطَ ما شئت. فترك حتى كان الغد ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: ما قلت لك إت تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك. فقال: أطلقوا ثمامة). فإن خفي الأحظ على الإمام في الحال حبسهم حتى يظهر له الأحظ فيفعله وسواءٌ في الاسترقاق العربي والوثني والكتابي غيرهم وقيل لا يسترق وثني لأنه كالمرتد فإنه مَنْ لم يجزْ حقنُ دمه بالجزية لم يَجُزه حقن دمه بالاسترقاق وكذا عربي في قول قديم وفيه حديث ضعيف لا يحتج بمثله رواه البيهقي عن معاذ (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: لو كان الاسترقاق ثابتاً على العرب لكان اليوم وإنما هو إسارٌ وفداءٌ. وقد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل العرب وأجرى عليهم الرق) رواه الشيخان عن ابن عمر.
ولو أسلم أسير عصم دمه لما روي الشيخان عن ابن عمر وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم) وبقي الخيار في الباقي. وهو المَنُّ والفداء والإرقاق لأن المخير بين أشياء إذا سقط بعضها لتعذره لا يسقط الخيار في الباقي كمن عجز عن العتق في الكفارة فإنه ينتقل إلى غيره وإسلام كافر قبل ظَفَرٍ به يعصمُ دمَهُ ومالَه وصغارَ ولده للحديث السابق وسواءٌ في ذلك أسلم وهو محصور وقد قَرُبَ الفتحُ أو أسلم في حال أمنه وسواءٌ أسلم في دار الحرب أو في دار الإسلام أما أولاده البالغون العقلاء فلا يعصمهم إسلام الأب لاستقلالهم بالإسلام لا زوجَتَه فإسلام الزوج لا يعصم زوجته عن الاسترقاق على المذهب المنصوص لاستقلالها وقيل لا تسترق زوجته لئلا يبطل حقه من نكاحها فإن استرقت انقطع نكاحه في الحال لأنه زال ملكها عن نفسها بالاسترقاق فملك الزوج أولى بالزوال ولأنها صارت أمة كافرة ولا يجوز إمساك الأمة الكافرة للنكاح كما يمتنع ابتداء نكاحها. فقد روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال (أصبنا نساء يوم أوطاس فكأن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجلَّ في ذلك (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) النساء24). أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن والمراد بالمحصنات هنا المتزوجات.
وروى أحمد في المسند وأبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس (لا تُوطأ حاملٌ حتى تضع ولا حائل حتى تحيض) وفي رواية البيهقي في السنن (حتى تحيض حيضة). ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ذات زوج وغير ذات زوج.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/134)
وقيل إن كان بعد الدخول بها انتُظرتِ العدَّةُ فلعلها تعتق فيها. كالمرتدة فإن اعتقت استمر النكاح وإن تسلم فلا لأن إمساك الحرة الكتابية جائز وهذا الوجه مرجوح لأن حدوث الرقِّ يقطع النكاح فأشبه الرضاع.
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[21 - 07 - 07, 03:12 ص]ـ
الجزء السابع عشر
ويجوز إرقاق زوجة ذمي إن كانت حربية فترق بنفس الأسر وينقطع به نكاحه وكذا عتيقهُ في الأصح لأن الذمي إذا التحق بدار الحرب اسْتُرِقَ فإذا كان عتيقه حربياً كان أولى بالاسترقاق لا عتيق مسلم التحق بدار الحرب وزوجته المسلم الحربية فلا تسترق إذا سُبيت على المذهب والمراد بعتيقه من اعتقه بعد أن أسلم أو كان مسلماً أصالةً وكذلك زوجته وإذا سُبيَ زوجان أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما إن كانا حرّين لحديث مسلم السابق عن أبي سعيد الخدري أنهم لما امتنعوا يوم أوطاس من وطء السبايا لأن لهنَّ أزواحاً نزل قول الله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) النساء24. فحرم المتزوجات وأباح المملوكات بالسبي فلما حللن للمسلمين دلَّ ذلك على ارتفاع نكاحهن السابق قيل أو رقيقين فينفسخ النكاح لحدةث السبي والأصح لا ينفسخ النكاح إذا لم يحدث رقٌّ وإنما هو انتقال الملك فأشبه البيع سواء سُبيا معاً أو مرتباً. وإذا أُرِقَّ وعليه دين لمسلم أو ذمي أو معاهد أو مستأمن لم يسقط الدين لأن له ذمة أما لو كان الدين لحربي فيسقط لعدم حرمة مال الحربي فَيُقْضَى الدين من ماله إن غنم بعد إرقاقه تقديماً له على الغنيمة كالوصية وإن حُكِمَ بزوال ملكه بالرقِّ كما يقضى دين المرتد وإن حكم بزوال ملكه بالردة أما إذا لم يكن له مال فيبقى في ذمته إلى عتقه وأما ماله الذي كان معه وقت إرقاقه فهو للغانمين.
ولو اقترض حربي من حربي أو اشترى منه ثم أسلما أو قَبِلا الجزية دام الحق الذي يصح طلبه لالتزامه بعقد صحيح بخلاف نحو خمر أو خنزير فلا يصح طلبه.
ولو أتلف عليه أي على حربي حربيٌ آخر أو غصبه منه فلا ضمان في الأصح لأنه لم يلتزم شيئاً بعقد حتى يدوم حكمه.
والمال المأخوذ من أهل الحرب قهراً غنيمة للمسلمين وكذا ما أخذه واحدٌ أو جمعٌ من دار الحرب بسرقة أو اختلاس أو سوم ولوكانوا في بلادنا حيث لا أمان لهم أو وجد كهيئة اللقطة فهو غنيمة على الأصح إن علم أنه للكفار وقيل يختص به من أخذه.
فإن أمكن كونه لمسلم بأن كان ثمَّ تاجر مسلم أو مقاتل وجب تعريفه كلقطة دار الإسلام وللغانمين التبسط في الغنيمة بأخذ القوت وما يَصْلُحُ به ولحم وشحم وكل طعام يُعتاد أكله عموماً أي عادة لما روى البخاري عن ابن عمر قال: (كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه). وأخرج أبو داود عن عبدالله بن أبي أوفى قال: (أصبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبير طعاماً فكان كلُّ واحد منّا يأخذ قدر كفايته) 0 وروى الشيخان عن عبدالله بن مغفل قال: (أصبتُ جراباً من شحم يوم خيبر فالتزمت فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفتُ فّإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسماً). فلو لم يجز ذلك لنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
وعلف الدواب تبناً وشعيراً ونحوهما جائز للمجاهد إذا كان مأخوذاً من المشركين في دار الحرب ولا ضمان عليه لأن الحاجة إلى ذلك كحاجته إلى الطعام وذبح مأكول للحمه جائز للمجاهد والصحيح جواز الفاكهة رطبها ويابسها للمجاهدين وكذلك الحلوى من غير ضمان فقد روى البخاري عن ابن عمر أنه قال: (كنا نُصيبُ في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه).
وأنه لا تجب قيمة المذبوح لأجل أكله لأنه طعام وأنه لا يختص الجواز بمحتاج إلى طعام وعلف بل يجوز أخذ ما يحتاج إليه منهما إلى وصول دار الإسلام لأن الرحصة وردت مطلقاً من غير تفصيل.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/135)
وأنه لا يجوز ذلك لمن لَحِقَ الجيش بعد الحرب والحيازة أي لا يجوز التبسط المذكور بالطعام والعلف لمن لحق بالجيش بعد انقضاء الحرب وبعد حيازة الغنيمة لأنه كالأجنبي معهم وأن من رجع إلى دار الإسلام ومعه بقية لزمه ردها إلى المغنم لزوال الحاجة بعد العودة إلى داره هذا إذا لم تقسم الغنيمة أما إذا قسمتْ الغنيمة فلا يردُّ شيئاً إلى الغانمين إنما يرد إلى الإمام أو يجعله في المصالح وقيل يبيعه ويتصدق بثمنه وقيل يكون له ولا يرده وموضع التبسط دارُهُم أي دار الكفار وهي دار الحرب وكذا ما لم يصل عمران الإسلام في الأصح فإذا وصل دار الإسلام امتنع التبسط ونقصد بدار الإسلام هي الدار التي في قبضة المسلمين ولو لم يكن فيها مسلم.
ولغانم رشيد أو محجوراً عليه بفلس الإعراض عن الغنيمة قبل القسمة لأن الغرض الأعظم من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى والذبُّ عن ملة الإسلام والغنائم تابعة لذلك فمن أعرض عنها فقد جرد قصده للغرض الأعظم ومحَّضَ جهاده للآخرة. والأصح جوازه أي الإعراض عن الغنيمة من رشيد بعد فرز الخمس لأن حقه لم يتميز بعد وما زال على الشيوع وجوازه أي الإعراض لجميعهم أي لجميع الغانمين وبطلانه أي بطلان الإعراض من ذوي القربى وسالبٍ لأنهم ملكوا ذلك قهراً. والمعرض عن الغنيمة حكمه في الغنيمة كمن لم يحضر فيُضمُّ نصيبه إلى المغنم ومن مات ولم يعرض عن الغنيمة فحقه لوارثه فله طلبه ولا تملك الغنيمة إلا بقسمة ولهم أي الغانمين التملك قبل القسمة وقيل يملكون الغنيمة بمجرد الحيازة ويكون التملك بأن يقولَ بعد الحيازة وقبل القسمة اخترتُ ملك نصيبي من الغنيمة وقيل إن سَلِمَتْ الغنيمة إلى القسمة بأن ملكهم لها بالاستيلاء وإلا بأن تلفت أو أعرضوا عنها فلا ملك لهم ويُمْلَك العَقَارُ بالاستيلاء كالمنقول أي يختص به الغانمون بمجرد الاستيلاء كما يختصون بالمنقول. قال تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) الأنفال4 ولم يفرق بين المنقول وغير المنقول.
ولو كان فيها أي الغنيمة كلبٌ أو كلابٌ تنفع لصيد أو ماشية أو زرع وأرادَهُ بعضهم أي الغانمين ولم ينازع فيه أعطيَهُ لأنه ليس له مالية فلا ضرر على الآخرين في أخذه وإلا أي إذا نوزع قسمت تلك الكلاب إن أمكن التقسيم وإلا أُقْرِعَ بينهم دفعاً للنزاع والصحيح أن سواد العراق وسُمِيَ سواداً لأنهم حين خرجوا من البادية رأوا خضرة فقالوا ما هذا السواد والعرب تطلق السواد على الخضرة فُتِحَ عَنْوَة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعنى عنوة أي قهراً وغلبة وقُسِّمَ بين الغانمين ثم بذلوه بعد قسمته واختيار تملكه والبذل إنما يكون ممن يملك وعو الغانمون. فقد أخرج الشافعي في الأم عن جرير بن عبدالله البجلي قال: (كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية فقسم لهم عمر ربع السواد فاستغلوا ثلاث سنين أو أربعاً ثم قدمت على عمر فقال: لولا أني قاسم مسؤول لتركتكم على ما قسم) وروى البيهقي عن عمر أنه قال (لولا أخشى أن يبقى آخر الناس بياناً لا شيء لهم لتركتكم وما قُسِمَ لكم ولكنّي أحب أن يلحق آخرُ الناس أولَهم) وتلا قول الله تعالى (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) الحشر10.
ووُقِفَ على المسلمين لأن عمر خاف تعطيل الجهاد إذا اشتغلوا بزراعته لو تُرِكَ بأيديهم روى أحمد في المسند والبيهقي في السنن وأبو داود عن ابن عمر (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). ولأنه لم يستحسن قَطْعَ مَنْ بعدهم كما مرَّ في خبر البيهقي عن عنر فقد روى يحي بن آدم في كتاب الخراج عن سفيان الثوري أنه قال: (جعل عمر السواد وقفاً على المسلمين ما تناسلوا).
وروى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: (لو لا آخر المسلمين ما غَنَمْتُ قريةً إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/136)
وخراجه أجرة تؤدى كلَّ سنة لمصالح المسلمين الأهم فالأهم وليس لأهل السواد بيعه ولا رهنه ولا هبته لكونه صار وقفاً ولهم إحارته مدة معلومة لا مؤبدة ولا يجوز لعير ساكنه أن يقول أنا أستثمره وأعطي الخراج لأن أهله ملكوا المنفعة بالإرث بعقد بعض آبائهم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهو أي السواد حدوده من عبادان إلى حديثة الموصل طولاً ومن القادسية إلى حُلْوان عرضاً وعبادان ميناء قرب البصرة وحديثة الموصل غير حديثة بغداد والقادسية قرب الكوفة وهو موضع المعركة المشهورة بين المسلمين والفرس قلت الصحيح أن البَصْرَة وإن كانت داخلة في حد السواد فليس لها حكمه إلا في موضع غربيِّ دجلتها وهو النهر المشهور وفي موضع شرقيها يسمى نهر الصَّراة وما عدا ذلك كان مواتاً أحياه المسلمون بعد ذلك. فقد روى عمر بن شبة في (أخبار البصرة) أن أرض البصرة كات سبخة فأحياها المسلمون وكان ذلك سنة أربع عشرة للهجرة وكان السابق إلى ذلك عتبة بن غزوان.
وإن ما في السواد من الدور والمساكن يجوز بيعه والله أعلم لأنه لم يدخل في الوقف وفتحت مكة صلحاً قال تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولََّوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً) الفتح22. والذين كفروا هم أهل مكة وقال تعالى: (وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً) الفتح24. وهذا يعني أن مكة فتحت صلحاً فدورها وأرضها المُحْياة مِلكٌ يباع قال الغزالي فدورها وأرضها المحياة ملك يباع إذ لم يزل الناس يتبايعونها. وروى الشيخان عن أسامة بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أسامة بن زيد يا رسول الله أتنزل غداً بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور) والرباع هي العقارات والربع: المنزل.
? فصل في أمان الكفار ?
والأمان ضد الخوف وأرد به هنا ترك القتل والقتال مع الكفار وقد تقتضي المصلحة عقد الأمان ولا يبيح الإسلام للحربي أن يدخل بلادنا من غير أن يكون معه أمان يجعلنا نطمئن إليه وينقسم الأمان إلى عام وهو ما تعلق بأهل إقليم أو بلد وهو للهدنةوهذا يختص بالإمام وولاته وإلى الخاص وهو ما تعلق بآحاد الناس ويصح من الولاة والآحاد والأصل في الأمان قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) التوبة6.
وروى الشيخان عن علي أنه قال (ما عندي إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخطر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وروى أبو داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) يصح أي الأمان من كل مسلم مكلف مختار ولو كان عبداً أو فاسقاً أو محجوراً عليه لسفه أو امرأة أمان حربي واحد وعدد محصور فقط كعشرة ومائة ولا يجوز أمان أسير ولا أمان ناحية وبلدة ويجوز أمان قرية صغيرة بشرط ألا يتعطل الجهاد بأمانهم فقد روى أحمد في المسند عن عبدالله بم مسلمة: أن رجلاً أجار رجلاً من المشركين فقال عمر بن العاص وخالد بن الوليد لا نجيز ذلك فقال أبو عبيدة بن الجراح: ليس لكما ذلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يجيرُ على المسلمين بعضهم) فأجاروه. وروى الشيخان عن أمِّ هانيء بنت أبي طالب أنها أجارت حَمَوَين لها من المشركين يوم الفتح فأراد عليٌ قتلهما وقال لها: أتجيرين المشركين والله لأقتلنهما فقالت: يا رسول الله يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ليس لك ذلك من أجرتِ أجرناه ومن أمنتِ أمناه).
ولا يصح أمان أسير لمن هو معهم في الأصح لأنه مقهور في أيديهم لا يعرف وجه المصلحة ويصح الأمان بكل لفظ يضر مقصوده صريح نحو أمنتك أو أجرتك أو أنت في أماني أو كناية نحو أنت على ما تحب أو كن مطمئناً أو كن كيف شئت وبكتابة ورسالة يصح الأمان وكذلك يصح بالإشارة المفهمة ويصح اللفظ بالأعجمية. فقد روى البيهقي عن حديث أبي وائل قال: (جاءنا كتاب عمر وفيه وإذا قال الرجل للرجل: لا تخف فقد آمنه وإذا قال له: مَتَرْسٌ فقد آمنه) ومعنى (مَتَرس) أي لا تخف. وأخرج ابن أبي شيبة عن أسامة بن زيد قال: قال عمر: (أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو إن نزلتَ ما قتلتُك فنزل وهو يرى أنه أمان فقد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/137)
آمنه). ويشترط علمُ الكافر بالإيمان كسائر العقود فإن رده بطل لأنه إيجابُ حقٍّ لغيره فلم يصح مع الردِّ وكذا إن لم يُقْبل في الأصح كأن سكت ولم يقل شيئاً وقيل لا يبطل بالسكوت حقناً للدماء.
وتكفي إشارة مفهمة للقبول لقول عمر السابق (أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو إن نزلت ما قتلتك فنزل وهو يرى أنه أمان فقد آمنه).
ويجب ألا تزيد مدته على أربعة أشهر فإن زاد بطل في الزائد. قال تعالى: (فسيحوا على الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) التوبة2. وفي قول يجوز الأمان ما لم تبلغ مدته سنة فإن بلغتها امتنع الأمان قطعاً لئلا تترك الجزية ولا يجوز أمان يضر المسلمين كجاسوس وطليعة والطليعة ما يتقدم عل الجيش ليطلع على أحوال عددهم ثم يخبرهم بها، فلا ينعقد الأمان لهما ولا يستحق هؤلاء تبليغ المأمن لأن دخولَ مثلهما خيانة وليس للإمام نبذ الأمان إن لم يخف خيانة لأنه لازم من جهتنا. قال تعالى: (وإما تخافنَّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الأنفال59.
ولا يدخل في الأمان ماله وأهله بدار الحرب لأن فائدة الأمان منع قتله ورقه وكذا ما معه منهما أي مالُهُ وأهلُهُ في الأصح إلا بشرطٍ في دخولهما الأمان لأن الأمان الأول قاصر عليه والجمهور على أنه يدخل ماله وأهله من غير شرط بالتبعية لأمانه والمسلم بدار الحرب إن أمكنه إظهار دينه استُحب له الهجرة إلى دار الإسلام لئلا يكثِّر سوادهم أو يميل إليهم إلا إذا رجا بإقامته نشر الإسلام وإسلام غيره وتبليغ دعوة الله وإلا أي إذا لم يستطع إظهار دينه أو خاف فتنة في دينه وجبت عليه الهجرة رجلاً كان أو امرأة وإن لم تجد محرماً. قال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) النساء97.
وروى أبو داود عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) وفي رواية أخرى له (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين). إن أطاقها أي الهجرة فإن لم يقدر عليها فمغدور إلى أن يقدر قال تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) النساء98.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو للضعفاء عن الهجرة أن يعينهم الله عليها ويغفر لهم فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده ثم قال: قبل أن يسجد اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم إجعلها سنين كسني يوسف).
ولو قَدَر أسير على هرب لزمه للتخلص من قهر المشركين ولو أطلقوه بلا شرط فله اغتيالهم قتلاً وسلباًو سبياً لأنهم لم يستأمنوه وقتل الغيلة هو أن يخدعه فيأخذه إلى موضع فإذا صار إليه قتله أو أطلقوه على أنهم في أمانه حرم عليه اغتيالهم وفاءً لهم بما التزمه فإن تبعه قوم منهم بعد خروجه فليدفعهم ولو بقتلهم كما يدفع الصائل فيدفعهم بالأخف فالأخف ما لم يحاربوه وإلا انتقض عهدهم وله عندئذ قتلهم مطلقاً أو شرطوا عليه أن لا يخرج من دارهم لم يجز له الوفاء بالشرط بل يخرج إن أمكنه ذلك ولو عاقد الإمام علجاً وهو الكافر الذي له قوة وشدة وشوكة سمي بذلك لأنه يدفع عن نفسه بقوته ومنه سمي العلاج لدفعه الداء يدل على قلعة معينة ليفتحها المسلمون وله منها جارية جاز فهي جعالة بجُعْلٍ مجهول جازت للحاجة ولو قال الإمام ابتداءً إن دللتني على طريق قلعة كذا فلك منها جارية فذلك جائز أيضاً وسواء في ذلك الحرة أم الأمة لأن الحرة ترق بالأسر فإن فُتحت القلعة بدلالته أعطيها لأنه استحقها بالشرط قبل الظفر أو فتحت بغيرها أي بغير دلالته فلا شيء له في الأصح لفقد الشرط وهو دلالته فإن لم تُفْتح القلعة فلا شيء له لأن الاستحقاق مُعلقٌ بشيئين الدلالة والفتح وقيل إن لم يعلق الجُعل وهو الجارية بالفتح فله أجرة مثل لوجود الدلالة فإن لم يكن فيها أي القلعة جاريةٌ أو ماتت قبل الشرط فلا شيء لفقد المشروط عليه أو ماتت بعد الظفر وقبل التسليم إليه وجب بدل لأنها حصلت في بد الإمام فتلفت من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/138)
ضمانه أو ماتت قبل ظفر فلا شيء له في الأظهر لأن الميتة ومثلها الهاربة غير مقدور عليها. وإن أسلمت قبل الظفر أو بعده فالمذهب وجوب بدل من أصل الغنيمة أو من بيت المال إن لم يوجد البدل في الغنيمة وهو أي البدل أجرة مثلٍ وقيل قيمتها وهو المعتمد والذي عليه الجمهور. أما إذا فُتحت القلعة صلحاً وكانت الجارية خارجة عن الصلح سُلمت للعلج وإن كانت داخلة في الأمان أعلمنا صاحب القلعة بالشرط مع العلج فإن رضي بتسليمها إلى العلج غرمنا قيمتها وأمضينا الصلح وتكون قيمتها من بيت المال وإن لم يرضَ أرضينا العلج بقيمتها أو جارية أخرى فإن لم يرضَ فسخنا الصلح ونبذنا العهد واستأنفنا القتال. وقيل لا يجوز الصلح على الجارية أصلاً لأنها مستحقة للعلج.
? كتاب الجزية ?
وتطلق الجزية على العقد وعلى المال المُلتزم به وهو مأخوذة من المجازاة لكفنا عنهم وقيل مأخوذة من الجزاء بمعنى القضاء. قال تعالى: (وأتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً) البقرة48. والأصل فيها الإجماع قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة29.
والكفار على ثلاثة أضرب: ضرب لهم كتاب وهم اليهود والنصارى فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم وضرب لهم شبهة كتاب وهم المجوس فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم أيضاً وضرب لا كتاب ولا شبهة كتاب وهم عبدة الأوثان فلا يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية.
صورة عقدها أي الجزية أقركم بدار الإسلام أو أذنت في إقامتكم بها على أن تبذلوا جزية وتنقادوا لحكم الإسلام في غير العبادات وشرب الخمر لأنهم لا يعتقدون تحريمها فقد روى مسلم عن بُريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه وقال: (إذا لقيت عدوك فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم فإن أبوا فسلهم الجزية فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)).
والأصح اشتراط ذكر قدرها كالأجرة والثمن لا كَفُّ اللسان منهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه فلا يشترط ذكره في عقد الجزية لأن ذلك يتضمنه شرط الانقياد لحكم الإسلام.
ولا يصح العقد مؤقتاً على المذهب لأنه عقد يحقن الدم فلا يجوز مؤقتاً كعقد الإسلام ومن أجازتأقيت عهد الذمة قاسه على الهدنة ويُشتَرَط لفظ قبول من كل واحدٍ منهم ولو بنحو قبلت أو رضيت أو بكتابة كما يجب اتصال القبول بالإيجاب ولو وُجِدَ كافرٌ بدارنا فقال دخلت لسماع كلام الله تعالى أو دخلتُ رسولاً أو دخلتُ بأمان مسلم صُدِّقَ بلا يمين إلا أن يُتَهم تغليباً لحقن الدم ذلك قبل أسره أما إذا أسر لم يُقْبلْ قوله إلا ببينة وفي دعوى الأمان إذا ادعاها وجه أنه لا يقبل قوله إلا ببينة لسهولة إقامتها ويشترط لعقدها أي الجزية الإمام أو نائبه لأنها من المصالح العظام فاختُصتْ بمن له النظر العام وعليه الإجابة إذا طلبوا عقدها لخبر مسلم عن بُريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ن أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه وقال: (إذا لقيت عدوك فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم فإن أبوا فسلهم الجزية فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) إلا جاسوساً نخافه فلا يجاب إذا طلب الجزية.
ولا تعقد الجزية إلا لليهود والنصارى والمجوس وأولاد من تهود أو تنصر قبل النسخ لدينه أو تعقد أيضاً لمن شككنا في وقته أي التهود أو التنصر فلم نعرف أدخلوا قبل النسخ أو بعده تغليباً لحقن الدماء كالمجوس. قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذيت أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). فأمر الله نبيه وأصحاب نبيه أن يقاتلوا أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أنزل عليهم الكتاب إنما أدرك نسلهم ولم يفرِّقْ الرسول صلى الله عليه وسلم بين حرمتهم وحرمة آبائهم فأمرهم ببذل الجزية. فأما من دخل في دين أهل الكتاب ولم يكن منهم عبدة الأوثان من العرب فَيُنْظرُ فيه فإن لم يعلم أدخلوا قبل النسخ أو بعده أخذت منهم الجزية وبذلك حكمت الصحابة في نصارى العرب ومنهم: بهراء وتنوخ وبنو تغلب والدليل على أن النبي صلى الله عليه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/139)
وسلم أخذها من المجوس ما رواه البيهقي من طريق الشافعي عن مالك عن ابن شهاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر في البحرين). وهجر إقليم بين البصرة وعمان وروى البخاري وغيره عن ابن عمر (أن عمر توقف في أخذ الجزية من مجوس هجر فقال له عبدالرحمن بن عوف شهدتُ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: (سُنُّوا بهم سُنة أهل الكتاب)).
وكذا يُقَرُّ بالجزية كل زاعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم لأن الله سبحانه وتعالى أنزل عليهم صحفاً قال تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) الأعلى18 - 19. وقال تعالى: (وآتينا داود زبوراً) النساء163. ومن أحد أبويه كتابي والآخر وثني تعقد له الجزية على المذهب وإن كان الكتابي أُمُّهُ تغليباً لحقن الدماء وتحرم مناكحته وذبيحته إحتياطاً.
ولا جزية على امرأة فقد روى الترمذي وأبو داود عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: (خذ من كل حالم ديناراً) والحالم هو المحتلم أي الذكر البالغ.
وروى البيهقي من طريق زيد بن أسلم عن أبيه (ان عمر كتب إلى أمراء الاجناد ألا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى فكان لا يضرب على النساء والصبيان). وقوله على من جرت عليه الموسى هو البالغ من الذكور وخنثىَ لا جزية عليه لاحتمال كونه أنثى ولا من فيه رق لأن المكاتب عبد ولو بقي عليه درهم والعبد مال والمال لا جزية فيه و صبيٍ أي لا جزية على الصبي. قال تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) التوبة 29 فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية والصبي لا يقاتل وخبر البيهقي عن عمر (أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان). ومجنون لا جزية عليه لأنه لا يقاتل ولا يدين ولا يضمن ولا يصح ضمانه والمجنون لا رضى له. فإن تقطع جنونه فليلاً كساعة من شهر لزمته الجزية أو كثيراً كيوم ويوم فالأصح تلفق الإقاقة أي يحمع زمن الإفاقة فإن بلعت سنة وجبت الجزية وقيل لا جزية عليه إلحاقا له بالمجنون كما ألحقنا المكاتبة بالعبد القنيَ ولو بلغ إبن ذمي ولم يبذل حزية أُلحق بمأمنه فيقال له: لا نقرك بدار الإسلام إلا بجزية فإن امتنع أُلحق بمأمنه ولا يغتال لأنه كان في أمان أبيه أو سيده تِبعاً وإن بذلها عقد له عقد حزية لاستقلاله حينئذٍ وقيل عليه كخزية أبيه ويُكتفى بعقد أبيه ولا يعقد له عقدٌ جديد والمذهب وجوبها على زَمن وشيخٍ هرمٍ وأعمى فهؤلاء بهم داء يمنعهم عن القتال وأحير وفقير عجز عن كسبٍ لأنها كأجرة الدار ولعموم قوله تعالى (حتى يعطوا الحزية عن يدٍ وهم صاغرون) التوبة 29 ولأن هؤلاء كالأغنياء في حقن دمائهم والسكنى في دار الإسلام فإن تمت سنةٌ وهو معسرٌ ففي ذمته حتى يوسر ولو لأعوام ويطالب بها إذا أيسر. ويمنع كل كافر من استيطان الحجاز سواءٌ بجزية أو بغيرها وهو أي الحجاز مكة والمدينة واليمامة وقراها كالطائف لمكة وخيبر للمدينة ومثلها جدة ووجٌٌ وينبع وغير ذلك من مدن الحجاز وقيل له أي للكافر الإقامة في طرقه الممتدة لأنها ليست موضع ٌامة للناس عادةً ولو دخله بغير إذا الإمام أي لو دخل الكافر الحجاز بغير إذن الإمام أخرجه وعزّره إن علم أنه ممنوع دخوله فإن استأذن أُذن له إن كان في دخوله مصلحة للمسلمين كرسالة وحمل ما نحتاجُ إليه من طعامٍ ومتاعٍ وكإرادة عقد جزية أو هدنة فيها مصلحةٌ للمسلمين أما مع عدم المصلحة فيحْرُمُ الإذن فقد روى الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأخرجنَّ اليهود من جزيرة العرب)). وروى الإمام مالك عن ابن شهاب مرسلاً (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) فإن كان دخوله لتجارة ليس فيها كبير حاجة كمواد الزينة ومواد الترفُّه لن يأذن له الإمام إلا بشرط أخذ شيءٍ منها وهذا الشيء موكل إلى رأي الإمام اقتداءً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر (أن عمر بن الخطاب أمر أن يؤخذ من أنباط الشام من حَمْلِ القِطْنِيّة من الحبوب العُشر ومن حَمْل الزيت والقمح نصف العُشر). والقطنية: ما يدخر من الحبوب ويطبخ مثل العدس ولا يقيم إلا ثلاثة أيام ويُشرَطُ ذلك عليه عند الدخول ولا يحسب من الثلاثة يوم الدخول والخروج فقد أخرج البيهقي في السنن عن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/140)
أسلم مولى عمر بن الخطاب (أنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز وأذِنَ لمن دخل منهم تاجراً أن يقيم ثلاثاً) ويُمْنَعُ دُخولَ حرمِ مكةَ مطلقاً. قال تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله) التوبة28. وإنما خافوا العَيلة أي الفقر بانقطاع المشركين عن التجارة في الحرم لا عن المسجد نفسه فقد أخرج البخاري عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحجنَّ مشركٌ بعد عامي هذا).
فإن كان الكافر رسولاً إلى من بالحرم من الإمام ونائبه خرج إليه الإمام ونائبه ليسمعه ويخبر الإمام فإن قال لأؤديها إلا مشافهة تعين خروج الإمام إليه لذلك وإن مرض الكافر فيه أي في حرم مكة نقل منه فإن مات فيه لم يدفن فيه فإن دفن فيه نبش وأخرج منه وإن مرض في غيره أي في غير حرم مكة من الحجاز وعظمت المشقة في نقله أو خِيفَ زيادة المرض تُرِكَ تقديماً لأعظم الضررين وإلا أي وإن لم تعظم المشقة فيه نقل مراعاة لحرمة الدار، فإن مات وتعذّرَ نقله دفن هناك للضرورة فإن لم يتعذر نُقِلَ فإن دُفِنَ ترك.
? فصل في مقدار مال الجزية ?
أقل الجزية دينار لكل سنة عن كل واحدٍ غنياً كان أو فقيراً لما روى الترمذي وغيره عن معاذ (أنه صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر) والمعافر هي ثياب تكون باليمن. ويستحب للإمام محاكمةٌ أي المطالبة بالزيادة على الدينار حتى يأخذ من متوسط دينارين وغنيٍ أربعةً فقد روى مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب (أنه صالح أهل الشام على أن يأخذ من الغني ثمانية وأربعين درهماً ومن المتوسط أربعة وعشرين درهماً وممن دونه ديناراًُ) أي ما يعادل أثني عشر درهماً ولو عقدت ذمة للكفار بأكثر من دينار ثم علموا بعد العقد جواز دينار لزمهم ما التزموا فإن أبوا بذل الزيادة على الدينار فالأصح أنهم ناقضون للعهد فيبلغون المأمن. ولو أسلم ذميٌّ أو مات بعد سنين أخذت جزيتهن أي جزية السنين التي مضت قبل إسلامه أو موته من تركته مقدمة على الوصايا والإرث كسائر الديون ويسوّى بينها أي الجزية وبين دين آدمي على المذهب لأنها أجرة فإن لم تفِ التركة بجميع الديون ضاربهم الإمام بقسط الجزية.
أو أسلم أو مات في خلال سنة فقسط أي فيجب عليه من الجزية بقدر ما مضى من الحول كما لو استأجر داراً ليسكنها سنة فسكنها بعض السنة وفُسخت الإجارة وفي قول لا شيء عليه إذا لم يتمَّ سنة بعقد الذمة لأنه حق يُعْتَبر في وجوبه الحَولُ فلم يتعلق حكمه ببعض الحول كالزكاة. وتؤخذ الجزية بإهانة فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطيء رأسه ويحني ظهره ويضعها أي الجزية في الميزان ويقبض الآخذ منه الجزية لحيته ويضرب لهزميته وهما مجتمع اللحم بين الحنك والأذن من الجانبين وكله مستحب وقيل واجب وهو معنى الصغار في قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة29.
وروى الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه).
وأخرج البيهقي من طريق عبدالرحمن بن غنم عن عمر بن الخطاب أن عمر حين صالح أهل الشام كتب كتاباً وفيه (فشرَطنا أن لا نتشبه بهم في لباسهم - أي بالمسلمين- في شء من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين وأن نشدَّ الزنانير في أوساطنا وأن نَجزَّ مقاديم رؤوسنا ولا نتشبه بهم في مراكبهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله). فعلى الأول أي الاستحباب له توكيل مسلم بالأداء للجزية عنه وحوالة بها عليه وأن يضمنها المسلم عن الذمي وعلى القول بالوجوب يمتنع كلُّ ذلك لقوات الإهانة الواجبة التي تشعره بالذلة والصغار.
قلت هذه الهيئة باطلة ودعوى استحبابها أشدُّ خطأ والله أعلم. قال النووي في الروضة في الهيئة المذكورة لا نعلم لها على هذا الوجه أصلاً معتمداً وقال جمهور الأصحاب تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها مع أخذهم الجزية.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/141)
ويستحب للإمام إذا أمكنه أن يشرط عليهم إذا صُولِحوا في بلدهم ضيافة من يمرُّ بهم من المسلمين زائداً على أقل الجزية لما أخرج الشافعي عن أبي الحويرث مرسلاً والبيهقي في السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل أيلة على ثلاث مئة دينار وكانوا ثلاث مئة رجل وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين) وأما قوله زائداً على أقل الجزية لأن الجزية مبنية على التملك والضيافة على الإباحة فلم يجز الاكتفاء بالضيافة. وقيل يجوز أن تكون الضيافة منها أي الجزية لأنه ليس عليهم إلا الجزية وتجعل الضيافة على غني ومتوسط لا فقير في الأصح فقد أخرج مالك عن أسلم (أن عمر رضي الله عنه وضع الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الوَرِق ثمانية وأربعين درهماً وضيافة ثلاثة أيام لكل من مرَّ بهم من المسلمين). ولا تكون الضيافة على الفقير لأنها قد تتكرر فيعجز عنها ويذكر العاقد وجوباً عدد الضيفان رجالاً وفرساناً وجنس الطعام والأُدم وقدرهما ولكل واحد من الضيفان كذا من الطعام والأُدم وعَلَفَ الدواب ومنزل الضيفان من كنيسة وفاضل مسكن يذكرها العاقد أيضاً ومُقَامَهُمْ أي ويذكر العاقد مدة إقامتهم ولا يجاوز ثلاثة أيام لأن غاية الضيافة ثلاثة أيام والأصل في ذلك ما رواه البيهقي من طريق الشافعي عن أبي الحويرث مرسلاً (أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل على ضيافة من يمر بهم من المسلمين). وروى الشيخان من حديث أبي شريح (الضافة ثلاثة أيام) والطعام والأُدم كالخبز والسمن والخبز واللحم وأما العلف فكالتبن والحشيش. والمنزل بحيث يدفع الحرَّ والبرد ولا يخرجون أهل المنازل من منازلهم فإن ذلك يَحْرُمُ.
ولو قال قوم نؤدي الجزية باسم صدقة فللإمام إجابتهم إذا رأى ذلك فتسقط عنهم الإهانة ويمتنع فعلها من المسلمين ويضعف عليهم الزكاة لما روى ابن أبي شيبة بسنده عن عمر بن الخطاب (أنه صالح نصارى بني تغلب علىأن يضعِّف عليهم الزكاة مرتين وعلى ألا ينصروا صغيراً وعلى ألا يكرهوا على دين غيرهم). وذكر الشافعي عن عمر (أنه طلب الجزية من نصارى العرب: تنوخ وبهرا وبنو تغلب فقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم فخذ منا ما يؤخذ بعضكم من بعض - يعنون الزكاة - فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين، فقالوا: زدنا ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة، وقال: هؤلاء حمقى رضوا بالاسم وأبوا المعنى).
فمن خمسة أبعرة تؤخذ شاتان ومن خمسة وعشرين بعيراً تؤخذ بنتا مخاض ومن أربعين من الغنم تؤخذ شاتان ومن ثلاثين من البقر تبيعان وعشرين ديناراً يؤخذ منها دينار ومائتي درهم يؤخذ منها عشرة من الدراهم وخُمُسُ المعشرات فيما سقى من غير مؤنة والعشر فيما سُُقِيَ بمؤنة ولو وجب بنتا مخاض مع جبران بدلاً من بنتي لبون عند فقدهما لم يضعف الجبران في الأصح لأنه يؤخذ منّا ومنهم فلو ملك ستاً وثلاثين بعيراً ليس فيها بنتا لبون أخذنا منه بنتي مخاض ومع كل واحدة شاتين أو عشرين درهماً أو أعطى حقتين لنا فيأخذ منّا لكل واحدة شاتين أو عشرين درهماًً. ولو كان ملك الكافر بعض نصاب لم يجب قسطه في الأظهر إذ لا يجب فيه شيء على المسلم وقيل يجب قسطه رعاية للتضعيف ثم المأخوذ جزية تصرف مصرف الفيء وإن بُدِّل اسمها كما أفهمه قول عمر السابق. فلا تؤخذ من مال مَنْ لا جزية عليه كصبي ومجنون وامرأة وخنثى وتؤخذ من فقير.
? فصل في أحكام عقد الجزية ?
يلزمنا بعقد الذمة الكفُّ عنهم فلا تتعرض لهم نفساً ومالاً وضمان ما تتلفه عليهم نفساً ومالاً فيضمنه من أتلفه عليهم من المسلمين كما لو أتلف مال مسلم ونفسه ودفعُ أهل الحرب عنهم سواء كانوا بدار الإسلام أو منفردين ببلد وسواءٌ شرطوا المنع في العقد أو أطلقوه ودفع أهل الحرب عنهم إن كانوا بدار الإسلام لأنه لابد من الدفع عن دار الإسلام ومنع الكفار من طروقها فإن كانوا بدار الحرب لم يلزمنا الدفع عنهم إلا إذا شرطوه علينا وإن أخذ أهل الحرب منهم مالاً وظفر به الإمام رده إليهم فإن قتلوا منهم أو أتلفوا عليهم مالاً لم يجب عليهم ضمان ذلك لأن أهل الحرب غير ملتزمين أحكام الإسلام وقيل إن انفردوا ببلد لم يلزمنا الدفع عنهم إن لم يكن معهم مسلم ولو أسير فإن كان معهم مسلم وجب الدفع عنهم لأجله.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/142)
ونمنعهم إحداث كنيسة في بلد أحدثناه كبغداد والكوفة والبصرة فقد روى البيهقي عن ابن عباس قال: (كلُّ مصر مصَّره المسلمون لا يبنى فيه بيعة ولا كنيسة ولا يضرب فيه ناقوس ولا يباع فيه لحم خنزير). وروى ابن عدي عن عمر مرفوعاً (لا يُبْنَى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها) وروى البيهقي من طريق حرام بن معاوية قال: (كتب إلينا عمر أن أدبوا الخيل ولا يُرْفَعنَّ بين ظهرانيكم الصليب ولا يجاورنَّكم الخنازير). و لأن إحداث ذلك معصية فلا يجوز في دار الإسلام.
أو أسلم أهله عليه من غير قتال ولا صلح كاليمن فإن حكمها حكم البلد الذي بناه المسلمون لما روى ابن عدي عن عمر (لا يُبْنَى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها).
وما فتح عنوة كمصر وأصبهان وبلاد المغرب لا يحدثونها فيه ولا يقرون على كنيسة كانت فيه في الأصح فإن عقد الإمام الذمة لقوم وشرط لهم أن يبنوا فيها البيع والكنائس ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب كان العقد فاسداً. وقيل إن كان فيها بيع وكنائس لم يهدمها المسلمون حين ملكوها فإذا أراد الإمام أن يقرَّهم عليها، أما المنهدمة أو التي هدمها المسلمون فلا يقرون عليها قطعاً لأن المسلمين حين ملكوا البلاد كانت تلك البيع والكنائس في ملك الغانمين فلا يجوز إقرارها في ملك الكفار أو فتحت البلد صلحاً بشرط الأرض لنا وشَرْطِ إسكانهم بخراج وإبقاء الكنائس والبيع جاز وإن ذكروا إحداثها جاز أيضاً، وإن أطلق أي لم يَشْرطْ إبقاءها فالأصح المنع من إبقائها أو فتحت صلحاً بشرط الأرض لهم قررت كنائسهم ولهم الإحداث أي إحداث البيع والكنائس في الأصح لأن الملك والدار لهم على أن يؤدوا إلينا الجزية ولهم أن يظهروا فيها الخمر والحنزير والصليب لأن هذه الدار دارُ شرك فلهم أن يفعلوا فيها ما شاؤوا. ويمنعون وجوباً وقيل ندباً من رفع بناء على بناء جار مسلم وإن رضي المسلم بذلك لأن ذلك لحق الإسلام وإن رفعه هُدِم وإن حكم حاكم مسلم بذلك ويسقط الهدم بإسلامه فقط.
فقد روى الدار قطني من حديث عائذ المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) وعلقه البخاري ورواه الطبراني في الصغير من حديث عمر بن الخطاب. والأصح المنع من المساواة أيضاً بين بناء المسلم والذمي لقوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا) آل عمران112.
فينبغي استحقارهم في جميع الأشياء لأن القصد تمييزهم عن المسلمين في المساكن والمراكب والملابس وأنهم لو كانوا بمحلة منفصلة لم يمنعوا وهو الأصح لأن المنع لأجل المطاولة والاطلاع على عورة المسلمين وهذا منتفٍ بوجودهم بمحلة منفصلة ويمنع الذمي من ركوب خيل لما في ذلك من العزِّ والتحمل لا حمير وبغال نفيسة. قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) الأنفال60. وروى الشيخان عم عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة). ويَرْكَبُ أي ويؤمر الذمي أن يركب بإكاف أي برذعة وركاب خشب لا حديد ولا سرج لخبر البيهقي عن عبدالرحمن بن غنم في كتاب عمر لنصارى الشام (ولا نتشيه بهم في مراكبهم ولانركب السروج ولانتقلد السيوف). وَيُلْجَأُ إلى أضيق الطريق لخبر مسلم عن أبي هريرة (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه). ولا يوقرون ولا يصدرون في مجلس لعموم قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) البقرة61.
ويؤمر أي الذمي والذمية المكلفان وجوباً بالغيار وهو أن يخيط كل منهما بموضع لا يعتاد الخياطة عليه كالكتف على ثوبه الظاهر ما يخالف لونه لون ثوبه ويلبسه لخبر البيهقي عن عبدالرحمن بن غنم (وأن نشدَّ الزنانير في أوساطنا) وروى البيهقي عن عمر أنه أمرهم حين صالحهم على تغيير زيهم وكان ذلك بمحضر من الصحابة وهذا مطلوب في كل مجتمع يكثر فيه النصارى واليهود أما إذا كانوا قلة معروفين فلا يؤمرون بذلك لأمن التباسهم بالمسلمين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/143)
وإذا دخل حماماً فيه مسلمون متجرداً أو تجرد من ثيابه في غير حمام بين المسلمين جُعِلَ في عنقه خاتم حديد أو رصاص ونحوه كخاتم نحاس ليتميز وتمنع الذمية من حمام به مسلمة لأنهن أجنبيات في الدين ويمنع الذمي من إسماعه المسلمين قولاً شركاً كقولهم الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم وقولَهُمْ في عزير والمسيح فيمنعون من قولهم القبيح فيهما بأنهما ابنان لله (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) التوبة30. ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس وعيد فيمنعون من ذلك وكذا يمنعون من إظهار قراءة توراة وإنجيل لما في ذلك من مفاسد وإظهار شعار الكفر في بلاد الإسلام فتراق الخمر إن ظهرت ويتلف الناقوس إن أظهروه ولا يقام عليهم الحدَُ فيما يعتقدون حله كشر بالخمر ولا يمنعون إظهاره فيا بينهم وكذا إذا انفردوا بقرية لهم.
ولو شرطت هذه الأمور عليهم أي شرط نفيها فخالفوا وذلك بأن أظهروها لم ينتقض العهد لأنهم يتدينون بها والشرط إنما وضع لإرهابهم وتخويفهم ولو قاتلونا أو امتنعوا من دفع الجزية أو من إجراء حكم الإسلام عليهم انتقض عهدهم لمخالفتهم موضوع العقد ومقتضاه ولو زنى ذميٌّ بمسلمة أو أصابها بنكاح أي لفظ نكاح أو زواج أو دلَّ أهل الحرب على عورة المسلمين أو فَتَنَ مسلماً عن دينه ودعاه إلى دينهم أو طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فالأصح أنه إذا شرط الإمام عليهم انتقاض العهد بها انتقض لمخالفته الشرط وإلا إن وإن لم يشرط انتقاض العهد فلا ينتقض. فقد أخرج البيهقي من طريق الشعبي عن سويد بن غفلة قال: كنا عن عمر وهو أمير المؤمنين بالشام فأتاه نبطي مشجَّج مستعدي فغضب وقال لصهيب: أنظر صاحب هذا فذكر القصة فجاء به وهو عوف بن مالك فقال: رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تُصرع ثم دفعها فخرَّت عن الحمار فغشيها ففعلت به ما ترى، قال: فقال عمر: والله ما على هذا عاهدناكم فأمر به فصُلب ثم قال: أيها الناس فُوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له. وروى عبدالرزاق من طريق ابن جريح قال: أخبرتُ أن أبا عبيد بن الجراح وأبا هريرة قتلا كتابيين أرادا امرأة علة نفسها مسلمة.
ومن انتقض عهده بقتال جاز دفعه بغير قتال و جاز أيضاً قتله قال تعالى: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) البقرة191. أو انتقض عهده بغيره أي بغير القتال ولم يطلب تجديد العقد لم يجب ابلاغه مأمنه في الأظهر والمراد بالمأمن هي أقرب بلاد الحرب من بلاد الإسلام بل يختار الإمام فيه قتلاً ورقاً ومنّاً وفداءً لأنه كافر لا أمان له كالحربي فإن أسلم قبل الاختيار من الإمام امتنع الرقُّ فيه لأنه لم يحصل في يد الإمام بالقهر وإذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم والصبيان في الأصح لأنهم قد ثبت لهم الأمان ولم يوجد منهم ناقض له وإن اختار ذميٌَ نبذ العهد واللحوق بدار الحرب بُلِّغ المأمن وهو أقرب بلاد الكفار من دارنا مما يأمن فيه على نفسه وماله لأنه لم يظهر منه خيانة.
? باب الهدنة ?
الهدنة من الهدون وهو السكون لأنها بها تسكن الفتنة وتسمى الموادعة والمعاهدة والمسالمة والمهادنة والهدنة شرعاً مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض وغيره والأصل فيه قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرص أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) التوبة1 - 4.
وروى الشيخان عن أبي سفيان (أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمر على ترك القتال) وفي رواية البيهقي عشر سنين، رواه البيهقي عن المسور بن مخرمة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/144)
عقدها لكفار إقليم يختص بالإمام أو نائبه فيها وقوله إقليم أي منطقة معينة أو دولة معينة أو أمة معينة وأما ترك الأمر في الهدنة للإمام أو لنائبه لأن ذلك من الأمور العظام التي تتعلق بها مصلحة المسلمين فلا يجوز لآحاد الرعية عقدها ولبلدة معينة يجوز لوالي الإقليم التي بجواره تلك البلدة أو كانت تلك البلدة من الإقليم عقدها أيضاً لأنها من توابع إقليمه وأن المفسدة في ذلك قليلة ولو أخطأ الوالي.
وإنما تعقد الهدنة لمصلحة فإن كان الإمام غالياُ لعدو وظاهراً عليه ولم يرَ مصلحة في عقد الهدنة لم يجز له ذلك قال تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) محمد35.
وقال تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) التوبة41، وقال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) التوبة29.
فإن لم يكن مصلحة جازت الهدنة أربعة أشهر لا سنة وكذا دونها أي دون أربعة أشهر في الأظهر وذلك إذا رأى الإمام مع ظهوره على عدوه أنهم في الهدنة ممكن أن يُسْلِمُوا أو يبذلوا الجزية أو يعينوه على قتال عدو آخر له جاز له أن يعقد الهدنة أربعة أشهر فما دونها. قال تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) التوبة2. وروى البيهقي من طريق ابن شهاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة هرب منه صفوان بن أمية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (سِحْ في الأرض أربع أشهر)).
ولضعف في المسلمين تجوز الهدنة عشر سنين فقط والضعف إما لقلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم أو لقلة ما في أيدي المسلمين من المال والمتاع الذي تحتاج إليه الحرب. فقد روى البخاري عن المسور بن مخرمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين) وما زاد على الجائز بأن زاد في حال قوتنا على أربعة أشهر وفي حال ضعفنا على عشر سنين فقولا تفريق الصفقة لأنه جمع في العقد الواحد بين ما يجوز العقد عليه وما لا يجوز فقيل يبطل في الزائد فقط. وإطلاق العهد يفسده أي إخلاء العقد من المدة يفسد وكذا يفسده شرط فاسد على الصحيح بأن شرط منع فك أسرانا منهم أو ترك مالنا أي مال المسلمين في أيديهم لهم وذلك عند استيلائهم عليه لأنه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه أو لتعقد لهم ذمة بدون دينار أو بدفع مال إليهم لأن كل ذلك منافٍ لعزة الإسلام. قال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلُون ويُقتَلُون وعداً عليه حقاً في التوارة والإنجيل والقرآن) التوبة11. قال الشافعي (فأخبر الله تعالى: أن المؤمنين إذا قُتِلوا أو قتلوا استحقوا الجنة فاستوى الحالتان في الثواب فلم يجز دفع العوض لدفع الثواب ولأن في ذلك إلحاق صغار بالمسلمين فلم يَجز من غير ضرورة).
فإن كان هناك ضرورة بأن أخذ المشركون أسرى يعذبونهم أو لإحاطتهم بنا وخفنا من لك الاسئصال لنا وجب بذل المال ولكن لا يملكونه لفساد العقد حينذ. فقد روى الطبراني والبزار من طريق عثمان بن عثمان الغطفاني عن أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه تألب العرب واجتماع الأحزاب قال للأنصار: إن العرب قد رمتكم على قوس واحدة فهل ترون أن ندفع إليهم شيئاً من ثمار المدينة، قالوا: يا رسول الله إن قلت عن وحي فسمع وطاعة وإن قلت عن رأي فرأيك متبع، كنّا لا ندفع إليهم ثمرة إلا بشرى أو قرى ونحن كفار فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم).
وتَصِحُ الهدنة على أن ينقضها الإمام متى شاء فقام هذا القيد مقام تعين المدة في الصحة. فقد روى البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل خيبر (أقركم ما أقركم الله تعالى)) قال الشافعي رحمه الله: ولو قال الإمام الآن هذه اللفظة لم يجز لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره. ومتى صحت الهدنة وجب علينا الكف ودفع الأذى من مسلم أو ذمي عنهم وفاء بالعهد. قال تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) الإسراء 34. حتى تنقضي مدتها أو ينقضوها بتصريح منهم أو قتالنا أو مكاتبة أهل الحرب بعورة لنا. قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) التوبة7. فدلَّ هذا على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم. ولقد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة فأعان بعضهم أهل مكة على حرب النبي صلى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/145)
الله عليه وسلم وسكت الآخرون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضاً للهدنة في حق جميعهم فقد روى البخاري والبيهقي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن عمر (أن يهوج بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى بني النضير وأقرَّ قريظة ومنَّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسّمَ نساءهم وأموالهم وأولادهم بين المسلمين). أو قتلُ مسلم عمداً أو فعل شيء ينقض عقد الذمة مثل إيواء جواسيس الكفار أو سبِّ الله أو سبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا انتقضت الهدنة جازت الإغارة عليهم وبياتهم قال تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) التوبة12. هذا إذا كانوا في بلادهم أما إذا كانوا في بلادنا فلا نقاتلهم حتى نبلغهم المأمن وهو المكان الذي يأمنون فيه منّا ومن أهل عهدنا.
ولو نقض بعضهم عقد الهدنة ولم ينكر الباقون بقول ولا فعل انتقض فيهم عقد الهدنة أيضاً وذلك بأن ساكنوهم وآكلوهم لإشعار ذلك بالرضا وإن أنكروا باعتزال أو إعلام الإمام ببقائهم على العهد فلا ينتقض العهد في حقهم ولو كان الناقض رئيساً فيهم قال تعالى: (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) آل عمران165. ولو خاف الإمام خيانتهم بظهور أمارات الخيانة فله نبذ عهدهم إليهم ويبلغهم المأمن وهي الدار التي يأمنون فيها من المسلمين وأهل عهدهم ولا ينبذ عقد الذمة بتهمة أي بمجرد التهمة ولا يجوز في عقد الهدنة شرطُ ردِّ مسلمة تأتينا منهم فإن شُرِطَ فسدَ الشرط وكذا العقد في الأصح فقد روى البخاري عنالمسور بن مخرمة ومروان بن الحكم (أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الصلح في الحديبية ثم جاءته بعد ذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة فجاء أخواها يطلبانها فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها عليهما فمنعه الله من ردها بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتومهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنَّ حل لهم ولا هم يحلون لهن)) الممتحنة10. وإذا شرط الإمام أو نائبه ردَّ من جاء مسلماً أو لم يذكر رداً ولا عدمه بل أطلق فجاءت امرأة مسلمة لم يجب دفع مهر إلى زوجها في الأظهر لارتفاع نكاحها بإسلامها مثل دخول الزوج بها أو بعد الدخول والثاني يجب دفع المهر إلى زوجها إذا طلبه ويدفع من سهم المصالح قال تعالى: (وآتوهم ما أنفقوا) الممتحنة10، والأمر يحتمل الوجوب والندب وصرفه عن الوجوب أن الأصل براءة الذمة وأما رده صلى الله عليه وسلم المهر فلأنه كان قد شرط لهم ردَّ من جاءتنا مسلمة فلما امتنع ذلك بحكم الله بقول تعالى: (فلا ترجعوهن إلى الكفار) الممتحنة10، فنغرم حينئذ لامتناع ردها بعد شرطه. ولا يرد صبي ولا مجنون وكذا لا يُردُّ عبد وصف الإسلام وحرٌّ لا عشيرة له كذلك لا يُردُّ إلى المشركين على المذهب لضعفهم وإمكان فتنتهم عن دينهم ويردُّ من له عشيرة طلبته إليها لا إلى غيرها فلا يردُّ إلى غير عشيرته إن طلبته إلا أن يقدر المطلوب على قهر الطالب والهرب منه فيردُّ إليه فقد روى البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم (أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ أبا جندل وهو يرفس في قيوده إلى أبيه سهيل بن عمر وأبا بصير وقد جاء في طلبه رجلان فقتل أحدهما وأفلت من الآخر) ومعنى يرفس في قيوده أي يمشي وهو مقيد ومعنى الردّ أن يُخلَّى بينه أي المطلوب وبين طالبه عملاً بالشرط ولا يجبر المطلوب عبى الرجوع مع طالبه لحرمة إجبار المسلم على إقامته بدار الحرب ولا يلزمه الرجوع إلى طالبه لأن العهد لم يَجْرِ مع المطلوب بل عليه الهرب إن قدر على ذلك وله قتل الطالب ولنا التعريض له به أي للمطلوب لا التصريح لأنهم في أمان عندنا فقد روى الإمام أحمد في مسنده والبيهقي في سننه من طريق عروة عن المسور بن مخرمة في حديثه الطويل في صلح الحديبية (قال: فوثب عمر فقال: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم كدم كلب).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/146)
ولو شَرَطَ الإمام عليهم في الهدنة أن يردوا من جاءهم مرتداً منّاً رجلاً أو امرأة لزمهم الوفاء عملاً بالشرط فإذا أبوا فقد نقضوا العهد والأظهر جواز الشرط أن لا يردوا من جاءهم مرتداً منّاًً فقد روى مسلم عن أنس بن مالك (أن قريشاً صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من جاء منكم لم نرده عليكم) وروى أحمد ومسلم عن أمس بن مالك في صلح الحديبية (من جاءنا منكم مسلماً رددناه ومن جاءكم منّا فسحقاً سحقاً).
? كتاب الصيد والذبائح ?
الصيد مصدره صاد يصيد صيداً ثم أطلق الصيد على المصيد والأصل في الباب قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) المائد2، وقوله تعالى: (إلا ما ذكيتم) المائدة3. وروى الشيخان عن عدي بن حاتم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل).
ذكاة الحيوان المذبوح المأكول بذبحه في حلق وهو أعلى العنق وأسفل مجامع اللحيين أو لبة واللبّةُ أسفل العنق إن قدر عليه وقت إرادة الذبح وإصابة آلة الذبح للحيوان. وإلا أي وإن لم يقدر عليه فبعقر مزهق حيث كان أي في أي موضع كان العقر المزهق للروح إلا الجنين فإن ذكاته بذكاة أمه وشرط ذابح لتحل ذبيحته وصائد حل مناكحته أي نكاح المسلم من أهل ملته قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) المائدة5. وأراد بالطعام الذبائح قال الشافعي رحمه الله (وأحبَُ أن يكون من يلي الذبح رجلاً مسلماً بالغاً فقيهاً لأنه أعرف بمحل الذكاة وبما يذكِّي به وبكيفية الذكاة)، وتحل ذكاة أمة كتابية لعموم قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) المائدة5، رغم أنها لا يحل لمسلم نكاحها. قال تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) النساء25.
ولو شارك مجوسيٌ مسلماً في ذبح أو اصطياد حَرُمَ الصيد والذبح تغليباً للتحريم ولو أرسلا كلبين فإن سبق آلة المسلم فقتل الصيد أو أنهاه إلى حركة مذبوح حلَّ لأنه صيد مسلم ولو انعكس فسبق آلة المجوسي فقتل أو أنهاه إلى حركة مذبوح أو جرحاه معاً وحصل الهلاك بهما أو جُهِلَ أسبقهما أو مرتباً ولم يذفف أحدهما والتذفيف هو القتل سريعاً أي ولم يقتل أحدهما سريعاً فهلك الصيد بهما حَرُم تغليباً للحرام ويحل ذبح صبي مميز وكذا غير مميز ومجنون وسكران في الأظهر أما الصبي المميز فقصده صحيح حيث تصح العبادة منه وأما غير المميز والسكران فتكره ذكاتهما لأنهما ربما أخطآ موضع الذكاة ولكن إذا ذبحا حلت ذبيحتهما لأن لهما نوع تمييز وأما ذبيحة المرأة فتأكل سواءً حائضاً أو طاهراً حاملاً أو حائلاً لما روى البخاري عن ابن عمر (أن جارية من آل كعب كانت ترعى غنماً لهم فرأت شاة موتى فأخذت حجراً فكسرته وذبحتها به فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تؤكل) قوله موتى أي يخاف عليها من الموت.
وتكره ذكاة أعمى لأنه لا يؤمن أن يخطأ المذبح فإن ذبح جاز أكل ذبيحته ويحرم صيده أي الأعمى برميٍ وكلبٍ في الأصح لأنه لا يرى الصيد فلم يصح قصده وصار كجارحة استرسلت بنفسها فلا يحل صيدها.
وتحل ميتة السمك والجراد إجماعاً ولو صادهما مجوسي قال تعالى: (أُحِلَّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) المائدة96، وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال: (صيده ما صدناه بأيدينا وطعامه ما مات فيه). وروى ابن ماجة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال). وفيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه الحسن البصري أنه قال: (رأيت سبعين رجلاً من الصحابة كلُّهم يأكلون صيد المجوسي من الحيتان لا يتلجلج في صدورهم شيء من ذلك). قال الشافعي: (وسواءٌ أخذ السمك مجوسيٌ أو وثني) أي فهو حلال لأنه لا ذكاة له.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/147)
وكذا يحل أكل الدود المتولد من طعام كخل وفاكهة إذا أُكِلَ معه في الأصح لعسر تمييزه بخلاف أكله منفرداً فيحرم ولا يَقْطَعُ بعض سمكة حية فذلك مكروه ولا يحرم لأن عيشه عيش مذبوح فإن فعل أي قطع بعض سمكة أو بلع سمكة حية حلَّ ذلك لأن ما حلت ميتته فلا حاجة لذبحه وإذا رمي صيداً متوحشاً أو بعيراً ندَّ أي ذهب شارداً على وجهه أو شاة شردت بسهم أو أرسل عليه جارحة فأصاب شيئاً من بدنه ومات في الحال حلََّ لخبر الشيخين عن رافع بن خديج (أن بعيراً ندَّ فرماه رجل فحبسه أي قتله فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا)). وقيس عل البعير غيره وقوله أوابد يعني توحشاً ونفوراً من الإنس.
ولو تردى بعير ونحوه في بئر ولم يكن قطع حلقومه فكنادٍّ في أنه يحل بالرمي كالصيد فقد روى أبو داود والترمذي وأحمد عن أبي العشراء الدارعي عن أبيه (أن بعيراً تردى في بئر فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تصلح الذكاة إلا في الحلق واللبة فقال: (إنك لو طعنت في فخذها لأجزأك)). ولأنه غير مقدور على ذكائه فكان عقره ذكته قلت الأصح لا يحل المتردي بإرسال الكلب عليه وصححه الروياني وهو صاحب كتاب البحر والشاشي أيضاً صححه وهو صاحب كتاب الحلية والله أعلم لأن السهم يستباح به الذبح مع القدرة ولا يستباح الذبح مع القدرة بإرسال الكلب.
ومتى تيسر لحوقه بِعَدْوٍ أو استعانة بمن يستقبله فمقدور عليه وليس بنادٍّ فلا يحل إلا بالذبح في المذبح ويكفي في النادِّ والمتردي وكذلك الصيد ليحل أكله جُرْحٌ يفضي إلى الزهوق أي الموت للحديث السابق (إنك لو طعنت في فخذها لأجزأك). وقيل يُشْتَرَطُ جرح مذفف أي يسرع في القتل وإذا أرسل الصائد عند الصيد سهماً أو كلباً أو طائراً على صيد فأصابه ومات فإن لم يدرك فيه حياة مستقرة أو أدركها وتعذر ذبحه بلا تقصير بأن سلَّ السكين على الصيد فمات قبل إمكان ذبحه أو امتنع من الصائد بقوته ومات قبل القدرة عليه حلَّ في جميع ما ذكر وله حكم كما لو مات ولم يدرك حياته ولكن يُسنُّ ذبحه إذا وجد فيه حياة غير مستقرة وإن مات لتقصيره أي تقصير الصائد بأن لا يكون معه سكين أو غصبت السكين منه أو نَشِبت أي تعلقت في الغمد وهو الغلاف للسكين والسيف حَرُمَ الصيد في جميع هذه الصور لتقصيره ولو رماه أي رمى الصيد فقده أي قطعه نصفين حلَّا أي النصفين سواء كانا متساويين أو متفاوتين ولو أبان أي قطع من الصيد عضواً كيدٍ مثلاً بجرح مذفف أي قاتل حلَّ العضو والبدن جميعاً وقيل يحرم العضو لأنه أبين من حي والأول أصح لأن الصيد في هذه الحالة ليس له حكم الحي. أو جرحه فأبان منه عضواً بغير مذفف أي وكانالجرح غير مذفف ثم ذبحه أو جرحه جرحاً آخر مذففاً فمات حَرُمَ العضو المبان لأنه أُبينَ من حي فقد أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي واقد الليثي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أُبينَ من حي فهو ميت)). قال الترمذي حديث حسن غريب.
وحلَّ الباقي لوجود الذكاة فيه فإن لم يتمكن من ذبحه ومات بالجرح حلَّ الجميع لأنه تبين أن الجرح مذفف أوله حكم المذفف وقيل يحرم العضو لأنه أبين من حي وذكاة كل حيوان بري قدر عليه بقطع كلِّ الحُلْقُوم وهو مخرج النفس والمريء وهو مجرى الطعام والشراب ويستحب قطع الوَدَجَين وهما عرقان في صفحتي العنق وهو الوريدان المحيطان بالحلقوم. ولو ذبحه من قفاه عصى وكذلك لو ذبحه من صفحة عنقه فإن يعصي بالذبح للتعذيب وتحل الذبيحة.
فإن أسرع فقطع الحلقوم والمريء وبه حياةٌ مستقرةٌ حلَّ لما روى الشيخان عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السنُّ والظفرُ). أي ولا تذبح بالسنِّ والظفر. وإلا تكن به حياة مستقرة حين وصل إلى قطع المريء فلا يحلُّ لأنه صار ميتة قبل الذبح. وكذا إدخال سكين بإذن ثعلب ليحفظ الجلد ويقطع البلغوم والمريء فإنه حرام للتعذيب فإذا قطع البلوع والمريء وفي الحيوان حياة مستقرة حلَّ وإلا لم يحل. ويُسَنُّ نحر إبل في اللبة وذبح بقر وغنم في الحلق. قال تعالى: (فصلِ لربك وانحر) الكوثر2، وقال تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) البقرة67.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/148)
قال مجاهد: أُمرنا بالنحر وأُمرَ بنو إسرائيل بالذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث في قوم مواشيهم الإبل فَسُنَّ لهم النحر وكانت مواشي بين إسرائيل البقر فسنَّ لهم الذبح. وروى الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحَى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده). وروى مسلم عن جابر قال: (أحصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية فنحرنا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) ويجوز عكسه أي ذبح إبل ونحر بقر وغنم من غير كراهة لأنه لم يردْ فيه نهي وأن يكون البعير قائماً معقولَ الركبة وهي اليسرى. قال تعالى: (فاذكروا اسم الله عليه صواف) الحج36. يقال صَفَنَتِ الدابة أي قامت على ثلاث قوائم.
وروى الشيخان عن ابن عمر (أنه رأى رجلاً أضجع بدنةً فقال: قياماً سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) والبقرة والشاة مضجعة لجبينها الأيسر فهو أيسر للذابح حيث يأخذ السكين باليمين ويمسك الرأس باليسار لحديث أنس السابق (أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أقرنين وأنه أضجع الكبشين اللذين ضحى بهما ووضع رجله على صفاحهما) رواه الشيخان.
وأن يحدَّ شفرته لما روى مسلم عن شداد بن أوس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). ويوجه للقبلة ذبيحته لما روى أبو داود وغيره عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين فوجههما إلى القبلة وقرأ (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض)) الأنعام79. وأن يقول بسم الله لما روى مسلم عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبّر).
ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) الشرح4. وروى ابن حبان عن أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول: لا أُذْكَرُ إلا وتُذْكَرُ معي). وروى مسلم عن أبي هريرة (من صلَّى علّي واحدة صلى الله عليه عشراً).
ولا يقل باسم الله واسم محمد فذلك حرام لأنه يوحي بالتشريك ولأن من حق الله أن يكون الذبح باسمه وحده كما يكون اليمين باسمه وحده.
? فصل في بعض شروط الآلة والذبح والصيد ?
ويحل ذبح مقدور عليه وجرح غيره بكل محدّد أي شيء له حدٌّ يجرح عادة كحديد ونحاس وذهب وخشب وقصب وفضة وحجر وزجاج وفضة ورصاص إلا ظفراً وسناً وسائر العظام لخبر الشيخين عن رافع بن خديج (ما أنهر الدمَّ وذُكر اسم الله عليه فكلوه إلا ما كان من سنٍّ أو ظُفر وسأخبركم عن ذلك أما السنُّ فعظم وأما الظفر فمُدَى الجبشة). قال ابن الصلاح: والنهي عن الذبح بالعظام أمر تعبدي. قال النووي في شرح مسلم: فلو جعل نصل سهمٍ عظماً فقتل به صيداً حرم والحبشة كفار ونهينا عن التشبه بهم. فلو قتل بمثقَّلٍ أي شيء ثقيل أو ثِقَلِ محدد كسهم بنصل أو حدٍ فقتل بثقله لا بنصله أو حدِّه حَرُمَ كبندقة فيجوز الاصطياد بالبندق في صيد لا يموت به وإلا فيحرم كالعصافير والبندق شامل لما كان فيه نار أولا. والبندقة كرة في حجم البندقة يُرمى بها في القتال والصيد وعادة تقتل بقوة الضغطة على الصيد أما قتل البنادق التي يقذف بها الرصاص وتقتل بالجرح وانهار الدم فصيدها حلال لعموم خبر رافع بن خديج (ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه). أو جرحه نصل وأثر فيه عُرْض أي جانب السهم في مروره ومات بهما أو انخنق بأحبولة منصوبة للصيد وهي شباك تصنع من الحبال للصيد فإذا وقع في الأحبولة صيدٌ فمات لم يحلَّ أكله لأنه لم يذكه أحدٌ أو أصابه سهم فجرحه فوقع بأرض أي مكان عالٍ كسطح أو جبل ثم سقط منه فمات حرم في الكل. قال تعالى: (والمنخنقة والموقوذة) المائدة3، أي المقتولة خنقاً أو ضرباً بنحو حجر أو سوط أو عصى. ولو أصابه سهم بالهواء فسقط بأرض ومات حلَّ سواءٌ في ذلك أمات في الهواء أم مات عند سقوطه على الأرض لأن سقوطه على الأرض لأبدّ منه فعفي عنه كما لو نحر جملاً قائماً فوقع على الأرض أو رمى صيداً على الشجرة فأصابه سهم أو غيره فسقط على الأرض.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/149)
ويحل الاصطياد بجوارح السباع والطير ككلب وفهد وباز وشاهين بشرط كونها متعلمة بأن تنزجر السباع بزجر صاحبه في أي وقت سواء في ذلك ابتداء الأمر أو بعد شدة عَدْوِهِ ويسترسل بإرساله أي يهيج بإغراء صاحبه له. قال تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين) أي معلمين وقيل معدين للصيد. قال الإمام الشافعي رحمه الله (إذا أمرت الكلب فائتمر وإذا نهيته فانتهى فهو كلب مكلَّب). ويمسك الصيد لصاحبه فإذا جاء تخلى عنه ولا يأكل منه شيئاً بعد امساكه. قال تعالى: (فكلو ا مما أمسكن عليكم) المائدة4. وروى أحمد في المسند وأبو داود في الضحايا والبيهقي في السنن عن عدي بن حاتم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل مما امسك عليك)، قلت: وإن قتل؟ قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك).
ويشترط ترك الأكل في جارحة الطير في الأظهر قياساً على جارحة السباع وقيل يحل مطلقاً لأن جارحة الطير لا تحتمل الضرب للتعليم كالكلب ونحوه. قال تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4. ولم يفصل بين أن يأكل منه أو لم يأكل منه وروى الشيخان عن أبي ثعلبة الخشني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه)). وقال قوم لا يحل لأن الله تعالى قال: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4. وإذا أكل لم يمسك علينا إنما أمسك على نفسه.
وروى الشيخان عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أرسلت كلبك وسميت وأمسك وقتل فكل وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه).
ويشترط تكرر هذه الأمور بحيث يظن تأدب الجارحة والرجوع في ذلك لأهل الخبرة في الجوارح ولا ينضبط ذلك بعدد وقيل يشترط تكرره ثلاث مرات ليعتبر مُعَلَّماً ولو ظهر كونه معلماً ثم أكل من لحم صيد لم يحل ذلك الصيد في الأظهر لخبر الصحيحين عن عدي وقيل يحلُّ لخبر أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أبي ثعلبة الخشني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل، قال: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، قال: وإن أكل؟ قال: وإن أكل)) وأعله البيهقي وقال الذهبي في ميزان الاعتدال هو حديث منكر. فيشترط تعليم جديد لفساد التعليم الأول ولا أثر للعق الدم لأنه لا يسمى أكلاً ومقصود الصائد اللحم وليس الدم.
وَيَعضُ الكلب من الصيد نجسٌ لأن الناب الذي يعض به جزء منه والأصح أنه لا يعض عنه فيجب غسله لأنه موضعٌ نَجُسَ بملاقاة الكلب فأشبه الإناء والثاني يعض عنه فلا يجب غسله لقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4. فأباح الأكل ولم يأمر بالغسل وأنه يكفي غسله أي المِعَض بماء وتراب وذلك إذا قلنا بنجاسته ولا يجب أن يقوّر مكان العضِّ ويطرح لأنه لم يرد شيء من ذلك ولو ورد ذلك لذكر ولو تحاملت الجارحة على صيده فقتله بثقلها حلَّ في الأظهر لعموم قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4، ولم يفرق بين ما قتله بجرحه أو بثقله ولأنه يعسر تعليمه أن يقتل بجرح ولا يقتل بثقله والثاني يحرم لقوله صلى الله عليه وسلم (ما أنهر من دم وذكر اسم الله عليه فكل) وهذا لم ينهر الدم ولو كان بيده سكين فسقط وانجرح به صيد أو احتكت به شاة وهو في يده فانقطع حلقومها ومريئها أو استرسل كلب بنفسه فقتل لم يحل واحد من الثلاثة لانتفاء الذبح وقصده والإرسال لأن الإرسال شرط كما في خبر الشيخين عن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك وميت وأمسك وقتل فكل).
وكذا لو استرسل كلب مثلاً بنفسه فأغراه صاحبه أو غيره فزاد عدوه فلا يحل صيده في الأصح لاجتماع المبيح وهو الإغراء والمحرم وهو الاسترسال بنفسه فَغُلِّبَ التحريم ولو أصابه أي أصاب الصيد سهم بإعانة ريح مثلاً حلَّ لوجود القصد ولعدم إمكان الاحتراز من الريح ولو أرسل سهماً لاختبار قوته أو أرسله إلى غرض فاعترضه أي اعترض السهم صيد فقتله السهم حَرُمَ في الأصح لأنه لم يقصد الصيد وقيل يحلُّ لأنه قصد الرمي يكفي ولو لم يقصد المصيد ولو رمى صيداً ظنه حجراً أو رمى سِرْبَ ظباء فأصاب واحدة حلت لأن القتل بفعله ولا اعتبار لظنه وإن قصد واحدة فإصاب غيرها حلت في الأصح لوجود قصد الصيد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/150)
ولو غاب عنه الكلب والصيد ثم وجده أي وجد الصيد ميتاً حَرُم لأنه لا يعلم كيف هلك والأصل التحريم وإن جرحه الكلب او أصابه سهم فجرحه وغاب الصيد عنه ثم وجده ميتاً حَرُم في الأظهر لعدم العلم عن سبب هلاكه والثاني يحل لما روى الشيخان عن عدي بن حاتم أنه قال: (قلت يا رسول الله إنا نرمي الصيد فنقتفي أثره اليوم واليومين والثلاثة ثم نجده ميتاً فيه سهمه، أنأكله؟ قال: نعم مالم ينتن).
? فصل فيما يملك به الصيد ?
يَمِلك الصائد الصيد بضبطه بيده وإن لم يقصد تملكه لأنه مباح فيملك بوضع اليد عليه وبجرح مذفف أي وإذا جرحه جرحاً مسرعاً إلى هلاكه وبإزمانٍ بحيث يعجز عن الطيران وكسر جناح لأنه أزال امتناعه فيملكه بذلك وبوقوعه في شبكة نصبها للصيد فيملكه لأنه أزال امتناعه وبإلجائه إلى مضيق لا يُفلت منه فإنه يملكه بذلك كما لو أدخله شبكة له أو بيتاً له لأن الصيد صار مقدوراً عليه ولو وقع صيد في ملكه وصار مقدوراً عليه بتوحل وغيره لم يملكه في الأصح لأنه لم يقصد الاصطياد والثاني يملكه كمن وقع في شبكته والفرق أن نصب الشبكة مقصود به الصيد وتوحيل الأرض لم يقصد به الصيد.
ومتى ملكه لم يَزُلْ ملكه بانفلاته فمن أخذه فقد وجب عليه رده وكذا لا يزول ملكه بإرسال المالك له في الأصح لأنه أصبح مملوكاً له كما لو سيب دابته فليس لأحد أخذها لأنه مال مسلم فلم يَزُلْ مِلْكُه بزوال يده عنه وقيل يزول ملكه عنه لأنه أزال يده عنه كمن كان له عبد فأعتقه.
ولا تحوّلَ حمامُهُ إلى برج غيره لزمه رده أي لو انتقل حمامه من برجه إلى برج لآخر فيه حمامه فيلزم رد الحمام إلى مالكه لأنه بتحوله عن برجه لا يزول ملكه عنه فإن اختلط وعَسُرَ التمييز لم يصح بيع أحدهما وهبته شيئاً لثالث لأن الملك غي متحقق فيه فقد يكون ملكه وقد يكون ملكاً للآخر ويجوز بيع أحدهما وهبته لصاحبه في الأصح ويغتفر الجهل بعين المبيع للضرورة فإن باعاهما أي الحمامين لثالث والعدد معلوم والقيمة سواءٌ صح البيع ووزع الثمن على العدد وإلا بأن جهل العدد والقيمةُ متساويةٌ أو عُلِمَ العددُ ولم تستوِ القيمة فلا يصح البيع لأن حصة كل واحد من الثمن مجهولة. وطريقة البيع لثالث أن يبيع كلّ واحد حصته بثمن معلوم أو يوكل أحدهما الآخر في بيع نصيبه ويقتسمان الثمن أو يصطلحا على أن يأخذ كلُّ واحد منها شيئاً من المختلط ثم يبيع كلَّ واحد نصيبه إن شاء. ولو شك في كون المختلط بحمامه مملوك أو غير مملوك فله التصرف فيه لأن الظاهر أنه مباح ولو جرح الصيد اثنان متعاقبان فإن ذفف الثاني أي قتل أو أزمن دون الأول بأن أزال امتناع الصيد كأن كسر رجله وجناحه فهو للثاني لأن جرحه هو المؤثر وإن ذفف الأول فله الصيد وإن أزمن الأول فله الصيد ثم إن ذفف الثاني بقطع حُلقوم ومريء فهو حلال لأن الموت كان بفعل ذابح وعليه الأول ما نقص بالذبح عن قيمته مزمناً إن حدث به نقص وإن ذفف الثاني لا بقطعهما أي الحلقوم والمريء أو لم يذفف أصلاً ومات الصيد بالجرحين معاً فحرام لاجتماع المبيح وهو الصيد مع المحرم وهو الذبح في غير مكان الذكاة بعد أن أصبح مقدوراً عليه ويضمنه الثاني للأول لأنه أفسد عليه صيده وإن جرحا معاً وذففا بجرحيهما أو أزمنا به فلهما الصيد لاشتراكهما في سبب الملك وإن ذفف أحدهما أو أزمن دون الآخر فله أي للمذفف أو المزمن الصيد لانفراده بسبب الملك وإن ذفف واحد وأزمن آخر وَجُهِلَ السابق منهما حَرُمَ الصيد على المذهب لاحتمال تقدم الإزمان على التذفيف فلا يحل الصيد عندئذ إلا بقطع الحلقوم والمريء ولم يوجد ذلك أما إذا كان التذفيف في المذبح فهو حلال وإجماعاً لأنه بمثابة الذكاة.
? كتاب الأضحية ?
الأضحية اسم لما يضحى به وسميت بأول زمان فعلها وهو الضحى والأصل في ثبوتها قوله تعالى: (فصل لربك ونحر) الكوثر2، وقوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله فاذكروا اسم الله عليها صواف) الحج36. وروى الشيخان عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمّى وكبّر ووضع رجله على صفاحِهما).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/151)
والأقرن ما كان له قرنان والأملح هو ما اختلط فيه السواد والبياض والبياض أغلب وقيل هو الأبيض الخالص البياض وقوله وضع رجله على صفاحِهما، قال النووي في شرح مسلم أي صفحة العنق وهو بجانبه وإنما فعل ذلك ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب البيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تأذيه وهو الأصح من الحديث الذي جاء بالنهي عن هذا.
هي سنة أي التضحية لا تجب إلا بالتزام بالنذر كسائر المندوبات وقد أخرج الدار قطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرتُ بالنحر وهو سنة لكم).
وَيُسَنُّ لمريدها أي مريد التضحية أن لا يزيل شعره ولا ظُفُرَه في عشر ذي الحجة حتى يضحي لما روى مسلم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) وسواء في ذلك شعر الرأس واللحية والشارب والإبط والعانة والخبر محمول على الاستحباب لما روى الشيخان عن عائشة قالت: (كنت أفتلُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يُقَلِّدها هو بيده ثم يبعث بها مع ابن الزبير ولا يَحْرُم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي) فأخبرت أنه لم يَحْرمْ عليه شيء أحله الله تعالى له حتى نحر الهدي والأضحية كانت واجبة عليه فإذا دخلت العشر فلابد أنه يريد التضحية. وكما أن لا يحرم عليه الطيب واللباس فلا يحرم عليه حلق الشعر وتقليم الظفر كما هو قبل العشر.
وأن يذبحها بنفسه إن أحسن الذبح لحديث أنس (ذبحها بنفسه وكبَّر) وإلا فليشهدها أي وإن لم يذبح الأضحية بنفسه فليشهد ذبحها لما روى الحاكم في المستدرك عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: (يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة تقطر من دمها يغفرُ لك ما سلف من ذنوبك). ولا تصح إلا من إبل وبقر وغنم فإ ضحى بغيرها من الحيوان المأكول لم يقع موقع الأضحية قال تعالى: (ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) الحج28، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم وشرط إبل أن يطعن في السنة السادسة لأنه ثني الإبل وبقر ومعز طعن في الثالثة وضأن استكمل سنة وطعن في الثانية لأنه هو الجذع من الضأن وقيل يجذع قَبْلَ السنة فإذا أجذع قبل السنة جاز التضحية به فقد روى أحمد وغيره عن أم بلاب الهلالية عن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ضحوا بالجذع من الضأن) و أخرج النسائي عن عقبة بن عامر قال (كنا نضحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن) وذكر ابن الضباغ وغيره أنها تجذع في ستة أشهر وسبعة وثمانية والإجذاع سقوط أسنان اللبن ونبات غيرها ويجوز ذكر وأنثى لأن القصد منها اللحم. قال الشافعي: (واُنتى أحب إلي من الذكر لأنها أطيب لحماً وأرطب والضأن أحب إلي من المعز لأ، الضأن أطيب لحماً) وخصي يجوز التضحية به وهو الذي سُلّت بيضتاه فقد روى أحمد عن عائشة وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موحوأين أي منزوعي البيضتين. والبعير والبقرة ويجزيء عم سبعة أشخاص لما روى جابر وأصحاب السنن عن جابر قال (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديببة البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) والشاه تجزيء عن واحد وتحصل السنة بواحد عن أهل البيت الواحد وأن الثواب لهم كالمضحي فالتضحية سنة كفاية لكل أهل بيت وسنة عين لمن ليس له أهل بيت تلزم المضحي نفقتهم. روى مالك في الموطأ عن أبي أيوب الأنصاري قال: (كنّا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة).
وروى أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: بسم الله اللهم تقبل من محمد ومن أمة محمد ثم ضحّى). وأفضلها أي أفضل أنواع الأضحية بعير لأنه أكثر لحماً ثم بقرة ثم ضأن ثم معز فقد روى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجمعة: من راح الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) فجعل البدنة أفضل من البقرة والبقرة أفضل من الكبش.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/152)
وأما ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة (خير الضحية الكبش الأقرن) فالمقصود من الغنم وشاة يضحي بها أفضل من مشاركة غيره في بعير للانفراد بإراقة الدم ولطيب اللحم وشرطها أي شرط الأضحية المجزئة سلامة من عيب يَنْقُص لحماً فلا تجزيء عجفاء لا مُخَّ في عظمها لشدة الهزال والمقصود بالمخ هو الدهن الذي في العظام ومجنونة وهي التي تدور في المرعى وتستدبر غيرها من الشياه ولا ترعى إلا قليلاً ومقطوعة بعض أذن وذات عرج وعَوَر فقد روى أبو داود والنسائي وأحمد ومالك عن البراء بن عازب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة لا تجزيء في الأضاحي العوراء البيّنُ عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلَعُها والعجفاء التي لا تُنْقي)) وقال الترمذي حديث حسن صحيح وقوله العجفاء التي لا تنقي مأخوذ من النقي وهو المخ أي التي لا مخ لها.
وأخرج أصحاب السنن عن علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء) قال الترمذي حديث حسن صحيح، قوله أو مقابلة هي التي قطع شيء من مقدم أذنها وبقي معلقاً والمدابرة ما قطع من مؤخر أذنها وأما الخرقاء فهي التي ثقبت أذنها أي خرقت بالنار وأما الشرقاء فهي التي شقت أذنها فأصبحت اثنتين. وقوله نستشرف أي نتأمل ومرض جرب بين وهو الواضح الذي يظهر في هزالها ولا يضر يسيرها أي يسير هذه العيوب لأنه لا يؤثر في اللحم ولا فقد قرن خلقة فلا يضر فقده وتسمى الشاة بلا قرون الجلحاء ولا يضر كسوه مالم يؤثر على اللحم حتى ولو دمي لأن القرن لا يتعلق به غرض كبير وكذلك شق أذن وخرقها وثقبها لا يضر في الأصح إذا لم يُلقَ منه شيء أو يفسد الأذن والنهي السابق محمول على التنزيه أو على إنقاص اللحم. قلت الأصح المنصوص يصر يسير الجرب والله أعلم لأنه يفسد اللحم والشحم أما إذا لم يفسده فلا تأثير له.
ويدخل وقتها أي وقت الأضحية إذا ارتفعت الشمس كرمح يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة ثم مضى قدر ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين أي صلاة العيد فإن ذبح قبل ذلك لم يجزيء وكان تطوعاًفقد روى الشيخان عن البراء بن عازب قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: من صلّى صلاتنا ونسل نسكنافقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له، فقام أبو بردة ينار فقال: يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: تلك شاة لحم) أي لا تجزيء عن الأضحية. ويبقى وقت التضحية حتى تغرب الشمس آخر أيام التشريق لما روى ابن حبان والبيهقي عن جبير بم مُطْعِم (أيام منى كلها مَنْحَرٌ) فإن ذهبت أيام النشريق ولم يذبح لم تقع موقعها وتكون شاة لحم.
قلت: أي الإمام النووي: ارتفاع الشمس فضيلة في وقت الأضحية والشرط طلوعها أي طلوع الشمس ثم مضى قدر الركعتين والخطبتين والله أعلم. وذلك إذا اعتبار وقت صلاة العيد يدخل طلوع الشمس أما الأول فمبني على أن وقت صلاة العيد يدخل بالارتفاع فدر رمح ومن نذر معينة أضحية فقال لله عليّ أن أضحي بهذه الشاة مثلاً لزمه ذبحهافي هذا الوقت أي في وقت الأضحية فإن تلفت قبله أي قبل وقت الأضحية فلا شيء عليه لعدم تقصيره وهي في يده أمانة وإن أتلفها هو أو أجنبي ضُمنت بالقيمة وعندئذ لزمه أن يشتري بقيمتها مثلها ويذبحها فيه أي في وقت النضحية وإن نذر في ذمته أضحية ثم عين المنذور أضحية كأن قال هذه الشاة لنذري لزمه ذبحه فيه أي في وقت الأضحية فإن تلفت أضحيته المنذورة قبله أي قبل وقت التضحية بقي الأصل عليه في الأصح لثبوت ما التزمه في الذمة والثاني لا يجب عليه غيرها لأنها تعينت بالتعيين فكان لها حكم من نذر معينة فلا يضمن إلا بالإتلاف.
وتشترط النية عند الذبح إن لم يسبق تعيين لأن الأضحية عبادة والأعمال بالنيات والنية تقترن أصلاً بأول الفعل وأما إذا سبق تعيين الضحية فإن التعيين هو نية ولا تشترط عند الذبح كما في الزكاة فيكفي نيتها عند فرز الزكاة ولا تشترط عند الدفع. وكذا تشترط النية عند الذبح إن قال جعلتها أضحية في الأصح لأن الذبح قربة في نفسه فاحتاج إلى نية والثاني كما ذكرنا قبل هذا يكفي تعيينها عن النية عند الذبح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/153)
وإن وكَّلَ بالذبح نوى عند إعطاء الوكيل الأضحية أو نوى عند ذبحه لأن الوكيل قائم مقامه كما في توزيع الزكاة. وقيل بناءً على ما سبق لا تكفي النية عند إعطائه الوكيل ولكن له تفويض النية إليه أيضاً والصحيح الأول كما في توزيع الزكاة.
وله الأكل من أضحية تطوع وإطعام الأغنياء فالأكل من الأضحية مستحب قال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) الحج36. فأمر بالأكل من الأضحية وأقل أحوال الأمر الاستحباب وروى الشيخان عن علي وجابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى منها مئة بدنةٍ فنحر منها ثلاثاً وستين بدنة ثم اعطى علياً فنحر ما غبر منها وأشركه في هديه ثم أمره فاقتطع من كل واحدة منها قطعة ثم أمر به فطبخ في قدر فأكل من لحمها وتحسى من مرقها) ويجوز الإرسال للأغنياء هدية ولا يجوز لهم التصرف فيه بغير الأكل ولا يجوز إطعام الكافر منها شيئاً لا تمليكهم أي تمليك الأغنياء ببيع أو هبة لأن المضحي أزال ملكه عن الأضحية على وجه القربة فلم يجز بيعها.
ويأكل المضحي ثلثاً وفي قول نصفاً قال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) الحج36، فجعلها بين ثلاثة. وقال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج28، فجعلها بين اثنين والأصح من الأقوال وجوب التصدق ببعضها ولو كان قليلاً بحيث ينطلق عليه اسم الصدقة على الفقراء وروى الترمذي عن عابس بن ربيعة قال: قلت لأم المؤمنين: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن لحوم الأضاحي؟ قالت: لا ولكن قلَّ من كان يضحي من الناس فأحب أن يطعم من لم يكن يضحي فلقد كنّا نرفع الكراع فنأكله بعد عشر أيام. والأفضل التصدق بكلها إلا لقماً يتبرك بأكلها زيادة للثواب قال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج28.
ويتصدق بجلدها أو ينتفع به كأن يجعله دلواً أو نعلاً أو خفاً أو غير ذلك. روى الشيخان عن علي قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدُنِهِ وأقسم جلودها وحلالها وألا أعطي الجازر منها شيئاً) وروى الشيخان عن عائشة (قيل يا رسول الله كان الناس ينتفعون بضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية، فقال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالوا: نهيت عن ادخار لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: (إنما نهيتكم لأجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا)) ولما جاز للمضحي أن يأكل أكثر لحم أضحيته جاز له الانتفاع بجلدها. قوله: الدافة هم قوم من البادية إلى المدينة، يجملون: يذيبون الشحم، الأسقية: هي القرب تتخذ للماء واللبن والسمن.
وولد الواجبة يذبح أي الأصحية المعينة يذبح كأمه سواء ماتت أمه أو لا. لو أي للمضحي أكلُ كله أي كل الجنين ومثل ذلك التصدق ببعضه لأنه أضحية كأمه إن قلنا بوجوب التصدق ببعض الأضحية وشرب فاضل لبنها أي للمضحي أن يشرب ما زاد من لبن الأضحية عم ولدها ولا تضحية لرقيق لأنه لا يملك فإن أذن سيده له بالتضحية وقعت له أي تقع للسيد ولا يضحي مكاتب بلا إذن من سيده لأنه لا يجوز له التبرع بدون إذنه ولا تضحية عن الغير بغير إذنه لأنها عبادة فلا تفعل عن الغير إلا ما خرج بدليل لا سيما مع عدم وجوب الإذن ولا تضحية عن ميت إن لم يوصي بها قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) النجم39. فإن أوصى بها جاز لما روى أبو داود والبيهقي والحاكم عن علي أنه كان يضحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه أبداً) والصحيح أنه تصح التضحية عن الميت ولو لم يوصي بها لأنها ضرب من الصدقة وكان محمد بن اسحاق النيسابوري يضحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع منعقد على أن الصدقة تصح عن الميت وتنفعه بإذن الله. وتجوز التضحية عن النفس وإشراك غيره من ثوابها فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حيت ضحى قال: (هذا عن محمد وأمة محمد).
? فصل في العقيقة ?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/154)
والعقيقة في اللغة شعر رأس المولود حين يولد وشرعاً ما يذبح عند حلق شعره تسمية للشيء بسببه قال المصنف رحمه الله يُسَنُّ أن يعق عن غلام بشاتين وجارية بشاة لما روى البيهقي وأصحاب السنن عن عائشة قالت (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشلتين وعن الجارية بشاة). وسنها وسلامتها من العيوب والأكل والتصدق كالأضحية لأنها مندوبة مثلها ويسن طبخها بحلو تفاؤلاً بحلاوة أخلاق المولود ولا يُكسَرُ عَظمٌ تفاؤلاً بسلامة المولود وأن تذبح يوم سابع ولادته ويحسب يوم الولادة من السبعة كأن ولد يوم الخميس فعقيقته تكون يون الأربعاء الذي يلي فقد روى أحمد والترمذي وغيرهم بسند صحيح عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغلام مرتهنٌ بعقيقته تذبح عنه في اليوم السابع ويحلق رأسه ويسمّى) ولا تفوت العقيقة بالتأخير ويحلق رأسه بعد ذبحها للحديث السابق ويتصدق بزنته أي بزنة الشعر المحلوق ذهباً أو فضة فقد روى الحاكم والبيهقي من حديث علي قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: (زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رجل العقيقة)).
ويؤذن في أذنه حين يولد يؤذن في اليمنى ويقام في اليسرى فقد أخرج أبو داود والبيهقي في السنن وغيرهما عن أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة كالأذان في الصلاة).
وأخرج عبدالرزاق في المصنف عن عمر بن عبدالعزيز (أنه كان إذا ولد له مولود أخذه بخرقة ثم أذن في أذنه اليمين وأقام في أذنه اليسار وسمّاه). ويحنك المولود بتمر فقد أخرج الشيخان عن عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنكهم) والتحنيك أن يمضغ التمر أو نحوه من حلو فيدلك به حنك الطفل.
والمستحب أن يقول الذابح للعقيقة عند الذبح (باسم الله اللهم منك وإليك، عقيقة فلان) رواه البيهقي في السنن عن عائشة.
? كتاب الأطعمة ?
والمقصود بيان ما يحل من الأطعمة وما يحرم والأصل في الباب قوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف157. وقوله تعالى: (يسألونك ماذا أُحِلَّ لهم قل أحِلَّ لكم الطيبات) المائدة4.
وأخبار منها خبر الترمذي عن كعب بن عميرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أي لحم نبت من حرام فالنار أولى به).
قال المصنف رحمه الله حيوان البحر السمك منه حلال أي ما كان أصل عيشه في البحر وإذا خرج منه كان عيشه عيش مذبوح وإن عاش لا يعيش طويلاً كيف مات بسبب ظاهر أو بغير سبب ظاهر وكيف وجد طافياً على وجه الماء أو راسياً فيها أو قذفه الموج إلى الشاطيء إلا إذا انتفخ وبان فساده. قال تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) المائدة96. وروى مالك وأحمد عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)).
وكذا يحل غيره من حيوان الماء في الأصح وقيل لا يحل لأنه لا يسمّى سمكاً وليس على صورة السمك قال النووي في الروضة أن اسم السمك لا يقع على جميع ما يعيش في الماء. ككلب وحمار وما يعيش في بر وبحر كضفدع وسرطان وحية حرام وعقرب وسلحفاة وتمساح حرام كذلك والأول أصح لعموم الخبر (هو الطهور ماؤه الحل ميته) ولم يفرق بين السمك وغيره وقد سُئلَ الشافعي عن كلب الماء وخنزيره فقال: يحل أكله.
وحيوان البرِّ يحل منه الأنعام والخيل والأنعام هي: الأبل والبقر والغنم. قال تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) المائدة2، وقال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) النمل5. ولحم الخيل يحل أكله لما روى االشيخان عن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل). وبقر وحش وحماره يحل لما رواه الشيخان عن أبي قتادة قال: (أنه كان مع قوم محرمين وهو حلال فسنح لهم حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً فأكلوا منها. قالوا: نأكل من لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملوا ما بقي من لحمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا ما بقي من لحمها)) وظبي وضبع وضب وأرنب حلال والظباء من الطيبات قال تعالى: (ويحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث) الأعراف157. وفي الأرنب ما روى الشيخان عن أنس قال: (أفصحنا أرنباً عن الظهران فأدركتها فأخذتها فذهبت بها إلى أبي طلحة فذبحها وبعث
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/155)
بكتفها وفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله)، قوله أفصحنا: أي ظهر لنا أرنب.
وفي الضبع: فقد روى الشافعي والترمذي وغيرهما من حديث جابر (أنه سُئل عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، قيل: أيؤكل؟ قال: نعم قيل أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) صححه البخاري. وفي الضب: روى الشيخان عن ابن عباس قال: (دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأُتي بضب محنوذ – أي مشوي – فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه).
وثعلب ويربوع هو دويبة كالفأر وهو قصير اليدين طويل الرجلين وفنك دويبة جلدها ناعم يؤخذ منه الفراء وسمور وهو يسبه القط من آكلات اللحوم والعرب تستطيب هذه الأربعة فكلها حلال. قال تعالى: (ويحل لكم الطيبات) الأعراف157.
ويحرم بغل وحمار أهلي لما روى الشيخان عم علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية). وأما البغل فهو متولد بين فرس وحمار أهلي أي متولد بين حلال وحرام فيحرم لذلك.
وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير يحرم أكله كأسد ونَمِرٍ ودُب وفيل وقرد وباز وشاهين وصقر ونَسر وعُقاب وكذا ابن آوى وهو فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخالب وفيه شبه كبير من الذئب له عواء يشبه صياح الصبيان وهرة وحش في الأصح وهي المعروفة بالنمس وهي تعدو بنابها فتشبه الأسد. قال تعالى: (ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف157، وهذه كلها من الخبائث وروى مسلم وأبو داود عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير).
وفي ابن آوى وجهان: حرام كما ذكرنا لأنه من جنس الكلب وتستخبثه العرب كما أن له رائحة كريهة وقيل هو حلال لأن نابه ضعيف فأشبه الضبع.
ويحرم ما نُدِبَ قتلُهُ كحية وعقرب وغراب أبْقَعَ وحدأة وفأرة وكلِّ سَبُع ضار لأنها من الخبائث وروى الشيخان عن عائشة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة و العقرب والفأرة والكلب العقور).
وكذا يحرم أكل رخمة وهي طائر يشبه النسر لخبث غذائها وَبُغاثة وهي طائر أبيض بطيء الطيران أصغر من الحدأة فألحق بها في التحريم والأصح حل عراب زرع وهو طائر أسود صغير يسمى الزاغ يأكل الزرع فهو مستطاب وتحريم ببغا وطاووس هو الأصح ووجه التحريم أنهما من الخبائث وقيل يحلان وتحل نعامة إجماعاً وكركي وهو طائر كبير معروف بط وهو من فصيلة الإوز غير أنه لا يطير وإوز ودجاج وحمام وهو كل ما عبَّ أي شرب الماء بلا تنفس جرعة بعد جرعة ومن غير مص وَهَدَرَ أي ردد الصورة وغرد وما على شكل عصفور وإن اختلف لونه ونوعه كالعندليب وصعوة وزُرزُور وهو من نوع العصفور وسمي بذلك لزرزرته أي تصويته فتأكل جميعاً لأنها من الطيبات لا خُطّاف وهو ما يسميه الناس عصفور الجنة وقيل هو الخفاش عند اللغويين وقد ورد من حديث عائشة عند البيهقي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخفاش) فلا يحل أكل الخُطّاف ونمل ونحل وذباب وحشرات كخنفساء ودود فإنها لا تحل جميعاً لأنها مستخبثة وتحرم ذوات السموم والإبر والوزغ بأنواعها لاستخباثها (ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها وسماها فويسقاً) رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص.
وكذلك ما تولد من مأكول وغيره لا يحل تغليباً لأصله الحرام وما لا نص فيه أي لم يرد فيه تحليل ولا تحريم إن استطابه أهل يسار أي ثروة ونعمة وخصب وطباع سليمة من العرب في حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا يحلُّ لأن الله سبحانه أناط الحل بالطيب والتحريم بالخبيث والعرب هم المخاطبون أولاً بهذا القرآن وإن جُهِلَ اسم حيوان لا تعرفه العرب سُئلوا أي العرب عن ذلك الحيوان وعمل بتسميتهم له فما هو حلال أو حرام وإن لم يكن له اسم عندهم اعتُبِرَ بالأشبه أي نظر إلى ما يشبهه فإن كان حلالاً حلَّ وإن كان حراماً حَرُمَ وإن لم يكن له شبيه فيما يحل ولا فيما يحرم فالراجح كونه حلالاً لما روى أبو داود عن ابن عياس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحلال ماأحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو من عفوه)) أي من عفو الله وقال جمع ما لم يرد فيه نص بتحريمه فهو حلال
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/156)
لقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلىَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به) الأنعام145.
وإن تغير لحم جلالة حَرُمَ أكله لأنها صارت من الخبائث وقيل يُكْرَهُ قلت الأصح يكره لأن الأصل حلال والنهي لتغير اللحم كما لو تغير لحم المذكاة أو بيضها والله أعلم فإن عَلِفتْ علفاً طاهراً فطاب لحمها حلَّ أكله من غير كراهة فقد روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس)، ولفظ نهى يَصْدُقُ بالحرمة والكراهة.
وإن تنجس طاهر كخل ودُبْس ذائب حرم أكله فقد روى البخاري عن ابن عباس عن ميمونة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه)) واللفظ لأبي داود. فلو حلَّ أكله بعد وقوع الفأرة فيه لم يأمر بإراقته لما في ذلك من اتلاف للمال وإذا وقعت النجاسة في الزيت فقد أصبح نجساً لا يجوز أكله ولا شربه ويجوز الإستصباح فيه.
وما كسب بمخامرة أي مخالطة نجس كحجامة وكنس مكروه ويُسَنُّ أن لا يأكله ويطعمه رقيقه وناضحه وهو الدابة التي يستقي عليها الماء.
فقد روى ابن جبان والترمذي وحسنه عن محيَصة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن كسب الحجام فنهى عنه وقال: أطعمه رقيقك وأعلفه ناضحك). وقلنا أن النهي يحتمل الحرمة ويحتمل الكراهية وصرفه عن الحرمة خبر الشيخين عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجرته). قال ابن عباس: ولو كان حراماً ما أعطاه أجرته وقيس بالحجامة غيرها من كل ما تحصل به مخالطة للنجاسة.
ويحل جنين وجد ميتاً في بطن مذكاة سواء كانت الذكاة بذبح أو صيد فقد روى الترمذي والدارقطني وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: (قلنا يا رسول الله إنا لننحر الإبل ونذبح البقر والشاة فنجد في بطنها الجنين أفنلقيه أم نأكله؟ فقال: (كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه)). وفي لفظ الدارقطني (إذا سميتم على الذبيحة فإن ذكاته ذكاة أمه).
ومن خاف على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً ووجد طعاماً محرماً لزمه أكله. قال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) النساء29، وقال تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) المائدة3. فإذا وجد المضطر الميتة جاز له أن يأكل منها ما يسد حاجته لقوله تعالى: (إلا ما اضطررتم إليه) الأنعام119. وبعد الحاجة غير مضطر والأصح أنه لو كان في سفر جاز له أن يشبع منه كالحلال. وإذا بلغ الاضطرار حدَّ الخوف على النفس أو خاف مرضاً خطراً فيه التهلكة عادة وجب الأكل. قال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة195. وقيل يجوز الأكل ولا يجب وذلك إذا توقع حلالاً فإن توقع حلالاً لم يجز له غير شد الرمق لاندفاع الضرورة به لأن المطلوب سدُّ الخلل وقد تحصل ذلك والرَمَقُ هو بقية الروح وإلا إن وإن لم يتوقعه ففي قول يشبع وذلك بأن يقدر ما يكفيه والأظهر سدُّ الرمق فقط لاندفاع الضرورة. وإلا أن يخاف تلفاً إن اقتصر على سد الرمق.
وله أكل آدمي ميت إذا لم يجد ميتة غيره لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت وقتل مرتد وحربي له أيضاً وله قتل زانٍ محصن ومحارب لأنهم غير معصومين ليحفظ نفسه ولا خلاف أنه لو كان قوم في سفينة وخافوا الغرق ومعهم ميت جاز لهم طرحه في البحر حفاظاً على الأحياء فكذلك الأمر ها هنا.
لا ذمي ولا مستأمن وصبي حربي فلا يجوز قتلهم لحرمة قتلهم قلت الأصح قتل الصبي والمرأة الحربيين للأكل والله أعلم لعدم عصمتهم وإذا منعنا قتلهم في الحرب فليس لعصمتهم وإنما حفاظاً على حق الغانمين حيث يصيرون ملكاً لهم إذا سبوهم.
ولو وجد طعام غائب أكل ما يسد رمقه أو يشبعه كما مرّ مفصلاً وغرم قيمته إن كان متقوماً أو مثله إن كان مثلياً لحق الغائب.
أو وجد طعام حاضر مضطر إلى الطعام لم يلزمه بذله لغيره إن لم يفضل عنه أي عن حاجته فإن آثر المضطر بالطعام مسلماً جاز بخلاف الكافر. قال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) الحشر9.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/157)
أو وجد المضطر طعام حاضر غير مضطر للطعام لَزِمَه أي لزم غير المضطر إطعام مضطر معصوم الدم مسلم أو ذمي وإن احتاجه صاحبه مستقبلاً للضرورة الناجزة روى البزار والطبراني عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم به)). فإن امتنع صاحب الطعام فله أي المضطر قهره وأخذ الطعام وإن قتله المضطر فلا قصاص عليه ولا دية ويقتص له إن قتله الممتنع لأنه قتل المضطر اعتداءً وظلماً. وإنما يلزمه أي صاحب الطعام إطعام المضطر بعوض ناجز إن حضر أي كان العوض موجوداً وإلا فبنسيئة لأن الذمة تقوم مقام المال ولا يلزم صاحب الطعام بذله من غير ثمن فلو أطمعه أي الطعام للمضطر ولم يذكر عوضاً فالأصح لا عوض لصاحب الطعام حملاً على المسامحة المعتادة عند الإطعام بين الناس ولو وجد مضطر ميتة وطعام غيره الغائب أو وجد مُحْرِمٌ ميتةً وصيداً مأكولاً غير مذبوح فالمذهب أكلها أي الميتة لأن المحرم إذا قتل الصيد أصبح ميتة أيضاً وقيل يتميز بين أن يأكل طعام الغير أو يقتل الصيد ويضمن وبين أن يأكل النجس وهو الميتة ولا يضمن. والأصح تحريم قطع بعضه كلحمة من فخذه إذا كان مضطراً لأكله لأنه قد يتولد من ذلك هلاك نفسه. قلت أي الإمام النووي الأصح جوازه لأنه إتلاف بعض لاستبقاء الكل كمن أصابته أكلق في أحد أعضائه فيقطع هذا العضو لحفظ الجسم من سريان الأكلة إلى بقية الجسم وشرطه أي جواز قطع بعضه أمران أحدهما فقد الميتة ونحوها كطعام الغير والأمر الثاني أن يكون الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل ويحرم قطعه بعض جسمه لغيره من المضطرين ومن معصوم يقطع ليقي نفسه الهلاك والله أعلم لأن وقاية نفسه لا تكون بإيقاع الضرر بالآخرين لأن الضرر لا يُزال بالضرر.
? كتاب المسابقة والمناضلة ?
والمسابقة مأخوذ من السَّبْق وهو التقدم وأما السبق بفتح الباء فهو اسم للمال الذي يُجْعلُ بين المتسابقين والمسابقة يكون على الخيل ونحوها وأما المناضلة فمأخوذة من النضل وهو الغلبة فتقول نضْلتُه أي غلبته أو غالبته والمناضلة تكون بالسهام ونحوها والنضال هو الرمي ويسمى كل منهما الرهان والأصل فيهما قبل الاجماع قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما اسنطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) الأنفال60، وروى الشيخان عن سلمة بن الأكوع قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً).
وروى أحمد وأصحاب السنن والشافعي عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سَبَقَ إلا في خفٍّ أو نصل أو حافر)).
وروى ابن حبان بسند صحيح عن كعب بن مرة قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بلغ العدو بسهم رفع الله له درجة، فقال له عبدالرحمن بن النحام: وما الدرجة؟ قال: أما أنها ليست بعتبة أمك ما بين الدرجتين مائة عام).
هما أي كل من المسابقة والمناضلة سنة إذا قصد بهما التأهب للجهاد ويحل أخذ عوض عليهما لحديث أبي هريرة (لا سَبَقَ إلا في خف أو نصل أو حافر) والسَبَقَ هو المال المتسابق عليه والنصل هو السهام والخف هو الإبل والحافر هو الخيل.
وأخرج الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى وأحمد والدارمي عن أنس قال: (راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة فهشّ لذلك وأعجبه) وقوله هشّ أي فرح.
وتصح المناضلة على سهام والعربية منها تسمة النبل والعجمية منها تسمى النشاب يرمى بها عن القسي الفارسية وكذا تصح المناضلة على مزاريق جمع مزراق وهي الرماح الصغيرة ورماح وهي من عطف العام على الخاص ورميٍ بأحجار باليد وبغيرها ومنجنيق وهو آلة ترمى بها الحجارة وغيرها وكل نافع في الحرب تصح المناضلة عليه على المذهب لأنه آلة للحرب. قال الشافعي في الأم: (تصح بكل ما يُنْكي العدو).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/158)
لا تصح المسابقة على كرة الصولجان وهي عصا معكوفة الطرف ويسمى المحجن يضرب بها الفارس الكرة وبندق لا تصح المسابقة عليه أيضاً وذلك بأن يرمي به بيد أو قوس في حفرة وسباحة وغطس بالماء إذا تولد منه الضرر وكان لغير الحرب لا تصح المسابقة عليها. وشِطْرنج وخام ووقوف على رجل ومعرفة ما بيده لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب فلا تصح المسابقة عليها وتصح المسابقة على خيل وإبل وكذا قيل وبغل وحمار في الأظهر لحديث أبي هريرة السابق (لا سَبَقَ إلا في خف أو نصل أو حافر). حسنه الترمذي وصححه ابن حبان.
لا طير وصِراع فلا تجوز المسابقة عليهما يعوض في الأصح لأنهما ليسا من آلات الحرب والثاني يصح ذلك فقد روى أبوداود في مراسيله عن سعيد بن جبير قال: (كان رسو الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه أعنز له فقال له: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ قال: ما تُسبقني، قال: شاة من غنمي فصارعه فصرعه فأخذ شاة، فقال ركانة: هل لك في العود ففعل ذلك مراراً، فقال: يا محمد والله ما وضع جنبي أحد على الأرض وما أنت بالذي تصرعني، فأسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم غنمه).
والأظهر أن عقدهما أي المسابقة والمناضلة لازم لمن التزم العوض ولو من غير المتسابقين لا جائز لإنه عقد اشتراط أن يكون فيه العِوضُ والمعوَّضُ معلومين فكان لازماً كالإجارة فليس لأحدهما أي المتسابقين فسخه لأن هذا معنى كونه لازماً ولا ترك العمل قبل الشروع و لا بعده ولا زيادة ونقص فيه أي في العمل المتفق عليه ولا في مال اتفقا عليه وإن وافقه الآخر ولكن يفسخا العقد ويستأنفا عقداً جديداً.
وشرط المسابقة من اثنين أو أكثر علم الموقف الذي يبدآن منه والغاية التي يصلان إليها وتساويهما فيهما أي في الموقف والغاية فلو اشترط تقدم موقف أحدهما أو غايته لم يصح لأن القصد معرفة الأسبق منهما وتعيين الفرسين إن كانت المسابقة بهما لأن الغرض معرفة الأجود منهما وامتحان سيرهما ويتعينان بالتعيين فلا يجوز إبدالهما بعد التعيين لاختلاف أغراض الناس فإن وقع هلاك النسخ العقد. وإمكان سبق كل واحد منهما للآخر والعلم بالمال المشروط عيناً كان أو ديناً ويجوز شرط المال من غيرهما بأن يقول الإمام أو أحد الرعية من سبق منكما فله في بيت المال أو فله عليَّ كذا لأن في ذلك إعداد للجهاد وتنمية الأجسام فهو بذل مال لمصلحة فصح من بيت المال من سهم المصالح وصح من غير الإمام كوقف السلاح في سبيل الله. فقد روى الشيخان عن سلمة بن الأكوع (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على ناس من أسلم يتناضلون فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا فأنا معكم كلكم). وفي رواية ابن حبان عن أبي هريرة (ارموا وأنا مع ابن الأدرع).
ومن أحدهما يجوز أن يكون المال فيقول من يبذل المال إن سبقتني فلك عليَّ كذا أو سبقتك فلا شيء لي عليك إذ لا قمار في هذه الحالة. فإن شَرَطَ في عقد المسابقة أم مَنْ سبق منهما فله على الآخر كذا لم يصح هذا الشرط إلا بمُحَلِّلٍ فرسُهُ كفءٌ لفرسيهما فقد روى أبوداود وأحمد وغيرهما وصححه ابن حزم عن أبي هريرة (من أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبقهما فهو قِمَارٌ وإن لم يأمن أن يسبق فليس بقمار). والمُحَلِلُ يغنم إن سبق ولا يغرم إن سُبِقَ فإن سبقهما أي المتسابقين أخذ المالين سواء جاءا معاً أو مرتبين أحدهما قبل الآخر وإن سبقاه وجاءا معاً ولم يسبق أحدهما فلا شيء لأحد لعدم سبقه وإن جاء مع أحدهما وتأخر الآخر فمال هذا الذي جاء معه لنفسه لأنه لم يُسْبَقْ ومال المتأخر للمُحِلِّلِ والذي معه لأنهما سبقا الآخر وقيل مال المسبوق للمحلل فقط بناء على أنه محلل لنفسه فإن قلنا وهو الأصح أنه محلل لنفسه ولغيره فالمال لهما. وإن جاء أحدهما ثم المحلل ثم الآخر فمال الآخر للأول في الأصح لسبقه الاثنين وقيل له وللمحلل لسبقهما الآخر وإن تسابق ثلاثة فصاعداً وبذل المال آخر وشُرِطَ للثاني مثل الأول فَسَدَ العقد لأن مقصود المسابقة الاجتهاد في السبق ودونَه أي إذا شُرِطَ للثاني دون الأول صح العقد يجوز ذلك بل يستحب في الأصح لأنه يسعى ويجتهد ليفوز بالنصيب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/159)
الأكبر.
وسبق إبل بكتف وخيل بعنق وقيل بالقوائم يكون السبق فيهما أي الإبل والخيل لأن العدو بالأقدام والفرق بين الإبل والخيل أن الإبل ترفع أعناقها عند العدو والخيل تمدها فالمتقدم ببعض الكتف أو العنق سابقٌ.
ويشترط للمناضلة بيان أن الرمي مبادرةٌ وهي أن يَبْدُرَ أحدهما بإصابة العدد المشروط كعشرة من عشرين فمن أصابها فهو ناضلٌ لمن أصاب تسعة أو ثمانية من عشرين فيستحق المالَ المشروط في العقد. أو محاطّةٌ وهي أن تُقَابل إصاباتُهُما من عدد معلوم كعشرين من كل منهما ويطرح المشترك أي ما اشتركا فيه من الاصابات فمن زاد على صاحبه في الاصابات كخمس مثلاً أو كان له اصابات ولم يكن لصاحبه شيء فَنَاضِلٌ للآخر فيستحق المال المشروط في العقد وبيان عدد نوب الرمي يشترط أيضاً سواء كان الرمي مبادرة أو محاطة فمثلاً يؤميان أربع مرات في كل مرة خمسة أسهم والإصابة فيشترط بيان عدد الاصابات كخمس من عشرة وبه يتبين حذق الرامي ويشترط أن لا تكون الاصابة نادرة كتسع من عشرة أو عشرة من عشرة ولا متأكدة كواحد أو اثنين من مئة. ومسافة الرمي وقدر الغَرَض أي الهدف الذي يرمى إليه طولاً وعرضاً إلا أن يُعْقد الرميُ بموضع فيه غرض معلوم فيحمل العَقْدُ المطلق عليه فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد ضمرت من الحفيا إلى ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسخد بني زريق).
وأخرج البخاري في التاريخ الكبير عن محمد بن حجاج وأبو نعيم في المعلافة عن أبي لبابة قال: (لما كان ليلة بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: كيف تقاتلون؟ ققام عاصم بن ثابت بن الأفلح فقال: أي رسولَ الله إذا كان القوم قريباً من مائتي ذراع أو نحو ذلك كان الرمي بالقسي وإذا دنا القوم حتى تنالهم الحجارة كانت المراضخة فإذا دنوا حتى تنالهم الرماح كانت الداعسة حتى تتقصف الرماح حتى كانت المجالدة بالسيوف فقال صلى الله عليه وسلم: بهذا أنزلت الحرب من قاتل فيقاتل قتال عاصم).
وليبينا صفة الرمي من قرع وهو إصابة الشَنِّ وهو الهدف بلا خدش له أو خزق وهو أن يثقبه أي يثقب الهدف ولا يثبت فبيه أو خَسْقٍ وهو أن يثبت فيه أي يثبت في الهدف أو مَرْقٍ وهو أن ينفذ من الجانب الآخر للهدف فإن أطلقا ولم يبينا صفة الرمي اقتضى القرع لأنه المتعارف عليه بين الناس وهو المقصود عادة. ويجوز أن يكون عوض المناضلة من حيث يجوز عوض المسابقة أي من أحدهما أو غيرهما أو من بيت المال أو كذا منهما بمحلل وبشرطه في القوة والعدد المشروط. ولا يشترط في المناضلة تعيين قوس وسهم لأن الاعتماد في ذلك على الرمي فإن عين القوس والسهم لغا الشرط وجاز ابداله أي المعين بمثله من نوعه وإن لم يحدث فيه خلل يمنع من استعماله فإن شُرِطَ منع ابداله فسد العقد لأن في ذلك تضييق على الرامي والأظهر اشتراط الباديء بالرمي للتمييز بينهما حذراً من اشتباه المصيب بالمخطيء لو رميا معاً وقيل لا يشترط الباديء فيهما بل يقرع بينهما عند الرمي ولو حضر حمعٌ للمناضلة فانتصب زعيمان يختاران أصحاباً أي حزباً لكل منهما جاز ففي رواية ابن حبان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بحزبين من الأنصار يتناضلان فقال: (ارموا وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع) ولم ينكر عليهم). وطريقة ذلك أن ينتصب لكل حزب رئيس ثم يختار أحد الرئيسين واحداً من الرماة ثم يختار الثاني واحداً إلى أن يستكمل كل واحد منهما حزبه ولا يجوز شرط تعينهما أي أصحاب كلٍّ منهما بقرعة ولا أن يختار أحد الزعيمين جميع الحزب أولاً لأنه قد يستوعب المهرة فتفسد المناضلة. فإن اختار أحد الزعيمين غريباً لا يعرفونه ظنَّهُ رامياً فبان خلا فه بطل العقد فيه لأن شرط دخوله في العقد أن يكون من أهل الرمي وسقط من الحزب الآخر واحدٌ بإزائه ليحصل التساوي بين الحزبين وفي بطلان الباقي من الجزبين قولا تفريق الصفقة والراحج تفرَق فيصح فيه فإن صححنا تفريق الصفقة فلهم جميعاً الخيار في الفسخ والإمضاء فإن أجازوا تفريق الصفقة وتنازعوا فيمن سقط بدله فسد العقد لتعذر إمضائه أما إذا جعلنا الخيار لزعيم الحزب فلا يفسد العقد وإن نضل حزب الحزب الآخر قسم المال بينهم بحسب الإصابة لأنهم استحقوا ذلك بالإصابة فإن كان فيهم مَنْ لم يصب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/160)
الغرض لم يستحقَّ شيئاً وقيل يقسم المال بالسوية كما يغرم المسبوقين بالسوية إذا التزموا المال.
ويشترط في الإصابة المشروطة أن تحصل بالنََّصل الذي بالسهم لا بغرض السهم لأنه المتعارف عند الإطلاق.
فلو تلف وتر بأن انقطع أو قوس بأن انكسر في حال الرمي أو عَرَض شيء كبهيمة أو طير انصدم به السهم وأصاب في المسائل الثلاث الغرض حُسِب له للرامي وإلا أي وإن لم يصبه لم يحسب عليه لوجود العذر فيعيد هذه الرمية.
ولو نقلت الريح الغرض فأصاب السهم موضِعه حُسب له أي للرامي لأنه لو كان في موضعه لأصابه وإلا فلا يُحسبُ عليه لوجود العارض.
ولو شرط خَسقٌ فرمى أحد المتسابقين إلى الغرض فثقب السهم الغرض وثبت فيه ثم سقطأو لقي صلابة فسقط السهم حُسِب له لوجود العذر وعدم التقصير. ويُسَّنُ وجود شاهدين عند الغرض ليشهدا على الإصابة أو عدمها.
? كتاب الأيمان ?
الأيمان لغة جمع يمين وتطلق على القوة وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كلَّ واحد بيمين الآخر والأصل في الباب: الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: (لا يؤخذاكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) المائدة89.
وقال تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) آل عمران77، وروى أبوداود عن عكرمة مرسلاً وكذلك البيهقي في السنن الكبرى (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله))، واليمين والقسم والإيلاء والحلف ألفاظ مترادفة.
قال المصنف رحمه الله لا تنعقد اليمين إلا بذات الله أو صفة له بأن يحلف بلفظ مفهومة الذات أو الصفة فالذات (كقوله والله) والصفة كقوله وربِّ العالمين والحي الذي لايموت ومن نفسي بيده يصرفها كيف يشاء وكل اسم مختص به سبحانه وتعالى غير ما ذكر ولو مشتقاً ومن غير أسمائه الحسنى كالإله ومالك يوم الدين والذي أسجد له والذي أعبده والذي صلاتي ونسكي له ومقلب القلوب تنعقد بها اليمين ولاتنعقد بمخلوق كنبي أو مَلَك والكعبة للنهي عن ذلك فقد روى الحاكم عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير بغير الله فقد كفر)). وروى فقد اشرك وحُمِلَ ذلك على من اعتقد فيما حلف التعظيم الذي يعتقده في الله تعالى.
ولا يقبل قوله أي المُقسِم لم أرد به اليمين عند قسمه بذات الله أو صفة له ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن اليمين منصرف إليه ولا تحتمل غيره.
وما انصرف إليه سبحانه عند الإطلاق كالرحيم والخالق والرازق والباريء والرب والواهب والرؤوف والقادر والقاهر والمالك والجبار والمتكبر تانعقد به اليمين إلا أن يريد غيره لأن إطلاق هذه الأسماء لا ينصرف إلا إلى الله فإن نوى بها الله كان ذلك تأكيداً وإن نوى بها غير الله لم تنعقد يمينه لأنها عند التقييد قد تستعمل لغير الله. قال تعالى: (وتخلقون إفكاً) العنكبوت17، وقال تعالى: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) يوسف50، وقال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربي والمساكينُ فارزقوهم منه) النساء8.
وما استعمل فيه وفي غيره سواء كالشيء والموجود والعالم والحي ليس بيمين إلا بنية ومثلها المؤمن والكريم فلا ينعقد بها اليمين دون نية لأنها مشتركة بين الله وبين الخلق والأصح لا تنعقد بها يمين سواءٌ نوى بها أو أطلق لأن اليمين إنما تنعقد إذا حلف باسم معظم له حرمة وهذه الأسماء ليست معظمة ولا حرمة لها لاشتراك الخالق والمخلوق بها.
والصفة كوعظمة الله وكبريائه وطلامه وعلمه وقدرته ومشيئته يمين بشرط أن يأتي بالظاهر بدل الضمير فيقول وعظمة الله وكبرياء الله وكلام الله وعلم الله وقدرة الله ومشيئة الله لأن هذه الصفات صفات الذات لم يزل الله موصفاً بها فأشبهت الأسماء المختصة به سبحانه إلا أن ينوي بالعلم المعلوموبالقدرة المقدور وبالعظمة وما بعدها ظهور آثارها فلا تنعقد بها اليمين لأن اللفظ يحتمل ذلك فيقال: انظر إلى قدرة الله أي مقدوره وكذلك انظر إلى علم الله أي سعة علم الله أي معلومه وكذلك يقال عند معرفة سرًّ في خلق الله انظر إلى عظمة الله. ولو قال وحق الله لأفعلن فيمين لغلبة استعماله في استحقاق الله الألوهية إلا أن يريد بحق الله العبادات التي أمر الله بها فلا تنعقد يميناً
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/161)
لاحتمال اللفظ بها.
وحروف القسم في لغة العرب ثلاثة: باءٌ وواوٌ وتاءٌ: كبالله ووالله وتالله لأفعلنّ كذا وزاد بعضهم الألف بدلاً من الهمز كما في حديث ركانة في الطلاق البتة أنه قال: (اللهُ ما أردت إلا واحدة) فقال اللهُ بالضم ويجوز الخفض والنصب فمعنى الرفع: اللهُ قسمي أو الله الذي أقم به والنصب كقولهم يمينَ الله لفقدان الخافض والكسر لا يكون إلا مع المد لأن الهمزة بدلاً من واو القسم.
وتختص التاء بالله تعالى فقد ثبت ذلك في القرآن الكريم (وتالله لأكيدن أصنامكم) الأنبياء57، ولو قال اللهُ ورفع أو نصب أو خفض لأفعلنَّ كذا مثلاً. فليس بيمين إلا بنية للقسم لاحتماله لغيره وسواء في ذلك مدَّ الألف أو لم يمدها في لفظ الجلالة لأن حكمها واحد لأن اللحن هنا وفي سائر الأيمان الصريحة والكناية لا يمنع الانعقاد إذ في الحقيقة لا لحن لا مكان في جعل الرفع على الابتداء والمحذوف والنصبُ على خذف الخافض كما ذكرنا قبل قليل. وكذلك التسكين على نية الوقف والجر بحذف الخافض وابقاء عمله ولو قال أقسمت أو أقسم أو حلفت أو أحلف بالله لأفعلنّ كذا فيمين إن نواها أو أطلق لاطراد العرف باستعمالها يميناً وأيدها بالنية وإن قال قصدت خبراً ماضياً أو مستقبلاً صدق باطناً لأن قوله أقسمتُ يصلح لماضي حقيقة وقوله أقسم يصلح للمستقبل حقيقة فإذا أراده قُبِلَ منه وكذا ظاهراً على المذهب وحيث قال باطناً أي بينه وبين الله سبحانه وحيث قال ظاهراً أي بينه وبين الناس.
ولو قال لغيره أقسم عليك بالله أو أسألك بالله لتفعلن وأراد يمين نفسه فيمين تنعقد ف يحق الحالف لأنه أراد عقد اليمين بنفسه وإلا يريد يمين نفسه بل يريد الشفاعة أو يمين المخاطب فلا تنعقد لأنه لم يحلف لا هو ولا المخاطب.
وإن قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام فليس يمين لكنه خال وقوله ليس يمين لأنه خال من اسم الله تعالى وصفاته ولا يكفر به إن قصد بتعبد نفسه عن الفعل أما إذا قصد قصد الرضا بذلك إذا فعل هذا الفعل فهو كافر في الحال والأولى الاتيان بالشهادتين ومن سبق لسانه إلى لفظها أي اليمين بلا قصد لمعناها لم تنعقد يمينُهُ قال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة225، فالمؤاخذة على القصد وإذا ظنَّ شيئاً على صفة فحلف عليه أنه كذلك فبان خلافه وروى مالك في الموطأ عن عائشة والبيهقي في السنن عنابن عباس والسيوطي عن ابن عمر أنهم قالوا: (لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله)، واللغو في اللغة هو الكلام الذي لايقصد إليه.
وقال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم با عقّدتم الأيمان) المائدة85، وعقّدتم أي أكدتم وأثبتهم.
وتصح على ماضٍ ومستقبل نحو قولهم والله ما فعلت كذا أو فعلته والله لأفعلن كذا أو لا أفعله وهي مكروهة إلا في طاعة كفعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه. قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) البقرة224. أي لا تكثروا الحلف بالله فلربما عجزتم عن الوفاء ويجوز الحلف لتوكيد أمر أو تعظيم فعل كما في حديث ابن حبان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشاً)).
روى الشيخان عن عبدالرحمن بن سمرة (فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك) فإن حلف على ترك واجب أو فعل حرام عصى بذلك ولزمه عند ذلك الحنث وكفارة لأن الإقامة على ترك الواجب أو فعل المحرم معصية. وقد روى مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر).
أو حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه سُنَّ حِنثُهُ وعليه كفارة لأن الحلف والإقامة عليه مكروهان. قال تعالى: (ولا يأتلِ أولو الفضل منكم والسعة أو يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا) النور22.
أو حلف على ترك مباح أو فعله فالأفضل ترك الحنث تعظيماً لاسم الله تعالى. قال تعالى: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) النمل91. وقال تعالى: (واحفظوا أيمانكم) المائدة89.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/162)
وقيل الحِنث أفضل لينتفع الفقراء بالكفارة ولينتفع بالمباح الذي منع نفسه منه بالحلف قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) الأعراف32. وروى الشيخان عن عبدالرحمن بن سَمْرَة (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمنيه).
ولو تقديم كفارة بغير صوم على حنث جائز أي غير حرام كأن حلف ليصومنّ أو ليدخلنّ الدار أو لا يلبس أخضراً جاز له أن يكفر لأن سبب الكفارة اليمين والحنث جميعاً والتقديم على احد السببين جائز كما في تقديم الزكاة قبل الحول روى البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي عن عبدالرحمن بن سمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير)). فقدم الكفارة على الحنث ولا يصح التكفير بالصوم لأنه عبادة بدنية فلا يقدم على الحنث. وقيل لعله يجد الإطعام أو الكسوة قبل الوجوب. قيل: وحرام كالحنث بترك واجب أو فعل حرام قلت: هذا أصح أي تقديم الكفارة على الحنث بيمين على معصية والله أعلم كأن حلف أن يشرب الخمر فأراد أن يكفر قبل أن يشربها جاز ذلك لأن الكفارة لا تتعلق بها استباحةٌ او تحريمٌ وكفارة ظهار على العود وقتل على الموت وذلك بعد أن جرحه وكذلك تقديم جزاء الصيد بعد الجرح وقبل الموت فيجوز في ذلك تقديم الكفارة ومنذور مالي على المعلق عليه فيجوز تقديم الكفارة قبل حصول المعلق عليه كأن قال إن شفى الله مريضي فللّه عليَّ أن أبني داراً للمساكين فيجوز تقديمها قبل الشفاء كالزكاة يجوز تقديمها على الحول.
? فصل: في بيان كفارة اليمين ?
يتخير في كفارة اليمين بين عِتقٍ كالظهار أي كعتق كفارة الظهار وهو عتق رقبة مؤمنة بلا عيب يخل بالعمل والكسب. و بين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مدُّ حبٍَ من غالب قوت بلده وبين كسوتهم بما يسمى كسوة كقميص أو عمامة أو إزار لا خُفٍّ وقفازين فلا يغني الخف في الكفارة ولا يجزيء القفازان وهو ما يلبس باليدين ويُحشى عادة بالقطن وتكون له أزرار تزر على الساعد من البرد ومنطقة لا تجزيء أيضاً والمنطقة هي ما يشد على الوسط عادة ولا يشترط في الكسوة صلاحيته للمدفوع إليه فيجوز سراويل صغيرة أن يدفع لكبير لا يصلح له و يجوز في الكسوة قطن وكتان وحرير وصوف وشعر لامرأة ورجل و يجوز لبيس أي ملبوس لم تذهب قوته فإن كان قد خَلُقَ لم يُجِزه كالطعام المسوِّس وإن كان لم يخلُقْ أجزأه كالطعام العتيق من عجز عن الثلاثة المذكورة لزمه صوم ثلاثة أيام ولا يجب تتابعها في الأظهر قال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو فيأيمانك ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) المائدة89. ولا يجب التتابع لأن الآية (فصيام ثلاثة أيام) أطلقت ولم تفرق بين كونها متتابعة أو متفرقة.
وإذا غاب ماله انتظره ولم يصم لأنه واجد للمال ولا يكفر عبد بمال لأنه لا يملك إلا إذا ملكه سيده طعاماً أو كسوة وقلنا يملك بتمليك سيده فهو يملك به وهو قول ضعيفبل يكفر بصوم لعجزه عن غيره فإن ضره الصيام لشدة حر وطول نهار وتعبد فيب خدمة سيده وكان حلف وحَنِثَ بإذن سيده وصام لا إذن من سيده وليس له منعه من ذلك أو وجدا أي الحلف والحنث بلا إذن لم يصم العبد إلا بإذن من السيد لأن حق السيد على الفور والكفارة على التراخي.
وإن أذن السيد في أحدهما أي في الحلف أو الحنِث فالأصح اعتبار الحلف لأن إذن السيد بالحلف إذن بما يترتب عليه.
ومن بعضه حر ولو مال يكفِّر بطعام أو كسوة ولا يكفر بصوم ليساره لاعتق فلا يصح العتق من المبعض عن أهلية الولاء.
? فصل: في الحلف على السكنى والمساكنة والدخول وغيرها ?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/163)
حلفَ لا يسكنها أي الدار أو لا يقم فيها فليخرج في الحال لأن استدامة السكون بمنزلة ابتدائه فإن مكث بلا عذر حَنِثَ أي إن أمكنه الخروج ولم يخرج حَنِثَ وإن خرج وترك فيها متاعه وأهله لم يحنث وإن بعث متاعه وأهله ومكث هو حَنِثَ لأن حلفه كان على سكنى نفسه أما إذا مكث لعذر كضياع مفتاح الدار أو مُنِعً من الخروج لم يحنث وإن اشتغل بالخروج لجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب لم يحنث وإن طال زمانه لأن ذلك اشتغال بأسباب الخروج ولو حلف لا يساكنه في هذه الدار وخرج أحدهما في الحال لم يحنث ولو مكث ساعة مشتغلاً بنقل متاعه لأنه مشتغل بأسباب الخروج وكذا لم يحنث لو بني بينهما جدار ولكل جانب مدخل في الأصح لاشتغاله بأسباب عدم المساكنة. ولو حلف لا يدخلها أي الدار وهو فيها أو لا يخرج منها وهو خارج فلا حنث بهذا المذكور لأنه لا يسمى دخولاً ولا خروجاً حيث أن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل والخروج هو الانفصال من داخل إلى خارج ولم يوجد هذا في الاستدامة فلا يسمى دخولاً ولا خروجاً. أو حلف لا يتزوج وهو متزوج أو لا يتطهر وهو متطهر أو لا يلبس وهو لابس أو لا يركب وهو راكب أو لا يقوم وهو قائم أو لا يقعد وهو قاعد فاستدام هذه الأحوال حَنِثَ في هذه الأحوال ولو كرر الحلف حنث ثانية إن شرع فيها واستدام عليها قلت تحنيثه باستدامة التزوج والتطهر غلط لأن استدامة الشيء لا تجعل في الشرع بمنزلة ابتدائه والمنقول والمنصوص في المذهب عدم الحنث واستدامة طيب ليست تطيباً في الأصح إذ لا يقدر عادة بمدة ومثل التزوج والتطهر وكذا لا يحنث باستدامة وطء وصلاة وصوم والله أعلم وقيل يحنث لتقدر الأربعة الأخيرة بزمن وهذا ليس بشيء.
ومن حلف لا يدخل داراً حَنِثَ بدخول دهليز والدهليز هو الممر بين الباب والدار داخل الباب بكامل جسمه وإن لم يكن للدار باب آخر أو كان بين بابين من الدار لأن من جاوز باباً للدار عُدَّ داخلاً. لا بدخول طاقٍ قدام الباب فلا يحنث بذلك والطاق هو ما يجعل أمام المنزل من فسحة مسقوفة ومزينة بعقود وأقواس ومفتوحة على الشارع بلا باب ولا يحنث بصعود سطح غير محوَّط وكذا محوط في الأصح لأن من صعد السطح لا يسمى داخلاً ولو أدخل يده أو رأسه أو رجله لم يحنث لأنه لا يسمى داخلاً. فقد روى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً وكان يخرج رأسه من المسجد إلى عائشة لترجله) فإن وضع رجليه فيها أي في الدار معتمداً عليهما حنث لأنه بإدخال رجليه والاعتماد عليهما في وقوفه يسمى داخلاً لو انهدمت الدار فدخل فيها وقد بقي أساس الحيطان حَنِثَ لأن أصول الحيطان من الدار وإن صارت فضاءً أو جعلت الدار مسجداً أو حماماً أو بستاناً فلا يحنث لزوا اسم الدار عنها.
ولو حلف لا يدخل دار زيد حَنِثَ بدخول ما يسكنها بملك سواء كان مالكاً لها عند الحلف أو ملكها بعد ذلك لا بإعارة وإجارة وغصب لأن ذلك لا يدل على الملك ومطلق الإضافة يعني الملك إلا أن يريد بدار زيد مسكنه فإنه يحنث عندئذ.
ويحنث أيضاً بما يملكه زيد إن دخله ولا يسكنه إلا أن يريد بيمينه مسكنه أي مكان سكنى زيد فيحنث بدخول أي مكان سكنه زيد وبأية صفة.
ولو حلف لا يدخل دار زيد أو لا يكلم عبده أو لا يكلم زوجته فباعهما أي باع زيد الدرا والعبد أو طلقها أي طلق زيد زوجته فدخل وكلم لم يحنث لزواج الملك بالبيع والزوجية بالطلاق إلا أن يقول داره هذه أو زوجته هذه أو عبده هذا فيحنث تغليباً للإشارة على العبارة إلا أن يريد الحالف بقوله هذه أو هذا مادام ملكه فلا يحنث مع الإشارة.
لول حلف لا يدخلها من ذا الباب فنزع الباب ونصب في موضع آخر لم يحنث بالخول من المنفذ الثاني ويحنث بالأول في الأصح لأن المقصود باليمين المنفذ دون المنصوب من خشب أو غيره أو حلف لا يدخل بيتاً حَنِثَ بكل بيت يدخله سواء من طيب أو حجر آجر وهو اللَبِن المحروق أو خشب أو خيمة أو صوف أو جلد أو شعر أو وبر فإن نوى نوع منها حمل عليه.
ولم يحنث بمسجد دخله وحمام وكنيسة وغار جبل لأنها لا تسمى بيتاً عادة أو حلف لا يدخل على زيد فدخل بيتاً فيه زيد وغيره حنث بالدخول وإن استثناه بقلبه أو لسانه لأن الدخول لا يتبعض وفي قول إن نوى الدخول على غيره دونه لا يحنث الحاقاً بالسلام ولكنه بعيد لأن الأقوال تقبل الاستثناء والأفعال لا تقبلها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/164)
فلو جهل حضوره أي حضور زيد في البيت فخلاف حنث الناسي والجاهل والأصح عدم الحنث قلت: ولو حلف لا يسلم عليه فسلم على قوم هو فيهم واستثناه لفظاً أو نية لم يحنث وإن أطلق حنث إن علم به في الأظهر والله أعلم لأن العام يجري على عمومه ما لا يخصص.
? فصل: في الحلف على الأكل والشرب مع بيان ما يتناوله بعض المأكولات ?
حلف لا يأكل الرؤوس ولا نية له حُمِلَ قوله على العرف فإن اضطرب العرف حمل قوله على اللغة حَنِثَ برؤوس تباع وحدها وهي هنا رؤوس الإبل والغنم والبقر لا طير وحوت وصيد فلا يحنث بأكلها لأنها لا تفرد بالبيع إلا ببلد تباع فيه هذه الرؤوس مفردة فإنه يحنث بأكلها.
والبيض إذا حلف لا يأكله يُحْمَلُ على مزايل أي على بيض يفارق بائضه في حال حياته في الحياة كدجاج ونعمامة وحمام لا سمك وجراد لأنه يخرج من بعد الموت بشق بطنه فيحنث بأكل بيض الدجاج والنعامة والحمام ولا يحنث بأكل بيض السمك والجراد.
واللحم إذا حلف لا يأكله يحمل عل نعم أي إبل وبفر وغنم وخيل ولحم وحش وطير مأكولين لا سمك فلا يحنث بأكله لأنه لا ينصرف إليه اسم اللحم عند الإطلاق وكذا لا يحنث بأكل كرش وكبد وطحال وقلب في الأصح لأ، اسم اللحم لا يتناول هذه الأشياء عند الاطلاق والأصح تناوله أي اسم اللحم لحم رأس ولسان وجلد وأكارع والثاني لا يتناوله الاسم لأ، العرف يخالف ذلك والأصح أن اسم اللحم لا يتناول شحم ظهر وجنب لأنه لحم يكون عند هزال الحيوان أحمر وإنما يبيض عندما يكون الحيوان سميناً والأصح أن الألية والسنام ليسا شحماً ولا لحماً لمخالفتهما للشحم واللحم ففيهما صلابة اللحم وذوبان الشحم فهما مخالفتان للشحم في الاسم والصفة. واسم الدسم يتناولهما أي الألية والسنام واسم الدسم يتناول شحم ظهروبطن وكل دهن ولحم البقر يتناول أيضاً جاموساً لدخول الجاموس تحت اسم البقر.
ولو قال في حلفه مشيراً إلى حنطة لا آكل هذه ولم يذكر اسمها حنث بأكلها على هيئتها حنطة وبطحنها وخبزها عملاً بالإشارة ولو قال في حلفه لا آكل هذه الحنطة وذكر اسمها حنث بها أي بأكلها مطبوخة ونيئة ومقلية ولكن لا يحنث بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها لزوال اسم الحنطة عنها ولا يتناول رُطبٌ تمراً ولا بُسراً ولا عنبٌ زبيباً وكذا العكوس فلا يحنث من حلف لا يأكل رطباً إذا أكل تمراً ولا يحنث من حلف لا يأكل عنباً إذا أكل زبيباً لزوال الاسم وكذلك العكس فنتاج النخل أوله طلع ثم خَلال ثم بلح ثم بُسرٌ ثم رطبٌ ثم تمر ولو قال لا آكل هذا الرُّطب فتتمر الرطب المشار إليه فأكله أو قال لا أكلم ذا الصبي فكلمه شيخاً فلا حنث في الأصح لزوال الاسم كما في الحنطة والثاني يحنث لأن الصورة باقية وهذا هو المذهب والخبز يتناول كل خبر لحنطة وشعير وأرز وباقلا وذرة وحمص فيحنث بأكل أي منها من حلف لا يأكل خبزاً ولا اعتبار لوجوده في بلده وسواء في ذلك أكله مستقلاً أو مثروداً أو مع أُدم وغير ذلك. فلو ثرده فأكله حَنِثَ ولكن لو ذاب في المرقة فصار حساءً أو كالحساء فتحساه لم يحنث لزوال الاسم. ولو حلف لا يأكل سويقاً فسفه أو تناوله بأصبع حَنِثَ لأن الجميع أكل وإن جعله أي السويق في ماء فشربه فلا يحنث لأنه لا يعد أكلاً ولا يسمى أكلاً. أو حلف لا يشربه أي السويق فبالعكس أي لا يشرب السويق لأن الأكل في الجوامد والشرب في المائعات والسويق طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير مع الماء والسمن والسكر وقد يكون سائلاً وقد يكون جامداً أو حلف لا يأكل لبناً أو مائعاًآخر فأكله بخبز حَنِثَ لأن عادة أكله هكذا أو شربه فلا يحنث بذلك لأنه لا يسمى أكلاً أو حلف لا يشربه فبالعكس فيحنث بالشرب دون الأكل.
أو حلف لا] اكل سمناً فأكله بخبز جامداً أو ذائباً حَنِثَ لأنه هكذا يؤكل عادة وإن شرب السمن ذائباً فلا يحنث لأنه لم يأكله وإنما شربه وإن أكله أي السمن في عصيدة حَنِثَ إن كانت عينه ظاهرة أي إذا كا السمن ظاهراً متميزاً في الحس لا مستهلكاً فيها والعصيدة هي طعام يتخذ من دقيق طبخ بسمن وعسل ويسمى أيضاً الحريرة. ويدخل في فاكهة رُطَبٌ وعنبٌ ورمان وأُتْرُجٌ ورَطْبٌ ويابسٌ ورَطْبٌ ما أكل بعد تلونه وسريان الماء فيه واليابس إذا جف وبقيت فيه لذاذة الطعم فمن الرطب العنب والتفاح والتين ومن اليابس التمر والزبيب والتين اليابس والأترج شجرة يخرج منها ثمر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/165)
كالليمون الكباد وهو ذهبي اللون طيب الرائحة ماؤه حامض قلت: أي النووي وليمون ونبق وهو ثمر شجر السدر وكذا بطيخٌ ولُبُّ فستقٍ وبُندُقٍ وغيرهما من اللبوب كَلُبِ لوز وجوز في الأصح لأنها من يابس الفاكهة لا قثاء وخيلر وباذنجان وجزر فهذه الأربعة من الخضار ولا يدخل في الثمار إذا حلف لا يأكلها يابس والله أعلم لأن الثمر اسم للرطب فقط بخلاف الفاكهة ففيها يدخل الرطب واليابس.
وإذا أُطلِق بطيخٌ وتمرٌ وجوزٌ فيمن لا يأكل واحدة منها لم يدخل فيها هنديٌ للمخالفة في الصورة والطعم ويجب أن يعلم أن البطيخ الهندي هو البطيخ الأخضر فإن حلف لا يأكل البطيخ الهندي وعلم أن معناه البطيخ الأخضر حَنِثَ بخلاف التمر الهندي والجوز الهندي فلا يحنث إذا حلف لا يأكل التمر أو الجوز فأكل هندياً منهما فلا يحنث.
والطعام إذا حلف لا يأكله يتناول قوتاً وفاكهةً وأدماً وحلوى لأن اسم الطعام يقع عليها جميعاً، قال تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) آل عمران93. ولو قال في حلفه لا آكل من هذه البقرة تناول المنع لحمها فيحنث به لأنه المفهوم عرفاً وكذا كبدها وشحمها وغيرها مما يأكل عادة دون ولد ولد ولبن منها فلا يحنث بهما أو قال في حلفه لا آكل لا آكل من هذه الشجرة فثمر منها يحنث الخالف به إذا أكله دون ورق وطرف عصن منها فلا يحنث بذلك لأنها لا تُعدُّ للأكل عادة.
? فصل: في الحلف مسائل منثورة ?
حلف لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر فأكله أي الجميع حنِثَ لأنها أكل المحلوف عليها أما لو أكله إلا تمرة واحدة لم يحنث إلا إذا تيقن أنها غير المحلوف عليها لإمكان أن الباقية هي المحلوف عليها لأن الأصل براءة ذمته من الكفارة أو حلف ليأكلها أي التمرة المعنية فاختلطت بغيرها لم يبرَّ إلا بأكل الجميع أو حلف ليأكلنَّ هذه الرمانة يَبَرُّ بيمينه بجميع حبها إذا أكله أو حلف لا يلبس هذين الثوبين مثلاً لم يحنث بأحدهما إذا لبسه لبسهما معاً أو مرتباً حَنِثَ لوجود المحنوث عليه. أو حلف لا ألبس هذا ولا ألبس هذا حنث بأحدهما إذا لبسه لأنهما يمينان لإعاذدة حرف النفي. أو حلف ليأكلنَّ ذا الطعام غداً فمات قبله أي قبل الغد فلا شيء عليه لأنه لم يبلغ زمن البرِّ والحِنْث وإن مات الحالف أو تلف الطعام في الغد بعد تمكنه أي تمكن الحالف من أكله حَنِثَ لأنهفوّت الوقت باختياره وقبله أي قبل التمكن قولان كمكره لأن فوات البرِّ بغير اختياره والأصح عدم الحنث وإن أتلفه الحالف بأكل أو غيرهقبل الغد حَنِثَ تفويته البرَّ باختياره ولأن التقصير في التلف كالإتلاف. وإن تلف الطعام بنفسه أو أتلفه أجنبي قبل الغد ولا يدَ له في ذلك فكمكْره لأن فوت البرِّ باليمين كان من غير اختياره أو حلف لأقضينَّ حقك عند رأس الهلال فليقض عند غروب الشمس آخر الشهر أن وقت الغروب أول جزء من الليلة الأولى من الشهر فإن قَدِمَ القضاء على ذلك أو مضى بعد الغروب قدر إمكانه أي إمكان القضاء حَنِثَ إن لم يكن له عذر في التأخير كنحو ريح شديد أو مطر غزير أو عدو مترصد لأن المطلوب منه أن يُعِدَّ المال ويترصد صاحب الحق فيقضيه في الوقت وإن شرع في الكيل أو الوزن أو العد أو غير ذلك من المقدمات حينئذ أي حين غربت الشمس ولم يفرغْ لكثرته إلا بعد مدة لم يحنث لأنه بدأ القضاء عند وقته أو حلف لا يتكلم فسبح أو قرأ قرآناً فلا يحنث لأن هذا لا يسمى كلاماً على الإطلاقعلى أن العادة اطردتأن الحالف بعدم الكلام أي بعدم الكلام الذي يحدث به الناس عادة أو حلف لا يكلمه فسلم عليه حنث لأن السلام عليه نوع من الكلام بشرط إسماعه وإن كاتبه أو راسله أو أشار إليه بيد أو غيرها فلا حنث في الجديد اقتصاراً بالكلام على الحقيقة أما في القديمن فحمل الكلام على المجاز ولو قرأ آية أفهمه بها مقصوده وقصد قراءة لم يحنث إن حلف لا يكلمه لأنه لم يكلمه. وإلا إن قصد بقراءة الآية إفهامه أو أطلق دون نية القراءة حنث كلمه أو حلف لا مال له حَنِثَ بكل نوع من المال وإن قلَّ حتى ثوب بدنه لصدق الاسم عليه ودليل ذلك ما رواه أحمد والبيهقي عن سويد بن هبيرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير المال سكَّةٌ مأبورة أو فرس مأمورة)) أي نخلة مؤبرة ومهرة كثيرة النتاج وأراد بهذا الحديث خير المال نتاج أو زرع ومدبر ومعلق عتقه بصفة وما
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/166)
وصى به ودين له حالٍّ وكذا مؤجل في الأصح وقيل المؤجل لعدم إمكان المطالبة به كالمعدوم فلا يحنث به.
لا مكاتبٍ في الأصح فلا يحنث به إن حلف لا يملك مالاً لأنه لا يملك منافعه فصار كالحرِّ وقيل يحنث به لما أخرج أبو داود والحاكم في المستدرك عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي قال: (المكاتب عبد مابقي من مكاتَبَتِهِ درهم)). أو حلف ليضربنه فالبِرُّ بما يسمى ضرباً عرفاً فلا يكفي وصنع يده أو أصبعه عليه ولا يشترط فيه إيلام إلا أن يقول ضرباً شديداً فإنه يشترط الإيلام وليس وضع سوط عليه أي المحلوف على ضربه وعضٌ وخَنِقٌ ونتف شَعَرٍ ضرباً لأنه لا يسمى بذلك عرفاً وقيل ولا لطم لوجه ببطن راحة الكفِّ ووكز وهو الضرب باليد مطبقة أو الدفع بغير اليد لأنها لا تسمى ضرباً عادة أو حلف ليضربنه مائة سوط أو مائة خشبة فشدَّ مائة من السياط أو الخشبات وضربه بها ضربة واحدة برَّ بيمينه لوجود المحلوف عليه أو ضربه بِعثْكَال عليه مائة شمراخ برَّ أيضاً إن علو إصابة الكل أو تراكم بعضٌ على بعض فوَصل ألم الكلِّ أي ثقل الجميع فإنه يبرُّ أيضاً والعثكال هو الضغث في الآية (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به) ص44، وهو أيضاً العرجون.
قلت: ولو شك في إصابة الجميع برَّ على النص والله أعلم عملاً بالظاهر أو قال في حلفه ليضربنَّه مائة مرة لم يبرَّ بهذا العثكال الذي عليه مائة من الشماريخ أو المائة المشدودة لأنه ضربه مرة واحدة أو قال في حلفه لا أفارقك حتى استوفي حقي فهرب منه ولم يمكنه اتباعه لم يحنث وإن فارقه باختياره قبل استيفاء حقه حَنِثَ في يمينه قلت: الصحيح لا يحنث إذا أمكنه اتباعه لأن الحالف علق اليمين بفعل نفسه لا بفعل غريمه فلا يحنث بفعله والله أعلم وإن فارقه الحالف أو وقف حتى ذهب الغريم وكانا ماشيين معاً حيث الحالف لتقصيره في مفارقته أو أبرأه حنث لأنه فوت البرَّ باختياره أو احتال الحالف بالدين على غريم لغريمه ثم فارقه أو أفلس المحلوف عليه ففارقه الحالف ليوسر حَنِثَ للمفارقة دون قبض حقه باختياره وإن استوفى الحالف حقه وفارقه الغريم فوجده أي الحق ناقصاً إن كان من جنس حقه لكنه أردأ منه لم يحنث وإلا أي وإن لم يكن جنس حقه حَنِث عالمٌ بالحال وفي غيره وهو الجاهل بالحال القولان في حنث الجاهل والناسي أظهرهما لا حنث أو حلف لا رأى منكراً إلا رفعه إلى القاضي فرأى الحالف ذلك وتمكن من الرفع فلم يرفع حتى مات قبل أن يرفع حنث لتقصيره ويُحْمَلُ الحَلِفُ على قاضي البلد التي كان فيه الحلف إلا إذا قيد الحالف ببلد غيرها فإن عُزِلَ قاضي البلد فالبِرُّ باليمين يكون بالرفع إلى القاضي الثاني أو حَلَفَلا رأى منكراً إلا رفعه إلى قاضٍ برَّ بكل قاضٍ في أي مكان لعموم اللفظ أو حلف لأرفعه إلى القاضي فلان فرآه أي رأى الحالف المنكر ثم عُزِلَ القاضي الذي عينه فإن نوى الرفع إليه مادام قاضياً حَنِث إن أمكنه رفعه فتركه ولم يرفعه وإلا أي وإن لم يتمكن من رفعه لحبس أو مرض أو غيره فكمكره والصحيح عدم حنثه وإن لم يَنوِ الرفع إليه ما دام قاضياً برَّ برفع إليه بعد عزله ويحصل الرفع إلى القاضي برسول أو رسالة أو أية وسيلة توصل الخبر إليه.
? فصل: في الحلف على أن لايفعل كذا ?
حلف لا يبيع ولا يشتري فعقد لنفسه بصيغة صحيحة موجبة للملك أو غيره أو عقد لغيره بولاية أو وكالة حَنث لأن اللفظ يتناوله ولا يحنث الحالف بعقد وكيله له لأنه لم يعقد بذاته أو حلف لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يضرب فوكل من فعله لايحنث إلا أن يريد بحلفه أن لا يفعل هو ولا غيره المحلوف عليه فيحنث عند ذلك أو حلف لا ينكح حنث بعقد وكيله النكاح له لا بقبوله هو أي الحالف النكاح لغيره لأن الوكيل محض سفير أو حلف لا يبيع مال زيد فباعه باع مال زيد فإذنه أي بإذن زيد كان البيع صحيحاً وعليه حنث في بيعه وإلا أي وإن باعه من غير إذن زيد فلا حنث لأن اسم البيع لا يتناول الفاسد منت البيوع وكذا غيره من سائر العقود فلا يتناول إلا الصحيح. أو حلف لا يَهَبُ له فأوجب عليه أي لزيد مثلاً فلم يقبل زيد لم يحنث لأنه لابد من إيحاب وقبول لتمام العقد وكذا لا يحنث إن قبل زيد ولم يقبضُ الهبة في الأصح لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض ويحنث الحالف لا يهب بِعُمْرى ورُقبى وصدقة لأنها أنواع من الهبة لا إعارة ووصية ووقف فلا يحنث بها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/167)
لأنها ليست من مسمى الهبة. أو حلف لا يتصدق لا يحنث بهبة في الأصح لأن الهبة أعم من الصدقة والصدقة أخص فلا يحنث بغيرها من الهبة.
أو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد لم يحنث الحالف بما أي بأكل الطعام اشتراه زيد مع غيره صفقة واحدة أو اشترى زيد نصفه مشاعاً ثم اشترى آخر نصفه الآخر مشاعاً لأنه لا يصح أن يضاف الطعام إلى زيد وحده. وكذا لا يحنث لو قال لا آكل من طعام اشتراه زيد في الأصح لأن كل جزء منالطعام مشاع بينهما ويحنث بما اشتراه زيد سلماً لأنه نوع من الشراء ولو اختلط ما اشترى زيد بمُشْتَرى غيرِهِ لم يحنث الحالف بالأكل من المختلط حتى يتيقن أكله أي الحالف من ماله أي من مال زيد قيل هو الكف والكفين وقيل النصف وما فوق والصحيح حتى يتيقن الأكل من مال زيد.
أو حلف لا يدخل داراً اشتراها زيد لم يحنث بدار أخذها أي أخذ جزءاً منها زيدٌ بشفعة لأن الأخذ بالشفعة لا يسمى شراءً عرفاً.
ولو حلف ليثنينَّ على الله أحسن الثناء أو أعظم الثناء أو أجل الثناء فليقل: ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
? كتاب النذر ?
والنذر لغة الوعد بخير أو شر وشرعاً الوعد بخير خاصة وقيل هو التزام قربة لم تتعين والأصل فيه قوله تعالى: (يوفون بالنذر ويجافون يوماً كان شره مستطيراً) الإنسان7، وقوله تعالى: (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) البقرة270.
وروى البخاري عن عائشة (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أي يعصي الله فلا يعصه).
وروى مسلم عن عمرانبن حصين (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم). وأركان النذر ثلاثة: ناذرٌ وصيغةٌ ومنذورُ ويشترط في الناذر: التكليف والإسلام والاختيار ونفوذ التصرف فيما ينذره فلا ينفذ في سفيه محجور عليه بالقُرَبِ المالية وينفذ من محجور عليه بفلس أو سفه بالقرب البدنية.
وهو أي النذر ضربان نذر لَجاج وهو التمادي في الخصومة والغضب ويسمى أيضاً يمين الغَلَقِ وهو أن يمنع نفسه أو غيره عن شيء أو يحث عليه أو يحقق خبراً غضباً بالتزام قربة كإن كلمته أو قال أكلمه فله علي عنق أوصوم أو صلاة وفيه أي وفي النذر إذا وجد المعلق عليه كفارة يمين لما روى مسلم وغيره عن عقبة بن عامر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفارة النذر كفارة يمين)).
وفي قول ما التزم أي يجب على الناذر ما التزمه من القربة فقد روى أبو داود بسنن صحيحه من حديث ثابت بن الضحاك (أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً في موضع سماه، فقالله رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيه وثن من أوثان الجاهيلة يُعْبَدُ؟ قال: لا، قال: أوفِ بنذرك). وفي قول أيهما شاء لأنه لا يشبه النذر من حيث الالتزام ويشبه اليمين من حيث المقصود ولا سبيل للجمع بين موجبيهما ولا لتعطيلهما فوجب التخيير قلت الثالث أظهر ورحجه العراقيون .. والله أعلم كمن قال إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة، فإذا حصل المعلق بتجب الكفارة ويتخير بينها وبين العتق. ولو قال إن دخلت الدار فعلي كفارة يمين أو نذر لزمه كفارة بالدخول لخبر مسلم: (كفارة النذر كفارة يمين) وتغليباً لحكم اليمين. ونذر تبرر وقربة وذلك بأن يلتزم قربة إن حدثت نعمة أو ذهبت نقمة كإن شُفِيَ مريضي فالله عليَّ أو فعلي كذا من صوم أو صلاة نافلة أو تصدق فيلزمه ذلك إن حصل المعلق عليه لما روى البخاري عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يعْصِه)) وإن لم يعلقه بشيء كللَه علي صوم لزمه ما التزمه في الأظهر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ... )، وقيل لا يلزمه إلا إذا نوى اليمين ولا يصح نذر معصية كشرب خمر والزنى وقتل نفس بغير حق لحديث مسلم (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابم آدم) رواه مسلم من حديث عمران بن حصين. ولا يصح نذر واجب كصلاة الصبح أو صوم رمضان، لأنه وجب بالشرع فلا معنى لإيجابه بالنذر ولو نذر فعل مباح أو تركه كقيام أو قعود لم يلزمه الفعل أو الترك لما روى الإمام أحمد من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله)) ولما روى البخاري وغيره عن ابن العباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل قائم في الشمس فسأل عنه: فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف في الشمس ولا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/168)
يتكلم ويصوم، فقال: مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه). لكن إن خالف لزمه كفارة يمين على المُرَجَّح لما روى أبوداود والبيهقي والترمذي وأحمد من حديث بريدة (أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فأجابوا عنه أن ذلك كان سروراً للمسلمين وإغاظة للكافرين وإرغاماً للمنافقين فكان نذر قربة).
ولو نذر صوم أيام غير معينة ندب تعجيلها مسارعة إلى براءة الذمة مالم يكن عذر أو تنويب طاعة أهم. فإن قيد النذر بتفريق
أيام الصوم أو موالاة بينها وجب ذلك عملاً بالتزامه وإلا أي وإن لم يقيد جاز التفريق والموالاة أو نذر صوم سنة معينة صامها وأفطر العيد والتشريق أي يفطر يوم الفطر والأضحى وثلاثة أيام التشريق وهي التي بعد يوم الأضحى وجوباً لحرمة صومها وصام رمضان من السنة عنه لأن لا يصح الصوم في رمضانعن غيره ولا قضاء عليه لأنه لا مدخل للنذر إلى ما أوجبه الشرع أو منعه وإن أفطرت امرأة في سنة نذرت صيامها بحيض ونفاس جب القضاء في الأظهر كما لوة أفطرت رمضان لأجلهما.
قلت: الأظهر لا يجب القضاء وبه قطع الجمهور والله أعلم لأنها غير قابلة للصوم فلا تدخل في نذرها وإن أفطر يوماً بلا عذر وجب قضاؤه ولا ينقطع تتابعه فهو كما لو أفطر في رمضان بغير عذر ولا يجب استئناف سنة أخرى فإن شرط التتابع في الصيام وجب استئناف سنة في الأصح وفاءً بما التزمه ولا يقطعه أي التتابع صوم رمضان عن فرضه أي عن فرض رمضان وأفطر الناذر أيضاً العيد والتشريق يقضيها تباعاً متصلة بآخر السنة وفاءً بنذره التتابع ولا يقطعه أي التتابع حيض ولا نفاس وفي قضائه القولان أصحهما لا يجب القضاء. وإن لم يشرطه أي التتابع لم يجب لم يجب عليه التتابع فيصوم كيف شاء متتابعاً ومتفرقاً فإن صام اثنى عشر شهراً بالأهلة صحَّ وإن صامها أياماً وجب ثلاثمائة وستين يوماً أو نذر صوم يوم الاثنين أبداً لم يقضي أيام رمضان وكذا العيد والتشريق في الأظهر لأنها مستحقة بالشرع فلا يتناولها النذر فلو لزمه صوم شهرين تباعاً أي شهرين متتابعين لكفارة صامها أي الشهرين ويقضي أثانيهماأثاني هو جمه اثنين وقيل يجمع على أثانين بإثبات النون والأول أكثر في الاستعمال فيجمع بين الكفارة والنذر. وفي قول لا يقضي الأثاني إن سبقت الكفارة النَّذرَ قلت: ذا القول أظهر والله أعلم لأن صيام الشهرين استُحِقَ قبل النذر فصار كأثاني رمضان فلا تقضى وتقضي من نذرت صوم الأثاني زمن حيض ونفاس وقع في الأثاني في الأظهر وقيل لا تقضي وهو الأصح لأنها لم تقصد بنذرها صوم اليوم الذي يقع في عادتها أو نذر أن يصوم يوماً عيّنَهُ من أسبوع ثم نسي أي نسي اليوم المعين صام آخره قضاءً عن المنذور لما روى مسلم عن أبي هريرة قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: (خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور ويوم الأربعاء وبث فيه الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل)) وهو يدل على أن الجمعة آخر الأسبوع والحديث مُتَكلّمٌّ فيه. ومن شرع في صوم نفل فنذر إتمامه أي إتمام صومه لزمه الاتمام على الصحيح لأن صومه صحيح فصح إتمامه وقيل لا يلزم لأنه بعض يوم فلا ينعقد النذر عليه وإن نذر صوم بعض يوم لم ينعقد نذره لأنه غير معهود صوم بعضُ يومٍ شرعاً أو نذر صوم يوم قدوم زيد فالأظهر انعقاده لإمكان الوفاء وقيل لا يمكنالوفاء به لانتفاء تبييت النية ولكن يمكن أن يعلم مقدماً يوم قدومه فإن قدم زيد ليلاً أو قدم يوم عيد أو قدم في رمضان فلا شيء عليه لعدم قبول الليل والعيد الصوم ولأن يوم رمضان مشغول بالصوم أو قدم زيد نهاراً وهو مفطر أو صائم قضاءً أو نذرأ وجب يومُ آخرُ عن هذا لأنه غير متمكن من صوم يوم هذا اليوم. أو قدم وهو صائم نفلاً فكذلك يجب صيام يوم آخر وقيل يجب تتميمه ويكفيه عن نذره والصحيح الأول لأن الصوم لا يتبعض ولو قال: إن قدم زيد فلله عليَّ صوم اليوم التالي لقدومه وإن قدم عمرو فلله عليَّ صوم أَولِ خميس بعده أي بعد قدومه فقدما في الأربعاء وجب صوم الخميس عن أول النذرين ويقضي الآخر لأنه لا يمكن صيام الخميس لأنه استُحِقَ بنذر قبله.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/169)
? فصل في نذر النسك والصدقة والصلاة وغيرها?
نذر المشي إلى بيت الله تعالى وصرح بلفظ الحرام وقصد البيت الحرام أو نذر اتيانه فقط فالمذهب وحوب اتيانه بحج أو عمرة أو بهما معاً أو أذا ذكر البيت ولم يقيده بذلك ولا نواه فليغو نذره لأن المساجد كلها بيوت الله تعالى.
فإن نذر الاتيان فقط لم يلزمه شيءٌ فله الركوب والمشي وإن نذر المشي أو أن يحج أو يعتمر ماشياً فالأطهر وجوب المشي إن كان قادراً على المشي فإن ركب فقد أساء بذلك وحجه صحيح وقيل له الركوب لأنه أفضل من المشي.
فإن قال في نذره أحج ماشياً فمن حيث أحرم من اليقات أو قبله وإن قال في نذره أمشي إلى بيت الله تعالى فمن دويرة أهله يمشي في الأصحلأنه ظاهر قوله والثاني هو الأصح لا يجب الإحرام والمشي إلا من الميقات لأن الإطلاق يُحمَلُ على المعنى الشرعي.
وإذا أوجبنا عليه المشي فركب لعذر أجزأه على المشهور لأنه لم يترك إلا هيئة التزامها وعليه دم لأ، ه لم يأت بما التزمه لما روى أبوداود وأحمد في المسند وغيرهما عن ابن عباس (أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هدياً).
وروى مسلم عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك شيخاً يمشي بن ابنيه يتوكأ عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأن هذا؟ قال ابناه: يا رسول الله نذر ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اركب أيها الشيخ فإن الله غني عنك وعن نذرك).
ومن نذر حجاً أو عمرة لزمه فعله بنفسه إن كان مستطيعاً فإن كان مغصوباً أي عاجزاً عن الحج بنفسه استناب من يحج عنه ويندب تعجيله أي الحج في أول الإمكان فإن تمكن من الحج أو الاستنابة في الحج فأخر فمات حُجَّ عنه من ماله لاستقراره عليه إن كان له مال وإن مات قبل التمكن فلا شيء عليه لحجة الإسلام وإن نذر الحج عامَه الذي نذر فيه ووجدت فيه الشرائط المعتبرة لوجوب حجة الإسلام فإن منعه مرض بعد الإحرام وجب القضاء لأنه أمرٌ أوجبه بالنذر أو منعه عدو أو سلطان أو صاحب دين لا يقدر على وفائه قبل الاحرام أو بعده فلا يلزمه القضاء في الأظهر كما في حجة الإسلام إن صُدَّ عنها وفارق المرض أنه يحتاج للتحلل أن يشرط أما التحلل من حصر العدو فيمكنه التحلل من غير شرط.
أو نذر صلاة أو صوماً في وقت فمنعه مرض أو عدو وجب القضاء لوجوبها مع العجز بخلاف الحج فإن شرطه الاستطاعة أو نذر هدياً لزمه حمله إلى مكة والتصدق به على من بها من الفقراء والمساكين قال تعالى: (هدياً بالغ الكعبة) المائدة95.
أو نذر التصدق على أهل بلد معين لزمه صَرْفُ الصدقة لهم مالم يكن أهلها كفاراً لأن النذر لا يصرف إلى الكفار أو نذر صوماً في بلد لم يتعين الصوم في تلك البلد ويفعله في أي محل شاء لأنه قربة بذاته ولذا لم يجب صومالدم في مكة للمتمتع الذي لم يجد الهدي بل لابد من صيام بعضه خارجها. قال تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) البقرة196. وكذا لو نذر صلاة في بلد معين لم يتعين إلا المسجد الحرام فإنه يتعين فقد روى الطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء مرفوعاً (الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة) قال الهيثمي هو حديث حسن.
وفي قول ومسجد المدينة والأقصى يتعينان للصلاة المنذورة فيهما لمشاركتها للمسجد الأقصى في بعض الخصوصيات لنا روى الشيخان غن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) قلت: الأظهر تعينهما كالمسجد الحرام والله أعلم للحديث السابق وروى الشيخان غن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام). وقيل لا يتعينان بالنذر لأنهما مسجدان لا يجب قصدهما بالنسك فلم يتعينان بنذر الصلاة كسائر المساجد فقد روى أبوداود وغيره بسند صحيح عن جابر بن عبدالله (أن رجلاً قال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال صلى الله عليه وسلم: (صلِّ هاهنا فأعادها هليه ثلاثاً وهو يقول: صلِّ هاهنا)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/170)
أو نذر صوماً مطلقاً من غير تحديد عدد فيوم واحد يجزئه عن نذره لأنه أقل ما يفرد بالصوم أو نذر أن يصوم أياماً فثلاثة تجزئه لأنها أقل الجمع أو نذر صدقة فبما أي يجزئه أي شيء كان وإن قلَّ وإن قبضة طعام.
أو نذر صلاة فركعتان تجزئان عن نذره حملاً على أقل واجب الشرع وفي قول تجزئه ركعة واحدة لأنها صلاة شرعية وهي ركعة الوتر فعلى الأول وهو حمل النذر على واجب الشرع يجب القيام فيهما أي الركعتين مع القدرة وعلى الثاني وهو حمل النذر على جائز الشرع لا يجب القيام فيهما.
أو نذر عتقاً فعلى الأول أي واجب الشرع يجب رقبة كفارة وذلك بأن تكون مؤمنة سليمة من العيوب التي تخل بالعمل والكسب وعلى الثاني وهو الحمل على جائز الشرع تجزئه رقبةٌ ولو كانت معيبة كافرة. قلت: الثاني هنا الأظهر والله أعلم لأن اسم الرقبة يقع عليه.
أو نذر عتق كافرة معيبة أجزأت كاملة لأنها أكمل على اتحاد الجنس فإن عين بالنذر ناقصه بأن قال الله عليَّ أن أعتق هذه الرقبة الكافرة أو هذه الرقبة المعيبة تعينت لتعلق النذر بها ولا يجزئه غيرها.
أو نذر صلاة قائماً لم يجز أن يصليها قاعداً لأنها أدون منها بخلاف عكسه أي نذر الصلاة قاعداً فيجوز قائماً لأنها أكمل منها مع اتحاد الجنس.
أو نذر طول قراءة الصلاة المكتوبة أو غيرها أو نذر سورة معينة يقرأها في صلاته أو نذر الجماعة فيما تشرع الجماعة لزمه ما ذكر لأنه طاعة مقصودة والصحيح انعقاد النذر بكل قربة لا تجب ابتداءً كعيادة لمريض وتشييع جنازة والسلام على غيره حيث شرع وكذا إجابة السلام على من بدأه بالسلام.
ملاحظة كثير من الناس ينذرون لإيقاد الشموع أو وضع الأكسية أو البناء على قبور من يعتقدون صلاحهم ويسمونهم أولياء أو يوقفون على قبورهم تعظيماً للبقعة أو القبر أو التقرب إلى من دفن فيها أو نسبت إليه فهذا نذر باطل غير منعقد وكذا حكم الوقف كالنذر فإن حصل شيء من ذلك وجب رده إلى مالكه وإلى وارثه بعده فإن جُهِلَ الناذر أو الواقف صرف ذلك في مصالح المسلمين.
إذا نذر أن يصلي في أفضل الأوقات فليصل في ليلة القدر. ومن نذر أن يجعل ماله في رتاج الكعبة أي في النفقة عليها ,اصل الرتاج الباب فكفارته كفارة يمين لما روى مالك في الموطأ عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بالمشي أو بالهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين)).
? كتاب القضاء ?
القضاء هو الحكم بين الناس وجمعه أقضية وشرعاً فصل الخصومات وقطع المنازعات. والأصل فيه قبل الإجماع الكتاب والسنة. قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء58.
وقال تعالى: (واحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) المائدة48، وقال تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) ص26، وقال تعالى: (إنما كان قول المؤمين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) النور51.
وأخرج مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا)).
وقد بعث الخلفاء قضاة إلى أنحاء دولة الإسلام فقد بعث أبو بكر أنس بن مالك إلى البحرين قاضياً وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة وابن مسعود إلى الكوفة قاضياً كذلك هو أي القضاء فرض كفاية بل هو أعلى مراتب فروض الكفاية قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) النساء135.فيولي الإمام وجوباً من يصلح له ليفصل الخصومات ويقيم الحدود لأن الإمام لا يقدر على فصل الخصومات لأن التظالم يقع بين الناس عادة فدعت الحاجة إلى تولية القضاء والقضاء أمر بالمعروف ونهي عن منكر فهما على الكفاية فكان القضلء كذلك. وقد أخرج بن أبي شيبة في المصتف عن علي بن أبي طالب (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه قاضياً على اليمن فقال: يا رسول الله بعثتني أقضِ بينهم وأنا شاب ولا أدري ما القضاء، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري، وقال: اللهم اهده وثبت لسانه، فوالذي فلق الجنة ما شككت في قضاء بين اثنين).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/171)
فإن تعين واحد في ناحية معينة ولم يصلح للقضاء غيره لزمه طلبه لأن ذلك يجري مجرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو لم يكن من يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا واحد لتعين عليه، قال تعالى إخباراً عن يوسف (اجعلني على جزائن الأرض إني حفيظ عليم) يوسف55. وأخرج البيهقي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس القاضي بعث الله إليه ملكين يسددانه فإن عدل أقاما وإن جار عرجا وتركاه)).
وإلا أي وإن لم يتعين له واحد في الناحية بأن كان معه غيره ممن يصلح للقضاء فإن كان غيره أصلح وكان أي الأصلح يتولاه أي يقبل إذا وليه فللمفضول القبول إذا دفع إليه من غير طلب وقيل لا أي لا يجوز له قبوله. لما روى الترمذي عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى نفسه ومن أُُكْرِه عليه أنزل الله له ملكاً يسدده))، قال الترمذي حديث حسن غريب. ويكره طلبه وفي الناس من هو أولى منه فقد روى الشيخان عن عبدالرحمن بن سَمُرَة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عبدالرحمن لا تسأل الأمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها)).
وإن كان غيره مثله فله القبول ندباً فقد روى الشيخان عن ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).
ويندب الطلب للقضاء إن علم من نفسه القدرة على القيام به لعلمه وأمانته إن كان خاملاً أي معروف بين الناس يرجو به أي بالقضاء نشر العلم لتحصل المنفعة بعلمه وأمانته وعدله فقد روى ابن خزيمة وابن ماجة وابن حبان اللفظ له من حديث جابر (كيف تُقَدَس أمةٌ لا يُأخذ لضعيفهم من شديدهم).
أو محتاجاً إلى الزرق ولم يكن له كفاية أو كان كسوباً وإن اشتغل بالقضاء تعطل عليه الكسب جاز له أخذ الرزق على القضاء وطلبه لذلك قال تعالى: (ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) النساء6.
وروى البيقهي عن أبي وائل (أن عمر بن الخطاب بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً وعبدالله بن مسعود قاضياً وعثمان بن حُنيف ماسحاً للأرض وفرض لهم كلَّ يوم شاة نصفها وأطرافها لعمار والنصف الأخر بين عبدالله وعثمان، وقال: إن بلداً يخرج منها كل يوم شاة سريع خرابها).
وإلا بأن لم يكن خاملاً بل كان معروفاً ولم يكن محتاجاً إلى الرزق فالأولى تركه أي ترك طلب القضاء قلت: ويكره على الصحيح طلب القضاء وتوليه والله أعلم لما في ذلك من الأخطار لورود نهي نخصوص عنها. فقد أخرج الشيخان عن عبدالرحمن بن سمرة (يا هبدالرحمن لا تسأل الأمارة). وقد امتنع بعض الصحابة من تولي القضاء (فقد امتنع ابن عمر من تولي القضاء لعثمان) رواه الترمذي عن نافع والاعتبار في التعين وعدمه في الناحية فلا يلزمه في غيرها لأن أمر القضاء يطول عادة وشرط القاضي المطلوبة لمن يولّى قاضياً مسلمٌ مكلفٌ أي بالغ عاقلٌ فلا يولى القضاء صبي لا مجنون إن لم يتعلق بقولهما حكم على أنفسهما فعلى غيرهما أولى والكافر لا ولاية له على المسلمين، قال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء141، ولا سبيل أعظم من القضاء حرٌ فلا يولى رقيق لنقصه ذكر فلا تولى امرأة لأن القضاء يتضمن الولاية في التزويج والنظر في قضايا الخصوم والمرأة ليست أهلاً للحضور في محافل الرجال كما أنه لا تقبل شهادتها مالم يكن معها رجل. وقد روى البخاري عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أفلح قوم ولوا أرمهم امرأة)). فإذا لم يكن فلاح كان الفساد كما أنه لا يصلح أن تكون المرأة إمام للرجال فب الصلاة فكيف يمكن أن تكون قاضية لهم حاكمة بخصوماتهم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/172)
عدل فلا يولى فاسق لعدم قبول قوله سميع فلا يولى أصم بصير فلا يولى أعمى لأ، ه لا يعرف المدّعِي من المدَّعى عليه وأنما استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة وكان أعمى على ولاية الصلاة دون الحكم ناطق فلا يولى أخرس وإن فهمت إشارته لعجزه عن تنفيذ الأحكام كافٍ للقيام بمنصب القضاء فلا يولى مغفل ومختل نظر بمرض أو كبر سن وأن لا يكون جباناً ضعيف النفس لئلا يتطاول الخصمان في مجلسه وليكون قادراً على القضاء وإنفاذ الأمر. أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لا ينبغي أن يليَ هذا الأمر – أي القضاء – إلا رجل فيه أربع خصال اللين في غير ضعف والشدة في غير عنف والإمساك من غير بخل والسماحة من غير سرف فإن سقطت واحدة منهن فسدت الثلاث). وروى وكيع في أخبار القضاة عن عمر أنه قال: (لقد هممت أن أنزع هذا الأمر من هؤلاء وأضعه فيمن إذا رآه الفاجر فزع منه). مجتهد فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية والمقلد وإن حفظ مذهب إمامه إلا إذا كان عارفاً لغوامضه عالماً بأدلته وهو أي المجتهد أن يعرف من الكتاب والسنة وما يتعلق بالأحكام منهما وإن لم يحفظ أحاديثها ولا آياتها عن ظهر قلب وخاصه وعامه والعام هو لفظ يستغرق المصالح له من غير حصر والأصح دخول النادر والمقصود فيه وأنه قد يكون مجازاً وأما الخاص قهو قصد العام على بعض مسمياته ومجماَهُ ومبيَّنَهُ والمجمل هو الذي لم تتضح دلالته والمبين هو الذي اتضحت دلالته وعرف نصه وظاهره وناسخُهُ ومنسُوخُه والنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي ويتعين الناسخ بتأخره ومتواتر السنة وهو مارواه جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وغيره أي أخبار الآحاد الذي لم يبلغ حدَّ التواتر والتصل باتصال رواته إلى لاصحابي ويسمى الموقوف أو المرفوع والمرسل: وهو ما سقط فيه الصحابي ويشمل المعضل والتقطع والمعضل بأن يسقط من رواته اثنان أو أكثر.
وحال الرواة قوة وضعفاً فغلى القاضي أن يعرف ذلك لأن به يتوصل إلى تقرير الأحكام ولكن ما أجمع السلف على قبوله فلا يبحث عن عدالة ناقليه وعليه أن يقوم الخاص على العام المعارض له والنقيد على المطلق ولسان العرب لغة ونحواً فعلى القاضي أن يعرف طرفاً من لسان العرب ليتمكن من معرفة أحاكم الكتاب والسنة لأنهما عربيان وأقوال العلماء من الصحابة غمن بعدهم إجماعاً واختلافاً فالقاضي عليه أن يلتزم بالمسألة التي يريد الحكم فيها ما أجمع عليه الصحابة فلا يخالفهم والقياس وأنواعه من جلي وخفي وقياس صحيح وسقيم فإذا عرفها القاضي عمل بها فإن تعذر جمع هذه الشروط في القاضي فولّى سلطانٌ أو من له شوكةٌ غير السلطان بأن يكون ببلد زالت شوكة السلطان عنها ولم يرجع الناس إلا إليه فاسقاً أو مقلداً نفذ قضاؤه الوافق لمذهبه للضرورة لئلا تتعطل مصالح الناس بل صرح العز بن عبدالسلام بنفوذ قضاء الصبي أو المرأة عند الضرورة وقال الأذرعي: قد اجمعت الأمة على تنفيذ أحاكم الظلمة وأحكام من ولوه وقد سئلت السيدة عائشة عن من استقضاه زياد بن أبيه وكان مستبداً فأشارت بالقبول وقالت: (لإن لم يقضِ لهم خيارهم قضى لهم شرارهم).
ويندب للإمام إن ولى قاضياً على ناحية معينة أن يأذن له في الاستخلاف عوناً له في عمله فإن نهاه عن الاستخلاف لم يستخلف استخلافاً عاماً لأ، الإمام لم يرضَ بنظر غيره في الخصومات فإن أطلق الإمام عند التولية استخلف حال التولية أو بعدها فيما لا يقدر عليه لحاجته إليه لا غيره أي لا يستخلف فيما يقدر عليه لأنه نائب الإمام فلم يجزْ له الاستخلاف فيما يقدر عليه كالوكيل في البيع. وشرط المُسْتَخْلَفُ كالقاضي في الشروط المتقدمة لأنه قاضٍ إلا أن يُسْتَخْلَفَ شخصٌ في أمر خاص: كسماع بينة فيكفي علمه بما يتعلق به أي ما يتعلق بالأمر الخاص ويحكم باجتهاده إن كان مجتهداً واجتهاد مُقلَّدِه إن كان مُقَلِّداً ولا يجوز أن يشرطَ عليه المُستَخلِفُ على المستخْلَفِ خلافه أي خلاف الحكم باجتهاده أو اجتهاد مقلَّده لأنه يعتقد أن اجنهاده واجتهاد مقلَّده هو الحق ولا يجوز أن يحكم بما يعتقد أنه غير الحق. قال تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق) ص26.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/173)
وروى البخاري والترمذي عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة ورجل عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فيه فهو في النار)).
ولو حكَّم خصمان رجل في غير حد الله تعالى جاز ذلك مطلقاً أي مع وجود قاضٍ كفءٍ وعدم وجوده بشرط أهلية القضاء فلا يجوز تحكيم أصم و أعمى وامرأة وكافر وفي قول لا يجوز التحكيم لما فيه من التجاوز غلى الإمام ونوابه والأول أصح لأنه ليس للمحكَّم حبس ولا استيفاء عقوبة كما أن حُكْمَهُ غير مُلْزِم إلا برضا الخصمين بعد الحكم. وروى البيقهقي عن ابن مليكة (أن عثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله تحاكما إلى جبير بن مطعم) وروى البيهقي من طريق الشعبي (أن عمر وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت).
وقيل يجوز بشرط عدم قاضٍ بالبلد وقيل يختص جواز التحكيم بمالٍ دون قصاص ونكاح ونحوهما كاللعان والقذف لأن هذه الأحكام غُلِّظَ بها في الشرع فلا يجوز أن يتولاها إلا الإمام أو من ولاه الإمام ولا يمكن التحكيم في حدود الله تعالى إذ ليس لها طالب معين ولا ينفذ حكمُهُ أي المُحكَّمُ إلا على راضٍ به لفظاً فلا يكفي رضا قاتل في ضرب دية على عاقلته بل لابد من رضا العاقلة بذلك ويشترط استدامة الرضا إلى إتمام الحكم. وإن رجع أحدهما قبل إتمام الحكم امتنع الحكم لعدم استمرار الرضا ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر ولا ينقض حكمه إلا حيث ينقض حكم القاضي الولى من جهة الإمام والثاني يشترط الرضا بعد الحكم كقبل الحكم.
ولو نصب الإمام قاضيين ببلد وخص كلاً منهما بمكان من البلد أو زمن أو نوع كأن جعل أحدهما للأموال والآخر للنكاح أو جعل أحدهما للرجال والآخر للنساء جاز وكذا جاز ذلك إن لم يخص في الأصح بل أطلق كمن عين وكيلين له أو وصيين عنه إلا أن يَشْرِطَ عليهما اجتماعهما في الحكم لأن ذلك يفضي إلى التنازع والخلاف في محل الاجتهاد.
? فصل فيما يقتضي انعزال القاضي أو عزله ?
إذا جُنَّ قاضٍ أو أغمي عليه أو عمي أو ذهبت أهلية اجتهاده أو ظبط بغفلة أو نسيان لم ينفذ حكمه لانعزاله بهذه الأمور وكذا ينعزل لو فسق فلا ينفذ حكمه في الأصح لوجود الأسباب المانعة من الولاية وقيل ينفذ حكمه كالإمام والأعظم ولكن هناك فرق كبير فانعزال الإمام الأعظم سبب للفتنة والاضطراب وانعدام الأمن وضياع الحقوق.
فإن زالت هذه الأحوال لم تعد ولايته في الأصح إلا بتولية جديدة كالوكالة إذا نزعت فلا تعود إلا بتوكيل جديد.
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[21 - 07 - 07, 03:23 ص]ـ
الجزء الثامن عشر
وللإمام عزل قاضٍ ظهر منه خلل أو لم يظهر وهناك أفضل منه أو مثله أو دونه وفي عزله به أو في عزل القاضي الأول وتعيين الثاني بدلاً منه للمسلمين مصلحة كتسكين فتنة لما في تسكين الفتن من خير عميم للمسلمين وإلا يكن في عزله مصلحة فلا يجوز عزله لأن هذا عبث بمصالح الأمة ومنافع الناس ويجب أن يصان الإمام عنه لكن ورغم الإثم على المُتَولِّي والمولِّي ينفذ العزل في الأصح إنفاذاً لأمر الإمام كما أن للقاضي أن يعزل نفسه إن وجد من يقوم بالقضاء غيره في ناحيته وينفذ عزله لنفسه والمذهب لا ينعزل قبل بلوغه خبر عزله لعظم خطر القضاء ويصح حكمه قبل بلوغه خبر عزله وإذا كتب الإمام إليه إذا قرأت كتابي فأنت معزول انعزل وكذا إن قُرِيء عليه في الأصح لأن مقصود الكتاب الإعلام بالعزل لا القراءة للكتاب وقد عُلِمَ المقصود بقراءة الكتاب عليه وينعزل بموته أي بموت القاضي وانعزاله إذا عزله الإمام أو عزل نفسه كلُّ من أُذِنَ له في شغل معين كبيع مال ميت أو غائب أو سماع شهادة في أمر معين والأصح انعزال نائبه المطلق أي نائب القاضي بموت القاضي أو انعزاله إن لم يُؤْذن له في استخلاف لأن المقصود من استخلافه هو معاونته في عمله وقج زالت ولايته فبطلت الحاجة إلى ذلك أو إن قيل له استخلف عن نفسك أو أطلق له الاستخلاف لأن الغرض المعاونة فتبطل ببطلان ولاية من عينه لمعاونته.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/174)
فإن قال له من ولاه استخلف عني فلا ينعزل الخليفة لأنه نائب عن الإمام ولا ينعزل قاضٍ بموت الإمام ولا بانعزاله لعظم الضرر بتعطيل القضاء ولا ينعزل كذلك كلُّ من له ولاية على أمر عام كناظر بيت المال وناظر الوقف وناظر الجيش وغيرهم.
ولا ينعزل ناظر يتيم ووقف بموت قاضٍ وانعزاله لئلا تتعطل مصالح الناس. ولا يقبل قوله أي قول القاضي بعد انعزاله كنت قد حكمت بكذا لفلان إنما يثبت حكمه إذا شهدت بينة بذلك. فإن شهد مه آخر بحكمه لم يقبل عل الصحيح لأنه يشهد بفعل نفسه ويثبت لها العدالة.
أو شهد القاضي المعزول بحكم حاكم جائز الحكم قُبِلَتْ شهادته في الأصح والثاني لا تقبل شهادته حتى يصرح أن الحكم مضاف إلى غيره.
ويقبل قوله قَبْلَ عزله حكمت بكذا لأنه لما كان يملك الحكم فإنه يملك الإقرار به كالزوج لمّا ملك الطلاق ملك الإقرار به.
فإن كان في غير عمل ولايته فكمعزول أي لا ينفذ حكمه لأنه لا يملك الإنشاء فلا يملك الإقرار ولو أدعى شخص على قاضٍ معزول أنه أخذ ماله برشوة أي على سبيل الرشوة أو شهادة عبدين أو غيرهما فمن لا تقبل شهادتهما أحضر القاضي المعزول وفُصِلَتْ خصومتُهُما أو أرسل وكيلاً عنه ثم تعاد الدعوى ولا يُحْضَرُ القاضي المعزول قبل إعلامه بالأمر لأنه ربما أراد المدَّعِي إهانته وإذلاله.
وإن قال الشخص المدعي حكم عليّ القاضي بعبدين ولم يذكر مالاً ولا رشوة أحضر القاضي المعزول ليجيب وقيل لا يُحضرُ حتى تقوم بينة لأن الأصل في أحكام القضاة أن تجري على الصحة فإن أُحْضِرَ المعزول وأدُعَي عليه وأنكر ما نسب إليه صُدِقَ بلا يمين في الأصح صيانة لمنزلة القضاء من الامتهان ولأن القاضي أمين الشرع فيصان منصبه قلت الأصح بيمين والله أعلم كسائر الأمناء إذا دعي عليهم خيانة ولعموم الخبر الذي رواه الشيخان عن ابن عباس (البينة على المدَّعي واليمين على المدّعي عليه) والأول أصح صيانة لمنصب القضاء.
ولو ادّعُيَ على قاضٍ جور في حكم لم يسمع ذلك الإدعاء عليه حال ولايته لأنه أمين شرعاً ولأنه لا يُحْلَفُ له عادة فكيف يحلف هو. وَيُشْتَرَطُ بينةٌ تشهد بقوله فإن كانت له بينة سمعت حتماً.
وإن لم تتعل الدعوة على القاضي بحكمه بل خصومة بين المدعي والقاضي لا تتعلق بحكم حَكَمَ به القاضي حكم بينهما أي بين المدعي والقاضي وخصمه خليفته أي خليفة القاضي أو غيره أي قاضٍ آخر كأي متخاصمين.
? فصل في آداب القضاء وغيرها ?
ليكنب الإمام لمن يوليه القضاء ببلد كتاباً يعهد إليه فيه بتوليه القضاء ويوصيه بالتقوى ويعظه لما روى أصحاب السنن عن أبي بكر بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً لعمرو بن جزم لما بعثه إلى اليمن) ورواه أبوداود والنسائي عن الزهري مرسلاً. وروى البخاري عن أبي بكر (أنه كتب لأنس كتابَ توليةٍ حين بعثه إلى اليمن وختمه بخاتم رسول الله)، وروى البيهقي عن حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: (أما بعد فإني بعثت إليكم عماراً أميراً وعبدالله قاضياً ووزيراً فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما). ويُشْهِد بالكتاب شاهدين يخرجان معه إلى البلد بَعُدَ البلد أو قرب يخبران بالحال أي يخبران أهل البلد بالتولية حتى يلتزم أهل البلد بقضائه وتكفي الاستفاضة بالتولية في الأصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً لم يكتب كتاباً بل اقتصر على وصيته فقد روى البخاري عن ابن عباس (أن النبي بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم).
ويبحث القاضي عن حال علماء البلد وعدوله سراً وعلانية قبل دخوله فإن لم يتيسر فعند دخوله ويدخل يوم الاثنين صباحاً لما روى البخاري عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الاثنين).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/175)
وينزل وسط البلد ليتساوى أهل البلد في القرب منه وينظر أولاً في أهل الحبس لأ، أهل الحبس عذاب فيسأل المحبوس بِمَ حُبستَ فمن قال حبست بحق أدامه في الحبس أو قال المحبوس حبست ظلماً فعلى خصمه أي خصم المحبوس حجةٌ يقدمها بسبب حبسه فإن كان خصمه غائباً عن البلد كَتَبَ إليه القاضي ليحضر لفصل الخصومة بينهما أو يوكل لأن القصد إعلامه ليثبت حجته في الحبس فإن علم ولم يحضر ولا وكّلَ حلف المحبوس وأطلق سراحه لتقصير الغائب. ثم ينظر في حال الأوصياء لأنهم ينظرون في أمر من لا يمكنه أن يطالب بحقه فمن ادعى وصاية على الأيتام أو غيرهم سأل عنها أي سأل القاضي الناس عنها وعن بينة ثبوتها وعن حاله أي عن حال الوصي وتصرفه في الوصية فمن وجده القاضي فاسقاً أخذ ماله منه وعين بديلاً عنه وإن كان عدلاً قوياً أقره أو رآه القاضي ضعيفاً عضده بمعين ولا ينزع ماله منه ويتخذ القاضي مزكياً ليعرفه حال من يجهل حاله من الشهود وكاتباً للحاجة إليه وكثرة أعمال القاضي روى البخاري تعليقاً عن زيد ين ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود، قال: حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا) ويشترط كونه أي الكاتب مسلماً فلا يتعين بكافر فقد روى البيهقي عن نافع بن الحارث أن عمر قال لأبي موسى الأشعري وكان له كاتب نصراني (لا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تأمنوهم وقد خونهم الله) عدلاً عارفاً بكتابة محاضر وسجلات ويستحب في الكاتب فقهٌ فيما يكتبه ووفور عقل وجودة خط وضبط للحروف وبعد عن الموهم ودقة في العبارة لئلا يؤتى من الجهل واختلاط العبارة. ومترجماً فيندب للقاصي أن يكون عنده مترجم لمعرفة كلام من لا يعرف القاضي لغته من خصم وشهود فقد أخرج البخاري من رواية شعبة عن أبي جمرة أنه قال: (كنتُ أترجم بين ابن عباس وبين الناس).
وروى أحمد في المسند عن زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم السريانية) وفي رواية فتعلمتها في سبعة عشر يوماً.
وشرطه أي المترجم عدالة وحرية وعدد أي اثنان كالشاهد وإن كان الحق مالاً أو مما يؤول إلى المال كفى في ترجمته رجل وامرأتان.
والأصح جواز ترجمة أعمى لأنها تفسير لألفاظ فاختلفت عن الشهادة. والأصح اشتراط عدد كالمترجم في إساماع قاضٍ به صمم وليس أصماً لأنه لا يصلح للقضاء كما تقدم ويتخذ القاضي دِرّةً للتأديب وسجناً لأداء حق وتعزير. واقتداء بعمر بن الخطاب فقد روى البيهقي في السنن عن نافع بن الحارث (أن عمر بن لالخطاب اشترى من صفوان بن أمية دار السجن بأربعة آلاف درهم).ويستحب كون مجلسه أي مجلس القاضي فسيحاً بارزاً أي ظاهراً مكشوفاً يعرفه كل من أراده مصوناً من أذى حرٍّ وبرد ودخان رائحة منتنة. فقد روى الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري (إياك والقلق والضجر) وروى أحمد والترمذي عن عمرو بن مرة الجهني والطبراني عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ولِّيَ من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره).
ويستحب أن يكون مجلس القضاء لئقاً بالوقت والقضاء التي هي من أعظم الناصب وأجل المراتب فيجلس القاضي مستقبلاً القبلة داعياً بالتوفيق والعصمة والتسديد متعمماً متطلساً على عالٍ لتمييز عن غيره وليكون له هيبة وجلال ولو كان من أهل الزهد والتواضع للحاجة إلى القوة والرهبة والهيبة وعلى هذا كُرِهَ جلوسه على غير هذه الهيئة.
لا مسجداً فلا يتخذ المسجد مجلساً للحكم لأن مجلس الحكم لا يخلو من اللغط وارتفاع الأصوات وقد يحتاج لاحضار الحيض والكفار والدواب والمسجد يصان عن ذلك لما رواه ابن ماجة عن معاذ (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسلَّ سيوفكم وبيعكم وشراءكم)). ولا بأس أن يقضي في بيته عند الضرورة فقد روى البيهقي عن أمِّ سلمة قالت: (اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى بينهما في بيتي) ويكره أن يقضي القاضي في حال الغضب وجوع وشبع مفرطين وكل حال يسوء خلقه فيه فقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضي القاضي وهو غضبان))، وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/176)
(لا يقضي القاضي وهو شبعان).
ويندب أن يشاور الفقهاء حتى إذا حدثت حادثة استشارهم في الحكم فيها وبعد سماع حجتهم هو بالخيار في الحكم وليس لأحد منهم أن يعترض أو ينكر عليه في حكم رآه لأن ذلك افتيات على القاضي إلا أن يحكم بما يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.
قال تعالى: (وشاورهم في الأمر) آل عمران159. قال الحسن البصري: إن النبي لغني عن مشاورتهم ولكن أراد أن يستن الحكام بعده بذلك. وقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وشاور أبوبكر الصحابة في ميراث الجدة وشاور عمر في دية الجنين. وأن لا يشتري ويبيع بنفسه لما روى الحاكم عن أبي الأسود المالكي عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عدل والٍ اتجر في رعيته)) ولأنه إذا باشر ذلك إذا بنفسه فلعله يحابى فيميل في حكمه إلى من حاباه ولا يكون له وكيل معروف فإن عُرِفَ وكيله استبدله بمن لا يعرف حتى ال يحابى فتعود المحاباة إليه.
فإن أهدى إليه من له خصومة او لم يكن له خصومة لكنه لم يُهْدَ له قبل ولايته القضاء حرم عليه قبولها لما روى أبو داود عن بريدة ان النبي (ص) قال (أيما عامل استعملناه وفرضنا له رزقاً فما اصاب بعد رزقه فهو غلول).
وروى البيهقي وابن عدي من حديث ابي حميد الساعدي (هدايا الأمراء غلول).
وروى الشيخان عن أبي حميد الساعدي (أن النبي (ص) استعمل رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا اُهدي إليَََََََََ فقام النبي (ص) على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليَّ ألا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أَََ يُهدى إليه أم لا. والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدٌ منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته) وإن كان يُهدى ولا خصومة جاز بقدر العادة السابقة للولايه ولا ينفُذُ حكمه لنفسه ورفيقه وشريكه في المشترك فإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى قاضي آخر فِإن تحاكما إلى خليفة القاضي صح فقد أخرج البيهقي عن الشعبي قال: (كان بين عنر وأُبيِّ خصومة في حائط فقال عمر لأُبيِّ بيني وبينك زيد بن ثابت فانطلقا فانطلقا فطرق عمر الباب فعرف زيد صوته فقال: يأمير المؤمنين ألا بعتث إليَّ حتى آتيك فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم). وأخرج البيهقي عن ابن أبي مليكة (أن عثمان وطلحة تحاكما إلى جبير بن مطعم) وذكا أصله وفرعه على الصحيح لأنهم أبعاضه فكان كحكمه لنفسه ولا يجوز له حتى سماع الدعوة والبينة فيما ذكِرَ ويحكم لهو لهؤلاء الإمام أو قاض آخر وكذا نائبه على الصحيح كما تقدم وإذا أقرَّ المدّعى عليه عند القاضي أو نكل عن اليمين عد عرضها عليه فَحَلَفَ المدَّعِي اليمين الردودة أو أقام البينة وسأل القاضي أن يُشْهِدَ على إقراره أي إقرار المدَّعِي الحكمَ له عليه بما ثبت والإشهاد به لزمه أي لزم القاضي إجابة المدعي إلى ذلك أو أن يكتب له محضراً بما جرى من غير محكْمٍ أو يكتب له سجلاً بما حكم استحب إجابته وقيل تجب والأول أصح لأن هذا مفترق عن الشهادة فالشهادة تثبت بَيّنَةً والكتابة لا تثبت حكماً إنما الذي يثبت الحكم البينة.
ويستحب نسختان تكتبان إحداهما تعطى له أي لصاحب الحقِّ لينظر فيها والأخرى من النسختين تحفظ في ديوان الحكم مختومة مكتو عليها اسم الخصمين وتحفظ في حرز ليُرجع إليه عند اللزوم.
وإذا حكم القاضي باجتهاده ثم بان حكمه خلاف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس جلي نقضه وسجلَّ ذاك إن كان سجل الجكم هو وجوباً وغيرُهُ من القضاة أيضاً. قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله) النساء59.
وروى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌّ)). وروى البيهقي في السنن عن أبي العوام البصري (أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري (ولا يمنعنك قضاءٌ قضيت به ثم إذا راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحقَّ فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحقِّ خير من التمادي في الباطل)). وروى الشافعي في مسنده أنم عمر بن عبدالعزيز قضى فيمن ردَّ عبداً بعيب أنه يردُّ معه خراجه فأخبره عروة بن الزبير عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان فرجع وقضى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/177)
بأخذ الخراج من الذي أخذه)) لا قياس خفي فلا ينقض الحكم المخالف له ومن القياس الجلي قياس الضرب عل التأفيف في الوالدين في قوله تعالى: (ولا تقل لهما أفٍ) الإسراء23 بجامع الإيذاء ومن الخفي قياس الأرز على البر في باب الربا بعلة الطعم. روى الدارقطني والبيهقي من حديث الحاكم بن مسعود (أن عمر بن الخطاب حكم بحرمان الأخ الشقيق في الشركة ثم شرّك بعد ذلك، فقال: ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي ولم ينقض قضاءهالأول) والقضاء ينفذ إذا حكم القاضي لما اقتضته الحجة ظاهراً لا باطناً فلو حكم بشاهدي زور ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحِلُّ باطناً سواء كان المحكوم به مالاً أو نكاحاً أو غيرهما فإن كان نكاحاً لم يحلَّ للمحكوم له الاستمناع ويلزمها الهرب والامتناع ما أمكنها فإن أكرهت فلا إثم عليها وإن مان المحكوم به طلاقاً حل للمحكوم عليه وطؤها إن تمكن لكن يكره له ذلك للتهمة والحدِّ ويبقى التوارث بينهما. لما روى الشيخان عن أمِّ سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إليَّ ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار))، وروى البخاري عن عبدالرحمن بن عتبة قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول: (إن أناساً كانوا يُؤْخَذُون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي إذا انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً أمنّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسب سريرته ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمَنْهُ ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة)) ولا يقضى بخلاف علمه بالإجماع كأن عَلِمَ أن المدَّعَى عليه مما أدعاه وشهد شاهدان بالدين فلا يقضي بالبينة في ذلك لأنه قضى به لكان قاطعاً أنه يحكم بالباطل.
والأظهر أنه يقضي بعلمه إلا في حدود الله تعالى. وإن كان هذا العلم قد حصل له قبل ولايته ويشترط اليقين بما علمه لا مجرد الطن كأن رأى المدعي عليه يقترض مالاً من المدعي أو سمعه يقرُّ بمال للمدعي وأنكر المدعى عليه ذلك فيقضي به عليه مصرحاً بعلمه بذلك أما في حدود الله فلا يقضي بعلمه لأنها تسقط الشبهة مع ندب سترها إلا إذا اعترف في مجلس الحكم بما يوجب الحدَّ فإنه يقضي عليه بعلمه.
فقد روى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة العسيف (واغذُ يا أُنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)). ولم يقيد اعترافها بحضور الناس.
وأخرج الترمذي من طريق الزهري عن عروة عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن الإمام إن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة)).
ولو رأى القاضي أو الشاهد ورقة فيها حكمه أو شهادته في قضية معينة أو شهد شاهدان أنك حكمت أو شهدت بهذا لم يعمل القاضي به ولم يشهد الشاهد بمضمون خطه حتى يتذكر كل منهما أنه حكم أو شهد به لإمكان التزوير وتشابه الخطوط ومن تمكن اليقين فلا سبيل إلى الظنِّ.
وفيها وجه إذا كان الحكم والشهادة مكتوبين في ورقة مصونة عندهما ووثق أنه خطه ولم يداخله ريبة أن يعمل به والأصح الأول لاحتمال الريبة بدسِّ الورقة بين أوراقه.
وله الحلف أي للشخص الحلف على استحقاق حق أو أدائه اعتماداً على خط مورِّثه إّذا وثق بخطه بانتفاء حالة التزوير وأمانته وأنه لا يتساهل في حقوق العباد والصحيح جواز رواية الحديث بخط محفوظ عنده كتبه هو أو غيره وإن لم يتذكر قراءة ولا سماعاً ولا إجازة وعليه عمل العلماء سلفاً وخلفاً.
? فصل في التسوية بين الخصمين ?
ليسوِّ القاضي وجوباً بين خصمين في دخول عليه أي في الإذن بالدخول عليه لا لأحدهما فقط وقيام لهما أو تركه ونظر إليهما وطلاقة وجه لهما أو عبوسه وجواب سلام إن سلما ومجلس وذلك بأن يكون قربهما إليه على السواء لأحدهما عن يمينه والآخر عن يساره أو يكونا بين يديه وكذا في جميع أنواع الإكرام فلا يخص أحدهما بشيء منها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/178)
والأصح رفع مسلم على ذمي لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه قيل وجوباً وقيل جوازاً فقد روى البيهقي عن الشعبي قال: (خرج علي رضي الله تعالى عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعاً فعرفها علي، فقال: هذه درعي بيني وبينك وقاضي المسلمين فأتيا شريحاً فلما رأى القاضي علياً قام من مجلسه وأجلسه وجلس شريح أمامه إلى جانب النصراني فقال له علي: (لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجالس‘ اقضِ بيني وبينه يا شريح)).
وإذا حضر الخصمان أمام القاضي وجلسا أو وقفا بين يديه فله أن يسكت حتى يتكلما وله أن يقول ليتكلم المدعِي منكما إذا لم يعرف اسمه أو أراد إعطاء الهيبة لمجلس القضاء فإذا ادعى المدعِي طالب القاضي خصمه بالجواب فإن أقر المدعيَ عليه فذاك
أي فيلزمه ما أقرَّ به وإن أنكر فله أن يقول أي القاضي للمدعِي ألك بينة أي حجة من شهود وغير ذلك تثبت ما تدعيه وله أن يسكت مخافة أن يتهم بأن يلقن المدعي الحجة ويميل إليه والأول أصح فإن قال المدعي لي بينة وأريد تحليفه فله ذلك لأن المدعي عليه قد لا يحلف ويقر فيستغني المدعي من إقامة البينة أو أراد أن يحلف المدعي عليه فيظهر المدعي بينته ويظهر كذب المدَّعى عليه أمام القاضي وهيئة المحكمة. أو قال المدعي لا بينة لي وحلّف المدعى عليه ثم أحصرها أي أحضر المدعي البينة قُبِلت في الأصح لاحتمال نسيانها أو ضياعها عند الطلب أو لظنه عدم قبولها في أول الأمر وإذا ازدحم خصوم مدعون في مجلس القاضي ولا اعتبار للمدعى عليه قدم الأسبق فالأسبق منهم فإن جُهِلَ الأسبق منهم أو جاؤوا معاً أقرع بينهم وقدم من خرجت قرعته ويقدم مسافرون مُسْتوفزون أي متهيئون للسفر خائفون من انقطاع رفقة على المقيمين ونسوة على رجال وإن تأخروا أي مسافرون ونسوة في القدم إلى القاضي مالم يكثروا بحيث يحصل ضرر لغيرهم لا يحتمل. ولا يقدم سابق ولا قارع أي من خرجت قرعته إلا بدعوى واحدة فقط لئلا يزيد ضرر الباقين.
ويحرم اتخاذ شهود معينين لا يقبل القاضي غيرَهم لما في ذلك من التضييق على الناس وتضييع الكثير من الحقوق. قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة28، فعمَّ بالشهود ولم يخصَّ وإذا شهد شهود فعرف عدالة أو فسقاً عَمِلَ بعلمه فيهم فإذا ادعى إنسان على آخر حقاً فأنكره وأقام المدّعِي شاهدين فإن علم القاضي فِسْقَهما ظاهراً وباطناً أو باطناً لم يقبل شهادتهما وإن علم عدالتهما ظاهراً وباطناً قَبِلَ شهادتهما بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك. قال تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) البقرة282، فربط الشهادة بالرضا.
وروى البيهقي في السنن عن خرشة بن الحرِّ (أن رجلاً ادعى رجل حقاً فأنكر فشهد بذلك شاهدان فقال عمر: لا أعرفكما ولا يضركما أي لا أعرفكما فأتياني بمن يعرفكما).
وإلا وجب الاستزكاء أي إذا لم يعرفهم القاضي وجب أن يطلب من يزكيهم كما في فعل عمر في الحديث السابق وفيه (فقال – يعني عمر – أتعرفهما؟ قال: نعم، فقال: كنت معهما في السفر الذي يتين فيه جواهر الناس؟ قال: لا، قال: هل عرفت صباحهما ومساءهما؟ قال: لا، قال: هل عاملتهما بالدرهم والدينار التي تقطع بها الرحم؟ قال: لا، قال: يا ابن أخي ما تعرفهما ائتياني بمن يعرفكما)، ولم يكن له مخالف في الصحابة وكان عمر يبحث عن عدالة الشهود والاستزكاء يكون بأن يكتب القاضي ما يتميز به الشاهد والمشهود له وعليه من الأسماء والحرف وأسماء السكن ومكان العمل مما يحصل به التمييز وكذا يكتب قدر الدين على الصحيح لأن من الناس من يغويهم الكثير دون القليل فيفسد ذممهم وقيل العدالة لا تختلف بقلة المال وكثرته. ويبعث به بما كتبه مزكياً يبحث عن حال الشهود ويجب أن يكون المزكي اثنين من أهل العدالة ويمسان أصحاب المسائل لأنهم يُبْعَثُونَ ويسألون ويسن أن يكون بعثهما سراً وأن لا يعلم أحدهما بالآخر لئلا يجمعهما الهوى على تعديل مجروح أوجرح عدل. ثم يشافهُهُ أي القاضي المزكي بما عنده من حال الشهود ويلح عليه القاضي بالسؤال حتى يبين جميع ما يعرفه وقيل تكفي كتابته أي كتابة المزكي إلي القاضي الذي أرسله بما عنده وشرطه أي شرط المزكي كشاهد أي في كل ما يشترط في الشاهد مع معرفة المزكي لكل من الجرح والتعديل أي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/179)
أسبابهما لئلا يجرح العدل ويزكي المجروح.
وخبرة باطن مَنْ يعدلِّه لصحبة أو جوار أو معاملة كما قال عمر في خبر البيهقي (أهو جارك تعرف ليله ونهاره؟ هل عاملك بالدرهم والدينار؟ هل كنت معه في السفر؟).
والأصح اشتراط لفظ الشهادة أي ما يقوله عند الشهادة بأن يقول أشهد بأنه عدل أو غير عدل لأنه مجروح بالأمر الفلاني.
وأنه يكفي في قول العارف بأسباب الجرح والتعديل هو عدل أو مقبول القول ولا يكفي قوله لا أعلم منه ما تُرَدُّ به شهادته وقيل يزيد على ذلك عليَّ وَلِي أي لا تبعدني عنه عداوة ولا تربطني به قرابة لأن الإنسان قد يكون عدلاً في شيء دون شيء.
وقيل يجب ذكر سبب الحَرْحِ لأن الناس مختلفون في أسباب الجرح فعليه أن يفسر ذلك بقوله هو زانٍ أو سارق أو قاذف أو نحو ذلك.
وَيَعْتَمِدُ فيه أي الجرح المعاينة كما رآه يفعل كذا أو سمع أنه يفعل كذا أو يعتمد في الجرح الاستفاضة في الخبر ممن يُقْبَلُ قولهم عادة ويقدم على التعديل لما في الاستفاضة والمعاينة من زيادة العلم والتوثق من القول فإن قال المعدل عرفت سبب الجرح وتاب منه وأصلح قُدِّمَ قوله على قول الجارح لأن معه زيادة علم بوجود التوبة بعد جود سبب الجرح.
والأصح أنه لا يكفي في التعديل قول المدّعى عليه هو أي الشاهد عدلٌ وقد غَلِظَ في شهادته عليّ بلا لابدّ من البحث والاستقصاء عن حاله لأن الاستزكاء هو حق لله تعالى ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصْمُ.
? باب القضاء على الغائب ?
هو جائز أي القضاء على الغائب عن البلد أو عن المجلس إن كان بنية عند المدعي تشهد له بما يدعيه وادّعى المدَّعي على الغائب جحوده للحق المُدَّعّى به فإن قال المدَّعِي هو أي الغائب مقرٌّ وإنما أقمت الدعوى لتثبيت حقي أو لترسل بها إلى قاضي بلد الغائب لم تسمع بينة لأن الدعوى لا تقام على مُقِرٍّ إلا أن يقول في دعواه وهو ممتنع عن الأداء فإنها تسمع عندئذ وإن أطلق أي لم يتعرض لجحود ولا إقرار في دعواه فالأصح أنها لا تُسمع لأنه لا يعلم حاله في غيبته ويحتاج إلى إثبات حقو والأصح أنه لا يلزم القاضي نصب مُسَخَّر ينكر عن الغائب لأن الغائب قد لا يكون منكراً فيكون إنكار المسخر كذباً وقيل يستحب نصبه خروجاً من أوجبه وكذبه غير محقق لأن من الكذب ما يغتفر عند وجود المصلحة.
ويجب أن يحلفَهُ أي يجب على القاضي أن يحلِّفَ المدعي بعد البينة وتعديلها أن الحق الذي أدعيه على الغائب ثابت في ذمته صوناً لحق الغائب لأنه لو حضر الغائب فلربما ادعى ما يبرئه أو أنه دين غير حال وقيل يستحب تحليف المدعي ولا يجب هذا إذا لم يكن للغائب وكيل أما إذا كان له وكيل فلا يضُمُّ القاضي التحليف إلى البينة.
والدليل على جواز الدعوى على الغائب أخبار منها: روى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند بنت حين قالت له إن أبا سفيان لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك)، فهو قضاء على غائب حيث أن أبا سفيان كان غائباً. وروى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في المرأة التي زنى بها العسيف (وَاغدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وكانت غائبة.
وروى البيهقي في السنن ومالك في الموطأ الدارقطني من طريق زهير بن معاوية عن عبيدالله بن عمر عن عثمان بن عبدالرحمن بمن عطية بن دالاف عن أبيه عن جده عن عمر (أن عمر قام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا يغرنكم صيام رجل ولا صلاته ولكن انظروا إلى صدقة وأمانته إذا ائتمن وإلى ورعه إذا استغنى، ثم قال: ألا أن الأسيفع رضي من دينه وأمانته أن يقال: سَابقُ الحاجِّ فادّان معرِّضاً فأصبح وقدرين به فمن كان له عليه دين فليحضر غداً فإنا بايعوا ماله وقاسموه بين غرمائه)، قوله قدْرِين به أي أحاط الدين بماله.
ويجريان أي الوجهان أي وجوب التحليف أو استحبابه في دعوى على صبي أو محنون أو ميت ليس له وارث حاضر.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/180)
ولو ادعى وكيلٌ عن غائب على غائب فلا تحليف بل يحكم بالبينة لأنه ربما كانت غيبته حيلة لإسقاط اليمين كما أن الحقوق لا تستحق يمين الوكلاء قال (ص) (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولو حضر المَّدعي أبرأني موكِلُكَ أو قال وفيته حقه مثلاً فأَخِرِ الطلب إلى حضوره ليحلف لي أنه ما أبرأني لم يُجَبْ و أُمِرَ بالتسليم له ثم يثبت بعد ذلك الإبراء أن كان له حجة ويستعيد الحقَّ الذي تسلمه الوكيل.
و إذا ثبت مالٌ على غائب وله مالٌ قضاه الحاكم منه إذا طلبه المدَّعي لأن الحاكم يقوم مقام الغائب في أداء الحق الذي عليه و إلا يكن له مالٌ حاضر أو لم يحكم له فإن سأل المدعي إنهاء الحال من سماع بينة أو شاهد ويمين أو سأل إنهاء حكم إلى قاضي بلد الغائب أجابه وجوباً فينتهي إليه سماع بينة ليحكم بها ثم يستوفي المال أو ينهي إليه حكماً إن كان حكم على الغائب ليستوفي المال والانهاء أن يُشْهِدَ عدلين بذلك يؤديانه عند القاضي الآخر ويستحب مع الاشهاد كتابٌ يرسله قاضي بلد المدعي إلى قاضي بلد الغائب الشهود وتاريخه ويختمه ندباً حفظاً للمكتوب وتعظيماً لأمره ويُحْمَلُ هذا الكتاب إلى قاضي بلد الغائب ويخرج به العدلان ويشهدان عنده عليه أي على الحاكم الذي انفذه روى البخاري عن أنس قال (لما أراد النبي (ص) أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة ونقَشُهُ: محمد رسول الله). إن أنكر الخصم المُحْضَرُ للقاضي الحق المدَّعَى عليه فإن قال لست المسمى في هذا الكتاب صُدِّقَ بيمينه إن لم يكن معروفاً بهذا الإسم فإن كان معروفاً به فلا يُبالى بقوله. وعلى المدَّعِي بينةٌ بأن هذا المكتوب اسمُهُ ونسبه فقال لست المحكوم عليه لزمه الحُكم إن لم يكن هناك مشارك له في الاسم والصفات أو كان ولم يكن في عصره أو في بلده لأن الظاهر أنه المحكوم عليه ولا يلتفت إلى قوله لست المسمى بهذا الاسم وإن كان هناك من يشاركه بالاسم والنسب والصفة أُحْضِرَ المشاركُ فإن اعترف بالحق طولب به وَتُرِكَ الأول لثبوت الحق على غيره وإلا أي وإن أنكر بعث القاضي المكتوب إليه إلى القاضي الكاتب بما وقع من التشابه ليطلب من الشهود زيادة صفة تميزه ويكتسبها وينهيها لقاضي بلد الغائب ثانياً فإن لم يجد مزيداً وقِفَ الأمر حتى ينكشف الحال. ولو حضر قاضب بلد الغائب ببلد الحاكمة فشافَهَهُ بحكمه ففي إمضائه إذا عاد إلى ولايته خلاف القضاء بعلمه والأصح كما ذكرنا سابقاً جوازه لأ، ه قادر على الإنشاء فهو قادر على إمضاء الحكم بالأولى ولو ناداه وهما في طرفي ولايتهما أمضاه أي قال قاضي بلد الحاضر وهو في طرف ولايته لقاضي بلد الغائب في طرف ولايته حكمت بكذا على فلان الذي ببلدك نفذ الحكم لأنه أبلغ من الكتابة والشهادة في الاعتماد عليه وإن اقتصر القاضي الكاتب على سماع بينة من غير حكم كَتَبَ سمعت بينةً على فلان بن فلان ويسميّها القاضي الكاتب إن لم يعدّلها ليبحث المكتوب له عن عدالتها وعدمه حتى يحكم بها وإلا أي وإذا عدّلها فالأصح جواز ترك التسمية وذلك اكتفاء بتعديل الكاتب لها كما أنه إذا حكم بحكم معين فلا حاجة لكتابة أسماء الشهود.
والكاتب بالحكم يمضي مع قرب المسافة وبعدها لأن الحكم تمَّ فلم يبقَ بعد ذلك إلا الاستيفاء وبسماع البينة لا يقبل على الصحيح إلا في مسافة قبول شهادةٍ على شهادةٍ وهي ما فوق مسافة العدوى ومسافة العدوى عند الفقهاء هي المسافة التي يرجع منها من خرج مبكراً إلى موضعه ليلاً والأصح اعتبارها بمسافة القصر لسهولة احضار البينة مع القرب.
? فصل في غيبة المحكوم به عن مجلس الحكم ?
لو ادعى عيناً غائبة عن البلد ولو في محل ولاية القاضي وكان المدَّعِي في البلد يُؤْمَنُ اشتباهها بغيرها كَعَقَارٍ وعبد وفرس مَعْرُوفات عند بعض الناس سمع القاضي بنيته وحكم بها وكتب بذلك إلى قاضي بلد المال ليسلِّمَهُ للمدَّعِي بعد ثبوت ذلك عنده كما مضى في القضاء على الغائب ويعتمد في معرفة العقار حدوده من جميع الجهات إلا إذا عمَت شهرته ويشترط أيضاً ذكر البلد التي فيها العقار ومحله منها أو لا يؤمن اشتباهها بغيرها فالأظهر سماع البينة عليها لأن الصفة تميزها عن غيرها ويبالغ وجوباً المدّعي في الوصف بحيث يندفع الاشتباه ويذكر القيمة في المتقوم وجوباً ويندب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/181)
ذكر القيمة في المثلي وأنه لا يحكم بها أي لا يحكم بالبينة لأن الحكم مع وجود الجهالة وإمكان الاشتباه غير ممكن بل يكتب إلى قاضي بلد المال بما شهدتْ به أي البينة فيأخذه أي المال ممن هو عنده ويبعثه أي المكتوب إليه إلى القاضي الكاتب ليشهدوا أي الشهود على عينه ليحصل اليقين والأظهر أنه يسلمه إلى المدَّعِي بكفيل ببدنه أي ببدن المدَّعِي احتياطاً للمدَّعى عليه حتى يحضره القاضي عند الضرورة وقيل يكفي كفيل بالثمن فإن شهدوا أي الشهود بعينه أي عين المُدَّعَى به كتب قلضي البلد المدَّعِي إلى قاضي بلد المال ببراءة الكفيل وإلا أي وإن لم يشهدوا على عينه فعلى المدَّعِي مؤنة الرد للمدَّعَى به إلى مكانه.
أو كان المدَّعى به عيناً غائبة عن المجلس لا عن البلد أُمِرَ بإحضار ما يمكن إحضاره ليشهدوا بعينه كما يجب على الخصم الحضور عند الطلب ولا تسمع في هذه الحالة شهادة بصفة لا مكان الاحضار ولانتفاء الضرورة.
وإذا وجب احضار فقال المدّعَى عليه ليس بيدي عين بهذه الصفة صدق بيمينه ثم بعد حلفه للمدَّعِي دعوى القيمة في المتقوم ودعوى المثل في المثلي لاحتمال هلاكها فإن نكل المدَّعى عليه عن اليمين فحلف المدَّعِي أو أقام البينة تشهد له بأن العين المدعاة كانت في يده كُلِّفَ المدَّعى عليه الإحضار ليشهد الشهود على عينه وحُبِسَ عليه أي على الإحضار ولا يطلق من الحبس إلا بإحضار للعين المدعاة أو دعوى تلف للعين المدعاة وحينئذ تؤخذ منه القيمة أو المثل وتقبل منه دعوى التلف وإن ناقض ذلك قوله الأول للضرورة حيث لو لم تُقْبل منه دعوى التلف للبث في السجن. ولو شك المُدَّعِي هل تلفت العين المدعاة فيدعى قيمة عنها إن كانت متقومة أو مثلاً إن كانت مثليةأم لا أي لم تهلك فيدعيها أي يطالب بها فقال في دعواه غصب مني فلان كذا فإن بقي لزمه رده إليَّ وإلا وإن لم يبقَ فقيمته تُرَدُّ إلي سُمِعَتْ دعواه فإن أقرَّ الخصم فذاك وإلا فيحلف أنه لا يلزمه ردُّ العين ولا قيمتها وقيل لا تسمع دعواه لتردده هل هي تافة أم باقية بل يدعيها أي يدعي العين أولاً ويحلفه عليها ثم بعد حلفه يدعي عليه ثانياً القيمة أو المثل ويجريان أي يجري هذا الوجهان فيمن دفع ثوبه لدلال ليبيعه له فطالب بالثوب فجحده وشك مالك الثوب هل باعه فيطلب الثمن أم أتلفه فقيمته يطالب بها أم هو باقٍ فيطلبه منه ومعنى ذلك هل يحتاج في المطالبة إلى دعوى واحدة أو إلى ثلاث دعاوى ويحلف الخصم يميناً واحداة أن لا يلزمه ردُّ الثوب ولا ثمنه ولا قيمته أو عليه أن يحلف ثلاث أيمان.
و حيث أوجبنا على المدَّعى عليه الإحضار للعين المدعاة فأحضرها استقرت مؤنته أي مؤنة الإحضار ومؤنة الردِّ للعين إلى محلها على المدَّعِي لأنه هو المتسبب في إحضارها.
? فصل في ضابط الغائب المحكوم عليه ?
الغائب الذي تسمع البينة ويحكم بها عليه مَنْ بمسافة بعيدة وهي التي لا يرجع فيها مبكرٌ أي من خرج من داره عقب خروج الفجر وقيل قبيل طلوع الشمس إلى موضعه الذي بكؤ منه ليلاً أي في أول الليل وهو في وقت عودة الناس إلى دورهم من السفر عادة وذلك بعد الفراغ من المحاكمة وقيلالمسافة البعيدة هي مسافة القصر لأن الشارع اتبرها في مواضع نحو قصر الصلاة وجواز الفطر ونحو ذلك ومَنْ بقريبة وهي المسافة دون البعيدة وهو من يمكن حضوره فهو كحاضر فلا تسمع بينة عليه ولا يحكم عليه بغير حضوره لسهولة احضاره ليدفع عن نفسه أو يقر ولئلا يشتبه على الشهود إلا لتواريه أي تغيبه لأن التواري لو اعتبر عذراً لتوارى كثير من الخصوم ولتعذر القضاء أو تعززه بسلطانه أو قوته أو أعوانه وعجز القاضي عن إحضاره فتسمع البينة عليه عندئذ كما تسمع على الغائب والأظهر حواز القضاء على غائب في قصاص وحدِّ قذف لأنه حق آدمي كما في المال ومنعه في حد أو تعزير لله تعالى لأن حدود الله مبنية على الدرء والمسامحة ولو سمع القاضي بنية على غائب مقدم قبل الحكم لم يستعِدها لأن سماع البينة وقع صحيحاً بل يخبره بالحال ويمكِّنه بعد ذلك من الجرح للبينة أو إيضاح ما يريد إيضاحه كعداوة بينه وبين الشهود وغير ذلك ولو عُزِلَ القاضي بعد سماع البينة ثم وُلِّي ثانية ولم يكن حكم بقبول البينة وجبت الاستعادة للبينة ولا يحكم بالسماع الأول لبطلانه بالعزل.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/182)
وإذا استُعِدي أي إذا طلب من القاضي إزالة العدوان على حاضر بالبلد أَحضره القاضي وجوباً إقامة لشعار القضاء ولزمه الحضور رعاية لمكانة القضاء. قال تعالى: (إنما كان قو المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 51، وذلك يكون بدفع خَتْم طين رَطْبٍ أو غيره كشمع مختوم عليه ويقوم مقامه الآن الورق يكتب عليه ويختم عليه بختم القاضي أو يحضره بمرتب لذلك أي بموظفين مختصين لإحضار الخصم أو إبلاغه أمر القاضي بإحضاره فإن امتنع المطلوب من الحضور بلا عذر من أعذار الجمعة أحضره القاضي وجوباً بأعوان السلطان ولا يلزمه الحضور معهم إلا إذا كان معهم أمر بإحضاره كما مرَّ وعزره القاضي بما يراه مناسباً.
أو إذا استعداه على (غائب في غير) محل ولايته أي في غير محله ولاية القاضي فليس له أي القاضي إحضاره إذ لا ولاية له عليه بل يسمع الدعوى والبينة ويبعث بها إلى قاضي بلد الغائب كما مر أو فيها أي في محل ولايته وله هناك أي في المحلة نائبٌ لم يحضر لما في الإحضار من المشقة بل يَسْمَع القاضي بينة عليه بذلك ويكتب بسماعها إليه أي إلى النائب ليتوسط ويصلح بينهما إن أمكن أو يفوض القاضي إليه بينهما.
أو لا نائب للقاضي هناك فالأصح أنه يحضره بعد تحرير الدعوى وصحة سماعها من مسافة العدوى فقط وهي أي مسافة العدوى التي يرجع منها مبكّرٌ إلى منزله ليلاً وسميت مسافة العدوى لأن على القاضي أن يُعْدي أي يعين من طلب خصماً منها على إحضاره وتحصيل حقه منه والأصح أن المخدّرة لا تحضر إلى مجلس الحكم بل تبعث وكيلاً عنها وهي أي المخدَّرة من لا يكثر خروجها لحاجات متكررة كشراء وبيع بل لا تخرج أصلاٍ وإذا خرجت فنادراً ولأمور لابد منها كزيارة أهل أو لعلاج في مكانه.
? باب القسمة ?
الأصل في القسمة قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى) النساء8، وقوله تعالى: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) القمر28، وأخرج الشافعي من طريق مالك عن أبي سلمة بن عبدالرحمن مرسلاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) ورواه البخاري عن جبر بن عبدالله، وروى الشيخان عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم بين المسلمين)، وقد أجمعت الأمة على جواز القسمة لأن للناس حاجة إليها ليعرف كل واحد من الشركاء نصيبه.
قد يقسم المشترك الشركاءُ أو منصوبُهُم أو وكلاؤهم أو منصوب الإمام أو المُحَكِّم بينهم وشرط منصوبه أي منصوب الإمام كرٌ حرٌ عدلٌ تقبل شهادته ضابط سميع بصير وقيل عفيف عن الطمع لأنه لا يجوز للحاكم أخذ أجرة على صاحب الحكم لأنه حق الله. يعلم المِساحة والحساب لأنها آلة القسمة كالفقه للقضاء. فإن كان فيها أي القسمة تقويم أي تقدير للقيمة وجب قاسمان لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين وإلا يكن في القسمة تقويم فقاسم واحد يكفي وفي قول اثنان إذا اعتبرنا منصب القاسم كمنصب الشاهد أما إذا اعتبرناه في منصبه كالقاضي فيكفي واحد أما إذا فوض الشركاء القسمة إلى واحد فقط لو كان فيها تقويم لأنه الرجوع إلى ما اتفقوا عليه وللإمام جعل القاسم حاكماً في التقويم فنعمل فيه أي التقويم بعدلين ذكرين يشهدان عنده فيعمل بقولهما ويقسم بنفسه ويجعل الإمام رزق منصوبه الذي نصبه للقسمة من بيت المال من سهم المصالح لأن القسمة بين الشركاء من المصالح العامة. فإن لم يكن في بيت المال مال أو مُنِعَ الإعطاء منه ظلماً فأجرته أي المنصوب من قبل الإمام على الشركاء فإن استأجروه وسمّى كل منهم قّدْرَاً له لزمه سواء تساووا فيه أو تفاضلوا وإلا بأن أطلقوا لوم يسمّوا فالأجرة موزعة على الحصص لأنها من مؤن الملك كالنفقة على المشترك. وفي قول الأجرة موزعة على الرؤوس لأن العمل يقع لهم جميعاً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/183)
ثم ما عَظُمَ الضرر في قسمته كجوهرة وثوب نفيسين وزوجي خف إن طلب الشركاء كلُّهم قسمته لم يجبهم القاضي إن بطلت منفعته المقصودة بل يمنعهم من قسمته لأنه سَفَهٌ ولا يمنعهم إن اقتسموا بأنفسهم إن لم تبطل منفعته بالكلية ولا يضر نقص المنفعة كسيف يُكْسَرُ لإمكان الانتفاع به بعد الكسر باتخاذه سكيناً أو استعمال جزء منه بما صار إليه. روى الدارقطني وابن ماجة عن أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار)).
وما يبطل نفعه المقصود كحمام وطاحومة صغيرين لا يجاب طالب قسمته بالأصح لما في ذلك من الضرر. فقد أخرج الشيخان عن المغيرة بن شعبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيلِ وقال وعن إضاعة المال).
فإن أمكن جعله حمامين أجيب وإن احتيج إلى بعض المرافق لسهولة تدارك ذلك ولو كان عُشْرُ دار لا يصلح للسكنى والباقي الآخر يصلح لها فالأصح إجبار صاحب العُشْرِ على القسمة بطلب صاحبه لانتفاعه بحصته وقيل لا لتضرر شريكه بالقسمة دون عكسه لأن صاحب العُشْر مُتَعَنِتٌ بطلب القسمة لأنه مضيع لماله.
وما لا يعظم ضَرَرُهُ قسمته أنواعٌ أحدها الأجزاء كمثلى كحبوب ودراهم ودنانير وزيوت وغيرها وتسمى قسمة المتشابهات. ودار مُتَفقةُ الأبنية وأرض مشتبهة الأجزاء ونحوها كثياب وكتب وأواني متماثلة. فيجبر الممتنع على القسمة سواء تساوت الأنصباء أم اختلفت للتخلص من سوء المشاركة مع عدم الضرر فتعدَّل أي تساوى السهام كيلاً في المكيل ووزناً في الموزون وذرعاً في المذروع وعداًفي المعدود بعدد الأنصباء إن استوت أي تساوت تلك الأنصاء فإذا كانت بين ثلاثة زيد وعمرو وبكر مثلاً أثلاثاً جعلت ثلاثة أجزاء ويؤخذ ثلاثة رقاع متساوية ويُكتَبُ في كل رقعة اسم شريك أو جزءاً مميزاً حدٍ أو جهة لأو غير ذلك وتدرج الرقاع في بنادق مستوية أي على شكل حبة البندق متساوية في الوزن والشكل من طين أو شمع وتجفف ثم توضع في حِجْرِ رجل لم يحضر الكتابة والبندقة ثم يُخْرِجُ من لم يحضرها رقعة على الجزء الأول إن كتب الأسماء فيعطى من خرج اسمه أو على اسم زيد إن كتب الأجزاء فيعطى ذلك الجزء ويفعل كذلك في الرقعة الثانية فيخرجها على الجزء الثاني أو على اسم عمرو وتتعين الثالثة للباقي إن كانوا ثلاثة وتعيين من يبتدأ من الشركاء والأجزاء منوط بنظر القاسم.
فإن اختلفت الأنصباء كنصف وثلث وسدس جزئت الأرض على أقل السهام وهو هنا السدس فتكون الأجزاء ستة أجزاء وقسمت كما سبق ويحترز عن تفريق حصة واحد فإن كانت الأرض ستة أفدنة جُعِلَ كل فدان جزءاً ويعلم عليه بعلامة ويكتب اسم الشركاء ويجعل في بنادق كما سبق وتخرج بندقة عن الجزء الأول ثم ينظر مَنْ فيها فإن كانت لصاحب السدس أخذه ثم تخرج بندقة عن الجزء الثاني ثم ينظر مَنْ فيها فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والثالث وتعينت الأجزاء الثلاثة الباقية لصاحب النصف وإن خرج عن الجزء الثاني اسم صاحب النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وتعين الجزء الخامس والسادس لصاحب الثلث وقولنا يأخذه وما يليه لئلا تتبعض حصة كل ولحد منهم وقيل يكفي الكتابة على ثلاث رقاع وقيل تكون الكتابة على ست رقاع فيكتب اسم صاحب النصف في ثلاث رقاع واسم صاحب الثلث على رقعتين واسم صاحب السدس والأول أسهل وأيسر في التقسيم والأدراج في بنادق.
والثاني من أنواع القسمة بالتعديل بالقيمة كأرض تختلف قيمة أجزائها بحسب قوة إنبات وقرب الماء أو في جانب منها عنب وفي جانب آخر نخل أو في جانب بناء وفي آخر شجر ولم تستو القيمة في ذلك فإن كانت لاثنين مثلاً نصفين وقيمة ثلثها في المثال الأول المشتمل على أرض فيها قوة إنبات وقوة ماء كقيمة ثلثيها الخالي عن ذلك جعل الثلث سهماً والثلثان سهماً وأقرع كما مرَّ ويجبر الممتنع عليها أي القسمة في الأظهر إلحاقاً للتساوي في القيمة بالتساوي في الأجزاء. إلا إذا أمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده لم يجبر لأنها كأرضين تمكن قسمة كل منهما بالأجزاء فلا يجبر على التعديل ولو استوت قيمة دارن أو حانوتين وهما لاثنين بالسوية فَطَلَبَ أحد الشريكين جَعْلَ كل منهما لواحد فلا إجبار في ذلك للمتنع سواء تجاور الداران أو الحانوتان أو تباعدا لشدة اختلاف الأغراض أو تساوت قيمة عبيد أو ثياب من نوع وأمكن التسوية ولو اختلف العدد أجبر الممتنع لقلة اختلاف
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/184)
الأغراض فيها، روى مسلم عن أبي سعيد الخدري (أن النبي صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرض موته أجزاء وأقرع بينهم) فقد دخل القسمة الإجبار أو نوعين من جنس واحد كسيارة ياباني وسيارة كوري أو جنسين مختلفين كسيارة وأثاث فلا إجبار في ذلك لاختلاف الأغراض والنوع الثالث القسمة بالردِّ وهي التي يحتاج فيها أحد الشريكين أن يرد للآخر مالاً وذلك بأن يكون في أحد الجانبين من الأرض بئر أو شجر لا يمكن قسمته فَيَردُّ من يأخذه قسط قيمته أي يرد من خرجت بالقسمة البئر أو الشجر في نصيبه ولا إجبار فيه لأنه دخله ما لا شركة فيه وهو المال المردود وهو أي هذا النوع وهو قسمة الردِّ بيع لوجود حقيقة البيع وهو مقابلة المال بالمال فتثبت جميع أحكام البيع ولا يفتقر للفظ البيع والقبول بل يقوم الرضا مقامهما وكذا التعديل بيع على المذهب تثبت فيه أحكامه من شفعة وخيار وغيرهما.
وقسمة الأجزاء افراز في الأظهر في الحالتين التراضي والإجبار لأنه تبين فيها نصيب كل من الشركاء ولو كانت القسمة بيعاً لما دخلها الإجبار.
ويشترط في قسمة الردِّ الرضا لفظاً بعد خروج القرعة لأنها بيع والبيع لا يَحْصَلُ بالقرعة فافتقر إلى التراضي في الأصح كقولهما رضينا بهذه القسمة أو قولهما رضينا بما أخرجته القرعة لأن الرضا أمر خفي فأنيط بأمر ظاهر يدل عليه.
ولو ثبت ببينة غلطٌ أو حيفٌ أي ظلم في قسمة إجبار نُقِضت القسمة فإن لم يكن بينة على الغلط أو الحيف وادعاه أي الغلط واحد من الشريكين على شريكه فله تحليف شريكه أي لا غلط أو أنه لا يستحق عليه ما ادعاه ولا شيئاً منه فإن حلف شريكه مضت القسمة وإلا حلف المدعي ونقضت القسمة.
ولو ادعاه في قسمة تراضٍ بينهما بأن نصبا قاسماً أو اقتسما بأنفسهما ورضيا بعد القسمة فالأصح أنه لا أثر للغلط ولذلك فلا فائدة لهذه الدعوى لتراضيهما على القسمة أصلاً والرضا بها قلت: وإن قلنا إن قسمة التراضي قسمة إفراز نقضت تلك القسمة بادعاء الغلط فيها إن ثبت الغلط ببينة وإلا فيحلف شريكه والله أعلم كما مرَّ في قسمة الإجبار.
ولو استُحِقَ بعض المقسوم شائعاً كالثلث أو الربع مثلاً بطلت القسمة فيه أي البعض المستحق وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة والأظهر فيه الصحة ويتخير كل من الشريكين.
أو استُحِقَ من النصيبين شيء معين فإن كان المعين بينهما سواءً بقيت القسمة في الباقي إذ لا يتراجع بين الشريكين وإلا يكن المعين بينهما سواء وذلك بأن اختص بأخذ النصيبين أو كان فيهما لكنه في أحدهما أكثر بطلت القسمة لأن ما بقي لكل واحد منهما لا يكون قدر حقه بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر وتعود الإشاعة.
? كتاب الشهادات ?
والشهادات جمع شهادة وهي اصطلاحاً إخبار الشخص بحق على غيره بلفظ خاص والأصل فيها قبل الإجماع الكتاب والسنة.
قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة282، وقال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة) البقرة283، وقال تعالى: (واشهدوا ذوى عدل منكم) الطلاق2.
وروى الحاكم والبيهقي من حديث طاووس عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الشهادة فقال للسائل: ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد أو دع)، ولا خلاف بين الأمة في تعلق الحكم بالشهادة.
شرط الشاهد مسلم حر مكلف عدل ذو مروءة غير متهم والمقصود المروءة الاستقامة لأن مَنْ لا مروءة له لا حياء له ومن لا حياء له يقول ما شاء. ولقد روى البخاري عن أبي مسعود البدري (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) والمتهم هوالذي يكثر السهو الغلط ومن يكثر العداوة ولا تطمئن النفس إليه. قال تعالى: (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا). وأخرج البيهقي وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي غَمْرٍ على أخيه)) والغمر هو العداوة والحقد.
وشرط العدالة اجتناب الكبائر واجتناب الإصرار غلى صغيرة فبارتكاب كبيرة وإصرار على صغيرة من نوع أو أنواع تنتفي العدالة ومن الكبائر القتل والزنا واللواط وشرب الخمر والسرقة والقذف وشهادة الزور ومن الصغائر النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه والغيبة والسكوت عليها والكذب الذي لا حدَّ فيه ولا ضرر والإشراف على بيوت الناس وهجر المسلم فوق ثلاث.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/185)
ويحرم اللعب بالنرد على الصحيح أي ومن الصغائر اللعب بالنرد وهو ما يسمى بطاولة الزهر. فقد روى مسلم عن بريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه)). ولأن أصل النرد إنما وضع للقمار والقمار محرم.
ويكره اللعب بشطرنج إن كان على غير عوض ولم يشتغل به عن صلاة وإن كان على عوض فهو قمار. روى البيهقي عن ميسرة بن حبيب أن عليَّ بن أبي طالب قال: (اللعب بالشطرنج أكذب الناس يقول قتلت والله ما قتل). ويخالف الشطرنج النرد أن الشطرنج موضوع أصلاً لتدبير أمر الحرب وكل سبب يتعلم به الإنسان أمر الحرب والقتال فإنه مباح. فقد روى الشيخان عن عائشة أنها قالت: (مررتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم من الحبشة يلعبون بالحراب فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم ووقفت من خلفه فكنت إذا عييتُ جلست وإذا قمت أتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم). فلا تردُّ شهادة من يلعب بالشطرنج نظراً لكراهية اللعب به. فإن شرط فيه مال من الجانبين فَقِمَارٌ والقمار محرم وتُرَدُ به الشهادة.
ويباح الحُدَاء وسماعه والحداء ما يقال خلف الإبل ليحثوا الإبل على السير فقد روى الشيخان وغيرهما عن عائشة أنها قالت: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبدالله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن رواحة: (حَرِّك بالقوم)، فراح يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل في السير – أي أسرعت – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير)) يعني رفقاً بالنساء.
ويكره الغناء بلا آلة وسماعه قال الشافعي: (وهو مكروه يشبه الباطل) روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (دخل عليَّ أبوبكر وعندي جاريتان تغنيان، فقال: مزمور الشيكان في بيت رسو الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما فإنها أيام عيد))، قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) الحج30، قال محمد بن الحنفية هو الغناء.
ويحرم استعمال آلة من شعار الشَّرَبة والشربة هم المجتمعون على الشراب الحرام كَطُنبور وهو آلة من آلات تللهو ذات عنق وأوتار وثله الربابة وعود وصَنْجٍ آلة من آلات اللهو مصنوعة من النحاس يضرب بعضها على بعض وتسمى الصفقاتين ومزمار عراقي وهو ماله بوق والغالب فيه له أوتار واستماعها أي ويكره استماع الآلات السابقة لأنها تطرب لا ياع في الأصح واليراع هو الشبابة سميت بذلك لأنها مجوفة قيل إنها تنشط على السير في السفر قلت: الأصح تحريمه والله أعلم لأنه آلة مطربة بل قال بعض أهل العلم بالموسيقى إنه آلة تجمع كلَّ نغمات الموسيقى إلا قليلاً فحرم كسائر المزامير ويجوز دُفِّ لعرس وختان وولادة وقدوم غائب وعيد وشفاء مريض فقد روى الترمذي وابن ماجة والبيهقي عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال – أي الدف)).
وروى أحمد والترمذي وغيرهما من حديث بريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى المدينة من بعض مغازيه جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: أوفِ نذرك).
وكذا غيرهما من كل سرور في الأصح للخبر السابق (إن كنتِ نذرتِ أوفِ بنذركِ) وإن كان فيه جلاجل لإطلاق الخبر السابق والمراد بالجلاجل الحلق التي تجعل داخل دائرة الدف.
ويحرم ضرب الكوبة وكذلك اشماعها وهي أي الكوبة طبل طويل ضيق الوسط واسع الطرفين أو أحدهما فقد روى أبوداود وابن حبان وأحمد من حديث ابن عباس (إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والكوبة في عددها).
لا الرقص فإنه لا يحرم لآنه مجرد حركات لما روى عن الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف لعائشة يسترها حتى تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ويرفسون) والرفس هو الرقص وفي رواية يزفنون أي يرقصون أيضاً. إلا أن يكون فيه أي الرقص تكسر كفعل المخنِثِ فيحرم على الرجال والنساء وكذلك يحرم التخنث وهو التخلق بخلق النساء حركة وهيئة. روى البخاري عن ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/186)
ويباح قول الشعر وإنشاده واستماعه إلا أن يهجو فيه ولو بما هو صادق يَفحش أن يجاوز الحدَّ في المدح لأنه حينئذ كذب. أخرج البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأحمد وغيرهم عم عمرو بن الشريد قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلفَهُ ثم قال: هل معك من شعر أمية ين أبي الصَّلت شيء؟ فقلت: نعم، فقال: هيه – يعني هات - فأنشدته بيتاً فقال: هيه، فأنشدته وهو يقول هيه حتى أنشدته مئة بيت)
وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس أن النبي قال: (ما كان الفحش في شيء إلا شأنه ولا كان الحياء في شيء إلا زانه)، قال الشافعي: الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن عائشة أنها كانت تقول: (الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح).
أو يعرض بامرأة معينة أن يشبب بها فيذكر صفاتها من طول وقصر ووجه وفم وغير ذلك فيحرم ذلك وترد به الشهادة.
والمروءة للشخص هي: تَخَلُّقٌ بِخُلُقِ أمثاله في زمانه ومكانه لأن الأمور العرفية مختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلدان وأصل المروءة الاستقامة مطلقاً وعرفاً هي التخلق بالأخلاق المباحة غير الزرية فالأكل في سوق لغير سوقي والمشي في السوق مكشوف الرأس أو البدن أما كشف العورة فحرام وقبلةُ زوجة وأمة له بحضرة الناس أو أجنبي يسقط المروءة وإكثار حكايات مضحكة للحاضرين بحيث يصير ذلك عادة له وَلُبسِ فقيه قِباءً وسُمِيَ بذلك لاجتماع أطرافه والمقصود به المفتوح من الأمام والخلف وأما المفتوح من الأمام فهو شعار الفقهاء في كثير من البلدان. وقلنسوة يلبسها في بلد حيث لا يُعْتَاد لبسها واكباب على لَعَبِ الشطرنج أي المداومة عليه أو على غناء أو سماعه فقد روى البيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعاً (الغِناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل). وإدامة رقص يسقط المروءة والأمر فيه أي اسقاط المروءة يختلف بالأشخاص والأحوال والأماكن فيستقبح من شخص دون آخر وفي حال دون حال وفي بلد دون آخر وحرفة دنيئة تسقط المروءة كحجامة وكنس ودبغ وقيامة حمام ممن لا تليق به تسقطها أي المروءة لإشعار ذلك بقلة مبالاته وعدم توقيه للأدناس.
فإن اعتادها بأن تلبّس بها مدة يحكم العرف بأنها صارت حرفة له وكانت حرفة أبيه فلا تسقط المروءة في الأصح لأن الناس لا يعيّروه على ذلك.
والتهمة التي تمنع الشهادة في الشخص أن يجرِ إليه بشهادته نفعاً أو يدفع عنه بها ضرراً فترِد شهادته لعبده ومكاتبه وغريم له ميت وإن لم تزذ ديونه على تركته أو عليه حجْرُ فَلَس لأنه إذا أثبت ديناً للغريم أثبت لنفسه المطالبة به فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة والبيهقي في السنن عن أبي هريرة أيضاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة ظنين ولا ذي غمر على أخيه)) والظنين المتهم. ومن جرَّ لنفسه نفعاً أو درأ بشهادته عن نفسه ضرراً لا تقبل شهادته وأخرج أبوداود وغيره عن عبدالله بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُقْبَلُ شهادةُ خائنٍ ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي غَمْر على أخيه)). والخائن: الغاصب، وذي الغمر: ذي الحقد والعدو ذي الحقد.
وبما هو وكيل فيه فلا تقبل شهادته لأنه يثبت لنفسه سلطنة التصرف في المشهود فيه وببراءة مَنْ ضمنه فلا تقبل شهادته أيضاً بأداء أو إبراء لأنه يدفع عن نفسه الغرم وبجراحة مُوَثه إذا شهد بها فترد شهادته لأنه لو مات كان الأرث له ولو شهد لمُوَرِّثٍ له مريض أو جريح بمال قبل الاندمال قبلت شهادته في الأصح لأن شهادة لا تجر إليه نفعاً إلا إذا مورثه قبل الحكم لأنه في هذه الخالة شكون شاهداً لنفسه فقد روى البيهقي عن طريق الأعرج مرسلاً (أن انبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة ذي الظنّة والحنة)) أي الذي بينك وبينه عداوة. فقد أخرج أبوداود هرسلاً عن طلحة بن عبدالله بن عوف (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً (أنه لا يجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه)).
وتُرَدُّ شهادةُ عاقلة بفسق شهود قَتْلٍ يحملونه من خطأ وشبه عمد لأنهم يدفعون بشهادتهم عن أنفسهم ضرراً وهو تحمل الدية.
وغُرماء مُفْلِس حُجِرَ عليه لا تقبل شهادتهم بفسق شهود دين آخر لأنهم يدفعون عن أنفسهم بالشهادة ضرر الزاحمة لهم على مال المفلس.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/187)
ولو شهد أي شهد الشاهدان لاثنين بوصية من تركة فشهدا أي شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية من تلك التركة قُبِلَت الشهادتان في الأصح لانفصال كلِّ شهادة عن الأخرى والأصل عدم التواطؤ في الشهادة بينهم.
ولا تقبل الشهادة لأصل ولا فرع فقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن شريح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة الابن لأبيه ولا الأب لابنه ولا تجوز شهادة المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته)). والمرء يميل بطبعه إلى ولدة ووالده فقد روى الشيخان عن المسور بم مخرمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطمة يريبني ما رابها)) وفي رواية فمن أغضبها أغضبني.
وكذا تقبل شهادتهما على أبيهما بطلاق ضرة أمهما طلاقاً بائناً أو قذفها أي قذف الضرة قذاً مؤدياً إلى للعان الذي يؤدي لفراقها في الأظهر لضعف تهمة نفع أمهمابذلك وإذا شهد شخص بحق لفرع أو أصل له وأجنبي كأن قال المسكن لأبي ولفلان قبلت تلك الشهادة للأجنبي في الأظهر بناءً على القول في جواز تفريق الصفقة.
قلت أي النووي وتقبل الشهادة لكل من الزوجين للآخر. قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) الآية282، ولم يفرق بين الزوج وغيره وقيل لا تقبل لخبر شريح السابق لأن كلاً منهما وارث لا يُحْجَبُ فأشبه الأب.
ولأخ وصديق أي وتقبل شهادة أخٍ لأخيه ومن صديق لصديقه لعموم قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) الآية282. والله أعلم لضعف التهمة.
ولا تقبل شهادة من عدو لوجود التهمة لما روى الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خَصْم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه)) وذي الغمر أي الحاقد الذي يحمل الغلَّ والكراهية.
وهو أي العدو من يبغضه بحيث يتمنى زوال نعمته ويحزن بسروره ويفرح لمصيبته وذلك قد يكون من الجانبين أو قد يكون من أحدهما على الآخر فتردُّ شهادته عليه وتقبل الشهادة له أي للعدوإن لم يكن أصلاً له أو فرعاً إذ لا تهمة.
وكذا تقبل الشهادة عليه في عداوة دين ككافر ومبتدع لأن العداوة لأجل الدين لا تردُّ الشهادة فمن أبغض فاسقاً لفسقه أو قدح فيه بما هو واجب عليه كفلان لا يحسن الفتوى فلا تستفتوه لم تردَّ شهادته لأن هذه نصيحة للناس. فقد روى البيهقي في السنن وابن عبدالبرِّ في التمهيد والسيوطي في الجامع الصغير عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اذكروا الفاسق بما فيه تعرفه الناس)).
وتقبل شهادة مُبْتَدعٍ لا نكفرُهُ ببدعته فجمهور الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة قال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم: ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تبايناً شديداً واستملَّ بعضهم من بعض ما تطول حكايته وكان ذلك متقادماً. منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم فلم نعلم أحداً من سلف الأمة يُقْتَدى به ولا من بعدهم من التابعين ردَّ شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله، فلا تردُّ شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمل وإن بلغ فيه استحلال المال والدم.
ورى أصحاب السنن عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة))، فجعل الكل من أمته لا مُغفّل لا يضبط ولا مبادر بالشهادة قبل أن يسألها فكل منهما متهم ويستثني من المبادر ما ذكر في قوله وتقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى فقد روى الشيخان عن عمران بن الحصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون)) فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون ولا يستشهدون ذم لهم.
وأما حديث مسلم الذي يرويه عن زيد بن خالد الجهني (ألا أخبركم بخير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) فإن هذا محمول على أهل الحسبة الذين يتطوعون لنشر الخير واحقاق الحق احتساباً للأجر من عند الله تعالى وأما حقوق الله تعالى فهي: كالصلاة والزكاة والصوم والحج ولو عَنْ ميت وكفارة وفيما له فيه حق مؤكد أي لله فيه حق مؤكد ولا يحتاج إلى رضا الآدمي بأن يقول من غير دعوى أنا أشهج أو عندي شهادة أن فلاناً أخ في الرضاعة لفلانة أو أن فلانة التي ترغب في النكاح هي مزوجة من فلان وتسمع شهادة المحتسب تمنع ما يترتب على ما ذكر من أمور وحّدٍّ له أي لله تعالى كحد الزنا وقطع
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/188)
الطريق وكذا النسب على الصحيح لأ، الشرع أكد الأنساب ففي وصلها حق لله تعالى.
ومتى حَكَمَ باهدين فبانا عند الشهادة أو عند الحكم كافرين أو عبدين أو صبيين نقضه هو وغيره لتيقن الخطأ فيه وكذا فاسقان ظهر فسقهما عند القاضي فإن الحكم ينقض بهما في الأظهر لوجوب العدالة في الشهود.
ولو شهد كافر أو عبد أو صبي في أمر ما ثم أعادها أي الشهادة بعد كماله قبلت شهادته إذا لا مانع عندئذ من قبولها أو فاسق تاب فلا تقبل شهادته لأنه متهم بسبب فسقه. قال تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات6. فأمر بالتبين في نبأ الفاسق وهو ما يخبر به والشهادة خبر. وروى أبوداود عن عبداللع بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُقْبَلُ شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه)). وَتقْبَلُ شهادته أي الفاسق في غيرها بشرط اختباره بعد التوبة مدة يُظَنُّ بها صدق توبته أي توبة الفاسق وقدرها الأكثرون بسنة وقيل تقدر بستة أشهر وقيل تختلف باختلاف الأشخاص وعلامات الصدق ويشترط في توبة توبة معصيةٍ قوليه القول قياساً على التوبة من الردة بوجوب النطق بالشهادتين فيقول القاذف قذْفي فلاناً باطلٌ أو لم يكن صحيحاً أو ما كان لي حق بقذفه أو نحو ذلك وأنا نادم عليه ولا أعود إليه وقد ثبتُ منه. قال تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) النور4،5. فذكرت الآيات الاستثناء عقب ردِّ الشهادة والتفسيق. وروى السيوطي في الدر المنثور عن عمر بن الخطاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توبة القاذف إكذابُهُ نفسَهُ فإن تاب قُبلت شهادته)).
وأخرج البيهقي في السنن عن جابر بن عبدالله (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا)).
وروى البخاري عن عمر معلقاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرة: تُبْ أَقْبَلُ شهادَتك) ورواه البيهقي موصولاً وكذا شهادة الزور ويشترط في صحة التوبة منها أن يقول توبتي باطلة أو نحو ذلك كما سبق في توبة الفاسق. وشهادة الزور من الكبائر فقد روى الترمذي وغيره عم خريم بن فاتك (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عَدَلَتْ شهادة الزور الشرط بالله) قالها ثلاثاً ثم تلا قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) الحج30) قلت: وغير القولية من المعاصي كالزنا وشرب الخمر والسرقة لا يشترط فيها قول وإنما يشترط في صحة التوبة منها إقلاع عنها وندم عليها وعزم [ان لا يعود إليها ورد ظلامة آدمي إن تعلقت به سواء كانت للآدمي خالصة أو كان فيها مع ذلك حق لله تعالى كالزكاة والكفارة فتجب فوراً والله أعلم فيؤدي الزكاة والكفارة ويرد المغصوب فإن تعذر عليه ذلك تصدق به وإن أعسر بذلك نوى الأداء إذا قدر وليتحلل صاحبه. روى البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له من مظلمة لأخيه من عرضه أو شي فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أُخِِذَ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه)).
? فصل في بيان ما يعتبر فيه شهادة الرجال وتعدد الشهود وما ال يُعْتبر ?
لا يحكم بشاهد واحد إلا في هلال رمضان فإنه يقبل فيه شاهد واحد في الأظهر فقد أخرج أبوداود والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر أنه قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام أمر الناس بصيامه).
ويشترط للزنا أربعة رجال فلا يثبت حد الزنا إلا بأربعة شهود. قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا [أربعة شهداء) فأثبت أنه لا يسقط حدُّ القذف عن القاذف إلا بأن يأتيَ بأربعة شهداء على الزنى. وقال تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) النساء15. فأثبت سبحانه أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء وللإقرار به اثنان في الأظهر كالإقرار بغير الزنا وفي قول أربعةٌ كالشهادة على الزنا ولأنه يترتب بالشهادة الحدُّ على اثنين.
ولمالٍ وعقدٍ ماليٍ كبيع وإقالة وحوالة وضمان وحق مالي كخيار أي خيار مجلس أو شرط وأَجَلٍ يشترط رجلان أو رجلٌ وامرأتان. قال تعالى: (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) البقرة282.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/189)
وورد التسهيل هنا من جهة العدد ومن جهة قبول شهادة النساء لكثرة التعاملات المالية وأنها تعمُّ عادة أكثر الناس وَفُهِمَ منه قبول الرجل والمرأتين مع وجود الرجلين. ولغير ذلك من عقوبة لله تعالى كالشرب وقطع الطريق والردة أو عقوبة لآدمي كالقصاص في النف سأو الطرَف وحدِّ القذف ما يطلع عليه رجال غالباً كنكاح وطلاق ورجعة وإسلام وردة وجرح وتعديل وموت وإعسار ووكالة ووصاية وشهادةٍ على شهادة فيشترط في الشهادة رجلان لا رجل وامرأتان فقد روى الإمام مالك عن الزهري أنه قال: (مضت السنة أن لا تجوز شهادةالنساء في الحدود ولا في النكاح والطلاق) وقيس على الثلاثة باقي المذكورات. وروى أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن أبي موسى الأشعري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)).
وما يختص بعرفته النساء غالباً أو لا يراه الرجال غالباً كبكارة وولادة وحيض ورضاع وعيوب تحت الثياب كجراحة على فرج الأنثى يثبت بما سبق أي برجلين وبرجل وامرأتين وبأربع نسوة يثبت أيضاً للحاجة إليهن هنا أما عيوب الوجه واليد فلا يثبت إلا برجلين إن لم يقصد به المال فإذا ٌُصِدَ به المال ثبت بشهادة رجلين وامرأتين.
روى ابن أبي شيبة في مسنده عن الزهري أنه قال: (مضت السنة بأنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن) وقوله مضت السنة أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وإلا يثبت برجلين وامرأتين لايثبت برجل ويمين لأن الرجل والمرأتين أقوى فإن لم يثبت بالأقوى فالأضعف أولى وما يثبت بهم أي برجل وامرأتين ثبت برجل ويمين لما روى الإمام مسلم وغيره عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضر بشاهد ويمين).
وروى الدارقطني بسند ضعيف عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استشرت جبريل في القضاء باليمين والشاهد فأشار عليَّ بالأموال لا تعدو ذلك)).
إلا عيوب النساء ونحوَهَا فلا تثبت برجل ويمين لأنها أمور خطيرة بخلاف المال. ولا يثبت شيء من الحقوق بامرأتين ويمين لضعفهما ولعدم ورود ذلك.
ثم شرع في بيان مسألة الاكتفاء بشاهد ويمين فقال: وإنما يحلف المدعي فيها بعد شهادة شاهده وتعديله لأن جانبه يقوى عندئذ واليمين أبداً في جانب القوى ويذكر المدعي وجوباً في حلفه صِدْقَ الشاهد فيقول والله إن شاهدي لصدق فيما يقول وإني مستحق لكذا.
فإن ترك الحلف وطلب يمين خصمه بعد شهادة الشاهد فله ذلك لأ، الورع قد يدفعه للامتناع عن اليمين فإن حلف الخصم سقطت الدعوى فإن نكل الخصم عن اليمين فله أي للمدعي أن يحلف يمين الردِّ في الأظهر كما لو لم يكن معه شاهد لأن هذه اليمين غير التي امتنع عنها أولاً.
ولوو كان بيده أي بيد الشخص أمَةٌ وولدها يسترقهما فقال الرجل هذه مستولدتي علقت بهذا الولد في ملكي وحلف مع شاهد بذلك أو شهد له رجل وامرأتان بذلك ثبت الاستيلاد لأ، حكم المستولدة حكم المال فتُسَلَّمُ إليه وإذا مات حُكِمَ بعتقها بإقرراره لا بالشاهد واليمين. لا نسب الولد وحريته فلا يثبتان بالشاهد واليمين وفي الأظهر فيبقى الولد في يد صاحب اليد لنقصان البينة ولو كان بيده غلام رقيقاً فقال رجل كان هذا الغلام لي وأعتقته وحلف مع شاهد أو شهد له رجل وامرأتان بذلك فالمذهب انتزاعه من يده ومصيره حراً لا بالشهادة ولكن بإقراره وإن تضمن الولاء لأن الولاء تابع وليس أصلاً. ولو ادعت ورثةٌ مالاً لمورثهم وأقاموا شاهداً بالمال وحلف معه أي مع الشاهد بعضهم أخذ الحالف نصيبه فقط ولا يُشَارك فيه من الورثة الآخرين لأن الحجة تمت في حقه وحده ويبطل حق مَنْ لم يحلف بنكوله عن اليمين مع الشاهد إن حضر في البلد وهو كاملٌ ببلوغ وعقل فإن كان من لم يحلف غائباً أو صبياً أو مجنوناً فالمذهب أنه لا يقبض نصيبه بل يوقف الأمر إلى علمه أو حضوره أو كماله فإذا زال عذره بأن علم أو قدم أو بلغ أو أفاق حلف وأخذ حصته بغير إعادة شهادة ومن غير دعوى جديدة لأنها وجدت أولاً من الكامل ولا تجوز شهادة على فعل كزنا وغصب وإتلاف وولادة ورضاع إلا بالإبصار له مع فاعله لأنه يصل به إلى اليقين. قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الإسراء36، وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف86. وأخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي في السنن عن بن عباس (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/190)
فقال: هل ترى الشهادة؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو فدع).
وتقبل في الفعل من أصم لإبصاره ويجوز لمن أراد تحمل الشهادة على فعل الزنا تعمد النظر لفرجي الزانيين لأنهما هتكا حرمة أنفسهما والأقوال كعقد وفسخ وطلاق وإقرار يشترط في الشاهد بها سمْعُهَا وعلى هذا لا تقبل شهادة الأصمِّ فيها ولا يُقْبَلُ شهادة أعمى فيما سبيل معرفته الإبصار لإمكان اشتباه الأصوات وقد يحاكي الإنسان صوت غيره إلا أن يُقِرَّ في أذنه شخص بنحو طلاق أو عتق أو مال لشخص معروف الاسم والنسب فيتعلق الأعمى به حتى يشهد عليه عند قاضٍ به أي بما سمعه منه فيقبل على الصحيح لحصول العلم بأنه المشهود عليه. ولو حملها أي الشهادة بصير ثم عَمِيَ شهد إن كان المشهود له والمشهود عليه معروفي الاسم والنسب فيقول عند الشهادة: أشهد أن فلانَ بن فلانٍ فعل كذا أو أقرّ به لأ، ه في هذا كالبصير أما في مجهول الاسم والنسب فلا تقبل شهادته ولا في مجهول أحدهما ومن سمع قولَ شخصٍ أو رأى فِعْلَهُ فإن عَرَفَ عينه واسمه ونسبه شهد عليه في حضور إشارة لا باسمه ونسبه فقط وعند غيبته وموته يشهد عليه باسمه ونسبه معاً لحصول التمييز بذلك فإن جهلهما أي اسمه ونسبه أو أحدهما لم يشهد عند موته ودفنه وغيبته فإن مات ولم يدفن أُحْضِرَ ليشاهد صورته ويشهد على عينه إن لم يُخْشَ تغييره بإحضاره وإن خُشيَ عليه التغيير حضر الشاهد إليه ليشاهد صورته ولا يصح تَحمُّلُ شهادة على مُتَنَقبةٍ اعتماداً على صوتها لا مكان تشابه الأصوات فإن عرفها باسم ونسب جاز التحمل عليها وهي منتقبة ويجوز كشف الوجه عندئذ ويشهد المتحمل على المنتقبة عند الأداء بما يعلم فيشهد في العلم بعينها عند حضورها وفي العلم بالاسم والنسب عند غيبتها وموتها. ولا يجوز التحمل عليها أي المرأة بتعريف عدل أو عدلين على الأشهر إلا إذا أُمِن تواطؤهم على الكذب والعمل على خلافه أي على خلاف الأشهر وهو الاكتفاء بالتعريف من عدل أو عدلين ولو قامت بينةٌ على عينه أي المدَّعى عليه بحق فطلب المُدَّعِي التسجيل بذلك سجَّلَ له القاضي وذلك جوازاً بالحلية فيكتب القاضي حَضَرَ رجلٌ ذَكَرَ أنه فلان بن فلان ومن حليته أي صفته أي صفته كذا وكذا لا الاسم والنسب ما لم يثبتا ببينة أو بعلم القاضي ولا يكفي فيهما قول المدَّعِي ولا إقرار مَنْ قامت عليه البينة لأن نسب الشخص لا يثبت بإقراره وإنما يثبت ببينة حسبة فإذا قامت عند القاضي بنسبه سُجِّلَ به مع صفته التي تميزه وله الشهادة بالتسامع أي بالاستفاضة على نسب وإن لن يعرف عين المنسوب إليه من أب أو قبيلة فيشهد أنه من قبيلة كذا وكذا أمٍّ في الأصح فيقبل النسب إليها بالتسامع كالأب وقيل لا يقبل التسامع لإمكان رؤية الولادة خلافاً للأب والقبيلة لأنه لا مدخل للرؤية فيه وموت يثبت بالتسامع على النذهب لا عتق وولاء ووقف ونكاح ومِلْك في الأصح لأ، مشاهدة ذلك ممكنة وأسبابها معلومة قلت الأصح عند المحققين والأكثرين من أهل المذهب في الجميع الجواز والله أعلم لأن هذه الأمور إذا طالت عَسُرَ إثبات ابتدائها فقُبِلَ في الشهادة عليه التسامع وصورة الاستفاضة بالملك أن يستفيض بين الناس أنه مِلْكُ فلان من غير الإضافة إلى سبب.
وشرط التسامع الذي تستند الشهادة إليه سماعُهُ أي المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم على الكذب أي توافقهم عليه فيقع العلم أو الظنُّ القوي بصدق خبرهم وقيل يكفي سماعه من عدلين إذا اطمأن القلب إليهما ولا تجوز الشهادة على مِلْكٍ بمجرد يدٍ أو تصرف لأ، ذلك قد يكون بملك أو بغير ملك فلا تقبل الشهادة بمجرد اليد إذ قد يكون اليد أو التصرف عن إجارة أو عارية أو وكالة. ولا بيد وتصرف في مدة قصيرة لاحتمال أنه وكيل عن غيره وتجوز الشهادة في مدة طويلة عرفاً بشرط عدم وجود منازع في الأصح لأن امتداد اليد والتصرف مع طول الزمان ولا منازع يغلب على الظن الملك وشرطه أي التصرف المفيد للملك تصرف مُلَّاك من سكنى وهدم وبناء وبيع ورهن لأن ذلك يدل على الملك والتصرف في المملوك يقوي ذلك وتُبنى شهادة الاعسار على قرائن ومخايل أي علامات تدل الضُّرِ والإضاقة أي قلة المال والفقر.
? فصل في تحمل الشهادة وأدائها وكتابة الصك ?
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/191)
تحمّلُ الشهادة فرض كفاية في النكاح وكذا الإقرار والتصرف المالي فلو امتنع الكل أثموا ومعنى تحمل الشهادة هو المعرفة والإحاطة والحفظ لما يُشْهَدُ به والتكنية بالتحمل دليل على أن الشهادة من أعلى وأهم وأثقل الأمانات التي يُحْتَاجُ لحملها وكتابة الصك أي الوثيقة المكتوبة لحفظ الأموال وغيرها في الأصح فعقد النكاح يتوقف على الإشهاد عليه وبقية العقود تحتاج للإشهاد للحاجة إلى إثباتها عند التنازع.
وإذا لم يكن في القضية المشهود بها إلا اثنان وذلك بأن لم يتحمل الشهادة سواهما أو مات أو غاب فُسِّقَ غيرهما لزمها الأداء إذا دعيا لأداء الشهادة، قال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) البقرة283، وقال تعالى: (ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا) البقرة282.
فلو أدى واحد الشهادة وامتنع الآخر من أدائها وقال للمدعي إحلف معه أي مع الشاهد عصي لأن من مقاصد الاستشهاد التورع عن اليمين وإن كان في القضية شهود أي من أكثر من اثنين فالأداء للشهادة فرض كفاية لحصول الغرض ببعضهم فلو طَلَبَ المدعي الأداء من اثنين لزمها في الأصح لأن الامتناع عن الشهادة يفضي إلى التواكل وإن لم يكن إلا شاهدٌ واحدٌ لَزِمَهُ الأداء إن كان الحق فيما يثبت بشاهد ويمين وهو ما كان مالاً أو كان المقصود منه المال وإلا يثبت الحقُّ بشاهد ويمين فلا يلزمه الأداء إذ لا فائدة من أدائه وقيل لا يلزم الأداء إلا من تجمل قصداً لا اتفاقاً من غير قصد لأنه لم يقصد الالتزام والأصح يلزمه الأداء أمانة حصلت عنده.
ولوجوب الأداء شرود: أن يُدْعى لأداء الشهادة من مسافة العدوى فأقل مسافة العدوى هي التي يتمكن مَنْ خَرَجَ من بيته مبكراً أن يعود إليه في يومه وقيل دون مسافة القصر وهي أزيد من مسافة العدوى فإن دُعِي من مسافة القصر لم يجب عليه الإجابة للبعد. وأن يكون عدلاً فإن دُعِي للشهادة ذو فِسْقٍ مجمع عليه أي مجمع على فسقه كشارب الخمر وقيل أو مختلف فيه كشارب للأنبذة لمْ يَجبْ عليه الأداء إذا كان القاضي يفسقه ولا يقبل شهادته وأن لا يكون معذوراً بمرض ونحوه كخوفه على ماله أو تعطل كسبه أو طلب في حرٍّ أو بردٍ أو كانت المرأة مخدرة غير بزرة تظهر بين الرجال عادة فإن كان المدعو معذوراً وأشهد على شهادته وجوباً إن طلب منه ذلك وخيف ضياع الحق لو لم يشهد أو بعث القاضي من يسمعها منه دفعاً للمشقة عنه.
? فصل في الشهادة على الشهادة ?
تُقْبلُ الشهادة على الشهادة لعموم قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) الطلاق2، فلم يفرق بين الشهادة بالحق أو بالشهادة على شهود الحق في غير عقوبة لله تعالى فتقبل في مال وعقد وفسخ وطلاق وولادة ورضاع ووقف زكاة وفي عقوبة لآدمي كقصاص وحدِّ قذف تقبل على المذهب لبناء آدمي على المشاحة وأما حدود الله سبحانه وتعالى وهي: حدُّ الزنا وحدُّ السرقة وحدُّ قطع الطريق وحدُّ الخمر فمندوب إلى سترها فلا تقبل فيها الشهادة على الشهادة في الأظهر وتحملها بأن يسترعيه أي يطلب منه رعاية الشهادة وحفظها حتى يؤديها عنه لأنها نيابة فاعتبر بها إذن المنوب فيقول الشاهد لمن ناب في حمل الشهادة أنا شاهد بكذا وأشهدك أو أشهد على شهادتي أو إذا طُلِبَ منك الشهادة على شهادتي فلا مانع عندي في ذلك أو يسمعه يشهد عند قاضي أن لفلان على فلان كذا فله أن يشهد على شهادته أو يسمعه يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً عن ثمن مبيع أو غبره كقرض مثلاً فيجوز الشهادة على قوله لأنه أسنده إلى سبب معين فامتنع التلاعب بالقول أو الوعد بالمشهود به وفي هذا الأخير وجه أنه لابد من الإذن بالشهادة منعاً لتساهل الشاهد وتوسعه في القول فلا يكفي في سماع قوله لفلان على فلان كذا أو أشهد بكذا أو عندي شهادة كذا لاحتمال أن يريد أن له عليه ذلك من جهة أنه وعده بذلك لأن الناس يتساهلون في إطلاق ذلك.
وليبين الشاهد الفرع وهو الذي تحمل الشهادة عن الشاهد الأصلي عند الأداء جهة التحمل فإن سمع شاهد الأصل يشهد بحق مضاف إلى سبب فإنه يقول أشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا من ثمن مبيع أو أجرة أو غير ذلك. وإن سمعه يشهد عند القاضي أو المحكَّمِ ذكر ذلك وإن استرعاه الأصل قال أشهد أن فلاناً شهد أن لفلان على فلان كذا وأشهرني على شهادته.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/192)
لإغن لم يبين جهة التحمل ووثق القاضي بعلمه فلا بأس في قبول ذلك لتحقق الغرض فيقول أشهد على شهادة فلان بكذا ولا يصح العمل على شهادة مردود الشهادة بفسق أو عداوة لأن بطلان الأصل يستلزم بطلان الفرع.
ولا تحْمِلُ النسوة أي لا تقبل شهادتهن على شهادة غيرهن ولو على مثلهن في نحو ولادة لأن الشهادة على الشهادة مما يطلع عليه الرجلان وشهادة الفرع إنما تثبت شهادة الأصل فإن مات الأصل أو غاب أو مرض لم يمْننَعْ ذلك شهادة الفرع لتعذر حضور شهادة الأصل فأصبح الفرع محلها. وإن حدث ردةٌ أو فسقٌ أو عداوةٌ مَنَعَتْ هذه الأمور شهادة الفرع.
وجُنُونه وخرسه وعماه كموته أي جنون الأصل وخره وعماه يجيز شهادة الفرع على الصحيح فلا يؤثر لأنه لا يوقع ريبة في الماضي.
ولو تحمَّلَ فرعٌ فاسقٌ أو عبدٌ أو صبي فأدى وهو كامل قُبلت شهادته إذ الاعتبار بوقت الأداء. ويكفي شهادة اثنين على الشاهدين وذلك بأن يشهد شاهدان على أحد شاهدي الأصل ثم شهد نفس الشاهدان على شهادة شاهد الأصل الثاني.
وفي قول يُشْتَرَط لكل رجل أو امرأة من الأصول اثنان لأنهما إذا أثبتا شهادة أصل قاما بشطر البينة فلا يمكن قيامهما بالشطر الثاني أي من ثبت به أحد طرفي الشهادة لا يجوز أن يثبت به الطرف الآخر والأول أصح لأنهما شهدا على قول اثنين فقبلا.
وشرط قبولها أي قبول شهادة الفرع تعذُّر أو تَعسرُ الأصيل بموت أو عمى أو مرض يشق به حضوره أو غيبة لمسافة عدوى وقيل قصر لأن ما دون ذلك في حكم الحَضَر وأن يسمّى الأصول ليعرف القاضي عدالتهم ويتمكن الخصم من القدح فيهم ولا يشترط أن يزكيهم الفروع ولا أن يتعرضوا لصدقهم بل لهم إطلاق الشهادة والقاضي هو الذي يبحث عن عدالتهم فإ زكوهم وهم من أهل ذلك قُبِلَ ذلك منهم ولو شهدوا على شهادة عدلين أو شهادة عُدُول ولو يسموهم لم يَجزْ أي لم يكفِ ذلك لأن ذلك يسدَّ باب الجرح على الخصم كما أن القاضي قد يعرفهم عند تسميتهم فيردَّ شهادتهم.
? فصل في الرجوع عن الشهادة ?
إذا رجعوا أ ي الشهود عن الشهادة قبل الحكم امتنع الحكم بشهادتهم لأنه لم تبقَ شهادة يحْكُمُ بها القاضي أو رجع الشهود بعده أي بعد الحكم وقبل استيفاء مال شهدوا به استوفيَ المال لأن القضاء قد تمَّ والشبهة لا تؤثر به أو عقوبة سواء كانت لله تعالى أم لآدمي كحدِّ الزنا وحد القذف فلا تستوفى تلك العقوبة لأنها مما يسقط بالشبهة والرجوع شبهة بل هو أقوى شبهة.
فإن كان المُسْتوفى قصاصاً أو قتلَ ردة أو رَجْمَ زنا أو جَلْدَهُ ومات المجلود وقالوا تعمدنا شهادة الزور فعليهم قصاص أو دية مغلظة موزعة على عدد رؤوسهم وعلى القاضي قصاص إن رجع وحده دون الشهود وقال تعمدتُ الحكم بشهادة الزور وإن رجع هو أي القاضي وهم أي الشهود فعلى الجميع قصاص أو دية مغلظة لنسبة الهلاك إليهم جميعاً عدواناً فإن قالوا أخطأنا أو عُفِي على مالٍ فغليه أي القاضي نصف دية وعليهم أي الشهود نصف منها توزيعاً على المباشرة والسبب.
ولو رجع مُزَكٍ وحده عن تعديل الشهود فالأصح أنه يضمنلأنه بتزكية الشهود دفع القاضي إلى الحكم أو رجع وليُّ الدم وحده دون الشهود فعليه قصاص أو دية كاملة لأنه المباشر للقتل أو رجع وليُّ الدم مع الشهود فكذلك على الولي وحده القصاص أو الدية لأنه مباشر للقتل وقيل هو أي القاضي وهم أي الشهود شركاء لتعاونهم على القتل فعلى الجميع القصاص أو الدية نصفها على الولي وحده ونصفها الآخر على الشهود توزيعاً على المباشرة والسبب.
ولو شهدا بطلاقٍ بائنٍ أو رضاعٍ مُحَرِّم أو لعان وفَرَّقَ القاضي بين الشهود عليه وزوحته فرجعا دام الفراق لأن الحكم لا ينقض بالشبهة وعليهم عوض يساوي مَهْرُ مثلٍ لتفويتهم على الزوج حقه في زوجته وفي قول نصفه إن كان الفراق قبل وطء الذي فات على الزوج نصف المهر ولو شهدا بطلاق بائنٍ وفَرَّقَ قاضٍ بين الزوجين فرجعا أي رجع الشاهدان عن شهادتهما فقامت بينة أنه كان بينهما رضاع مُحَّرم فلا غُرْمَ لأن شهادتهما لم تفوف على الزوج شيئاً ولو رجع شهود مال بعد دفعة للخصم غرموا في الأظهر لأنهم حالوا بين المشهود عليه وماله.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/193)
ومتى رجعوا كلهم وزع عليهم الغُرْمُ بالسوية عند اتحاد نوعهم أو رجع بعضهم وبقي منهم نِصاب الشهادة كثلاثة رجع أحدهم في غير زنا أو خمسة رجع أحدهم في زنا فلا غَرْمَ على الراجع لقيام الحجة بغيره وقيل يغرم قسطه لأن الحكم استند إليهم جميعاً.
وإن نقص النصاب بعد رجوع البعض عن الشهادة ولم يزد الشهود عليه أي على النصاب فسقط الحدُّ برجوع البعض فقسطٌ يلزم الراجع منهم فإن شهد اثنان ورجع أحدهما فنصف الحق يغرمه الراجع وإن زاد عدد الشهود على النصاب كما إذا رجع من الخمسة في الزنا اثنان أو من الثلاثة في غيره اثنان فقط من النصاب في الأصح بناءً على أنه لا غرم إذا بقي من الشهود نصاب فيغرم الرجعان من الثلاثة النصف لبقاء نصف الحجة وقيل قسط من العدد يغرمه الراجع فإذا رجع اثنان من ثلاثة فيجب عليهما الثلثان قياساً على الاتلاف إذا استووا فيه وإن شهد رجل وامرأتان ورجعوا فعليه نصف وهما نصف أو شهد الرجل وأربعٌ من النساء في رضاع ورجعوا فعليه ثلث وهنَّ ثلثان فإن رجع هو أو رجع ثنتان من النسوة فلا غرم على من رجع في الأصح لبقاء الحجة وإن شهد هو أي الرجل وأربع من النسوة بمال ورجعوا فقيل كرضاع فيكون عليه ثلث وعليهن ثلثان والأصح هو عليه نصف وهن نصف سواءٌ رَجعْنَ معه أو وحدهن لأنه نصف الحجة وهن نصف إذ لا يثبت المال بالنساء المنفردات دون الرجال. وإن رجع ثنتان منهن فالأصح لا غُرْمَ عليهما لبقاء الحجة فإن رجع النسوة الأربع أو الرجل وامرأتان فعلى الراجع نصف لبقاء نصف الحجة.
وأن شهود إحصان أو صفة مع شهود تعليق طلاق أو عتق إذا رجعوا عن شهادتهم لا يغرمون في الأصح كأن قال شاهدا الإحصان أو الصفة أخطأنا في شهادتنا بإحصانه فإنه ما وطيء في نكاح صحيح أو قالا عند الرجوع ما كان الذي شهدنا عليه محصناً وكونهم لا يغرمون لأنهم لم يشهدوا بموجب عقوبة إنما شهدوا بإثبات صفة هي شرط لا سبب والحكم إنما يضاف لسبب لا للشرط.
? كتاب الدعوى والبينات ?
الدعوى لغة الطلب والتمني قال تعالى: (ولهم ما يدعون يس57. وجمعها دعاوى وشرعاً إخبارٌ بحق له عند غيره أمام الحاكم.
و البيان جمع بينة وهوالشهود وسموا بذلك لأن بهم يتبين الحق. قال تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) النور48.
وروى الشيخان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى ناسٌ دماءَ رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدَّعى عليه)).
وروى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس (البينة على المُدَّعِي واليمين على المدعى عليه). ومعناه توقّفُ استحقاق المدَّعِي على البينة لضعف جانبه بادعائه خلاف الأصل وبراءة المدَّعى عليه باليمين لقوة جانبه بأصل البراءة.
قال المصنف رحمه الله تشترط الدعوى عند قاضٍ في عقوبة لآدمي كقصاص وحدِّ قذف فلا يجوز للمستحق أخذها استقلالاً بنفسه لعظم خطرها والاحتياط في اثباتها وإن استحق شخص عيناً عند آخر بملك أو وصية أو إجارة أو نحو ذلك فله أخذها دون رفع إلى القاضي إن لم يخفْ فتنة وإلا أي وإن خاف فتنة أي مفسدة إن أخذها وجب الرفع إلى قاضٍ أو إلى غيره ممن يقدر على إلزام الحقوق أو ادعى ديناً على غير ممتنع منالأداء طالبه به ليؤدي ما عليه ولا يحلُّ أي يحرم أخذ شيء له فإن أخذ شيئاً لزمه رده ويضمنه إن تلف أو استحق ديناً على منكر ولا بينة للمدَّعِي أو كان القاضي جائراً لا يحكم إلا برشوة أخذ جنس حقه من ماله إن ظفر به لعجزه عن حقه إلا بذلك وكذا غير جنس حقه إن فقده أي لم يجد جنس حقه على المذهب اعتباراً بالضرورة أو كان حقه على مقرٍّ ممتنع من الأداء أو منكر للحق أصلاً وله بينةٌ فكذلك أي يأخذ حقه استقلالاً لعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بهذه الطريق وقيل يجب الرفع إلى قاضٍ لإمكان ذلك رغم المشقة والمؤنة وتضييع الوقت حفاظاً على هيبة القضاء ومنعاً لاتساع المفسدة وإذا جاز الأخذ للحق من غير الرفع إلى قاضٍ فله أي المستحق كسر باب ونقب جدار للمدين لا يصل إلى المال إلا به لأن من استحق شيئاً استحق الوصول إليه ولا يضمن ما أتلفه كما أتلف مال صائل تعذر دفعه إلا بإتلافه ثم إن كان المأخوذ من جنسه أي من جنس حقه يتملكه بدلاً عن حقه ومن غيره أي إذا كان المأخوذ من غير جنس حقه يبيعه بنقد البلد وإن لم يكن جنس حقه ويشتري به صفة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/194)
حقة ويتملكه وقيل يجب رفعه أي المأخوذ إلى قاضٍ يبيعُهُ لأنه غير مؤهل للتصرف في مال غيره لصالح نفسه والمأخوذ مضمون عليه أي على الأخذ في الأصح فيضمنه إن تلف قبل تملكه وبيعه ويضمن ثمنه إن تلف بعد البيع وقبل شراء جنس ماله ولا يأخذ المستحق فوق حقه إن أمكن الاقتصار على قدر حقه لحصول المقصود فإن زاد على حقه ضمن الزيادة.
ولو أخذ مال غريم غريمه كأن يكون لزيد على عمرو دينٌ ولعمرو على بكرٍ مثله فلزيدٍ أن يأخذ من مال بكرٍ مالَهُ على عمروٍ ولا يمنع من ذلك تكذيب عمرو لإقرار بكر له أو جحود بكر استحقاق زيد على عمرو.
والأظهر أن المدَّعِي هو من يخالف قولُهُ الظاهر وهو براءة الذمة والمدَّعى عليه في الاظهر من يوافقه أي يوافق قوله الظاهر. فإذا أسلم زوجان قبل وطء فقال أي الزوج أسلمنا معاً فالنكاح باقٍ بيننا وقالت أي الزوجة أسلمنا مرتباً فلا نكاح بيننا فهو على الأظهر مدعٍ لأن ما قاله خلاف الظاهر وهو أن يقع إسلامهما معاً وهي مدَّعى عليها فإذا حلفت ارتفع النكاح وإذا قلنا هي مدعية وهو مدَّعى عليه لزعمها انفساخ النكاح فإذا حلف الزوج استمر النكاح ومتى ادعى شخص ديناً نقداً اشترط فيه لصحة الدعوى وإن كان في البلد نقدٌ غالبٌ بيان جنس له كذهب أو فضة أو ريال أو دولار أو دينار ونوع كخالص إذا كالن من الذه بأو مغشوش وبيان نسبة الغش وقدر كألف أو مئة ألف وصحة وتكسر إن اختلفت بها قيمة لأن شرط الدعوى أن تكون معلومة أو ادعى على شخص عيناً تنضبط بالصفة كحيوان وحبوب وثياب وصفها وجوباً بصفة السلم لأنها بذلك تتميز تميزاً كاملاً وقيل يجب معها أي مع صفة السلم ذكر القيمة إن كانت متقومة احتياطاً أو المثلية فيكفي الضبط بصفات السلم. فإن تلفت وهي متقوِّمة وجب ذكر القيمة لأ، ها الواجبة عند تلف العين المتقوِّمة.
أو ادعى نكاحاً لم يكف الإطلاق بأن يقول نكحتهاأو هذه زوجتي بل يقول نكحتها نكاحاً صحيحاً بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها أي رضا الزوجة إن كان يُشْتَرَطُ رضاها إذا كانت غير مُجْبَرةٍ لأن النكاح فيه حقٌ لله تعالى إلى جانب حق الآدمي فاحتيط له أما في الأموال فيكفي الإطلاق فإن كانت الزوجة أمة أي بها رقٌّ فالأصح وجوب ذكر العجز عن طَوْلٍ أي مهر ينكح به حرة أو يذكر الزوج المسلم إسلامها قال تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) النساء25. وخوف عنت أي زنا لأنه ليس تحته حرة تصلح للوطء أو ادعى عقداً مالياً كبيع وهبة ومن قامت عليه بينةٌ بحقٍ ليس له تحليف المدَّعِي على استحقاق ما ادعاه لأن ذلك كالطعن في الشهود فإن ادعى بعد إقامة البينة مُسْقِطاً كأ، ادعى عليه أداءً للحق أو إبراءً منه أو شراء عين من مدعيها أو هبتها وإقباضها منه حلفه الخصم على نفيه أي حلفه على نفي ما ادعاه فيحلف أنه ما تأدى منه الحق ولا أبرأه منه ولا باعه العين ولا وهبه إياها وكذا أي وله تحليفه أيضاً لو ادعى الخصم علمه أي علم المدّعي بفسق شاهده أو كذبه في الأصخ لأن إقرار المدعي بذلك يبطل الشهادة.
وإذا استمهل أي من قامت عليه البينة مُهْلةً ليأتي بدافع يردُّ البينة أُمْهِلَ ثلاثة أيام غير يومي الإمهال والعود بالدافع وهي مدة لا يعظم فيها الضرر على صاحب البينة ولو ادعى رقّ بالغٍ عاقلٍ أنا حرٌ فالقول قوله أي البالغ وعلى المدَّعي البيةُ وإن كان رقيقاً وتداولته الأيدي لأن الأصل في الإنسان الحرية.
أو ادَّعى رِقَّ صغير ليس في يده لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل عدم الملك أو ادعى رقَّ صغير في يده حُكِمَ له به إن لم يُعْرف استنادها أي اليد إلى التقاط فإن عُرِفَ استنادها إلى التقاط لم يُقْبَلْ قوله إلا ببينة.
ولو أنكر الصغير وهو مميز كونه رقيقاً فإنكاره لغوٌ لعدم اعتبار قوله وقيل هو كبالغ فلا يقبل القول برقه إلا ببينة.
ولا تسمع دعوى دين مؤجل في الأصح إذ لا يتعلق بها مطالبة في الحال والزام بالحقِّ فلا معنى للدعوى ولكن إذا كان بعض الدَّين حالّاً وبعضه مؤجلاً سمعت الدعوى به كله ويكون الكؤجل تبعاً للحال.
? فصل في جواب المدَّعى عليه ?
إذا أصرّ المدَّعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى جُعِلَ كمنكرٍ ناكلٍ فترد اليمين على الدَّعِي بعد أن يقول القاضي للمدَّعى عليه أجب على دعواه وإلا جعلتك ناكلاً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/195)
فإن ادعى شخص على شخص عشرة مثلاً فقال المدَّعى عليه لا تلزمني العشرة لم يكفِ ذلك في الجواب حتى يقول ولا يلزمني بعضها وكذا يَحْلِفُ إن طُلِبَ منه ذلك لوجوب تطابق الإنكار واليمين للدعوى فإن حَلَفَ على نفي العشرة واقتصر عليه أي على النفي للعشرة فناكل لما دون العشرة فيحلف المدَّعي على استحقاق دون العشرة بِجُزءٍ ولو كان قليلاً ويأخذُهُ لأن النكول على اليمين مع يمين الخصم كالإقرارولو ادعى شخص على آخر مالاً فأنكر وطلب منه اليمين فقال لا أحلف وأعطى المال بلا يمين لم يلزمه قبول من غير إقرار وله تحليفه لأنه لا يأمن أن يدعي عليه بما دفعه بعد ذلك وكذا لو نكل عن اليمين وأراد المدعي أن يحلف يمين الردِّ فقال خصمه أنا أبذل المال بلا يمين فيلزمه الحاكم بأن يقرَّ وإلا حلف المدَّعي.
وإذا ادعى مالاً مضافاً إلى سبب كأقرضتك كذا كفاه في الجواب على الدعوى أنت لا تستحق عليَّ شيئاً أو لا يلزمني دفع شيء إليك أو ادعى عليه شفعة كفاه في الجواب أن يقول: لا تستحق عليَّ شيئاً أو لا تستحق تَسْليمَ الشقص لأن المدعي قد يكون صادقاً ولكن عرض ما يسقط الدعوى يحلف المدَّعى عليه على حَسَبِ جوابه هذا أو يحلف على نفي السبب ليتطابق الحلف والجواب.
فإن أجاب بنفي السبب المذكور فب الدعوى حلف عليه ليطابق الحلفُ الجوابَ وقيل له الحلفُ بالنفي المطلق ولا يتعرض لنفي السبب ولو تعرض له جاز ذلك فقد روى مسلم عن وائل بن حجر (أن رجلاً من حضرموت أتى ومعه رجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها ولا حق له فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ فقال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك يمينُهُ، فقال: إنه فاجر لا يبالي على ما حلفَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك منه إلا ذلك).
ولو كان بيده مرهونٌ أو مُكْرى وادعاه مالكه كفاه في الجواب على الدعوى لا يلزمُني تسليمُهُ إليك ولا يلزم بالتعرض لسبب الملك لأن الجواب كافٍ فلو اعترف للمدعي بالملك وادعى بعد ذلك الرهن والإجارة وكذبه المدَّعي فالصحيح أنه لا يقبل ذلك منه إلا ببينة لأن الأصل عدم الرهن والإجارة فإن عَجِزَ عنها وخاف أولاً أنه إن اعترف للمدعي بالملك جَحْدُهُ الرهن والإجارة مخيلتُهُ أن يقول في الجواب على المدَّعي إن ادعيت عليَّ مِلْكاً مطلقاً أي من غير رهن وإجارة فلا يلزمني تسليمٌ لما ادعيته عليَّ وإن ادعيت عليَّ مِلْكاً مرهوناً فاذكره لأجيب عنه وهذا ليس بإقرار.
وإذا ادعى عليه عيناً عقاراً أو منقولاً فقال في جوابه ليس هي لي أو قال هي لرجل لا أعرفه أو قال هي لابني الطفل أو قال هي وقف على الفقراء أو مسجد كذا فالأصح أنه لا تنصرف عنه الخصومة عنه ولا تنزع العين منه لأن الظاهر أن ما في يده مِلْكَهُ وأن ما صدر منه من قول ليس بإقرار للمدَّعي ولا بمزيل ليده عن العين بل يحلفه المدعي على أنه لا يلزمه التسليم للعين فإن أقرَّ أو نكل حلف المدَّعي وثبتت له العين أو بدلها إن لم تكن بينة بها.
وإن أقرَّ به أي العقار أو المنقول المدَّعى به لمعين حاضر بالبلد يمكن مخاصمته وتحليفه سُئِل عن ذلك فإن صدقه انصرفت الخصومة عن المدَّعى عليه وصارت الخصومة معه لصيرورة اليد على المدّعى به له والخصومة إنما تقوم بين متنازعين وإن كذبه الحاضر ترك في يد المقرِّ وقيل يُسَلَّمُ إلى المدعي إذ لا طالب للعين غيره وقيل يحفظه الحاكم لظهور مالك له لأن في يده العين قد أسقط حقه منه بالإقرار والمُقَرُّ له قد أسقط حقه بردِّ الإقرار ولا بينة للمدَّعي فصار كلقطة لا يُعْرَفُ مالكها فكان على الحاكم حفظه فإن أقرَّ به لغائب فالأصح انصراف الخصومة عنه ويوقف الأمر في الإقرار بالمدَّعى به حتى يَقْدُمَ ذلك الغائب فإذا قَدِمَ الغائب وصدقه أخذه وصارت الخصومة معه هذا إذا لم يكن بينة للمدَّعِي فإن كان للمدَّعي بينة قضى الحاكم له بها سلمت له العين وهو قضاء على غائب فيحلف المدَّعي معها أي مع البينة لأن العين صارت له بحكم الإقرار وقيل بل هو قضاء على حاضر إذ الخصومة أصلاً له فلا يحلف مع البينة وما قُبِلَ إقرار عبد به كعقوبة لآدمي فالدعوى بذلك عليه أي على العبد وعليه الجواب لها ليرتب الحكم على قوله وما لا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/196)
يقبل إقراره منه كأرش لتعييب وضمان متلف فعلى السيد الدعوى به والجواب لأن الأمر متعلق برقبة العبد وهي حق للسيد دون العبد.
? فصل في كيفية الحلف والتغليظ فيه وضابط الحالف ?
تُغلَّظُ ندباً يمين مُدَّعٍ ومدَّعى عليه فيما ليس بمالٍ ولا يقصد به مالٌ كدعوى دم ونكاح وطلاق ولعان وعتق ووصاية وذلك بأن يحلف على كونه وصياً على من أنكرها ودعوى وكالة وفي مالٍ يبلغ نصاب زكاة ونصاب الزكاة عشرون مثقالاً ذهباً وهو المعتبر شرعاً ولا تغليظ فيما روى ذلك لأن الموصوف في نزر الشرع والذي تجب فيه المواساة هو عشرون مثقالاً والمعنى في التغليظ أن اليمين موضوعة للزجر عن التعدي فشرع التغليظ مبالغة وتأكيداً للردع فاختص بما هو متأكد في نظر الشرع وسبق بيان التغليظ في اللعان بالزمان وهو بعد عصر الجمعة وفي المكان وهو عند منبر الجامع وحضور جمع الناس.
ويحلف على البتِّ في فعله إثباتاً أو نفاياً لأنه يعلم حال نفسه فيقول في البيع والشراء في الإثبات والله لقج بعتُّ بكذا أو اشتريت بكذا وفي النفي والله ما بعتّ بكذا ولا اشتريت بكذا.
وكذا في فعل غيره يحلف على البت إن كان إثباتاً كبيع وإتلاف وغصب لسهولة الوقوف على ذلك. فقد روى البيهقي والحاكم والعقيلي وأبو نعيم وابن عدي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الشهادة فقال للسائل: نرى الشمس؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: على مثلها فاشهد أو دع). وإن كان نفياً فعلى نفي العلم فيحلف أنه لا يعلمه لأنه يعسر الإحاطة بذلك فيقول: والله، ما علمت أنه فعل كذا.
ولو ادعى على شخص ديناً لمورثه فقال المدَّعى عليه أبرأني مورثك وأنت تعلم ذلك حلف المدَّعي على نفي العلم بالبراءة لأنه حلف على نفي فعل غيره.
ولو قال في دعواه على السيد جنى عبدك عليَّ بما يوجب كذا فأنكر السيد فالأصح حَلِفُهُ أي السيد على البت لأن مال عبده وفعله كفعل نفسه هذا إذا كان العبد مميزاً أما إذا كان غير مميز فهو كالبهيمة ففيه القطع.
ولو قال جنت بهيمتُكَ غلى زرعي مثلاً حلف على البتِّ قطعاً والله أعلم لأنه لا ذمة لها وجنايتها بتقصيره في حفظها لا بفعلها ويجوز البتُّ في الحلف بظنٍّ مؤكدٍ يعتمد فيه الحالف خَطَهُ وخط أبيه إذا وثق بخطه ..
وتُعْتَبر نيةُ القاضي المُسْتَخْلِفِ للخصم فقد روى مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين على نية المُسْتَحْلِفِ)). فلو ورّى الحالف في يمينه بأن قصد بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ أو تأول خلافها أي خلاف اليمين أو استثنى بحيث لا يسمعه القاضي كأن قال بعد أن حلفه القاضي إن شاء الله من غير أن يسمع القاضي ذلك لم يدفع عن نفسه إثم اليمين الفاجرة لأن اليمين إنما شرعت ليهاب الخصم الإقدام عليعا خوفاً من الله تعالى فلو صح تأويله لبطلت هذه الفائدة.
ومن توجهت أي وجبت عليه يمين وذلك بأن يُلْزمَ بها في دعوى صحيحة لو أَمَرًّ بمطلوبها لزمه المطلوب في الدعوى فأنكر حُلِّفَ لما روى البيهقي عن ابن عباس (البينة عن المدَّعي واليمين على المنكر) وفي الصحيحين عن ابن عباس (واليمين على المدَّعى عليه).
ولا يحلَّفُ قاضٍ على تركه الظلم في حكمه ولا شاهدٌ أنه لم يكذب في شهادته لمكانة القضاء والشهادة في الشرع.
ولو قال مدَّعى عليه أنا صبيٌ في وقت يحتمل فيه ذلك لم يحلف لأن حلفه يثبت صباه وصباه يُبْطِلُ حَلِفَهُ وهذا ما يسمى الدور. ووُقِفَ أمره في الخصومة حتى يبلغ فيدعى عليه فَيدعَى عليه ثم شرع في بيان فائدة اليمين فقال واليمين تفيد قطع الخصومة في الحال لا براءةً لذمة المدَّعى عليه لما روى أبو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً بعد ما حلف بالخروج من حق صاحبه كأنه صلى الله عليه وسلم علم كذبه) وفي رواية الإمام أحمد (فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه كاذب إن له عنده حق، فأمرن أن يعطيه كفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله).
ولو حلَّفَهُ ثم أقام المدَّعي بينة بما ادعاه ولو شاهداً ويميناً حَكَمَ بها فقد أخرج أبو يوسف في اختلاف أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى أن عمر قال: (البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/197)
ولو قال المدَّعى عليه والذي طلب المدَّعي تحليفُهُ وقد حلفني مرة على ما ادعاه عليَّ عند قاضٍ فليحلف أن لم يحلفني قبل ذلك مُكِّنَ من تحليف المدَّعي لاحتمال ذلك في الأصح ولا يجاب المدَّعي لو قال قد حلفني أني لم أحلفه فليحلف على ذلك لأن ذلك يؤدي إلى أن يدور الأمر ويتسلسل ولا ينفصل.
وإذا نكل المدَّعى عليه عن الحلف المطلوب منه حلف المدَّعي وقَضَى الحاكم له بمدعاه ولا يقضي القاضي على الناكل بنكوله بل تردُّ اليمين على المدَّعي فإن حلف استحق ما ادعاه. قال تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم) المائدة108. أي بعد الامتناع من الأيمان الواجبة فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة.
وروى عبدالملك بن حبيب في الواضحة عن حيوة بن شريح أن سالم بن غيلان أخبره (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له طِلبةٌ عند أحد فعليه البينة والمطلوب أولى باليمين فإن نكل خلف الطالب وأخذه)) وهذا مرسل والطلبة: الخاجة. فدل الحديث على أن الطالب والمطلوب شريكان في اليمين.
والنكول أن يقول المدَّعى عليه بعد عرض القاضي اليمين عليه أنا ناكل أو يقول له القاضي إحلف فيقول لا أحلف فقوله هذا نكول لصراحتها فيه فإن سكت بعد عرض اليمين عليه حكم القاضي بنكوله ويُسنُّ للقاضي عرض اليمين عليه ثلاثاً فإن لم يحلف يقول له القاضي جعلتك ناكلاً فإن حكم عليه بعد ذلك نفِذ حكمه.
وقوله أي القاضي للمدًّعي إحلف حُكِمَ بنكوله أي بنكول المدَّعى عليه واليمين المردودة في قولٍ كبينةٍ يقيمها المدَّعي وفي الأظهر كإقرار المدَّعى عليه لأ، ه بنكول المدَّعى عليه عن اليمين توصل المدَّعي إلى ما دعاه فأشبه الإقرار فلو أقام المدَّعى عليه بعدها بيينةً بأداء أو إبراء أو غير ذلك من المسقطات للحق لم تسْمعْ إن قلنا أن النكول إقرار لتكذيب البينة بإقراره.
فإن لم يحلف المدّّعي يمين الردِّ ولم يتعلل بشيء أي لم يُبدِ عذراً ولا طلب مهلة سقط حقه من اليمين المردودة وليس له مطالب خَصْمِهِ ولكن له أن يقيم البينة وإن تعلل بإقامة بينة أي المدَّعي أو مراجعة حساب أُمهِلَ ثلاثة أيام فقط ولا يزاد عليها كما تقدم وقيل أبداً لأن اليمين له فله تأخيره ولكن في ذلك ضرر بالمدَّعى عليه واستمرار الخصومة.
وإن استمهل المدَّعى عليه حين استُحْلِفَ لينظر حسابه لم يُمْهَلْ إلا أن يرضى المدَّعي لأنه مجبور بالإقرار أو اليمين بخلاف المدعي فإن له تأخير طلب حقه وقيل يُمهَلُ ثلاثة من الأيام كمدَّعي ولو استمهل في بداية الجواب لينظر في الحساب أمهل إلى آخر المجلس إن شاء ذلك ومن طولب بزكاة وادعى دَفْعَها إلى ساعٍ آخر أو ادعى غَلَطَ خارص وهو ا لذي يخمن ما على النخل من الرُطب تمراً وألزمناه اليمين ولا ردَّ على الساعي ولا على الإمام فالأصح على هذا الوجه الضعيف أنها تؤخذ منه لأنه لم يقدم ما يدفع عنه.
ولو ادعى وليَّ صبي ديناً له أي للصبي على إنسان فأنكر المدَّعى عليه ونكل عن الحلف لم يحلف الوليُّ لأن الحق لا يثبته إلا بيمين صاحبه فيوقف الأمر إلى بلوغ الصبي.
وقيل يحلف لأنه المستوفي للحقِّ وقيل إذا ادعى الولي مباشرة سببه أي ادعى الولي ثبوت الحقِّ بسبب باشره هو حَلَفَ حيث تعلقت العهدة بمباشرته لتسببه مع عجز الصبي عن إثباته ساغ للولي إثباته بيمينه والأصح الأول وهو تأخر اليمين حتى بلوغ الصبي.
? فصل في تعارض البينتين ?
إذا ادعيا عيناً في يد ثالث وأقام كل منهما بينةً سقطنا لتناقض موجبيهما فيصار إلى التحليف فيحلف من بيده العين لكلٍ منهما يميناً وفي قول تستعملان لأنهما حجتان تعارضتا فإن أمكن استعمالهما لم تسقطا كالخبرين إذا تعارضا في الحادثة وأمكن استعمالهما فإن قلنا تستعملان ففي كيفية استعمالها ثلاثة أقوال: ففي قول يقسم العين بينهما فقد أخرج الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء فأقام كل واحد منهما بينة أنه له فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما). وقول يقرع بينهما فقد أخرج أبوداود مرسلاً عن سعيد بن المسيب (أن قوماً اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتاوست بيناتهم في العدالة والعدد فأسهم النبي بينهم وقضى للذي خرج له السهم). وفي قول توقف العين حتى يَبينَ الأمر أو يصضلحا وهو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/198)
الأصح لأن إحدى البينتين صادقة في الباطن والأخرى كاذبة فيرجى انكشاف الصادقة منهما.
ولو كانت العين في يدهما وأقاما ببينتين بقيت في يديهما كما كانت إذ ليس أحدهما بأولى منها من الآخر ولو كانت بيده وحده فأقام غيره بها بينة وهو أقام بينة قُدِمَ صاحب اليد لأنهما تساويا في البينة فترجمت بينة صاحب اليد ولا تسمع بينتُهُ أي صاحب اليد ويسمى الداخل إلا بعد بينة المدَّعي ويسمى الخارج لأن الحجة إنما تقام على خصم ولأن الأصل في جانبه اليمين فلا يعدل عنها ما دامت كافية.
ولو زيلت يده أي الداخل عن العين التي بيده ببينةٍ أقامها الخارج وحكم بها القاضي ثم أقام أي الداخل بينة بملكه للعين التي كانت بيده مستنداً إلى ما قبل إزالة يده مع استمرار يده إلى وقت الدعوى واعتذر بغيبة شهوده سمعت بينته وقدمت على بينة الخارج إذ أن سبب زوالها هو عدم الحجة وقد وجدت وقيل لا تسمع بينته لأن الاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد.
ولو قال الخارج هو ملكي اشتريته منك فقال الداخل بل هو ملكي وأقاما بينتين بذلك قُدِّمَ بينةٌ أقامها الخارج لزيادة علم بينته بالانتقال إلى ملكه ومن أقرَ لغيره بشيئ ثم ادعاه لنفسه بعد قيام البينة عليه لم يُشْتَرطْ ذكر الانتقال في الأصح لأنه قد تكون له بينة بملكه فترجمت باليد السابقة.
والمذهب أن زيادة عدد شهود أحدهما لا تُرَجِّحُ بينتُهُ على بينةِ خَصْمِهِ بل يتعارضان لكمال الحجة من الطرفين ولأن ما قدره الشرع لا يتأثر بالزيادة والنقصان.
وكذا لو كان لأحدهما رجلان في الشهادة وللآخر رجل وامرأتان فلا يرجح الرجلان لقيام الحجة بكل منهما فإن كان للآخر شاهدٌ ويمينٌ وللأول شاهدان رُجِّح الشاهدان في الأظهر لأنها حجة بإجماع وفي الشاهد واليمين خلاف وقيل يتعادلان لأن كلاً منهما حجة كافية في المال.
ولو شهدت بينة لأحدهما بملك من سنة إلى الآن وبينة للآخر من أكثر من سنة إلى الآن فالأظهر إن كانت العين في يد غيرهما ترجيح الأكثر لأنها تثبت الملك في وقت لا تعارضها فيه الأخرى وفي وقت التعارض يتساقطان ويثبت موجب البينة فيما قبل التعارض كما أن الأصل في الثابت دوامه وقيل هما سواء لأن الاعتبار بالبينة إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في ذلك ولصاحبها أي صاحب البينة الأكثر الأجرة والزيادة الحادثة من يومئذ أي من يوم ملكه بالشهادة لأنها نماء ملكه.
ولو أُطْلِقتْ بينةٌ ولم تتعرض لتاريخ وأُرِخَتْ أخرى ولا يد لأحدهما فالمذهب أنهما سواءٌ فيتعارضان لأن المطلقة كالعامة بالنسبة إلى الأزمان وأنه لو كان لصاحبِ متأخرةِ التاريخ يدٌ قُدِّمَ أي قُدِّمَ على صاحب متقدمة التاريخ ما لم تكن اليدُ عاديةً كغصب أو بيع صرر من أهل الوقف أو بعضهم بغير سبب شرعي وأنها أي البينة لو شهدت بملكه أمس ولم تتعرض للحال لم تسمع البينة حتى يقولوا أي الشهود في شهادتهم ملم يَزُلْ مِلْكُهُ أو لا نعلم مزيلاً له أي الملك.
وتجوز الشهادة بملكه الآن استصحاباً لما سبق من إرث وشراء وغيرهما لأن الأصل بقاء الملك.
ولو شهدت بينة بإقراره أي إقرار المدَّعي عليه أمس بالملك له أي للمدَّعي استُديمَ أي حكم الإقرار وإن لم تصرح البينة بالملك في الحال.
ولو أقامها أي البينة بمِلْكِ دابة أو شجرة لم يستحق ثمرة موجودة ولا يستحق ولداً منفصلاً عند الشهادة لأ، هما ليسا من أصل العين ويستحق الحمل والثمر غير الظاهر الموجود عند الشهادة في الأصح تبعاً للأم والأصل.
ولو اشترى شيئاً من شخص وأقبض ثمنه فأُخِذَ منه بحجة مطلقة أي لم تصرح بالتاريخ رجع على بائعه لأن الأصل أن لا معاملة بين المشتري والمدَّعي فيعود على من باعه العين ولأن الخلل يصيب العقود إذا لم يضمن العهدة البائعُ لأنه هوالمباشر للعقد وقيل لا يرجع على البائع إلا إذا ادعى المدَّعي على المشتري ملْكاً سابقاً على الشراء لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى المدَّعي.
ولو ادعى ملكاً مطلقاً لدار مثلاً بيد غيره فشهدوا له به مع بيان سببه لم يَضُرَّ ما زدوه ولا يكون مرجحاً لعدم ذكره في الدعوى ولأن السبب ليس مقصوداً في نفسه وإنما المقصود الملك.
وإن ذكر المدعي سبباً للملك وهم أي الشهود ذكروا سبباً آخر للملك ضرَّ ذلك فترد شهادتهم للتناقض بين الدهوى الشهادة وإن لم يذكروا السبب قُبِلَت شهادتهم لأنهم شهدوا بالمقصود ولا تناقض.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/199)
? فصل في اختلاف المتداعيين ?
إذا قال واحد آجرتك هذا البيت في هذه الدار بعشرة فقال الآخر بل آجرتني جميع الدار المشتملة عليه بالعشرة وأقاما بينتين بما قالاه تعارضتا فتسقطان لتناقضهما وفي قول تُقَدم بينة المستأجر لما في بينةا المستأجر من زيادة وهي اكتراء جميع الدار.
ولو ادعينا أن كلٌّ من اثنين شيئاً في يد ثابت فإن أقرَّ بالشيء لأحدهما سُلِّم إليه ولالاآخر أيضاً تحليفه فإن أقرَّ به غرم له بدله وإن أنكر ما ادعياه ولا بينة حلف لكل منهما يميناً وترك في يده وإن ادعيا شيئاً على ثالث وأقام كل منهما بينة أنه اشتراه منه وأنه يملكه ووزن له ثمنه فإن اختلف تاريخٌ حُكِمَ للأسبق تاريخاً لعدم المعارض حال السبق ويطالبه الآخر بالثمن وإلا بأن اتحد التاريخ في البينتين أو أطلقا منهما أو في إحداهما نعارضتا فيتساقطان ولو قال كل منهما وكان المبيع في يد المدّعى عليه وهو غيرهما بعْتكَهُ بكذا فأنكر وأقاما هما بينتين بما قالا وطالباه بالثمن فإن اتحد تاريجهما أي البينتين تعارضتا وتساقطتا لامتناع أن يكون مُلكاً في وقت واحد لكل واحد منهما فيحلف لكل واحد منهما ولا يلزمه شيء من الثمين وإن اختلف تاريخهما لزمه الثمنان لإمكان اجتماع بأن انتقل المدَّعى به من المشتري إلى البائع الثاني ثم اشتراه منه وكذا إن اطلقتا أو إحداهما أطلقت وأرضت الأخرى فيلزمه الثمنان أيضاً في الأصح لاحتمال أن يكونا في زمانين مختلفين وقيل تتعارضان وتسقطان كما لو كانتا مؤرختين تاريخاً واحداً والأصل براءة الذمة.
ولو مات عن ابنين مسلم ونصراني فقال كلٌّ منهما مات على ديني فأَرِثُهُ فإن عُرِفَ أنه كان نصرانياً صدِّق النصراني بيمينه لأن الأصل بقاء كفره فإن أقاما بينتين مطلقتين قدّم بينة المسلم على بينة النصراني وحكم بأنه مات مسلماً لأن مع المسلم زيادة بينة وهي انتقاله إلى الإسلام ولأن التي شهدت بالنصرانية ربما شهدت بذلك لأنه أصل دينه وإن قيَّدت بينةُ المسلم أن آخر كلامه إلاسلاكٌ وعكسته الأخرى وهي بينة النصراني تعارضتا وذلك لاستحالة موته عليهما فتسقطان ويصدق عندئذ النصراني بيمينه لأن الأصل بقاء نصرانيته وإن لم يُعْرَف دينه أي دين الميت وأقام كلٌّ منهما بينة أنه مات على دينه تعارضتا لأ، ه ليس له أصل دين يُبنى عليه حتى تكون إحداهما أثبتت أمراً حادثاً بعد ذلك الأصل فإن كان الشيء الذي يتداعيانه في يد غيرهما كان القوق قوله وإن كان في يد إحدهما فهد أحق به ويحلف للآخر وإن كان في يدهما قُسِمَ بينهما ويحلف كل منهما لصاحبه على النصف الذي حصل له.
ولو مات نصراني عن ابنين مسلم ونصراني فقال النصراني بل أسلمتَ قَبْلَهُ فلا ترث منه شيئاً صدق المسلم بيمينه لأن الأصل بقاؤه على دين أبيه وإن أقاما هما بينتين بما قالا قُدِّم النصراني لأن بينته فيها زيادة علم بالنقل عن الأصل الذي هو التنصر إلى الإسلام قبل موت الأب فلو اتفقا على إسلام الإبن في رمضان وقال مسلم مات الأب في شعبان وقال النصراني مات الأب في شوال ولا بينة لهما صدق النصراني بيمينه لأ، الأصل بقاء الحياة وتقدمُ بينةُ المسلمِ التي أقامها على بينته أي بينة النصرانيالتي أقامها لأن بينة المسلم ناقلة من الحياة إلى الموت وبينة النصراني مستصحبة للحياة إلى شوال.
ولو مات عن أبوين كافرين وابنين مسلمين فقال كلٌّ من الفريقين مات على ديننا صدق الأبوان باليمين لأن الولد محكوم بكفره ابتداءً تبعاً لوالديه فيستصحب ذلك حتى يُعْلمَ خلافه وفي قول يوقف الأمر حتى يتبين أو يصطلحوا على شيء لأن الولد إنما يتبع أباه قبل البلوغ فأما بعد البلوغ فله حُكْمُ نفسه فيحتمل أنه مات مسلماً ويحتمل أنه مات كافراً فَوُقِف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف حاله ولو شهدت بينة أنه أعتق في مرضه سالماً وأخرى شهدت أنه أعتق غانماً وكلُّ واحدٍ منهما هو ثلث ماله ولم تُجِزْ الورثة ما زاج على الثلث فإن اختلف تاريخٌ قُدِّم الأسبق تاريخاً لأن التصرف المنجَّزَ يقدَّم فيه الأسبق إذا كان في مرض الموت وإن اتحد التاريخ أقرع بينهما لعدم مزية أحدهما على الآخر فقد روى مسلم عن عمران بن الحصين (أن رجلاً أعتق ستة أعْبُدٍ في مرضه فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم منهم اثنين وأرقَّ أربعة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/200)
وإن أطلقتا أي البينتان أو إحداهما قيل يقرع بينهما لاحتمال المعية واحتمال الترتيب وفي قول يُعْتَقُ مِنْ كلٍّ نصفه لاستوائهما ولأن القرعة ممتنعة هنا لاحتمال أن يخرج الرقُّ على السابق منهما. قلت: المذهب يعتق من كل نصفه والله أعلم جمعاً بين البينتين ولو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وهو ثُلُثُهُ أي ثلث ماله ووارثان شهدا وهما حائزان للتركة أنه رَجَعَ عن ذلك ووصى بعتق غانم وهو ثلثه أي ثلث ماله ثبتت الوصية لغانم دون سالم لأ، هما أثبتا للمرجوع عنه بدلاً يساويه في القيمة فلا تهمة تلحقهما لأنهما لا يجران نفعاً بشهادتهما هذه لأنفسهما فإن كان الوارثان الحائزان فاسقين لم يثبت الرجوع عن الوصية فيعتقُ سالم بشهادة الأجنبيين ومن غانم يعتق قدر ما يحتمله ثُلُثُ ماله بعد سالم بإقرار الوارثين الذي تضمنته شهادتهما له مؤاخذة لهم بإقرارهم وكأن سالماً غير موجود في التركة.
? فصل في شروط القائف وبيان إلحاقه النسب بغيره ?
والقائف لغة متتبع الأثر والجمع قافةٌ كبائع وباعة وشرعاً مَنْ يُلْحِقُ النسب بغيره عند الاشتباه كحكم بعد دعوى والأصل فيه ما روى الشيخان عن عائشة قالت: (دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً فقال: (ألم تري أن مُجززّاً المُدْلجي دخل عليَّ فرأى أسامة بن زيد وزيداً وعليهما قطيفة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضهما من بعض)) قال أبوداود وكان أسامة أسوداً وزيد أبيضاً. قال الشافعي: فلو لم يُعْتَبرْ قولُهُ لمنعه من المجازفة لأ، النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقرُّ على خطأ ولا يسر إلا بحق. شرط القائف الذي يُعمَلُ بقوله مسلمٌ عدلٌ مجربٌ وفسرت التجربة بأن يعرض عليه ولد في نُسوة ليس فيهن أمُّهُ ثلاث مرات ثم في نسوة هي فيهمن فإذا أصاب في الكلِّ فهو مجرب.
والأصح اشتراط حُرٍّ ذكر لا اشتراط عدد فيكفي قول الواحد ولا اشتراط كونه مُدْلجياً أي من بني مُدْلج فيجوز كونه من سائر العرب ومن العجم فإذا تداعيا مجهولاً لقيطاً أو غيره صغيراً حياً أو ميتاً لم يتغير ولم يدفن عُرِض عليه أي على القائف مع المتداعيين فمن ألحقه به منهما لحقه وكذا لو اشتركا في وطء لامرأة واستدخال المني كالوطء فولدت ممكناً أي يمكن أن يكون في كلٍ فيهما وتنازعاه أي ادعياه أو أحدهما وسكت الآخر وذلك بأن وطئا امرأة بشبهة كأ، وجدها في فراشه فظنها زوجته أو أمته أو وطيء شريكان أمة مشتركة لهما في طهر واحد وإلا فهو الثاني لتعذر عوده إلى الأول أو وطِيء زوجته وطلق فوطئها آخر بشبهة أو نكاح فاسد كأن نكحها بالعدة جاهلاً بها أو وطيء أمته فباعها فوطئها المشتري ولم يستبريء واحد منهما فإنه يُعرَضُ على القائف وكذا لو وطيء منكوحة أي مزوجة لغيره في الأصح بأن ولدت ولداً فيعرض على القائف ولا يتعين الزوج للالحاق للاشتباه فإذا ولدت لما بين ستة أشهر وأربع سنين من وطأيهما وادعياه عُرِضَ عليه أي على القائف فيلحق من ألحقه به منهما فإن تخلل بين وطأيهما حيضةٌ فللثاني وإن ادعاه الأول لتبين انقطاع تعلقه به إلا أن يكون الأول زوجاً في نكاح صحيح والثاني واطئاً بنكاح فاسد أو شبهة فلا ينقطع تعلق الأول لأن إمكان الوطء مع فراش النكاح الصحيح قائم مقام نفس الوطء والإمكان حاصل بعد الحيضة بخلاف ملك اليمين والنكاح الفاسد فإنهما لا يثبتان الفراش إلا بعد حقيقة الوطء.
وسواء فيهما أي المتنازعين اتفقا إسلاماً وحرية بكونهما مسلمين حرين أم لا كمسلم وذمي وحر وعبد لأن النسب لا يختلف ويتبع الذمي نسباً ولا يتبعه في الرقِّ لاحتمال أنه ولد من الحرة.
? كتاب العتق ?
العتق مأخوذ من الاعتاق وهو مأخوذ لغة من قولهم عتق الفرس إذا سبق عتق الفرخ إذا طار واستقل شرعاً هو إزالة الرق عن الآدمي والأصل فيه قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) الأحزاب37. قال المفسرون: أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق. وقوله تعالى: (فتحرير رقبة) النساء92.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/201)
وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق نسمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه))، وروى أحمد عن عقبة بن عامر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداؤخ من النار)) ورواه الترمذي من حديث عمرو بن عبسة وأجمعت الأمة على صحة العتق إنما يصح من مطلق التصرف فلا يصح من صبي ومجنون وسفيه ويصح من ذمي وحربي كسائر التصرفات المالية ولا يصح من غير مالك له بغير إذن ولا من مُبعَضٍ ومكاتبٍ ومُكْرَه بغير حق ويتصور الإكراه بحق بأن يبيعه العبد بشرط العتق ويصح تعليقه أي تعليق العتق بصفة لما في ذلك في التوسعة لتحصل به القربة وإذا علق الاعتاق بصفة لم يملك الرجوع فيه بالقول ويملكه بالتصرف كالبيع ونحوه وإذا باعه ثم اشتراه لم تعد الصفة.
وإضافته أي العتق إلى جزء من الرقيق معين كيدٍ يصح كما يصح إضافته إلى جزء مشاع منه كربعه وثلثه ونصفه فيعتق كُلُّهُ سراية كما في الطلاق فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شِركاً له في عبج فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُدِّم عليه العبد قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وَعُتِقَ عليه العبد وإلا فقد عُتِقَ منه ما عُتِقَ)). قوله: قيمة عدل: أي ثمناً معتدلاً لا زيادة فيه ولانقصان.
وصريحه أي العتق ولو من هازل أو لاعب تحرير وإعتاق أي ما اشتق منهما وكذا فك رقبة فب الأصح أي ما اشتق منه لأنه ورد في القرآن الكريم قال تعالى: (فكُّ رقبة) البلد13.
ولا يحتاج الصريح إلى نية لأنه لا يُفْهَمُ منه غيره ويحتاج إليها أي النية كنايتُهُ أي أن الكناية تحتاج إلى نية والكناية كثيرة وضابطها أنها كلُّ ما أنبأ عن فرقة أو زوال ملك فلابُدَّ من نية فيها للتمييز قال الشافعي: والكناية كلُّ ما احتمل معنيين فصاعداً وهي أي الكناية لا مِلْكَ لي عليك أو لا أمر لي عليك أو لا حكم لي عليك أو لا يد لي عليك فيها لا سلطان لي عليك ومنها لا سبيل لي عليك ومنها لا خدمة لي عليك وزال ملكي عنك ومنها أنتَ أو أنتِ سائبة إذ لا أثر للحن هنا ومنها قوله أنت مولاي أي سيدي وأنت لله لإشعارها بإزالة الملك مع احتمالها لغيره حيث أن مولاي لفظ مشترك بين العتيق والمُعْتِقِ.
وكذا كل لفظ صريح أو كناية للطلاق فهو كناية في العِتْقِ لإشعارها بإزالة قيد الملك وقوله لعبدٍ أنتِ حُرَّةُ ولأمةٍ أنتَ حُرٌّ صريح ولا أثر للخطأ في التذكير والتأنيث تغليباً للإشارة على العبارة.
ولو قال السيد لرقيقه عِتْقُكَ إليك أو خيّرتُكَ أ يالاختيار في العتق إليك ونوى في خيرتك تفويض العتق إليه فاعتق نفسه في المجلس عَتَقَ والمراد بقوله في المجلس أي في الحال كما في الخلع أو قال السيد لعبده اعتقتُكَ على ألف أو أنت حرٌّ على ألفٍ فَقَبِِلَ أي في الحال أو قال له العبد أعتقني على ألف فأجابه السيد عَتَقَ في الحال ولزمه أي لزم العبد الألفُ في الصور الثلاث كالخلع.
ولو قال السيد لعبده بعتُكَ نفسك بألفٍ تؤديها بعد عتقك فقال العبد اشتريت نفسي فالمذهب صحة البيع لأن البيع أثبت من الكتابة والعتق فيه أسرع من الكتابة حيث أن المكاتب لا يعتق حتى يؤدي عليه أما هنا فيعتق فوراً.
ويعتق في الحال عنلاً بمقتضى العقد وعليه الألف التي التزمها والولاء لسيده لأ، العقد عقد عتاقة وليس عقد بيع لثبت فيه خيار المجس وهنا لا يثبت خيار المجلس. وروى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن اعتق)). قال تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) النور33.
ولو قال لحامل اعتقتك دون حَمْلِكِ عَتَقَا أي يعتق الحمل تبعاً للأم لأنه كالجزء منها فيعتق بالتبعية وإن استثناه ولو اعتقه أي اعتق الحمل فقط عَتَقَ دونها لأنه يتبع أمه ولا تتبعه ولو كانت الأمُّ لرجل والحمل لآخر كأن أوصى به لآخر لم يعتق أحدهما بعتق الآخر لأنه لا يتبع أحدهما الآخر لاختلاف المالكين.
وإذا كان بينهما أي بين الشركين عبدٌ فأعتق أحدهما كله أي كلَّ العبد أو نصيبَهُ من العبد فإن كان معسراً أي المعتق معسراً عن الاعتاق بقي الباقي لشريكه وإلا نصيب شريكه أو سرى إلى ما أيسر به من نصيب شريكه لما روى الشيخان عن ابن عمر (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من اعتق شِرْكاً له في عبد وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قوِّم عليه قيمة العبد قيمة عَدْلٍ وأَعْطى شركاءَه حِصَصَهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق)). وعليه قيمة ذلك يوم الاعتاقلأنه وقتُ الإتلافعلى شريكه. وتقع السراية بنفس الإعتاق للخبر السابق وأن ما يترتب على السراية في حكم الإتلاف والقيمة تجب بسبب الإتلاف.
وفي قول لا يقع الإعتاق بأداء القيمة لخبر الدارقطني عن ابن عمر (من اعتق شركاً له في عبد أقيم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه وعتق عليه العبد إن كان موسراً وإلا عتق منه ما عتق ورقَّ منه ما بقي).
وفي قول يوقف الأمر رعاية للجانبين فعلى ذلك إن دفعها أي دفع الموسر القيمة بان أنها أي السراية بالإعتاق وإن لم يدفعها بان أنه لم يعتق.
واستيلادُ أحدِ الشريكين الموسر الأمة المشتركة بينهما يسري إلى حصة شريكه كالعتق وعليه أي المستولِد قيمة نصيب شريكه لإزالة ملك شريكه وحصته من مهر المثل على المستولد أيضاً لاستمتاعه بملك غيره وإن كانت بكراً وجب عليه أرش البكارة أيضاً زيادة على مهر المثل.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/202)
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[21 - 07 - 07, 03:32 ص]ـ
الجزء التاسع عشر
وتجري الأقوال السابقة في وقت حصول السراية وحكم العلوق بالجنين لحكم الإعتاق فعلى الأول وهو أن السراية تحصل بنفس العلوق وعلى الثاني هو التَينُ لا يجب قيمة حصته من الولد لأنا جعلنا أُمَّهُ أمَّ ولد في الحال فيكون العلوق في ملكه وهو حرٌّ أما على الثاني القائل بحصول السراية بأداء القمية فتجب ولا يسري تدبير ولا يقوَّمُ عليه نصيبُ شريكه لأن التدبير له يقطع تصرف السيد بالمدبر من بيع ونحوه ويخالف الاستيلاء فإنه يمنع من البيع ولا يمنع السراية دين مُسْتَغْرِقٌ بدون حجر في الأظهر لنفوذ تصرف المدين بما في يده ولو قال أحد الشريكين لشريكه الموسر اعتقت نصيَبَكَ فعليك قيمة نصيبي فأنكر ولا بينة للمدَّعي صُدِقَ المنكر بيمينه إذ الأصل عدم العتق فلا يعتق نصيبُهُ أي المنكر إن حَلَفَ وإلا حلف المدَّعي واستحق قيمة نصيبه ولا يعتق نصيب المنكر إذ الدعوى إنما سمعت لأجل المال فقط. ويعتق نصيب المدَّعي بإقراره إن قلنا يسرى بالإعتاق مؤاخذة له بإقراره ولا يسري إلى نصيب المنكر لأنه لم يُنْشيء عتقاً.
ولو قال لشريكه: إذا اعتقت نصيبك فنصيبي حرٌّ بعدَ نصيبك فاعتق الشريك نصيبه وهو موسر سرى العتق إلى نصيب الأول إن قلنا السراية تحصل بالإعتاق وعليه أي المعتق قيمته أي قيمة المُعَلِقِ ولا يعتق بالتعليق لأنه اجتمع على النصيب تعليق وسراية والسراية أقوى لأ، ها قهرية تابعة لعتق الأول لا دافع لها والتعليق يمكن دفعه ببيع ونحوه ولو قال لشريكه إذا اعتقت نصيبك فنصيبي حرٌّ قبله أي قبل عتق نصيبك فأعتق الشريك نصيبه فإن كان المعلق معسراً عتق نطيب كل منهما عنه المنجز بالحال والمعلق قبله بموجب التعليق ولا سراية هنا والولاء لهما لاشتراكهما فب العتق.
وكذا إن كان المُعَلِقُ موسراً وأبطلنا الدور وهو الأصح لأن في إبطاله تحقق العتق وإلا نبطلُ الدور فلا يعتق شيء على واحد منهما فلو نفذ اعتاق المُخاطب لنفذ اعتاق المعلق قبله فيسري إلى نصيب شريكه فيبطل عتقه فلزم من عتقه عدم عتقه فالدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه وجوداً وعدماً أي الدور أن يلزم من نفوذ الشيء عدم نفوذه.
ولو كان عبدٌ لرجل نِصْفَهُ ولآخر ثلثه ولآخر سدسه فأعتق الآخران نصيبهما معاً من غير سبق وذلك بأن أعتقا واتفق لفظهما أو وكّلا وكيلاً فأعتق عنهما بكلمة واحدة وهما موسران عتَقَا فالقيمة عليهما نصفان على المذهب لأن العتق إتلاف لرقِّ الباقي فإذا اشتركا فب الإتلاف استويا في الضمان وشرط السراية اعتاقُهُ أي المالك باختياره كشراء حرٍّ أصله أو فرعه وقبول هبته أو الوصية به فلو ورث بعضَ ولده أو بعض أصله لم يَسْرِ عليه عتقه إلا باقيه لأن سبيل السراية سبيل غرامة المُتْلِفِ وعند انتفاء الاختيار لم يوجد منه صُنْعٌ ولا قصدُ اتلاف.
والمريض في مرض موته مُعْسِرٌ إلا في ثلث ماله فإذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبه في مرض موته ولم يخرج من الثلث إلا نصيبُهُ فلا سراية عليه لما روى مسلم عن عمران بن حصين (أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرض موته ولم يكن له من المال غيرهم فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرقًّ أربعة).
والميت معسر مطلقاً فلو أرضى بعتق نصيبِهِ من عبد فأُعْتِقَ نصيبُهُ بعد موته لم يسر العتق إلى باقيه وإن خرج كله من الثلث لانتقال المال لورثته بموته.
? فصل في العتق بالبعضية ?
إذا ملك أهلُ تبرع أصله أو فَرْعَهُ عتق فإذا ملك شخص أمَّهُ أو أباه أو جده أو جدته أو ولده أو ولد ولده من البنين والبنات عَتَقَ عليه بالملك. فقد روى مسلم من أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجزي وَلَدٌ والِدَهُ إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) أي يعتق عليه بالشراء. قال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون) الأنبياء26. فنفى اجتماع الولدية والعبدية.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/203)
ولا يشتري الوليُّ لطفل قريبه الذي يُعْتَقُ عليه لأن تصرف الولي إنما يكون بالغبطة للطفل ولا غبطة هنا ولو وَهَبَ له أي للصبي أو وصّى له به شخصٌ فإن كان الموهوب أو الوصي به كاسباً لا تلزم نفقتُهُ فعلى الولي قبوله إذ لا ضرر على الصبي في ذلك وَيَعْتَقُ على الصبي وَيُنْفِقُ عليه الولي من كسبه لاستغنائه عن القريب وإلا أي وإن لم يكن القريب كاسباً نظر فإن كان الصبي معسراً وجب على وليه القبول إذ لا ضرر على الطفل حينئذ ونفقته في هذه الحالة في بيت المال إن كان مسلماً أو كان الصبي موسراً حَرُمَ على الولي قبوله لما في ذلك من ضرر على الصبي بالإنفاق عليه ولو ملك في مرض موته قريبه الذي يعتق عليه بلا عوض كإرث عَتَقَ عليه من ثلثه وقيل من رأس المال لأنه ملكه من غير مال والملك زال فن غير رضاه أوملكه بعوض بلا محاباة أن كان بثمن مثله لا بأقل من ذلك فمن ثلثه يعتق فلا يعتق منه إلا ما يحتمله الثلث ولا يرث لأن عتقه من الثلث وصية ولا يُجْمَعُ بين الإرث والوصية. فإن كان عليه أي المريض دين مسْتَغرِقٌ فقيل لا يصح الشراء لأنا إذا صححنا الشراء ملكه ولا يعتق عليه فلا يصح ذلك والأصح صحته إذ لا مانع من ذلك ولا يعتق منه شيء بل يباع في الدين لأن الدين يمنع العتق أو بمحاباة كأن اشتراه بألف وهو يساوي ألفين فقدرها كهبة أي يكون قدر المحاباة وهو هنا ألف كالموهوب والباقي بعد قدر المحاباة يعتبر من الثلث. ولو وَهَبَ لعبدٍ بَعْضَ قريب سيده الذي يعتق عليه فقَبِلَ العبد وقلنا يستقلُّ العبد به أي بالقبول عَتَقَ قريب السيد وسرى العتق وعلى سيده قيمة باقية إن الهبة للعبد هبة لسيده وقبول العبد قبول سيده.
? فصل في الاعتاق في مرض الموت وبيان القرعة في العتق ?
إذا اعتق في مرض موته عبداً لا يملك غيره عتق ثلثه لأن العتق تبرع معتبر في الثلث فإن كان عليه أي على من اعتق في مرض موته دينٌ مُسْتَغرِقٌ لم يعتق شيءٌ منه لأن العتق وصية والدين مقدمٌ عليها ولو اعتق ثلاثةً لا يملكُ غيرَهُمْ وقيمتهم سواء عتق أحدهم بِقُرعةٍ والأصل في ذلك ما رواه مسلم عن عمران بن الحصين (أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة أعبد عند موته ولم يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين ورقَّ أربعة). وكذا لو قال أعتقت ثُلُثَكُمْ أو قال ثلثكم حرٌّ فيقرع بينهم فلو قال أعتقت ثلث كلِّ عبد منكم أقرع أيضاً وقيل هنا يعتق من كلٍّ ثلثه ولا قرعة لتصريحه بالتبعيض والقرعة كما مرَّ في القسمة إما أن تؤخذ ثلاث رقاع متساوية ثم يكتب في ثنيتن رقٌّ وفي واحدة عتقٌ لأن الرقَّ ضعف الحرية وتدرج في بنادق كما سبق في باب القسمة وتُخْرَجُ واحدة باسم أحدهم فإن خرج العتق عَتَقَ ورقّ الآخران أو خرج الرقُّ رقُّ وأخرجت أخرى بإسم آخر فإن خرج العتق عتق ورقَّ الثالث وإن خرج الرقُّ رقَّ وعتق الثالث وثانيهما أنه يجوز أن تكتب أسماؤهم في الرقاع ثم تُخْرَجُ رقعةٌ على الحرية لا الرقِّ لأنه الأقرب إلى الفصل فمن خرج اسمه عَتَقَ ورقّا أي الآخران.
وإن كانوا أي الأعبد ثلاثةً قيمة واحدٍ مائةٌ وآخر مائتان وآخر ثلاثمائة أقرع بسهمي رقٍّ وسهم عتق فإن خرج العتقُ لذي الاثنين عتق ورقّا لأنه ثلث المال أو خرج العتق للثالث عَتَقَ ثلثاه ورقّ باقيه والآخران معه أو خرج العتق للأول عَتَقَ ثم يُقْرَع بين الآخرين بسهم رقٍّ وسهم عتقٍ فمن خرج العتق على اسمه تمم منه الثلث فإن خرج لصاحب المائتين عتق نصفه أو لصاحب الثلاثمائة عتق ثلثه.
وإن كانوا أي الأرقاء فوق ثلاثة وأمكن توزيعهم بالعدد والقيمة كستة قيمتهم شواء جُعِلوا اثنين اثنين أو بالقيمة دون العدد كسنة قيمة أحدهم مائة وقيمة اثنين مائة وقيمة ثلاثة مائة جُعِلَ الأول جزءاً والاثنان جزءاً والثلاثة جزءاً وأقرع بينهم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/204)
وإن تعذر بالقيمة كأربعة قيمتهم سواء ففي قول يجزَّؤون ثلاثة أجزاءٍ: واحدٌ جزء وواحدٌ جزء واثنان جزء لأن ذلك الأقرب إلى فعله صلى الله عليه وسلم فإن خرج العتق لواحد عتق كله ثم أقرع بين الثلاثة الباقين بعد تجزئتهم أثلاثاً ليتم الثلث فمَنْ خرج له سهم الحرية عتق ثلثه أو خرج العتق للاثنين المجعولين جزءاً رقَّ الآخران ثم أقرع بينهما أي بين المجعولين جزءاً وخرج لهما العتق فيعتق من خرج له العتق كاملاً ويعتق ثلث الآخر لأنه بذلك يتمُّ الثلث.
وفي قول يكتب اسم كلِّ عبد في رقعة أي تكون الرقاعُ أربعةً فيعتق من خرج العتق له أولاً وثلث الثاني أي من خرج العتق له ثانياً يعتق ثلثه وبذلك يتمُّ الثلث.
قلت أظهرهنا الأول والله أعلم لأنه الأقرب إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم والقولان في استحباب لأن المقصود يحصل بكلٍ من القولين وقيل في إيجاب لأنه الأقرب إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن اعتقنا بعضهم بقرعة فظهر مالٌ آخر للميت وخرج كلهم من الثلث عتقوا وبان أنهم أحرار من حين اعتقهم وعليه لهم كسبهم من يوم أي من وقت الإعتاق وتجري غليهم أحكام الأحرار من وقت الإعتاق.
ولا يرجع الوارث بما أنفق عليهم لأنه حين أنفق عليهم أنفق على أن لا يرجع كمن نكح فاسداً ثم فرق القاضي بينهما وهو يظنه صحيحاً فلا يرجع بشيء.
وإن خرج بما ظهر من مال عبد آخر وكان من الثلث أقرع بينه وبين من بقي دون عتق فمن خرجت قرعته عتق أيضاً ومن عتق ولو بقرعة حكم بعتقه من يوم الإعتاق لا من يوم القرعة لأنها فقط مبينة للعتق وتعتبر قيمته حينئذ أي وقت عتقه وله كسبه من يومئذ غير محسوب من الثلث لأنه حدث بعد الحكم بحريته ومن بقي رقيقاً قوِّم يوم الموت لأنه وقت استحقاق الوارث وحُسِبَ من الثلثين هو وكسبه الباقي قبل الموت أي قبل موت المعتق لأنه وقت استحقاق الوارث لا الحادث بعده أي بعد الموت لأنه حدث في ملك الوارث فلو اعتق ثلاثة لا يملك غيرَهُم قيمةُ كلٍّ منهم مائةٌ وكسب أحدهم مائة قبل موت المُعْتق أقرع بينهم فإن خَرَجَ العتق للكاسب عَتَقَ ولو المائة لأن المائة حدثت بعد الحكم بحريته وإن خَرَجَ لغيره أي لغير الكاسب عتق ثلثه وبقي ثلثاه والكاسب والمال للورثة وإن خرجت له أي الكاسب عتق ربعه وتبعه ربع كسبه لأن يجب أن يبقي للورثة ضعف ما عتق ولا يحصل إلا بذلك فجملة ما عتق مائة وخمسة وعشرون وما بقي للورثة مائتان وخمسون.
? فصل في الولاء ?
والأصل في الولاء قوله تعالى: (ادعوهم لآباءهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) الأحزاب5.
وروى الشافعي في المسند عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لُحمة كلُحمة النسب لا يباع ولايوهب)) لأنه لو وُرِثَ لاشتراك فيه الرجال والنساء ولاختص بالمسلمين فقط إن كان المعتق مُسْلماً وروى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن اعتق)).
قال المصنف رحمه الله من عتق عليه رقيق بإعتاق منجز أو معلق أو كتابة أو تدبير واستيلاء وقرابة كأن ورث قريبه الذي يعتق عليه وسراية فولاؤه له لخبر الشيخين عن عائشة (الولاء لمن أعتق). ثم لعصبته المتعصبين بأنفسهم الأقرب فالأقرب لحديث ابن حيان وابن خزيمة والحاكم عن ابن عمر (الولاء لُحمة كلحمة النسب) ويترتب على الولاء الإرث فالولاء للمتعصبين بأنفسهم دون غيرهم.
ولا ترث امرأة بولاء إلا من عتيقها وأولاده وعتقائه لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الولاء على بريرة لعائشة رضي الله عنها وروى الترمذي وغيره عن واثلة بن الأسقع (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تجوز المرأة ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه) قيل والمقصود بلقيطها أنها تحوز ميراثه إذا ادعت نسبه.
فإذا اعَتَقَ عليها أبوها ثم أعتق أبوها عبداً فمات بعد موت الأب بلا وارث فماله للبنت لأنها معتقةُ المُعْتِق والولاء لأعلى العصبات فقد روى عبدالرزاق في مُصَنَفِهِ وأبوداود وغيرهما عن عمر وعثمان وعلي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء للكُبْرِ)) وهو الأكبر في الدرجة والقرب دون السنِّ ولأن الولاء يستحق بالتعصب ويستفاد به دون سائر ورثته فإذا مات العبد المعْتَقُ وخلَّف ابنَ مولاه وابنة مولاه فإن الميراث يكون لابن المولى دون ابنة المولى.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/205)
ومن مسَّه رقٌّ فعتق فلا ولاد عليه لأحد إلا لمعتقه وعصبته لأنه الذي باشر عتقَهُ ولو نكح عبدٌ مُعْتَقَةٌ فأتت بولدٍ فولاءه لوملى الأمِّ لأنه المنعم عليه فإن عتقه كان بسبب عتق أمِّه فإن أعتقَ الأب انجرَّ إلى مواليه أي موالي الأب لأن الولاء فرع النسب والنسب إلى الآباء دون الأمهات وإنما ثبت لومالي الأم لعدمه من جهة الأب ولو مات الأب رقيقاً الجدُّ انجر الولاء من موالي الأم إلى مواليه أي موالي الأب وقيل لا ينجر لموالي الجدِّ بل يبقى لموالي الأمِّ ختى يموت الأب رقيقاً فينجر عندئذ إلى موالي الجدِّ لأن وجود الأب يمنع انجرار الولاء إلى الجد.
ولو ملك هذا الولد الذي من العبد والعتيقة أباه جرَّ ولاء إخوته لأبيه من موالي الأم إليه لأن أباه عتقَ عليه فثبت له الولاء عليه وعلى أولاده من أمه ومن عتيقة أخرى. وكذا يجرُّ ولاء نفسه إليه في الأصح كإخوته قلت: الأصح المنصوص لا يجره أي ولاء نفسه من موالي الأمِّ إليه بل يستمر الولاء لهم والله أعلم لأنه لو جره إلى نفسه لكان لنفسه ولاءٌ وهذا لا يمكن.
? كتاب التدبير ?
التدبير لغة: النظر في عواقب الأمور وشرعاً: أن يعلق عتق عبده بموته وهو مأخوذ من الدُّبُر لأن الموت دبر الحياة وهو تعليق عتق بصفة لا وصية والأصل في الباب قبل الإجماع خبر الشيخين عن جابر (أن رجلاً دبر غلاماً ليس له غيره فباعه فباعه النبي صلى الله عليه وسلم) فتقريره صلى الله عليه وسلم له وعدم إنكاره يدل على جوازه.
قال المصنف رحمه الله صريحه أي التدبير أنت حرٌّ بعد موتي أو إذا مِتُّ فأنت حرٌّ أو متى متُّ فأنت حرٌ أو أعتقتُكَ بعد موتي وكذا دبرتك أو أنت مُدَّبرٌ على المذهب المنصوص وقيل هو كتابة لخلوه عن لفظ العتق أو الحرية ويصح التدبير بكناية عتق مع نية كخليتُ سبيلك بعد موتي لأ، التدبير نوع من العتق فدخلته كنايته.
ويجوز التدبير مقيداً كما يجوز مطلقاً فالمطلق أن يقول أنتَ حرٌّ بعد موتي أو إذا أنا مت فأنت حرٌّ والمقيد: كأن يقول إذا مِتُّ في ذا الشهر أو في ذا المرض أو في هذه السنة فأنت حرٌّ.
ويجوز التدبير أيضاً مُعلقاً على أمر هذه الحياة كإن دخلت الدار فأنت حرٌّ بعد موتي لأ، ه إما وصية أو تعليق عتق بصفة وهو المعتمد كلاهما يقبل التعليق فإن وجدت الصفة ومات السيد عتق وإلا توجد الصفة فلا يعتق ويشترط الدخول قبل موت السيد لأنه علق التدبير على شرط فإن ملت السيد وهو وقت التدبير قبل وجود الشرط بطل الشرط كما يجوز تعليق العتق على شرط بعد الموت فإن قال السيد إن مِتُّ ثم دخلتَ الدار فأنت حرٌّ فإذا مات السيد ثم دخل العبد الدار عَتَقَ أي اشتراط دخول بعد الموت عملاً بمقتضى اللفظ من الترتيب بثم وهو أي الدخول بعد الموت على التراخي فلا يلزم الفورية بالدخول وليس للوارث بيعه قبل الدخول إذ ليس له إبطال تعليق الميت كما لو أوصى لشخصٍ بشيء ثم مات ليس للوارث أن يبطل الوصية وإن كان للموصي إبطالها حال حياته.
وإذا قال إذا مِتُّ ومضى شهر فأنت حرٌّ فللوارث استخدامه في الشهر لا بيعه لأنه ليس للوارث إبطال تعليق المُورِثِ كما أن هنا العتق معلقٌ بصفة وليس تدبيراً ولو قال السيد لعبده إن شئت فأنت مدبَّرٌ أو أنت حرٌّ بعد موتي إن شئت اشترطت المشيئة متصلة اتصالاً لفظياً لأن الخطاب يقتضي جواباً فورياً وإن قال له متى شئت أو مهما شئت فللتراخي ويشنرط المشيئة في الصورتين قبل موت السيد.
ولو قالا لعبدهما إذا متنا فأنت حرٌّ لم يعتق حتى يموتا معاً أو مرتباً فإن مات أحدهما فليس لوارثه بيع نصيبه ولو تأجيره واستخدامه فموت أحدهما يجعل نصيب الآخر مدبراً ونصيب الميت لا يكون مدبراً بل باقٍ على تعليقه ولا يصح تدبير مجنون وصبي لا يميز وكذا مميز في الأظهر لأ، عباراتهم لغو لرفع القلم عنهم ويصح التدبير من سفيه وكافر أصلي حربي أو ذمي وتدبير المرتدِّ يُبْنَى على أقوال ملكه فتدبيره موقوف فإن عاد للإسلام بانت صحة تدبيره وإن لم يعد بطل تدبيره.
ولو دَبَّرَ ثم ارتدَّ السيد لم يبطل تدبيره عى المذهب لأ، المودة لا تؤثر فيما سبقها فإن مات عتق العبد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/206)
ولو ارتدَّ المدبَّرُ إلى دراهم أي حمله من دار الإسلام إلى دار الحرب إن كان كافراً لأنه يملكه ولو كان الكافر عبد مُسْلِمٌ ملكه بإرث أو غيره فدبره نُقِضَ تدبيره وبيع عليه لما في بقاء ملكه عليه من الإذلال لأن الإسلام يعلو ولا يُعْلَى عليه.
ولو دبّرَ كافرٌ فأسلم العبد ولم يرجع السيد في التدبير وذلك بعدم زوال ملكه عنه نزع من يد سيده وَصُرِف كسبه أي العبد إليه أي إلى سيده الكافر وفي قول يباع عليه وينقض التدبير لأن العبد المسلم لا يبقى في يد الكافر ولو أي السيد بيع المدبر وكذلك هبته ووقفه لما روى الشيخان عن جابر (أن رجلاً من الأنصار أعتقعبداً له عن دُبُرٍ فيه لا مال له غيره وعليه دين فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فباعه وقضى الدين منه ودفع الفضل إليه) أي إلى سيده وفي رواية ودفع ثمنه إلى مولاه.
والتدبير تعليق عتق بصفة لأن صيغته صيغة تعليق وفي قول التدبيرُ وصيةٌ للعبد بعتقه نظراً إلى أن إعتاقه من الثلث. فلو باعه أي باع السيد المدبَّر لم يعد التدبير على المذهب بناءً على القول: إن التدبير وصيةٌ.
ولو رَجَعَ السيد عنه أي عن تدبير العبد بقوله كأبطلتُهُ، فسختُهُ نقضته رجعت فيه صح الرجوع إن قلنا إن التدبير وصيةٌ وإلا أي وإن لم نقل إن التدبير وصيةٌ بل تعليق عتق بصفة فلا يصح إبطاله كسائر التعليقات ولو عُلِّقَ مُدَبَّرٌ أي عتقه بصفة كأن قال السيد لمدبره إن دخلت الدار فأنت حرٌّ صحَّ التعليق وعتق بالأسبق من الموت والصفة فإن وجدت الصفة قبل الموت عتق بها وإن مات قبل وجود الصفة عتق بالتدبير.
وله أي السيد وطء أمة مُدَبَّرةٍ لبقاء ملكه فيها كالمستولدة لما روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه دبَّر جاريتين وكان يطأهما ولا يكون الوطء رجوعاً عن التدبير فإن أولدها بطل تدبيره لأنها صارت أمَّ ولد وارسيلاد أقوى من التدبير بدليل أنه يكون من رأس المال ولا يمنع الدين منه والتدبير من الثلث ويمنع الدين منه ولا يصح تدبير أمِّ ولد لأنها تستحق العتق بالموت فلا فائدة من التدبير ويصحُّ تدبير مكاتب وكتابة مدبر فيكون كلُّ منها مكاتباً فيعتق بالأسبق من موت السيد وأداء النجوم.
? فصل: في حكم المدبرة والمعلق عتقها بصفة وجناية المدبر وعتقه ?
إذا ولدت مدبرة من نكاح أو زنا لا يثبت للولد حكم التدبير في الأظهر لأن التدبير عقد يلحقه الفسخ فلا يسري إلى الولد الحادث بعده كالرهن والوصية ولو دبَّر حاملاً ثبت له أي الولد حكم التدبير على المذهب لأن الولد كعضو من أعضائها فإن ماتت الأم في حياة السيد أو رجع السيد في تدبيرها وام تدبيره كما لو دبَّر عبدين فمات أحدهما قبل موت السيد فيحكم للثاني بالتدبير وقيل إن رجع السيد وهو متصل بها فلا يدوم تدبيره بل يتبعها في الرجوع كما يتبعها في التدبير ولو دبَّر حملاً دون أمّه صح تدبيره كما يصح إعتاقه دون أمّه فإن مات السيد عتق الحمل دون الأمِّ لأن الحمل تابع وإن باعها حاملاً صح البيع وكان رجوعاً منه أي عن تدبير الحمل.
ولو ولدتِ المعلقُ عتقها بصفة لم يعتق الولد لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يتعدَ إلى الولد كالوصية والرهن وفي فول إنْ عَتَقتْ الأم بالصفة عَتَقَ الولد كالقولين في ولد المدبرة
ولا يتبعُ مدبراً ولدُهُ المملوك لسيده وإنما يتبع الأمَّ رقاًّ وحرية فكذلك يتبعها في سبب الحرية وجنايبه أي المدبر كجناية قنٍّ فإن كانت الجناية عمداً فافتار المجني عليه القصاص فإن كان في النفس بكل التدبير وإن كان في الطرف كان باقياً على تدبيره وإن عفا المجني عليه مال تعلق الأرش برقبة المدبّر فإن فداه السيد بقي على تدبيره.
ويعتق بالموت من الثلث كله أو بعضه بعد الديه لما روى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعاً أن النبي (ص) قال (المدبَّرُ من الثلث) ولأنه تبرع يلزم بالموت كان من الثلث كالوصية فإن استغرق الدين التركة لم يعتق من شيئ لما روى الشيحان عن جابر (أن رجلاً من الأنصار أعتق عبداً له عن دبر منه لا مال له غيره وعليه دين فبلغ ذلك النبي (ص) فباعه وقضى الدين منه ودفع الفضل إليه).
ولو علق عتقاً على صفة تختص بالمرض أي مرض الموت بأن لم توجد إلا فيه كإن دخلتَ الدارَ في مرض موتي فأنتَ حُرٌَ عتق من الثلث كما لو نجز عتقه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/207)
وإن احتملتِ الصفة الصحة والمرض فوجدت في المرض فمن رأس المال في الأظهر اعتباراً بوقت التعليق وقيل من الثلث اعتباراً بوقت وجود الصفة.
ولو ادعى عبده التدبير فأنكره السيد فليس الانكار برجوع بل يحلف السيد أنه ما دبره ولو وجد مع مدبر مالٌ فقال كسبته بعد موت السيد وقال الوارث بل قبله صدق والمدبّرُ بيمينه لأن يده عليه وإن أقاما أي المدبر والوارث قدمت بينة أي المدبر لاعتضادها باليد.
? كتاب الكتابة ?
الكتابة هي العتق على مال يؤديه المكاتب في نجمين أو أكثر والنجم يطلق على الوقت الذي يحلُّ فيه مال الكتابة وأصل الكتابة مشتق من الكَتب وهو الضمَّ والجمع والأصل في جواز الكتابة قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) النور33.
وأخرج أحمد في المسند والبيهقي في السنن عن سهل بن حنيف (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعان غارماً أو غازياً أو مكاتباً في كتابته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله)). وأجمعت الأمة على جواز الكتابة.
قال المصنف هي مستحبة إن طلبها رقيق أمين قوي على كسب يفي بمؤنته ونجومه قيل أو غير قوي لأنه إذا عُرفت أمانته أُعِينَ بالصدقة والزكاة ولا تكره الكتابة بحال حتى فُقِدَ الوصفان: الكسب والأمانة ولا تجب إذا طلبها العبد ولكن تستحب ختى لا يتحكم المماليك بالمالكين.
وصيغتها أي الكتابة كابنتك أو أنت مكاتب على كذا كألفٍ منجماً مع قوله إذا أديتَهُ فأنت حرٌّ وهذا يعني أن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة فالمعارضة قول السيد كاتبتك على كذا والصفة قوله لعبده إذا أديت فأنت حرٌّ ويبين عدد النجوم وقسط كلِّ نجم لأنه عقد معارضة فوجب بيان العوض كالبيع ولو ترك التعليق أي تعليق الحرية بالأداء ونواه عند قوله كاتبتك على كذا جاز لاستقلال السيد بالعتق ولا يكفي لفظ كتابة بلا تعليق الحرية بالأداء ولا نية على المذهب وافترقت عن التدبير لأن التدبير مشهود بخلاف الكتابة فلا يعرف معناها إلا الخواص. ويقول المكاتَبُ قَبِلْتُ وبذلك تتم الصيغة وشرطهما أي السيد والعبد تكليف بكونهما بالغين عاقلين وإطلاق أي في التصرف فلا يكون السيد محجوراً عليه بسفه وألا يكون مرهوناً ولا كؤجراً.
وكتابة المريض أي مرض الموت من الثلث لأن كسبه ملك السيد فإن كان له أي للسيد مثلاه أي مثلاً قيمته عند الموت أي بأن كانت قيمة العبد ثلث التركة صحت كتابةُ كُلِّهِ لخروجه من الثلث فإن لم يملك غيره وأدى العبد في حياته أي في حياة السيد مائتين وقيمته مائة عتق لأنه يبقى للورثة مثلاه وهما المائتان وإن أدى مائة عتق ثلثاه ويبقى للورثة ثلثه وإن لم يؤذِ شيئاً قبل موت السيد فثلثه مكاتب فإن أدى حصته من النجوم عتق.
ولو كاتب مرتدٌّ بَنَى على أقوال ملكه بطلت الكتابة على الجديد حيث توقف العقود التي تقبل التعليق وتبطل فيما لا يقبل التعليق وعقد الكتابة منها وعلى القديم إن أسلم بان صحتها وإن مات مرتداً بان بطلانها ولا تصح كتابة مرهون لأنه معرض للبيع ولا كتابة مَكْرِي لأن منفعته مستحقة للغير فلا يتفرغ للاكتساب لنفسه لأداء نجومه قال تعالى: (إن علمتم فيهم خيراً) النور33. قال الشافعي المراد بالخير هنا: الاكتساب والأمانة.
وشرط العوض الذي يدفعه العبد لكتابته كونه ديناً إذ لا ملك للعبد يَرُدُّ العقد عليه مؤجلاً لأنه مأثور سلفاً وخلفاً ولأن المكاتَبَ عاجز حالاً ولو منفعة كبناء وحراسة ورعي وغير ذلك وأن يكون منجماً بنجمين فأكثر لأنه المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم ولو جازت على أقل من نجمين لفعلوه فقد أخرج البيهقي من طريق مسلم بن أبي مريم عن رجل قال: كنت مملوكاً لعثمان فغضب عليَّ فقال: لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين، فقصد التضيق عليه بذلك ولو كانت الكتابة تصح على أقل من ذلك لفعله. قال النووي في شرح مسلم يكفي نجم واحد وهو قول جمهور أهل العلم. وقيل إن ملك السيد بعضه وباقيه حرٌّ لم يشترط أجلٌ وتنجيم لأنه قد يكون ملك ببعضه الحرِّ ما يؤديه حالاً.
ولو كاتب على خدمة شهر ودينار في أثناء الشهر أو عند انقضائه صحت ومن شرط الشهر أن يكون متصلاً بالقعد كما في عقود الإجارة أو كاتبه على أن يبيعَهُ كذا أو يشتري منه كذا فسدت الكتابة لأنه شَرَطَ عقداً في عقدٍ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/208)
ولو قال كاتبتك وبعتك عذا الثوب بألف ونجَّمَ الألف بنجمين فأكثر وعلق الحرية بأدائه فالمذهب صحة الكتابة دون البيع وفي قول تبطل الكتابة أيضاً وهما قولا تفريق الصفقة.
ولوكانت عبيداً على عوض منجم صفقة واحدة وعلق عتقهم بأدائه فالنص صحتها أي الكتابة ويوزع المسمّى على قيمتهم يوم الكتابة لأن وقت استقلالهن عن السيد فمن أدى حصته عتق أي إن عِتْقَ بعضِهِمْ ليس معلقاً بأداء غيره فَعِتْقُ كلِّ واحدٍ معلق بأداء ما يخصه. ومن عجز رقَّ لعدم الأداء. وتصح كتابة بعض مَنْ باقيه حرٌّ أو موقوف على جهة عامة فلو كاتب كلَّهُ أي جميع العبد صح في الرقِّ وبطل في الآخر أي ويسقط ما يقابله من المسمى بنسبة القيمة فإذا أدى قسط الرقِّ عتق. في الأظهر تفريقاً للصفقة.
ولو كانت بعض َ رقيق فسدت أي الكتابة إن كان باقيه لغيره ولم يأذن الشريك في كتابته لعدم استقلال الشريك بالكتابة ولأن القيمة تنقص فيتضرر الشريك وكذا إن أذن والشريك له فيها أو كان له على المذهب لأ الكتابة تقتضي إطلاقَهُ في الكسب والسفر لأجل الكسب ولا يستقل بذلك إن كان بعضه رقيقاً كما أنه لا يعطى من سهم المكاتبين من الزكاة لأن بعض ما يكتسبه يكون لسيده ولو كاتباه معاً أو وكلا أي الشريكان مَنْ يكاتبه أو وكَّلَ أحدهما الآخر صح فلو عَجَزَ المكاتب فعجَّزَهُ أحدهما وفسخ الكتابة وأراد الآخر إبقاءه فكاتبا فب حصته فكإبتداء عقدٍ أي مثل ابتداء عقد على البعض فلا يجوز بغير إذن الشريك الآخر على المذهب وقيل يجوز لأنه يُغْتَفَرُ في الدوام ما لا يُغْتَفَرُ في الابتداء.
ولو أبرأ واحدٌ من اللَّذَين كاتبا العبد معاً من نصيبه من النجوم أو أعتقه أي أعتق نصيبه من العبد عَتَقَ نصيبُهُ وقوِّم الباقي عليه إن كان موسراً لسريان العتق.
? فصل فيما يلزم السيد بعد الكتابة وما يُسنُّ له وما يحرم عليه ?
يلزم اليد أن يحطَّ عنه أي من المكاتب جزءاً من المال الذي كاتب عبده عليه أو يرفعه إليه بعد أخذ النجوم ليستعين به لقوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) الصف33.
وأخرج النسائي في السنن الكبرى عن عطاء أن علياً قال في هذه الآية: (ضعوا عنهم ربع مال الكتابة).
والحطُّ أولى من الدفع إلى المكاتب لإعانته على العتق ولأنه فعل الصحابة فقد روى مالك فب الموطأ بلاغاً عن ابن عمر (أنه كاتب عبداً له بخمسة وثلاثين ألفاً فأخذ منه ثلاثين ألفاً وترك خمسة آلاف) وفي النجم الأخير ألبق لأنه أقرب إلى العتق لأنه روى عبدالرزاق في المصنف والبيهقي في السنن عن ابن عمر: (أنه كان إذا كاتب عبداً كره أن يضع عنه في أول نجومه إلا في آخره مخافة أن يعجز).
والأصح أنه يكفي ما يقع عليه الاسم من المال لقوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) النور33، وهذا عموم يقع على القلبيل والكثير. ولا يختلف بحسب المال قلة أو كثرة لأنه لم يثبت فيه توقيف وخبر وأن وقت وجوبه أي الحط أو الدفع قبل العتق لأن القصد منه الإعانة على العتق. ويستحب الرُّبع لخبر عطاء عن علي أنه قال: (ضعوا عنهم ربع مال الكتابة). وإلا فالسبعُ لخبر مالك عن ابن عمر أنه حط السُبُع.
وَيَحْرُمُ على السيد وَطْءُ مكاتبته كتابة صحيحة لاختلال ملكه فيها وكلُّ استمتاع يحرم كالوطء. ولا حدَّ على السيد فيه لشبهة الملك فقد أخرج الترمذي في البيوع والنسائي في السنن الكبرى عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم من الكتابة)). ويجب على السيد بوطئها مهرٌ واحد ولو وطئها عدة مرات ولكن لو وطئها بعد دفع المهر وجب مهر ثانٍ والولد الحاصل من وطء السيد حُرٌّ نسيب لأنها علقت به في ملكه ولا تجب قيمته على المذهب لانعقاده حراً وصارت بالولد مستولدة مكاتبة فإن أدت النجوم عتقت بالكتابة وتبعها كسبها وولدها فإن عجزت عن الأداء عتقت بموته أي بموت السيد وولدها من نكاح أو زنا مكاتب أي له حكم المكاتب في الأظهر يتبعها رِقّاً وعتقاً لأن الولد من كسبها فيوقف أمره على رقها وحريتها لأنه يتبعها في سبب الحرية وليس عليه أي الولد شيء للسيد من النجوم لأنه ليس أهلاً للإلتزام والحق فيه للسيد أي حقُ المِلْكِ كما أن حق الملك في الأمِّ له وفي قول الحق فيه لها أي المكاتبة لأنه مكاتب عليها وهو جزء منها فلو قُتِلَ فقيمته لذي الحقِّ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/209)
منهما أي السيد والأم.
والمذهب أن أرش جنايته عليه أي على الولد وكسبه ومهره ينفق منها عليه وما فضل منهما وقف فإن عتق فله أي للولد وإلا أي وإن لم يعتق فللسيد كما أن كسب الأم لها إن عتقت وإلا فللسيد ولا يعتق شيء من المكاتب حتى يؤدي الجميع أي جميع المال لما روى أبوداود وغيره عن عبدالله بن عمرو (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم). ولو أتى المكاتب بمال فقال السيد هذا حرام أي ليس ملكاً لك ولا بينة حلف المكاتب أن حلال أي أن المال ملكه ويقال للسيد تأخذه أي تأخذ المال أو تبرئه عنه أي تبرئه عن قدر هذا المال ويجبر على أحدهما فإن أبى السيد أخْذَهُ قبَضَهُ القاضي وعتق العبد إن أدى جميع ما عليه فإن نكل المكاتب عن الحلف حلف السيد إن كان له بينة سمعت.
ولو خرج المؤدَّى مستَحَقَّاً لجهة ما رجع السيد ببدله أي المُسْتَحق فإن كان المستحقُ في النجم الأخير بان أن العتق لم يقع لبطلان الأداء وإن تبين الأمر بعد موت المكاتب بان أنه مات رقيقاً وأن ما تركه للسيد دون الورثة وإن كان السيد قال عند أخذه أنت حُرٌّ لا يعتق لأ، ه قد بان عدم الأداء وإنما كان قول السيد على ظاهر الحال وقد بانت مخالفته للواقع.
وإن خرج المؤدّى من النجوم معيباً فله أي للسيد ردّه وأخذ بدله لأن العقد إنما يتناول السليم.
ولا يتزوج المكاتب إلا بإذن سيده لأنه عبد كما مرَّ في الخبر السابق ولا يتسرى أي لا يطأ مملوكته بإذنه على المذهب لضعف ملكه ومخافة أن تهلك الجارة بالحمل والطلق.
وله أي المكاتب شراء الجواري للتجارة فإن وطئها ولم يبالِ بالمنع فلا حدَّ عليه لشبهة الملك والولد نسيب ولا حق بالمكاتب لشبهة الملك فإن ولدته في الكتابة أي قبل عتق أبيه أو بعد عتقه لكن لدون ستة أشهر من وطئه تبعه الولد رِقّاً وعتقاً فإن عتق الوالد عتق الولد وإلا رقَّ وصار للسيد وهذا معنى قولهم إن ولده مكاتبٌ عليه ولا تصير أمه مُسْتَولَدةً للمكاتب في الأظهر لأنها علقت بمملوك فأشبهت الأمة المزوجة وقيل تصير مستولدة لأن ولدها ثبت له حق الحرية بكتابته على أبيه فثبت لها حرمة الاستيلاد.
وإن ولدته بعد العتق لفرق ستة أشهر وكان يطؤها فهو أي الولد حُرٌّ نسيب وهي أي أمّهُ أمَّ ولد ولو عجلَ المكاتب النجوم قبل وقتها لم يُجْبَرُ السيدُ عل القبول إن كان له في الامتناع غَرَضٌ صحيح كمؤنة حفظه أي مال النجوم أو خوف عليه من نهب أو إغارة أو سرقة وإلا كان للسيد غرض صحيح في الامتناع فيُجْبَرُ على قبضه لأن للمكاتب نفع في تنجيز العتق وتعجيل وقته. فقد روى البيهقي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه أنه قال: (أن امرأة اشترته وكاتبته على أربعين ألفاً فأدى عامة المال ثم أتاها ببقيته، فقالت: لا والله حتى يأتي به سنة بعد سنة ةشهراً بعد شهر فأتى بالمال إلى عمر رضي الله عنه فأخبره بذلك فقال: ضعه في بيت المال ثم أرسل إليها عمر: أنه أخذ المال وجعله في بيت المال وقال لها: قد عَتَقَ أبو سعيد فإن اخترتِ أخذتِ أخْذَُهُ شهراً بعد شهر أو سنة بعد سنة فافعلي، فأرسلت فأخذت المال).
ولو عجَّلَ بعضها أي بعض النجوم ليبرئه السيد من السيد فأبرأ مع الأخذ لم يصح الدفع ولا الإبراء لوجود الشررط الفاسد وهو الإبراء لأنه يشبه ربا الجاهلية كان أحدهم إذا حلَّ دينه قال لمدينه إقضِ أو زد فإن لم يقضه زاد في الدين والأجل فعلى السيد في هذه الحالة ردّ المأخوذ ولا عتق.
ولا يصح بيع النجوم ولا الإعتياض عنها لأنها دين غير مستقر فقد يتطرق السقوط إليها وعلى المرجوح فلو باع السيد النجوم وأدى المكاتبُ النجومَ إلى المشتري لم يعتق في الأظهر لأن المشتري يقبض لنفسه بحكم الشراء الفاسد فلم يصح القبض وعليه فلا عتق ويطالب السيدُ المكاتبَ ويطالب المكاتبُ المشتريَ بما أخذ منه لفساد القبض ولا يصح بيع رقبته أي المكاتب في الجديد للزوم الكتابة من جهة السيد إلا بإذن المكاتب ويكون ذلك تعجيراً لنفسه فتنفسخ الكتابة عندئذ وتفريعاً على المرجوح فلو باع السيد مكاتبه فأدى المكاتب إلى المشتري ففي عتقه القولان السابقان في بيع نجومه أظهرهما المنع وهبته كبيعه فتبطل بغير رضاه وليس له أي السيد بيع ما في يد مكاتبه واعتاق عبده وتزويج أمته ولا التصرف بما في يده لأنه في المعاملة مع مكاتبه كالمعاملة مع الأجنبي.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/210)
ولو قال له أي للسيد رجلٌ مثلاً أعتق مكاتبك على كذا ففعل عتق المكاتب وَلَزِمَهُ أي القائل ما التزمَ وهو بمنزلة فداء الأسير.
? فصل في بيان لزوم الكتابة من جانب وجوازها من جانب ?
الكتابة لازمة من جهة السيد ليس له فسخها إلا أن يعجز المكاتب عن الأداء لأ، ه أسقط حقه منه بالعوض فهو كما لو باعه وجائزة للمكاتب فله ترك الأداء وإن كان معه وفاء للنجوم لأن المصلحة في ذلك فإذا عجَّز المكاتب نفسَهُ وترك الأداء بعج قوله أنا عاجز عن كتابتي فللسيد الصبر عليه وله الفسخ للكتابة بنفسه لأنه فسخ مجمع عليه فلا مكان للاجتهاد فيه وإن شاء بالحاكم إن كان عقد الكتابة به وليست على الفور ومتى فُسِخَت الكتابة فاز السيد بما أخذه من المكاتب وللكاتب الفسخ في الأصح وإن كان معه وفاء لنجوم الكتابة لأن الكتابة لحظه فله تركها.
ولو استمهلَ المكَاتَبُ عند حلول النجم استُحِبَ إمهالُهُ وللسيد أن يعجّزه لأن الدين الحالَّ لا يتأجلُ بالتأجيل عندنا. فإن أمهله ثم أراد الفسخ فله ذلك لأن الدين الحالَّ لا يتأجل والإمهال أفضل إعانة له على تحصيل نجوم الكتابة وإن كان معه أي المكاتب عُرُوض تجارة أمهله لزوماً ليبيعها لأن المدة قريبة والضرر الذي يلحق السيدَ قليلٌ فإن عَرَضَ كسادٌ فله أي السيد أن لا يزيد في المُهْلَةِ على ثلاثة أيام لأن ما زاد عن الثلاثة كثير.
وإن كان مالُهُ غائباً أمهله إلى إحضاره إن كان دوم مرحلتين لأنه بمنزلة المال الحاضر. وإلا بأن كان مرحلتين فأكثر فلا يُمْهَلُ وللسيد الفسخ ولو حلَّ النجم وهو غائب أي المكاتبُ أو غاب بعد حلول النجم بغير إذن السيد فللسيد الفسخ إن شاء بنفسه وإن شاء بالحاكم لتقصير المكاتب بالغيبة فلو كان له أي المكاتب مالٌ حاضرٌ وهو غائب فليس للقاضي الأداء منه لأنه كانت له رغبة في تعجيز نفسه ولا تنفسخ الكتابة بجنون المكاتب لأنها عقد لازم من أحد الطرفين فلا تنفسخ بالجنون كالرهن وإنما ينفسخ بالجنون العقود الجائزة كالوكالة والشركة ويؤدي القاضي عن المكاتب إن وجد له مالاً لأنه ينوب عنه لعدم أهليته ولا تنفسخ الكتابة بجنون السيد لأنها لازمة من جهته ويدفع المكاتب المال إلى وليه وجوباً ولا يعتق المكاتب بالدفع إليه أي السيد المجنون لأ، ه ليس أهلاً للقبض فقبضه فاسدٌ ولو قتل المكاتبُ سيده فله إرثه قصاص أي جاز للوارث أن يقتص منه فإن عفا الوارث على دية أو كان قَتَلَ خطأً أخذها أي الدية مما معه لأن السيد مع المكاتب في المعاملات كالأجنبي مع الأجنبي وكذا في الجناية.
فإن لم يكن له مال فله أي الوارث تعجيزه في الأصح فإن رقَّ سقط الأرش لأن السيد لا يثبت له على عبده دين أو قطع المكاتب طرفه أي طر السيد فاقتصاصه والدية للطرف كما سبق في قتله سيده.
ولو قتل المكاتب أجنبياً أو قطعه فَعُفِيَ على مالٍ أو كان قتله للأجنبي خطأ أخذ المستحقُ مما معه الآن ومما سيكسبه بعد ذلك الأقلُّ من قيمته أي قيمة المكاتب والأرش لأ، المكاتب له أن يعجز نفسه وإن عجز نفسه فلا يتعلق الأرش إلا برقبته وإن لم يكن معه شيء وسأل المستحق تعجيزه عجزه القاضي وبيع منه بقدر الأرش إن زادت قيمته على الأرش وإلا ينباع كله فإن بقي منه شيء بقيت الكتابة فإن أدى حصته من النجوم عتق. وللسيد فداؤه وإبقاؤه مكاتباً وعلى المستحق قبول الفداء وهو أقل الأمرين من أرش الجناية أو القيمة. ولو أعتقه بعد الجناية أي السيد ونفذ العتق أو أبرأه عتق العبد المكاتب ولزمه أي السيد الفداء بالأقل من قيمة رقبته أو أرش الجناية.
ولو قُتِلَ المكاتب بطلت الكتابة ومات رقيقاً ويكون ماله لسيد بحكم الرقِّ وعليه تجهيزه ولسيد قصاص على قالته المكافيء له إن قتله عمداً وإلا فالقيمة لبقائه على ملك سيده وإلا يكون القاتل مكافئاً أو كان القتل غير عمد فالقيمة له لأنها جناية على عبده.
ويستقل المكاتبُ بكل تصرف لا تبرعَ ولا خَطَرَ كالبيع والشراء والإجارة وإلا فلا أي وما فيه تبرع كالصدقة والهبة أو خطر كالبيع نسيئةً والقرض فلا يستقل به لأن حق السيد لم ينقطع عنه لأنه قد يعجز فيعود إليه ولأن القصد بالكتابة تحصيل العتق بأداء النجوم. ويصح ما فيه تبرع وخطر بإذن سيده في الأظهر لأن الحق له ولسيده فقط.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/211)
ولو اشترى مَنْ يَعْتِقُ على سيده صحَّ والملك فيه للمكاتب لأنه مستقل بالبيع والشراء فإن عَجَز المكاتب وصار الذي اشتراه لسيده عتق عليه لأنه صار ملكاً له أو اشترى المكاتبُ مَنْ يَعْتِقُ عليه لم يصح الشراء بلا إذنٍ من السيد لتضمن الشراء العتق لأن في ذلك إتلاف للمال والشراء له بإذن فيه القولان في تبرعات المكاتب بإذن سيده أظهرهما الصحة. فإن صح الشراء فمكاتب عليه ويتبعه رقاً وحرية ولم يكن له بيعه وينفق عليه بحكم الملك دون النسب.
ولا يصح إعتاقه أي المكاتب وكتابته لعبده بإذن سيده على المذهب لأن العتق لا ينفك عن الولاء والمكاتب ليس من أهل الولاء. فقد روى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن اعتق)).
? فصل في الفرق بين الكتابة الصحيحة والباطلة والفاسدة ?
الكتابة الفاسدة لشرط فاسد كأن شرط عليه أن كسبه بينهما أو أن عتقه يتأخر سنة عن أداء نجومه والكتابة الباطلة هي ما اختل فيها ركن وأما الفاسدة فهي ما اختل فيها شرط والباطلة ملغاة إلا في تعليق عتق ممن يعتبر قوله والباطل والفاسد عندنا سواء إلا في الحج والخلع والعارية والكتابة. أو عوض فاسد كأن كاتبه على خمر أو خنزير أو أحل فاسد كأجل مجهول أو نجم واحد كالصحيحة في استقلاله ظاي المكاتب بالكسب وأخذ أرش الجناية عليه وفي أخذ مهر شُبْهَةٍ في الأمة لأنهما في معنى الاكتساب وفي أنه يعتق بالأداء ويتبعه كسبٌ وكذا ولده فيكاتب عليه وكالتعليق بصفة في أنه لا يعتق بإبراء ولا بأداء الغير عنه تبرعاً والكتابة الفاسدة تبطل بموت السيد قبل الأداء لعدم حصول المعلق عليه وهو الأداء للسيد نعم إن قال له السيد إن أديت إليَّ أو إلى وارثي بعد موتي فأنت حرٌّ لم يبطل الكتابة بموته كما أن الفاسدة جائزة من الطرفين فتبطل بموت أحد المتعاقدين بخلاف الصحيحة فإنها لازمة من قبل السيد. وتصح الوصية برقبته ولا يصرف إليه من سهم المكاتبين لأ، ها جائزة من الطرفين فالأداء فيها غير موثوق به لإمكان فسخها وتتخالفهما أي تخالف الفاسدةُ الكتابةَ الصحيحةَ والتعليق في أن للسيد فسخها وكذا العبد لجوازها من الطرفين وأنه أي السيد لا يملك ما يأخذه من المكاتب لفساد العقد بل يرجع المكاتب به إن كان متقوَّماً أي له قيمةٌ خلافاً للخمر والخنزير فإنه لا قيمة لهما وهو أي السيد يرجع عليه أي على المكاتب بقيمته يوم العتق لأنه يوم التلف فإن تجانسا أي ما يرجع به العبد وما يستحقه السيد فأقوالُ التقَّاص الآتيه فعلى القول به فالأصح سقوط الدينين المتساويين ويرجع منهما صاحب الفضل أي الذي دينه يزيد على دين الآخر به أي بالفاضل على الآخر قلت: أصح أقوال التقاصّ سقوط أحد الدينين بالآخر من الجانبين بلا رضا منهما أو من أحدهما لأن مطالبة أحدهما الآخر بمثل ماله عليه عبت والثاني برضاهما لأنه إبدال ما في ذمة لأحدهما بما عليه للآخر فأشبه الحوالة والثالث برضا أحدهما لأن للمدين أن يؤدي من أية جهة شاء والرابع لا يسقط وإن رضينا والله أعلم لأنه يشبه بيع الدين بالدين وهو منهي عنه فإن فسخها أي الكتابة الفاسدة السيد فلْيُشْهِدْ بالفسخ إبعاداً للنزاع فلو أدى المكاتب في الفاسدة المالَ قالَ السيدُ كنتُ فسختُ الكتابة فأنكره أي أنكر العبد الفسخ صدق البعد بيمينه لأن الأصل عدم الفسخ وعلى السيد البينة.
والأصح بطلان الفاسدة بجنون السيد وإغمائه والحجر عليه بسفه لأنها عقد جائز فبطلت بالجنون والإغماء والحجر كالوكالة والشركة لا بجنون العبد لأن الحظ فيها للعبد دون السيد كما أن العبد محجور عليه بالرقِّ قبل الجنون فلا يتجدد له الحجر بالجنون كما أن العبد لا يملك إبطال الصفة إنما له أن يعجّز نفسه ولو ادعى العبد كتابة فأنكر سيده أو وارثه صُدِّقا باليمين لأن لأصل عدم الكتابة ويحلف الوارث على نفي العلم والسيد على البتِّ ولو اختلفا السيد والمكاتب في قدر النجوم وصفتها تحالفا كما مرَّ في البيع ثم أي بعد التحالف إن لم يكن السيد قبض ما يدعيه لم تنفسخ الكتابة في الأصح كما في البيع بل إن لم يتفقا على شيء مما قالاه فسخ القاضي الكتابة وقيل تنفسخ بمجرد التحالف. وإن كان السيد قبضه أي قبض ما ادعاه وقال المكاتبُ بعضَ المقبوض وهو الزائد على ما اعترف به في العقد وديعة لي عند السيد عَتَقَ المكاتبُ لاتفاقهما على
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/212)
العتق وإنما الخلاف على تقدير المال ورجع هو أي المكاتب بما أدى جميعه ورجع السيد بقيمته أي المكاتب وقد يتقاصان إذا تلف المؤدى وكان هو أو قيمته من جنس قيمة العبد أو صفتها لو قال السيد كاتبتُكَ وأنا مجنون أو محجور عليَّ بسفه طرأ فأنكر العبد وقال بل كنتَ عاقلاً صُدِّقَ السيد بيمينه إن عُرِف منه سَبْقُ ما ادعاه وإلا يعرف منه ذلك فالعبد هو المصدق بيمينه ولو قال السيد وضعتُ عنك النجم الأولَ أو قال البعضَ من النجوم فقال المكاتب بل وضعت النجم الآخرَ أو الكلّ صُدِّق السيدُ بيمينه لأنه أعرف بفعله.
ولو مات شخصٌ عن ابنين وعبدٍ فقال العبدُ كاتبني أبُوكُمَا فإن أنكرا صدقا بيمينهما على نفي العلم بالكتابة وإن صدقاه فمكاتبٌ عملاً بقولهما فإن أعتق أحدهما نصيبَهُ فالأصح لا يعتق نصيبُهُ لعدم تمام ملكه بل يوقف فإن أدى المكاتب نصيب الآخر عَتَقَ كُلُّهُ وولاؤه للأب لأنه الذي كاتبه ثم ينقل ولاؤه إليهما سواء وإن عَجَزَ المكاتب عن أداء نصيب الابن الآخر قوِّم الباقي على المعتق إن كان موسراً وقت العجز وولاؤه كله له. وإلا أي وإن كان معسراً فنصيبُهُ حرٌّ والباقي للآخر قلت بل الأظهر الذي قطع به الأصحاب العتق والله أعلم ولا سراية لأن الوارث نائب الميت وهو لا سراية عليه.
وإن صدقه أحدهما فنصيبُهُ مكاتبٌ مؤاخذة له بإقراره ونصيب المُكَذِّبِ قِنٌّ إذا حلف على نفي العلم بكتابة أبيه فإن أعتقه المُصدِّقُ أي أعتقَ نصيبه فالمذهب أن يقوَّم عليه الباقي وإن كان موسراً لأن منكر الكتابة يقول أنه رقيق كله لهما فإذا أعتق صاحبُهُ نصيبه سرى العتق إليه عملاً بزعمه.
? كتاب أمهات الأولاد ?
والأصل في الباب الأخبار الصحيحة ومنها ما رواه ابن ماجة عن حديث ابن عباس قال: (ذُكِرَتْ أمُّ إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعْتَقَهَا وَلَدُهَا).
وروى أحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة على دُبُرٍ منه)).
وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: (قلنا يا رسول الله إنا نأتي السبايا ونحب أثمانهن فما ترى في العزل؟ فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا، ة ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة).
قال المصنف رحمه الله إذا أحبا أمته وولدت حياً أو ميتاً أو ما تجب فيه غرة كأم وضعت مضغة فيها صورة آدمي ظاهرة أو خفية ولو لم تظهر إلا لأهل الخبرة عتقت بموت السيد لخبر ابن عباس (أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة على دبر منه). وروى البيهقي عن بن عمر قال: (أمُّ الولد اعتقها ولدها) أو أحبل أمة غيره بنكاح لا تغرير فيه بحريتها فالولد الحاصل بذلك رقيق تبعاً لأمه ولا تصير به أمَّ ولد له إذا ملكها لأ، ها ما علقت بحرٍّ منه أو أحبل أمة غيره فالولد حرٌّ لأنها علقت بحرٍّ منه كما لو علقت حما لو علقت منه في ملكه والشبهة كأن يظنها زوجته أو أمته. ولا تصير هي أمَّ ولد إذا ملكها في الأظهر لأ، ها علقت في الولد بغير ملكه.
وله أي للسيد وطء أمِّ الولد له واستخدمها وإجارتها وأرش جناية عليها وقيمتها إذا قُتلت لبقاء ملكه عليها فقد روى الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمِّ الولد: (لا تباع ولا توهب ولا تورث يستمْتعُ بها مدة حياته فإذا مات عَتَقَتْ)). وكذا للسيد تزويجها بغير إذنها في الأصح لبقاء ملكه عليها فهي كالمدبرة ويحرم بيعها ورهنها وهبتها ولا تورث عن سيدها بل تعتق بموته من رأس ماله وأما خبر أبي داود وغيره عن جابر بن عبدالله (كنا نبيع أمهات سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ لا نرى بذلك بأساً) فاستدل به جماعة على حواز بيع أمهات الأولاد فأجيب عنه بجوابين: الأول أنه منسوخ والثاني أن هذا منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم استدلالاً واجتهاداً فيقدم عليه ما نسب إليه قولاً وهو خبر الدارقطني (أمُّ الولد لا تباع ولا توهب).
ولو ولدت الأمة من زوج أو من زنا أو من شبهة بأن ظنها زوجته الأمة فالولد للسيد يعتق بموته أي بموت السيد حتى لو ماتت أمُّهُ قبل موت السيد كهي لأن الولد يتبع أمَّهُ رقاً وحرية أي يبقى حكم الاستيلاء فيه فإذا مات السيد عتق.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/213)
وأولادها قبل الاستيلاد من زِناً أو زوج لا يعتقون بموت السيد وله بيعهم لأنهم وجدوا قبل ثبوت الحرية للأمِّ.
وعتق المستولدة وأولادها الحادثون بعد الاستيلاد من رأس المال مقدماً على الديون والوصايا لخبر الدارقطني السابق (أمهات الأولاد لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها سيدها مادام حياً فإذا مات فهي حرة).
ونختم هذا الشرح بما ختم كثير من فقهاء الشافعية شروحهم بقولنا: (اللهم كما ختمنا بالعتق كتابنا فنرجو أن تعتق من النار رقابنا وأن تجعل إلى الجنة مآبنا وأن تسهل عند سؤال الملكين جوابنا وإلى رضوانك إيابنا، اللهم بفضلك حقِّقْ رجاءنا ولا تخيب دعاءنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين).
فرغنا من هذا الشرح بتوفيق الله مساء يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الأول سنة 1426 الموافق العشرين من شهر نيسان / أبريل / 2005 في مسجد عاصم بن قيس رضي الله عنه في منطقة الريان في مدينة الدوحة في دولة قطر والله المعين على كل خير.
رجب
الفهرس
الفصل ............................................. ............................ الصفحة
نسب الشافعي ........................................... ......................... 2
أحكام الطهارة ........................................... ......................... 16
أسباب الحدث ............................................. ....................... 25
آداب قضاء الحاجة ............................................ .................... 30
الوضوء ............................................ ............................... 35
مسح الخف .............................................. ......................... 43
الغسل ............................................. ............................... 45
الحيض ............................................. .............................. 49
أحكام المستحاضة ......................................... ........................ 52
الصلاة ............................................ ............................... 57
من تلزمه الصلاة أداء وقضاء ............................................. ........... 63
الأذان والإقامة .......................................... .......................... 65
استقبال الكعبة ............................................ ........................ 70
صفة الصلاة ............................................ .......................... 73
مبطلات الصلاة وسننها ومكروهاتها ........................................ ......... 87
بيان سجود السهو واحكامه ........................................... ............. 94
سجود التلاوة والشكر ............................................ ................. 99
صلاة النفل ............................................. .......................... 103
صلاة الجماعة ........................................... .......................... 110
صفات الأئمة ............................................ ......................... 115
شروط القدوة وآدابها ........................................... ................... 120
شروط القدوة ............................................ ......................... 126
شروط القدوة أيضاً ............................................. ................... 127
قطع القدوة ............................................ ........................... 129
صلاة المسافر ........................................... ........................... 131
شروط القصر ............................................. ........................ 134
الجمع بين الصلاتين .......................................... ...................... 137
صلاة الجمعة ............................................ .......................... 140
الأغسال المسنونة يوم الجمعة ............................................ ............ 148
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/214)
فيما تدرك به الجمعة ............................................ ................... 151
صلاة الخوف ............................................. ......................... 153
اللباس ............................................ ................................ 157
صلاة العيدين ........................................... .......................... 158
يندب التكبير بغروب الشمس ليلتي العيد ........................................ ..... 161
صلاة الكسوفين .......................................... ......................... 162
صلاة الاستسقاء ......................................... .......................... 164
حكم تارك الصلاة ............................................ ..................... 168
الجنائز ........................................... ................................. 170
تكفين الميت وحمله ............................................. ................... 176
الصلاة على الميت ............................................. .................... 178
الدفن وما يتبعه ............................................. ....................... 185
الزكاة ............................................ ................................ 197
زكاة الحيوان ........................................... ........................... 198
بيان كيفية الإخراج ........................................... ..................... 202
زكاة النبات ............................................ .......................... 205
زكاة النقد ............................................. ........................... 209
زكاة المعدن والركاز ........................................... .................... 212
زكاة التجارة ........................................... ........................... 213
زكاة الفطر ............................................. .......................... 217
من تلزمه الزكاة وما تجب فيه ............................................... ........ 220
أداء الزكاة ............................................ ........................... 223
في التعجيل وما يذكر معه ............................................... ........... 225
الصيام ............................................ ............................... 227
النية وتوابعها .......................................... ............................ 230
بيان المفطرات .......................................... ........................... 233
شروط الصوم من حيث الفاعل ............................................ ......... 238
شروط وجوب الصوم وما يُبيح ترك الصوم ........................................ ... 241
فدية الصوم ............................................. .......................... 243
بيان كفارة جماع رمضان ............................................. .............. 245
صوم التطوع ............................................ .......................... 248
الاعتكاف .......................................... .............................. 250
الاعتكاف المنذور المتتابع .......................................... ................. 254
الحج .............................................. ............................... 256
المواقيت .......................................... ................................ 263
الإحرام ........................................... ................................ 267
المحرم ............................................ ................................. 268
دخول مكة ............................................... ........................ 271
واجبات الطواف ............................................ ...................... 273
واجبات السعي ............................................. ....................... 278
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/215)
الوقوف بعرفة ............................................. ........................ 279
المبيت بمزدلفة ........................................... .......................... 283
مبيت ليالي أيام التشريق الثلاثة بمنى .............................................. .... 288
بيان أركان الحج والعمرة وكيفية أدائهما وما يتعلق بذلك .............................. 292
محرمات الإحرام ........................................... ........................ 296
الإحصار والفوات ........................................... ...................... 308
البيع ............................................. ................................ 311
الربا ............................................. ................................ 322
البيوع المنهي عنها .............................................. ................... 329
المنهيات التي لا يقتضي النهي فسادها ............................................ .... 333
تفريق الصفقة وتعددها ........................................... .................. 338
الخيار ............................................ ................................ 339
خيار الشرط ............................................. ......................... 341
خيار النقص ............................................. ......................... 342
التغرير الفعلي بالتصرية وغيرها ............................................ ......... 345
حكم المبيع قبل قبضه وبعده والتصرف فيه .......................................... . 346
التولية والإشراك والمرابحة ......................................... .................. 349
الأصول والثمار ........................................... ........................ 350
بيان بيع الثمر والزرع وبِدُو صلاحهما ........................................... .... 352
اختلاف المتبايعين ........................................ .......................... 354
معاملة العبد ............................................. .......................... 355
السلم ............................................. ............................... 356
بيان أخذ غير المُسْلَمِ فيه عنه ووقته ومكانه ....................................... .... 361
القرض ............................................. .............................. 361
الرهن ............................................. ............................... 363
شروط المرهون به ولزوم الرهن ............................................. ........ 364
الأمور المترتبة على لزوم الرهن ............................................. ......... 366
جناية المرهون ........................................... .......................... 368
الاختلاف في الرهن وما يتبعه ............................................. .......... 369
تعلق الدين بالتركة ........................................... ..................... 369
التفليس ........................................... ............................... 370
بيع مال المفلس وقسمته ............................................ ................ 371
رجوع بائع المفلس بما باعه قبل الحجر ولم يقبض ثمنه .................................. 373
الحجر ............................................. ............................... 375
فيمن يلي الصبي وكيفية التصرف في ماله ......................................... .... 378
الصلح والتنازع على الحقوق ............................................ ............ 378
التزاحم على الحقوق المشتركة .......................................... ............ 380
الحوالة ........................................... ................................ 383
الضمان ............................................ .............................. 385
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/216)
كفالة البدن ............................................. .......................... 386
صيغتا الضمان والكفالة ومطالبة الضامن ............................................ . 387
الشركة ............................................ .............................. 388
الوكالة ........................................... ................................ 391
بعض أحكام الوكالة وما يجب على الوكيل ....................................... .... 393
فيما يجب على الوكيل في الوكالة المقيدة ........................................... .. 395
بيان جواز الوكالة وما تنفسخ به ................................................ .... 396
الإقرار ........................................... ................................ 398
الصيغة ............................................ ............................... 399
فيما يتعلق بالمُقَرِّ به ................................................ ................. 400
بيان أنواع من الإقرار وأنواع من الاستثناء ......................................... .. 401
الإقرار بالنسب ............................................ ....................... 403
العارية ........................................... ................................ 404
بيان جواز العارية وحكم الاختلاف .......................................... ....... 405
الغصب ............................................. ............................. 407
بيان حكم الغصب وانقسام المغصوب إلى مثلي ومتقوِّم ................................. 408
اختلاف المالك والغاصب ........................................... ................ 410
فيما يطرأ على المغصوب من زيادة وغيره ........................................ ..... 412
الشُفْعَة ......................................... .................................. 413
فيما يؤخذ به الشقص وفي الاختلاف في قدر الثمن .................................... 415
القراض ............................................ .............................. 417
بيان الصيغة وما يشترط في العاقدين .......................................... ....... 418
بيان أن القراض جائز من الطرفين ........................................... ........ 420
المساقاة .......................................... ................................. 421
بيان الأركان الثلاثة وما يشترط في عقد المساقاة ..................................... . 422
الإجارة ........................................... ................................ 423
شروط المنفعة وما تقدر به ................................................ .......... 425
منافع لا يجوز الاستئجار لها ............................................... .......... 426
فيما يجب على المُكري أو المكتري ........................................... ........ 427
بيان المدة التي تقدر بها المنفعة ........................................... ............. 428
فيما يقتضي فسخ الإجارة والتخيير في فسخها ........................................ 429
إحياء الموات ............................................ .......................... 430
بيان حكم منفعة الشارع وغيره ............................................. ........ 433
بيان حكم الأعيان المشتركة .......................................... .............. 434
الوقف ............................................. .............................. 435
أحكام الوقف اللفظية ........................................... ................... 438
بيان أحكام الوقف المعنوية .......................................... ................ 438
بيان النظر على الوقف وشروطه ووظيفة الناظر ....................................... 439
الهبة ............................................. ................................. 440
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/217)
اللقطة ............................................ ................................ 442
حكم لقطة الحيوان وغيره ............................................. .............. 443
تَمَلّكهَا وغُرْمَها ......................................... ........................... 445
القيط ............................................. ............................... 445
الحكم بإسلام اللقيط أو كفره بتبعية الدار وغيرها ..................................... 446
فيما يتعلق برق اللقيط وحريته واستلحاقه ......................................... ... 447
الجعالة ........................................... ................................ 448
الفرائض ........................................... ............................... 450
بيان الفروض التي في القرآن الكريم وذويها ....................................... .... 453
الحجب ............................................. ............................. 453
إرث الأولاد وأولادهم انفراداً واجتماعاً ......................................... .... 454
كيفية إرث الأصول ............................................ ................... 455
إرث الحواشي ........................................... .......................... 455
الإرث بالولاء ........................................... .......................... 456
حكم الجد مع الإخوة ............................................ .................. 457
موانع الإرث ............................................. ......................... 458
أصول المسائل وما يعول منها .............................................. .......... 459
تصحيح المسائل ........................................... ........................ 460
المناسخات ......................................... ............................... 462
الوصايا ........................................... ................................ 463
الوصية لغير الوارث وحكم التبرعات في المرض ........................................ 465
بيان المرض المَخُوْف ......................................... ....................... 466
أحكام لفظية للموصى له وبه ............................................... ........ 467
أحكام الوصية المعنوية مع بيان ما ينفع الميت ........................................ .. 469
الرجوع عن الوصية ............................................ .................... 470
الإيصاء ........................................... ............................... 471
الوديعة ........................................... ................................ 472
قَسْم الفيء والغنيمة .......................................... ...................... 475
الغنيمة وما يتبعها ............................................ ...................... 478
قَسْم الصدقات ........................................... ......................... 480
بيان ما يقتضي صرف الزكاة وقدر المُعْطَى ......................................... ... 482
قسمة الزكاة بين الأصناف ونقلها ............................................ ....... 483
صدقة التطوع ............................................ ......................... 484
النكاح ............................................ ............................... 485
الخِطْبَة ......................................... ................................... 490
أركان النكاح ............................................ ......................... 491
فيمن يعقد النكاح ............................................ ..................... 494
موانع ولاية النكاح ............................................ .................... 496
الكفاءة ........................................... ................................ 498
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/218)
تزويج المحجور عليه .............................................. .................. 500
ما يحرم من النكاح ............................................ ..................... 501
نكاح من فيها رقٌّ .............................................. ................... 504
حلِّ نكاح الكافرة ........................................... ...................... 505
نكاح المشرك ............................................ ......................... 506
نكاح زوجات الكافر بعد إسلامه وهن زائدات على العدد الشرعي ..................... 508
مؤنة المسلمة أو المرتدة ........................................... .................. 509
الخيار والإعفاف ونكاح العبد ............................................. .......... 509
الإعفاف ........................................... .............................. 511
في نكاح الرقيق من عبد أو أمة ............................................... ....... 512
الصداق ............................................ .............................. 512
الصداق الفاسدة ........................................... ........................ 514
التفويض ........................................... .............................. 515
بيان مهر المثل ............................................. ........................ 515
تشطير المهر وسقوطه ............................................ ................... 516
المتعة ............................................ ................................. 517
الاختلاف في المهر ............................................. .................... 517
وليمة العرس ............................................. ......................... 518
القَسْم والنشوز ........................................... ......................... 519
أحكام النشوز ............................................ ......................... 521
الخلع ............................................. ................................ 522
الصيغة وما يتعلق بها ............................................... ................ 523
الألفاظ الملزمة للعوض ............................................. ................ 524
الاختلاف في الخلع أو في عوضه .............................................. ....... 525
الطلاق ............................................ ............................... 525
تفويض الطلاق إليها ............................................. .................. 527
اشتراط القصد في الطلاق ............................................ .............. 528
بيان الولاية على الزوجة ............................................ ................ 529
تعدد الطلاق ............................................ .......................... 530
الاستثناء ......................................... ................................. 531
الشك في يالطلاق ........................................... ...................... 532
بيان الطلاق السني والبدعي ........................................... .............. 533
تعليق الطلاق بالأزمنة .......................................... .................... 534
أنواع من التعليق بالحمل والولادة والحيض وغيرها ..................................... 535
الإشارة إلى العدد وأنواع من التعليق ........................................... ...... 537
أنواع أخرى من التعليق ........................................... ................. 537
الرجعة ............................................ ............................... 538
الإيلاء ........................................... ................................ 541
ضرب مدة الإيلاء ........................................... ...................... 542
الظهار ............................................ ............................... 543
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/219)
فيما يترتب على الظهار من تحريم ............................................. ....... 544
الكفارة ........................................... ................................ 545
اللعان ............................................ ................................ 547
قذف الزوج ونفي الولد ............................................. ............... 548
كيفية اللعان وشروطه وثمراته ........................................... ............ 548
نفي النسب ............................................. .......................... 551
العدد ............................................. ............................... 551
العدة ............................................. ................................ 553
تداخل العدتين ........................................... ......................... 553
عدة الوفاة ............................................ ............................ 554
سكنى المعتدة ........................................... ........................... 556
الاستبراء ......................................... ................................ 557
الرضاع ............................................ .............................. 559
حكم الرضاع الطاريء على النكاح ............................................ ..... 560
الإقرار بالرضاع ........................................... ........................ 561
النفقات ........................................... ............................... 562
موجب المؤن ومسقطها ........................................... .................. 564
حكم الإعسار بمؤن الزوجة ............................................ ............. 566
مؤن الأقارب ........................................... .......................... 566
الحضانة ........................................... ............................... 568
مؤنة المماليك .......................................... ........................... 570
الجراح ............................................ ............................... 571
اجتماع مباشرتين .......................................... ........................ 573
شروط القود ............................................. ......................... 574
تَغَيّر حال المجني عليه .............................................. .................. 576
شروط قود الأطراف زالجراحات والمعاني .......................................... ... 577
كيفية القصاص ومستوفيه والاختلاف فيه .......................................... .. 578
اختلاف مستحق الدم والجاني ومثله وارثه ........................................ .... 580
مستحق القود ومستوفيه .......................................... .................. 580
موجب العمد وفي العفو ............................................. ............... 582
الديات ............................................ ............................... 583
الديات الواجبة فيما دون النفس ............................................. ........ 585
موجب إزالة المنافع ........................................... ..................... 587
الجناية التي لا تقدير لأرشها ............................................ ............. 589
موجبات الدية والعاقلة والكفارة .......................................... ........... 590
الاصطدام ونحوه ............................................. ...................... 592
العاقلة وكيفية تحملهم ............................................ .................. 593
جناية الرقيق ............................................ .......................... 595
الغرة ............................................. ................................ 595
الكفارة ........................................... ................................ 596
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/220)
دعوى الدم والقسامة .......................................... .................... 597
فيما يثبت به موجب القود ............................................. ............ 599
البغاة ............................................ ................................. 600
شروط الإمام الأعظم ............................................ .................. 603
الردة ............................................. ................................ 604
الزنا ............................................. ................................ 608
القذف ............................................. .............................. 612
قطع السرقة ............................................ ........................... 613
فروع تتعلق السرقة ............................................ .................... 616
شروط السارق الذي يقطع .............................................. ........... 617
قاطع الطريق ............................................ .......................... 619
اجتماع عقوبات على شخص واحد .............................................. ... 621
الأشربة ........................................... ............................... 621
التعزير ........................................... ................................ 623
الصيال وضمان الولاة ............................................ .................. 624
حكم إتلاف الدواب ............................................ ................... 627
السِيَر ........................................... ................................. 628
مكروهات الغزو ومن يجوز قتله ومن يحرم قتله من الكفار .............................. 632
حكم الأسر وما يؤخذ من أهل الحرب ............................................. .. 636
أمان الكفار ............................................ ........................... 640
الجزية ............................................ ................................ 642
مقدار مال الجزية ............................................ ...................... 644
أحكام عقد الجزية ............................................ ..................... 645
الهدنة ............................................ ................................ 647
الصيد والذبائح .......................................... .......................... 650
بعض شروط الآلة والذبح والصيد ............................................ ....... 652
فيما يملك به الصيد ............................................. ................... 654
الأضحية ........................................... .............................. 655
العقيقة ........................................... ................................ 658
الأطعمة ........................................... ............................... 658
المسابقة والمناضلة ......................................... ......................... 661
الأيمان ........................................... ................................. 664
بيان كفارة اليمين ............................................ ..................... 666
الحلف على السكنى والمساكنة والدخول وغيرها ....................................... 667
الحلف على الأكل والشرب مع بيان ما يتناوله بعض المأكولات ......................... 668
الحلف مسائل منثورة ............................................ ................... 670
الحلف على أن لايفعل كذا ............................................... .......... 671
النذر ............................................. ................................ 672
نذر النسك والصدقة والصلاة وغيرها ............................................ .... 673
القضاء ............................................ ............................... 675
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/221)
فيما يقتضي انعزال القاضي أو عزله .............................................. ... 678
آداب القضاء وغيرها ............................................ .................. 679
التسوية بين الخصمين ........................................... ................... 683
القضاء على الغائب ............................................ .................... 684
غيبة المحكوم به عن مجلس الحكم ............................................. ........ 686
ضابط الغائب المحكوم عليه .............................................. ............ 687
القسمة ............................................ ............................... 687
الشهادات .......................................... .............................. 690
بيان ما يعتبر فيه شهادة الرجال وتعدد الشهود وما لا يُعْتبر ............................. 694
تحمل الشهادة وأدائها وكتابة الصك .............................................. ... 696
الشهادة على الشهادة ........................................... ................... 697
الرجوع عن الشهادة ........................................... .................... 698
الدعوى والبينات .......................................... ........................ 699
جواب المدَّعى عليه .............................................. .................. 701
كيفية الحلف والتغليظ فيه وضابط الحالف ....................................... ..... 702
تعارض البينتين .......................................... .......................... 704
اختلاف المتداعيين ........................................ ......................... 705
شروط القائف وبيان إلحاقه النسب بغيره ........................................ ..... 706
العتق ............................................. ................................ 707
العتق بالبعضية .......................................... .......................... 710
الإعتاق في مرض الموت وبيان القرعة في العتق ........................................ 710
الولاء ............................................ ................................ 711
التدبير ........................................... ................................. 712
حكم المدبرة والمعلق عتقها بصفة وجناية المدبر وعتقه .................................. 713
الكتابة ........................................... ................................ 714
فيما يلزم السيد بعد الكتابة وما يُسنُّ له وما يحرم عليه ................................. 716
بيان لزوم الكتابة من جانب وجوازها من جانب ...................................... 717
الفرق بين الكتابة الصحيحة والباطلة والفاسدة ..................................... ... 719
أمهات الأولاد ........................................... ......................... 720
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[18 - 05 - 10, 06:07 م]ـ
دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي لفضيلة الشيخ رجب نوري مشوح(83/222)
دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي لفضيلة الشيخ رجب نوري مشوح
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[20 - 07 - 07, 10:49 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخواني النبلاء إليكم حاشية دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي لفضيلة الشيخ أبي عبد الرحمن رجب نوري مشوح وهذه الحاشية بمثابة شرح مختصر ودليل لطالب العلم المحتاج لفهم متن المنهاج وقد اشتملت هذه الحاشية فوائد ولطائف تجدها متناثرة في الكتاب كَدَرِّ السَّحاب لِتَكُنَ حول المتن كَدُرِّ السِّخاب؛ فجزى الله علماءنا عنا خير الجزاء على ما قدموه لنا ويسروه ... فاللهم يسر لهم أمورهم في الدارين واجعل لهم لسان صدق في الدارين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين ... آمين
الجزء الأول
(ذكر نسب الشافعي وطرفاً من أخباره)
هو محمد بن إدريس بن العباس بن شافع يلتقي نسبه برسول الله (ص) بعبد مناف جد النبي (ص) وقيل: إن شافعاً لقي النبي (ص) وهو مراهق للبلوغ.
ولد الشافعي بغزة سنة خمسين ومئة فمكث بها سنتين ثم حمل إلى مكة وتعلم بها القرآن على سفيان بن عُيينة وغيره وتتلمذ في مكة على مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة. ثم قصد المدينة فلزم مالكاً –رحمه الله- وقرأ عليه الموطأ وحفظه وكان سنه حين قدم المدينة ثلاث عشرة سنة ثم دخل بغداد وأقام بها سنتين وصنف كتبه القديمة ثم عاد إلى مكة وأقام بها سنة ثم عاد إلى بغداد وأقام بها دون السنة ثم خرج إلى مصر فصنف بها كتبه الجديدة وأقام بها إلى أن مات بها ودفن هناك في يوم الجمعة آخر ليلة من شهر رجب عام 204 للهجرة وكان عمره أربعاً وخمسين سنة.
أما كتبه القديمة فهي: الحجة والأمالي ومجمع الكافي وعيون السائل والبحر المحيط وأما كتبه الجديدة فهي: الأم والإملاء وجامعا المزني الكبير والصغير ومختصر المزني ومختصر الربيع والبويطي والرسالة وقد جمعها البيهقي في مناقب الشافعي.
وأما اصحابه البغداديون فهم: الحسن بن محمد بن الصبَّاح الزعفراني والحسين الكرابيسي وأبو ثور بن خالد الكلبي وأحمد بن حنبل وأتقنهم لرواية القديم الزعفراني.
وأما أصحابه المصريون فهم: إسماعيل بن يحيى المزني والربيع بن سليمان المرادي والربيع بن سليمان الجيزي ويوسف بن يحيى البويطي وحرفلة بن يحيى التجيبي ويونس بن عبد الأعلى.
وأما شيوخه في الحديث النبوي فهم:
- مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر.
- سفيان بن عينية عن عمر وابن دينار عن ابن عمر وابن عباس.
- مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس.
قال: المزني دخلت على الشافعي –رحمه الله- في علته التي توفي فيها فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً ولكأس المنية شارباً ولسيء أعمالي ملاقياً وعلى الله الكريم وارداً فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشد:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
وما زلت ذا عفوٍ عن الذنب لم تزل
فإن تعف عني تعف عن ذي إساءة
وإن تنتقم مني فلست بأيس
جعلت الرجا منِّي لعفوك سلما
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
تجود وتعفو منة وتكرما
ظلوم غشوم لا يزايل مأثما
ولو دخلت روحي بجرمي جهنما
قال الشافعي: يا ربيع رضاء الناس غاية لا تدرك فعليك بما يصلحك فالزمه فإنه لا سبيل إلى رضاهم واعلم أن من تعلم القرآن جل في أعين الناس ومن تعلم الحديث قويت حجته ومن تعلم النحو هِيبَ ومن تعلم العربية رق طبعه ومن تعلم الحساب جَزُلَ رأيه ومن تعلم الفقه نبل مقداره ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه وملاك ذلك كله التقوى.
ودخل يوماً على أبي عبد الصمد مؤدب أولاد الرشيد وقال له موصياً: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما استحسنته والقبيح عندهم ما كرهته عِّلمهم كتاب الله عز وجل ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تزكهم منه فيهجروه ثم زودهم من الشعر أعقله ومن الحديث أشرفه ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم.
قال الماوردي في الحاوي: كل موضع يقول فيه الشافعي: قال بعض الناس: يريد أبا حنيفة وكل موضع يقول فيه قال بعض أصحابنا يريد مالكاً وإذا أراد غيره ذكره باسمه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/223)
وقال الحاكم: إذا قال الشافعي: أخبرنا الثقة عن حميد الطويل فإنما يريد بالثقة إسماعيل بن عُلَيَّة.
شرح مقدمة المصنف
(بسم الله الرحمن الرحيم) أي أبتدئ وأفتتح بالبسملة
(الحمد لله) والحمد لغة الوصف بالجميل وعرفاً فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لإنعامه وقد بدأ المصنف بالبسملة ثم بالحمد اقتداء بالكتاب العزيز وعملاً بالخبر "كل أمر ذي بال لايُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع". رواه أحمد والبيهقي وعبد القاهر الرهاوي عن أبي هريرة, وحسنه ابن الصلاح والتقوى وصححه ابن حبان أي أن كل أمر مهم لا يبدأ فيه بالبسملة فهو ناقص غير تام.
(البر) أي المحسن وقيل الصادق في وعده.
(الجواد) والجواد هو كثير العطاء.
(الذي جلت) أي عظمت واستقرت في النفوس عظمة.
(نعمة) والنعمة لغة: هي مطلق المُلائم للاستعمال قال تعالى: [وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها] لنحل:18.
(عن الإحصاء) أي الحصر والضبط.
(بالأعداد) أي عظمت أن تضبط أو تُعَد بعدد. قال تعالى: [وأحصى كل شيئ عدداً) الجن:28. فالله سبحانه قد عمله من جهة الحصر والضبط بالعدد.
(المان) مشتق من المنة وهي النعمة فهو المنعم تفضلاً منه لا وجوباً عليه أما الحنَّان فهو الذي يقبل على من أعرض عنه. قال تعالى: [لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم] آل عمران:164
(الهادي إلى سبيل الرشاد) أي الموصل إلى طريق الرشد والخير والرشد ضد الغي.
(الموفق) أي المعين (للتفقه) أي التفهم والفقه لغة: الفهم من فَقِه فإن صار الفقه سجية له قيل فَقُهَ والفقه اصطلاحاً: العلم بالأحكام الشرعية العملية الناشئة عن الاجتهاد، وموضوعه: فعل المكلف، وفائدته: امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وغايته: انتظام أمر المعاش والمعاد مع الفوز بكل خير دنيوي وأخروي.
(في الدين) وهو ما شرعه الله سبحانه لعباده من الأحكام.
(من لطف به) أي أراد له الخير وسهله عليه بما منَّ عليه من الفهم التام
(واختاره) أي اصطفاه (من العباد) أي من الناس أشار بذلك إلى قول النبي (ص) "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" رواه الشيخان عن معاوية وفي رواية القطيعي في جزئه بسند صحيح عن ابن مسعود "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده"، وأورد صاحب الإحياء أن النبي (ص) قال: "قليل من التوفيق خير من كثير من العلم".
(أحمده) أي أصفه بجميع صفاته إذ كل منها محمود والاهتمام بجميعها أبلغ في التعظيم.
(أبلغ حمد) أي أكمله من حيث الإجمال لا التفصيل؛ لأن البشر جميعاً عاجزون عن ذلك فمن دعائه (ص) "لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" رواه مسلم.
(وأكمله) أي أتمه وقالوا: الإتمام غير الإكمال مستندين إلى قوله تعالى [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً] المائدة:3 فالإكمال لإزالة العوارض مع تمام الأصل والإتمام لإزالة نقص الأصل.
(وأزكاه) أي أطيبه وأكثره نماءً
(وأشمله) أي أعمَّه
(وأشهد أن لا إله) أي لا معبود بحق (إلا الله)
(الواحد) في ذاته وصفاته فلا تعدد له بوجه ولا نظير له بوجه وكذلك في أفعاله [ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر على ترى من فطور] الملك:3
(الغفار) أي الستار لذنوب من شاء من عباده فلا يؤاخذهم بها.
(وأشهد أن محمداً عبده) وصفه بالعبودية؛ لأنه ليس للمؤمن صفة أتم ولا أشرف من العبودية [سبحان الذي أسرى بعبده] الاسراء:1، [فأوحى إلى عبده ما أوحى] النجم:10 [نزّلَ الفرقان على عبده] الفرقان:1
(المصطفى) أي المستخلص من الصفوة. روى مسلم عن واثلة أن النبي (ص) قال "إن الله تعالى اصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم".
(المختار) من العالمين فهو أفضلهم بنص الكتاب [كنتم خير أمة أخرجت للناس] آل عمران:110 إذ أن كما الأمة تابع لكمال نبيها [فبهداهم اقتده] الأنعام:90 روى أحمد وابن ماجة والترمذي بسند حسن عن أبي سعيد أن النبي (ص) قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم ومن دونه إلا تحت لوائي وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر".
(أما بَعْدُ) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه وهي للانتقال من أسلوب إلى آخر وكان الرسول (ص) يأتي بها في خطبه. قيل وأول من قال بها داود عليه السلام ..
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/224)
(فإن الاشتغال بالعلم) وهو العلم المعهود شرعاً ًوهو: التفسير والحديث والفقه وما يخدمهما وما هو آلة لهما.
(من أفضل الطاعات) وأفضل العلوم معرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأن العلم يشرف بشرف معلومه ومعرفة الله تعالى واجبة إجماعاً قال تعالى: [قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون] الزمر:10، وقال تعالى: [يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات] المجادلة:11، وروى الشيخان عن معاوية أن النبي (ص) قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، وروى الشيخان عن ابن مسعود أن النبي (ص) قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" والمقصود بالحسد هنا الغبطة.
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"
وروى الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة".
(وأولى ما أنفقت من نفائس الأوقات) أي في تعلمه وتعليمه.
(وقد) للتحقيق (أكثر أصحابنا) أي ممن سلك مذهب الشافعي (رحمهم الله) تفاؤلاً برحمة الله تعالى. قال تعالى [والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان] الحشر:10.
(من التصنيف) أي من التأليف وهو جعل الشيء أصنافاً متميزة.
(من المبسوطات) وهي ما كثر لفظها ومعناها.
(والمختصرات) وهي ما قل لفظها وكثر معناها.
(وأتقن مختصر) أي أحكم المختصرات هو كتاب (المحرر) أي المهذب المنقى وسمي مختصراً؛ لقلة لفظه لا لكونه ملخصاً من كتاب آخر.
(للإمام) وهو من يُقتدى به في الدين (أبي القاسم الرافعي) نسبة للصحابي الجليل رافع بن خديج كما هو محكي عن خط الرافعي نفسه وقيل: نسبةٍ لرافعان وهي بلدة من بلاد قزوين حيث أصل قومه.
(ذي التحقيقات) أي صاحب المسائل المحققة بدليلها مع الرد على قوادحها توفي –رحمه الله- سنة ثلاث أو أربع وعشرين وستمائة عن نيف وستين سنة وأما المصنف وهو الإمام النووي فقد ولد بعد وفاة الرافعي بنحو سبع سنين بمدينته نوى وهي قرية من دمشق من قرى حوران (وهو) أي كتاب المحرر (كثير الفوائد) بما حوى من مسائل وتعليقات لم يسبق إليها والمحرر (عمدة في تحقيق المذهب) يعتمد عليه في معرفة ما ذهب إليه الشافعي وأصحابه من الأحكام.
(مُعْتَمَدٌ) أي: يرجع إليه (للفتي) أي المجيب في معرفة حرام الشرع وحلاله بما يرجحه أو يستنبطه (وغيره) أي: وغير المفتي وهو من يستفيد لنفسه أو لإفادة غيره.
(من أولي الرغبات) أي: أصحاب الرغبة في الخير الساعين لحيازة معالي الأمور.
(وقد التزم مصنفه -رحمه الله-) كما صرح بذلك في خطبة الكتاب (أن ينص) في مسائل الخلاف (على ما صححه معظم الأصحاب) أي أكثرهم لأن الخطأ إلى القليل أقرب منه إلى الكثير كما أن نقل المذهب من باب الرواية يرجح بالكثرة قال ابن العطار تلميذ الإمام النووي: إنما يرجع إلى قول الأكثر إذا لم يظهر دليل بخلافه؛ لأن العادة تقضي بأن الخطأ إلى القليل أقرب (ووفي) أي الرافعي رحمه الله (بما التزمه) حسب ما ظهر للمصنف في وقته وينافي ذلك أنه استدرك عليه بعض الأمور (وهو) أي ما التزمه (من أهم) المطلوبات (أو) بل هو (أهم المطلوبات) لمن يريد الراجح في المذهب لأن الراجح في المذاهب هو الأهم لمن أراد الإحاطة بالمدارك كما أنه الأهم لمن أراد الإفتاء والعمل وعليه خالف الشافعيُّ وأصحابُه في مسائل عديدة أكثر العلماء.
(لكن) أراد الإجابة على السؤال. إذا كان المحرر بهذه الكمالات فلماذا اختصرته؟ فأجاب على ذلك بإبداء عذرين أولهما (في حجمه كَبِرٌ) اقتضى أن يعجر (عن حفظه أكثر أهل العصر) الراغبين في حفظ مختصر في فقه الإمام الشافعي عن ظهر قلب (إلا بعض أهل العنايات) أي أصحاب الاهتمام والجد من أهل العصر فإنهم لا يعظم عليهم حفظه فأردت أن يعم العلم وينتشر وذلك بأن يكثر الحافظون لمختصر في فقه الإمام الشافعي رحمه الله.
(فرأيت) بسبب ما تقدم (اختصاره) مستوعباً لمقاصده بحسب الإمكان (في نحو نصف حجمه) أي قريباً من نصف حجمه بزيادة أو نقص. (ليسهل حفظه) على من رغب في ذلك.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/225)
(مع ما أضمه إليه إن شاء الله تعالى من النفائس والمستجدات) أي المعدات جياداً لبلوغها أقصى الكمال الممكن (منها) أي من هذه النفائس (التنبيه) وهو العذر الثاني الذي دفعه إلى اختصار المحرر وهو الإشارة (على قيود في بعض المسائل) وهي قليلة قيل: هي عشر مسائل فقط (هي من الأصل) أي من المحرر (محذوفات) سهدُاً أو اختصاراً أو إحالة على المطولات (ومنها مواضع يسيرة) قيل: هي نحو من خمسين موضعاً (ذكرها في المحرر على خلاف المختار من المذهب) أي على خلاف الراجح في المذهب (كما ستراها إن شاء الله تعالى) في مخالفتها للمختار من المذهب نظراً للأدلة وعليه فسيذكر الراجح فيها ذكراً واضحاً (واضحات) مفعول ثانٍ لترى أي لترى ذلك واضحاً رغم التزامه بالنص؛ لأنهم قد يرجحون ما عليه الأقل لقوة الدليل.
(ومنها إبدال ما كان من ألفاظه غريباً) أي غير مألوف الاستعمال ومع ذلك لم يغير لفظه "ده يازده" لأن وقوعها في ألسنة السلف ثم الخلف يخرجها عن الغرابة أو (موهماً) أي موقعاً في الوهم (خلاف الصواب) بأن كان المتبادر إلى الذهن غير المراد والإتيان بدلاً من ذلك (بأوضح) قد ألفه الناس (وأخصر منه بعبارات جليات) لاخفاء فيها في أداء المراد لخلوها من الغرابة والإيهام واشتمالها عن حسن السبك ورصانة المعنى.
(ومنها بيان القولين) أو الأقوال للشافعي رضي الله عنه وقد ذكر المصنف عبارات يُعْلَمُ منها أن الخلاف أقوال للإمام أو أوجه لأصحابه أو مركب منهما وحاصل ما ذكره أحد عشر صيغة: ستة منها للأقوال وهي: الأظهر والمشهور والقديم والجديد وفي قول، وفي قول قديم وثلاثة منها للأوجه وهي: والأصح والصحيح وقيل: وواحد لها وهو النص وواحدة للجميع وهي المذهب وإذا أجمعوا على قولين لم يجز إحداث ثالث إلا إذا كان مركباً منهما وذلك بأن يكون مٌفصِّلاً وكل من شفبه قال به أحدهما ثم الراجح منهما ما تأخر إن عُلِم وإلا فما نُصَّ على رُحْجانه وإلا فما فُرِّع عليه وحده وإلا فما قال عن مقابله مدخول أو يلزمُه فساد وإلا فما أفرده في محل أو جواب وإلا فما وافق مذهب مجتهد لِتَقِّويهِ به. فإن خلا عن ذلك كله فهو لتعادل النظرين وهذا يدل على سعة العلم أولاً كما يدل على هيمنة الورع حذراً من الترجيم من غير اتضاح دليل. وزعم قوم أن صدور قولين في مسألة واحدة لا يجوز وهذا غلط؛ فإن الإجماع على جوازه وقد وقع من الصحابة فَمَنْ بعدهم وقد وقع ذلك للشافعي في ثمانية عشر موضعاً. ولقد نقل القرافي المالكي في كتابه الفروق أن الإجماع منعقد على تخيير المقلد بين قولي إمامه أي: على جهة البدل لا على جهة الجمع وذلك إذا لم يظهر ترجيح أحدهما فمثلاً من أداه اجتهاده إلى تساوي جهتين فله أن يصلي إلى أيهما شاء إجماعاً. ولكن يمتنع ذلك إذا كان في حكمين متضادين كإيجاب وتحريم. ويجوز تقليد الأئمة الأربعة مالم يلزم من ذلك تلفيق لم يقل به واحد منهم كتقليد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة أو أن يأخذ هو بشفعة الجوار تقليداً لأبي حنيفة فإذا استحقت عليه تركها وقلد الشافعي ولذا قال ابن الصلاح رحمه الله: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة أي في قضاء أو إفتاء ومحل ذلك وغيره من سائر صور التقليد ما لم يتتبع الرخص بحيث تنحل ربقة التكليف من عنقه وإلا أثم به بل قيل فسق وهو وجيه هذا إذا تتبعها من المذاهب الأربعة المدونة وإلا فسق قطعاً.
فالأقوال إذن هي أقوال الإمام في القديم أو الجديد أو القديم والجديد معاً وقد يرجِّح بينهما وقد لا يرجِّح.
(والوجهين) أي وبيان الوجهين أو الأوجه: وهي أقوال أصحاب الشافعي التي خرجوها على قواعده ونصوصه وقد يجتهدون في مسائل من غير أخذ عن أصوله فلا تسمى وجهاً كما فعل المزني وأبو ثور فتنسب هذه المسائل إليهم ولا تعد وجوهاً في المذهب.
(والطريقين) أي: وبيان الطريقين أو الطرق وهو اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب فيحكي بعضهم نصين أو نصوصاً ويحكي بعضهم نصوصاً مغايرة كأن يقول أحدهم: في المسألة قولان أو وجهان فيقول الآخر: بل قول واحد أو وجه واحد أو يقول أحدهم: في المسألة تفصيل فيقول الآخر: بل فيها خلاف مطلق.
(والنص) أي وبيان النص وهو ما كتبه الشافعي أو أُسْنِد إليه من غير معارض
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/226)
(ومراتب الخلاف) من حيث القوة والضعف وهي في الأقوال والأوجه لتمييز الراجح من غيره.
(في جميع الحالات) أي أنه إذا ذكر خلافاً بيَّن مرتبته خاصة إذا كان الذي يقابل النص وجه أو تخريج.
(فحيث أقول الأظهر أو المشهور فَمِنْ) أي أن أحدهما كائن من جملة (القولين أو الأقوال) للإمام الشافعي (فإن قَوِيَ الخلاف) لقوة دليل غير الراجح وعدم شذوذه أو تكافؤ دليليهما في أصل الظهور. ويمتاز الراجح بكون معظم الأصحاب عليه أو بكون دليله أوضح وأحياناً لا يقع تمييز بين الراجح وغيره.
(قلت الأظهر) وهو الرأي الراجح من القولين إذا كان الاختلاف قوياً؛ لأن كلاً منهما يعتمد على دليل قوي وقوله الأظهر يشير إلى قوة مقابله وأحياناً يشار إلى ذلك بقولهم: وفي قول (وإلا) يَقْوَ الخلافُ (فالمشهور) المشعر بغرابة مقابله فالمشهور إذن هو الراجح من القولين أو الأقوال إذا كان الاختلاف ضعيفاً وفي مقابله المرجوح الضعيف ويقال فيه أيضاً: وفي قولٍ.
(وحيث أقول: الأصم أو الصحيح فمن الوجهين أو الأوجه فإن قوي الخلاف قلت الأصح) أي أن الأصح هو الحكم الراجح في المذهب من بين آراء الأصحاب وذلك عند قوة الخلاف ولكل وجهٍ دليل ظاهر وقوي وأحياناً يكون الأصح من الوجوه والآراء بترجيح مجتهد آخر (وإلا) يَقْوَ الخلاف (فالصحيح) وهو الراجح من آراء الأصحاب فالوجه المعتمد من آرائهم هو الصحيح وهو المشعر بانتقاء الصحة عن مقابله وأنه فاسد وضعيف ويعبرون عنه بقولهم: وفي وجهٍ وقد أطبق علماء المذهب على أن التعبير بالصحيح قاضٍ بفساد مقابله وعلى هذا نُدِبَ الخروج منه وإذا قلنا إن الفساد حقيقي فقد يكون بالنسبة لقواعدنا دون قواعد غيرنا فليتنبه لذلك.
(وحيث أقوال المذهب فمن الطريقين أو الطرق) أي هو اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب فيقول بعضِهم مثلاً: في المسألة قولان أو وجهان ويقول بعضهم: في المسألة تفصيل ويقول بعضٌ هو قول واحد ولا نص سواءْ ويقول بعض: في المسألة خلاف مطلق وقد يستعملون الوجهين في موضع الطريقين وقد وقع ذلك في المهذب في مسألة ولوغ الكلب وقد يستعملون القولين بدلاً من الوجهين كما في المهذب في باب كفارة الظهار إذا أفطرت المرضع ومنه قول صاحب المهذب في زكاة الدين المؤجل وجهان أحدهما على قولين والثاني يجب ثم المذهب هو الرأي الراجح قولاً أو وجهاً عند اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب بذكرهم الطرق.
(وحيث أقول النص فهو نص) الإمام (الشافعي) ويراد به ما كتبه الشافعي أو أسْنِد إليه
(–رحمه الله-) وهو أول من تكلم في أصول الفقه وأول من قرر ناسخ الحديث ومنسوخه قال للربيع أنت راوية كتبي فعاش الربيع المرادي بعده نحواً من سبعين سنة حتى صارت الرواحل تشد إليه لسماع كتب الشافعي.
(ويكون هناك وجه) مقابل للنص (ضعيف) وهو خلاف الراجح لا يعتمد وإن كان في دليله قوة (أو قول مخرج) والتخريج أن يجيب الشافعي بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين ولم يظهر الفرق بينهما فينقل الأصحاب جوابه في كل صورة إلى الأخرى فيحصل في كل صورة منهما قولان: منصوص ومخرج أحدهما في الأولى والآخر في الثانية والغالب في مثل هذا عدم إطباق الأصحاب على التخريج بل منهم من يُخرِّج ومنهم من يبدي فرقا ًبين الصورتين ومن ذلك النص في مُضْغة قال القوابل لو بقيت لتصورت إنساناً دليل على انقضاء العدة؛ لأن مدار العدة على براءة الرحم وقد وجد وعدم حصول أمية الولد لأن مدارها على وجه الولد ولم يوجد.
(وحيث أقول الجديد فالقديم خلافه أو القديم أو في قول قديم فالجديد خلافه) والقديم ما قاله الشافعي –رحمه الله- قبيل دخوله مصر والجديد ما قاله في مصر أو بعد خروجه الأخير من بغداد تصنيفاً أو إفتاءً ومنه المختصر والبويطي والأم والقديم ما كان قبل ذلك والعمل على الجديد؛ لأن القديم مرجوع عنه إلا في نحو من عشرين مسألة ولقد أفتى أصحابنا ببعض هذه المسائل على القديم حيث أداهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله وهم مجتهدون فأفتوا به ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي ولم يقل أحد من المتقدمين في هذه المسألة: إنها مذهب الشافعي قال أبو عمرو بن الصلاح فيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختياره مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه فإنه إن كان ذا اجتهاد اتبع اجتهاده مقيداً
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/227)
مشوباً بتقليد نقبل ذلك الشوب من التقليد عن ذلك الإمام وإذا أفتى بيَّن ذلك في فتواه فيقول: مذهب الشافعي كذا ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة وهو كذا والمسائل التي اتفقوا على الإفتاء بها بالقديم هي:
- التثويب في أذان الصبح وهو أن يقول بعد الحيلتين: الصلاة خير من النوم مرتين.
- التباعد عن النجاسة في الماء الكثير القديم لا يشترط.
- قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين القديم لا يستحب.
- الاستنجاء بالحجر فيما جاوز المخرج القديم جوازه.
- لمس المحارم القديم لا ينقض الوضوء.
- تعجيل العشاء القديم أنه أفضل.
- وقت المغرب في القديم امتداده إلى غروب الشفق.
- المنفرد إذا نوى الاقتداء أثناء الصلاة القديم جوازه.
- أكل الجلد المدبوغ القديم تحرميه.
- تقليم أظفار الميت القديم كراهته.
- شرط التحلل من الإحرام بمرض ونحوه القديم جوازه.
- الجهر بالتأمين في صلاة جهرية القديم استحبابه.
- من مات وعليه صوم القديم يصوم عنه وليه.
- الخط بين يدي المصلي إذا لم تكن معه عصا ًالقديم استحبابه.
- وإذا امتنع أحد الشريكين من عمارة الجدار أجبر على القديم.
- والصداق في يد الزوج مضمون ضمان اليد على القديم وهو ضمان المثل في المثلي والمتقوم بقيمته يوم التلف قال النووي –رحمه الله- في المجموع: وأما حصر المسائل التي يُفتى فيها على القديم فضعيف فإن لنا مسائل غير التي ذكرت صحح الأصحاب أو أكثرهم أو كثير منهم فيها القديم.
(وحيث أقول وقيل كذا فهو وجه ضعيف والصحيح أو الأصح خلافه) لأن قيل: صيغة وتليين (وحيث أقول وفي قول كذا فالراجح خلافه) لأن اللفظ يشعر بذلك وبذا يكون الراد بالضعيف خلاف الراجح؛ لأنه جعل مقابله الأصح تارة والصحيح تارة أخرى. ونلاحظ أنه وصف الوجه بالضعف دون القول تأدباً مع الإمام الشافعي لأن القول له.
(ومنها مسائل نفيسة) أي من الأمور التي رأى من أجلها اختصار المحرر وجود مسائل تمس الحاجة إليها ويعم نفعها (أضمها إليه) أي إلى مختصر المحرر (ينبغي) وهي كلمة تدل في أغلب استعمالاتها على المندوب أو الواجب وقد تستعمل للجواز أو الترجيح ولا ينبغي تكون للتحريم أو الكراهة.
(أن لا يخلى الكتاب) وهو المختصر وما ضم إليه (منها) لأهميتها والحاجة إليها (وأقول في أولها قلتُ وفي آخرها والله أعلم) لتتميز عن مسائل المحرر وهذا على الوجه الغالب فقد ذكر –رحمه الله- زيادات من غير تمييز (وما وَجدْتَهُ) أيها الدارس لهذا المختصر (من زيادة لفظة) أي كلمة بدون قلت (ونحوها على ما في المحرر فاعتمدها فلابد منها) حيث أنه لا غنى ولا عوض عنها لطالب العلم لتوقف صحة الحكم أو المعنى أو ظهوره عليها فقد زاد على قوله في التيمم: إلا أن يكون بجرحه دم أو الشين الفاحش في عضو فزاد [كثير] وظاهر لتصبح العبارتان: إلا أن يكون بجرحه دم كثير أو الشين الفاحش في عضو ظاهر.
(وكذا ما وجدته فيه من الأذكار مخالفاً لما في المحرر وغيره من كتب الفقه فاعتمده فإني حققته) أي دققته وقارنته حتى صرت على يقين منه لأني رجعت في ذلك إلى كتب الحديث المعتمدة فإنهم يعتنون بلفظه بخلاف الفقهاء فإنهم إنما يعتنون غالباً بمعناه.
(وقد أقدم بعض مسائل الفصل لمناسبة) أي أجعله مقدماً على موضعه من المحرر لربطه بموضوع آخر أو لتعلقه بغيره أو (اختصاراً) من حيث اللفظ كما فعل في باب الجراح حيث أخر بحث المكره عن بحث السبب الموجب للقَوَد ليُجْمع أقسام المسألة في بحث واحد وكما فعل في باب الإحصار فإنه أخره عن الكلام على الجزاء والمحرر قدمه عليه.
(وربما قدمت فصلاً للمناسبة) كما في فصل كفارات محرمات الإحرام حيث قدمه على باب الإحصار والفوات.
(وأرجو) أي آمل (إن تم) وقد تم بحمد الله تعالى (هذا المختصر أن يكون) أي هذا المختصر والذي سماه المنهاج (في معنى الشرح) أي التبيين والتوضيح (للمحرر) أي لشرح دقائقه وخفي ألفاظه وبيان صحيحه وما يحتاج من مسائله إلى قيد وإبدال الغريب والموهم من ألفاظه وعباراته.
(فإني لا أحذف منه شيئاً) أي لا أسقط شيئاً (من الأحكام أصلاً) هو تأكيد منه أنه لم يحذف شيئاً من الأحكام التي في المحرر. والحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف والشيء عند الأكثرين ما يصح أن يُعْلم ويُخْبَر.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/228)
(ولا) أحذف شيئاً من الخلاف ولو كان واهياً) أي ضعيفاً جداً لا ساقطاً وقد حذف المصنف أشياء من المحرر منها: أنه بَّين في المحرر مجلس الخلع ولم يبينه هنا ومنها أنه حذف التفريع القديم في ضمان ما ستجب وقد ذكره صاحب المحرر وأجيب على ذلك بأنه إنما ذكر الأصول وذلك لا ينافي حذف بعض الفروع
(وقد شرعت) وذلك بعد شروعه في المختصر (في جمع جزء ٍلطيف) أي كتاب صغير في حجمه (على صورة الشرح لدقائق) ودقائق الشيء هي ما احتج في فهمه إلى مزيد من التأمل أي: أنه ألف كتاباً في دقائق المنهاج (هذا المختصر) لعبارة المحرر (ومقصودي به التنبيه على الحكمة) أي أن غايتي بيان السبب (في العدول عن عبارة المحرر وفي إلحاق قيد) للمسألة (أو حرف) أي كلمة وهو من باب إطلاق الجزء على الكل (أو شرط للمسألة) والشرط لغة: تعليق أمر مستقبل بمثله. (وأكثر ذلك) المذكور (من الضروريات التي لابد منها) لمن أراد الكمال بمعرفة الأشياء على وجهها والتي يخل عدم وجودها بالمقصود (وعلى الله) لا على غيره (الكريم اعتمادي) أن يعينني على إتمامه كما أعانني على الشروع فيه فإنه سبحانه لا يرد من اعتمد عليه وفيه إخبار بأنه وضع مقدمة الكتاب قبل الشروع فيه (وإليه تفويضي) أي إليه وحده أفوض أمري وأبرأ من حولي وقوتي وأرضى بما قسم لي (واستنادي) فإنه سبحانه لا يخيب من استند إليه وقصد عونه (وأسأله النفع به) أي بتأليفه في الدنيا والآخرة (لي ولسائر المسلمين) وذلك بأن يلهمهم الاعتناء به كتابة ودراسة ووقفاً وفهماً وتطبيقاً (ورضوانه عني وعن أحبائي) وهم من أحبهم ويحبونني وإن لم يأت زمنهم؛ لأنه على المسلم أن يحب في الله كل من اتصف بالكمال سابقاً ولاحقاً. ثم يختم بتكرار الدعاء (وجميع المؤمنين) المصدقين بكل ما جاء به محمد (ص).
كلمة عن المصنف –رحمه الله-
هو الإمام يحيى محي الدين أبو زكريا بن شرف الجزامي النوادي ثم الدمشقي المتفق على إمامته وديانته وورعه وزهده كان يقرأ في اليوم والليلة اثني عشر درساً في عدد من العلوم وكان يديم الصيام ولا يأكل إلا أكلة واحدة بعد العشاء وكان كثير السهر في العبادة والتصنيف آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يواجه الملوك فمن دونهم ناصحاً ومنبهاً حج حجتين مبرورتين لا رياء فيهما ولا سمعة طهر الله قلبه من الفواحش تولى رئاسة دار الحديث الأشرفية سنة خمس وستين وستمائة ولد في العاشر من محرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوى من أعمال حوران ثم انتقل إلى دمشق سافر إلى أبويه زائراً فمرض عندهما توفي ليلة الأربعاء رابع عشر من شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة ودفن ببلدته. من كتبه: منهاج الطالبين، تهذيب الأسماء واللغات، الدقائق، تصحيح التنبيه. وكلها في الفقه، والمنهاج في شرح مسلم، والتقريب والتيسير في مصطلح الحديث وحلية الأبرار، والمعروف بالأذكار النووية، وخلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإسلام، ورياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، وبستان العارفين، والإيضاح في المناسك والمجموع وشرح المهذب للشيرازي، وروضة الطالبين، والتبيان في آداب حملة القرآن، ومختصر طبقات الشافعية لابن الصلاح، ومناقب الشافعي، والأربعون حديثاً النووية.
ما المقصود بالأصحاب وما هو طريق العراقيين وطريق الخراسانيين؟
الأصحاب في المذهب: هم أصحاب الآراء في المذهب الذين يخرجون الأوجه على أصول الشافعي يستنبطونها من قواعده ولهم اجتهادات في مسائل على غير أصوله منهم أبو حامد الإسفرايني والقفال المروزي الصغير وحين نقول: العراقيين فنقصد جماعة من الفقهاء المتقدمين في القرن الخامس الهجري منهم أبو حامد الإسفراييني وتوفي سنة 406هـ والمُحامِلي وتوفي 415هـ والبُنْديْنَجِي وتوفي 425هـ وسليم الرازي وتوفي 477هـ والقاضي أبو الحسن الماوردي وتوفي 450هـ وأشهرهم صاحب التصانيف أبو اسحاق الشيرازي وتوفي 476هـ وأما الخراسانيون فمنهم القفال الصغير وتوفي 417هـ والمسعودي وتوفي 420هـ وأبو علي السنجي وتوفي 430هـ وأبو محمد الجويني وتوفي 438هـ والفوراني وتوفي 461هـ والقاضي حسين وتوفي 462هـ.
واعلم أن نقل العراقيين أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين والخراسانيون أحسن بحثاً وتفريعاً وترتبياً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/229)
ولقد جمع ثلة من أصحاب مذهب الشافعي بين الطريقتين منهم القاضي الروياني وتوفي 452هـ وابن الصباغ وتوفي 478هـ وإمام الحرمين عبد الملك بن يوسف الجويني وتوفي 478هـ والمتولي وتوفي 478هـ وأبو حامد الغزالي وتوفي 505هـ والعِمْراني صاحب البيان وتوفي 558هـ والرافعي صاحب المحرر والكثير من كتب الفقه وتوفي عام 623هـ والنووي صاحب التصانيف ومنها المنهاج وتوفي 676هـ.
مسائل لابد منها لدارس الفقه.
1 - إذا قال الصحابي قولاً ولم يخالفه غيره ولم ينتشر فليس إجماعاً والراجح عند الشافعي أنه ليس بحجة أما إذا انتشر وخولف فيه فهما دليلان تعارضا فيرجح أحدهما على الآخر بكثرة العدد فإن استويا في العدد قُدِّم ما عليه إمام منهم على ما لا إمام عليه أما إذا انتشر ولم يُعارَضْ فهو حجة وإجماع عند أكثر الأصحاب وهو الوجه الصحيح في المذهب.
2 - قال العلماء: الحديث ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف وقالوا إنما يجوز الاحتجاج من الحديث في الأحكام بالحديث الصحيح أو الحسن وأما الضعيف فلا يجوز الاحتجاج به في الأحكام والعقائد وتجوز روايته وأما الموضوع فتحرم روايته ممن علم به إلا مبيناً ويجوز العمل بالضعيف في غير الأحكام كالقصص وفضائل الأعمال والترغيب والترهيب والصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة ومذهب الشافعي في الشاذ أنه رواية الثقة ما يخالف الثقات وقيل هو رواية الثقة ما لم يرده الثقات والعلة معنى: خفي في الحديث قادح فيه ظاهره السلامة منه وإنما يعرفه الحذاق المتقنون.
وأما الحديث الحسن فقسمان: أحدهما: ما لا يخلو إسناده من مستور لم يتحقق أهليته للرواية وليس مغفلاً كثير الخطأ ولا ظهر منه سبب مفسق ويكون متن الحديث معروفاً برواية وليس مغفلاً كثير الخطأ ولا ظهر منه سبب مفسق ويكون متن الحديث معروفاً برواية مثله أو نحوه من وجه آخر. والقسم الثاني: أن يكون راوية مشهوراً بالصدق والأمانة إلا أنه يقصر في الحفظ والإتقان عن رجال الصحيح بعض القصور.
وأما الضعيف: فهو الذي لا يحمل صفة الصحيح ولا صفة الحسن.
3 - إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السنة كذا أو مضت السنة بكذا أو السنة كذا ونحو ذلك فكله مرفوع إلى رسول الله (ص) على مذهبنا الصحيح المشهور ومذهب الجماهير. أما إذا قال التابعي من السنة كذا ففيه وجهان: الصحيح منهما والمشهور أنه موقوف على بعض الصحابة والثاني أنه مرفوع إلى رسول الله (ص) ولكنه مرفوع مرسل.
4 - إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا أو نقول كذا أو كانوا يقولون كذا أو يفعلون كذا أو لا يرون بأساً بكذا فاختلفوا فيه هل يكون مرفوعاً إلى رسول الله (ص) أم لا؟ قال
أبو إسحاق الشيرازي في اللُّمَع إن كان ذلك مما لا يخفى في العادة كان كما لو رآه النبي (ص) ولم ينكره فيكون مرفوعاً، وإن جاز خفاؤه عليه (ص) لم يكن مرفوعاً كقول بعض الأنصار: كنا نجامع فنكسل ولا نغتسل فهذا لا يدل على عدم وجوب الغسل من الإكسال.
وقال غيره إن أضاف ذلك إلى حياة رسول الله (ص) كان مرفوعاً حجة كقوله كنا نفعله في حياة رسول الله (ص) أو في زمنه أو هو فينا أو وهو بين أظهرنا وإن لم يضفه فليس بمرفوع وهذا قول الغزالي في المستصفى. وقال الاسماعيلي لا يكون مرفوعاً أضافه أو لم يضفه قال النووي: وظاهر استعمال كثير من المحدثين وأصحابنا في كتب الفقه أنه مرفوع مطلقاً إضافة أم لم يضفه.
5 - الحديث المرسل لا يُحتُّج به عندنا وعند جمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء وجماهير أصحاب الأصول ومرادنا بالمرسل هنا ما انقطع إسناده فقط من رواته واحد فأكثر وخالفنا في ذلك أكثر المحدثين فقالوا: هو رواية التابعي عن رسول الله (ص) قال الشافعي –رحمه الله-: واحتج بمرسل كبار التابعين إذا أُسْنِدَ في جهة أخرى أو أرسله من أخذ من غير رجال الأول مما يُقْبَل عنه العلم أو وافق قول بعض الصحابة أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه. قال –رحمه الله- ولا أقبل مرسل غير كبار التابعين ولا مرسلهم إلا بالشرط الذي وصفته.
وقد رجح الشافعي بإرسال سعيد بن المسيَِّب وقال: وإرسال ابن المسيَِّب عندنا حسن.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/230)
6 - اختلف المحدثون وأصحاب الأصول في جواز اختصار الحديث في الرواية على مذاهب أصحها يجوز رواية بعضه إذا كان غير مرتبط بما حذفه بحيث لا تختلف الدلالة ولا يتغير الحكم بذلك ولم نر أحداً منهم منع من ذلك في الاحتجاج في التصانيف وهكذا أطبق عليه الفقهاء من كل الطوائف وأكثر منه الإمام البخاري –رحمه الله- في صحيحه وهو القدوة
(كتاب أحكام الطهارة)
والكتاب: لغة الضم والجمع ومنه قولهم تكتبت بنو فلان إذا اجتمعوا.
واصطلاحاً: اسم لجملة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالباً تقول كتب إذا خط بالقلم لما في ذلك من جمع الحروف والكلمات. والطهارة مصدر طهَرَ أو طَهُرَ وفتح الهاء أفصح من ضمها أما إذا جاءت الطهارة بمعنى اغتسل فهي مثلته الهاء أي طَهَرَ أو طهُرَ أو طَهِِر.
والطهارة لغة: هي الخلوص من الدنس ولو كان الدنس معنوياً. وشرعاً: فعل ما يستباح به الصلاة ونحوها وبهذا عرفها المصنف بأنها رفع حدث أو إزالة نجس أو ما في معناها كالتيمم وطهر السلس أو ما كان على صورتها كالغسلة الثانية والطهر المندوب. وبدأوا بالطهارة لخبر الحاكم وغيره "مفتاح الصلاة الطهور" والخبر المشهور "بني الإسلام على خمس" وبدأوا من مقدمات الطهارة بالماء؛ لأنه الأصل في آلتها قال الله تعالى: [وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً] الفرقان:48 فافتتح الكتاب بالآية الكريمة تبركاً وتعظيماً والطهور عندنا هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره.
فقوله تعالى: [ماء طهوراً] يوضح أن المِنَّة بالطاهر ولا مِنَّة بالنجس ويسمى الماء الطاهر بالماء المطلق وهو ما يقع عليه اسم الماء بلا إضافة كماءِ الورد أو بلا صفة كماء دافق وهو المتعين لرفع الحدث. قال تعالى: [فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً] النساء:43 وأخرج مالك وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح عن أبي هريرة أن النبي سُئل عن ماء البحر فقال: [هو الطهور ماؤه الحل ميتته] فخص الماء باسم الطهور فدل على أنه لا يسمى غيره بهذا الاسم.
(يشترط لرفع الحدث) والحدث في اللغة الشيء الحادث وفي الشرع يطلق الحدث على أمر اعتباري يكون بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص ولا فرق هنا بين الحدث الأصغر وهو ما نقض الوضوء والمتوسط وهو ما أوجب بالغسل والأكبر وهو ما كان حيضا ًأو نفاساً إذ المُحَّرم بهما أكبر من غيره.
(والنجس) وهو في اللغة الشيء المبعد أو المستقذر وفي الشرع المستقذر الذي يمنع من صحة الصلاة أو هو وسف يقوم بالمحل عند ملاقاته لعين من الأعيان النجسة مع وجود رطوبة في أحد الجانبين يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص ولا فرق فيه بين المخفف كبول الصبي الذي لم يطعم غير اللبن والمتوسط كبول غيره من غير كلب والمغلظ كبول الكلب.
ويجب لسائر الطهارات (ماء مطلق) وذلك باستعماله لإزالة النجس ورفع الحدث على وفق ما أوجبه الشرع لأمره تعالى بالتيمم عند فقده.
قال تعالى: [وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً] النساء:43
(وهو) الماء المطلق (ما يقع عليه اسم ماءٍ بلا قيد) قال الشافعي –رحمه الله- (وما عد ذلك –أي ما عدا الماء المطلق- من ماء ورد أو شجر أو عصفر أو ماء زعفران أو عَرَق فلا يجوز التطهر به). فلا يجوز رفع الحدث بغير الماء المطلق من المائعات الطاهرة.
وماء الورد: هو المتخذ أصلاً من عصير الورد، وأما ماء الشجر فهو أن يقطع الشجر رطباً فيجري منه الماء أو يعتصر الماء من الشجر القائم بإحداث ثقب فيه وأما ماء العصفر والزعفران فهو المتخذ من عصرهما أو من نقعهما بالماء فيتروح الماء ويتلون بها.
وأما العَرَق فهو عَرَق الآدميين وقيل: ما خرج من عروق الشجر والأصح الأول وأما قوله: بلا قيد فيقصد القيد اللازم كماء الورد أو صفة لازمة كماء دافق وأما القيد غير اللازم فلا حاجة للاحتراز منه كماء البحر أو ماء البئر أو ماء المطر فإنه يطلق عليه اسم الماء ويدخل في التعريف ما نزل من السماء وهو ثلاثة:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/231)
المطر وماء ذوب الثلج والبَرَد وما نبع من الأرض وهو أربعة: ماء العيون وماء الآبار وماء الأنهار وماء البحار. وكذلك يدخل فيه رشح البخار من الطهور المغلي أو ما جُمع من الندى وعلى (هذا فالمتغير بمستغنىً عنه) أي المختلط بشيء طاهر يمكن تجنيب الماء عنه (كزعفران) وهو نبات معروف يستخدم في صبغ الثياب وفي التوابل ومثله الثمر الساقط في الماء والطُحُلب والقَطِران وكل ما يغير الماء من الطاهرات (تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء) لكثرته ولو تقديراً. (غير طهور) لأنه عندئذ لا يسمى ماءً سواء كان الماء كثيراً أم قليلاً فلذا لو حلف لا يشرب ماءً فشربه لم يحنث (ولا يضر) في طهورية الماء (تغير لا يمنع الاسم) لتعذر صون من التغيرات القليلة بسبب الريح والمجاورة والإناء والممر والمطر (ولا متغير بمكث) والمكث: هو الإقامة والبقاء والمعنى أن بقاء الماء في موضع معين لا يضر في طهوريته وإن فحش التغير (و) لا يضر (طين وطحلب) نابت في الماء وكذلك لا يضر ما يجري عليه الماء من الملح ولا يضر ورق شجر وقع فيه وإن تفتت. (وما في مقره وممره) لا يضر في طهوريته ومن ذلك دهن القرب القطرات من باطنها ليحفظ فيها الماء ومن ذلك مواسير المياه ولو صنعت من نحو طين محروق وكبريت ومعدن وإن فَحُش التغير لتعذر صون الماء منه وكذا لا يضر في طهورية الماء مروره على الكُحْل وهو كل ما يوضع في العين بقصد الاستشفاء أو الزينة كالإثمد وغيره والزِّرنيخ وهو حجر له بريق وهو ذو تركيب سام والنُّورة وأصلها حجر الكَلْس وتخلط بمواد أخرى كالزِّرنيخ وتستخدم لإزالة الشعر وما أشبه وذلك من المواد التي يمر عليها الماء.
(وكذا) لا يضر في الطهورية (متغير بمجاور) طاهر على أي حال كان المجاور (كعود ودهن) مطيبين تغير به ريح الماء؛ لأنه تغير عن مجاورة وكذا لو تغير ريحه بجيفة بقربه.
(أو بتراب) طرح في الماء أو مر الماء عليه؛ لأن التراب يوافق الماء في التطهير وقيل: التراب لا يسلب الطهورية باعتبار المجاورة وقيل باعتبار عدم إمكان صون الماء عنه وهنا يجب التفريق بين التراب الذي أُلقي في الماء وبين التراب الذي مر عليه الماء أو ألقته الريح فيه فالأول يمنع الطهارة (طرح) في الماء لا لتطهير مغلط وإلا لم يضر إلا إذا تغير بحيث لم يُسَّم إلا طيناً رطباً (في الأظهر) والثاني يضر كالمتغير ينجس مجاور إذا ما شككنا في أنه مخالط أو مجاور ولأن حكم دخان الشئ كحكم الشئ لأنه منه وهذا ضعيف وحكم الدخان في الماء هو حكم الجيفة الملقاة على الشط أو حكم التراب الذي يجعل في الماء كدودة فقط.
(ويكره) تنزيهاً (المشمس) وهو الذي سخنته الشمس ولو مغطىً بحيث تفصل الشمس بحدتها منه زهومة وهي مادة لزجة تعلو الماء وذلك إذا كان الماء بإناء - منطبع وهو ما يمتد تحت المطرقة - ولو بالقوة كالحديد والنحاس ونحوهما من غير الذهب والفضة؛ لأن الزهومة كما قال بعض الأطباء: تقبض على مسامَّ البدن فتحبس الدم كما روى أحمد عن أنس "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". فإذا توضأ أو اغتسل المحدث بالماء المشمس ارتفع حدثه إجماعاً والكراهة لخوف البرص والحديث الوارد فيه باطل وهذا لا يمنع صحة الطهارة ولا يكره مسخن بالنار فقد روى البيهقي والدارقطني وصححه عن عمر "أنه كان يسخن له الماء في قُمْقُم فكان يتوضأ به، والقُمْقُم إناء من نحاس". وأخرج الطبراني في المعجم الكبير والضياء في المختارة والبيهقي وابن مردويه عن الأصلع بن شريك قال: "أجنبت وأنا مع النبي في سفر فجمعت أحجاراً وسخنت ماءً فاغتسلت به فأخبرت النبي بذلك فلم ينكر علي) ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم. قال تعالى [فلم تجدوا ماءً فتيمموا] النساء:43 وهذا ماءٌ والناس يفعلون ذلك من لدن النبي (ص) إلى وقتنا هذا من غير نكير ولكن إذا كثر من يطلب ماء زمزم كما هو الحال في زماننا فيكره ذلك لما فيه من التضييق على المسلمين فقد روى عبد الرزاق في المصنف عن العباس بن عبد المطلب أنه قال في ماء زمزم " اللهم إني لا أحلها لمغتسل ولكن هي لشارب قال: ومتوضئ حل وبلٌّ] والبل الشفاء ويكره الطهر بفضل ماء طهارة المرأة للخلاف فيه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/232)
(والمستعمل في فرض الطهارة) أي المستعمل في الغسلة الأولى ولو من طهر صبي لم يميز أو استعمل في الطهارة من سلس أو الطواف أو صلاة نفل أو استعمل في طهر كتابية انقطع دمها لتحل لحليلها المسلم أو مجنونة أو ممتنعة عن الغسل ألزمها حليلها المسلم بالطهارة لتحل له كل ذلك غير طهور؛ لأنه حصل به زوال المنع من نحو الصلاة فانتقل المنع إلى الماء حيث لما أثرت الغسالة في المحل تأثرت به (قيل: وفي نفلها) أي وقيل إن الماء المستعمل في نفل الطهارة كالغسلة الثانية والثالثة والغسل المسنون والوضوء المتجدد (غير طهور)؛ لأن مداره على تأدية العبادة ولو مندوبة ويرد هذا القول بأنه لا مانع انتقل إلى الماء فمنع طهوريته وإنما كان هذا القول (في الجديد) لا في القديم؛ لأن السلف الصالح كانوا لا يحترزون عما يتقاطر عليهم منه ولقد روى الشيخان أن النبي (ص) عاد وجابراً في مرض فتوضأ وصب عليه من وضوئه كما أن الصحابة والتابعين كانوا يسافرون ويعدمون الماء فيتيممون وما روي عن أحدٍ منهم أنه توضأ بالماء المستعمل. ومن هذا نخلص إلى أن الماء المستعمل طاهر غير مطهر فقد روى أبو داود والنسائي بسند صحيح عن الحكم بن عمرو الغفاري أن النبي (ص) نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة.
(فإذا جمع) الماء المستعمل (فبلغ قلتين فطهور) وإن قلَّ بعد ذلك بتفريقه (في الأصح)؛ لأن الماء المتنجس إذا جمع فبلغ قلتين ولا تغيَُر به صار طاهراً قطعاً والنجاسة أشد من الاستعمال فيحكم بطهارته. وقيل: غير طهور؛ لأنه لا يقع عليه اسم الماء المطلق وإنما يُسَمى ماءً مستعملاً وإن كان كثيراً كما أن التفريق أزال قوته (ولا تنجس قلتا الماء) أي: إذا بلغ الماء قلتين ولو احتمالاً (بملاقاة نجس) للخبر الصحيح الذي رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن عن ابن عمر مرفوعاً: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) أي لم يقبل النجس كما في رواية ابن حبان (لم ينجسه شيئ). بشرط أن تكون القلتان من محض الماء لم يختلط به مائع يوافقه حتى يبلغ قلتين (فإن غيره) أي غير النجسُ الماءَ (فنجس) أي الماء اجماعاً ولو غيره بوصف واحدٍ من ريح وكون وطعم (فإن زال تغيره بنفسه) بأن لم ينضم إليه شيء كطول مكث مثلاً (أو بماء) انضم إليه ولو كان المضاف متنجساً (طَهُرَ) لزوال سبب التنجس.
[ملحوظة]: من قال بناجسة لحم الجَلَّالة فإنه قال: لابد من علف طاهر لأن؛ الظاهر عنده أن سبب نجاستها هو رداءة لحمها وهي لا تزول إلا بالعلف الطاهر.
(أو) زال تغيره (بمسك) غَيَّر ريحه (أو زعفران) غَيَّر لونه أو بخل غَيَّر طعمه (فلا) يطهر للشك هل التغير زال حقيقة أو استتر؟ (وكذا) لا يطهرإذا غيره (تراب وجصٌّ) والجص هو: ما تسميه العامة الجبس (في الأظهر) للشك أيضاً؛ لأن التراب والجِصَّ يكورِِّان الماء والكدورة من أسباب الستر (ودونها) أي دون القلتين (ينجس بالملاقة) أي بملاقاة النجاسة وإن لم يتغير لمفهوم حديث القلتين وقد اختار جمع أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وهو مذهب مالك رحمه الله ولكَّن الحديث صريح في التفصيل (فإن بلغهما) أي القلتين (بماء) ولو متنجساً أو متغيراً أو مستعملاً أو ملحاً مائياً أو ثلجاً أو بَرَداً ذاب في الماء (ولا تغير) بالماء (فطهور) للخبر السابق ولو كان النجس أو الطاهر بحفرة أو حوض آخر بحيث يتحرك ما في أحدهما بتحرك الآخر تحركاً عنيفاً وإن لم تَزُلْ كدورة أحدهما.
[ملحوظة] البئر كثير الماء إذا تَفتَّتَ فيه شيء نجس كفأرة مثلاً وتمعط شعرها وانتشر في الماء فينبغي أن ينزح الماء كله ليخرج الشعر معه فإذا كانت عين البئر فوَّارة بحيث يتعسر نزح جميع الماء فينزح منه ما يغلب على الظن أن الشعر كله خرج معه (فلو كُوِثَر) الماء (بإيرادٍ) بماء (طهور) أكثر منه (فلم يبلغهما) أي القلتين (لم يطهر) واعلم أن الإناء المتنجس يطهر بإدراة الماء الطاهر على جوانبه مرة واحدة ولو مكث المتنجس فيه مدة من الزمان.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/233)
(وقيل): إذا كان الوارد على المتنجس أكثر منه فهو (طاهر لا طهور) بشرط أن لا يكون به نجاسة جامدة ولكن يرده حديث القتين (ويستثنى) مما يُنجِّسُ قليل الماء (ميتة) لا دم لها أصلاً (سائل) بحيث يسيل عند شِقِّ عضو منها في حال حياتها: كذباب وبعوض وقمل وبراغيث وخنافس وبق وعقرب ووزغ ولو شك في شيء أيسيل دمه أو لا ولم يجرح؟ فله حكم ما لا يسيل دمه (فلا تُنِّجُس مائعاً على الشهور) لما روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: [إذا وقع الذباب في شراب فليغ مسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داءً والآخر شفاءً] وإنما يقدم السُّم ويؤخر الشفاء.
والمَقْل: الغَمْس وقد يكون الطعام حاراً فيموت الحيوان بالمقل فيه فلو كان ينجسه لما أمر بمقله.
وروى الدارقطني وضعفه عن سلمان أن النبي (ص) قال: "أيما طعام و شراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضؤوه" والمعروف أن الذباب لا يمكن الاحتراز منه دوما ًفلو لم يُعْفَ عنه لم تؤكل كثير من المأكولات؛ لأن الذباب لا ينفك يقع فيها وقِيْسَ بالذباب غيرهُ مما لا دم له متعفن؛ لأن عدم الدم المتعفن يقتضي خفة النجاسة على أنه يجب الانتباه إلى أن طرح الميت في المائع يُنِّجسه إذ لا ضرورة في ذلك، (وكذا) يستثنى (في قول: نجس لا يدركه) لقلته ولو احتمالاً عملاً بأصل الطهارة.
(طرف) أي بصرٌ معتدل بشرط مخالفته لون الواقع عليه وإن تعددت أماكن وقوعه (قلتُ: ذا القول أظهر) من الذي يقول بالتنجيس وعدم العفو (والله أعلم) لعسر الإحتراز من ذلك ويستثنى أيضاً من التنجيس صور أخرى ومنها ما يكون على رجل الذباب إذا وقع على نجاسة ثم على ثوب ويسير شهر أو ريش من نجس غير كلب وعن كثير شَعْرِ مركوب ويُعفى عن قليلِ دخانٍ نجسٍ وغبارِ زبْلٍ وعن الدم الباقي على اللحم والعظم ويعفى أيضاً من بخار تصاعد من كنيف ويعفى عن ريح دبر رطْب ٍكما يطهر فم الهرة التي أكلت نجساً إذا غابت وأمكن ولوغها ماءً ومثل الهرة كل حيوان طاهر.
(والجاري) أي من الماء وهو ما اندفع في منحدر أو مستور (كراكد) في تفصيله السابق من تنجس قليله بالملاقاة وكثيره بالتغير.
(وفي القديم لا ينجس) قليل الماء (بلا تغيُّرٍ) لأنه ماءٌ وارد على النجاسة فلم ينجس من غير تغيُّر كالماء الذي أُزيلت به النجاسة وعلى الجديد فالجريان وإن اتصلت حساً فهي منفصلة حكماً فكل جرية وهي الدفعة من الماء بين حافتي النهر أي ما يرتفع منه عند تموجه تحقيقاً أو تقديراً طالبة لما أمامها هاربة مما وراءها فإن كانت دون قلتين حيث لم يبلغ حجمها بضرب أبعادها الثلاثة قلتين تنجست بمجرد الملاقاة وإن بلغت قلتين أو أكثر فماؤها طاهر ما لم يتغير بالنجاسة. وإذا كانت النجاسة واقفة والماء يجري عليها فالماء الذي قبل النجاسة طاهر والماء الذي بعد النجاسة مما لم يمر على النجاسة طاهر أيضاً وأما الجريه التي فوق النجاسة فإن كانت متغيرة بالنجاسة فهي نجسة وإن كانت غير متغيرة فإن كل الماء قلتين فأكثر فهو طاهر.
وإذا كان في الماء الجاري موضع منخفض فركد فيه الماء ووقعت فيه نجاسة فإن الماء الذي قبل الموضع المنخفض طاهر والجاري بعد المنخفض وقبل وصول ماء النجاسة إليه طاهر وأما الماء في الموضع المنخفض والجرية التي تجري بجنبه فإن كانا متغيرين بالنجاسة فهما نجسان وإن كانا غير متغيرين فإن بلغا جميعاً قلتين فهما طاهران وإن كانا دون القلتين فهما نجسان. وإذا كانت الجرية تبلغ قلتين وفيها نجاسة جارية معها والماء غير متغير فهو طاهر. وإذا وقعت نجاسة في مائع غير الماء كاللبن والخل والدهن حُكِمَ بنجاسته سواء كان قليلاً أو كثيراً وسواء تغير أو لم يتغير لأنه لا قوة له في دفع النجاسة من غيره فلا يدفعها عن نفسه بخلاف الماء.
[فائدة]: الذراع= 44سم تقريباً، والذراع والربع= 55سم تقريباً.
500 × 406.25 = 203.125 كجم
1000
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/234)
(والقلتان) بالحجم تعدل حجم مكعب طول ضلعه ذراع وربع طولاً ومثله عرضاً ومثله عمقاً الحجم = 66.375 لتراً وبالوزن 500 رطل = فقد روى الشافعي والترمذي والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر أن النبي (ص) قال: "إذا بلغ الماء قلتين (بقلال هَجَر) لم ينجس" وهَجَر قرية بقرب المدينة كان ابتداء عمل القلال بها فنسبت إليها. قال ابن جريج رأيت قلال هَجَر فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. قال الإمام الشافعي: والاحتياط أن تجعل قربتين ونصفاً والقربة بالحجاز تسع مئة رطل فالقلتان إذاً (خمسمائة رطل بغدادي تقريباً في الأصح) فلا يضر نقص رطلين أو ثلاثة وقيل: رطل أو رطلين؛ لأن تقدير الشافعي للقلة أمر تقريبي.
(والتغير المؤثر بطاهر أو نجس طعمٌ أو لونٌ أو ريحٌ) أي إذا حدث تغير لأحد الثلاثة: الطعم أو اللون أو الريح حُكِم على الماء بعدم الطهورية وأما التغير اليسير بطاهر فلا يضر وإذا كان التغير بنجس ضر بالإجماع (ولو اشتبه) على من فيه أهلية الاجتهاد ولو صبياً مميزاً (ماءٌ) أو تراب. وذَكَر الماء؛ لأن الخبر ورد فيه (طاهر) أي طهور (بنجس) أي متنجس أو بمستعمل (اجتهد) وإن قل عدد الطاهر كواحد في مئة فيبحث عن أمارة يظن بها ما يقتضي الإقدام أو الإحجام وجوباً مضيقا ًإن ضاق الوقت وموسعاً إن اتسع الوقت إن لم يجد غير المشتبهين ولم يبلغا بالخلط قلتين فإن ضاق الوقت عن الاجتهاد تيمم بعد إراقتهما أو خلطهما حتى لا يبقى معه ماء طاهر بيقين (وتطهر بما ظن) بالاجتهاد (طهارته) منهما فلا يجوز الهجوم من غير اجتهاد ولا أن يعتمد ما وقع في نفسه طهارته من غير أمارة على ذلك فإن فعل لم يصح طُهْرُهُ وإن بان أن ما استعمله هو الطهور (وقيل إن قدر على طاهر) مطهر غيرهما (بيقين فلا) يجوز له الاجتهاد في الإناءين بل يتطهر به (والأعمى كالبصير في الأظهر) فيما مر؛ لأنه يدرك الأمارة باللمس أو الشم أو الذوق أما إذا فقد الأعمى هذه الحواس التي يدرك بها ذلك عادة فلا يجتهد بل يقلد بصيراً فإذا اختلف بصيران في الاجتهاد فإنه يتيمم.
(أو) اشتبه (ماء وبول) انقطعت رائحته (لم يجتهد) فيهما (على الصحيح) لأن البول لا اصل له في التطهير حتى يرد إليه بالاجتهاد ولا اعتبار للقول بأن أصله ماء لأنه استحال إلى حقيقة أخرى مغايرة للماء اسماً وطبعاً بخلاف الماء المتنجس فإنه ماء اسماً وطبيعة (بل يخلطان) الماء والبول أو يراقان (ثم يتيمم) فإن تيمم قبل خلطهما لم يصح لأنه تيمم بحضرة ماء متيقن الطهارة مع تقصيره بترك اعدامه والخلط شرط لصحة التيمم أو شرط لعدم وجوب القضاء وجهان (أو) اشتبه عليه ماء (وماء ورد) أو ماء شجر انقطعت راحته ولم يميز لم يتحر فيهما وجهاً واحداً ولكن (توضأ بكل) منهما (مرة) ليسقط الفرض بيقين (وقيل: له الاجتهاد) فيهما كالماءين لكن هذا القول ضعيف لوجود الفرق بين ماء الورد والماء لأن ماء الورد وماء الشجر لا أصل لهما في التطهير (وإذا استَعْمَل ما ظنه) الطاهر من الماءين بالاجتهاد (أراق (الآخر) ندباً إن لم يحتج إليه لئلا يغلط ويتشوش ظنه (فإن تركه) بلا إراقة فإن لم يبق من الأول بقية لم يجز الاجتهاد لأن شرط الاجتهد في متعدد حقيقة (وَتغيَّر ظنُّه) فيه من النجاسة إلى الطهارة (لم يعمل بالثاني) من الاجتهادين (على النص)؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالإجتهاد (بل تيمم) لأنه لا يمكن استعمال ما معه ويصلي (بلا إعادة في الأصح) إذ ليس معه ماء طاهر بيقين وقيل: يعيد؛ لأن معه ماءً طاهراً بالظن.
(ولو أخبره بتنجسه) أي بتنجس الماء أو غير الماء عدل (مقبول الرواية) ولو عبد أو امرأة لا فاسق ومجنون ومجهول ولا صبي ولو كان مميزاً ولكن قال جماعة: لو وجدت شاه مذبوحة فقال ذمي تحل ذبيحته: أنا ذبحتها أنه تحل وكفر به فسقا وبين) المخبر (السبب) في تنجسه أو طهارته (أو كان) المخبر (فقيهاً) بما يُّنِّجس (موافقاً) للمُخَبرِ في مذهبه (اعتمده) لغلبة الظن أنه يَعْرِفُ الراجح في المذهب في المتنجس وغيره.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/235)
(ويحل استعمال كل إناء طاهر في الطهارة) وغيرها إجماعاً ولقد توضأ رسول الله (ص) من جلد ومن قدح من خشب ومن مخضب من حجر ومن إناء من صُفْر. فقد روى الشيخان عن أبي ثعلبة الخُشني [أن النبي (ص) توضأ من مزادة مشركة] والمزادة قربة كبيرة ولا تكون إلا من جلدين وتسمى الراوية أيضاً وأخرج البيهقي في السنن عن أسلم [أن عمر بن الخطاب توضأ في جرة نصرانية] وأما قوله تعالى: [إنما المشركون نجس] التوبة:28 فالمقصود نجس الشرك لا الأبدان والثياب والأواني.
وأما الذين يتدينون باستعمال النجاسة وهم المجوس فهم يتطهرون بالبول ويتقربون بأرواث البقر فالأصح أنه يجوز استعمال أوانيهم وثيابهم لأن الأصل فيها الطهارة إلا ما تيقنا نجاسته.
(إلا ذهباً أو فضة) أي إناؤهما المصنوع من أحدهما أو منهما ولو باباً أو مِرْوداً لمُكْحُلة أو خلالاً لأسنان (فيحرم) استعماله في أكل أو غيره وإن لم يُؤْلَفْ هذا الاستعمال كإناء وضعه على رأسه من غير ضرورة. أما استعمال ما غطاه الصدأ أو غشي بغيره بحيث لا يظهر أصله فلا يحرم؛ لانتفاء الخيلاء ويحرم تبخير المنزل بمجمرة مصنوعة من الذهب أو الفضة أو منهما فقد روى الشيخان عن أم سلمة أن النبي (ص) قال: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم" والجرجرة هي جرع الماء متتابعاً بحيث يسمع له صوت وروى الشيخان عن حذيفة بن اليمان أن النبي (ص) نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة.
وروى الترمذي وأبو داود عن حذيفة [أن النبي (ص) نهى عن استعمال أواني الذهب والفضة] ولم يفرق بين الشرب وغيره. (وكذا) يحرم (اتخاذه) من غير استعمال (في الأصح) لأنه يجر إلى الاستعمال غالباً كآلة اللهو ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت بآنية الذهب والفضة وكذا تمويه السقوف بهما إ ذا كان يخرج منه شيء بالكشط والحك أو بالنار (ويحل المموه) أي المطلي بذهب أو فضة فإن مُوِّهَ شيء بهما أو بأحدهما كإناء نحاس وخاتم وآلة حرب ولم يحصل منه شيء ولو بالعرض على النار حل استعماله وفي تحلية آلة الحرب خلاف وهي إلى الجواز أقرب للحاجة إلى ذلك ولإرهاب العدو. أخرج الترمذي وغيره عن أنس وقال حديث حسن "أنه حديث كان قبيعة سيفه (ص) من فضة" والقبيعة من السيف وغيره هي ما تكون على طرف مقبضه (في الأصح) لقلة المموه به فإن كثر التمويه حَرُمَ وعله التحريم مركبة من تقليل التداول في النقدين: الذهب والفضة والخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
(ويحل) الإناء (النفيس) في ذاته (كياقوت) ومرجان وعقيق وعنبر (في الأظهر) لأنه لم يرد فيه نهي ولا يعرفه إلا الخواص فلا تنكسر باستعماله قلوب الفقراء (وما ضبب) أي والإناء الذي ضبب (بذهب أو فضة ضبة كبيرة) عرفاً (لزينة) ولو في بعضها بأن يكون بعضها لزينة وبعضها لحاجة (حَرُمَ) لما روى الشيخان عن حذيفة بن اليمان أن النبي (ص) قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" وأما التضبيب فإنه إصلاح كسر الإناء بما يمسكه (أو) ما ضبب بضبة (صغيرة لزينة أو كبيرة لحاجة جاز) مع الكراهة فيهما (في الأصح) لأن الاستعمال منسوب إلى جميع الإناء لا إلى موضع الضبة.
(قلت المذهب تحريم) إناء (ضبة الذهب مطلقاً) لأن الخيلاء فيه أشد وأما قوله: مطلقاً أي من غير تمييز بين الضبة الكبيرة والضبة الصغيرة لأن قدح رسول الله (ص) كان مسلسلاً بالفضة" رواه الشيخان عن عاصم الأحول قال: "رأيت قدح رسول الله (ص) عند أنس بن مالك وكان قد انصدع فسلسله بفضة" ولا يلزم من جواز الفضة جواز الذهب لأنها أوسع في الإباحة بدليل جواز خاتم الفضة للرجل وحرمة خاتم الذهب له. وقيل إن الذهب والفضة سواء لأن العجز عن غيرهما يبيح استعمال الإناء الذي كله منهما أو من احدهما فضلا ًعن المضبب به. وعند الاضطرار يباع الذهب مطلقاً لما روى أبو داود والترمذي والنسائي بسند صحيح وصحح ابن حبان عن عَرْفَجَة بن أسعد وقد أصيبت أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن فأمره النبي (ص) أن يتخذ أنفاً من ذهب]
[تتمة]
1 - يسن إذا جن الليل تغطية الإناه ولو بعرض عود ويسن إيكاء السقاء وإغلاق الأبواب مسمياً عند ذلك باسم الله تعالى ويسن كف الصبيان والماشية أول الليل وإطفاء المصباح للنوم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/236)
2 - أواني المشركين الذين لا يتعبدون باستعمال النجاسة كآنية المسلمين في الاستعمال ويكره استعمال أواني المشركين الذين يتعبدون باستعمال النجاسة كالمجوس الذين يغتسلون ببول البقر كما يكره استعمال أواني مدمني الخمر والقصابين الذين لا يتحترزون من النجاسة.
باب أسباب الحدث
والمراد عند الإطلاق الحدث الأصغر غالباً والأسباب جمع سبب وهو كل شيء يتوصل به إلى غيره وهنا يقدم أسباب الحدث (وهي أربعة) لأن الإنسان كما ذكروا يولد محدثاً وأسباب الحدث ثابتة الأدلة وعلة النقض بها غير معقولة المعنى فلا يقاس عليها غيرها فلا نقض بالبلوغ بالسن ولا بمس الأمرد ولا بمس فرج البهيمة ولا بأكل لحم الجزور على المذهب في هذه الأربعة وإن صحح المصنف النقض بأكل لحم الجزور من جهة الدليل ثم أجاب من جهة المذهب فقال: أقرب ما يُستروح إليه في ذلك قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة ومما يضعف النقض به أن القائل به لا يعد به إلى شحمه وسنامه مع أنه لا فرق ولا بالقهقهة في الصلاة وما روي أنها نتقض فضعيف قال الإمام النووي في المجموع: "نواقص الوضوء محصورة فمن ادعى زيادة فليثبتها ولا ينقض ما خرج من النجاسة من غير الفرج كالفصد والحجامة" فقد روى الدارقطني والبيهقي عن أنس "أن النبي (ص) احتجم وصلى ولم يزد على غسل محاجمه" والمَحاجم جمع مَحْجَم وهو موضع الحجامة فيندب غسله وروى أبو داود بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله "أن رجلين من أصحاب رسول الله (ص) حرسا المسلمين في غزوة ذات الرقاع فقام أحدهما يصلي فرماه رجل من الكفار بسهم فنزعه وصلى ودمه يجري وعلم النبي (ص) به ولم ينكره ولا ينتقض الوضوء بنزع الخف لأن نزعه يوجب غسل الرجلين فقط
(أحدها) أي أحد أسباب الحدث (خروج شيء) ولو عوداً أو رأس دودة وإن عادت إلى الجوف ولا يضر إدخال شيء إلى الجسد وإنما امتنعت الصلاة بالخروج لحمل المصلي متصلاً بنجس إذ ما في الباطن لا يحكم بنجاسته إلا إذا اتصل به شيء من الظاهر (من قُبُلِهِ) أي من قبل المتوضيء ولو ريحاً من ذكره أو قُبُلها أو بللاً رآه على قبله ولم يحتمل كونه من خارج أو خرجت رطوبة من فرجها إن كان الخارج من وراء ما يجب عليها غسله وهو ما يظهر من المرأة عند جلوسها لحاجتها (أو دبره) كالدم الخارج من الباسور الموجود داخل الدبر لا خارجه وكذلك ينقض الريح أو الغائط أو الصوت لقوله تعالى [أو جاء أحدٌ منكم من الغائط] المائدة:6
وروى الشيخان عن علي بن أبي طالب قال: [كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري" وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح". قال البيهقي: هذا حديث ثابت قد اتفق الشيخان على إخراج معناه ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة سواء كان في الصلاة أو خارجاً عنها فقد روى الشيخان عن عبد الله بن يزد "أن النبي (ص) سئل عن الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة فقال: لا ينفتل حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً".
وروى الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ بين أليتيه فيقول: أحدثت أحدثت ... فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً".
(إلا المني) أي مني المتوضيء وحده الخارج منه فلا نقض به حتى أن غسله يصح وإن لم يتوضأ اتفاقاً وذلك كأن يمني بمجرد النظر أو باحتلام وهو ممكن مقعدته فلا ينتقض الوضوء لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل أما مني غيره أو منيه إن عاد فينتقض الوضوء بخروجه والمشهور من مذهب الشافعي أن المني ظاهرٌ ما لم تصبه نجاسة فقد روى الإمام مسلم وغيره عن عائشة أنها قالت: [كنت أفرك المني من ثوب رسول الله فيصلي فيه] ولو كان نجساً لما انعقدت معه الصلاة ولأنه أصل حيوان طاهر فكان طاهراً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/237)
(ولو انسد مخرجه) أو خلق منسد الفرجين بأن لم يخرج منهما شيء نقض خارجه من أي مكان كان ولو الفم أو أحدهما نقض المناسب له أو لهما سواء كان انسداده تاماً أم لا (وانفتح تحت معدته) أي انفتح مخرج تحت معدته وهي من المنخسف تحت الصدر إلى السرة (فخرج المعتاد) خروجه (نقض) إذا لابد للإنسان من مخرج يخرج منه حدثه (في الأظهر) كالمعتاد (أو) انفتح (فوقها) أي فوق المعدة أو فيها أو محاذياً لها (وهو) أي الأصلي (منسد) انسداداً طارئاً (أو) انفتح (تحتها) أي تحت المعدة (وهو منفتح فلا) ينتقض الوضوء بالخارج سواء كان معتاداً أو نادراً (في الأظهر) لأنه عندئذ بالقيء أشبه لأن ما تحيله المعدة تلقيه إلى أسفل عادة. وقال الماوردي -رحمه الله- إن كل منفتح له حكم الأصلي.
(الثاني) من أسباب الحدث (زوال العقل) أي التمييز بجنون أو إغماء أو نحو سكر ولو كان ممكناً مقعدته من الأرض اجماعاً أو نوم فقد روى أبو داود عن الإمام علي –رضي الله عنه- أن النبي (ص) قال "العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ" والسَّه: حلقة الدبر والوكاء هو الخيط الذي يربط به الشيء والمعنى أن اليقظة هي الحافظة لما يخرج والنائم قد يخرج منه لشيء ولا يشعر به ولا ينقض النعاس وحديث النفس وأوائل نشوة السكر ومن علامات النوم الرؤيا ومن علامات النعاس سماع كلام الآخرين وإن لم يفهمه والعقل لغة المنع لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب الفواحش ولذا قيل إن العقل لا يُعطي لكافر إذ لو كان له عقل لآمن قال تعالى: [وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير] الملك:10 وأما التعريف الاصطلاحي للعقل وهو منسوب للشافعي: العقل صفة يميز بها الإنسان بين الحسن والقبيح (إلا نوم ممكن مقعده) متربعاً كان أو غير متربع إذا كان ممكناً ألييه من مقره من أرض وغيرها فلا ينتقض وضوؤه عندئذ فقد روى الإمام مسلم وغيره عن أنس قال: [كان أصحاب النبي (ص) ينتطرون العشاء فينامون قعوداً ثم يصلون ولا يتوضؤون] وفي رواية أبي داود حتى تخفق رؤوسهم الأرض ومن شك هل نام أو نعس؟ فلا ينتقض وضوؤه.
(الثالث) من أسباب الحدث (التقاء بشرتي الرجل والمرأة) المشتهاة طبعاً يقيناً لذوي الطباع السليمة وإن كان أحدهما مكرهاً أو ميتاً. قال تعالى [أو لامستم النساء] النساء:43 أي لمستم ذكرها كما قرئ به في السبع وحقيقة اللمس: باليد روى الشيخان عن أبي سعيد قال [نهى رسول الله (ص) عن بيع الملامسة]. وأما ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة [أن النبي (ص) كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ فضعيف من طرقيه الوارد منهما. وأما ما رواه الأمام أحمد ومسلم عن عائشة أنها قالت: "افتقدت رسول الله (ص) ليلة في الفراش فظننت أنه قد ذهب إلى بعض نسائه فقمت أطلبه فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو يصلي فلما فرغ من صلاته قال: مالك يا عائشة أَغِرْتِ؟ أقد جاءك شيطانك؟ " فلعل يدها وقعت على أخمس قدمه من وراء حائل واللمس ينقض الوضوء لأنه مظنة الالتذاذ والمحرك للشهوة التي لا تليق بحال المتطهر أما إذا كان اللمس من وراء حائل فلا ينتقض الوضوء لأنه لا يقع عليه اسم اللمس ولهذا: لو حلف لا يلمسها فلمسها من وراء حائل فلا يحنث.
(إلا مَحْرماً) بنسب أو رضاع أو مصاهرة فلا ينقض لمسه (في الأظهر) لأنه ليس مظنة للشهوة (والملموس) في انتقض وضوئه (كلامس في الأظهر) لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع.
(ولا نتقض صغيرة) ولا صغير لم يبلغ كل منهما حداً يُشتها عرفاً وقيل من له سبع سنين فما دون لانتفاء مظنة الشهوة وكذلك لا تنتفي الطهارة بمس عجوز لا تُشتها.
(وشعر وسن وظفر) لا ينقض في (الأصح) لأن معظم الالتذاذ في هذه الحالة بالنظر دون اللمس ويلحق بالظفر كل عظم ظهر إن كان متصلاً أو منفصلاً
(الرابع) من أساب الحدث (مَسُّ قُبُل الآدمي) ذكراً كان أو أنثى من نفسه ومن غيره متصلاً كان أو منفصلاً (ببطن الكف) من غير حائل لما روى أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح عن بسرة بنت صفوان أن النبي (ص) قال: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/238)
وروى أحمد والدارقطني وابن حبان عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ" وفي رواية ابن حبان "وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ" والإفضاء عند أهل اللغة المس بباطن الكف فثبت النقض في فرج نفسه بالنص ففي فرج غيره أولى لأنه أفحش لما في ذلك من هتك حرمة غيره ولهذا لا يتعدى النقض إلى الملموس وأما خبر عدم النقض بمس الفرج فقد قال ابن حبان وغيره إنه منسوخ والمراد بالمس مس جزء من الفرج بجزء من بطن الكف والمقصود ببطن الكف راحة اليد مع بطون الأصابع والمقصود بفرج المرأة ملتقى الشفرين على المنفذ فلا نقض بمس الأنثيين ولا باطن الأليتين ولا ما بين القبل والدبر ولا العانة والمكره والناسي كغيرهما.
(وكذا في الجديد حلقة دبره) أي مس حلقة دبر الآدمي لا ينقض الوضوء قياساً على القبل بجامع النقض لأن؛ كلاً ينقض خارجه كما أنه يسمى فرجاً وقد روى أحمد والدارقطني والبيهقي عن ابن عمرو أن النبي (ص) قال [أيما رجل مس فرجه فليتوضأ].
(لا فرج بهيمة) ولا طير ولا ينقض مسه قياساً على عدم وجوب ستره وعدم تحريم النظر إليه ولأنه غير مشتهىً عند ذوي الطباع السليمة.
(وينقض فرج الميت والصغير) لشمول الاسم لهم (ومحل الجَبِّ) أي القطع ينقض الوضوء لأنه أصل الذكر أو الفرج ولو بقى من الفرج أدنى جزء شاخص نقض قطعاً (والذكر) ومثله الفرج (الأشل) ينقض مسه (واليد الشلاء) إذا كان المس فإن الوضوء ينتقض (في الأصح) لشمول الاسم لها واليد الشلاء هي اليد التي بطل عملها.
(ولا تنقض رؤوس الأصابع وما بينها) ولا حرفها ولا حرف الكف لخبر [إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ] وضابط ما ينقض من اليد ما يستر عند وضع إحدى اليدين على الأخرى مع تحامل يسير.
(ويحرم بالحدث) حيث لا عذر (الصلاة) بأنواعها بالإجماع ولخبر الصحيحين عن أبي هريرة "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" وخبر مسلم عن ابن عمر "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غُلُول" والغُلُول هنا السرقة من مال الغنيمة ومن الصلاة صلاة الجنازة وسجود التلاوة والشكر وخطبة الجمعة أما عند العذر فلا تحرم بل قد تجب الصلاة من غير طهارة إن فقد الماء والتراب وضاق الوقت (والطواف) يحرم فرضه ونقله لما روى الحاكم وصححه عن ابن عباس مرفوعاً. "الطواف صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير" (وحمل المصحف ومس ورقه) يحرم من غير طهارة قال تعالى [لا يمسه إلا المطهرون] الواقعة:79 وهو خبر بمعنى النهي وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه ابن حبان عن عمرو بن حزم "أن النبي (ص) قال في الكتاب الذي كتبه إلى أهل اليمن لا يمس القرآن إلا طاهر". وحمل المصحف أبلغ من مسه فلأن منع المحدث من مسه فحمله من باب أولى إلا لضرورة كخوف عليه من غرق أو حرق أو نجاسة أو أن يقع في يد كافر بل يجب أخذه حينئذ ذكر ذلك النووي رحمه الله في التحقيق وشرح المهذب.
(وكذا جلده) المتصل به يحرم مسه على المحدث (على الصحيح) لأنه كجزء منه ويؤخذ من هذا أنه لو جُلِّد مع المصحف غيره حرم مس الجلد الجامع لهما من سائر جهاته لأن وجود غيره معه لا يمنع من نسبه الجلد إليه (و) يحرم حمل ومس (خريطة وصندوق) أُعِدَّا ليكون (فيهما مصحف) وحده لشبههما بجلده بخلاف ما لو أعدا لغيره أو لم يكن فيهما فيحل حملها ومسها حينئذ (وما كتب لدرس قرآن كلوح) حَرُمَ مسه (في الأصح) لأن القرآن إنما أثبت فبه للدراسة فأشبه المصحف والصحيح أنه يجوز مسه لأنه لا يراد للدوام كالمصحف وأما ما كُتب لغير الدراسة كالتبرك والتمائم فلا يحرم مسها ولا حملها لما روى الشيخان عن أبي سفيان أن النبي (ص) كتب كتاباً إلى هرقل وفيه [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً] آل عمران:64. ولم يأمر حاملها ولا صاحبها بالمحافظة على الطهارة كما يجوز للمحدث أن يمس ثوباً أو بساطا ًنقش عليه القرآن لأن القصد منه التزيين دون القرآن وكذلك يجوز له حمل ومس الدراهم التي نقش عليها بعض كلمات القرآن كما يجوز للصبيان حمل الألواح التي كتب فيها القرآن وهم محدثون لأن حاجتهم إلى ذلك كثيرة وطهارتهم لا تنحفظ فلو شرطنا طهارتهم لأدى ذلك إلى تنفيرهم من القرآن (والأصح حل حمله) أي القرآن في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/239)
(أمتعه) إذا لم يكن مقصوداً للحمل بل كان تبعاً أو لم يقصد الحامل شيئاً بعينه (وتفسير) إذ كان التفسير أكثر من القرآن لأنه لا يسمى قرآناً (ودنانير) عليها سورة الإخلاص أو غيرها لأن القرآن لم يقصد هنا كما يجوز أكل طعام وهدم جدار نقش عليها قرآن (لا قلب ورقة بعود) أي ولا يحل حمل قلب ورقة بعود ونحوه لأنه نقل للورقة فحكمه كحكم الحمل والثاني يجوز لأن العود منفصل عن الشخص فليس له حكمة (وأن الصبي) المميز (المحدث) ولو حدثاً أكبر (لا يمنع) في الأصح من مس أو حمل لوح يتعلم به ولا مصحف يتعلم منه وأما غير المميز فيمنع منه حتى لا ينتهكه.
(قلت: الأصح حل قلب ورقه) أي المصحف (بعود) ونحوه (وبه قطع العراقيون) لأن التقليب ليس بحمل ولا في معنى الحمل ومن (تيقن طهراً وحدثاً وشك) أي تردد باستواء أو رجحان (في ضده) أطرأ عليه أم لا (عمل بيقينه) باعتبار استصحاب الحال وذلك أن النبي (ص) "نهى الشاك في الحدث من أن يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" رواه البخاري عن عبد الله بن زيد. (فلو تيقنهما) أي الطهر والحدث (وجهل السابق) منهما (فضد ما قبلهما) يأخذ به (في الأصح) فإن كان قبلهما محدثاً فهو الآن متطهر لتيقنه الطهر وشكه في تأخر الحدث عنه والأصل عدم تأخره أو متطهر فهو الآن محدث ليتقن رفع الحدث مع الشك في تأخر الطهر الآخر والأصل عدم تأخره ولو تيقن طهراً وحدثاً نظر لما قبل قبلهما وهكذا فإن لم يعلم ما قبلهما لزمه الوضوء في كل حال لتعارض الاحتمالين بلا مرجح.
(فصل في آداب قضاء الحاجة)
أي فصل في آداب الخلاء والاستنجاء وبدأ المصنف بآداب الخلاء فقال: (يقدم داخل الخلاء) لو كان دخوله لحاجة غير قضاء الحاجة ولو كان بصحراء يقدم (يساره) وكذلك في الدخول على كل مستقذر كأماكن الربا وما يصنع فيه التماثيل وآلات اللهو (والخارج) يقدم (يمينه) على العكس من المسجد وكذلك في كل مكان فيه التكريم ويسمى أيضاً مكان قضاء الحاجة المرفق والكنيف والمرحاض والخلاء ويستحب لمن أراد الخلاء أن يقول بسم الله اللهم إن أعوذ بك من الخبث والخبائث فقد روى الشيخان عن أنس أن النبي (ص) كان يقول إذا أراد دخول الخلاء: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" أما البسملة فرواها ابن السني بسند صحيح.
ويندب لمن أراد دخول الخلاء أن يعد أحجار الاستنجاء فقد روى أبو داود والنسائي عن عائشة أم المؤمنين أن النبي (ص) قال: [إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يتطيب بها فإنها تجزئ] أو تعد الماء إن أراد الاستنجاء به أو هما إن أراد الجمع وهو الأفضل فقد أخرج ابن ماجه وآخرون عن جابر وأنس وأبي أيوب لما نزلت [فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين] التوبة:108 دعا النبي (ص) الأنصار فقال: "إن الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء فما تصنعون؟ فقالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة فقال: هل غير هذا؟ فقالوا: لا إِلاَّ أن أحدنا إذا خرج من الخلاء أحب أن يستنجي بالماء فقال رسول الله (ص) هو ذاك فعليكم به" وهذا يدل على أنهم كانوا يستعملون الحجارة أولاً لأنهم لا يخرجون إلا بعد استعمال الحجارة.
(ولا يحمل) في الخلاء (ذكر الله تعالى) أي لا يحمل شيئاً مكتوب فيه ذكر الله تعالى لما روى الترمذي عن أنس "أن النبي (ص) إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" وإنما وضعه لأنه كان مكتوباً عليه محمد رسول الله ثلاثة أسطر. قال الإسنوي وفي حفظي أنه كان يقرأ من أسفل فصاعداً ليكون اسم الله فوق الجميع قال الإمام ابن حجر: حمل عليه اسم الله على الخلاء مكروه لا حرام ولم يثبت فيه خبر صحيح. ومن أراد الخلاء فلا يدخل المحل حافياً ولا مكشوف الرأس فقد روى البيهقي عن حبيب بن صالح مرسلاً "أن النبي (ص) كان إذا دخل الخلاء لبس حذاءه وغطى رأسه" ويثبت هذا موقفاً بسند صحيح عن الصديق كما في مصنف ابن أبي شيبة.
(ويعتمد) ندباً في حال قضاء حاجته (جالساً يساره) وينصب اليمنى تكريماً لها بأن يضع أصابعها على الأرض ولأن ذلك أسهل لخروج الخارج فقد أخرج البيهقي عن سراقة أن النبي قال: [إذا قعد أحدكم لحاجته فليعتمد على رجله اليسرى] ويستحب ألا يطيل الجلوس على قضاء الحاجة لما في ذلك من الضرر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/240)
(ولا يستقبل القبلة) أي الكعبة (ولا يستدبرها) أدباً مع ساتر ارتفاعه ثلثا ذراع فأكثر ويدنو من الساتر ثلاثة أذرع فأقل بذراع الآدمي وكل هذا في غير المعد لقضاء الحاجة (ويحرمان) أي الاستقبال والاستدبار بعين الفرج الخارج منه البول أو الغائط (بالصحراء) بدون الساتر المذكور لما روى الشيخان عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي (ص) قال: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره ولكن شرقوا أو غربوا"
وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله (ص) أن تستقبل القبلة ببول أو غائط فرأيته قبل أن يُقْبض بعام يستقبلها] فحملوا الخبر المفيد للحرمة على الفضاء وما ألحق به لسهولة اجتناب المحاذاة فيه بخلاف البناء غير المذكور مع الصحراء أما إذا كانت هناك ضرورة كهبوب الريح فلا حرج في الاستقبال أو الاستدبار. فقد أخرج ابن أبي حاتم وعبد الرازق في المصنف بسند ضعيف مرفوعاً والأصح وقفه على مولى أبي عيينة عن سراقة "أن النبي (ص) كان يأمرهم باستمخار الريح إذا أراد أحدهم أن يبول" ومعنى يتمخر: ينظر من أين هبوبها.
(ويبعد) ندباً عن الناس في الصحراء بحيث لا يسمع لخارجه صوت ولا يشم له ريح فقد روى أصحاب السنن عن المغيرة "أن النبي (ص) كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد بحيث لا يراه أحد" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(ويستتر) عن أعين الناس بشيء بحيث لا ترى عورته لما روى أصحاب السنن عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستتر به فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لم يفعل فلا حرج" ويحصل الستر بوهدة أو راحلة أو بإرخاء ذيله. قال النووي في شرح مسلم: "ويجوز كشف العورة في محل الحاجة كحالة الاغتسال والبول ومعاشرة الزوجة ويحرم ذلك في حضرة الناس".
(ولا يبول) ولا يتغوط (في ماء راكد) قل أو كثر لما روى مسلم عن جابر [أن النبي (ص) نهى عن البول في الماء الراكد] لأنه ربما أفسده ومثل البول الغائط بل هو أولى منه أما الماء الجاري فلا يكره التبول والتغوط فيه إن كان كثيراً لقوته.
(وحُجْر) أي ولا يبول ولا يتغوط في حجر لما روى أحمد أبو داود والحاكم عن عبد الله بن سَرْجِس "أن النبي (ص) نهى عن البول في الجحر قيل لقتادة: فما بال الجحر؟ فقال: يقال: إنها مساكن الجن" صححه ابن خزيمة وابن السكن والذهبي ولأنه قد يكون فيه حيوان قوي فيؤذيه أو حيوان ضعيف فيتأذى والجحر هو الخرق المستدير النازل في الأرض وأما السرب فهو الشق المستطيل في الأرض (ومهب الريح) أي لا يتبول في مهب الريح حتى لا ترد الريح عليه رشاش البول ولا يستحم في مكان الغائط الذي لا منفذ له لأنه مظنة النجاسة وكثرة الوسواس فقد روى أبو داود عن عبد الله بن مُغَفَّل أن النبي (ص) قال: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه" (و) لا يتبول في (متحدث) الناس أي مكان اجتماعهم في الشمس شتاءً أو الظل صيفاً (و) لا في (طريق) لهم يسلكونه فقد روى أبو داود بسند جيد عن معاذ أن النبي (ص) قال: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البُرَاز في الموارد وقارعة الطريق والظل المقصود] وسميت ملاعن لأن من رأى ذلك قال: من فعل هذا لعنه الله أي لأنها كانت سببا ًللعن. والموارد الطرق إلى الماء ويستحب أن يجلس إذا أراد أن يبول ولا يبول قائما ًمن غير عذر فقد روى الترمذي عن عائشة أنها قالت من حدثكم أن النبي (ص) كان يبول قائماً فلا تصدقوه أما عند العذر فإن ذلك جائز فقد ثبت في الكتب الستة عن حذيفة "أن النبي (ص) أتى سباطة قوم فبال قائماً" وأخرج البيهقي في السنن بسند ضعيف عن أبي هريرة "أن النبي (ص) بال قائماً لعلة بمأبضه" والمَأْبض ما كان تحت الركبة وقد نقل صاحب الإحياء عن بعض الأطباء أنه قال: البول في الحمام قائما ًفي الشتاء خير من شربة دواء. (و) لا يتبول (تحت) شجرة (مثمرة) ولو كان الثمر مباحاً (ولا يتكلم) حال البول والغائط إلا لمصلحة لما ردُى أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وابن خزيمة في صحيحه عن أبي سعيد أن النبي (ص) قال: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك"
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/241)
(ولا يستنجي بماء في مجلسه) بل ينتقل عنه ولو قليلاً لئلا يعود عليه فينجسه إلا في الأَخْلِيَة المُعَّدة لذلك فلا ينتقل لأنه لا يناله رشاش فيها أما المستنجي بالحجر فلا يلزمه الانتقال لعدم وجود الرشاش ويكره أن يبول في موضع وضوئه أو غسله لحديث أبي داود عن عبد الله بن مُغَّفل أن النبي قال: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه"
(ويستبرئ من البول) والغائط ندبا ًوقيل: وجوباً بنحو تنحنح ومشي وأكثر ما قيل في المشي سبعون خطوة ونتر وكيفية النتر أن يمسح بيسراه من دبره إلى رأس ذكره وينتره بلطف ليخرج ما بقي إن كان ويكون ذلك بالإبهام والمسجة وأما المرأة فتضع أطراف أصابعها اليسرى على عانتها وتستنجي في مواضع البول بالأحجار والماء كالرجل وأمر الاستبراء مختلف باختلاف الناس والمقصود منه أن يظن أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخاف خروجه فمنهم من يحصل له ذلك بأدنى عصر ومنهم من يحتاج إلى تنحنح ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا وينبغي لكل أحد أن لا ينتهي في ذلك إلى حد الوسوسة. ومعلوم أن الأحجار تجزئ في قلع النجاسة كما أنه من المعلوم أن الأحجار لا يمكن أن تزيل أثر النجاسة تماماً؛ لذا استحب الاستبراء ولم يجب وأما ما رواه الشيخان عن ابن عباس أن النبي مر بقبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمية وأما الآخر فكان لا يستنزه في البول" وفي رواية "لا يستبرئ من البول" فمحمول على ما إذا تحقق أو غلب على ظنه بمقتضى عادته أنه إن لم يستبرئ خرج منه شيء ويكره حشد مخرج البول من الذكر بنحو قطن.
(ويقول) ندباً (عند دخوله) لمحل قضاء حاجته أو دخوله لبابه وإن بَعُدَ محل الجلوس عنه (باسم الله) فإن نسي حتى دخل قاله بقلبه (اللهم إن أعوذ بك من الخبث) أي أتحصن بك من الخبث وهم ذكران الشياطين (والخبائث) وهو جمع خبثة وهن إناث الجن للاتباع فقد روى الشيخان عن أنس أن النبي (ص) كان يقول إذا أراد دخول الخلاء: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وقيل أيضاً: إن الخبث هو الشر وأما الخبائث فهي الشياطين. (وعند خروجه منه) أي قضاء الحاجة يقول: (غفرانك) أي اغفر لي (الحمد لله الذي أذهب عنِّيَ الأذى) بتسهيل خروجه (وعافاني) للاتباع فقد روى ابن ماجه عن أنس أن النبي كان يقول إذا خرج من الخلاء: "الحمد لله الذي أذهب عنِّيَ الأذى وعافاني" (ويجب الاستنجاء) من كل خارج ملوث (بماء) على الأصل في إزالة النجاسة (أو حجر) لما روى أبو داود عن عائشة أم المؤمنين أن النبي قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بها" وروى مسلم عن سلمان الفارسي أنه قال "أمرنا رسول الله (ص) أ ن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار"
والاستنجاء عبادة مسقلة فيجوز تأخيره عن الوضوء على أن لا يمس شيئاً من عورته فيصح الوضوء ولا يصح التيمم والفرق بينهما أن الوضوء يرفع الحدث وذلك يصح مع بقاء النجاسة والتيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به فعل الصلاة ولا استباحتة مع بقاء النجاسة وقيل: لأن الماء أقوى من التراب. وإذا كان على البدن نجاسة في غير موضع الوضوء أو التيمم فيصح وضوؤه مطلقاً وتيممه إذا كانت في غير موضع الاستنجاء لأن وجود النجاسة لا يمنع صحة الطهارة على أنه لا تصح الصلاة حتى يطهر بدنه وثوبه من النجاسة.
(وجمعهما) في بول أو غائط (أفضل) من الاقتصار على أحدهما على أن يقدم الحجر على الماء (وفي معنى الحجر كل جامد طاهر قالع غير محترم) كخشب وخزف وصوف لحصول المقصود على أن يكون طاهرا ًفقد أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: "أتيت النبي (ص) بحجرين وروثة ليستنجي به فأخذ الحجرين ورمى بالروثة وقال: إنها ركس" والركس هو الرجس وكل مستقذر ولأن الماء النجس لا يجوز إزالة النجاسة به فكذلك الجامد النجس ولايجوز الاستنجاء بمحترم كجزء حيوان متصل به ومطعوم آدمي كالخبز والدقيق والنخالة ويمنع الاستنجاء بالعظم فقد روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي (ص) نهى عن الاستنجاء بالعظام وقال: "هي زاد إخوانكم من الجن" ويجوز بمطعوم البهائم كالحشيش ويحرم بما فيه اسم معظم ويجوز بالثياب القديمة والجديدة (وجلد دُبِغ) فإنه يجوز الاستنجاء به لانتقاله من طبع اللحم إلى طبع الثياب؛ فلذا جاز بيع جلد بجلدين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/242)
(وشرط الحجر) وما في معناه في جواز الاستنجاء (أن لا يجف النجس) فإن جف النجس تعين الماء (ولا ينتقل) عن المخرج وما حوله مما ينتشر إليه في العادة فإن انتشر النجس إلى ظاهر الأليتين أو جاوز الحشفة لم يجزئه إلا الماء في الحالتين لأن ذلك يندر (ولا يطرأ) على المحل المتنجس (أجنبي) نجس أو طاهر رطب أما الطاهر الرطب فلا يؤثر فإن طرأ اجنبي تعين الماء. (ولو ندر) الخارج (أو انتشر فوق العادة ولم يجاوز) الغائط (صفحته) وهو ما ينضم من الأليين عند القيام (و) لم يجاوز البول (حشفته) وهي ما فوق محل الختان (جاز الحجر في (الأظهر) إلحاقاً له بالمعتاد لأن تكليف إزالته بالماء مضاد وللترخص (ويجب) عند الاستجمار بالحجر (ثلاث مسحات) للنهي الصحيح عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار لخبر مسلم عن سلمان قال: "نهانا رسول الله (ص) عن الاستنجاء بأقل من ثلاث أحجار" وفي معناها ثلاثة أطراف لحجر واحد لأن المقصود عدد المسحات وقد حصل.
(فإن لم يُنَّق) المحل (وجب الإنقاء) برابع فإن أنقى بالرابع أجزأه ولا يلزمه استيفاء ستة أحجار وإن أنقى بحجر أو حجرين لزمه استيفاء الثلاثة لخبر سلمان (وسن الإيتار) فإن حصل النقاء برابعة فليأت بخامسة لما روى الشيخان عن أبي هريرة [من استحجر فليوتر] (وكُلُّ حَجَرٍ لكل مَحَلِّه) بأن يبدأ بالمسحة الأولى من مقدم صفحته اليمنى ويديره إلى محل ابتدائه وبالثانية من مقدم اليسرى ويديره كذلك ويمر الحجر الثالث على مسربته وصفحته جميعاً ويديره قليلاً قليلاً (وقيل يُوَّزعْنَ) أي الأحجار (لجانبيه والوسط) فيمسح بحجر الصفحة اليمنى وثانٍ اليسرى وبثالث الوسط (ويسن الاستنجاء بيساره) بماء أو نحو حجر لما روى مسلم عن سلمان قال: "نهانا رسول الله (ص) أن نستنجي باليمين] ويسن تقديم القبل على الدبر في الاستنجاء بالماء ويعكس عند استعمال الحجر ويسن أن ينضح بعد الاستنجاء فرجه وإزاره من داخله دفعاً للوسواس ولا يجب (الاستنجاء لدود وبعر بلا لوث) أي إذا لم يكن الخارج مختلطاً بالنجاسة (في الأظهر) لأن المقصود من الاستنجاء إزالة النجاسة أو تخفيفها ولا نجاسة هنا فكان كخروج الريح. وقيل: يجب الاستنجاء لمظنة التلوث ولا يضر في النجاسة شم ريحها بيده لأنه لا يدل على بقائها على المحل. ولا استنجاء من نحو نوم أو ريح قال نصر المقدسي بتأثيم فاعله؛ لأنه تنطع في الدين ونقل مثل ذلك عن الإمام أحمد –رحمه الله-.
(باب الوضوء)
الوُضوء اسم مصدر والأفصل ضم واوه إذا أريد به الفعل أي إذا أريد به استعمال الماء في الأعضاء مع النية وإذا أريد بالوضوء الماء الذي يتوضأ به فالأفصح فتح واوه (الوَضُوء) وهو مأخوذ من الوضاءة وفي موجبه أوجه: أحدها الحدث ووجوبه وجوباً موسعاً وثانيهما القيام للصلاة. وللوضوء شروط وفروض وسنن أما شروطه ومثله الغسل فماء مطلق ولو ظنا وعدم الحائل وجري الماء على العضو وعدم المنافي من نحو حيض ونفاس في غير أغسال الحج ومس ذكر وعدم الصارف عنه وعبر عنه بدوام النية وإسلام وتميز ومعرفة كيفية الوضوء وأن يغسل مع المغسول جزءا ًيتصل به ويحيطه ليتحقق استيعاب الغسول ويزيد السلس بوجوب دخول الوقت وتقديم نحو استنجاء وتحفظ احتيج إليه والولاء بينهما وبين الوضوء وبين الصلاة.
(فرضه) أي أركانه ستة أربعة بنص القرآن واثنان بالسنة (أحدها نية رفع الحدث) أي نية رفع حكم الحدث كحرمة نحو الصلاة فالقصد من الوضوء رفع ذلك والحدث هنا هو الأسباب المانعة والأصل في وجوب النية ما رواه الشيخان عن عمر بن الخطاب أن النبي (ص) قال: "إنما الأعمال بالنيات" والمقصود بالأعمال الأعمال المعتد بها شرعاً ولما كان الوضوء عبادة محضة طريقها الأفعال فلم يصح من غير نية كالصلاة (أو استباحة مفتقر إلى طهر) أي وضوء فلو قال نويت استباحة ففقد لوضوء أجزأه؛ لأن ذلك متضمن لنية رفع الحدث (أو) نية (أداء فرض الوضوء) أجزأه أيضاً وتدخل المسنونات في هذا تبعاً (ومن دام حدثه كمستحاضة) ومن به سلس بول أو استطلاق ريح (كفاه نية الاستباحة) المتقدمة (دون) نية (الرفع) لأن حدثه لا يرتفع (على الصحيح فيهما) قياساً على التيمم بجامع بقاء الحدث وقيل: يصح فيهما الاستباحة والرفع (ومن نوى تبرداً) أو تنظفاً (مع نية معتبرة) مستحضراً عند نية التبرد أو التنظف نية الوضوء (جاز) له ذلك (على الصحيح)
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/243)
لحصول ذلك من غير نية كمُصَلٍ نوى في صلاته الصلاة ودفع الغريم فإنها تجزؤه لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى نية وقيل يضر لوجود التشريك بين قربه وغيرها (أو) نوى استباحة (ما يندب له وضوء كقراءة) لقرآن أو حديث أو علم شرعي أو كتابة شيء من أو توضأ لغضب أو حمل ميت (فلا) يكفيه ذلك في رفع الحدث (في الاصح) لأن قصده لا يتضمن مصدر رفع الحدث نعم إن نوى الوضوء للقراءة لم يبطل إلا إن قصد التعليق بها أولاً. (ويجب قرنها) أي النية (بأول) مغسول (من الوجه) لتقترن بأول الفرض كالصلاة (وقيل يكفي) قرنها بسنة (قبله) أي قبل الوجه لأنها من جملة الوضوء هذا إن لم تدم النية إلى أول مغسول من الوجه أما إذا دامت كفت قطعاً لاقترانها بالواجب حينئذ. أما إذا اقترنت النية بالاستننجاء فال تجزئ عن الوضوء قطعاً لأن الاستنجاء عبادة مستقلة (وله) أي للمتوضيء (تفريقها) أي النية (على أعضائه) أي على أعضاء وضوئه كأن ينوي عند غسل الوجه رفع الحدث عنه وهكذا بالنسبة لبقية الأعضاء (في الأصح) وقيل: لا تجزئ قال بن الصلاح؛ لأن النية الثانية تقطع النية الأولى والفرض (الثاني) من فروض الوضوء (غسل) ظاهر (وجهه) لقوله تعالى: [فاغسلوا وجوهكم] المائدة:6 وللإجماع فيه (وهو) أي الوجه طولاً (ما بين منابت) شعر (رأسه غالباً و) تحت (منتهى لحْييه) وهما العظمان اللذان عليهما الأسنان السفلى عرضاً (ما بين أذنيه) لأن الوجه ما تقع به المواجهة وأما داخل الفم والأنف والعين فلا يجب غسل شيء من ذلك قطعاً بل ولا يستحب غسل داخل العين ويدخل في الوجه الواجب غسله موضع الغمم ولذا قال المصنف (فمنه موضع الغمم) لحصول المواجهة به وموضع الغمم هو ما ينبت عليه الشعر من الجبهة وذلك بأن يسيل شعر الرأس حتى تضيق الجبهة والقفا وكذا (التخديف في الأصح) لمحاذاته بياض الوجه وهو ما بين العذار والنزعة وهو الداخل إلى الجبين من جانبي الوجه وضابط موضع التحذيف كما جزم بذلك النووي في الدقائق هو ما يكون تحت الخط الواصل من أعلى الأذن إلى أعلى الجبهة وقال قوم: موضع التحذيف من الرأس وهو الصحيح لأنه متصل بشعر الرأس ولأن الله سبحانه وتعالى خلقه رأساً فلا يصير وجهاً بفعل الناس (لا النزعتان) فإنهما من الرأس (وهما بياضان يكتنفان الناصية) والناصية مقدم الرأس من أعلى الجبهة (قلت صحح الجمهور هو أن موضع التحذيف من الرأس ويجب) لاتصال شعره بشعر الرأس والله أعلم ويسن غسل كل ما قيل إنه من الوجه كالصلع والترعتين والتحذيف (غسل كل هُدْبٍ) وهو الشعر النابت على أجفان العين (وحاجب) وسمي بذلك لأنه يحجب عن العين شعاع الشمس (وعذار) وهو الشعر الخفيف المحاذي للأذن النابت على العظم الناتئ بإزاء الأذن وهو اول شعر ينبت للأمرد (وشارب) وهو الشعر النابت على الشفة العليا (وخد) وهو الشعر النابت على الخد (ووعنفقة) وهو الشعر النابت على الشفة السفلى (شعراً وبشراً) أي ظاهراً وباطناً (وقيل لا يجب شعر عَنْفَقَة كثيفة) أي يغسل ظاهراً دون الباطن أي يغسل الشعر دون البشرة حيث لها أحكام اللحية (واللحية) وهي بكسر اللام وفتحها وهي الشعر النابت على الذقن فإن كان لا شعر على لحيته أو عارضيه بأن كان أمرد أو (أَثطَّ): والأثط هو الذي لم تخلق له لحية فإنه يجب عليه غسل جميع الوجه لقوله تعالى: "فاغسلوا وجوهكم" المائدة:6 وإذا كان قد نبت على لحيته وعارضيه شعر فإن كان الشعر خفيفاً وجب تخليل الشعر وهذا قول المصنف (إن خفت) أي اللحية فهي (كهُدب) فيجب غسل ظاهرها وباطنها (وإلا) بأن كثفت حتى لم تر البشرة من خلال الشعر في مجلس التخاطب (فليغسل ظاهرها) ولا يجب غسل باطنها لما روى البخاري عن ابن عباس "أن النبي (ص) توضأ فغرف غرفة فغسل بها وجهه" ومعلوم أن لحية النبي (ص) كانت كثيفة وبالغرفة الواحدة لا يصل الماء إلى باطن الشعر من اللحية فإن خف بعضها وكثف بعضها فلكل حكمه وأما المرأة فيجب غسل شعر الوجه منها ظاهراً وباطناً وإن كثف الشعر لندرة ذلك ولأنه يسن لها نتفه أو حلقه لأن وجود الشعر في وجهها مُثْلَةٌ بالنسبة لها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/244)
(الثالث) من فروض الوضوء (غسل يديه) من كفيه وذراعيه (مع مرفقيه) قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق] المائدة:6 وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة في صفة وضوء رسول الله (ص) "أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى شرع في العضد ثم اليسى حتى أشرع في العضد" (فإن قُطع بَعْضُه) أي بعض ما يجب غسله من اليدين (وجب) غسل (ما بقي) منه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور فقد روى أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم]. (أو) قطع (من مرفقيه) وذلك بأن سُلَّ عظم الذراع وبقي العظمان المسميان برأس العضد (فرأس عظم العضد) هو الذي يجب غسله (على المشهور) لأن رأس العظم من المرفق (أو) قطع (من فوقه) أي كان القطع من فوق المرفق (نُدب) غَسْلُ (باقي عضده) لئلا يخلو العضد من الطهارة ولتطويل التحجيل وإذ كان القطع من منكبه ندب غسل محل القطع بالماء كما نص عليه الشافعي رحمه الله ويجب غسل شعر على اليدين ظاهراً وباطناً وإن كثف لندرته وغسل ظفره وإن طال وغسل باطن ثقب وشقوق فيهما إن لم يكن جرح غائر ويجب غسل سلعة سواء جاوزت الأصل أما لا وإن نتنت السلعة بغير محل الفرض فيجب غسل ما حاذى منها محل الفرض.
(والرابع) من فروض (الوضوء مسمى مسح لبشرة رأسه أو شعر في حده) أي في حد الرأس بأن لا يخرج بالمد عنه فلو خرج بالمد عن الرأس لم يجزئ مسحه حتى ولو كان الشعر متجعداً قال تعالى: [وامسحوا برؤوسكم] المائدة:6 والباء للتبعيض فيكفيه مسح ما يقع عليه اسم المسح ولو بعض شعره وروى الإمام مسلم عن المغيرة بن شعبة "أنه (ص) مسح بناصيته وعلى العمامة" والباء إذا دخلت على متعدد كما هو في الآية [وامسحوا برؤوسكم] كانت للتبغيض أو دخلت على غير متعدد كانت للإلصاق كما في قوله تعالى: [وليطوفوا بالبيت العتيق] الحج:28 (والأصح جواز غسله) أي جواز غسل الرأس لأن الغسل مسح وزيادة (ووضع اليد بلا مد) لحصول المقصود وهو وصول بلل الماء إلى شعر الرأس ويجزئ مسح ببرد وثلج لا يذوبان ولو حلق رأسه بعد مسحه لم يعد المسح وكذلك لو قطعت يده بعد الغسل.
(الخامس) من فروض الوضوء (غسل رجليه) بإجماع من يعتد بإجماعه (مع كعبيه) من كل رجل والكعبان هما العضوان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم وفي كل رجل كعبان لما روى البخاري عن النعمان بن بشير أن النبي قال: "أقيموا صفوفكم فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه" ومن قرأ [وارجلكم إلى الكعبين] المائدة:6 أي بالجر فإنما هو الجر على المجاورة وقيل لجواز تخفيف الماء والعرب تقول لمن خفف الماء مسح.
(السادس) من الفروض (ترتيبه هكذا) من تقديم غسل الوجه فاليدين فالرأس فالرجلين لفعله (ص) كذلك فقد روى ابن ماجه عن أُبيِّ بن كعب أن النبي (ص) توضأ مربتاً مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" ولما روى النسائي عن جابر بسند صحيح أن النبي (ص) قال في حجة الوداع: "ابدأوا بما بدأ الله به" قال تعالى: [إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين] المائدة:6 فبدأ الله تعالى بالوجه ثم باليد بعده والرأس أقرب إلى الوجه فلو جازت البداية بالرأس أي لو لم يلزم الترتيب لذكره بعد الوجه لأنه أقرب إليه كما أنه أدخل مسح الرأس بين غسل اليدين وغسل الرجلين فأدخل ممسوحاً بين مغسولين فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب (فلو اغتسل محدث) في ماء كثير أو قليل بنية رفع الحدث الأصغر أو الأكبر غالطاً وكان حدثه أصغراً (فالأصح أنه) (لإن أمكن تقدير ترتيب بأن عطس ومكث) بقدر ترتيب الأعضاء (صح) وضوؤه (وإلا) يمكن تقدير ترتيب بأن خرج حالاً (فلا) يصح وضوؤه (قلت) أي الإمام (النووي الأصح الصحة بلا مكث والله أعلم) لأن الغسل إذا أتى به بنية يكفي عن الأكبر فأولى أنه يكفي عن الأصغر ولا نظر لكون المنوي حينئذ طهراً غير مرتب لأن الترتيب يتم في لحظات لطيفة وإن لم تحس (وسننه) أي الوضوء (السواك) وهو لغة الدلك وآلته وشرعاً استعمال عود أو نحوه كأُشنان في دلك الأسنان وما حولها والأصل فيه ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" ووقته في الوضوء بعد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/245)
غسل الكفين أو بعد التسمية (عرضاً) أي في عرض الأسنان وقيل: يراد به عرض الفم فقد روى أبو داود مرسلاً عن عطاء أن النبي (ص) قال: "استاكوا عرضاً وادهنوا غباً واكتحلوا وتراً" والدهان الغب أن يتطيب يوماً ويتركه يوماً أو يتطيب في وقت ويتركه في وقت آخر من اليوم ويمكن الاستياك (بكل خشن) مزيل للقَلَح ورائحة الفم وأولى العيدان ذو الرائحة الطيبة وأولاها الأراك ثم بعده النخل كما في البخاري ي مرضه (ص) "جريدة رطبة وفيه لأنه آخر سواك استاك به رسول الله (ص) ثم الزيتون لما روى الطبراني في الأوسط وفي مسند الشاميين وصعفة الحافظ في التلخيص الدارقطني عن معاذ أن النبي (ص) قال: "نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة تطيب الفم وتذهب الحَفَر والحَفَر داء يصيب الأسنان "وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي". ويجب أن يكون السواك طاهراً فقد روى ابن حبان وابن خزيمة بسند جيد عن عائشة أن النبي قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" (لا أصبعه) فلا يحصل بها أصل السنة في الاستياك ولو كانت خشنة (في الأصح) لأنها لا تسمى سواكاً ويجب أن يستاك بيمينه لشرفها لما روى الشيخان عن عائشة قالت [كان النبي (ص) يحب التيامن في كل شيء] وفي رواية أبي داود [يحب التيامن ما استطاع في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله وسواكه].
(ويسن) السواك (للصلاة) ولو نفلاً لخبر الصحيحين عن أبي هريرة [لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة] (وتغير الفم) أي ويسن أيضاً لتغير رائحة الفم بنوم أو أكل أو جوع أو سكوت طويل لخبر الصحيحين عن حذيفة قال: "كان رسول الله (ص) إذا قام من النوم يشوص فاه" أي يدلكه بالسواك وقيس بالنوم غيره بجامع التغيير ويتأكذ السواك لقراءة قرآن أو حديث أو لعلم شرعي ولذكر الله تعالى وعند السحر وعند الاحتضار فيقال: لأنه يسهل خروج الروح (ولا يكره) السواك بحال (إلا للصائم بعد الزوال) لخبر الصحيحين عن أبي هريرة "لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" والخلوف تغير رائحة الفم والمراد به بعد الزوال لما روى البيهقي عن جابر أن النبي (ص) قال: "أعطيت أمتي في رمضان خمساً .. ثم قال: أما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك" والمساء ما كان من الوقت بعد الزوال (والتسمية أوله) أي ومن سنن الوضوء التسمية لخبر النسائي بإسناد جيد عن أنس أنه قال [طلب بعض أصحاب النبي وضوءاً فلم يجدوا فقال (ص) هل مع أحد منكم ماء؟ فأُتي بماء فوضع يده في الإناء الذي فيه الماء ثم قال: توضؤوا باسم الله فرأيت الماء يفور من بين أصابعه حتى توضأ نحو سبعين رجلاً] (فإن ترك) التسمية ولو عمداً (ففي أثنائه) أي يأتي بها أثناء الوضوء تداركا ًلها (وغسل كفيه) إلى كوعيه وإن تيقن (طهرهما فإن لم يتيقن طهرهما (بأن تردد في طهرهما (كره غمسهما) أو إحداهما في (الإناء) الذي فيه الماء دون القلتين (قبل غسلها) ثلاثاً لنهي المستيقظ عن غمس يده في الإناء الذي فيه الماء معللاً ذلك بأنه لا يدري أين باتت يده الدال على أن سبب النهي هو توهم النجاسة فقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده" وهذه الغسلات هي المندوبة أول الوضوء لكن ندب تقديمها عند الشك على غمس يده في الماء (والمضمضة) وتسن بعد غسل الكفين (والاستنشاق) بعد المضمضة ولو لم يدر الماء في فمه لما روى الإمام مسلم عن عمرو بن عبسة أن النبي (ص) قال: "ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ثم يستنشق ثم يستنثر إلا خرجت خطايا فه وخياشيمه مع الماء" وفي رواية "جرت" أي مع الماء ويسن أخذ الماء باليمنى (والأظهر أن فصلهما) أي المضمضة والاستنشاق (أفضل) من جمعها بماء واحد لأنه أبلغ في النظافة فقد روى أبو دواد عن طلحة بن مطرِّف عن أبيه عن جده قال: "رأيت رسول اله (ص) يفصل بين المضمضة والاستنشاق" (ثم الأصح) على هذا القول (يتمضمض بغرفة ثلاثاً ثم يستنشق بأخرى ثلاثاً) حتى لا ينتقل من عضو إلى عضو إلا بعد كمال ما قبله وقيل: يتمضمض ثلاثاً متوالية أو متفرقة بثلاث غرفات ويستنشق مثلها لأن هذا أنظف (ويبالغ فيهما) أي المضمضة والاستنشاق (غير الصائم) للأمر بذلك فقد روى الترمذي وصححه عن لقيط بن صُبره أن النبي قال له: "وبالغ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/246)
في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" فلا يبالغ الصائم خشية السبق إلى الحق أو الدماغ فيفطر به الصائم وعلى هذا حَرُمَت القبلة المحرِّكة للشهوة لأن أصلها غير مندوب والإنزال المتولد منها لا حيلة في دفعه (قلت الأظهر تفضيل الجمع) بين المضمضة والاستنشاق على الفصل لصحة أحاديث الجمع فقد روى البخاري عن ابن عباس في صفة وضوء رسول الله (ص) قال: "فأخذ غرفة من ماء تمضمض بها واستنشق: قال النووي: وأما الفصل فلم يثبت فيه حديث أصلاً وإنما جاء فيه حديث
طلحة بن مطرف وهو ضعيف (والله أعلم) والسنة تتأدى بواحدة من هذه الكيفيات وإنما الخلاف في الأفضل ومن سنن الوضوء (تثليث الغسل والمسح) إلا في مسح الخف والعمامة والجبيرة فقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ص) توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: "وهكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" ولم يجب التثليث لما روى ابن ماجه عن أُبِّي بن كعب أن النبي (ص) توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين وقال: من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم" (ويأخذ الشاك باليقين) في الاستيعاب والعدد وجوباً في الواجب وندباً في المندوب (ومسح كل رأسه) فالمستحب أن يمسح جميع رأسه وذلك بأن يجعل الماء في كفيه ثم يرسله ثم يضع إبهامه على صدغيه وسبابته على مقدم رأسه ثم يذهب بيديه إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه. رواه الشيخان عن عبد الله بن زيد لمن صفته وضوء رسول الله (ص) (ثم) بعد مسح رأسه يمسح (أذنيه) بباطن أنملتي سبابتيه وإبهاميه بماء غير ماء الرأس ولم يرد في مسح الرقبة خبر صحيح أما خبر "مسح الرقبة أمان من الغل" فموضوع وأما خبر ابن عمر"من توضأ ومسح عنقه وقي الغل يوم القيامة" فغير معروف (فإن عَسُر رفع العمامة) أو القلنسوة أوالخمار أو لم يرد ذلك (كمّل بالمسح عليها) وإن لم يضعها على طهر "لأن النبي (ص) توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة" رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة (وتخليل اللحية الكثة) من سنن الوضوء فقد روى الترمذي عن عثمان بن عفان "أن النبي (ص) كان يخلل لحيته" ولما روى أبو داود عن أنس "أن النبي (ص) كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي" وأما المحرم فيخلل لحيته برفق لئلا يتساقط من شعرها شيء (وأصابع) يديه يسن تخليلهما وذلك بتشبيكهما وكذلك يسن تخليل اصابع رجليه وبأية كيفية كان ذلك حصلت السنة والأفضل بخنصر اليسرى مبتدئاً بخنصر الرجل اليمنى ومنتهياً بخنصر الرجل اليسرى ويكون ذلك من أسفل الرجل في باطن القدم فقد روى الدار قطني والبيهقي "عن عثمان أنه توضأ فخلل بين أصابع قدميه وقال: رأيت رسول الله (ص) فعل كما فعلت كما يجب تحريك الخاتم حتى يصل الماء إلى إلى العضو وقد روى البخاري عن ابن سيرين أنه كان يحرك خاتمه" (وتقديم اليمنى) على اليسرى في سنن الوضوء وذلك في كل عضوين لا يسن غسلهما معاً كاليدين والرجلين فثد روى ابن خزيمة وصححه عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم" (وإطالة غرته) من سنن الوضوء وذلك بأن يغسل مع الوجه مقدم رأسه وأذنيه وصفحتي عنقه (و) إطالة (تحجيله) بأن يغسل مع اليدين بعض العضدين ومع الرجلين بعض الساقين لما روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" أي يدعون بيض الوجوه من أثر الوضوء (والموالاة) ومن سنن الوضوء الموالاة بحيث لا يجف الأول قبل الشروع في الثاني مع اعتدال الهواء (وأوجبها) أي الموالاة (القديم) لما روى أبو داود عن خالد بن معدان "أن النبي (ص) رأى رجلاً على قدمه لمعة قَدْرَ درهم لم يصبها الماء فأمره بإعادة الوضوء والصلاة" ودليل الجديد ما أخرجه البخاري تعليقاً عن ابن عمر "أن النبي (ص) توضأ في السوق فغسل وجهه ورجليه ومسح رأسه فُدعي إلى جنازة فأتى المسجد فدعا بماء فمسح على خفيه وصلى عليها" قال الشافعي: لعله قد جف وضوؤه؛ لأن الجفاف قد يحصل بأقل مما بين السوق والمسجد. وقال النووي إن الحديث الذي استند إليه في القديم ضعيف (وترك الاستعانة) بالصب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/247)
عليه لغير عذر من سنن الوضوء لأنه ترفه لا يليق بمتعبد (و) ترك (النفض) للماء من سنن الوضوء لأنه كالتبري من العبادة فهو خلاف الأولى. قال النووي في شرح مسلم: إنه الأشهر (وكذا) ترك (التنشيف) من السنن (في الأصح) لأنه يزيل أثر العبادة لما روى الشيخان عن ميمونة قالت: "أتي رسو الله (ص) بمنديل فلم يمسه وجعل يقول بالماء هكذا ... أي ينفضه] واختار النووي في شرح مسلم إباحة التنشيف مطلقاً لما روى أحمد بسند ضعيف عن ابن ماجه عن قيس بن سعد قال: "أتانا رسول الله (ص) فوضعنا له غسلاً فاغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسَّية فالتحف بها فرأيت أثر الوَرْس على عُكَنِهِ" والملحفة ثوب يلبس فوق الثياب والوَرْس نبات أصفر وعُكَنه أي طيات بطنه من السمن وثبت في مستدرك الحاكم وحسنه الألباني عن عائشة –رضي الله عنها- أن النبي (ص) "كان له خرقة ينشف بها بعد الوضوء" وفعله صلى الله عليه وسلم ذلك لبيان جواز التنشيف. (ويقول بعده) أي عقب الوضوء (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) لخبر مسلم عن عمر رضي الله عنه: أن النبي (ص) قال: [من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أي باب شاء] (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) وزاد الترمذي على مسلم (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) وسبحانك تعني براءة الله من السوء أي أننا نعتقد تنزيهه عما لا يليق بجلاله وسبحانك منصوبة على (المصدرية وحذفت دعاء الأعضاء) أي أن المصنف –رحمه الله- حذف الدعاء المذكور في المحرر وغيره والذي يذكر عند غسل الأعضاء (إذ لا أصل له) في كتب الحديث ومن السنن المشهورة استقبال القبلة في جميع الوضوء والدلك وتجنب الإسراف في الماء ونختتم الباب بهذه الفائدة: شرط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ألا يكون شديد الضعف وأن يدخل تحت أصل عام وألا يعتقد سنيته بذلك الحديث.
(باب مسح الخف)
ومسح الخف جائز وهو بدل غسل الرجلين فلذلك ذكره المصنف عقب باب الوضوء والأخبار في جواز المسح على الخفين كثيرة منها ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: "رأيت رسول الله (ص) بال ثم توضأ ومسح على خفيه" قال: الترمذي وكان يعجبهم حديث جرير؛ لأن إسلامه كان بعد نزول سورة المائدة وعليه فلا يكون الأمر الوارد بغسل الرجلين ناسخاً للمسح. وروى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال: "حدثني سبعون من الصحابة أن النبي (ص) مسح الخفين" وروى ابن خزيمة وابن حبان عن أبي بكرة: "أنه (ص) أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما" (يجوز في الوضوء) المسح على الخفين لا على خف رجل مع غسل أخرى بدلاً من غسل الرجلين فالواجب على لابس الخف الغسل أو المسح (للمقيم) ومن كان سفره لا يبيح القصر (يوماً وليلة وللمسافر) سفر قصر (ثلاثة أيام بلياليها) وابتداء المدة يحسب (من) انتهاء (الحدث) كبول أو نوم أو مَسٍّ (بعد لُبْسٍ) لأن وقت المسح يدخل به ولا تحسب المدة إلا من الحدث بعد اللُّبْس لأنه وقت جواز المسح الرافع للحدث. روى مسلم عن شريح بن هانئ قال: سألت علي بن أبي طالب على المسح على الخفين فقال: [جعل رسول الله (ص) ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم. (فإن مسح) بعد الحدث (حضراً ثم سافر أو عكس) بأن مسح سفراً ثم أقام (لم يستوف مدة السفر) تغليباً للحضر (وشرطه) أي الخف ليجوز المسح عليه أن (يُلْبس بعد كمال طهر) لحديث أبي بكرة أو شريح السابق "أرخص رسول الله (ص) للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما" فلو غسل رِجْلاً وأدخلها ثم الأخرى وأدخلها لم يجز المسح حتى ينزع الأولى لأنه أدخلها قبل كمال الطهر ولو ابتدأ لبسها بعد تمام طهره وأحدث قبل تمام لُبْسهما لم يجز (ساتر) أي الخف (محل فرضه) ومحل فرضه هو قدمه بكعبيه من سائر جوانبه غير الأعلى عكس العورة لأن الخف يلبس من أسفل ولا يضر تخرق البطانة والظهارة لا على التحاذي لاتصال البطانة بالخف بخلاف جورب تحته لا يجزئ لعدم اتصاله بالخف وأن يكون الخف (طاهراً) لا نجساً ولا متنجساً بما لا يُعفى عنه نعم يعفى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/248)
عن محل خرزه بشعر نجس ولو من خنزير لعموم البلوى بذلك لكن الأولى تركه وأن يكون قوياً (يمكن) لقوته (تباع المشي فيه لتردد مسافر لحاجته) فإن كان مُخرَّقاً يمنع متابعة المشي وكذا لو كان رقيقاً أو ثقيلاً لا يمكن للابسه التردد فيه لحوائجه التي يحتاج إليها غالباً في مدة المسح لم يجز المسح عليه؛ لأن الحاجة لا تدعو لُلبْسه ولا يجزئ واسع الرأس أو ضيق لا يتسع بالمشي عن قرب ويجزئ رقيق ضعيف لا يشف الماء قد جُلِّد قدمه (قيل وحلالاً) فلا يجزئ المسح على المغصوب لأن المسح رخصة والرخص لا تناط بالمعاصي والأصح يجوز المسح عليه لأنه خف طاهر يمكن متابعة المشي عليه وأما المعصية فلا تختص بالُلبْس فلم تمنع صحة الصلاة كالصلاة في الدار المغصوبة خلافا ًلسفر المعصية فهو المجوِّز للرخصة. (ولا يجزئ منسوج لا يمنع ماء ًفي الأصح) وإن كان قوياً يمكن تباع المشي عليه وقيل: يجوز؛ لأن المقصود ماء المسح لا ماء الغسل والمذهب الأول (ولا) يجزئ (جُرْمُوقان) وهو وخف صالح فوق خف صالح وقد مسح على أحدهما فلا يجزئ (في الأظهر) لأن الرخصة إنما وردت على خف تعم الحاجة إليه ولكن شدة البرد قد تحوج إلى لُبْسه قال البغوي وعندي أن الخف ذو الطاقين (أي الطبقتين) غير الملتصقتين كالجرموقتين يجوز المسح على الأعلى فقط لأن الجميع خف واحد ولو لبس خفاً على جبيرة لم يجز المسح عليه لأنه ملبوس فوق ممسوح فأشبه العمامة (ويجوز مشقوق قدم شد) بالعُرى بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض كما في أحذية الرياضة اليوم فإن كان محلولاً لم يجز المسح عليه سواء بانت منه الرِّجْل أو لم تبن لأنه إذا مشى بانت منه الرجل (في الأصح) لحصول الستر به (ويسن مسح أعلاه) أي أعلى الخف الساتر لمشط الرجل (وأسفله) وعقه وحروفه (خطوطاً) وذلك بأن يضع يسراه تحت عقبه ويمناه على ظهر أصابعه ثم يمر اليمنى باتجاه ساقه واليسرى باتجاه أطراف أصابعه مفرجاً بين أصابع يديه ولا يضمهما فقد روى الترمذي وأبو داود عن المغيرة بن شعبة قال: "وضأت رسول الله (ص) في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله"
(ويكفي مُسمِّى مسح) كمسح الرأس فكيفما أتى بالمسح أجزأه سواء كان بيده أو ببعضها أو بخشبة أو بخرقة وسواء مسح قليلاً أو كثيراً لأن المسح ورد مطلقاً فتعين الاكتفاء بما ينطق عليه الاسم بحيث (يحاذي الفرض) أي من الظاهر لا من الباطن (إلا أسفل الرِّجل وعقبها فلا يكفي المسح عليهما (على المذهب) لأنه مو ضع لا يُرى من الخف غالباً فلم يجز الاقتصار عليه كمسح باطن الخف الذي يلي الرِّجل (قلت: حرفه كأسفله) فلا يجزئ المسح عليه والله أعلم بجامع عدم الرؤية (ولا مسح لشاك في بقاء المدة) والمسافر والمقيم سواء في ذلك (فإن أجنب) لابس الخف أو حصل منه ما يوجب الغسل من نحو حيض أو نفاس في أثناء المدة (وجب تجديد لُبْس) وذلك بأن ينزعه ويتطهر ثم يلبسه ولا يجزؤه لمسح بقية المدة الغسل في الخف لما روى الترمذي وصححه عن صفوان بن عسال قال: "كان رسول الله (ص) يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سَفْراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بليالهن إلا من جنابة" (ومن نزع) خفيه أو أحدهما أو انفتحت العروة أو انخرق الخف فظهرت الرِّجل (وهو بطهر المسح غسل قدميه) فقط لبطلان طهرهما دون غيرهما؛ لأن الأصل الغَسْلُ والمسح بدلٌ عنه فإن قدر على الأصل تعين (وفي قول: يتوضأ) لأن الوضوء عبادة يبطلها الحدث فتبطل كلها ببطلان بعضها.
(باب الغسل)
(موجبه موت) لمسلم غير شهيد (وحيض ونفاس) إجماعاً لكن مع انقطاعهما لقوله تعالى: [فاعتزلوا النساء في المحيض] البقرة:222 وروى البخاري عن عائشة أن النبي قال
لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" والنفاس هو دم حيض مجتمع فله حكم الحيض (وكذا ولادة بلا بلل) ولو كان علقة أو مضغة قال القوابل: لو بقيت لتخلفت فإنه توجب الغسل (في الأصح) لأن ذلك مًنِيٌّ منعقد فأقيم مقامه (وجنابة) فإنها توجب الغسل لقوله تعالى: [وإن كنتم جنباً فاطهروا] المائدة:6 وروى الإمام مسلم عن عائشة أن النبي قال: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" وفي رواية مسلم عن أبي هريرة "أنزل أو لم ينزل" وأما خبر الماء من الماء فمنسوخ فقد روى الشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن النبي قال: "إذا قعد بين شعبها الأربع وألصق ختانه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/249)
بختانها فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل" وهذا نص ويجب الغسل (بدخول حشفة) ولو بلا قصد (أو قدرها) من مقطوعها (فرجاً) ولو كان غير مشتهيً كأن كان من بهيمة أو ميتة أو دبر ذكر أو كان على الذكر خرقة وتحصل الجنابة أيضاً (بخروج منٍّي) فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخُدْري أن النبي (ص) قال: "الماء من الماء" ولخبر الصحيحين عن أم سلمة قالت جاءت أم سُلَيْم إلى النبي فقالت: إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ "قال: نعم إذا رأت الماء" أما الخنثى المُشْكل إذا خرج المني من أحد فرجيه فلا غسل عليه لاحتمال أن يكون زائداً ولا فرق في وجوب الغسل بخروج المني (من طريقه المعتاد) إجماعا ًولو مرض (وغيره) أي خروج المني من منفتح تحت الصلب وهو آخر فقرات الظهر وقد انسد الأصلي أو ترائب المرأة وهي عظام الصدر وقد انسد الأصلي (ويعرف المني بتدفقه) بأن يخرج بدفعات قال تعالى: [من ماء دافق] الطارق:6 (أو لذة بخروجه) وإن لم يتدفق لقلته مع فتور الذكر عقه غالباً (أو ريح عجين) لحنطة ونحوها أو طلع نخل (رطباً أو) ريح (بياض بيض) لدجاج أو غيره حال كون (المني جافاً فإن فقدت الصفات السابقة فلا غسل) لأن الخارج غير المني فإن احتمل كون الخارج منياً أو غيره كَوَدِيٍّ أو مَذِيٍّ تميز بينهما فإن جعله منياً اغتسل أو غيره توضأ وغسل ما أصابه لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما بريء (والمرأة كالرجل) في حصول الجنابة بالطريقن: الإيلاج وخروج المني.
فرع: لو رأى في فراشه أو ثوبه منياً لا يحتمل أنه من غيره لزمه الغسل وإعادة كل صلاة يحتمل حدوثها بعده (ويحرم بها) أي الجنابة (ما حرم بالحدث) الأصغر لأنها أغلظ منه وكذلك يحرم شيئان آخران أحدهما (المكث في المسجد) أو التردد فيه لغير عذر قال تعالى: [لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا] النساء:43 قال ابن عباس: أي لا تقربوا مواضع الصلاة وروى الترمذي وصححه عن علي أنه قال: "ما كان رسول الله (ص) يمنعه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة" (لا عبوره) لقوله تعالى: [إلا عابري سبيل] النساء:43 وحيث عبر لا يكلف الإسراع بل يمشي على العادة وليس للكافر ولو غير جنب دخول المسجد إلا أن يكون لحاجة كإسلام وسماع قرآن أو بإذن مسلم أو إذا قعد الحاكم في المسجد فيدخل ليسمع أقواله.
[فائدة]: لا بأس بالنوم في المسجد لغير الجنب فقد كان أهل الصفة وغيرهم ينامون فيه على زمن النبي (ص) ولا يحرم إخراج الريح فيه ولكن الأولى اجتنابه لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم (و) ثانيهما (القرآن) أي يحرم بالجنابة قراءة القرآن باللفظ بحيث يسمع نفسه لا بالقلب لحديث الترمذي عن ابن عمر "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن" إلا فاقد الطهورين فإنه يقرأ الفاتحة في صلاته لتوقف صحة الصلاة عليها (وتحل) لجنب وحائض ونفسه (أذكاره) ومواعظه وأخباره وأحكامه (لا بقصد قرآن) كقوله عند ركوبه: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين" وقوله في المصيبة: "إنا لله وإنا إليه راجعون" ولا ما جرى به لسانه من غير قصد فإن قصد القرآن وحده أو قصده مع الذكر حَرُمَ (وأقله) أي وأقل الغسل للحي من جنابة أو غيرها ولو سنة إذ الغسل المندوب كالمفروض في الواجب من جهة الاعتداد به (نية رفع جنابة) ويدخل فيها نية رفع حدث حيض ونحوه أو (استباحة مفتقر إليه) أي مفتقر إلى الغسل كقراءة القرآن أو الصلاة (أو أداء فرض الغسل) أو الغسل أو واجب الغسل أو رفع الحدث أو الطهارة من الحدث أو الطهارة ويصح رفع الحيض بنية النفاس وعكسه (مقرونة) أي النية (بأول فرض) وهو أول جزء يغسل من الجسم من أعلى أو من أسفل إذ لا يجب هنا الترتيب (وتعميم شعره) ظاهراً وباطناً وإن كَثُفَ ويجب نقض الضفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض (وبشره) حتى الأظفار وما تحتها وما ظهر من صماخ الأذن ومن فرج المرأة عند جلوسها لحاجتها وما تحت القلفة من الأقلف وسائر معاطف البدن ولكن يُعفى عن الشعر المنعقد بنفسه ولو كثر (ولا تجب مضمضة واستنشاق) بل يسن فقط كما في الوضوء (وأكمله إزالة) القذر كالمني أو الودي ثم بعد إزالة القذر (الوضوء) كاملاً ومنه التسمية رواه الشيخان عن ميمونة في صفة غسل النبي (ص) (وفي قول يؤخر غسل قدميه) فقد روى الشيخان
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/250)
في صفة غسل النبي (ص) "أنه توضأ وضوءه للصلاة غير غسل القدمين" وروى الشيخان والترمذي واللفظ له عن عائشة قالت: "كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثم غسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة ثم يُشرِّب شعره الماء ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات" قال النووي في المجموع: وسواء أقدم الوضوء كله أم بعضه أم أخره أم فعله في أثناء الغسل فهو مُحصِّل للسنة لكن الأفضل تقديمه. (ثم) بعد الوضوء (تُعُهُّدُ مَعَاطِفِه) كأن يأخذ الماء بكفه فيجعله على المواضع التي فيها انعطاف والتواء كالأذنين وطبقات البطن وداخل السرة لأنه أقرب إلى الثقة بوصول الماء. (ثم) بعد تعهد معاطفه (يفيض) الماء (على رأسه ويخلله) وذلك بأن يدخل أصابعه العشرة مبلولة في أصول شعره والأَوْلَى له قبل الإفاضة على رأسه أن يخلل لحيته إن كان له شعر كثيف فقد روى الشيخان عن جبير بن مطعم قال: تذاكرنا الغسل من الجنابة فقال النبي (ص) "أما أنا فيكفيني أن أصب الماء على رأسي ثلاثاً ثم أفيض الماء بعد ذلك على سائر جسدي" وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: "تحت كل شعرة جنابة" (ثم شقه الأيمن ثم الأيسر) لما روى الشيخان عن عائشة أنه (ص) "كان يحب التيمن في طهوره" (ويدلك) ما وصلت إليه يده احتياطاً وخروجاً من خلاف ما أوجبه (ويُثِّلثُ) كما في الوضوء (وتتبع) المرأة غير المحرمة والمحدة (لحيض) أو نفاس ولو كانت خلية أو بكراً (أثره) أي أثر دم الحيض (مِسْكاً) وذلك بأن تجعله في قطنة وتدخلها فرجها الواجب غسله لما روى الشيخان عن عائشة أن امرأة جاءت إلى النبي (ص) تسأله عن الغسل من الحيض فقال: "خذي فَرْصة من مِسْك فتطهري بها فقالت كيف أتطهر بها؟ فقال: (ص) سبحان الله. واستتر بثوبه: تطهري بها فاجتذبها عائشة فعرفتها أنها تتبع بها أثر الدم" والفِرْصة هي قطعة من قماش أو قطن والمسك تسميه العرب المشموم وكان النبي (ص) يحبه ويسميه أطيب الطيب (وإلا) أي إذا لم تجد المسك (فنحوه) أي من الطيب وأولاه أكثره حرارة كقسط أو أظفار أو طين أو ماء جديد أو ملح وأما المحدة فتقتصر على شيء يسير من قسط أو أظفار ولا يضر ما بهما من الطيب (ولا (يسن تجديده) أي الغسل (بخلاف الوضوء) فيسن تجديده لما روى أبو داود عن ابن عمر قال: "كان رسول الله (ص) يقول: من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات" وقد كان أول الإسلام مفروضاً لكل صلاة فنسخ وجوبه (ويسن ألا ينقص ماء الوضوء) في معتدل الجسم (عن مد) وهو ربع صاع (والغسل عن صاع) لما روى مسلم عن سفينة أن النبي (ص) كان يغسله الصاع يوضئه المد (ولا حد له) أي لا حد لماء الغسل والوضوء والمهم الإسباغ ويكره الاغتسال في الماء الراكد لخبر مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: "لا يغتسل أحدكم في الماء الراكد وهو جنب" قيل لأبي هريرة كيف يفعل إذا؟ قال يتناوله تناولاً ويستحب لمن أجنب أن يؤخر غسله من بوله لئلا يخرج معه فضلة منية فيبطله.
(ومن به نجس يغسله ثم يغتسل) لأنه الأبلغ في التطهير (ولا تكفي لهما غسلة) واحدة (وكذا (في الوضوء) بل يغسل النجاسة ثم يغتسل إن كان حدثه أكبر ويغسلها ثم يتوضأ إن كان حدثه أصغر (قلت) أي الإمام النووي (الأصح تكفيه) غسلة واحدة لهما لأن مقتضى الطهارتين واحد فكفاهما غسلة واحدة كما لو كان عليها غسل جنابة وغسل حيض (ومن اغتسل لجنابة) أو حيض أو نفاس (وجمعة) أو عيد فأن نواهما (حصلا) معاً وإن كان الأكمل إفراد كل بغسل فمبني الطهارات على التداخل بخلاف الصلاة فلا يصح نية فرض الظهر ونفله أو نية ظهر وكسوف (أو) نوي الاغتسال (لأحدهما حصل فقط) عملاً بما نواه وأما تحية المسجد فتحصل بغيرها لأن المقصود منها إشغال البقعة بالعبادة. (قلت ولو أحدث ثم أجنب أو عكسه) أي أجنب ثم أحدث أو وجدا معاً (كفى الغسل) وإن لم يُنْوِ معه الوضوء ولا رتب أعضاءه (على المذهب والله أعلم) لاندراج الوضوء في الغسل لأن الأصغر اضمحل مع الأكبر فلم يَبقَ له حكم فقد روى ابن ماجه عن جُبير بن مُطْعم أن النبي (ص) قال: "أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت" فلم يفصِّل النبي (ص) والجنابة قلما تخلو عن الحدث فتداخلا كالجنابة والحيض.
باب الحيض
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/251)
وهو لغة السيلان تقول العرب حاضت الشجرة إذا سال سمغها وحاض الوادي إذا سال وشرعاً دم جبلة تقتضيه الطباع السليمة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصحة في أوقات معلومة وأما الاستحاضة فهي دم مرض يسيل من عِرْقٍ من أدنى الرحم يقال له العاذل وسواءً فيه أخرج بعد حيض أم لا والأصل في الحيض قوله تعالى: [يسألونك عن المحيض قل هو أذى] البقرة:223 وخبر الصحيحين عن عائشة قال: [(ص) في الحيض هذا شيء كتبه الله على بنات آدم].
(أقل سنّهٍ) الذي يحكم فيه على أن الدم النازل منها حيض هو (تسع سنين) قمرية كاملة ولا ضابط شرعي له ولا لغوي قال الإمام الشافعي أعجب من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة يحضن لتسع سنين (وأقله) مدةً (يوم وليلة) أي قدرها متصلاً وهو أربع وعشرون ساعة ولا يعني أن يستمر الدمُ أربعاً وعشرين ساعة لا يتخللها طهر بل المعنى أنها لو جمعت ساعات رؤية الدم لكانت أربعاً وعشرين ساعة أو أزيد (واكثره خمسة عشر) يوماً (بلياليها) وإن لم تتصل الدماء كأن رأت الدم أول النهار ولم تره في ليلته ثم رأته في اليوم الثاني وهكذا وغالبه ستة أو سبعة وأما خبر أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثرة عشرة أيام فضعيف وأما حديث تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي قال النووي باطل لا يعرف (وأقل طهر بين الحيضتين) زمناً (خمسة عشر) يوماً بلياليها لأنه أقل ما ثبت وجوده أما الطهر بين حيض ونفاس فيمكن أن يكون أقل من ذلك سواءٌ تقدم الحيض أو تأخر، وغالب الحيض ست أو سبع وباقي الشهر غالب الطهر لخبر أبي داوود وغيره أنه (ص) قال لحمنة بن جحش: " تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة كما تحيض النساء ويطهرن" ولكن الحديث لا أصل له عند المحدثين (ولا حد لأكثره) إجماعاً فإن المرأة قد لا تحيض أصلاً (ويحرم به) أي الحيض (ما حرم بالجنابة) من صلاة وغيرها لأنه أغلظ، ويدل على أنه أغلظ منها أنه يحرم به ما يحرم بها (و) أشياء أخر أحدها (عبور المسجد إنْ خافت تلويثه) بالدم أثناء مرورها، فإن أمنته كُرِهَ لغلظ حدثها (و) ثانيها (الصوم) فلا يصح اجماعاً قال إمام الحرمين: "وكون الصوم لا يصح منها لا يدرك معناه فهو أمر تعبدي لأن الطهارة ليست مشروطة في الصوم" (ويجب قضاؤه بخلاف الصلاة) إجماعاً للمشقة لحديث عائشة عند مسلم: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، ولما روى الترمذي عن الأسود عن عائشة: "كنّا نحيض على عهد رسول الله (ص) فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة" بل يكره الصوم للحائض وقيل يحرم (و) يحرم (ما بين سرتها وركبتها) إجماعاً في الوطء ولو بحائل بل من استحله كفر، ولخبر أبي داود بإسناد جيد أنه (ص) سُئِلَ عن ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال: "ما فوق الإزار" وخَصَصَ بمفهومه حديثَ مسلمٍ عن أنس: "اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح" (وقيل لا يحرم غير الوطء) لخبر مسلم السابق ورجحوا الأول لما فيه من الاحتياط ولخبر الشيخين عن النعمان بن بشير: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه"، ويسن للواطئ المتعمد المختار العالم التحريم في أول الدم وقوته التصدق بدينار وفي آخره بنصف دينار لما روى أبو داود والحاكم عن ابن عباس: "إذا واقع الرجل أهله وهي حائض إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينار وإن كان أصفر فليتصدق بنصف دينار" ويكفي التصدق ولو على فقير واحد ويقاس النفاس على الحيض (فإذا انقطع) دم الحيض لزمن إمكانه ومثله النفاس (لم يِحْلُ قبل الغُسْلِ غيرُ الصوم والطلاق) لزوال المعنى المقتضي للتحريم وما بقي من المحرمات لا يزول إلا بالغسل أو بدله لبقاء المقتضي من الحدث المغلظ، وأما قوله تعالى: [ولا تقربوهن حتى يطهرن] البقرة:222 فقد قُرئ بالتشديد والتخفيف في السبع فقراءة التشديد صريحة في التحريم وأما قراءة التخفيف إن كان المراد بها انقطاع الحيض فقد ذكر بعده شرطاً آخر وهو قوله تعالى: "فإذا تَطَهّرْنَ" فلابد منهما معاً (والاستحاضة حدث دائم كسلس) أي لهما نفس الحكم، والسلس دوام بول أو نحوه والاستحاضة: دم ينزل في غير وقت الحيض والنفاس (فلا تمنع الصوم والصلاة) وغيرهما مما يحرم بالحيض كالوطء ولو حال جريان الدم والتضمخ بالنجاسة، لما روى البخاري عن عائشة قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي جبيش إلى النبي (ص) فقالت: "إني امرأة استحاض فلا أطهر أفدع الصلاة قال: لا إنما ذلك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/252)
عِرْقٌ وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" (فتغسل المستحاضة فرجها) قبل الوضوء أو التيمم (وتعصبه) بأن تشدَّ بعد غسله بخرقة مشقوقة الطرفين تخرج أحدها من أمامها والآخر من خلفها وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كتكة السراويل فإن احتاجت في دفع الدم أو تقليله إلى حشو بنحو قطن وهي مفطرة وجب عليها إن لم تتأذى، أما إذا كانت صائمة أو كانت تتأذى من ذلك فتتركه (و) عقب العصب (تتوضأ) وجوباً فلا يجوز لها تأخير الوضوء عنه ولا يجوز لها أن تتوضأ إلا (وقت الصلاة) لا قبله لأنه طهارة ضرورة كالتيمم (وتبادر بها) أي الصلاة عقبةُ تخفيفاً للحدث ما أمكن (فلو أخرت لمصلحة الصلاة كستر) لعورة (وانتظار جماعة) واجتهاد في قبلة (لم يضر على الصحيح) لندب التأخير لذلك فلا تُعَدٌّ مقصرة، (وإلا فَيَضرُ على الصحيح) وذلك بان أخرت لغير مصلحة كأكل وشرب وحديث، فيبطل وضوؤها وتجب الإعادة والاحتياط (ويجب الوضوء لكل فرضٍ) ولو منذوراً وتتنفل ما شاءت، لما صح عن النبي (ص) أنه قال لمستحاضة: "توضئي لكل صلاة (وكذا تجديد العصابة في الأصح) قياساً على تجديد الوضوء ولو ظهر الدم على العصابة أو زالت عن محلها زوالاً مؤثراً وجب تجديد الوضوء قطعاً (ولو انقطع دمها بعد الوضوء) أو فيه وقبل الصلاة أو فيها (ولم تعتد انقطاعه وعوده) وجب الوضوء لاحتمال الشفاء (أو اعتادت ووسع زمن الانقطاع) بحسب العادة (وضوءاً والصلاة وجب الوضوء) وإزالة ما على الفرج من الدم لاحتمال الشفاء ولإمكان أداء الصلاة على الكمال في الوقت، ومن دام خروج منيه يلزمه الغسل لكل فرض ولو استمسك السلس بالقعود دون القيام وجب عليه أن يصلي قاعداً ولا يجوز له أن يعلق قارورة ليتقطر فيها بوله لأنه يصير حاملاً للنجاسة في غير محلها بلا ضرورة و يجوز وطء المستحاضة في طهرها ولا كراهة في ذلك وإن كان الدم جارياً.
فصل في أحكام المستحاضة
إذا (رأت) المرأة الدم (لسن الحيض) أي ما بعد تسع سنين (أقله ولم يعبر أكثره) وأقله يوم وليلة وأكثره خمس عشرة ليلة (فكله حيض) سواءً أكان أسود أم لا فلو رأت خمسة أسود ثم أحمر حكمنا على الأحمر بأنه حيض أيضاً إلا أن يكون عليها بقية طهر أي تجاوز الخمسة عشر كأن رأت ثلاثة أيام دما ًثم اثني عشر نقاءً ثم ثلاثة دماً ثم انقطع فالثلاثة الأخيرة دم فساد لا حيض ولو رأت معتادة وهي التي تُعْرَفُ لها عادة تحيض في أيام محددة العدد والوقت عملت بعادتها كما لو رأت خمستها المعهودة أول الشهر ثم نقاءً أربعة عشر ثم عاد الدم واستمر فيوم وليلة كمال الخمسة عشر من أول العائد طهر ثم تحيض خمسة أيام منه ويستمر دورها "الحيض والطهر" عشرين يوماً وبمجرد رؤية الدم لزمن إمكان الحيض يجب التزام أحكامه ثم إن انقطع قبل يوم وليلة بان لا شيء فتقضي صلاة ذلك الزمن وإن زاد بان أنه حيض وكذا في الانقطاع بأن كانت لو أدخلت القطنة خرجت بيضاء نقية فيلزمها حينئذ التزام أحكام الطهر ثم إن عاد قبل خمسة عشر كَفّتْ وإن انقطع فعلت وهكذا حتى تمضي خمسة عشر فحينئذ تَرُدُّ كلاً إلى مردها فإن لم تجاوزْها بان أن كلاً من الدم والنقاء المحسوس حيض وفي الشهر الثاني لا تعيد لأن الظاهر أنها فيه كالأول (والصفرة والكدرة حيض في الأصح) لأنها من الأذى الذي ذكرته الآية [يسألونك عن المحيض قل هو أذى] النساء: 222 روى مالك عن أمِّ علقمة عن عائشة في قصة النساء اللاتي كنَّ يرسلن إليها بالكُرسف فيه الصفرة من دم الحيض فتقول: "لا تعجلن حتى ترينَّ القصة" وعلقه البخاري. والقصة البيضاء هو الطهر بأن تدخل المرأةُ القطنَ فرجها لترى أثر الدم وأصل القَصّة الجِص أو الجبس (فإن كانت مبتدأة) أي أول ما ابتدأها الدم (مميزه بأن ترى) في بعض الأيام دماً (قوياً و) في بعضها دماً ضعيفاً (فالضعيف استحاضة) وإن طال (والقوي حيض إن لم ينقصْ) القويُ (عن أقله) أي الحيض وهو يوم وليلة (ولا عَبَرَ أكثره) أي تجاوز خمس عشرة ليلة (ولا نقص الضعيف عن أقل الطهر) وهو خمسة عشر يوماً ولاءً ليجعل طهراً بين الحيضتين فلو رأت يوماً وليلة أسود ثم أحمر مستمراً سنيناً كثيرة فإن الضعيف كله طهر لأن أكثر الطهر لا حد له وإن اجتمع قوي وضعيف وأضعف فالقوي مع ما يناسبه منهما وهو الضعيف حيض بشروط ثلاثة: وهي أن يتقدم القوي ويتصل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/253)
به الضعيف وأن لا يزيد مجموعها عى أكثره كخمسة سواداًً ثم خمسة حمرة ثم اطبقت الصفرة فالأولان حيض لأنهما قويان بالنسبة لما بعدهما فإن لم يصلحا للحيض كعشرة سواداً وستة حمرة ثم اطبقت الصفرة أو صَلُحَا لكن تقدم الضعيف كخمسة حمرة ثم خمسة سواداً ثم اطبقت الصفرة أو تأخر لكن لم يتصل الضعيف بالقوي كخمسة سواداً ثم خمسة صفرة ثم اطبقت الحمرة فحيضها في ذلك السواد فقط (أو مبتدأة لا مميزة بأن رأته بصفة) واحدة وهي التي جاوز دمها أكثر الحيض (أو) مميزه بأن رأته بصفات مختلفة لكن (فقدت شرط تمييز) وتسمى مميزة غير مُعْتَدٍّ بتمييزها (فالأظهر أن حيضها يوم وليلة وطهرها تسع وعشرون) لتيقن سقوط الصلاة عنها في الأقل وما بعدها مشكوك فيه واليقين لا يترك إلا بمثله لكنها في الدور الأول كما ذكرنا تصبر إلى خمسة عشر يوماً لعله ينقطع ثم يعدها إن استمر الدم على صفته أو تغير لأقل الحيض اغتسلت وصلت وفي الدور الثاني وما بعده تغتسل وتصلي بمجرد مضي يوم وليلة وتقضي ما زاد على يوم وليلة في الدور الأول وعبر بتسع وعشرين لا ببقية الشهر لأن شهر المستحاضة الذي هو دورها لا يكون إلا ثلاثين ثم شرع في المستحاضة الثالثة وهي المعتادة غير المميزة فقال (أو) كانت ممن جاوز دمها أكثر الحيض (معتادة) غير مميزة (بأن سبق لها حيض وطهر) وهي تعلمها قدراً ووقتاً (فتردُّ إليهما قدراً ووقتاً) لما روى مالك والشافعي وأحمد عن أم سلمة أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله (ص) فاستفتيت لها رسولَ الله فقال: "لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتطهر ثم لتستثغر بثوب ثم لتصل. قال النووي: إسناده على شرط الشيخين. ومعنى تهراق الدم أي تصبه أي تستحاض (وتثبت) العادة (مرة في الأصح) فلو حاضت في شهر خمسة ثم صارت ستة ثم استحيضت رُدّت للستة هذا إن لم يكن لها أكثر من عادة كأن تحيض في شهر خمسة وفي الآخر ستة فترد إليهما (ويحكم للمعتادة المميزة) حيث خالفت العادة التميز (بالتمييز لا العادة) كأن كانت عادتها خمسة من كل شهر فاستحيضت فرأت خمسة حمرة ثم سبعة سواداً ثم حمرة مطبقة فيكون حيضها السواد فقط والثاني يحكم بالعادة لأن العادة قد ثبتت واستقرت.
تنبيه: المبتدأة وغير المميزة والمعتادة كذلك تترك الصلاة وغيرها مما تتركه الحائض بمجرد رؤية الدم لأن الظاهر أنه حيض فتتربص فإن قُطعَ الدمُ لدون يوم وليلة فليس بحيض لتبين أنه دم فساد فيقضين الصلاة وكذا الصوم، أما إذا انقطع ليوم وليلة فأكثر ولدون خمسة عشر فالكل حيض ولو كان قوياً وضعيفاً وإن تقدم الضعيف على القوي فإن جاوز الخمسة عشر ردت كل منهما إلى مردها وقضت كل منهن صلاة وصوم ما زاد على مردّها ثم في الشهر الثاني وما بعده يتركن التربص ويصلين ويفعلن ما تفعله الطاهرات فيما زاد على مردهن لأن الاستحاضة علة مزمنة فالظاهر دوامها فإن شفين في دور قبل مجاوزة أكثر الحيض كان الجميع حيضاً كما في الشهر الأول فَيُعْدِنَ الغسل لتبين عدم صحته حيث وقع في حيض (أو متحيرة بأن نسيت) أو جهلت وقت ابتداء الدور أو (عادتها قدراً ووقتاً) لنحو غفلة (ففي قولٍ كمبتدأة) غير مميزة فيكون حيضها يوماً وليلة على الأظهر من أول الهلال لأنه الغالب وطهرها بقية الشهر لما فيه من الاحتياط (والمشهور وجوب الاحتياط) لأن كل زمن يمر عليها محتمل للحيض والطهر والانقطاع وإدامةُ حكم الحيض عليها باطل إجماعاً والطهر ينافيه الدم والتبعيض تحكم فاقتضت الضرورة الاحتياط إلا في عدة الفراق فإنها بثلاثة أشهر لأن كل شهر لا يخلو من حيض وطهر نظرا ًللغالب (فيحرم) على حليلها (الوطء) ويحرم عليها تمكينه لاحتمال الحيض (ومس المصحف) والمكث بالمسجد إلا لصلاة أو طواف أو اعتكاف ولو نفلاً (والقراءة في غير الصلاة) أما في الصلاة فجائزة مطلقا ًوقيل: تباح لها القراءة مطلقاً خوف النسيان بخلاف الجنب لقصر زمن الجنابة وقيل: يباح لها المكث في المسجد والاعتكاف إذا أمنت التلويث (وتصلي الفرائض أبداً) وجوباً ولو منذورة قال الأسنوي: والقياس أن صلاة الجنازة كذلك (وكذا النفل) أي لها صلاته وطوافه وصيامه (في الأصح) ندباً لأنه من مهمات الدين (وتغتسل لكل فرض) بعد دخول وقته وجوباً وذلك لاحتمال
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/254)
الانقطاع كل وقت ولو تذكرت وقت الانقطاع كعند الغروب مثلاً اغتسلت عنده كل يوم فقط (وتصوم رمضان) لاحتمال أنها طاهر جميعه (ثم شهراً) آخر (كاملين) حال من رمضان وشهراً (فيحصل) لها (من كل) منهما (أربعة عشر) يوماً لاحتمال أن حيضها الأكثر وأنه طرأ أثناء يوم وانقطع أثناء السادس عشر فيبطل منه ستة عشر يوماً (ثم) إن بقي عليها يومان (تصوم من ثمانية عشر) يوماً ستة أيام (ثلاثة أولها وثلاثة آخرها فيحصل اليومان الباقيان) لأن الحيض إن طرأ أثناء أول صومها حصل الأخيران أو ثانيهُ فالأول والثامن عشر أو ثالثهُ فالأولان أو أثناء السادس عشر حصل الثاني والثالث أو السابع عشر فالثالث والسادس عشر أو الثامن عشر فالسادس عشر والسابع عشر ويوجد صور أخرى (ويمكن قضاء يوم بصوم يوم ثم) صوم (الثالث) من الأول (والسابع عشر) منه لوقوع يوم من الثلاثة في الطهر بكل تقدير على الكيفية الأولى (وإن حفظت) أي المتحيرة (شيئاً) من عادتها ونسيت شيئاً كالوقت فقط أو القدر فقط (فلليقين حكمه) وهذه تحيرها نسبي فلذلك جعلها عقب المتحيرة السابقة المطلقة (وهي في) زمن (المحتمل كحائض في الوطء) ومس المصحف (وطاهر في العبادة) المحتاجة للنية احتياطاً كالمتحيرة المطلقة (وإن احتمل انقطاعاً وجب الغسل لكل فرض) احتياطياً أيضاً وإلا فالوضوء لكل فرض ففي حفظ القدر فقط كأن قالت: كان حيضي ستة أيام من العشر الأول من كل شهر فالخامس والسادس حيض يقيناً وما بعد العاشر طهرٌ يقيناً ومن السابع للعاشر يحتمل الانقطاع فتغتسل لكل فرض ومن الأول للخامس لم يحتمل الانقطاع فوجب الوضوء فقط فيسمى محتمل الانقطاع طهرا ًمشكوكاً فيه والذي لا يحتمله حيضاً مشكوكاً فيه وهذه لا تخرج عن التحير المطلق إلا بحفظ قدر الدور وابتدائه وقدر الحيض ومن المتحيرة الحافظة للقدر دون الوقت كأن تقول: حيضي خمسةٌ ودوري ثلاثون ولا أعرف ابتداءه فكل زمن يمر عليها محتمل للثلاثة الحيض والطهر والانقطاع فهي متحيرة مطلقاً ومنها حفظ الوقت فقط كأن قالت: أعلم أني أحيض في الشهر مرة وأكون في سادسه حائضاً فالسادس حيض يقيناً والعشر الأخير طهر يقيناً ومنه للعشرين يحتمل الانقطاع دون الدم ومن الأول للسادس يحتمل الدم فقط (والأظهر أن دم الحامل) حيض ولو بين توأمين لأنه متردد بين دم الجبلة والعلة والأصل السلامة من العلة وإن لم تنقض به العدة لأنها لطلب براءة الرحم وهي لا تحصل بالأقراء مع وجود الحمل إلا إذا كان الحمل من زنى لأن حمل الزنى كالمعدوم (والنقاء بين أقل الحيض حيضٌ) بشرط ألا يجاوز ذلك خمسة عشر يوماً ولا تنقص الدماء عن أقل الحيض وأن يكون النقاء محتوشاً بين دمي حيض فإذا كانت ترى وقتاً دماً ووقتاً نقاءً واجتمعت الشروط السابقة حكمنا على الكل بأنه حيض وهو ما يسمى السحب والثاني أن النقاء طهرٌ وهو ما يسمى اللقط أو التلفيق (وأقل النفاس) وهو الدم الخارج بعد فراغ جميع الرحم وإن وضعت علقة أو مضغة (لحظة) وقال غيره مَجَّةٌ ويقال لذات النفاس نُفَسَاء (وأكثره ستون) يوماً (وغالبه أربعون) يوماً بالاستقراء وأما خبر أبو داود عن أم سلمة: "كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله أربعين يوماً" قال الترمذي: هذا حديث غريب وقال الدارقطني: لا تقوم به حجة، وعلى فرض صحته فلا ينفي الزيادة فهو محمول على الغالب أو على نسوة مخصوصات (ويحرم به ما يحرم بالحيض) حتى الطلاق إجماعاً لأنه دم حيض يجتمع قبل نفخ الروح وبعد النفخ يكون غذاءً للولد (وعبوره ستين) يوماً (كعبوره) أي الحيض (أكثره) أي فله ذات أحكامه.
خاتمة: يجب على المرأة تعلم ما تحتاج إليه من أحكام الحيض والنفاس فإن كان زوجها عالماً وجب عليه تعليمها وإلا لزمها الخروج لسؤال العلماء ويحرم عليه منعها.
كتاب الصلاة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/255)
وهي لغة: الدعاء بخير قال تعالى: [وصلِّ عليهم] التوبة:103 أي: ادع لهم وشرعاً: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة وسميت بذلك لاشتمالها على الدعاء (المكتوبات) أي المفروضات العينية (خمسٌ) معلومة من الدين بالضرورة في كل يوم وليلة والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى: [واقيموا الصلاة] وقوله: [إن الصلاة كات على المؤمنين كتاباً موقوتاً] النساء:103 وخبر الصحيحين: "فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمساً في كل يوم وليلة" (الظهر) أي صلاة الظهر، سميت بذلك لأنها تفعل في وقت الظهيرة أي: شدة الحر وقد تأسى المصنف بالابتداء بها بقوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس" الأسراء:78، (وأول وقته زوال الشمس) أي عقب وقت ميلها عن وسط السماء والمسمى بالاستواء إلى جهة الغرب وذلك بزيادة ظل الشيء على ظله حالة الاستواء أو بحدوثه إن لم يبق عنده ظل (وآخره مصير ظل الشيء) الموجود عند الزوال وهو (أول وقت العصر) فإذا جاوز (ظل الشيء مثله) بأقل زيادة فقد دخل وقت العصر أي أن الفاصل بين وقت الظهر وأول وقت العصر صغير جداً (ويبقى) وقته (حتى تغرب) الشمس لما روى الشيخان عن أبي هريرة من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وروى مسلم: "وقت العصر ما لم تغرب الشمس" (والاختيار ألا تؤخر عن مصير الظل مثلين) لحديث جبريل: "فصلى الظهر حين زالت الشمس ثم جاءه العصر فصلى العصر حين صار كل شيء مثله ثم جاء المغرب فصلى المغرب حين وجبت الشمس ثم جاءه العشاء فصلى حين غاب الشفق ثم جاءه الفجر فصلى حين برق الفجر أو قال: سطع الفجر ثم جاءه من الغد للظهر فقال: قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم جاءه العصر فقال: قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يَزُل عنه ثم جاء العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل فصلى العشاء ثم جاءه الفجر حين أسفر جداً فقال: قم فصله فصلى الفجر ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت "أي وقت الصلاة" رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن ابن عباس وللعصر وقت فضيلة وهو أول الوقت ووقت اختيار ووقت كراهة وهو عند اصفرار الشمس ووقت حرمة وهو بحيث لا يبقى من وقتها وقت يسعها وإن قلنا: إنها أداء، والعصر هي الصلاة الوسطى وإنما فضلوا جماعةَ الصبحِ والعشاء لأن الجماعة فيها أشق (والمغرب) يدخل وقتها (بالغروب) لحديث جبريل وسميت بذلك لفعلها عقب الغروب أي غيبوبة قرص الشمس وإن بقي الشعاع (ويبقى) وقتها (حتى يغيب الشفق الأحمر في القديم) لخبر مسلم عن اذبن عمرو ووقت المغرب مالم يغب الشفق، والشفق هو حمرة الشمس (وفي الجديد ينقضي بمضي قدر وضوءٍ وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات) لأن جبريل صلاها في اليومين في وقتٍ واحد وهذا هو وقت الفضيلة وأمّا السابق فهو وقت الجواز أي إلى غياب الشفق (ولو شرع في الوقت) على القول الجديد (ومدَّ) بتطويل القراءة وفي سائر الصلوات إلا الجمعة (حتى غاب الشفق الأحمر جاز على الصحيح) لأن ذلك المد لا كراهة فيه لما صحَّ أن الصِّديق طوّل في الصبح فقيل له: كادت الشمس أن تطلع قال: "لو طلعت لما تجدنا غافلين" ولما روى الحاكم على شرط الشيخين أن الرسول (ص) كان يقرأ بالأعراف في ركعتي المغرب، وقيل لا يجوز لوقوع بعضها خارج الوقت، (قلت القديم أظهر والله أعلم) قال في المجموع: بل هو الجديد أيضاً لأن الشافعي علق القول به في الإملاء وهو من الكتب الجديدة لخبر مسلم: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" (والعشاء) يدخل وقتها (بمغيب الشفق) الأحمر وينبغي تأخيرها لزوال الأصفر والأبيض خروجاً من خلاف من أوجب ذلك وأصل العشاء الظلام وسميت به الصلاة لفعلها حينئذ (ويبقى) وقتها (إلى الفجر) الصادق لخبر مسلم عن ابن عباس "ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى"، خرجت الصبح إجماعاً فيبقى على مقتضاه في غيرها (والاختيار ألا تؤخر عن ثلث الليل) لخبر جبريل السابق (وفي قول نصفه) لما روى الحاكم على شرط الشيخين عن ابن عباس "لولا أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل" (والصبح) يدخل وقتها (بالفجر الصادق) لأن جبريل صلاّها أول
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/256)
يوم حين حرم الفطر على الصائم وإنما يحرم بالصادق إجماعاً ولا نظر لمن شذَّ فلم يحرمه إلى طلوع الشمس فهو مخالف للإجماع (المنتشر ضوؤه معترضاً بالأفق) أي نواحي السماء بخلاف الكاذب فإنه يطلع مستطيلاً بأعلاه ضوء كذنب السرحان: أي الذئب ثم تعقبة ظلمة قيل شُبِّه بذنب السرحان لأن الضوء يكون في أعلاه والشعر يكون في أعلى ذنب السرحان دون أسفله (حتى تطلع الشمس) لخبر مسلم "وقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس" وبذلك يكفي طلوع بعضها بخلاف الغروب (والاختيارأن لا تؤخر عن الاسفار) بحيث يميز الناظرُ القريبَ منه لحديث جبريل (قلت يكره تسمية المغرب عشاءً) وتسمية (العشاء عتمة) لخبر البخاري عن ابن عمر "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم وتقول الأعراب هي العشاء" وفي خبر مسلم "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا أنها العتمة وهم يُعتمون بالإبل" وفي رواية بحلاب الإبل أي يؤخرونها إلى شدة الظلمة والمنع للكراهة لأن النبي (ص) قال: "لو تعلمون ما في الصبح والعتمة لأتيتموها ولو حبواً" متفق عليه. قيل ذلك لبيان الجواز (و) يكره (النوم قبلها) أي قبل فعلها بعد دخول وقتها لأن النبي (ص) يكره ذلك رواه الشيخان ولأنه ريما نام حتى دخل وقت الأخرى ويجري ذلك في سائر الصلوات إلا أن يغلبه النوم أو غلب على ظنه أنه يستيقظ (و) يكره (الحديث بعدها) لنهي النبي عن ذلك رواه الشيخان (إلا) لمنتظر الجماعة أو المسافر لخبر أحمد عن ابن مسعود "لا سَمَرَ بعد العشاء إلا لمصلٍ أو مسافر أو لعذر" أو (في خير) كعلم شرعي أو موعظة أو مذاكرة آثار الصالحين (والله أعلم) لما صح أنه (ص) كان يحدثهم عامة ليلة عن بني إسرائيل رواه الحاكم عن عمران بن حصين (وَيُسَنُّ تعجيل الصلاة لأول الوقت) إذا تيقنه ولو عشاء لقوله (ص) حين سُئِلَ أي الأعمال أفضل قال: "الصلاة في أول وقتها" قال الحاكم على شرط الشيخين. وعن ابن عمر مرفوعاً "الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله" رواه الترمذي. قال الشافعي رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يشبه أن يكون للمقصرين ولو اشتغل أول الوقت بأسباب الصلاة كالطهارة والأذان والستر وأكل لُقمٍ توفر خشوعه وتقديم سنة راتبة ثم أحرم بعد ذلك حصلت له فضيلة أول الوقت ويندب للإمام الحرص على أول الوقت لكن بعد مضي وقت يجتمع الناس فيه عادةً وإن قلَّ ولا ينتظر ولو نحو شريف وعالم فإن انتظره كره فقد ثبت أن النبي (ص) تأخر مرتين عن وقت عادته فأقاموا الصلاة فتقدم أبو بكر مرة وابن عوف أخرى مع أنه لم يطل تأخره بل أدرك صلاتيهما واقتدى بهما وصوّب فعلهما (وفي قول: تأخير العشاء أفضل) لخبر الشيخين أنه كان (ص) يستحب أن يؤخر العشاء والحكمة في تأخيرها إلى وقت الاختيار لتكون وسط الليل بإزاء الظهر فإنه وسط النهار والمشهور استحباب التعجيل لعموم الأحاديث ولأنه هو الذي واظب عليه رسول الله والخلفاء الراشدون من بعده وهو الذي يجب أن يُفْعَلَ اليوم لاعتياد الناس على الاجتماع بعد الأذان (ويسن الإبراد بالظهر في شدة الحر) إلى أن يصير للحيطان ظلٌ لخبر البخاري عن أبي هريرة "إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم" أي غليانها وانتشار لهبها وخرج بالظهر الجمعة فلا يسن فيها الإبراد لخبر الصحيحين عن أنس أنه (ص) كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس ذلك لأن الناس مأمورون بالتبكير إليها (والأصح اختصاصه) أي الإبراد (ببلد حار) كالحجاز والعراق (وجماعة مسجد) أو أي مكان (يقصدونه من بُعْدٍ) فلا يسن الإبراد في غير شدة الحر ولا يسن الإبراد لمن يصلي منفرداً وضابط البعد ما يتأثر قاصده بالشمس (ومن وقع بعض صلاته في الوقت) وبعضها خارجه (فالأصح أنه إن وقع) في الوقت منها (ركعة) كاملةٌ (فالجميع أداء وإلا فقضاء) سواءً أخّر لعذر أم لا لخبر الشيخين: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" قال النووي في الروضة: "ولو شرع في صلاته وقد بقي من الوقت ما يسعها فمدها بتطويل القراءة حتى خرج الوقت لم يأثم قطعاً ولا يكره على الأصح" (ومن جهل الوقت) لنحو غيم أو حبس في مكان مظلم (اجتهد) إن قدر على اليقين (بورد) كقراءة ودرس (ونحوه) كصنعةٍ وصياح ديك مجرب أو إخبار ثقةٍ لقول أنس: كنا إذا "كنا مع رسول الله (ص) في السفر فقلنا زالت الشمس أو لم تزل صلّى الظهر" قيل: وفي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/257)
هذا دلالة على الاجتهاد ونصب الأدلة وقيل: للمبادرة أو الوقت ولانهم علموا استحالة شكهم مع صلاة رسول الله (ص) ويستنبط أيضا ًجواز تقليد العَدْلِ في الوقت والجهة (فإن) اجتهد وصلى ثم (تيقن صلاته) أي إحرامه فيها (قبل الوقت قضى في الأظهر) لفوات شرطها وهو الوقت (وإلا) أي: وإن لم يتيقن وقوعها قبل الوقت (فلا) قضاء عليه (ويبادر بالفائت) وجوباً إن كان الفوات بغير عذر وجوازاً إن فات بعذر تعجيلاً لبراءة ذمته لما روى الشيخان عن أنس "من نسي صلاةً أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (ويسن ترتيبه) أي الفائت فيقضي الصبح قبل الظهر خروجاً من خلاف من أوجبه (و) يسن (تقديمه على الحاضرة التي لا يخاف فوتها) لأن النبي (ص) فاتته صلاة العصر يوم الخندق فصلاها بعد المغرب، متفق عليه، فإن لم يرتب ولم يقدم الفائته جاز لأن كل واحدة عبادة مستقلة والترتيب إنما وجب في الأداء لضرورة الوقتَ وفِعْلُهُ (ص) المجرد من غير أمر إنما يدل عندنا على الاستحباب فإن خاف فوات الحاضرة لزمه البراءة بها لئلا تصير فائتة أيضاً (وتكره الصلاة عند الاستواء) لما روى مسلم عن عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول الله (ص) ينهانا أن نصلي فيهم أو نقبر موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف للغروب" وقيل: النهي للتنزيه لأننا مأمورون بالصلاة في أول الوقت والظهيرة شدة الحر وقائمها هوالبعير يكون باركاً فيقوم من شدة حر الأرض وتضيف أي تميل ووقت الاستواء لطيفٌ لا يتسع لصلاة والأمر تعبديٌ (إلا يوم الجمعة) لاستثنائه في خبر ابي داود وغيره (وبعد) أداء صلاة (الصبح حتى ترتفع الشمس) فيها (كرمح) في رأي العين وطوله نحو سبعة أذرع (و) بعد أداء صلاة (العصر) ولو لمن جمع تقديماً (حتى) تصفو الشمس بخلافه قبل فعلها فيجوز النفل مطلقاً ومن الاصفرار حتى (تغرب) لمن صلى العصر ومن لم يصلها (إلا لسبب) لم يقصده متقدم على الفعل (كفائته) ولو نافلة اتخذها ورداً لصلاته كما قضى النبي (ص) سنة الظهر بعد العصر لما شغل عنها (وكسوفٍ) لأنها معرضة للفوات (وتحية) لم يدخل المسجد بقصد صلاتها فقط (وسجدة شكر) وتلاوة لأن كعب بن مالك فعلها بعد الصبح لما نزلت توبته وركعتي طواف وصلاة جنازة ولو على غائب وقد نقل ابن المنذر الإجماع على فعل الفائتة وصلاة الجنازة بعد الصبح والعصر وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه (ص) قال لبلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دفّ خفق" نعليك بين يديَّ في الجنة، قال ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي. أما ما يمكن التصرف بسببه عن تأخير أو تقديم فلا تنعقد صلاته كركعتي الاستخارة والإحرام لأن الاستخارة والإحرام سببهما متأخر عنهما كما يقول الفقهاء أما مثل صلاة الاستسقاء فسببها متقدم عليها وهو القحط وصلاة الكسوف سببها متقدم عليها وهو انكساف الشمس وصلاة الجنازة سببها متقدم عليها وهو الموت ... (وإلا في حرم مكة) المسجد وغيره مما حرم صيده (على الصحيح) لما روى الترمذي وصححه "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" لزيادة فضلها فلا يُحْرَمُ من ثوابها المقيم لأن الطواف صلاة.
فصل فيمن تلزمه الصلاة أداء وقضاء
(فصل: إنا تجب الصلاة على كل مسلم) فلا تجب على كافر وجوب مطالبة في الدنيا لعدم صحتها منه (بالغ عاقل طاهر) فلا تجب على مجنون ولا تجب على صغير ولا تجب على حائض ولا نفساء ولا مغمى عليه (ولا قضاء على الكافر) إذا أسلم لقوله تعالى: [قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف] الأنفال:138 (إلا المرتد) فيلزمه قضاء ما فاته زمن الردة حتى زمن جنونه أو إغمائة أو سكره ولو بلا تعدٍّ تغليظاً عليه لأنه التزمها بالإسلام فلا تسقط عنه بالجحود (ولا الصبي) فلا يقضي الصبي لعدم تكليفه أثناء صباه فلا يقضي بعد بلوغه (ويؤمر) الصبي المميز (بها) فيأمره والده بها مع الالحاح والتهديد إن لزم ذلك ويؤمر بجميع شروطها وبسائر الشرائع الظاهرة (لسبع) أي بعد استكمال سبع سنين (ويضرب عليها) أي على تركها (لعشر) سنين لما روى الترمذي وصححه عن ابن عمرو "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/258)
فاضربوه عليها] وحكمة ذلك التمرين عليها ليعتادها وأخّر الضرب للعشر لأنه عقوبة والعشر زمن احتمال البلوغ مع قوة البدن والسبع عادة سن التمييز ولا ضابط له في السن وأحسن ما قيل فيه أن يصير الطفل بحيث يأكل ويشرب ويستنجي وروى أبو داود أن النبي (ص) سئل متى يصلي الصبي قال "إذا عرف شماله من يمينه" قال الدميري: والمراد إذا عرف ما يضره وما ينفعه (ولا على ذي حيض) فلا قضاء على ذات حيضٍ أو نفاس إذا تطهرت وإن كان سبب الحيض أو النفاس دواءً (أو جنون أو إغماء) فلا قضاء على مجنون أو مغمى عليه أو معتوه أو سكران من غير تعدٍ إذا أفاق لما روى الحاكم وصححه عن عائشة "رفع القلم عن ثلاث: الصبي حتى يبلغ والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يبرأ" (بخلاف السكر) أو الجنون أو الإغماء المتعدي به إذا أفاق منه فإنه يلزمه القضاء وإن ظن متناول المسكر أنه لا يغمى عليه لتعديه (ولو زالت هذه الأسباب) المانعة من وجوب الصلاة مثل الكفر الأصلي والصبا والحيض والجنون (وبقي من الوقت تبكيره) أي: قدر تكبيرة فأكثر (وجبت الصلاة) أي: صلاة الوقت إذا بقي زمنٌ يسع الصلاة (وفي قول: يشترط ركعة) لأن الجمعة لا تدرك إلا بركعة ولمفهوم الحديث: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" ويشترط للوجوب بقاء السلامة من الموانع وزمن يسع الطهارة والصلاة أخف ما يمكن (والأظهر وجوب الظهر بإدراك تكبيرة آخر العصر) لاتحاد وقتي الظهر والعصر (والمغرب آخر العشاء) لاتحاد وقتهما في العذر (ولو بلغ فيها) أي: بلغ في الصلاة بالسن لأنه لا يحتملُ بالاحتلام لأنه يفسدها (أتمها وأجزأته على الصحيح) ولو جمعة لأنه أداها صحيحة بشرطها فلم يؤثر فيها تغير حاله وكون أولها نفلاً لا يمنع وقوع باقيها واجباً كحج التطوع (أو بعدها فلا إعادة) أي: بعد فعلها وبلوغه بالسن أو بغيره (على الصحيح) هذا إذا نوى الفرضية أما إذا لم ينو فهو لم يصلِّ شيئاً (ولو حاضت أو جُنّ أول الوقت) واستغرق المانع وقت الصلاة (وجبت تلك) الصلاة (إن أدرك) من الوقت قبل حدوث المانع (قدر الفرض) الذي يلزمه مع إدراك طهر لصلاته وإلا فلا تجب الصلاة لانتفاء التمكن كما لو هلك نصاب الزكاة قبل أن يتمكن من دفعها.
فصل: في الأذان والإقامة
والأذان لغة: الإعلام قال تعالى: [وأذن بالناس في الحج] الحج:27 أي: اعلمهم وشرعاً: قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى: [وإذا ناديتم إلى الصلاة] المائدة:58 وخبر الصحيحين: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم" والإقامة في الأصل مصدر أقام وسمي ذكر المخصوص بها إقامة لأنه يُقيم إلى الصلاة والأذان والإقامة مشروعان بالإجماع، قال المصنف: كلٌ منهما (سنة) لأنه (ص) لم يأمر بها في حديث الأعرابي مع ذكره الوضوء والاستقبال وأركان الصلاة ولقوله (ص): "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه" رواه البخاري ولأنهما للإعلام بالصلاة فلم يجبا كالصلاة (وقيل: فرض كفاية) لخبر الشيخين: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ولأنهما من الشعائر الظاهرة فحكمها كالجماعة واختار جمع أنه يُقاتَلُ أهل بلد تركوهما أو أحدهما بحيث لم يظهر الشعار (وإنما يشرعان المكتوبة) دون المنذورة وصلاة الجنازة والسنن لعدم ثبوتهما فيها وقيل: يكرهان في غير المفروضة. (ويقال في العيد ونحوه) من كل نفل شرعت فيه الجماعة ككسوف واستسقاء وتراويح لا جنازةٍ لأن المشيعين حاضرون غالباً (الصلاة جامعة) لوروده في الصحيحين في كسوف الشمس وقيس عليه الباقي وقيل يُنْصَبانِ (الصلاةَ جامعةً) حيث نصب الأول على الإغراء والثاني على الحال أي: احضروا الصلاة والزموها حالة كونها جامعة (والجديد ندبه) أي الأذان (للمفرد) في بلدٍ أو صحراء وإن بلغه أذان غيره (ويرفع صوته) أيك المنفرد بالأذان لما روى البخاري: "إذا كنت في غنمك أو باديتك فاذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوتك جنٌ ولا إنٍسٌ ولا شيءٌ إلا شهد لك يوم القيامة" (إلا بمسجد وقعت فيه جماعة) أو صلوا فرادى وانصرفوا (فلا يندب فيه رفع الصوت) لئلا يوهموا بدخول صلاة أخرى (ويقيم للفائتة ولا يؤذن في الجديد) أي إذا فاتته المكتوبة فيقيم ولا يؤذن لما روى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/259)
الشافعي وأحمد "أن النبي (ص) فاته يوم الخندق صلوات فقضاها ولم يؤذن لها (قلت: القديم أظهر والله أعلم) لما روى مسلم أن النبي (ص) لما نام في الوادي هو وأصحابه حتى طلعت الشمس فساروا حتى ارتفعت الشمس ثم نزل فتوضأ وأذن بلالٌ فصلى ركعتين ثم الصبح" وذلك كان بعد الخندق (فإن كان فوائت لم يؤذن لغير الأولى) أي إذا أراد قضاءها متوالية أذن مرة واحدة ولأن النبي (ص) جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين رواه الشيخان (ويندب لجماعة النساء الإقامة لا الأذان على المشهور) لأن الأذان يُخَافُ من رفع المرأة الصوت به الفتنةُ أما الإقامة فلاستنهاض الحاضرين فلا يخشى من رفع الصوت محذور وقيل: يندبان (والأذان مثنى) أي: أغلبه اثنان اثنان إذ التكبير أوله أربع والتشهد آخره واحد (والإقامة فرادى إلا لفظ الإقامة) للحديث المتفق عليه أن النبي أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (ويسن إدراجها) أي إسراعها (وترتيله) أي التأني في الأذان (والترجيع فيه) وهو أن يأتي بالشهادتين سراً قبل أن ياتي بهما جهراً لثبوت ذلك في خبر مسلم عن أبي محذورة (والتثويب في الصبح) وهو الصلاة خير من النوم بعد الحيعلتين روى ذلك أبو داود بإسناد جيد وخُصَّ بالصبح لما يعرض للنائم من التكاسل بسبب النوم ويسن أن يقول في الليلة المطيرة أو المظلمة ذات الريح بعد الأذان: ألا صلوا برحالكم ولو جعله بعد الحيعلتين أو عوضاً عنهما جاز رواه البخاري، (ويسنُّ أن يؤذن قائماً) وعلى عالٍ لأنه أبلغ في الإعلام ولخبر الصحيحين: "قم يا بلال فناد بالصلاة" وأن يكون متوجهاً (للقبلة) فيهما لأها أشرف الجهات وهي المنقولة سلفاً وخلفاً فلو ترك الاستقبال أو القيام مع القدرة أجزأه مع الكراهة ويسن الالتفات بعنقه في حيعلان الأذان والإقامة روى الشيخان عن أبي جحيفة قال: رأيت بلالاً يؤذن فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح ولا يلتفت في قوله: الصلاة خير من النوم (ويجب ترتيبه) الأذان والإقامة للاتباع رواه مسلم وتجب (موالاته) أي موالاة كلمات الأذان والإقامة لأن ترك الموالاة يخل بالإعلام (وفي قول لا يضر كلام وسكوت طويلان) كسائر الأذكار لا يضرها الكلام الكثير خلالها وكذا السكوت (وشرط المؤذن الإسلام) وكذا المقيم فلا يصحان من كافر لأنه ليس أهلاً للعبادة. والتمييز وغير المميز كالطفل والسكران (والذكورة) ولو عبداً أو صبياً مميزاً ولا يصح أذان المرأة ولو لمحارم لها كما لا تصح إمامتها لهم وأذانها للنساء جائز ولا يندب.
ويصح من الأعمى فإن ابن مكتوم كان راتباً وقيل يشترط أن يكون عالماً بالمواقيت والأصح أن لا يشترط إذا عرفها بخبر ثقة فابن مكتوم كان لا يؤذن حتى يُقال له أصبحت أصبحت "رواه البخاري" (ويكره) كل منهما (للمحدث) غير المتيمم لخبر الترمذي "لا يؤذن إلا متوضئ" (وللجنب أشد) لأن حدثه أغلظ (والإقامة أغلظ) لقربها من الصلاة (ويسنُّ صّيتٌ) أي عالي الصوت لزيادة الإعلام (حسن الصوت) لأنه أدعى إلى الإجابة ولقوله (ص) لعبد الله بن زيد ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً" رواه ابو داود وروى الدارمي أن النبي (ص) أمر عشرين رجلاً فأذنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان (عدلٌ) لِيُقْبَلَ خبرةُّ بالوقت (والإمامة أفضل منه في الأصح) لمواظبته (ص) وخلفاؤه عليها ولأن القيام بالشيء أولى من الدعاء إليه واختاره السبكي وقال: إن السلامة في تركها (قلت الأصح أنه أفضل منها والله أعلم) لقوله تعالى: [ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل عملاً صالحاً] فصلت:33 قالت عائشة: هم المؤذنون ولما روى ابن حبان وابن خزيمة عن أبي هريرة "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشدِ اللهُ الأئمة واغفر للمؤذنين" فجعل المؤذن أميناً والإمام ضامناً والأمين خير من الضامن (وشرطه الوقت إلا الصبح) لأنه للإعلام بدخول الوقت ولا يحوز قبله اجماعاً لما في ذلك من الإلباس (إلا الصبح فمن نصف الليل) لخبر الصحيحين: عن ابن عمر "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أمِّ مكتوم – زاد البخاري وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يُقال أصبحت – أصبحت. وحكمته أن الفجر يدخل وفي الناس النائم والجنب فيحتاجوا للوقت ليتهيؤوا للصلاة ولا يشترط أن يطول الفصل بين الأذانين ويندب للأمام
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/260)
الأمر بتسوية الصفوف (وَيُسَنُّ مؤذنان للمسجد) تأسياً برسول الله (ص) فقد روى الشيخان أنه كان للنبي مؤذنان: بلال وابن أمِّ مكتوم ومن فوائد ذلك أن (يؤذن واحد) الصبح (قبل الفجر وآخر بعده) للخبر السابقة (ويسن لسامعه مثل قوله) بأن يأتي بكل كلمة عقب فراغ المؤذن منها لخبر الشيخين: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن وتناولت عبارته الجنب والحائض وقيل لا يجيب الجنب ولا الحائض للأخبار الصحيحة: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر. وكان يذكر الله على كل أحيانه إلا لجنابة (إلا حيعليته) وهي حي على الصلاة حي على الفلاح (فيقول) عقب كل واحدة (لا حول ولا قوة إلا بالله) أي لا عصمة من المعصية ولا قوة على الطاعة إلا بعون الله ولما روى الشيخان "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة" (قلت و في التثويب) في أذان الصبح (فيقولُ صدقتَ وبررت والله أعلم) أي صرت ذا برٍّ ولخبر ورد فيه أو يقول صدق رسول الله (ص): الصلاة خير من النوم (ولكلٍ أن يصلي على النبي (ص) بعد فراغه) أي من لاأذان لخبر مسلم إذا سمعتم المؤذن قولوا مثل ما يقول ثم صلوا علىَّ فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً (ثم) يقول (اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة) السالمة من النقص (والصلاة القائمة) التي ستقوم (آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه الله مقاماً محموداً الذي وعدته) لقول النبي (ص) من قال ذلك حين يسمع النداء حلت له شفاعتي يوم القيامة رواه البخاري: وروى مسلم أن الوسيلة منزلة في الجنة وقيل هي المراد بقوله تعالى: [عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً] الإسراء:79 وهو مقام الشفاعةعند فصل القضاء يوم القيامة. ويسنُّ الدعاء بين الأذان والإقامة لأنه لا يرد كما في الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد فادعوا" رواه الترمذي وحسنه عن أنس.
ويكره للمؤذن وغيره الخروج من محل الجماعة بعد الأذان وقبل أداء الصلاة إلا لعذر ويُسنُ تأخير الصلاة إلى حين يجتمع الناس في العادة إلا في المغرب لشدة الخلاف في وقتها لأنه إذا فعل ذلك أدرك الناسُ فضيلةَ أول الوقتِ.
(فصل في استقبال الكعبة)
(فصل إستقبال القبلة) بالصدر لا بالوجه وليس منها الحِجْرُ والشاذروان لأن ثبوتهما منها ظني (شرط لصلاة القادر) على ذلك بالمعاينة أو المسِّ لقوله تعالى: [فوِّل وجهك شطر المسجد الحرام] البقرة:149 بدليل أن النبي (ص) ركع ركعتين في وجه الكعبة وقال: "هذه القبلة" متفق عليه قال الخطابي: قوله: هذه القبلة معناه أن أمرها استقر على هذه البنية "هذه الكعبة" فلا ينسخ أبداً فصلوا إليها في قبلتكم. وقد يعارضه خبر "ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً وحسنه. قال شريح هو لمن اجتهد فأخطأ وقيل هو لأهل الأمصار الذين لا يعاينون البيت (إلا في) صلاة (شدة الخوف) فيما يباح فيه القتال أو الهرب ونحوه فليس التوجه شرطاً لقوله تعالى: [فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً]. قال ابن عمر: مستقبلي القبلة أو غير مستقبلها. رواه البخاري (وإلا نفل السفر) فلا يجب التوجه إلى الكعبة لحديث جابر كان رسول الله (ص) يصلي على راحلته حيث توجهت به فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة رواه البخاري (فللمسافر التنفل راكباً وماشياً) قياساً على الراكب (ولا يشترط طول سفره على المشهور) لعموم الحاجة مع المسامحة في النفل (فإن أمكن استقبال الراكب في مرقد) كطائرة وسفينة وسيارة كبيرة (وإتمام) الأركان كلها أوبعضها (نحو ركوعه وسجوده لزمه) الاستقبال وإتمام الأركان (وإلا) يمكنه ذلك (فالأصح أنه سهل الاستقبال) كحالة وقوف وسيلة الركوب (وجب) الاستقبال لتيسره (وإلا فلا) فإن صعب التوجه فلا يجب للمشقة واختلال السير (ويختص) وجحوب الاستقبال حيث سهل (بالتحرم) فلا يجب فيما بعده وإن سهل (وقيل يشترط في السلام أيضاً) لأنه ختام الصلاة كالتحرم ويُرَدُّ بأنه يحتاط للانعقاد ما لا يحتاط للخروج ومن ثم وجب اقتران النية بالأول دون الثاني. (ويحرم انحرافه عن طريقه إلا إلى القبلة) لأنها الأصل حتى لو انحرف بركوبه مقلوباً صوب القبلة اغتفر له ذلك ولو انحرفت الدابة بنفسها فلا يضر (ويوميء بركوعه وسجوده) ويكون سجوده (أخفض) من ركوعه (والأظهر أن الماشي يتم ركوعه وسجوده) لسهولة ذلك عليه (ويستقبل فيها وفي احرامه) وجلوسه بين السجدتين
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/261)
(ولا يمشي إلا في قيامه) فسقط عنه التوجه في مشيه لئلا ينقطع سيره (وتشهده) ولو التشهد الأول وسلامه لطوله فيجوز له المشي وله العدو وإركاض الدابة لحاجة تتعلق بسفره كخوف تخلفه عن الرفقة (ولو صلى فرضاً على دابة واستقبل وأتمَّ ركوعه وسجوده وهي واقفة جاز) وإن لم تكن الدابة معقولة كما لو صلى على سرير (أو سائرة فلا) يجوز لنسبة سيرها إليه بدليل جواز الطواف عليها لأن السير منسوب إليه وليس إليها وقالوا يجوز على السرير المحمول من قبل الرجال لثبات سيرهم خلافاً للدابة فإنها لا تثبت على حال ومثل السرير الطائرة إذا ثبت اتجاهها وكذلك السفينة فإن تحولت فجأة بريح أو غيره وجب ردُّ صدره إلى القبلة أما من خاف مشقة من النزول كأنقطاع رفقة أو انشغال عن طائرة تسافر فيصلي عليها بشرط إتمام الأركان وبشرط الاستقبال قال القاضي حسين: ولا إعادة عليه (ومن صلى في الكعبة واستقبل جدارها أو بابها مردوداً أو مفتوحاً مع ارتفاع عتبته ثلثي ذراع) بذراع الآدمي تقريباً وهو قرابة 30 سنتيمتراً (أو على سطحها) صلى فرضاً أو نفلاً (مستقبلاً من بنائها) أو ما ألحق بها كعصا مسمرة أو ثابتة أو بناء عليها أو تراب جمع فوق سطحها (ما سبق جاز) لتوجهه إلى جزء من البيت وإن بَعُدَ الشاخص الملحق بها أكثر من ثلاثة أذرع جاز ذلك لأنه مستقبل بعضها ببعض جسمه ومستقبل هواءها بالبعض الآخر.
(ومن أمكنه علم القبلة) بأن يراها أو أقام الأدلة الثابتة على جهتها (حرم عليه التقليد) أي الأخذ بقول مجتهد لأن المجتهد لا يقلد مجتهداً (والاجتهاد) كمجتهد وجد النصَّ ومثله الحاكم الذي يرى نصاً بالحكم فلا يجتهد بخلافه أما إذا حال بينه وبين البيت حائل منع المشاهدة جاز له الاجتهاد ومحله إذا فقد المخبر عن علم فإن وُجد فهو مقدم على الاجتهاد ولا يجوز الاجتهاد في محاريب المسلمين التي نشأ بها المسلمون قروناً وإن صغرت قواهم ومدنهم أو خربت إذا سلمت من الطعن لأنه إنما نصبت بوجود جمع من أهل المعرفة بالأدلة إلا انحرافاً صغيراً تيامناً أو تياسراً فيجوز إذ لا يبعد الخطأ بخلافه في الجهة ولا يجوز ذلك في محراب النبي (ص) لأنه لا يُقَرُّ على خطأ وأصل المحراب صدر المجلس (وإلا أخذ بقول ثقة) مقبول الرواية ولو امرأة لا كافر قطعاً ولا فاسق (يخبر عن علم) كقوله هذه الكعبة أو قوله لقد رأيت المسلمين يصلون لهذه الجهة ويجب عليه السؤال عمن يخبره بذلك للحاجة (فإن فقد) الثقة الذي يخبر عن علم (وأمكنه الاجتهاد) لعلمه بأدلة القبلة وهي كثيرة أضعفها الرياح لعدم استقرارها ومنها الساعات وأجهزة تحديد القبلة (حرم التقليد) لأن المجتهد لا يقلد مجتهداً بل يجتهد (فإن تحير) لنحو غيم أو تعارض أدلة (لم يقلد في الأظهر وصلى كيف كان) لحرمة الوقت (ويقضي) وجوباً إن ظهرت له القبلة بعد الوقت لأنه نادر ويؤدي إن ظهرت له القبلة في الوقت (ويجب تجديد الاجتهاد لكل صلاة) فريضة أو منذورة (تحضر على الصحيح) أي يدخل وقتها سعياً في إصابة الحق ما أمكن وقيل لا يجب لاستمرار الظن الأول (ومن عجز عن الاجتهاد وتَعَلُّم الأدلة قلد) وجوباً (ثقة عارفاً) لقوله تعالى: [فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون] النحل:43 فالعامي في الأحكام يقلد مجتهداً فيها فإن اختلف عليه مجتهدان قلَّدَ أعلمهما وأوثقهما (وإن قدر) على تعلم الأدلة (فالأصح وجوب التعلم) عند إرادة السفر ولا مساجد في طريقه أو مقصده لكثرة الاشتباه أما في الحواضر فلا يجب ذلك لأن الأدلة منصوبة (فيحرم التقليد) ضاق الوقت أو اتسع ويجب عليه الإعادة والثاني لا يجب عليه التعلم بخصوص ذاته بل هو فرض كفاية فيجوز له التقليد ولا يقضي ما يصليه (ومن صلى بالاجتهاد فتيقن الخطأ) في جهة ولو يمنة أو يسرة برؤية البيت أو محراب أو إخبار ثقة (قضى في الأظهر) الحاكم يجد النص بخلاف حكمه فينقض الحكم (فلو تيقنه فيها وجب استئنافها) أي الصلاة لعدم الاعتداد بما مضى (وإن تغير اجتهاده) ثانية (عمل بالثاني) وجوباً لأنه الصواب في ظنه سواءً أكان في الصلاة أم لا (ولا قضاء) لما فعله أولاً لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد والخطأ غير مؤكد (حتى لو صلى) صلاةً عدد ركعاتها أربعة وكانت الصلاة (أربع ركعات لأربع جهات بالاجتهاد) لحصول الشرط المتقدم بتغير الاجتهاد (فلا قضاء) لأن كل ركعة مؤداةٍ باجتهاد ولم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/262)
يتعين فيها الخطأ فإن تساوى اجتهاد في جهتين أو أكثر تحير إذ لا مزّية لإحداهما على الأخرى.
(باب صفة الصلاة)
أي كيفيتها وتشتمل على فروض داخلة في أعمالها وتسمى أركاناً وفروض خارجةٌ عنها وتسمى شروطاً كما تشتمل على أبعاضٍ وهي السنن المجبورة بسجود السهو وعلى هيئات وهي السنن التي لا تحتاج إلى سجود سهو (أركانها ثلاثة عشر) على اعتبار أن الطمأنينة في محالها الأربعة صفة تابعة للركن وقال في الروضة: أركانها سبعة عشر بناءً على أن الطمأنينة ركن مستقلٌ أحدها (النية) وقيل أنها شرطٌ لأنها قصد الفعل والقصد خارج عن الفعل والأصل فيها قوله تعالى: [وما أمرو إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين] البينة:15 قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم النية وقوله (ص): "إنما الأعمال بالنيات" (فإن ملى فرضاً) أي أراد صلاته (وجب قصد فعله) وهو العزم على فعله من حيث كونه صلاة لتتميز عن غيرها من الأفعال (وتعينه) من ظهر أو عصر (والأصح وجوب نية الفرضية) في مكتوبة وصلاة نذر لتتميز الصلاة عن النفل وعن الصلاة المعادة في وقت الظهر حيث الأولى هي الفرض (دون الإضافة إلى الله تعالى) فالصلاة لا تكون إلا له وقيل تجب لتحقق معنى الإخلاص وخروجاً من خلاف من أوجبه.
تنبيه: لا ينافي اعتبار التعيين أنه قد ينوي القصر ويتم لظهور أن إمامه مقيم وينوي الجمُعَةَ ويصلي الظهر لخروج وقتها لأنه هنا باعتبار ذات الصلاة وصلاته غير ما نواه ثم باعتبار عارض اقتضاه.
والأصح (أنه يصح الأداء بنية القضاء وعكسه) إذا عذر بنحو غيم أو قصد المعنى اللغوي إذ كل يطلق على الآخر لغة واستنبط البارزي الحموي في هذه القاعدة أنه من صلى عشرين سنة الصبح قبل وقتها فإنه يقضي واحدة فقط إن لم يتعمد ولا تجب نية الأداء والقضاء فيكفي نية صلاة الظهر مثلاً بل تسنّ حيث تنصرف إلى المؤَاداة وقيل يجب التعرض لنية القضاء دون الأداء لأن الأداء يتميز بالوقت دون القضاء (والنفل ذوالوقت أو السبب كالفرض فيما سبق) من اشتراط قصد الفعل وتعيينها إما بما اشتهرت به كالتراويح والضحى والوتر سواء أصلاها واحدة أو أزيد أو بالإضافة كعيد الفطر وخسوف القمر وسنة الظهر القبلية وإن قدمها أو البعدية.
تنبيه: الوتر صلاة مستقلةٌ فلا يضاف إلى العشاء فإن أوتر بواحدة أو أكثر ووصل نوى الوتر وإن فصل نوى بالواحدة الوتر ويتخير من غيرها بين نية صلاة الليل أو نية سنة الوتر أو ركعتين من الوتر وغاية الوتر إحدى عشرة ركعة (وفي نية النفلية وجهان) قيل تجب كالفرض وقيل لا (قلت: الصحيح لا تُشْتَرطُ نية النفلية والله أعلم) بخلاف الفرض فإنها قد تكون فرضاً وقد تكون معادة ولا يضر الخطأ باللفظ إذا علم وقت الصلاة التي يؤديها إلا إذا كان متعمداً فإنه يبطلها (ويكفي في النفل المطلق) وهو ما لا يتقيد بوقت أو سبب (نية فعل الصلاة) لأن النفل أدنى درجات الصلاة (والنية بالقلب) بالإجماع لأن النية قصد الفعل (ويندب النطق قبيل التكبير) بالمنوي ليساعد اللسان القلب وخروجاً من خلاف من أوجه وإن شذَّ وقياساً على الحج (الثاني: تكبيرة الإحرام) لخبر أبي داود والترمذي عن علي بسند صحيح "مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" مع قوله للمسيء صلاته في الخبر المتفق عليه "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطئن ساجداً ثم ارفع حتى تستوي قائماً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" رواه الشيخان عن رفاعة بن رافع بن مالك.
(ويتعين على القادر الله أكبر) النطق بها للاتباع مع خبر البخاري عن مالك بن الحويرث "صلوا كما رأيتموني أصلي" أي علمتموني إذ الأقوال لا ترى فلا يكفي الله كبير ولا تسكين الرحمن أكبر ويسنُّ جزم الراء وليس بواجب وحديث التكبير جزٌم لا أصل له (ولا تضر زيادة لا تمنع الاسم) أي اسم التكبير إن كانت بعده مطلقاً (كالله) أكبر من كل شيء وكالله (الأكبر) لأنها مفيدة للمبالغة في التعظيم بإفادتها حصر الكبرياء والعظمة بسائر أنواعها في الله تعالى ومع ذلك هي خلاف الأولى (وكذا الله الجليل أكبر) أو عز وجل (أكبر في الأصح) لأنها زيادة يسيرة بخلاف الطويلة (لا أكبر الله على الصحيح) لأنه لا يسمى تكبيراً (ومن عجز) عن النطق بالعربية (ترجم) عنه وجوباً بأي لغة شاء ولا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/263)
يعدل لذكر آخر (ووجب التعلم إن قدر) عليه ولو بسفر إن وجد مؤنته (ويسن) للمصلي (رفع يديه في تكبيره) الذي للتحرم إجماعا (حذو منكبيه) لحديث ابن عمر "أنه (ص) كان يرفع يديه خذو منكبيه إذا افتتح الصلاة" متفق عليه والصفة في ذلك أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه وإبهاماه شحمتي أذنيه وراحتاه منكبيه للاتباع الوارد في طرق صحيحة متعددة لكنها مختلفة الظواهر فجمع الشافعي بين هذه الآثار ويسن كشف يديه ونشر أصابعه وتفريقهما تفريقاً وسطاً (والأصح) في وقت الرفع أن يكون (رفعه مع ابتدائه) أي رفع يديه مع ابتداء التكبير لحديث ابن عمر "أنه (ص) كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة" متفق عليه. والأفضل أن يكون انتهاؤهما "التكبير والرفع" معاً ولا يضر انتهاء أحدهما قبل الآخر (ويجب قرن النية بالتكبير) أي تكبيرة الإحرام لأن النية هي أول الأركان على أن يستحضر في النية كل مُعْتبَّر في صلاته كالقصر والإمامة والجمعة والقدوة مع عدم المنافي للصلاة كالتردد في الخروج منها أو الاستمرار فيها ولا يتعلق قطعها بحدوث شيء (الثالث) من الأركان (القيام في فرض القادر) ولو بمعين لخبر البخاري عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير فسألت النبي (ص) عن الصلاة فقال: "صلِ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب زاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقياً [لا يكلف الله نفساً إلا وسعها] وخرج بالفرض النفلُ وراكب السفينة إذا خشى نحو دوار في رأسه إذا قام والغزاة وأهل الكمائن في الجهاد إذا خافوا أن يراهم العدو إذا قاموا فيفسد تدبيرهم وأيضاً سلس لا يستمسك بوله إلا قاعداً (وشرطه) أي لقيام الاعتماد علي قدميه أو أحدهما و (نصب فقاره) وهو مفاصل الظهر لأن اسم القيام لا يوجد إلا معه ولا يضر استناده إلى ما لو زال لسقط (فإن وقف منحنياً) إلى الأمام أو الخلف بأن يعيد إلى أقل الركوع أقرب (أو مائلاً) ليمينه أو يساره (بحيث لا يسمى قائماً) عرفاً (لم يصح) لتركه الواجب بلا عذر (فإن لم يطق) انتصاباً (وصار كالراكع) لكبر وغيره (فالصحيح أنه يقف كذلك) هلى هيئته وجوباً لقربه من الانتصاب لقول النبي (ص) في الحديث الصحيح: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (ويزيد) وجوباً (انحناؤه لركوعه إن قدر) على الزيادة تميزاً بين الركوع والسجود (ولو أمكنه القيام دون الركوع والسجود) لعلة بظهره تمنعه الانحناء (قام وفعله) أي الركوع والسجود (بقدر إمكانه) فيحني قدر إمكانه صلبه ثم رقبته ثم رأسه ثم طرفه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور ولو أمكنه الركوع فقط كرره عن الركوع والسجود (ولو عجز عن القيام) بأن لحقته مشقة ظاهرة أو شديدة (قعد كيف شاء) إجماعاً ولا ينقص ثوابه لعذره (وافتراشه أفضل من تربعه) لأنه المعهود في الصلاة وأفضل من توركه أيضاً لأن التورك معهود في التشهد الأخير فقط وقيل إن التربع للمرأة أفضل لأنه الأستر لها (ويكره) الجلوس ماداً رجليه و (الإقعاء) هنا وفي جميع قعدات الصلاة لما أخرج ابن ماجة وغيره عن أنس أن النبي (ص) "نهى عن الإقعاء في الصلاة ونهى عن التورك" (بأن يجلس على وركيه ناصباً ركبتيه) وهو أن يُلصِقَ الرَّجل أليتيه بالأرض وينصب ساقيه وهو ما تسميه العرب الاحتفاز والاستيفاز زاد أبو عبيد ويضع يديه على الأرض وهو قول أهل اللغة أما الفقهاء فيقولون أن يضع يديه على ركبتيه ومن الإقعاء ما هو محمود وهو أن يلصق بطون رجليه بالأرض ويضع رجليه على عقبيه لخبر مسلم الإقعاء سنة نبينا (ص) قال الشافعي وهو مندوب بين السجدتين وفي كل جلوس قصير كجلسة الاستراحة (ثم ينحني لركوعه بحيث تُحاضي جبهته ما قدام ركبتيه) أي تقابل جبهته ما أمام ركبتيه وهو أقل الركوع (والأكمل أن تحاذي) جبهته (ووضع سجوده) وركوع القاعد في النفل كذلك قياساً على أقل ركوع القائم وأكمله أن يحاذي قريباً من محل سجوده (فإن عجز عن القعود صلى لجنبه) مستقبلاً القبلة بوجهه ومقدم بدنه (فإن عجز) عن الجنب (فمستلقياً) على ظهره وأخمصاه للقبلة ولابد من وضع نحو وسادة تحت رأسه ليستقبل بوجهه القبلة ويركع ويسجد بقدر إمكانه.
تنبيه: لو قدر في أثناء صلاته على القيام أو القعود أتى بالمقدور وبنى على قراءته.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/264)
(وللقادر) على القيام (التنفل قاعداً) بالإجماع (وكذا مضطجعاً) والأفضل على جنبه الأيمن لحديث البخاري عن عمران "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم "أي المضجع" على النصف من صلاة القاعد" ويلزمه أن يقعد للركوع والسجود أو يومئ بهما.
(الرابع القراءة) للفاتحة (ويسن بعد التحرم) لفرض أو نفل (دعاء الافتتاح) إلا لمن أدرك الأمام في غير القيام أو خشى ضياع الفاتحة إن قرأ دعاء الافتتاح وورد فيه أدعية مشهورة وأفضلها "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت لقوله تعالى: [فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم] النحل:98، والرجيم هو المطرود، وقيل المرجوم بالشهب، وأفضل صيغ التعوذ "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ويسرهما) وأنا من المسلمين" رواه مسلم عن علي (ثم التعوذ) قبل القراءة أي الافتتاح والتعوذ (ويتعوذ في كل ركعة على المذهب) لابتداء قراءة جديدة (والأولى آكد) أي الاستعاذة في الركعة الأولى أكد منها في الركعات الأخرى (وتتعين الفاتحة في كل ركعة) في قيامها بأن يقرأها حفظاً أو من مصحف أو تلقيناً لخبر الشيخين عن عبادة "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" وأما قوله تعالى: [فاقرأوا ما تيسر من القرآن] المزمل:20 فوارد في قيام الليل (إلا ركعة مسبوق) فإنها لا تتعين وإن وجبت عليه لأن الإمام يتحملها عنه (والبسملة آية منها) لإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف مع تحريهم تجريده عما ليس بقرآن والأخبار منها أنه (ص) قرأ بفاتحة الكتاب فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية رواه الشافعي عن أبي مليكة عن أم سلمة. وروى البيهقي وابن خزيمة والدار قطني عن أم سلمة أنه (ص) قرأ القرآن فبدأ بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" فعدها آية ثم قرأ "الحمد لله رب العالمين" فعدها ست آيات وروى الدارقطني عن أبي هريرة: "إذا قرأتم فاتحة الكتاب فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أمُّ القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها".
(وتشديداتها) هيئات لحروفها والشدة حرفان أولهما ساكن وعدد التشديدات أربع عشرة منها ثلاث في البسملة ولو شدد المخفف أساء وتعمد ترك التشديد مبطل للصلاة. (ولو أبدل ضاداً بظاء) أي أتى بالظاء بدل الضاد (لم تصح في الأصح) لتغييره النظم إذا معنى ضلَّ غاب وظلّ يفعل كذا استمر يفعله والعاجز عن التمييز يجزئه مع الإبدال قطعاً والمتعمد لا يجزئه قطعاً بل تبطل صلاته به والثاني تصح لعسر التمييز بين الحرفين على كثير من الناس. وقيل الأصح أن يقول ولو أبدل ظاءً بضاد لأن الباء تدخل على المأخوذ لا على المتروك قال الطفيل بن عمرو الدوسي لما أسلم زمن النبي (ص) فألهمني هداي الله عنه وبدل طالعي نحسي بسعدي (ويجب ترتيبها) بأن يأتي بها على نظمها المعروف للاتباع ولأنه مناط الأعجاز (وتجب موالاتها) بأن يصل الكلمات بعضها ببعض ولا يفصل إلا بقدر التنفس للاتباع ولخبر "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه الشيخان عن مالك بن الحويرث (فإن) فصل بأكثر من سكتة التنفس سهواً أو لتذكر الآية وإن طال لم يضر وكذلك لو كرر آية في محلها و (تخلل ذكر) أجنبي لا يتعلق بالصلاة كالحمد للعطاس والفتح على غير الإمام (قطع الموالاة) وإن قلَّ لإشعاره بالإعراض عن الصلاة وإن كان ذلك عمداً أما عنَد السهو والجهل لم يقطعها (فإن تعلق بالصلاة كتأمينه لقراءة إمامه وفتحه عليه) إذا سكت بقصد القراءة وكسجوده معه لتلاوة وكسؤال رحمة أو استعاذة من عذاب عند قراءة إمامه آيتيهما.
ويجب التنبيه: إلى أن الفتح على الإمام يكون إذا توقف الإمام لتلقينه الآية أما إذا ما زال يردد التلاوة فلا يفتح عليه ولا يقطع المولاة سكوتٌ يسير للتفكر والتذكر (في الأصح) (ويقطع) المولاة (السكوت) العمد (الطويل) وهو ما يشعر مثله بقطع القراءة (وكذا يسير قصد به قطع القراءة في الأصح) لتأثير الفعل مع النية كنقل المُودع الوديعة بنية الخيانة فإنه يضمن تلفها وإن لم يضمن بأحدهما فقط وإذا شك قبل الركوع هل قرأ الفاتحة أما لا لزمه قراءتها أو بعد الركوع فلا (فإن جهل الفاتحة) لعدم معلم أو مصحف أو بلادة أو إهمال (فسبع آيات) يقرأ بهن بدلاً عن الفاتحة إن أحسنها لأن هذا العدد ثابت في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/265)
قوله تعالى: [ولقد آتيناك سبعاً من المثاني] الحجر:87. فيراعى هذا العدد في بدل الفاتحة ولا يجوز له أن يترجم عنها لقوله تعالى: [إنا أنزلناه قرأناً عربياً] يوسف:2 فدل على أن العُجْم ليست بقرآن ولا يكون التعبد إلا بالقرآن ومن هنا جاز ترجمة النية والتشهد والتسليمة لأنها ليست بقرآن (متوالية) لأنها أشبه بالفاتحة ولمراعاة نظم القرآن (فإن عجز فمتفرقة) لأنه المقدور عليه (قلت الأصح المنصوص) في الأمِّ (جواز المتفرقة) من سورة أو سور وإن لم تفد معنىً منظوماً (مع حفظه متواليةً والله أعلم) كما في قضاء رمضان ولحصول قراءة القرآن (فإن عجز أتى بذكر) متنوع لما روى ابن حبان وغيره أن رجلاً جاء إلى النبي (ص) فقال: "يا رسول الله إني لا أستطيع أن أتعلم القرآن فعلمني ما يجزيني عن القرآن" وفي لفظ الدارقطني "فعلمني ما يجزيني في صلاتي قال: "قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولاحول ولا قوة إلا بالله" ويجزئ الدعاء المتعلق بالآخرة فإن عجز فما تعلق بالدنيا والآخرة (ولا يجوز نقض البدل) من قرآن أو ذكر (عن الفاتحة) وهي الفاتحة وكلماتها وتشديداتها (في الأصح) كما لا يجوز النقص عن عدد آياتها وهي سبعة (فإن لم يحسن شيئاً) من قرآن وغيره وعجز عن التعلم (وقف) وجوباً (قدر الفاتحة) أي مدة قرائها المعتدلة (ويسن عقب الفاتحة) لقارئها ولو خارج الصلاة آمين مع سكتة لطيفة بينهما تمييزاً لها عن القرآن لما روى وائل بن حُجْر قال: "صليت خلف النبي (ص) فلما قال: "ولا الضآلين" قال: "آمين" ومدّ بها صوته" رواه الترمذي وأبو داود وصححه الدارقطني ولما روى البخاري عن أبي هريرة: "إذا قال الإمام: "ولا الضآلين" فقولوا: "آمين" فإن من وافق قوله قول الملائكة –أي في الزمن وقيل في الإخلاص- غفر له ما تقدم من ذنبه" وروى البيهقي عن عائشة: "حسدنا اليهود على القبلة والجمعة وقولنا خلف الإمام: "آمين" (خفيفة الميم بالمد) وهي اسم فعل مبني على الفتح بمعنى استجب ويسكن عند الوقف (ويجوز القصر) مع تخفيفها لأنه لا يخل بالمعنى وقيل: يجوز التشديد مع المد ومعناها قاصدين (ويؤمن مع تأمين إمامه) للخبر السابق وليوافق تأمينه تأمين الملائكة (ويجهر به في الأظهر) أي التأمين للاتباع وروى ابن ماجة عن أبي هريرة: "كان رسول الله (ص) إذا أمّنَ أمّنَ منْ خلفَهُ حتى أن للمسجد ضجةً" وكذا روى البخاري عن عطاءٍ أن ابن الزبير كان يؤمّن هو ومن وراءه بالمسجد الحرام حتى أن للمسجد لَلَجَّة" أي اختلاط أصوات وح عن عطاء أنه قال: "أدركت مئتين من صحابة رسول الله إذا قال الإمام: "ولا الضآلين" رفعوا أصواتهم بآمين (ويسن سورة بعد الفاتحة في غير فاقد الطهورين وصلاة الجنازة إلا) في (الثالثة) من المغرب (والرابعة في الأظهر) لثبوته عن فعل النبي (ص) يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية (قلت: فإن سُبق بهما) أي أدرك الثالثة والرابعة مع الإمام وهما الأوليان من صلاة نفسه ولم يتمكن من قراءة السورة فيهما (قرأها فيهما) أي بعد تسليم إمامه (على النص والله أعلم) لئلا تخلو صلاته من السورة بلا عذر وإنما قضى السورة دون الجهر لأن السنة آخر الصلاة ترك الجهر وليست كذلك في السورة (ولا سورة للمأموم) الذي يسمع صوت الإمام في صلاة جهرية (بل يستمع) لقراءة إمامه قال تعالى: " [وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له] وقال (ص): إذا كنتم خلفي فلا تقرؤوا إلا بأم القرآن" (فإن بَعُد) المأموم أولم يسمعها أو سمع صوتاً لا يميز حروفه (أو كانت سرية قرأ في الأصح) لفقد السماع الذي هو سبب النهي ولا معنى لسكوته أما إذا جهر الإمام بالسرية فليستمع المأموم (ويسن للصبح والظهر طوال المفصل) للخبر الصحيح الدال على ذلك (وللعصر والعشاء أوساطه وللمغرب قصاره) لخبر النسائي في ذلك والمفصّل المبين المميز قال تعالى: [كتاب فصلت آياته] أي جعلت تفاصيل في معانٍ مختلفة من وعدٍ ووعيد وحلالٍ وحرام وغير ذلك وسمي المفصل كذلك لكثرة الفصل بين سوره، وطوال المفصل من الحجرات إلى عَمَّ وأوساطه من عَمَّ إلى الضحى وقصاره منها إلى آخر القرآن (ولصبح الجمعة الم () تنزيل وفي الثانية هل أتى) بكمالهما لثبوته عن النبي (ص) رواه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/266)
الشيخان عن أبي هريرة قال الفارقيُّ: "ولو ضاق الوقت عنهما أتى بالممكن" والمسافر يسن له في صبح الجمعة وغيرها الكافرون ثم الإخلاص إيثاراً للتخفيف وللاتباع.
فرع: تسن سكتة يسيرة بقدر سبحان الله بين التحرم ودعاء الافتتاح وبينه وبين التعوذ وبينه وبين البسملة وبين آخر الفاتحة وآمين وبين آمين والسورة وبين آخر السورة وتكبيرة الركوع، ويندب للإمام أن يسكت في الجهرية بقدر قراءة المأموم الفاتحة إذا علم أنه يقرؤها في سكتته والسنة أن يقرأ على ترتيب المصحف لأن تغيير الترتيب يزيل بعض أنواع الإعجاز قال الحليمي: "خلط سورة بسورة خلاف الأدب ويسن وصل البسملة بالحمد للإمام قاله في المجموع وألا يقف على "أنعمت عليهم" لأنه ليس بوقف ولا منتهى آية (الخامس ركوع) لقوله تعالى: [اركعوا] ولحديث المسيء صلاته وللإجماع (وأقله أن ينحني قدر بلوغ راحتيه ركبتيه) مع اعتدال خلقته وسلامة ركبتيه ويديه لما روى البخاري وغيره عن ابن حميد الساعدي "أنه (ص) كان ينحني حتى تنال راحتاه ركبتيه (بطمأنينةٍ) لما أخرج ابن حبان أن رسول الله (ص) قال للأنصاري الذي جاء يسأل عن الصلاة: "إذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك ثم فَرِّج بين أصابعك ثم امكث حتى يأخذ كل عضو مأخذه" (بحيث ينفصل رفعه عن هويه) أي سقوطه فلا تقوم زيادة الهويِّ مقام الطمأنينة (ولا يقصد به غيره) اي لا يقصد بالهوي غير ركوع (فلو هوى لتلاوةٍ) أو أخذ شيءٍ (فجعله) عند بلوغه حد الركوع (ركوعاً لم يكف) بل يلزمه أن ينتصب ثم يركع لصرفه هويه لغير الواجب فلم يقم عنه وكذا سائر الأركان ولو شك وهو ساجد هل ركع لزمه الانتصاب ثم الركوع لأن الركوع لا يكون إلا من قيام (وأكمله لتسوية ظهره وعنقه) بأن يمدها حتى يصيرا كالصفيحة الواحدة لما روى الإمام مسلم: "كان إذا ركع لم يُشْخِصْ رأسه ولم يصّوبه" (ونصب ساقيه وأخذ ركبتيه بيديه) لما روى أبو داود عن أبي حميد: "كان (ص) يمسك راحتيه على ركبتيه كالقابض عليهما ويفرج بين أصابعه (وتفريق أصابعه للقبلة) لأنها أشرف الجهات أي احترز بذلك عن أن يوجه أصابعه لغير القبلة من يمنة أو يسرة (ويكبر في ابتداء هويه) للركوع (ويرفع يديه كإحرامه) قال البخاري: "الرفع لليدين عند الركوع رواه سبعة عشر من الصحابة ولم يثبت عن أحدٍ منهم عدم الرفع" (ويقول: سبحان ربي العظيم ثلاثاً) لما روى الشافعيُّ وأبو داود وابن ماجه أن النبي قال: "إذا ركع أحدكم فقال: سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه" ولما روى أبو داود وغيره من حديث عقبة بن عامر لما نزلت [فسبح باسم ربك العظيم] الواقعة:74 قال: "اجعلوها في ركوعكم" فلما نزلت: [سبح اسم ربك الأعلى] قال: "اجعلوها في سجودكم" وزاد أبو داود "كان إذا ركع قال: "سبحان ربي العظيم وبحمده" وأقل التسبيح في الركوع واحدة وأكمله إحدى عشرة والثلاثة أدنى الكمال (ولا يزيد الإمام) على الثلاث (ويزيد المنفرد) ما شاء ومثله إمام محصورين أي بالعدد رضوا بالتطويل كما يدعو ("اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي") رواه مسلم عن علي وتكره القراءة في غير القيام للنهي عنها ولا تبطل بها الصلاة عمداً أو سهواً ويستحب الإكثار من الدعاء في الركوع والسجود لما روى الشيخان "كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" (السادس الاعتدال قائماً مطمئناً) للخبر الصحيح: "ثم ارفع حتى تطمئن قائماً" وفي رواية صحيحة: "فإذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها" ورواية أخرى: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره" (ولا يقصد غيره فلو رفع فزعاً من شيءٍ لم يكف) كما مرّ في الركوع إلا إذا شك في الفاتحة فقام ليقرأها ثم تذكر أنه قرأها فقد أجزأه ذلك (ويسن رفع يديه) حذو منكبيه كما في التحرّم (مع ابتداء رفع رأسه قائلاً سمع الله لمن حمده) أي تقبل ويسن للإمام والمبلغ الجهر به لأنه ذكر الانتقال روى الإمام مسلم وأحمد وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى: أن النبي كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت بعدُ" (فإذا انتصب قال:) كلٌّ من الإمام والمنفرد والمأموم سرّاً (ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/267)
شيءٍ بعدُ) أي بعد السماوات والأرض كالعرش والكرسي وغيرهما مما لا يحيط به إلا علم علام الغيوب، ويجوز في ملء الرفع على الصفة والنصب على الحال (ويزيد المنفرد) وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل سراً (أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذو الجدِّ) بفتح الجيم أي صاحب الغنى أو الحظ أو الشرف (منك الجد) أي لا ينفع عنك جَدُّه وإنما الذي ينفعه رضاك ورحمتك وروي الجد بالكسر أيضاً ويعني الاجتهاد والدأب في العمل رواه الشيخان (ويسن القنوت في اعتدال ثانية الصبح) لما روى الدار قطني أن النبي (ص) قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة ثم ترك فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، قال الحافظ ابن حجر رواه الدارقطني من حديث عبد الله بن موسى عن أنس ورواه أحمد عن عبد الرزاق ورواه البيهقي عن حديث عبيد الله بن موسى وصححه الحاكم في كتاب القنوت وأول الحديث في الصحيحين من طريق عاصم الأحول عن ابن عباس وأما باقيه فلا. ورواية عبدالرزاق أصح من رواية عبيد الله بن موسى ولفظه عن الربيع بن أنس قال: "قال رجل لأنس ابن مالك: أقنت رسول الله شهراً يدعو على حي من أحياء العرب؟ قال: فزجره أنس وقال: ما زال رسول الله يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا أخرجه الطحاوي بلفظه في شرح معاني الآثار والبغوي - في شرح معاني السنة- (وهو: أي القنوت اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره) أي وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت، قال البيهقي: حديث صحيح ورواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة (والإمام يقنت بلفظ الجمع) يسن له ذلك للخبر الصحيح الذي رواه البيهقي بلفظ الجمع وللنهي عن تخصيص الإمام نفسه بالدعاء وأنه إن فعل فقد خانهم رواه الترمذي وحسنه، ونقل ابن المنذر عن الإمام الشافعي أنه قال: "لا أحب للإمام تخصيص نفسه بالدعاء دون القوم" وذكر ابن القيم: "أن أدعية النبي كلها بالإفراد ولم يذكر الجمهور التفريق بين الإمام وغيره إلا في القنوت وكأن الفرق بين القنوت وغيره أن الكل مأمورون بالدعاء بخلاف القنوت فإن المأموم يؤمن فقط أ. هـ" (والصحيح سنُّ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره) لصحته في قنوت الوتر الذي علمه النبي (ص) الحسن بن علي رضي الله عنه وقيس به قنوت الصبح (ورفع يديه) فيسن رفع يديه في جميع القنوت للاتباع رواه البيهقي بإسناد جيد وفي سائر الأدعية رواه الشيخان وأما في الاستسقاء فيسن في الدعاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء لأنه يريد رفع البلاء (ولا يمسح وجهه) أي لا يسن له مسح وجهه بيديه بعد انتهاء الدعاء والخبر الوارد في ذلك واهٍ في جميع طرقه، وقال ابن عبد السلام: "أما مسح الوجه فلا يفعله إلا جاهل" ونهى عنه (وأن الإمام يجهر به) للاتباع رواه البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي (ص): كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد يجهر بذلك". (وأنه يؤمن المأموم للدعاء) لما روى أبو داود بإسناد حسن عن ابن عباس: "كان النبي (ص) يقنت ونحن نؤمن خلفه" (ويقول الثناء) سراً وهو فإنك تقضي ولا يقضى عليك وأنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت بيدك الملك تباركت ربنا وتعاليت (إن لم يسمعه قنت) لبعد المأموم عن الإمام أو لصمم في المأموم ويقنت سراً (ويشرع القنوت في سائر المكتوبات النازلة) العامة والخاصة التي في معنى العامة لعود ضررها على المسلمين كوباء وطاعون وقحط ومطر مضر وغلبة عدوّ وأسر مسلم وقتل عالم لما روى الشيخان أنه قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة ولا قنوت في صلاة العيدين والاستسقاء وكافة النوافل (لا مطلقاً على المشهور) فلا يسنُّ لغير نازلةٍ لعدم وروده لغير النازلة، وفارقت الصبح غيرها لشرفها (السابع) من الأركان (السجود) مرتين في كل ركعة لقوله تعالى: (اركعوا واسجدوا) ولخبر المسيء صلاته (وأقله مباشرة بعض جبهته مصلاهُ) لما روى ابن حبان في صحيحه: "إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقراً" ولما روى البيهقي وغيره عن خباب: "شكونا إلى رسول الله (ص) حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا" أي لم يزل شكواهم وهذا يدل على وجوب كشف الجبهة أثناء السجود، (فإذا سجد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/268)
على متصل به جاز إن لم يتحرك بحركته) لأن غير المتحرك حكمه حكم الشيء مستقراً كما أفاده خبر (مكن جبهتك) وإذا سجد على عصابة جُرْحٍ أو نحوه بأن شق عليه ازالتها لم يلزمه الإعادة للعذر وإذا غطى المتحرك بعض الجبهة والبعض الآخر مكشوف أجزأه السجود على المكشوف (ولا يجب وضع يديه وركبتيه وقدميه في الأظهر) لأن الجبهة هي المقصودة بالوضع ولأنه لو وجب وضع غيرها لوجب الإيماء به عند العجز قال تعالى: [سيماهم في وجوههم من أثر السجود] وقال (ص): "إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض" (قلت الأظهر وجوبه والله أعلم) للخبر المتفق عليه أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وذكر الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين وإنما لم يجب الإيماء بها عند العجز وتقريبها من الأرض كالجبهة لأن معظم السجود على الجبهة وهي غاية في الخضوع دون غيرها من الأعضاء (ويجب أن يطمئن وينال مسجده: نقل رأسه) لحديث المسيء صلاته وللخبر السابق "فمكن جبهتك من الأرض" وذلك لأن يتثاقل برأسه على الأرض وهذا يدل على أن الجبهة وحدها هي التي يجب تمكينها من الأرض (وأن لا يهوى لغيره) أي لغير السجود نظير ما مرَّ في الركوع (فلو سقط لوجهه) أي على وجهه قهراً (وجب العود إلى الاعتدال) مع الطمأنينة ليهوى من اعتدال، نعم لو سقط أثناء الهوي على جبهته أو على جنبه فاعتدل ومكن جبهته دون القيام أجزأه (وأن ترتفع أسافله) أي عجيزته وما حولها (على أعاليه) وهي جبهته (في الأصح) لما روى أحمد وأصحاب السنن وصحح ابن حبان "كان إذا سجد بسط كفيه ورفع عجيزته وخوى" أي مال. نعم من به علة لا يمكنه معها ارتفاع أسافله يسجد إمكانه إلا أن يمكنه وضع نحو وسادة ويحصل التنكيس فيجب (وأكمله) السجود أن (يكبر لهويه بلا رفع) ليدين رواه البخاري (ويضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه) رواه أبو داود وغيره عن مصعب بن سعد وحسنه الترمذي ولو اقتصر على الجبهة دون الأنف أجزأه مع الكراهة (ويقول) بعد ذلك الإمام والمأموم والمنفرد (سبحان ربي الأعلى ثلاثاً) كما مرّ في الركوع ويزيد عليه (المنفرد) وإمام قوم رضوا بالتطويل (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين) رواه مسلم عن علي (ويضع يديه حذو منكبيه) أي مقابل منكبيه رواه أبو داود وصححه (وينشر أصابعه مضمومة للقبلة) رواه البخاري (ويفرق) الذكر (ركبتيه) وبين قدميه قدر شبر (ويرفع بطنه عن فخذيه ومرفقيه عن جنبيه في ركوعه وسجوده) رواه أحمد وغيره بسند صحيح (وتضم المرأة والخنثى) ندباً بعضها إلى بعض وتلصق بطنها بفخذيها في جميع الصلاة لأنه أستر لها (الثامن: الجلوس بين سجدتيه مطمئناً) ففي الصحيحين إذا رفع رأسه لم يسجد حتى يستوي جالساً (ويجب أن لا يقصد برفعه غيره) فلو رفع لخوف أو ألم أعاد (وأن لا يطوله ولا الاعتدال) لأنهما ركنان قصيران غير مقصودين لذاتهما (وأكمله يكبر) بلا رفع يديه (ويجلس مفترشاً) رواه الترمذي لأن جلوسه يعقبه حركة (واضعاً يديه) على فخذيه (قريباً من ركبتيه) بحيث تسامت رؤوس أصابعه ركبتيه ولا بأس بإنعطاف رؤوسها على الركبة (وينشر أصابعه) مضمومة للقبلة كما ورد في السجود (قائلاً: ربِّ اغفر لي وارحمني وأجبرني وارفعني وارزقني واهدني) روى بعضه أبو داود بسند صحيح (ثم يسجد الثانية كالأولى) في الأكمل وما يجزئ (والمشهور سنُّ جلسة خفيفة) ولو في نفل (بعد السجدة الثانية في كل ركعة يقوم عنها) أي لا يعقبها تشهد رواه البخاري والثاني لا تسنُّ لخبر وائل بن حجر أنه (ص) كان إذا رفع رأسه من السجود استوى قائماً. قال النووي: غريب ولكن أخرج ابن المنذر من حديث النعمان بن أبي عياش قال: "أدركت غير واحد من أصحاب النبي (ص) فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس (التاسع والعاشر والحادي عشر) من الأركان (التشهد وقعوده والصلاة على النبي (ص)) بعد التشهد سمي بذلك من باب اطلاق الجزء وهو الشهادتان على الكلِّ لقوله (ص) لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله إلخ رواه الدارقطني والبيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود ولما كان التشهد الأخير فرض فإن الجلوس له فرض لأنه محله فيتبعه وأما الصلاة على النبي والجلوس لها فسيأتي عند الحديث عن التشهد الذي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/269)
يعقبه سلام (وإلا فسنتان) إن لم يعقبهما سلام لجبرهما بسجود السهو لخبر الصحيحين عن أبي هريرة أنه (ص) لما قام من اثنتين من الظهر أو العصر فلم يجلس فسبح الناس به فلم يعد فلما كان آخر صلاته سجد سجدتين ثم سلم. (وكيف قع جاز) إجماعاً (و) لكن (يسنُّ في) التشهد (الأول الافتراش فيجلس على كعب يسراه) بعد أن يضجعها بحيث يلي ظهرها الأرض (وينصب يمناه) أي قدمها (ويضع أطراف) بطون (أصابعه) منها على الأرض متوجهة للقبلة (وفي الآخر التورك وهو كالافتراش ولكن يخرج يسراه من جهة يمينه ويلصق وركه بالأرض) أخرجه البخاري وخولف به ليتذكر به أي ركعة هو فيها وليعلم المسبوق أي تشهد هو فيه ولأن بعد الأول يوجد قيام فالهيئة الأولى أسهل للقيام (والأصح يفترش المسبوق والساهي) في تشهده الأخير لأنه ليس آخر صلاتهما (ويضع فيهما) أي التشهدين (يسراه على طرف ركبته) اليسرى بحيث تسامت رؤوسها أول الركبة (منشورة الأصابع) للاتباع رواه مسلم (بلا ضم) بل يفرجها تفريجاً وسطاً (قلت الأصح الضم والله أعلم) لأن تفريجهما يُزيُل بعضها كالإبهام عن القبلة (ويقبض من يمناه الخنصر والبنصر وكذا الوسطى في الأظهر) للاتباع رواه مسلم من حديث ابن عمر وقيل يحلق بين الوسطى والإبهام برأسيهما رواه أحمد عن وائل بن حجر (ويرسل المسبحة) في كل تشهد (ويرفعها عند) همزة (إلا الله) للاتباع رواه مسلم ولا يضعها إلى آخر التشهد ناوياً بذلك التوحيد والإخلاص (ولا يحركها) عند رفعها لحديث أبي داود عن ابن الزبير وقيل يحركها لثبوت ذلك في خبر البيهقي عن وائل بن حجر وقدمها الأول على الثاني لأن التحريك في الثاني مقصود به الرفع وقيل لأن الحركة في الصلاة مبطلة فأخذوا بعدم تحريك الأصبع (والأظهر ضم الإبهام إليها) إلى المسبحة (كما كعاقد ثلاثة وخمسين) وهو قول الأقدمين وشرطها عند الحساب أن يجعل طرف الخنصر على البنصر. والثاني يضع الإبهام على الوسطى المقبوضة كعاقد ثلاث وعشرين للاتباع رواهما مسلم وقيل يقبض الإبهام على راحة الكف تحت المسبحة وتحصل السنة بالجميع والخلاف في الأفضل ويشير بالسبابة على الأقوال كلها عند الشهادة عند كلمة الإثبات –إلا الله-لا عند كلمة النفي (والصلاة على النبي (ص) فرض في التشهد الأخير) أي الواقع آخر الصلاة وإن لم يسبقه تشهد آخر كتشهد صبح وجمعة ومقصورة لقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه] وقد أجمع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة فتعين وجوبها فيها ولخبر قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد إلخ متفق عليه عن أبي حميد الساعدي وفي رواية كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال: قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد إلخ .. رواه الدارقطني وابن حبان والحاكم في مستدركه وقال إنه على شرط مسلم والمناسب لها من الصلاة التشهد آخرها فتجب فيه بعد التشهد لأنه خاتمة الصلاة.
فصل مبطلات الصلاة وسننها ومكروهاتها
(تبطل بالنطق بحرفين) من كلام البشر ولو من منسوخ أو من حديث قدسي أنهما أولا من كلام العرب وغيره ولو لمصحلة الصلاة عمداً من غير القرآن والذكر والدعاء فخبر مسلم عن زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت [وقوموا لله قانتين] البقرة:238 فأمرنا بالسكون ونهينا عن الكلام وعن معاوية بن الحكم السلمي "قال بينما أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل فقلت له يرحمك الله، فرماني الناس بأبصارهم، فقلت واثكل أماه ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتوني سكت. فلما صلى النبي (ص) قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي (أو حرف مفهم) مثل فِ من الوفاء وقِ من الوقاية وعِ من الوعي لأنه كلام تام لغةً وعرفاً وإن أخطأ في مَدَّهُ حذف هاء السكت منها (وكذا مَدّه بعد حرف في الأصح) لأن المدة إما ألف أو واو أو ياء وقيل لا لأن المدة قد تأتي لإشباع الحركة ولا تعتبر حرفاً وتبطل بإجابة الأبوين ولا تجب إجابتها في فرض مطلقاً بل في نفل إن تأذيا بعدمها (والأصح أن التنحنح والضحك والبكاء والأنين والنفخ إن ظهر به) أي بكل مما ذكر (حرفان بطلت وإلا فلا) تبطل به والثاني لا تبطل بذلك مطلقاً لأنه لا يسمى كلاماً في اللغة ولا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/270)
يكاد يتبين منه حرف محقق وخرج بالضحك التبسم فلا تبطل به الصلاة مطلقاً (ويعذر في يسير الكلام إن سبق لسانه) إليه (أو جهل تحريمه) فيها (إن قرب عهده بالإسلام) بخلاف بعيد العهد بالإسلام لتقصيره بترك التعلم (لا كثيره) فإنه لا يُعْذر به ودليل الناسي حديث ذي اليدين فقد روى الشيخان عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله (ص) الظهر أو العصر فسلم من ركعتين ثم أتى خشبة المسجد واتكأ عليها كأنه غضبان فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال لأصحابه أحق ما يقول ذو اليدين؟ قال نعم فصلى ركعتين أخرتين ثم سجد سجدتين ودليل الجاهل حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي تكلم خلف النبي (ص) ورمقه القوم بأبصارهم (في الأصح) لأن الكلام الكثير يقطع نظم الصلاة واليسير بالعرف خمس كلمات فما دون والكثير المبطل ستة فما فوق وقيل هو القدر الواقع في حديث ذي اليدين (و) يعذر (في) اليسير عرفاً من (التنحنح ونحوه) كالسعال والعطاس وإن ظهر به حرفان للغلبة والمراد من الغلبة عدم قدرته على دفعه أما إذا ابتلي شخص بنحو سعال دائم بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة منه فيعفى عنه ولا قضاء ونظير ذلك من به حكة لا يصبر معها على عدم الحك فيعفى عن ذلك ولو كثرت حركته (وتعذر القراءة) في الفاتحة والتشهد وكل واجب قولي فيعذر فيه ولو ظهر حرفان في التنحنح والسعال والعطاس للغلبة لأنه لا يمكن الاحتراز عنها (لا الجهر على الأصح) لأن الجهر سنة فلا ضرورة للتنحنح من أجل الجهر وفي معنى الجهر سائر السنن كقراءة السورة بعد الفاتحة والقنوت وتكبيرات الانتقال للمنفرد والمأموم ولا بأس بالتنحنح للجهر بأذكار الانتقالات عند الحاجة لإسماع المأمومين (ولو أكره على الكلام بطلت في الأظهر) لندرة الإكراه في الصلاة وكذلك ندرة الإكراه على الحدث (ولو نطق بنظم القرآن بقصد التفهيم كيايحيى خذ الكتاب) بقوة مفهماً بها من يستأذن بأخذ شيء أن يأخذه فإن قصد القرآن مع التفهيم لم تبطل علله بعضهم بالقياس على التسبيح الوارد في الفتح على الإمام (إن قصد معه قراءة لم تبطل) لأنه كمن أراد القراءة فقط (وإلا بطلت) إن قصد التفهيم فقط (ولا تبطل بالذكر والدعاء إلا أن يخاطب) لأن الدعاء مناجاة لله تعالى فهو من جنس الذكر إلا أن يخاطب غير الله تعالى وغير نبيه (ص) سواءً في الغير الملك والشيطان والميت والحي والجماد (كقوله لعاطس يرحمك الله) لأنه من كلام الآدميين أما خطاب الله كإياك نعبد وخطاب النبي (ص) كالسلام عليك أو سمع ذكره (ص) فقال: السلام عليك أو الصلاة عليك يا رسول الله أو نحو ذلك لم تبطل ولو قال إمامه إياك نعبد وإياك نستعين فقالها بطلت صلاته إن لم يقصد تلاوة أو دعاءً (ولو سكت طويلاً) عمداً في غير ركن قصير وبلا قصد قطع الصلاة لم تبطل ومثله نوم ممكن مقعدته من الأرض (بلا غرض لم تبطل) لأن السكوت لا يخرم هيئة الصلاة وكذا السكوت لتذكر آية أو تذكر ما نسيه من صلاته (ويسن لمن نابه شيء) في صلاته (كتنيه إمامه) على سهو (وإذنه لداخل) أي لمستأذن في الدخول (وإنذاره أعمى) أن يقع في بئر أو حفرة أو نجس (أن يسبح) الرجل بقوله سبحان الله (وتصفق) المرأة (بضرب) بطني (اليمين على ظهر اليسار) فلو ضربت على بطنها على وجه اللعب بطلت وإن كان قليلاً لمنافاة اللعب للصلاة والأصل في ذلك حديث الصحيحين "من نابه شيء في صلاته فليسبح وإنما التصفيق للنساء" (ولو فعل في صلاته غيرها إن كان من جنسها) كزيادة ركوع أو سجود (بطلت) لتلاعبه (إلا أن ينسى) فلا تبطل لأنه (ص) صلى الظهر خمساً وسجد للسهو ولم يعدها رواه الشيخان. وأما الزيادة موافقةً للإمام فلا تضر فلو اقتدى حال سجود الإمام سجد معه ولا تضر الزيادة لوجود المتابعة وأما نقل القول من مكانه أو قراءته مرتين كالفاتحة أو التشهد لم تبطل ولذلك جاء في المتن بكلمة "فصل" دون "أتى" ليشير إلى الركن الفعلي (وإلا) إن لم يكن من جنسها كالمشي والضرب (فتبطل بكثيره لا قليله) لأنه (ص) صلى وهو حامل أُمامة بنت ابنته فكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها متفق عليه وأنه أمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب وخلع نعليه في صلاته رواه أبو داود. كما أن المصلي يصعب عليه السكون على هيئة واحدة في زمان طويل ولابد من رعاية التعظيم فعفي عن القليل الذي لا يغل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/271)
بالتعظيم دون الكثير (والكثرة بالعرف) وكذلك القلة (فالخطوتان أو الضربتان قليل والثلاث كثير إن توالت) لا إن تفرقت لحديث خلع نعليه (ص) في الصلاة (وتبطل بالوثبة الفاحشة) لمنافاة الوثبة للصلاة فتبطل بالوثبة قطعاً إلحاقاً لها بالعمل الكثير (لا الحركات الخفيفةالمتوالية كتحريك أصابعه في سبحة) أو عقد شيء أو حله (أي فك في الأصح) إلحاقاً لها بالقليل ومثله تحريك لسانه أو أجفانه أو شفتيه (وسهو الفعل) الكثير (كعمده) في إفساد الصلاة (في الأصح) لندور السهو في الكثير والفاحش (وتبطل بقليل الأكل) لأن الأكل يشعر بالإعراض عن الصلاة ويشمل المشروب أيضاً (قلت: إلا أن يكون ناسياً أو جاهلاً تحريمه والله أعلم) فلا تبطل بقليله كسائر الأفعال القليلة بخلاف كثيره فتبطل به مع النسيان أو جهل التحريم 0فلو كان بفمه سكرة فبلع ذوبها بمص ونحوه (بطلت) صلاته (في الأصح) لمنافاته للصلاة كما أن المضغ مبطل للصلاة وإن لم يصل الممضوغ إلى الجوف (ويسن للمصلي إلى جدار أو سارية أو عصاً مغروزة أو بسط مصلىً) كسجادة (أو خط قبالته) أي تجاهه خطاً لخبر الحاكم: "استتروا في صلاتكم ولو بسهم" ولخبر أبي داود عن أبي هريرة "إذا صلى أحدكم فليجعل أمام وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصاً فإن لم يكن معه عصاً فليخط خطاً" وطول المذكورات حتى الخط ثلثا ذراع فأكثر أي ثلاثون سنتيميتراً وبينها وبين المصلي ثلاثة أذرع فأقل أي مترٌ وربع تقريباً فإذا صلى إلى شيءٍ منها سُنَّ له (دفع المارِّ) بينه وبين سترته لخبر الشيخين: "إذا صلى أحدكم إلى شيءٍ يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان" (والصحيح تحريم المرور حينئذ) وإن لم يجد المار سبيلاً آخر لخبر الشيخين: "لو يعلم المار بين يدي المصلي –أي إلى السترة- ماذا عليه من الإثم لكان يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه" أما لو صلى إلى غير سترة أو تباعد عنها فليس له الدفع لتقصيره ولا يحرم المرور بين يديه والسنة أنه إذا صلى إلى سترةٍ أن يجعلها مقابلة ليمينه أو شماله ولا يصمد لها تلقاء وجهه إلا أن تكون جداراً عريضاً يعسر فيه ذلك، وإذا دفع دفع بالأسهل فالأسهل كدفع الصائل، ولا تبطل الصلاة بمرور شيءٍ بين يدي المصلي أما خبر مسلم: "يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار" فالمراد منها قطع الخشوع للشغل بها (قلت: يكره الالتفات) في الصلاة يمنة أو يسرة (لا لحاجة) لحديث عائشة سألت رسول الله (ص) عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" رواه البخاري وروى أبو داود والنسائي: "لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه" ولا يكره لحاجة لأنه (ص) كان في سفر فأرسل فارساً في شعب من أجل الحرس فجعل يصلي وهو يلتفت إلى الشعب أي الرسول" رواه أبو داود بإسناد صحيح أما تحويل صدره عن القبلة فيبطل الصلاة (ورفع بصره إلى السماء) فيكره ذلك لحديث البخاري "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبارهم والمنع في الصلاة فقط فلا يكره في غيرها بل يندب في دعاء الوضوء كما أورده صاحب الإحياء ويكره النظر غلى ما يلهي عن الصلاة كثوبٍ له أعلام لما روى الشيخان عن عائشة: كان النبي (ص) يصلي وعليه خميصة ذات أعلام فلما فرغ قال: "ألهتني هذه، إذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأمبجانيته" والخميصة كساء أسود فيه خطوط وأما لاأمبجانية فهي ثوب يتخذ من الصوف وله خمل ولا علم له وهو كالقطيفة وهو من أدون الثياب الغليظة (وكف شعره أو ثوبه) أي ملبوسه لحديث: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوباً ولا شعراً" رواه الشيخان واللفظ لمسلم، والحكمة في ذلك: أن يسجد معه وقيل: للانشغال به عن الصلاة (و) يكره (وضع يده على فمه بلا حاجة) لحديث أبي هريرة: "نهى رسول الله (ص) أن يغطي الرجل فاه في الصلاة" رواه أبو داود وصححه ابن حبان ولا يكره لحاجة كالتثاؤوب بل يسن لخبر مسلم: "إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا قال: هاها ضحك الشيطان منه "ويكره النفخ لأنه عبثٌ ويكره مسح الحصى ونحوه عندما يسجد لخبر أبي داود عن محيقيب الدوسي "لا تمسح الحصى وأنت تصلي فإن كنت لابد فاعلاً فواحدةٌ "تسوية للحصى" ولأنه يخالف
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/272)
الخشوع (والقيام على رجل) واحدة لأنه تكلف ينافي هيئة الخشوع هذا إذا رفع الرجل عن الأرض وهو المسمى بالصافن وأما كونها على الأرض مع عدم الاعتماد عليها لراحة مثلاً فلا يكره ويندب تفريق قدميه بنحو شبر ويكره ضمهما ويسمى الصافد (والصلاة حاقباً) أي مدافعاً للبول (أو حاقباً) أي مدافعا للغائط أو حازقاً وهو الذي يدافع الريح فيستحب أن يفرغ نفسه من ذلك إذا اتسع الوقت وإن فاتته الجماعة (أو بحضرة طعام يتوق إليه) أي يشتاق لحدي مسلم: "لا صلاة –أي كاملة- بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان –أي البول والغائط" وتكره أيضاً مدافعة الريح وسواء في الطعام المأكول والمشروب (وأن يبصق قبل وجهه أو عن يمينه) لخبر الشيخين عن أنس "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره" زاد البخاري فإن عن يمينه ملكاً ولكن عن يساره أو تحت قدمه، قال النووي في شرح المهذب: هذا في غير المسجد فإن كان في مسجد حرم البصاق فيه والأولى أن يبصق في ثوبه أو منديله لحديث الشيخين: "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها بل يبصق في طرف ثوبه في جانبه الأيسر ككمه وبصق وبزق لغتان بمعنى واحد وفي رأي بصاقاً أو نحوه في المسجد فالسنة أن يزيله وأن يطب محله وتكره الصنائع في المسجد واتخاذه حانوتاً للبيع لأن فيها تضيققاً على المصلين وازدراءً به (ووضع يده على خاصرته) بغير ضرورة لحديث أبي هريرة: "أن النبي (ص) نهى أن يصلي الرجل مختصراً" رواه الشيخان عن أبي هريرة في رواية ابن حبان: "الاختصار في الصلاة راحة أهل النار" قال ابن حبان: يعني اليهود والنصارى، وفق تفسيرات الاختصار الأخرى أن يتكئ على عصا ومنها أن يختصر السورة أو يختصر الصلاة وما ذكره المصنف هو الأصح لأنه فعل المتكبرين وحكى المنف في شرح مسلم أن إبليس هبط من الجنة كذلك (والمبالغة في خفض الرأس في ركوعه) لمجاوزته أكمله والذي هو فعل النبي (ص) وسواء في ذلك خفض رأسه وحده أو مع صدره فقد كان (ص) إذا ركع لم يشخص رأسه أي لم يرفعه ولم يصوبه أي لم يخفضه مع تسوية ظهره (و) تكره (الصلاة في الحمام) في الجديد والقديم قيل لأنه مأوى الشياطين وقيل لكثرة النجاسة لما روى ابن حبان بسند صحيح الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام وقيل كل محل معصية أو غضب كدور اللهو وأماكن القمار (والطريق) وهو محل مرور الناس في وقت المرور فيه ولو في برية ومثله الأسواق ورحاب المساجد لانشغال المصلي بالمارين ومثله الصلاة خلف الشبابيك المطلة على الشوارع إذا كانت تشغله ويرقب فيها حركة الناس (والمزبلة) وهي مجمع الزبل ومثله المجزرة وهو موضع ذبح الحيوان (والكنيسة) وهيمعبد النصارى وفي البيعة وهي معبد اليهود ونحوهما من أماكن الكفر فهي مأوى الشياطين (وعطن الإبل) وهو المكان الذي تنحى إليه الإبل ليشرب غيرها فإذا اجتمعت سيقت إلى المرعى لقوله (ص) "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الأبل فإنها خلقت من الشياطين" رواه ابن ماجة وصححه ابن حبان لنفارها المشوش للخشوع خلافاً للغنم ولا تختص الكراهة بالعطن بل مواضعها كلها كذلك (والمقبرة الطاهرة) بأن لم تنبش (والله أعلم) لنهيه (ص) عن الصلاة في سبعة مواطن "في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق بيت الله العتيق" رواه الترمذي وقال إسناده ليس بالقوي وأما المقبرة المنبوشة فلا تصح الصلاة فيها من غير حائل ويكره استقبال القبر في الصلاة لخبر مسلم "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها قال النووي في التحقيق ويحرم استقبال قبره (ص) ويقاس به سائر قبور الأنبياء.
تنبيه: أحكام المسجد: يَحْرُمُ تمكين الصبيان غير المميزين والمجانين والحيض والبهائم والسكران من دخوله إن غلب تنجيسهم له والإ كُره وكذا يحرم دخول كافر إليه إلا بإذن مسلم مكلف ويستحب الأذن له فيه لسماع قرآن ونحوه كفقه وحديث رجاء إسلامه ويكره نقس المسجد واتخاذ الشرفات لها بل إن كانت مما وقف عليه حَرُمَ لأن فيه إتلافاً للمال ويكره دخوله بلا ضرورة لمن أكل ما له ريح كريه كثوم ويكره عمل صناعة فيه فإن كانت خسيسة تزري بالمسجد حرم ولا بأس بإغلاقه في غير أوقات الصلاة صيانة له وحفظاً إذا خيف امتهانه وضياع ما فيه وأما إذا دعت الحاجة إلى فتحه كمرور مصلين عليه أو أن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/273)
يكون مسجد أسواق فالسنة عدم إغلاقه ولا يجوز منع الشرب من ماء مسبل فيه ولا بأس بالنوم والوضوء والأكل فيه إذا لم يتأذ بشيء من ذلك المصلون ويسن أن يقدم رجله اليمنى دخولاً واليسرى خروجاً وأن يقول اللهم اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحمتك ثم يقول بسم الله ويدخل لما روى مسلم أنه (ص) قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني اسألك من فضلك وتكره الخصومة ورفع الصوت ونشد الضالة ولا بأس أن يعطى السائل خارجه شيئاً ولا بأس بإنشاد الشعر فيه إن كان مدحاً للنبوة والإسلام أو كان حكمة أو في مكام الأخلاق أو دعوة إلى الزهد ودعوة إلى الإنفاق ..
باب بيان سجود السهو واحكامه
(سجود السهو سنة) مؤكدة ولو في نافلة ما عدا صلاة الجنازة وهو دافع لنقص الصلاة (عند ترك مأمور به) من الصلاة ولو احتمالاً بأن شك هل فعله أم لا (أو فِعْل منهي عنه) فيها ولو أحتمالاً (فالأول) من أسباب السجود وهو ترك المأمور به (إن كان ركناً وجب تداركه) بفعله ولا يغني عنه السجود لأن حقيقة الصلاة لا توجد بدونه (وقد يشرع) مع تداركه (السجود كزيادة) مثلاً (حصلت بتدارك ركن كما سبق) بيان تلك الزيادة يأتي (في) آخر مبحث (الترتيب) وقد لا يشرع السجود بأن تحصل زيادة كما لو ترك النية أو تكبيرة الإحرام فلا صلاة له فعليه إنشاء صلاة جديدة ولا يسجد للسهو وكما لو كان المتروك السلام فتذكره عن قرب ولم ينتقل من موضعه فيسلم من غير سجود للسهو (أو) كان المتروك (بعضاً وهو القنوت أو قيامه) أي القنوت في الصبح أو وتر النصف الثاني من رمضان أو كان قيامهُ لا يسع قنوتاً أو لم يحسن القيام فكان منحنياً من غير عذر فإنه يسن له القيام بقدر القنوت زيادة على الذكر الوارد في الاعتدال (أو التشهد الأول أو قعوده) بأن لم يحسنه لأن السجود إذا شرع لترك التشهد شرع لترك جلوسه لأنه مقصود ويتصور ذلك بأن لا يحسن التشهد فإنه يسن له أن يجلس أو يقف بقدره فإن لم يفعله سجد للسهو لأنه (ص) ترك التشهد الأول من الظهر ناسياً وسجد قبل أن يسلم رواه الشيخان عن عبد الله بن بُحينة (وكذا الصلاة على النبي (ص) فيه في الأظهر) بناءً على أنها سنة في القنوت أو التشهد الأول (سجد) لتركه وإن كان الترك متعمداً (وقيل إن تركه عمدا ًفلا) يسجد لتقصيره بتفويت السنة على نفسه وردوه بأن خلل العمد أكثر فكان إلى الجبر أحوج (قلت وكذا صلاة على الآل حيث سنناها والله أعلم) في التشهد الأول على وجه وفي التشهد الأخير على الأصح فإنه يسجد لتركها (ولا تجبر سائر السنن) لأنه لم يرد فيها سجود للسهو وليست في معنى ما يُسجَدُ له وذلك مثل أذكار في الركوع والسجود وقنوت النازلة وتكبيرات الانتقال وتسبيحات الركوع والسجود (والثاني) من أسباب سجود السهو وهو فعل المنهي عنه (إن لم يبطل عمده كالالتفات والخطوتين لم يسجد لسهوه) ولا لعمده لعدم ورود السجود له (وإلا) بأن أبطل عمده كركعة زائدة (سجد) لسهوه لأنه (ص) صلى الظهر خمساً وسجد للسهو متفق عليه عن ابن مسعود هذا (إن لم تبطل) الصلاة (بسهوه) فإن بطلت بسهوه (ككلام كثير) فإنه يبطلها (في الأصح) فلا يسجد للسهو لأنه ليس في صلاة (وتطويل الركن القصير) بسكوت أو ذكر لم يشرع وهو في الاعتدال بقدر ما يسع الفاتحة وفي الجلوس بين السجدتين بقد ر ما يسع التشهد الواجب (يبطل عمده) الصلاة (في الأصح) ولأن تطويل الركن القصير يخل بالموالاة كما هو تغيرٌ لموضوع الركن ويستثى من ذلك ما لو سجد للسهو ثم سها قبل سلامه فلا يسجد ثانية (فيسجد لسهوه) قطعاً والثاني لا يبطل عمده لما روى مسلم عن أنس قال: كان رسول الله (ص) إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى يقولَ القائل نسي والأصح يسجد للسهو (فالاعتدال مقيد) لأنه للفصل بين الركوع ولاسجود والمختار جواز تطويل كل اعتدال بذكر غير ركن كالفاتحة والتشهد (وكذا الجلوس بين السجدتين في الأصح) لأنه للفصل بين السجدتين والذكر المشروع فيه أقصر من المشروع في الاعتدال (ولو نقل ركناً قولياً كفاتحة) أو بعضها (في ركوع أو) جلوس (تشهدٍ) آخر وكتشهد أو بعضه في قيام (لم تبطل بعمده في الأصح) لأنه لا يخل بصورتها بخلاف الركن الفعلي فإنه يخل بصورة الصلاة (ويسجد لسهوه في الأصح) لغفلته وتركه التحفظ المأمور به في الصلاة (وعلى هذا تستثنى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/274)
هذه الصورة من قولنا:) المتقدم (ما لا يُبْطِلُ عَمْدُهُ لا سجود لسهوه) واستثى معه أيضاً ما لو أتى بالقنوت أو بكلمة منه بنية فعله قبل الركوع أما لو صلى على النبي قبل التشهد أو قرأ السورة قبل الفاتحة لأن ذلك محله (ولو نسي التشهد الأول) مع قعوده أو وحده (فذكره بعد انتصابه لم يعد له) إذا كان صار إلى القيام أقرب فلا يقطع الفرض لسنةٍ (فإن عاد) إلى الجلوس عامداً (عالماً بتحريمه بطلت) لزيادته قعوداً عمداً (أو ناسياً فلا) ويلزمه القيام عند تذكره (ويسجد للسهو أو جاهلاً) لتحريم العود (فكذا في الأصح) أي لا تبطل الصلاة كالناسي لأنه مما يخفي على العوام ويلزمه القيام عند العلم ويسجد للسهو (وللمأموم) إذا انتصب دون الإمام سهواً (العود لمتابعة إمامه في الأصح) لأن المتابعة فرضٌ فرجوعه رجوع إلى فرضٍ وله البقاء قائماً لأنه متلبس بفرض (قلت: الأصح وجوبه والله أعلم) لأن المتابعة آكد ولهذا سقط بالمتابعة القيام والقراءة عن المسبوق (أما إذا تعمد فلا يلزمه العود بل يسن) كما إذا ركع قبل إمامه لأن له قصداً صحيحاً من انتقاله من واجب لمثله فاعتد بمثله وخير بينهما بخلاف الساهي فكأنه لم يفعل شيئاً (ولو تذكر) الإمام أو المنفرد التشهد الأول الذي نسيه (قبل انتصابه عاد للتشهد) ندباً لأنه لم يتلبس بفرض (ويسجد) للسهو (إن صار إلى القيام أقرب) منه إلى القعود لأنه أتى بفعل غيّر به نظم الصلاة (ولو نهض عمداً) أي قاصداً ترك التشهد (فعاد بطلت) صلاته (إن كان إلى القيام أقرب من القعود) لأنه زاد في صلاته عمداً ما لو وقع منه سهواً جبره بالسجود فكان عمده مبطلاً (ولو نسي قنوتاً فذكره في سجوده لم يعد له) لتلبسه بفرض (أو مثله عاد) لعدم التلبس به (وسجد للسهو إن بلغ حد الراكع) في هوية لزيادته ركوعاً بخلاف إذا لم يبلغه فلا يسجد (ولو شك في ترك بعضٍ) كالقنوت لا هيئةٍ كتسبيح الركوع (سجد) لأن الأصل عدم فعله (أو ارتكاب نهي) أي منهي يجبر بالسجود ككلام قليل ناسياً (فلا) يسجد لأن الأصل عدم الارتكاب (ولو سها وشك هل سجد) أو لا أو هل سجد سجدتين أو واحدة (فليسجد) ثنتين في الأولى وواحدة في الثانية لأن الأصل عدم سجوده وهذا كله جريٌ على القاعدة المشهورة: (أن المشكوك فيه كالعدم) والشك هو التردد (ولو شك أصلى ثلاثاً أم أربعاً أتى بركعة) لأن الأصل عدم فعلها (وسجد) للسهو للتردد في زيادتها والأصل في ذلك حديث مسلم عن أبي سعيد إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته" أي ردتها السجدتان إلى الأربع ويحذفان الزيادة لأنهما جابران الخلل الحاصل من النقصان تارة ومن الزيادة أخرى وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا رغماً للشيطان" (والأصح أن يسجد وإن زال شكه قبل سلامه) بأن تذكر أنها رابعة لفعلها مع التردد ومقابل الأصح لا يعتبر تردد بعد زواله (وكذا حكم ما يصليّه متردداً واحتمل كونه زائداً) فيسجد للتردد في زيادته (ولا يسجد لما يجب بكل حال إذا زال شكه مثاله شك في الثالثة أثالثة هي أم رابعة فتذكر فيها) أنها ثالثة وأتى برابعة (لم يسجد أو في الرابعة) بأن استمر تردده المتقدم في الثالثة حتى قام إلى الرابعة (سجد) لأن مافعله قبل التذكر فَعَلَهُ متردداً وإنما قام احتياطاً مع احتمال أنها خامسة (ولو شك بعد السلام في ترك فرضٍ لم يؤثر على المشهور) لأن الظاهر وقوع الصلاة على التمام (وسهوه حال قدوته يحمله إمامه) كما يحمل عنه الجهر والسورة وغيرهما (فإن ظن سلامة فسلم فبان خلافه) أي خلاف ظنه (سلم معه) أي مع إمامه (ولا سجود) لأن سهوه في حال القدوة فيتحمله الإمام (ولو ذكر في تشهده ترك ركن غير النية والتكبيرة قام بعد سلام إمامه إلى ركعته) التي فاتت بفوات الركن كأن ترك سجدة من غير الأخيرة فإن كانت الأخيرة سجد سجدةً يكملها (ولا يسجد) لأن سهوه كان حال قدوته (وسهوه بعد سلامه) أي بعد سلام إمامه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/275)
(ولو ذكر في تشهده ترك ركن غير النية والتكبيرة) أي تذكر بعد القدوة ترك ركن لا يعرف ما هو لكنه غير النية وتكبيرة الأحرام لم يعد لتدراكه لما فيه من ترك المتابعة الواجبة للإمام و (قام بعد سلام إمامه إلى ركعته) التي فاتت بفوات الركن (ولا يسجد) لكون سهوه كان حال القدوة (فسهوه بعد سلامه لا يحمله) أي أن سهو المأموم بعد سلام إمامه لا يحمله الإمام لانتهاء القدوة (فلو سلم المسبوق بسلام إمامه) أي بعد سلام إمامه فقام المسبوق ظاناً إمامه سلم فعليه العود لمتابعة إمامه وما فعله لا يحسب من صلاته لعدم المتابعة فيأتي بالناقص بعد سلام إمامه ولا يسجد لأن السهو كان حال القدوة أما إذا سلم إمامه فقام ظاناً نقص ركعة ثم تذكر أن لا نقص رجع إلى الجلوس و (بنى) على صلاته (وسجد) لأن سهوه بعد انقطاع القدوة (ويلحقه سهو امامه) أي يلحق المأموم سهو إمامه كما يحمل الإمام سهوه لخبر ليس على مَنْ خَلْفَ الإمامِ سهو فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو رواه الدارقطني وضعفه البيهقي (فإن سجد لزمته متابعته) أي: أذا سجد إمامه للسهو لزمه متابعته حتى ولو لم يعلم بسهوه لأنه لمحض المتابعة خلافاً لما إذا قام إمامه لخامسة فلا يتابعه لأن صلاة المأموم قد تمت بل لو بقي على المأموم ركعة لم يتابع الإمام إذا قام إلى الخامسة لانتهاء القدوة. (وإلا) أي وإن لم يسجد إمامه (فيسجد على النص) سواء ترك الإمام السجدتين أو إحدهما أو كان يرى السجود بعد السلام لانقطاع القدوة (ولو اقتدى مسبوق بمن سها بعد اقتدائه وكذا قبله في الأصح وسجد) الإمام (فالصحيح) في الصورتين (أنه) أي المسبوق (يسجد معه) رعاية للمتابعة (ثم في آخر صلاته) يسجد ثانية لأنه محل سجود السهو ومقابل الصحيح أنه لا يسجد مع إمامه بل يتمَّ صلاته ثم يسجد للسهو وأصح الأقوال أنه لا يسجد لا في آخر صلاته ولا في آخر صلاة إمامه لأنه لم يدرك السهو وقيل يسجد مع إمامه للمتابعة ولا يسجد في آخر صلاته (فإن لم يسجد الإمام سجد آخر صلاة نفسه على النص) أي يسجد المأموم وفي قول مقابله لا يسجد (وسجود السهو وإن كثر سجدتان) أي بنية السهو وجوباً بالقلب دون التلفظ ولا يحتاج المأموم إلى نية لأن نية الإمام لهما (كسجود الصلاة) في واجباته ومندوباته (والجديد أن محله بين تشهده وسلامه) أي بعد الصلاة على النبي والآل وقبل السلام وفي القديم
ـ[ابومحمد بكري]ــــــــ[21 - 07 - 07, 06:43 م]ـ
جزاك الله خيرا
وسؤالى ماهى منزلة هذا الكتاب فى كتب النووى
اى عند تعارض كلامه فى هذا الكتاب مع كلامه فى كتاب اخر كالتحقيق مثلا فأيهما يقدم ويعتمد عند الشافعية
ـ[يوسف رمضان يوسف شراب]ــــــــ[11 - 08 - 07, 07:03 ص]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[أبو زكريا الشافعي]ــــــــ[11 - 08 - 07, 08:17 ص]ـ
قال الكردي في المسلك العدل و الفوائد المدنية " فان تخالفت كتب النووي الغالب أن المعتمد التحقيق فالمجموع فالتنقيح فالروضة و المنهاج و نحو فتاواه فشرح مسلم فتصحيح التنبيه و نكته, فان اتفق المتأخرون على أن ما قالاه (أي هو والرافعي) سهو فلا يكون حينئذ معتمدا لكنه نادر جدا, و قد تتبع من جاء بعدهما كلامهما و بينوا المعتمد من غيره بحسب ما ظهر لهم ...............
الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل و ضوابط و القواعد الكلية
ص 37 الحلبي
جزء من: مجموعة سبع كتب مفيدة للسيد علوي أحمد السقاف
بالاضافعة إلى أنه (أي المنهاج) أهم الشروح المعتمدة لدى المتأخرين في المذهب، كمغني الشربيني، ونهاية الرملي، وتحفة ابن حجر، وحواشيهم المعتمدة كذلك، كالشبراملسي على النهاية، وابن قاسم والشرواني على التحفة.
ومختصره لشيخ الاسلام وشرحه عليه كذلك، مع حاشية الجمل الواسعة الجامعة للكثير من حواشي المتأخرين.
ـ[محمد البيلى]ــــــــ[31 - 08 - 07, 12:24 ص]ـ
أكمل بارك الله فيك.
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[18 - 05 - 10, 05:57 م]ـ
دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي لفضيلة الشيخ رجب نوري مشوح(83/276)
هل توجد كتب ومراجع للنوازل الفقهية في موضوع الوقف الإسلامي (الحبس) على الشبكة
ـ[التمسولتي الحسن]ــــــــ[21 - 07 - 07, 01:53 ص]ـ
السلام عليكم. أرجو منكم الدلالة على كتب ومراجع تتعلق بالنوازل الفقهية في مسائل الوقف (الحبس) عند فقهاء المالكية. وشكرا.
ـ[أحمد الجمل]ــــــــ[24 - 07 - 07, 12:10 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله
هذه مجموعة مختارة من المراجع والكتب في الفقه الاسلامي المتخصصة في مسألة الوقف الاسلامي
لعلها تكون مفيدة
المصادر والمراجع
1 - احمد الحجي الكردي، أحكام الوقف في الفقه الإسلامي بحث مقدم لدورة العلوم الشرعية للاقتصاديين التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالكويت ابريل عام 1996.
2 - أحمد فراج حسين، أحكام الوصايا والأوقاف في الشريعة الإسلامية، دار المطبوعات الجامعية، 1997.
3 - أحمد كفتارو، الوقف الإسلامي والتنمية الاقتصادية، حوار مع مفتي سوريا، أجراه مراسل جريدة المستقلة اللندنية دمشق في 28/ 3/1998م.
4 - إسماعيل موسى منك، دور الوقف في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ورقة بحثية مقدمة إلى مؤتمر الحضارة الإسلامية بالقاهرة.
5 - توفيق الطيب البشير، التنمية الاقتصادية في الإسلام. شمولية وتوازن.
6 - حسن عبد الله الأمين، إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة 1989.
7 - خالد أبو بكر، التطوع في مصر .. بين الماضيوالحاضر.
8 - خالد بن علي بن محمد المشيقح، الأوقاف في العصر الحديث كيف نوجهها لخدمة الجامعات وتنمية مواردها.
9 - راشد ابن أحمد العليوي، وبحوث مقدمة إلى ندوة (مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية) والتي نظمتها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية.
10 - راشد سعد راشد القحطاني، أوقاف السلطان الأشرف شعبان على الحرمين، مكتبة الملك فهد، الرياض، 1414هـ.
11 - رفيق يونس المصري ( http://www.furat.com/authordef.cgi?authid=1422)، الأوقاف ( http://www.furat.com/book_details.cgi?bookid=6461)، الطبعة الأولى، 2000.
12 - زهدي يكن، الوقف في الشريعة والقانون، دار النهضة العربية، 1975.
13 - شوقي الفنجري، الوقف اليوم، جريدة الأهرام، الأربعاء 27 من ذي القعدة 1421 هـ، 21 فبراير 2001السنة 125 - العدد 41715
14 - عبد الرازق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني، ج 5.
15 - عبد الرحمن محمد بدوي، " الرقابة المالية في الدولة الإسلامية ـ من عهد الرسول e إلى نهاية الدولة العباسية " رسالة دكتوراه جامعة الأزهر ·
16 - عبد المحسن العثمان، الهيئة العالمية للوقف، قسم إدارة الأعمال - كلية الاقتصاد والإدارة، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 8/ 4/1423هـ، الموافق 19/ 6/2002م.
17 - عكرمة صبري، دور الوقف في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ورقة بحثية مقدمة إلى مؤتمر الحضارة الإسلامية بالقاهرة.
18 - علي محيي الدين القرة داغي ( http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2002/07/articlecv2.shtml) ، نظرة تجديدية للوقف واستثماراته، مقال منشور على موقع إسلام أون لاين.
19 - عيسى زكي، موجز أحكام الوقف الأمانة العامة للأوقاف بالكويت، 1416هـ.
20 - غانم عبد الله شاهين، الدور الاجتماعي والاقتصادي للوقف، ورقة بحثية مقدمة إلى مؤتمر الحضارة الإسلامية بالقاهرة.
21 - فريد ياسين قرشي، الأوقاف وسنابل الخير "، قسم إدارة الأعمال - كلية الاقتصاد والإدارة، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 27/ 11/1421هـ الموافق 21/ 2/2001م.
22 - فؤاد عبد الله العمر، "إسهام الوقف في العمل الأهلي والتنمية الاجتماعية " الكتاب الصادر عن الأمانة العامة للأوقاف في دولة الكويت، ضمن سلسلة الدراسات الفائزة بجائزة الكويت الدولية لأبحاث الوقف للعام 1999م.
23 - فواز بن علي الدهاس، الوقف: مكانته وأهميته الحضارية.
24 - محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف، دار الفكر العربي، القاهرة، 1971، ط2، 1391هـ.
25 - محمد السيد دسوقي، دور الوقف في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ورقة بحثية مقدمة إلى مؤتمر الحضارة الإسلامية بالقاهرة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/277)
26 - محمد بو جلال، " نحو صياغة مؤسسية للدور التنموي للوقف: الوقف النامي "، مقال منشور في مجلة " دراسات اقتصادية إسلامية "، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، المجلد 5، العدد 1، عام 1418هـ = 1997 م
27 - محمد الكبيسي، أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، مطبعة الإرشاد، 1397هـ 1977م.
28 - مشروعية الوقف الأهلي ومدى المصلحة فيه ضمن وقائع ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي معهد البحوث والدراسات العربية بغداد 1983.
29 - محمد كمال الدين إمام " الوصايا والأوقاف في الفقه الإسلامي " (1996م).
30 - محمد محمد أمين، الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، دار النهضة العربية، 1980م.
31 - مصطفى الزرقا احكام الوقف مطبعة الجامعة السورية دمشق 1947.
32 - نبيل لوقا بباوي، مشاكل الأقباط في مصر وحلولها.
33 - هبة الليثى، سياسات مكافحة الفقر وعدم المساواة في المنطقة العربية.
34 - ياسين عبد الرحمن جفري، الوقف بين التنمية والغلة، قسم إدارة الأعمال - كلية الاقتصاد والإدارة، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 22/ 12/1422هـ، 6/ 3/2002 م.
35 - يحي محمود ساعاتي، دراسات في الوقف، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الرياض 1988.
مؤتمرات وندوات:
1. أعمال منتدى قضايا الوقف الفقهية الأول المنعقد بدولة الكويت في الفترة ما بين 11 إلى 13 أكتوبر 2003م.
2. أعمال منتدى قضايا الوقف الفقهية الثاني المنعقد بدولة الكويت في الفترة من 29 – 2 ربيع الثاني 1426هـ الموافق 8 – 10 مايو 2005م.
3. ندوة " مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي" التي عقدت بالرباط (المغرب) سنة 1983، ونظمها معهد البحوث والدراسات العربية ببغداد ـ العراق، بالتعاون مع المنظمة العربية والثقافة والعلوم.
4. ندوة " إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف "،التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة سنة 1984، في حلقتين وباللغتين: العربية والإنجليزية.
5. ندوة " الآثار الاجتماعية والاقتصادية للوقف في العالم الإسلامي المعاصر" والتي نظمها المعهد الفرنسي للدراسات الأناضولية باسطنبول سنة 1992.
6. ندوة " نحو دور تنموي للوقف" والتي نظمتها وزارة الأوقاف الكويتية سنة 1993.
7. ندوة " أهمية الأوقاف الإسلامية في عالم اليوم" والتي نظمها المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية - الأردن، في لندن سنة 1996.
8. حلقة دراسية حول " الأوقاف في فلسطين: الفرص والتحديات" والتي نظمت بالقاهرة سنة 1997.
9. حلقة دراسية بعنوان " نحو إحياء دور الوقف في التنمية المستقلة " والتي نظمت في سنة 1998بالتعاون بين المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل، ومركز دراسات الوحدة العربية: بلبنان.
10. د. رفيق يونس المصري ندوة حوار الأربعاء 1/ 8/1425هـ، الموافق 15/ 9/2004م بعنوان: الإرصاد وهل يختلف عن الوقف؟ مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي - جامعة الملك عبد العزيز.
11. د. رفيق يونس المصري ندوة حوار الأربعاء بعنوان " الصناديق الوقفية في مجال التأمين التعاوني " 9/ 1/1424هـ الموافق 12/ 3/2003م مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي كلية الاقتصاد والإدارة جامعة الملك عبد العزيز.
12. د. رفيق يونس المصري ندوة حوار الأربعاء بعنوان: " الأوقاف النامية. هل هي فكرة ممكنة؟ " بتاريخ 25/ 4/1424هـ الموافق 25/ 6/2003 م مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي كلية الاقتصاد والإدارة جامعة الملك عبد العزيز.
13. ندوة " نحو قانون استرشادي للوقف " يوم السبت 28 شوال 1425هـ الموافق 11 ديسمبر 2004م بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة. وذلك بالتعاون بين كل من الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت والمعهدالإسلامي للبحوث والتدريب والهيئة العالمية للوقف.
14. ندوة " رؤية استراتيجية للنهوض بالدور التنموي للوقف " بمؤتمر وزراء الأوقاف في العالم الإسلامي ربيع الآخر 1989 جدة. واعدت الدراسة الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت.
15. إعلان عمان الثاني بشأن السكان والتنمية في العالم العربي في المؤتمر العربي للسكان 4 – 8 نيسان / ابريل 1993 عمان.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/278)
16. دورة " إدارة واستثمار ممتلكات الأوقاف " والتي نظمت في عمان في 4/ 12/2003 بمشاركة متخصصين من الأردن والسعوديةوالكويت ومصر واليمن وسورية.
17. ندوة (نحو دور تنموي للوقف) والذي دعت إليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت في الفترة من 1 - 3/ 5/1993 وشارك فيها مجموعة منتخبة من العاملين في حقل الأوقاف والتنمية الوقفية. وكان من أهم البحوث فيها:
· دور الوقف في النمو الاقتصادي للشيخ صالح كامل رئيس مجموعة دلة البركة.
· التجربة الكويتية في إدارة الوقف للدكتور علي الزميع وزير الأوقاف.
· تجربة البنك الإسلامي للتنمية في تثمير الأوقاف الإسلامية لمحمود أحمد مهدي.
· الوقف وأثره التنموي للدكتور علي جمعة مفتي مصر.
· الوقف الإسلامي وأثره في تنمية المجتمع وتطبيقاته في أمريكا الشمالية، جمال برزنجي.
· دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة للدكتور محمد عمارة.
· أساليب استثمار الأوقاف وأسس إدارتها للدكتور نزيه حمادة.
مواقع على شبكة الانترنت
وصف الموقع
اسم الموقع
www.awqafshj.com/Mashroh_kaefeyah (http://www.awqafshj.com/Mashroh_kaefeyah)
موقع (الأمانة العامة للأوقاف) الشارقة
www.islamonline.net
موقع إسلام أون لاين
http://islam.gov.kw (http://islam.gov.kw/)
موقع البوابة الإسلامية
www.islamweb.net (http://www.islamweb.net/)
موقع الشبكة الإسلامية
www.moia.gov.bh
موقع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية البحرين
www.islamicfi.net
موقع المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية
www.islam.gov.qa (http://www.islam.gov.qa/)
موقع المنبر - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (قطر)
www.isesco.org.ma
موقع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
www.wakf.com (http://www.wakf.com/)
موقع الوقف الإسلامي في الدانمرك
www.muslimweb.gov.ae (http://www.muslimweb.gov.ae/)
موقع دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدبي
www.islamway.com
موقع طريق الإسلام
www.fiqhia.com
موقع مجلة البحوث الفقهية المعاصرة
www.waqfalwaqt.net (http://www.waqfalwaqt.net/)
موقع مشروع وقف الوقت موقع شبكة التطوع الكويتية
www.awkaf.net
موقع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة الكويت
www.alazhr.com
موقع وزارة الأوقاف والمؤسسات الدينية بمصر
www.shounislamiamadinah.gov.sa
موقع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف المدينة المنورة
www.islam.org.sa
موقع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة(83/279)
لماذا تتعدد الاقوال الفقهيه للامام احمد فى المسئله الواحده؟
ـ[ابن عبد الغنى]ــــــــ[23 - 07 - 07, 05:11 ص]ـ
اعلم ان الائمه الاعلام ربما ينقل عنهم قولان فى مسئله واحده كمالك والشافعى وابى حنيفه وان كان بصوره اقل ولكن هؤلاء الائمه لهم مسائل كثيره جدا القول فيها واحد وقد يختلف علماء المذهب حسب فهمهم لقول الامام
اما الذى يحيرنى منذ بدات اقرا فى كتب مقارنة الفقه انى لاحظت انه مامن مسئله فقهيه الا وتتعدد اقوال الامام احمد فيها وربما تصل الى اربعة اقوال بشكل لافت للنظر
ما السبب فى هذا وهل تطرق احد من اهل التحقيق خاصه الحنابله لهذا الامر نرجو ممن عنده علما ان ينفعنا به وجزاكم الله خيرا
ـ[حمد بن صالح المري]ــــــــ[23 - 07 - 07, 08:22 ص]ـ
أخي الكريم ابن عبد الغني حفظك الله تعالى
سأذكرُ بعضَ الأسباب؛ وعلى شيوخي الأفاضل الشرح والتفصيل.
قال صاحب المختصر في المدخل: ((لتعدّد الروايات ونقلها في كتب الفقه فوائد، وننقل هنا ما قاله الطوفي (رحمه الله)، قال الطوفي (رحمه الله) في شرحه لمختصره:" فإن قيل: إذا كان القول القديم المرجوع عنه لا يعدُّ من الشريعة بعد الرجوع عنه، فما الفائدة في تدوين الفقهاء للأقوال القديمة عن أئمتهم؟ ...... قيل: قد كان القياس أن لا تدوّنَ تلك الأقوال، وهو أقرب إلى ضبط الشرع، إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه، فتدوينه تعبٌ محض، لكنها دوّنت لفائدة أخرى، وهي التنبيه على مدارك الأحكام واختلاف القرائح والآراء وأن تلك الأقوال قد أدّى إليها اجتهاد المجتهدين في وقت من الأوقات، وذلك مؤثّر في تقريب الترقّي إلى رتبة الاجتهاد المطلق أو المقيّد، فإن المتأخر إذا نظر إلى مآخذ المتقدمين نظر فيها وقابل بينها فاستخرج منها فوائدَ، وربما ظهر له من مجموعها ترجيح بعضها، وذلك من المطالب المهمّة، فهذه فائدة تدوين الأقوال القديمة عن الأئمة وهي عامّة، وثمّ فائدة خاصة بمذهب أحمد وما كان مثله، وذلك أن بعض الأئمة كالشافعي ونحوه نصّوا على الصحيح من مذهبهم، إذ العملُ من مذهب الشافعي على القول الجديد وهو الذي قاله بمصر وصنّف فيه الكتب كالأم ونحوه. ويقال: إنه لم يَبْقَ من مذهبه شيء لم ينصّ على الصحيح منه إلاّ سبع عشرة مسألة تعارضت فيها الأدلة واخْتُرِمَ قبل أن يحقّق النظر فيها، بخلاف الإمام أحمد ونحوه
فإنه كان لا يرى تدوين الرأي؛ بل همّه الحديث وجمعُه وما يتعلق به، وإنما نقَلَ المنصوص عنه أصحابه تلقياً من فيه من أجوبته في سؤالاته وفتاواه، فكلّ من روى منهم عنه شيئاً دوّنه وعُرِف به، كمسائل أبي داود وحرب الكرماني، ومسائل حنبل وابنيه صالح وعبدالله وإسحاق بن منصور والمروذي وغيرهم ممن ذكرهم أبو بكر في أول (زاد المسافر) وهم كثر ... ثم انتدب لجمع ذلك أبو بكر الخلال في "جامعه الكبير" ثم تلميذه أبو بكر في (زاد المسافر) فحوى الكتابان علماً جمّاً من علم الإمام أحمد (رضي الله عنه) من غير أن يُعلم منه في آخر حياته الإخبار بصحيح مذهبه في تلك الفروع، غير أن الخلال يقول في بعض المسائل: (هذا قول قديم لأحمد رجع عنه) لكن ذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يُعْلَم حاله منها، ونحن لا يصحّ لنا أن نجزم بمذهب إمام حتى نعلم أنه آخر ما دوّنه من تصانيفه ومات عنه، أو أنه نصّ عليه ساعة موته، ولا سبيل لنا إلى ذلك في مذهب أحمد، والتصحيح الذي فيه إنما هو من اجتهاد أصحابه بعده كابن حامد والقاضي وأصحابه ومن المتأخرين الشيخ أبو محمد المقدسي (رحمهم الله أجمعين)، لكن هؤلاء بالغين ما بلغوا، لا يحصل الوثوق من تصحيحهم لمذهب أحمد كما يحصل من تصحيحه هو لمذهبه قطعاً، فمن فرضناه جاء بعد هؤلاء وبلغ من العلم درجتهم أو قاربهم، جاز له أن يتصرّف في الأقوال المنقولة عن صاحب المذهب كتصرّفهم، ويصحّح منها ما أدّى اجتهاده إليه، وافقهم أو خالفهم، وعمل بذلك وأفتى، وفي عصرنا من هذا القبيل شيخُنا الإمام العالم العلاّمة تقيُّ الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني حرسه الله تعالى، فإنه لا يتوقّف في الفتيا على ما صحّحه الأصحاب من المذهب، بل يعمل ويفتي بما قام عليه الدليل عنده، فتكون هذه فائدة خاصة بمذهب أحمد وما كان مثله لتدوين نصوصه ونقلها، والله تعالى أعلم بالصواب".انتهى.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/280)
قلتُ: قوله: (ولا سبيل لنا إلى ذلك في مذهب أحمد) ليس على إطلاقه؛ فبعد ما رأيت الجهود التي بذلها الأصحاب المتقدّمون يظهر أن لنا طريقاً في كثير من المسائل إلى الجزم بمذهب الإمام.
وقوله: (والتصحيح الذي فيه إنما هو من اجتهاد أصحابه بعده كابن حامد والقاضي وأصحابه ومن المتأخرين الشيخ أبو محمد المقدسي رحمهم الله أجمعين)، إن كان يقصد اجتهادهم لمعرفة صحتها ونسبتها إليه واختياره لها! فصدق وهم أهل لذلك، وإن كان يقصد بقوله "اجتهاد أصحابه" أي أنهم يصحّحون من الأقوال ما يكون موافقاً للدليل الشرعي في نظرهم ولو القول الآخر أثبت منه عن الإمام ... فذلك غير مسلّمٌ به، فإنهم -كما هو مشاهد- يبيّنون المذهب ويبيّنون اختياراتهم وما وصل إليه اجتهادهم.
وأمّا أسباب تعدّد الروايات فكثيرة، منها:
1 - تورّع الإمام أحمد (رحمه الله) عن الترجيح بين أقوال الصحابة أو بعض التابعين إذا نقل عنهم قولان أو أكثر، وليس هناك نصٌّ يؤيّد ترك القولين أو الأقوال، وذلك لكونه فقيهاً أثريّاً، وذلك دليل على الورع وسعة الإطلاع، (رحمه الله).
2 - أن الإمام أحمد (رحمه الله) كان يفتي أحياناً قليلة بالرأي المبني على المصلحة أو القياس، فتختلف أوجه النظر بين الوجهين، فيترك الوجهين من غير ترجيح.
3 - مراعاة الإمام أحمد لحال السائل، واختلاف ذلك الحال من سائل إلى آخر، فيفتي باختلاف الحال لكل سائل، فيظنّ أن الإمام أحمد له رأيان، وليس كذلك، كما أن الإمام يرى أنه يجب عند الإفتاء دراسة حال المستفتي، فلعلّ المُستفتي يُريد أن يتّخذ الفتوى طريقاً لحرام.
4 - اختلاف الرواية عن الإمام أحمد في مسألة من المسائل، فيَروي كلُّ صاحب رواية، فتكون كلّ
رواية قولاً، ما لم يوجد ما يرجّح صدق أحدهما.
5 - كما أنّ رأي الإمام ومذهبه بترك باب الإجتهاد مفتوحاً سبب آخر في تعدد الروايات، فهو بذلك يترك المجال لمن قدر على الإجتهاد وتوفرت شروطه فيه أن يمارسه.
والله تعالى أعلم.
ـ[ابن عبد الغنى]ــــــــ[24 - 07 - 07, 06:31 م]ـ
احسنت اخى الحبيب بارك الله فيك
ـ[أحمد بن شبيب]ــــــــ[24 - 07 - 07, 07:01 م]ـ
بارك الله فيكم ونفع بكم
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[24 - 07 - 07, 08:21 م]ـ
وقد أجاب النووي أيضا في مقدمة المجموع عن شبهة رد القول القديم في المذهب
ـ[ابن عبد الغنى]ــــــــ[24 - 07 - 07, 11:39 م]ـ
شيخنا العوضى بنفسه بخ بخ انه درس فى التواضع ان يمر مثلك على موضوع لمثلى
ولكن شيخنا الجليل الظمآن مثلى لاتكفيه قطره ونحسبك كريما مفضالا وظنى ان مداخلتك القصيره لانك اعتقدت ان صاحب الموضوع مثلك او يدانيك هيهات هيهات فمازلنا نحبو فى مضمار العلم
هل اطمع فى شىء من الاستفاضه على الاقل توضيح كلام النووى فى المجموع ورغم ان اخى حمد اجاد فى المداخله الاولى ولكن كما جاء فى الحديث نهمان لايشبعان طالب علم وطالب مال
ـ[حمد بن صالح المري]ــــــــ[25 - 07 - 07, 08:58 ص]ـ
وبارك الله فيك أخي بن عبد الغني ...(83/281)
هام جدا _ أرجو من يدلني على مخطوط أو موضوع معين لبرنامج الماجستير في الفقه والأصول
ـ[الأفغاني السلفي]ــــــــ[23 - 07 - 07, 05:44 ص]ـ
السلام عليكم:
- أرجوا من الإخوة ممن له (علم- دراية) بأية مخطوطة أو موضوع معين, في الفقه أو أصول الفقه, أن يخبرني به, ونسأل الله تعالى للجميع الثبات على الإيمان والصلاح0
ـ[بنت الراوي]ــــــــ[31 - 07 - 07, 10:57 م]ـ
اخي بامكانك ان تستخدم منتدى الكتب والمخطوطات في نفس الموقع او موقع الوراق فاعتقد انك ستستفيدوتجد ضالتك باذن الله
ـ[الدكتور صالح محمد النعيمي]ــــــــ[01 - 08 - 07, 09:55 م]ـ
تروم تحقيق او موضوع في دراستك للماجستير
ـ[الدكتور صالح محمد النعيمي]ــــــــ[01 - 08 - 07, 09:59 م]ـ
بنت الراوي، راجعي منتدى الدراسات الفقهية،بخصوص (للاكثر حكم الكل)
ـ[بنت الراوي]ــــــــ[01 - 08 - 07, 10:11 م]ـ
السلام عليكم شيخي الم تتوفر لدى حضرتكم نسخة من البحث المطبوع قاعدة للاكثر حكم الكل او كتاب القواعد للمقري لو القواعد الفقهية للشيخ يعقوب الباحسين
وبارك بكم جل وعللا
ـ[الدكتور صالح محمد النعيمي]ــــــــ[01 - 08 - 07, 10:17 م]ـ
نعم موجود ولكن مستعار منذ سنة، والله اسئل ان ياتي الكتاب عن قريب
ـ[بنت الراوي]ــــــــ[01 - 08 - 07, 10:53 م]ـ
بارك الله بكم يا شخنا الدكتور النعيمي اخشى ان كنت اسبب ازعاجا لديكم
ـ[الدكتور صالح محمد النعيمي]ــــــــ[02 - 08 - 07, 11:46 ص]ـ
لا على العكس، العلم ليس فيه ازعاج، فتح الله عليك
ـ[أمين شيخ أبو بكر]ــــــــ[09 - 08 - 07, 09:46 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله،
فما رأيك لو كتبت في موضوع مقاصد الشريعة في المحافظة على الدين، لما انتشر في هذا العصر من اختلاف وجهة النظر في حكم قتل المرتد، بعض العلماء يحاولون تشكيك في ثبوت هذا الحكم ربما لإرضاء غير المسلمين من أن يطعنوا في الإسلام، وأننا نتشدق بأنه لا إكراه في الدين ثم نقتل من خرج منه ويرون بأن الدليل على ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "من بدل دينه فاقتلوه" غير ثابت عند علماء الحديث.
كما حدثت ضجة كبيرة عند ما حكم على رجل في أفغانستان اسمه عبد الرحمن بالقتل عند ما ارتد عن الإسلام إلى النصرانية، وحاولت هيئات تبشيرية وحقوقية للدفاع عنه.
لو درست هذا الموضوع مستعرضا آراء الفقهاء القدامى والمعاصرين، ثم استعراض حكمة الشريعة في الحفظ على الدين عن طريق نصوص شرعية وقواعد فقهية وأدلة عقلية.(83/282)
بحث شرعي أفزعني .. أحاديث "الطب النبوي" .. هل يُحتج بها؟
ـ[أبو عبد الرحمن الحسن]ــــــــ[23 - 07 - 07, 09:13 ص]ـ
الطب النبوي .. رؤى نقدية
أحاديث "الطب النبوي" .. هل يُحتج بها؟
د. محمد سليمان الأشقر
http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2004/08/article01.shtml
مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية
للدكتور محمد سليمان الأشقر
http://www.islamset.com/arabic/ahip/islamic/nabawi/ashkar.html
--------------------------------------------------------------------------------
ما رأيكم أخوتي في هذا الكلام فهو حقا أفزعني .. وأشكل عليَّ .. وأفسد عليَّ تفكيري وفهمي .. وألبس ليَ الأمور ببعضها .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
وإليكم الموضوع بتمامه .. --------------------------------------------------------------------------------
الطب النبوي .. رؤى نقدية
أحاديث "الطب النبوي" .. هل يُحتج بها؟ *
د. محمد سليمان الأشقر
12/ 08/2004
"الطب النبوي" عبارة شائعة جدًّا، يُراد بها تلك الأحاديث الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل تتعلق بالطب، من علاج ودواء ووقاية ونحوها. لكن ثمة سؤال بالغ الأهمية لا يلتفت إليه كثيرون وهو: هل كل هذه الأحاديث في الأمور الدنيوية عامة، وفي الطب خاصة (ولو صحّت): تعتبر حجة يجب الأخذ بها واعتبارها وحيًا؟.
هذا السؤال يعالجه د. محمد سليمان الأشقر في بحثه هذا معالجة جريئة، ويخلص إلى أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله الدنيوية ليست تشريعًا. وأنه صلى الله عليه وسلم إنما بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، ويجوز عليه صلى الله عليه وسلم فيها الخطأ، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وأقواله وأفعاله في الأمور الطبية الصرفة ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها، بل هي أقوال وأفعال مبنية في الأصل على التجارب الشخصية.
--------------------------------------------------------------------------------
الأصل في أقوال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته أنها حجة شرعية على عباد الله، إن ثبتت بطريق صحيح. وقد تكفل ببيان ذلك والاستدلال له علم أصول الفقه. وهذا واضح كل الوضوح فيما كان من ذلك مبيِّنًا لأمور الدين، كالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وكالأحاديث المبينة لأحكام الله تعالى من الحلال والحرام والفرائض وأنواع التعبدات والمعاملات وغيرها من أمور الشريعة.
القواعد العامة في الأمور الدنيوية
أما الأمور الدنيوية، فهل يلزم أن تكون اعتماداته وأقواله صلى الله عليه وسلم فيها مطابقة للواقع بمقتضى نبوته، أو أن هذا أمر لا صلة له بمنصب النبوة؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه صلى الله عليه وسلم معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا، بل كل ما يعتقده في ذلك مطابق للواقع، وكذلك ما يقوله ويخبر به. ولم نجد أحدا من قدماء الأصوليين صرح بمثل هذا المذهب. ولكنه لازم لمن جعل جميع أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم حجة حتى في الطبيات والزراعة ونحوها. وهو لازم أيضا لمن صحح منهم أن تقريره صلى الله عليه وسلم لمخبرٍ عن أمر دنيوي يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيده المحلي والبناني.
وابن القيم في كتابه (الطب النبوي) يذهب إلى حجية أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم في الطب. وقال: "طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل". ويظهر أن هذه طريقة المحدثين.
المذهب الثاني: أنه لا يجب أن يكون اعتقاده صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا، بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو صلى الله عليه وسلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/283)
قالوا: وليس في ذلك حطّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به؛ لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية: من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفي منه، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة، أو يدفع ضررا معينا، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد.
وقد صرح بأصل هذا المذهب، دون تفاصيله: القاضي عياض، والقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي والشيخ محمد أبو زهرة. وظاهر حديث "أنتم أعلم بشؤون دنياكم": أنه صلى الله عليه وسلم كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزراعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها، إلا أن القاضي عياضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً، لا كثيرا يؤذن بالبله والغفلة.
ويحتج لهذا المذهب بأدلة، منها:
أولا: حديث تأبير النخل في صحيح مسلم، "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فإذا هم يأبرون النخل -يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر". وشبيه به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب".
ثانيا: إن النبي قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".
واختار د. محمد سليمان الأشقر المذهب القائل بأن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله الدنيوية ليست تشريعًا، واستدل لذلك بالأدلة الآتية:
ا- قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) وقوله: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا)، وقد تكرر التأكيد على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم. بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه. فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل. وقد أكدت السنة النبوية ما بينه القرآن من ذلك. كما يأتي.
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر"، وفي رواية: "أنتم أعلم بدنياكم". وبهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي صلى الله عليه وسلم أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه صلى الله عليه وسلم بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس.
3 - إن الحباب بن المنذر، قال في سياق غزوة بدر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
وقالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات، وكنت أعالجها له".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/284)
ابن خلدون: الطب المنقول في الشرعيات ليس من الوحي في شيء. وإنما هو أمر كان عاديا للعرب .. فإنما بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره.
وممن صرح بهذه القاعدة بصفتها العامة، من الأصوليين القدامى القاضي عبد الجبار. وصرح بها حديثا الشيخ ولي الله الدهلوي، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ عبد الجليل عيسى، والشيخ فتحي عثمان.
--------------------------------------------------------------------------------
ابن خلدون: الطب المنقول في الشرعيات ليس من الوحي في شيء. وإنما هو أمر كان عاديا للعرب .. فإنما بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره.
--------------------------------------------------------------------------------
قال ابن خلدون: "الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل (يعني طب البادية المبني على تجارب قاصرة) ليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجِبِلَّة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع. فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم). قال: فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه".
قال القاضي عياض: "فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها: يجوز عليه صلى الله عليه وسلم فيها ما ذكرناه [أي الخطأ]، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة".
وبين شاه ولي الله الدهلوي أن علوم النبي على قسمين: أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة والآخر: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر" وقوله في قصة تأبير النخل .. قال: ومنه الطب.
وقال الشيخ محمد أبو زهرة في شأن حديث تأبير النخل: "الحديث يتعلق بالصناعات وفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، فهل يتصور أن النبي يمكن أن يكون حجة وذا خبرة في فنون الزراعة والتجارة، وصناعة الزجاج والجلود، ونسج الأقطان والحرير، وغير ذلك مما يتعلق بالمهن المختلفة!؟ ".
والأمور الدنيوية التي هذا سبيلها، ووردت فيها أحاديث نبوية، هي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الأمور الغائبة عنه صلى الله عليه وسلم مما شأنه أن يعرفه من رآه أو سمع به، ولا يعرفه الإنسان المعتاد بمجرد الفكر، كمعرفة ما في بيت مغلق، أو معرفة ما يجري في مكان بعيد من أرض الله. فهذا من علم الغيب، لا يعلمه إلا الله، لقوله تعالى: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ)، وقوله: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فلا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك إلا بطرق المعرفة المعتادة، ما لم يخبرنا أن الله أطلعه عليه وأوحى إليه به.
النوع الثاني: أمور البشر وأسرارهم، وما في قلوبهم، وما عملوا في حال غيبتهم، فلا يُعلمُ النبيُّ قال ذلك بغير إطلاع خاص من الله تعالى، كما أطلعه على حال بعض المنافقين. ثم قد يعتقد الشيء من ذلك الذي لم يوحَ إليه به على غير ما هو عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ... ".
وكان صلى الله عليه وسلم يُجري أحكامه على الظاهر وموجب غلبة الظن، بالشاهدين، أو يمين الحالف، أو مراعاة الأشبه، أو معرفة القرائن. ولو شاء الله لأطلعه على سرائر عباده ومخبآت ضمائر أمته، ولكنه غيّب عنه ذلك.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/285)
النوع الثالث: ما يدخل من أمور الدنيا ضمن ما يسمى العلوم البحتة والعلوم التطبيقية، وهي ما يفعله الإنسان بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال، له أو لغيره، أو دفع ضرر كذلك، أو يدبر تدبيرا في شأنه خاصة، أو شؤون المسلمين عامة، لغرض التوصل إلى جلب نفع أو دفع ضرر.
ويشمل هذا النوع الأضرب التالية:
الضرب الأول: الأمور الطبية، فقد تناول النبي صلى الله عليه وسلم، أو أعطى غيره، أو وصف له، أطعمة وأشربة متنوعة على سبيل حفظ الصحة، أو لدرء أمراض معينة، كألبان الإبل وأبوالها. وكذلك تعاطى أو أعطى أنواعا مختلفة من العلاج.
الضرب الثاني: شؤون الزراعة.
الضرب الثالث: الصناعة.
الضرب الرابع: التجارة.
الضرب الخامس: أنواع أخرى من المكاسب كرعي الغنم، أو العمل للغير بأجر.
الضرب السادس: مثل التدابير الفنية التي اتخذها صلى الله عليه وسلم في الحرب، من استعمال المجانيق والسيوف والرماح والسهام، وتربية الخيل للقتال، وحفر الخنادق، وترتيب الجيوش وتدريبها.
الضرب السابع: مثل التدابير التي اتخذها صلى الله عليه وسلم في الإدارة المدنية، من اتخاذ الولاة والكتاب والحراس والحجاب والسفراء، وكذلك الأعلام والشعارات، والمرافق من الطرق والحصون وغيرها.
فهذه الأضرب وأمثالها قد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من أفرادها، ونقل إلينا أشياء من ذلك.
والنظر في الأحكام التي يمكن أن تدل عليها مثل تلك الأحاديث من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: (أصل) الطب والزراعة والصناعة والتجارة والقصد إلى تحصيل المكاسب، والسعي لتحقيق التدابير المدنية والعسكرية المناسبة، ونحو ذلك: تعتبر أقواله صلى الله عليه وسلم في ذلك حجة يجب اعتقادها واتباعها، ويستفاد من الأحاديث القولية والفعلية في ذلك إباحته، وأنه لا يخالف العقيدة ولا الشريعة. وقد يرتقي إلى درجة الاستحباب أو الوجوب، بحسب الأحوال الداعية إليه ودلالة نطقه في ذلك.
وفي الحديث إشارة إلى ذلك حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"، فهذا في الصناعة، وقال: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين يوم القيامة"، فهذا في التجارة، وورد في الزراعة وغيرها أحاديث أخرى، وتأتي الأحاديث التي تأمر بالتطبيب والعلاج.
الوجه الثاني: إرشادات وتوجيهات شرعية في ممارسة تلك الأعمال، كتجنب البول وقضاء الحاجة تحت الشجر المثمر، ووجوب إحسان الذبح، وتحديد الشفرة لئلا يتعذب الحيوان المذبوح، وإمكانية استعمال المنجنيق في الحرب، وتجنب قتل النساء والأطفال فيها، ونحو ذلك، فهذا شرع يؤخذ كما يؤخذ غيره من الشرع في العبادات ونحوها.
الوجه الثالث: الأمر الذي عمله بخصوصه، هو مباح له، وقد يكون مستحبًّا له، أو واجبا عليه، لاعتقاده صلى الله عليه وسلم أنه هو المؤدي إلى غرض مستحب أو واجب.
أقواله (ص) وأفعاله المبنية في الأصل على التجارب الشخصية: ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها.
--------------------------------------------------------------------------------
أقواله (ص) وأفعاله المبنية في الأصل على التجارب الشخصية: ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها.
--------------------------------------------------------------------------------
ولكن هل يكون حكم مثله بالنسبة إلينا كذلك؟ كما لو شرب دواء معينا لعلاج مرض معين، فهل يستحب لنا شرب ذلك الدواء لذلك المرض مثلا، أو يجب، بل هل يباح بناء على ذلك أم لا؟ هذا ينبني على القاعدة التي سبق تحريرها، وقد رجحنا فيها قول من قال من العلماء: إن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله في ذلك الباب ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها، بل هي أقوال وأفعال مبنية في الأصل على التجارب الشخصية للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو بشر، وما قد سمع به من أهل التجربة والمعرفة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/286)
ونبه د. محمد الأشقر هنا إلى أنه إذا نص القرآن على أمر دنيوي فهو حق لا مرية فيه؛ لأنه من الله تعالى الذي لا يخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض. فإذا كان الحديث النبوي في الشؤون الدنيوية استجابة لإرشادات القرآن التي تتعلق بذلك الأمر، فيكون الفعل بيانا أو امتثالا للقرآن، ويحمل على الشرعي. ولعل خير مثال على ذلك شربه صلى الله عليه وسلم العسل للتداوي، فإن ذلك تطبيق لقوله تعالى: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). وشبيه بذلك ما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه فعله عن وحي من الله تعالى.
كما نبه الأشقر إلى أمر آخر وهو أنه إذا تردد الفعل بين أن يكون دنيويا أو دينيا، حمل على الديني؛ لأنه الأكثر من أفعاله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
الأحاديث الواردة في شأن الطب والعلاج
بعد تأصيل القواعد العامة التي ذكرت، والتي تصدق على جميع الأحاديث النبوية المتعلقة بالشؤون الدنيوية المختلفة، نخص بالكلام الأحاديث الواردة في الشؤون الطبية بالذات، بتطبيق القواعد السابقة عليها فنقول:
إن الأحاديث المذكورة نوعان رئيسيان:
أولهما: ما يعتبر شرعا يتبع، ويعمل به، كسائر الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في شؤون الاعتقادات والعبادات والمعاملات والأحكام المختلفة التكليفية والوضعية.
والآخر: ما لا يعتبر شرعا، ولا يلزم العمل به، وسبيله سبيل الشؤون الدنيوية التي تقدم بيانها، يعتبر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيها كقول سائر الناس:
1 - ما هو شرع من أحاديث الطب:
النوع الأول: وهو ما ورد من الأحاديث في الطب ويعتبر شرعا يتبع، يشمل فئات:
الفئة الأولى:
أ- ما كان من الأحاديث الواردة في حكم أصل العمل بالطب والمعالجات وتناول الأدوية. فهذا النوع شرع يتبع. وقد وردت في أصل العمل بالطب أحاديث منها: حديث الأمر بالتداوي، وأن الله تعالى ما أنزل داء إلا أنزل له دواء، غير داء واحد، اختلفت الأحاديث في تعيينه، ففي بعضها: هو الهَرَم، وفي بعضها: هو الموت.
ومثلها الأحاديث التي تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مرض يتداوى، وربما سأل الأطباء عن دواء مرضه، وكانت وفود العرب تصف له الأدوية، فكانت عائشة رضي الله عنها تعالج له تلك الأدوية أي تمزجها وتهيئها، ومن ثم كان لها علم بالطب.
ب- ومنها حديث أبي رمثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لطبيب: "الله الطبيب، بل أنت رفيق، طبيبها الذي خلقها" رواه أبو داود. هذا الحديث إقرار للعمل بالطب. وفيه التنبيه إلى قوى البرء المركبة في البدن الإنساني في أصل خلقته، وأن مهمة الطبيب الرفق بالمريض لإتاحة الفرصة لهذه القوى كي تعمل عملها.
الفئة الثانية: أحاديث فيها توجيهات شرعية متعلقة بعملية التداوي وشؤون المرضى:
أ- من ذلك حديث البخاري عن الصحابية ربيع بنت معوذ، قالت: "كنا نغزو مع رسول الله حتى نسقي القوم، ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة". ففيه جواز مداواة المرأة للجرحى من الرجال.
ب- ومنها أحاديث الأمر بعيادة المريض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعودهم، حتى "إن غلامًا يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: أسلم. فأسلم"، وكان إذا عاد المريض ربما وضع يده على جبهته، ومسح على صدره وبطنه، ودعا له. نقل البخاري أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك عندما زار سعدًا. وربما رقى المريض. ففي صحيح البخاري من حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضا، أو أُتي إليه به قال: "أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا".
ج- ومنها حديث النهي عن التداوي بالمحرمات: كحديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يتداوى بها فقال: "إنها ليست بدواء ولكنها داء" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. وكحديث: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" رواه عبد الرزاق والطبراني مرفوعا. ورواه الحاكم عن ابن مسعود موقوفا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/287)
فهذه الأحاديث هي من قبيل الشرع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ناط الحكم بمعنى شرعي، وهو التحريم، فما كان من المواد محرما لم يجز التداوي به. ولا يعني هذا أنه لا يجوز استعماله عند الضرورة، مع عدم وجود دواء آخر غير الدواء المحرم، بل إن الضرورة تبيح المحظور.
الفئة الثالثة: أحاديث أبطلت أنواعا من المعالجات كانت سائدة في الجاهلية، تنافي صحة الاعتقاد الإيماني؛ لأنها ليست أسبابا حقيقية للشفاء:
أ- منها "أن عبد الله الجهني الصحابي رضي الله عنه خرج به خراج، فقيل له: ألا تعلق عليه خرزا؟ فقال: لو علمت أن نفسي تكون فيه ما علقته. ثم قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهانا عنه" رواه ابن جرير وصححه.
ب- ومنها قوله: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك". رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث ابن مسعود. ومثله حديث: "من علق تميمة فقد أشرك". والمراد بالرقى الرقى المجهولة، وما كانت الاستعاذة فيها بغير الله تعالى، بخلاف الرقية بالفاتحة والمعوذتين والأدعية المشروعة. والمراد بالتمائم الأحجبة التي تعلق على الأطفال والبيوت والسيارات ونحو ذلك، يزعم الجهلة أنها ترد العين، أو تمنع المرض والحوادث. والتولة شيء كانوا يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها.
الفئة الرابعة: أحاديث أمرت بأدوية ومعالجات ربطتها بأحكام تعبدية وشعائر دينية
أ- من ذلك حديث أحمد والنسائي عن عائشة مرفوعا: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"، وفي صحيح البخاري أيضا "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة".
ب- أحاديث الاسترقاء، منها ما في صحيح البخاري من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ (قل هو الله أحد) والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده.
ج- ومنها أحاديث الدعاء للمريض، كقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما".
د- ومنها حديث "داووا مرضاكم بالصدقة".
الفئة الخامسة: أحاديث مبنية على النص القرآني:
فمن ذلك أحاديث التداوي بالعسل.
الفئة السادسة: أحاديث فيها ذكر أدوية أو معالجات يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمها بطريق الوحي، أو إخبار الملائكة، أو أن الله يحبها، أو يكرهها، ونحو ذلك.
وإنما كان هذا النوع من الأدوية صحيحا ومشروعا لأنه منسوب إلى الله تعالى أو ملائكته. فمن ذلك أحاديث الأمر بالتداوي وأصل العمل بالطب.
ولا بد لاعتبار الأحاديث التي ضمت هذه الفئة الأخيرة حجةً في باب الطب: من أحد أمرين:
الأول: أن يكون الحديث على درجة عالية من الصحة؛ لأن تطبيقه على الأجسام الإنسانية قد يكون فيه ضرر كبير، فإن وقع الضرر فلا يكون للطبيب عذر أن يتبين كون العلاج مبنيا على حديث صحيح ظاهرا لكنه في الحقيقة موهوم أو مكذوب. ولذا أقترح أن لا يعتبر حجة من الناحية الطبية الصرفة حديث ما لم يكن ثابتا على سبيل القطع، وهو الحديث المتواتر، أو على شبه القطع، وهو ما ورد من طريقين على الأقل، منفصلين، من أول السند إلى آخره، بحيث يعرف أنه لم ينفرد برواية الحديث راو واحد في أي طبقة من طبقات السند، حتى لو كان صحابيا.
الآخر. أن يخضع مضمون الحديث للتجارب الطبية تحت نظر الاختصاصيين. فإن ثبتت صلاحيته كفى، وتكون التجارب هي الحجة في ذلك.
2 - ما لا حجة فيه من أحاديث الطب:
النوع الثاني: وهو ما لا حجة فيه من أحاديث الطب وهو سائر الأحاديث النبوية الواردة في الطب والعلاج، وليس فيها ما يشعر أنها من قبل الله تعالى، أو أنها من قبيل الشرع. وقد وضح من القواعد المذكورة سابقا أن هذا النوع من الأحاديث ليس من قبيل التشريع. ونحن نذكر جملة من تلك الأحاديث على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
1 - فمنها حديث مقدام بن معد يكرب عند أحمد والترمذي مرفوعا: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وتلث لنفسه".
2 - ومنها أحاديث الحجامة، كما تقدم في الفئة السادسة من النوع الأول، إن لم يصح الحديث بأن الملائكة أمروا النبي صلى الله عليه وسلم بها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/288)
3 - ومنها حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود "من تصبّح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر".
4 - ومنها حديث ابن عباس مرفوعا، عند أحمد والبخاري ومسلم: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء".
5 - ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والترمذي "العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وفيها شفاء للعين"، وروى نصفه الثاني البخاري ومسلم وأحمد والنسائي مرفوعا من حديث سعيد بن زيد.
6 - وحديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم، ومثله عند أحمد عن عائشة، وعند ابن ماجه عن عمر مرفوعا: "في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام" والسام الموت.
7 - ومنها حديث أحمد والبخاري وأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء". زاد أحمد في رواية: "وإنه يتقي بجناحيه الذي فيه الداء، فليغمسه كله"، وأخرجه كله أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا.
8 - ومنها الأحاديث الواردة في العدوى:
فمنها حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يُورِدَن ممرض على مصح"، رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. الممرض هو الذي له إبل مريضة، نهاه أن يوردها على الإبل الصحيحة. ومنها حديث أبي هريرة عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة".
9 - ومنها أحاديث الطاعون، كحديث أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف عند البخاري "إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" رواه مسلم.
10 - ومنها حديث عند الإمام أحمد مرفوعا: "إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء".
فهذه الأحاديث المذكورة في هذا النوع الثاني، ونحوها من الأحاديث التي تدخل في صلب الأمور الطبية والعلاجية، لا ينبغي أن تؤخذ حجة الطب والعلاج، بل مرجع ذلك إلى أهل الطب، فهم أهل الاختصاص في ذلك. وقد يتبين في شيء من هذه الأحاديث الخطأ من الناحية الطبية الصرفة، وكما قال القاضي عياض: ليست في ذلك محطة ولا نقيصة، لأنها أمور اعتيادية يعرفها من جربها.
لكن قد يبدو لبعض أهل العلم في شيء منها ملحظ صحيح يكون قرينة على أنها تشريع، فتخرج بذلك عن أن تكون من هذا النوع الثاني، وتدخل في النوع الأول، وتعتبر حجة في باب الطب، كما ظهر لنا في الفئات الست. والله أعلم.
إثبات فاعلية هذه الأدوية والمعالجات
إنه وإن قلنا في أحاديث هذا النوع الثاني وأمثالها: إنها ليست حجة في الأمور الطبية، فإنه لا ينبغي مع ذلك اطراحها بالكلية، بل ينبغي أن تثير احتمالا بالصحة، كسائر الأقوال الطبية المأثورة عن أهل التجارب والمعرفة من غير أهل الاختصاص، بل هي أولى منها، للشبهة في أنها قد تكون مبنية على الوحي، ولو كانت شبهة ضعيفة، ولا يخفى ماذا حدث في الطاعون المتقدم ذكره من الحكمة البالغة التي يؤيدها الطب الحديث كل التأييد.
ولذا أرى أن تخضع للتحليل وللتجارب على الأسس المتعارفة عند أهل الاختصاص. فإن وجدت صالحة أدخلت حيز العمل، ويكون التحليل والتجريب هو الحجة في صلاحيتها، دون كونها مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن الكثير منها لا يثبت من حيث الرواية بطريق القطع أو شبهه على الوجه الذي تقدم بيانه.
تناول الأدوية المأثورة على أساس الاعتقاد الإيماني
ذكر ابن خلدون رحمه الله بعد كلامه الذي نقلناه سابقا حول كون الطب المنقول في الشرعيات عن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يحمل على أنه مشروع، قال: "إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع، وليس ذلك في الطب المزاجي، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية". وقال ابن حجر: "استعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر بنيته، والعكس بالعكس".
الأمور الطبية الصرفة هي من صميم الأمور الدنيوية، لا يكفي فيها مجرد الإيمان.
--------------------------------------------------------------------------------
الأمور الطبية الصرفة هي من صميم الأمور الدنيوية، لا يكفي فيها مجرد الإيمان.
--------------------------------------------------------------------------------
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/289)
والذي اختاره د. محمد الأشقر أنه لا شك أن من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوز التبرك بآثاره، والاستشفاء بها، لكن هل يكون ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعالجات الطبية هو من جنس آثاره وملابسه ونحو ذلك، حتى يستشفى بها ويتبرك بها؟ يبدو أن في هذا نظرًا [أي ضعفًا]، فإنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه على أن ما يصدر عنه في مثل ذلك هو مجرد رأي يراه، وأنه بشر يخطئ ويصيب، وأن ما حدث به من قبل نفسه فهم أعلم بدنياهم، فكيف يتساوى ما نبه على عدم نفعه من الشؤون التي قالها من عند نفسه، مع ما أذن فيه من التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم؟!.
ثم إن الصحابة الذين تركوا تأبير النخل إنما تركوه تصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانا به، وعملا بقوله، ومع ذلك خرج ثمره ذلك العام شيصا، أي تالفا غير صالح، ولم يأت إيمانهم وتصديقهم كافيا ليصلح به الثمر؛ لأنه ليس في الحقيقة سببا لذلك. فكذلك هذه الأمور الطبية الصرفة، هي من صميم الأمور الدنيوية، لا يكفي فيها مجرد الإيمان - التصديق - مع كونها ليست أسبابا في حقيقة الأمر.
وأما القياس على الشفاء القرآني بالمواعظ فهو قياس فاسد، فإن مواعظ القرآن من لم يصدق بها لا يستمع إليها، وإن استمع إليها فإنه لا يقبلها ولا يعمل بها، فكيف تنفعه؟ كالدواء المادي إذا لم يتناوله المريض لا ينفعه. أما إن تناوله فإن تأثيره في الأجسام لا يختلف بالتصديق وعدمه.
اقرأ نص البحث كاملا:
مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية
طالع أوراق الملف:
الطب النبوي .. محاور وأفكار
"الطب النبوي" .. مفهومه ونشأته
الأخطاء المنهجية في أبحاث "الطب النبوي"
أحاديث "الطب النبوي" .. هل يُحتج بها؟
الطب النبوي والطب الحديث
أحاديث الطب النبوي واختلافاتها!
اقرأ أيضا:
التفسير العلمي وتَعَطّل المنظومة الثقافية الإسلامية
المنهج العلمي في دراسة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
"التلبينة" وصية نبوية .. وحقيقة علمية
--------------------------------------------------------------------------------
* أصل الموضوع بحث مطول أنجزه د. الأشقر بعنوان مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية، وقد اختصرناه إلى أقل من النصف، ليكون أكثر إفادة، وبلغة قريبة من القارئ مع المحافظة على لغة الكاتب. (المحرر).
--------------------------------------------------------------------------------
هذا وأنتظر ردودكم وشرحكم العلمي لهذا الكلام .. سواء:
1 - بالرفض جملة. أو 2 - القبول جملة. أو 3 - قبول البعض ورد البعض ..
وجزاكم الله خيرا ...
ـ[أبو عبد الرحمن الحسن]ــــــــ[25 - 07 - 07, 04:13 ص]ـ
ومازلت أنتظر!!!
ـ[أسامة المصري السلفي]ــــــــ[25 - 07 - 07, 12:15 م]ـ
غفر الله لنا ولهم
ولكن ...
ورد الشفاء مذكور في القرآن:
لأمراض القلوب ... القرآن
لأمراض الأبدان ... العسل
وفي السنة مثلا تجد:
الإمام البخاري أورد كتاب الطب في صحيحه ... أورد فيه (السنن) منها حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء.
ثم أورد جملة ليست بقليلة من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم في التداوي، وفيه مسائل يدخل فيها تحليل وتحريم وتوجيه
الحجامة ومشروعيتها والتوجيه لها
(نحريم) الكي للعلاج
التداوي بألبان وأبوال الإبل ... وكنت قد حضرت مجموعة من الأبحاث يقوم بها بعض الأساتذة من أصحاب التخصصات الطبية ... ولديهم بحوث قوية في هذا الشأن ... خلاصتها، أن الذين كانو يشكون ووصف لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعانون من مرض الصفراء ... وليس الكبد الوبائي كما هو منتشر على ألسن العامة، وهذه الإبل إبل تعيش في الصحراء ... ولها مباحث ... ومفيدة جداً.
أما ما يستدلون به من قصة التخل ... فباطل
لأن الظن في الأمور الدنيوية، مبني على المشاهدة والتجربة .. هذا يظن فلان كذا وعلان كذا ... والبشر فيه على درجات ... وكلٌّ أعلم بما في صنعته.
واستخدام كلمة لعل أو كلمة أظن ... لا تفيد أمراً ولا نهياً ولا توجيهاً ...
مثال: يبدو عليك الإرهاق، لعلك لم تنام جيداً .... أظنك لم تنام جيداً!!!
أين الأمر أو النهي أو التوجيه؟
فالقياس عليها لرد نصوص من السنة ... باطل
فإن عُلِمَ الفساد لهذا القياس ... فعليهم بالدليل
بارك الله فيكم وحفظكم
ـ[أبوحمزة الدمشقي]ــــــــ[26 - 07 - 07, 06:36 م]ـ
وابن القيم في كتابه (الطب النبوي) يذهب إلى حجية أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم في الطب. وقال: "طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل". ويظهر أن هذه طريقة المحدثين.
للأسف نحن في عصر لايوجد فيه من هو بعلم ابن قيم الجوزية وبلاغته وإلا لم يخرج الكثير ممن يطعنون بالسنة النبوية الشريفة , وبأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله.
أما في قصة تأبير النخل فهذه يكتب عنها صفحات وصفحات في تحليلها وأقول ما أدراه الدكتور الأشقر بأن الله أنطق رسوله بأن يقول لهم ألا يفعلوها يكون خير لهم ويكون بها خراب لمحصولهم الذي هو حياتهم وكل شيئ لديهم حتى يفتنهم بدينهم. لكن لم يسجل التاريخ أي ردة للصحابة أو أي لوم لرسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بأنه خرب بيتوهم بمشورته هذه.
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي. هذه يعرفها العلماء ويعرفون بأن المقصود منها على أن المنزل والمتكلم والذي يمشي بين قومه هو ليس ملاك مبعوث ولكن بشر اختاره الله ليكون نبي للأمة.
ماصح من الأحاديث وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ به حتى ولو ألف مؤلفة من أصحاب الشهادات , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه ربه أما أصحاب الشهادات وأصحاب الكلام أخذوا شهاداتهم من البورد الأمريكي والبريطاني.
أحب أن أضيف شيئا أخير , قد يكون عمري قصيرا وأموت بيومي هذا فأنا اقتربت من الكهولة على كل حال , ولكن لمن قرئ هذا المقال وأمد الله بعمره أقول بالله عليكم تابعوا أخبار الدكتور الأشقر واعلموا بأي مرض مات وهل كان علاجه مما جاء وصفه بأحاديث الطب النبوي.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/290)
ـ[أسامة المصري السلفي]ــــــــ[26 - 07 - 07, 06:54 م]ـ
أحب أن أضيف شيئا أخير , قد يكون عمري قصيرا وأموت بيومي هذا فأنا اقتربت من الكهولة على كل حال.
أخي الحبيب أبو حمزة الدمشقي ... والله إني لأحبك في الله
أطال الله عمرك وأصلح عملك أخي الكريم
الدكتور الأشقر له مكانة علمية على كل حال، فلا أبخسه حقه ... ولكن ... !!!
الإشكال الذي يواجهه أكثر العاملين في حقل الدعوة، ما يشنع به المستشرقين والمبشرين من أهل التنصير ونحوهم ... كمثل العلاج بأبوال الإبل مثلاً
فيلجأ هذا وذاك للرد على هؤلاء ... فينسى أن للعلوم قواعد وضوابط لإضطرابه حال المناظرة وخاصه إذا اشتد عليه الجدال والغلبة ... فيقول مثل هذه المقالة.
ولكن ... الحديث له قواعد تُتَّبع لمعرفة المقبول من المردود، وليس الهوى والظن ليرد النص الشرعي، وإنما العلم بقواعده وأحكامه.
لذا استدركت هذا في مقالتي بـ:
""" التداوي بألبان وأبوال الإبل ... وكنت قد حضرت مجموعة من الأبحاث يقوم بها بعض الأساتذة من أصحاب التخصصات الطبية ... ولديهم بحوث قوية في هذا الشأن ... خلاصتها، أن الذين كانوا يشكون المرض، ووصف لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب أبوال الإبل كانوا يعانون من مرض الصفراء ... وليس الكبد الوبائي كما هو منتشر على ألسن العامة، وهذه الإبل إبل تعيش في الصحراء ... ولها مباحث يُرجَعُ إليها ... وهي مفيدة جداً. """
هذا لأن أمثال هؤلاء، إن جهلوا العلة قد يرفضوا النص أو يظنوا أنه غير ذي فائدة أو كذا أو كذا ... ومتى علموا العلة كان يقيناً لهم ... (وهذا أمر خطير)
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة
ـ[عبدالرحمن الدهشان]ــــــــ[27 - 07 - 07, 11:33 م]ـ
بارك الله فيك(83/291)
الهدية والهبة
ـ[محمد جان التركماني]ــــــــ[23 - 07 - 07, 10:36 ص]ـ
ماالفرق بين الهدية والهبة؟
ـ[عبدالله الوائلي]ــــــــ[23 - 07 - 07, 11:30 ص]ـ
جاء في الموسوعة الفقهية (26/ 324) عند حرف الصاد. مادة صدقة: الألفاظ ذات الصلة: أ - الهبة، والهدية، والعطية، كل منها تمليك بلا عوض، إلا أنه إذا كان هذا التمليك لثواب الآخرة فصدقة، وإذا كان للمواصلة والوداد فهبة، وإن قصد به الإكرام فهدية. فكل واحد من هذه الألفاظ قسيم الآخر. والعطية شاملة للجميع.ا. هـ.
قال النووي: الهبة والهدية وصدقة التطوع أنواع من البر متقاربة يجمعها: تمليك عين بلا عوض.
من شرح الزاد للشيخ محمد المختار الشنقيطي:
الفرق بين الهبة والهدية والعطية
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=audioinfo&audioid=129189
ـ[محمد جان التركماني]ــــــــ[23 - 07 - 07, 01:51 م]ـ
جزاك الله خيرا(83/292)
هل تكون الامة فراشا بالوطء؟
ـ[محمد جان التركماني]ــــــــ[23 - 07 - 07, 01:37 م]ـ
هل تكون الامة فراشا بالوطء؟
ـ[محمد جان التركماني]ــــــــ[24 - 07 - 07, 10:48 ص]ـ
واختلف الفقهاء في الامة فقال مالك:
اذا اقر بوطئها صارت فراشا, فان لم يدع استبراء لحق به ولدها , وان ادعى استبراء حلف وبرىء من ولدها يمينا واحدا , واحتج بعمر بن الخطاب في قوله ,لاتاتي وليدة يعترف سيدها ان قد الم بها الا الحقت به ولدها فارسلون بعد او امسكوهن.
وقال العراقيون لاتكون الامة فراشا بالوطء حتى يدعي سيدها ولدها واما ان نفاه فلا يلحق به سواء اقر بوطئها ام لم يقر , وسواء استبرأ او لم يستبرىء.
ارجوا توضيح قول امام مالك رحمه الله تعالى؟
ـ[محمد جان التركماني]ــــــــ[25 - 07 - 07, 11:51 ص]ـ
[ quote= محمد جان التركماني;638173] واختلف الفقهاء في الامة فقال مالك:
اذا اقر بوطئها صارت فراشا, فان لم يدع استبراء لحق به ولدها , وان ادعى استبراء حلف وبرىء من ولدها يمينا واحدا , واحتج بعمر بن الخطاب في قوله ,لاتاتي وليدة يعترف سيدها ان قد الم بها الا الحقت به ولدها فارسلون بعد او امسكوهن.
وقال العراقيون لاتكون الامة فراشا بالوطء حتى يدعي سيدها ولدها واما ان نفاه فلا يلحق به سواء اقر بوطئها ام لم يقر , وسواء استبرأ او لم يستبرىء.
ارجوا توضيح قول امام مالك رحمه الله تعالى؟(83/293)
هذا التعليق هل يأخذ حكم إيقاعه حكم إيقاع الطلاق في الحيض أو طهر جومعت الزوجة فيه .. ؟؟
ـ[أبو زيد الشنقيطي]ــــــــ[23 - 07 - 07, 04:02 م]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن لدي بحثا في بعض المسائل أريد الاستعانة بعلومكم في بعض جزئياتها ولا يخفى على المشايخ الفضلاء الخلاف الواقع في إيقاع طلاق من طلق امرأته في حيض أو طهر جامعها فيه وقد رجح بعض العلماء عدم إيقاعه كالإمام ابن باز رحمه الله.
ولا يخفى كذلك أن من علق طلاق امرأته بوقوع شيء وقصد الطلاق نفذ طلاقه حين وقوع المعلَّق به ,إجماعاً لكنَّ الإشكال:
إذا حصل ماعُلِّق به الطلاق في زمن حيض المرأة أو طهرها الذي جومعت فيه , فهل يكون وقوع الطلاق حينئذ مترتبا على الخلاف في نفاذ طلاق الحائض أو التي جومعت في طهرها أم ينفذهذا الطلاق المعلق بكل حال .. ؟؟ وكذلك: من قال للمرأة: إن رددتِّ على رقم غير مسجلِ في جوالك فأنت طالق , ثمَّ اتصل عليها رقم غريب وردَّت عليه سهواً, فقد أفتى شيخ الإسلام عليه رحمة الله أن النسيان في فعل ما عُلق به الطلاق لا يؤثر شيئا ولا يؤاخذ به ..
لكن: إذا لم ترد على رقم غريب وأرته لزوجها فقال لها هذا رقم فلانة, ثم عاودت فلانة هذه الاتصال وردت الزوجة عليها وحفظت الرقم في جوالها بعد ذلك فهل تلق باعتبار الرقم ليس مسجلاً عندها أم لا ينفذ باعتباره معلوماً عندها .. ؟؟
وهناك مسألة أخرى أيضا في لشروط في النكاح التي تسبق العقد:
هل لها اعتبار بحكم أنها وقعت قبل العقد الي ينبغي أن يشتمل على الشروط أثناء إجرائه أم أن الالتزام بها واجب باعتبار ما سيكون أثناء العقد من الإشارة إلى ما تم الافاق عليه بين الرفين سابقاً دون تفصيل ذلك .. ؟؟
ـ[أبو زيد الشنقيطي]ــــــــ[26 - 07 - 07, 03:10 م]ـ
أرجو أن يكون مانع المشايخ من الإجابة خيرا ..
أما أنا فقد ظهرت لي رؤية أرجو أن يجعل الله فيها خيرا وأعرضها عليكم:
1 - بالنسبة لحصول المعلق به الطلاقُ في زمن الحض أو طهر جومعت المرأة فيه فالظاهر -والعلم عند الله- ان إيقاع الطلاق فيه يجري عليه نفس خلاف العلماء في حكم طلاق المرأة الحائض أو التي جومعت في طهر خوطبت فيه بطلاق.
2 - في مسألة الجوال هذه:
الغرض من تعليق الزوج طلاق الزوجة على التسجيل فإن كان قصده العلم اليقيني بالرقم وصاحبه حفاظا على الزوجة من إيذاء الأجانب وغيرهم, فإن في عدم ردها أولا وإخباره هو بالرقم ثانيا وتعريفه لها بصاحبة الرقم وإذنه في ردها عليها تحقق ذلك اليقين بمعرفة الرقم فقام ذلك مقام تسجيله في الجوال, ولذي يظهر أنها لا تطلق بذلك, لأن الحكم بطلاقها غير سائغ وهي لم تفعل ما علق زوجها به الطلاق تماما حيث إنها امتنعت من الرد تى أرته الرقم وعرفها به , فصار ردها بعدئذ على غير الوجه الذي قصده هو من التعليق بقوله: (إن رددت على رقم غير مسجل أو رقم غريب).3 -
3 - مسألة الشرط قبل العقد أظن أن الزوجة ما لم تنص في العقد على شرطها فلا حق لها فيه حيث إن الاتفاق قبل العقد ما لم يشر إليه حين العقد لا موجب له على الزوج.
ولا زلت في انتظار آراء وودراسات إخواني المشايخ الفضلاء حول هذه الثلاث مسائل
ـ[أبو زيد الشنقيطي]ــــــــ[10 - 08 - 07, 12:26 م]ـ
ولا زلت في انتظار آراء ودراسات إخواني المشايخ الفضلاء حول هذه الثلاث مسائل
ـ[أبو معاذ الحسن]ــــــــ[10 - 08 - 07, 07:05 م]ـ
اما المسألة الاولى فقد عرضتها على الشيخ
خالد المشيقح فقال ان الطلاق لا يقع في هذه الحالة
وقال لي انه مذهب من يرى عدم وقوع الطلاق في الحيض
وكذا الشيخ دبيان الدبيان ...
ـ[أبو زيد الشنقيطي]ــــــــ[10 - 08 - 07, 11:06 م]ـ
أحسنت وليتك أكملت المسائل خصوصاً مع الشيخين الفاضلين اللذين ذكرتهما وأخص بالذكر المحقق المتميز البارع الشيخ/دبيان الدبيان
ـ[أبو معاذ الحسن]ــــــــ[12 - 08 - 07, 12:42 ص]ـ
المسألة عرضتها على الشيخين قبل ستة أشهر
ـ[مصطفى المدني]ــــــــ[05 - 12 - 07, 05:02 م]ـ
في الشبكة الإسلامية فتوا قريبة من الموضوع هذا ويمكن هي نفسها ووجاوبوه عنها كالتالي:
وأما قولك لزوجتك (إذا رددتي على رقم لا تعرفينه وغير مسجل في جوالك فأنت طالق) فهو من تعليق الطلاق على شرط، وتعليق الطلاق على شرط يقع بوقوع الشرط، وفيه خلاف إذا كان لا يريد الطلاق وإنما يريد التهديد والزجر. وسبق بيانه في الفتوى رقم 5684.
ولكن في هذا السياق لا يترتب عليه طلاق وذلك لأمرين:
الأول: أنك قلت في يمينك (إذا رددتي على رقم لا تعرفينه وغير مسجل)، فظاهر اللفظ أن الطلاق علق على الرد على رقم اجتمع فيه شيئان:
الأول: أنه غير معروف للزوجة، والثاني غير مسجل في الجوال، فإذا كان معروفا للزوجة وغير مسجل، أو كان مسجلا وغير معروف فلا يدخل في النهي ولا يحصل الشرط بالرد عليه، هذا هو مقتضى ظاهر اللفظ، إن أخذنا بالظاهر.
الثاني: أن لهذا اللفظ بساطا ونعني بالبساط الحامل على اليمين والدافع له وهو الخوف من الرد على رجل أجنبي، وهذا البساط يخصص اليمين كما سبق بيانه في الفتوى رقم:53941، وعليه فردها على الرقم المعروف لديها بأنه تابع لأختك، ليس داخلا في اليمين، فلا يقع به الطلاق.
والله أعلم.(83/294)
ما حكم المال الذي اكتسبته من بيع البرامج المنسوخة
ـ[الطيب موسى]ــــــــ[24 - 07 - 07, 04:34 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حياكم الله أخوتي في الله ..
عندي سؤال بارك الله فيكم
انا قمت بنسخ وبيع برامج كومبيوتر لشركة أمريكية , وقد تحصلت على مبلغ كبير يصل إلى 15000 ريال ..
فما حكم هذا المال الذي اكتسبته .. علما ً أني كنت أظن أن أمريكا دولة محاربة
فقمت ببيع برامج تلك الشركة الأمريكية
وغالب برامج هذه الشركة في اللهو المحرم يصل إلى 97%
والبرامج التي قمت ببيعها مباحة
فإن كان ما اكتسبته مال محرم فما العمل .. لأني طالب وليس لي دخل ٌ كي أُرجع المبلغ للشركة ..
علما ً بقي من المبلغ 700 ريال ..
وجزاكم الله خيراً
ـ[الطيب موسى]ــــــــ[26 - 07 - 07, 05:39 ص]ـ
جزاكم الله خيرا ً
شكرا ً لك أخي أبو حمزة الوائلي على هذا التنيبه الذي قد نغفل عنه
وكذلك أشكر بقية الإخوة ..
ولكن لم تجيبوني على أسئلتي ..
أنا لا أدري ما أفعل ..
* هل يجب علي إرجاع المال إلى الشركة؟
* عندما أريد التخلص من المال المتبقى .. وذلك بالصدقة
هل يجوز لي أن أتصدق بها على أبي إن كان محتاجا ً إلى المال؟؟
أتمنى منكم الإجابة الشافية .. لأني محتفظ بـ 700 ريال لمدة تزيد عن سنة ..
ولا أدري ما أفعل؟
ـ[الطيب موسى]ــــــــ[26 - 07 - 07, 07:22 م]ـ
أين أنتم إخواني؟
أنا أنتظر إجابتكم بفارغ الصبر ..
ـ[الطيب موسى]ــــــــ[29 - 07 - 07, 12:42 ص]ـ
أين أنتم يا أخوتي؟
ـ[ابو الفتح المسلم]ــــــــ[29 - 07 - 07, 08:53 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
هناك عدة اسئلة للاخوة الاحباب
1.معلوم ان النسخ العام للبرامج تمنعه الشركات (للتجارة) ... فهل جائز النسخ بعد هذا؟
2. (سواء كانت للكفار أو للمسلمين) فهل يجوزظلم الكفار والاعتداء على حقوق النسخ .. ؟
3. (الاخ الوائلي قال: ((((لكن إذا كانت هذه الأقراص لشركة من دولة محاربة للمسلمين فلا حرج في نسخها)). هات الدليل مأجورا؟؟؟ وصلى الله على محمد ...............
ـ[عبدالله الوائلي]ــــــــ[29 - 07 - 07, 08:59 م]ـ
أبو الفتح .. أخي الفاضل / لم أقل هذا الكلام أنا بل نقلته كله من موقع الاسلام سؤال وجواب للشيخ محمد المنجد حفظه الله.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في هذه المسألة ما يلي:
" يُتبع فيها ما جرى به العُرف، اللهم إلا شخص يريد أن ينسخها لنفسه ولم ينصّ الذي كتبها أولاً على منع النسخ الخاص والعام فأرجو أن لا يكون به بأس، أما إذ نصّ الشخص الذي كتبها أولاً على المنع الخاصّ والعامّ فلا يجوز مطلقا " انتهى كلام العثيمين.
هذا كلام من الموقع نفسه:
وبناء على ذلك: فلا يجوز نسخ الأقراص الخاصة بأنظمة التشغيل وغيرها، ما لم يأذن أصحابها بذلك.
(((لكن إذا كانت هذه الأقراص لشركة من دولة محاربة للمسلمين فلا حرج في نسخها)).
والله أعلم.
ـ[الطيب موسى]ــــــــ[30 - 07 - 07, 06:12 ص]ـ
أتمنى من الإخوة الإجابة على الأسئلة التالية
* هل يجب علي إرجاع المال إلى الشركة؟
* عندما أريد التخلص من المال المتبقى .. وذلك بالصدقة
هل يجوز لي أن أتصدق بها على أبي إن كان محتاجا ً إلى المال؟؟
أنا أنتظر الإجابة(83/295)
هل السدل في الصلاة سنة؟
ـ[أبو حفص الدبوي]ــــــــ[24 - 07 - 07, 06:00 ص]ـ
قال الأزهري (المالكي):
(السدل قوي وجائز وسنة، بل هو الأقوى عندي، ولا أقول بقول الشيخ ابن عزوز بأنه بدعة، بل قوله هذا مردود عليه .. وبودي لو أتحاور مع مطلع في هذه المسألة فأنصر أنا السدل وينصر هو القبض مستشهدا بأقوال الشيخ ابن عزوز مختصرا لها شيئا فشيئا حتى يكون حواري معه كأنه رد على رسالة ابن عزوز هذه والله الموفق، فمن يتطوع من الإخوة؟؟)
ثم قال (كنت من أبعد الناس عن الفقه، ومع أني مالكي فلم يكن شيء أشد علي من قول المالكية بالإرسال، فلم أزل أتعجب من ذلك معتبرا أنه من مخالفتهم للسنة ـ على طريقة السيد أحمد الغماري ـ حتى تقدمت قليلا في العلم وفهمت حجية عمل أهل المدينة عند المالكية، فصرت أعتذر لهم على طريقة ـ المسناوي وابن عزوز والسيد عبدالله ـ ثم لم أزل أنظر وأتقدم في الأمر باحثا المسألة على طريقة أهل الحديث حتى وقفت على الآثار الواردة عن بعض السلف في السدل كالوارد عن عبدالله بن الزبير وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي والحسن وغيرهم فكبر علي الأمر ثم بعد سنين من البحث وقفت على هذا الخبر الذي لم يقف عليه حسب علمي من بحث هذه المسألة، ولم أر من أشار إليه في هذه المسألة قبل الفقير، أسوقه لكم من كتاب تاريخ الحافظ أبي زرعة الدمشقي المتوفى سنة 281هـ قال رحمه الله:
((حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم عن عبد الله بن يحيى المعافري عن حيوة عن بكر بن عمرو: أنه لم ير أبا أمامة - يعني ابن سهل - واضعاً إحدى يديه على الأخرى قط، ولا أحداً من أهل المدينة، حتى قدم الشام، فرأى الأوزاعي، وناساً يضعونه)) اهـ.
هذا إسناد على شرط البخاري من حاول الطعن فيه فليتأهب لأسانيد البخاري، وفيه كما ترون شهادة رجل من العلماء كان إمام المسلمين في مصر، إمام جامعهم ـ يصلون بصلاته ـ يحكي عن أبي أمامة بن سهل ـ وقد قيل عنه صحابي ـ أنه لم يره واضعا يدا على أخرى قط، وأنه لم ير أحدا من أهل المدينة يفعل ذلك، يعني ولا أهل الحجاز، حتى جاء إلى الشام فرأى الأوزاعي وجماعة يفعلون ذلك.
وبكر بن عمرو أقدم من مالك وأسن منه، وقد جاءكم بما كان عليه السلف قبل انتشار القبض، فلو أن القبض هو السنة دون الإرسال لكان أهل مدينة رسول الله أسرع الناس إلى ترك سنته من بعده، فليتق الله عبد نظر في هذا الخبر أن يلبس السلف وأهل المدينة وأهل بيت نبيهم وصحبه ترك السنة وهجرها، والله الموفق)
ثم نقل له أحدهم هذا الحديث (هل رواية أبي زرعة رحمه الله تتعارض مع هذه الرواية المدنية:
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الأنصاري قال
كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة قال أبو حازم لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال إسماعيل ينمى ذلك ولم يقل ينمي.
رواها البخاري وأحمد ومالك في الموطأ.)
فرد عليه بهذا (يبدو لأول وهلة أن هذه تعارض تلك، فمن لم يفهم كيف ينظر في الأخبار ويحل مشكلها توهم أن هذا يعارض ذاك، وخبر سهل مؤيد للخبر الذي أوردناه في عمل أهل المدينة، وذلك أن سهلا قال: (كان الناس يؤمرون)، فقوله (كان) دال على أنه أمر قد كان، وليس فيه أن ذلك الأمر قد كان واستمر كائنا إلى أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وخبر بكر بن عمرو دال على أن القبض ترك في المدينة ولم يعد له وجود ظاهر، فمن ضعف علمه قال: إن أهل المدينة تركوا ما كانوا قد أمروا به وخالفوا سنة نبيهم! ومن عقل وعرف فضل السلف قال: قد كانوا يؤمرون ثم ترك ذلك الأمر، أو كان آخر الأمرين من رسول الله ترك القبض، أو ترك الأمر به والالتزام به، فاقتدى به السلف من أهل مدينته صلى الله عليه وسلم فتركوه ..
ألا ترى سهلا قال: (يؤمرون) وليس أحد من أهل العلم قال بأن هذا أمر واجب، ولو كان حديث سهل محكما غير منسوخ ولا متروك وأنه على ظاهره لوجب أن يكون وضع اليمين على الشمال أمرا حتما لا زما أي واجبا يأثم تاركه، وقد أجمع أهل العلم القائلون بالقبض أنه سنة وليس بواجب فوجب ألا يكون الأمر الوارد في خبر سهل محكما ووجب أن يكون قد حدث بعده ما جرأ أهل المدينة على الإرسال ..
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم سن مخالفتهم كما في مسألة فرق الشعر، فقد روى البخاري وغيره عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَاأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
((كَانَ يَسْدِلُ شَعَرَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ فَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ)) اهـ.
وفي مصنف بن أبي شيبة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة).
وفيه عن مجاهد أنه كان يكره أن يضع اليمنى على الشمال يقول على كفه أو على الرسغ ويقول فوق ذلك ويقول أهل الكتاب يفعلونه.
فلا يبعد أن يكون أمر القبض والإرسال قد كان من هذا الباب، فإذا كان أهل الكتاب يفعلون ذلك القبض في صلاتهم فلا يبعد أن يكون النبي وافقهم أولا ثم ترك ذلك، فأخذ عنه بعض قدماء أصحابه الوجه الأول دون الثاني ورحل إلى قومه، والاختلاف في تفسير الترك على أي وجه هو أمر آخر لا يلزم منه نسخ القبض بمرة عند من يرى القبض، وعليه لا تعارض بين خبر سهل وخبر بكر بن عمرو، والله أعلم.)
أرجو منكم توضيح المسألة ..
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(83/296)