يذكر ابن عاشور (1) لطيفة حول إضافة سبحان إلى اسم الجلالة العَلَم - مع أنّ المقام مقام إضمار بعد أن قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} دون أن يقول سبحانه فعلّل ذلك بقوله: "لأنّ اسم الجلالة مختص به تعالى وهو مستحق للتنزيه بذاته؛ لأنّ استحقاق جميع المحامد ممّا تضمنّه اسم الجلالة في أصل معناه قبل نقله إلى العَلَمية" (2) .
مطلب في صلة ما بعد التسبيح به وبما قبله:
- إنّ موقع هذه الجملة الكريمة التي يسبِّح الله فيها ذاته المقدّسة معترضة بين المتعاطفين من قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} وما جاء بعدها من قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
__________
(1) هو محمد الطاهر بن عاشور رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس، مولده ووفاته ودراسته بها، عُيِّن عام 1932م شيخاً للإسلام مالكياً، وهو من أعضاء المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة، ولد عام 1296هـ وتوفي 1393هـ، له مصنفات مطبوعة من أشهرها: مقاصد الشريعة الإسلامية، أصول النظام الإجتماعي في الإسلام، تفسير التحرير والتنوير. (انظر: الأعلام للزركلي ج6 ص174) .
(2) التحرير والتنوير لابن عاشور: ج20 ص166.
(3) سورة القصص: الآيات (69_70) .(47/61)
وهاتان الآيتان بعدها فيهما مزيد تنزيه لله -تبارك وتعالى- وثناء عليه؛ فإنّه - عزّ وجلّ - بعلمه لما تخفيه صدورهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم فهو المستحقّ والمنفرد بأن يختار لهم ما يشاء دون سواه، وبالتالي فهي أيضاً بمثابة علّة للاختيار.. والآية التي تتلوها كذلك هي في ذات موضوعها وتؤكِّده؛ وذلك بما جاء فيها من إثبات ألوهيته تعالى وأنّه المنفرد بالوحدانية، وأنّ جميع المحامد إنّما تجب له دون غيره، وأن لا حكم إلاّ له دون مشاركة فيه لغيره وإليه من بعد المرجع والمصير (1) . والله أعلم بمراده.
المبحث السابع: في آية سورة الروم:
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
مطلب في بيان ما قبل التسبيح بالآية.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي ج13 ص307؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج20 ص166.
(2) سورة الروم: الآية (40) ، وقرأ حمزة والكسائي {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} بالتاء على الخطاب، وقرأ الباقون بالياء على الغيبة (انظر: حجة القراءات لابن زنجلة ص559-560) .(47/62)
- في هذه الآية الكريمة يخاطب الله - عزّ وجلّ- المشركين معرّفاً لهم قبح فعلهم وخبث صنيعهم، وذلك بأن أثبت لوازم ألوهيته وخواصّها التي لا ينبغي أن تكون إلاّ له؛ وهم يجعلون معه غيره {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ، ثمّ يقول مؤكِّداً هذا المعنى بإنكار عليهم وتقريع لهم على جهة الاستفهام (1) {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} ؟!. وهو في معنى النفي (2) . ومعلوم أنّهم يقولون إجابة عن هذا الاستفهام: ليس منهم من يفعل شيئاً من ذلك، وبذلك تقوم عليهم الحجة بما دلّ عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق (3) فإذن كيف يُعبد من دون الله من لايفعل شيئاً من ذلك؟!
لطيفة:
أضيف (شركاء) إلى ضمير المخاطبين من المشركين في قوله تعالى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} ؛ لأنّ المخاطبين هم الذين خلعوا عليهم وصف الشركاء لله تعالى؛ فكانوا شركاء بزعم المخاطبين وليسوا شركاء على الحقيقة، وهذا جارٍ أيضاً مجرى التهكّم بهم (4) .
ولطيفة أخرى:
__________
(1) انظر: تفسير الطبري ج21 ص31؛ تفسير القرطبي ج14 ص40؛ تفسير أبي السعود ج7 ص62؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص220.
(2) يقول ابن عاشور: "استفهام إنكاري في معنى النفي، ولذلك زيدت (من) الدالة على تحقيق نفي الجنس كلّه في قوله (من شيء) والمعنى: ما من شركائكم من يفعل شيئاً من ذلكم" (التحرير والتنوير: ج21 ص107) .
(3) انظر: تفسير أبي السعود ج7 ص62.
(4) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج21 ص108.(47/63)
ذكرت في هذه الآية الكريمة (مِن) ثلاث مرات، فالأولى في قوله (هل من شركائكم) بيانية، وهي بيان للإبهام الذي في قوله (من يفعل) . أو هي تبعيضية صفة لمقدّر أي هل أحد من شركائكم؟.والثانية في قوله (من ذلكم) تبعيضية في موضع الحال. وأمّا الثالثة فهي في قوله (من شيء) مزيدة لتعميم المنفي واستغراق النفي له (1) .
مطلب: في بيان موضع التسبيح وغايته:
بعد أن أقام الله تعالى الحجة على المشركين - بما ذكره من خوّاص إلهيته ولوازمها ومن الإنكار عليهم باستفهام معنيّ به النفي وهم يعلمون حقيقة ما فيه في أنفسهم وواقع حياتهم- نزه سبحانه نفسه عن شركهم وأتبعه بمزيد التنزيه من ذكر علوّها عنه وعمّا يفترونه عليه بزعمهم أنّ آلهتهم له شركاء إذ قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
- وعلى هذا فموقع التسبيح هنا موقع النتيجة لما قبلها.
يقول أبو السعود في تفسيره: "ثمّ استنتج منه تنزهه عن الشركاء بقوله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) .
وقال ابن عاشور أيضاً بما يشير إلى هذه العلاقة عن جملة التسبيح أنها "مستأنفة لإنشاء تنزيه الله تعالى عن الشريك في الإلهية، وموقعها بين الجملتين السابقتين موقع النتيجة من القياس" (4) .
لطيفة:
__________
(1) انظر: تفسير أبي السعود ج7 ص62؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج21 ص107_108.
(2) انظر: تفسير الطبري ج21 ص31.
(3) تفسير أبي السعود: ج7 ص62.
(4) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: ج21 ص108.(47/64)
ذكر الآلوسي (1) لطيفة في وجه التعبير بالمضارع في قوله {عَمَّا يُشْرِكُونَ} حيث قال: "والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة، أو للإشعار باستمراره وتجدده منهم" (2)
المبحث الثامن: في آية سورة الزمر:
- قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) .
مطلب في بيان ما قبل التسبيح:
- الواو في أوّل الآية لعطفها على ما قبلها؛ ذلك أنّه لمّا جرى الكلام على أنّ الله تعالى خالق كل شيء وأنّ له مقاليد السموات والأرض وهو ملك عوالم الدنيا، وجاء من بعد التذييل بأنّ الذين كفروا بالله هم الخاسرون؛ انتقل الكلام – هنا - إلى ذكر عظمة ملكه -تعالى- في العالم الأخروي؛ وأنّ الذين كفروا بآيات الله الدالة على ملكوت الدنيا قد خسروا بترك النظر؛ فلو اطّلعوا على عظيم ملك الله في الآخرة لقدّروه حقّ قدره (4) .
__________
(1) هو محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، شهاب الدين، أبو الثناء: مفسر ومحدث وأديب، من أهل بغداد مولده ووفاته بها، كان سلفي الاعتقاد مجتهداً تقلد الإفتاء ببلده عام 1248هـ، وعزل فانقطع للعلم ثم سافر في 1262هـ إلى الموصل فالآستانة ومرّ بماردين وسيواس ثم عاد إلى بغداد إلى أن توفي بها، ونسبته إلىجزيرة (آلوس) في وسط الفرات. ولد عام 1217هـ وتوفي عام 1270هـ من أشهر كتبه: روح المعاني، المقامات (انظر الأعلام للزركلي: ج1 ص176) .
(2) تفسير الآلوسي (روح المعاني) : ج21 ص47 ,
(3) سورة الزمر: الآية (67) .
(4) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: ج24 ص64.(47/65)
- فقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} أي ما عظّموه حقّ عظمته، ولا عرفوا جلاله حقّ معرفته؛ إذ جعلوا له شركاء وسوّوا بينهم وبينه ووصفوه بما لايليق به وبشؤونه الجليلة، وكيف يكون ذلك منهم والحال (1) أنّ الله - عزّ وجلّ - هو العظيم الذي لا أعظم منه، وهو القادر على كلّ شيء. وكلّ شيء تحت قهره وقدرته وإرادته، وهذا ما بيّنه قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} إذ فيه تنبيه على غاية عظمته وكمال قدرته (2) .
__________
(1) قال الشوكاني في فتح القدير: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) في محل نصب أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنّه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة (والسموات مطويات بيمينه) حال كالتي قبلها (ج4 ص458) .
(2) انظر: تفسير الطبري ج24 ص17؛ تفسير القرطبي ج16 ص277؛ تفسير ابن كثير ج4 ص62؛ تفسير أبي السعود ج7 ص262؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص458؛ محاسن التأويل للقاسمي ج14 ص217؛ تفسير السعدي ج6 ص493.(47/66)
- وإنّ السبيل في بيان وإيضاح هذا النّص الكريم هو الالتزام بمذهب السلف بإمراره والإيمان به كما جاء من غير تكييف ولا تأويل ولا تحريف ولا تمثيل، وتفويض حقيقة معناه إلى الله تبارك وتعالى. هذا وقد رويت أحاديث عديدة في معنى هذا النصّ الكريم منها ما رواه البخاري (1) في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنّا نجد أنّ الله عزّ وجلّ يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه (أضراسه) تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
__________
(1) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، أبو عبد الله، صاحب الجامع الصحيح _ التاريخ _الضعفاء _الأدب المفرد. ولد في بخارى ونشأ يتيماً، وقام برحلة طويلة (سنة 210هـ) في طلب الحديث، فزار خراسان والعراق ومصر والشام، وسمع من نحو ألف شيخ، وجمع نحو ست مائة ألف حديث اختار منها في صحيحه ما وثق برواته، وأقام في بخارى فتعصّب عليه جماعة ورموه بالتهم فأخرج إلى خرتنك (من قرى سمرقند) فمات بها. ولد عام 194هـ وتوفي 256هـ. (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ج2 ص122؛ تهذيب التهذيب لابن حجر ج9 ص41-47؛ طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ج1 ص271-279؛ الأعلام للزركلي ج6 ص34) .
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب التفسير _باب (وما قدروا الله حق قدره) حديث 4811، ج8 ص550_551.(47/67)
ومنها ما رواه البخاري (أيضاً) بسنده أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملِك، أين ملوك الأرض؟ " (1) .
وهذان الحديثان الشريفان وغيرهما ممّا ورد في معناهما وبما يقارب نصّهما نؤمن بما جاء فيها ونمرّها كما جاءت على مثل ماهو الشأن في نصّ الآية الكريمة. وهذا هو ما عليه مذهب أهل السنة والجماعة. والله أعلم بمراده.
لطيفة: تأكيد الأرض بقوله (جميعاً) (2) لأنّ المراد بها الأرضون السبع مطابقة لما قال بعدها (والسموات) ، أو المراد جميع أبعاضها البادية والغائرة (3) .
مطلب: في وجه ختم الآية بتسبيح الله ذاته:
- ختم الله هذه الآية الكريمة بتسبيح ذاته العليّة لما فيه من التأكيد لمعنى ما جاء فيها من قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} فإنّه تبارك وتعالى ينزه ذاته عن المعبودات التي يجعلونها شركاء له أو عن شركهم مع كونه سبحانه صاحب القدرة العظيمة والحكمة الباهرة، أي فما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عمّا يشركونه من الشركاء (4) .
- ثمّ إنّ ما جاء بعد التسبيح من قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ... } الآيات (5) .
__________
(1) فتح الباري: كتاب التفسير _باب (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) _حديث (4812) ، ج8 ص551.
(2) في التحرير والتنوير لابن عاشور: (جميع: أصله اسم مفعول مثل قتيل، وبذلك استعمل توكيداً مثل (كلّ) و (أَجمعَ) [ج24 ص61] .
(3) انظر: تفسير أبي السعود ج7 ص262_263.
(4) انظر: تفسير أبي السعود ج7 ص263؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص458؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج24ص 64.
(5) سورة الزمر: الآيات (68_75) .(47/68)
يدلّ على معنى التأكيد المراد وذلك لما فيها من الانتقال من إجمال عظمة القدرة الإلهية يوم القيامة إلى تفصيلها (1) .. ولا ريب أنّ هذا داعٍ إلى مزيدٍ من تنزيهه سبحانه عما يشركون. والله أعلم.
المبحث التاسع: في آية سورة الطور:
قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
مطلب في بيان الآية ووجه الصلة بما قبلها:
هذه الآية الكريمة بما جاء في خاتمتها من تسبيح الله ذاته العليّة تأتي في ختام حملة متلاحقة قوية -ضد المشركين- تدحض كلّ ما يقابلها من شبهة واهية تشبثوا بها أو حجة تمسّكوا بها.. وابتدأت هذه الحملة في جولاتها ب (أم) الاستفهامية التي يقصد منها التوبيخ والإنكار (3) . وكانت هذه الآية هي الجولة الثالثة عشر التي اتسمت بهذا الأسلوب في هذه السورة، وبها جُرِّد المشركون من كلّ شبهاتهم وحججهم التي لا أساس لها من الصحة والواقع. يقول ابن عاشور: "هذا آخر سهم في كنانة الردّ عليهم، وأشدّ رمي لشبح كفرهم، وهو شبح الإشراك، وهو أجمع ضلال تنضوي تحته الضلالات وهو إشراكهم مع الله آلهة أخرى.." (4) .
وهذه الجولة الخاتمة تعتبر المقصود الأعلى لهذه الآيات المتلاحقة إذ هي في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية.
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير ج24 ص64.
(2) سورة الطور: الآية (43) .
(3) انظر: تفسير البغوي ج4 ص242؛ تفسير ابن كثير ج4 ص244؛ حاشية الجمل على الجلالين ج4 ص221.
(4) التحرير والتنوير لابن عاشور: ج27 ص78.(47/69)
وإنّ المتأمِّل في الآيات السابقة من قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (1) يجدها قد جاءت مرتبة متدرجة تفضي كلّ منها إلى ما بعدها لتحقيق المقصود، ولسامعها المتأمّل الطالب للهدى والحق سبيلاً واضحاً مبرهناً للإيمان بالله. ولذلك ورَد أنّ جبير بن مطعم رضي الله عنه كان من سبب دخوله في الإسلام سماعه لهذه الآيات ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. وفيه ما روى البخاري في صحيحه بسنده إلى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلمَّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير" (2) .
- وحاصل معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ} نفي الحصول من أصله أي ليس لهم في الواقع إله غير الله (3) .
مطلب: في بيان موضع التسبيح وغايته:
__________
(1) سورة الطور: الآية (30) والمراد إلى آية (43) .
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب التفسير، حديث (4854) ج8 ص603. وقوله (كاد قلبي أن يطير) قال فيه الخطابي: كأنّه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه. ثمّ قال في آخر كلامه: ومال إلى الإسلام أي بسببها. (فتح الباري ج8 ص603) وعند ابن كثير: أنّ هذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به، وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى وكان إذ ذاك مشركاً فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام من بعد ذلك (ج4 ص244) .
(3) انظر: حاشية الجمل مع الجلالين ج4 ص221.(47/70)
تنزيه الله ذاته الكريمة ههنا بمثابة الإتمام والتنهية للمقصود الأعلى الذي تصدّرت به الآية. وبه يكمل فضح حال المشركين وإلزامهم الحجة والبرهان وأن لم يبق لهم من بعد عذر (1) .
قال ابن كثير في تفسيره: "ثمّ نزه الله نفسه الكريمة عمّا يقولون ويفترون ويشركون فقال {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} " (2) .
المبحث العاشر: في آية سورة الحشر:
قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) .
مطلب في بيان ما قبل التسبيح وصلته:
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج27 ص78؛ فتح القدير للشوكاني ج5 ص102.
(2) تفسير ابن كثير: ج4 ص244.
(3) سورة الحشر: الآية (23) .(47/71)
الذي يلاحظ في هذه السورة الكريمة أنّه قد جاء في خاتمتها ثلاث آيات تضمنت ذكر عدد من أسماء الله وصفاته الحسنى بصورة متتابعة لم تذكر في مثلها من آيات القرآن الكريم. ولعلّ المتأمل يسأل عن سرّ ذلك. وقد اجتهد صاحب التحرير والتنوير في بيان هذا الأمر وأرى أنّه قد أصاب في اجتهاده وأجاد، والله أعلم بالمراد، فقال رحمه الله تعالى: "لمّا تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرّة، منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهر أو صفاته العليّة، وكان ما تضمّنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرّفه وحكمته، وكان ممّا حوته السورة الاعتبار بعظيم قدرة الله إذ أيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرهم على بني النضير ذلك النصر الخارق للعادة، وذِكر ما حلّ بالمنافقين أنصارهم، وقوبل ذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله الذين نصروا الدين، ثمّ الأمر بطاعة الله والاستعداد ليوم الجزاء والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدالّ على الخير والمعرّف بعظمة الله المقتضية شدّة خشيته عقَّب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد من خشيته، وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته، وزيادة في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته.." (1) .
- وإنّمّا تعرّضت لذكر هذه المقدمة باعتبار أنّ هذه الآية الكريمة التي ختمت بتسبيح الله ذاته متعلّقة بما قبلها في ذكر سلسلة من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. فكان لا بدّ من الوقوف على وجه الحكمة في ذلك، ولارتباط غاية مجيء التسبيح بذكر أسماء الله تعالى ههنا.
__________
(1) التحرير والتنوير لابن عاشور: ج28 ص117_118.(47/72)
- وتبدأ هذه الآية الكريمة كسابقتها بقوله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} وهذا التكرار للاستئناف لأنّ المقام مقام تعظيم وهو من مقامات التكرير، وفيه -أيضاً- اهتمام بصفة الوحدانية له تعالى. أي هو الإله المعبود الذي لا تصلح العبادة إلاّ له.
ثم يجيء بعد هذا ذكر أسماء وصفات له أخرى غير ما ذكر في الآية قبلها (الملك) أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة (القدوس) أي المبارك (السلام) أي من جميع العيوب والنقائص (المؤمن) أي الذي أمن خلقه من أن يظلمهم (المهيمن) أي الشاهد على خلقه بأعمالهم (العزيز) أي الذي قد عزّ كل شيء فقهره وغلب الأشياء فلا ينال جنابه (الجبار) أي المصلح أمور خلقه المتصرّف فيهم بما فيه صلاحهم (المتكبِّر) أي عن كلّ شرٍّ وسوء (1) .ومن بعد هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا يسبح الله نفسه الكريمة وهو ما سأبينه في المطلب القادم.
مطلب: في بيان التسبيح وغايته:
- ينزه الله تعالى ذاته العليّة عن شرك المشركين وعمّا اتخذوهم من شركاء له سبحانه، وذلك إثر تعداد بعض صفاته وأسمائه الحسنى التي لا يمكن أن يشاركه في شيء منها شيء أصلاً ممّا يدَّعونه شركاء له عزّ وجلّ.. وفي هذا إشارة للتعجيب من حالهم في إثبات شريك لله بعد ما عاينوا هذه الأسماء والصفات بآثارها وحقائقها ودلائلها، وبمعنى آخر مقارب أنّه لمّا تقرّر بما ذكر الله تعالى من أسمائه وصفاته كمال عظمته وجلال كبريائه ممّا ينتج عنه تنزهه وتعاليه عن شوب نقص لا سيما عن الشرك؛ نزه الله ذاته عنه داعياً عباده بذلك إلى تنزيهه وتعظيمه؛ ومتعجباً من حال من أشرك به وهو المنفرد بصفات الكمال والجلال (2) .
__________
(1) انظر: تفسير الطبري ج28 ص36_37؛ تفسير ابن كثير ج4 ص343.
(2) انظر: تفسير أبي السعود ج8 ص234؛ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ج7 ص542؛ تفسير روح البيان للبرسوي ج9 ص466؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج28 ص123.(47/73)
- وللفخر الرازي كلام في بيان غاية مجيء التسبيح ههنا، ولكني أرى أنّه قد حصر ذلك في جانب واحد بقضية معيّنة، والأوْلى ما ذُكِر سابقاً لإفادته العموم وهو الأنسب والله أعلم. وذلك قوله: "كأنّه قيل: إنّ المخلوقين قد يتكبرّون ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف -أي المتكبر- لكنّه سبحانه منزه عن التكبرّ الذي هو حاصل للخلق لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم، فادّعاؤهم الكبر يكون ضمّ نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي، أمّا الحق سبحانه فله العلوّ والعزّة، فإذا أظهره كان ذلك ضمّ كمال إلى كمال، فسبحان الله عما يشركون في إثبات صفة المتكبرية للخلق" (1) .
- وبهذا ينتهي الكلام حول هذا الموضع وبه يتم هذا الفصل والحمد لله رب العالمين.
الفَصْل الثّاني: تَسْبِيْحُ اللهِ ذَاتَه العَلِيّة عن الوَلَد
المبحث الأول: في آية سورة البقرة:
قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) .
مطلب في بيان موضع التسبيح وغايته:
__________
(1) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج29 ص294.
(2) سورة البقرة: الآيتان (116-117) .(47/74)
ينزّه الله تعالى ذاته الكريمة إثر إخباره عن قول اليهود والنصارى ومشركي العرب بأنّه اتخذ ولداً. فاليهود قالوا عزيز ابن الله، والنصارى قالت المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا إنّ الملائكة بنات الله. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فأكذب الله جميعهم منزهاً ذاته العليّة عن دعواهم باتخاذه الولد بقوله: (سبحانه) وفيه إشارة إلى أنّ الولدّية نقص في حق الله تعالى وكمال شأنه؛ وإن كانت كمالاً في حقّ غيره من حيث إنّها تسدّ بعض نقائصه عند عجزه وفقره وتسدّ مكانه عند اضمحلاله وذهابه، والله منزه عن جميع ذلك، ولو كان له ولد لآذن بالحدوث والحاجة والعجز (1) .
لطيفة: إنَّ في الإتيان بلفظ (اتخذ) تعريضاً بالاستهزاء بهم بأنّ كلامهم لا يلتئم لأنّهم أثبتوا ولداً لله ويقولون اتخذه الله؛ والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدّية؛ إذ الولديّة تولّد بدون صنع، فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لامحالة (2) .
ولطيفة بلاغية:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير ج1 ص160؛ تفسير الخازن ج1 ص100؛ فتح القدير للشوكاني: ج1 ص198؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج1 ص685.
(2) التحريرر والتنوير لابن عاشور: ج 1 ص684، وانظر روح المعاني للآلوسي ج 1 ص368.(47/75)
يُلاحظ أنّ متعلّق (سبحانه) محذوف ههنا؛ وذلك لدلالة الكلام عليه، وفيه من الإيجاز ما لا يخفى. وقد أظهر في غيرها لما يقتضيه السياق مثل قوله تعالى في آية سورة النساء: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ... } الآية (1) .
مطلب: في بيان ما بعد التسبيح وصلته:
بعد أن نزه الله ذاته العليّة عن اتخاذ الولد شرع في الردّ عليهم بأربع حجج يتبع بعضها بعضاً، وابتدأه بحرف (بل) الدالّ على الإضراب عن مقالتهم الشنيعة تمهيداً لإبطالها والردّ عليها وعلى ما تقتضيه من التشبيه بالمخلوقات المحدثة في تناسلها وحاجتها إلى الولد، وفي سرعة فنائها اللازم لتلك الحاجة (2) .
- أمّا الحجة الأولى فهي في قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؛ ذلك أنّ الله تعالى بيّن - ههنا- أنّ جميع ما في السموات والأرض مملوك له؛ ومن جملتهم من ادّعوا أنّه ولد لله، والولادة تنافي الملكية لأنّ الوالد لايملك ولده (3) .
__________
(1) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج4 ص23؛ روح المعاني للآلوسي ج1 ص368. والآية في سورة النساء رقم (171) وهي قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .
(2) انظر: روح المعاني للآلوسي ج1 ص368_369؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج1 ص685.
(3) انظر: البحر المحيط لأبي حيان ج1 ص363.(47/76)
والحجة الثانية في خاتمة الآية {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ولقد فصلت لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يُظنّ أنّها مكمّلة للدليل والحجة من قوله تعالى قبلها {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) .ودليل هذه الحجة على انتفاء الولد من حيث أنّ القنوت - وهو لزوم الطاعة مع الخضوع - هو من شعار العبيد، أمّا الولد فله إدلال على الوالد؛ وإنّما يبرّ به ولا يقنت، فكان إثبات القنوت لله - تعالى - نفي للولد عنه من هذا الوجه (2) .
وتأتي الحجة الثالثة في الآية الثانية بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ومعنى هذه الجملة الكريمة أنّ الله خالق السموات والأرض على غير مثال سابق، ووجه الحجة - ههنا- أنّه لمّا كان الله عزّ وجل مبدع السموات والأرض وخالقهما، كان أحرى أن يكون ما فيهما من مخلوق من مبدعهما سبحانه، ولكن ذكرهما للتنبيه على عظمة خلقهما كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ... } الآية (3) . وعلى هذا فكيف يُجعل له شبيه من خلقه؟! لأنّ الولد مستخرج شبيه بما استخرج من عينه، والله سبحانه ليس له نظير ولا شبيه ولا مثيل، وما جعلوه ولداً له إنّما هو داخل في ما خلقه وأوجده {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج1 ص685.
(2) انظر: تفسير الخازن ج1 ص100؛ التحرير والتنوير ج1 ص685.
(3) سورة غافر: الآية (57) .
(4) سورة الشورى: الآية (11) . وانظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ج1 ص229؛ البحر المحيط لأبي حيان ج1 ص364؛ تفسير الخازن ج1 ص100؛ فتح القدير للشوكاني ج1 ص198؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج1 ص687.(47/77)
وأمّا الحجة الرابعة والأخيرة فجاءت في قوله عز وجلّ: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ووجه الاستدلال ههنا على أنّه سبحانه لا يتخذ ولداً ما بينته هذه الجملة الكريمة أنّه تعالى إذا أراد أمراً وقدّره من أمر الكائنات كلها أو أحكمه وحتّمه فإنما يقول له كن فيكون ذلك الأمر على ما أراد الله تعالى وجوده، أي يكوّن الكائنات كلها بتكوين واحد وكلّها خاضعة لتكوينه سبحانه (1) .
وفي هذه الحجة كشف لشبهة النصارى حيث توهموا أنّ مجيء عيسى – عليه السلام - من غير أب دليل على أنه ابن الله، فبيّن الله أن تكوين أحوال الموجودات راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامّة أو ناقصة أو بلا واسطة. قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} (2) فليس تخلّق عيسى عليه السلام من أمّ دون أب بموجب كونه ابناً لله تعالى (3) .
__________
(1) انظر: تفسير الخازن ج1 ص100؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج1 ص687.
(2) سورة آل عمران: الآية (59) . والظاهر في قوله {كُنْ فَيَكُون} المعنى الحقيقي، وأنّه تعالى يقول هذا اللفظ (كن) فيكون ما أراده، وليس في ذلك مانع، ولا جاء ما يوجب تأويله، ومن قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سورة يس الآية (83) . وهذا هو الصحيح والله أعلم. (انظر: فتح القدير للشوكاني ج1 ص198) .
(3) التحرير والتنوير لابن عاشور: ج1 ص687.(47/78)
وأختم كلامي في هذا المبحث بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: كذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إيّاي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمّا شتمه إيّاي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً" (1) .
قال ابن حجر في شرحه للحديث: "إنّما سمّاه شتماً لما فيه من التنقيص لأنّ الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثاً له على ذلك، والله سبحانه منزه عن جميع ذلك" (2) .
المبحث الثاني
في آية سورة النِّساء:
قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} . (3) .
مطلب: في بيان ما قبل التسبيح:
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري. كتاب التفسير (2) سورة البقرة (8) باب (وقالوا اتخذ الله ولداً) حديث رقم (4482) .ج8 ص168.
(2) فتح الباري: ج8 ص168.
(3) سورة النساء: الآية (171) .(47/79)
- في هذه الآية الكريمة ينهى الله - عزّ وجل- أهل الكتاب من النصارى خاصة عن الغلوّ والإطراء ومجاوزة الحدّ، وهذا كثير فيهم حيث رفعوا عيسى عليه السلام فوق المنزلة التي أعطاه الله إيّاها، فنقلوه من حيّز النبوة إلى الألوهية، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه فادّعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه وذلك قوله عزّ وجلّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} .. ونهاهم أيضاً ألاّ يفتروا عليه ويجعلوا له صاحبة وولداً وهو قوله: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ} ، ولهذا قال بعده {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ} .أي إنّما هو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه قال له كن فكان، رسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربّه عزّ وجلّ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم والجميع مخلوق لله عزّ وجلّ فهو مخلوق من روح مخلوقة، وإضافة الروح إلى الله على وجه التشريف.
- وبعد أن بيّن الله حقيقة عيسى عليه السلام أمرهم بالإيمان به وبرسله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي فصدقوا بأنّ الله واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله، ولهذا قال تعالى بعد ذلك {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين.
ومن جهل النصارى وكفرهم أنهم اختلفوا على طوائف في شأن عيسى عليه السلام فمنهم من يعتقده إلهاً، ومنهم من يعتقده شريكاً ومنهم من يعتقده ولداً.. فهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة وأقوال غير مؤتلفة، ولقد أجاد أحد المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشرة قولاً.(47/80)
- ثمّ أكد الله تعالى نهيه بقوله: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} أي اتركوا وتخلوا عن اعتقاداتكم الباطلة وادّعاءاتكم الفاسدة يكن خيراً لكم.
- ونزه الله تعالى من بعد ذلك ذاته عن قول النصارى بالتثليث فأثبت وحدته في الإلهية بأسلوب القصر {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1) .
مطلب: في بيان موضع التسبيح وصلته بما بعده:
- وبعد أن نزه الله نفسه عن الشريك بقوله {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} نزه نفسه عن الولد الذي هو منشأ التثليث عند النصارى فقال: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} ومع ما تفيده كلمة (سبحانه) من قوة التنزيه لله تعالى، فإنها تدلّ أيضاً على غلط من قال بأنّ لله ولداً (2) .
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير ج1 ص589-591؛ تفسير القرطبي ج6 ص25؛ تفسير الخازن ج1 ص627-628.
(2) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج6 ص58.(47/81)
والتعبير بهذه الجملة في التنزيه عن الولد {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} يشعر باستحالة هذا الأمر على الله عزّ وجلّ، فإنّ الإلهية تنافي الكون أباً واتخاذ ابن لاستحالة الفناء والاحتياج والانفصال والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى. والبنوة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأنّ النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع، والناس يتطلبونه لذلك، وللإعانة على لوازم الحياة، وفيها انفصال المولود عن أبيه، فأبوه مماثل له لا محالة (1) . وفي معنى هذا قال البغوي (2) : "اعلم أنّ التبنيّ لا يجوز لله تعالى؛ لأنّ التبني إنما يجوز لمن يتصور له ولد" (3) .ومن ثم تنوعت الحجج في نفي الولد عن الله ودارت حول هذه الأمور.
- وههنا تتكرر الحجة التي سبق ذكرها في آية سورة البقرة، وهي في موضع التعليل لجملة التنزيه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فمادام أنّ له ما في السموات وما في الأرض فإنه قد استغنى عن الولد، ولأنّ من يزعم أنّه ولد له هو ممّا في السموات والأرض كالملائكة أو عيسى عليه السلام فالكل عبيده وليس الابن بعبد؛ إذ الولادة تنافي الملكية كما بينا في المبحث السابق (4) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج6 ص58.
(2) هو الحسين بن مسعود بن محمد، الفرّاء، أبو محمد، ويلقب بمحيي السنة (436-510 هـ) : فقيه، محدث، مفسر، نسبته إلى "بغا" من قرى خراسان، ومن أشهر كتبه: " شرح السنة – لباب التأويل في معالم التنزيل". (انظر: وفيات الأعيان ج1 ص145؛ الأعلام للزركلي ج2 ص259) .
(3) تفسير البغوي: ج1 ص502.
(4) انظر: المرجع السابق ج6 ص58.(47/82)
- وختمت الآية بحجة ثانية وهي ما جاءت في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} وذلك أنّ الذي بيده حفظ السموات والأرض وما فيهما؛ وإليه تصريف أمورهما وتدبيرهما، والخلق كلّهم أمورهم إليه، وهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.. فمن كان شأنه ذلك هل يحتاج إلى ولد يعينه، بل الخلق العاجزون عن كفاية أمرهم هم الذين يحتاجون إلى من يعينهم ويساعدهم. وهذه الحجة التي عبّر عنها النسفي في تفسيره موجزاً حيث قال: " {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} حافظاً ومدبراً لهما ولما فيهما، ومن عجز عن كفاية أمر يحتاج إلى ولد يعينه؟! " (1) . ولله الحمد والمنّة.
__________
(1) تفسير النسفي: ج1 ص265.(47/83)
المبحث الثالث
في آية سورة الأنعام:
قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
مطلب: في بيان موضع التسبيح وغايته:
- الشاهد في آية التسبيح -ههنا- قوله تعالى حكاية وإخباراً عن المشركين: {وَخَرَقُوا (2) لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ومعنى: {خَرَقُوا} أي اختلقوا وافتعلوا وكذبوا على الله تعالى. ومنه يقال: اختلق الإفك واخترقه وخرقه. أو أصله من: خرق الثوب: إذا شقّه، أي اشتقوا له بنين وبنات (3) .
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، بل رمياً بقول عن عَمى وجهالة وضلالة من غير فكر ولا رَوِيَّة. أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنّه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره (4) .
- وبعد أن أخبر الله عمّا نسبه إليه المشركون من الولد نزه الله ذاته العليّة عمّا نسبوه له ووصفوه به فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون} .
قال أبو السعود: " {سُبْحَانَهُ} استئناف مسوق لتنزيهه عزّ وجلّ عمّا نسبوه إليه" (5) .
مطلب: في بيان الآية بعد التسبيح:
جاءت الآية بعد التسبيح بأربعة استدلالات تنزه الله عن الولد فهي بمثابة التعليل للتنزيه.
__________
(1) سورة الأنعام: الآيتان (100-101) .
(2) قرأ الجمهور {خَرَقُوا} بتخفيف الراء، وقرأ نافع وأبو جعفر {وخرّقوا} بالتشديد على التكثير. (انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج2 ص261) .
(3) انظر: فتح القدير للشوكاني ج2 ص153.
(4) انظر: تفسير أبي السعود ج3 ص168.
(5) تفسير أبي السعود: ج3 ص168.(47/84)
- أما الاستدلال الأول فقد سبق الحديث عنه في المبحث الأول آية سورة البقرة وهو ما حواه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وأضاف البيضاوي (1) في تفسيره وجهاً آخر للاستدلال من هذه الجملة الكريمة حيث قال: "أنّه من مبدعاته السموات والأرض وهي مع أنّها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدّتها فهو أولى بأن يتعالى عنها" (2) .
__________
(1) هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو سعيد، أو أبو الخير، ناصر الدين البيضاوي: قاضي، مفسر، علامة، ولد في المدينة البيضاء (بفارس قرب شيراز) ، وولي قضاء شيراز مدّة ثم صرف عن القضاء، فرحل إلى تبريز فتوفي بها عام 685هـ، من أشهر مؤلفاته: أنوار التنزيل وأسرار التأويل وهو تفسيره وطوالع الأنوار في التوحيد، ومنهاج الوصول إلى علم الأصول. انظر: (البداية والنهاية لابن كثير ج13ص327؛ بغية الوعاة ص286؛ طبقات الشافعية للسبكي ج5 ص59؛ الأعلام للزركلي: ج4 ص110) .
(2) تفسير البيضاوي: ج2 ص201.(47/85)
- والاستدلال الثاني يؤخذ من الجملة الثانية في الآية وهي قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} وابتدأت هذه الجملة باستفهام ليفيد الإنكار لقول المشركين؛ والاستبعاد والاستحالة لاتخاذه ولداً. أي كيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟! فقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} حال مؤكِّدة للاستحالة المذكورة في الاستفهام فإنّ انتفاء أن يكون له تعالى صاحبة مستلزم لانتفاء أن يكون له ولد ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة؛ وإن أمكن وجوده بلا والد، وانتفاء الأول ممّا لا ريب فيه لأحد؛ فمن ضرورته انتفاء الثاني. وذلك أنّ الولد إنّما يكون متولِّداً بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه. فيستحيل أن يكون له صاحبة، والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد (1) .
- والاستدلال الثالث هو في قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ؛ فهذه الجملة الكريمة إمّا جملة مستأنفة أخرى سيقت لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررّة لها، وذلك لأنّ من كان خالقاً لكل شيء استحال منه أن يتخِّذ بعض مخلوقاته ولداً، وكيف يُتَصَوّر أن يكون المخلوق ولداً لخالقه؟! (2) .
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير ج2 ص161؛ تفسير القرطبي ج7 ص54؛ تفسير أبي السعود ج3 ص169؛ فتح القدير للشوكاني ج2 ص153.
(2) انظر: تفسير أبي السعود ج3 ص169؛ فتح القدير للشوكاني ج2 ص153.(47/86)
- وأمّا الاستدلال الرابع على انتفاء الولد لله تعالى فهو ما جاء في خاتمة الآية بقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إذ إنّ هذه الخاتمة استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم، وبيان الاستدلال ههنا أن علمه تعالى بكل شيء ذاتي له، ولا يعلم كل شيء إلاّ الخالق لكل شيء، ولو كان له ولد لكان هو أعلم به ولهدى العقول إليه بآيات الوحي ودلائل العلم، ولكنه عزّ وجلّ كذّب الذين خرقوا له بنين وبنات بوحيه المؤيد بدلائل العقل (1) .
المبحث الرابع
في آية سورة يونس - عليه السلام:
قال الله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (2) .
مطلب: في بيان التسبيح وصلته بما قبله وبما بعده:
لمّا أخبر الله -عزّ وجلّ- عن قول مشركي العرب (3) باتخاذ (4) الله ولداً نزه ذاته العلية عمّا قالوا فقال: {سُبْحَانَهُ} ، ثم برهن عن ذلك بثلاثة براهين على ما يلي:
__________
(1) انظر: تفسير أبي السعود ج3 ص169؛ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ج7 ص650.
(2) سورة يونس: الآية (68) .
(3) الضمير في قوله: {قَالُوا} راجع إلى المشركين من أهل مكة والعرب الذين قالوا إنّ الملائكة بنات الله، وليس المراد من الضمير غيرهم من النصارى لأنّ السورة مكية والقرآن المكي لم يتصدّ لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب. (انظر تفسير البغوي ج 2 ص361) .
(4) الاتخاذ: جعل شيء لفائدة الجاعل، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به، وهو هنا صالح للمعنيين لأنّ منهم من يعتقد تولّد الولد عن الله، ومنهم من يعتقد أنّ الله تبنّى بعض مخلوقاته (التحرير والتنوير ج11 ص229) .(47/87)
- البرهان الأول: قوله تعالى: {هُوَ الْغَنِيُّ} أي الموصوف بالغنى المطلق، ذلك أنّ الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كلّ احتياج إلى مُكمِّل نقص في الذات أو الصفات أو الأفعال. فالله سبحانه وتعالى له الغنى المطلق؛ وأنواع الغنى كلّها مستغرقة فيه، وله الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا كان غنياً من كلّ وجه فلأي شيء يتخذ الولد؟! (1) .
- ومن جهة أخرى لهذا النصّ الكريم في إثباته انتفاء الولد لله يقول صاحب محاسن التأويل (القاسمي) : " {هُوَ الْغَنِيُّ} أي الذي وجوده بذاته، وبه وجود كلّ شيء، فكيف يماثله شيء؟ ومن له الوجود كلّه فكيف يجانسه شيء؟! " (2) .
والبرهان الثاني في قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} . وقد تقدم الكلام عنه فيما قبل بما فيه الكفاية والحمد لله.
أما البرهان الثالث فهو خطابه تعالى لهم بقوله: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} ؟.
والمراد: هل عندكم من حجة وبرهان على أنّ لله تعالى ولداً. فلو كان لهم دليل لأظهروه. فلمّا تحدّاهم وعجّزهم على إقامة الدليل عُلِم بطلان ما قالوه، وأنّه قول بلا علم. ولهذا وبّخهم عزّ وجلّ بقوله بعد ذلك: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فالاستفهام -هنا- مستعمل في التوبيخ والتقريع لأنّ المذكور بعده شيء ذميم واجتراء عظيم وجهل مركّب كبير (3) .
لطيفة:
دلّت الآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} على تسمية الحجة والبرهان سلطاناً؛ وذلك لما يكسب المستدلّ بهما سلطة واقتداراً على مخالفيه ومجادليه.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري ج11 ص98؛ تفسير السعدي ج3 ص371؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج11 ص230.
(2) محاسن التأويل للقاسمي ج9 ص62.
(3) انظر: تفسير السعدي ج3 ص372؛ التحرير والتنوير ج11 ص232.(47/88)
والذي يلحظ من كلام المفسرين أنّ أكثر ما جاء في القرآن في معنى السلطان فهو الحجة والبرهان (1) .
لطيفة أخرى: في قوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
قال أبو السعود: "فيه تنبيه على أنّ كلّ مقالة لا دليل عليها فهي جهالة، وأنّ العقائد لابدّ لها من برهان قطعيّ، وأنّ التقلّيد بمعزل من الاعتداد به" (2) .
المبحث الخامس
في آية سورة النحل:
قال الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (3) .
مطلب: في بيان الآية وموضع التسبيح منها:
يخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن شيء من قبائح المشركين أنهم جعلوا الملائكة إناثاً وجعلوهم بنات الله فعبدوها معه، وبذلك هم قد ارتكبوا عدة أخطاء عظيمة في مقامات ثلاث إذ نسبوا إليه أنّ له ولداً ولا ولد له، ثمّ أعطوه أخسّ القسمين من الأولاد وهو البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم ثمّ عبدوها مع الله تعالى (4) .
والذكر – ههنا - للمقام الثاني من ضلالهم {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} فيه إشارة إلى بقية ضلالهم في اعتقادهم بالملائكة كما بينت في بداية الكلام.
- فلما أخبر الله عنهم ذلك نزه ذاته العلية بقوله: {سُبْحَانَهُ} وهو في محل جملة معترضة وقعت جواباً عن مقالتهم السيئة التي تضمّنتها حكاية {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} إذ الجعل فيها جعل بالقول (5) .
__________
(1) انظر: نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر لابن الجوزي ص 344-345؛ قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر للدامعاني ص 242-243؛ محاسن التأويل للقاسمي ج9 ص62-63.
(2) تفسير أبي السعود: ج4 ص163.
(3) سورة النحل: الآية (57) .
(4) انظر: تفسير ابن كثير ج2 ص572_573.
(5) التحرير والتنوير لابن عاشور ج14 ص182.(47/89)
- وفي ذكر التسبيح -ههنا- أيضاً تعجيب من جراءتهم على التفوّه بهذا المنكر العظيم من القول ومن مقاسمتهم لجلاله تعالى بالاستئثار للبنين (1) .
وإنّما قدّم {سُبْحَانَهُ} على قوله: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} ليكون نصاً في أنّ التنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوة لله تعالى؛ لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشدّ فظاعة كما دلّ عليه قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} لأنه زيادة في التفظيع، فقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} جملة في موضع الحال (2) .
المبحث السادس
في آية سورة مريم:
قال الله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) .
مطلب: في بيان الآية السابقة لآية التسبيح وصلتها:
__________
(1) انظر: محاسن التأويل للقاسمي ج10 ص118.
(2) التحرير والتنوير لابن عاشور ج14 ص183.
وهذا الاعتقاد هو لخزاعة وكنانة من قبائل العرب، حيث زعموا أنّ الملائكة بنات الله من سروات الجنّ وإنّما أطلقوا عليهم لفظ البنات لاستتارهم عن العيون كالنساء أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم. (انظر: تفسير الخازن ج4 ص96؛ التحرير والتنوير ج14 ص182) .
(3) سورة مريم: الآيتان (34_35) .(47/90)
- جاءت هذه الآية الكريمة أي قول الله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ... } الآية بعد بيان الله تعالى لحقيقة عيسى عليه السلام من قوله عزّ وجلّ: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} (1) .
والمراد من قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} . أي ذلك الذي ذكرناه هو عيسى ابن مريم لاكما تزعم اليهود إنّه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولاكما تقول النصارى إنه إله أو ابن الإله (2) .
{قَوْلَ الْحَقِّ} (3) من قرأ برفع اللام على أنّه نعت لعيسى عليه السلام كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عزّ وجلّ. وقيل: التقدير: هذا الكلام قولُ الحق.
ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي أقول قول الحق (4) . {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} فمن قائل إنه ابن الله ومن قائل إنه هو الله وغير ذلك من الأقوال التي اختلفوا فيها وتجادلوا وناقض فيها بعضهم بعضاً.
مطلب: في بيان موضع التسبيح وآيته:
__________
(1) سورة مريم: الآيات (30-33) .
(2) انظر: تفسير القرطبي ج11 ص105.
(3) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب اللام {قولَ الحق} وقرأ الباقون برفعها (انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج2 ص318) .
(4) انظر: تفسير البغوي ج3 ص195؛ تفسير القرطبي ج11 ص105؛ حجة القراءات لابن زنجلة ص443.(47/91)
- لمّا ذكر الله عز وجل فيما قبل حقيقة عيسى عليه السلام وأنّه خلقه عبداً نبياً نفى عن ذاته الكريمة اتخاذ الولد ردّاً على النصارى الذين قالوا ببنوّته - عليه السلام - تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً –فقال عزّ وجلّ: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} أي ما يصحّ ولا يليق ولا يتأتّى ولا يُتصوّر في حقه جلّ وعلا أن يتخذ ولداً (1) . وكما قال الجمل (2) في حاشيته على الجلالين: "والمعنى أنّ ثبوت الولد له محال" (3) . وهو كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} (4) .
وهذه الجملة الكريمة تفيد انتفاء الولد عنه تعالى بأبلغ وجه؛ وذلك لأنّ لام الجحود تفيد مبالغة النفي، وأنّه ممّا لايلاقي وجود المنفي عنه ولأن في قوله: {أَنْ يَتَّخِذَ} إشارة إلى أنّه لو كان له ولد لكان هو خلقه واتخذه؛ فلم يَعْدُ أن يكون من جملة مخلوقاته، فإثبات البنوّة له خُلْف من القول، وكذلك فإن الإتيان بـ (مِن) مزيدة قبل المفعول في قوله: {مِنْ وَلَدٍ} يفيد تأكيد عموم النفي ومبالغته (5) .
__________
(1) انظر: تفسير البغوي ج3 ص195؛ تفسير القرطبي ج11 ص106؛ تفسير الخازن ج4 ص245؛ فتح القدير للشوكاني ج3 ص336؛ تفسير السعدي ج5 ص104 أضواء البيان ج4 ص277.
(2) هو سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري الشافعي، المعروف بالجمل: فاضل من أهل مدينة عجيل (إحدى قرى الغربية بمصر) انتقل إلى القاهرة. له مؤلفات منها: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية (حاشية على الجلالين) ، وفتوحات الوهاب (حاشية على شرح المنهج في فقه الشافعي، توفي عام 1204هـ (انظر: الأعلام للزركلي ج3 ص131) .
(3) حاشية الجمل على الجلالين: ج3 ص62.
(4) سورة مريم: الآية (92) .
(5) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج16 ص102-103؛ أضواء البيان للشنقيطي ج4 ص277-278.(47/92)
- وبعد أن نفى الله تعالى عن ذاته العليّة الولديّة أكّده – أي النفي- بتنزيهها عنه وعن كلّ ما لايليق بكماله وجلاله إذ قال: {سُبْحَانَهُ} ثمّ جاء بحجة تعدّ بمنزلة علّة لهذا التنزيه (1) وهي قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وقد تقدم في المبحث الأول الكلام عن هذه الحجة بما فيه الكفاية، والإتيان بها – ههنا - مع مافيها من عدّة التنزيه فإنّها تفيد –أيضاً- تبكيتاً للنصارى ببيان أنّ شأنه تعالى إذا قضى أمراً من الأمور أن يعلّق به إرادته فيكون حينئذ بلا تأخير؛ فمن هذا شأنه كيف يتوهّم أن يكون له ولد (2) .
لطيفة:
ذكر صاحب أضواء البيان (3) فائدة لطيفة في لفظ {مَا كَانَ} الدالّ على النفي من جهة المعنى.
__________
(1) انظر: حاشية الجمل على الجلالين ج3 ص62.
(2) انظر: تفسير أبي السعود ج5 ص265.
(3) هو محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325-1393هـ) : ولد عند ماء يسمى (تنبه) من أعمال مديرية (كيفا) من القطر المسمى بشنقيط وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن. حفظ القرآن وعمره عشرسنوات، وطلب العلم على عدد من علماء بلده، خرج من بلاده لأداء الحج ومن ثمّ استقر في المدينة المنورة ودرّس بالمسجد النبوي الشريف وتلقى الناس عنه. له مؤلفات عدة أهمها: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، مذكرة الأصول على روضة الناظر، دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب. (انظر: ترجمة الشيخ عطية سالم له في أول كتاب أضواء البيان 1/7-64) .(47/93)
فقال: "اعلم أنّ لفظ {مَا كَانَ} يدل على النفي، فتارة يدلّ ذلك على النفي من جهة المعنى على الزجر والردع كقوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأََعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ... } الآية، وتارة يدلّ على التعجيز كقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ... } الآية. وتارة يدلّ على التنزيه كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَد ... } الآية" (1) .
المبحث السابع
في آية سورة الأنبياء:
قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (2) .
مطلب: في بيان موضع التسبيح وآيته وصلته بما بعده:
- في آية التسبيح أخبر الله عزّ وجلّ عن مقولة المشركين باتخاذه ولداً، ويقصدون بذلك الملائكة حيث جعلوهم بنات الله -كما سبق بيان ذلك فيما قبل- قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} .
__________
(1) أضواء البيان للشنقيطي: ج4 ص277.والآيات على الترتيب: سورة التوبة (120) ، سورة النمل (60) ، سورة مريم (35) .
(2) سورة الأنبياء: الآيات (26-29) .(47/94)
- وبعد ذِكْره تعالى لمقالتهم هذه نزه ذاته الكريمة عنها فقال: {سُبْحَانَهُ} ؛ استعظاماً ممّا قالوا وتبرّؤاً مما وصفوه به، ثمّ ردّ عليهم بما يبطلها ويبيّن نزاهته عنها إذ قال عزّ شأنه: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} .
-وابتداء الردّ عليهم بحرف (بل) لإفادة الإضراب عن مقالتهم تمهيداً لإبطالها بما سيأتي بعدها. وكأنّه قيل: ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد له -تعالى- مقرّبون عنده. وهذه حجة في انتفاء بنوّة الملائكة لله -كما سبق بيانها-؛ لأنّ العبودية تنافي الولدية (1) .
قال الجمل في حاشيته على الجلالين: "قوله: "والعبودية تنافي الولادة" هذا إمّا بحسب المعتاد الذي لا يتخلّف عند العرب من كون عبد الإنسان لا يكون ولده، وإمّا بحسب قواعد الشرع من أنّ الإنسان إذا ملك ولده عتق عليه، والأول في تقريره المنافاة أظهر؛ إذ الكلام مع جُهَّال العرب وهم لا يعرفون قواعد الشرع" (2) .
- ثمّ وصف الله تعالى ملائكته بخمس صفات تؤكِدّ وتبيّن تقرير ما ذكره من عبوديتهم له، وذلك في الآيتين بعد التسبيح. وفي ذكرها المزيد والتأكيد لتنزيهه -عزّ وجلّ- ذاته عن مقولة المشركين باتخاذهم ولداً.
وتلكم الصفات ما يلي:
الصفة الأولى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به وهذه الصفة تنبئ عن كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى.
الصفة الثانية: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي أنّهم منقادون له تعالى في الأعمال كما أنهم منقادون له في الأقوال.
الصفة الثالثة: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي أنهم تحت علم الله وإحاطته بهم. والمقصود أي كيف يخرجون عن عبوديته مع إحاطته بهم.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري ج17 ص12؛ تفسير ابن كثير ج3 ص176؛ البحر المحيط لأبي حيان ج6 ص307؛ أضواء البيان للشنقيطي.
(2) حاشية الجمل على الجلالين: ج3 ص125.(47/95)
والصفة الرابعة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} أي لا يستطيعون الشفاعة لأحد إلاّ لمن ارتضاه الله من أهل الإيمان والتوحيد. والمقصود أي كيف يخرجون - أيضاً- عن عبوديته وهم لا يقدرون على أدنى وجوه معارضته وهي الشفاعة عنده.
والصفة الخامسة: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وهذه الصفة الأخيرة تبيّن كمال عبوديتهم لله تعالى إذ هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره (1) .
- وبمناسبة تقرير عبودية الملائكة لله تعالى أخبر الله عزّ وجلّ بما يدلّ على نفي إلهيتهم التي زعمها المشركون لهم فقال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . والشرط ههنا على سبيل الفرض، أي لو قاله أحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرّر من شدة خشيتهم لله. فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادّعوا لهم الإلهية بأنّهم ادّعوا لهم ما لا يرضونه ولا يقولونه، وأنّهم ادّعوا ما يوجب لقائله نار جهنم على حد قوله تعالى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
لطائف:
- اللطيفة الأولى:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير ج3 ص176؛ تفسير أبي السعود ج6 ص63-64؛ تفسير القرطبي ج11 ص281-282؛ تفسير فتح القدير للشوكاني ج3 ص404-405؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج17 ص51؛ محاسن التأويل للقاسمي ج11 ص248-249؛ تفسير المهايمي ج2 ص30-31.
(2) التحرير والتنوير لابن عاشور: ج17 ص52. والآية في سورة الزمر رقم (65) .(47/96)
إنّ في الإتيان بصفة (الرحمن) لله تعالى في قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} تعرّضاً لعنوان الرحمانية لله -تعالى- المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له عزّ وجلّ بنعمه ومنعماً عليه برحمته العامة، وذلك لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة (1) .
- اللطيفة الثانية:
إنّ في وصف الله تعالى للملائكة بأنهم {مُكْرَمُونَ} تنبيهاً على منشأ خطأ وغلط المشركين باعتقادهم أنهم بنات الله حيث أنّهم بمعرفتهم أنّ الملائكة مقرّبون من الله لِما هم عليه من الأحوال والصفات، فذلك هو الذي غرّهم في شأنهم وادّعوا ولديتهم لله تعالى عما يقولون علواً كبيراً (2) .
- اللطيفة الثالثة:
إن الأصل في قوله تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} لا يسبق قولهم قوله عزّ وجل، ولكنّه أسند السبق إليهم منسوباً إليه تعالى؛ تنزيلاً لسبق قولهم قوله سبحانه منزلة سبقهم إيّاه؛ وذلك لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرّض به للذين يقولون ما لا يقوله الله تعالى (3) .
- اللطيفة الرابعة:
إنّ في تقديم {بِأَمْرِهِ} على {يَعْمَلُونَ} في قوله عز وجل: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إفادةً للقصر أي لا يعملون عملاً إلاّ عن أمر الله تعالى، فكما أنهم لا يقولون قولاً لم يأذن فيه كذلك لا يعملون عملاً إلاّ بأمره (4) .
- اللطيفة الخامسة:
إنّ في قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} تخصيصاً بالذكر لبعض ما شمله قوله من قبل {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} للاهتمام بشأنه لأنّه ممّا كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله (5) .
المبحث الثامن
في آية سورة الزمر:
__________
(1) انظر: تفسير أبي السعود ج6 ص63.
(2) انظر: تفسير أبي السعود ج6 ص63؛ الكشاف للزمخشري ج3 ص9.
(3) انظر: تفسير أبي السعود ج6 ص63.
(4) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج17 ص51.
(5) انظر: المرجع السابق ج17 ص51.(47/97)
قال الله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (1) .
مطلب: في بيان موضع التسبيح وآيته وصلته بما بعده:
- هذه الآية الكريمة استئناف غايته تحقيق الحق وإبطال القول باتخاذ الله ولداً كما يقول المشركون بأنّ الملائكة بنات الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً.
والذي يلاحظ في هذه الآية أنها تضمنت دلائل قاطعة على انتفاء الولد لله منذ بدايتها ثمّ توسّطها التسبيح ثمّ أُتْبع بدلائل أخرى، وكلّ ذلك في نسق قرآني مترابط البدء والوسط والختام. فسبحان من تكلّم بهذا القرآن الكريم فأحسنه وبيّنه وأدهش العقول والأفهام أمام إعجازه وعظمته.
- والدليل الأول في الآية والذي ابتدأت به جاء في صورة الشرط وهو قوله سبحانه: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} . هذا ولقد اختلف المفسرون في بيان هذا الشرط بدليله وأحسب أنّ أجود ما وقفت عليه من أقوالهم قول أبي السعود العمادي إذ قال: " أي لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاتخذ من جملة ما يخلقه أو من جنس ما يخلقه ما يشاء أن يتخذه؛ إذ لا موجود سواه إلاّ وهو مخلوق له تعالى لامتناع تعددّ الواجب ووجوب استناد جميع ما عداه إليه، ومن البيِّن أنّ اتخاذ الولد منوط بالمماثلة بين المتخِذ والمتَخذ وأنّ المخلوق لا يماثل خالقه حتى يمكن اتخاذه ولداً، فما فرضناه اتخاذ ولد لم يكن اتخاذ ولد بل اصطفاء عبد، أنّ ما يستلزم فرض وقوعه انتفاءه فهو ممتنع قطعاً" (2) .
- وتقريراً لما ذُكِر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيداً له نزه عزّ وجلّ ذاته عن ذلك تنزهه الخاصّ به فقال: {سُبْحَانَهُ} (3) .
__________
(1) سورة الزمر: الآية (4) .
(2) تفسير أبي السعود: ج7 ص242.
(3) انظر: المرجع السابق: ج7 ص242.(47/98)
-ثم جيء بعد هذا التنزيه لذاته - عزّ وجل ّ- بجملة استئنافية تحمل دلائل أخرى على انتفاء الولد عنه. وهذه الجملة هي بمنزلة التعليل والبيان لتنزهه تعالى، وذلك بما اقتضته الصفات الإلهية الواردة فيها. وهي قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} وأوّلها صفة الألوهية التي يدلّ عليها اسم الجلالة {اللَّهُ} وتستتبع هذه الصفة سائر صفات الكمال له -تعالى- النافية لكل سمات النقصان. واتخاذ الولد -كما سبق ذكره- من سمات النقصان والعجز ومناف لكمال الألوهية (1) .
وثانيها: صفة الوحدانية في قوله تعالى: {الْوَاحِدُ} والتي توجب امتناع المماثلة والمشاركة بينه وبين غيره، فهو متبرئ عن انضمام الأعداد متعالٍ عن التجزؤ والولاد (2) .
وثالثها: صفة {الْقَهَّارُ} فكونه سبحانه (قهاراً) يمنع من ثبوت الولد؛ لأنّ المحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيحتاج إلى ولد يقوم مقامه، وبذلك يكون مقهوراً بالموت، أمّا الذي يكون قاهراً ولا يقهره غيره كان الولد في حقه محالاً؛ إذ من هو مستحيل الفناء قهار لكل الكائنات كيف يتصوّر أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه (3) .
وبذكر هذه الصفات الإلهية المشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله عز وجل يتم الحديث عن هذا الموضع من مواضع تسبيح الله ذاته. ولله الحمد والمنة.
المبحث التاسع
في آية سورة الزخرف:
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (4) .
مطلب: في بيان الآية السابقة للتسبيح:
__________
(1) انظر: المرجع السابق: ج7 ص242.
(2) انظر: المرجع السابق: ج7 ص242؛ تفسير النسفي ج4 ص50.
(3) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج26 ص243؛ تفسير أبي السعود ج7 ص242.
(4) سورة الزخرف: الآيتان (81-82) .(47/99)
- في الآية السابقة لتسبيح الله ذاته الشريفة يأمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول قولاً للمشركين يلزمهم به الحجة في زعمهم أنّ لله ولداً فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية الكريمة المبنيّ على معنى (إن) فيها هل هي شرطية أم للنفي؟ وأحسب أنّ ما رجحه ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- هو أقوى الأقوال وأولاها بالصواب اعتماداً على أن (إنْ) للشرط لا للنفي، ذلك أنّها لو كانت للنفي لم يكن للكلام كبير معنى لأنّه يصير بمعنى. قل ما كان للرحمن ولد؛ وإذا صار بذلك المعنى أوهم أهل الجهل من أهل الشرك أنّه إنما نفى بذلك عن الله -عزّ وجلّ- أن يكون له ولد قبل بعض الأوقات ثمّ أحدث له الولد. (قاله الطبري) (1) .
وعلى معنى (إنْ) للشرط؛ فإن أقرب مُرادٍ للآية وهو ما رجحه الطبري وغيره وهو الظاهر من الآية: أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده منكم؛ لأنّ من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد (2) . وفي هذا الكلام نفي للولد على أبلغ وجه وأتمّ عبارة وأحسن أسلوب وهو مثل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (3) وقد علم أن الحق معه وأنّ مخالفيه في ضلال مبين.
ويشابهه -أيضاً- قول الرجل لمن يناظره: إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به (4) .
- وفي هذا الأسلوب القرآني الكريم ما لا يخفى من سلوك طريق المساهلة والإلطاف في الخطاب وإرخاء العنان وصولاً إلى تبكيت المجادلين والمعرضين عن الحق وإفحامهم (5) .
__________
(1) تفسير الطبري: ج25 ص61.
(2) انظر: تفسير الطبري: ج25 ص61؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص542-543.
(3) سورة سبأ: الآية (24) .
(4) فتح القدير للشوكاني ج4 ص543.
(5) انظر: تفسير الطبري ج25 ص61؛ تفسير الألوسي ج25 ص104.(47/100)
مطلب: في بيان موضع التسبيح وصلته بما قبله:
- ولمّا أقام الله - تبارك وتعالى - الحجة على المشركين الذين نسبوا إليه الولد- في الآية السابقة على ما بينته في أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بمهاجمتهم؛ نزه الله ذاته العليّة تنزيهاً تاماً عمّ يصفونه به من نسبة الولد إليه. وفيه معنى التذييل للآية السابقة. فقال عز وجل: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
- ثمّ إنّ في تسبيحه ذاته المقدّسة بذكر وصفه تعالى بربوبية السموات والأرض والعرش {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ} ما يشير إلى أمرين:
أحدهما: بيان عظمة شأنه -تعالى- وجلالة قدره، فربّ أعظم المخلوقات وهي السموات والأرض والعرش جدير بالتنزيه عن الولد وعن كلّ ما لا يليق بكماله وجلاله (1) .
وثانيهما: إنّ في إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها من السموات والأرض تنبيه على أنّها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته وربوبيته؛ فكيف يُتوهم أن يكون شيء منها جزء متولّد منه سبحانه، والملكية تنافي الولدية كما سبقت بذلك الإشارة (2) .
ففي هذا -إذن- إثبات حجة وبرهان على المشركين في زعمهم الولد لله، وبذلك يضمّ ما جاء في صيغة التسبيح {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ} حجة ثانية مع ما جاء من الحجة في الآية قبله.
__________
(1) انظر: أضواء البيان للشنقيطي ج7 ص310.
(2) انظر: تفسير الألوسي: ج25 ص106.(47/101)
- ولصاحب التحرير والتنوير كلام حول حجية هذه الصيغة التي جاء بها التسبيح، وفيه زيادة على ما ذكر من قبل إذ يقول: "ووصفه بربوبية أقوى الموجودات وأعمّها وأعظمها، لأنّه يفيد انتفاء أن يكون له ولد لانتفاء فائدة الولادة، فقد تمّ خلق العوالم ونظام نمائها ودوامها، وعلم من كونه خالقها أنّه غير مسبوق بعدم وإلاّ لاحتاج إلى خالق يخلُقه، واقتضى عدمُ السبق بعدم أنّه لا يلحقه فناء فوجود الولد له يكون عبثاً" (1) .
لطيفة:
إنّ في تكرير لفظ الربّ الجليل في قوله: {رَبِّ الْعَرْشِ} تفخيماً لشأن العرش (2) .
__________
(1) التحرير والتنوير لابن عاشور ج25 ص266.
(2) تفسير الألوسي: ج25 ص106.(47/102)
المبحث العاشر
في آية سورة الصافات:
المطلب الأول: في بيان الموضع الأوّل:
قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} (1) .
- يخبر الله تعالى في الآية الكريمة الأولى (قبل آية التسبيح) أنّ المشركين جعلوا بقولهم بين الله -عز وجل- وبين الجنة قرباً ومصاهرة تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً.
هذا وقد اختلف المفسرون في المراد بالجنّة والنسب اللْذين ذكرا في الآية. والأظهر أنّ المراد بالجنة أي الجماعة من الجنّ، والنسب - وهو ما أشرت إليه في مبحث سابق -بأنّ الملائكة- على زعم المشركين- هم بنات الله من سروات الجنّ أي من فريق من نساء الجنّ من أشرافهم.
والكلام على حذف مضاف أي ذوي نسب لله تعالى، وهو نسب البنوّة ويؤيدّ هذا القول سياق الآيات، فإنّ هذه الآية الكريمة {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا..} الواو فيها للعطف على ما يصلح العطف عليه ممّا قبلها وهو قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وشفعوا قولهم: {وَلَدَ اللَّهُ} فجعلوا بين الله وبين الجنّة نسباً بتلك الولادة، أي بيّنوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله وبين الجنّة نسباً.
ويؤيّده –أيضاً- تتمة الآية {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون} أي والحال أنّ الجنة قد علمت أنّ الذين نسبوا إليهم ذلك القول من المشركين لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم وافترائهم في ذلك وقولهم الباطل بلا علم (2) .
__________
(1) سورة الصافات: الآيات (158_160) .
(2) انظر: تفسير ابن كثير ج4 ص23؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج23 ص185- 186 تفسير السعدي ج6 ص402.(47/103)
- ولمّا ذكر الله -عزّ وجلّ- قول المشركين وعرّض بالوعيد عليه أتبع ذلك باعتراض بين المستثنى منه والمستثنى يتضمّن إنشاء تنزيه له تعالى عمّا نسبوه إليه من الولد وهو قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} فهو إنشاء من جانب الله تعالى لتنزيهه، وتلقين للمؤمنين بأن يقتدوا بالله في ذلك التنزيه؛ وتعجيب من فظيع ما نسبوه إليه (1) .
- ومن بعد هذا التسبيح يأتي الاستثناء بقوله عز وجل: {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وهو إمّا أن يكون استثناءً منقطعاً والتقدير: لكن عباد الله المخلصين بريئون عن أن يصفوا الله بشيء من ذلك. وإمّا أن يكون متصلاً إذا كان استثناء من المحضرين، أي إنهم يحضرون العذاب إلاّ من أخلص (2) . والله أعلم بمراده.
المطلب الثاني: في بيان الموضع الثاني:
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) .
- إنّ موضع التسبيح –ههنا- يأتي أوّل ثلاث آيات كريمات شكّلت بمجموعها خاتمة لسورة الصافات بأجمل وأبدع ما يكون من ختام في تناسق نظمٍ ومعنى وبيان (4) .
ولذلك سيكون بيان هذا الموضع على ما يلي:
أولاً: مناسبة تسبيح الله ذاته لما قبله من الآيات.
- في مناسبة مجيء تسبيح الله ذاته الكريمة-ههنا- وجهان ذكرهما المفسرون: وجه نُظِر فيه إلى مجمل سورة الصافات حيث جاء التسبيح في خاتمتها، ووجه روعي فيه النظر إلى أقرب الآيات مكاناً لآية التسبيح. وكلا الوجهين هما في محلّ الاعتبار.
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير ج23 ص188.
(2) فتح القدير للشوكاني: ج4 ص400.
(3) سورة الصافات: الآيات (180-182) .
(4) ومن اللطيف موافقة ختم هذه المباحث المتتابعة حول التسبيح بهذه الآيات العظيمة الخاتمة.(47/104)
- أمّا بالنظر إلى أقرب الآيات فوجهه: أنّه بعد أن أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين والإغماض عمّا يصدر منهم من الجهالات والضلالات ومنها ما ادّعوه من نسبة الملائكة لله بالبنوة؛ مع التعريض لهم بالهلاك إن استمرّوا على شركهم وضلالهم وذلك قوله عزّ وجلّ: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ. فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (1) . بعد ذلك نزه الله ذاته العلية عن قبيح ما يصدر منهم ممّا يصفونه من نسبة الولد ومن كلّ ما لا يليق بجلاله وكماله وعظمته (2) .
- كما أنّ أسلوب الخطاب في تنزيه الله ذاته للنبي صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ} يشير إلى مناسبة التذييل لخطابه تعالى المبتدأ قبله بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} (3) . (قاله ابن عاشور) (4) .
- وأمّا بالنظر إلى مجمل ما حوته السورة فإنّه لمّا ذكر الله تعالى فيها كثيراً من أقوال المشركين الشنيعة التي وصفوا الله تعالى بها -ومنها وصفهم له بالولد- نزه الله نفسه الكريمة عنها وعن كل ما لا يليق به سبحانه (5) .
__________
(1) سورة الصافات: الآيات (174_179) . وتكرار قوله تعالى في الآيات {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} للتأكيد وحذف مفعول (وأبصر) في المرة الثانية لدلالة ما في نظيرها عليه. (انظر: التحرير والتنوير ج23 ص198) .
(2) انظر: فتح القدير للشوكاني ج4 ص401.
(3) سورة الصافات: الآية (149) .
(4) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج23 ص198.
(5) انظر: غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري ج23 ص72؛ تفسير السعدي ج6 ص404.(47/105)
ثانياً: بيان آية التسبيح:
- تعدّ هذه الآية الوحيدة في القرآن الكريم التي اقترن فيها تسبيح الله ذاته العليّة بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
- ووصفه تعالى بـ {رَبِّ الْعِزَّةِ} في مقام تنزيه ذاته الشريفة مبالغة وتأكيد للتنزيه. فمعنى ربّ العزة أي مالكها، والمنفرد بالعزة الحقيقية التي لا يشوبها افتقار ولا نقص. وبالتالي فهي تشير إلى توصيفه بجميع صفات الكمال النفسية والمعنوية وهو الذي عزّ فقهر كلّ شيء واعتزّ عن كل سوء يصفونه به (1) .
ثالثاً: بيان وجه اقتران آية التسبيح بما بعدها.
- لمّا نزه الله ذاته عما لا يليق به ممّا يصفه المشركون أثنى على عباده وملائكته المرسلين بسلام منه -تعالى- عليهم في الدنيا والآخرة وذلك لسلامتهم من الذنوب والآفات وسلامة ما وصفوا به ربّ العزّة والجلال.
وتنكير (سلام) للتعظيم والتفخيم، وفيه إشارة إلى الثناء على كلّ من تبع المرسلين سلامة من الذنوب وقياماً بتنزيه الله تعالى حقّ التنزيه (2) .
- ولمّا كان التسبيح -أيضاً- يتضمّن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة ويستلزم إثبات الكمال، كما أنّ الحمد يدلّ على إثبات صفات الكمال مطابقة ويستلزم التنزيه من النقص قرن بينهما في هذا الموضع فقال بعده: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذا متكرر في مواضع أخرى من القرآن الكريم (3) .
__________
(1) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج26 ص173؛ تفسير السعدي ج6 ص404؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج23 ص199.
(2) انظر: تفسير السعدي ج6 ص405.
(3) انظر: تفسير ابن كثير ج4 ص25.(47/106)
- ولابن عاشور كلام في وجه اقتران هذه الآيات الثلاث في خاتمة السورة بالنظر إلى مجمل ما حوته السورة، وهو كلام وجيه حسن معتبر. إذ قال: "هذه الآيات فذلكة لما احتوت عليه السورة من الأغراض، إذ جمعت تنزيه الله والثناء على الرسل والملائكة وحمد الله على ما سبق ذكره من نعمه على المسلمين من هدى ونصر وفوز بالنعيم المقيم" (1) .
لطيفة:
إنّ في الانتقال من الآيات السابقة إلى التسبيح والتسليم والحمد إيذاناً بانتهاء السورة على طريقة براعة الختم مع كونها من جوامع الكلم (2) .
-وبهذه اللطيفة يتم الحديث عن آخر موضعي تسبيح الله ذاته في سورة الصافات، وبه يتمّ الكلام عن هذا الفصل ولله الحمد والمنّة.
الفَصْل الثّالث:
تَسْبِيْحُ اللهِ ذَاتَه العَلِيّة
في شُؤون مختلفة أُخرى
المبحث الأول
في تسبيح الله ذاته عند الحديث عن معجزة الإسراء:
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأََقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) .
مطلب: في بيان وجه الحكمة بمجيء التسبيح في هذا المقام:
إنّ لمجيء تسبيح الله ذاته العليّة في مقام الحديث عن معجزة الإسراء حكماً ودلالات منها:
__________
(1) التحرير والتنوير: ج23 ص198_199.
(2) انظر: التحرير والتنوير ج23 ص199.
(3) سورة الإسراء: الآية (1) .(47/107)
- إنّه لمّا صدر عن المشركين تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم بحادثة الإسراء والمعراج وزعموا أنّ ما قاله لا يمكن له الحدوث البتة نزه الله ذاته العلية عن العجز والنقص في قدرته، إذ هو القادر على كل أمرٍ ولا يعجزه شيء، فما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم هو حق وصدق. وهو منزه أيضاً عن أن يتخذ رسولاً كذاباً، بل إنّ ذلك – أيضاً - من نعمه تعالى على حبيبه وصفيّه محمدصلى الله عليه وسلم (1) .
- وإنّ افتتاح هذه الآية الكريمة في أول سورة الإسراء بالتسبيح من دون سبق كلام يتضمّن ما يجب تنزيه الله عنه ما يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالٌ على عظيم القدرة من المتكلّم ورفيع منزلة المتحدّث عنه. وهذا على ما يدلّ عليه لفظ (سبحان) من معنى التعجب، وهو من استعمالاته عند العرب كما سبق وأن أشرت إليه (2) . وفي هذا يقول صاحب نظم الدرر: "وفيه إيماء إلى التعجب من هذه القصة للتنبيه على أنها من الأمور البالغة في العظمة إلى حدِّ لايمكن استيفاء وصفه" (3) .
- ثم إنّ من دلالات التسبيح – ههنا - أن الإسراء كان بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم لأنّه إنّما يكون التسبيح عند الأمور العظام، فلو كان مناماً كما قال البعض لم يكن له كبير شأن حتى يتعجّب منه (4) .
المبحث الثاني
تسبيح الله ذاته إثر الوعد والوعيد في آية سورة الروم:
قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (5) .
مطلب: في بيان مناسبة مجيء التسبيح في موضعه من السورة:
__________
(1) انظر: تفسير البغوي ج3 ص92؛ تفسير ابن كثير ج3 ص2؛ زاد المسير لابن الجوزي ج5 ص4؛ محاسن التأويل للقاسمي ج10 ص183؛ تفسير السعدي ج4 ص258.
(2) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص9.
(3) نظم الدرر للبقاعي: ج4ص328.
(4) انظر: أضواء البيان للشنقيطي ج3 ص391.
(5) سورة الروم: الآية (17) .(47/108)
يأتي تسبيح الله ذاته العليّة (ههنا) بعد أن بيّن الله عزّ وجلّ في الآيات السابقة حال فريقي المؤمنين العاملين للصالحات والكافرين المكذبين بالآيات وما لهما من الثواب والعقاب وهي قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} (1) ؛ وذلك ليرشد عباده بما ينجيهم من العذاب ويفضي بهم إلى الثواب، وهو تنزيههم له -عزّ وجلّ- عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله؛ وحمدهم له على ما أنعم به عليهم من نعمه العظيمة وآلائه الجليلة فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (2) .
- ويدلّ على هذه المناسبة اقتران التسبيح بالفاء وهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
- فقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} خبر في معنى الأمر بالتسبيح لخلقه. فإذا كان هو تعالى ينزه ذاته عن كلّ ما لا يليق بها فعباده مأمورون بلا ريب في تحقيق ذلك.
- وكذلك قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فإنّ الإخبار بثبوت الحمد له تعالى على المميزين من أهل السموات والأرض في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده (3) .
مطلب: في بيان آية التسبيح ومابعدها:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} .
__________
(1) سورة الروم: الآيات (14-16) .
(2) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج25 ص104؛ تفسير أبي السعود ج7 ص54؛ حاشية الجمل على الجلالين ج3 ص387؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص212؛ محاسن التأويل للقاسمي ج13 ص170.
(3) انظر: تفسير أبي السعود ج7 ص54.(47/109)
- هذا ولقد جيء بالحمد -كما ذكرت- بعد التسبيح، ووُسِّط بين أوقات التسبيح للاعتناء بشأنه والإشعار بأن حقّهما أن يجمع مابينهما (1) .
وإنما قدّم عليه التسبيح لما أنّ التخلية (التنزيه) متقدمة على التحلية (الحمد) (2) .
- وأما تخصيص التسبيح والتحميد بتلك الأوقات {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ – وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} . فللدلالة على أنّ مايحدث فيها من آيات عظمة سلطانه وقدرته؛ وأحكام رحمته؛ وتجدّد نعمته لهي شواهد ناطقة على تنزهه تعالى واستحقاقه الحمد وموجبة لتسبيحه وتحميده حتماً (3) .
- كما أنّ صاحب التحرير أشار إلى أن هذه الظروف متعلقة بما في إنشاء التنزيه من معنى الفعل، أي يُنشأ تنزيه الله في هذه الأوقات وهي الأجزاء التي يتجزأ الزمان منها، والمقصود: التأبيد أي على الدوام، وإنما سلك به مسلك الإطناب لأنّه مناسب لمقام الثناء.
وهذا الذي أشار إليه لايتعارض مع ماذُكر سابقاً (4) .
ثم إنّ تقديم {عَشِيّاً} على {حِينَ تُظْهِرُونَ} لمراعاة الفواصل وتغيير الأسلوب ولما أنه لايجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة (5) .
المبحث الثالث
في معرض ذكر نعمه وآياته بسورة يس:
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (6) .
مطلب: في بيان وجه حكمة مجيء التسبيح في موضعه ههنا:
__________
(1) انظر: تفسير أبي السعود: ج7ص54. هذا ولقد أشرت إلى حكمة اقتران الحمد بالتسبيح في كثير من الآيات في الفصل السابق والحمد لله.
(2) المرجع السابق ج7ص54.
(3) انظر: تفسير ابن كثير ج3ص428؛ تفسير أبي السعود ج7ص54-55.
(4) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج21 ص65.
(5) تفسير أبي السعود: ج21 ص65.
(6) سورة يس الآية (36) .(47/110)
هذه الآية الكريمة التي ابتدأت بالتسبيح جاءت معترضة بين آيات ينكر الله – تعالى - فيها على المشركين إعراضهم عن دعوة الرسل وكفرهم به، ويوجّه فيه أنظارهم إلى عظيم نعمه وآثار قدرته، وتلكم الآيات هي قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ. وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ. سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ. وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} الآيات (1) .
ووجه مجيء التسبيح في آيته ههنا بين هذه الآيات أنّه سيق لتنزيه الله ذاته العليّة عمّا فعله المشركون من الشرك وترك شكره تعالى وعن كلّ ما لا يليق بإلهيته وعظمته، وذلك مع ما يرونه ممّا ذكر في هاته الآيات من بدائع آثار قدرته وروائع نعمته الموجبة لتوحيده وشكره وإخلاص العبادة له (2) .
وفيه أيضاً معنى التعجب من إخلالهم، أي: عجباً لهؤلاء في كفرهم مع ما يشاهدونه من هذه الآيات (3) .
مطلب: في بيان صلة التسبيح:
__________
(1) انظر الآيات في سورة يس من الآية رقم (30) إلى الآية رقم (44) .
(2) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج26 ص69؛ تفسير القرطبي ج16 ص27؛ تفسير أبي السعود ج7 ص167؛ تفسير الألوسي ج23 ص9؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص357؛ التحرير والتنوير ج23ص15.
(3) تفسير القرطبي: ج16 ص27.(47/111)
- هذا وقد اتصل لفظ التسبيح بما يشير إلى علة من علل تنزيهه تعالى عن الشرك به، وذلك بيان أنّه المنفرد بالخلق؛ ومن كان كذلك فلا ينبغي أن يشرك به. وهذا مع ما ذكر في الآيات من انفراده بالأنعام والرزق.
وذلك قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} .
- وخصّ بالذكر أصناف النبات وأنواعها (من مختلف أنواعها وطعومها وأشكالها) لأنّ بها قوام الناس ومعاش أنفسهم ودوابهم، وخص كذلك أصناف أنفس الناس من ذكر وأنثى لأنّ العبرة بها أقوى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (1) . ثمّ ذكر ما يعمّ المخلوقات ممّا يعلمه الناس وما لا يعلمون في مختلف الأقطار والأجيال والعصور في البر والبحر أو السماء والأرض (2) .
لطيفة:
قُدِِّمَ ذكر النبات في الآية إيثاراً له بالأهمية في هذا المقام؛ لأنّه أشبه بالبعث الذي أومأ إليه قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (3) .
المبحث الرابع
في معرض بيان عظمته وقدرته في خاتمة سورة يس:
قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (4) .
مطلب: في بيان حكمة مجيء التسبيح في موضعه ههنا:
__________
(1) سورة الذاريات: الآية 21.
(2) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج23 ص17.
(3) المرجع السابق: ج23 ص17.
(4) سورة يس الآيتان (82_83) .(47/112)
- لمّا تقررت وحدانية الله وقدرته على الإعادة بما ذُكر من دلائل قدرته وعظيم شأنه وأنّ ما أراده كائن لا محالة وذلك في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) بعد ذلك نزه الله ذاته العلية عن أقوال المشركين المفضية إلى الشرك به ونسبة العجز إليه. وكان التنزيه مقترناً بالفاء وهو قوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} والفاء إمّا جزائية تفريعية أي: إذا علم ذلك فسبحان الذي..، أو سببية لأنّ ما قبلها سبب لتنزهه تعالى.
وهي على كل حال للإشارة إلى أنّ ما فُصِّل من شؤونه تعالى موجب لتنزهه وتنزيهه أكمل إيجاب (2) .
مطلب: في بيان آية التسبيح:
__________
(1) سورة يس: الآيات (78-82) .
(2) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج26 ص112؛ تفسير القرطبي ج16 ص60؛ تفسير أبي السعود ج7 ص182؛ تفسير الألوسي ج23 ص57؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص371.(47/113)
- هذا وقد عُدِل عن الضمير في تسبيح الله ذاته إلى وصف يؤكِّد وحدانيته وقدرته على كلِّ شيء بما يُشعر باقتضاء تنزيهه أتمّ اقتضاء، وذلك هو قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} والملكوت: مبالغة في المِلك، فهو الملك التامّ. فمادام كلّ شيء ملكه فكيف يكون المملوك للمالك شريكاً. ومادام أنّه سبحانه بيده ملكوت كل شيء فهو القادر على كل شيء والمتصرّف فيه بما شاء. كما قال قتادة: ملكوت كل شيء أي مفاتح كل شيء (1) .
- ثمّ ختمت آية التسبيح بقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهي جملة معطوفة على جملة التسبيح. والمعنى: قد اتضح أنكم صائرون إليه غير خارجين عن ملكه وذلك بإعادة خلقكم بعد الموت (2) .
لطيفة: في قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قُدّم {إِلَيْهِ} على {تُرْجَعُونَ} للاهتمام ورعاية الفاصلة لأنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ ثمّة رجعة إلى غيره ولكنهم ينكرون المعاد من أصله (3) .
- وبهذه اللطيفة يتم الكلام حول هذا المبحث وهو آخر المباحث في هذا الفصل وبتمامه نصل إلى ختام هذه الصفحات التي عرضتُ فيها مواضع تسبيح الله ذاته في كتابه ولله الحمد والمنة.
الخاتمة
__________
(1) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ج6 ص288؛ التفسير الكبير للفخر الرازي ج26 ص112؛ تفسير أبي السعود ج7 ص182؛ تفسير الألوسي ج23 ص57؛ فتح القدير للشوكاني ج4 ص371.
(2) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج23 ص80.
(3) المرجع السابق ج23 ص80.(47/114)
وبعد هذا التطواف في رحاب الآيات القرآنية الكريمة التي سبَّح الله فيها ذاته العلية بأبلغ تسبيح وأعظمه، وبما تضمنتها من إثبات الألوهية له وكلّ صفات الكمال والجلال وتنزيهه عن الشريك والولد وعن كل ما لا يليق به سبحانه، وبما تضمنته أيضاً من بيان عظمته وقدرته وإظهار نعمته على رسله وأنبيائه وخلقه.. من هذا وغيره يدرك المتأمّل أهمية هذه الدراسة، وفضل البحث فيها، إذ هي فيما يتعلّق بشأن الله تعالى وتوحيده وآثار أسمائه وصفاته، وإنما يفضل العلم بشرف المعلوم.
هذا وإني أقترح بان يُتبع هذا المبحث بأمرين:
الأول: دراسة المواضع التي يذكر الله تعالى فيها تسبيح ملائكته ورسله وأنبيائه لذاته، ومواضع أمره وإخباره بالتسبيح، بل ومواضع ما ذكر في القرآن من تسبيح الحيوانات والجمادات له.
والثاني: دراسة مواضع حمد الله لذاته إذ الحمد قرين التسبيح كما أشرت من قبل. وكذا ما ورد من مواضع حمد رسله وأنبيائه وملائكته وسائر عباده..
هذا وأرجوا أن أكون قد وفقت في هذه الدراسة المتواضعة لهذا الشأن العظيم، وأسأله تعالى المغفرة والقبول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(47/115)
الفهارس
- فهرس المراجع.
الإتقان في علو م القرآن: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن. 2ج. بيروت –لبنان: المكتبة الثقافية.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: أبو السعود: محمد بن محمد العمادي. 9ج. بيروت – لبنان: دار إحياء التراث العربي.
أسباب النزول: الواحدي: أبو الحسن علي بن أحمد. بيروت – لبنان: دار المعرفة.
إصلاح الوجوه والنظائر: الدامغاني، الحسين بن محمد. بيروت – لبنان: دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة 1983م.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني. 10ج. 1393هـ /1983م.
الأعلام: الزركلي، خير الدين. الطبعة السادسة. 8ج. بيروت: دار العلم للملايين، 1984م.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل: البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله ابن عمر بن محمد الشيرازي. 5ج. بيروت: مؤسسة شعبان للنشر والتوزيع.
البداية والنهاية: إسماعيل بن كثير الدمشقي، الطبعة الأولى.7ج. بيروت: دار الكتب العلمية. تحقيق: أحمد أبو ملحم – علي نجيب – فؤاد السيد – مهدي ناصر الدين.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: الشوكاني، محمد بن علي.2ج. طبع بمصر 1348هـ.
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: السيوطي، طبع بمصر 1326هـ
بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: الفيروزابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب. تحقيق: محمد علي النجار. 6ج. بيروت – لبنان: المكتبة العلمية.
تبصير الرحمن وتيسير المنان: المهايمي، علي بن أحمد بن إبراهيم، الطبعة الثانية. 2ج. بيروت: عالم الكتب، 1403هـ /1983م.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: المباركفوري، أبو العلى محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم: أشرف على طباعته: عبد الوهاب عبد اللطيف. الطبعة الثالثة. 10ج. بيروت: دار الفكر، 1399هـ /1979م.
تذكرة الحفاظ: الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان.4ج. طبع في حيدر آباد 1333-1334هـ.(47/116)
ترتيب القاموس المحيط: الزاوي، الطاهر أحمد. الطبعة الثالثة. 4ج. بيروت: دار الفكر.
تفسير البحر المحيط: أبو حيان، محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي، الطبعة الثانية. 8ج. بيروت: دار الفكر، 1403هـ /1983م.
تفسير التحرير والتنوير: ابن عاشور، محمد الطاهر. 30ج. تونس: الدار التونسية للنشر –الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1984م.
تفسير روح البيان: البرسوي، إسماعيل حقي. 10ج. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. 4ج. بيروت: دار المعرفة، 1405هـ.
تفسير المراغي، المراغي، أحمد مصطفى. 20ج. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
تفسير المنار: رضا، محمد رشيد. الطبعة الثانية. 12ج. بيروت: دار المعرفة.
تفسير النسفي: النسفي، عبد الله بن أحمد بن محمود. 4ج. بيروت: دار الكتاب العربي، 1402هـ /1982م.
هذيب التهذيب: ابن جر العسقلاني، أحمد بن علي. الطبعة الأولى.14ج. بيروت: دار الفكر.
يسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان: السعدي، عبد الرحمن ابن ناصر. تحقيق: محمد زهري النجار. 7ج. الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1404هـ.
امع البيان في تفسير القرآن: الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير. 30ج. بيروت: دار المعرفة، 1403هـ /1983م.
الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري. الطبعة الثانية. 20ج. بيروت: دار الكتاب العربي.
جامع النقول في أسباب النزول: عليوي: ابن خليفة. الطبعة الأولى. 2ج. الرياض – المملكة العربية السعودية: مطابع الإشعاع، 1404هـ.
حجة القراءات: ابن زنجلة، أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد. حققه وعلّق عليه: سعيد الأفغاني. الطبعة الثانية. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1399هـ /1979م.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: ابن حجر العسقلاني.4ج. طبع في حيدر آباد 1945-1950م.(47/117)
روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني: الآلوسي، أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود. 30ج. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
زاد المسير في علم التفسير: ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد. الطبعة الثالثة. 9ج. دمشق _ بيروت: المكتب الإسلامي، 1404هـ/1984م.
سير أعلام النبلاء: الذهبي. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الرسالة.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
صحيح مسلم بشرح النووي: القشيري، مسلم بن الحجاج – النووي، يحيى بن شرف. تحقيق وإشراف: عبد الله أحمد أبو زينة. 5ج. القاهرة: كتاب الشعب.
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: السخاوي. 12ج. طبع في مصر 1353-1355هـ.
طبقات الحنابلة: القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى الفراء. تعليق: أحمد عبيد. دمشق: مطبعة الاعتدال.
طبقات الشافعية الكبرى: تاج الدين السبكي.6ج. طبع بمصر 1324هـ.
غرائب القرآن ورغائب الفرقان: النيسابوري، نظام الدين بن محمد بن حسين القمّي. تحقيق: إبراهيم عطوة عوض. الطبعة الأولى. 30ج. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1381هـ /1962م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. أشرف على طبعه. محب الدين الخطيب. 13ج. الرياض: مكتبة الرياض الحديثة.
فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن: الأنصاري، أبو يحيى زكريا. تحقيق: محمد علي الصابوني. الطبعة الأولى. بيروت: دار القرآن الكريم، 1403هـ /1983م.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير: الشوكاني، محمد بن علي بن محمد. 6ج. مصر: المنصورة. دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 1415هـ.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفيّة: العجيلي الشافعي، سلمان بن عمر، الشهير بالجمل. 4ج. بيروت – لبنان: دار إحياء التراث العربي.(47/118)
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة.2ج. طبع في إسطنبول 1360هـ.
لباب التأويل في معاني التنزيل: الخازن، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي. 7ج. بيروت: دار الفكر، 1399هـ /1979م.
لباب النقول في أسباب النزول: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر. الطبعة الثالثة. بيروت: دار إحياء العلوم، 1400هـ /1980م.
لسان العرب: ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. 15ج. بيروت: دار الفكر – دار صادر.
لسان الميزان: ابن حجر العسقلاني. الطبعة الثانية 1390هـ.7ج. بيروت: مؤسسة الأعلمي.
محاسن التأويل: القاسمي، محمد جمال الدين. علق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي. الطبعة الثانية. 17ج. بيروت: دار الفكر، 1398هـ /1978م.
معالم التنزيل: البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء. تحقيق: خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار. 4ج. بيروت: دار المعرفة. الطبعة الثالثة، 1413هـ /1992 م.
معاني القرآن: الفراء، أبو زكريا يحيى بن زياد. الطبعة الثالثة. 2ج. بيروت: عالم الكتب، 1403هـ.
مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) : الفخر الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر ابن حسين. الطبعة الثالثة. 30ج. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
مفتاح السعادة ومصباح السيادة: طاش كبرى زادة. 2ج. الطبعة الأولى. حيدر آباد: مطبعة دائرة المعارف النظامية 1329هـ.
المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد. تحقيق: محمد سيد كيلاني. بيروت: دار المعرفة.
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين يوسف بن تغري بردي. القاهرة: دار الكتب المصرية.
نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن. تحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1404هـ /1984م.(47/119)
النشر في القراءات العشر: ابن الجزري، محمد بن محمد الدمشقي. أشرف على تصحيحه ومراجعته: علي محمد الضبّاع. 2ج. بيروت – لبنان: دار الكتب العلمية.
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: البقاعي، برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر. الطبعة الأولى. 8ج. بيروت – لبنان: دار الكتب العلمية، 1415هـ.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ابن خلكان. 2ج. طبع بمصر 1310هـ.(47/120)
طالب العلم بين أمانة التحمل ومسؤولية الأداء
إعداد: د. محمد بن خليفة التميمي
كلية الدعوة وأصول الدين - الجامعة الإسلامية
المقدَّمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . [آل عمران 02] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء 1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 70-71] .
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر 1-3] ويقول تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات 55] وإن من أعظم ما ينبغي التواصي به والتذكير فيه، فيما بين طلبة العلم هو تلك المسؤولية التي تحملناها على كواهلنا ونصبنا أنفسنا لها ألا وهي مسؤولية العلم الشرعي الذي شرفنا الله بحمله وسيسألنا عن أدائه.(47/121)
ومن هنا أحببت أن أذكر نفسي وإخواني بعظم مسؤوليتنا وواجبنا تجاه هذا العلم الذي ننتسب إليه، من خلال هذا البحث الذي يحتوي على الإشارة إلى بعض المضامين التي احتواها قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة 122] فقوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} إرشاد إلى أمانة التحمل؛ فمن واجب طالب العلم أن يتفقه في دين الله قبل أن يتصدر لتعليمه وإبلاغه لسائر الناس، وأما قوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ففيه إشارة إلى مسؤولية الأداء التي يتحملها طالب العلم بعد تزوده بالعلم النافع المفيد.
قال ابن القيم: "ندب - تعالى - المؤمنين إلى التفقه في الدين وهو تعلمه، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم" (1) .
ولا شك أن طالب العلم الذي من لم تكن هذه الآية نصب عينيه، فإنه يخشى عليه الهلاك، ولبيان عظم هذا التوجيه الكريم من الله - تعالى - وما فيه من المعاني والفوائد، كتبت هذا البحث اللطيف وجعلت عنوانه " طالب العلم بين أمانة التحمل ومسؤولية الأداء " فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد، ملخصاً كلامي في ثلاثة مباحث رئيسة وخاتمة:
المبحث الأول: شرف العلم وفضل أهله، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم.
المطلب الثاني: الأدلة من السنة.
المطلب الثالث: أقوال بعض العلماء.
المبحث الثاني: السبيل إلى تحمل العلم الشرعي، وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: حاجة طالب العلم إلى الذكاء والزكاء.
المطلب الثاني: مراتب نيل العلم.
المطلب الثالث: آداب طالب العلم.
المطلب الرابع: موانع حمل العلم.
المبحث الثالث: مسؤولية أداء العلم وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مسؤولية أدائه عملاً.
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/56.(47/122)
المطلب الثاني: مسؤولية أدائه تعليماً.
الخاتمة.
وقد حرصت عند جمع مادة هذا البحث على الاستشهاد بكلام الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والآثار الواردة عن السلف الصالح، مع الإيجاز وعدم الإطالة.
فأرجو من الله أن يتحقق النفع بما جمعت، وأن يحصل به الخير والفائدة.
والله الموفق
المبحث الأوّل
شرف العلم وفضل أهله
المطلب الأوّل: الأدلّة من القرآن الكريم
إن على طالب العلم أن يتذكر نعمة الله عليه بأن هداه للإسلام أولاً، وجعله من حملته والدعاة إليه ثانياً، فتلك نعمة منَّ الله بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من قبلنا فقد قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء 113] نعم والله إن فضل الله علينا عظيم.
ولو تأملت قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر 9] وتأملت نفسك قبل أن تطلب العلم وبعد أن منَّ الله عليك بطلب العلم هل الحال مستو، فالجواب "لا" ولو تأملت نفسك وأقرانك الذين في سنك ممن لم يطلبوا العلم هل تستوون فالجواب "لا" ولو تأملت نفسك وعوام الناس لوجدت الفارق العظيم، فهذه واحدة.
وأما الثانية ففي قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [الحجرات 11] إن هذه الرفعة التي وعد الله بها أهل الإيمان والعلم، منها ما هو في الحياة الدنيا ومنها ما هو في الآخرة، فطالب العلم له بين الناس منزلةٌ ومكانة واحترام وتقدير ولا يتسع الوقت لضرب الأمثلة على تلك الرفعة وهو أمرٌ ملموسٌ مشاهد.(47/123)
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى: "إن العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه المُلْك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفاً ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال من ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى. فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" (1) . وقال أبو العالية: "كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير فتغامز بي قريش، ففطن لهم ابن عباس، فقال: كذا هذا العلم يزيد الشريف شرفاً ويجلس المملوك على الأسرة" (2) .
وأما الثالثة فإن أهل العلم وطلبته هم أهل الخشية كما شهد الله بذلك في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر 28] .
وأما الرابعة ففي قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران 18] .
قال ابن القيم: " استشهد - سبحانه - بأولي العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه:
أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر.
والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته.
والثالث: اقترانها بشهادة الملائكة.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين 269.
(2) مفتاح دار السعادة 1/164.(47/124)
والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول.
والخامس: أنه وصفهم بكونهم أولي العلم وهذا يدل على اختصاصهم به وأنهم أهله وأصحابه ليس بمستعار لهم.
والسادس: أنه - سبحانه - استشهد بنفسه وهو أجل شاهد ثم بخيار خلقه وهم الملائكة والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفاً" (1) .
وأما الخامسة: ففي قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
قال ابن القيم: "وكفى بهذا شرفاً للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه" (2) .
المطلب الثّاني: الأدلّة من السّنّة
1- أهل العلم هم ورثة الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: " العلماء ورثة الأنبياء " (3) فالله - سبحانه - جعل العلماء وكلاءَ وأمناءَ على دينه ووحيه وارتضاهم لحفظه والقيام به والذبِّ عنه، وناهيك بها منزلة شريفة ومنقبة عظيمة.
قال ابن القيم: "قوله: "إن العلماء ورثة الأنبياء" هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة والله يختص برحمته من يشاء" (4) .
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/48- 49.
(2) نفس المصدر 1/50.
(3) سيأتي تخريجه في ص 12.
(4) مفتاح دار السعادة 1/66.(47/125)
2- ثم إن طلب العلم مصدر الخير والسعادة في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (1) وقال صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله عنه، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافٍ" (2) .
قال بدر الدين بن جماعة: "اعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له، وتضع له أجنحتها، وإنه لينافس في دعاء الرجل الصالح أو من يظن صلاحه فكيف بدعاء الملائكة، وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها، فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له" (3) .
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (رقم 71) ، ومسلم في صحيحه (رقم 1037) .
(2) أخرجه أبو داود (رقم 3641 و 3642) ، وابن ماجه (رقم 223) ، والدارمي (1/98) ، وابن عبد البر (ص 37، 38، 39، 41) ، وأحمد في المسند (1965) والحديث حسن بشواهده. انظر: الفتح (1/160) .
(3) تذكرة السامع والمتكلم ص 8.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 13/502 (مع الفتح) برقم 7529. ومسلم في صحيحه برقم 815.(47/126)
قال ابن القيم: "فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي لأحد أن يحسد أحداً يعني: حسد غبطة، ويتمنى مثل حاله من غير أن يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في واحدة من هاتين الخصلتين، وهي الإحسان إلى الناس بعلمه أو ماله، وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمني مثل حاله لقلة منفعة الناس به" (1) .
4- وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا يا رسول الله: وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر" (2) .
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتقع به أو ولد صالح يدعو له" (3) .
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أعظم الأدلة على شرف العلم وفضله وعظم ثمرته، وإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به، فكأنه حي لم ينقطع علمه، مع ما له من حياة الذكر والثناء، فجريان أجره عليه إذا انقطع عن الناس ثواب أعمالهم حياة ثانية" (4) .
المطلب الثّالث: أقول بعض العلماء
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/62.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/150، والترمذي في سننه كتاب الدعوات، باب 83، 5/532 ح3510. وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 1631.
(4) مفتاح دار السعادة 1/175.(47/127)
1- هذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول في فضل العلم: "تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يحسنه صدقة، وبذله لأهله قربة، به يُعرف الله ويُعبد، وبه يُوحد، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وتوصل الأرحام، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدى بهم، أدلة في الخير تقتص آثارهم، وترمق أفعالهم، وترغب الملائكة في خُلتهم وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها، والعلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة للأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، التفكر فيه يُعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، وهو إمام للعمل والعمل تابعه يُلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء (1) .
هذا الأثر معروف عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الذي هو أعلم الناس بالحلال والحرام.
2- وعن علي - رضي الله عنه - قال: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رَعَاعٌ أتباع كُل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيؤوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق.
العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال.
العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة.
العلم حاكم والمال محكوم عليه.
ومحبة العلم دين يدان بها.
العلم يكسب العالم طاعة في حياته، وجميل الأُحْدُوثَة بعد وفاته.
__________
(1) أثر معاذ أخرجه ابن نعيم في الحلية 1/239.
وقال ابن القيم: "رواه الخطيب وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل ورواه أبو نعيم في المعجم من حديث معاذ مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وحسبه أن يصل إلى معاذ" انتهى. انظر: مفتاح دار السعادة 1/120.(47/128)
وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّانُ المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة" (1) .
قال ابن القيم: "وقوله: "إن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع" هذا تقسيم خاص للناس وهو الواقع، فإن العبد إما أن يكون قد حصَّل كماله من العلم والعمل أو لا. فالأول العالم الرباني، والثاني إما أن تكون نفسه متحركة في طلب ذلك الكمال ساعية في إدراكه أو لا والثاني هو المتعلم على سبيل النجاة، والثالث وهو الهمج الرعاع.
فالأول هو الواصل، والثاني هو الطالب، والثالث هو المحروم المُعْرِض فلا عالم ولا متعلم بل همج رعاع، والهمج من الناس حمقاؤهم وجهلتهم، وأصله من الهمج جمع همجة وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والدواب وأعينها (2) ، فشبه همج الناس به والرعاع من الناس الحمقى الذين لا يعتد بهم. وقوله أتباع كل ناعق أي من صاح بهم ودعاهم تبعوه سواء دعاهم إلى هدى أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يُدْعَوْنَ إليه أحق هو أم باطل" (3) .
3- وعن علي - رضي الله عنه - قال: "كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذماً أن يتبرأ منه من هو فيه" (4) .
4- وكان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول إذا رأى الشباب يطلبون العلم: "مرحباً بينابيع الحكمة ومصابيح الظُّلَم جدد القلوب حلس البيوت ريحان كل قبيلة" (5) .
__________
(1) ذكره أبو نعيم في الحلية وغيره، وقال أبو بكر الخطيب: هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً. انظر: مفتاح دار السعادة 1/123.
(2) انظر: لسان العرب مادة (همج) (2/392) .
(3) انظر: مفتاح دار السعادة (1/125-126) .
(4) تذكرة السامع ص 10.
(5) جامع بيان العلم وفضله (1/232 رقم257) .(47/129)
5- وقال وهب بن منبه: "يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنياً، والعز وإن كان مهيناً، والقرب وإن كان قصياً، والغنى وإن كان فقيراً، والمهابة وإن كان وضيعاً" (1) .
6- وقال سفيان بن عيينة: "أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء".
7- وقال أيضاً: "لم يعط أحد في الدنيا شيئاً أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه" فقيل: عمن هذا؟ قال: "عن الفقهاء كلهم" (2) .
8- وعن سفيان الثوري والشافعي قالا: "ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم" (3) .
9- وقال بدر الدين بن جماعة: "إن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ونحو ذلك، لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس، والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها، ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء - عليهم الصلاة والتسليم - وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة" (4) .
10- وقال ابن القيم: "السعادة الحقيقية هي سعادة العلم النًّافِعِ ثَمَرَتُهُ، فإنها هي الباقية على تقلب الأحوال، والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره وفي دوره الثلاثة - أعني: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، وبها يرتقي معارج الفضل ودرجات الكمال.
وإنما رغب أكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها وعورة طريقها ومرارة مباديها وتعب تحصيلها، وأنها لا تنال إلا عن جد من التعب، فإنها لا تحصل إلا بالجد المحض" (5) .
المبحث الثّاني
السّبيل إلى تحمّل العلم
__________
(1) تذكرة السامع ص10.
(2) نفس المصدر ص 11.
(3) جامع بيان العلم وفضله (1/123-124 رقم118،119،120) .
(4) تذكرة السامع ص 13.(47/130)
المطلب الأوّل: حاجة طالب العلم إلى الذّكاء والزّكاء
لو نظرت في أصناف طلبة العلم لوجدتهم لا يخرجون عن أحد أصناف ثلاثة:
صنف أوتي ذكاء وفهماً، مع زكاء نفس وحسن سريرة، فحَمَلَهُ ذكاؤه على الجد في طلب العلم والسعي في تحصيله، وحَمَلَهُ زَكَاءُ نفسه وطُهْرُها على العمل بهذا العلم وتطبيقه.
وصنف ثاني: أوتي ذكاء ولم يؤت زكاء، فحمله ذكاؤه على حفظ العلم وتحصيله، ومنعه زكاؤه من العمل به وتطبيقه وهذا علمه حجّة عليه لا حجّة له يوم القيامة.
وصنف ثالث: حرم الأمرين معاً، فليس عنده ذكاءٌ يحصل به العلم وليس عنده زكاءٌ يطبق به العلم.
وهذه الأصناف الثلاثة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
"إن مثل ما بعثني الله به - عز وجل - من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله منها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به فعَلِمَ وعلّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (1) .
وفي هذا الحديث شبّه النبي صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كُلاًّ من العلم والغيث سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان والعلم سبب حياة القلوب، وشبه القلوب بالأودية وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:
إحداها: أرض زكية قابلة للشراب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج.
فذلك مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (رقم 79) ، ومسلم في صحيحيه (رقم 228) .(47/131)
والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه، فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع.
وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه، فهو يحفظه للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه" (1) .
والأرض الثالثة: أرض قاع وهو المستوي الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه شيئاً، فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، وإنما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ.
فالصنف الأول من الناس: عالم معلم، وداع إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل وهذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "من فقه في دين الله ونفعه الله به فعلم وعلم".
والصنف الثاني: من أوتي الذكاء وحرم الزكاء فهو بذكائه حفظ ونقله لغيره.
والصنف الثالث: لا هذا ولا هذا، فهو قد حُرِمَ الذكاء والزكاء، فهو لذلك لم يقبل هدى الله، ولم يرفع به رأساً.
فاسْتَوْعَبَ الحديثُ أصناف الناس في مواقفهم من العلم الشرعي؛ فيعلم من الحديث السابق أن طالب العلم لابد له من أمرين متلازمين لأجل تحصيل العلم وهما الذكاء والزكاء.
فلابد له من زكاء نفس وصلاح سريرة واستقامة دين من أجل أن يحمله ذلك على:
1- إخلاص القصد وإصلاح النية في طلب العلم.
2- كبح جماح الشهوة والغفلة المانعتين من طلب العلم.
3- دفع الشبهات التي تصد عن طلب الحق.
4- القيام بحق هذا العلم تعلّماً وعملاً وتعليماً.
ولابد له من ذكاء يعينه على تحصيل العلم والجد في طلبه وعندما سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما دغفل بن حنظلة فقال: "يا دغفل من أين حفظت هذا؟ " قال: "حفظت هذا بقلب عقول ولسان سؤول" (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/225. وابن ماجه في السنن 236.
(2) جامع بيان العلم وفضله 1/378 برقم 531.(47/132)
فلابد من عقل يحسن معه صاحبه أخذ العلم بأحسن طريق وأيسره ليعينه ذلك على فهم النصوص ومعرفة المسائل حين استيعابها، ويؤكد حاجة العبد إلى الذكاء والزكاء أن الإنسان بطبعه له قوتان:
أولاً: قوة الإدراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة وهذه هي القوة العلمية النظرية التي أسميناها هنا الذكاء.
ثانياً: قوة الإرادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل وهذه هي القوة العملية التطبيقية.
ولذلك كان مدار الإيمان على أصلين هما:
الأصل الأول: تصديق الخبر والذي يكون في القوة العلمية النظرية.
الأصل الثاني: طاعة الأمر والذي يكون في القوة الإرادية العملية.
ويتبعهما أمران آخران:
الأمر الأول: دفع شبهات الباطل التي تمنع من كمال التصديق.
الأمر الثاني: دفع شهوات الغي المانعة من كمال الامتثال.
لأن الشبهة تؤثر فساداً في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها الإنسان بدفعها، ودفعها إنما يكون بالعلم الصحيح.
والشهوة تؤثر فساداً في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها الإنسان بتزكية النفس.
ولذلك قال الله في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم 2] .
فقوله: {مَا ضَلَّ} دليل على كمال علمه ومعرفته وأنه على الحق المبين.
وقوله: {وَمَا غَوَى} دليل على كمال رشده وأنه أبر العالمين.
وقد وصف صلى الله عليه وسلم بذلك خلفاءه من بعده فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (1) ، فالراشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال.
ولذلك جاءت النصوص بالحث على العلم وطلبه وتحصيله، والحث على زكاء النفس وسلامة القلب ومما ورد في ضرورة زكاء القلب قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج 46] .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/126-127، وأبو داود في السنن برقم 4607، والترمذي في السنن برقم 2676، والدارمي في المسند 1/44.(47/133)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد كله وإذا فسدت فسد سائر الجسد كله ألا وهي القلب" (1) .
فعلى طالب العلم أن يحرص على سلامة قلبه فذلك الذي ينفعه عند الله قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء 89] والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، وسلم من البدع، وسلم من الغي، وسلم من الباطل، فهو القلب الذي سلم لعبودية ربه حياءً وخوفاً وطمعاً ورجاءً، فقدم حب الله على حب من سواه، وخوفه على خوف من سواه، ورجاءه على رجاء من سواه، وسلَّم لأمره ولرسوله صلى الله عليه وسلم تصديقاً وطاعة، واستسلم لقضاء الله وقدره، وبالتالي سلَّم جميع أحواله وأقواله وأعماله ظاهراً وباطناً لله وحده (2) .
"فلا بد أن يطهر طالب العلم قلبه من كل غش ودنس وغل وحسد وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم - كما قال بعضهم -: صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصلح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها.
وإذا طيب القلب للعلم ظهرت بركته ونما، كالأرض إذا طيبت للزرع نما زرعها وزكا.
وقال سهل التستري: حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عز وجل" (3) .
وقال الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأعلمني أن العلم نور
ونور الله لا يؤتى لعاصي (4)
المطلب الثّاني: مراتب نيل العلم
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه رقم52، ومسلم في صحيحه، مساقاة رقم 107.
(2) مفتاح دار السعادة 1/41-42.
(3) تذكرة السامع والمتكلم ص 67.
(4) ديوان الشافعي ص 54، جمع محمد عفيف الزعبي.(47/134)
لنيل العلم مراتب ينبغي لطالب العلم مراعاتها حتى يحصل له عن طريقها نيل العلم بأقرب طريق وأيسر سبيل، وقد ذكر العلماء تلك المراتب وأوضحوها لطلاب العلم حتى يأخذوا بها.
قال ابن المبارك: "أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر" (1) .
قال ابن القيم: "وللعلم ست مراتب:
أولها: حسن السؤال.
الثانية: حسن الإنصات والاستماع.
الثالثة: حسن الفهم.
الرابعة: الحفظ.
الخامسة: التعليم.
السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده.
أما المرتبة الأولى: فهي حسن السؤال، فمن الناس من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم إليه منه كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من الجهال المتعلمين.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: "رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن" (2) .
وسأل معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - دغفل بن حنظلة فقال: "يا دغفل من أين حفظت هذا؟ " قال: "حفظت هذا بقلب عقول ولسان سؤول" (3) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1/476 رقم759.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم 332.
(3) تقدم تخريجه.(47/135)
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ذللت طالباً فعززت مطلوباً" (1) ، وقال: "وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار إن كنت لأَقِيْل عند باب أحدهم ولو شئت أذن لي ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه" (2) ، وقال أبو إسحاق: "قال علي كلمات لو رحلتم المطي فيهن لأفنيتموهن قبل أن تدركوا مثلهن: "لا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، واعلموا أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد: وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان" (3) ، ومن كلام بعض العلماء: "لا ينال العلم مستحٍ ولا متكبر، هذا يمنعه حياؤه من التعلم وهذا يمنعه كبره" (4) ، وإنما حمدت هذه الأخلاق في طلب العلم لأنها طريق إلى تحصيله فكانت من كمال الرجل ومفضية إلى كماله. ومن كلام الحسن: "من استتر عن طلب العلم بالحياء لبس للجهل سرباله، فاقطعوا سرابيل الجهل عنكم بدفع الحياء في العلم، فإنه من رق وجهه رق علمه" (5) ، وقال الخليل: "منزلة الجهل بين الحياء والأنفة" (6) ومن كلام علي - رضي الله عنه -: "قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان" (7) ، وقال إبراهيم للمنصور: "سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس" (8) ، وكذلك سؤال الناس هو عيب ونقص في الرجل وذلة تنافي المروءة إلا في العلم فإنه عين كماله ومروءته وعزه كما قال بعض أهل العلم: "خير خصال الرجل السؤال عن العلم" (9) ، وقال علي رضي الله عنه: "سلوني ... " فقام ابن الكواء فسأل عن
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1/474 رقم756.
(2) أخرجه الدارمي في سننه 1/141، وأبو خيثمة في "العلم" 133.
(3) جامع بيان العلم وفضله 1/383 رقم547-548.
(4) مفتاح دار السعادة 1/168.
(5) جامع بيان العلم وفضله 1/383 رقم550.
(6) نفس المصدر 1/384 رقم551.
(7) نفس المصدر 1/383 رقم549.
(8) نفس المصدر 1/387 رقم560.
(9) مفتاح دار السعادة 168.(47/136)
أشياء فقال علي: "ويلك سل تفقها ولا تسل تعنتا ... " (1) .
وأنشد ابن الأعرابي
فسل الفقيه تكن فقيها مثله
من يسع في علم بذلٍ يَمْهَرُ (2)
أما المرتبة الثانية: فهي حسن الإنصات، فمن الناس من يحرم العلم لسوء إنصاته، فيكون الكلام والممارات آثر عنده وأحب إليه من الإنصات وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطالبة للعلم وهي تمنعهم علما كثيراً ولو كان حَسَنَ الفهم. ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: "من كان حسن الفهم رديء الاستماع لم يقم خيره بشره" (3) .
وقال الزهري: "كان أبو سلمة يسأل ابن عباس فكان يعرض عنه وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلاطفه فيغره غراً، وقال أبو سلمة: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً" (4) . وقال ابن جريج: " م أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به" (5) ، وقال بعض السلف: "إذا جالست العالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول" (6) .
والمرتبة الثالثة: حسن الفهم، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق 37] فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى وكيف ينغلق باب العلم من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية ومرور الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم وكمرورها على من لا بصر له، فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات، فإنه يراها.
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1/464 رقم 726.
(2) نفس المصدر 1/381، وانظر مفتاح دار السعادة 1/168-169.
(3) جامع بيان العلم وفضله 1/448 رقم699.
(4) الجامع للخطيب 1/317 رقم 384-385.
(5) جامع بيان العلم وفضله 1/423 رقم625.
(6) نفس المصدر 1/521 رقم845.(47/137)
ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين:
أحدهما: أن يحضره ويشهده لما يلقى إليه فإن كان غائباً عنه مسافراً في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويصغى بكليته إلى ما يوعظ به ويرشد إليه.
وههنا ثلاثة أمور: أحدها سلامة القلب وصحته وقبوله.
الثاني: إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق، الثالث: إلقاء السمع وإصغاؤه والإقبال على الذكر. فذكر - الله تعالى - الأمور الثلاثة في هذه الآية " (1) .
والمرتبة الرابعة: هي الحفظ، قال الخليل بن أحمد: "ما سمعت شيئاً إلا كتبتهُ، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني" (2) .
وعن الشعبي أنه قال: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به" (3) .
وأما المرتبة الخامسة: فهي العمل به، قال بعض السلف: "كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به". وقال بعض السلف أيضاً: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل" (4) . فالعمل به من أعظم أسباب حفظه، وثباته، وترك العمل به إضاعة له فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد 28] " (5) .
وأما المرتبة السادسة: وهي نشره وتعليمه.
وقد قيل: "ما صينَ العلم بمثل العمل به وبذله لأهله" (6) .
وقال ابن القاسم: "كنا إذا ودَّعنا مالكاً يقول لنا: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه" (7) .
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/169-170) .
(2) جامع بيان العلم وفضله 1/335 رقم447.
(3) نفس المصدر 1/709 رقم1284.
(4) جامع بيان العلم وفضله 1/707 رقم1274.
(5) مفتاح دار السعادة (1/172) .
(6) جامع بيان العلم وفضله 1/496 رقم789.
(7) نفس المصدر 1/492 رقم781.(47/138)
وعن أبي حاتم الرازي قال: "نَشْرُ العلم حياته، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، يعتصم به كل مؤمن، ويكون حجة على كل مقر به وملحد" (1) .
"وحرمان العلم من هذه الوجوه الستة:
أحدها: ترك السؤال
الثاني: سوء الإنصات وعدم إلقاء السمع.
الثالث: سوء الفهم.
الرابع: عدم الحفظ.
الخامس: عدم نشره وتعليمه، فإن من خزن علمه، ولم ينشره، ولم يعلِّمْه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه جزاء من جنس عمله، وهذا أمر يشهد به الحس والوجود.
السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه.
المطلب الثّالث: آداب طالب العلم
على طالب العلم أن يراعي جملة من الأمور يتحلى بها في سلوكه سبيل العلم ومن بينها:
أولاً: حسن النية في طلب العلم: بأن يقصد به وجه الله - تعالى - والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه، والقرب من الله - تعالى - يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله.
قال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي" (2) .
ولا يقصد به الأغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة والجاه والمال ومباهاة الأقران وتعظيم الناس له وتصديره في المجالس ونحو ذلك فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.
فإن العلم إن خلصت فيه النية قبل وزكا ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله - تعالى - حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما تفوته تلك المقاصد ولا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه (3) .
__________
(1) شرف أصحاب الحديث ص 17.
(2) الجامع للخطيب 1/494 رقم 699.
(3) تذكرة السامع والمتكلم ص 68-70، بتصرف.(47/139)
ثانياً: أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه وزمن عافيته وشرخ شبابه ونباهة خاطره وقلة شواغله قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تفقهوا قبل أن تسودوا " (1) وقال الشافعي: "تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه" (2) .
ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وكذلك يقال: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.
ومما يقال عن الشافعي أنه قال: "لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة" (3) .
ثالثاً: أن يقسم أوقات ليله ونهاره ويغتنم ما بقي من عمره فإن بقية العمر لا قيمة له.
وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل.
وقال الخطيب: "أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة".
قال: "وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع" (4) .
رابعاً: أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثمان ساعات وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.
ولا بأس أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلّ شيء من ذلك أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه (5) .
__________
(1) علقه البخاري في صحيحه 1/166، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 8/540، والدارمي في سننه 1/79، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/366 رقم 508.
(2) تذكرة السامع والمتكلم ص 134.
(3) نفس المصدر ص 70-71.
(4) نفس المصدر ص 72-73.
(5) نفس المصدر ص 77-80، بتصرف.(47/140)
خامساً: أن يترك مصاحبه من كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع سراقة وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، والذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه.
وإذا احتاج إلى من يصحبه فليكن صاحباً صالحاً، ديناً، تقياً، ورعاً، ذكياً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبره (1) .
سادساً: أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله، ليستنير قلبه، ويصلح لقبول العلم ونوره والنفع به. وعليه أن يقنع من القوت بما تيسر وإن كان يسيراً، ومن اللباس بما يستر مثله وإن كان خَلقاً، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم، ويجمع شمل القلب على مفترقات الآمال فتفجر فيه ينابيع الحكم (2) .
المطلب الرّابع: موانع حمل العلم
ليس كل الناس أهل لتحمل العلم فهناك من لا يصلح لحمل العلم وقد ذكر علي بن أبي طالب - رضي الله - عنه أصناف حملة العلم الذين لا يصلحون لحمله وهم أربعة:
أحدهم: من ليس هو بمأمون عليه وهو الذي أوتي ذكاءً وحفظاً، ولكن مع ذلك لم يؤت زكاءً، فهو يتخذ العلم الذي هو آلة الدين آلة للدنيا يستجلبها بها، ويتوصل بالعلم إليها، ويجعل البضاعة التي هي متجرُ الآخرة متجرَ الدنيا، وهذا غير أمين على ما حمله من العلم ولا يجعله الله إماماً فيه قط، فإن الأمين هو الذي لا غرضَ له ولا إرادة لنفسه إلا اتباع الحق وموافقته.
وهذا الصنف الذي قد اتخذ بضاعة الآخرة ومتجرها متجراً للدنيا قد خان الله وخان عباده وخان دينه، فلهذا هو غير مأمون عليه وليس من حملته.
__________
(1) نفس المصدر ص 83-84، بتصرف.
(2) نفس المصدر ص 71، 75، بتصرف.(47/141)
والصنف الثاني: رجل همته في نيل لذته فهو منقاد لداعي الشهوة أين كان ولا ينال درجة وراثة النبوة مع ذلك، ولا يُنال العلمُ إلا بهجر اللذات وتطليق الراحة، قال مسلم في صحيحه: "قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنال العلم براحة الجسم" (1) وقال إبراهيم الحربي: "أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعم ومن آثر الراحة فاتته الراحة، فما لصاحب اللذات وما لدرجة وراثة الأنبياء" (2) .
فدع عنك الكتابة لست منها
ولو سودت وجهك بالمداد (3)
فإن العلم صناعة القلب وشغله، فمن لم يتفرغ لصناعته وشغله لم تنله. فالقلب له وجهة واحدة فإذا وجهت وجهته إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم.
ومن لم يُغلِّبْ لذة إدراكه للعلم على لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم أبداً.
الصنف الثالث: المنقاد الذي لم يَثْلُج صدره بالعلم ولم يطمئن به قلبه بل هو ضعيف البصيرة فيه، لكنه منقاد لأهله، وهذه حال أتباع الحق من مقلديهم، وهؤلاء وإن كانوا على سبيل نجاة فليسوا من دعاة الدين وإنما هم من مكثري سواد الجيش لا من أمرائه وفرسانه.
الصنف الرابع: من حِرْصُهُ وهِمَّتُهُ في جمع الأموال وتثميرها وادخارها، فقد صارت لذته في ذلك وفنى بها عما سواها فلا يرى شيئاً أطيب له مما هو فيه فمن أين هذا ودرجة العلم.
فهؤلاء الأصناف الأربعة ليسوا من دعاة الدين ولا من أئمة العلم ولا من طلبته الصادقين في طلبه.
ومن تعلق منهم بشيء منه فهو من المتسلقين عليه المتشبهين بحملته وأهله المدعين لوصاله المبتوتين من حباله.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد باب أوقات الصلوات الخمس.
(2) مفتاح دار السعادة 1/142.
(3) نفس المصدر 1/142.(47/142)
وفتنة هؤلاء فتنة لكل مفتون، فإن الناس يتشبهون بهم لما يظنون عندهم من العلم ويقولون لسنا خيراً منهم، ولا نرغب بأنفسنا عنهم، فهم حجة لكل مفتون ولهذا قال بعض الصحابة الكرام: "احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون" (1) .
المبحث الثّالث
مسؤوليّة أداء العلم
المطلب الأوّل: مسؤوليّة أدائه عملاً
المسؤولية التي يتحملها طالب العلم تجاه العلم ذات شقين:
الأول: مسؤولية أدائه عملاً.
والثاني: مسؤولية أدائه تعليماً.
فأما عن مسؤولية أدائه عملاً فقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من تعلَّم علماً لا يعمل به لم يزده العلم إلا كِبْراً" (2) .
وقال - رضي الله عنه -: "تعلَّموا، تعْلموا، فإذا علمتم فاعملوا" (3) .
وقال الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله" (4) .
وعنه قال: "عقوبة العالم موت قلبه. قيل له: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة" (5) .
وقال هلال بن العلاء: "طلب العلم شديد، وحفظه أشدُّ من طلبه، والعمل به أشدُّ من حفظه، والسلامة منه أشدُّ من العمل به، ثم أنشد يقول:
يموتُ قومٌ ويُحيي العِلْمُ ذِكْرَهٌمُ
والجَهْلُ يُلْحِقُ أَمْوَاتاً بأَمْوَاتِ (6)
وقال الشافعي: "ليس العلم ما حُفِظَ، العلم ما نَفَع" (7) .
المطلب الثّاني: مسؤوليّة أدائه تعليماً
وأما عن مسؤولية أدائه تعليماً: فقال عبد الله بن المبارك: "من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما بموت يُذهب علمه، وإما يُنسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه سلطاناً" (8) .
__________
(1) انظر: نفس المصدر 1/139-143.
(2) الترغيب والترهيب لأبي القاسم الأصبهاني 2/875.
(3) جامع بيان العلم وفضله 1/705 رقم1266. وأخرجه الدارمي1/103، والخطيب في الاقتضاء 10.
(4) جامع بيان العلم وفضله 1/698 رقم1241
(5) جامع بيان العلم وفضله 1/667 رقم1156.
(6) الترغيب والترهيب لأبي القاسم الأصبهاني 2/874.
(7) تذكرة السامع والمتكلم ص 15.
(8) سير أعلام النبلاء 8/398.(47/143)
وعن أبي قلابة قال: "العلماء ثلاثة: رجل عاش بعلمه، ولم يعش الناس به معه، ورجل عاش الناس بعلمه ولم يعش هو به، ورجل عاش بعلمه وعاش الناس به معه" (1) .
"قال بعض السلف صنفان إذا صلحا صلح سائر الناس وإذا فسدا فسد سائر الناس: العلماء والأمراء.
قال عبد الله بن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
وأحبار سوء ورهبانها " (2)
وقال محمد بن الفضل: "ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس:
1- صنف لا يعملون بما يعلمون.
2- وصنف يعملون بما لا يعلمون.
3- وصنف لا يعلمون ولا يعملون.
4- وصنف يمنعون الناس من العلم" (3) .
قال ابن القيم: "الصنف الأول: من له علم بلا عمل فهو أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة.
والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله.
وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله:
"احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون" (4) ، فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإن كان العلماء فجرة والعباد جهلة عمت المصيبة وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.
والصنف الثالث: من لا علم لهم ولا عمل وإنما هم كالأنعام السائمة.
والصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض وهم الذين يُثبِّطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه" (5) .
قال الشعبي: "كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم" (6) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11/254. وأبو نعيم في الحلية 2/283. وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/823 رقم 1546.
(2) مفتاح دار السعادة 1/105.
(3) مفتاح دار السعادة 1/160.
(4) جامع بيان العلم وفضله 1/666 رقم1161.
(5) مفتاح دار السعادة 1/160.
(6) مفتاح دار السعادة 1/160.(47/144)
قال ابن تيمية: "أهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يُضلهم علماؤهم، فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم. وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب".
وقال بدر الدين بن جماعة: "واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم لا من طلبه بسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الاتباع والطلاب" (1) .
الخاتمة
ومن هذه النقول يتضح لك يا طالب العلم عظم المسؤولية الملقاة على عاتقك، فأنت تحمل ثلاث مسؤوليات:
المسؤولية الأولى: مسؤولية نفسك.
المسؤولية الثانية: مسؤولية هذا الدين الذي حملته وأصبحت أميناً عليه.
المسؤولية الثالثة: مسؤولية هذه الأمة التي من مسؤوليتك تعليمها وإرشادها، وألا تبخل عليها بالتوجيه والنصح.
ولا يخفى على طالب العلم أن ما عليه حال كثير من الناس اليوم من ضلال وانحراف هو سبب بعدهم عن شرع ربهم ومعلوم أن صلاح أحوال الناس مرهون بعودتهم إلى دينهم والتمسك بشرع ربهم.
وهذه حقيقة متقررة لا جدال فيها ولا مراء، وطلبة العلم هم حملة لواء الشريعة والأمناء على ميراث النبوة، وعندهم طب الناس ودواؤهم، فلو أنهم قاموا بواجبهم حق القيام لتغير - بإذن الله - حال الناس ولاستقامت أمورهم، ولأصلح الله من شأنهم.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص13.(47/145)
وإنه لمن العجيب أن ترى أصحاب الباطل ينشطون في باطلهم ويبذلون له كل غال ونفيس ويتفانون ويتفننون في خدمة ذلك الباطل سواء كان ديناً محرفاً أم فكراً فاسداً أو لهواً محرماً، وبينما ترى بعض أصحاب الحق وطلبة العلم الشرعي الصحيح لا يبذلون من الوقت والجهد كما يبذل أولئك مع ما هم عليه من الحق والفضل والأجر، وما عليه أولئك من الإثم والخزي والخسران المبين في الدنيا والآخرة.
وأعجب من ذلك أن يركن طالب العلم للدنيا وحطامها الفاني وزخرفها الزائل ولا يسعى لتحصيل العلم الذي هو السبيل إلى جنة الخلد الباقية، فلا يليق بطلاب العلم أن يركنوا إلى الدعة والراحة والاشتغال بملاذ العيش ووسائل الراحة والرفاهية التي شاعت في عصرنا الحاضر.
وليعلم طالب العلم أنه إن فوت تحصيل العلم وضيع الأيام والليالي وسَوَّفَ في ساعات الشباب ولم يبادر نفسه ويلزمها مجالس التحصيل والدرس ويغتنم أوقات الفراغ والقوة والنشاط، فإن ذلك إذا مضى لن يعود، فإذا هو فرط في أمانة التحمل ولم يحصل العلم، فإنه من باب أولى أن يكون مفرطاً في مسؤولية الأداء وتبليغ شرع الله، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
فحري بطالب العلم أن يستشعر مسؤوليته ويقوم بواجبه تجاه العلم الشرعي تعلماً وعملاً وتعليماً.
وذلك "بسلوك هدي الأنبياء وطريقتهم في التبليغ من الصبر والاحتمال ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان والرفق بهم، واستجلابهم إلى الله بأحسن الطرق وبذل ما يمكن من النصيحة لهم" (1) .
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ثبت المصادر والمراجع
تذكرة السامع والمتكلم في أداب العالم والمتعلم لبدر الدين ابن جماعة الكناني الناشر: دار الكتب العلمية.
الترغيب والترهيب لأبي القاسم الأصبهاني الناشر مكتبة النهضة الحديثة.
جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد البر تحقيق أبي الأشبال الزهيري ط: دار ابن الجوزي، ط1.
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/66.(47/146)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع لأبي بكر الخطيب البغدادي، تحقيق محمد عجاج الخطيب.
حلية الأولياء - لأبي نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1387هـ.
السنن - أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي- تعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، نشر وتوزيع محمد علي السيد، حمص، ط1، 1388هـ.
السنن - أبو عبد الله، محمد بن يزيد بن ماجة القزويني- تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
السنن - أبي عيسى، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي- تحقيق أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
السنن - عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
سير أعلام النبلاء للذهبي ط. مؤسسة الرسالة.
شرف أصحاب الحديث لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي تحقيق د. محمد سعيد خطيب أوغلي الناشر: دار إحياء السنة النبوية.
الجامع الصحيح - محمد بن إسماعيل البخاري- طبعة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية.
صحيح مسلم - مسلم بن الحجاج القشري - دار المعرفة، بيروت، لبنان.
فتح الباري شرح صحيح البخاري - الناشر المكتبة الإسلامية
المسند - الإمام أحمد بن حنبل الشيباني - دار صادر، بيروت، لبنان.
مصنف عبد الرزاق - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - المكتب الإسلامي،ط 2، 1403 هـ
مفتاح دار السعادة لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية الناشر دار الكتب العلمية.(47/147)
المقدَّمة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
وبعد؛ فإنّ الدعوة إلى الله تعالى هي سبيل الأنبياء والمرسلين، وطريق صفوة الخلق أجمعين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وطريق أتباعه إلى يوم الدين.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
وقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (2) .فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأتباعه تقوم على العلم والبصيرة في الدين، ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. وذلك لا خراجهم من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات البدع إلى نور السنة، ومن المعاصي إلى الطاعة، ومن النار إلى الجنة.
والدعاة إلى الله تعالى المقتفون لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهم المكانة العالية والمنزلة السامية في كل عصر، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) .
ولأهمية الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح قد جعلت هذا البحث بعنوان "المنهج الصحيح وأثره في الدعوة إلى الله تعالى" وذلك لا سباب، من أهمها:
__________
(1) سورة يوسف، الآية (108) .
(2) سورة النحل، الآية (125) .
(3) سورة فصلت، الآية (33) .(47/148)
أولاً: ما يلاحظ على أكثر الجماعات العاملة في الساحة الإسلامية من إغفال أو إهمال للجانب الأساسي والأهم، وهو دعوة الناس إلى "التوحيد " وتصحيح عقائدهم، فكثير من هؤلاء الدعاة يسلكون مسالك شتى، لا تتوافق مع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المنهج الذي يجب على كل داعية إلى الله تعالى أن يسلكه ويسير عليه، عملاً بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ً} (1) .
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية (21) .(47/149)
والدعوة إلى التوحيد هى أول دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - إلى أقوامهم، وكل الكتب المنزلة إنما نزلت لبيان عقيدة التوحيد، وبيان مايبطلها ويناقضها أو ينقصها، فعقيدة التوحيد هي التي يقوم عليها كيان المجتمع الإسلامي، ومنها يستلهمون طريق وحدتهم وعزتهم، إلا أن أكثر الأساليب والوسائل المتعددة التي تنادي بوحدة المسلمين، وجمع كلمتهم، ولمّ شملهم لم تحقق الأهداف المنشودة، مع مابذل فيها من الجهد والوقت والمال، بل الذي نتج عن هذه الدعوات وتلك المناهج إنما هو التعصب، والاختلاف، والتطرف، والغلوّ، والابتداع والتكفير ... وماذلك إلا لا نَّ هذه المناهج وتلك الدعوات لم تقم على المنهج الصحيح الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان، حيث نجد أنَّ جماعة من هؤلاء تهتم بالسياسة والجهاد، وجماعة تدعو إلى الترغيب والترهيب والزهد والورع، وأخرى تهتم بالأخلاق، وهكذا قلَّ أن تجد من بين هذه الجماعات من يهتم بالركن الأساسي والأهم وهو الدعوة إلى التوحيد، الذي هو المنطلق المتين لوحدة المسلمين ولمَّ شملهم. (1)
ثانياً: إني لم أقف على من أفرد هذا البحث بهذا الاسم - على حد علمي القاصر.
ومن هنا فإن الحاجة ماسة إلى بيان المنهج الصحيح القائم على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - لذا فقد رغبتُ في الكتابة في هذا الموضوع للمشاركة في توضيح الحق، وبيانه للناس، لا ن هذا هو المنهج الذي يجب اتباعه دون ماسواه من المناهج المخالفة.
__________
(1) انظر مقدمة فضيلة الدكتور صالح الفوزان على كتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع المدخلي 6-7، منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين للشيخ صالح بن سعد السحيمي، 4-5.(47/150)
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (2) .
وقال رسول الهدىصلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ماتمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي" (3) .
ويقول الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -! "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" (4) .
وعندما أقول بوجوب الاهتمام بالدعوة إلى التوحيد، والبدء به أولاً، لا يعني إهمال الجوانب الأخرى التي يحتاج إليها المسلم، وتتفق مع عقيدته، وإنما المقصود أن نبدأ بالدعوة إلى التوحيد، ثم الأهم فالأهم مع جعل أعمالنا كلها تقوم على أساس العقيدة الصحيحة.
خطة البحث
وقد جعلت البحث في مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة.
اشتملت المقدمة على أهمية الموضوع، وسبب الاختيار، والخطة ومنهجي في البحث.
والفصل الأول: أهمية العقيدة الصحيحة ووجوب التمسك بها، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: وجوب التمسك بالعقيدة الصحيحة.
المبحث الأول: وجوب التمسك بالعقيدة الصحيحة.
المبحث الثاني: أهمية التوحيد وفضله.
المبحث الثالث: البدء بالدعوة إلى التوحيد أولاً.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية 153.
(2) سورة آل عمران، الآية 103.
(3) حديث حسن. أخرجه مالك في الموطأ، 2/899، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، رقم3، والحاكم في المستدرك، (1/93) ، والبيهقي في السنن (10/11) ، وانظر تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني على مشكاة المصابيح للإمام التبريزي، 1/66، رقم 186، وانظر الأربعين حديثاً في الدعوة والدعاة، لعلي بن حسن الحلبي الأثري، الحديث رقم 7، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) انظر الشفاء للقاضي عياض، (2/676) ، دار الكتاب العربي تحقيق البجاوي، وموارد الأمان، 265.(47/151)
والفصل الثاني: الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى، ويشتمل على مايلي:
أولاً: العلم.
ثانياً: الإخلاص.
ثالثاً: المتابعة.
رابعاً: الحكمة.
خامساً: الرفق والحلم.
سادساً: الصبر.
سابعاً: التحلي بالأخلاق الفاضلة.
والفصل الثالث: أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الغلو في الدين.
المبحث الثاني: الجهل.
المبحث الثالث: الابتداع في الدين.
المبحث الرابع: اتباع الهوى.
المبحث الخامس: تقديم العقل على النقل.
المبحث السادس: التفرق والتحزب.
والفصل الرابع: أثر المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى.
وأما الخاتمة: فقد أوجزتُ فيها أهم نتائج البحث.
وقد عزوت الآيات الكريمة إلى مواضعها من السور، وخرجتُ الأحاديث النبوية الواردة في البحث، كما وثقت النصوص التي نقلتها عن بعض العلماء من مصادرها الأصلية، ثم ألحقت به قائمة بأهم المصادر والمراجع مرتبة حسب حروف الهجاء، وقائمة أخرى للموضوعات.
ولا يفوتني أن أقول: إن هذا جهد المقلَّ، فما كان فيه من صواب فهو من فضل الله تعالى وتوفيقه لي، وأشكره سبحانه على ذلك، وماكان فيه من خطأ ونقص فأستغفر الله منه وأتوب إليه، وأرجو ممن قرأه ووجد فيه خللاً أن ينبهني إليه امتثالاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) .
وسأكون شاكراً لنصحه وتوجيهه، وله من الله الأجر والمثوبة.
وأسأل الله ـ جلّت قدرته ـ أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من يراه من الدعاة المخلصين، وأن يجعله في موازين حسناتي يوم الدين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب:
د. حمود بن أحمدالرحيلي
الفصل الأول
أهمية العقيدة الصحيحة ووجوب التمسك بها، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول
وجوب التمسك بالعقيدة الصحيحة
__________
(1) سورة المائدة، من الآية (2) .(47/152)
إنَّ العقيدة الصحيحة هي الأساس المتين، والركن العظيم لدين الإسلام، ولذا فإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول ماقاموا به في دعوة أقوامهم هو دعوتهم إلى تصحيح الاعتقاد، وإلى توحيد الله جلَّ وعلا، فصلاح الأمم مرهون بسلامة عقيدتها، وصحة أفكارها، وكل بناءٍ لا تكون العقيدة أساسه، إنما هو بناء متهدم الأركان، وليس له بقاء ولا قرار، وبدون تصحيح العقيدة لا فائدة من الأعمال أياً كان نوعها.
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ـ بعد بعثته ـ ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى تصحيح العقيدة، وإلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، ولم تنزل عليه الفرائض إلا في المدينة ماعدا الصلاة، أما بقية الشرائع ففرضت في المدينة، مما يدُّل دلالة واضحة على أنه لا يُطالب أحد بالأعمال إلا بعد تصحيح العقيدة، وتصفيتها من كل شائبة، وإذا صلحت العقيدة صلحت أعمال المسلم، وذلك لا ن العقيدة الصحيحة تحمل المسلم على الأعمال الصالحة، وتوجهه إلى الأفعال الحميدة.
فالواجب على الداعية إلى الله تعالى أن يهتم بعقيدة السلف الصالح - رضوان الله عليهم - علماً وعملاً بها، ودعوة إليها، لا نها العقيدة التي أُمرنا بالتمسك بها، والمحافظة عليها، والتي لا يجوز لا ي داعية أن يعدل عنها أو أن يتخذ أي عقيدة سواها.
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة، الآية (72) .
(2) سورة الزمر، الآية (65) .
(3) سورة الأنعام، من الآية (153) .(47/153)
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) وقال تعالى في فضل المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) .
يقول الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتابه القيّم "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة": "فإنَّ أوجب ماعلى المرء معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله به عباده من فهم توحيده، وصفاته، وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين، وكان من أعظم منقول، وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار المتقين، ثم ماأجمع عليه السلف الصالحون، ثم التمسك بمجموعها، والمقام عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلون، فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة، والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة، التي عمل عليها الصحابة والتابعون ومن بعدهم خاصة الناس وعامتهم من المسلمين، واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين" (3) .
__________
(1) سورة الشورى، الآية (13) .
(2) سورة التوبة، الآية (100) .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة،2/9.(47/154)
ويقول أبو نصر الوايلي السجزي في وصف أهل السنة والجماعة: "أهل السنة هم الثابتون على اعتقاد مانقله إليهم السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فيمالم يثبت فيه نص في الكتاب، ولا عن الرسولصلى الله عليه وسلم، لا نهم ـ رضي الله عنهم أئمة ـ، وقد أمرنا باقتفاء آثارهم، واتباع سنتهم، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى إقامة برهان" (1) .
وجماعة المسلمين: الصحابة، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، المنتسبون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته، الراغبون فيها دون ماسواها من الأهواء والبدع، وهم السلف الصالح، ومن هنا لما ظهرت البدع والأهواء المضلة، قيل لمعتقدهم السلفي، أو العقيدة السلفية، وهم الذين يمثلون الصراط المستقيم، سيراً على منهاج النبوة وسلفهم الصالح، ولم يحصل تمام البروز والظهور لهذه الألقاب الشريفة لجماعة المسلمين، إلا حين دبت في المسلمين الفرقة، وتعددت على جنبتي الصراط الفرق، وتكاثرت الأهواء، وخلفت الخلوف، فبرزت هذه الألقاب الشريفة للتميز عن معالم الفرق الضالة، وهي مع ذلك ألقاب لا تختص برسم يخالف الكتاب والسنة، زيادة أو نقصاً، وإنما يمثلون في الحقيقة والحال الامتداد الطبعي لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ في الشكل والمضمون والمادة والصورة (2) .
__________
(1) الرد على من أنكر الحرف والصوت، 99.
(2) حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية، للشيخ بكر أبو زيد، 90، بتصرف.(47/155)
وتتلخص عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، ويتفرع عن هذه الأصول كل مايجب الإيمان به من أمور الغيب (1) .
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (2) .
وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) . ...
فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يتمسكوا بعقيدة أهل السنة والجماعة وأصولهم، في الاعتقاد والعمل والسلوك، وأن يتركوا كل ماخالف هذا المنهج القويم والصراط المستقيم، من البدع المضلة، والمناهج الفاسدة، والأفكار السيئة، التي ضللت المسلمين، وجعلتهم فرقاً وأحزاباً، كلٌ يدعي العصمة لمنهجه وطريقته، زاعماً أنَّ الحق معه، على حد قول القائل:
وكلٌ يدعي وصلاً لليلى
وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكاوإن المنهج الحق الذي يجب اتباعه هو منهج أهل السنة والجماعة الذين جاءت الأدلة بفضلهم، والثناء عليهم، فإنه طريق الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
المبحث الثاني
أهمية التوحيد وفضله
__________
(1) انظر العقيدة الصحيحة ونواقض الإسلام، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز،3-4، وللاستزادة في معرفة أصول أهل السنة والجماعة، انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان إسماعيل الصابوني، ومجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/129، وما بعدها، وشرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، وعقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ محمد بن عثيمين، ومحاضرات في العقيدة والدعوة، للشيخ صالح الفوزان، 2/143-160.
(2) سورة البقرة، الآية (177) .
(3) سورة القمر، الآية (49) .(47/156)
إن التوحيد هو الأمر الذي بعث الله من أجله الرسل، وأنزل من أجله الكتب، وخلق من أجله الثقلين - الإنس والجن - وبقية الأحكام تابعة لذلك.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) والمعنى لتخصوه ـ سبحانه ـ بالعبادة وتفردوه جلَّ وعلا بها، ولم تُخْلَقُوا عبثاً ولاسُدىً.
وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) .
والتوحيد هو: أول دعوة جميع الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وما من أمة إلا بعث الله فيهم رسولاً يدعوهم إلى التوحيد ويحذرهم من الشرك.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (3) .
والتوحيد هو: إفراد الله تعالى بالعبادة، وترك عبادة ما سواه.
وقد تكرر موضوع التوحيد في كتاب الله، ولا تكاد تخلو سورة من سور القرآن العظيم إلا وفيها ذكر للتوحيد، وأمر به، وحث عليه.
__________
(1) سورة الذاريات، الآية (56) .
(2) سورة الفاتحة، الآية (5) .
(3) سورة النحل، من الآية (36) .(47/157)
فالقرآن كله في التوحيد، لا نه إما خبر عن الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأمر بعبادته وحده لا شريك له ونهى عن الشرك به، وإما بيان لجزاء الموحدين الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل في الدنيا والآخرة، وبيان لجزاء المشركين الذين أعرضوا عن التوحيد وما حلَّ بهم من العقوبات في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة. وإما إخبارهم عن الموحدين من الرسل وأتباعهم. أو إخبار عن المكذبين من المشركين وأتباعهم من الأمم السابقة: كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وقوم إبراهيم، وأصحاب مدين، والمؤتفكات، وغيرهم من الأمم لما أعرضوا عن التوحيد وعصوا الرسل ماذا حل بهم؟ وإما بيان للحلال والحرام وهذا من حقوق التوحيد، فكون الإنسان يحل الحلال ويكتسب الحلال، ويستعمل الحلال، ويحرم الحرام ويبتعد عن الحرام وعن كسب الحرام هذا من حقوق التوحيد أيضاً.
فالقرآن كله توحيد، لا نه إما لبيان التوحيد وبيان مناقضاته ومنقصاته. وإما إخبار عن أهل التوحيد، وماأكرمهم الله به، أو أخبار عن المشركين وما انتقم الله تعالى منهم في الدنيا وما أعدَّ لهم في الآخرة، وإما أحكام وبيان للحلال والحرام وهذا من حقوق التوحيد (1) .
__________
(1) انظر مدارج السالكين، 3/468-469، ومحاضرات في العقيدة والدعوة، للدكتور صالح الفوزان، 2/9-10.(47/158)
ومما يدل على أهمية التوحيد، وأنه أساس العمل، تكفيره للذنوب والكبائر، يدل على ذلك ماجاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله، ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ماكان من العمل" (1) .
وعن عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: "فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" (2) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ من حديث صاحب البطاقة حيث ينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يؤتى ببطاقة فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفه، والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة" (3) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 6/474، كتب الأنبياء، باب قوله تعالى:. {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} ، رقم 3435، وصحيح مسلم 1/57، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، رقم 46.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، 1/519، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، رقم 425، وصحيح مسلم 1/456، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، رقم263.
(3) الترمذي 5/24-25، كتاب الإيمان باب ما جاء في من يموت وهو شهيد أن لا إله إلا الله، رقم 2639، وابن ماجه، 2/1437، كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، رقم 4300، وأحمد 2/213، والحاكم 1/6/529، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/262.(47/159)
وللترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: "يابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لا تيتك بقرابها مغفرة" (1) .
المبحث الثالث
البدء بالدعوة إلى التوحيد أولاً
إن البدء في الدعوة إلى الله تعالى بالأهم قبل المهم والتدرج في الدعوة حسب الأوليات لهو من أهم الضروريات التي يجب على الداعية إلى الله تعالى معرفتها والعمل على تحقيقها.
وقد دلَّ على ثبوت هذا المبدأ الكتاب والسنة وعمل سلف هذه الأمة الصالح رضوان الله عليهم.
إذ قص الله تعالى علينا في كتابه الكريم قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم، فكان كل واحد منهم يبدأ بدعوة قومه إلى توحيد الله تعالى واخلاص العبادة له وحده ونبذ الشرك وأهله.
قال تعالى عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) .
وقال سبحانه عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) .
وقال جلَّ ذكره عن صالحعليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي، 5/548، كتاب الدعوات، باب فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، رقم 3540، وقال هذا حديث حسن غريب، وأحمد في المسند، 5/154،172، والحاكم في المستدرك 4/241، ووافقه الذهبي مختصراً، من حديثه، وله شاهد عند مسلم، 4/2068، كتاب الذكر والدعاء..، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، رقم 2687.
(2) سورة الأعراف، من الآية (59) .
(3) سورة الأعراف، من الآية (65) ، وسورة هود، الآية (50) .
(4) سورة الأعراف، من الآية (73) ، وسورة هود، من الآية (61) .(47/160)
وقال عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
وقال تعالى عن يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2) .
وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (3) .
وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) .
وقال عن موسى عليه السلام: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (5) .
وقال عن عيسىعليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (6) .
__________
(1) سورة العنكبوت، الآية (16) .
(2) سورة البقرة، الآية (133) .
(3) سورة يوسف، الآيات (38-40) .
(4) سورة الأعراف، من الآية (85) ، وسورة هود، من الآية (84) .
(5) سورة الأعراف، الآية (14) .
(6) سورة آل عمران، الآية (51) .(47/161)
وهذا المنهج هو الذي سار عليه خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، فقد بدأ صلى الله عليه وسلم بما بدأ به كل الأنبياء، وانطلق من حيث انطلقوا بدعوتهم من عقيدة التوحيد والدعوة إلى إخلاص العبادة لله وحده.
وقد أمره ربه ـ تبارك وتعالى ـ أن يدعو الناس جميعاً إلى التوحيد، فقال تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) .
وقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة لا يكلُّ ولا يَمَلُّ صابراً على كل ألوان الأذى، وهو يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك قبل أن يا مرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا، والزنا، والسرقة، وقتل النفوس بغير حق (3) .
اللهم إلاّ ماكان يا مر به قومه من معالي الأخلاق كصلة الرحم، والصدق، والعفاف، وأداء الأمانة، وحسن الجوار ونحو ذلك، ولكن الموضوع الأساسي، ومحور الدعوة إنما هو عن التوحيد وتحقيقه.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية (158) .
(2) سورة الأنعام، الآية (161-162) .
(3) انظر مقدمة فضيلة الدكتور صالح الفوزان على كتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع المدخلي، ص5.(47/162)
وبعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلى المدينة، وقامت دولة الإسلام على أساس التوحيد ظل الاهتمام بهذا الأمر على أشده والآيات القرآنية تنزل به، والتوجيهات النبوية تدور حوله.
ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا بل كان يبايع على عقيدة التوحيد عظماء الصحابة فضلاً عن غيرهم بين الفينة والفينة، كلما تسنح له فرصة للبيعة عليها.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يا تِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وهذه الآية وإن كانت في بيعة النساء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع على مضمونها الرجال (2) .
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم" والآية التي أخذت على النساء {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه" (3) .
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية (12) .
(2) انظر منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع المدخلي، 57-58.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 1/64، كتاب الإيمان، باب 11، حديث 18، وصحيح مسلم 3/1333، كتاب الحدود، باب الحدود والكفارات لأهلها، حديث 1709، والنسائي، 7/142، كتاب البيعة على الجهاد.(47/163)
أما السنة ففيها الشيء الكثير الدال على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح دعوته بالتوحيد ويختتمها بذلك، واستمراره على ذلك طيلة حياته صلى الله عليه وسلم بلا كلل أو ملل.
1-عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: "كنت وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جُرءَاءُ عليه قومه فتلطفت، حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: "أنا نبي" فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله" فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحدوا الله لا يُشْرَكُ به شيء" فقلت: ومن معك على هذا؟ قال: "حر وعبد"، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به …" الحديث (1) .
2-قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يا كل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ماكنّا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان ... " الحديث (2) .
__________
(1) صحيح مسلم، 1/569، كتاب صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، رقم 294، وأحمد في المسند، 4/112.
(2) انظر الإمام أحمد في المسند، 1/202، والسير والمغازي، لابن إسحاق، 213-217، وسيرة ابن هشام، 1/289-293، بإسناد حسن إلى أم سلمة رضي الله عنها، وانظر السيرة النبوية، لابن كثير 2/11، وفتح الباري، لابن حجر، 7/189، وانظر السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم العمري، 1/173-174.(47/164)
3-وفي أسئلة هرقل لا بي سفيان في مدة صلح الحديبية عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا بي سفيان: ماذا يا مركم؟ قال أبو سفيان قلت: يقول: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا مايقول آباؤكم، ويأمر بالصلاة، والصدق والعفاف، والصلة" (1) .
فهذه الأحاديث الشريفة تبين لنا أن الدعوة إلى التوحيد هي أول ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يا مر به رسله إذا بعثهم للقيام بالدعوة.
4-وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم…" الحديث (2) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، 1/32، كتاب بدء الوحي، حديث 6.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، 3/357، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، حديث 1496، ومسلم 1/50، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث 19.(47/165)
وإذا أراد الداعية إلى الله تعالى دعوة الناس، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد، الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، إذ لا تصح الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصح العبادة مع الشرك، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (1) ، ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أول ما يُبدأ به في الدعوة (2) .
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً ... وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم" (3) .
تلك هي دعوة الأنبياء جميعاً وعلى رأسهم أولو العزم من الرسل ـ عليهم السلام ـ يبدأون دعوتهم بالتوحيد في كل زمان ومكان مما يدل على أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك في دعوة الناس إلى الله تعالى وسنة من سننه التي رسمها لا نبيائه وأتباعهم الصادقين، لا يجوز تبديلها ولا العدول عنها (4) .
الفصل الثاني
الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله
تتلخص الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى - كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة فيما يلي (5) :
أولاً: العلم:
__________
(1) سورة التوبة، الآية (19) .
(2) تيسير العزيز الحميد، 123.
(3) تيسير العزيز الحميد، 127.
(4) انظر منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، 26-27.
(5) انظر مقدمة الدكتور صالح الفوزان على منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، ص3.(47/166)
فلابدّ للداعي إلى الله تعالى أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يدعو إليه، فالجاهل لا يصلح أن يكون داعية.
قال تعالى مخاطباً نبيه محمدا ًصلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (1) .
وبوّب الإمام البخاري - رحمه الله - لهذه الآية بقوله: "باب العلم قبل القول والعمل" (2) .
قال الإمام ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لا نه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: (إن العلم لا ينفع إلا بالعمل) تهوين أمرالعلم والتساهل في طلبه (3) .
والعلم الحقيقي هو معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4) .
ولا يكون الداعية إلى الله ناجحاً في دعوته، حكيماً في أمره ونهيه إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير الطريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين، ولا شك أنه لا ينهى عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس وشُرَطُه (5) .
__________
(1) سورة محمد، الآية (19) .
(2) انظر صحيح البخاري مع الفتح، 1/159، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
(3) انظر فتح الباري لابن حجر، 1/160، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
(4) سورة النحل، الآية (44) .
(5) انظر مدارج السالكين، لابن القيم، 2/483.(47/167)
ومن الأدلة الواردة في فضل العلم والحث عليه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (2) .
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) .
ومن الأحاديث: ماجاء عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (4) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (5) .
__________
(1) سورة الزمر، الآية (9) .
(2) سورة المجادلة، من الآية (11) .
(3) سورة فاطر، الآية (28) .
(4) صحيح البخاري مع الفتح، 1/164، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، رقم 71، وصحيح مسلم، 2/718، كتب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم 1037، والترمذي، 4/137، أبواب العلم، باب إذا أراد الله بعبده خيراً فقهه في الدين، رقم 2783.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، 1/165، كتاب العلم، باب الإغتباط في العلم والحكمة، رقم 73، وصحيح مسلم، 1/559، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، رقم 816.(47/168)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسَقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثلُ من فقه دين الله، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (1) .
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة التي تدل على فضل العلم والحث عليه والعمل به.
وليس القصد هنا سرد الأدلة في هذا الأمر، فهذا شيء معروف، ولكن أحب أن أُوكد على أنه يجب على من أراد أن ينصب نفسه للدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قياماً بما أوجب الله عليه، والنصح لعباده، وطمعاً فيما وعد الله به أهل تلك الأعمال من الأجر العظيم والنعيم المقيم، فليتفقه في دينه وليأخذ العلم عن أهله الراسخين فيه، السائرين في طريقه القويم، طريق السلف الصالح المتمثل في منهج أهل السنة والجماعة. فالذي يريد أن يدعو الناس لا بدَّ له أن يتعلم على أيدي العلماء الربانيين قبل أن يتصدى للدعوة إلى الله تعالى، حتى يقوم بذلك بحجة ودليل ويعرف كيف يسير في ذلك الطريق، على هدى ونور.
يوضح شيخنا فضيلة الدكتور محمد أمان بن علي الجامي ـ رحمه الله ـ أهمية البصيرة للدعاة إلى الله، ووجوب الرجوع لسيرة السلف الصالح، وطريقة دعوتهم، وأنَّ أي طريقة أو جماعة لا تنتهج نهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، فمصيرها الفشل لا محالة، فيقول:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، 1/175، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، رقم 79، وصحيح مسلم، 4/1787، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي والعلم، رقم 2282.(47/169)
"تُوجد في العصر الحديث جماعات تدعو إلى الله، ولكنها في الغالب تتخبط على غير بصيرة، فالواجب على دعاة الحق أن يكونوا على بصيرة فاهمين ما يدعون إليه ومتصورين له ومؤمنين به {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) .
هاتان صفتان لا تباع محمد عليه الصلاة والسلام:
1-القيام بواجب الدعوة.
2-أن يكسبوا البصيرة قبل أن يشرعوا في الدعوة.
البصيرة هي: العلم الذي مصدره الوحي، والفقه الدقيق، الذي يستفيد منه الداعية الحكمة، وحسن الأسلوب، وكسب القلوب، والتحبب إلى الناس.
وهذه الجماعات أشبهها بالأحزاب السياسية المتنافسة لمصالحها الشخصية وأغراضها الذاتية، وهي ذاتها محنة من المحن ومشكلة من المشكلات للدعوة والدعاة معاً، إذا بقيت على وضعها ولم تعد النظر في سلوكها ومنهج عملها وبرامجها، وأساليب دعوتها وسياستها، فخطرها على الدعوة يفوق كل خطر يهدد الدعوة من خارجها.
فعلى هذه الجماعات أن تدرس تاريخ الدعاة الأولين من الصحابة والتابعين الذين نطق بهم القرآن، وبه نطقوا، والذين انتشر الإسلام بدعوتهم، بل عليهم أن يفهموا الدين كما فهم أولئك السادة، ويسيروا سيرتهم، وينسجوا على منوالهم، مع ملاحظة الأساليب المناسبة في العصرالحديث، والملابسات والظروف وأحوال الناس، وإن لم يسلكوا هذا المسلك فسوف لا يكتب للدعوة أي نجاح أو أي تقدم لا نه عمل لم يستوف الشروط، وهو عمل غير صالح (2) .
ثانياً: الإخلاص:
__________
(1) سورة يوسف، من الآية (108) .
(2) أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام، 218-219.(47/170)
إن من أهم مايجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون مخلصاً لله في دعوته، وأمره ونهيه، بحيث لا يرجو إلا الجزاء من الله تعالى وحده، فلا يكون هدفه طمعاً مادياً أو غرضاً دنيوياً، ولا يكون هدفه من ذلك الرياء أو السمعة وطلب الشهرة أو شيء من حطام الدنيا، أو أن يظهر فضله في دينه أو علمه أو عمله أو عقله على من يدعوه أو يا مره وينهاه، مما يزينه الشيطان، ويكيد به الإنسان ليبطل عمله ويفسد سعيه.
وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بإخلاص نياتهم وأعمالهم وعباداتهم لله تعالى وحده، قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وآمراً له أن يخاطب أمته بذلك: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (1) .
وقال عز وجل: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (2) .
وقال جل شأنه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (4) .
قال الإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ: "ومعناه كل عمل بنية، فلا يقبل عمل بدون نية" (5) .
__________
(1) سورة الزمر، الآية (11) .
(2) سورة الزمر، الآية (14) .
(3) سورة هود، الآيتان (15-16) .
(4) صحيح البخاري مع الفتح، 1/9، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم، 3/1515، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنية"، وأحمد في المسند، 1/25.
(5) فتح الباري، 1/11.(47/171)
وعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: "إنَّ بالمدينة لرجالاً ماسرتم مسيراً ولا قطعتم واديا إلاكانوا معكم حبسهم المرض" (1) فهؤلاء كتب الله لهم من الأجر ماكتب لا خوانهم المجاهدين في سبيل الله وذلك بسبب صلاح نياتهم واخلاصهم لله وحده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (2) .
وقد وردت بعض الآثار عن بعض السلف تبين أهمية النية ودورها في قبول العمل منها ماورد عن مطرف بن عبد الله قال: "صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية" (3) .
وعن ابن المبارك قال: "رُبَّ عمل صغير تُعظمه النية، ورُب عمل كبير تصغره النية" (4) .
وعن أبي سليمان: "طوبى لمن صحت له خطوة لا يريد بها إلا الله تعالى" (5) .
فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يخلص نيته لله تعالى، وأن يتجرد من حظوظ النفس ومن نزغات الشيطان، وأن يكون قصده وهدفه ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، وفي أنبياء الله ورسله - عليهم السلام - القدوة الحسنة، فإن القصد من دعوتهم إصلاحهم، وابتغاء الأجر والمثوبة من الله وحده.
قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) وهكذا بقية الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يريدون من دعوتهم إلا مرضاة الله تعالى.
__________
(1) صحيح مسلم، 3/1518، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر.
(2) صحيح مسلم،4/2289، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم 2985.
(3) انظر جامع العلوم والحكم، 10/71.
(4) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(5) انظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، 370-371.
(6) سورة الشعراء، الآية (109) .(47/172)
لذا فإن على الداعية إلى الله تعالى على بصيرة أن يهتم بالإخلاص، ويحذر على نفسه من الرياء والسمعة، فإن الشيطان حريص على أن يفسد عليه عمله، وقد تدعوه النفس الأمارة بالسوء إلى حب الظهور أو الشهرة أو ماشابههما من أغراض الدنيا الفانية، ومن ثم يقع في المحذور والعياذ بالله.
... نسأل الله تعالى لنا ولجميع الدعاة إلى الله تعالى الإخلاص في القول والعمل.
ثالثاً: المتابعة:
لما كانت الدعوة إلى الله تعالى من أجل العبادات فإنه لا بد فيها من توفر الشرطين الأساسيين لصحتها وهما: الإخلاص، والمتابعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: "وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يُراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب والعمل الصالح، في الأمور العلمية، والأمور العملية العبادية" (1) .
فالمتابعة شرط في قبول الأعمال، ومنها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} (2) .
والعمل الصالح هو العمل الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين - أي الإخلاص والمتابعة - كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (3) ، قال: أخلصه وأصوبه، فقيل له: يا أبا عليّ ما أخلَصُه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، وإذا كان خالصاًولم يكن صواباً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله والصواب: أن يكون على السُّنة (4) .
__________
(1) انظر الاستقامة، 1/297، 2/297.
(2) سورة الكهف، الآية (110) .
(3) سورة الملك، الآية (2) .
(4) الاستقامة، لابن تيمية، 2/308-309.(47/173)
وقد روى ابن شاهين واللالكائي، عن سعيد بن جبير قال: "لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يُقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يُقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة" (1) .
فعلى الداعية إلى الله تعالى على بصيرة أن يكون مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسلك مسلكه في الدعوة، فإن الله تعالى أمرنا بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (2) .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
ولقد بدأ - صلوات الله وسلامه عليه - كغيره من الأنبياء قبله بإصلاح عقائد الناس وجمعهم على عقيدة التوحيد، وأمرهم بالتأسي به في جميع الأقوال والأفعال.
فإذا بدأ الداعية إلى الله تعالى أو المحتسب بعكس ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لو بدأ بالجهاد أو إقامة الدولة مثلاً فإنه لا يفلح في دعوته، لمخالفته متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل دعوة إلى الإصلاح لا تنتهج نهج الرسول صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح فإن مصيرها الفشل الذريع لا محالة.
يقول شيخنا فضيلة الدكتور ربيع بن هادي المدخلي: "هل يجوز للدعاة إلى الله في أي عصر من العصور العدول عن منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله؟.
الجواب: في ضوء ماسبق وما سيأتي، لا يجوز شرعاً ولا عقلاً العدول عن هذا المنهج واختيار سواه.
أولاً: أن هذا هو الطريق الأقوم الذي رسمه الله لجميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم.
__________
(1) المرجع السابق، 2/309.
(2) سورة الأحزاب، الآية (21) .
(3) سورة آل عمران، الآية (31) .(47/174)
والله واضع هذا المنهج هو خالق الإنسان والعالم بطبائع البشر ومايصلح أرواحهم وقلوبهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) .
وهو الحكيم العليم في خلقه وشرعه، وقد شرع لا فضل خلقه هذا المنهج.
ثانياً: إن الأنبياء قد التزموه وطبقوه مما يدل دلالة واضحة أنه ليس من ميادين الاجتهاد، فلم نجد:
1-نبياً افتتح دعوته بالتصوف.
2-وآخر بالفلسفة والكلام.
3-وآخرين بالسياسة.
بل وجدناهم يسلكون منهجاً واحداً، واهتمامهم واحد بتوحيد الله أولاً، وفي الدرجة الأولى.
ثالثاً: إن الله قد أوجب على رسولنا الكريم الذي فرض الله علينا اتباعه أن يقتدي بهم، ويسلك منهجهم، فقال بعد أن ذكر ثمانية عشر نبياً منهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (2) وقد اقتدى بهداهم في البدء بالتوحيد، والاهتمام الشديد به.
رابعاً: ولما كانت دعوتهم في أكمل صورها تتمثل في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، زاد الله الأمر تأكيداً، فأمر نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع منهجه فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .
والأمر باتباعه يشمل الأخذ بملته التي هي التوحيد ومحاربة الشرك ويشمل سلوك منهجه في البدء بالدعوة إلى التوحيد، وزاد الله تعالى الأمر تأكيداً – أيضاً - فأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، باتباع ملة هذا النبي الحنيف، فقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) .
إذن، فالأمة الإسلامية مأمورة باتباع ملته، فكما لا يجوز مخالفة ملته، لا يجوز العدول عن منهجه في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره ووسائله.
__________
(1) سورة الملك، الآية (14) .
(2) سورة الأنعام، من الآية (90) .
(3) سورة النحل، الآية (123) .
(4) سورة آل عمران، الآية (95) .(47/175)
خامساً: قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1) .
فإذا رجعنا إلى القرآن أخبرنا أن كل الرسل كانت عقيدتهم عقيدة التوحيد وأن دعوتهم كانت تبدأ بالتوحيد وأن التوحيد أهم وأعظم ماجاءوا به.
ووجدنا أن الله قد أمر نبينا باتباعهم وسلوك مناهجهم، وإذا رجعنا إلى الرسول نجد أن دعوته من بدايتها إلى نهايتهاكانت اهتماماً بالتوحيد ومحاربة للشرك ومظاهره وأسبابه ... " (2) .
رابعاً: الحكمة:
إن الحكمة من أهم الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة
إلى الله تعالى، ومن أهم مقومات الداعية الناجح، ومن نظر في سيرة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجد أنه كان ملازماً للحكمة في أموره كلها، وخاصة في دعوته إلى الله جلَّ وعلا، وقد أمره ربه تبارك وتعالى بالدعوة إلى الله بالحكمة في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (3) .
وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) .
__________
(1) سورة النساء، الآية (59) .
(2) منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، 91-92.
(3) سورة النحل، الآية (125) .
(4) سورة العنكبوت، من الآية (46) .(47/176)
إن الحكمة إتقان الأمور وإحكامها، بأن تُنزل الأمور منازلها، وتوضع في مواضعها. وليس من الحكمة التعجل في الدعوة إلى الله تعالى، وأن ينقلب الناس عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله، بعيد عن الحكمة، لا ن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر. ويدلل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو الذي ينزل عليه الكتاب - نزل عليه الشرع متدرجاً حتى استقر في النفوس وكمل.
فالدعوة إلى الله تعالى تكون على أربع مراتب:
1- بالحكمة.
2-ثم بالموعظة الحسنة.
3- ثم بالجدال بالتي هى أحسن لغير الظالم.
4- ثم بالفعل الرادع للظلم (1) .
ومن الأمثلة التي ضربها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس بالحكمة موقفه مع الأعرابي الذي بال في المسجد.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم: مه مه (2) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (3) دعوه" فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاه فقال له: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه عليه" (4) .
__________
(1) انظر الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، للشيخ محمد بن عثيمين، 35.
(2) مه: كلمة زجر، لسان العرب، لابن منظور، 13 /542.
(3) لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله، والازرام: القطع. انظر شرح النووي على صحيح مسلم، 3/190.
(4) صحيح مسلم، 1/237، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، رقم 286، ومعنى شنه عليه: أي صبه عليه.(47/177)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعا" يريد: رحمة الله (1) .
وفي رواية أخرى قال: "يقول الأعرابي بعد أن فقه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ بأبي وأمي فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب" (2) .
ومن الأدلة كذلك ماجاء عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكْلَ أمَّياه (3) ! ماشأنكم تنظرون إلىَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، مارأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ماكهرني (4) ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "الحديث (5) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، 10/438، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم 6010.
(2) هذه الرواية عند أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر، برقم 10540، 20/134.
(3) واثكْلَ أُمياه: معناه فقدان المرأة لولدها، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم: تربت يداك. انظر النهاية، لابن الأثير، 1/216.
(4) ماكهرني: يعني ما نهرني.
(5) صحيح مسلم، 1/381، كتب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، رقم 537.(47/178)
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل الناس في دعوته بالحكمة واللين، لذلك فإنه لا بد للداعية إلى الله تعالى أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وفي أمره ونهيه، وفي تعامله مع الناس، ولابد له من الصبر وطول النفس، والتدرج مع المدعو شيئاً فشيئاً حتى يمكن إعادته للحق والصواب.
خامسا: الرفق والحلم:
إنَّ من الواجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون رفيقاً رحيماً، حليماً ليناً، مشفقاً على الناس، فإنَّ ذلك مدعاة لقبول الناس منه، وانتفاعهم بدعوته، وهذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس، ولهذا امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لا نْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) .
وامتن الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين ببعثة رسوله الكريم إليهم، وبما هو عليه من الخلق العظيم، فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (2) .
ولقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم حياته بمكة والمدينة وغيرهما، يدعو ويذكر وينذر في غاية من اللطف واللين، ويقصد نواديهم، يدعوهم إلى الهدى، ويتحمل منهم ألوان الأذى، ويزيد على ذلك فيقول: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (3) .
__________
(1) سورة آل عمران، من الآية (159) .
(2) سورة التوبة، الآية (128) .
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 12/282، كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح، رقم 6929، وصحيح مسلم، 3/1417، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم 1792، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(47/179)
فهذا دَيْدنُهُ صلى الله عليه وسلم في دعوته، وأمره ونهيه، يا خذ بالرفق واللين، ولم يستعمل الغلظة والشدة، إلا حين لم يجد ذلك مع المخاطبين - مع تحقيق القدرة وانتفاء المفسدة - كما هو واضح من سيرته، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (1) .
فمن قرأ سيرته صلى الله عليه وسلم ولزم طريقته في دعوة أمته، كان أكمل الناس في متابعته، وأولاهم بوراثته، وأسعدهم بشفاعته، وأنصحهم لا مته، ولهذا لما كان صاحبه أبو بكر الصديق في ذلك كذلك أسلم على يديه من لا يحصون، وانتفع به من الخلق كثيرون (2) .
ولما أرسل الله سبحانه وتعالى موسى وهارون - عليهما السلام - إلى فرعون - طاغية مصر وجبارها - أمرهما أن يخاطباه باللين واللطف.
قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) .
قال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ !: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه، إذ ذاك ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين" (4) .
وقد ورد في هذا المعنى استدلال المأمون عندما وعظه رجل وعنّف له في القول، فقال: يا رجل ارفُقْ فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق، قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} (5) (6) .
ومن الأحاديث النبوية التي تبين فضل الرفق واللين وتحثُّ عليه مايلي:
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية (21) .
(2) انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصّير، 31-34.
(3) سورة طه، الآيتان (43-44) .
(4) تفسير ابن كثير، 3/163.
(5) سورة طه، الآية (43) .
(6) انظر إحياء علوم الدين، للغزالي، 2/334.(47/180)
1- عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" (1) .
2- وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يحرم الرفق، يحرم الخير" (2) .
3- وقال صلى الله عليه وسلم لا شج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناه" (3) .
لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتقي الله في عباد الله، وأن يلزم الرفق بهم واللين معهم والحلم والعفو عنهم، فيما يدعوهم إليه، ويأمرهم به، وينهاهم عنه، حتى لا يصدهم عن الهدى أو يوردهم الردى.
ولا ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسم بالشدة، ويأخذ بالغلظة، ما وجد مندوحة عن ذلك، فإذا اشتبه عليه الأمر، فعليه بمراجعة نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، وكلام أهل العلم المعتبرين، إن كانت لديه الأهلية لذلك، لمعرفة الراجح بالدليل، وإلا فعليه بما وجه الله تعالى إليه أمثاله بقوله سبحانه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (4) (5) .
سادساً: الصبر:
إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الواردة في الصبر لا تكاد تُحصى لكثرتها.
وقد أخبر الله تعالى عن لقمان الحكيم بأنه أوصى ابنه بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (6) .
__________
(1) صحيح مسلم، 4/2004، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2594.
(2) صحيح مسلم، 4/2003، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2592.
(3) صحيح مسلم، 1/48، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه …، رقم 18.
(4) سورة النحل، الآية (43) .
(5) انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصير، 36.
(6) سورة لقمان، الآية (17) .(47/181)
فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر، وما ذلك إلا لأن القيام بهذا يتطلب الكثير من المجاهدة، ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر.
ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وهم أئمة الدعوة إلى الله تعالى بالصبر، كما قال تعالى لخاتمهم صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (1) .
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} (2) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
ومن الأدلة من السنة التي ترغب في الصبر وتحث عليه مايلي:
1-ماورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفِّفَ عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة" (4) .
__________
(1) سورة الأحقاف، من الآية (35) .
(2) سورة البقرة، من الآية (45) .
(3) سورة آل عمران، من الآية (200) .
(4) أخرجه الترمذي، 4/601، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم 2398، وقال هذا حديث حسن صحيح، وسن ابن ماجه، 2/1334، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم 4023، والإمام أحمد في المسند، 1 /172،174،180،185، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 143.(47/182)
2-وعن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: "إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" (1) .
3-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نَفِدَ ما عنده قال: "مايكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحداً عطاءً هو خير وأوسع من الصبر" (2)
ومما تقدم من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية وغيرها التي تدل على فضل الصبر وتحث عليه، يتبين أن المؤمن معرض للابتلاء، ولكن على حسب قوة إيمانه أو ضعفه، وإذا صبر المؤمن واحتسب أجره عند الله كفر الله من ذنوبه وسيئاته، وعظم له الأجر، وإذا كان عامة الناس معرضين لهذا الابتلاء والامتحان، فإنَّ أشدهم بلاء الدعاة إلى الله، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهم أَوْلَى بالصبر والاحتساب، وخاصة ما يصيبهم بسبب دعوتهم من الأذى.
وفي صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين أمثلة رائعة يجدر بالدعاة إلى الله تعالى أن يقفوا عندها ويتأملوها، ليتأسَّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأمثلة:
1- ماكان مشركو مكة يلقون على عتبته صلى الله عليه وسلم من الأنتان والأقذار، ومع ذلك كان يصبر ويحتسب، ويقول: "أي جوار هذا" (3) ؟ .
__________
(1) أخرجه الترمذي، 4/601، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم 2396، وقال حسن غريب، وسنن ابن ماجه، 2/1334، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم 4023، وحسنه الشيخ الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 146.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، 3/335، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، رقم 1469، وصحيح مسلم، 2/729، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، رقم 1053.
(3) انظر سيرة ابن هشام، 1/416 وتاريخ الطبري، 2/343.(47/183)
2-بعد أن اشتد أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم عقب وفاة عمه أبي طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، للدعوة وطلب النصرة من ثقيف، ولكنها لم تستجب له، وأمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يصطفوا على الطريق صفين، وأن يرجموه بالحجارة، فرجموه صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى أدموا عقبه (1) .
فهذه الأمثلة وغيرها كثير تبين لنا شدة صبر النبي صلى الله عليه وسلم واحتسابه على مالاقاه أثناء دعوته من أذى المشركين، فعلى الداعية إلى الله أن يتحلى بالصبر، ويتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى الله.
سابعاً: التحلي بالأخلاق الفاضلة:
إن من الأمور المهمة في حياة الداعية إلى الله تعالى أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون متمسكاً بأخلاق الداعية، بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده وفي عباداته من صلاة وصيام وتلاوة قرآن وفي هيئته وجميع مسلكه مبتعداً عن الأخلاق الذميمة حتى يُمثّل دور الداعية إلى الله تعالى.
وقد شنّع الله تعالى على الذين يدعون الناس إلى الصلاح وينسون أنفسهم بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (2) .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (3)
وإن كان القول الراجح من أقوال العلماء ـ رحمهم الله ـ أن للإنسان أن يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن كان يفعله.
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام، 1/419-420، والطبقات الكبرى، لابن سعد، 1/212، والدلائل للبيهقي، 2/414، ومختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، 83، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، 227.
(2) سورة البقرة، الآية (44) .
(3) سورة الصف، الآيتان، (2-3) .(47/184)
إلاَّ أنَّ هناك أمراً مهماً يجب التنبه إليه. ألا وهو قبول دعوة الداعي أو أمر الآمر بالمعروف ونهي الناهي عن المنكر. وتأثير ذلك في الناس.
لذلك فإن الداعي إلى الله تعالى أو الآمر الناهي إذا كان قدوة صالحة في عقيدته وفي عباداته ومنهج حياته فحريٌ أن يُقبَلَ قوله، وتسمع كلمته، ويكون له تأثير طيب على المجتمع. (1)
وقد مثلت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أعمالاً كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيها الأسوة الصالحة، والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية في جميع أطوارها، لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة ...
وقد كان صلى الله عليه وسلم، معلماً مخلصاً، وواعظاً ناصحاً، ومرشداً أميناً، وكان مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وكان صلى الله عليه وسلم عابداً شاكراً لربه، وقد غفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر.
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لكماتقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:"أفلا أكون عبداً شكورا" (2) .
__________
(1) انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د. عبد العزيز المسعود، 1/223، وحاجة البشر إلى الأمر بالمعروف ووالنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله الجبرين، 67-68.
(2) صحيح البخاري، 3/14، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل، رقم 1130، وصحيح مسلم، 4/2172، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، رقم 2820.(47/185)
لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلتزم بأوامر الإسلام ويتخذها زاداً يستعين به في دعوته وأمره ونهيه، وأن يتخذ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته القدوة الحسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (1) .
إلى غير ذلك من الدعائم والمقومات التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى كالصدق، والعدل، والتواضع، والجود، والكرم، والتثبت وعدم العجلة وغيرها مما هي من لوازم الداعية الناجح.
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية (21) .(47/186)
الفصل الثالث: أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح
المبحث الأول: الغلو في الدين
لقد بدأت البشرية على التوحيد لله تعالى منذ أن أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" (1) .
إلا أن الناس بعد ذلك تعلقوا بالصالحين، وغَلَواْ فيهم، وبدأ الانحراف في العقيدة، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه السلام، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام، بسبب الغلو في الصالحين.
فقد روى البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (2) . قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم فعبدت (3) .
إن الغلو داء عضال وسرطان فتاك، يفسد العقيدة، ويهلك الشعوب، وما ذاك إلا لأنه تعدٍّ لما أمر الله به، وتجاوز للمشروع الذي شرعه الله، ولهذا حذر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم، سواء بالاعتقاد أو القول أو الفعل، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (4) .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/546، كتاب التاريخ، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/101، وعزاه إلى البخاري، وانظر تفسير ابن كثير، 1/259، وفتح الباري، 6/372، وتفسير ابن جرير الطبري، 3/334.
(2) سورة نوح، الآية (23) .
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 8/667، كتاب التفسير، سورة نوح، رقم 4920.
(4) سورة النساء، من الآية (171) .(47/187)
أي لاَ تَتَعَدَّوْا ما حد الله لكم، وأهل الكتاب هنا: اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، وهذه الأمة كذلك، كما قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" (2) .
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم، ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصّور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" (3) .
كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإطراء فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" (4) .
__________
(1) سورة هود، الآية (112) .
(2) أخرجه النسائي، 5/286، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، وابن ما جه، 2/1008، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، والحاكم 1/466، والبيهقي 5/127، وأحمد 1/215،347، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/278، رقم 1283.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 1/523، كتاب الصلاة، باب هل نبش قبور مشركي الجاهلية..، ومسلم 1/375، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، 6/478، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} . رقم الحدث 3445، عن عمر رضي الله عنه.(47/188)
والإطراء مجاوزة الحد بالباطل في المدح، والكذب فيه، ومعنى لا تطروني أي: لا تمدحوني بالباطل، أو لا تجاوزوا الحد في مدحي (1) .
والغلو كثير في النصارى فإنهم غَلَواْ في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيّز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا لهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام فحطوا من منزلته، حتى جعلوه وَلَدَ بغيَّ (2) .
وقد وقعت الأمة فيما حذرها منه النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، حيث غلا كثير من الناس في دين الله، وتجاوزا الحد المشروع لهم، وتشبهوا بمن قبلهم من اليهود والنصارى وغيرهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط أو تفريط، وضاهاهم في ذلك فقد شابههم، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقاتلهم حين خرجوا على المسلمين، وكان قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح والمسانيد وغير ذلك، وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة" وقال أيضاً: "فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (3) (4) .
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، 314.
(2) تيسير العزيز الحميد، 306-307.
(3) سورة النساء، من الآية (171) .
(4) انظر تيسير العزيز الحميد، 307.(47/189)
ومن هذا يتبين لنا أن أعظم فتنة ابتُليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو، وأن من أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح، والفطرة السليمة، إنما هو مجاوزة الحد الذي أدى ببعض الناس إلى صرف العبادة إلى غير الله تعالى، وذلك بالتقرب والتوسل إلى ما يسمونه بالأولياء والصالحين، والعكوف عند قبورهم بالصلاة أو الدعاء أو الذبح أو النذر أو الطواف أو التبرك بها ونحو ذلك مما هو من الشرك الذي حذرنا الله ورسوله منه، أشد التحذير.
المبحث الثاني: الجهل
إن الجهل داء عظيم، يوصل للضلالة، ويورد المهالك، وهو من أعظم أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح، وفي الحديث عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبض العلم اننزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جُهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (1) .
قال النووي - رحمه الله -:"هذا الحديث يبيّن أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه: أن يموت حملته، ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويُضلون" (2) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، 1/194، كتاب العلم، باب كيف يُقبض العلم، رقم 100، وصحيح مسلم 4/2058، كتاب العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان / رقم 2671.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/223-224.(47/190)
والمراد بالعلم هنا: علم الكتاب والسنة، وهو العلم الموروث عن الأنبياء عليهم السلام، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وبذهابهم يذهب العلم، وتموت السنن، وتظهر البدع، ويعم الجهل، وأما علم الدنيا، فإنه في زيادة، وليس هو المراد في الأحاديث، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" والضلال إنما يكون عند الجهل بالدين، والعلماء الحقيقون هم الذين يعملون بعلمهم، ويوجهون الأمة، ويدلونها على طريق الحق والهدى" (1) .
ومن أعظم الجهل القول على الله بغير علم، وتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (2) .
وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ على الله كذباً ليضلّ الناس بغير علم} (3) .
ومن أفتى أحداً بدون علم، فإنه يبوء بإثمه، وإثم من استفتاه، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (4) .
وخطورة الجهل تكمن في أن الجاهل يستكبر عن سماع الحق، ويستثقله، ويصور العلم والتعلم بأنه شبح رهيب وأنه بعيد المنال بحيث لا يمكن الوصول إليه، ومن ثم يبقى على جهله إلى أن يموت.
__________
(1) أشراط الساعة، للشيخ يوسف الوابل، 133.
(2) سورة الأعراف، الآية (33) .
(3) سورة الأنعام، من الآية (144) .
(4) سورة النحل، الآية (25) .(47/191)
فانظر إلى حال كثير من المسلمين اليوم وخصوصاً ممن ينتمي إلى كثير من الجماعات الحزبية في هذا العصر، والتي اختطت لنفسها طابعاً حزبياً وصبت جل اهتمامها في مسائل محدودة من مسائل الشرع، أو ما توهموها من مسائل الشرع، وخُيّل إليهم عبثاً أنها وحدها توصلهم إلى بر النجاة، وإيجاد المجتمع الإسلامي المنشود في الوقت الذي لو سئلوا عن فرع سهل من فروع مسائل العلم لأجابوا بملء أفواههم، بأننا لا نعرف هذه المسائل، وإنما عليكم بسؤال العلماء، لأننا مشغولون عن ذلك بالدعوة إلى الله! فيا عجباً!! كيف يدعو إلى الله بغير علم، وكيف يكون أهلاً للدعوة من لا يحسن أداء الصلاة على الوجه الذي صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (1) .
والدواء الناجع للجهل، وطريق السلامة إنما هو بالعلم الشرعي، وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة في الحث عليه، والثناء على أهله، وقد سبق بيانه.
المبحث الثالث: الابتداع في الدين
البدعة في اللغة: مأخوذة من البدع وهو: الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (2) .
ويُقال لمن أتى بأمر لم يسبقه إليه أحد، أبدع، وابتدع، وتبدّع. أي أتى ببدعة (3) .
أما البدعة في الاصطلاح: فقد عرفها الشاطبي - رحمه الله - بقوله: "طريق في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه" (4) .
__________
(1) تنبيه أولي الأبصار، للشيخ صالح بن سعد السحيمي، 123.
(2) سورة البقرة، من الآية (113) .
(3) انظر لسان العرب 8/7، القاموس المحيط 3/3-4 فصل الباء، باب العين.
(4) الاعتصام، 1/36.(47/192)
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الابتداع في الدين، وحذر منه، وبيّن لأمته، أنّ كل بدعة في دين الله فهي محرمة وضلالة، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضَّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثَاثِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (2) .
وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (3) .
ولا شك أن الايتداع في الدين كان - ولا يزال - من أعظم الأسباب التي حادت بالأمة الإسلامية عن المنهج الصحيح، وكان من أهم العوامل التي قضت على وحدة المسلمين، وشتتت شملهم، حتى تفرق الناس شيعاً وأحزاباً.
__________
(1) سن أبي داود، 5/13، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم 4607، والترمذي، 5/44، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، رقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، 1/16، المقدمة باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم 4342، وأحمد في المسند، 4/126-127، وابن حبان في صحيحه 1/4، وقد صححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل، 8/107، وصحيح سنن الترمذي، 2/341، وصحيح سنن ابن ماجه 1/138، وفي ظلال الجنة 1/17-20.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، 5/301، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم 2697، وصحيح مسلم، 3/1343، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم 1718.
(3) صحيح مسلم، 3/1343-1344، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم 1718.(47/193)
يقول الشاطبي -رحمه الله: "ثم استمر تزايد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعد موته، وأكثر قَرْن الصحابة رضي الله عنهم، إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة" (1) .
وعن ظهور البدع ونشأتها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "واعلم أن عامة البدع المتعلق بالعلوم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (2) .
وأول بدعة ظهرت بدعة القدر، وبدعة الإرجاء، وبدعة التشيع والخوارج، هذه البدع ظهرت في القرن الثاني والصحابة موجودون، وقد أنكروا على أهلها، ثم ظهرت بدعة الاعتزال، وحدثت الفتن بين المسلمين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء، وظهرت بدعة التصوف، وبدعة البناء على القبور بعد القرون المفضلة، وهكذا كلما تأخر الوقت زادت البدع وتنوعت (3) .
ومن البدع المعاصرة الاحتفال بالمولد النبوي، والتبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياءً وأمواتاً.
__________
(1) الاعتصام، 1/22.
(2) سبق تخريجه، 60.
(3) مجموع الفتاوى، 10/354.(47/194)
ومنها البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله، وهي كثير ومنها الجهر بالنية للصلاة، والذكر الجماعي بعد الصلاة، وطلب قراءة الفاتحة في المناسبات بعد الدعاء، وللأموات، وإقامة المآتم على الأموات، وصناعة الأطعمة، واستئجار المقرئين..، وكالاحتفال بالمناسبات الدينية كمناسبة الإسراء والمعراج، ومناسبة الهجرة النبوية، ومن ذلك الأذكار الصوفية، كلها بدع ومحدثات لأنها مخالفة للأذكار المشروعة في صيغها وهيئاتها وأوقاتها، ومن ذلك البناء على القبور واتخاذها مساجد، وزيارتها لأجل التبرك بها، والتوسل بالموتى وغير ذلك من الأغراض الشركية.. (1) .
وأختتم قولي هنا بقول ابن الماجشون: "سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً" (3) .
المبحث الرابع: اتباع الهوى
إنَّ اتباع الهوى من أعظم الأسباب التي أدت إلى انحراف هذه الأمة عن منهجها الصحيح، فنشأت بسببه الأحزاب الضالة، والفرق المنحرفة، وهو من أعظم دواعي الضلال، وأسباب الهلاك، فإنه يهوي بصاحبه إلى الردى والمهالك، حتى يورده إلى النار والعياذ بالله.
وكل مخالف لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات والطاعات والأوامر والنواهي، إنما يكون متبعاً لهواه، ولا يكون متبعاً لدين شرعه الله تبارك وتعالى (4) .
وقد ذم الله سبحانه وتعالى اتباع الهوى في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} (5) .
__________
(1) انظر محاضرات في العقيدة والدعوة للدكتور صالح الفوزان، 1/113-123 باختصار.
(2) سورة المائدة، الآية (3) .
(3) الاعتصام للشاطبي، 1/49.
(4) انظر مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، 10/170-171.
(5) سورة الفرقان، الآية (43) .(47/195)
قال ابن كثير - رحمه الله: "أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه" (1) .
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (2) .
ونهى المؤمنين عن اتباع الهوى فقال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} (3) ، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (4) ، إلى غير ذلك من الآيات.
واتباع الهوى هو أصل كل شر، وأساس كل بلوى، ومعتمد كل بدعة، ولذلك فهو أشد وطأة من الجهل، لأن الجهل ميسور علاجه، وفي استطاعة من يتلبس به، وذلك بطلب العلم والتفقه في الدين، أما الهوى في أثناء طلب العلم أو بعد تحصيله فهو الآفة الخطيرة التي تحتاج إلى مجاهدة النفس وعلاج الداء.
ولخطورة الهوى وما يسببه من وقوع المرء في الشهوات والشبهات، حذر السلف الصالح رضوان الله عليهم من أهل الأهواء، ومن ذلك:
قول ابن عباس رضي الله عنه:" لاتجالس أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب" (5) .
وقال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن من أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون" (6) .
وقال إبراهيم النخعي: "لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث الغلظة في قلوب المؤمنين" (7) ، إلى غير ذلك من أقوال السلف الصالح رضي الله عنهم.
__________
(1) تفسير ابن كثير، 3/335.
(2) سورة الجاثية، الآية (23) .
(3) سورة النساء، من الآية (135) .
(4) سورة الجاثية، الآية (18) .
(5) الإبانة لابن بطة، 2/438، رقم 371.
(6) سنن الدارمي، 1/120، رقم 391، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، 1/134.
(7) الإبانة لابن بطة، 2/439، رقم 375(47/196)
وباتباع الهوى خرجت الخوارج، ورفضت الروافض، ونبتت الجهمية، وظهرت المعتزلة، وألحدت المرجئة، ونفت القدرية، وضلت الجبرية، وتفرقت الأمة حتى صارت شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم يفرحون، فكم حرّف الهوى من شرائع، وبدّل من ديانات، وأوقع الإنسان في ضلال مبين (1) .
المبحث الخامس: تقديم العقل على النقل
ومن أسباب الانحراف في هذه الأمة تقديم العقل واعتماده مصدراً تشريعياً أعلى من كلام الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كحال بعض المنتسبين إلى الإسلام من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الفرق الضالة الذين تأثروا بكتب اليونان وعلومهم، وتبنوا أكثر أفكارهم، فما وافق العقل عندهم قبلوه، وما خالفه ردوه وطعنوا فيه، فابتعدوا بذلك عن العقيدة الصحيحة، وحادوا عن الصراط المستقيم، ولو أنهم تمسكوا بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلوهما المصدر الوحيد للتلقي، وردوا التنازع إليهما، وسلكوا منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، وابتعدوا عن كل ما يخالف المنهج الصحيح، لما حصل لهم ماحصل من التخبط والضلال، ولما وقعت الأمة في الزيغ والانحراف.
__________
(1) انظر تنبيه أولي الأبصار، للشيخ صالح السحيمي، 134-135.(47/197)
ولا يخفى أن العقل نعمة عظيمة أودعها الله في الإنسان ليميز الخير من الشر، والحق من الباطل، ولكنّ للعقول حداً تنتهي في الإدراك إليه، ولم يجعل الله لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء، فمن الأشياء مالا يصل العقل إليه بحال، ومنها مايصل إلى ظاهر منه دون اكتناه (1) وهي مع هذا القصور الذاتي لا تكاد تتفق في فهم الحقائق التي أمكن لها إدراكها، فإن قوى الإدراك ووسائله تختلف عند النظار اختلافاً كثيراً، ولهذا كان لابد فيما لاسبيل للعقول إلى إدراكه، وفيما تختلف فيه الأنظار من الرجوع إلى مخبر صادق، يضطرُّ العقل أمام معجزته إلى تصديقه، وليس ذلك سوى الرسول المؤيد من عند الله العليم بكل شيء، الخبير بما خلق" (2) .
فمن الضلال المبين أن نوجه عقولنا لأمور قد كفانا الله شأنها، وندع المنهج الصحيح الذي أمرنا الله به من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح، فإنَّ المسلمين لو تمسكوا بالمنهج الصحيح، وأعرضوا عن كل ما يُخالفه، لما وقعوا في تحكيم العقل في مجالات لم يخلق لها، ولما وقعوا في التخبط والحيرة، كما ذكر ذلك بعض أهل الكلام (3) .
وإذا صح الخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فليس للعقل مجال للأخذ أو الرد، بل يجب الإذعان والتسليم، حتى وإن لم تدرك العقول كنه تلك الأمور، لأن العقول أعجز من أن تحيط بكل شيء، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. (4)
__________
(1) اكتنَّ الشيء: استتر، ويقال: اكتنت المرأة: غطت وجهها وسترته حياءً من الناس، انظر المعجم الوسيط، 2/801.
(2) انظر البدعة أسبابها ومضارها لشلتوت، 28.
(3) ومنهم الجويني والغزالي والرازي وغيرهم، انظر الصفات الإلهية، للشيخ محمد أمان - رحمه الله، 157-171.
(4) تنبيه أولي الأبصار، 141.(47/198)
قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) . فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحدٍ مخالفته، ولا اختيار لأحدٍ ههنا ولا رأي ولا قول (3) .
لذا فإنَّ الواجب على المسلم أن يُذعن ويسلم لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل عقله تابعاً لهما، لا مُعارضاً لهما، أو مقدّما عليهما، حتى لا يزيغ عن الحق، ولا يحيد عن الصراط المستقيم.
المبحث السادس: التفرق والتحزب
لقد أصاب الأمة الإسلامية ما أصاب الأمم قبلها من التحزب والاختلاف، فأضحت الأمة شيعاً وأحزاباً، يُخَطِّئ بعضُها بعضاً، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، وماذاك إلا لبعدها عن المنهج الصحيح، وهو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتصام بهما، والعمل بهما، ورد التنازع إليهما، فإنَّ السبيل الوحيد لجمع الشمل، وتوحيد الكلمة، هو الرجوع التام للمنهج الصحيح: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح، ففيه العصمة من التفرق والاختلاف، وفيه النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (4) .
__________
(1) سورة النور، الآية (51) .
(2) سورة الأحزاب، الآية (36) .
(3) انظر تفسير ابن كثير، 3/511.
(4) سورة آل عمرآن، من الآية (103) .(47/199)
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - مبيناً معنى الاعتصام بكتاب الله: "وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم، وكشوفاتهم، ومواجيدهم، فمن لم يكن كذلك فهو مُنسَّلٌ من هذا الاعتصام، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله، علماً وعملاً، وإخلاصاً، واستعانة، ومتابعة، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة" (1) .
قال قتادة - رحمه الله - عند قوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} :"إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة وقدّم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله" (2) .
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله:"وقوله {وَلا تَفَرَّقُوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة.. وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف.. إلى أن قال: وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومُسَلَّمَة من عذاب الله، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه" (3) .
وقال تعالى في النهي عن التفرق والاختلاف {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) .
__________
(1) مدارج السالكين، 3/323.
(2) انظر تفسير الطبري، 4/32.
(3) تفسير ابن كثير، 1/405.
(4) سورة الأنعام، الآية (159) .(47/200)
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "يتوعد الله تعالى الذين فرقوا دينهم، أي شتتوه وتفرقوا فيه، وكل أخذ لنفسه نصيباً من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئاً، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية، أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئاً، ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة، من أهل البدع والضلال، والمفرقين للأمة، ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أصل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية" (1) .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصاري على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هي يا رسول الله؟ قال:"من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (2) .
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: "فأهل الأديان - قبلنا - اختلفوا فيما بينهم على آراء ومُثُل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحلٍ كلها ضلالة إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله وبما كان عليه الصدر من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه" (3) .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن، 2/91.
(2) أخرجه أبو دواد، 5/4، أول كتاب السنة، رقم 4596، والترمذي، 5/25، كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم 2640، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، 2/1321، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم 3991، وأحمد، 2/332، والحاكم في المستدرك 1/128، وقال صحيح على شرط مسلم، وانظر السلسلة الصحيحة، للشيخ الألباني، 3/480رقم 1492.عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) تفسير ابن كثير، 3/452.(47/201)
وقال ابن أبي العز الحنفي في تعليقه على الحديث السابق: "فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة" (1) .
وزادت الفرقة بالمسلمين - مع مرور الزمن - وكثر الاختلاف، واتسع الشقاق، وماجت الفتن بأصحاب الأهواء موج البحر، وصارت قلوبهم متنافرة، مظلمة سوداء مرباده لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أُشربت من الأهواء (2) .
وصار الاختلاف في أصل الدين، في إفراد الله في العبادة، وفي العبادة ذاتها، كما اختلف الذين من قبل اتباعاً للسنن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لتتبعنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لسلكتموه" قالوا: يارسول الله من اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إذن" (3) .
ولكن بفضل الله ورحمته لا تزال طائفة أهل السنة والجماعة: "الفرقةُ الناجيةُ" باقيةً إلى قيام الساعة كما روى البخاري من حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لايزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك" (4) .
__________
(1) شرح الطحاوية، 432
(2) انظر حديث حذيفة في صحيح مسلم 1/128، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً …، رقم 144.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 6/495، كتاب أحاديث الأنبياء باب ما ذكره عن بني إسرائيل، رقم 3456، وصحيح مسلم، 3/1291، كتاب القسامة، باب القسامة، رقم 1669، وأحمد في المسند، 3/84،89،94، وابن أبي عاصم في السنة، 1/36-37، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، 6/632، رقم 3641، والفظ له، وصحيح مسلم، 3/1524، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم 0" لا تزال طائفة من أمتي على الحق …"، رقم 1037.(47/202)
ومن هؤلاء الذين أقام الله بهم السنة في الإخلاص والمتابعة في هذه الجزيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر، فلقد تجرّد للدعوة إلى الله على بصيرة، وجاهد في رد الناس إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة وترك التعلق بغير الله، والاعتقاد فيما دونه، متبعاً في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيض الله من آل سعود أنصاراً لدين الله ورسوله عرفوا صدق موافقته للحق فنفّذوا نصرته بالسلطان والعزيمة، وعقدوا الاتفاق بين نص الوحي وحد السيف إذا لم ينفع اللين واستمر الظالم في ظلمه ولم يبال بالواعظ من الكتاب والسنة فأخذوا على يديه وأجروا عليه مايستحقه شرعاً من جهاد وقتال، وإقامة حدّ أو تعزير حتى ينزجِرَ عن باطله، وهذا هو سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته.
ونحن في هذه البلاد - ولله الحمد والمنة - ننعم بالإسلام، وبجماعة المسلمين، تحت ولاية إسلامية تحكّم فينا شرع الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد من المسلمين في هذه البلاد السعودية المسلمة أن يوجد حزباً إسلامياً أو ينتمي إليه ... لأن ذلك شق لعصا الطاعة، وتفريق للجماعة وهو بمثابة خرق في سفينة نجاتهم يسبب غرقها أو يهددها بالخطر والغرق (1) .
الفصل الرابع: أثر المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى
للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى آثار طيبة، ونتائج حميدة: على الداعي إلى الله تعالى وعلى المدعوين، وأهم هذه الآثار مايلي:
__________
(1) انظر مقدمة الدكتور صالح العبود على حقيقة الدعوة إلى الله تعالى وما اختصت به جزيرة العرب، للشيخ سعد الحصين، 8-16، باختصار وتصرف. وانظر نص فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعدم شرعية وجود هذه الجماعات مالم يستند وجودها إلى قرار من ولي الأمر، رقم 1674.(47/203)
أولاً: إن في الدعوة إلى الله تعالى على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، امتثالاً لأمر الله تعالى الذي أمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هى أحسن، كما في قوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .
وقوله سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (2) والأمر للرسول صلى الله عليه وسلم، أمر لأمته، مالم يدل دليل على اختصاصه به. فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بالدعوة إلى الله تعالى فأمته مأمورة بذلك. بل قد أمرها الله تعالى بذلك في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .
ثانياً: إن تحقيق المنهج الصحيح في الدعوة إلى لله فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما أمره ربه تبارك وتعالى بذلك في قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يدعون إلى الله على بصيرة كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على بصيرة، ومن لم يدع على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم كان اتباعه ناقصاً (5) .
__________
(1) سورة النحل، من الآية (125) .
(2) سورة الشورى، من الآية (15) .
(3) سورة آل عمران، الآية (104) .
(4) سورة يوسف، الآية (108) .
(5) انظر محاضرات في العقيدة والدعوة للدكتور صالح الفوزان (1/141) .(47/204)
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
قال ابن كثير ـ رحمه الله -: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله" (2) .
ثالثاً: إنَّ من آثار المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى العمل بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، كما ينتج عنه تآلف المسلمين واجتماعهم وترابطهم وتماسك مجتمعهم، وعدم التفرق والتحزب، والاختلاف والتطرف.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (3) .
وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
رابعاً: وإن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح تبليغ دين الله تعالى إلى الناس كما أراد الله تعالى.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} . (5)
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية" (6) .
__________
(1) سورة آل عمران، من الآية (31) .
(2) تفسير ابن كثير (1/372) .
(3) سورة آل عمران، من الآية (103) .
(4) سورة الأنعام، الآية (159) .
(5) سورة آل عمران، من الآية (187) .
(6) صحيح البخاري بشرح الفتح (6/496) كتاب أحاديث الأنبياء باب ماذكر عن بني إسرائيل رقم (3461) .(47/205)
خامساً: وإن من آثار اتباع المنهج الصحيح تصحيح عقائد الناس من الشرك والبدع والشعوذة، وجميع ما يخالف العقيدة الإسلامية.
وكما يحصل الأمن والاستقرار والطمأنينة في الدنيا يكون الأمن من عذاب الله يوم القيامة.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) .
سادساً: إن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح تكون هداية من أراد الله هدايته من الناس، ويكون الأجر العظيم والثواب الجزيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنْقُصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" (2) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه:"انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم" (3) .
فهذه الأدلة تبين لنا فضل الدعوة إلى الله تعالى، وذلك لما يترتب
عليها من تبليغ شرع الله وحفظه، وحصول المصالح العظيمة للخلق في معاشهم ومعادهم، ودينهم ودنياهم، واندفاع الشرور عنهم إذا هم قبلوها وعملوا بها على الوجه المطلوب.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية (82) .
(2) صحيح مسلم (4/2060) كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة رقم (2674) .
(3) صحيح البخاري بشرح الفتح (7/476) كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، حديث رقم (4210) ، وصحيح مسلم (4/1872) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رقم (2406) .(47/206)
سابعاً: وإنَّ من آثار الدعوة القائمة على الكتاب والسنة والعمل بهما على فهم السلف الصالح - رضوان الله عليهم - حصول التمكين في الأرض، ورغد العيش، وحياة الأمن والاستقرار. وخير شاهد على ذلك ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - من الدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك والبدع وغيرها من المنكرات، التي كانت متفشية في الجزيرة العربية.
ومنذ أن قام الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - مؤسس الدولة السعودية المباركة بتبني هذه الدعوة الطيبة، قامت دولة التوحيد، وكتب الله لها النصر والبقاء، واتفقت كلمة أهلها، وتوحدت صفوفهم، ونبذوا الفرقة والاختلاف، وعاشوا في أمن ورخاء، وزالت مظاهر الشرك في مدة وجيزة، وهي لم تكن لتزول لولا فضل الله وتوفيقه ثم انطلاق هذه الدعوة من روح العقيدة الإسلامية الخالصة.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)
الخاتمة
بعد حمد الله تعالى على عونه وتوفيقه لي بانجاز هذا البحث أحبُّ أن أثبت أهم النتائج التالية:
1-إن اتباع منهج أهل السنة والجماعة، الذين جاءت الأدلة بفضلهم والثناء عليهم، هو طريق الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. وهو المنهج الحق الذي يجب اتباعه.
2-إن أهل السنة والجماعة يسيرون على أصول ثابتة وواضحة، في الاعتقاد والقول والعمل والسلوك، وهذه الأصول مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) سورة النور، الآية (55) .(47/207)
3-إن التوحيد وعبادة الله تعالى وحده دون سواه هو الأمر الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل من أجله الكتب، وخلق من أجله الإنس والجن، وهو أول مادعت الرسل أممهم إليه، وبقية الأحكام إنما هي تابعة له. وأنه لم يدع أحد من الأنبياء إلى السياسة أو يبدأ بالزهد والورع أو بالأخلاق. وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد استمر طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة في سبيل تحقيق هذا المبدأ العظيم.. لذا فإن هذا المنهج هو الذي يجب على الدعاة أن يسلكوه، ولا يحيدوا عنه.
4-إن من أهم الدعائم والمقومات التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى: العلم النافع، والإخلاص لله وحده، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وترتيب الأولويات، والحكمة، والرفق والحلم، والصبر والاحتساب، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والصدق في القول والعمل، والعدل، والتواضع، والجود والكرم، والتأني والتثبت وعدم الطيش والعجلة.
5- بيان أن البشرية كانت على التوحيد، وكانت على الحق، وأن الانحراف عن الحق وعن الطريق المستقيم، إنما كان بسبب الغلو في الدين، والابتداع فيه، والجهل، واتباع الهوى، وتقديم العقل على النقل، والتفرق والتحزب والاختلاف.
6-بيان أن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح القائم على الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح فيه امتثال لأمر الله تعالى الذي أمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. وفيه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم على علم وبصيرة.
7-إن من آثار المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى العمل بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، كما ينتج عن ذلك التآلف والترابط، وعدم التفرق والتحزب والتنابذ.
8-إن الدعوة إلى الله على المنهج الصحيح فيه تصحيح لعقائد الناس من الشرك والبدع والشعوذة، وجميع ما يخالف العقيدة الصحيحة، ويكون فيه الأمن والاستقرار والطمأنينة في الدنيا، كما يحصل الأمن من عذاب الله في الآخرة لمن أطاعه واتبع هديه.(47/208)
9-إن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح ما يحصل به تبليغ دين الله تعالى إلى الناس كما أراد الله، وتكون هداية من أراد الله هدايته، ويكون الأجر العظيم والثواب الجزيل.
10-إننا في هذه البلاد السعودية ننعم - ولله الحمد والمنة - بالإسلام والدعوة إليه والعمل به على هدي الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح، وننعم بجماعة المسلمين، تحت ولاية إسلامية راشدة تحكم فينا شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا يجوز لأحدٍ من المسلمين في هذه البلاد أو من خارجها أن يوجد حزباً، أو ينشئ جماعة، فيشق بذلك الطاعة، ويخالف الجماعة.
فهذه أهم المعالم الرئيسة في هذا البحث، وإني في الختام لأستغفر الله من كل ذنب زلت به القدم، أو زلل طغى به القلم.
وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من يطلع عليه من المسلمين، إنه جواد كريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قائمة بأهم المصادر والمراجع
1 – القرآن الكريم.
2 – الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة: لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي "ت387هـ"، دار الراية للنشر والتوزيع، ط1، 1409هـ.
3 – الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة من إجابات فضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان: ط2، 1418هـ، دار السلف، الرياض.
4 – الاستقامة لابن تيمية: أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، "ت728هـ"، ط2، 1409هـ، مكتبة السنة، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.
5 – الأصول الثلاثة وأدلتها: للشيخ محمد بن سليمان التميمي، مكتبة الخضيري، 1416هـ، المدينة المنورة.
6- أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام: للدكتور محمد أمان بن علي الجامي، طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1404هـ.(47/209)
7- الاعتصام: للعلامة أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، "ت790هـ"، دار المعرفة، بيروت.
8- البدع أسبابها ومضارها: للشيخ محمود شلتوت "ت1383هـ" تحقيق علي حسن عبد الحميد، مكتبة ابن الجوزي.
9 – البدع والنهي عنها: لمحمد بن وضاح القرطبي، تحقيق محمد أحمد دهمان، دار البصائر، دمشق.
10- تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للشيخ عبد الله بن صالح القصير، ط1، 1411هـ، دار العاصمة، الرياض.
11 – تفسير القرآن العظيم: للحافظ ابن كثير "ت774هـ" مطبعة الفجالة، القاهرة، ط1، 1384هـ، نشر مكتبة النهضة الحديثة.
12 – تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار: للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ط1، 1410هـ، دار بن حزم للنشر والتوزيع، الرياض.
13 – تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، "ت1233هـ"، الطبعة 3، 1410 هـ، نشر مكتبة العلوم والحكم.
14 – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، "ت1376هـ" مطبعة المدني، 1408هـ، القاهرة.
15 – جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري "ت606هـ" نشر مكتبة الحلواني، دار البيان، توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية.
16 – جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بتفسير الطبري: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري "ت310هـ" شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط3، 1388هـ.
17 – الجامع الصحيح للترمذي: للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي "ت279هـ" دار إحياء التراث العربي.(47/210)
18 – جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم: للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الدمشقي الشهير بابن رجب "ت795هـ" ط5، 1414هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
19 – حقيقة الدعوة إلى الله تعالى وما اختصت به جزيرة العرب: بقلم سعد بن عبد الرحمن الحصين، ط1، 1411هـ، الفرقان، الرياض.
20 – حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية: للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، ط الأولى، 1410 هـ.
21 – الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى: لسعيد بن علي القحطاني، ط1، 1412هـ.
22 – درء تعارض العقل والنقل: لأبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية "ت728هـ" تحقيق د. رشاد سالم، ط1، 1400هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
23 – الرد على من أنكر الحرف والصوت: لأبي نصر عبيد الله بن سعيد الوائلي السجزي، تحقيق ودراسة د. محمد با كريم، طبع المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط1، 1413هـ.
24 – سلسلة الأحاديث الصحيحة: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.
25 – سنن ابن ماجه: للحافظ أبي عبد الله القزويني،"ت275هـ"، دار الفكر، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
26 – السنن الكبرى: للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي "ت458هـ" دار الفكر.
27 – سنن أبي دواد: للإمام الحافظ أبي دواد سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي "ت275هـ" دار الحديث للطباعة، بيروت، ط1، 1388هـ.
28 – سنن الدارمي: للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي "ت255هـ" دار الكتب العلمية، بيروت.
29 – سنن النسائي: للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي "ت303هـ" المكتبة العلمية، بيروت.
30 – السيرة النبوية: لأبي محمد عبد الملك بن هشام "218هـ" دار الكنوز الأدبية، تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الإبياري، وعبد الحفيظ شلبي.(47/211)
31 – شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم: للإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي "ت418هـ" تحقيق د. حمد سعد حمدان، دار طيبة، الرياض.
32 – شرح العقيدة الطحاوية: للإمام علي بن محمد بن أبي العز الحنفي "ت321هـ" المكتب الإسلامي، ط4، 1391هـ.
33 – شرح النووي على صحيح مسلم: للإمام الحافظ محيي الدين أبي زكريا يحى بن شرف الشافعي النووي، "ت676هـ" دار الفكر، بيروت.
34 – الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات: للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ط1، 1414هـ، دار المجد، الرياض.
35 – صحيح البخاري مع فتح الباري: للإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري "ت256هـ" طبع المكتبة السلفية.
36 – صحيح مسلم: للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري "ت261هـ" دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
37 – الطبقات الكبرى: لابن سعد محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري المكنى بأبي عبد الله "ت230هـ" دار صادر، بيروت.
38 – عقيدة أهل السنة والجماعة: لفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين، من مطبوعات الجتمعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1407هـ.
39 – العقيدة الصحيحة ونواقض الإسلام: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار العصيمي، الرياض.
40 – فتح الباري شرح صحيح البخاري: للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني "ت852هـ" طبع المكتبة السلفية.
41 – القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي "ت817هـ" مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة.
42 – لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور "711هـ" دار صادر، بيروت.
43 – مجمل اعتقاد أئمة السلف: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط2، 1417هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.(47/212)
44 – مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، وابنه محمد، الطبعة السعودية، 1398هـ.
45 – محاضرات في العقيدة والدعوة: للشيخ صالح بن فوزان الفوزان، دار العاصمة، النشرة الأولى، 1415هـ.
46 – مختصر منهاج القاصدين: للإمام أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، "ت742هـ" تقديم د. وهبة الزحيلي، ط1، 1414هـ، دار الخير، بيروت، توزيع مكتبة الوراق، الرياض.
47 – مدارج السالكين: للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر القيم الجوزية "751هـ" دار صادر الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ.
48 – المستدرك على الصحيحين:
للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري "ت405هـ" دار الكتاب العربي، بيروت.
49 – المسند: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني "ت241هـ" دار صادر، بيروت.
50 – المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقرىء الفيومي "ت770هـ" مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، تصحيح مصطفى السقا.
51 – المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: ترتيب وتنظيم أ. ى ونسناه، مطبعة بريل، ليدن.
52 – المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.
53 – معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسن أحمد بن فارس "ت395هـ" على القول الراجح، دار الكتب العلمية، إيران.
54 – المعجم الوسيط: للدكتور إبراهيم أنيس وآخرين.
55 – المفردات في غريب القرآن: لأبي القاسم الحسين بن الفضل الراغب الأصفهاني "ت502هـ" دار المعرفة، بيروت.
56 – مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة: سعيد بن علي القحطاني، ط1، 1415هـ، مطبعة سفير، الرياض.
57 – منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل: للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، الدار السلفية، ط1، 1406هـ، الكويت.
58 – منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين: د. صالح بن سعد السحيمي.(47/213)
59 – الموطأ: للإمام مالك بن أنس، "ت179هـ" دار إحياء الكتب العربية.
60 – النهاية في غريب الحديث والأثر: للإمام مجد الدين أبي السعادات المعروف بابن الأثير "ت606هـ" المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.(47/214)
المقدَّمة
الحمد لله خالق الخلق، وباسط الرزق، فتنة وابتلاءً منه لعباده ليميز الطائعين الشاكرين من العاصين الجاحدين. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
وبعد؛ فقد جعل الله سبحانه وتعالى رزقه يسع كل حيٍّ من مخلوقاته فضلاً منه ورحمة، فقدَّر رزق الإنسان، وكتبه والإنسان في بطن أمه، كما جاء عند مسلم (1) : "إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه، ... ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله وعمله، وشقي أو سعيد ... ".
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي الدرداء أنه قال: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله". عند كل من ابن أبي عاصم (2) والدراج (3) والبزار (4) وابن حبان (5) ، والطبراني في الكبير (6) ، والبيهقي (7) ، بهذا اللفظ إلا أنه فيه عند الطبراني "أكثر مما يطلبه أجله" صححه البزار، وابن حبان، وقال الهيثمي رجاله ثقات (8) ، وقال المنذري عقبه: رواه الطبراني بإسناد جيد.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قَسَمَ بينكم أخلاقكم كما قَسَمَ بينكم أرزاقكم ... " من حديث ابن مسعود رواه أحمد (9) والحاكم (10) ، وهو مطول عندهما وهذا جزء منه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
__________
(1) الصحيح، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه ... (4/2037-2038) .
(2) السنة (1/117) .
(3) جزء الدراج (مخطوط) حديث رقم (8) .
(4) كشف الأستار (2/82) .
(5) الإحسان إلى تقريب صحيح ابن حبان (5/8) .
(6) كما في الترغيب والترهيب (4/12) ، ومجمع الزوائد (4/72) ولعله في الجزء المفقود من المعجم، لأنني طلبته فيه فلم أجده.
(7) شعب الإيمان (2/71) .
(8) مجمع الزوائد (4/72) .
(9) ... المسند (1/387) .
(10) ... المستدرك (2/447) .(47/215)
وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) في ثلاثة مواطن من حديث ابن مسعود فقال في مرة: رواه أحمد ورجال إسناده بعضهم مستور وأكثرهم ثقات (1) ، وقال في موطن: رواه الطبراني موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح (2) ، وقال في الموطن الأخير (3) : رواه أحمد ورجاله وثقوا وفي بعضهم خلاف.
ولحكمة أرادها الله - سبحانه وتعالى - جعل هذا التقدير، والتقسيم للأرزاق خافيًا على العباد مغيبًا عنهم، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (4) .
كما شاءت إرادته جل وعلا أن جعل المال محببًا إلى النفوس مرغوبًا فيه سجية وطبعًا فقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا…} (5) ، وقال: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (6) .
وما من شك في أن المال فيه خير للإنسان إن أحسن استعماله في محاله وقد سماه تعالى خيرًا إذ قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (7) .
__________
(1) ... المجمع (1/53) .
(2) ... المجمع (10/90) .
(3) ... المجمع (10/228) .
(4) ... سورة لقمان: آية 34.
(5) ... سورة الكهف: آية 46.
(6) سورة الفجر: آية 20.
(7) سورة البقرة: آية 180.(47/216)
وقال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" طرف من حديث طويل لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - عند أحمد (1) ، والطبراني (2) ، وأبي يعلى (3) ، هذا لفظ أحمد والطبراني، وعند أبي يعلى: "يا عمرو نعمَّا بالمال الصالح للرجل الصالح"، وقال الهيثمي (4) : رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، وقال العراقي: سنده جيد (5) .
فالمال خير، وهو محبوب وصالح لازم لقضاء مصالح الإنسان في معاشه ومعاده إذ هو وسيلة لأداء كثير من العبادات من حج وعمرة، وزكاة، وصدقات، وكفارات ونذور، وصلة أرحام، وطلب علم وغيرها من المصالح.
والرزق وإن كان مكتوبًا بقضاء الله عز وجل كما سلف إلا أنه - سبحانه - يقضي ما يشاء بأسباب جعلها موجبة لمسبباتها مقتضية لها؛ ولهذا جاء الحض والأمر بالسَّعي في طلب الرزق أخذًا بالأسباب للازدياد من الخير وحصول البركة في المال، لكي تستمر الحياة عى وجه الأرض، فيكف الإنسان وجهه عن سؤال الآخرين ويتجنب ذلَّ الحاجة والعوز في معيشته.
وحتى يكون سعي الإنسان في طلب الرزق حسنًا مباركًا فيه رابحًا مشكورًا عليه، لا خسارة ووبالاً مردودًا عليه فقد أرشده الإسلام إلى دخول بيوت الرزق وحصول البركة والنماء فيه من أبوابها، وسلوك الأسباب الجالبة للخيرات والبركات دون غيرها.
__________
(1) المسند (4/197) .
(2) المعجم الأوسط (4/130) ، (10/8) ، وعزاه الهيثمي (4/64) أيضًا للطبراني في الكبير، لكنه من الجزء المفقود، والله أعلم.
(3) المسند (13/320-322) رقم (7336) .
(4) مجمع الزوائد (4/64) .
(5) المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (هامش إحياء علوم الدين) (4/98) .(47/217)
ولما كان كثير من الناس - منذ زمن ليس بالقليل - قد ملك حب المال قلوبهم، واستولت شهوته تمامًا على نفوسهم، وكأنهم لأجل ذلك وحده خلقوا، فشمَّروا عن ساعد الجد، راكبين الصعب والذلول في الحصول على الأرزاق وتكثير الأموال، غير مكتفين في هذا الطلب والسعي بدخول بيوتات الرزق من أبوابها، بل مقتحمين من كل نافذة وطاقة بكل حرص وشراهة، غير متقيدين بالطرق المشروعة، ولا مبالين بالنتائج المقبوحة، وهم - مع هذا - أو أكثرهم يكثر الشكاية من القلة في الرزق، ومحق البركة من الرواتب والأموال، وعدم التوفيق في شؤون الحياة ومصالحها.
لهذا فقد رأيت أن أسهم بتذكير نفسي أولاً ثم بتذكير إخواني ثانيًا بكتابة هذا البحث "البركة في الرزق، والأسباب الجالبة لها"، الذي أرجو أن يكون نافعًا في بابه، وسببًا من الأسباب التي يشاء الله - عز وجل - إجراءها وسوقها لنفع عباده، وتذكيرهم ببعض مالهم وما عليهم فيما يخصهم في أرزاقهم.
وقد جعلت هذا البحث منتظمًا في مقدمة، ومبحثين، وخاتمة، وفهرسين، وذلك على النحو الآتي:
1 – المقدمة:
وفيها الإشارة إلى أهمية الموضوع، وسببه، وخطته.
2 - المبحث الأول:
وفيه مطلبان. الأول: فيه شرح بعض الألفاظ الواردة في عنوان البحث، مع الإشارة إلى حدود البحث. الثاني: فيه المنهج الذي سرت عليه في أثناء البحث.
3 - المبحث الثاني:
ويشتمل على أهم الأسباب الجالبة للبركة، وفيه عشرة مطالب هي:
... المطلب الأول: تقوى الله - عز وجل - والتقرب إليه بالطاعات: (الصلاة، الحج والعمرة، الزكاة وما يتبعها من صدقات، وصلة أرحام) .
... المطلب الثاني: التوكل على الله - سبحانه وتعالى - مع الأخذ بالأسباب.
... المطلب الثالث: التسمية في كل الأحوال.
... المطلب الرابع: الذكر والدعاء.
... المطلب الخامس: شكر الله تعالى وحمده.
... المطلب السادس: التوبة والاستغفار.(47/218)
.. المطلب السابع: السعي في الكسب وطلب الرزق أخذًا بالأسباب: (الكسب الحلال المباح، الصدق والأمانة في التعامل، البكور في طلب الرزق) .
... المطلب الثامن: القناعة والعفاف والإجمال في الطلب.
... المطلب التاسع: الاقتصاد في المعيشة: (حسن التدبير والاقتصاد في المعيشة، كيل الطعام) .
... المطلب العاشر: اتباع السنة.
4 - الخاتمة:
وفيها أهم النتائج.
5 – فهرس المصادر والمراجع.
... وختامًا أحمد الله - تعالى - وأشكره على أن وفقني لمثل هذا الموضوع، وأعانني على إتمامه، فإن وافقني في هذا العمل الرشد والصواب فذلك من فضل الله وتوفيقه وتمام إنعامه، وإن حصل فيه شئ من خطأ أو مجانبة للصواب، فذلك من تقصيري ومن الشيطان، وأستغفر الله منه، وعزائي أنني عملت ما بوسعي أن أعمله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين لا شريك له.
المبحث الأول
... وفيه مطلبان:
المطلب الأول:
شرح بعض الألفاظ الواردة في
عنوان البحث مع الإشارة إلى حدود البحث
1- ... البركة: محركة، هي النماء والزيادة والسعادة (1) . وبنحو هذا اللفظ قال ابن منظور (2) ، وقال الزجاج: " (تبارك) : تفاعل من البركة، ومعنى البركة: الكثرة في كل ذي خير (3) . وقال ابن كثير: تبارك، تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة (4) ".
__________
(1) القاموس المحيط (ب ر ك) (3/293) .
(2) لسان العرب (ب ر ك) (10/395-396) ، وانظر أيضًا الجامع لأحكام القرآن (4/147) .
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (13/1) تفسير الآية الأولى من سورة الفرقان.
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/411) .(47/219)
وقال ابن الأثير: قوله صلى الله عليه وسلم: "وبارك على محمد وعلى آل محمد" (1) ، أي أثبت له وأدم ما أعطيته من التشريف والكرامة، وهو من (بَرَك البعير) إذا أناخ في موضع فلزمه. قال: وتطلق البركة - أيضًا - على الزيادة والأصل الأول (2) .
وقال النووي: عند قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) ، قيل: معناه ثبت الخير عنده، وقيل: تعالى إلى، والبركة العلو والنماء ... وأصله من البروك وهو الثبوت. ومنه بِركة الماء، وبَرْكة البعير (4) .
وقد أكَّد الحافظ ابن حجر ما ذكره ابن الأثير والنووي فقال عند قوله "وبارك على محمد": المراد بالبركة هنا: الزيادة من الخير، والكرامة ... وقيل المراد: إثبات ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على الأرض، وبه سميت بركة الماء، بكسر أوله لإقامة الماء فيها، والحاصل أن المطلوب أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمر دائمًا (5) .
مما سبق يتضح أن البركة هي النماء والزيادة من الخير، مع ثبوت هذا الخير واستقراره ودوامه واستمراره عند صاحبه، والله أعلم.
__________
(1) يشير هنا إلى الحديث الذي رواه غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم في سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلون عليه؟ فقال: "قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد …"، أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب 10 (6/407-408) . وكتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم - (11/152) . ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي (1/305-306) .
(2) النهاية في غريب الحديث (1/120) .
(3) سورة المؤمنون: من الآية رقم (14) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات، (القسم الثاني ص 26) .
(5) فتح الباري (11/162-163) .(47/220)
ومن الجدير بالذكر - هنا - أن البركة ليس بالضرورة أن تكون دائمًا مقصورة على الشيء الكثير فقط، بل قد تكون في الشيء القليل كما تكون في الشيء الكثير. وهذا ما أشار إليه الحافظ ابن حجر عند حديث حكيم بن حزام (1) الذي جاء فيه: "ومن أخذه - يعني المال - بإشراف نفس لم يبارك فيه، كالذي يأكل ولا يشبع ... ".
قال الحافظ: فيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون (2) .
ومن المهم أن يعلم أيضًا أن البركة قد تكون جلية، وقد تكون خفية، كما قد تكون مثوبة أخروية. فالبركة الجلية: هو ما يشاهد كثيرًا بالعادة من كثرة الخير وسوق الرزق للإنسان، ونمائه عند صاحبه وما يرافق ذلك من توفيق، وتيسير في الحصول على الرزق، ونحوه.
والبركة الخفية: قد تكون بدفع المضرات والجوائح والآفات عن الرزق، وعدم تعرض الإنسان للحوادث المرورية مثلاً أو الأمراض الخطيرة، ونحوه مما يأتي على جانب كبير من رزقه، وقد ذكروا بأن الغنم أو الأنعام إذا أنتجت الإناث فهذا من البركة الخفية لأنها تنمو وتتضاعف، وإذا أنتجت الخراف أو الذكور فهذا من المحق الخفي. والله أعلم (3) .
وأما البركة الأخروية وهو النماء ومضاعفة الأجر في الأعمال الصالحة فهذا واضح ويلحظ ذلك في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. لكن مقصود البحث هو إظهار البركة بقسميها الجلي والخفي دون البركة الأخروية مما اقتضى ذكر التنبيه المثبت في آخر هذا البحث، في (ص83) .
__________
(1) يأتي تخريجه.
(2) فتح الباري (3/337) .
(3) قد ألمح لشيءمن هذا المعنى كل من النووي في (شرح مسلم) 16/141، والمباركفوري في (تحفة الأحوذي) 6/177، والمناوي في (فيض القدير) 5/503.(47/221)
2 - الرزق: الرزق بالكسر، ما ينتفع به كالمرتَزق، والمطر، والجمع أرزاق، وبالفتح، المصدر الحقيقي (1) .
وقال ابن منظور: الرَّزق بفتح الراء هو المصدر الحقيقي، والرِّزق بالكسر هو الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر، قال: والرزق معروف، والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم (2) .
وقال الجرجاني: "الرزق اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله، فيكون متناولاً للحلال والحرام. وعند المعتزلة: عبارة عن مملوك يأكله المالك، فعلى هذا لا يكون الحرام رزقًا (3) ".
لكن قال القرطبي: "الرزق، حقيقته ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده، ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك، لأن البهائم ترزق وليست يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها (4) ".
وقال في موضع آخر - عند قوله تعالى -: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5) : رزقناهم: أي أعطيناهم، والرزق، العطاء، وهو - عند أهل السنة - ما صح الانتفاع به حلالاً كان أو حرامًا (6) .
__________
(1) القاموس المحيط (ر ز ق) 3/235.
(2) لسان العرب (ر ز ق) 10/115 بتصرف، وانظر أيضًا: النهاية في غريب الحديث (2/219) .
(3) التعريفات (ص 147) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (9/10) .
(5) سورة البقرة: من الآية رقم (3) .
(6) لجامع لأحكام القرآن (1/177) .(47/222)
قلت: والرِّزق المعنون به هذا البحث، والمستعمل في كل جزئياته إنما هو الرزق الحلال، إذ لا يمكن تصور حصول البركة في الرزق الحرام، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فلئن كان الرزق يشمل - أيضًا - العطايا والمنافع الظاهرة والعطايا الباطنة كما مر، فإن المعوَّل عليه - هنا في هذا البحث - إنما هو الرزق الظاهر، وهو ما يكون بمعنى المال، إذ بين الرزق والمال عموم وخصوص من وجه فكل مال رزق، وليس كل رزق مالاً، لكن يستعمل أحدهما محل الآخر كثيرًا، ولا إشكال في ذلك، وباستقراء الأحاديث الواردة في هذا البحث وما جاء فيها من ذكر البركة، فهي تستعمل مقرونة باللفظين، بل هي مستعملة مقرونة بالرزق أكثر من غيرها، وغالبًا ما يكون الرزق هنا بمعنى المال، وهذا ما دفعني إلى ذكر الرزق في العنوان بدلاً من المال، وإن كان الأمران جائزين، وإذا كان ذلك كذلك فالمال هو: ما ملكته من جميع الأشياء، والجمع أموال، كما قال ابن منظور (1) .
وقال ابن الأثير: "المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم، ثم قال: وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويفرق فيها بالقرائن (2) ".
وقال عبد السلام العبادي: "المال ما كان له قيمة مادية بين الناس وجاز شرعًا الانتفاع به في حال السعة والاختيار " (3) .
__________
(1) سان العرب (م ول) 11/635.
(2) لنهاية في غريب الحديث (4/373) .
(3) الملكية في الشريعة الإسلامية - القسم الأول (ص 179) .(47/223)
3 - في ضوء الكتاب والسنة: أي من خلال هدايتهما وما تضمنته نصوصهما من معانٍ يسترشد بها، وما تضفيه تلك النصوص من ظلال عامة، إذ ليس المقصود في هذا البحث استقصاء جميع النصوص المتعلقة بهذا الموضوع، كما أنه لم يكن بالإمكان حصر جميع الأسباب الجالبة للبركة في الرزق واستيعابها على وجه الدقة في مثل هذا البحث، وإن كنت قد أتيت على ذكر معظم الأحاديث التي ذكرت البركة وأسبابها، كما أنني قد حاولت التأصيل لمعظم الأسباب التي تستجلب بها البركة في الأرزاق، وذلك من خلال نصوص الأصلين الأصيلين: القرآن، والسنة، وهدايتها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
المطلب الثّاني:
المنهج الّذي سرت عليه في أثناء البحث
إن منهج أي بحث وإن لم يُبرز ويذكر صراحة إلا أنه ليس مثل هذا مما يخفى على أهل الاختصاص، الذين يقرؤون البحث ويعايشونه، بيد أنني سأشير هنا إلى بعض النقاط التي تبرز منهجي في هذا البحث، تاركًا الأمور الأخرى لمن يقرأ هذا البحث ويتتبع جزئياته، فمن الأمور التي سرت عليها في بحثي ما يلي:
1- قمت بانتقاء الآيات الكريمة، والأحاديث والآثار التي تخدم البحث بشكل واضح ومباشر، وقد أتخطى- أحيانًا - إلى النصوص التي فيها نوع خدمة غير مباشرة لكنها تصلح لتعضيد ودعم ما قصدته من تأصيل بعض المسائل.
2- قمت في ضوء هذه النصوص بالتأصيل لمسائل البحث العامة وبيان الجزئيات المندرجة تحت كل منها.
3- وعلى الرغم من قبول الأحاديث الضعيفة القريبة الضعف في مثل هذه الموضوعات بشكل عام إلا أنني حاولت - جاهدًا - اختيار وانتقاء الأحاديث المقبولة من صحيحة وحسنة بقسمي كل منهما، محاولاً البحث عن أقوال العلماء في الحكم على الحديث وبيان درجته خاصة إذا لم يكن الحديث من أحاديث الصحيحين أو أحدهما.
4- قمت بعزو الآيات القرآنية وذلك ببيان موضع الآية من السورة.
5- كما قمت بتخريج الأحاديث وبيان مواضعها من كتب السنة الأصلية المعتمدة.(47/224)
6- قمت بتتبع أقوال العلماء من مفسرين وشراح للحديث لاختيار ما أراه مناسبًا من أقوالهم لتوظيفها في فهم النصوص وتوجيهها، محاولاً توجيه هذه الأقوال، وبيان ما يستخلص أو يستنتج منها.
7- قمت بشرح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة أو كتب الغريب.
8- اكتفيت في أثناء العزو في الهامش بذكر اسم المرجع مختصرًا، وذلك لأنني ذكرت اسم الكتاب كاملاً في (فهرس المراجع) في آخره.
9- ذكرت الأحاديث الواردة في البحث في فهرس مرتبة على أحرف الهجاء ليسهل الوقوف عليها في البحث، وذلك لأنها أحاديث كثيرة ومختارة، هذا والله أعلم.
المبحث الثّاني:
الأسباب الجالبة للبركة في الرّزق
... وهو في عشرة مطالب:
المطلب الأوّل
تقوى الله - عزّ وجلّ - والتّقرّب إليه بالطّاعات
لقد أمر الله سبحانه عباده أن يتقوه حق التقوى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ، ثم بيَّن سبحانه في آية أخرى أن التقوى تكون بحسب الاستطاعة ومقدور الإنسان فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (2) .
كما تكفَّل - سبحانه وتعالى - لمن يتقي الله فيما أمره واجتناب ما نهاه عنه بأن ينجيه من كل كرب مما ضاق على الناس، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يخطر بباله، ويقنعه بما رزقه، ويبارك له في رزقه، وتمثَّل هذا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران: الآية رقم (102) .
(2) سورة التغابن: من الآية رقم (16) .
(3) سورة الطلاق: من الآيتين رقم (2-3) .(47/225)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك". علقه كل من ابن جرير (1) ، وابن أبي حاتم (2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعزاه السيوطي (3) إلى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، ولم أقف على من وصله، لكن جاء عند أحمد في غير موضع وبأسانيد عن أبي قتادة وأبي الدهماء - رضي الله عنهما - قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى وقال: "إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله جل وعز إلا أعطاك الله خيرًا منه" (4) ، وقال الهيثمي: "رواه أحمد بأسانيد ورجاله رجال الصحيح" (5) .
__________
(1) جامع البيان عن تأويل القرآن (9/85) .
(2) تفسير القرآن العظيم (7/2330) .
(3) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/182) .
(4) المسند (5/78، 79، 363) ، هذا اللفظ في الموضع الأول، ولفظه في بقية المواضع قريب منه.
(5) مجمع الزوائد (10/296) .(47/226)
قلت: والواقع العملي خير شاهد لمثل هذا، ومن هذا ما جاء في قصة يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز وامتناعه عن الوقوع في الحرام مع تهيئة جميع أسباب السلامة له، مخافة لله تعالى، وفي قصة الثلاثة الذين أووا إلى غار فانطبق عليهم، وأخذ كل واحد منهم يدعو الله بصالح عمله، وكان واحد منهم يحب ابنة عم له حباً شديدًا ويراودها عن نفسها مرارًا فتمتنع، ثم ألجأتها الحاجة إلى إجابته فلما أمكنته من نفسها وقعد بين رجليها، قالت له: اتق الله ... فانصرف عنها وهي أحب الناس إليه ... مخافة لله، ولا يخفى ما آل إليه أمر يوسف - عليه السلام - في الدنيا والآخرة من النعيم والكرامة والتمكين كما لا يخفى ما حصل لهذا المنصرف عن الفاحشة مع قدرته عليها مخافة لله تعالى من الفرج في الدنيا وانكشاف الشدة عنه وعن أصحابه الذين كانت لهم أعمال صالحة أيضًا (1) ، والله أعلم.
كما جاء عند مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - يرفعه: "إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدَّخر حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته" (2) .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (3) .
__________
(1) انظر قصة هؤلاء الثلاثة في صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئًا لغيره (4/408) ، وباب من استأجر أجيرًا (4/449) ، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (6/505-506) .
(2) الصحيح، كتاب المنافقين، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة (4/2162) .
(3) سورة المائدة: الآية رقم (66) .(47/227)
.. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) ، وقال أيضًا: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} (2) .
في هذه الآيات الكريمات الإشارة بأن التقوى لله - عز وجل - واتباع كل ما جاء على ألسنة الأنبياء والمرسلين من عمل بالأوامر واجتناب للنواهي، ومنها الأمر لأهل الكتاب باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأن كتبهم قاضية بذلك، آمرة به، كل ذلك سبب في نزول بركات السماء من الأمطار الغزيرة وإخراج بركات الأرض، وسعة الرزق والأكل المتواصل منه مع وجود البركات فيه (3) .
قال القرطبي: "ونظير هذا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (4) .
__________
(1) سورة الأعراف: من الآية رقم (96) .
(2) سورة الجن: الآية رقم (16) .
(3) جامع البيان عن تفسير القرآن (10/462-463) ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/105) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (6/229) .(47/228)
ولما كانت الفرائض التي فرضها الله - تعالى - على عباده هي أحب الأعمال إليه تعالى، فلذلك كان أداؤها أحب شئ إليه تعالى وأشد تقربًا منه، كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري (1) وحديث عائشة - رضي الله عنها - عند أحمد (2) من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشئ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه" الحديث. اللفظ للبخاري، ولفظ أحمد بنحوه، وقال الهيثمي بعد عزو الحديث لأحمد: فيه عبد الواحد بن قيس بن عروة، وثقه أبو زرعة والعجلي وابن معين في إحدى الروايتين، ... وبقية رجاله رجال الصحيح (3) .
ومن أبرز الفرائض والعبادات التي تقرب العبد بعد إيمانه وتقواه إلى مولاه، ويستجلب بها خيري الدنيا والآخرة، البركة في الرزق والسعادة والحبور في الحياة وبعد الممات، على سبيل المثال: (الصلاة، الحج والعمرة، الزكاة، والصدقات، وصلة الأرحام) .
1 - الصلاة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) . وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (5) .
__________
(1) الجامع الصحيح، كتاب الرقاق، باب التواضع (11/340-341) .
(2) المسند (6/256) .
(3) مجمع الزوائد (2/247) .
(4) سورة البقرة: الآية رقم (153) .
(5) سورة العنكبوت: من الآية رقم (45) .(47/229)
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) . وقال تعالى أيضًا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2) .
قال الحافظ ابن كثير: " قوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (3) ، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} (4) " أه.
__________
(1) سورة الذاريات: من الآيات رقم (56-58) .
(2) سورة طه: الآية رقم (132) .
(3) سورة الطلاق: من الآيتين رقم (2-3) .
(4) سورة الذاريات: آية رقم 56، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/230) .(47/230)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه (1) أمر صلَّى كما جاء عند أبي داود (2) ، وأحمد (3) ، ومن طريق أحمد رواه أبو نعيم (4) من حديث حذيفة - رضي الله عنه - سكت عليه أبو داود. وقال المنذري (5) : وذكر بعضهم أنه مرسل. وقد ذكر المزي (6) الروايات المسندة والروايات المرسلة ولم يرجح، لكن أفاد ابن حجر (7) أن بعضهم ذكر عبد العزيز ابن أخي حذيفة في الصحابة على أنه أخو حذيفة بن اليمان فروى حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوب أبو نعيم وتبعه ابن حجر بأنه ابن أخي حذيفة كما جاء عند أحمد وأبي داود. وقد اكتفى ابن القيم بعزو الحديث إلى المسند فقط ساكتًا عليه (8) .
قلت: والحديث قابل للتحسين، وقد حسنه الألباني (9) .
وقد جاء عند الترمذي (10) ، وابن ماجه (11) ، وأحمد (12) في الحديث القدسي المرفوع: "إن الله سبحانه يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدُّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسُدَّ فقرك" وحسنه الترمذي، واللفظ له، وقريب منه لفظ أحمد وابن ماجه فجاء فيهما لفظ "ملأت صدرك" بدلاً من "يديك"، وقال الألباني: صحيح (13) .
__________
(1) حزبه أمر: أي نزل به مهم أو أصابه غم. النهاية في غريب الحديث (1/377) .
(2) السنن، كتاب الصلاة، باب أي الليل أفضل (2/35) .
(3) المسند (5/388) .
(4) معرفة الصحابة (4/1881) .
(5) مختصر سنن أبي داود (2/94) .
(6) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف (3/50) .
(7) الإصابة (3/157) .
(8) زاد المعاد (4/199) .
(9) صحيح سنن أبي داود (1/245) .
(10) الجامع، كتاب صفة القيامة، باب منه (7/166) .
(11) السنن، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا (2/1376) .
(12) المسند (2/358) .
(13) صحيح سنن ابن ماجه (2/393) .(47/231)
وعند الترمذي (1) أيضًا من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلاَّ ما قدر له"، وقال الألباني صحيح (2) .
وعند ابن ماجة (3) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - مرفوعًا بنحو حديث أنس السابق. وقال البوصيري (4) : إسناده صحيح رجاله ثقات، وقال الألباني - أيضًا -: صحيح (5) .
وأحسن ابن قيم الجوزية إذ قال: "الصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومنوِّرة للقلب، ومبيِّضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، وحافظة للنعمة، ودافعة للنقمة، ومنزلة للرحمة، وكاشفة للغمة" (6) أه.
وقال المناوي: "الصلاة معينة على دفع جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرب إليه فمن أقبل بها على مولاه حاطه وكفاه لإعراضه عن كل ما سواه، وذلك شأن كل كبير في حق من أقبل بكليته عليه" (7) .
2 - الحج والعمرة:
__________
(1) الجامع، كتاب صفة القيامة، باب منه، (7/165) .
(2) صحيح سنن الترمذي (2/300) .
(3) السنن، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا (2/1375) .
(4) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة (3/271) .
(5) صحيح سنن ابن ماجه (2/393) .
(6) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/209) .
(7) فيض القدير (5/120) .(47/232)
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المتابعة بين الحج والعمرة يسبب الغنى، ويطرد الفقر، فقد جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره عند كل من الترمذي (1) ، والنسائي (2) وابن ماجه (3) (لكن عند هذا الأخير من حديث عمر - رضي الله عنه -) ، وأحمد (4) ، أنه قال صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من حديث عبد الله بن مسعود، وفي الباب عن عمر وعامر بن ربيعة وأبي هريرة وعبد الله بن حبشي وأم سلمة، قلت: وهذا اللفظ للترمذي وأحمد في الموضع الأول، وعند النسائي قريبًا من هذا اللفظ، وعند ابن ماجه نحوه.
قال المباركفوري قوله: "ينفيان الفقر" يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب (5) .
3 - الزكاة وما يتبعها من صدقات وصلة أرحام:
أما الزكاة فقد جعلها - سبحانه وتعالى - طهرة للمال ولصاحبه وقيد النعمة بها على الأغنياء الموسرين فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاة ماله، فيحفظه الله عليه وينميه له، ويدفع عنه بها الآفات والمهلكات، ويجعلها سورًا عليه وحصنًا منيعًا وحارسًا أمينًا له.
__________
(1) الجامع، كتاب الحج، باب ما جاء في ثواب الحج (3/538) .
(2) السنن، كتاب الحج، باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة (5/115) .
(3) السنن، كتاب المناسك، باب فضل الحج والعمرة (2/964) .
(4) المسند (1/387) ، (3/446) ، (3/447) .
(5) تحفة الأحوذي (3/539) .(47/233)
ولهذا قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) . وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المرفوع عند كل من أبي داود (2) ، والحاكم (3) ، والبيهقي (4) : لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (5) ، قال: كبر ذلك على المسلمين، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم". هذا لفظ أبي داود، وهو عند الحاكم، والبيهقي بنحوه، وقال الحاكم عقبه: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
قلت: والحديث عند أبي داود بسند متصل، رجاله ثقات لا مطعن في واحد منهم، ما خلا جعفر بن إياس (أبو بِشْر) فإنه وإن وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، والعجلي، والنسائي، والبرديجي، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقد احتج به الجماعة، إلا أن شعبة قال حديثه عن مجاهد من صحيفة - يعني أنه لم يسمع منه - وحديثه هنا هو من روايته عن مجاهد عن ابن عباس (6) ، فالله أعلم.
وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (7) .
قال القرطبي: "في معناه قولان: أحدهما: أنه تضاعف لهم الحسنات، والآخر: أنهم قد أضعف لهم الخير والنعيم أي هم أصحاب أضعاف" (8) .
__________
(1) سورة التوبة: الآية رقم (103) .
(2) السنن، كتاب الزكاة، باب في حقوق المال (2/126) .
(3) المستدرك (1/409) .
(4) السنن الكبرى (4/83) .
(5) سورة التوبة: الآية رقم (34) .
(6) تهذيب التهذيب (2/83-84) ، هدي الساري (ص 395) .
(7) سورة الروم: الآية رقم (39) .
(8) الجامع لأحكام القرآن (14/41) .(47/234)
وأما صدقات التطوع والإنفاق وصلة الأرحام: - وقد يدخل (أحيانًا) في مفهومها الصدقة الواجبة - فقد اهتم الإسلام بها اهتمامًا كبيرًا، وقد كان سيد البشر صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما يملك، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان سروره بما يعطيه أعظم من سرور من يأخذ منه بما أخذ، وكان يؤثر على نفسه، هذا كله مع تنويع أساليب العطاء بحسب الحالات، وظروف من يعطيهم، وهكذا علَّم أصحابه وبهذا أمرهم وكان يدعو للمتصدق منهم، فتحصل لهم البركة بما أنفقوا وبما أصابهم من بركات دعائه صلى الله عليه وسلم.
والآيات والأحاديث التي تبين أن الصدقة والإنفاق سبب في جلب الرزق وحصول البركة ودوام النعمة كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (1) . قوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} : أي ينميها في الدنيا بالبركة، ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة (2) .
وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3) . أي أن الشيطان يعد الإنسان ويمنيه بالفقر وفقد الأموال، وذلك بتأدية الزكاة ويأمره بالمعاصي وترك الطاعات.
بينما الله- عز وجل- يعد المؤمنين بغفران ذنوبهم وسترها بتأدية الصدقة، كما يعدهم أن يخلف عليهم فيتفضل عليهم من عطاياه ويسبغ عليهم في أرزاقهم (4) .
وقال ابن عطية في معنى قوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} المغفرة، هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل، هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والنعيم في الآخرة (5) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية رقم (276) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (3/362) .
(3) سورة البقرة: الآية رقم (268) .
(4) جامع البيان عن تأويل القرآن (5/571) بتصرف.
(5) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/454) .(47/235)
وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) . قال القرطبي: "هذه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى" (2) .
وقال ابن كثير: "يخلفه عليكم بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب (3) . ومن الأحاديث التي بهذا المعنى ما جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك" (4) ، وفي الحديث الآخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال لي: أنفق أُنفقُ عليك" (5) .
وروى البخاري (6) ، ومسلم (7) ، وأحمد (8) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا"، هذا لفظ البخاري ومسلم، وهو عند أحمد بنحوه.
ذكر ابن حجر أن الحديث فيه الترغيب في الإنفاق في وجوه البر، وأن ذلك موعود عليه بالخلف في العاجل بالزيادة وفي الآجل بالثواب (9) .
وقال النووي: "الإنفاق الممدوح هنا ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات" (10) .
وقال القرطبي: "وهو يعم الواجبات والمندوبات" (11) .
__________
(1) سورة سبأ: الآية رقم (39) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (14/295) .
(3) تفسير القرآن العظيم (3/715) .
(4) الصحيح، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (2/690-691) .
(5) المصدر السابق.
(6) الصحيح، كتاب الزكاة باب قول الله تعالى: (فأما من أعطى واتقى ... ) (3/304) .
(7) الصحيح، كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك (2/700) .
(8) المسند (2/305-306) .
(9) فتح الباري (3/304-305) بتصرف.
(10) فتح الباري (3/305) .
(11) فتح الباري (3/305) .(47/236)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره مرفوعًا، وفيه لفظ: "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" عند كل من البزار (1) ، والطبراني (2) ، وأبي نعيم (3) ، والبيهقي في الشعب (4) ، وعند بعضهم من حديث بلال وابن مسعود بنحوه أيضا.
وقال البزار عقب حديث أبي هريرة: لا نعلم أحداً رواه عن يونس إلا مبارك، وقال عقب حديث بلال: مرسل. وقال الهيثمي: "إسناد البزار والطبراني حسن" (5) .
وقد أطلق العراقي (6) أن الحديث ضعيف من جميع طرقه، لكن قال ابن حجر عقب حديث أبي هريرة: إسناده حسن (7) .
__________
(1) البحر الزخار، الأحاديث (1366، 1978) ، وانظر كشف الأستار عن زوائد البزار (4/250-251) .
(2) المعجم الكبير، الأحاديث (1020، 1021، 1025، 1026) .
(3) الحلية (1/149) ، (6/274) .
(4) شعب الإيمان (2/118) .
(5) مجمع الزوائد (10/241) .
(6) المغني عن حمل الأسفار حديث (4092) ، وانظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير (3/61) .
(7) مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد (2/494) .(47/237)
وحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عند كل من البخاري (1) ، ومسلم (2) ، وأبي داود (3) ، والترمذي (4) ، والنسائي (5) ، وأحمد (6) ، وعبد الرزاق (7) ، والبيهقي (8) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك". هذا لفظ عند البخاري ومسلم وأحمد إلا أنه قال عند مسلم "انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي ... " وعند هؤلاء - أيضًا - وعند الآخرين بنحوه، وقد اقتصر بعضهم على الشطر الأول فقط أو الشطر الثاني من الحديث.
قال النووي: "ولا تحصي ... " معناه: يمنعك كما منعت ويقتر عليك كما قترت، ويمسك فضله عنك كما أمسكته، وقيل معنى لا تحصي: أي لا تعديه فتستكثريه فيكون سببًا لانقطاع إنفاقك (9) .
وقال ابن حجر: "النهي عن منع الصدقة خشية النفاد، فإن ذلك أعظم الأسباب لقطع مادة البركة، لأن الله يثيب على العطاء بغير حساب، ومن لا يحاسب عند الجزاء لا يحسب عليه عند العطاء، ومن علم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب فحقه أن يعطي ولا يحسب، والإحصاء عد الشيء لأن يدخر ولا ينفق منه، وأحصاه الله قطع البركة عنه، أو حبس مادة الرزق أو المحاسبة عليه في الآخرة (10) ".
وقال السندي: لا تمنعي ما في يدك فيشدد الله عليك أبواب الرزق، وفيه أن السخاء يفتح أبواب الرزق والبخل بخلافه (11) .
__________
(1) الصحيح كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة (3/299-300) ، وباب الصدقة فيما استطاع (3/301) ، وكتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها (5/217) .
(2) الصحيح، كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (2/713) .
(3) السنن، كتاب الزكاة، باب في الشح (2/134) .
(4) الجامع، كتاب البر، باب ما جاء في السخاء (6/94) .
(5) السنن، كتاب الزكاة، باب الإحصاء في الصدقة (5/74) .
(6) المسند (6/344، 345، 346) .
(7) المصنف (11/108) .
(8) السنن الكبرى (4/187) .
(9) شرح صحيح مسلم (7/119) .
(10) فتح الباري (3/301) .
(11) حاشية السندي على سنن النسائي (5/74-75) .(47/238)
وقال المباركفوري: "دل الحديث على أن الصدقة تنمي المال وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق فإن الله يوكي عليه ويمنعه من البركة في ماله والنماء فيه" (1) .
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا عند كل من مسلم (2) ، والترمذي (3) ، والدارمي (4) ، وأحمد (5) بلفظ: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: هذا لفظ مسلم، والترمذي والدارمي، ولفظ أحمد بنحوه.
معنى "ما نقصت صدقة من مال" أي ما نقصت صدقة مالاً، أو بعض مال، أو شيئًا من مال، بل تزيد أضعاف ما يعطي منه بأن ينجبر بالبركة الخفية وذلك بدفع المضرات، أو بالعطية الجلية، أو بالمثوبة العلية (6) .
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا عند كل من البخاري (7) ، ومسلم (8) وغيرهما: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جُبتان، (وفي لفظ جُنتان) من حديد من ثُدَيِّهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت - أو وفرت - على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقه مكانها، فهو يوسِّعها ولا تتسع". هذا لفظ البخاري، وهو عند مسلم بنحوه.
__________
(1) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (6/94) .
(2) الصحيح، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع (4/2001) .
(3) الجامع، كتاب البر، باب ما جاء في التواضع (6/177) .
(4) السنن (1/333) .
(5) المسند (2/235) .
(6) انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/177) .
(7) الصحيح، كتاب الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل (3/305) ، وكتاب الجهاد، باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - (6/99) ، وكتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق (9/437) ، وكتاب اللباس، باب جيب القميص (10/267) .
(8) الصحيح، كتاب الزكاة، باب مثل المنفق والبخيل (2/708-709) .(47/239)
فبين الحديث أن المنفق يستره الله تعالى بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة، وينمي ماله بالصدقة والإنفاق، كستر هذه الجبة وضفائها على لابسها، وأما البخيل فهو كمن لبس جبة إلى ثدييه فقط فيبقى مكشوفًا بادي العورة مفتضحًا في الدنيا والآخرة وذلك بمحق ماله في الدنيا وحسناته في الآخرة (1) .
ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن الدعاء للمتصدق وباذل المال له أهمية كبيرة في حصول النماء والبركة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن يدفع الزكاة، أو الصدقات ويأمر عماله بأن يدعوا لمن يبذل المال كذلك، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
فقد قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللهم صلِّ عليهم". فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى" (2) . يريد هنا الدعاء له. ويقول أحيانًا: "اللهم بارك فيه وفي إبله" (3) إذا كانت الصدقة إبلاً، وهكذا.
وأما صلة الرحم: فقد أمر الله تعالى بصلة الأرحام وهي الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال، وأكد على ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبين أن في صلة الأرحام خيرات كثيرات، من زيادة في العمر، وفي الرزق، والذكر الجميل، والدرجات الرفيعة في الآخرة بفضل الله تعالى ومنِّه وكرمه. ودليل ذلك قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (4) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم (7/109) بتصرف.
(2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (3/286) . وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته (2/756-757) .
(3) سنن النسائي، كتاب الزكاة، باب الجمع بين المتفرق (5/30) .
(4) سورة محمد: الآيتان رقم (22-23) .(47/240)
.. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما مرفوعًا بطرق وألفاظ عديدة: "خلق الله الخلق فلما فرغ منه، قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال له: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك? قالت: بلى يا رب، قال: فذاك". قال أبو هريرة: فاقرأوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} . هذا لفظ البخاري، وعند مسلم بنحوه مختصر.
... وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري (3) ، وحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم (4) مرفوعًا ولفظه: "إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله: من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته". هذا لفظ البخاري، وعند مسلم بنحوه.
... وحديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عند الترمذي (5) ، مرفوعا قال الله تبارك وتعالى: "أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتُّه". وقال الترمذي: حديث صحيح.
__________
(1) الصحيح، كتاب التفسير باب (وتقطعوا أرحامكم) (8/579) ، وكتاب الأدب، باب من وصل وصله الله (10/417) ، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله) (13/465) .
(2) الصحيح، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4/1981) .
(3) الصحيح، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله (10/417) .
(4) الصحيح، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4/1981) .
(5) الجامع، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في قطيعة الرحم (6/33) .(47/241)
وحديث عبد الله بن عمرو عند كل من البخاري (1) والترمذي (2) ، مرفوعًا بلفظ: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمُه وصلها"، هذا لفظ البخاري، والترمذي مثله إلا أنه قال: "انقطعت رحمه" بدلاً من "قطعت رحمه". وقال الترمذي عقبه: حديث حسن صحيح، وفي الباب عن سلمان وعائشة.
ومن الأحاديث التي جاء فيها أن صلة الرحم من الأسباب الجالبة للرزق والبركة ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سرَّه أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه". وفي لفظ: "من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه". عند كل من البخاري (3) ، ومسلم (4) ، وهو عند أبي داود (5) بنحوه.
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المرفوع عند كل من الترمذي (6) ، وأحمد (7) ، والحاكم (8) ، وغيرهم وفيه: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر". وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقد أخرجه الطبراني (9) بنحوه من حديث العلاء بن خارجة مرفوعًا. وقال الهيثمي (10) بعد أن عزاه للطبراني في الكبير: رجاله موثقون.
__________
(1) الصحيح، كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ (10/423) .
(2) الجامع، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في صلة الرحم (6/35) .
(3) الصحيح، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق (4/301) ، وفي كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم (10/415) .
(4) الصحيح، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم (4/1983) .
(5) السنن، كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم (2/132-133) .
(6) الجامع، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعليم النسب (6/113) .
(7) المسند (2/374) .
(8) المستدرك (4/161) .
(9) المعجم الكبير (18/98) .
(10) مجمع الزوائد (1/193) ، و (8/152) .(47/242)
.. مما سبق - ومن خلال إمعان النظر في أقوال العلماء شراح الأحاديث - يمكن الخروج بما يأتي:
... 1 - تأكيد صلة الرحم وأن الله تعالى اشتق اسمها من اسمه عز وجل وأنه أنزلها في جواره، وفي حمايته، وجار الله - عز وجل - غير مخذول.
... 2 - تحريم قطيعة الرحم، وأن القاطع لها مقطوع من رحمة الله سبحانه وعظيم إحسانه، مخذول دنيا وآخرة.
... 3 - الرحم التي أمر الله بوصلها رحم عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة.
وأما الرحم الخاصة فتزيد على الرحم العامة، النفقة على الأقرباء وتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم، وقضاء حوائجهم، ودفع الضرر عنهم والبشاشة والدعاء لهم، إذا كانوا من أهل الاستقامة والصلاح، فإن كانوا عصاة فساقًا، فمقاطعتهم بعد بذل الوسع في نصحهم هو صلتهم، مع الدعاء لهم بالهداية بظهر الغيب.
... 4 - أما فائدة صلة الرحم وهذا هو بيت القصيد هنا، فهي أن الواصل، لا يزال موصولاً بالإحسان العظيم من الرحمن الرحيم، وبحصول الرزق ودفع الضر، وتوالي البركات، والتوفيق في الحياة، والسرور والحبور بعد الممات. وهذا يدرك كثيرًا بالحس والمشاهدة، ويتحدث الناس به ويعرفونه. وقد سبق حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما بأن الواصل، يبسط له في رزقه.
... قال النووي: "بسط الرزق: توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه (1) ". وقال الحافظ ابن حجر: قال العلماء: معنى البسط في الرزق البركة فيه، لأن صلة أقاربه صدقة، والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو (2) .
... هذا فيما يتعلق بحصول البركة في الرزق وأما الفوائد الأخرى فهي كثيرة وليس هنا محل ذكرها.
__________
(1) شرح صحيح مسلم (16/114) .
(2) فتح الباري (4/303) .(47/243)
المطلب الثّاني:
التّوكُّل على الله - سبحانه وتعالى - مع الأخذ بالأسباب
حقيقة التوكّل هو اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد - مع هذا الاعتماد واليقين - من مباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وتعطيل هذه الأسباب يعد قادحًا في نفس التوكل معطلاً للحكمة والشرع (1) .
ويأتي التوكل بعد حصول التقوى كأثر من آثارها ولازم من لوازمها، ولذا قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (3) .
فهكذا جعل الله تعالى - في هاتين الآيتين - التوكل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه وكافيه.
قال القرطبي: "التوكل هو: الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو وإعداد ... " (4) أه. وقال الإمام القشيري: "اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب، بعدما يحقق العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسًّر شيء فبتيسيره" (5) .
__________
(1) زاد المعاد (4/15) بتصرف.
(2) سورة المائدة: الآية رقم (11) .
(3) سورة الطلاق: الآيتان رقم (2-3) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (4/200) .
(5) الجامع لأحكام القرآن (7/9) .(47/244)
وقد ذكر الله تعالى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما خوفهم بعض الناس - كيدًا بهم - عدوَّهم قريشًا ومن معهم بأنهم قد جمعوا لهم إذ قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (1) . فهكذا خوفهم بعض الناس من عدوهم مشركي مكة ومن معهم فما كان من المؤمنين إلا أن قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، توكلوا على الله بعد الأخذ بالأسباب فكفاهم الله ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم من المشركين عقب أحُد فانقلبوا بنعمة السلامة، وزيادة من فضل الله مما شروا وتجروا من السوق فربحوا (2) .
__________
(1) سورة آل عمران: الآيتان رقم (173-174) .
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/572) باختصار شديد.(47/245)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين على ربه، يأمر بالتوكل على الله والانقطاع إليه بعد الأخذ بالأسباب في كل الأحوال، وتصديق ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم ما جاء في حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها". أخرجه الطبراني في الأوسط (1) والصغير (2) ومن طريقه أبو بكر الخطيب (3) ، وأخرجه أيضًا البيهقي (4) ، وابن أبي حاتم (5) ، بهذا اللفظ وقال الطبراني عقبه في الصغير: لم يروه عن هشام بن حسان إلا الفضيل بن عياض، تفرد به إبراهيم بن الأشعث الخراساني. وقال الهيثمي (6) بعد أن عزاه للطبراني في الأوسط: فيه إبراهيم بن الأشعث صاحب الفضيل، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغرب ويخطئ ويخالف، وبقية رجاله ثقات.
قلت: ويشهد لهذا الحديث ما ذكر بعده من أحاديث كما يشهد له ظاهر القرآن، والله أعلم.
__________
(1) المعجم الأوسط (4/215-216) .
(2) المعجم الصغير (1/116) .
(3) تاريخ بغداد (7/196) .
(4) شعب الإيمان (2/28، 120) .
(5) تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (10/3660) .
(6) مجمع الزوائد (10/303-304) .(47/246)
وحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا عند كل من: أبي داود (1) ، والترمذي (2) ، وأحمد (3) ، والطبراني (4) ، والحاكم (5) بلفظ: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"، وفي لفظ آخر: "من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا من أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله آتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل". اللفظ الأول للترمذي، واللفظ الآخر لأحمد، والباقون بنحوه عندهما. وقال الترمذي بعده: "حديث حسن صحيح غريب". وقال الحاكم عقبه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
... فبين في هذا الحديث أن من حصل له حاجة شديدة من فقر أو ضيق معيشة فعرضها على الناس وأظهرها بطريق الشكاية لهم، وطلب إزالة فاقته منهم لم تسدَّ فاقته ولم تقض حاجته، وهكذا كلما سد حاجة أصابته أخرى أشد منها. لكن إذا أنزلها بالله واعتمد على مولاه فإن الله يعجل له ويسرع برزق عاجل أي يسار وغنى، أو بموت قريب له غني فيرثه (6) .
__________
(1) السنن، كتاب الزكاة، باب في الاستعفاف (2/122) .
(2) الجامع. كتاب الفتن،، باب ما جاء في هم الدنيا (6/617-618) .
(3) المسند (1/389، 442) .
(4) المعجم الكبير (10/15) .
(5) المستدرك (1/408) .
(6) انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/618-619) بتصرف.(47/247)
.. وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: يا غلام إني أعلِّمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف" أخرجه الترمذي (1) وأحمد (2) وهذا اللفظ للترمذي، ولفظ أحمد قريب منه، وقال الترمذي بعده: حديث حسن صحيح.
كما ذكر الترمذي بعده بنفس الباب حديث أنس - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل" يريد ناقته. وقال الترمذي عقبه: "حديث غريب من حديث، أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وعن حبة وسواء ابني خالد - رضي الله عنهما - قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا، فأعناه عليه، فقال: "لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر، ليس عليه قشر، ثم يرزقه الله عز وجل" عند كل من: إبن ماجه (3) ، وابن حبان (4) ، وأحمد (5) ، والطبراني (6) ، واللفظ عندهم إلا ابن حبان فهو عنده بنحوه. وقال البوصيري (7) : "إسناد حديثهما صحيح رجاله ثقات"، لكن قال ابن حجر (8) : "روى الحديث ابن ماجه بإسناد حسن".
__________
(1) الجامع، كتاب القيامة، باب منه (7/219-220) .
(2) المسند (1/293، 307) .
(3) السنن، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/1394) .
(4) الصحيح (الإحسان) (8/34) رقم (3242) ولفظ ابن حبان: (لا تنافسا في الرزق ما هزت رؤوسكما ... ) .
(5) المسند (3/469) .
(6) المعجم الكبير (4/7-8) .
(7) مصباح الزجاجة (3/284) .
(8) الإصابة (1/304) ترجمة حبة بن خالد.(47/248)
قلت: والقلب إلى تحسينه أميل، وذلك لأن سلاَّم (1) بن شرحبيل أحد رواته مقبول عند الحافظ ابن حجر، ولم يوثقه سوى ابن حبان، لكنه من التابعين الذين لم يعرفوا بكبير رواية ولم يشتهروا فتقادم العهد بهم، وصعب الاطلاع على حالهم فأجاز العلماء روايتهم واحتملوها.
وروى الترمذي (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4) ، والحاكم (5) حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو (6) خماصا (7) ، وتروح (8) بطانا (9) ". هذا لفظ ابن ماجه وأحمد في الموضع الثاني، وكذا الحاكم، وعند الترمذي وأحمد في الموضع الأول "لو أنكم كنتم توكلون" والباقي بنحوه. وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ولم يتعقبه الذهبي.
وهكذا يتضح مما سبق أن التوكل والانقطاع إلى الله سبب في حصول الرزق والبركة فيه وقضاء الحاجات، ورفع الحرج والضيق بإذن الله تعالى.
المطلب الثّالث: التّسمية في كلّ الأحوال
__________
(1) انظر ترجمة سلام هذا في التهذيب (4/285) ، تقريب التهذيب (ص 261) .
(2) الجامع، كتاب الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا (7/8) .
(3) السنن، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/1394) .
(4) المسند (1/30، 52) .
(5) المستدرك (4/318) .
(6) الغدو: هو: السير أول النهار نقيض الرواح. النهاية في غريب الحديث (3/346) .
(7) خماصًا: أي ضامرة البطون جياعًا. النهاية في غريب الحديث (2/80) .
(8) تروح: من الرواح آخر النهار. النهاية في غريب الحديث (2/272) بتصرف.
(9) بطانًا: أي ممتلئة البطون. النهاية في غريب الحديث (1/136) .(47/249)
التسمية، والذكر والدعاء، والشكر، والتوبة، والاستغفار، وإن كانت هذه العبادات تبدو متداخلة من حيث الظاهر ويمكن أن تندرج جميعها تحت مسمَّى الذكر، إلا أنها في الحقيقة تجتمع وتفترق، وفي كلٍّ منها معنىً زائد على باقيها فيما يتعلق بموضوع البحث، لذا رأيت أن أفرد كل نوع منها على حدة.
فأما التسمية: فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر اسم الله تعالى ويسمي في كثير من الأحيان، ويأمر أصحابه بذلك وذلك لما يحصل من ذكر اسم الله تعالى من البركة، وطرد الشيطان ومنع مشاركته الإنسان إلا فيما لم يذكر اسم الله تعالى عليه.
قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (1) .
فسَّر بعض العلماء المشاركة هنا بأشياء كثيرة: منها مشاركة الشيطان للمجامع زوجته إذا لم يذكر اسم الله تعالى فقد جاء عند البخاري (2) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولدًا، لم يضره الشيطان".
__________
(1) سورة الإسراء: الآية رقم (64) .
(2) الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (6/335) ، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/70-71) .(47/250)
وأصرح حديث بالأمر بالتسمية وبخاصة عند الطعام، هو ما جاء عند أبي داود (1) ، والترمذي (2) ، والحاكم (3) ، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله، فليقل: بسم الله أوله وآخره". هذا لفظ أبي داود، وعند الترمذي والحاكم بنحوه. وقال الحاكم عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه أيضًا ابن قيم الجوزية (4) .
وقد جاء عند البخاري (5) ، ومسلم (6) وغيرهما أيضًا حديث عمر بن أبي سلمة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا غلام سمِّ الله وكل بيمينك، وكل مما يليك ... ".
وتظهر فائدة التسمية بشكل جلي من خلال الأحاديث التالية:
__________
(1) السنن، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام (3/347) .
(2) الجامع، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام (5/594-595) .
(3) المستدرك (4/108) .
(4) زاد المعاد (2/397) .
(5) الصحيح، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين (9/521) .
(6) الصحيح، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب، وأحكامهما (3/1599) .(47/251)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" وفي لفظ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" وفي رواية: "فهو أجذم" أخرجه كل من ابن ماجه (1) ، وأبي داود (2) ، وابن حبان (3) ، والدارقطني (4) ، والنسائي (5) ، واللفظ الثاني هو الأكثر، والأشهر، وقد ذكر طرقه السبكي وصححه (6) ، وقال النووي (7) : "هذا الحديث حسن ... روي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى أقطع: قليل البركة، وكذلك أجذم". أه.
وقال المحشي على سنن ابن ماجه: قال السندي: "الحديث حسنه ابن الصلاح والنووي" (8) .
قال الحافظ ابن حجر عند الكلام على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل: "فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم": قال النووي: "فيه استحباب تصدير الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم ويحمل قوله في حديث أبي هريرة: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" أي بذكر الله كما جاء في رواية أخرى فإنه روي على أوجه بذكر الله، ببسم الله، بحمد الله، قال: وهذا الكتاب كان ذا بال من المهمات العظام ولم يبدأ فيه بلفظ الحمد بل بالبسملة" (9) .
__________
(1) السنن، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح (1/610) .
(2) السنن، كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4/261) .
(3) الصحيح (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) (1/173-175) حديثا (1، 2) .
(4) السنن (1/229) .
(5) عمل اليوم والليلة (ص 345-346) .
(6) طبقات الشافعية الكبرى (1/5-21) .
(7) شرح مسلم (1/43) .
(8) وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (13/185) .
(9) فتح الباري (8/220) .(47/252)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عند كل من مسلم (1) ، وأبي داود (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء"، هذا لفظ مسلم، والباقون بنحوه وعندهم في أوله زيادة.
وعن عائشة رضي الله عنها عند كل من الترمذي (5) ، وابن ماجه (6) قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعامًا في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه لو سمَّى لكفاكم". هذا لفظ الترمذي، ولفظ ابن ماجه بنحوه، وفيه عنده زيادة، وقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن صحيح، وصححه - أيضًا - الألباني (7) .
... وقد ثبت عند البخاري (8) ومن حديث غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم مرفوعًا: "أن المؤمن يأكل في معىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء".
مما سبق، ومن خلال النظر في كتب شروح الحديث يتبين ما يلي:
1 - أهمية التسمية على كل أمر ذي بال، وأنها جالبة للخير والبركة، طاردة للشيطان الملعون المطرود الذي يمحق البركة ويسر للمعصية. ومما يدل على أهمية التسمية أيضًا أن كثيرًا ممن خرج الأحاديث السابقة عقدوا تراجم أبوابهم بذكر التسمية كما هو ملاحظ.
__________
(1) الصحيح، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب (3/1598) .
(2) السنن، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام (3/346-347) .
(3) السنن، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا دخل بيته (2/1279) .
(4) المسند (3/346، 383) .
(5) الجامع، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام (5/595) .
(6) السنن، كتاب الأطعمة، باب التسمية عند الطعام (2/1086-1087) .
(7) صحح سنن ابن ماجه (2/224) .
(8) الصحيح، كتاب الأطعمة، باب المؤمن يأكل في معىً واحد (9/536) .(47/253)
2 - يستحب التسمية في أوَّل كل أمر ذي بال كالدخول، والخروج، والأكل، والشراب، والوزن، والكيل، وعدَّ النقود، واللباس، والجماع، ويلحق بها ما في معناها، وحمد الله تعالى في آخره. وقد نقل النووي الإجماع على استحباب التسمية وقال: فإن الشيطان يتمكن من أكل الطعام إذا شرع فيه إنسان بغير ذكر الله تعالى، وأكل الشيطان محمول على ظاهره وأنه يأكل حقيقة إذ العقل لا يحيله، والشرع لم ينكره، بل أثبته، فوجب قبوله واعتقاده (1) .
3 - وقد قيل: إن معنى ذلك هو استحسان الشيطان رفع البركة من ذلك الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه (2) .
4 - أن الشيطان لم يسلَّط بإذن الله تعالى على من يسمي من أجل بركة التسمية، لأن في ذكر الله تعالى ودعائه اعتصاماً من الشيطان وأعوانه، فلا يشركهم الشيطان ولا يقربهم، وبذلك تحصل البركة (3) .
المطلب الرّابع: الذّكر والدّعاء
يعد الذكر من أفضل الطاعات، إذ هو سِرُّها وروحها، وهو أكبر من كل شيء، وأفضل من كل شيء، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} (4) . ولذا فقد كان صلى الله عليه وسلم: "يذكر الله على كل أحيانه" كما جاء عند البخاري (5) ، ومسلم (6) ، وغيرهما.
__________
(1) شرح صحيح مسلم (13/88-90) بتصرف، وانظر الأذكار للنووي (ص305-307) .
(2) انظر: فتح الباري (9/522) .
(3) فتح الباري (9/229) ببعض التصرف.
(4) سورة العنكبوت: من الآية رقم (45) .
(5) الصحيح، كتاب الحيض باب تقضي الحائض المناسك كلها ... (1/407) . وكتاب الأذان، باب هل يتبع المؤذن فاه ها هنا (2/114) وهو في الموضعين معلق.
(6) الصحيح، كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (1/282) .(47/254)
وملازمة الذكر والدعاء فيه استجلاب كل خير وبركة، ودفع كل بلاء وضر، وقرب من الرحمن ونيل رضاه وبعدٌ عن الشيطان وطرد له ولأعوانه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيضًا - يرشد إلى ملازمة الذكر والدعاء، كما أنه يذكر الله على كل أحيانه فإنه يدعو ربه في كل الأحيان بكل خير من خيري الدنيا والآخرة، ويدعو كذلك لأصحابه بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم.
فقد جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم (1) أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي.." كما كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي ووسِّع لي في داري، وبارك لي فيما رزقتني" عند الترمذي (2) ، وأحمد (3) ، والنسائي (4) ، وابن السني (5) ، اللفظ للترمذي والباقون بنحوه. وقال الترمذي: غريب وصححه النووي (6) .
وقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم (7) فقال: علمني كلامًا أقوله، قال: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم". قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟. قال: "قل اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني".
__________
(1) الصحيح، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل (4/2087) .
(2) الجامع، كتاب الدعوات، باب منه،82 (9/474) .
(3) المسند (4/399) .
(4) عمل اليوم والليلة (ص 172) .
(5) عمل اليوم والليلة (ص 2) .
(6) الأذكار (ص 21) .
(7) الصحيح، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4/2072) .(47/255)
وجاء عند أحمد (1) والترمذي (2) والحاكم (3) من حديث أبي وائل قال أتى عليًا - رضي الله عنه - رجل فقال يا أمير المؤمنين إني عجزت عن مكاتبتي فأعني، فقال علي - رضي الله عنه - ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل ثبير (4) دنانير لأدَّاه الله عنك، قلت: بلى، قال: "قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك" اللفظ لأحمد، ولفظ الترمذي بنحوه، وحسنه الترمذي، وكذا الألباني (5) وقال الحاكم عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وقد ثبت في الصحيح عند البخاري (6) من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته".
__________
(1) المسند (1/153) .
(2) الجامع، كتاب الدعوات، أحاديث شتى من أبواب الدعوات (10/8) .
(3) المستدرك (1/538) .
(4) في معظم المصادر بما في ذلك تحفة الأحوذي (صير) ، وما أثبته هو الصواب وهو المثبت في نسخة الترمذي تحقيق: أحمد شاكر (5/523) ، وقد أخطأ المباركفوري إذ شرح اللفظة صير، قال: ويروى صبير. وعزا ذلك إلى النهاية. والذي في النهاية (1/207) وفي معجم ما استعجم (1/335) ثبير، بفتح أوله وكسر ثانيه بعده ياء وراء مهملة، جبل بمكة.
(5) صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/512) .
(6) الصحيح، كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: وصلِّ عليهم (11/36) ، وباب دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه بطول العمر وبكثرة المال (11/144) .(47/256)
وجاء عند الإمام أحمد (1) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - المرفوع وفيه ذكر وصية نوح - عليه السلام - لابنيه عندما حضرته الوفاة ومما جاء فيه: "آمركما بلا إله إلا الله.. وآمركما بسبحان الله، وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء". قال العراقي: إسناده صحيح (2) ، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات (3) .
وهكذا يظهر جليًا ما للذكر والدعاء من أهمية بالغة في استجلاب الخير والبركة وطرد للمكروه والعوز وإبعاد للشيطان وإرغام له ولجنده. ولهذا لزم الإنسان ملازمة الذكر والدعاء للفوز بالسعادة الأخروية والدنيوية على حد سواء، والله أعلم.
المطلب الخامس: شكر الله تعالى وحمده
الشكر: هو استعمال نعم الله تعالى في محابه، كما قال الغزالي (4) ، وقال في موضع آخر: "وجود الزيادة في المال نعمة وشكرها أن تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية" (5) . وقال ابن القيم: "الشكر، هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده، ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة" (6) . وقال القرطبي نحو هذا (7) .
وقد فرق بعض العلماء جزئيًا بين الحمد والشكر، فجعلوا بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، لكن رجح أبو جعفر الطبري أن الحمد قد يُنطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد، لأن ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال: "الحمد لله شكرًا" (8) .
__________
(1) المسند (2/225) .
(2) المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (1/64) حديث رقم 952.
(3) مجمع الزوائد (4/220) .
(4) إحياء علوم الدين (4/85) .
(5) إحياء علوم الدين (4/131) .
(6) مدارج السالكين (2/254) .
(7) الجامع لأحكام القرآن (14/264) ، وانظر - أيضاً - فتح الباري (3/15) .
(8) جامع البيان عن تأويل القرآن (1/138) .(47/257)
ولذا فسَّر الطبري {الْحَمْدُ لِلَّه} في سورة الفاتحة بالشكر الخالص لله تعالى بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد (1) .
قلت: وهذه النعم الكثيرة التي لا تحصى ولا تستقصى ومن جملتها نعمة المال تستوجب الشكر من الخلق للخالق الرازق المتفضل، وهذا الشكر والحمد له سبحانه سبب من أسباب استجلاب الزيادة، وحصول البركة في المال، تفضلاً منه سبحانه وتعالى ونعمة.
قال ابن القيم: "جعل الله الشكر سببًا للمزيد من فضله وحارسًا وحافظًا لنعمته، وموصلاً الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورًا" (2) .
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنه يضيق معنى الشكر عند بعض الخلق فيظن أن غايته أن يقول بلسانه الحمد لله، أو الشكر لله، ونحوهما، مع عدم استعانته بالنعمة على المعصية، وإن لم يصرف هذه النعمة إلى الطاعة، وهذا مما لا شك فيه قصور في الفهم، وعن اتباع السلف الصالح.
والشكر- في حقيقة الأمر دائرته - أوسع من ذلك، ومجاله أرحب فالصلاة مثلاً شكر، والصيام شكر، وكل خير يعمله الإنسان لله تعالى شكر، واستحياء العبد من تتابع النعم عليه شكر، واعترافه بالتقصير على شكر المنعم عليه، واعتذاره عن تقصيره أيضا شكر، وتحدثه بنعمة الله شكر، واعترافه بأن النعمة موهبة من الله تعالى مع أنه لا يستحقها شكر، وتواضعه للنعم والتذلل فيها للمنعم شكر، وقلة اعتراضه وحسن أدبه مع المنعم، وتلقي النعمة بحسن القبول، وإن كانت بسيطة أو قليلة، واستعظامها وعدم احتقارها أو استصغارها شكر، والتيقن بأن الشكر بحد ذاته هو نعمة من الله تعالى وتوفيقه شكر، وأفضل الشكر هو حمد الله تعالى (3) .
__________
(1) جامع البيان عن تأويل القرآن (1/135) .
(2) مدارج السالكين (2/252) بتصرف يسير.
(3) أشار إلى بعض هذه المعاني ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (3/698) .(47/258)
وقد أمر سبحانه وتعالى عباده بالشكر، بل إنه قرن سبحانه وتعالى الشكر بالذكر إذ قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (1) . كما وعد بالجزاء على الشكر، بل قطع سبحانه بالمزيد مع الشكر فقال: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (2) . وقال أيضًا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (3) . وقال أيضًا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (4) . وقال أيضًا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (5) .
وأقوال العلماء المفسرين حول هذه الآيات تؤيد المعاني السابقة في شكر الله سبحانه وتعالى، وتؤكدها، فقد قال أبو جعفر الطبري عند قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته، ومن كفرني حرمته، وسلبته ما أعطيته (6) .
قلت: وقول أبي جعفر هنا "ومن كفرني" ليس بالضرورة أن يكون هو (الكافر) حقيقة وهو مقابل (المسلم) ، ولكن يريد ما هو أعم من هذا، فيدخل فيه من جحد النعمة فلم يظهرها ويؤدي حقها وشكرها على المعاني السابقة، والله أعلم.
وقال القرطبي معلقًا على الآية الأخرى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} أي لئن شكرتم إنعامي عليكم لأزيدنكم من فضلي، والآية نص في أن الشكر سبب المزيد (7) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية رقم (152) .
(2) سورة آل عمران: الآية رقم (145) .
(3) سورة إبراهيم: الآية رقم (7) .
(4) سورة الضحى: من الآية رقم (11) .
(5) سورة سبأ: من الآية رقم (13) .
(6) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (3/212) .
(7) الجامع لأحكام القرآن (9/353) .(47/259)
وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي أنشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والحكم عام له ولغيره (1) . وأما قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقد قال القرطبي في معناها: "أي قليل من يفعل ذلك لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية" (2) .
قلت: والظاهر - والله أعلم - أن نعم الله كثيرة لا حصر لها، وهي لا تزال متجددة متكاثرة على العباد بفضل الله عز وجل، والشكر بأنواعه وأشكاله يحتاج إلى عزيمة ويقين، فيضعف كثير من الناس، ويقصِّرون في شكر المنعم وحمده حق شكره وحمده، ولذلك كان الشاكرون قليلين، وهم الخاصة، وفي مقدمة هؤلاء الشاكرين إمامهم سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه أتقى الخلق، وأعرفهم بحق خالقه وأشكرهم له، يظهر ذلك جليًا من خلال النظر في حاله وسيرته مع أصحابه رضوان الله عليهم، ويبرز ذلك بأمور منها:
1- كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة بشتى أنواعها مع أنه مغفور له المتقدم والمتأخر من ذنبه، فلقد جاء عند البخاري (3) ، ومسلم (4) من حديث المغيرة بن شعبة وحديث عائشة - رضي الله عنهما - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". هذا لفظ حديث عائشة عند البخاري، وعندهما نحو هذا اللفظ أيضًا.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (20/102-103) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (14/264-265) .
(3) الصحيح، كتاب التهجد، باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل (3/14) وكتاب التفسير، باب ليغفر الله لك ... (8/584) ، وكتاب الرقاق، باب الصبر على محارم الله (11/303) .
(4) الصحيح، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (4/2171-2172) .(47/260)
2- وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسُرُّ، أو اندفاع نقمة، كما جاء عند كل من أبي داود (1) ، والترمذي (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4) ، من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسرُّه أو يُسَرُّ به خرَّ ساجدًا شكرًا لله تبارك وتعالى. واللفظ لابن ماجه، والباقون بنحوه، وعند أحمد فيه قصة، وقال الترمذي في آخره: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث بكار بن عبد العزيز، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا سجدة الشكر. وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لما تاب الله عليه خرَّ ساجدًا. عند ابن ماجه (5) ، وقال البوصيري (6) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وهو موقوف، قال ابن حزم: لا مغمز في خبر كعب ألبتة، ثم روي عن أبي بكر الصديق "في الأصل أبي الصديق" وعلي بن أبي طالب نحوه. أ. هـ.
__________
(1) السنن، كتاب الجهاد، باب سجود الشكر (3/89) .
(2) الجامع، كتاب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر (5/200) .
(3) ... السنن، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجود عند الشكر (1/446) .
(4) ... المسند (5/45) .
(5) ... السنن، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر (1/446) .
(6) ... مصباح الزجاجة (1/449) .(47/261)
3- توجيهاته لأصحابه وأقواله في الشكر وبيان فضله. فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه رثَّ الثياب: "ألك مال"؟، قال: نعم، قال: "من أي المال"؟، قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: "فإذا أتاك الله مالاً فلير أثر نِعمة الله عليك وكرامته" رواه أبو داود (1) ، والنسائي (2) ، والحاكم (3) هذا لفظ أبي داود والحاكم مثله إلا أنه عنده مطول، وعند النسائي بنحوه عند أبي داود، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه- أيضًا- الألباني (4) .
وعند الترمذي (5) ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وقال الترمذي: حديث حسن، ثم قال: وفي الباب عن أبي الأحوص عن أبيه وعمران بن حصين وابن مسعود، وحسنه - أيضا - الألباني (6) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر، فقد أدَّى شكر يومه، ومن قال: مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته".
رواه كل من أبي داود (7) ، وابن حبان (8) ، واللفظ لأبي داود، وهو عند ابن حبان بنحوه مع شيء من الاختصار، وقد حسَّنَه ابن القيم (9) ، والنووي (10) ، والحافظ ابن حجر (11) .
__________
(1) ... السنن، كتاب اللباس، باب في غسل الثوب وفي الخلقان (4/51) .
(2) ... السنن، كتاب الزينة، باب الجلاجل (8/181) .
(3) ... المستدرك (4/181) .
(4) غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص 63) ، وصحيح سنن أبي داود (2/767) .
(5) ... الجامع، كتاب الأدب، باب ما جاء إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (8/106) .
(6) ... صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/146) رقم (1884) .
(7) ... السنن، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح (4/318) .
(8) ... الصحيح (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) (3/142-143) رقم (861) .
(9) ... زاد المعاد (2/373) .
(10) ... الأذكار (ص 74) .
(11) ... انظر: التعليق على صحيح ابن حبان (3/143) .(47/262)
وفي حديث أنس - رضي الله عنه - عند ابن ماجه (1) أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذه". يعني الذي أداه وفعله من الحمد، أفضل مما أخذ من النعمة، وحسنه البوصيري (2) ، وقال النووي: إسناده جيد (3) . وفي الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (4) : وفي الحرز، رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن غنام، وابن حبان والنسائي عن ابن عباس، وقال الحافظ بعد تخريجه: " ... حديث حسن".
المطلب السّادس: التّوبة والاستغفار
التوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى بالتزام فعل ما يجب، وترك ما يكره، أي هي: الرجوع لما يكرهه الله ظاهرًا وباطنا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنا.
والاستغفار: هو محو الذنب، وإزالة أثره ووقاية شره، وستره. والاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمنه، وكل منهما يدخل في مسمَّى الآخر، عند الإطلاق والإفراد، وأما عند الاقتران أي اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (5) ، فيكون الاستغفار هنا طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله (6) .
__________
(1) ... السنن، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين (2/1250) .
(2) ... مصباح الزجاجة (3/192) .
(3) الأذكار (ص 74) .
(4) الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (3/107) .
(5) ... سورة هود: من الآية رقم (3) .
(6) ... انظر: مدارج السالكين (1/332-335) بتصرف.(47/263)
قلت: ومن المهم هنا أن يُعلم أن التوبة والاستغفار عبادة تَعَبَّدَنا الله تعالى بها باستمرار وعلى الدوام، سواء أوقعت ذنوب أو معاصي أم لم تقع، لكن إن حصلت - وما أكثرها! - إذ الإنسان خطاء، فيجب الإسراع إلى التوبة والندم وكثرة الاستغفار. وهذه العبادة لها أهمية بالغة يصعب استقصاء فضلها وفوائدها هنا لكن مما لا شك فيه، فيها رضى الرب عز وجل وقربٌ منه، وبعدٌ عن الشيطان، واستجلابٌ الخيرات وحصول البركات، ودفعٌ للشرور والمكروهات، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ناطقة حافلة بهذا، ومن ذلك قول هود - عليه السلام - لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (1) .
ذكر القرطبي: أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار، وأن عادًا كانوا أهل بساتين وزروع وعمارة فحبس عنهم المطر فقال لهم هود إن آمنتم وأكثرتم الاستغفار يحيي الله بلادكم ويرزقكم، الأموال والأولاد، ويزيدكم قوة إلى قوتكم (2) .
وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} (3) .
__________
(1) ... سورة هود: الآية رقم (52) .
(2) ... الجامع لأحكام القرآن (9/53-54) بتصرف.
(3) ... سورة نوح: الآيات رقم (10-12) .(47/264)
واضح - في هذه الآيات - أن التوبة والطاعة وكثرة الاستغفار سبب في بسط الرزق وحصول المال والبركة فيه، وهكذا أرشد نوح - عليه السلام - قومه إلى الطاعة وكثرة الاستغفار، أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه، وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع وأدرَّ لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها (1) .
قال ابن كثير: "يستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} " (2) . وقال الشعبي: خرج عمر- رضي الله عنه - يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا. فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟. فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أخرجه كل من عبد الرزاق (3) ، وابن أبي شيبة (4) ، وابن أبي حاتم (5) ، والبيهقي (6) . والشعبي وإن أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم إلا أنه لم يسمع من عمر - رضي الله عنه - كما ذكر غير واحد منهم ابن أبي حاتم (7) ، وقد قال العجلي: لا يكاد الشعبي يرسل إلا صحيحًا، وقال الآجري عن أبي داود: مرسل الشعبي أحب إليَّ من مرسل النخعي (8) .
__________
(1) ... الجامع لأحكام القرآن الكريم (18/289) ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/547) .
(2) ... تفسير القرآن العظيم (4/546) .
(3) ... المصنف لعبد الرزاق (3/87) رقم (4902) ، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (18/290) .
(4) ... المصنف (2/474) .
(5) ... تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (6/2045) .
(6) ... السنن الكبرى (3/351-352) ، ومعرفة السنن والآثار (5/174) .
(7) ... المراسيل (ص 160) .
(8) ... تهذيب التهذيب (5/67-68) ، ولم أقف عليه في (سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود) ، فالله أعلم.(47/265)
وقد روى الأثر عن عمر غير واحد - أيضًا - منهم عطاء عند عبد الرزاق (1) ، وابن المسيب عند البيهقي (2) ، وأبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي عن أبيه عند البيقهي (3) أيضًا، وفيه قال عبيد السعدي ألا يتكلَّم لما خرج له، ولا أعلم أن الاستسقاء هو الاستغفار فمطرنا.
وقد جاء الأثر أيضًا مسندًا مختصرًا عند ابن أبي شيبة قال: ثنا وكيع عن عيسى بن حفص بن عاصم عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه قال خرجنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نستسقي فما زاد على الاستسقاء (4) .
قلت: وإسناده متصل ورجاله كلهم ثقات بلا استثناء. وبهذا يصح الأثر عن عمر - رضي الله عنه - والله أعلم.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم سيِّد الاستغفار كما جاء عند البخاري (5) فقال: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنتن خلقتني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ... ".
__________
(1) ... المصنف (3/86-87) .
(2) ... معرفة السنن والآثار (5/173-174) .
(3) ... السنن الكبرى (3/351) .
(4) ... المصنف (2/474) .
(5) ... الصحيح، كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار (11/97-98) .(47/266)
وقد جاء عند البخاري (1) أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". وعند مسلم (2) قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وفي رواية "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة". كل هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناًلِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} (3) ، وقد تقدم في الشكر أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطَّر قدماه. فلما سئل قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا.
وواضح مما سبق أن التوبة والاستغفار سبب لكل خير دنيوي وأخروي.
ومن جملة ذلك حصول الخير والبركة في المال، ودفع كل سوء ومكروه. وقد وجد كذلك نصوص صريحة في هذا.
__________
(1) ... الصحيح، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة (11/101) .
(2) ... الصحيح، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (4/2075-2076) .
(3) ... سورة الفتح: الآيتان رقم (1-2) .(47/267)
منها: ما رواه أبوداود (1) ، وابن ماجه (2) ، والنسائي (3) ، وأحمد (4) ، والطبراني (5) ، والحاكم (6) ، والبيهقي (7) من حديث ابن عباس - رضي الله - عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لزم الاستغفار - وفي لفظ (أكثر) - جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب". وصححه الحاكم، لكن تعقبه الذهبي قائلا: "أحد رواته فيه جهالة"، وقال المنذري: "في إسناده الحَكَم بن مصعب، ولا يحتج به" (8) ، كما ضعفه الألباني بسبب الحكم بن مصعب أيضًا (9) .
قلت: وقد رمز السيوطي له بالصحة (10) ، وقال صاحب التاج: "سنده صحيح" (11) ، كما قال أحمد شاكر-أيضًا - إسناده صحيح، وقد ذكر الاختلاف في الحكم بن مصعب ورجح تعديله، كما رد على المنذري فقال: "وهذا غلو منه شديد" (12) .
__________
(1) ... السنن، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار (2/85) .
(2) ... السنن، كتاب الأدب، باب الاستغفار (2/1254) .
(3) ... عمل اليوم والليلة، حديث رقم (456) .
(4) ... المسند (1/284) .
(5) ... المعجم الكبير (10/342) حديث رقم (10665) .
(6) ... المستدرك (4/262) .
(7) السنن الكبرى (3/351) .
(8) ... مختصر سنن أبي داود (2/152) .
(9) ... سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (705) .
(10) الجامع الصغير (2/166) .
(11) التاج الجامع للأصول (5/150) .
(12) المسند، حديث رقم (2234) .(47/268)
وقد روى الربيع بن صبيح أن رجلاً أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: "استغفر الله"، فأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: "استغفر الله"، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه، فقال له: "استغفر الله"، وأتاه آخر فقال له: "ادع الله أن يرزقني ابنا"، فقال له: "استغفر الله". فقلنا له: "أتاك رجال يشكون إليك أبوابًا، ويسألونك أنواعًا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار"، فقال: "ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيئًا، إنما اعتبرت فيه قول الله تعالى إخبارًا من نبيه نوح - عليه السلام - أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} " (1) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر (2) هذا الأثر عن الحسن البصري مع شيء من الاختلاف في الألفاظ، ثم قال: "وكأنَّ المُصَنِّف - يريد البخاري - ألمح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن البصري"أه.
قلت: والربيع بن صبيح هذا سمع الحسن البصري، وثقه جماعة وضعفه آخرون، لكنه لم يتعمد الكذب، ولا يدلس وقد لخص الحافظ ابن حجر حاله قائلاً: "صدوق سيء الحفظ، وكان عابدًا مجاهدًا، وقد روى له الترمذي وابن ماجه والبخاري تعليقًا" (3) .
المطلب السّابع: السَّعْي في الكسب أخذًا بالأسباب
مما لا شك فيه أن الحصول على المال يحتاج إلى سعي، واتخاذ الأسباب الجالبة للرزق، والبركة فيه، وقد وجه الشارع العباد إلى العمل، وعدم التواكل أخذًا بالأسباب، فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، ولم يرض الإسلام للإنسان المسلم أن يكون عالة على غيره، واقعا في ذل السؤال، والعوز.
__________
(1) ... تفسير الحسن البصري (5/199-200) .
(2) ... فتح الباري (11/98) .
(3) ... تهذيب التهذيب (3/247-248) ، التقريب (ص 206) .(47/269)
ونصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة مليئة بالتوجيهات بهذا الخصوص، فمن ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) . أي انتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم وابتغوا من رزق الله (2) .
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (3) . أي فسافروا حيث شيءتم من أقطارها وترددوا في أرجائها وأطرافها وأقاليمها وفجاجها في أنواع المكاسب والتجارات، والسعي هنا لا ينافي التوكل حالكم كحال الطير لها غدو ورواح لطلب الرزق مع توكلها على خالقها (4) . ونحو هذا المعنى في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (5) .
__________
(1) ... سورة الجمعة: الآية رقم (10) .
(2) ... انظر: الجامع لأحكام القرآن (18/105) .
(3) ... سورة الملك: الآية رقم (15) .
(4) ... انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/511) بتصرف.
(5) ... سورة المزمل: من الآية رقم (20) .(47/270)
ومن السنة المشرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده" أخرجه البخاري (1) وآخرون. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكسب أطيب أو أفضل فقال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور" أخرجه بهذا اللفظ كل من أحمد (2) ، والبزار (3) ، والطبراني في (الأوسط (4) ، والحاكم (5) من حديث رافع ابن خديج، وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن وائل بن داود إلا المسعودي" وبنحو هذا قال البزار عقبه، وممن أخرجه أيضا الحاكم (6) من حديث سعيد بن عمير عن عمه (البراء بن عازب) بنحوه، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووائل بن داود وابنه بكر ثقتان وقد ذكر يحيى بن معين أن عم سعيد بن عمير البراء بن عازب وإذا اختلف الثوري وشريك فالحكم للثوري". أهـ. ووافقه على ذلك الذهبي.
وحصول الرزق، والبركة فيه وإن كان واضحًا من النصوص السابقة إذ إن السعي أو الكسب سبب في حصول الخيرات والبركات إلا أن ثمة أمورًا لابد من مراعاتها ليتم استجلاب البركة والنماء من الكسب وإلا لربما يشوب المرء رزقه وماله بشيء من الحرام فتذهب هذه البركة أدراج الرياح.
... ومن هذه الأمور التي لابد من مراعاتها وهي التي يستجلب النماء والبركة بسببها بإذن الله تعالى:
1- أن يكون الكسب مباحًا حلالاً لا يدخله الحرام مهما قلَّ أو دقَّ:
__________
(1) ... الصحيح، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (4/302) .
(2) ... المسند (4/141) .
(3) ... المسند (كشف الأستار عن زوائد البزار) (2/83) .
(4) ... المعجم الأوسط (8/446) رقم (7914) .
(5) ... المستدرك (2/10) .
(6) ... المستدرك (2/10) .(47/271)
وذلك لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والحرام خبيث ارتكب بسببه المعصية، فلا يبارك الله فيه بل يمحق الرزق، ويمنع تجدد وصوله، وقد جاء عند مسلم (1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" وفيه "ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟ ".
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة المال، وعدم توخي الحلال والتحري في الكسب كما جاء عند البخاري (2) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام".
2 - الصدق والأمانة:
ومما يستجلب به البركة في المال، الصدق والأمانة في التعامل، فقد روى البخاري (3) حديث حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
__________
(1) ... الصحيح، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2/703) .
(2) ... الصحيح، كتاب البيوع، باب من لم يبال من حيث كسب المال (4/296) .
... قلت: والممارسات المحرمة القاضية بذهاب بركة المال وزواله كثيرة لا مجال لذكرها هنا، منها: الربا، والاحتكار، والحلف الكاذب، وجميع البيوع المحرمة، ونحو هذا، والله أعلم.
(3) ... الصحيح، كتاب البيوع، باب إذا بيَّن البيعان، ولم يكتما ونصحا (4/309) .(47/272)
قال الحافظ ابن حجر: "قوله صدقا، أي من جانب البائع في السوم ومن جانب المشتري في الوفاء، وقوله بيَّنا: أي لما في الثمن والمثمن من عيب فهو من جانبيهما وكذا نقصه. قال: وفي الحديث حصول البركة لهما إن حصل منهما الشرط، وهو الصدق والتبيين، ومحقها إن وجد ضدهما وهو الكذب والكتم. وفي الحديث أن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح وأن شؤم المعاصي يذهب بخيري الدنيا والآخرة" (1) .
3 - البكور في طلب الرزق وكسبه:
وهذا شيء ثابت في الشرع، متعارف عليه عند الخاصة والعامة، مجرَّب بالحس والمشاهدة فلعلَّ الله سبحانه وتعالى جعل في هذا الوقت من اليوم (الصباح) من البركة، والتيسير ما لم يجعل في باقي الأوقات فيما يتعلق بالسعي وطلب الأرزاق وقضاء الحاجات، لأنه وقت النشاط، والقوة.
وهنا ينقدح في الذهن شيء لم أسمعه ولم أقرأه، وهو أن الله سبحانه وتعالى جعل مدة ما بين صلاتي الفجر وصلاة الظهر أطول مدة بين صلاتين من صلوات النهار وذلك حتى يتمكن الإنسان من السعي والذهاب لقضاء حاجاته والله أعلم.
__________
(1) ... فتح الباري (4/311) .(47/273)
ومما يؤيد بركة الطلب والسعي في الصباح الباكر، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، قال: "وكان - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم أول النهار، وكان صخر - راوي الحديث - رجلاً تاجرًا، وكان إذا بعث تجارةً بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله". أخرجه أبو داود (1) ، والترمذي (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4) ، والطبراني (5) ، وابن حبان (6) وغيرهم من حديث صخر ابن وداعة، وصحابة آخرين، هذا لفظ الترمذي، والباقون بمثله وبعضهم باختلاف يسير في بعض الألفاظ.
وقال الترمذي عقبه: "حسن"، وصححه ابن حبان، كما صححه - أيضًا - الألباني (7) ، وقال المنذري: قد رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: سمَّى المنذري منهم (15) صحابيًا، ثم قال: "وغيرهم"، وقال مرة: "بعض أسانيدها جيد"، وقال مرة أخرى: "بعضها حسن". ثم قال: "وقد جمعتها في جزء، وبسطت الكلام عليها" (8) .
قلت: ولعل الحافظ ابن حجر عنى المنذريَّ بقوله إذ قال عند ذكر حديث "بورك لأمتي في بكورها": "قد اعتنى به بعض الحفاظ بجمع طرقه فبلغ عدد من جاء عنه من الصحابة نحو عشرين نفسًا" (9) ، والله أعلم.
__________
(1) ... السنن، كتاب الجهاد، باب في الابتكار في السفر (3/35) .
(2) ... الجامع، كتاب البيوع، باب التبكير في التجارة (4/402) .
(3) ... السنن، كتاب التجارات، باب ما يرجى من البركة في البكور (2/752) .
(4) ... المسند (1/154، 155، 156) ، (3/416، 417، 433) ، (4/384، 390، 391) .
(5) ... المعجم الأوسط، الأحاديث ذات الأرقام (1000،2999، 3336، 40826، 5747، 6879) .
(6) ... الصحيح، (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) (11/62-63) حديثا (4754-4755) .
(7) ... صحيح سنن أبي داود (2/494) ، وصحيح سنن ابن ماجه (2/21) .
(8) ... الترغيب والترهيب (4/6-7) .
(9) ... فتح الباري (6/114) .(47/274)
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "باكروا طلب الرزق، فإن الغدو بركة ونجاح" عند كل من الطبراني (1) والبزار (2) ، هذا لفظ البزار، ومثله الطبراني إلا أنه زاد لفظ: "والحوائج" بعد لفظ "الرزق".
وقال البزار عقبه: "هذا غريب لم نسمعه إلا من إبراهيم بن سعيد، وإسماعيل ابن قيس صالح الحديث"أه. لكن قال الحافظ ابن حجر: "بل ضعفه جماعة" (3) . وقال الهيثمي بعد أن عزاه للبزار والطبراني في (الأوسط) : "فيه إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت وهو ضعيف" (4) .
... قلت: وهناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى، وفي النهي عن نوم الصبحة وأنه يمنع الرزق لكن كلها ضعيفة ومنكرة، وحديث عائشة المتقدم أمثلها، ويشهد له حديث صخر السابق، كما يشهد له ما ذكر بعده وبخاصة أنه في الفضائل وليس في الحلال والحرام، والله أعلم.
__________
(1) ... الطبراني في الأوسط حديث (7246) .
(2) ... مسند البزار (كشف الأستار) رقم (1247) .
(3) ... مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد (1/503) .
(4) ... مجمع الزوائد (4/61) .(47/275)
وقد بوَّب البخاري بالحديث المعلَّق كان النبي صلى الله عليه وسلم "إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس" (1) ، وذكره البخاري أيضًا (2) بأتم من هذا معلقًا من حديث النعمان بن مقرن قال: شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا لم يقاتل في أول النهار، انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات"، والحديث وصله كل من أبي داود (3) ، والترمذي (4) ، وأحمد (5) وفيه عندهم لفظ: "حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر"، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد ذكر العلماء من أسباب وجود البركة في البكور، فقال الحافظ ابن حجر: "خصَّ البكور بالبركة لكونه وقت النشاط" (6) ..
وقال العجلوني: "العقل بكرة النهار يكون أكمل منه وأحسن تصرفًا منه في آخره، ومن ثم ينبغي التبكير لطلب العلم ونحوه من المهمات" (7) ..
المطلب الثّامن: القناعة والعفاف، والإجمال في الطّلب
__________
(1) ... الصحيح، كتاب الجهاد، باب كان النبي – صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل (6/120) .
(2) ... الصحيح، كتاب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (6/258) .
(3) ... السنن، كتاب الجهاد، باب في أي وقت يستحب اللقاء (3/49) .
(4) ... الجامع، كتاب السير، باب ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال (5/238) .
(5) ... المسند (5/445) .
(6) ... فتح الباري (6/114) .
(7) ... كشف الخفاء ومزيل الإلباس (ص 187) .(47/276)
قد تقدم في مقدمة البحث الإشارة إلى أن الله تعالى بمنه وكرمه تكفل بأرزاق العباد بل وجميع الدواب، وأن الرزق مقسوم، وأنه يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وهنا سيُقتصر على بيان أن القناعة والتعفف، والإجمال في الطلب، وعدم إشراف النفس للمال، وسؤال الناس كل ذلك سبب في حصول البركة في المال، وقد امتدح الله - سبحانه وتعالى - المتعففين من المساكين إذ قال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (1) .
أي متعففون في لباسهم، وفي حالهم، ومقالهم، بحيث يحسبهم من لا يعرفهم أغنياء، وبخاصة أنهم لا يسألون أحدًا ولا يلحون في المسألة لئلا يكلفوا الناس ما لا يحتاجون، ولذا فلا يفطن الناس إليهم لجهلهم بحال فقرهم.
والآية وإن كان فيها مدح لهؤلاء الفقراء، ففيها أيضًا من جانب آخر حض وتنبيه وتذكير بهؤلاء وأمثالهم حتى لا يغفل عنهم ويُظن أن المساكين فقط هم الذين يَسألون ويُعطون، والله أعلم (2) .
__________
(1) ... سورة البقرة: الآية رقم (273) .
(2) ... انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/434-435) بتصرف.(47/277)
وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على الإجمال في الطلب، وعدم التشوف والحرص، فقال في الحديث الذي رواه ابن ماجه (1) من حديث جابر - رضي الله عنه -: "يا أيها الناس! اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم"، وصححه الألباني (2) . وعند البزار (3) من حديث حذيفة - رضي الله عنه - بنحوه. وقال البزار عقبه: لا نعلمه عن حذيفة إلا بهذا الإسناد.
قلت: وما قبله وما بعده يشهد له.
وقد روى الترمذي (4) حديث خولة بنت قيس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا المال خَضِرَة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورُبَّ متخوِّضٍ (5) فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذا صححه الألباني (6) .
وجاء عند البخاري (7) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن أناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نَفِدَ ما عنده فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدَّخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يصبِّره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".
__________
(1) ... السنن، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2/724) .
(2) ... صحيح سنن ابن ماجه (2/6) .
(3) ... مسند البزار (كشف الأستار) (2/81-82) .
(4) ... الجامع، كتاب الزهد، باب أخذ المال بحقه (7/43-44) .
(5) ... أي: ربَّ متصرف في مال الله تعالى بما لا يرضاه الله، وقيل: هو التخليط في تحصيل المال من غير وجهه كيف أمكن. النهاية في غريب الحديث (2/88) .
(6) ... صحيح سنن الترمذي (2/280) .
(7) ... الصحيح، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (3/335) .(47/278)
وجاء أيضًا في حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وكل مرة يعطيه ثم قال: "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع".
وجاء في هذا الحديث أيضًا أن حكيمًا قال: "يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ (1) أحدًا بعدك شيئًا، حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر- رضي الله عنه - يدعو حكيماً إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر- رضي الله عنه – دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، إني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي"، أخرجه البخاري (2) ومسلم (3) وآخرون.
وزاد إسحاق بن راهويه في مسنده في آخر خبر حكيم المتقدم لفظ: "فمات حين مات وإنه لمن أكثر قريش مالاً" (4) .
ومما يؤخذ من الأحاديث السابقة:
1 - الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها والصبر حتى يأتي الرزق بغير مسألة.
__________
(1) ... لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا: أي لا آخذ من أحد بعدك شيئًا، فأنقص بهذا الأخذ ماله، كما في النهاية في غريب الحديث (2/218) بتصرف.
(2) ... الصحيح، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (3/335) . وكتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله (6/48-49) . وكتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم (6/248) . وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا (11/244) . وباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المال خضرة حُلوة (11/258) .
(3) ... الصحيح، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (2/727-729) ، وباب فضل التعفف والصبر (2/729) .
(4) ... فتح الباري (3/337) ، ولم أقف على هذه الزيادة في (إتحاف الخيرة المهرة) للبوصيري، ولا في (المطالب العالية) لابن حجر. فالله أعلم.(47/279)
2 - قد يقع الزهد مع الأخذ فإن سخاوة النفس هو زهدها.
3 - أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق.
4 - أن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة.
... 5 - البركة تكون في الشيء الكثير وفي الشيء القليل أو اليسير وليست مقصورة فقط على ما هو كثير كما يفهمه بعض الناس وذلك لأنها خلق من خلق الله تعالى (1) .
__________
(1) ... انظر: فتح الباري (3/337) بتصرف.(47/280)
المطلب التّاسع: الاقتصاد في المعيشة وعدم التّبذير
يعد المال أمانة بيد الإنسان، يُسأل عنها يوم القيامة من أين أتى به؟ وفيم أنفقه؟ لذا وجب التصرف فيه بالعدل، فيحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل، فالإمساك في محل البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، وسلوك الوسطية هو المحمود، مع مراعاة البذل والجود ما أمكن، والخير كل الخير، والبركة والنماء باتباع الشرع، ومن توجيهات القرآن الكريم والسنة المشرفة بهذا الخصوص:
أوّلاً: حسن التّدبير والاقتصاد في المعيشة:
قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1) .
وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (2) .
وقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (3) .
وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (4) .
ومما ينبغي ملاحظته من خلال النظر في هذه الآيات الكريمات ما يلي:
1 - الأمر بالاقتصاد في العيش وهو التوسط، من غير بخل أو تقتير أو تقصير بالحقوق والواجبات، ومن غير سرف أو تبذير في الإنفاق، فيعطي فوق طاقته، أو يصرف فوق دخله.
2- أن الذي يسرف ويبذر في النفقة من مأكل ومشرب وملبس وغيرها يقع في الحسرة والندامة والحرج الشديد لذهاب البركة من رزقه ونفاد ما بيده.
__________
(1) سورة الأعراف: الآية رقم (31) .
(2) سورة الأعراف: الآيتان رقم (26 - 27) .
(3) سورة الإسراء: الآية رقم (29) .
(4) سورة الفرقان: الآية رقم (67) .(47/281)
3- النهي عن بسط اليد وكثرة الإعطاء فوق الطاقة إنما يكون ذلك في حق من لا يستطيع الصبر على الكفاف، فيقع بهذا البذل في الحسرة على ما خرج من يده مع حاجته إليه، وأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه مع صبره واحتماله فغير مراد بالآية (1) .
4- أفاد بعض العلماء أن التبذير الذي جاء في الآية هو الإنفاق في غير حق. قاله ابن مسعود، وابن عباس (2) - رضي الله عنهما - وقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى مجاهد قال: وأنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله لم يكن إسرافًا، ولو أنفقت صاعًا في معصية الله كان إسرافًا (3) .
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (10/255) بتصرف.
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/53) .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (5/1465) .(47/282)
وقد علق البخاري بصيغة الجزم واللفظ له (1) قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة" (2) . وصله كل من الترمذي (3) ، والنسائي (4) ، وابن ماجه (5) ، والطيالسي (6) ، وابن أبي الدنيا (7) ، والحاكم (8) ، كلهم وصلوه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وزاد بعضهم لفظ: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، واقتصر بعضهم على هذا اللفظ الأخير فحسب. والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، كما حسنه الترمذي. كما علق البخاري بصيغة الجزم أثر ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة" (9) ، وصله كل من عبد الرزاق (10) ، وابن أبي شيبة (11) ، والدينوري (12) ، والطبري (13) ، وابن أبي حاتم (14) من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن
__________
(1) الصحيح، كتاب اللباس، باب قول الله تعالى: قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده (10/252) .
(2) المخيلة: بوزن عظيمة، وهي بمعنى الخيلاء وهو التكبر، وقيل: بوزن مفعلة من اختال إذا تكبر، والخيلاء، التكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه أي يتصورها ويتوهمها. انظر: فتح الباري (10/253) بشئ من التصرف.
(3) الجامع، كتاب الأدب، باب ما جاء إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (8/106) .
(4) ... السنن، كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة (5/79) .
(5) ... السنن، كتاب اللباس، باب البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة (2/1192) .
(6) ... المسند، حديث (2375) .
(7) ... الشكر، حديث (51) ، وفي التواضع والخمول، حديث (157) .
(8) ... المستدرك (4/135) .
(9) ... الصحيح، كتاب اللباس، باب قول الله تعالى: قل من حرم زينة الله (10/252) .
(10) ... المصنف (11/270) .
(11) ... المصنف (8/405) و (9/95-96) بنفس اللفظ.
(12) ... عزاه له الحافظ ابن حجر في الفتح (10/253) ولم أقف عليه في المجالسة له.
(13) جامع البيان (12/394) .
(14) تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (5/1465) .(47/283)
عباس وهو عند عبد الرزاق والطبري وابن أبي حاتم بلفظ: "أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة"، وهذا الأثر صحيح (1) .
قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: "هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال" (2) .
ومما يؤيد أن حسن التدبير والاقتصاد في المعيشة - يمنع بإذن الله - الفقر ويجلب الرزق وتحصل معه البركة، هو ما جاء في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" عند كل من ابن أبي شيبة (3) ، وأحمد (4) ، والطبراني في (الكبير (5) ، والأوسط (6) ، والشاشي (7) ، قال الهيثمي في أسانيدهم إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف (8) .
قلت: هو ليِّن يكتب حديثه للاعتبار، وقد حسن الحديث السيوطي (9) ، لكن تعقبه الألباني فضعفه (10) . قلت: لكن الحديث يشهد له ما قبله كما أن له شواهد منها حديث - ابن عباس رضي الله عنهما - مرفوعا: "ما عال مقتصد قطُّ" عند الطبراني في (الكبير (11) ، والأوسط (12) . قال الطبراني عقبه في (الأوسط) : "لم يرو هذا الحديث عن أبي روق إلا خالد بن يزيد تفرد به هشام بن خالد"، وقال الهيثمي بعد أن عزاه للطبراني في الكتابين: "ورجاله وثقوا وفي بعضهم خلاف" (13) ، لكن أشار محقق (المعجم الكبير) أن الحديث منقطع.
__________
(1) انظر: تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير (1/420) .
(2) فتح الباري (10/253) .
(3) ... المصنف (9/96) .
(4) ... المسند (1/447) .
(5) ... المعجم الكبير (10/133) .
(6) ... المعجم الأوسط (6/44) .
(7) ... المسند (2/162) .
(8) ... مجمع الزوائد (10/252) .
(9) ... الجامع الصغير (2/146) .
(10) ... ضعيف الجامع (ص 736) .
(11) 12/123) .
(12) 9/114-115) .
(13) مجمع الزوائد (10/252) .(47/284)
قلت: ومحل الانقطاع هو أن الضحاك بن مزاحم راويه عن ابن عباس مختلف في سماعه من ابن عباس والراجح عدم سماعه منه إلا أنه ثقة مأمون ولم يكن متهمًا، وعندما سئل هل سمعت من ابن عباس قال: لا. فقيل له فهذا الذي تحدثه عمن أخذته؟ قال: "عن ذا وعن ذا" (1) .
ومن شواهد الحديث كذلك حديث طلحة بن عبيد الله بمعناه عند البزار (2) وقال عقبه: "لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، ولم نسمعه إلا من عمران، وكانوا يكتبونه عنه قبل أن نولد. وقال الهيثمي: "وفيه ممن أعرفه اثنان" (3) .
قلت: هكذا قال، وللحديث شواهد أخرى قد ذكرها السخاوي (4) ، ومن بعده العجلوني (5) ، وقال هذا الأخير: فهذه الشواهد تقتضي حسن الحديث.
قال المناوي (6) : "أي ما افتقر من أنفق قصدًا، ولم يتجاوز إلى الإسراف، والمعنى إذا لم يبذر بالصرف في معصية الله ولم يقتر فيضيق على عياله ويمنع حقا وجب عليه شحا وقنوطا من خلف الله الذي كفاه المؤمن".
ثانيًا: كيل الطعام:
ومما يساعد على الاقتصاد في المعيشة وحصول البركة في المال كيل الطعام، فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري (7) ، وابن ماجه (8) ، وأحمد (9) ، والطبراني (10) أنه قال: "كيلوا طعامكم يُبَارَكْ لكم فيه". هذا لفظهم، وليس فيه عند البخاري لفظ "فيه"، وقال البوصيري (11) : إسناد ابن ماجه صحيح.
__________
(1) ... تهذيب التهذيب (4/453-454) .
(2) ... انظر كشف الأستار عن زوائد البزار (4/233) .
(3) ... مجمع الزوائد (10/252-253) .
(4) ... المقاصد الحسنة (ص 70 - 71) .
(5) ... كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1/158-159) .
(6) ... فيض القدير (5/454) .
(7) ... الصحيح، كتاب البيوع، باب ما يستحب من الكيل (4/345) .
(8) ... السنن، كتاب التجارات، باب ما يرجى في كيل الطعام من البركة (2/750) .
(9) ... المسند (4/131) ، (5/414) .
(10) ... المعجم الكبير (4/121) ، (20/273) .
(11) ... مصباح الزجاجة (2/185) .(47/285)
وقد بين العلماء معنى هذا الحديث وكيف يكون الكيل فيه بركة بما يلي:
1- قال ابن بطال: الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله، والمعنى أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدَّرتم.
2- قال ابن الجوزي: يشبه أن تكون هذه البركة للتسمية عليه عند الكيل.
3- إن الكيل - غالبًا - يرافقه طلب البركة والدعاء بذلك.
4- الكيل محمول على الطعام الذي يشترى فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه نزعت البركة منه لشؤم العصيان، وبناءً على هذا فالكيل بمجرده، لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمر آخر وهو امتثال الأمر فيما يشرع فيه الكيل، كما لا تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر كالمعارضة أو المخالفة، ونحوهما.
5- ويحتمل أن المراد بالكيل هنا هو عند الادخار طالبين من الله البركة، واثقين بالإجابة، أما من يكيل بعد ذلك ليتعرف مقداره فيكون ذلك شكًا في الإجابة فيعاقب بسرعة نفاده.
6 - البركة التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سوء الظن بالخادم لأنه إذا أخرج بغير حساب قد يفرغ ما يخرجه وهو لا يشعر فيتهم من يتولى أمره بالأخذ منه، وقد يكون بريئا، وإذا كاله أمن من ذلك (1) .
المطلب العاشر: اتّباع السُّنّة
إن الأخذ أو العمل بكل سبب من الأسباب الجالبة للبركة السابقة الذكر فيه اتباع للسنة بلا شك، والمراد ذكره هنا هو: أن اتباع السنة في كل الأمور الواجبة منها والمستحبة اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم محبةً له واتباعًا لكل ما جاء عنه، وذلك طلبًا لحصول بركة هذا الاتباع في الدنيا والآخرة فإن هذا بحد ذاته يعد سببًا من أسباب استجلاب الخير والبركة في الدنيا والآخرة ويمكن إلحاقه بالأسباب الجالبة للبركة استقلالاً.
__________
(1) ... انظر في كل هذا: فتح الباري (4/346) بشئ من التصرف.(47/286)
على أنه صلى الله عليه وسلم قد أرشد وألفت الأنظار إلى بعض الأعمال والممارسات التي تكون مظنة البركة في المال لا على سبيل الإلزام ولكن على سبيل الاستحباب والندب، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "البركة في نواصي الخيل". وفي حديث آخر: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، كلاهما عند البخاري (1) ومسلم (2) . وقال أيضًا: "جعل رزقي تحت ظل رمحي" عند كل من البخاري (3) ، وأحمد (4) وآخرين. وقال العراقي: "إسناد أحمد صحيح" (5) .
ومن هذا يظهر أن اقتناء الخيل، وارتباطها وتعلم ركوبها، وكذا تعلم الرماية وأدوات الحرب وإتقانها بنية الإعداد، والتهيؤ للجهاد في سبيل الله يكون فيه مغنم وبركة وخير في الدنيا والآخرة، وأن المال الحاصل بسبب الجهاد والإعداد له هو أفضل الرزق وأبركه (6) .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: "اتخذي غنمًا فإن فيها بركة"، كما جاء عند ابن ماجه (7) . قال البوصيري: "إسناده صحيح ورجاله ثقات" (8) .
كما روى ابن ماجه (9) حديث عروة البارقي مرفوعًا وفيه لفظ "الإبل عز لأهلها والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة".
وقال البوصيري: "إسناده صحيح على شرط الشيخين وبعضه في الصحيحين، وإنما انفرد ابن ماجه بذكر الإبل والغنم" (10) .
__________
(1) ... الصحيح، كتاب الجهاد، باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (6/54) .
(2) ... الصحيح، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (3/1492-1494) .
(3) ... الصحيح، كتاب الجهاد، باب ما قيل في الرماح (6/98) .
(4) ... المسند (2/50، 92) .
(5) ... المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (1593) .
(6) ... فتح الباري (6/98-99) بتصرف.
(7) ... السنن، كتاب التجارات، باب اتخاذ الماشية (2/773) .
(8) ... مصباح الزجاج (2/206) .
(9) ... السنن، كتاب التجارات، باب اتخاذ الماشية (2/773) .
(10) ... مصباح الزجاجة (2/206) .(47/287)
كما جاء عند البخاري (1) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن".
كما أرشد صلى الله عليه وسلم الآكل إلى لعق أصابعه والصحفة قائلاً: "إنكم لا تدرون في أيه البركة" (2) . كما أرشد إلى الأكل من أسفل أو حوالي الصحفة لا من أعلاها أو ذروتها فقال: "إن البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه" عند أبي داود (3) ، والترمذي (4) ، وعند أبي داود لفظ: "كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يُبَارِكْ فيها". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: والمراد هنا البدء بالجوانب أولاً قبل الذروة لا النهي عن الأكل من الذروة أو الوسط مطلقا، وقد ورد لعق الأصابع والصحفة آنفا.
كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "تسحَّروا فإن في السحور بركة" عند البخاري (5) . قال ابن حجر: "إن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب.." (6) وذكر أن ابن دقيق العيد أشار إلى أن البركة تعود إلى أمور دينية، وأمور دنيوية.
ومما يؤيد أيضا أن اتباع الشرع فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم يحصل به البركة أن الحافظ ابن حجر قال عند الكلام على حديث كيل الطعام المتقدم في السبب التاسع قال: "فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه بالاكتيال نزعت منه لشؤم العصيان" (7) .
__________
(1) ... الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم (6/350) .
(2) ... صحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع (3/1606) .
(3) ... السنن، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة (3/348-349) .
(4) ... الجامع، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل من وسط الطعام (5/524) .
(5) ... الصحيح، كتاب الصوم، باب بركة السحور (4/139) .
(6) ... فتح الباري (4/140) .
(7) ... فتح الباري (4/364) .(47/288)
كما تقدم في آخر المطلب الثامن أن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - عندما أخذ بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يسأل أحدًا بعده ولم يقبل العطاء ولا نصيبه من أبي بكر ولا من عمر بعده - رضي الله عنهما -. بارك الله لحكيم بهذه النية في اتباع السنة النبوية، وعوضه خيرًا فمات وإنه لمن أكثر قريش مالاً، والله أعلم.
تنبيه
لئن اقتضت طبيعة هذا البحث أن يكون الكلام في أكثره منصبا على الأسباب الجالبة للبركة في الرزق في حياة الإنسان المعيشية الدنيوية، فليس معناه أن هذه البركة لا تنسحب بتلك الأسباب على البركة في حياته الأخروية فتحصل له البركة في الأعمال الصالحة ومضاعفة الأجر فيها بل إن الأجر والثواب الأخروي حاصل بتلك الأسباب أو أكثرها من باب أولى، إذ لا يمكن تصور حصول البركة في الرزق وازدياد المال بتلك الأسباب الجالبة لذلك من غير حصول البركة في ثواب تلك الأعمال.
ومن خلال استقراء ما جاء في البحث من نصوص حول البركة في الرزق وأسبابها، يلحظ أن البركة في الأجر ومضاعفة الحسنات داخل في ذلك دخولاً أوليًا، وكثيرًا ما نبه العلماء على هذه البركة. وزيادة على ما مر في هذا البحث من ذكر للأجر الأخروي ومضاعفته فهناك نصوص كثيرة ناطقة بذلك صراحة منها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) .
__________
(1) ... سورة البقرة: الآية رقم (261) .(47/289)
وقد جاء عند كل من البخاري (1) ، ومسلم (2) ، والترمذي (3) ، والدارمي (4) وغيرهم، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - واللفظ للبخاري والباقون بنحوه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربِّيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوَّه (5) ، حتى تكون مثل الجبل". وقد جاء عند مسلم (6) ، والنسائي (7) من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة" هذا لفظ مسلم، والنسائي بنحوه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "سبق درهمٌ مائةَ ألف درهم"، قالوا: وكيف؟. قال: "كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما وانطلق رجل إلى عُرْض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها". كما جاء عند النسائي (8) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقد حسنه الألباني (9) . ...
الخاتمة
وفيها أهم النتائج:
أحمد الله سبحانه وأشكره على كبير لطفه، وعظيم إنعامه، ومن ذلك توفيقي لاختيار هذا البحث وإتمامه، ومن النتائج التي توصلت إليها من خلاله ما يلي:
__________
(1) ... الصحيح، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (3/278) . وكتاب التوحيد، باب قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) (13/415) .
(2) ... الصحيح، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيته (2/703) .
(3) ... الجامع، كتاب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة (3/327) .
(4) ... السنن (1/333) .
(5) ... الفلو: المهر الصغير، وقيل:هو الفطيم من أولاد ذوات الحوافر. النهاية (3/474) .
(6) ... الصحيح، كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها (3/1505) .
(7) ... السنن، كتاب الجهاد، باب فضل الصدقة في سبيل الله عز وجل (6/49) .
(8) ... السنن، كتاب الزكاة، باب جهد المقل (5/59) .
(9) ... صحيح سنن النسائي (2/532) ، التعليق على ابن خزيمة حديث رقم (2443) .(47/290)
1 - كرم الله سبحانه وتعالى وسعة رحمته بعباده، إذ خلقهم ورزقهم، ووعد من أحسن وبذل المال على حبه، بالمزيد من خزائن، لا تحصى ولا تنفد.
2 - أهمية الرزق (المال) في حياة الناس أفرادًا وجماعات، إذ يتوقف عليه كثير من مصالحهم الدينية والدنيوية.
3 - البركة في الرزق خلق من خلق الله، تكون في القليل، كما تكون في الكثير، وتكون بزيادة ونماء الموجود، كما تكون بوصول المفقود والحصول عليه.
4 - البركة في الرزق قد تكون زيادة جلية، وقد تكون خفية بالإضافة إلى كونها مستقرة مستمرة عند من تحصل له بالأسباب الجالبة لها.
5 - من سنة الله في الكون والإنسان أن جعل أسبابًا لابد للإنسان من سلوكها للحصول على رزقه واستجلاب البركة والنماء فيه، وهذه الأسباب بعضها متعلق بالإنسان نفسه، وبعضها متعلق به وبعلاقته مع خالقه وبعضها متعلق به وبعلاقته مع إخوانه من أبناء جنسه ممن يخالطهم ويعايشهم، وبعضها يتعلق بالرزق أو المال نفسه.
ومن أبرز هذه الأسباب الجالبة للبركة في الرزق بشكل عام:
أ - تقوى الله عز وجل بفعل الطاعات، وتجنب المعاصي والمحرمات.
ب - حسن التوكل على الخالق، والانقطاع إليه دون غيره، مع ملازمة الذكر، والشكر، والدعاء والاستغفار.
ج - السعي في طلب الرزق واستجلاب البركة فيه، مع توخي الحلال والابتعاد عن الحرام بجميع صوره وأشكاله.
د - بذل الأموال، والقيام بالواجبات المتعلقة به من عبادات، وصدقات، وصلة أرحام، بسخاوة نفس وجود وبذل للمعروف.
هـ - الاقتصاد في المعيشة، مع حسن التدبير، والابتعاد عن الترف والتبذير.
6 - إن عدم اتباع الشرع، أو الإخلال بشئ من هذه الأسباب يؤدي إلى زوال البركة، ومحق الرزق، وحرمان الإنسان من تجدد النعم واستقرارها.
... هذا والله أعلم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ...
فهرس المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
إحياء علوم الدين. الغزالي، أبو حامد محمد، دار إحياء الكتب العلمية، البابي الحلبي.(47/291)
الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار. النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، مكتبة الرياض.
الإصابة في تمييز الصحابة. ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، مطبعة السعادة، مصر، ط1، 1328هـ.
بذل المجهود في حل أبي داود. السهارنفوري خليل أحمد، تعليق: الكاندهلوي، دار الكتب العلمية.
التاج الجامع للأصول. منصور علي ناصيف، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ
تاريخ بغداد. أبو بكر الخطيب، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي. المباركفوري، محمد عبد الرحمن، مراجعة: عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر: محمد عبد المحسن الكتبي، مطبعة المدني، ط2، 1383هـ / 1963.
تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف. المزي، أبو الحجاج يوسف، تعليق: عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة، الهند، ط 1، 1389هـ/ 1969م.
الترغيب والترهيب من الحديث الشريف. المنذري، زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة دار الفكر، بيروت، ط 2، سنة 1392هـ/ 1973م.
التعريفات، الجرجاني، علي بن محمد، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، ط 2، سنة 1413هـ / 1992م.
تفسير الحسن البصري، جمع وتحقيق ودراسة: د. شير علي شاه، نشر الجامعة العربية أحسن العلوم، كراتشي، ط1، 1413هـ / 1993م.
تفسير ابن عباس ومروياته في كتب السنة، عبد العزيز الحميدي، مطبوعات جامعة أم القرى، مكة المكرمة، بدون تاريخ.
تفسير القرآن العظيم. ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير، مكتبة دار السلام، ط1، سنة 1414هـ / 1994م.
تفسير القرآن العظيم. الرازي عبد الرحمن بن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1997م.
تهذيب الأسماء واللغات، النووي أبو زكريا محيي الدين، دار الكتب العلمية، بيروت.
تهذيب التهذيب. ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي، دائرة المعارف، حيدر آباد، الهند، ط1، 1325هـ.(47/292)
التواضع والخمول. ابن أبي الدنيا أبو بكر عبد الله بن محمد، تحقيق: لطفي محمد الصغير، دار الاعتصام، القاهرة، بدون تاريخ.
الجامع. الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى (مع شرح تحفة الأحوذي) ، مطبعة المدني، 1383هـ.
الجامع، أبو عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، ط1، سنة 1356هـ/ 1937م.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تحقيق: محمود محمد شاكر، وأحمد محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية.
الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، السيوطي جلال الدين عبد الرحمن، دار الكتب العلمية.
الجامع لأحكام القرآن. القرطبي، محمد بن أحمد، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوي، دار الحديث، ط1، سنة 1414هـ / 1994م.
جزء الدراج. الدراج أبو عمرو عثمان بن عمر، مخطوط مصور عن الأصل في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
حاشية على سنن النسائي (بهامش السنن) . السندي، أبو الحسن نور الدين، عناية: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، ط 3، سنة 1409هـ / 1988م.
حلية الأولياء. أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، سنة 1387هـ.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور. السيوطي جلال الدين، دار المعرفة.
زاد المعاد في هدي خير العباد. ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامية، ط14، سنة 1410هـ / 1990م.
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة. الألباني محمد ناصر الدين، المكتب الإسلامي، ط1، 1399هـ.
السنن. السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث، تعليق: محمد محيي الدين، نشر دار إحياء التراث.
السنن. القزويني ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد (ت: 275) ، تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، سنة 1395هـ/ 1975م.
السنن. النسائي، أحمد بن شعيب، بعناية وترقيم: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، سنة 1409هـ / 1988م.(47/293)
سنن الدارقطني. الدارقطني، علي بن عمر، تحقيق: عبد الله هاشم يماني، سنة 1386هـ / 1966م.
سنن الدارمي. الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، تحقيق: السيد عبد الله هاشم، نشر: حديث أكادمي، باكستان، سنة 1404هـ / 1984م.
السنن الكبرى. البيهقي، أحمد بن الحسين، دار المعرفة، ط1، سنة 1346هـ.
شرح صحيح مسلم (المنهاج) . النووي، محيي الدين أبو زكريا، المطبعة المصرية.
شعب الإيمان. البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، تحقيق: زغلول، دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ / 1990م.
الشكر لله عز وجل. ابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، بيروت، ط2، 1407هـ / 1987م.
الصحيح. البخاري، محمد بن إسماعيل (مع فتح الباري) ، المطبعة السلفية، القاهرة، سنة 1380هـ.
الصحيح. النيسابوري، مسلم بن الحجاج، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي.
صحيح ابن حبان (الإحسان) . البستي، محمد بن حبان، ترتيب: الفارسي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، سنة 1407هـ/ 1987م.
صحيح ابن خزيمة. ابن خزيمة أبو بكر محمد بن إسحاق، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط1، 1390هـ.
صحيح الجامع الصغير وزيادته. الألباني ناصر الدين، المكتب الإسلامي، بدون تاريخ.
صحيح سنن الترمذي. الألباني محمد ناصر الدين، تعليق: زهير الشاويش، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1408هـ / 1988م.
صحيح سنن ابن ماجه. الألباني محمد ناصر الدين، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1407هـ / 1986م.
صحيح سنن النسائي. الألباني محمد ناصر الدين، تعليق: زهير الشاويش، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1409هـ / 1988م.
ضعيف الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير) . الألباني محمد ناصر الدين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1410هـ / 1990م.(47/294)
طبقات الشافعية الكبرى. السبكي عبد الوهاب بن علي، تحقيق: محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، دار إحياء الكتب العربية، بدون تاريخ.
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن ابن علي، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، نشر: إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد، باكستان، ط1، سنة 1401هـ / 1981م.
عمل اليوم والليلة. ابن السني أبو بكر، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، سنة 1389هـ / 1969م.
عمل اليوم والليلة. النسائي، أحمد بن شعيب، تحقيق: د. فاروق حماده، مكتبة المعارف بالرياض، ط1، سنة 1401هـ / 1981م.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المكتبة السلفية، القاهرة، سنة 1380هـ.
الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية. الصديقي، محمد بن علان، نشر المكتبة الإسلامية.
فيض القدير شرح الجامع الصغير. المناوي، محمد عبد الرؤوف، دار المعرفة، بيروت، ط2، سنة 1391هـ / 1972م.
غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام. الألباني، ناصر الدين، المكتب الإسلامي، ط2، 1402هـ / 1982م.
القاموس المحيط. الفيروز أبادي، محمد بن يعقوب. المطبعة الحسينية المصرية، ط2، سنة 1344هـ.
كشف الأستار عن زوائد البزار. الهيثمي، نور الدين، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، سنة 1399هـ.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. العجلوني، إسماعيل بن محمد، دار إحياء التراث، ط3، سنة 1351هـ.
لسان العرب. ابن منظور، محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت، ط1، سنة 1300هـ.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. الهيثمي، نور الدين، دار الكتاب العربي، ط2، سنة 1387هـ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. ابن عطية أبو محمد عبد الحق، تحقيق: الرحالي الفاروق وآخرين، الدوحة، ط1، 1398هـ / 1977م.(47/295)
مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد. ابن حجر العسقلاني، تحقيق: صبري أبو ذر، مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1412هـ / 1992م.
مدارج السالكين. ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، ط2، سنة 1408هـ/ 1988م.
مختصر سنن أبي داود. المنذري، زكي الدين عبد العظيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية، القاهرة، (بدون تاريخ) .
المراسيل. الرازي عبد الرحمن بن أبي حاتم، عناية: شكر الله نعمة الله، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1402هـ / 1982م.
المستدرك على الصحيحين. الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله، دار الفكر، بيروت، سنة 1398هـ/ 1978م.
المسند. ابن حنبل، أحمد بن محمد، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت.
المسند. ابن حنبل أحمد بن محمد، شرح: أحمد شاكر، دار المعارف بمصر، 1374هـ/ 1955م.
المسند. الطيالسي أبو داود سليمان بن داود، تحقيق: محمد عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر، ط1، 1420هـ / 1999م.
المسند. الشاشي، الهيثم بن كليب، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، نشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1410هـ.
مسند أبي يعلى الموصلي، أحمد بن علي، تحقيق: حسن سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط1، 1404هـ / 1984م.
مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه. البوصيري، أحمد بن أبي بكر، تحقيق: موسى محمد علي، وعزت علي عطية، دار الكتب الحديثة.
المصنف. الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط2، سنة 1403هـ/ 1983م.
المصنف في الحديث والآثار. ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد (ت:235) ، تحقيق: الشيخ عامر العمري الأعظمي، نشر: مختار أحمد الندوي، الدار السلفية بالهند.
المعجم الأوسط. الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت:360) ، تحقيق: د. محمود الطحان، مكتبة المعارف بالرياض، ط1، سنة 1415هـ / 1995م.(47/296)
المعجم الصغير. الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1403هـ.
المعجم الكبير. الطبراني، أبو القاسم سليمان أحمد، تحقيق: حمدي السلفي، مطبعة الأمة، بغداد، سنة 1978م.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع. البكري الأندلسي، عبد الله بن عبد العزيز، تحقيق: مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، ط1، سنة 1364هـ – 1945م.
معرفة السنن والآثار، البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين، عناية: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي، حلب، ط1، 1411هـ / 1991م.
معرفة الصحابة. الأصبهاني أبو نعيم، أحمد بن عبد الله، تحقيق: عادل العزازي، دار الوطن، الرياض، ط1، 1419هـ/ 1998م.
المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (تخريج أحاديث إحياء علوم الدين) . العراقي، أبو الفضل زين الدين، اعتنى به: أبو محمد أشرف بن عبد المقصود، مكتبة طبرية، ط1، سنة 1415هـ / 1995م.
المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة. السخاوي محمد بن عبد الرحمن، تصحيح: عبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1399هـ / 1979م.
الملكية في الشريعة الإسلامية. العبادي عبد السلام، مكتبة الأقصى، الأردن، ط1، سنة 1394هـ - 1974م.
النهاية في غريب الحديث والأثر. الجزري، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر الزاوي، نشر: المكتبة الإسلامية، ط1، سنة 1383هـ / 1963م.
هدي الساري مقدمة فتح الباري. ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي، المطبعة السلفية، بدون تاريخ.(47/297)
المقدَّمة
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على كثير من المخلوقات بالعقل والتفكير، والصلاة والسلام على الهادي البشير، وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فإن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، ونفخ فيه الروح وسجد له الملائكة، وجعله خليفته في الأرض، وفضله على كثير مما خلق تفضيلا، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (1) وتجلت في خلقه عظمته حيث قال: عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) ، وتولاه بحفظه فشرع احترامه وحرم قتله بغير حق، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (3) ، وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول ما يقضى بين الناس، يوم القيامة، في الدماء " (4) .وقد عظمت العقوبة في الاعتداء على النفس المؤمنة في الدنيا بالقود في النفس والقصاص في الطرف، وفي الآخرة بما توعد الله به القاتل من غضبه ولعنته، وأن مصيره إلى جهنم وبئس المصير، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) آية (70) من سورة الإسراء.
(2) آية (14) من سورة المؤمنون.
(3) آية (29) من سورة النساء.
(4) أخرجه البخاري 8/35 في كتاب الديات، باب قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، ومسلم 2/1304 في القسامة، باب المجازاة في الآخرة، من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.(47/298)
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (1) ، وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (2) ، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأَذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3) . وفي إقامة القصاص على الجاني حياة للناس، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) ، كيف لا والقاصد للاعتداء على الإنسان إذا علم أنه مقتول أو معاقب على فعلته فكر كثيراً، ونظر في العاقبة، وثاب إلى رشده، وكف عن فعلته، فكان في ذلك حقنٌ لدمه ودم غيره وحياة له ولغيره من الناس، أجل بتطبيق القصاص في النفس وما دونها تحقن الدماء، وينتشر الأمن، ويطمئن الإنسان على نفسه وماله وعرضه. ومن أمعن النظر في بلادنا المباركة التي حرص ولاة الأمر فيها على تطبيق شرع الله يجد أنها تنعم بالأمن والطمأنينة والعدل والاستقرار بفضل التزامها بتطبيق شرع الله مما جعلها مضرب المثل.
ولما كانت مسائل القصاص في النفس والطرف كثيرة ومتشعبة أحببت أن أسهم ببيان شيء من أحكامه، فنظرت في مسألة الاشتراك في الجناية بقتل النفس المحترمة أو جرحها ظلما وعدوانا، فوجدت الاختلاف في القود بها والقصاص في الأطراف فيها حاصلا فأحببت أن أجلي الحق فيها وأكشف غموضها بأسلوب علمي قريب إلى الإفهام في مؤلف سميته "الاشتراك المتعمد في الجناية على النفس بالقتل أو الجرح ".
وقسمت هذا البحث إلى مقدمة وخمسة مباحث وخاتمة.
__________
(1) آية (93) من سورة النساء.
(2) آية (33) من سورة الإسراء.
(3) آية (45) من سورة المائدة.
(4) آية (179) من سورة البقرة.(47/299)
المقدمة: وتشتمل على الافتتاحية وخطة البحث ومنهجه.
المبحث الأول:
... في تعريف الجناية لغة واصطلاحا وبيان أقسامها.
المبحث الثاني:
... في حكم القتل بغير حق.
... المبحث الثالث:
... مشروعية القصاص في النفس وما دون النفس.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في مشروعية القصاص في الجناية على النفس.
المطلب الثاني: في مشروعية القصاص في الجناية على ما دون النفس.
المبحث الرابع: وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول:
في الاشتراك في الجناية على الواحد بالقتل.
المطلب الثاني:
في اشتراك الأب والأجنبي في قتل الولد.
المطلب الثالث:
في اشتراك الصبي والمجنون والبالغ في القتل.
المبحث الخامس:
في الاشتراك المتعمد في الجناية على الواحد بالجرح أو القطع.
الخاتمة: ذكرت فيها أهم نتائج البحث.
وسلكت في إعداد هذا البحث المنهج الآتي:
1- جمعت المادة العلمية المتعلقة بالاشتراك المعتمد في الجناية على النفس بالقتل أو الجرح.
2- درست المسألة الواردة في البحث دراسة موازنة وحرصت على بيان المذاهب الأربعة في المسألة، وقد أذكر أقوال بعض الصحابة والتابعين وغيرهم من الفقهاء.
3- حرصا مني على إخراج المسألة بأسلوب مبسط، يسهل معه معرفة الحكم في المسألة صدرتها بالإجماع أو الاتفاق إن كانت من المسائل المتفق أو المجمع عليها، كما أنني إن رأيت الخلاف ليس قويا في المسألة صدرت المسألة بقول أكثر أهل العلم، وبعد ذلك أشير إلى القول المخالف ثم أذكر أدلة كل قول، وما قد يرد عليه من اعتراض إن وجد، ثم أختم المسألة بالقول الراجح، وقد أؤخر الاعتراضات مع الترجيح.
4- حرصت على نقل أقوال الفقهاء من مصادرها الأصلية.
5- ذكرت أرقام الآيات الواردة في البحث مع بيان أسماء سورها.(47/300)
6- خرجت الأحاديث الواردة في البحث مبينا الكتاب والباب والجزء والصفحة. فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما أو من أحدهما، وإن لم يكن فيهما أو في أحدهما اجتهدت في تخريجه من كتب السنة الأخرى مع ذكر درجة الحديث صحة أو ضعفا معتمدا على الكتب التي تعنى بذلك.
7- بينت معاني الكلمات التي تحتاج إلى بيانها معتمدا على الكتب التي تعنى بذلك.
8-لم أترجم للأعلام الواردة في البحث خشية الإطالة.
9- بينت في نهاية البحث في الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها.
10- وضعت فهرسا للمصادر التي اعتمدت عليها مرتبا حسب الحروف الهجائية، وآخر للموضوعات.
المبحث الأول: تعريف الجناية وبيان أقسامها
تعريف الجناية:
الجناية لغة: مصدر جنى جناية، وجمعه جنايات، وجمعت – وإن كانت مصدرا – لتنوعها إلى عمد وشبه عمد وخطأ. والجناية؛ الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه القصاص والعقاب في الدنيا والآخرة. يقال: جنى جناية إذا جر جريرة على نفسه أو على قومه. (1)
واصطلاحا: هي التعدي على البدن بما يوجب عليه قصاصا أو مالا (2) .
أقسام الجناية: تقدم في تعريف الجناية اصطلاحا أنها التعدي على البدن.
... وهذا التعدي لا يخلو الحال فيه من أمرين:
1- أن يكون بإزهاق الروح، وهو القتل.
2- أن يكون واقعا على عضو من الأعضاء، ولا يؤدي لإزهاق الروح كقطع يد أو قلع عين أو قطع أذن أو أنف … الخ.
وبهذا يتبين أن الجناية إما أن تكون:
1- على النفس.
2- أو ما دون النفس.
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/309، المصباح المنير 1/136، 137، لسان العرب 14/154، التفريعات ص/79، القاموس المحيط 4/212.
(2) انظر: حاشية ابن عابدين 6/527، مواهب الجليل 6/277، المجموع 18/344، المغني 11/443.(47/301)
وهذا التقسيم مجمع عليه بين العلماء (1) .
ثم اخلتف العلماء – رحمهم الله تعالى – في أنواع الجناية على النفس وعلى ما دون النفس على النحو التالي:
أولا: أنواع الجناية على النفس:
إذا نُظِرَ إلى أقوال الفقهاء – رحمهم الله تعالى - في تقسيماتهم لأنواع الجناية على النفس يتضح أن آراءهم تنحصر في تقسيمها بين ثنائي وخماسي، وبذلك انحصرت أقوالهم في أربعة:
التقسيم الخماسي:
قسم جماعة من الحنفية كالجصاص (2) والقدوري (3) والنسفي (4) الحناية على النفس إلىخمسةأقسام:
1- العمد: وهو تعمد الضرب بسلاح أو ما يجرى مجراه في تفريق الأجزاء كالمحدد من الخشب والحجر والنار (5) .
2- شبه العمد: وهو تعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما يجري مجراه (6) .
3- الخطأ: وهو ضرب الشخص بدون تعمد. وهو على نوعين:
أ- خطأ في القصد: وهو أن يرمي شخصا يظنه صيدا، فإذا هو آدمي أو يظنه حربيا فإذا هو مسلم. ب- خطأ في الفعل: وهو أن يرمي عرضا فيصيب آدميا (7) .
4- الجاري مجرى الخطأ: وهو حصول الموت بما لا يصدر عن إرادة وقصد كأن ينقلب نائم على آخر فيقتله. (8)
5- القتل بالسبب: وهو التسبب في موت آخر دون قصد ومباشرة كمن يحفر بئرا في الطريق فيقع فيها عابر السبيل فيموت (9) .
التقسيم الرباعي:
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي ص/234، حاشية ابن عابدين 6/527، الكافي 2/383، مواهب الجليل 6/276، روضة الطالبين 9/122، المجموع 18/398، المغني 11/530، المبدع 8/306.
(2) انظر: المبسوط 26/59.
(3) انظر: مختصر القدوري 3/141.
(4) انظر: كنز الدقائق 6/97.
(5) انظر: مختصر الطحاوي ص/232، الاختيار 5/31.
(6) انظر: الاختيار 5/34، حاشية ابن عابدين 6/529.
(7) انظر: المبسوط 26/66، بدائع الصنائع 7/234.
(8) انظر: المبسوط 26/66، حاشية ابن عابدين 6/531.
(9) انظر: الاختيار 5/35، المبسوط 26/68.(47/302)
قسم جماعة من الحنابلة كأبي الخطاب، وصاحب المذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والرعايتين، والحاوي والرعايتين، وغيرهم (1) القتل إلى أربعة:
1- العمد.
2- شبه العمد.
3- الخطأ.
4- ما جرى مجرى الخطأ.
ولم يقولوا بقتل السبب؛ لأنهم يدخلونه في ما جرى مجرى الخطأ.
التقسيم الثلاثي:
قسم الحنفية في ظاهر الرواية عندهم (2) ، وهو قول لمالك حكاه العراقيون وغيرهم عنه (3) ، وبه قال الشافعية (4) والحنابلة في المعتمد عندهم (5) القتل إلى ثلاثة أقسام:
1- العمد: وهو أن يضربه بما يغلب على الظن موته به من سلاح أو ما جرى مجراه (6) من حديد أو خشب أو حجر أو نحوه مما يقتل غالبا (7) .
2- شبه العمد: هو أن يضربه بما لا يقتل غالبا كأن يضربه في غير مقتل بسوط أو عصىً صغيرة أو يفعل فعلا الأغلب من ذلك الفعل أنه لا يقتل مثله (8) .
3- الخطأ: وهو ضرب الشخص بدون قصد. وهو ضربان:
أ- خطأ في الفعل: بأن يرمي صيدا أو هدفا، أو شخصا فيصيب إنسانا لم يقصده، أو يكون نائما ونحوه فينقلب على إنسان فيقتله.
ب- خطأ في القصد كأن يرمي من يظنه حربيا فإذا هو مسلم (9) .
__________
(1) انظر: المغني 11/445، الإنصاف 9/433، المبدع 8/240.
(2) انظر: المبسوط 26/59، مختصر الطحاوي ص/232.
(3) انظر: المعونة 3/1306، المنتقى 7/100.
(4) انظر: الأم 7/299، 300، المنهاج 4/3، غاية الاختصار ص/451.
(5) انظر: المغني 11/442، الشرح الكبير 25/8، الإنصاف 9/433، الفروع 5/622.
(6) خلافا لأبي حنيفة فإنه يرى أن القتل بالمثقل ليس من العمد.
... انظر: بدائع الصنائع 7/233، حاشية ابن عابدين 6/527، 528.
(7) انظر: الكافي 2/382، مغني المحتاج 4/3، المبدع 8/241.
(8) انظر: الاختيار 5/34، المنهاج 4/4، المغني 11/462.
(9) انظر: المبسوط 26/68، الكافي 2/391، المنهاج 4/4، المحرر 2/124، كشاف القناع 5/513.(47/303)
ولم يقولوا بقتل السبب وما جرى مجرى الخطأ انفرادا؛ لأنهم أدخلوهما في قتل الخطأ.
التقسيم الثنائي:
... قسم المالكية في المعتمد عندهم القتل إلى قسمين:
1- العمد.
2- الخطأ (1) .
وهذا التقسيم سواء الخماسي أو الرباعي أو الثلاثي هو في الواقع من باب اختلاف تنوع صور القتل لاتفاقهم على تقسيمها باعتبار الحكم الشرعي على ثلاثة أنواع:
1- العمد.
2- شبه العمد.
3- الخطأ.
خلافا للمالكية في المعتمد عندهم حيث إنهم يسقطون شبه العمد. وهم محجوجون بحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها " (2) .
ثانيا: الجناية على ما دون النفس.
... يراد بالجناية على ما دون النفس: كل أذى يقع على الإنسان من الغير مما لا يوجب موته، سواء كانت الجناية عمدا أو غير عمد.
وهذه الجناية تنقسم إلى قسمين:
1- الجناية الواقعة على الوجه والرأس.
2- الجناية الواقعة على سائر البدن (3) .
المبحث الثّاني: القتل بغير حقّ
... القتل بغير حق حرام وكبيرة من كبائر الذنوب (4) .
... دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
__________
(1) انظر: المعونة 3/1307، الكافي 2/382.
(2) أخرجه أبو داود 4/682-683 في كتاب الديات، باب في دية الخطأ شبه العمد، والنسائي 8/40، في القسامة، باب كم دية شبه العمد، وابن ماجة 2/877 في الديات، باب دية شبه العمد، والبيهقي 8/68 في كتاب الديات، باب أسنان الإبل المغلظة في شبه العمد، وابن حبان حديث رقم (1526) وصححه الألباني في إرواء الغليل 7/256.
(3) انظر: الهداية 2/569، تبيين الحقائق 6/111، بداية المجتهد 2/405، قوانين الأحكام الشرعية ص/368، المهذب 2/178، روضة الطالبين 9/179، 181، المغني 11/530 وما بعدها، الشرح الكبير 25/284.
(4) انظر: المبسوط 26/58، 59، المهذب 2/172، المغني 11/443.(47/304)
.. أما الكتاب فآيات كثيرة، منها:
1- قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} (1) .
2- وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} (2) .
3- وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (3) .
4- وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (4) .
5- وقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (5) .
وأما السنة فأحاديث كثيرة، منها:
__________
(1) آية (33) من سورة الإسراء.
(2) آية (92) من سورة النساء.
(3) آية (93) من سورة النساء.
(4) آية (31) من سورة الإسراء.
(5) آية (32) من سورة المائدة.(47/305)
1- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكبائر (1) الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس (2) " (3) .
2- حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث (4) الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " (5) .
__________
(1) ذكر في الحديث هنا أربع كبائر، وفي حديث آخر ذكر سبع كبائر، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 12/183 الحكمة في الاقتصار على ذلك مع أن الكبائر لا يقتصر على ما ذكر: أن مفهوم العدد ليس بحجة، وهو جواب ضعيف، وبأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة.
(2) الغموس: بفتح المعجمة وضم الميم. سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فهي فعول بمعنى فاعل. انظر: فتح الباري 11/555.
(3) أخرجه البخاري 7/228 في كتاب الأيمان والنذور، باب اليمين الغموس.
(4) قال الشوكاني في نيل الأوطار 7/6: " قوله " إلا بإحدى ثلاث " مفهوم هذا يدل على أنه لا يحل بغير هذه الثلاث، وسيأتي ما يدل على أنه يحل بغيرها فيكون عموم هذا المفهوم مخصصا بما ورد من الأدلة الدالة على أنه يحل دم المسلم بغير هذه الأمور المذكورة ".
(5) أخرجه البخاري 8/38 في كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، ومسلم 3/1302 في كتاب القسامة، باب ما يباح به دم مسلم.(47/306)
3- حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "إني من النقباء (1) الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النّفس التي حرم الله " (2) .
4- حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما " (3) .
5- حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء (4) " (5) .
وأما الإجماع:
... فقد نقل ابن قدامة – رحمه الله تعالى – أنه لا خلاف بين الأئمة في تحريم القتل بغير حق (6) .
المبحث الثّالث:
مشروعية القصاص في النّفس وما دون النّفس
وفيه مطلبان:
المطلب الأوّل: في مشروعية القصاص في النفس
أجمع العلماء على أن القود واجب بالقتل العمد إذا اجتمعت شروطه (7)
__________
(1) النقباء؛ أي العرفاء. انظر: المصباح المنير 2/620.
(2) أخرجه البخاري 8/35 في كتاب الديات، باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا…} .
(3) أخرجه البخاري 8/35 في كتاب الديات، باب قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} .
(4) استشكل هذا الحديث مع حديث "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته " الذي أخرجه أهل السنن.
... وأجيب: أن الحديث الأول يتعلق بمعاملات العباد والثاني بمعاملات الله.
... انظر: نيل الأوطار 7/45.
(5) تقدم إخراجه.
(6) انظر: المغني 11/443.
(7) انظر: البناية 12/100، حاشية ابن عابدين 6/529، الذخيرة 12/279، قوانين الأحكام الشرعية ص/226، المهذب 2/172، الحاوي 12/6، المغني 11/457، شرح الزركشي 6/53.
... شروط وجوب القصاص:
أن يكون القاتل مكلفا، أي بالغا عاقلا.
أن يكون متعمدا القتل.
أن يكون تعمد القتل محضا، أي لا شبهة في عدم إرادة القتل.
زاد الحنفية أن يكون القاتل مختارا، فلا قصاص على المكره عندهم. والجمهور يوجبون عليه القصاص. انظر: صفحات المصادر السابقة وما بعدها.(47/307)
... وقد دلت الآيات والأحاديث بعمومها على ذلك:
من القرآن الكريم:
1- قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) .
2- وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (2) .
3- وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) .
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: "يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز (4) ". انتهى
ونحوه ذكر القرطبي والبغوي (5) .
وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (6) .
فدلت الآيات بعمومها على مشروعية القصاص في الجناية على النفس.
من السنة.
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى وإما أن يقتل " (7) .
__________
(1) آية (178) من سورة البقرة.
(2) آية (33) من سورة الإسراء.
(3) آية (179) من سورة البقرة.
(4) انظر: تفسير القرآن العظيم 1/301.
(5) انظر: الحامع لأحكام القرآن 2/256، معالم التنزيل 1/146.
(6) آية (45) من سورة المائدة.
(7) أخرجه البخاري 6/94 في كتاب اللقطة، باب كيف تعرف اللقطة أهل مكة، ومسلم 1/988 في الحج، باب تحريم مكة.(47/308)
2- حديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما ولا يعضدن (1) فيها شجرا، فإن ترخص مترخص فقال: أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أحلها لي ولم يحلها للناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة. ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم، فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل (2) " (3) .ففي هذين الحديثين دلالة على مشروعية القصاص في الجناية على النفس (4) .
__________
(1) يعضدن؛ أي يقطعن. انظر: المصباح المنير 2/494.
(2) العقل: الدية. وأصله أن القاتل إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل، فعلقها بفناء أولياء المقتول؛ أي يشدها في عُقلها يسلمها إليهم ويقبضوها منه، فسميت الدية عقلا بالمصدر. وكان أصل الدية الإبل، ثم قومت بعد ذلك بالذهب والفضة والبقر والغنم.
... انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/278، المصباح المنير 2/504. وراجع: المغني 14/6.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/385، والترمذي 4/21 في كتاب الديات، باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، وقال: " حديث حسن صحيح ". وصححه الألباني في إرواء الغليل 7/276.
(4) انظر: شرح السنة 10/159.(47/309)
3- حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل في عنقه النسعة (1) ، قال: فدعا ولي المقتول فقال: " أتعفو؟ "، قال: لا، قال: "أفتأخذ الدية؟ "، قال: قال: لا، قال: " أفتقتل؟ "، قال: نعم، قال: " اذهب به! " فلما ولى قال: " أتعفو؟ "، قال: لا، قال: " أفتأخذ الدية؟ "، قال: لا، قال: " أفتقتل؟ " قال: نعم، قال: " اذهب به! "، فلما كان في الرابعة، قال: " أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه "، قال: فعفا عنه، قال: فأنا رأيته يجر النسعة (2) .
قال البغوي – رحمه الله تعالى -: فيه دليل على أن ولي الدم مخير بين القصاص، وبين أن يعفو عن القصاص على الدية، وبين أن يعفو مجانا (3) .
4- حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " (4) .
ومن جهة المعنى: أنه لو لم يجب القصاص في هذه الحالة لأدى ذلك إلى سفك الدماء وهلاك الناس (5) .
المطلب الثّاني:
مشروعية القصاص في الجناية على ما دون النّفس
... أجمع العلماء على تحريم الاعتداء على ما دون النفس وأن القصاص جار فيها إذا أمكن (6) .
... وقد دل على ذلك:
__________
(1) النسعة – بنون مكسورة ثم سين ساكنة ثم عين مهملة – هي حبل من جلد مظفورة. انظر: شرح صحيح مسلم 11/172.
(2) أخرجه مسلم 2/1307 في القسامة، باب صحة الإقرار بالقتل وتمكين ولي الدم القتيل من القصاص، واستحباب طلب العفو منه، وأبو داود 4/638 في الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم.
(3) انظر: شرح السنة 10/161.
(4) سبق تخريجه في صفحة (15) .
(5) انظر: الاختيار 5/30-31، المهذب 2/172.
(6) انظر: المغني 11/530.(47/310)
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاص} (1) .
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فطلبوا الأرش وطلبوا العفو، فأبوا. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟، لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها (2) . فقال: " يا أنس، كتاب الله القصاص! "، فرضي القوم وعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " (3) .
__________
(1) آية (45) من سورة المائدة.
(2) قوله: " والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها " قيل: لم يرد بهذا القول رد حكم الشرع، وإنما أراد التعريض بطلب الشفاعة. وقيل: إنه وقع منه ذلك قبل علمه بوجوب القصاص إلا أن يختار المجني عليه أو ورثته الدية أو العفو. وقيل: غير ذلك. انظر: نيل الأوطار 7/24.
(3) أخرجه البخاري 3/169 في كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، واللفظ له، ومسلم 2/1302 في كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان وما معناها.(47/311)
المبحث الرّابع:
في الاشتراك المتعمّد في الجناية على الواحد بالقتل
وفيه ثلاثة مطالب
إذا اشترك جماعة أو اثنان في قتل نفس لم يخل حالهم من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون كل واحد منهم لو انفرد بقتله قتل به كأحرار قتلوا حرا، أو العببد قتلوا عبدا، أو كفار قتلوا كافرا.
والثاني: أن يكون كل واحد منهم لو انفرد بقتله لم يجب عليه القود، كأحرار قتلوا عبدا، مسلمين قتلوا كافرا.
والثالث: أن يجب القود على أحدهم لو انفرد ولا يجب على الباقين إذا انفرد، فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في نفسه، كالأب إذا شارك أجنبيا في قتل ولده وكالحر إذا شارك عبدا في قتل عبده وكالمسلم إذا شارك كافرا في قتل كافر.
والثاني: أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في فعله، كالخاطئ إذا شارك عامدا في القتل أو تعمد الخطأ إذا شارك عمدا محضا. (1)
وسيأتي أحكام هذه الأقسام في المطالب الآتية إن شاء الله.
المطلب الأوّل:
اشتراك الجماعة في الجناية على الواحد بالقتل إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بقتله قتل به
... اختلف العلماء في حكم قتل الجماعة للواحد عمدا وعدوانا إذا توفرت فيهم شروط القصاص أيقتلون به أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
... القول الأول: أنهم يقتلون به.
__________
(1) انظر: الحاوي 12/127-128، المغني 11/490 وما بعدها.(47/312)
.. وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة وابن عباس – رضي الله عنهم -.وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء وقتادة والأوزاعي وإسحاق (1) .وبه قال أبو حنيفة (2) ومالك (3) والشافعي (4) وأحمد في المذهب (5) واتفق أصحاب هذا القول على أن قتل الجماعة بالواحد بشرط أن يكون كل واحد منهم قد جنى جناية لو انفرد بها لمات المجني عليه وأضيف القتل إليه، ووجب القصاص عليه (6) .
... القول الثاني: أنهم لا يقتلون به بحال، وإنما تؤخذ منهم الدية بالسوية.
... وهو قول الزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وابن المنذر (7) .وبه قال الإمام أحمد في رواية (8) والظاهرية (9) .
... القول الثالث: أنه يقتل واحد منهم، يرجع فيه لاختيار ولي الدم ويؤخذ من الباقين قسطهم من الدية.وهذا مروي عن معاذ بن جبل وعبد الله بن الزبير وجابر–رضي الله عنهم–ومروي عن ابن سيرين والزهري (10) .
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
__________
(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 5/428 وما بعدها، الاستذكار 25/235، شرح السنة 10/184، الحاوي 12/27، المغني 11/490.
(2) انظر: بدائع الصنائع 7/238، الفتاوى الهندية 6/5، البحر الرائق 8/358.
(3) انظر: الإشراف 2/182، قوانين الأحكام الشرعية ص/227، حاشية الدسوقي 4/245.
(4) انظر: المهذب 2/174، الحاوي 12/27، مغني المحتاج 4/20.
(5) انظر: المغني 11/490، الإنصاف 9/331، المبدع 8/253.
(6) انظر: حاشية ابن عابدين 6/556 وما بعدها، المهذب 2/174، الحاوي 12/27، الإنصاف 9/332، شرح الزركشي 6/77.
(7) انظر: شرح السنة 10/184، الحاوي 12/27، المغني 11/490.
(8) انظر: المغني 11/490، الإنصاف 9/332.
(9) انظر: المحلى 10/607، المغني 11/490.
(10) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 5/429، شرح السنة 10/184، بداية المجتهد 2/400، الاستذكار 25/235 وما بعدها، الحاوي 12/27، المغني 11/490.(47/313)
.. استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
... أما الكتاب:
... فقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) .
... وجه الدلالة من الآية: أن سبب الحياة في ذلك يكمن في أنه متى علم القاتل أنه إذا قتل وجب القصاص عليه كف عن القتل، فحيي القاتل والمقتول فلو لم يقتص من الجماعة بالواحد لما كان في القصاص حياة، ولكان القاتل إذا أراد القتل شارك غيره فيه ليسقط القصاص عنه وعن غيره، ولكان ذلك رافعاً لحكم الآية (2) .
اعترض على هذا الاستدلال:
... أن هذا إنما يلزم فيما إذا لم يقتل أحد من الجماعة الذي قتلوا الواحد بخلاف ما إذا قتل منهم واحد، فلا يلزم إذًا أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس (3) .
وأما السنة:
... فحديث أبي شريح الكعبي -رضي الله عنه- وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين، إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل " (4) .
وجه الدلالة:
... دل قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل " على أن هذا الخبر ورد في قتل الجماعة لواحد، فالحكم إذا ورد على سبب، لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا من ذلك الحكم (5) .
والإجماع: وقد دل عليه:
__________
(1) آية 179 من سورة البقرة.
(2) انظر: الحاوي 12/27.
(3) انظر: بداية المجتهد 2/400.
(4) تقدم تخريجه في صفحة 19-20.
(5) انظر: الحاوي 12/27.(47/314)
ما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة (1) . وقال عمر: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا" (2) .
وما رواه المغيرة بن حكيم عن أبيه أن أربعة قتلوا صبيا، فقال عمر مثله (3) .
وما جاء عن سعد بن وهب قال: "خرج رجال سفر فصحبهم رجل، فقدموا وليس معهم، قال: فاتهمهم أهله، فقال شريح: "شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم وإلاّ حلفوا ما قتلوه"، فأتوا بهم عليا -رضي الله عنه- وأنا عنده، ففرق بينهم فاعترفوا، فسمعت عليًّا يقول: "أنا أبو الحسن القوم، فأمر بهم فقتلوا" (4) .
وما جاء عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه سرق فقطعه علي، ثم جاءا بآخر وقالا: أخطأنا فأبطل شهادتهما وأخذ بدية الأول، وقال: "لو علمت أنكم تعمدتما لقطعتكما" (5) .ومعلوم أنه لا فرق بين القصاص في الأطراف وبين القصاص في النفس (6) .
... وما جاء عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنه قتل سبعة برجل (7) .
__________
(1) الغيلة؛ فعلة من الاغتيال، وهو أن يخدع، ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/403.
(2) أخرجه مالك في الموطأ 2/871 في العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر واللفظ به، وابن أبي شيبة 5/428 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم.
(3) أخرجه البخاري معلقا 8/42 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة 5/428 في الديات، باب الرجل يقتله النفر، والبيهقي 8/41 في كتاب الجنايات، باب النفر، باب النفر يقتلون الرجل.
(5) أخرجه الدارقطني 3/182 في الحدود والديات وغيره، والبيهقي 8/41 في الجنايات، باب النفر يقتلون الرجل، والبخاري معلقا 8/242 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب.
(6) انظر: سبل السلام 3/243.
(7) أخرجه ابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتله النفر.(47/315)
وعن ابن عباس–رضي الله عنهما– أنه قال:"لو أن مائة قتلوا واحدا
قتلوا به" (1) .فهذا ما ثبت عن هؤلاء الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان
إجماعا (2) .
واعترض على هذا:
... بأن حكم عمر وغيره من الصحابة – رضي الله عنهم – لا يعدو كونه فعل صحابي فلا تقوم به حجة ودعوى الإجماع غير مقبولة (3) .
... ولما ثبت أن معاذا قال لعمر – رضي الله عنهما –:" ليس لك أن تقتل نفسين بنفس" (4) .
... وما جاء عن عمرو بن دينار حيث قال: "كان عبد الملك وابن الزبير لا يقتلون منهم إلا واحدا" (5) .
... فيتضح مما سبق أن الصحابة لم يجمعوا على حكم المسألة. والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا لم يجز العمل بقول من أقوالهم إلا بترجيح (6) .
وأما المعقول:
1- أننا لو لم نوجب القصاص عليهم لجعل الاشتراك ذريعة لسفك الدماء ولأدى ذلك إلى إسقاط حكمة الردع والزجر (7) .
2- أنها عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف (8) .
3- أن قتل النفس أغلظ من هتك العرض والقذف، فإذا حد الجماعة بقذف الواحد كان قتلهم بقتل الواحد أولى (9) .
4- أنه منطلق على كل واحد من الجماعة اسم القاتل للنفس، فوجب أن يجري عليه حكمه كالواحد (10) .
5- أن ما وجب في قتل الواحد لا يسقط في قتل الجماعة كالدية (11) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق 9/479، وذكره ابن عبد البر ي الاستذكار 25/235.
(2) انظر: الاختيار 5/240، الذخيرة 12/319 وما بعدها، المغني 11/491.
(3) انظر: سبل السلام 3/243.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتل بالنفر.
(5) أخرجه عبد الرزاق 9/479، وابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتل بالنفر.
(6) انظر: أضواء البيان 2/95.
(7) انظر: الذخيرة 2/320، المغني 11/491.
(8) انظر: المصدرين السابقين.
(9) انظر: الحاوي 12/28.
(10) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/178، الحاوي 12/28.
(11) انظر: الحاوي 12/28.(47/316)
6- أن القتل بغير حق لا يكون في العادة إلا بالتغالب والاجتماع، والقصاص شرع حكمة للزجر، فيجعل كل واحد منهم كالمنفرد بالقتل، فيجري القصاص عليهم تحقيقا لمعنى الإحياء وإلا سد باب القصاص وفتح باب التغالب (1) .
أدلة أصحاب القول الثاني على عدم القتل.
... استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والمعقول.
أما الكتاب:
1- فقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2) .
2- وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (3) .
وجه الدلالة:
وظاهر الآيتين يقتضي أن لا يقتل أكثر من نفس واحدة ولا يقتل بالحر أكثر من حر (4) .
واعترض عليه:
... أن المراد بالنفس والحر في الآيتين الجنس، فالنفس تنطلق على النفوس كما أن الحر ينطلق على الأحرار (5) .
3- وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (6) .
وجه الدلالة:
... أن من السرف قتل الجماعة بالواحد وهو منهي عنه إذًا (7) .
واعترض عليه:
... أن المراد بالسرف في الآية هو أن يقتل غير قاتله، بل إن قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} (8) ، يدل بالاقتضاء على أن سلطان الولي في الجماعة كسلطانه في الواحد، فلم يكن فيها دليل على منع قتل الجماعة بالواحد (9) .
أما المعقول:
1- أن الواحد لا يكافئ الجماعة، ولا يقتل بهم إذا قتلهم، وإنما يقتل بأحدهم، ويؤخذ من ماله ديات الباقين، كذلك إذا قتله جماعة لا يقتلون به (10) .
واعترض عليه:
__________
(1) انظر: البناية 12/158، البحر الرائق 8/354.
(2) آية 45 من سورة المائدة.
(3) آية 178 من سورة البقرة.
(4) انظر: الحاوي 12/27.
(5) انظر: الحاوي 12/28.
(6) آية 33 من سورة الإسراء.
(7) انظر: الحاوي 12/27.
(8) آية 33 من سورة الإسراء.
(9) انظر: الحاوي 12/29.
(10) انظر: المصدر السابق.(47/317)
.. بأن حرمة الواحد كحرمة الجماعة بدليل قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} (1) . فعليه يجب أن يكون القصاص فيهم واحدا (2) .
2- أن زيادة الوصف تمنع من القصاص فلم يقتل حر بعبد ولا مسلم بكافر فزيادة العدد أولى أن تمنع (3) .
واعترض عليه:
... بوجود الفرق بين زيادة الوصف وزيادة العدد، إذ تمنع زيادة الوصف من وجود المماثلة في الواحد ولا تمنع في الجماعة، يؤكد ذلك منع زيادة الوصف في القاذف من إقامة الحد عليه في حين أن زيادة العدد لا تمنع من إقامة الحد على الجماعة القاذفين (4) .
أن للنفس بدلين قودا ودية، فلما لم يجب على الاثنين بقتل الواحد ديتان لم يجب عليهما قودان كذلك (5) .
اعترض عليه من وجهين:
أ- الفرق بين الدية والقود، وذلك أن الدية تتبعض فلم يجب أكثر منها، والقود لا يتبعض فعم حكمه قياسا على سرقة الجماعة، فإنها توجب غرما يبتعض وقطعا لا يتبعض، لذا اشتركوا في غرم واحد وقطع كل واحد منهم (6) .
ب- وهو عبارة عن فرق آخر بين الدية والقصاص، وهو: أن القصاص موضوع للزجر والردع فلزم في الجماعة مثل لزومه في الواحد، والدية بدل من النفس فلم يلزم فيها إلا بدل واحد فافترقا (7) .
أدلة القول الثالث على أنه يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين قسطهم من الدية.
استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب:
1- قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (8) .
__________
(1) آية 32 من سورة المائدة.
(2) انظر: الحاوي 12/29.
(3) انظر: المصدر السابق.
(4) انظر: الحاوي 12/29.
(5) انظر: المصدر السابق.
(6) انظر: الذخيرة 12/320، المغني 11/491.
(7) انظر: الحاوي 12/29.
(8) آية 45 من سورة المائدة.(47/318)
2- وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (1) .
وجه الدلالة:
... دلت الآيتان على أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة (2) .
واعترض على هذا:
... بأن المراد بالنفس في الآيتين الجنس، فالنفس تنطلق على النفوس، كما أن الحر ينطلق على الأحرار (3) .
أما المعقول:
1- أن التفاوت في الأوصاف ما نع من القصاص بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد فيكون التفاوت في العدد أولى أن يمنع منه (4) .
اعترض عليه:
بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول، بل لكون كل واحد منهم قاتلا (5) .
2- أن كل واحد منهم مكافئ له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، قياسا على عدم وجوب ديات لمقتول واحد (6) .
اعترض عليه:
... بالفرق بين الدية والقصاص، فالدية تتبعض، والقصاص لا يتبعض (7) .
الراجح:
... بعد عرض الأقوال في المسألة وأدلتها وما ورد عليها من اعتراضات تبين من أدلة أصحاب القول الأول أنه لا يوجد دليل صريح على قتل الجماعة بالواحد، وغاية ما في الآية التي تمسكوا بها أن مصلحة حفظ النفس تتحقق في القصاص، والقول بأن تلك المصلحة لا تتحقق إلا بقتل الجماعة بالواحد وقتل أحد الجماعة في تحقيق مصلحة حفظ النفس به، وإن كان تحقق ذلك في قتلهم به أقوى من الآخر، وهذا خارج عن المسألة.
__________
(1) آية 178من سورة البقرة.
(2) انظر: المغني 11/490.
(3) انظر: الحاوي 12/28.
(4) انظر: المغني 11/490.
(5) انظر: سبل السلام 3/243.
(6) انظر: المغني 11/490.
(7) انظر: المغني 11/490.(47/319)
.. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شريح الكعبي رضي الله عنه المتقدم: "ومن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل " (1) فدلالته على قتل الواحد بالواحد صريحة، بخلاف قتل الجماعة بالواحد وهو محل النزاع. فلو كانت دلالته على ذلك أمرا مسلما به كما في حالة الانفراد لما ساغ لأحد المخالفة في ذلك.وأما حكايتهم الإجماع على ذلك بناء على عدم العلم بالمخالف لمن حكم به من الصحابة كعمر وعلي وابن عباس – رضي الله عنهم – فلا ينهض بذلك حجة على المدعى؛ إذ تقرر في الأصول أن عدم العلم ليس دليلا على العدم، يؤكد ذلك ما ثبت من مخالفة كل من معاذ وجابر وابن الزبير – رضي الله عنهم – لهذا الحكم، فكيف تصح إذا دعوى الإجماع.
... ثم أنه على فرض التسليم بصحة دعوى الإجماع فإنه في هذه الحالة لا يكون إلا إجماعا سكوتيا وهو ظني، فلا يقوى على معارضة الأدلة الصريحة الواضحة، مع أن الخلاف ثابت في المسألة من الصدر الأول. إذا تقرر ما سبق يظهر للمتأمل مدى وجاهة قول ابن المنذر – رحمه الله تعالى – حيث قال: " لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بالواحد ". اهـ.
... إلا أنه ينبغي تقييده بعدم وجود دليل صريح من جهة النقل؛ لأن ما ذكره أصحاب هذا القول من الأقيسة وجيهة، ومعلوم أن القياس دليل من الأدلة الشرعية عند جمهور العلماء خلافا لمن شذّ، فعليه لا يسلم القول بنفي وجود مستمسك لهم على قولهم هذا من نظر. والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريجه في صفحة 19-20.(47/320)
.. أما أدلة كل من أصحاب القول الثاني والثالث فلا تدل دلالة صريحة على منع قتل الجماعة بالواحد، وإنما غاية ما فيها أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من مثلها. وهذا على التسليم بأن أل الموجودة في لفظ النفس والحر في قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (1) و {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (2) ليس للجنس، وهو ما يرفضه المعارض، إضافة إلى أن القول بأن المراد بالسرف في قوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (3) هو أن لا يقتل جماعة بواحد يحتاج إلى دليل.
... وإذا تقرر ما سبق فلم يبق إلا أدلتهم العقلية وهي أيضا لا تسلم من قادح يبطل بها الحجة.
... وبناء على ما تقدم يترجح لي القول بأن الجماعة تقتل بالواحد لما يلي:
عموم قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} (4) ذلك أن ما يتحقق بقتل الجماعة بالواحد من حكمة القصاص التي منها الزجر والردع عن القتل ما لا يتحقق في عدم قتلهم بحال، ولا في قتل واحد منهم فقط.
أنه يصدق على كل واحد من الجماعة المتمالئين على القتل أنه قاتل فيقتل لذلك (5) .
أنه إذا تقرر أن الحد يقام على الجماعة بقذف الواحد كان قتلهم بقتل الواحد أولى؛ لأن حفظ النفس أشد ضرورة من حفظ العرض، وإن اشتركا في عناية الشريعة بحفظهما.
أن قياس القصاص على القذف في هذه المسالة أولى من قياسه على الدية؛ لاشتمال قياسه على هذا الأخير على الفارق، وسلامته من ذلك في قياسه على الأول.
ومعلوم أن اشتمال القياس على الفارق قادح من القوادح المانعة من صحة الاحتجاج به. والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني
في اشتراك الجماعة في قتل النفس إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بقتله لم يقتل به
__________
(1) آية 45 من سورة المائدة.
(2) آية 178 من سورة البقرة.
(3) أية 33 من سورة الإسراء.
(4) أية 179 من سورة البقرة.
(5) انظر: أضواء البيان 2/96.(47/321)
.. إذا اشترك جماعة أو اثنان في الجناية على واحد بالقتل ويكون كل واحد منهم أو منهما لو انفرد لم يجب عليه القود كأحرار قتلوا عبدا أو مسلمين قتلوا ذميا ففيه خلاف كالخلاف في قتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، وفيهما قولان:
القول الأول: أنه يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي.وهو قول الحنفية (1) .
القول الثاني: أنه لا يقتل الحر بالعبد ولا المسلم بالذمي.
... وهو قول أكثر أهل العلم منهم المالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) .
الأدلة:
... استدل أصحاب القول الأول بالمنقول والمعقول:
1- عموم الآيات والأخبار في القصاص.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " (5) .
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي ص/230، المغني 11/465، 473.
(2) انظر: الكافي لابن عبد البر ص/587، بلغة السالك لأقرب المسالك 4/161، الذخيرة 12/320، 332.
(3) انظر: الحاوي 12/128.
(4) انظر: المغني 11/465،473.
(5) أخرجه أبو داود في سننه رقم 4530 كتاب الديات، باب أيقاذ المسلم بالكافر، وابن ماجة في سننه رقم 2683 و 2684، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم من حديث ابن عباس مرفوعا. واللفظ لأبي داود.
وضعفه البوصيري في زوائد ابن ماجة – بهامش ابن ماجة 3/294-295 طبعة دار الحديث 1418 هـ.
... وأخرجه بنحوه البخاري في صحيحه، رقم 1870 كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، ومسلم في صحيحه، رقم 1370 في كتاب الحج، باب فضل المدينة من حديث علي رضي الله عنه.(47/322)
3- ما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي، وقال: " أنا أحق من وفى بذمته " (1)
4- ولأن العبد آدمي معصوم، فأشبه الحر (2) .
5- ولأن الذمي معصوم عصمة مؤبدة، فيقتل به قاتله كالمسلم (3) .
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواه، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر " (4) .
2- عن علي رضي الله عنه أنه قال: "من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر" (5) .
3- عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل حرٌّ بعبد» (6) .
4- ولأنه لا يقطع طرف الحر بطرف العبد مع التساوي في السلامة، فلا يقتل به، كالأب مع ابنه.الراجح:
__________
(1) أخرجه الشافعي في ترتيب المسند 2/105، كتاب الديات، وعبد الرزاق في المصنف 10/101 كتاب العقول، باب قود المسلم بالذمي، والدارقطني في سننه 3/135 كتاب الحدود والديات وغيره، والبيهقي في السنن الكبرى 8/30، 31، كتاب الجنايات، باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر، وما روي عن الصحابة في ذلك.
... والحديث ضعفه الإمام أحمد - كما في المغني 11/467 - والبيهقي، وقال الدارقطني: " يرويه ابن البيلماني، وهو ضعيف إذا أسند، فكيف إذا أرسل؟ ".
(2) انظر: المغني 11/473.
(3) انظر: المغني 11/466.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 9/295 كتاب الديات، باب من قال: لا يقتل مسلم بكافر، والدارقطني في سننه 3/134، كتاب الحدود والديات وغيرها. انظر: إرواء الغليل 7/267.
(6) أخرجه الدارقطني في سننه 3/133، كتاب الحدود والديات وغيره.(47/323)
.. هو القول بأن الحر لا يقتل بالعبد وكذا المسلم لا يقتل بالذمي، لأن العبد منقوض بالرق، فلم يقتل به الحر، كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي، ولأن الذمي منقوض بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن. والعمومات مخصوصات بالأحاديث. وحديث ابن البيملاني في قتل المسلم بالذمي ليس له إسناد، قاله الإمام أحمد (1) .
المطلب الثّاني: اشتراك الاثنين في قتل النّفس إذا وجب القود على أحدهما لو انفرد دون الآخر لمعنى في نفسه لا في فعله
إذا اشترك اثنان في الجناية على الواحد في قتل النفس ويجب القصاص على أحدهما إذا انفرد بقتله، ولم يجب على الآخر إذا انفرد لمعنى في نفسه لا في فعله، كاشتراك الأب والأجنبي في قتل الولد، فهل يجب القصاص على الأجنبي؟ ففيه خلاف على قولين:
القول الأول: أنه لا قصاص عليه.
وكان عليهما ديتها على الذي لو تفرد بها منهما كان عليه القصاص في ماله وعلى الآخر على عاقلته.
... وهو قول الحنفية (2) ورواية عن أحمد (3) .
القول الثاني: أن عليه القصاص.
... وهو قول المالكية (4) ، والشافعية (5) ، وأحمد في رواية هي المذهب (6) .
الأدلة:
... استدل أصحاب القول الأول بالمعقول وهو:
1- أنه قتل تركب من موجب وغير موجب، فلم يجب القصاص كقتل العامد والمخطئ، والصبي والبالغ، والمجنون والعاقل (7) .
واعترض عليه:
__________
(1) فيما نقله ابن قدامة في المغني 11/467.
(2) انظر: المبسوط 26/93-94، الجوهرة النيرة 2/159، مختصر الطحاوي ص/231.
(3) انظر: المغني 11/496.
(4) انظر: الإشراف 2/181، قوانين الأحكام ص/363.
(5) انظر: الحاوي 12/128، حلية العلماء 7/457، فتح العزيز 10/179، روضة الطالبين 7/39 طبعة دار الكتب العلمية.
(6) انظر: مختصر الخرقي مع المغني 11/496، المغني 11/496.
(7) انظر: المبسوط 26/94-95، المغني 11/496.(47/324)
.. بعدم التسليم بأن فعل الأب غير موجب، فإنه يقتضي الإيجاب لكونه تمحض عمدا عدوانا، والجناية به أعظم إثما وأكثر جرما، ولذلك خصه الله تعالى بالنهي عنه، فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} ثم قال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (1) ، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب، قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلَقك، ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " (2) ، فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك. (3)
واعترض أيضا:
... بعدم التسليم بسقوط القصاص عن شريك الخاطئ، وعلى التسليم بذلك فامتناع الوجوب فيه لقصور السبب عن الإيجاب فإن فعل الخاطئ غير موجب للقصاص ولا صالح له، والقتل منه ومن شريكه غير متمحض عمدا، لوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهوق النفس، بخلاف مسألتنا.
2- أن هذا القتل ثَمَّ موجب للدية فلا يكون موجبا للقصاص كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا. وبيان الوصف: أن الواجب على الأب بهذا الفعل الدية لا غير … فإذا كان لا يستوفى منه إلا الدية عرفنا أنه موجب للدية. والدليل على أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص. (4)
واعترض عليه:
__________
(1) آية 31 من سورة الإسراء.
(2) أخرجه البخاري 6/22 في كتاب التفسير، باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} ، وفي كتاب الأدب 8/9، 204، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، ومسلم 1/90، 91 في كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنب وبيان أعظمها بعده.
(3) انظر: المغني 11/497.
(4) انظر: المبسوط 26/95.(47/325)
بعدم تسليم قياس شريك الأب على شريك الخاطئ؛ فإن سقوط القصاص عن الخاطئ لمعنى في فعله، وقد امتزج الفعلان في السراية فلم يتميزا. وسقوطه عن الأب لمعنى في نفسه، وقد تميز القاتلان فلم يستويا (1) . وفارق أيضا شريك الأب شريك المخطئ بأن الخطأ شبهة في فعل الخاطئ، والفعلان مضافان إلى محل واحد، فأورث شبهة في القصاص، كما لو صدرا من واحد. وشبهة الأبوة في ذات الأب لا في الفعل. وذات الأب متميزة عن ذات الأجنبي فلا تورث شبهة في حقه (2) .
واعترض أيضا:
... بعدم التسليم أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص، بل الحكم الأصلي هو القصاص، بل الجناية فيه أعظم إثما، وأكثر جرما، وهو أعظم الذنوب بعد الشرك – كما سبق – وإنما امتنع وجوب القصاص في حق الأب لمعنى مختص بالمحل (3) .
... واستدل أصحاب القول الثاني بالمعقول:
1- أنه شارك في القتل العمد العدوان من يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص كما لو كانا عامدين فعفا الولي عن أحدهما (4) .
2- وأيضا فإن الزهوق حصل بجنايتين عمدين مضمونين، فامتناع وجوب القصاص على أحدهما، لا يمنع الوجوب على الآخر، كما لو رمى اثنان سهما إلى واحد، ومات أحد الراميين قبل الإصابة، يجب القصاص على الآخر (5) .
3- ولأنه لما لم يتغير حكم الأب بمشاركة الأجنبي في وجوب القود عليه لم يتغير حكم الأجنبي بمشاركة الأب في سقوط القود عنه (6) .
__________
(1) انظر: الحاوي 12/129، فتح العزيز 10/180.
(2) انظر: فتح العزيز 10/180، مغني المحتاج 4/20.
(3) انظر: المغني 11/497.
(4) انظر: الحاوي 12/129، فتح العزيز 10/179، المغني 11/496.
(5) انظر: فتح العزيز 10/179-180، مغني المحتاج 4/21.
(6) انظر: الحاوي 12/129.(47/326)
4- أن فعل الأب موجب للقود ثم سقط عنه القود بعفو الشرع منه عن الأب فلا يسقط عن الآخر؛ لأن عند أوان السقوط أحد القاتلين متميز عن الآخر. والدليل على ذلك أن سبب القود شرعا هو العمد، وثبوت الحكم بثبوت السبب. فإذا كانت الأبوة لا توجب نقصانا في السبب لا يمنع ثبوت الحكم أيضا، وإنما لا يستوفى لئلا يكون الولد سببا في إفناء الوالد بعد أن كان الوالد سبب إيجاده (1) .
الراجح:
... هو القول الثاني، وهو وجوب القصاص؛ لأن فعل الأب قطع الرحم التي أمر الله عز وجل بصلتها، ووضع الإساءة موضع الإحسان، فكان إيجاب القصاص عليه أولى والزجر عنه أهم إلا أنه امتنع من حقه لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب (2) . فلم يسقط عن شريكه.
... ولأنها نفس مضمونة خرجت بعمد محض، فلم يكن سقوط القود عن أحد القاتلين موجبا لسقوطه عن الآخر، كالعفو عن أحدهما لا يوجب سقوط القود عنهما (3) .
والضابط الفقهي في هذا الباب، هو:
... أن كل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو في وجوب القصاص على شريكه، كالأب وشريكه (4) .
... ويدخل تحته ما يلي:
... أن يشترك مسلم وذمي في قتل ذمي، أو حر وعبد في قتل عبد – عمدا وعدوانا – فإن القصاص لا يجب على المسلم والحر، ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه على شريك الأب؛ لأن امتناع القصاص عن المسلم لإسلامه وعن الحر لحريته، وانتفاء مكافأة المقتول له. وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعله ولا إلى شريكه، فلم يسقط القصاص عنه (5) .
المطلب الثّالث:
اشتراك اثنين أو جماعة في الجناية على الواحد بالقتل إذا شارك فيها من لا قصاص عليه لمعنى في فعله
__________
(1) انظر: المبسوط 26/94.
(2) انظر: المغني 11/496.
(3) انظر: الحاوي 12/129.
(4) انظر: الحاوي 12/128، المغني 11/497-498، الشرح الكبير 25/70.
(5) انظر: المصادر السابقة، وفتح العزيز 10/179، روضة الطالبين 7/39-40.(47/327)
.. إذا اشترك في القتل من يجب القود على أحدهما لو انفرد، ولا يجب على الآخر إذا انفرد لمعنى في فعله، كالخاطئ أو الصبي أو المجنون إذا شارك كل واحد منهم عامدا في القتل أو تعمد الخطأ إذا شارك عمدا محضا، فيسقط القود عنه لمعنى في فعله لا في نفسه. واختلف الفقهاء في شريك من سقط عنه القود على النحو التالي:
1- إذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ، هل يجب القصاص على البالغ؟ على قولين:
القول الأول: أنه لا يجب القصاص عليه.
... وهو قول الحسن والأوزاعي وإسحاق (1) .وإليه ذهب الحنفية (2) ،والشافعية في أحد القولين (3) وأحمد في رواية هي المذهب (4) . وهو أيضا قول المالكية في اشتراك المجنون والبالغ (5)
القول الثاني: يجب القصاص عليه.
... وهو قول قتادة والزهري وحماد (6) .وهو القول الثاني للشافعي (7) ،وأحمد في رواية (8) .وإليه ذهب المالكية (9) في اشتراك الصبي والبالغ.
... واستدل أصحاب القول الأول بالمعقول من وجهين:
1- أنه شارك من لا مأثم عليه في فعله، فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ (10) .
2- أن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح، ولذا لا يصح إقرارهما، فكان حكم فعلهما حكم الخطأ (11) ،فلا يلزم شريكهما القصاص للشبهة.
__________
(1) انظر: المغني 11/498.
(2) انظر: المبسوط 26/94، الجوهرة النيرة 2/159.
(3) انظر: الحاوي 12/130، حلية العلماء 7/458، فتح العزيز 10/181-182، روضة الطالبين 7/41.
(4) انظر: المغني 11/498.
(5) انظر: مختصر خليل 2/258، الشرح الصغير لأحمد الدردير 4/170، جواهر الإكليل 2/258، بلغة السالك لأقرب المسالك 4/170.
(6) انظر: المرجع السابق.
(7) انظر: الحاوي 12/130، حلية العلماء 7/458، فتح العزيز 10/181، روضة الطالبين 7/41.
(8) انظر: المغني 11/498.
(9) انظر: الإشراف 2/185، قوانين الأحكام ص/363، بلغة السالك لأقرب المسالك 4/170، جواهر الإكليل 2/257-258.
(10) انظر: الحاوي 12/130، المغني 11/499.
(11) انظر: المغني 11/499.(47/328)
واستدل أصحاب القول الثاني بالمعقول:
أنها شركة في قتل فلم يؤثر في إسقاط الجنس الذي يجب به حال الانفراد (1) .
الراجح:
هو القول الثاني، وهو وجوب القصاص؛ لأن كل من انفرد بالقتل لزمه القود، فإذا شاركه فيه من لا قود عليه لم يسقط القود عنه (2) . ولأن القاتل البالغ تعمد الفعل فلزمه القود أشبه المنفرد (3) .
2- إذا اشترك العامد والمخطئ في الجناية، فهل يجب على شريك المخطئ قصاص؟.
أما المخطئ فلا قصاص عليه للكتاب والسنة والإجماع (4) . وأما شريكه فقد وقع فيه خلاف على قولين:
القول الأول: ليس على شريك المخطئ قصاص.
وهو قول أكثر أهل العلم. (5) وبه قال النخعي والحنفية (6) والشافعية (7) والحنابلة (8) .
القول الثاني: أن عليه القصاص.
... وهو قول مالك (9) وأحمد في رواية (10) .
الأدلة:
... استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1- أنه قتل لم يتمحض عمدا فلم يوجب القصاص كشبه العمد، وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ. (11)
2- ولأن كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب، فإذا كانا عامدين، فكل واحد متسبب إلى فعل موجب للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه، وههنا إذا أقمنا فعل المخطئ مقام فعل العامد صار كأنه قتله بعمد وخطأ، وهذا غير موجب. (12)
__________
(1) انظر: الإشراف 2/185.
(2) انظر: الإشراف 2/185.
(3) انظر: الإشراف 2/185.
(4) انظر: المغني 11/502، الشرح الكبير 25/72.
(5) انظر: المبسوط 26/93، الحاوي 12/128، تكملة المجموع 20/291، المغني 11/502.
(6) انظر: المبسوط 26/93، مختصر الطحاوي ص/231.
(7) انظر: الحاوي 12/128، تكملة المجموع 20/291.
(8) انظر: المغني 11/502، المقنع 25/68، الشرح الكبير 25/72، الإنصاف 25/68.
(9) انظر: بلغة السالك لأقرب المسالك 4/170، جواهر الإكليل 2/258، الحاوي 12/128، تكملة المجموع 20/291.
(10) انظر: المصادر السابقة بهامش 7.
(11) انظر: الحاوي 11/129.
(12) انظر: الشرح الكبير 25/72.(47/329)
3- ولأنه إذا اجتمع في النفس موجب ومسقط يغلب حكم المسقط على حكم الموجب، كالحر إذا قتل من نصفه مملوك ونصفه حر. (1)
4- ولأن سقوط القود في الخطأ يجري في حق القاتل مجرى عفو بعض الأولياء. (2)
... والقاعدة عندهم: " لا يقتص من شريك مخطئ أو شبه عمد، ويقتص من شريك من امتنع قوده لمعنى فيه إذا تعمدا جميعا ". (3)
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1- أن كل من وجب عليه القود إذا انفرد وجب عليه القود إذا شارك فيه من لا يجب عليه القود كشريك الأب (4) .
2- ولأنه لو جاز أن يتعدى حكم الخاطئ إلى العامد في سقوط القود لجاز أن يتعدى حكم العامد إلى الخاطئ في وجوب القود. (5)
3- ولأنه لما لم يتغير حكم الدية بمشاركة الخاطئ، لم يتغير بها حكم القود. (6)
الراجح:
... هو القول الثاني: وهو وجوب القصاص؛ لأن شريك الخاطئ شارك في القتل عمدا وعدوانا فوجب عليه القصاص كشريك العامد، ولأن مؤاخذته بفعله، وفعله عمد وعدوان، لا عذر له فيه. (7)
المبحث الخامس:
الاشتراك المتعمّد في الجناية على الواحد بالجرح أو القطع
... اتفق الفقهاء على جريان القصاص فيما دون النفس ما أمكن ذلك (8) لما يلي:
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (9) .
__________
(1) انظر: الحاوي 12/129، مغني المحتاج 4/20.
(2) انظر: الحاوي 12/129.
(3) انظر: مغني المحتاج 4/20.
(4) انظر: الحاوي 12/128.
(5) انظر: المصدر السابق.
(6) انظر: الحاوي 12 /128.
(7) انظر: المغني 11/503، الشرح الكبير 25/72.
(8) انظر: البحر الرائق 8/345، قوانين الأحكام الشرعية ص/230، المهذب 2/178، المغني 11/531.
(9) آية 45 من سورة المائدة.(47/330)
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) .
ولحديث أنس رضي الله عنه: أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها العفو، فأبوا فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أنس كتاب الله القصاص " فرضي القوم وعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " (2) .
ومن القياس:
أن ما دون النفس كالنفس في حاجته لحفظه بالقصاص، فكان مثل النفس في وجوبه (3) .
واختلفوا في حكم القصاص من الجماعة ممن توفرت فيهم شروط القصاص إذا اشتركوا في الجناية على شخص واحد بجرح أو قطع عضو ونحو ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يقتص منهم جميعا.
... وبه قال المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة في المذهب (6) .
... واتفق أصحاب هذا القول على أن شرط وجوب القصاص عليهم في هذه الحالة هو اشتراكهم في اقتراف هذه الجناية دفعة واحدة على وجه لا يتميز فعل أحدهم عن فعل صاحبه، كأن يشهدوا بما يوجب قطع يده ثم يرجعوا عن شهادتهم، ويقولوا تعمدنا ذلك، أو يلقوا صخرة على شخص فتقطع طرفه، ونحو ذلك، بخلاف ما لو قطع كل واحد منهم عضو المجني عليه من جانب فلا يجب القصاص حينئذ؛ لأن جناية كل واحد منهم في بعض العضو، فلا يجوز أن يقتص منه في جميع العضو (7) .
__________
(1) آية 194 من سورة البقرة.
(2) تقدم تخريجه في صفحة 22.
(3) انظر: المهذب 2/177، المغني 11/531.
(4) انظر: الاستذكار 25/236، الذخيرة 12/321.
(5) انظر: الحاوي 12/32، المهذب 2/178.
(6) انظر: المغني 11/493 وما بعدها، شرح الزركشي 6/77.
(7) انظر: البيان والتحصيل 16/127، المهذب 2/178، شرح الزركشي 6/78.(47/331)
القول الثاني: أنه لا يقتص من أحدهم، وإنما عليهم دية الجناية بالسوية.
... وبه قال الحسن البصري والزهري والثوري (1) . وهو قول الحنفية (2) ، وأحمد في رواية (3) .
الأدلة:
... استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
أ- ما جاء عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه سرق، فقطعه عليّ، ثم جاءا بآخر، وقالا: أخطأنا فأبطل شهادتهما وأخذ بدية الأول، وقال: " لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما".
فقد أخبر أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- أن القصاص على كل منهما قطع يده لو تعمدا، فهذا يدل على جواز قطع اليدين باليد الواحدة (4) .
ب- ومن جهة المعنى:
1- أنه أحد نوعي القصاص فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على الواحد كالقصاص على الأنفس (5) .
2- أن كل جناية لو انفرد بها الواحد أقيد، فوجب أن يقاد فيها الجماعة إذا اشتركوا فيها كالجناية على النفوس (6) 3 - أنه قصاص يستحق في النفس فوجب أن يستحق في الطرف قياسا على ما لو كان الجاني شخصا واحدا (7)
4- أن حرمة النفس أشد من حرمة الطرف، فلما أقيدت النفوس بنفس فأولى أن تقاد الأطراف بطرف (8) .
وقد أجيب عن قياس ما دون النفس على النفس من عدة أوجه، منها:
__________
(1) انظر: البناية 12/160، الحاوي 12/32، المغني 11/494.
(2) انظر: البناية 12/160، البحر الرائق 8/355، حاشية ابن عابدين 6/557.
(3) انظر: المغني 11/494، شرح الزركشي 6/78.
(4) انظر: الحاوي 12/32، المغني 11/495.
(5) انظر: المهذب 2/178، المغني 11/495، شرح الزركشي 6/77.
(6) انظر: الحاوي 12/32.
(7) انظر: المصدر السابق.
(8) انظر: الحاوي 12/32.(47/332)
أ- أن الأطراف يشترط فيها المساواة في النفع والقيمة، لهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء، ولا يد الحر بيد العبد، ولا يد الرجل بيد المرأة، بخلاف النفس، فإنها لا يشترط فيها غير المساواة في العصمة، لذا تقتل النفس السالمة من العيوب بقتل المعيبة، وكذا الاثنان بالواحد (1) .
ب- أن زهوق الروح لا يتجزأ فأضيف إلى كل واحد من الجماعة المشتركين في ذلك، وقطع العضو يتجزأ بدليل أنه يمكن أن يقطع البعض ويترك الباقي بخلاف القتل (2) .
أدلة القول الثاني:
... استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- أن النفس أشرف من الطرف، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد، المحافظة على ما دونها (3)
2- أن الأطراف يعتبر التساوي فيها، بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها، ولا أصيلة بزائدة، ولا يمينا بيسار ولا يسارا بيمين، ولا تساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما، ولا يعتبر التساوي في النفس إذ يجوز فيها أخذ الصحيح بالمريض، وصحيح الأطراف بمقطوعها وأشلها (4) .
3- أن كل واحد منهم قاطع لبعض العضو المقطوع؛ لأن ما انقطع بقوة أحدهم لم ينقطع بقوة الآخر، فلا يجوز قطع الكل بالبعض، ولا الاثنين بالواحد لانعدام المساواة، فصار كما إذا أمر كل واحد من جانب (5) .
4- أنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس القطع بحيث لو قطع كل منهم من جانب لم يجب القصاص بخلاف النفس (6) .
وأجيب عن اعتبار التساوي:
بأنه معتبر في الطرف كما في النفس لذا لم نأخذ مسلما بكافر ولا حرًا بعبد (7) .
وأجيب عن أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها:
__________
(1) انظر: البحر الرائق 8/356، حاشية ابن عابدين 6/557.
(2) انظر: البناية 12/161، البحر الرائق 8/356.
(3) انظر: المغني 11/495، شرح الزركشي 6/78.
(4) انظر: المغني 11/494.
(5) انظر: البناية 12/161، البحر الرائق 8/355.
(6) انظر: المغني 11/494.
(7) انظر: المغني 11/495.(47/333)
بأن الطرف ليس من النفس المقتص منها، وإنما يفوت تبعا، ولذلك كانت ديتها واحدة، بخلاف اليد الشلاء والناقصة مع الصحيحة فإن ديتها تختلف (1) .
5- أن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا فوجب قطع الجماعة بالواحد زجرا عنه مخافة أن يتخذ ذلك وسيلة إلى كثرة القتل، والاشتراك المختلف فيه لا يقع إلا في غاية الندرة، فلا حاجة إلى الزجر عنه (2) .
6- أن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد، وإيجابه على المشتركين في العضو لا يحصل به الزجر عن ذلك ولا عن شيء من الاشتراك إلا عن صورة نادرة الوقوع، بعيدة الوجود، يحتاج في وجودها إلى تكلف، فإيجاب القصاص للزجر عنها يكون منعا لشيء ممتنع بنفسه لصعوبته، وهذا لا فائدة فيه، بخلاف الاشتراك في النفس (3) .
الراجح:
... بعد عرض أقوال العلماء وأدلتهم في حكم القصاص من الجماعة عند اشتراكهم في قطع طرف أحد فإنه يظهر لي من أدلة أصحاب القول الأول والثاني: أنه لم يثبت في المسألة نص من الكتاب أو السنة، بل غاية ما تمسك به القائلون بمشروعية القصاص من الجماعة والحالة ما ذكر هو الأثر المروي عن علي رضي الله عنه، وهذا قول صحابي لم يعرف له مخالف في عصره فيكون إجماعا سكوتيا، إلا أن يقال أن لازم قول من قال بعدم جواز قتل الجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – يقتضي ألا يجيز أولئك الصحابة – رضي الله عنهم – القصاص من الجماعة للواحد فيما دون النفس، وإن كان لازم القول ليس قولا.
... أما ما استدل به كل من أصحاب القولين من المعقول، فله حظ من النظر لوجاهته وقوته، وإن كان بعضه أولى في الاعتبار من بعض. وبناء على ذلك فإنه يترجح لي القول: بأن يقتص من الجماعة للواحد فيما دون النفس، لما يلي:
__________
(1) انظر: المصدر السابق.
(2) انظر: البناية 12/162، البحر الرائق 8/356، المغني 11/394.
(3) انظر: المغني 11/494.(47/334)
1- ثبوت ذلك عن علي -رضي الله عنه- من غير العلم بمخالف له من الصحابة، وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي حجة إذا لم يعلم له مخالف.
2- أن إيجاب القصاص على الجماعة المشتركين في الجناية على الواحد في العضو أو في الجرح يحصل به الزجر عن الاعتداء على الغير.
3- أن حفظ النفس مقصد شرعي، فكما حافظت الشريعة على النفس فإنها حافظت على ما دونها من الجرح أو العضو. والقول بعدم القصاص على الجماعة في هذه الحالة يفضي إلى تفويت مقصد الشرع في الأمر، وقد يفتح باب جعل ذلك ذريعة إلى انتشار الفساد في الأرض.
4- أن كل واحد من المشتركين في الجناية يصدق عليه أنه متعد على الغير فيحكم عليه حكمه. والله أعلم.
الخاتمة
... بعد تمام هذا البحث أشكر الله تبارك وتعالى على ما منَّ به عليَّ من نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومنها ما يسر لي من إنهاء هذا البحث، والذي أحب أن أختمه بذكر أهم ما توصلت إليه من نتائج وتتلخص في الآتي:
1- أن الشريعة الإسلامية حفظت نفس الإنسان من أن تقتل بغير حق، لذا أوجب القصاص على من اقترف جريمة القتل العمد إذا توفرت شروط القصاص، وهذا كفيل بأن يوفر للناس الأمن والاطمئنان؛ لأن من أراد القتل إذا عرف أنه يقتص منه فإنه يمتنع من هذا الفعل.
2- أن الجماعة المشتركين في قتل الواحد يقتلون به على القول الراجح زجرا لهم ولغيرهم إذ يترتب على القول بعدم القصاص منهم كثرة القتل في المجتمع من ثم استفحاله فيه مما يؤدي إلى أن من أراد قتل آخر اشترك مع غيره ليسقط القصاص عنه.
3- أنه إذا اشترك أب وأجنبي في قتل الولد يجب القصاص على الأجنبي.
4- وجوب القصاص على البالغ إذا اشترك مع مجنون وصبي.
5- أن الجماعة إذا اشتركوا في الجناية بجرح إنسان أو قطع عضو من أعضائه فإنه يقتص منهم كذلك منعا للاعتداء وزجرا عن الفساد في الأرض وتحقيقا للأمن.(47/335)
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: بترتيب الأمير علاء الدين بلبان.
- أحكام القرآن: لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص المتوفى 370 هـ.
- الاختيار لتعليل المختار: لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي المتوفى 683 هـ.
تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. الناشر: مكتبة محمد علي صبيح وأولاده – القاهرة.
- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: لمحمد ناصر الدين الألباني. إشراف زهير الشاويش. الطبعة الأولى 1399 هـ. الناشر: المكتب الإسلامي.
- الاستذكار: لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر المتوفى 463 هـ.
الطبعة الأولى 1414 هـ. الناشر: دار قتيبة للطباعة النشر، دمشق، ودار الوغى – حلب، القاهرة.
- الأشراف على مسائل الخلاف: للقاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المتوفى 422 هـ. الناشر: مطبعة الإدارة – الطبعة الأولى.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: لمحمد الأمين محمد المختار الشنقيطي.
الطبعة الثانية عام 1400 هـ على نفقة محمد بن عوض بن لادن.
- الأم: للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى 204 هـ.
طبعة الشعب، القاهرة.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد: لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي المتوفى 885 هـ.
تحقيق: محمد حامد الفقي. الطبعة الأولى 1376 هـ بمطبعة السنة المحمدية، القاهرة.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: لملاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني المتوفى 587 هـ.
الطبعة الثانية. الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، 1402 هـ.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى 595 هـ.
الناشر: دار المعرفة – بيروت.(47/336)
- البناية في شرح الهداية: لأبي محمد محمود بن أحمد العيني المتوفى 855 هـ.
الطبعة الثانية 1411 هـ. دار الفكر – بيروت.
- البيان والتحصيل: لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى 520 هـ.
تحقيق: د / محمد حجي. الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، 1404 هـ.
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي المتوفى 743 هـ.
الطبعة الثانية بالأوفست، دار المعرفة – بيروت.
- التعريفات: للشريف علي بن محمد الجرجاني. دار الكتب العلمية.
- تفسير القرآن العظيم: لعماد الدين إسماعيل بن كثير المتوفى 774 هـ.
الناشر: دار إحياء الكتاب، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
- الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى 671 هـ.
الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت – طبعة معاده بالأوفست.
- الجوهرة النيرة شرح مختصر القدوري: لأبي بكر بن علي العروف بالحداد المتوفى 800 هـ.
الناشر: مير محمد كتب خانة – كرتشي.
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: للعلامة محمد بن عرفة الدسوقي.
الطبعة الثالثة – المطبعة الأميرية ببولاق – مصر.
- حاشية رد المحتار على المختار، المعروفة بحاشية ابن عابدين.لمحمد أمين بن عمر الدمشقي – الشهير بابن عابدين – المتوفى 1252 هـ.
مع التكلمة لنجل المؤلف. الطبعة الثانية. دار الفكر – بيروت.
- الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي: لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي.
تحقيق: علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود. الطبعة الأولى 1414 هـ، دار الكتب العلمية – بيروت.
- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: لسيف الدين أبي بكر بن أحمد الشاشي القفال.
تحقيق: د / ياسين أحمد دراكه. الناشر: مكتبة الرحالة الحديثة – عمان.
- الذخيرة: لشهاب الدين أبي العباس أحمد إدريس الصنهاجي الشهير بالقرافي.(47/337)
تحقيق: د / محمد حجي. الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي – بيروت.
- روضة الطالبين وعمدة المفتين: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ.
الطبعة الثانية 1405 هـ. إشراف زهير الشاويس. المكتب الإسلامي.
- سبل السلام شرح بلوغ المرام: لمحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى 1182 هـ.
الطبعة الرابعة 1379 هـ. الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
- سنن أبي داود: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى 275 هـ.
تحقيق: عزت الدعاس، طبع محمد علي السيد – حمص.
- سنن ابن ماجه: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني المتوفى 275 هـ.
تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: عيسى البابي.
- سنن الترمذي «الجامع الصحيح» : لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي المتوفى 279 هـ.
- سنن الدارقطني: للحافظ علي بن عمر الدارقطني المتوفى 385 هـ.
الطبعة الرابعة 1406 هـ. عالم الكتب – بيروت.
- السنن الكبرى: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي المتوفى 458 هـ. الناشر: دار الفكر.
- سنن النسائي: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى 303 هـ.
بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية السندي. الناشر: دار الفكر – بيروت.
- شرح الزركشي على مختصر الخرقي: لشمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى 772 هـ.
تحقيق: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. الناشر: مطابع العبيكان – الرياض.
- شرح السنة: لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البيهقي المتوفى 516 هـ.
تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش. الطبعة الأولى 1390 هـ. المكتب الإسلامي.
- الشرح الكبير: لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المتوفى 682 هـ.
الطبعة الأولى 1417 هـ. هجر للطباعة والنشر. مطبوع مع المقنع والإنصاف.
- شرح النووي على صحيح مسلم: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ.
الناشر: دار الفكر – بيروت.(47/338)
- صحيح البخاري: لمحمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256 هـ.
بتصحيح محمد ذهني. طبعة بولاق عام 1315 هـ.
- صحيح مسلم: لمسلم بن حجاج القشيري المتوفى 261 هـ. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
الناشر: عيسى البابي الحلبي عام 1375 هـ.
- غاية الاختصار: لأبي شجاع الحسين بن أحمد الأصفهاني الشافعي.
الطبعة الأولى عام 1412 هـ. دار الخير، وهو مطبوع مع شرحه كفاية الأخيار.
- الفتاوى الهندية: للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند.الطبعة الثالثة 1393 هـ. المكتبة الإسلامية تركيا.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى 852 هـ.
ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: دار الفكر.
- الفروع: لأبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي المتوفى 762 هـ.
الطبعة الثانية. الناشر: عالم الكتب.
- القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي المتوفى 817 هـ.
الناشر: دار الجيل – بيروت.
- قوانين الأحكام الشرعية: لأبي القاسم محمد بن جزيء المتوفى 741 هـ.
الناشر: دار العلم – بيروت.
- الكافي في فقه أهل المدينة: لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي المتوفى 463 هـ.
تحقيق: محمد بن محمد بن أحمد ولد ماديك الموريتاني. الناشر: المحقق عام
1399 هـ.
- كشاف القناع على متن الإقناع: لمنصور بن يونس البهوتي المتوفى 1052 هـ.
الناشر: عالم الكتب – بيروت، 1403 هـ.
- كنز الدقائق: لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن حافظ الدين النسفي.
المطبعة الأميرية ببولاق لعام 1363 هـ. مطبوع مع شرحه تبيين الحقائق.
- لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المتوفى 711 هـ.
الناشر: دار صادر – بيروت.
- المبدع في شرح المقنع: لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي المتوفى 884 هـ.
الناشر: المكتب الإسلامي 1402 هـ.
- المبسوط: لشمس الدين محمد بن أحمد السرخسي المتوفى 483 هـ.(47/339)
دار المعرفة – بيروت، 1406 هـ.
- المجموع شرح المهذب: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ. مع تكملته للسبكي والمطيعي. الناشر: دار الفكر.
- المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: لأبي البركات عبد السلام بن عبد الله الحراني المتوفى 652 هـ. الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت.
- المحلى: لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى 456 هـ.
تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي. الناشر: دار الآفاق الجديدة – بيروت.
- مختصر الطحاوي: لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفى 321 هـ.
حققه أبو الوفاء الأفغاني. الطبعة الأولى 1406 هـ. دار إحياء العلوم – بيروت.
- مختصر القدوري: لأبي الحسن أحمد بن محمد البغدادي القدوري المتوفى 428 هـ.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل: وضعه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني المتوفى 241 هـ.
الطبعة الرابعة سنة 1403 هـ. الناشر: المكتبة الإسلامي – بيروت.
- المصباح المنير: لأحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي المتوفى 770 هـ.
الطبعة الأولى. الناشر: المطبعة الأميرية ببولاق.
- المصنف: لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211 هـ.
تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. الطبعة الأولى 1392 هـ. الناشر: المكتب الإسلامي.
- المصنف: لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة المتوفى 235 هـ.
تحقيق: الأستاذ عامر العمري الأعظمي. الطبعة الثاني 1399 هـ. الدار السلفية – الهند.
- معالم التنزيل: لأبي محمد بن الحسين بن مسعود الفراء البغوي المتوفى 516 هـ.
تحقيق: خالد عبد الرحمن – مروان سواد. الطبعة الأولى. دار المعرفة 1406 هـ.
- المعونة: للقاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المتوفى 516 هـ.
تحقيق: حميش خميس. الناشر: المكتبة التجارية للباز مكة المكرمة.
- المغني: لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى 620 هـ.(47/340)
تحقيق: د / عبد الله بن عبد المحسن التركي ود/ عبد الفتاح الحلو. الطبعة الثانية 1412 هـ. هجر للطباعة والنشر – القاهرة.
- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: لشمس الدين محمد بن أحمد الشربيني الخطيب المتوفى 977 هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1377 هـ.
- المنتقى شرح موطأ الإمام مالك: لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي 494 هـ.
الطبعة الثانية طبعة معادة بالأوفست 1403 هـ. الناشر: دار الكتاب العربي.
- المهذب في فقه الإمام الشافعي: لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى 476 هـ.
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي وأولاده، عام 1396 هـ.
- مواهب الجليل شرح مختصر خليل: لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحطاب المتوفى 954 هـ.
الطبعة الثالثة عام 1412 هـ، دار الفكر.
- الموطأ: وضعه إمام دار الهجرة مالك بن أنس المتوفى 179 هـ.
ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: عيسى البابي الحلبي 1370 هـ.
- المنهاج: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ.
مطبوع مع معني المحتاج. مطبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1377 هـ.
- النهاية في غريب الحديث والأثر: لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن الأثير الجزري المتوفى 606 هـ. تحقيق: محمود بن محمد الطناحي. الناشر: المكتبة الإسلامية.
- الهداية شرح بداية المبتدي: لبرهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفى 593 هـ.
الناشر: دار المعرفة – بيروت 1399 هـ.(47/341)
مقدَّمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد؛ فقد كان من جملة ما اعتنى به علماء العربية دراسة النحو العربي عامة، وأدوات المعاني خاصة، فقد تتبعوا أحوال الأدوات ودرسوها من مختلف جوانبها:
أصلها، عملها، شروط عملها، إهمالها، زيادتها، حذفها، أقسامها، معانيها، لغاتها، اسميتها، حرفيتها، اتصالها بغيرها، بساطتها أو تركيبها، ….
وقد سلك النحويون في دراستهم أدوات المعاني ثلاثة مناهج:
المنهج الأول: درس النحاة الأدوات ضمن أبواب النحو ومباحثه ومسائله، كأمثال سيبويه في "الكتاب"، والمبرد في "المقتضب"، والفراء في "معاني القرآن"، وابن السراج في "الأصول في النحو"، والزّجاجيّ في "الجُمل"، والفارسيّ في "الإيضاح العضدي، وكتب المسائل"، وابن جنّى في "اللمع" والزمخشريّ في "المفصّل"، وابن الحاجب في "الكافية"، وابن مالك في "التسهيل" وغيرهم ممن تناول الكتب السابقة بالشرح.
المنهج الثاني: درس بعض النحاة أدوات المعاني دراسة مستقلة، إذْ أفردوها بكتب متخصصة تتناولها بالدراسة والاستقصاء من مختلف جوانبها، من هذه المؤلفات: حروف المعاني" للّزجاجيّ، و"معاني الحروف" للرّماني، و"الأُزهيّة" للهرويّ، و"رصف المباني" للمالقيّ، و "الجنى الداني" للمراديّ، و"جواهر الأدب" للإربلّيّ، و"مغني اللبيب" لابن هشام الأنصاريّ، وغيرها.
المنهج الثالث: سلك بعض النحاة مسلكاً آخر في دراسة أدوات المعاني، هذا المسلك يتمثل في دراسة أداةٍ واحدةٍ، إذْ تُدْرَسُ من مختلف جوانبها، وممّن سلك هذا المنهج الزّجاجيّ في "كتاب اللامات"، وأحمد بن فارس في "مقالة كلاّ"، وأبو جعفر الطبريّ في "رسالة كلاّ في الكلام والقرآن"، وابن هشام الأنصاريّ في رسالته "المباحث المَرْضِيّة المتعلقة بمَنْ الشرطيّة" وعثمان النجديّ في رسالة "أيّ المشددة" وغَيرهم من النحويين.(47/342)
لذلك أردت أن أقوم بدراسة "إِذَنْ" من مختلف جوانبها، والذي شجعني لدراستها، أنّني كنت أقرأ (باب إِذَنْ) في كتاب (المقتضب) للمبرد (2/12) ، واستوقفني قوله: (فهذه حال "إذَنْ" إلى أَنْ نُفرِدَ باباً لمسائلها إن شاء الله) ، علّق عضيمة على المسألة بقوله: (لم يُفرد باباً لمسائل "إِذَنْ"، وإنّما استعرض النواصب في الجزء الرابع) .
عندئذ شمرت عن ساعد الجدّ، وعقدت العزم على تتبع مسائلها في بطون أمّات الكتب النحوية، وكتب أدوات المعاني، والمعاجم، والتفسير، وعلوم القرآن، والقراءات.
وبعد جمع المسائل، ودراستها، تمّ تقسيمها على ثلاث عشرة مسألةً، يسبقها مقدمةٌ، ويتلوها الخاتمة، ثم فهرس المصادر والمراجع، ثم فهرس الموضوعات.
وقد جعلت هذه الدراسة بعنوان: (مسائل "إِذَنْ") .
أمّا المسائل التي درستها فهي على النحو التالي:
المسألة الأولى: أصل "إِذَنْ".
المسألة الثانية: عملها.
المسألة الثالثة: شروط عمل "إِذَنْ".
المسألة الرابعة: معناها.
المسألة الخامسة: حكم "إِذَنْ" إِن وقعت بين شيئين متلازمين.
المسألة السادسة: حكم "إِذَنْ" إذا فُصل بينها وبين الفعل بفاصلٍ.
المسألة السابعة: حكم" إِذَنْ "الواقعة بين حرف العطف والفعل المستقبل.
المسألة الثامنة: حكم إلغاء عمل "إِذَنْ" مع استيفاء شروط العمل.
المسألة التاسعة: حكم "إِذَنْ" إذا وقع بعدها الماضي مصحوباً باللام.
المسألة العاشرة: إعراب الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ".
المسألة الحادية عشرة: تشبيه"إِذَنْ"في عوامل الأفعال بـ"ظَنّ"في عوامل الأسماء
المسألة الثانية عشرة: الوقف على "إِذَنْ".
المسألة الثالثة عشرة: كتابتها.
أرجو أن أكون ما قدمته نافعاً، ولمسائل "إِذَنْ" جامعاً، والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد وآله وصحبه.(47/343)
المسألة الأولى: أصل "إِذَنْ": (1)
اختلف النحويون في أصل (إِذَنْ) ، هل هي حرفٌ أو اسمٌ؟ وهل هي بسيطةٌ أو مركبةٌ؟ ذهب الجمهور إلى أنّها حرفٌ، وذهب بعض الكوفيين إلى أنّها اسمُ ظرفٍ، وأصلها "إذا" الظرفية لحقها التنوين عوضاً من الجملة المحذوفة، إذ الأصل في (إِذَنْ أكرمَك) أن تقول: (إذا جئتني أكرمُك) ، حُذف ماتضاف إليه "إذا"، وعُوّض منه التنوين كما عَوّضوا في (حينئذٍ) ، وحُذفت الألف لالتقاء الساكنين، ونُقلت إلى الجزائية فبقى فيها معنى الربط والسبب.
وذهب رضيّ الدين إلى ماذهب إليه بعض الكوفيين، فقال: "الذي يلوح لي في "إِذَنْ" ويغلب في ظنّي أنّ أصله "إذْ" حذفت الجملة المضاف إليها، وعُوّض منها التنوين لمّا قُصد جعله صالحاً لجميع الأزمنة الثلاثة بعدما كان مختصاً بالماضي، وذلك أنّهم أرادوا الإشارة إلى زمان فعلٍ مذكورٍ فقصدوا إلى لفظ "إذْ" الذي هو بمعنى مطلق الوقت لخفة لفظه، وجرّدوه عن معنى الماضي وجعلوه صالحاً للأزمنة الثلاثة، وحذفوا منه الجملة المضاف هو إليها، لأنّهم لمّا قصدوا أن يشيروا به إلى زمان الفعل المذكور، دلّ ذلك الفعل السابق على الجملة المضاف إليها، كما يقول لك شخصّ مثلاً: "أنا أزورك"، فتقول: "إِذَنْ أكرمَك"، أي: "إذْ تزورني أكرمك"، أي: وقت زيارتك لي أكرمك، وعُوّض التنوين من المضاف إليه؛ لأنّه وُضع في الأصل لازم الإضافة، فهو كـ"كلٍّ وبعضٍ"، إلاّ أنّهما معربان و"إذْ" مبنيّ…" (2) .
__________
(1) ينظر نتائج الفكر 134، وشرح التسهيل 4/20، وشرح الكافية للرضي 2/235،238، ورصف المباني 157، والارتشاف 4/1650، والجنى الداني 363، وتوضيح المقاصد 4/190، وجواهر الأدب 339، ومغني اللبيب 15، والمساعد 3/74، والتصريح 2/234، والهمع 2/6، والأشموني 3/290، والنحو الوافي 4/308.
(2) شرح الئكافية 2/235.(47/344)
ويؤكد على اسميتها في أكثر من موضعٍ بقوله: "وإذا جاز لك إضمار "أَنْ" بعد الحروف التي هي: الواو، والفاء، وأو، وحتى، فهلاّ جاز إضمارها بعد الاسم – يعني إِذَنْ - وإنّما لم يجز إظهار "أَنْ" بعد "إِذَنْ" لاستبشاعهم للتلفظ بها بعدها" (1) .
وقال في موضعٍ آخر: "و"إِذَنْ" كنواصب الفعل التي لا يُفصل بينها وبين الفعل، إلاّ أنّ "إِذَنْ" لمّا كان اسماً بخلاف أخواته جاز أن يُفصل بينه وبين الفعل" (2) .
بل إِنّه رجّح اسميتها بقوله: "وقَلْبُ نونها في الوقف ألفاً يُرجّح جانب اسميّتها" (3) .
واختلف النحويون أيضاً في بساطتها وتركّبها، فذهب الجمهور إلى أنّها بسيطة لامركبة من (إذْ وأنْ) أو (إذا وأنْ) .
وذهب الخليل في أحد أقواله فيما حكى عنه غير سيبويه إلى أنّها حرفٌ مركبٌ من "إذْ" و"أَنْ"، وغَلب عليها حكم الحرفية، ونُقلت حركة الهمزة إلى الذّال، ثمّ حُذفت والتُزم هذا النقل.
وممن ذهب إلى هذا الرأي بعض الكوفيين، وابن مالك، فقال: "… وليس في هذا نصٌّ على أنّ انتصاب المضارع بعد "إِذَنْ" عند الخليل بـ"أَنْ" مضمرة، لجواز أن تكون مركبةً مع "إذْ" التي للتعليل، و"أَنْ" محذوفا همزتها
بعد النقل، والقولُ به على ضعفه أقربُ من القول بأنّ "إِذَنْ" غيرُ مركبة".
ويؤكّد ابن مالك تركّبها بقوله: "والقولُ بأنّ "إِذَنْ" مركبةٌ من "إذْ" و"أَنْ" أسهلُ منه" (4) .
وذهب أبو عليّ الرُّنديّ تلميذ السهيليّ إلى أنّها مركبةٌ من "إذا" و"أَنْ"، حُذفت همزة "أَنْ"، ثم حُذفت ألف "إذا" لالتقاء الساكنين، ثمّ تُعطى ما تُعطى كلّ واحدة منهما، فتعطى الرّبط كـ (إذا) ، والنّصب كـ (أنْ) (5) .
وقد ردّ المالقيّ على من زعم أنّ "إِذَنْ" مركبةٌ، بقوله: "وهذا فاسدٌ من وجهين:
__________
(1) شرح الكافية 2/237.
(2) شرح الكافية 2/237.
(3) شرح الكافية 2/238.
(4) شرح التسهيل 4/20، وانظر شرح الكافية للرضيّ 2/238، ورصف المباني 157.
(5) الارتشاف 4/1650، والهمع 2/6.(47/345)
أحدهما: أنّ الأصل في الحروف البساطة، ولا يُدّعى التركيب إلاّ بدليلٍ قاطعٍ.
والثاني: أنّها لو كانت مركبةً من "إذْ" و"أَنْ" لكانت ناصبةً على كلّ حالٍ، تقدمت أو تأخرت، وعدمُ العمل في المواضع المذكورة قبلُ دليلٌ على عدم التركيب" (1) .
المسألة الثانية: عملها:
اختلف النحويون أيضاً في عمل "إِذَنْ" إذا جاء الفعل المضارع منصوباً بعدها، ما النّاصب له؟ هل النّاصب له "إِذَنْ" أو "أَنْ" مضمرة بعدها؟.
ذهب سيبويه وأكثر النحويين إلى أنّها تنصب بنفسها، وهو ماسمعه عن الخليل، قال سيبويه: "اعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت جواباً، وكانت مبتدأةً عملت في الفعل عمل "أُرى" في الاسم إذا كانت مبتدأةً، وذلك قولك:
"إِذَنْ أجيئَك" و"إِذَنْ آتيَك" (2) .
وذهب الخليل بن أحمد في أحد قوليه إلى أنّها ليست ناصبةً بنفسها، بل الفعل بعد "إِذَنْ" منصوب بـ"أَنْ" مضمرة، وهو مارواه عنه أبو عبيدة.
قال سيبويه: "وقد ذكر لي بعضهم أنّ الخليل قال: "أَنْ" مضمرة بعد "إِذَنْ"، ولو كانت مما يُضمر بعده "أَنْ" فكانت بمنزلة اللاّم وحتّى لأضمرتها إذا قلت: "عبدُ الله إِذَنْ يأتيك"، فكان ينبغي أن تَنصب "إِذَنْ يأتيَك"؛ لأنّ المعنى واحد، ولم يُغيَّر فيه المعنى الذي كان في قوله: "إِذَنْ يأتيَك عبدُ الله"، كما يَتغيّر المعنى في حتّى في الرفع والنصب، فهذا مارَووا، وأمّا ماسمعتُ منه فالأوّلُ" (3) .
وممن ذهب إلى مذهب الخليل الزّجاج، والفارسيّ (4) ، ورضيّ الدين الاستراباذيّ.
قال الزّجاج بعد أن حكى رأيَ سيبويه ورأيَ الخليل: "وكلا القولين حسنٌ جميلٌ إلاّ أنّ العامل – عندي – النصبَ في سائر الأفعال "أَنْ"، وذلك أجود، إمّا أن تقع ظاهرة أو مضمرة".
__________
(1) رصف المباني 157.
(2) الكتاب 3/12.
(3) الكتاب 3/16، والنكت في تفسير الكتاب 1/698.
(4) ينظر رأيهما في الارتشاف 4/1650، والجنى الداني 364، وتوضيح المقاصد 4/190، والهمع 2/6.(47/346)
وقال في تأويل "إِذَنْ أكرمَه": "تأويله إنْ كان الأمرُ على ما تصِفُ وَقَعَ إِكْرامُه، فـ"أَنْ" مع "أُكرمُه" مقدرةٌ بعد "إِذَنْ" " (1) .
أَمّا الفارسيّ فذهب إلى أنّها العاملةُ بنفسها، وهو مخالفٌ لما نُسب إليه، فقال: "وممّا ينتصب الفعل بعده من الحروف التي لاتضمر "إِذَنْ"، وإنّما تعمل في الفعل إذا كانت جواباً، …" (2) ، وربّما قال به في كتاب آخر، أو أنّه يقول بهما.
أَمّا الرضيّ فقد دافع عن مذهب الخليل وردّ على سيبويه بقوله: "ويمكن توجيه هذا القول على ماذكرنا" ثمّ قال: "وإذا جاز لك إضمار "أَنْ" بعد الحروف التي هي: الواو، والفاء، وأو، وحتّى، فهلاّ جاز إضمارها بعد الاسم، وإنّما لم يجز إظهار "أَنْ" بعد "إِذَنْ" لاستبشاعهم للتلّفظ بها بعدها"
ويؤكّد ذلك أيضاً بقوله: "فلما احتمل "إِذَنْ" التي يليها المضارع معنى الجزاء، فالمضارع بمعنى الاستقبال، واحتمل معنى مطلق الزمان، فالمضارع بمعنى الحال، وقصد التنصيص على معنى الجزاء في "إِذَنْ"، نصب المضارع بـ"أَنْ" المقدرة؛ لأنّها تُخلّص المضارع للاستقبال، …".
ويُبرهن بأنّها غيرُ عاملة بنفسها بقوله: "وتجويز الفصل بينها وبين منصوبها بالقسم، والنِّداء، والدعاء، يُقوِّى كونها غيرَ ناصبة بنفسها، كـ"أَنْ"، و"لَنْ"، إذْ لايُفصل بين الحرف ومعموله بما ليس من معموله" (3) .
__________
(1) معاني القرآن 2/63.
(2) الإيضاح 320، والمقتصد 1054.
(3) شرح الكافية 2/237، 238.(47/347)
أمّا ابن مالك فيرى أنّه لايوجد نصٌّ على أنّ الخليل يذهب إلى أنّ الفعل المضارع منصوبٌ بـ"أَنْ" مضمرة بعد "إِذَنْ"، وما رواه عنه أبو عبيدة لانصَّ فيه على مذهب الخليل، إذْ قال: "وما عزاه إلى الخليل من أنّ الفعل بعد "إِذَنْ" منصوبٌ بـ"أَنْ" مضمرة، إِنّما مستنده فيه قول السيرافيّ في أوّل شرح الكتاب: (1) "روى أبو عبيدة عن الخليل أنّه قال: "لاينصب شيء من الأفعال إلاّ بـ"أَنْ" مظهرة أو مضمرة في: كي، ولَنْ، وإِذَنْ، وغير ذلك"، وليس في هذا نصّ على أنّ انتصاب المضارع بعد "إِذَنْ" عند الخليل بـ"أَنْ" مضمرة، لجواز أن تكون مركبةً مع "إذْ" التي للتعليل، و"أَنْ" محذوفاً همزتها بعد النقل، على نحو مايراه في انتصابه بعد "لَنْ"، والقول به على ضعفه أقرب من القول بأنّ "إِذَنْ" غيرُ مركبةٍ، وانتصاب المضارع بعدها بـ"أَنْ" مضمرة؛ لأنّه لايستقيم إلاّ على أنْ يكون مابعد "إِذَنْ" في تأويل مبتدأٍ لازمٍ حُذف خبره، أو "إِذَنْ" قبله ليست حرفاً بل ظرفاً مخبراً به عن المبتدأ، وأصلها "إذا" فقُطعت عن الإضافة وعُوّض عنها التنوين، وكلاهما في غايةٍ من التكلف، والقول بأنّ "إِذَنْ" مركبة من "إذْ وأَنْ" أسهل منه " (2) .
هذه آراء وأدلة القائلين بأنّ "إِذَنْ" ليست ناصبة بنفسها، وأَنّ "أَنْ" بعدها مقدّرةٌ، ماعدا ابن مالك فقد دافع عن مذهب الخليل وبيّن وجهة نظره.
__________
(1) شرح الكتاب للسيرافي 1/84.
(2) شرح التسهيل 4/20.(47/348)
أَمّا جمهور النحويين فيرون أنّها الناصبة للمضارع بنفسها، لا "أَنْ" مضمرة بعدها، وقد انتصر المالقيّ لمذهب الجمهور مدلّلا على فساد المذهب الآخر بقوله: "وكأنّ من نصب بإضمار "أَنْ" قاسها على "حتى، وكي، ولامها، ولام الجحود"، ولا يصحُّ القياس على ذلك؛ لأنّ حتى، وكي، ولامَها، ولامَ الجحود إنّما تنصب بإضمار "أَنْ"؛ لجواز دخولها على المصادر، وربما ظهرت "أَنْ" مع بعضها في بعض المواضع على ما يُبيّن بعد، ولما كانت "إِذَنْ" لايصحُّ دخولها على مصدرٍ ملفوظٍ به ولا مقدّرٍ، ولايصحُّ إظهار "أَنْ" بعدها في موضعٍ من المواضع، لم يجز القياس في نصب مابعدها على ماذُكر" (1) .
المسألة الثالثة: شروط عمل "إِذَنْ" (2) :
ذهب أكثر النحويين إلى أنّ "إِذَنْ" حرف ينصب المضارع بثلاثة شروط، وبعض النحاة جعلها أربعة، وبعضهم فصّل الشروط فجعلها خمسة، ومن النحاة من اشترط في نصبها المضارعَ ستةَ شروطٍ:
الأول: أن تكون "إِذَنْ" واقعةً في صدر الكلام:
أي: في أوّل الكلام؛ لأنّها حينئذٍ في أشرف محالها، فإن تأخرت أُلغيت حتماً نحو: "أكرمُك إِذَنْ" بلا خلاف؛ لأنّ الفعل المنصوب لايجوز تقديمه علىناصبه، أَمّا إذا توسطت، أي: وقعت حشواً في الكلام وذلك بأن اعتمد مابعدها على ماقبلها، مثل أن تتوسط بين الشرط وجزائه، وبين القسم وجوابه، وبين المبتدأ وخبره، وجب إلغاؤها في الصور كلّها.
__________
(1) رصف المباني 157.
(2) ينظر الأصول 2/148، وشرح الكتاب للسيرافي 1/84، والإيضاح 320، والمقتصد 2/1054، وشرح الملحة للحريري 342، وكشف المشكل 1/540، وابن يعيش 9/14، والملخّص 138، وشرح الكافية للرضيّ 2/237، وتوضيح المقاصد 4/187، والجنى الداني 361، وجواهر الأدب 339، وشرح قطر الندى 62، والمغني 16، والتصريح 2/234، والهمع 2/6، والأشباه والنظائر 2/135.(47/349)
فإن تقدمها كلام وتمّ دونها جاز أن تستأنف بها، وتنصب ويكون جواباً، كما لو لم يتقدمها شيء، وذلك نحو قول عبد الله بن عَنَمة الضبيّ:
اُرْدُدْ حِمَارَكَ لاتُنْزَعْ سَوِيَّتُهُ ... إِذَن يُرَدَّ وقَيْدُ العَيرِ مَكْروبُ (1)
قال ابن السراج: "فهذا نصْبٌ؛ لأنّ ماقبله من الكلام قد استغنى وتمَّ، ألا ترى أنّ قوله: "اُرْدُدْ حمارك لاتُنزعْ سَوِيَّتُهُ" كلامٌ قد تمَّ، ثمّ استأنف كأنّه أجاب من قال: لا أفعلُ ذاك، فقال: "إِذَنْ يُردَّ وقَيدُ العَيرِ مكروبُ" " (2) .
الثاني: أن يكون الفعل المضارع بعدها مستقبلاً:
فإن كان حالاً فلا يُنصب، كقولك لمن يُحدّثك: "إِذَنْ أظنُّكَ صادقاً" فترفع؛ لأنّه حالٌ، والفعل المنصوب لايكون إلاّ مستقبلاً.
قال أبو عليّ الشلوبين: "وهو ألاّ تدخل إلاّ على مستقبل، فإذا أدخلناها على فعل حالٍ لم تعمل أصلاً وإن كانت متقدمة؛ لأنّه ليس في الدُّنيا ناصب يدخل على فعل حالٍ، فوجب لها هنالك الإلغاء" (3) .
الثالث: ألاّ يُفصل بين "إِذَنْ" والفعل بفاصل:
أي: أن يكون المضارع متصلاً بها لضعفها مع الفصل عن العمل فيما بعدها، فإنْ فُصلت بفاصل بطل عملها، إلاّ أن تُفصل بواحدٍ من اثنين، فإنّ الفصل بذلك كَلا فصلٍ، وهما: "القسم" و"لا"، وأجاز بعض النحويين الفصل بغير ماسبق ذكره، وهو ماسنوضحه بالتفصيل في موضعه.
وإلى الشروط الثلاثة التي سبق ذكرها أشار ابن مالك بقوله (4) :
__________
(1) البيت في المفضليات 383، وهو من شواهد الكتاب 3/14، والمقتضب 2/10، والأصول 2/148، وشرح الكتاب للسيرافي 1/84، والتعليقة 2/132، وشرح أبيات سيبويه 2/100، والصّاحبي 198، والنكت 1/699، وابن يعيش 7/16، وشرح التسهيل 4/21، وشرح الكافية 2/238، وشرح الجزولية 2/478، ورصف المباني 152.
(2) الأصول 2/148، وينظر التبصرة والتذكرة 1/396.
(3) شرح الجزولية 2/477.
(4) ألفية ابن مالك 60، وشرح الألفية لابن الناظم 665، وتوضيح المقاصد 4/187.(47/350)
وَنَصَبُوا بـ"إِذَنِ" الْمُسْتَقْبلاَ ... إِنْ صُدِّرَتْ، والْفِعْلُ بَعْدُ مُوصَلاَ
الرابع: أن تكون جواباً أو في تقدير الجواب:
قال الزمخشريّ: " و"إِذَنْ" جوابٌ وجزاءٌ، يقول الرجل: "أنا آتيك"، فتقول: "إِذَنْ أُكرمَك"، فهذا الكلام قد أجبته به وصيرت إكرامَك جزاءً له على إتيانه؛ وقال الزّجاج: (تأويلها إنْ كان الأمر كما ذكرت فإنّي أكرمُك" (1) .
وقال السيرافيّ: "وإنّما أردت إكراماً تُوقِعُه في المستقبل، فصارت بمنزلة "أَنْ" في وقوعها للمستقبل من الأفعال" (2) .
وقال ابن هشام: "والأكثر أن تكون جواباً لـ"إنْ أو لَوْ" ظاهرتين أو مقدرتين" (3) .
الخامس: ألاّ يكون الفعل الذي بعدها معتمداً على ما قبلها (4) :
قال الفارسيّ: "فإنِ اعتمَدْتَ بالفعل على شيءٍ قبلها رفعْتَ، وذلك قولك: "أنا إِذَنْ أكرمُك"، تُرفع؛ لأنّ الفعل معتمد على الابتداء الذي هو "أنا"، وكذلك: "إنْ تكرِمْني إِذَنْ أُكرمْك" " (5) .
السادس: ألاّ تقع "إِذَنْ" بعد حرف عطف (6) :
فإن وقعت بعد حرف عطف كالواو أو الفاء، نحو: "وإِذَنْ آتيك" أو "فإِذَنْ آتيك"، جاز فيها الوجهان: الإلغاء، والإعمال، والإلغاء أجود وأكثر، وبه قرأ القُرّاء.
المسألة الرابعة: معناها (7) :
__________
(1) المفصل 323، وابن يعيش 9/12، وانظر الأصول 2/148، والإيضاح 320، والمقتصد 2/1054، وشرح الملحة للحريري 342، وجواهر الأدب 339.
(2) شرح الكتاب 1/84.
(3) مغني اللبيب 15.
(4) القائلون بهذا الشرط هم القائلون بالشرط الذي قبله.
(5) الإيضاح 320.
(6) اشترط هذا الشرط الحيدرة اليمني في كشف المشكل 1/540، والأندلسيّ في شرح المفصل، ينظر الأشباه والنظائر 2/135.
(7) ينظر الكتاب 4/234، وابن يعيش 9/13، وشرح الجمل لابن عصفور 2/170،171، وشرح الجزولية 2/477، وشرح الكافية 2/236، والارتشاف 4/1654، ورصف المباني 151، والجنى الداني 364، والمغني 15، والتصريح 2/234، والهمع 2/6، ودراسات لأسلوب القرآن 1/64.(47/351)
قال سيبويه: "وأمّا "إِذَنْ" فجوابٌ وجزاءٌ" (1) .
قال أبو حيّان: "وتحرير معنى "إِذَنْ" صعبٌ، وقد اضطرب النّاس في معناها، وقد نصَّ سيبويه على أنّ معناها: "الجوَابُ والجزاءُ"، واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه" (2) .
نعم اختلف النحويون في فهم معناها، والذي يظهر من لفظه أنّها حيثما توجد يكون معناها الجواب والجزاء معاً، وهذا ما فهمه الأستاذ أبو عليّ الشلوبين (3) ، حيث حمل كلام سيبويه على ظاهره، وتكلّف في كلّ مكان وقعت فيه أنّها جوابٌ وجزاءٌ.
أمّا أبو عليّ الفارسيّ فإنّه فهم من كلام سيبويه أنّها قد تَرِدُ لهما، وهو الأكثر، وقد تتمحض للجواب فقط، نحو: أن يقول لك القائل: "أحبُّك"، فتقول: "إِذَنْ أَظُنُّكَ صادقاً" فلا يتصوّر هنا الجزاء (4) .
قال المالقيّ: "والصحيح أنّها شرط في موضعٍ، وجواب في موضعٍ، وإذا كانت شرطاً فلا تكون إلاّ جواباً، وهذا هو المفهوم من كلام سيبويه، لأنّه لم ينصّ على أنّهما معاً في موضعٍ واحدٍ".
وقد ردَّ ابن عصفور على شيخه الأستاذ أبي عليّ الشلوبين في تكلّفه لمعنى "إِذَنْ"، بقوله: "ففهم الأستاذ أبو علي الشلوبين هذا على أنّه شرط وجواب، وأخذ الجزاء بمعنى الشرط، والجواب جوابه فحيثما جاءت قدرها بفعلي الشرط والجزاء؛ فإذا قلت لمن قال لك: "أنا أزورُك"، "إِذَنْ أُكرمَك"، فمعناه: إِنْ تَزُرْني أكرمْك.
__________
(1) الكتاب 4/234، وينظر الصّاحبي 198.
(2) البحر المحيط 1/434.
(3) شرح الجزولية 2/477.
(4) التكملة 563، وينظر رصف المباني 151.(47/352)
فلمّا أخذها هذا المأخذ اضطر إلى هذا التقدير في قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (1) ، فلما قدّر: إن كنتُ فعلتُها فأنا ضالٌّ، جاءه إثبات الضلال لموسى عليه السلام؛ قال: ولم يرد إثبات الضلال لنفسه، فأثار إشكالاً على فهمه، فكان انفصاله عن هذا بأنْ قال: معنى قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (2) ، أي: بأنعمي، فقال له موسى عليه السلام: إنْ كنتُ فعلتُها كافراً بنعمتك فأنا من الضالين، أي: من الجاهلين بأنّ الوكزة تقضي على القبطيّ".
ثم قال ابن عصفور: "وكلامه معترَضٌ في هذا بيِّنُ الاعتراض؛ لأنّه بنى الأمر على أنّ " إِذَنْ" شرط وجواب، وليس كذلك، بل إنّما هي جوابٌ بمعنى أنّها لاتقال مبتدأة، ولابدّ أن يتقدمها كلام، فلا تقول أبداً:"إِذَنْ أزورَك" ابتداء، فهي جواب وتكون جزاءً، ولا يلزم أن يكون ذلك فيها مجموعاً" (3) .
وقد بيّن ابن هشام الأنصاريّ متى تكون "إِذَنْ" جواباً؟ بقوله: "والأكثر أن تكون جواباً لـ"إِنْ" أو "لو" ظاهرتين أو مقدرتين" (4) .
وخلاصة القول إنّ "إِذَنْ" تكون جواباً وجزاءً، فقد يجتمع فيها هذان، وقد ينفرد أحدهما، فإذا قلت لمن قال لك: "أنا أزورُك"، "إِذَنْ أُكرمَك"، فهذا جوابٌ وجزاءٌ؛ وإذا قال لك: "أُحبُّك"، فتقول له: "إِذَنْ أظنُّك صادقاً"، فهذا جواب لاجزاء معه، فعلى هذا لاتخلو من الجوابِ، وتكون في بعض المواضع جزاءً.
المسألة الخامسة:
حكم"إِذَنْ"إِن وقعت بين شيئين متلازمين (5) :
__________
(1) سورة الشعراء، آية "20".
(2) سورة الشعرا، آية "19".
(3) شرح الجمل لابن عصفور 2/170، 171.
(4) المغني 15، 16.
(5) ينظر الكتاب 3/14، والمقتضب 2/11، والتبصرة والتذكرة 1/396، وابن يعيش 7/16، وشرح الجزولية 2/479، وشرح الكافية 2/238، ورصف المباني 154، والارتشاف 4/1652، والتذكرة 559، والجنى الداني 361، والتصريح 2/234، والهمع 2/7.(47/353)
اشترط النحاة في عمل "إِذَنْ" أن تكون في صدر الكلام، فإن وقعت حشواً في الكلام بأَنِ اعتمد مابعدها على ماقبلها أُهملت، قال سيبويه: "واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين الفعل وبين شيءٍ الفعلُ معتمدٌ عليه فإنّها مُلغاةٌ لاتَنصب البتة، كما لاتَنصب "أُرى" إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: "كان أُرى زيدٌ ذاهباً"، وكما لاتعمل في قولك: "إنّي أُرى ذاهبٌ"، فـ"إِذَنْ" لاتصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لاتصل "أُرى" هنا إلى أن تنصب، فهذا تفسير الخليل، وذلك قولك: "أنا إِذَنْ آتيك"، فهي ههنا بمنزلة "أُرى" حيث لاتكون إلاّ ملغاةً، ومن ذلك أيضاً قولك: "إنْ تأتني إِذَنْ آتِك"؛ لأنّ الفعل ههنا معتمدٌ على ماقبل "إِذَنْ" " (1) .
وقد حدد النحاة إهمالها في ثلاثة مواضع:
الأول: أن يكون مابعدها جواباً للشرط الذي قبل "إِذَنْ"، نحو: "إنْ تأتِني إِذَنْ أكرمْك"، فتجزم "أكرمْك" لأنّه جواب الشرط، ولا تأثير لـ"إِذَنْ".
ومن ذلك أيضاً جعل الرّضيّ البيت السابق: (اُرْدُدْ حِمَارَكَ.. إِذَنْ يُرَدّْ..) ؛ إِذْ قال: "يجوز على مذهب الكسائيّ أن يكون "لايرتعْ" مجزوماً بكون "لا" فيه للنهي لا أنّه جواب الأمر، و "يُردّْ" مجزوماً لا منصوباً بكونه جواباً للنهي كما هو مذهبه في نحو قولك: "لا تكفرْ تدخلِ النّار" أي: إنْ تكفرْ تدخلِ النّار، فيكون المعنى: لايرتعْ إِنْ يرتعْ يُردّْ" (2) .
الثاني: أن يكون مابعدها جواباً للقسم الذي قبلها، إمّا مذكور، نحو: "والله إِذَنْ لا أفعلُ"، قال سيبويه: "ومن ذلك أيضاً: "والله إِذَنْ لا أفعلُ"، من قِبَلِ أنّ "أفعلُ" معتمدٌ على اليمين، و"إِذَنْ" لغوٌ " (3) .
وإمّا مقدر، كقول كُثَيِّر عَزَّةَ:
__________
(1) الكتاب 3/14.
(2) شرح الكافية 2/238-239.
(3) الكتاب 3/14.(47/354)
لَئِنْ عَادَ لي عبدُ العزيز بمثْلِها ... وأمْكَنَنِي منها إِذَنْ لا أَقِيلُها (1)
فـ (لا أقيلُها) مرفوع؛ لأنّ "إِذَنْ" لم تتصدر لكونها جواب القسم المقدر الموطأ عليه باللام الداخلة على "أَنْ" في أول البيت، والتقدير: والله لَئِنْ.
الثالث: أن يكون مابعدها خبراً للمبتدأ الذي قبلها، نحو:"أنا إِذَنْ أكرمُك"
قال المالقيّ: "وتقول في المبتدأ: "زيدٌ إِذَنْ يكرمُك"، فـ"يكرمُك"، مرفوع؛ لأنّه خبر عن "زيد"، وكذلك حكمه في خبر مايدخل على المبتدأ والخبر، من "كان" أو "إِنّ" وشبههما، كقولك: "كان زيدٌ إِذَنْ يكرمُك" و"إنّ زيداً إِذَنْ يكرمُك"، و"ظننت زيداً إِذَنْ يكرمُك"؛ لأنّ المفعول الثاني في "باب ظننت" حكمه أن يكون خبراً للمبتدأ في الأصل، فهو كخبر "كان" و"إنّ" " (2) .
وهذه الصورة موضِعُ خِلافٍ بين البصريين والكوفيين، فمذهب البصريين أنّه لايجوز الإعمال، وفصّل الكوفيون فأجاز هشام النصب والرفع بعد المبتدأ، وأجازهما الكسائيّ بعد اسم "إنّ"، وبعد اسم "كان"، ووافقه الفراء في "إنّ"، وخالفه في "كان" فأوجب الرفع، ونصّ الفراء على وجوب الرفع بعد "ظنّ"، قال أبو حيان: " وقياس قول الكسائيّ جواز الوجهين " (3) ، لذلك اختلف الفريقان في قول الشاعر:
__________
(1) في ديوانه305،وهو من شواهد الكتاب3/15،وابن يعيش9/13،ورصف المباني 154، وشرح أبيات سيبويه 2/144، والجُمل 195،وشرح الألفية لابن الناظم 669 والمغني15، والتصريح2/234،والهمع2/7،وشواهد المغني للسيوطي1/63،والأشموني 3/288،.
(2) رصف المباني 154.
(3) الارتشاف 4/1652، وينظر التذكرة 559، والهمع 2/7.(47/355)
لاتَترُكَنِّي فِيهُمُ شَطِيرا ... إِنّي إِذَنْ أَهْلِكَ أو أَطِيرا (1)
فتأوّله البصريون على أنّه شاذٌّ، أو إِنْ صحت الرواية فإنّه على أحد وجهين:
إمّا أن يجعل "إِذَنْ أَهْلِكَ" جملة في موضع خبر "إنّ"، وإمّا أن يكون خبر "إنّي" محذوفاً، أي: إنّي لاأستطيع، أو لا أقدر عليه، أو إنّي أُذلّ، ثم استأنف بـ"إِذَنْ" فنصب الفعل بعد تمام الأول بخبره؛ أَمّا الكوفيون فبنوا على هذا البيت مسائلهم.
قال رضيّ الدين في نهاية هذه المواضع الثلاثة التي تقع فيها "إِذَنْ" حشواً: "ولا يقع المضارع بعد "إِذَنْ" في غير هذه المواضع الثلاثة معتمداً على ما قبلها بالاستقراء، بل تقع متوسطة في غير هذه المواضع، نحو: "يقتلُ إِذَنْ زيدٌ عمراً"، و"لِبئْسَ الرجلُ إِذَنْ زيدٌ" ونحوه" (2) .
المسألة السادسة:
حكم "إِذَنْ" إذا فُصل بينها والفعل بفاصلٍ (3) :
ذهب النحاة إلى أنّه لايجوز الفصل بين "إِذَنْ" ومنصوبها؛ لضعفها مع الفصل عن العمل فيما بعدها، إلاّ أنّهم اغتفروا الفصل بالقسم، نحو: "إِذَنْ والله أجيئَك"، ومنه قول حسان بن ثابت:
__________
(1) البيت بلا نسبة وهو في معاني القرآن للفراء 2/338، وشرح الكتاب للسيرافي 1/86، وشرح الجزولية 2/479، وابن يعيش 7/17، والمقرب 1/261، وشرح الكافية 2/238، وشرح التسهيل4/21، ورصف المباني 154، والارتشاف 4/1653، والجنى الداني 362، والمساعد 3/76، والمغني 16، وشرح الكافية الشافية 3/1537، والهمع 2/7، وشواهد المغني للسيوطي 1/70.
(2) شرح الكافية 2/239.
(3) ينظر شرح التسهيل 4/22، وشرح الكافية 2/237، والمقرب 1/262، ورصف المباني 153، والارتشاف 4/1653، والتذكرة 559، والجنى الداني 362، والمغني 16، والمساعد 3/74، والتصريح 2/235، والهمع 2/6، والملخّص 138.(47/356)
إِذَنْ واللهِ نرميَهُمْ بحربٍ ... تُشيبُ الطّفلَ من قبْلِ المَشيبِ (1)
أو الفصل بـ"لا" النافية، نحو: "إِذَنْ لاأكرمَك"، ومنه قراءة عبد الله بن مسعود: {ِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} (2) .
وما عدا ذلك اختلف النحاة فيه، فأجاز ابن بابشاذ (3) الفصلَ بالدّعاء، والنِّداء، ووافقه الرضيّ (4) ، نحو: "إِذَنْ – يَغفِرُ اللهُ لكَ – يُدخِلَك الجنّة"، ونحو: "إِذَنْ – يازيدُ – أحسنَ إليك"، ووافقهما ابن أبي الربيع القرشيّ في النِّداء فقط (5) .
وأجاز بعض النحويين منهم ابن عصفور (6) ، والمالقيّ (7) ، والأبّديّ (8) الفصل بالظرف، أو المجرور، نحو: "إِذَنْ - يومَ الجمعة - أُكرمَك"، ونحو: "إِذَنْ - في الدار - آتيَك".
وأجاز الكسائيّ، والفراء، وهشام، الفصل بين "إِذَنْ" والفعل بمعمول الفعل، نحو: "إِذَنْ زيداً أُكرمَُ"، و"إِذَنْ فيك أرغبَُ"، ففي الفعل حينئذٍ وجهان: الرفع واختاره الفراء وهشامٌ، والنصب واختاره الكسائيّ (9) .
وجمهور النحويين لايرون في هذا ونحوه إلاّ الرفعَ لوجود الفصل، واغتفروا الفصل بالقسم، وبـ"لا" النافية كما سبق ذكره.
__________
(1) في ديوانه 371، وهو من شواهد الارتشاف 4/1653، وشرح شذور الذهب 291، وشرح قطر الندى 62، وشواهد المغني للسيوطيّ 2/970، والتصريح 2/235، والأشموني 3/289.
(2) سورة النساء آية 53، وانظر مختصر شواذ القرآن 29.
(3) ينظر الارتشاف 4/1653، والجنى الداني 362.
(4) شرح الكافية 2/237.
(5) الملخّص 138.
(6) المقرب 1/262.
(7) رصف المباني 153.
(8) ينظر الارتشاف 4/1653، والمساعد 3/74.
(9) ينظر الارتشاف 4/1654، والجنى الداني 363، والمغني 16، والتصريح 2/235، والهمع 2/7.(47/357)
تنبيه: قال أبو حيّان: "لو قدمت معمول الفعل على "إِذَنْ" نحو: "زيداً إِذَنْ أُكرمَُ" جاز ذلك عند الكسائيّ والفراء، إلاّ أنّ الفراء يُبطل عملها، والكسائيَّ يجيز الإبطال والإعمال، ولا نصَّ عند البصريين أحفظه في ذلك، والذي تقتضيه قواعدهم المنع" (1) .
المسألة السابعة:
حكم"إِذَنْ"الواقعة بين حرف العطف والفعل المستقبل (2) :
اعلم أنّ "إِذَنْ" إن وقعت بين حرف العطف والفعل المستقبل، كنت فيها بالخيار، إن شئت أعملتها، وإن شئت ألغيتها، وهو الأكثر والأجود، وفي المسألة صورتان:
الأولى: نحو قولك: "فإِذَنْ أُحسنُ إليك" جواباً لمن قال: "أزورُكَ"، جاز فيها الوجهان، قال سيبويه: "واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين "الفاء والواو" وبين الفعل، فإنّك فيها بالخيار، إن شئت أعملتها …، وإن شئت ألغيت "إِذَنْ" …، فأمّا الاستعمال فقولك: "فإِذَنْ آتيَك، وإِذَنْ أُكرمَك" …، وأمّا الإلغاء فقولك: "فإِذَنْ لا أجيئُك" " (3) .
فالإلغاء بالرفع على اعتبار كون مابعد العاطف من تمام ماقبله بسبب ربطِ حرفِ العطفِ الكلام بعضه ببعضٍ، فصارت "إِذَنْ" بذلك متوسطةً.
__________
(1) الارتشاف 4/1654.
(2) ينظر الكتاب 3/13، والمقتضب 2/11، ومعاني القرآن للفراء 1/273، والكشاف 2/371، والتبصرة والتذكرة 1/397، والإيضاح في شرح المفصل 2/264، وابن يعيش 7/16، وشرح التسهيل 4/21، وشرح الكافية 2/237، 239، وشرح الجزولية 2/480، وجواهر الأدب 340، ورصف المباني 155، والارتشاف 4/1651، والتصريح 2/235، ودراسات لأسلوب القرآن 1/55، 56.
(3) الكتاب 3/13.(47/358)
والإعمال وهو نصب الفعل باعتبار كون مابعد العاطف جملة مستقلة، والفعل فيها بعد "إِذَنْ" غير معتمد على ماقبلها، وعلى هذا الوجه خرّج النحاة القراءة الشّاذة في قوله: {فإذاً لايُؤتُوا النَّاسَ نَقِيراً} (1) ، وقولِهِ: {وَإذاً لايَلْبثُوا خَلْفَكَ إِلاّ قَليلاً} (2) .
وإلى هذه الصورة أشار ابن مالك بقوله:
... ، وَانْصِبْ وَارْفَعا إِذا "إِذَنْ" مِنْ بعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا (3)
الصورة الثانية: وقوعها مع حرف العطف بعد جواب الشرط، نحو قولك: "إنْ تأتِني آتِك وإِذَنْ أُكرمُْك" جاز فيها ثلاثة أوجهٍ، قال المبرد: "واعلم أنّها إذا وقعت بعد واوٍ أوفاءٍ، صَلُحَ الإعمال فيها والإلغاءُ، لِمَا أذكره لك، وذلك قولك: "إنْ تأتِني آتِك وإِذَنْ أُكرمَُْك"، إِنْ شئت رفعت، وإِنْ شئت نصبت، وإِنْ شئت جزمت؛ أمّا الجزم فعلى العطف على "آتك" وإلغاء "إِذَنْ"؛ والنّصب على إعمال "إِذَنْ"؛ والرفع على قولك: "وأنا أُكرمُك"، ثمّ أُدخلت "إِذَنْ" بين الابتداء والفعل فلم تعمل شيئاً" (4) .
المسألة الثامنة:
حكم إلغاء عمل "إِذَنْ" مع استيفاء شروط العمل (5) :
__________
(1) سورة النساء آية "53"، وهي قراءة ابن مسعود، ينظر مختصر شواذ القرآن 29، ومعاني القرآن للفراء 1/273، والكشاف 1/274، والبحر المحيط 3/273.
(2) سورة الإسراء آية 76 وهي قراءة أبيّ بن كعب، كما نُسبت لابن مسعود، ينظر: مختصر شواذ القرآن 27، 77، والكشاف 2/371، والجامع لأحكام القرآن 5/162، والبحر المحيط 6/66.
(3) ألفية ابن مالك 60.
(4) المقتضب 2/11.
(5) ينظر الكتاب 3/16، وابن يعيش 7/16، وشرح الجمل لابن عصفور 2/172، وشرح التسهيل 4/21، وشرح الألفية لابن الناظم 671، والارتشاف 4/1651، والتذكرة 559، والجنى الداني 363، والمساعد 3/72، ورصف المباني 153، والتصريح 2/235، والهمع 2/7.(47/359)
المشهور من لسان العرب إذا وجدت الشروط المذكورة سابقاً أن تنصب "إِذَنْ" الفعل بعدها، إلاّ أنّ بعض العرب يُلغى "إِذَنْ" مع استيفاء الشروط.
قال سيبويه: "وزعم عيسى بن عمر أنّ ناساً من العرب يقولون: "إِذَنْ أفعلُ ذلك" في الجواب، فأخبرت يونس بذلك، فقال: لا تُبْعِدنّ ذا، ولم يكن ليرويَ إلاّ ماسمع، جعلوها بمنزلة "هَلْ وبَلْ" " (1) .
وبناءً على ماحكاه سيبويه، اختلف النحويون في إلغاء عملها مع استيفاء الشروط: فذهب البصريون إلى إثبات إلغاء عملها رجوعاً إلى نقل عيسى، ووافقهم ثعلب، وخالفهم سائر الكوفيين فلم يُجز أحدٌ الرفع بعدها (2) .
وذهب ابن يعيش إلى أنّه يجب إعمالها لاغير إن دخلت في الفعل في ابتداء الجواب، و - أيضاً - ذهب إليه ابن عصفور، فقال: "وإن وقعت صدراً فالإعمال ليس إلاّ، وقد حُكي إلغاؤها، وذلك قليل جداً" (3) .
وذهب ابن مالك إلى أنّها تنصب الفعل غالباً، وذلك بناءً على مارواه عيسى ابن عمر (4) .
أَمّا ابن الناظم فذهب إلى أنّ إلغاء عملها هو القياس؛ لأنّها غير مختصة، فقال: "وإنّما أعملها الأكثرون حملاً على "ظنّ"؛ لأنّها مثلُها في جواز تقدمها على الجملة، وتأخرِها عنها، وتوسطِها بين جزأيها، كما حُملت "ما"على"ليس"؛لأنها مثلُها في نفي الحال" (5) .
وذهب بعض النحاة إلى أنّ مارواه عيسى لغةٌ نادرةٌ (6) ، وذهب المالقيّ إلى أنّ ذلك شاذٌّ لايُعتبر (7) .
المسألة التاسعة:
__________
(1) الكتاب 3/16.
(2) الارتشاف 4/1651، والهمع 2/7.
(3) ينظر ابن يعيش 7/16، وكذا شرح الجمل 2/172.
(4) شرح التسهيل 4/19، 21.
(5) شرح الألفية لابن الناظم 671، وينظر التصريح 2/235.
(6) ينظر الارتشاف 4/1651، والجنى الداني 363، وتوضيح المقاصد 4/190، والمساعد 3/72.
(7) رصف المباني 153.(47/360)
حكم"إِذَنْ"إذا وقع بعدها الماضي مصحوباً باللاّم (1) :
ذهب النحويون إلى أنّه إذا أتى بعد "إِذَنْ" الماضي مصحوباً باللام، نحو قوله تعالى: {إِذاً لأَذَقْنَاك} (2) فالظاهر أنّ الفعل جوابُ قسمٍ مقدرٍ قبل "إِذَنْ"، فلذلك دخلت اللام على الماضي.
قال الفراء: (وإذا رأيت في جواب"إِذَنْ"اللام فقد أضمرت لها"لَئِنْ"أو يميناً، أو "لو"، من ذلك قوله عزّ وجلّ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (3) ، والمعنى – والله أعلم-: لو كان معه فيهما إلهٌ لذهب كلُّ إلهٍ بما خلق، ومثله قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لأتَّخَذُوكَ خَلِيلا} (4) ، ومعناه: لو فعلت لاتخذوك، وكذلك قوله: {كِدْتَ تَرْكَنُ} ثم قال: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ} معناه: لو ركنت لأذقناك إذاً" (5) .
فنلحظ أنّ الفراء يرى أنّ اللام جواب قسم مقدر، أو جواب "لو" مقدرة.
__________
(1) ينظر معاني القرآن للفراء 1/274، وشرح التسهيل 4/19، وشرح الكافية 2/236، والارتشاف 4/1655، والجنى الداني 365، والبرهان 4/187، 188، والإتقان 1/405، ودراسات لأسلوب القرآن 1/62.
(2) سورة الإسراء آية "75".
(3) سورة المؤمنون آية "91".
(4) سورة الإسراء آية "73".
(5) معاني القرآن للفراء 1/274.(47/361)
أمّا رضيّ الدين الاستراباذيّ فلا يرى أنّ "اللام" واقعةٌ في جوابٍ لقسم مقدرٍ، إذ قال: "وإذا كان للشرط جاز أن يكون للشرط في الماضي، نحو: "لو جئتني إِذَنْ لأكرمتك"، وفي المستقبل نحو: "إِذَنْ أُكرمَك" بنصب الفعل، وإذا كان بمعنى الشرط في الماضي جاز إجراؤه مجرى "لو" في إدخال "اللام" في جوابه، كقوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} ، أي: لو ركنت إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك، …. وليس "اللام" جوابَ القسم المقدر كما قال بعضهم، وإذا كان بمعنى الشرط في المستقبل جاز دخول الفاء في جزائها كما في جزاء "إِنْ" " (1) .
وحكى الزركشيّ عن بعض المتأخرين أنّ "إِذَنْ" التي يقع بعدها الماضي مصحوباً باللام، مركبةٌ من "إذا" التي هي ظرف زمان ماضٍ، ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً، لكنّها حُذفت تخفيفاً وأُبدل منها التنوين، وليست هذه الناصبة للمضارع؛ لأنّ تلك تختص به ولذا عملت فيه، ولا يعمل إلاّ مايختص، وهذه لاتختص به بل تدخل على الماضي، ثمّ استشهد بالآيات السابقة (2) .
المسألة العاشرة: إعراب الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ":
هذه المسألة تناولها رضيّ الدين بقوله: "ثم اعلم أنّ الفعل المنصوب المقدر بالمصدر مبتدأٌ، خبرُه محذوف وجوباً، فمعنى "إِذَنْ أكرمَك": إِذَنْ إكرامُك حاصلٌ، أو واجبٌ، وإنّما وجب حَذْفُ خبر المبتدأ؛ لأنّ الفعل لمّا التُزم فيه حَذْفُ "أَنْ" التي بسببها تهيأ أن يَصْلُح للابتدائية، لم يظهر فيه معنى الابتداء حقّ الظهور، فلو أُبرز الخبر لكان كأنّه أخبر عن الفعل" (3) .
المسألة الحادية عشرة:
__________
(1) شرح الكافية 2/236.
(2) ينظر البرهان 4/187، والإتقان 1/405.
(3) شرح الكافية 2/238.(47/362)
تشبيه "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظَنّ" في عوامل الأسماء (1) :
شبَّه النحاة "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظننت" في عوامل الأسماء في الابتداء، والتوسط، والتأخير؛ لأنّ كلاً منهما يعمل ويُلغى، فإذا تقدما عملا، وإذا تأخرا أو توسطا لم تعمل "إِذَنْ" في حالة التأخر، أو إذا توسطت بين كلامين أحدهما محتاج إلى الآخر لم يجز أن تعمل؛ لأنها حرف والحروف أضعف في العمل من الأفعال.
أَمّا أفعال الشك واليقين "ظنّ وأخواتها" إذا توسطت أو تأخرت فيجوز فيها الإعمال والإلغاء، ولم تقو "إِذَنْ" قوتها؛ لأنّ المشبّه بالشيء لايقوى قوة المشبّه به، فحطت عنها بأنْ ألغيت ليس إلاّ.
قال سيبويه (2) : "اعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت جواباً وكانت مبتدأةً، عملت في الفعل عمل "أُرى" في الاسم إذا كانت مبتدأةً". وقال: "ولا تَفصلُ بين شيءٍ مما يَنصب الفعلَ وبين الفعل سوى "إِذَنْ"؛ لأنّ "إِذَنْ" أشبهت "أُرى"، فهي في الأفعال بمنزلة "أُرى" في الأسماء، وهي تُلغى وتُقدّم وتُؤخَّر".
وقال: "واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنّك فيها بالخيار، إن شئت أعملتها كإعمالك "أُرى وحسبت"، إذا كانت واحدةٌ منهما بين اسمين، … وإن شئت أَلغيتَ "إِذَنْ" كإلغائك" "حسبت" ". وقال: "واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين الفعل وبين شيءٍ الفعلُ معتمدٌ عليه، فإنّها مُلغاةٌ لاتَنصب البتة، كما لاتنصب "أُرى" إذا كانت بين الفعل والاسم".
__________
(1) ينظر الكتاب 3/12، 13، 14، والمقتضب 2/10، والأصول 2/148، 149، وشرح الكتاب للسيرافي 1/85، وابن يعيش 7/17، وشرح الجزولية 2/476، 477، ورصف المباني 154، 155، وجواهر الأدب 339.
(2) الكتاب 3/ 12، 13، 14.(47/363)
وقال المبرد: "اعلم أنّ " إِذَنْ " في عوامل الأفعال كـ" ظننت " في عوامل الأسماء؛ لأنهّا تعمل وتُلغى كـ"ظننت"،ألا ترى أنّك تقول:"ظننت زيداً قائماً "و" زيدٌ ظننت قائمٌ"،إذا أردت زيدٌ قائمٌ في ظنّي، وكذلك "إِذَنْ" إذا اعتمد الكلام عليها نُصب بها، وإن كانت بين كلامين أحدهما في الآخر عاملٌ أُلغيت، ولا يجوز أن تعمل في هذا الموضع كما تعمل"ظننت"، إذا قلت: "زيداً ظننت قائماً"؛ لأنّ عوامل الأفعال لا يجوز فيها التقديم والتأخير، لأنّها لاتتصرّف" (1) .
المسألة الثانية عشرة: الوقف على "إِذَنْ" (2) :
اختلف النحويون في الوقف على "إِذَنْ": فذهب الجمهور – وهو الصحيح – وعليه إجماع القُرّاء، أنّ "إِذَنْ" يُوقف عليها بالألف المبدلة من النون، تشبيهاً لها بتنوين المنصوب.
وذهب المازنّي إلى أنّه يُوقف عليها بالنون؛ لأنّها حرف، كـ"أَنْ"، ولم يُجز الوقف عليها بالألف، لئلا تلتبس بـ"إذا".وذهب المبرد إلى جواز الوجهين.
قال السيوطيّ: "الجمهور أنّ "إِذَنْ" يُوقف عليها بالألف المبدلة من النون، وعليه إجماع القُرّاء، وجوّز قومٌ منهم المبرد والمازنيّ في غير القرآن الوقوف عليها بالنون كـ"لَنْ" و"أَنْ" " (3) .
المسألة الثالثة عشرة: كتابتها (4) :
قال ابن هشام:"وينبني على الخلاف في الوقف عليها خلافٌ في كتابتها" (5) .
لذلك اختلف النحويون في كتابتها على ثلاثة مذاهب:
__________
(1) المقتضب 2/10.
(2) ينظر شرح الأبيات المشكلة 83، والتكملة 563، ونتائج الفكر 134، وشرح الملوكي في التصريف 237، وشرح الكافية 2/238، والارتشاف 2/801، والجنى الداني 365، وجواهر الأدب 339، والمغني 16، والإتقان 1/406، والأشباه والنظائر 2/201.
(3) الإتقان 1/406.
(4) ينظر شرح الكافية 2/238، وشرح الجمل لابن عصفور 2/170، والجنى الداني 366، ورصف المباني 155، 156، والمغني 16، والجامع لأحكام القرآن 5/162، والكواكب الدريّة 467، والنحو الوافي 4/312.
(5) المغني 16.(47/364)
الأول: ذهب الجمهور إلى أنّها تُكتب بالألف، وكذلك رُسمت في المصحف، ونُسب هذا القول إلى المازنيّ، قال المراديّ: "وفيه نظرٌ؛ لأنّه إذا كان يرى الوقف عليها بالنون كما نُقل عنه، فلا ينبغي أن يكتبها بالألف" (1) .
قال المالقيّ: "وعلّةُ من كتبها بالألف في الحالتين – أي من الوصل والوقف – شَبَهُها بالأسماء المنقوصة، لكونها على ثلاثة أحرف بها، فصارت كالتنوين في مثل "دَماً ويداً" في حال النصب" (2) .
الثاني: ذهب المازنيّ والمبرد وأكثر النحويين إلى أنّها تكتب بالنون، وقد رُوي عن المبرد أنّه قال: "أشتهي أنْ أكويَ يدَ مَنْ يكتب "إِذَنْ" بالألف، إنّها مِثْلُ "لَنْ وأَنْ"، ولا يدخل التنوين في الحروف" (3) .
قال المالقيّ: "فعلّةُ من كتبها بالنون في الحالتين - من الوصل والوقف - أنّها حرف، ونونها أصليّة، فهي كـ"أنْ، وعَنْ، ولَنْ" " (4) .
الثالث: ذهب الفراء إلى التفصيل، وهو أنّها إِنْ كانت مُلغاةً كُتبت بالألف؛ لأنّها قد ضَعُفت، وإن كانت عاملةً كُتبت بالنون؛ لأنّها قد قويت.
وقد نَسب له رضيّ الدين وابن هشام الأنصاريّ عكس ماذُكر (5) .
قال المالقيّ: "وعلّةُ من فرّق بين كونها عاملةً فتُكتب بالنون تشبيهاً بـ"عَنْ" و"أَنْ"، وكونها غيرَ عاملة فتُكتب بالألف تشبيهاً بالأسماء المذكورة كـ"دَماً" و"يداً" " (6) . ورجَّح ابن عصفور كتابتها بالنون، فقال: "والصحيح أنّها تكتب بالنون لأمرين:
أحدهما: أنَّ كلَّ نون يوقف عليها بالألف تُكتب بالألف، وما يوقف عليه من غير تغييرٍ يُكتب على صورته، وهذه يوقف عليها من غير تغيير، فينبغي أن تُكتب على صورتها بالنون.
__________
(1) الجنى الداني 366.
(2) رصف المباني 156.
(3) ينظر الجامع لأحكام القرآن 5/162، والجنى الداني 366.
(4) رصف المباني 155.
(5) ينظر تفصيل الرأيين في شرح الجمل لابن عصفور 2/170، وشرح الكافية 2/238، ورصف المباني 155، والجنى الداني 366، والمغني 16.
(6) رصف المباني 156.(47/365)
وأيضاً: فإنّها ينبغي أَنْ تُكتبَ بالنون فرقاً بينها وبين "إذا" " (1) .
أمّا المالقيّ فقد بيّن وجهة نظره في كتابتها بالنون تارة، وبالألف تارة، بقوله:"والذي عندي فيها: الاختيار أن ينظر: فإن وُصلت في الكلام كُتبت بالنون، عملت أو لم تعمل، كما يُفعل بأمثالها من الحروف؛ لأنّ ذلك لفظها مع كونها حرفا لااشتقاق لها، وإذا وُقف عليها كُتبت بالألف؛ لأنّها إذْ ذاك مشبَّهةٌ بالأسماء المنقوصة المذكورة في عدد حروفها، وأنّ النون فيها كالتنوين، وأنّها لاتعمل مع الوقف مثل الأسماء مطلقاً" (2) .
والله الموفق للصّواب، وإليه المرجع والمآب، والله أسأل - سبحانه وتعالى - أن يجعلنا ممن إذا دُعِيَ فأجاب، وإذا كتب أو تحدث فأصاب، وأن يرزقنا فَهْمَ الحكمة وفَصْلَ الخطاب، وأن يصلي على سيدنا وقدوتنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله والأصحاب، وتابعيهم إلى يوم المآب، وآخِرُ دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين، آمين.
الخاتمة
الحمد لله على آلائه التي لاتُحصى، ومنها إنعامه عليّ بإتمام هذا البحث، وفي ختامه يُمكنني أن أُقدّم خلاصة موجزة لأهمّ النتائج التي توصلت إليها، فأقول:
أولاً: الرّاجح – وهو مذهب الجمهور – أنّ (إِذَنْ) حرفٌ، لا اسم ظرف لحقها التنوين عوضاً من الجملة المحذوفة، وهو ماذهب إليه بعض الكوفيين، ورجّحه رضيّ الدين الاستراباذيّ.
ثانياً: الرَّاجح – وهو مذهب الجمهور – أنّها بسيطة، لاحرف مركب من (إذْ وأَنْ) ، وهو مذهب الخليل، وبعض الكوفيين، ورجّحه ابن مالك؛ ولاهي حرف مركب من (إذا وأنْ) ، وهو مذهب الرُّنديّ، وقد ردّ المالقيّ على الزاعمين بتركيبها.
ثالثاً: الرّاجح – وهو مذهب سيبويه والجمهور – أنّها تنصب المضارع بنفسها، وذهب الخليل إلى أنّ الفعل يُنصب بـ"أنْ" مضمرة بعد "إِذَنْ"،وتابعه الزجاج والفارسيّ، وانتصر له رضيّ الدين الاستراباذيّ، وأنكر ابن مالك نسبة هذا الرأي للخليل.
__________
(1) شرح الجمل 2/170.
(2) رصف المباني 156.(47/366)
رابعاً: "إِذَنْ" تنصب المضارع بشروط ستة: إذا كانت مبتدأة، وجواباً، والفعل مستقبلاً، ولم يفصل بينها والفعل بفاصل، والفعل بعدها لم يكن معتمداً على ماقبلها، وألاّ تقع بعد عاطفٍ.
خامساً: ذهب سيبويه إلى أنّ معناها: الجواب والجزاء، واختلف النحويّون في فهم كلامه، ففهم الشلوبين أنّها لهما معاً حيثما وُجدت، وقد ردّ ابن عصفور على شيخه، وبيّن أنّ كلامه معتَرضٌ بيِّنُ الاعتراض.
... أمّا الفارسيّ ففهم أنّها تَرِدُ لهما، وقد تتمحض للجواب فقط، وهو الرّاجح.
سادساً: "إِذَنْ" إن وقعت بين شيئين متلازمين أُهملت، كوقوعها بين الشرط أو القسم وجوابهما، أو بين المبتدأ والخبر أو مافي حكمهما، والصورة الأخيرة اختلف الفريقان فيها بين الإعمال والإهمال.
سابعاً: لايجوز الفصل بين "إِذَنْ" ومنصوبها، واغتُفِر الفصل بالقسم، أو بـ"لا" النافية، وماعدا ذلك اختلف النحاة في الفصل بالدعاء، أو النداء، أو الظرف، أو المجرور، أو معمول الفعل، فجمهور النحويين يوجبون رفع الفعل؛ لوجود الفصل.
ثامناً: "إِذَنْ" إن وقعت بين حرف العطف والفعل المستقبل، فأنت بالخيار، إن شئت أعملتها، وإن شئت ألغيتها، وهو الأكثر والأجود.
تاسعاً: حكى سيبويه أنّ ناساً من العرب يُلغون عمل "إِذَنْ" مع استيفاء الشروط، فأثبت لها معظم النحاة جواز الإلغاء، وخالفهم آخرون فأوجبوا إعمالها، وحكموا على اللغة بأنّها نادرةٌ، أو شاذّةٌ لايُعتبر بها.
عاشراً: إذا أتى بعد "إِذَنْ" الفعل الماضي مصحوباً باللام، فالظاهر أنّ الفعل جوابُ قسمٍ مقدرٍ، أو جواب "لو" مقدرةٍ قبل "إِذَنْ"، وهو مذهب الفراء. أمّا الرضيّ فيرى أنّها جواب "لو" مقدرة فقط.
حادي عشر: ذهب الرّضيّ إلى أنّ الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ" يُقدّر بالمصدر، ويُعرب مبتدأً، خبره محذوف وجوباً.(47/367)
ثاني عشر: شبّه النحاة "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظَنَنَتُ" في عوامل الأسماء، في الابتداء، والتوسط، والتأخير؛ لأنّ كلاًّ منهما يعمل ويُلغى، فإذا تقدما عملا، وإذا تأخرا أو توسطا ففي المسألة تفصيل.
ثالث عشر: الرّاجح – وهو مذهب الجمهور وعليه إجماع القُرّاء – أنّ "إِذَنْ" يوقف عليها بالألف المبدلة من النون، وذهب المازنيّ والمبرد إلى أنّه يوقف عليها بالنون في غير القرآن.
رابع عشر: ذهب الجمهور إلى أنّها تكتب بالألف، وكذلك رُسمت في المصحف، وذهب المازنيّ والمبرد وأكثر النحويين، ورجّحه ابن عصفور، إلى أنّها تكتب بالنون، وقال الفراء: إن كانت ملغاة كُتبت بالألف؛ لأنّها قد ضعفت، وإن كانت عاملة كُتبت بالنون؛ لأنّها قد قويت، ونَسب له الرضيّ وابن هشام العكس.
وآخِرُ دعوانا أَنِ الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا محمد وعلى أزواجه، وذرّيته، وصحبه أجمعين، وسلَّمَ تسليماً كثيرا.
فهرس المصادر والمراجع
الإتقان في علوم القرآن للسيوطيّ، تقديم محمد شريف سكر، ومراجعة مصطفى القصاص، ط1، 1407هـ، مكتبة المعارف، الرياض.
ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيّان الأندلسيّ، تحقيق ودراسة رجب عثمان محمد، ط1، 1418هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة.
الأشباه والنظائر في النحو للسيوطيّ، مراجعة فايز ترحيني، ط1، 1404هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
الأصول في النحو لابن السراج، تحقيق عبد الحسين الفتلي، ط1، 1405هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
ألفية ابن مالك في النحو والصرف، 1410هـ، مكتبة طيبة للنشر والتوزيع، المدينة المنورة.
الإيضاح العضدي لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. حسن شاذلي فرهود، ط2، 1408هـ، دار العلوم.
الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب، تحقيق د. موسى العليلي، مطبعة العاني، بغداد.
البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسيّ، ط2، 1398هـ، دار الفكر، بيروت.(47/368)
البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشيّ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعرفة، بيروت.
التبصرة والتذكرة لأبي محمد الصيمريّ، تحقيق د. فتحي أحمد مصطفى عليّ الدين، ط1، 1402هـ، دار الفكر، دمشق.
تذكرة النحاة لأبي حيّان الأندلسيّ، تحقيق د. عفيف عبد الرحمن، ط1، 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1387هـ.
التصريح على التوضيح لخالد الأزهريّ، دار الفكر، دمشق.
التعليقة على كتاب سيبويه لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. عوض القوزي، ط1، 1412هـ، جامعة الملك سعود، الرياض.
التكملة لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. كاظم المرجان، 1401هـ، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل.
توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك للمراديّ، تحقيق د. عبد الرحمن علي سليمان، ط1، 1396هـ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبيّ، ط1، 1408هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
الجمل في النحو لأبي القاسم الزجاجيّ، تحقيق د. علي توفيق الحمد، ط1، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
الجنى الداني في حروف المعاني للمراديّ، تحقيق د. فخر الدين قباوة ومحمد نديم، ط1، 1413هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
جواهر الأدب في معرفة كلام العرب لعلاء الدين الإربليّ، صنعة د. إميل بديع يعقوب، ط1، 1412هـ، دار النفائس، بيروت.
دراسات لأسلوب القرآن الكريم تأليف محمد عبد الخالق عضيمة، دار الحديث، القاهرة.
ديوان حسان بن ثابت، تحقيق د. سيد حنفي حسنين، دار المعارف، القاهرة.
ديوان كُثّيرّ عزّة، تحقيق إحسان عباس، ط1، 1971م، دار الثقافة، بيروت.
رصف المباني في شرح حروف المعاني للمالقيّ، تحقيق د. أحمد محمد الخراط، ط2، 1405هـ، دار القلم، دمشق.
شرح أبيات سيبويه لابن السيرافيّ، تحقيق د. محمد علي سلطاني، 1979م، دار المأمون للتراث، دمشق.(47/369)
شرح الأبيات المشكلة الإعراب لأبي عليّ الفارسيّ، المسمى (إيضاح الشعر) ،تحقيق د. حسن هنداوي، ط1، 1407هـ، دار القلم، دمشق.
شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، مطبعة الحلبي، القاهرة.
شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم، تحقيق د. عبد الحميد السيد محمد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت.
شرح التسهيل لابن مالك، تحقيق د. عبد الرحمن السيد ود. محمد بدوي المختون، ط1، 1410هـ، هجر للطباعة والنشر.
شرح جمل الزجاجيّ لابن عصفور، تحقيق صاحب أبو جناح.
شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام الأنصاريّ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.
شرح شواهد المغنى للسيوطي، دار مكتبة الحياة، بيروت.
شرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام الأنصاريّ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، 1411هـ، المكتبة العصرية، بيروت.
شرح الكافية لرضيّ الدين الاستراباذيّ، ط3، 1402هـ دار الكتب العلمية، بيروت.
شرح الكافية الشافية لابن مالك الأندلسيّ، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، دار المأمون للتراث.
شرح كتاب سيبويه لأبي سعيد السيرافيّ، تحقيق د. رمضان عبد التواب، ود. محمود فهمي حجازي، ود. محمد هاشم عبد الدايم، الهيئة المصرية العامة للكتب، 1986م.
شرح المفصل لابن يعيش النّحويّ، عالم الكتب، بيروت.
شرح المقدمة الجزوليّة الكبير لأبي عليّ الشلوبين، تحقيق د. تركي بن سهو العتيبي، ط1، 1413هـ، مكتبة الرشد، الرياض.
شرح ملحة الإعراب لأبي محمد القاسم الحريريّ، تحقيق د. أحمد محمد قاسم، ط2، 1412هـ، مكتبة دار التراث، المدينة.
شرح الملوكي في التصريف لابن يعيش، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط1، 1393هـ، المكتبة العربية، حلب.
الصّاحبي لأبي الحسين ابن فارس، تحقيق السيّد أحمد صقر، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة.
فهارس كتاب سيبويه صنع محمد عبد الخالق عضيمة، ط1، 1395هـ، دار الحديث، القاهرة.
فهارس معاني القرآن للفراء، إعداد د. فائزة المؤيد، ط1، 1414هـ، الخبر.(47/370)
الكتاب لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، ط2، 1403هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة.
الكشاف لأبي القاسم الزمخشريّ، دار المعرفة، بيروت.
كشف المشكل في النحو لعلي بن سليمان الحيدرة اليمنيّ، تحقيق د. هادي عطية مطر، ط1، 1404هـ، مطبعة الإرشاد، بغداد.
الكواكب الدّريّة على متممة الآجُرّوميّة لمحمد بن محمد الرُّعينّي، الشهير بالحطاب، ط1، 1410هـ، دار الكتب، بيروت.
مختصرٌ في شواذّ القرآن لابن خالويه، عني بنشره برجشتراسر، المطبعة الرحمانيّة بمصر، 1934م.
المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، تحقيق محمد كامل بركات، 1400هـ، دار الفكر، دمشق.
معاني القرآن للفراء، ط3، 1403هـ، عالم الكتب، بيروت.
معاني القرآن وإعرابه للزجاج، تحقيق د. عبد الجليل عبده شلبي، ط1، عالم الكتب، بيروت.
المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية، إعداد إميل بديع يعقوب، ط1، 1413هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمد فؤاد عبد الباقي، ط2، 1408هـ، دار الحديث، القاهرة.
مغني اللبيب لجمال الدين ابن هشام الأنصاريّ، تحقيق مازن المبارك، ومحمد علي حمدالله، ط1، 1399هـ، دار نشر الكتب الإسلامية، لاهور.
المفصل لأبي القاسم الزمخشريّ، ط2، دار الجيل، بيروت.
المفضليات، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، ط7، دار المعارف، القاهرة.
المقتصد في شرح الإيضاح لعبد القاهر الجرحانيّ، تحقيق د. كاظم بحر المرجان، دار الرشيد، 1982م، العراق.
المقتضب لأبي العباس المبرد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، ط2، 1399هـ، مطابع الأهرام التجارية، القاهرة.
المقرب لابن عصفور، تحقيق أحمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوري، ط1، 1391هـ، مطبعة العاني، بغداد.
الملخص لابن أبي الربيع القرشيّ، تحقيق د. علي بن سلطان الحكمي، ط1، 1405هـ.
نتائج الفكر في النحو لأبي القاسم السُهيليّ، تحقيق د. محمد إبراهيم البنا، دار الرياض للنشر والتوزيع، الرياض.(47/371)
النحو الوافي، تأليف عباس حسن، ط8، دار المعارف، القاهرة.
النكت في تفسير كتاب سيبويه، للأعلم الشّنتمريّ، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط1، 1407هـ، الكويت.
همع الهوامع شرح جمع الجوامع، للسيوطيّ عُني بتصحيحه محمد بدر الدين النعساني، ط1، 1327هـ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
فهرس الموضوعات
مقدَّمة ... 409
المسألة الأولى: أصل "إِذَنْ": ... 411
المسألة الثانية: عملها: ... 412
المسألة الثالثة: شروط عمل "إِذَنْ": ... 415
المسألة الرابعة: معناها: ... 417
المسألة الخامسة: حكم"إِذَنْ"إِن وقعت بين شيئين متلازمين: ... 419
المسألة السادسة: حكم "إِذَنْ" إذا فُصل بينها والفعل بفاصلٍ: ... 421
المسألة السابعة: حكم"إِذَنْ"الواقعة بين حرف العطف والفعل المستقبل: ... 422
المسألة الثامنة: حكم إلغاء عمل "إِذَنْ" مع استيفاء شروط العمل: ... 423
المسألة التاسعة: حكم"إِذَنْ"إذا وقع بعدها الماضي مصحوباً باللاّم: ... 424
المسألة العاشرة: إعراب الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ": ... 425
المسألة الحادية عشرة: تشبيه "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظَنّ" في عوامل الأسماء: ... 426
المسألة الثانية عشرة: الوقف على "إِذَنْ": ... 427
المسألة الثالثة عشرة: كتابتها: ... 427
الخاتمة ... 429
فهرس المصادر والمراجع ... 430
فهرس الموضوعات ... 438(47/372)
المقدَّمة
الحمد لله والصَّلاة والسَّلامُ على رَسولِ اللهِ.
وَبَعْد؛ فقد اهتمَّ علماء العربيّة بلغتهم، ووضعوا نحوها وصرفها ولغتها على نحوٍ منضبط، بهر من جاء بعدهم لدقّتهم البالغة، وسرعة استواء هذه العلوم على سوقها.
وكان في جملة اهتماماتهم الكلمة المفردة، إذ تناولوها من جهة نوعها، وبنيتها، ومدلولها.
فأمَّا نوعها فقسموها إلى ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف. وأمّا بنيتها فصنفوا جميع أبنية العربيّة على اختلاف هيئاتها وأحوالها.
وأمّا مدلولها: فصنّفوا في ذلك الموسوعات الحاوية لمعاني ألفاظ العربيّة.
وكان في جملة بيانهم انقسامَ الكلمة إلى اسم وفعل وحرف انقسامُ الفعل إلى ثلاثة أيضًا: ماضٍ ومضارع وأمر. فإن قال قائل: لم كانت الأفعال ثلاثة: ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً؟ قيل: لأنّ الأزمنة ثلاثة، ولمّا كانت ثلاثة وجب أن تكون الأفعال ثلاثة: ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً (1) .
ولكلِّ نوعٍ منها علاماته التي يعرف بها، وميزاته التي ينفرد بها عن نظيريه.
فالفعل المضارع قسم من أقسام الفعل، ونوع من أنواعه، شُغِلَ به النّحويّون والصّرفيّون واللّغويّون.
فالنحويون تناولوا المضارع بالدراسة من حيث علامته المميزة له، وإعرابه أو بناؤه، وانتهوا إلى أمور، منها:
علامته المميزة له نوعان:
1-نوع يرجع إلى ما يدخل عليه من عوامل، وهي صلاحيته لأن يلي لم نحو: لم يقم زيد ولم يشم (2) .
2-وآخر يرجع إلى صيغة أوزان المضارع، وهي افتتاحه بحرف من حروف نأيت. قال الزمخشري في تعريفه: "وهو ما يعقب في صدره الهمزة والنون والتاء والياء…"2.
وليس هذه العلامة في قوة السابقة لها؛ لأنها ليست علامةً قاطعةً، وإنما هي مساعدة.
إعرابه:
يقرر النحويون أن حق الفعل المضارع الإعراب لمشابهته للاسم، وبهذا أعرب، واستحق التقديم على أخويه (3) .
__________
(1) انظر شرح المفصّل 7 / 4.
(2) أوضح المسالك: 1/27.
(3) أوضح المسالك: 1/27. والمقصود بأخويه الماضي والأمر..(47/373)
واستثنوا من ذلك حالتين هما:
1-إذا اتصلت به نون التوكيد، فإنه يبنى معها على الفتح بشرط أن تكون مباشرة للفعل، لم يفصل بينها وبينه فاصلٌ، ظاهراً كان ـ كألف الاثنين ـ أو مقدراً ـ كواو الجماعة وياء المخاطبة ـ وإلا كان معرباً.
2-إذا اتصلت به نون النسوة، فإنه يبنى معها على السكون، كما في قوله جل وعلا: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... } (1) .
أمَّا الصرفيُّون فقد شغلتهم حركة عين المضارع؛ ذلك لاختلافها باختلاف الماضي ونوعه من حيث التجرُّد والزِّيادة، ومن حيث نوعيّة حروفه في بعض الأحيان.
فالمعروف أنَّ أبواب الماضي الثّلاثي المجرّد ثلاثة: فَعَل وفعِل وفعُل وهذا التَّقسيم ناتج من تغيّر حركة العين، ذلك أنَّ الفعل ـ كما ترى ـ ثلاثة أحرف. فالأوَّل منها متحرّك دائمًا إذ لايُبْدَأ بساكن [وحركته الفتحة] واختيرت من بين الحركات لخفَّتِها، وآخره مبنيٌّ على الفتح لفظًا أو تقديرًا، ولم يكن ساكنًا؛ لأنَّه يتَّصل به الضَّمائر، وبعضها ملازم للسُّكون كواو الجماعة، وألف الاثنين. والعين لا تكون إلاَّ متحرّكة لئلاَّ يلزم التقاء السَّاكنين إذا سكن آخر الفعل لاتِّصاله بضمير رفع متحرِّك. والحركات ثلاث: فتحة وكسرة وضمَّة؛ لذلك انحصرت أوزانه في هذه الصِّيغ الثَّلاث (2) .
أمَّا الرُّباعي المجرَّد فله وزن واحد هو فَعْلَل نحو: دحرج لأن الرُّباعي أثقل من الثُّلاثي، فوجب أن يكون فيه سكون ليُخَفِّفَ ثقَله؛ ولأنَّه لو كانت حروفه كلُّها متحرِّكة كالثُّلاثي لزم اجتماع أربعة متحرِّكات متوالية في الكلمة الواحدة، وهذا مما رفض في كلام العرب للاستثقال.
وأما اللغويون فكان من جملة الأحكام التي يطالعها دارس العربيَّة في دراساتهم حركة حرف المضارعة، فاشتُهِر أنَّ حكمها دائر بين حالتين:
__________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) المغني في تصريف الأفعال ص 98.(47/374)
الأولى: حالة الفتح، وذلك إذا كان ماضي الفعل ثلاثيًّا أو خماسيًّا أو سداسيًّا.
والأخرى: حالة الضَّم، وتختصّ بما كان ماضيه على أربعة أحرف.
ولا يذكر مع هاتين الحالتين حالة ثالثة. ولكنَّا نجد في كتاب سيبويه مبحثًا مستقلاًّ عنوانه كسر حروف المضارعة (1) وذلك يشعر بخروج هذه الحالة عن القاعدة العامَّة، ذلك أنَّ النُّحاة بنوا قواعدهم على ما اطَّرد من قواعد العربيَّة، مستندًا إلى قياس صحيح، أو رَكَنَ إلى سماعٍ فصيح.
وكسر حروف المضارعة ليس مطردًا في لغة العرب، غير أنَّها وجدت لهجات عربية تكسرها.
ولما كان الأمر كذلك أردت أن أقف عندها، جامعًا كلام العلماء فيها ليسهل النَّظر في هذه الحالة، وليطلع دارسو العربيَّة على آراء العلماء فيها.
وذكرت معها نبذة عن حروف المضارعة من حيث، عددها، ومكان زيادتها، ولماذا كانت دون غيرها، وهل زيادتها في أوائل الفعل المضارع دون غيره من الأسماء والأفعال؟
أرجو أن أكون قد حقَّقت المقصود، ووصلت إلى المراد، والله الهادي إلى سواء السَّبيل.
حروف المضارعة
__________
(1) انظر الكتاب: 4/110.(47/375)
حروف المضارعة هي الهمزة والنون والتاء والياء التي تكون في صدر الفعل المضارع، وزيادتها في أوله لازمة، بل هي جزء من تعريفه. قال الزّمخشري في تعريفه: "وهو ما يعقب في صدره الهمزة والنّون والتّاء والياء. وذلك في قولك للمخاطب أو الغائبة: تفعل. وللغائب: يفعل. وللمتكلّم: أفعل. وله إذا كان معه غيره واحدًا أو جماعة: نفعل. وتسمّى الزّوائد الأربع، ويشترك فيه الحاضر والمستقبل...." (1) . فإن سألت عن أصل هذه الحروف ومن أين جاءت؟ أجابك السّهيلي في نتائجه بقوله: "وإن كان المعنى الزّائد أولاً كانت الزّيادة المنبئة عنه أولاً، مسبقة على حروف الكلمة، كهذه الزّوائد الأربع، فإنّما تنبئ أنّ الفعل لم يحصل بعد لفاعله، وأن بينه وبين تحصيله جزءًا من الزّمان، فكان الحرف الزَّائد السَّابق للفظ الفعل مشيرًا في اللِّسان إلى ذلك الجزء من الزَّمان، مرتَّبًا في البيان على حسب ترتُّب المعنى في الجنان " (2) .
فإن سألت: لم كانت هذه الأحرف الأربعة دون غيرها من حروف الهجاء؟ أجابك بقوله: " إنَّ الأصل في هذه الزّوائد الياء، بدليل كونها في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الفرق بين مذكّر ومؤنّث، وهو فعل جماعة النِّساء.
__________
(1) المفصّل في علم العربيّة ص 244.
(2) نتائج الفكر ص 117.(47/376)
دليل آخر: وهو أنَّ أصل الزِّيادة لحروف المدّ واللِّين، والواو لا تزاد أولاً كيلا تشبه واو العطف، ولعلّة أخرى تذكر في باب التّصريف (1) ، والألف لا تزاد أولاً لسكونها، فلم يبق إلاَّ الياء فهي أصل هذا الباب. فلمَّا أرادوا الفرق كانت الهمزة بفعل المتكلّم أولى، لإشعارها بالضَّمير المستتر في الفعل، إذ هي أول حروف ذلك الضَّمير إذا برز، فلتكن مشيرةً إليه إذا أرز. وكانت النّون بفعل المتكلّمين أولى بوجودها في أول لفظ الضَّمير الكامن في الفعل إذا ظهر، فلتكن دالّة عليه إذا خفي واستتر، وكانت التّاء من تفعل للمخاطب؛ لوجودها في ضميره المستتر فيه، وإن لم تكن في أوّل لفظ الضَّمير ـ أعني أنت ـ ولكنَّها في آخره، ولم يخصّوا بالدّلالة عليه ما هو في أوّل لفظه ـ أعني الهمزة ـ لمشاركته للمتكلّم فيها وفي النّون، فلم يبق من لفظ الضَّمير إلاَّ التَّاء، فجعلوها في أوَّل الفعل علمًا عليه، وإيماءً إليه.
فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن تكون الزِّيادة في فعل الغائب هاءً، لوجودها في لفظ الضَّمير الغائب إذا برز؟
__________
(1) قال ابن جني في سر صناعة الإعراب 2/595: "ولم تزد الواو أولاً ألبتة، وذلك أنها لو زيدت لم تخل من أن تكون مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، فلو زيدت أولاً مضمومة لاطّرد فيها الهمز كما همز نحو (أّقتت) و (أُعِد زيد) ولو زيدت مكسورة لكان قلبها أيضاً جائزاً وإن لم يكن في كثرة همز المضمومة وذلك نحو (إسادة) … ولو زيدت أولاً مفتوحة لم تحل من أن تزاد في أول اسم أو فعل … فلو زيدت في أول الاسم مفتوحة لكنت متى صغرت ذلك الاسم فضممتها مُمَكَّناً من همزها.. ولو كانت في أول فعل لكنت متى بنيته للمفعول ولم تسم فاعله وجب أن تضمها لجاز أيضاً همزها … ".(47/377)
فالجواب: أنَّه لا ضمير في فعل الغائب في أصل الكلام وأكثر موضوعه؛ لأنَّ الاسم الظَّاهر يغني عنه، ولا يستتر ضمير الغائب حتَّى يتقدّمه مذكور يعود عليه، وليس كذلك فعل المتكلّم والمخاطب والمخبرين عن أنفسهم ... (1) .
ويقول الكيشيُّ عن هذه الأحرف: "وإنَّما اختصّت الحروف الأربع بالمضارع لأنَّ حروف المدّ هي التي تزاد للمعاني، لكونها ناشئة من الحركات الدَّالَّة على المعاني الإعرابيّة، وحرك الألف للابتداء به فصارت همزة؛ لقرب المخرج، فأبدل من الواو تاءً كتراث وتجاه وتقًى؛ لأنَّ الواو لا تزاد أولاً بمقتضى التَّصريف، واضطروا إلى حرف رابع فتعيَّن النّون، لما فيه من الغنّة الشَّبيهة بالمدّ " (2) .
فيرى الكيشي أنَّهم لمَّا احتاجوا إلى أحرف تدلُّ على المعاني الزَّائدة في الفعل كان الأولى بذلك حروف المدّ الثَّلاثة: الألف والواو والياء، فأبدل من الألف الهمزة للعلّة التي ذكر، ومن الواو التَّاء؛ لأنَّه لا تزاد أولاً، والياء بقيت على طبيعتها، فلمَّا اضطروا إلى حرف رابع كان النّون.
__________
(1) نتائج الفكر ص117.
(2) الإرشاد إلى علم الإعراب ص 439.(47/378)
وزيادة هذه الأحرف ليست خاصة بالفعل المضارع، ولذلك لا يذكرها النحويون لتعريفه بها؛ لأنَّها ليست علامة قاطعة، وإنَّما هي مساعدة. ولذلك قال ابن هشام فيها: "وإنَّما ذكرت هذه الأحرف بساطًا وتمهيدًا للحكم الذي يأتي بعدها، لا لأُعرِّف بها الفعل المضارع؛ لأنَّا وجدناها تدخل في أوَّل الفعل الماضي، نحو: أكرمت زيدًا وتعلّمت المسألة ونرجست الدَّواء إذا جعلت فيه نرجسًا، ويرنأت الشَّيب إذا خضبته باليُرَنَّاً، وهو الحنّاء، وإنَّما العمدة في تعريف المضارع دخول لم عليه" (1) . ونجد أنَّ هذه الأحرف تدخل أيضًا على الأسماء، وتجيء في أوَّلها، ويفسِّر ابن جنِّي ذلك بقوله: "فإن قلت: فهلا قُصِرَت حروف المضارعة على الأفعال كما قصرت الميم على الأسماء، وقد سمعناهم يقولون: أفْكَلٌ، وأَيْدَعٌ، وتَنْضُبٌ، وتَتْفلٌ (2) وغير ذلك ممَّا في أوَّله الهمزة والنّون والتَّاء والياء؟
__________
(1) شرح قطر النَّدى وبلّ الصَّدى ص 37.
(2) الأفكل، على أفعل: الرعدة: ولا يبنى منه فعل. والأيدع: صبغ أحمر، وقيل: هو خشب البقم، وقيل غير ذلك. والتنضب: شجر ينبت بالحجاز، واحدته تنضبة. والتتفل: الثعلب، ونبات أخضر، وقيل شجر. انظر ذلك في اللسان (فكل، يدع، نضب، تفل) . .(47/379)
قيل: إنَّما زيدتْ هذه الحروف التي بابها الأفعال في أوائل الأسماء، لقوَّة الأسماء وتمكّنها، وغلبتها للأفعال فشاركت الأسماءُ في هذا الموضع الأفعالَ، لقوّتها … ويدلّك على أنَّ أصل هذه الزِّيادات ـ أعني: الحروف المضارعة ـ أن تكون في أوَّل الأفعال أنَّ الأسماء التي جاءت على أفعل أكثرها صفات نحو: أحمر، وأصفر، وأخضر، وأسود، وأبيض، والأسماء التي في أوَّلها الهمزة على هذا البناء من غير الصِّفات قليلة. ألا ترى أنَّ باب: أحمر، وأصفر، وأسود، وأبيض أكثر من باب أَيْدَعٍ، وَأَزْمَلٍ، وَأَفْكَلٍ، فلمَّا أرادوا أن يكثر هذا المثال الذي في أوّله الهمز جعلوه صفات؛ لقرب مابين الصّفة والفعل. ألا ترى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما ثانٍ للاسم، وأنَّ الصِّفة تحتاج إلى الموصوف كما أنَّ الفعل لابدَّ له من فاعلٍ " (1) .
ولذلك يقرر النحويون أنَّ علامة الفعل المضارع صحة دخول لم الجازمة على الفعل دون اختلال في التّركيب. أمَّا أحرف المضارعة فهي قابلة للدّخول على الماضي والأسماء.
الفتح والضم في أحرف المضارعة:
شغل اللغويون بالمضارع من حيث حركة حرف المضارعة. فقد اشتهر في لغة أهل الحجاز أنَّه إذا بني المضارع من ماضٍ رباعي ـ سواء أكان رباعي الأصول أم رباعيًّا بالزِّيادة ـ كانت حركة حرف المضارعة منه الضَّم. فتقول: أكرم يُكرم، قطَّع يقطِّع، دحرج يُدحرج.
__________
(1) المنصف 1 / 272.(47/380)
وإذا جاء ما يشعر بمخالفته ذلك فعلى اعتبار آخر، وعليه يمكن تفسير قراءة أبي رجاء العطاردي (1) {فَاتَّبِعُونِي يحَْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) بفتح الياء.قال الكسائي:" يقال يَحِبُّ وتَحِبُّ وأَحِبُّ ... والفتح لغة تميم وأسد وقيس. وهي على لغة من قال: حَبَّ وهي لغة قد ماتت " (3) .
فنلحظ هنا أنَّ الفتح على اعتبار أنَّ الفعل ثلاثي الماضي، وليس أحبَّ الرّباعي. وهو رأي وجيه ارتضاه النَّحاس. إذ قال: "فأمَّا فتحها فمعروف يدل عليه محبوب" (4) . وهذا إشارة إلى اسم المفعول من الثّلاثي الذي يأتي على وزن مفعول؛ كما تقتضيه القواعد الصَّرفيَّة.
وإذا بني المضارع من ثلاثي أو خماسي أو سداسي كانت حركة حرف المضارعة الفتح. فإن قيل: فلم فتحوا حرف المضارعة في الثّلاثي، وضمُّوه من الرُّباعي؟ قيل: لأنَّ الثَّلاثي أكثر من الرُّباعي، والفتحة أخفُّ من الضَّمة، فأعطوا الأكثر الأخف، والأثقل الأقل ليعادلوا بينهما.
فإن قيل: فالخماسي والسُّداسي أقلُّ من الرُّباعي فهلا وجب ضَمُّهُ؟ قيل: إنَّما وجب فتحه لوجهين:
الأوَّل: أنَّ النَّقل من الثّلاثي أكثر من الرّباعي، فلمَّا وجب الحمل على أحدهما كان الحمل على الأكثر أولى من الحمل على الأقلّ.
والآخر: أنَّ الخماسي والسُّداسي ثقيلان لكثرة حروفهما، فلو بنوهما على الضَّمِّ لأدَّى ذلك إلى أن يجمعوا بين كثرة الحروف، وثقل الضَّم، وذلك لايجوز فأعطوها أخفّ الحركات وهو الفتح (5) .
__________
(1) عمران بن تيم البصري أخذ القراءة عرضًا على ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ وتَلَقَّنَ القرآن على أبي موسى، ولقي أبا بكر رضي الله عنهما. قال ابن معين:" مات سنة خمس ومائة وله مائة وسبع وعشرون سنة ". معرفة القراء الكبار 58 - 59.
(2) آل عمران: 31.
(3) إعراب القرآن للنَّحاس 1 / 367.
(4) إعراب القرآن للنَّحاس 1 / 367.
(5) أسرار العربية للأنباري ص 404 - 405.(47/381)
وهذا ما اشتهر في المسألة، وعليه الاعتماد في التعليم والتقعيد. غير أنَّه قد جاءت لغات تخالف هذا المشهور، من ذلك كسر حروف المضارعة.
وهذه المسألة ـ أعني: كسر حروف المضارعة ـ هي التي شغلت اللغويين؛ لأنَّ العرب تباينت في النّطق بها، وإليك تفصيل ذلك:
ما يكسر من حروف المضارعة وما يمتنع كسره:
سبق أن بيَّنَّا أن حروف المضارعة أربعة: الهمزة، والنّون، والتَّاء، والياء، فهل يصح لنا أن نكسر شيئًا منها؟
يقول سيبويه:" هذا باب ما تكسر فيه أوائل الأفعال المضارعة للأسماء كما كسرت ثاني الحرف حين قلت: فَعِل، وذلك في لغة جميع العرب إلا أهل الحجاز، وذلك قولهم: أنت تِعْلم ذاك، وأنا إعلم، وهي تِعْلم، ونحن نعلم ذلك، وكذلك كل شيء فيه فَعِل من بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن لام أو عين، والمضاعف، وذلك قولهم: شقيت فأنت تِشْقَى، وخشيتُ فأنا إخشى، وخلنا فنحن نِخال، وعَضضْتُنَّ فأنتنَّ تِعْضَضْنَ وأنت تِعَضِّين " (1) .
وبتأمّل هذا النَّصِّ نلحظ أنَّ الحروف التي تكسر من حروف المضارعة ثلاثة: الهمزة، والتَّاء، والنّون، وكسر هذه الحروف لايكون في صيغ الأفعال كلّها، وإنَّما يكون في مضارع فَعِل مكسور العين. وهذا معنى قوله: "كما كَسَرْتَ ثاني الحرف حين قلت: فَعِل ".
والمراد بذلك ما جاء على فَعِل يفعَل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع.
و"ما ورد من فَعِل يفْعِل بكسر العين في الماضي والمضارع لا يكسر منه حرف المضارعة عند أحد من العرب. وأمَّا ما سمع بالوجهين فيكسر فيه حرف المضارعة على لغة الفتح لا على لغة الكسر " (2) .
__________
(1) الكتاب 4 / 110.
(2) المغني في تصريف الأفعال ص 145.(47/382)
وبهذا يتبين أنَّ ما كان على فعِل يفعِل لا يكسر منه حرف المضارعة. وعلة ذلك ثقل الكسر بعد الكسر؛ ولأنَّ العلَّة في كسر حرف المضارعة فيما كان ماضيه على فعِل التنبيه على كسر العين منه، قال سيبويه: "وإنَّما كسروا هذه الأوائل؛ لأنَّهم أرادوا أن تكون أوائلها كثواني فَعِل كما ألزموا الفتح ما كان ثانيه مفتوحًا في فَعَل وكان البناء عندهم على هذا أن يجروا أوائلها على ثواني فعِل منها " (1) .
ولما كانت العلّة هذه لم يُكْسَرْ في الباب شيء كان ثانيه مفتوحًا نحو ضرب وذهب وأشباههما (2) .
أمَّا الياء الدَّالة على الغائب من حروف المضارعة فإنَّا نجدها تخرج من هذا، وتسلم من الكسر. يقول الرّضي: "وتركوا الكسر؛ لأنَّ الياء من حروف المضارعة يُستثقل عليها، وكسر حروف المضارعة ـ إلاَّ الياء ـ لغة غير الحجازيين إذا كان الماضي مكسور العين " (3) . وقال أيضًا: "واعلم أنَّ جميع العرب ـ إلاَّ أهل الحجاز ـ يجوزون كسر حروف المضارعة سوى الياء في الثلاثي المبني للفاعل، إذا كان الماضي على فعِل بكسر العين فيقولون: أنا إعلم، ونحن نِعلم وأنت تِعلم ... " (4) .
وبهذا يتبيّن أنَّ الياء ليست ممَّا يكسر من حروف المضارعة إلاَّ في حالات نادرة، كأن تكون بعدها ياء أخرى. قال الرَّضي: "ويكسرون الياء أيضًا إذا كانت بعدها ياءٌ أخرى" (5) .
__________
(1) الكتاب 4 / 110.
(2) المصدر السَّابق.
(3) شرح الكافية: 2 / 228.
(4) المصدر السابق: 1 / 141.
(5) المصدر السابق: 2 / 228.(47/383)
أمَّا تعليل إخراجها من دائرة الكسر عن مثيلاتها فهو الثّقل النَّاشئ عن ذلك؛ لأنَّ الياء ثقيلة والكسرة ثقيلة، ولذلك لم ترد مكسورة في أوَّل الأسماء إلاَّ في كلمات معدودة، ذكرها ابن جنِّي في منصفه وعلَّل ذلك بالثّقل إذ قال: "وليس في كلام العرب اسم في أوَّله ياء مكسورة إلاَّ قولهم في اليد اليسرى: يِسار بكسر الياء والأفصح يَسار بفتحها. وقالوا أيضًا في جمع يقظان: يِقاظ وفي جمع يَعْرٍ وهو الجدي يِعَرَة وفي جمع يابس: يِباس. وإنَّما تنكَّبوا ذلكَ عنديَ استثقالاً للكسرة في الياء، وليست كالواو التي إذا انضمَّت هُمِزَتْ هربًا من الضَّمَّة فيها. فلمَّا لم يكن فيها القلب لم يستجيزوا كسرها أولاً " (1) .
ولأجل هذه العلَّة تركت بعض القبائل التي تكسر حروف المضارعة الكسر في الياء. قال سيبويه: "وجميع هذا إذا قلت فيه يفعل فأدخلت الياء فتحت؛ وذلك أنَّهم كرهوا الكسرة في الياء حيث لم يخافوا انتقاض معنًى فيحتمل ذلك ... " (2) .
وقال ابن جنِّي: "وتَقِلُّ الكسرة في الياء نحو يِعلم، ويِركب استثقالاً للكسرة في الياء ... " (3) .
وتعبير ابن جنِّي بالقلَّة احتراز ممَّا وقع في لغة بعض القبائل من الكسر حتَّى في الياء، كبعض كلب إذ تكسر فيها وفي غيرها.ذكر ذلك أبوحيَّان فقال: " وغيرهم من العرب [أي: الحجازيين] قيس وتميم وربيعة ومن جاورهم تكسر إلاَّ في الياء فتفتح، إلاَّ بعض كلب فتكسر فيها وفي غيرها من الثَّلاثة" (4) . على أنَّه وجد غير كلب يكسر في الجميع في بعض الأفعال خاصَّة، كما تفعل تميم في مثل وجل إذ تكسر مطلقًا. وسيأتي بيان ذلك ـ إن شاء الله.
__________
(1) المنصف: 1 / 117.
(2) الكتاب 4 / 110.
(3) المحتسب 1 / 330.
(4) ارتشاف الضرب 1 / 88.(47/384)
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنَّه " لا يستبعد أن تلحق الكسرة الياء كما لحقت غيرها من حروف المضارعة؛ لأنَّ الكسرة أنسب للياء من الفتحة أو الضَّمَّة فهما من مخرج واحد" (1) . وهذا ناتج عن تعليل سبب الكسر بأنَّه من قبيل ميل القبائل البدويَّة إلى الكسر، بسبب طبيعة التعجل عندهم (2) .
الأفعال التي تكسر فيها حروف المضارعة:
حدد علماء العربية القدماء نوع الأفعال التي تكسر فيها حروف المضارعة فجعلوه من الثلاثي ما جاء على فِعل يفعَل ومن غيره ما كان مبدوءاً بهمزة وصل أو تاء زائدة. وجعلوا علة ذلك الإشارة إلى كسر العين في فَعِل (3) ثم شبهوا ما كان في ماضيه ألف وصل بما كان الماضي منه على فَعِل لاجتماعهما في كسرة ألف الوصل أولاً، وكسرة عين فِعل ثانياً، وكرهواً كسر الحرف الثاني من مستقبل فعِل لأن صفته السكون، وكرهوا كسر الثالث لئلا يلتبس يفعَل بـ يفعِل فوجب كسر الأول. ثم شبهوا مستقبل ما ماضيه ألف الوصل بمستقبل فعِل فكسروا أوله (4) ثم حملوا عليه ما بدئ بتاءٍ زائدة لأنه كان في الأصل مما ينبغي أن يكون أوله ألف موصولة، لأن معناه معنى الانفعال، وهو بمنزلة انفتح وانطلق، ولكنهم لم يستعملوه استخفافاً (5) هذه تعليلات القدماء، وهي تعليلات مقبولة، استنتجوها من طبيعة اللغة والنظر في قوانينها وإن لم تقصدها العرب حين تكلمت بهذه الأفعال.
... وحين تحدث علماء العربية المحدثون عن هذه القضية جعلها بعضهم من قبيل ميل القبائل البدوية إلى الكسر بسبب طبيعة التعجل عندهم (6) .
__________
(1) اللهجات في الكتاب لسيبويه 161.
(2) انظر المرجع السَّابق.
(3) شرح الشافية 1/141.
(4) المخصص 14/218.
(5) المصدر السابق.
(6) اللهجات في الكتاب 163.(47/385)
وذهب الدكتور غالب المطلبي إلى أن تعليل القدماء ليس صحيحاً بسبب وجود أمثلة من غير باب فعِل يفعَل من نحو أبي، وركن، وخال (1) وصنع. ومال إلى أن كسر حروف المضارعة في الأصل متعلق بصيغة يفعَل المفتوحة العين بغض النظر عن حركة العين في الماضي، وجعل ذلك ظاهرة لغوية سامية قديمة، إذ إنه اطرد في لغتين ساميتين غربيتين هما العبرية والسريانية (2) .
ونلحظ هنا أن تعليل المحدثين أغفل المبدوء بهمزة الوصل والتاء الزائدة، مما يجعل الأمر يحتاج إلى نظر، على أن كل ما ذكروه لا يمكن الجزم به لافتقاره إلى الأدلة القاطعة التي تبرهن على صحته، وفساد ما ذهب إليه القدماء ـ في نظرهم ـ ومن ثم أرى تعليل القدماء يبقى الأصل، ولا يقبل الحكم بعدم صحته إلا إذا توصل الباحثون إلى تعليل تعضده الأدلة، وتُعَيِّنُ القول به البراهينُ، وقد أشار الدكتور المطلبي إلى عدم توافر هذا فقال: "ولكننا لا نستطيع أن نذهب مذهباً يُطمأنُ إليه لاندثار هذه اللغات، وعدم وجود أدلة جازمة فيه " (3) .
أما الأفعال التي تجري فيها هذه الظاهر فيمكن تناولها على النحو التالي:
1- ما كان الكسر فيه تنبيهًا على كسر عين الفعل الماضي منه، وذلك في كل فعل ماضيه على فَعِل سالمًا كان، أو مضاعفًا، أو أجوف أو ناقصًا (4) ، أو مهموزًا، أو مثالاً أو لفيفًا، وكان مبنيًّا للفاعل.
2- ما كان مبدوءًا بهمزة وصل مكسورة.
3- ما كان مبدوءًا بتاءٍ معتادة ممَّا يكون على وزن تفعّل أو تفاعل أو تفعلل وإليك بيان هذه الأحكام بالتَّفصيل:
ما كان الكسر فيه تنبيهًا على كسر عين الفعل الماضي منه، ويكون ذلك في الفعل الصَّحيح والمعتلّ على السَّواء وفق التَّفصيل التَّالي:
أالصَّحيح السَّالم:
__________
(1) سيأتي الحديث عن هذه الأفعال وما رآه القدماء بشأنها.
(2) في الأصوات اللغوية دراسة في أصوات المد العربية 190.
(3) المرجع السابق.
(4) اللهجات في الكتاب ص 156.(47/386)
من المعلوم أنَّ الصَّحيح هو ما خلت حروفه الأصول من أحرف العلَّة الألف والياء والواو. والسَّالم ما سلم من الهمز والتَّضعيف، وهذا النَّوع من الأفعال ممَّا يكسر فيه حرف المضارعة إذا كان ماضيه على فَعِل ومضارعه على يفعَل.
وقد مرَّ بنا آنفًا تمثيل سيبويه بالفعل عَلِم الذي توافرت فيه شروط كسر حرف المضارعة منه. وجاء عند ابن جنِّي قوله: "هذه لغة تميم أن تكسر أوَّل مضارع ما ثاني ماضيه مكسور نحو: علمت تِعْلم، وأنا إعلم، وهي تِعْلم ونحن نِرْكَب " (1) .
وقد وردت شواهد في القراءات الشَّاذَّة والشّعر والنَّثر على هذا. منها: ما نقله أبو حيَّان أنَّ أبا عمرو قرأ: {وَلا تِِرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (2) بكسر التَّاء على لغة تميم (3) . والفعل ركن يأتي على فعِل وفَعَل فيقال: رَكِن إلى الشَّيء ورَكَن يَرْكَنُ ويَرْكُنُ (4) . فكسر التَّاء هنا على أنَّه من رَكِنَ يَرْكَنُ.
ومثل ذلك عهد إذ ورد في ذلك كسر حرف المضارعة في قراءة يحيى بن وثاب (5) في قوله تعالى: {أَلَمْ إِعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ ... } (6) .
قال الزَّمخشري: "وقرئ إعهد بكسر الهمزة، وباب فَعِل كلّه يجوز في حروف مضارعته الكسر إلاَّ في الياء، وأعهد بكسر الهاء.." (7) .
__________
(1) المحتسب 1 / 330.
(2) هود: 113.
(3) البحر المحيط 5 / 269.
(4) لسان العرب (ركن) .
(5) يحيى بن وثَّاب الأسدي الكوفي القارئ العابد، تابعيّ ثقة مقرئ الكوفة. توفي سنة ثلاث ومائة. معرفة القراء الكبار 1 / 64، 65.
(6) يس: 6.
(7) الكشَّاف 3 / 327.(47/387)
ومن ذلك في النَّثر ماذكره أبو حاتم السّجستاني من أنَّه سمع حترش بن ثمال ـ وهو عربي فصيح ـ يقول في خطبته: "الحمد لله إحمده وإستعينه وإتوكل عليه" فيكسر الألفات كلّها (1) . وكذلك ما ذكره ابن خالويه من قولهم: "ربِّ اغفر وارحم، واعف عمَّا تِعلم إنَّك أنت الأعزُّ الأكرم" (2) ، فاتَّضح ممَّا سبق أنَّ كسر حرف المضارعة من الصَّحيح السَّالم وارد في لهجات العرب إذا كان الماضي على فعِل بكسر العين.
ومثلها قراءة من قرأ {تِعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا إِعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك} (3) بكسر حرفي المضارعة (4) و {تِقْرَبَا} بكسر التَّاء أيضًا (5) ؛ لأنَّه من قَرِبْتُ أقْرَبُ.
ب المضاعف [مضاعف الثلاثي] :
المضاعف يقصد به ما كانت عينه ولامه من جنس، مثل شدَّ ومدَّ؛ إذ أصلهما شَدَد ومَدَدَ، جرى فيهما وفي أمثالهما إدغام لكون الحرفين من مخرج واحد بلا فصل بينهما.
وهذا النَّوع من الأفعال هو ما عناه سيبويه في الكتاب بقوله: "وعَضِضْتُن فأنتن تِعْضضن وأنت تِعَضِّين " (6) .
__________
(1) انظر اللهجات العربية في التراث 1 / 389.
(2) ليس في كلام العرب ص 102 - 103 وبغية الآمال ص152.
(3) المائدة: 114.
(4) نسبها ابن خالويه في المختصر ص 42 إلى الأعمش.
(5) من قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . سورة البقرة: 35. وقراءة الكسر لابن وثاب. انظر مختصر ابن خالويه ص 12، وإعراب القراءات الشَّواذ 1 /149.
(6) الكتاب 4 / 110.(47/388)
فالفعل عَضَّ من باب فَعِل يَفْعَل تقول: قد عَضِضْتُه أَعَضُّهُ. جرى فيه كسر حرف المضارعة، ومن ذلك قراءة يحيى (1) والأعمش (2) وطلحة (3) بخلاف. ورواه إسحاق الأزرق (4) عن حمزة (5) : {فَتِمَسَّكُمُ النَّارُ} (6) . وذلك من قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتِمَسَّكُمُ النَّارُ} (7) .
والفعل مَسَّ على فَعِل ومضارعه على يفعل. تقول: مَسِسْتُه بالكسر أَمَسُّه مَسًّا ومَسِيسًا: لَمَسْتُه، هذه اللّغة الفصيحة. ومَسَسْتُه بالفتح أمُسُّه بالضَّم لغة (8) . فكسر حرف المضارعة في القراءة المذكورة على اللغة الفصيحة، وبهذا يتّفق مع داعي الكسر المذكور في كلام أهل اللّغة.
ومثلها قراءةَ {تمِسَّنَا النَّارُ} (9) بكسر التَّاء (10) .
__________
(1) ابن وثاب وتقدمت ترجمته.
(2) الأعمش سليمان بن مهران أبومحمّدالكوفي، مولى بني أسد ت 148هـ. انظر معرفة القراء الكبار للذّهبي 1/96.
(3) طلحة بن مصرف أبو محمّد الهمذاني الكوفي، تابعيّ كبير، له اختيار في القراءة ينسب إليه، توفي سنة 112هـ، انظر سير أعلام النّبلاء 5 / 191 - 193.
(4) ابن يوسف الواسطي، كان فيمن أخذوا القراءةعن حمزة. توفي 195هـ. انظرطبقات القراءلابن الجزري1/158.
(5) ابن حبيب الزّيات، أحد القرّاء السّبعة توفّي 156هـ. انظر معرفة القراء الكبار 1/ 118.
(6) المحتسب 1 / 330.
(7) هود: 113.
(8) اللسان (مسس) .
(9) سورة البقرة: 80.
(10) إعراب القراءات الشَّواذ 1 / 181.(47/389)
ضَلَّ اللغة الفصيحة في هذا الفعل فَعَل يفعِل وعلى هذا ليس جاريًا على قاعدة كسر حرف المضارعة، وفي قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي ... } (1) قُرئ: {إضَلُّ} بكسر الهمزة وفتح الضَّاد (2) ، وهذا على أنَّ الفعل من قولهم: ضَلِلت أَضَلُّ وذلك على لغة أهل الحجاز (3) .
ومثل ذلك ما جاء في اللِّسان: " وكان ينشد [أي: ابن دريد] هذا البيت:
كان لنا وهو فُلُوٌّ نِربَبُه
كَسَرَ حرف المضارعة ليعلم أنّ ثاني الفعل الماضي مكسور (4) .
وذكر الجندي أنه قرئ {وَنِقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} . بكسر النون (5) ولم يعزه إلى مصدر معين، ولم أقف عليه فيما رجعت إليه من مصادر، فإن صح ما ذكر فذلك غير ممتنع ـ لغةً ـ ويدخل في باب المضاعف.
جـ الصَّحيح المهموز:
أَمِنَ فعل صحيح مهموز، ورد كسر حرف المضارعة منه في قراءة ابن وثاب (6) وأبي رزين (7) في قول الله تعالى: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} (8) إذ قرآ "مالك لاتيمنا" بكسر التَّاء مع الإدغام. وفي مصحف ابن مسعود: {تِيمنه. وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب: {تِئمنه} (9) .
__________
(1) سبأ: 50.
(2) نسب ابن خالويه هذه القراءة لعبد الرّحمن المقرئ، وكذا أبوحيَّان في البحر.انظر مختصر ابن خالويه 123، والبحر المحيط 7 / 292. وذكرها الزّمخشري في الكشَّاف 3 / 295 بدون نسبة.
(3) انظر اللّسان (ضلل) .
(4) اللِّسان: ربب.
(5) اللهجات العربية في التراث: 1/393. والآية من سورة الحج (5) .
(6) تقدّمت ترجمته.
(7) مسعود بن مالك، ويقال ابن عبد الله أبوزيد الكوفي، لم يحفظ ابن الجزري سنة وفاته. غاية النّهاية في طبقات القرّاء لابن الجزري 2 / 296.
(8) سورة يوسف: 11.
(9) اللهجات العربية في التراث 1 / 389.(47/390)
ألم أَلِمَ يأْلَمُ على فَعِل يفعَل. ولذا جاء كسر حرف المضارعة فيه في قراءة يحيى بن وثاب: {فإنَّهم ييلمون كما تيلمون} وذلك من قول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ... } (1) بكسر حرفي المضارعة الياء والتَّاء.
وقد استوقفت هذه القراءة ابن جنِّي من حيث إنَّ أحد الحرفين الياء. يقول ابن جنِّي في هذه القراءة: "العرف في نحو هذا أن من قال: أنت تِئمن وتِئلف وإيلف، فكسر حرف المضارعة في نحو هذا إذا صار إلى الياء فتحها ألبتة، فقال: يألف، ولايقول: هو ييلف، استثقالاً للكسرة في الياء " (2) . أمَّا كسر التَّاء فهو جارٍ على نظائره، وذكر النَّحاس أنَّها قراءة عبد الرَّحمن الأعرج، وقال: "ولايجوز عند البصريين في تألمون كسر التاء لثقل الكسر فيها " (3) . ومراده أنَّ الثقل نشأ من تتابع الكسرة والياء، لا أن الكسرة مستثقلة على التاء.
أذن الفعل أذن صحيح مهموز وهو من باب فعِل يفعَل وقد ورد كسر حرف المضارعة منه في قراءةٍ شاذَّة في قول الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (4) إذ قرئت إيذن بكسر الهمزة وياءٍ بعدها ووجهه أنَّه كسر حرف المضارعة فصارت الألف ياءً (5) .
ومن ذلك ماجاء في قول منصور بن مرثد (6) الأسدي:
قلتُ لبوابٍ لديه دارُها ... تِئذن فإني حَمْؤُها وجارُها
__________
(1) النِّساء: 104. وقرأ ذلك بالكسر ابن وثاب وابن المعتمر. انظر المحتسب 1 / 198، وشرح التسهيل 3 / 448، والبحر 3 / 343.
(2) المحتسب 1 / 198.
(3) إعراب القرن 1 / 486.
(4) الأعراف: 123.
(5) إعراب القراءات الشواذ 1 / 554.
(6) إصلاح المنطق ص 340، والمغني ص 298.(47/391)
بكسر التَاء. وإن كان جُعِل كسر حرف المضارعة هنا بسبب حذف لام الأمر، إذ الأصل: لتئذن، إلاَّ أنِّي أرى أنَّه من باب كسر حرف المضارعة لأنَّ الفعل أذِن يأذن على فعِل يفعَل فقد توافرت فيه شرائط كسر حرف المضارعة. وممَّا يقوّي القول بأنَّه من قبيل كسر حرف المضارعة قول ابن مالك: وليس الحذف بضرورة لتمكنه من أن يقول: ايذن (1) .
كما أنَّ كون الشَّاعر من بني أسد التي تُسْلَكُ في القبائل التي تكسر حرف المضارعة يؤيد ذلك والله أعلم.
أثممن الصّحيح المهموز وهو من باب فعِل يفعَل، تقول: أَثِمَ يأثم. ومن ثم جاء كسر حرف المضارعة فيه وذلك في قول الراجز:
لو قُلتَ مافي قومها لم تِيثم ... يفضلها في حسب وميسم (2)
فنجد أنَّه كسر حرف المضارعة في الفعل تأثم وأبدل الهمزة ياءً لمناسبة الكسر لها، وبهذا يتبيّن أنَّ أقسام الصَّحيح في كسر حرف المضارعة سواء إذا توافرت أسباب ذلك.
أمَّا المعتلّ فهو أقسام أربعة: مثال، وأجوف، وناقص، ولفيف. فالمثال ما اعْتَلَّتْ فاؤه، والأجوف ما اعتلت عينه، والنَّاقص ما اعتلت لامه، واللفيف ما كان فيه حرفا علة سواء كانا متتابعين أو فرق بينهما حرف صحيح.
د المثال:
الفعل وجل فعل مثال لأنَّ فاءه حرف عِلَّةٍ، وقد ورد كسر حرف المضارعة منه في كلام العرب. يقول سيبويه: "وأمَّا وجِل يوجَل ونحوه فإنَّ أهل الحجاز يقولون: يوجَل فيجرونه مُجْرَى علمت. وغيرهم من العرب سوى أهل الحجاز يقولون في تَوْجل: هي تِيجلُ، وأنا إيجل، ونحن نِيجل. وإذا قلت: يفعَل فبعض العرب يقولون يَيْجل كراهية الواو مع الياء، شبهوا ذلك بأيام ونحوها.
__________
(1) انظر شرح الكافية الشَّافية 3 / 1570، والمغنى 298.
(2) الكتاب 2/345، والخصائص 2/370 بدون نسبة، ونسبه ابن يعيش إلى أبي الأسود الحماني، انظر شرح المفصل 3/61، ونسبه البغدادي إلى حكيم بن مُعَيَّة انظر الخزانة 2/311.(47/392)
وقال بعضهم: ياجَل، فأبدلوا مكانها ألفًا كراهية الواو مع الياء كما يبدلونها من الهمزة السَّاكنة.
وقال بعضهم: يِيجل، كأنَّه لمَّا كره الياء مع الواو كسر الياء ليقلب الواو ياءً؛ لأنَّه قد علم أنَّ الواو السَّاكنة إذا كانت قبلها كسرة صارت ياءً، ولم تكن عنده الواو التي تقلب مع الياء حيث كانت الياء التي قبلها متحرّكة، فأرادوا أن يقلبوها إلى هذا الحد، وكره أن يقلبها على ذلك الوجه الآخر " (1) .
فتجد أنَّ سيبويه نصَّ على أنَّ من العرب من يكسر حروف المضارعة الثَّلاثة ـ الهمزة والتاء والنون ـ أمَّا مع الياء فورد عن بعضهم، ولكنَّه التمس له تعليلاً غير ماكان لغيرها.
وصرَّح الأخفش بأنَّ كسر الياء في باب وجل لأنَّ الواو قد تحوَّلت إلى الياء مع التاء والنُّون والألف، فلو فتحوها استنكروا الواو، ولو فتحوا الياء لجاءت الواو، فكسروا الياء فقالوا: يِيجل ليكون الذي بعدها ياء، وكانت الياء أخفَّ مع الياء من الواو مع الياء؛ لأنَّه يُفَرُّ إلى الياء من الواو، ولا يُفرُّ إلى الواو من الياء (2) .
وكسر حروف المضارعة الثَّلاثة في وجل جعله ابن مالك مطلقًا إذ قال: " ... ويكسره غير الحجازيين مالم يكن ياءً إن كسر ثاني الماضي أو زيد أوله ياء معتادة أو همزة وصل؛ ويكسرونه مطلقًا في مضارع أبى ووجل ونحوه " (3) .
وقال أبوحيان: "فإن كان مثل وجل مما هو مكسور العين وفاؤه واو فمضارعه على يَفعَلُ بفتحِ العين، وهي لغةُ قريشٍ وكنانة. فأهل الكسر مختلفون، فمنهم من يكسر مطلقًا، وهي لغة تميم، فتنقلب تلك الواو ياءً، ومنهم من يكسر إلاَّ في الياء فيفتح وهي لغة بني عامر ... " (4) .
وبهذا يتضح لنا حكم كسر حروف المضارعة في الفعل المثال.
هـ الأجوف:
جاء في قول عمر بن أبي ربيعة (5) :
__________
(1) الكتاب 4 / 111 - 112.
(2) معاني القرآن 2 / 412.
(3) التسهيل 197.
(4) ارتشاف الضرب 1/ 88، 89.
(5) ديوان الحماسة: 2 / 429، وشرحها للمرزوقي 4 / 1845.(47/393)
مالقلبي كأنَّه ليس مني ... وعظامي إخال فيهن فترا
كَسَرَ حرفَ المضارعة من إخال وهو فعل أجوف.
ومثله قول العباس بن مرداس السّلمي:
قد كان قومك يحسبونك سَيِّدًا ... وإخال أنَّك سيد معيون (1)
وكذلك قول بعض بني جَرْم من طيِّئ:
إخالك مُوعِدي ببني حُفيفٍ ... وهالةَ إنَّني أنهاك هالا (2)
وإخال جاء فيها كسر الهمزة كما روي هنا، وجاء فيها الفتح. قال ابن منظور: "وفي الحديث ماإخالك سرقت، أي: ما أظنّك. وتقول في مستقبله: إخال، بكسر الألف وهو الأفصح، وبنو أسد يقولون: أخال بالفتح وهو القياس، والكسر أكثر استعمالاً" (3) . ويقول المرزوقيُّ: "ويقال: خِلت أخالُ. وإخالُ طائيَّةٌ، فكثر استعمالها في ألسنة غيرها، حتى صار أخال كالمرفوض" (4) .
وبهذا يتبيَّن أنَّ همزة إخال تكسرها جَرْم [بطن من طيِّئ] ونسب التبريزيُّ الكسر إلى طيئ (5) ، ونسبه المرزوقيُّ إلى هذيل إذ قال: "وإخال كسر الهمز منه لغة هذيل، ثمَّ فشت في غيرها" (6) .
أما الفتح في هذا الفعل فنسب إلى بني أسد، نسبه إليهم ابنُ منظور والفيوميُّ وخالدُ الأزهريُّ، وذكر أنَّه مَحْكِيُّ عن أسدٍ خاصَّةً، وكذا البغدادي (7) ولغة أسدٍ هي القياس. وبهذا تكون بنو أسد قد خالفت المشهور عنها في هذا الفعل خاصَّة دون غيره، وهذا مراد ابن هشام بالعكس في قوله: "وكسر همزة إخال فصيح استعمالاً شاذُّ قياسًا، وفتحُها لغةُ أسدٍ وهو بالعكس" (8) أي بعكس ما اشتهر عنها في كسر حروف المضارعة من غير هذا الفعل.
__________
(1) أمالي ابن الشّجري 1 / 111، والمقتضب 1 / 102، وليس في كلام العرب (115) .
(2) ديوان الحماسة 1 / 141، والرواية بفتح الهمزة، وجعلها المرزوقي في الشرح بالكسر.
(3) اللسان (خيل) .
(4) شرح الحماسة 1 / 248.
(5) شرح الحماسة 1 / 242.
(6) شرح الحماسة 4 / 1845.
(7) اللسان والمصباح المنير (خيل) وشرح التَّصريح على التَّوضيح 1/258. والخزانة 4/11.
(8) شرح قصيدة (بانت سعاد) ص 170.(47/394)
وقد شكَّ الدُّكتور أحمد الجندي في هذا، ولم يرتض الفتحَ من بني أسد في إخال لأنَّ بني أسد من القبائل التي اشتهر عنها كسر حروف المضارعة، ونسب إلى ابن فارس خلطًا في هذه المسألة إذ ذكر أنَّه نسب إلى أسد فتح النُّون من {نَسْتَعِينُ} وفي موضع آخر نسب إليهم الكسر في مثل تعلمون (1) ومن ثمَّ رجَّح أن أسد مصحفة من الأزد. وتابعته في ذلك صالحة آل غنيم (2) .
وعند تأمّل ما نقله الدُّكتور الجندي يتَّضح أنَّ ابن فارس لم يخلط، ولم يخلط غيره من الرُّواة، وإنَّما نقل عن الفرَّاء أنَّ النون من {نستعين} مفتوحة في لغة قريشٍ، وأسدٌ وغيرهم يقولونها بكسر النُّون. فجعل الجندي أسدًا معطوفة على قريش والحق غير ذلك. وبهذا يعلم أنَّ بني أسد خالفت المشهور عنها في هذا الفعل خاصَّة ففتحت، والتَّصحيف الذي ذكره الدّكتور الجندي مستبعد؛ لأنَّ الرّواة قالوا بنو أسد ثمّ إنَّ الأزد لغاتهم مختلفة باختلاف قبائلهم، إذ بعضها لايحتج بلغاتهم كالغساسنة وأزد شنوءة.
والنَّاقص:
قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف: {فكيف إيسى على قومٍ كافرين} (3) . وهذه لغة تميم يقولون: أنا إضرب (4) .
وإيسى من أسيت عليه أسًى. حزنت، وأسِيَ على مصيبته بالكسر يأسَى أسًى مقصورٌ: إذا حزن (5) فكسر حرف المضارعة منه جارٍ على مايجري في غيره مما هو على فعِل يفعَل. ومثل ذلك قراءة الأعمش: {ولاتعِثوا} من قول الله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (6) . إذ قرأ بكسر التاء، قال العكبري: "ويقرأ كذلك إلاَّ أنَّه بكسر التاء، وهي لغة كنانة يكسرون حرف المضارعة" (7) ، والفعل عثى من باب فَعِل يفعَل كـ رضي يرضى. وذلك جاء موافقًا للقاعدة.
ز اللفيف:
__________
(1) اللهجات العربية في التراث 1 / 391، 392.
(2) اللهجات في الكتاب 159.
(3) الأعراف 971.
(4) إعراب القرآن 2 / 139.
(5) اللسان (أسا) .
(6) سورة البقرة: 60.
(7) إعراب القراءات الشواذ 1 / 165.(47/395)
يطلق الصرفيون هذا المصطلح على الفعل الذي يكون من أصوله حرفا علة، فإن فرق بينهما حرف صحيح سمي مفروقًا، وإن كانا عين الفعل ولامه سمي مقرونًا. والفعل وني من هذا النّوع وهو من باب فعِل وفعَل. قال ابن القطَّاع: " ووَنِي ونًى ووناءً ووُنِيّاً وونَى وَنْيًا: فتر وضعف " (1) وفي قول الله تعالى: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (2) قرأ يحيى بن وثاب: {تِنيا} بكسر التاء (3) .
وبهذا يتبين مايتعلق بالفعل الثلاثي من أحكام من حيث كسر حرف المضارعة منه.
2 المبدوء بهمزة وصل:
ذكرت سابقًا أن من جملة مايكسر حرف المضارعة منه ماكان مبدوءًا بهمزة وصل، وهذا مأخوذ من نص سيبويه؛ إذ قال في كتابه: "واعلم أنَّ كلَّ شيءٍ كانت ألفه موصولة ممَّا جاوز ثلاثة أحرف في فَعَل فإنَّك تكسر أوائل الأفعال المضارعة للأسماء، وذلك لأنَّهم أرادوا أن يكسروا أوائلها كما كسروا أوائل فعَل فلما أرادوا الأفعال المضارعة على هذا المعنى كسروا أوائلها كأنَّهم شبهوا هذا بذلك، وإنَّما منعهم أن يكسروا الثواني في باب فعل أنَّها لم تكن تحرك، فوضعوا ذلك في الأوائل، ولم يكونوا ليكسروا الثالث فيلتبس يفعِل بيفعَل، وذلك قولك: استعفر فأنت تِستغفر، واحرنجم فأنت تِحرنجم، واغدودن فأنت تِغدودِن، واقعنسس فأنا إقعنسس " (4) .
وقال ابن جنِّي ـ بعد ذكر كسر ما ثاني الماضي منه مكسور ـ:"وكذلك ما في أول ماضيه همزة وصل مكسورة، نحو: تِنْطَلِق، ويوم تِسْوَدُّ وجوهٌ وتِبْيَضُّ وجوهٌ ... " (5) . وحكى الكسائي: أنت تستطيع (6) .
وقد وردت نصوص على هذا منها:
__________
(1) الأفعال 3 / 334.
(2) طه: 42.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 90 والبحر المحيط 6 / 245.
(4) الكتاب 4 / 112.
(5) المحتسب 1 / 330.
(6) إعراب القرآن للنحاس 2 / 474.(47/396)
- قراءة يحيى بن وثاب وأبي رزين في قول الله تعالى: {يوم تِبْيَضُّ وجوهُُ وتِسْوَدُّ وجوهُُ} (1) إذ قرآ بكسر التاء فيهما (2) .
- قراءة ابن وثاب أيضًا {اِضْطَرُّهُ} بكسر حرف المضارعة سواء كانت همزة أو نونًا، وذلك من قول الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ... } (3) .
إذ ذكرت المصادر أنَّها قرئت بكسر حرف المضارعة (4) .
- قال الفارسي (5) : "فأما ما حكي من قولهم: ماإسطيع عليه، بكسر الألف، وأن المعنى: لاأستطيعه، فإنَّ همزة المضارعة إنَّما كسرت لأنَّ همزة الوصل تلحق الماضي، ومالحقته الهمزة الموصولة، أو كان في حكم ماتلحقه، فإنَّهم يكسرون أوله كما كسروا نعلم ونحوه ".
- ذكر أبوحاتم السجستاني أنَّه سمع حترش بن ثمال ـ وهو عربي فصيح ـ يقول في خطبته: "الحمد لله إحمده وإستعينه وإتوكل عليه" فيكسر الألفات كلّها (6) .
وعلى هذا قراءة من قرأ: {وإيَّاك نستعين} (7) بكسر النّون.
يقول الرضي: "وكسروا أيضًا غير الياء من حروف المضارعة فيما أوله همزة وصل مكسورة نحو: أنت تِحرَنْجِم، تنبيهًا على كون الماضي مكسور الأول، وهو همزة " (8) .
وبهذا يتضح أنَّ من جملة الأفعال التي يكسر فيها حرف المضارعة ماكان مبدوءًا بهمزة وصل مما جاوز ثلاثة أحرف كما في النّصوص المتقدّمة، تنبيهًا بذلك على كسرة همزة الوصل في الماضي.
3 المبدوء بتاءٍ زائدة معتادة:
يقصد بالتاء المعتادة الاحتراز من التاء المزيدة في أول الماضي شذوذًا ـ كتَرْمَسَ الشيء من رمسه بمعنى ستره.
__________
(1) آل عمران: 106.
(2) تفسير القرطبي 4 / 167، والبحر المحيط 3 / 22، وإعراب القراءات الشواذ 1 /339.
(3) سورة البقرة: 126.
(4) معاني القرآن 1/ 87، وإعراب القرآن 1/260، وإعراب القراءات الشواذ 1/205.
(5) كتاب الشعر 1 / 194.
(6) سبق ص 16.
(7) شرح الشافية 1 / 143.
(8) المصدر السَّابق.(47/397)
وهذا النَّوع من الأفعال ممَّا ورد فيه كسر المضارع. قال سيبويه ـ بعد بيان كسر حرف المضارعة فيما أوله همزة وصل: "وكذلك كل شيء من تفعّلت أو تفاعلت أو تَفَعْلَلْت يجري هذا المجرى، لأنَّه كان عندهم في الأصل ممَّا ينبغي أن تكون أوّلَهُ ألفٌ موصولة؛ لأنَّ معناه معنى الانفعال، وهو بمنزلة انفتح وانطلق، ولكنّهم لم يستعملوه استخفافًا في هذا القبيل ... " (1) .
وقال الرَّضيُّ: "ثمَّ شبَّهوا مافي أوّله تاء زائدة من ذوات الزّوائد، نحو تَكَلَّمَ وَتَغافَلَ وتَدَحْرَجَ بباب انفعل، لكون ذي التاء مطاوعًا في الأغلب كما أنَّ انفعل كذلك، فتفعَّلَ وتَفاعَلَ وتَفَعْلَلَ مطاوع فعَّلَ وفَاعَلَ وفَعْلَلَ، فكسروا غير الياء من حروف مضارعاتها، فكلُّ ماأوّل ماضيه همزة وصل مكسورة أو تاء زائدة يجوز فيه ذلك" (2) .
ومن هنا يتضح أنَّ ما كان مبدوءًا بتاء زائدة معتادة صحَّ فيه كسر حرف المضارعة، مع أنَّ التاء غير مكسورة تشبيهًا لتلك الأفعال بما في أوّله همزة وصل من حيث إنَّها في الأغلب تكون مطاوعة.
4 ما جاء على وجه شاذ:
وردت بعض النّصوص مشيرة إلى كسر حرف المضارعة في أفعال لا تندرج تحت القواعد المتقدمة. من ذلك:
جاء في أبى تِئْبَى قال سيبويه: "وقالوا: أبى فأنت تِئْبَى، وهو يِئْبَى، وذلك أنَّه من الحروف التي يستعمل يفعل فيها مفتوحًا وأخواتها، وليس القياس أن تفتح، وإنَّما هو حرف شاذ، فلمَّا جاء مجيء ما فَعَلَ منه مكسور فعلوا به مافعلوا بذلك، وكسروا في الياء فقالوا: يئْبَى، وخالفوا به في هذا الباب فعِل كما خالفوا به بابه حين فتحوا ... " (3) .
__________
(1) الكتاب 4 / 112.
(2) شرح الشَّافية 1 / 143.
(3) الكتاب 4 / 110، 111.(47/398)
فالفعل أبى من باب فَعَلَ يفعَل مفتوح العين في الماضي والمضارع، وكل ماكانت عينه مفتوحة في الماضي والمضارع، فهو حلقي العين أو اللام. وماجاء منه بدون حرف حلقي فشاذ، ومنه أبى يأبى والأصل كسر العين في الماضي، ولكنَّهم قلبوه فتحة تخفيفًا. وهذا معنى كلام سيبويه المتقدّم.
ويقول ابن جنِّي: " فأمَّا قولهم: أبيت تِئْبى فإنَّما كسر أوّل مضارعه وعين ماضيه مفتوحة من قبل أنَّ المضارع لما أتى على يفعَل بفتح العين صار كأنَّ ماضيه مكسور العين حتَّى كأنَّه أَبِيَ ... " (1) .
وفسر ذلك أبوحيان بأنَّه " يمكن أن يكون من باب الاستغناء بمضارعه عن مضارع المفتوح العين في الماضي " (2) .
ومن هذا نلحظ أمرين:
أوّلهما: كسر حرف المضارعة فيه مع أنَّه ليس من باب فعِل يفعَل وذلك لمجيء مضارعه مجيءَ ما ماضيه مكسور.
والآخر: أنَّه بتقدير ان يكون من باب فعِل فحقُّه ألاَّ تكسر الياء فيه، إلاَّ أنَّهم لما خالفوا به في كونه مفتوحًا وكان حقُّه أن يكسر لأجل فتح مضارعه خالفوا به في كسر يائه أيضًا؛ تشبيهًا له بـ وَجِل ييجل.
ولم يذكر العلماء الأقدمون غير هذا الفعل إلى أن جاء اللبلي فذكر فعلاً آخر معه، هو اِحب يقول مشيراً إلى الفعل أبي: " هذا الحرف استثناه النحويون من الباب فقط، ولم أر أحداً استثنى شيئاً سواه، مع طول بحثي عن ذلك، ووجدت أنا آخر، وهو: حَبَبت الرجل إِحبُّهُ ـ بكسر الهمزة ـ حكاه الإمام أبو عبد الله محمد بن أبان بن سَيِّد القرطبيُّ في كتابه المسمى بالسماء والعالم" (3) .
ومن الأشياء الشَّاذَّة أفعال ورد فيها كسر حرف المضارعة وليست منطبقة عليها قواعد الكسر مثل: تِذْهب، تلحن، وإضرب.
__________
(1) المحتسب 1 / 330 وانظر المخصص 14/216.
(2) ارتشاف الضرب 1 / 89.
(3) بغية الآمال ص151.(47/399)
فالمشهور أنَّ مثل هذه الأفعال لايكسر فيها حرف المضارعة مطلقًا، نصَّ على ذلك سيبويه فقال: "ولايكسر في هذا الباب شيءٌ كان ثانيه مفتوحًا، نحو ضرب، وذهب وأشباههما " (1) .
إلاَّ أنَّ الكسائي حكى أنَّه سمع بعض بني دُبَيْرٍ يقول: أنت تِلحن وتِذهب (2) .
وهذا شيءٌ مخالف لما نقله العلماء من قواعد، فلا يتعدى به محلّه.
وحكى اللحياني عن الكسائي أن ذلك في التاء والنون والألف من كل فعلٍ كان على يفعَل بفتح الماضي والمستقبل معاً وأنشد:
ذروني إذهبْ في البلاد وريقتي ... تسوغ وحلقي لين ولساني
لكسر الهمزة في إذهب (3) .
ويأتي من هذا الشذوذ نفرغ في قراءة عيسى الثقفي (4) {سنفرغ لكم} (5) بكسر النون وفتح الراء. فالفعل فرغ يفرغ ويفرغ ومع ذلك كسرت النون.
ومثله {وإنصح} لكم بكسر الهمزة، وذلك ورد في قراءة يحيى بن وثاب وطلحة، لقول الله تعالى {أبلغكم رسالات ربي وإنصح لكم} (6) .
والفعل نصح ينصح بالفتح في الماضي والمضارع ومع ذلك كسر حرف المضارعة منه.
وشذ أيضا ما ورد في أفعال من باب فعل يفعل إذ ورد على ذلك قراءة زيد بن علي ويحيى بن وثاب وعبيد بن عمير الليثي: {نِعبد} بكسر النّون (7) وهذا من أشدّ أنواع الشّذوذ في هذا الباب إذ الماضي منه مفتوح العين والمضارع مضموم.
__________
(1) الكتاب 4 / 110.
(2) انظر ارتشاف الضرب 1 / 88، 89 وبغية الأمال ص152.
(3) انظر بغية الأمال ص152.
(4) أحد أئمة القراءة والعربية – توفي سنة 149هـ. إنباه الرواة 2/374.
(5) سورة الرَّحمن: 31. والقراءة ذكرها ابن الجزري في غاية النِّهاية 2: 380.
(6) الأعراف: 62 ونسب ابن خالويه في تختصره ص 50 هذه القراءة إلى … ...
(7) البحر المحيط 1 / 23، وانظر إعراب القراءات الشّواذ 1 / 96.(47/400)
وأشذّ من ذلك كلّه قراءة من قرأ {نِعيده} بكسر النّون (1) . لأنَّ الفعل من أعاد وهو رباعي حقُّه ضمّ حرف المضارعة.
ما جاء على فَعِلَ ولم يكسر منه حرف المضارعة:
عرض سيبويه لـ يسع ويطأ فقال: "وأمَّا يسع ويطأ فإنَّما فتحوا؛ لأنَّه فَعِلَ يَفْعِل، مثل: حَسِبَ يَحْسِبُ، ففتحوا [للهمزة] (2) والعين كما فتحوا للهمزة والعين حين قالوا: يقرأ ويفزع، فلمَّا جاء على مثال ما فَعَل منه مفتوح لم يكسروا كما كسروا يأبى حيث جاء على مثال ما فَعَلَ منه مكسور. ويدلك على أنَّ الأصل في فَعِلْت أن يفتح منه على لغة أهل الحجاز سلامتها في الياء، وتركهم الضّمّ في يفعُل ولا يضم لضمة فعُل فإنَّما هو عارض" (3) .
فهذه إشارة منه إلى أنَّ الفتح في المضارع كان لأجل حرف الحلق، فلمَّا عومل المضارع معاملة ما ماضيه مفتوح لم يكسر حرف مضارعته.
حكم ضمّ حرف المضارعة في غير رباعي الماضي:
سبق البيان بأنَّ حكم حرف المضارعة إذا كان ماضيه على أربعة أحرف أن يضمّ، سواء كانت هذه الأربعة أصلية أم كان فيها مزيد. ولكن هل لنا أن نضم هذه الأحرف في الخماسي والسُّداسي؟
- ذكر الأنباري " أنَّ بعض العرب يضمّ حروف المضارعة منهما فيقول: يُنطلق ويُستخرج بضمِّ حرف المضارعة حملاً على الرباعي " (4) ، وجعل أبوحيان ذلك من باب الشذوذ إذ قال: " وشذ ماروى اليماني من ضمِّ الياء في قولك: يُستخرج وهو مبني للفاعل " (5) .
وعلل الأنباري اختيار الفتح في الأفعال الخماسية والسّداسيّة بأنَّه بسبب كثرة حروفهما " فلو بنوهما على الضَّم لأدى ذلك إلى أن يجمعوا بين كثرة الحروف وثقل الضم، وذلك لايجوز فأعطوهما أخف الحركات وهو الفتح" (6) .
__________
(1) ارتشاف الضرب 1/89.والمراد قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الأنبياء.
(2) في الأصل الهمزة.
(3) الكتاب 4 / 111.
(4) أسرار العربية ص 405.
(5) ارتشاف الضرب 1 / 88.
(6) أسرار العربية ص 404 ــ 405.(47/401)
على أنَّه وجد من القبائل من يضمّ كما سبق بيانه.
تخطئة من يكسر حروف المضارعة أو يضم في غير رباعي الماضي:
يتحدث العلماء قديمًا وحديثًا عن العربية الفصحى، من حيث إنَّها تلك الصُّورة الشَّاملة التي كان العرب ينظمون بها الشّعر، ويلقون بها الخطب، ويصوغون بها سائر أنواع البيان.
وقد نزل القرآن الكريم بهذه اللغة في أروع صورها، وأرقى صيغها، وأبهى بيانها. ولم يكن اللسان العربي واحدًا، فقد كان لكلِّ قبيلة لسان ولحن يختلف قليلاً أو كثيرًا عن غيره، ومن ثمَّ تحدثت المعاجم العربية عن لغات القبائل، وتحدث علماء العربية عن الفروق بين تلك اللغات، ونسبوا شيئًا من تلك الظواهر لقبائل معينة، وتحدثوا عن نزول القرآن الكريم بلغة قريش، ومن ثمّ جعلت هذه اللغة هي اللغة العالية، والمثل المحتذى لغير القرشيين. يقول ثعلب: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء ... " (1) .
ومن ثمَّ علمنا أنَّ القبائل العربية كانت تختلف في طريقة كلامها من حيث الأصوات وطبيعتها، وكيفية صدورها، ومن حيث المعنى، وأحيانًا من حيث التركيب.
وقد تحدث كثير من الدارسين المحدثين عن هذه اللهجات وخصوها بمؤلفات منهم الدّكتور: إبراهيم أنيس في كتابه في اللهجات العربية والدّكتور أحمد علم الدِّين الجندي في كتابه اللهجات العربية في التراث وغيرهما. وكسر حروف المضارعة أو ضمها في غير ماكان ماضيه على أربعة أحرف من تلك الظواهر التي عني بها علماء العربية.
فما الموقف من هذه الظاهرة؟
تحدث ابن جنِّي عن اختلاف اللغات وكلُّها حجة، وذكر أنَّ اللغتين إذا كانتا في القياس سواء فليس لك أن ترد إحداهما بصاحبتها؛ لأنَّها ليست أحقَّ بذلك من رسيلتها، أمَّا أن تقل إحداهما جدًا، وتكثر الأخرى جدًا فإنَّك تأخذ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسًا (2) .
__________
(1) مجالس ثعلب 1 / 80.
(2) الخصائص 2 / 10.(47/402)
وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها، إلاَّ أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين ... (1) .
وبهذا نعلم أن تلك القبائل التي تكلمت بهذه اللهجات لاتخطأ، ولامَن سلك سبيلها في تلك الأفعال بعينها، وإن كان المختار والأعلى التحدث بأجود اللغتين، وأجود اللغتين ما اتفق مع تلك القواعد التي بنيت على الغالب والمطَّرد من كلام العرب.
الكسر في اللهجات المعاصرة
لا شكَّ أنَّ كسر حرف المضارعة ظاهرة فاشية في اللغات الدَّارجة في العصر الحاضر، لايكاد يسلم منها قطر أو قبيل.
وربَّما لو تأمَّله المتأمِّل لوجد أنَّه يمكن ضبطه بضوابط معيَّنة، فتجد مثلاً أنَّه لايكسر ما كان مضارعه على يفعُل بضمِّ العين، على حين تجد أنَّ كسر ماكان مضارعه على يفعَل أو يفعِل كثير، مثل: يِلْعَبُ، يِضرب، يِصلي، يِسافر ... وغير ذلك.
وفي بعض الجهات تجد أنَّهم إذا كانوا يكسرون حروف المضارعة مما كان مضارعه على وزن يفعُل بضمِّ العين، فإنهم يكسرون حرف المضارعة ويكسرون العين إتباعًا له، فيقولون: يِكْتِب على حين نجد بعضًا يلتزم ضمَّ عين الفعل في المضارع ويضمّ معه حرف المضارعة فيقول: يُكتُب.
والتجوز في كلِّ ذلك ممَّا تقبله أصول اللغة؛ لأنَّه يركن إلى دليل من السَّماع قويّ ـ على نحو مامرَّ في ثنايا هذا البحث ـ ولكن القواعد تبقى ثابتة، وليس لنا أن نغيِّرها، أو أن ندعوَ إلى ماشذَّ وخرجَ عنها، ولكن المتكلم بما ثبت عن بعض القبائل الفصيحة التي يحتج بلغاتها ممَّا خالف المشهور الغالب لايخطَّأ فيما تابع فيه ما أثر، والدعوة إلى التزام أجود اللغتين التي تتفق مع ما قوي في الرواية ووافق القياس.
نتائج البحث
1- كشف البحث عن جانب من طبيعة اللغة من حيث تنوُّع حركات هيئات مفرداتها تبعًا لتنوُّع المستعمل لها.
__________
(1) المصدر السابق 2 / 10.(47/403)
2- الكسر في حروف المضارعة لهجة عربية أصيلة، نطقت به قبائل العرب، وأثر عنها في نصوص نثرية وشعرية.
3- كسر حروف المضارعة جاء وفقًا لقواعد منضبطة، ففي الثُّلاثي كُسِرت حروف المضارعة تنبيهًا على كسر العين من ماضيه، ومن ثمَّ لم يكسروا إلاَّ ما كان على فعِل يفعَل، وامتنع الكسر فيما كان مضارعه على يفعِل منعًا للثِّقل النَّاشئ من تتابع الكسرات، ولا يعتدّ بالفاصل السَّاكن؛ لأنَّه حاجز غير حصين.
وكسر فيما كان أوَّله همزة وصل أو تاء زائدة لاعتبارات ألحقته بالأصل.
4- لا يمكن تخطئة من يكسر حروف المضارعة، لأنَّ اللغتين إذا كثرت إحداهما، وقلَّت الأخرى أُخِذَ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسًا، دون ردِّ الأخرى أو تخطئتها.
5- كسر حروف المضارعة ظاهرٌ فاشٍ في اللغات الدَّارجة، لا يكاد يسلم منها قطرٌ أو قبيل، والتجوُّز في ذلك مما تقبله أصول اللغة؛ لأنَّه يركن إلى دليلٍ من السَّماع قويّ.
6- تبقى قواعد العربيَّة ثابتة لأنَّها بنيت على الأوسع رواية، والأقوى في القياس، فليس لنا أن نغيِّرها بما شذ وخرج عنها، وخالف الكثير الغالب.
... وبالله التَّوفيق.
مصادر البحث
ارتشاف الضرب من لسان العرب
لأبي حيَّان الأندلسي. تحقيق وتعليق: د. مصطفى النماس، ط أولى1404 هـ ـ 1984م. مطبعة النّسر الذَّهبي ـ مصر.
- الإرشاد إلى علم الإعراب تصنيف الإمام شمس الدِّين محمَّد بن أحمد بن عبد اللطيف القرشي الكيشي 615 ـ 695هـ، تحقيق ودراسة د. عبد الله الحسيني ود. محسن العميري. ط. أولى. 1410هـ/1989م، معهد البحوث العلميَّة، جامعة أمِّ القرى.
- أسرار العربيَّة للإمام أبي البركات الأنباري 513 ـ 577 عني بتحقيقه محمَّد بهجة البيطار، مطبوعات المجمَّع العلمي العربي بدمشق 1377 هـ/ 1957 م.
- إصلاح المنطق لابن السكِّيت 186 ـ 244 هـ شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون. ط. رابعة. دار المعارف.(47/404)
- إعراب القراءات الشَّواذ لأبي البقاء العكبري ت616هـ دراسة وتحقيق محمَّد السيِّد أحمد عزوز، ط أولى 1417هـ / 1996 م، عالم الكتب ـ بيروت ـ لبنان.
- إعراب القرآن لأبي جعفر النَّحَّاس ت 338 هـ تحقيق د. زهير غازي زاهد. ط ثانية 1405 هـ/1985م، مكتبة النَّهضة العربيَّة ـ عالم الكتب.
- الأفعال لابن القطاع 515 هـ ط. أولى 1403 هعالم الكتب ـ بيروت.
- أمالي ابن الشَّجري لأبي السعادات المعروف بابن الشَّجري ط. أولى، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد 1349 هـ. صورة.
- إنباه الرّواة على أنباه النّحاة لجمال الدِّين القفطي ت624 هـ تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم. ط أولى 1406 هـ/1986 م، دار الفكر العربي ـ القاهرة، مؤسّسة الكتب الثَّقافية ـ بيروت.
- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام ت761هـ ط الخامسة 1399 هـ/1979 م، دار الجيل ـ بيروت ـ لبنان.
- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ت 745 هـ مطبعة السَّعادة ط أولى 1328 هـ.
- بغية الآمال في معرفة النطق بجميع مستقبلات الأفعال لأبي جعفر أحمد بن يوسف اللبلي الفهري 613 ـ 691 تحقيق د. سليمان العايد، مطبوعات جامعة أم القرى جامعة 1411هـ-1991م
- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 213 ـ 276 هـ شرحه ونشره السيِّد أحمد صقر. ط ثانية 1393 هـ / 1973م، دار التراث ـ القاهرة.
- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك 600 ـ 672 هـ حقَّقه وقدَّم له: محمّد كامل بركات ـ دار الكتاب العربي1387هـ/1967م.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ ط أولى 1367هـ القاهرة.
- خزانة الأدب عبد القادر البغدادي 1093 صورة عن الطَّبعة الأولى.
- الخصائص لابن جنِّي 392 هـ تحقيق محمَّد علي النَّجار، صورة عن الطَّبعة الثَّانية. دار الهدى للطِّباعة والنَّشر ـ بيروت ـ لبنان.
- ديوان الحماسة لأبي تمَّام، تحقيق د. عبد الله عسيلان 1401هـ، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.(47/405)
- سير أعلام النُّبلاء للذَّهبي 748 هـ أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤوط، مؤسَّسة الرِّسالة. ط. ثانية 1402هـ/ 1982 م.
- شرح التَّسهيل لابن مالك وابنه، تحقيق: عبد الرَّحمن السيد وزميله. دار هجر للطباعة والنَّشر. ط. أولى 1410هـ.
- شرح الحماسة للمرزوقي 421 هـ نشره أحمد أمين وعبد السَّلام هارون. ط. ثانية 1387 هـ / 1967 م ـ القاهرة.
- شرح الشَّافية للرضي النَّحوي 686 هـ تحقيق محمَّد نور الحسن وزميليه. دار الكتب العلميَّة 1402 هـ / 1982 م، بيروت ـ لبنان.
- شرح قصيدة بانت سعاد لابن هشام الأنصاري، تحقيق: د / محمود حسن أبوناجي ـ مؤسَّسة علوم القرآن ط 20، 1402 هـ / 1982 م.
- شرح الكافية الشَّافية لابن مالك 672 هـ تحقيق: د. عبد المنعم هريدي، دار المأمون للتراث. ط. أولى 1402هـ/ 1982 م.
شرح المفصَّل لابن يعيش. عالم الكتب ـ بيروت.
- الشِّعر شرح الأبيات المشكلة الإعراب لأبي علي الفارسي 288 ـ 377 هـ تحقيق وشرح د. محمود محمَّد الطناحي. ط. أولى 1408هـ/1988م، مكتبة الخانجي ـ القاهرة.
- ضياء السَّالك إلى أوضح المسالك تأليف: محمَّد عبد العزيز النَّجَّار، صورة.
- غاية النِّهاية في طبقات القرَّاء لابن الجزري، اعتنى به برجستراسر. دار الكتب العلمية ـ بيروت.
- في الأصوات اللغوية دراسة في أصوات المد العربية للدكتور غالب فاضل المطلبي، الجمهورية العراقية منشورات وزارة الثقافة والإعلام، سلسلة دراسات 1984م
- قطر النَّدى وبل الصَّدى لابن هشام الأنصاري 761 هـ المكتبة العصريَّة 1411 هـ/ 1991 م، صيدا ـ بيروت.
- الكافية في النَّحو لابن الحاجب 570 ـ 646 هـ شرحه الشَّيخ رضي الدين النَّحوي 686 هـ، صورة عن طبعة الاستانة 1275، توزيع دار الباز ـ مكَّة المكرَّمة.
- الكتاب لسيبويه ت 180هـ على الأرجح، تحقيق وشرح: عبد السَّلام هارون. ط. ثالثة 1403 هـ/ 1983 م، عالم الكتب.(47/406)
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزَّمخشري 467 ـ 538 صورة لدار المعرفة، بيروت ـ لبنان.
- لسان العرب لابن منظور الأفريقي المصري 630 ـ 711هـ دار صادر ـ بيروت.
- اللهجات العربيَّة في التراث تأليف: د. أحمد علم الدِّين الجندي. الدَّار العربيَّة للكتاب، ليبيا ـ تونس 1398 هـ/1978م.
- اللهجات في الكتاب أصواتًا وبنية، تأليف: صالحة راشد آل غنيم. مطبوعات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أمِّ القرى ـ مكَّة المكرّمة. ط. أولى 1405هـ/ 1985 م.
- ليس في كلام العرب لابن خالويه 370 هـ تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. ط. ثانية 1399 هـ.
- مجالس ثعلب لثعلب 291هـ تحقيق: عبد السَّلام هارون. ط.ثانية ـ القاهرة.
- المحتسب لابن جنِّي 392هـ تحقيق: علي النَّجدي ناصف وزميله. المجلس الأعلى للشُّئون الإسلاميَّة ـ القاهرة 1386هـ.
- مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه، أشرف على نشره: آثرجفري ـ مكتبة المتنبِّي. القاهرة
- المخصص لعلي بن إسماعيل بن سيده 458هـ المكتب التجاري للطباعة عن طبعة المطبعة الكبرى الأميرية بالقاهرة 1321هـ.
- معاني القرآن للأخفش الأوسط 215 هـ تحقيق الدُّكتورة: هدى محمود قراعة. مكتبة الخانجي ـ القاهرة. ط. أولى 1411 هـ/1990م.
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار للذَّهبي 673 ـ 748 هـ حقَّقه: بشار عواد وزميله، مؤسَّسة الرِّسالة. ط. ثانية 1408 هـ.
- المغني في تصريف الأفعال تأليف الدُّكتور: محمَّد عبد الخالق عضيمة، دار الحديث.
- مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري 761هـ، حقَّقه وعلَّق عليه: د. مازن المبارك وزميله. الطَّبعة الخامسة ـ بيروت1979م.
- المفصل في علم العربية للزَّمخشري 538هـ صورة عن الطَّبعة الثانية، دار الجيل، بيروت ـ لبنان.
- المقتضب للمبرّد 285هـ تحقيق: محمَّد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث الإسلامي ـ القاهرة.(47/407)
- المنصف لابن جنِّي. تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين.صورة عن الطَّبعة الأولى.
- نتائج الفكر في النَّحو لأبي القاسم السّهيلي، تحقيق: الدُّكتور محمَّد إبراهيم البنا. دار الرِّياض للنَّشر والتَّوزيع.(47/408)
العدد 120
فهرس المحتويات
1- تفسير الإمام ابن أبي العز جمعا ودراسة
....تابع (1)
....تابع (2)
شايع بن عبده الأسمري
2- الآثار السيئة للوضع في الحديث النبوي وجهود العلماء في مقاومته: د. عبد الله بن ناصر الشقاري
3- قول فلاسفة اليونان الوثنيين في توحيد الربوبية: الدكتور سعود بن عبد العزيز الخلف
4- تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين؛ لعلم الدين البلقيني
... تابع (1)
عبد الله بن معتق السهلي
5- حكم تكرار الجماعة في المسجد: إعداد: د. محمد طاهر حكيم
6- معجم المؤلفات الأصولية المالكية المبثوثة في كشف الظنون وإيضاح المكنون وهدية العارفين: الدكتور ترحيب بن ربيعان الدوسري
6- ظاهرة المد في الأداء القرآني دراسة صوتية للمدة الزمنية للمد العارض للسكون: د. يحيى بن علي المباركي
7- تاريخ المدارس الوقفية في المدينة النبوية: د./ طارق بن عبد الله الحجار
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(47/409)
تفسير الإمام ابن أبي العز جمعا ودراسة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .
أما بعد: فهذا (تفسير الإمام ابن أبي العز) قمت باستخراجه من خلال مؤلفاته، وضممت شتاته، وعلقت حواشيه على قدر الوسع والطاقة، والبضاعة المزجاة.
والله تعالى أسأل أن يغفر لناثره وجامعه، وأن ينفع به قارئه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول: مقدمة وتعريف (وفيه عنصران) :
العنصر الأول: مقدمة، تشمل ما يلي:
1- أسباب اختيار الموضوع.
2- خطة البحث.
3- المنهج المتبع في إخراج البحث.
العنصر الثاني: تعريف موجز بالإمام ابن أبي العز، ويشتمل على ما يلي:
1- اسمه ونسبه وولادته.
2- نشأته وشيوخه وتلاميذه.
3- مذهبه في العقيدة والفقه.
4- مؤلفاته والمناصب العلمية التي وليها.
5- وفاته رحمه الله تعالى.
القسم الأول: مقدمة وتعريف، وفيه عنصران:
العنصر الأول: مقدمة تشمل
1-أسباب اختيار الموضوع
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.
(2) سورة النساء، الآية: 1.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 70، 71.(47/410)
1- العقيدة الصحيحة، أهم شرط من شروط المفسر للقرآن الكريم وقد أُصيب هذا الشرط بشيء من الخلل منذ ظهور الفرق التي تأثرت بمنطق اليونان وحضارة الفرس ولرفع هذا الخلل، أو التقليل من آثاره أرى أن نتبع سببين:
الأول: التنقيب والبحث عن المخطوطات التفسيرية التي عُرف مؤلفوها بالعقيدة الصحيحة وإخراجها للناس.
الثاني: جمع المنثور من التفسير من كتب الأئمة الذين اتبعوا منهج السلف، وعُرفوا بحبه والتمسك به.
2- رأيت من بعض المعاصرين الشغف بإخراج تراث بعض الفرق الضالة والدعوة إليها (1) وهذا تهديد لحصوننا من داخلها وزيادة لجراحنا النازفة، فلعل جمع تفسير من عرف بالتصدي لتلك الفرق مما يدفع الله به الفساد، والله تعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} (2)
3- هناك محاسن كثيرة تميز بها تفسير الإمام ابن أبي العز، دعتني إلى استخراجه والتعليق عليه، وقد ذكرتها تفصيلاً في خاتمة هذا البحث.
2- خطة البحث:
تقع خطة هذا البحث في قسمين وخاتمة وفهارس
القسم الأول: مقدمة وتعريف (وفيه عنصران)
العنصر الأول: مقدمة، تشمل: أسباب اختيار الموضوع، والخطة التي يقوم عليها البحث، والمنهج المتبع في إخراجه.
العنصر الثاني: تعريف موجز بالإمام ابن أبي العز. يشتمل علي:
اسمه ونسبه وولادته، ونشأته وشيوخه وتلاميذه، ومذهبه في العقيدة والفقه، ومؤلفاته والمناصب العلمية التي وليها، ووفاته رحمه الله تعالى.
القسم الثاني: عرض تفسير الإمام ابن أبي العز، مرتباً على سور القرآن الكريم وآياته، موشى بالتعليقات اللازمة.
الخاتمة: في ذكر بعض محاسن تفسير الإمام ابن أبي العز
الفهارس: وتشمل (فهرس الآيات، والمراجع، ومواضع البحث) .
3 - المنهج المتبع في إخراج البحث:
__________
(1) من الأمثلة على هذا تحقيقات وكتابات الدكتور عدنان زرزور حول تراث المعتزلة التفسيري.
(2) سورة البقرة، الآية: 251.(47/411)
1- جمعت كتب المؤلف واستخرجت التفسير منها، ورتبته على سور القرآن الكريم وآياته.
2- إذا أورد المؤلف أكثر من آية في مكان واحد، ثم ذكر تفسيراً واحداً يناسب هذه الآيات، جعلت ذلك في السورة التي ذكر أول آية منها، وإذا ساق المؤلف عدداً من الآيات - في مكان واحد - لكل آية معنى يختلف عن معنى الآية الأخرى، جعلت كل آية في سورتها.
3- عندما استخرجت هذا التفسير فإنني لم أنقل إلا ما قصد به المؤلف تفسير الآية؛ ولهذا لم أتعرض للآيات التي يذكر المؤلف شيئاً مما يوافق معانيها دون إيراد نصها.
4- خرّجت الأحاديث والآثار من مصادرها المعتمدة، مع ذكر الحكم على الحديث أو الأثر إن لم يكن في الصحيحين، أو في أحدهما، وأنا مسبوق في الحديث من قبل الأساتذة الّذين حققوا شرح العقيدة الطحاوية.
5- الآيات التي فسرها المؤلف أشرت إلى سورتها ورقمها في الحاشية، وإذا تكررت في أثناء تفسير الآية لم أُشر إليها مرة أخرى، وقد أُشير أحياناً.
6- شرحت الغريب، وضبطت بالشكل ما رأيت أنه يحتاج إلى ضبط وعرّفت ببعض الفرق والأعلام ووثّقت جميع نقولات المؤلف في التفسير والقراءات وغير ذلك، وأشرت إلى المراجع التي وافقت المؤلف فيما قَال أو نقل.
7- أشرت إلى الكلام المحذوف بوضع ثلاث نقاط، وإلى المدخل الّذي ليس للمؤلف بوضعه بين معكوفين.
8- ناقشت ما يحتاج إلى مناقشة، وبينت ما يحتاج إلى بيان من الأقوال أو المعاني التي ذكرها المؤلف.
9- عرفت بالمؤلف وصنعت خاتمة للبحث وفهارس للآيات والمراجع ومواضع البحث.
العنصر الثاني: تعريف موجز بالإمام ابن أبي العز
1-اسمه ونسبه وولادته(47/412)
أ-اسمه ونسبه: هو علي بن علي بن محمد بن محمد ابن أبي العز (1) بن صالح ابن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جُبير بن جابر بن وهيب، الأذرعي - الأصل - الدمشقي (2) ، يلقب بصدر الدين (3) .
ب- ولادته: ولد في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة (4) ، سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة (5) ، في الصالحية من مدينة دمشق (6) .
2- نشأته وشيوخه وتلاميذه:
أ- نشأته: نشأ المؤلف في ظل أُسرة ذات نباهة في العلم، ومكانة في المجتمع، فأبوه كان قاضياً، وكذلك جده (7) . وأبو جده (محمد) كان أحد أساتذة المدرسة المرشدية (8) ، وأولاد عمومته منهم القاضي (9) ، ومنهم المفتي (10) ، ومنهم المدرس (11) .
__________
(1) ورد في عدد من مخطوطات كتب المؤلف (ابن العز) وكذلك في كشف الظنون (2/1143) ، وهدية العارفين (1/ 726) وورد في بعض المواضع من إنباء الغ مر (3/50) ، أن اسم المؤلف محمد، وتابع ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (6/326) هذا الموضع من ِإنباء الغمر، والصحيح (علي) كما في جميع المراجع الأخرى، وكما هو مدون على مخطوطات كتبه.
(2) هكذا ذكر نسب أبيه ابن قاضي شهبة في تاريخه (2/ 469) وأشار أيضاً إلى اسم المؤلف ولقبه بقوله: "ولده صدر الدين علي" (2/ 470) .
(3) انظر المرجع السابق (2/ 470) ، والثغر البسام، ص (201) .
(4) انظر الدليل الشافي (1/465) .
(5) انظر الدرر الكامنة (3/ 159) ، والدليل الشافي (1/ 465) .
(6) انظر الدليل الشافي (1/465) .
(7) انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (2/415) فقد أشار إلى أن أباه وجده من القضاة.
(8) انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (67، 68) .
(9) انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (3/481، 360) .
(10) انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (68) .
(11) انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (2/503، 504) و (3/148) .(47/413)
ب- شيوخه: لا تجود علينا كتب التراجم، ولو بيسير في هذا الجانب، والذي أستطيع أن أقول في هذه الناحية وأنا مسبوق إليه (1) : إن الإمام صدر الدين ابن أبي العز قد تركت فيه كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه أعظم الأثر، فهما الشيخان الموجهان لحياة هذا الإمام، وقد صرح باسم الإمام ابن كثير في أكثر من موضع في شرح العقيدة الطحاوية، ووصفه بأنه شيخه (2) ، ويترجح عند بعض الباحثين بأنه كان يتصل بالإمام ابن القيم ويستفيد منه مشافهة (3) ، فأمّا نقله من كتبه فكثير جداً، خصوصاً في شرح العقيدة الطحاوية (4) .
وهناك شيخ آخر لابن أبي العز ذكره في كتابه التنبيه على مشكلات الهداية (5) ، هو: إبراهيم بن علي بن أحمد الطرسوسي، أحد العلماء على مذهب الإمام أبي حنيفة، وتوفي بدمشق سنة 758 هـ (6) .
وأما دراسة ابن أبي العز الأولية فلم أظفر بشيء عنها ولكن يبدو أنها كانت على يدي والده، وفي المدراس التي تهتم بدراسة المذهب الحنفي.
ج- تلاميذه: لا نشك في أن لهذا الإمام تلاميذاً، ولكن لم تتفضل علينا كتب التراجم بشيء في ذلك؛ إلاّ ما ذكره الإمام السخاوي في بعض كتبه (7) أن ابن الديري واسمه سعد بن محمد بن عبد الله أحد قضاة الحنفية ت: 867 قد أجاز له ابن أبي العز.
3- مذهبه في العقيدة والفقه
__________
(1) انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (7، 73) للأستاذين التركي والأرنؤوط.
(2) انظر المرجع السابق، ص (73) وانظر من هذا البحث آخر سورة التوبة، الآية (124) .
(3) انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (73) .
(4) انظر من هذا البحث الحواشي، عند الآية (18) من سورة آل عمران، والآية (172) من سورة الأعراف.
(5) انظر منه، ص (355) تحقيق أنور.
(6) انظر تاج التراجم، ص (89) ، والفوائد البهية، ص (10) ، والطبقات السنية (1/213) .
(7) انظر الضوء اللامع (3/ 249 - 253) ، ووجيز الكلام (1/ 296) .(47/414)
أ- في العقيدة: الإمام ابن أبي العز مشى على مذهب السلف في جميع المباحث العقدية، وحسبك في إثبات هذه الحقيقة - التي هي أوضح من الشمس في رابعة النهار - أمران.
الأول: ما سطره في شرحه للعقيدة الطحاوية، فقد تناول في هذا الكتاب جل المباحث العقدية بمنهج سلفي رصين، حتى غدا هذا الكتاب أحد الدعائم التي تعتمد عليها الجامعات الإسلامية في تدريس مادة التوحيد.
الثاني: اعتراضه على بعض شعراء أهل زمانه (1) ، عندما مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة، وقع فيها بعض الأخطاء العقدية فبيَّن الإمام ابن أبي العز تلك الأخطاء، ونبَّه عليها، فلم يعجب ذلك بعض أهل زمانه ممن ينتحل العلم، وشغَّبوا عليه بهذه المسألة فامتحن بسببها وأُدخل السجن، وأوذي (2) .
__________
(1) واسمه: علي بن أيبك بن عبد الله. قَال ابن حجر: اشتهر بالنظم قديما … وله مدائح نبوية (ت: 801 هـ) انظر إنباء الغمر (4/67) ، والدليل الشافي (1/ 452) .
(2) تفاصيل الحادثة وامتحانه في إنباء الغمر بأبناء العمر (2/95-98) الطبعة العثمانية في حوادث 784 هـ. وقد أحسن الشيخان التركي والأرنؤوط بشرح ملابسات تلك الحادثة، وبيان وجه الحق فيها. انظر: مقدمتهما لشرح العقيدة الطحاوية، ص (87-102) .(47/415)
ب- أما مذهبه في الفقه: فهو حنفي (1) ، يزن أقوال الأئمة بالكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة. ولقد وضع لنفسه منهجاً قويماً قاده إلى باب الإمامة، وجعل أبحاثه في غاية الدقة والمتانة، بعد توفيق من الله ورعايته نص عليه في كتابه الإتباع فقال: "فالواجب على من طلب العلم النافع أن يحفظ كتاب الله ويتدبره، وكذلك من السنة ما تيسر له، ويتضلع منها ويتروّى، ويأخذ معه من اللغة والنحو ما يصلح به كلامه، ويستعين به على فهم الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح - في معانيها - ثم ينظر في كلام عامة العلماء: الصحابة، ثم مَنْ بعدهم، ما يتيسر له من ذلك من غير تخصيص، فما اجتمعوا عليه لا يتعداه، وما اختلفوا فيه نظر في أدلتهم من غير هوى ولا عصبية، ثم بعد ذلك من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً" (2) .
4- مؤلفاته والمناصب العلمية التي وليها:
أ- مؤلفاته: له عدة مؤلفات وقفت عليها جميعاً إلاّ واحداً، وكلها قوية - أعني ما وقفت عليه - في موضوعها ومضمونها، وإليك الحديث عنها بإيجاز.
__________
(1) ذكره في قضاة الحنفية في مصر السيوطي في حسن المحاضرة (2/ 184، 185) ووصفه جماعة من المترجمين له بالحنفي منهم ابن حجر في الدرر الكامنة (3/159) ، وابن تغري بردي في الدليل الشافي (1/465) ، والسخاوي في وجيز الكلام (1/ 296) .
(2) الاتباع، ص (88) والمؤلف في جميع كتبه (التنبيه على مشكلات الهداية، وشرح العقيدة الطحاوية، والاتباع، ورسالة في صحة الإقتداء بالمخالف) يحارب المتعصبين للأئمة، الذين يسوقون الأمة إلى الاختلاف والتنازع، ولكنه لا يمنع من تقليد الأئمة دون تعصب؛ فإنه القائل: "ومن ظن أنه يعرف الأحكام من الكتاب والسنة بدون معرفة ما قاله هؤلاء الأئمة وأمثالهم، فهو غالط مخطئ. ولكن ليس الحق وقفاً على واحد منهم، والخطأ وقفاً بين الباقين حتى يتعين اتباعه دون غيره". الاتباع، ص (43) .(47/416)
شرح العقيدة الطحاوية (1) : وهو شرح نفيس تضمن أبحاثاً دقيقة عميقة، وتحقيقات بديعة متقنة في العقيدة الإسلامية، على منهج السلف (2) بل إنه لم يترك مبحثاً مهماً من مباحث العقيدة، وإلا وطرقه بإطناب، وقد حُقّق الكتاب عدة تحقيقات، وطُبع عدة طبعات كان أول هذه التحقيقات والطبعات قبل سبعين سنة، وقد استوفى الكلام على هذه الطبعات التركي والأرنؤوط، في تحقيقهما لهذا الشرح (3) ، الذي هو أفضل التحقيقات والطبعات فيما رأيت، وعليه اعتمدت في نقل النصوص التفسيرية، وإن كان لا يسلم من ملاحظات، والكمال لله وحده (4) .
2- الإتباع (5) : يقع هذا الكتاب في (110) صفحات من الحجم المتوسط، له أكثر من طبعة، والتي وقفت عليها هي الطبعة الثانية في عمان، سنة 1405هـ بتحقيق محمد عطا الله، وعاصم بن عبد الله، والكتاب رد على رسالة ألفها معاصره محمد بن محمود بن أحمد الحنفي المعروف بالبابرتي (ت: 786هـ) يرجح فيها تقليد مذهب أبي حنيفة على غيره من المذاهب، فكان لابن أبي العز معه وقفات موفقة أعاد فيها الحق إلى موضعه، فيما زل فيه البابرتي، والعصمة لله وحده، ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) نسبه إلى المؤلف الإمامُ السخاوي في وجيز الكلام (1/296) ، والزبيدي في شرح إحياء علوم الدين (2/146) ، وانظر مقدمة التركي والأرنؤوط للكتاب المذكور، ص (117) .
(2) انظر مقدمة التركي والأرنؤوط لشرح العقيدة الطحاوية، ص (81) .
(3) انظر مقدمتهما، ص (106، 109) .
(4) منها قولهما: إنهما خرجا الآثار، وهما لم يخرجا إلا عدداً لا يكاد يُذكر. ومنها إطلاقهما القول بما يفيد أنهما أشارا إلى جميع مواضع النقول من المؤلفات التي نقل منها الشارح. ومنها تساهلهما في إطلاق كلمة (لم نقف عليه) أثناء حديثهما على مؤلفات الشارح التي لم تطبع وفي تعارف الباحثين أن هذه الكلمة لا تُقال إلا بعد البحث الجيد.
(5) انظر توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية، من كتاب الاتباع، ص (12) .(47/417)
3-رسالة في الفقه: مضمونها جواب عن ثلاثة أسئلة وجهت إلى المؤلف. الأول: أن جماعة من الحنفية يتحرجون من الصلاة خلف من يرفع يديه في أثناء الصلاة. والثاني: أنهم إذا صلوا الجمعة خلف إمام الحي ينهضون عند سلامه ويقيمون الصلاة، ويصلون الظهر؛ لأن هذه الصلاة لا تصح عندهم إلا في مصر جامع، والثالث: أن بعضهم يتحرز من ماء الوضوء الذي يسقط من أعضاء الوضوء، لظنهم أنه نجس. وقد أجاب المؤلف عن هذه الأسئلة بما استغرق خمس لوحات، غير لوحة العنوان، وقد قام بتحقيقها الطالب مسعود عالم بن محمد. (1)
والمسلمون بحاجة إلى ما فيها من علم، خصوصاً في زماننا هذا الذي جعل فيه العوامُ - وأشباههم ممن ينتحل العلم - هذه الخلافات الفرعية سبيلاً إلى تفريق هذه الأمة، وزيادتها وهناً على وهن.
4-كتاب التنبيه على مشكلات الهداية (2) : نسبه إليه الإمام السخاوي (3) وغيره (4) . والمؤلف يعني بالهداية، كتاب الهداية لمؤلفه على بن أبي بكر المرغيناني (ت: 593 هـ) .
وكتاب التنبيه يحتوي على علم غزير يشهد لمؤلفه بالإمامة والرسوخ في علم الفقه المقارن، وكذلك في علمي الأصول والحديث، إلا أنه تحامل على صاحب الهداية، فلم ينصفه في بعض المواطن.
والكتاب حُقق في رسالتي ماجستير، وذلك بقسم الفقه في كلية الشريعة، بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
__________
(1) يوجد منها نسخة في المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية، برقم (4/217 ع زر) وفات الباحث الاطلاع على نسخة أخرى ذكرها فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية المجاميع (2/350) ولا أدري هل اطلع عليها الباحث عندما طبع الكتاب في دار الهجرة.
(2) هكذا ذكر المؤلف عنوان الكتاب. انْظر: التنبيه على مشكلات الهداية، ص1 تحقيق عبد الحكيم.
(3) انظر وجيز الكلام (1/ 296) .
(4) انظر هدية العارفين (1/726) ، والأعلام (4/313) ، ومعجم المؤلفين (7/156) .(47/418)
5- النور اللامع فيما يعمل به في الجامع: نسبه إليه إسماعيل باشا، والزركلي، وكحالة (1) ، ويعني بالجامع، جامع بني أمية بدمشق (2) ، ولم أقف على ذات الكتاب بعد البحث والمحاولة، وسؤال أهل الخبرة، ولازال الأمل موجوداً والبحث جارياً.
ب- المناصب العلمية التي وليها: ذكرت كتب التاريخ أنه تولى التدريس والخطابة والقضاء.
1- التدريس: درَّس في عدد من المدارس الحنَفية، منها (القيمازية) في سنة 748هـ (3) ، والمدرسة الركنية سنة 777هـ (4) ، والمدرسة العزية البرانية في ربيع الآخر سنة 784هـ، ودرس بالمدرسة الجوهرية (5) .
2- الخطابة: تولى الخطابة في جامع الأفرم بدمشق (6) ، وتولى الخطابة أيضاً بحسبان (7) ، وهي بلدة تقع جنوب عمَّان (8) .
3- القضاء: ولي قضاء الحنفية بدمشق في آخر سنة 777هـ، نيابة عن ابن عمه نجم الدين، الذي نقل إلى قضاء مصر سنة 777هـ (9) ، ثم استعفى نجم الدين من القضاء فأعفي، وولي مكانه ابن أبي العز، فباشر القضاء شهرين وأياماً، ثم استعفى فأُعفي (10) ، وعاد إلى دمشق، يدرس ويخطب (11) .
5- وفاته:
__________
(1) انظر هدية العارفين (1/726) ، والأعلام (4/313) ، ومعجم المؤلفين (7/156) .
(2) انظر هدية العارفين (1/ 726) وعنوان الكتاب يوحي بأنه ليس كبيراً، والله أعلم.
(3) انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (2/503) .
(4) انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (78) .
(5) ذكر ابن حجر ما يفيد أنه درس في المدرستين ولم يذكر التاريخ انظر إنباء الغمر (2/98) وانظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (78) .
(6) انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (2/469، 470) ففيه ما يشير إلى ذلك.
(7) انظر الثغر البسام، ص (201) ، وإنباء الغمر (3/ 50) .
(8) انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (81) .
(9) انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 478) .
(10) انظر المرجع السابق (3/ 478، 483) .
(11) يُؤخذ ذلك من كلام ابن حجر في إنباء الغمر (3/ 50) .(47/419)
توفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة، سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ودفن بسفح قاسيون في بلدة دمشق (1) .
القسم الثاني: تفسير الإمام ابن أبي العز، ويشمل السور والآيات التالية:
القسم الثاني: تفسير الإمام ابن أبي العز، ويشمل السور والآيات التالية:
سورة الفاتحة
[قوله تعالى] : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (2) … {الدِّينِ} الجزاء (3) ، يقال: كما تدين تدان. أي: تُجازي تُجازى… قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) {جَزَاءً وِفَاقاً} (5) {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (6) {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (7) {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (8) (9) .
__________
(1) انظر إنباء الغمر (3/ 50) ، ووجيز الكلام (1/ 295) ، والثغر البسام، ص (201) ، وأبعد عن الصواب حاجي خليفة في كشف الظنون (2/ 1143) عندما أرخ وفاته بسنة (742هـ) .
(2) سورة الفاتحة، الآية: 4.
(3) انظر تفسير القرآن، للسمعاني (1/37) ، وجامع البيان (1/155) ، وتفسير ابن أبي حاتم (1/19) . وقد ذكر ابن عطية في المحرر الوجيز (1/72، 73) أن "الدين" يجيء في كلام العرب على أنحاء، منها ما ذُكر هنا. قال: وهذا الذي يصلح لتفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
(4) سورة السجدة، الآية: 17.
(5) سورة النبأ، الآية: 26.
(6) سورة الأنعام، الآية: 160.
(7) سورة النمل، الآية: 89، 90.
(8) سورة القصص، الآية: 84.
(9) شرح العقيدة الطحاوية، ص (600) .(47/420)
[قوله تعالى] : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب، ليس كما يقوله بعض المفسرين: إنه قد هداه، فلماذا يسأل الهدى؟ وأن المراد التثبيت، أو مزيد الهداية (2) .
__________
(1) سورة الفاتحة، الآية: 6،7.
(2) أورد السؤال والجوابين السمعاني في تفسير القرآن (1/38) ، ونحو هذا في كثير من كتب التفسير. انظر تفسير القرآن لأبي الليث (1/83) ، ومعالم التنزيل (1/41) ، والكشاف (1/66) ، والتفسير الكبير (1/205) . وقد فسر الطبري الآية في جامع البيان (1/66) بالقول الأول فقال: "وفقنا للثبات عليه".(47/421)
بل العبد محتاج إلى أن يُعلِّمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله، وإلى ما يتركه من تفاصيل الأمور في كل يوم، وإلى أن يلهمه أن يعمل ذلك، فإنه لا يكفي مجرّد علمه، إن لم يجعله مريداً للعمل بما يعلمه، وإلاَّ كان العلم حجة عليه، ولم يكن مهتدياً، والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة (1) ، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامّة، فمن كملت له هذه الأمور، كان سؤاله سؤال تثبيت (2) ، وهي آخر الرتب. وبعد ذلك كله هداية أخرى، وهي الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة (3) ؛ ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة، لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء (4) ، فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير، المانعة من الشر، فقد بيَّن القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر الله، وأن الحسنات كلها من الله تعالى (5) .
__________
(1) من أول كلام المؤلف إلى هنا موجود في مجموع فتاوى شيخ الإسلام (14/320، 321) . وكذلك هو في الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام نفسه، ص (83، 84) .
(2) انظر بدائع الفوائد (2/38) ففيه نحو ما ذكر المؤلف هنا.
(3) انظر المحرر الوجيز (1/78) .
(4) من قوله: ((ولهذا)) إلى ((الدعاء)) مأخوذ بنصه من كتاب الحسنة والسيئة، ص (84) .
(5) شرح العقيدة الطحاوية، ص (519، 520) ونحو هذا أعاده في ص (800) .(47/422)
[وقال أيضاً قوله تعالى] : { ... صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} … ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضآلُّون" (1) .
سورة البقرة
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص (800) . والحديث أخرجه الترمذي برقم (2954) ، والإمام أحمد في المسند (4/378، 379) ، وأبو داود الطيالسي برقم (1040) ، وابن جرير في جامع البيان (1/185، 193) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/23) ، وابن حبان في صحيحه مع الإحسان (16/183، 184) كلهم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. والحديث صحح أحمد شاكر إسناده. انظر جامع البيان الموضع المتقدم. وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافاً. يعني تفسير الآية بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر تفسيره (1/23) .(47/423)
[قوله تعالى: {الم} (1) ] ... وقعت الإشارة بالحروف المقطَّعة في أوائل السور، أي: أنه في أسلوب كلامهم، وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن (2) ؟، كما في قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} (3) .
{الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ} (4) الآية {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (5) {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (6) . وكذلك الباقي يُنبِّههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه، بل خاطبكم بلسانكم (7) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 1.
(2) هذا أحد الأقوال على قول من قال: إنه يُعرف تفسيرها وهو منسوب إلى قطرب والمبرد. انظر معاني القرآن وإعرابه (1/55، 56) ، والمحرر الوجيز (1/95) ، والتفسير الكبير (2/7) . وإلى هذا القول ذهب الزمخشري في الكشاف (1/95-97) . قال الرازي: واختاره جمع عظيم من المحققين. انظر التفسير الكبير (2/7) . وإن أردت الاطلاع على جميع الأقوال في الحروف المقطعة فانظر التفسير الكبير (2/3-8) ، والبحر المحيط (1/156) وما بعدها، والبرهان في علوم القرآن (1/172-176) ، والتحرير والتنوير (1/207) ، وقد ذكر العلامة ابن كثير في تفسيره (1/39) ما يفيد ترجيح هذا القول أعني الذي ذكره المؤلف هنا ثم قال: "وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية".
(3) سورة البقرة، الآية: 1، 2.
(4) سورة آل عمران، الآية: 1-3.
(5) سورة الأعراف، الآية: 1، 2.
(6) سورة يونس، الآية: 1.
(7) شرح العقيدة الطحاوية، ص (205) .(47/424)
[قوله تعالى] : {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} (1) وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} (2) ... هذا مرض الشبهة وهو أردأ من مرض الشهوة؛ إذ مرض الشهوة يُرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له، إن لم يتداركه الله برحمته (3) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 10.
(2) سورة التوبة، الآية: 125.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (258) . وقد فسر المؤلف الآيتين في معرض بيانه أن النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فالنفاة والمشبهة خرجوا عن حد الاعتدال الصحيح بسبب الشبهة التي ألقاها إبليس في قلوبهم، فكان لهما نصيب مما تضمنته هاتان الآيتان. وقد قال السمعاني عند آية البقرة: أراد بالمرض الشك والنفاق بإجماع المفسرين. ونحو هذا ذكر الواحدي. انظر تفسير القرآن للسمعاني (1/48) ، والوسيط للواحدي (1/87) .
وكأن من حكى الإجماع لم يعتد بقول من قال: إن المقصود الزنا. انظر تفسير ابن أبي حاتم (1/47) . ولا شك أن سياق الآية التي في سورة البقرة يشهد لقول من حكى الإجماع. وكذلك الآية التي في سورة التوبة المقصود بالمرض فيها مرض النفاق الاعتقادي، المخرج من الملة؛ ولذلك قال في آخرها: {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} . وانظر في تفسير آية التوبة جامع البيان (14/578) ، وتفسير القرآن للسمعاني (2/361) .(47/425)
.. قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (1) ... المراد المقارنة بالفعل، وهي الصلاة جماعة؛ لأن الأمر بالصلاة قد تقدم، فلا بد من فائدة أُخرى. وتخصيص الركوع؛ لأن بإدراكه تدرك الصلاة، فمن أدرك الركعة أدرك السجدة (2) .
[قوله تعالى] : {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (3) والأماني: التلاوة المجردة (4) أي: إلاَّ تلاوة من غير فهم معناه. وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به، واشتبه عليه بعضه، فوكل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه" (5) فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم (6) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 43.
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (220) تحقيق عبد الحكيم. وانظر المحرر الوجيز (1/ 203) ، والجامع لأحكام القرآن (1/ 348، 349) ففيهما ما ذكر المؤلف من الاحتجاج بالآية على الصلاة جماعة.
(3) سورة البقرة، الآية:78.
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (504) . وهذا أحد الأقوال، التي قيلت في معنى ((أماني)) . انظر هذا القول وغيره في تفسير القرآن لأبي الليث (1/131) ، وتفسير القرآن للسمعاني (1/99) ، ومعالم التنزيل (1/88) ، والمحرر الوجيز (1/271) .
(5) هذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/181) ، والبخاري في خلق أفعال العباد، ص (43) ، والبغوي في شرح السنة (1/260) كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وحكم محققا شرح السنة بأن إسناده حسن. انظر شرح السنة الموضع المتقدم.
(6) شرح العقيدة الطحاوية، ص (785، 786) .(47/426)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس (2)
سميت إيماناً مجازاً (3) ؛ لتوقف صحتها على الإيمان، أو لدلالتها على الإيمان؛ إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً؛ ولهذا يُحكم بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا (4) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 143.
(2) يشهد لهذا القول بالصحة ما أخرجه الإمام الترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وُجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي الحديث رقم (2964) وقد أخرجه غيره من الأئمة، وكلهم أخرجوه من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس. وإن كان في رواية سماك عن عكرمة شيء، فهناك شواهد للحديث، لا ينزل بمجموعها عن درجة الحسن. وقد قال الإمام ابن القيم: "وفيه قولان يعني في معنى {إِيمَانُكُمْ} أحدهما: ما كان ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس … والثاني: ما كان ليضيع إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم بأن الله شرعها ورضيها. وأكثر السلف والخلف على القول الأول، وهو مستلزم للقول الآخر". بدائع التفسير (1/342) .
(3) انظر التفسير الكبير (4/98) ، وروح المعاني (2/7) .
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (445) ، وأحسن من تعليل المؤلف هنا ما ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (2/157) بقوله: "فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل".(47/427)
.. عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1) فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت بئسما قلت ياابن أختي، إن هذه الآية لو كانت على ما أوّلتها كانت: لا جناح عليه ألا يطوّف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يُهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا يا رسول الله: إنا كنا نتحرج أنطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية (2) ...
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 158.
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (486، 487) تحقيق عبد الحكيم. وسبب النزول هذا أخرجه الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح برقم (1643) ومسلم في صحيحه تحت رقم (1277) .(47/428)
[قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ] ... لمَّا قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قال بعده: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (2) وقد اعترض صاحب المنتخب (3) على النحويين في تقدير الخبر في {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فقالوا: تقديره لا إله في الوجود إلا الله. فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصِّرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى (4) .
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي (5) في ((ري الظمآن)) فقال:
هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن ((إله)) في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم ((لا)) وعلى التقديرين، فلابد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 163.
(2) ذكر أبو حيان هذا منسوباً إلى صاحب المنتخب. انظر البحر (1/637) .
(3) لعله: الحسن بن صافي بن عبد الله الملقب بملك النحاة (ت: 568 هـ) ذكر القفطي في مؤلفاته ((المنتخب)) . انظر معجم الأدباء (2/866) ، وإنباه الراوة (1/340) ، وبغية الوعاة (1/504) .
(4) نحو هذا الاعتراض في التفسير الكبير (4/157) من غير نسبة. وهو بتمامه في البحر (1/637) منسوباً لصاحب المنتخب.
(5) محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي، العلامة شرف الدين، النحوي الأديب، الزاهد المفسِّر، المحدث الفقيه الأصولي، (ت: 655 هـ) . انظر بغية الوعاة (1/144) .(47/429)
وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية، فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية، ولا وجود وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة (1) فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود. و ((إلا الله)) مرفوع، بدلاً من ((لا إله)) لا يكون خبراً ل ((لا)) ، ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك (2)
__________
(1) المعتزلة فرقة نشأت إثر قول واصل بن عطاء: إن فاعل الكبيرة لا مسلم ولا كافر، واعتزل مجلس شيخه الحسن البصري، فسُمي معتزلياً، وأتباعه معتزلة، ولهم أصول خمسة خالفوا فيها الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة. انظر الفرق بين الفرق، ص (14، 18، 19) ، والملل والنحل، ص (48) ، والمعتزلة وأصولهم الخمسة، ص (14) .
(2) جواب أبي عبد الله المرسي منقول بتمامه في البحر (1/637) وعقب عليه أبو حيان بما يُفهم موافقته لأبي عبد الله المرسي. انظر البحر (1/637، 638) . وتقدير خبر (لا) بكلمة ((في الوجود)) قد قاله أيضاً أبو البركات ابن الأنباري في كتابه، البيان في غريب إعراب القرآن (1/131) . وقد قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى: إن التقدير بكلمة ((في الوجود)) لا يحصل به المقصود من بيان أحقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها؛ لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون: (لا إله في الوجود إلا الله) ؟ وقد أخبر سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله سبحانه: {… فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة} فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض، وبيان عظمة هذه الكلمة … إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة ((حق)) ؛ لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة، وتبين أن الإله الحق والمعبود الحق هو الله وحده … انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص (74) حاشية (2) .
قلت ذكر الشيخ ابن باز أن شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم قد نبها على ما قاله هنا. وقد تنبه بعض المفسرين إلى هذا فقال العلامة الألوسي في روح المعاني (2/29) : ((وإضافة إله) إلى ضمير المخاطبين باعتبار الاستحقاق، لا باعتبار الوقوع؛ فإن الآلهة الغير مستحقة كثيرة". وقال الخفاجي في عناية القاضي وكفاية الراضي (2/434) : " {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} خطاب عام أي المستحق منكم العبادة واحد لا شريك له". وانظر أيضاً: التحرير والتنوير (2/74) .(47/430)
وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم: ((في الوجود)) ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء؛ قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} (1) .
ولا يقال: ليس قوله: ((غيره)) كقوله: ((إلا الله)) ؛ لأن ((غيراً)) تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد ((إلا)) فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً؛ فلهذا ذكرتُ هذا الإشكال وجوابه هنا (2) .
ذُكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (3) الآيات (4) .
__________
(1) سورة مريم، الآية: 9.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (73-75) .
(3) سورة البقرة، الآية: 177.
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (485) وانظر أسباب النزول للواحدي، ص (49) ، ولباب النقول في أسباب النزول، ص (49) ففيهما أن سبب نزول الآية أنهم سألوا عن البر.(47/431)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب (2) ، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (3) .
... قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (4) الآية ... معنى { {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} فرض عليكم وألزمكم (5)
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 178.
(2) انظر الوسيط (1/265) ، وتفسير القرآن للسمعاني (1/174) ، وزاد المسير (1/180) ، والتفسير الكبير (5/47) فقد ذكروا نحو ما قال المؤلف.
(3) سورة الحجرات، الآية: 9، 10. وانظر شرح العقيدة الطحاوية، ص (442) ومقصود المؤلف من إيراد آية الحجرات أنها دلت على ما دلت عليه آية البقرة من بقاء أخوة الإسلام مع وجود الكبيرة وهي القتل، فدل ذلك على أن الكبيرة لا تخرج صاحبها من الإسلام.
(4) سورة البقرة، الآية: 180.
(5) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (485) (تحقيق عبد الحكيم) وانظر هذا المعنى في جامع البيان (3/384) وتفسير القرآن لأبي الليث (1/181) ، والنكت والعيون (1/231) ، والوسيط (1/268) ، وتفسير القرآن للسمعاني (1/174) .(47/432)
.. قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} (1) قيل: معناه لا يطيقونه (2) هذا التقدير على قول من قال من النحاة: بتقدير (لا) في مثل قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (3) والمبرد وغيره يأبون ذلك ويقدرون فيه كراهية أن تضلوا. وقولهم أولى؛ لأن تقدير العامل المناسب أولى من تقدير حرف النفي، مع أنه ليس قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} نظير قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (4) لأن هنا قرينة تدل على المقدر وهي قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} وليس في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ما يدل عليه ولا يجوز في مثله تقدير ما لايدل عليه من اللفظ دليل. وإلا لم يثق أحد بنص مثبت لاحتمال أن تكون (لا) مقدرة فيه. وقيل: معناه كانوا يطيقونه أي في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر، والآخر ظاهر الضعف. وأقوى منه ما روى البخاري في صحيحه عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ (وعلى الذي يطوقونه فدية طعام مسكين) قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً (5) . مع أن هذه القراءة يمكن أن ترد إلى معنى القراءة الأخرى فإن معنى (يطوَّقونه) يكلفونه. وأكثر السلف على أن الآية منسوخة. عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت هذه الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} متفق عليه (6)
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 184.
(2) انظر الدر المصون (2/273) فقد ذكر السمين هذا القول وقال: إنه بعيد.
(3) سورة النساء، الآية: 176.
(4) سورة النساء، الآية: 176.
(5) صحيح البخاري مع الفتح برقم (4505) والقراءة المذكورة عن ابن عباس قراءة شاذة. انظر مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه، ص (11) .
(6) صحيح البخاري مع الفتح برقم (4507) ، وصحيح مسلم برقم (1145) .(47/433)
وأخرجه البخاري أيضاً عن ابن عمر (1) وأخرج أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب محمد أنهم قالو ذلك (2) . وحكى البغوي عن قتادة أنها خاصة في الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم لكنه يشق عليه، رخص له أن يفطر ويفتدي ثم نسخ (3) .
وحكي أيضا عن الحسن أن هذا في المريض الَّذِي به ما يقع اسم المرض وهو مستطيع للصوم، خُيّر بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ثم نسخ (4) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح برقم (1949) .
(2) صحيح البخاري مع الفتح (4/187) والخبر ذكره الإمام البخاري معلقاً. وقال ابن حجر في الفتح (4/188) وصله أبو نعيم في المستخرج والبيهقي من طريقه ... واختلف في إسناده اختلافاً كثيراً، وطريق ابن نمير هذه أرجحها.
(3) معالم التنزيل (1/150) وأخرجه عبد الرزاق الصنعاني عن قتادة بإسناد صحيح. انظر تفسير القرآن لعبد الرزاق (1/69، 70) .
(4) معالم التنزيل (1/150) وقد ذكر البغوي في مقدمة تفسيره (1/28) أنه يروي تفسير الحسن من طريق عمروبن عبيد. ومعلوم أن عمرو بن عبيد أحد رؤوس المعتزلة الدعاة إلى بدعتهم.(47/434)
وإذا عرف هذا فالمسألة مسألة نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم. ومن ادعى النسخ معه زيادة إثبات. كيف وهو قول جمهور الصحابة؟ ولعل قول ابن عباس رضي الله عنهما عن اجتهاد، وقول غيره عن نقل وهو الظاهر، فإن النسخ كان قبل ابن عباس رضي الله عنهما (1) .
... قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) شاة. وعليه جمهور العلماء (3) ، وجماعة الفقهاء (4) .
__________
(1) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (429،432) تحقيق عبد الحكيم. وما ذهب إليه المؤلف هو الراجح، لأن الآية صريحة في التخيير بين الصيام والإطعام لمن يطيق الصوم، وقد رُفع هذا التخيير باتفاق على وجوب الصوم بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقد رجح القول بالنسخ جماعة من الأئمة، منهم أبو عبيد والطبري والنحاس ومكي وابن حزم وابن العربي وابن الجوزي وابن كثير. انظر جامع البيان (3/434) ، والناسخ والمنسوخ لأبي عبيد، ص (47) ، والناسخ والمنسوخ للنحاس (1/501،502) ، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، ص (125) ، والإحكام في أصول الأحكام (4/62) ، وأحكام القرآن (1/79) ، ونواسخ القرآن، ص (177) ، وتفسير القرآن العظيم (1/216) .
(2) سورة البقرة، الآية: 196.
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/378) .
(4) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (588) تحقيق عبد الحكيم.(47/435)
..قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) المخاطبون بالنهي هم المحرمون، والضمير في قوله:"رؤوسكم" عائد إليهم، أي: لا يحلق بعضكم رؤوس بعض، كما في قَوْله تَعَالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (2) الآية، وفي قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (3) وفي قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) هذا هو الظاهر في الآيات كلها، وإن كانت تحتمل أن المحرم لا يحلق رأس نفسه، أو لا يُمكّنُ من يحلقه، أو أن أحداً منكم لا يقتل نفسه، وأن من تمام توبتكم يا بني إسرائيل إن كل إنسان منكم يقتل نفسه، لكنه خلاف الظاهر، والقول بشمول كل من الآيات للمعنيين أحسن (5) .
... قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (6) … البغي مجاوزة الحد (7) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) سورة النور، الآية: 61.
(3) سورة النساء، الآية: 29.
(4) سورة البقرة، الآية: 54.
(5) انظر التنبيه على مشكلات الهداية، ص (544، 545) . تحقيق عبد الحكيم. وانظر جامع البيان (19/ 225، 226) ، وتفسير القرآن للسمعاني (1/418، 419) ، والنكت والعيون (1/475) ، والمحرر الوجيز (4/94) ، وفتح القدير (1/544) تجد أن أصحاب هذه المؤلفات قد ذكروا المعنيين. عند بعض هذه الآيات. وطائفة من المفسرين اقتصروا على ذكر المعنى الذي قال المؤلف إنه الظاهر، وذلك عند بعض هذه الآيات أيضاً انظر تفسير القرآن لأبي الليث (1/119، 349) ، وزاد المسير (1/82) وما رجحه المؤلف من القول بالعموم هو الصحيح.
(6) سورة البقرة، الآية: 213.
(7) شرح العقيدة الطحاوية، ص (782) . وانظر هذا المعنى الذي ذكره المؤلف في جامع البيان (4/281) ، والمفردات في غريب القرآن، ص (55) ، وعمدة الحفاظ (1/243) .(47/436)
.. قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (1) قال مجاهد: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} حتى ينقطع الدم {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} اغتسلن بالماء (2) .
قال أهل التفسير في قوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) أي مطيعين. قاله الشعبي وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاوس (4) .ويشهد لذلك قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (5) وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} (6) وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} (7) وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (8) وقوله تعالى {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} (9) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222.
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (106) تحقيق عبد الحكيم، والأثر أخرج بعضه ابن جرير في تفسيره برقم (4266) وبعضه برقم (4270) بسند واحد رجاله ثقات.
(3) سورة البقرة، الآية: 238.
(4) أخرج ذلك الإمام الطبري عنهم في جامع البيان (5/230، 231) . والأسانيد إلى الشعبي وعطاء وقتادة وطاوس رجالها ثقات. وهذا القول ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر جامع البيان (5/ 229) .
(5) سورة البقرة، الآية: 116.
(6) سورة النحل، الآية: 120.
(7) سورة التحريم، الآية: 5.
(8) سورة الأحزاب، الآية: 35.
(9) سورة النساء، الآية: 34. وهذا التفسير في التنبيه على مشكلات الهداية، ص (259) تحقيق عبد الحكيم.(47/437)
وقال أيضاً القيام المذكور في الآية ليس المراد به انتصاب القامة، بل المراد به فعل المأمور به، وأن يكون على وجه الطاعة لله، والإمتثال لأمره، فإن الرجل يقوم بأشياء ويكون هو قائم بأمر على وجه الطاعة تارة، وعلى وجه المعصية أخرى فأمروا أن يقوموا لله بما أمرهم به حال كونهم طائعين ... ويحتمل أن يكون المراد بالقيام لله في الآية الصلاة بخصوصها (1) ، ويكون المعنى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} بالصلاة قانتين فيها {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} فإن قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قد ذكرت الصلاة قبله وبعده، فكان الظاهر إرادة الصلاة هنا بخصوصها، وأما إرادة القيام في الصلاة بمجرده من هذه الآية فغير ظاهر (2) .
__________
(1) ذكر هذا القول أبو حيان في البحر المحيط (2/251) والأقوال في معنى ((قانتين)) كثيرة جداً، انظرها في التفسير الكبير (6/130، 131) ، والجامع لأحكام القرآن (3/213، 214) ، والبحر المحيط (2/251) وأشهرها قولان: 1- القنوت الطاعة.2- القنوت السكوت. قال أبو جعفر النحاس بعد أن ذكر القولين: "هذان القولان يرجعان إلى شيء واحد؛ لأن السكوت في الصلاة طاعة" عاني القرآن الكريم (1/240) .
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (166) تحقيق عبد الحكيم. وهذا التفسير ذكره عندما رد على صاحب الهداية في احتجاجه بالآية على فرضية القيام في الصلاة المفروضة.(47/438)
[قوله تعالى] : {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) {لا يَؤُودُهُ} أي: لا يكرثه (2) ولا يثقله ولا يعجزه (3) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 255. والمؤلف لم يذكر الآية كاملة في مكان واحد، وإنما ذكرها مفرقة.
(2) أي: لا يشق عليه، ولا يغمه ولا يثقله. انظر تهذيب اللغة (10/175، 176) ((كرث)) .
(3) انظر مجاز القرآن (1/78) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة، ص (93) ، ومعاني القرآن وإعرابه (1/338) ، وجامع البيان (5/404، 405) .(47/439)
فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده (1) ، كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (2) لكمال عدله، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} (3) لكمال علمه، وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (4) لكمال قدرته. {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لكمال حياته وقيُّوميته. {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (5) لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلاَّ فالنفي الصِّرف لا مدح فيه، ألا يُرى أن قول الشاعر (6) :
قُبَيِّلةٌ لا يَغْدِرُونَ بذمةٍ
ولا يَظْلِمُونَ النَّاس حَبَّةّ خَرْدَلِ
لمَّا اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله ((قُبيِّلة)) عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم. وقول الآخر (7) :
لَكِنَّ قّوْمِي وإنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ في شَيءٍ وإنْ هَانَا
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، عُلم أن المرادعجزهم وضعفهم أيضاً (8) .
__________
(1) انظر في هذه المسألة: الرسالة التدمرية، ص (40) وما بعدها، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (17/109) وما بعدها، وأيضاً (3/36) من مجموع الفتاوى.
(2) سورة الكهف، الآية: 49.
(3) سورة سبأ، الآية: 3.
(4) سورة ق، الآية: 38.
(5) سورة الأنعام، الآية: 103.
(6) هو النجاشي: قيس بن عمرو بن مالك، أصله من نجران، رُوي أنه كان ضعيفاً في دينه (ت: نحو40هـ) . انظر خزانة الأدب (4/76) ، والأعلام (5/207) . والبيت من قصيدة هجا بها قيسٌ ابن أُبي بن مقبل من بني العجلان. انظر خزانة الأدب (1/231، 232) .
(7) قال في خزانة الأدب (7/441) : إن البيت لقُرَيْط بن أُنيف العنبري. والبيت أيضاً في مغني اللبيب (1/257) .
(8) شرح العقيدة الطحاوية، ص (68، 69) ، وانظر أيضاً، ص (89) .(47/440)
واعلم أن هذين الاسمين أعني: الحي القيوم مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور (1) كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم (2) ، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية، والأبدية (3) ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود.
و ((القيوم)) أبلغ من ((القيام)) ؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه، باتفاق المفسرين وأهل اللغة (4) ، وهو معلوم بالضرورة.
__________
(1) سورة البقرة في الآية (255) وفي سورة آل عمران، الآية (2) وفي سورة طه، الآية (111) .
(2) انظر التفسير الكبير (7/4، 5) ، والجامع لأحكام القرآن (3/271) .
(3) انظر مجاز القرآن (1/78) ، وتفسير ابن أبي حاتم (2/28) .
(4) ذكر طائفة من المفسرين وأهل اللغة نحو ما قاله المؤلف هنا، من أن القيوم يفيد قيامه بنفسه، وبعضهم يقول: هو القائم على كل نفس بما كسبت، أو هو القائم بتدبير أمر الخلق، وهذا يستلزم الأول، ولم يذكروا في ذلك خلافاً، مما يفيد صحة الاتفاق الذي ذكره المؤلف. انظر على سبيل المثال: جامع البيان (5/388) ، ومعاني القرآن وإعرابه (1/336، 337) ، وتفسير ابن أبي حاتم (2/25،26) ، وتهذيب اللغة (9/360) ، وتفسير القرآن للسمعاني (1/257) ، والمفردات، ص (417) ، وتفسير القرآن لأبي الليث (1/222) ، ومعالم التنزيل (1/238) ، والنكت والعيون (1/323) .(47/441)
وهل تفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان. أصحهما: أنه يفيد ذلك (1) ، وهو يُفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول، ولا يأفل (2) ؛ فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب، ولا ينقص، ولا يفنى، ولا يَعْدَمُ، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال.
واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً؛ ولهذا كان قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) . فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما يرجع معانيها، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. وأما القيوم، فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام (4) .
__________
(1) لم أر فيما اطلعت عليه مَنْ حكى خلافاً في أن ((القيوم)) يفيد إقامته لغيره.
(2) الأفول الغياب، وقد فسره المؤلف بذلك، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} . انظر غريب القرآن وتفسيره لليزيدي، ص (138) .
(3) صحيح مسلم الحديث رقم (810) .
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (90-92) .(47/442)
وأما ((الكرسي)) … [ف] (1) قد قيل: هو العرش (2) ، والصحيح أنه غيره، نُقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. روى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أنه قال: "لكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قَدْرَه إلا الله تعالى".وقد رُوي مرفوعاً (3) ، والصواب أنه موقوف على ابن عباس. وقال السدي: "لسماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش" (4) . وقال ابن جرير: قال: أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهري فلاة من الأرض" (5) . وقيل
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة من عندي ليستقيم الكلام، وانظر نظام كلام المؤلف في شرح العقيدة الطحاوية ص (368) .
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (5/399) من طريق جويبر، عن الحسن. وهي طريق لا تقوم بها حجة؛ لضعف جويبر. انظر تقريب التهذيب رقم (987) .
(3) قال الدارقطني في كتاب النزول، ص (49) : رفعه شجاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرفعه الرمادي. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب، ص (264) ، عندما ترجم لشجاع: "صدوق وهم في حديث واحد رفعه، وهو موقوف، فذكره بسببه العقيلي" قلت: يعني في كتابه ((ضعفاء الرجال)) . وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره، ص (1/310) : "أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر ابن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاسي، فذكره، وهو غلط". يعني - رحمه الله - رفعه غلط.
(4) أخرجه الطبري في جامع البيان (5/398) من طريق أسباط عن السدي. قال الحافظ ابن حجر: "أسباط بن نصر الهمداني … صدوق كثير الخطأ يُغرب" التقريب رقم (321) . قلت: ولا يخفى عليك أنه من رجال صحيح مسلم.
(5) جامع البيان (5/399) من طريق ابن زيد، عن أبيه قال: قال أبو ذر. فذكره. وعبد الرحمن بن زيد ضعيف. انظر التقريب رقم (3865) .(47/443)
كرسيه علمه. ويُنْسب إلى ابن عباس (1) .
والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش. وإنما هو كما قال غير واحد من السلف:بين يدي العرش (2) ، كالمرقاة إليه (3) .
... قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (4) .... الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفع أو ضرر (5) .
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (5/397) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/134، 135) وقال: وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد بالكرسي المشهور المذكور مع العرش. وقال أبو منصور الأزهري بعد أن ذكر هذه الرواية ليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار. تهذيب اللغة (10/54) (كرس) . وطعن الحافظ القصاب في ثبوت هذه الرواية عن ابن عباس. انظر نكت القرآن الدالة على البيان (1/146) ، وكذلك فعل الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/176) .
(2) انظر جامع البيان (5/398) ، ومعالم التنزيل (1/239) ، وتفسير ابن كثير (1/310) ، والدر المنثور (1/327، 328) تجد ما يفيد ذلك عن طائفة من السلف.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (368، 371) .
(4) سورة البقرة، الآية: 286. والمؤلف ذكر ألفاظ الآية مفرقة.
(5) انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص (652) وانظر عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ
(3/463،464) . فقد ذكر السمين في معنى الكسب نحو ما قاله المؤلف هنا.(47/444)
[وقال أيضاً] …: قال: ابن الأنباري (1) : أي: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه، قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أُطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه (2) .
سورة آل عمران
__________
(1) محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، كان من أعلم الناس، بالنحو والأدب وأكثرهم حفظاً (ت: 328 هـ) انظر العبر (2/31) ، وبغية الوعاة (1/212) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (654) . وما نقله عن ابن الأنباري موجود في زاد المسير (1/346) ، والبحر المحيط (2/385) منسوب إلى ابن الأنباري ولم أقف عليه في شيء من كتبه المطبوعة. وانظر معاني القرآن وإعرابه (1/371) ففيه نحو هذا.(47/445)
.. قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1) فيها قراءتان (2) : قراءة من يقف على قوله: {إِلاَّ اللَّهُ} ، وقراءة من لا يقف عندها (3) ، وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. ولا يريد مَنْ وقف على قوله: {إِلاَّ اللَّهُ} أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك (4) ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله" (5) ولقد صدق رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" رواه البخاري وغيره (6)
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 7.
(2) قول المؤلف ((فيها قراءتان)) فيه تجوز في العبارة، والأولى أن يقول: فيها وقفان.
(3) قوله ((عندها)) يريد عند كلمة ((العلم)) انظر المكتفى في الوقف والابتدا، ص (194-197) ، وعلل الوقوف (1/361-363) تجد أنهما قد ذكرا الوقفين.
(4) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (5/35، 36، 234) (13/143، 144) . وقول من صحح الوقفين هو جمع بين قول من قال: بالوقف على لفظ الجلالة (الله) ، وقول من قال: ليس الوقف على لفظ الجلالة. انظر القولين في معاني القرآن للفراء (1/191) ، وجامع البيان (6/201، 203) ، والبحر المحيط (2/400) ، والدر المصون (3/29) .
(5) أخرجه الطبري في جامع البيان (6/203) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس.
(6) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح برقم (143) بلفظ: "اللهم فقهه في الدين"، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (2477) بلفظ "اللهم فقهه"، وأخرجه الإمام أحمد في المسند (1/266) بلفظ المؤلف هنا، وأخرجه ابن ماجة (1/58) في المقدمة بلفظ "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" واللفظ الذي يفيد أنه دعا له بمعرفة التأويل لم يرد في الصحيحين - حسب ما رأيت - لكن الشيخ الألباني صحح حديث ابن ماجة. انظر صحيح سنن ابن ماجة (1/33) .(47/446)
ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد. قال مجاهد: "عرضت المصحف على ابن عباس، من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسأله عنها" (1) . وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله. وقول الأصحاب - رحمهم الله - في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطَّعة في أوائل السور (2) ،ويُروى هذا عن ابن عباس (3) .مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس (4) ، فإن كان معناها معروفاً، فقد عُرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً، وهي المتشابه، كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب.
وأيضاً فإن الله قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين (5) .
__________
(1) أخرجه الطبري في جامع البيان (1/90) لكن بلفظ "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية منه وأسأله عنها" وهو من طريق محمد بن إسحاق، وقد عنعن، لكن له شاهد عند الطبري بمعناه. انظر جامع البيان (1/90) .
(2) انظر أُصول السرخسي (1/169) .
(3) ذكره عنه البغوي في معالم التنزيل (1/278) ، وأسانيد البغوي إلى ابن عباس منها ما يحتج به ومنها ما لا يحتج به، وأورده أيضاً ابن الجوزي في زاد المسير (1/350) .
(4) انظر الأية رقم (1) من سورة البقرة في هذا البحث تجد المراجع في الحاشية عند تفسير تلك الآية.
(5) شرح العقيدة الطحاوية، ص (254، 255) وانظر المحرر الوجيز في عد آي الكتاب العزيز، ص (67) وما بعدها تجد فيه ما قال المؤلف في مسألة العدد.(47/447)
قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) … عبارات السلف في ((شهد)) تدور على الحكم، والقضاء، والإعلام، والبيان، والإخبار (2) . وهذه الأقوال كلها حق، لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه. فلها أربع مراتب. فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يُعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه، ويذكرها، وينطق بها، أو يكتبها. وثالثها: أن يُعلم غيره بها بما يشهد به، ويخبره به، ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمُرَه به.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 18.
(2) الإعلام والإخبار متقاربان. وانظر ما يؤيد كلام المؤلف في مجاز القرآن (1/89) ، وتهذيب اللغة (6/72، 73) ، ومعجم مقاييس اللغة (3/221) ((شهد)) ، والبحر المحيط (2/419) ، وعمدة الحفاظ (2/342) ، والنكت والعيون (1/379) ، والجواهر الحسان (1/302) .(47/448)
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية، والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به. فأما مرتبة العلم، فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهداً بما لا علم له به، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) وقال صلى الله عليه وسلم: "على مثلها فاشهد" (2) وأشار إلى الشمس. وأما مرتبة التكلم والخبر، فقال الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} (3) فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم. وأما مرتبة الإعلام والإخبار، فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل مُعْلم لغيره بأمرٍ، تارةً يعلمه به بقوله، وتارةً بفعله؛ ولهذا كان من جعل داره مسجداً، وفتح بابها، وأفرزها بطريقها، وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها، معلماً أنها وقف، وإن لم يتلفظ به … وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارةً، وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وأما
__________
(1) سورة الزخرف، الآية: 86.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/110) بنحوه من حديث ابن عباس، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: واه، فعمرو قال ابن عدي كان يسرق الحديث، وابن مسمول ضعفه غير واحد. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/156) وقال: محمد بن سليمان بن مسمول هذا تكلم فيه الحميدي، ولم يرو من وجه يعتمد عليه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/18) بلفظ المؤلف وقال: غريب. وأخرجه العقيلي في كتاب الضعفاء الكبير (4/70) وذكر أن هذا الحديث لا يعرف إلا من طريق المسمولي. وأورده الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، ص (290) وقال: أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ.
(3) سورة الزخرف، الآية: 19.(47/449)
بيانه وإعلامه بفعله، فكما قال ابن كيسان (1) : شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه، أنه لا إله إلا هو (2) . وقال آخر (3) :
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} (4) فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه. والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودَلالتها إنما هي بخلقه وجعله. وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به …فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر، وألزم عباده به، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (5) وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} (6) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} (7) وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (8) وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (9) . والقرآن كله شاهد بذلك (10) ...
__________
(1) لعله: محمد بن أحمد بن كيسان البغدادي النحوي، له تصانيف في القراءات والغريب والنحو (ت: 299 هـ) . انظر العبر (1/437) .
(2) أورده ابن الجوزي في زاد المسير (1/362) منسوباً إليه. وباختصار شديد ذكره أبو حيان في البحر (2/419) منسوباً إليه، وابن القيم في مدارج السالكين (3/473) .
(3) هو أبو العتاهية. انظر أبا العتاهية أشعاره وأخباره، ص (104) ، والأغاني (4/35) ، والبحر المحيط (2/419) .
(4) سورة التوبة، الآية: 17.
(5) سورة الإسراء، الآية: 23.
(6) سورة النحل، الآية 51.
(7) سورة التوبة، الآية: 31.
(8) سورة الإسراء، الآية: 39.
(9) سورة القصص، الآية: 88.
(10) شرح العقيدة الطحاوية، ص (44-47) وتركت بعض ما ذكره المؤلف في الآية؛ لأن مضمونه فيما نقلت. والمؤلف أخذه من كلام ابن القيم في مدارج السالكين (3/469) .(47/450)
.. لما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} ... (1) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال لهم: "اللهم هؤلاء أهلي" (2) .
[قوله تعالى:] { ... آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) وذلك؛ لأن الجهال، يقولون: ما رجع هؤلاء عن دينهم الذي صاروا إليه إلاَّ بعد أن ظهر لهم بطلانه (4) .
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 61.
(2) شرح العقيدة الطح اوية، ص (726) والحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه تحت رقم (2404) .
(3) سورة آل عمران، الآية: 72.
(4) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (221، 222) تحقيق أنور. وانظر تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني (1/ 123) ، وجامع البيان (6/ 507) ، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 339، 340) تحقيق د. حكمت. تجد في هذه المؤلفات ما ذكره المؤلف هنا.(47/451)
[قوله تعالى:] {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} (1) فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد: أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، هو (2) الصحيح (3) ؛ إذ قد أخبر في الآية الآخرى أنه يقول لهم في النار {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} (4) فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين، لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً (5) .
... وإنما تكون (من) للتبعيض إذا صلح في موضعها (بعض) كما في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (6) فإنه يصح في موضعها بعض، وقد قُرئ شاذاً {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (7) .
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 77.
(2) هكذا في النسخة المحققة التي بين يدي، ولعل الصواب: "وهو الصحيح" وقد أثبت الشيخ أحمد شاكر الواو بين قوسين. انظر تحقيقه لشرح العقيدة الطحاوية، ص (115) .
(3) بهذا القول فسر الإمام الطبري الآية. انظر جامع البيان (6/528) ، وكذلك الواحدي في الوسيط (1/453) ، وابن كثير في تفسيره (1/376) ، والبغوي في معالم التنزيل (1/319) قدمه في الذكر وحكى معه قولاً آخر بلفظ قيل. وهذا القول كما ترى من القوة بمكان. وهناك أقوال أُخر في معنى الآية: انظرها إن شئت في: بحر العلوم (1/279) ، والتفسير الكبير (8/93) ، ومحاسن التأويل (2/78) .
(4) سورة المؤمنون، الآية: 108.
(5) شرح العقيدة الطحاوية، ص (178) .
(6) سورة آل عمران، الآية: 92.
(7) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (705، 706) تحقيق عبد الحكيم. وانظر الكشاف (1/445) ، والبحر (1/546) ، والدر المصون (3/310) فقد ذكروا معنى (مِنْ) واحتجوا عليها بالقراءة بمثل ما فعل المؤلف هنا، إلا أن السمين قال: وهذه عندي ليست قراءة، بل تفسير معنى قلت: وإذا كانت قراءة فهي قراءة شاذة.(47/452)
.. قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} (2) وأما الحياة التي اختص بها الشهيد، وامتاز بها عن غيره ... فهي أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر، كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم - يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة (3) في ظل العرش" الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود (4) ، وبمعناه في حديث ابن مسعود، رواه مسلم (5) . فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير (6) .
سورة النساء
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 169.
(2) سورة البقرة، الآية: 154.
(3) مذلَّلة يعني: مدلاه. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (2/166) ((ذلل)) .
(4) المسند (1/265، 266) ، وسنن أبي داود برقم (2520) ، وتفسير الطبري برقم (8205) ، ومستدرك الحاكم (2/97) كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(5) صحيح مسلم الحدث رقم (1887) .
(6) انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص (586، 587) .(47/453)
في الصحيحين أن عروة سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينقص من صداقها فنهوا عن نكاحها إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن. قالت عائشة: فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (2) فبين لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء، قال وكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلاَّ أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق" (3) .
... قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (4) ... المذكور في هذه الآية الكريمة حرف أو، وهو لأحد المذكورين، أي: لا ميراث إلاّ من بعد إخراج الوصية، إن كان ثم وصية، أو إخراج الدين إن كان ثم دين (5) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 3.
(2) سورة النساء، الآية: 127.
(3) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (618) تحقيق عبد الحكيم. والحديث في صحيح البخاري مع الفتح برقم (5092) وفي صحيح مسلم برقم (3018) .
(4) سورة النساء، الآية: 11.
(5) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (25) تحقيق عبد الحكيم. وما ذكره المؤلف من أن (أو) لأحد المذكورين قاله الكرماني في غرائب التفسير (1/ 286) ، والزمخشري في الكشاف (1/ 508) ، والعكبري في التبيان في إعراب القرآن (1/ 335) .(47/454)
.. قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (1) ... المراد به النكاح الذي هو ضد السفاح، ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط، ولا الوطء المجرد عن عقد (2) .
... قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) ... عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس (4) فلقي عدواً لهم فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا سبايا، وكأن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجل ذلك {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (5) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 22.
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (598، 599) تحقيق عبد الحكيم. وانظر معاني القرآن وإعرابه (4/29) فقد ذكر الزجاج ما يفيد أن النكاح يطلق ويراد به الأمرين التزويج والوطء إلا أنه استبعد أن يراد به مطلق الوطء. وانظر أيضاً معاني القرآن الكريم (4/498) . والمؤلف يريد أن يرد على الذين يقولون بتحريم من غشيها الأبُ على الابن زناً. وهي مسألة اختلف فيها العلماء على قولين. انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/52-54) ، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 383 - 391) ، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 369) .
(3) سورة النساء، الآية: 24.
(4) أوطاس: واد بديار هوازن. انظر ترتيب القاموس (4/628) ((وطس)) .
(5) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (648، 649) تحقيق عبد الحكيم، وأشار المؤلف إلى هذا أيضاً في ص (755) وهذا السبب أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم (1456) .(47/455)
.. قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) ... المراد استطاعة الآلات والأسباب. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمران ابن حصين: "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" (2) وإنما نفى استطاعة الفعل معها (3) .
... قوله تعالى: { ... لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) ... الاستثناء هنا منقطعاً (5) .
... قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (6) نزلت في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم حين قدَّموا رجلاً منهم في الصلاة، فصلى بهم وترك في قرآنه ما غير المعنى (7) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 25.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح الحديث رقم (117) .
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (634، 635) ويعني المؤلف بقوله "وإنما نفى استطاعة الفعل معها" أن الآلات والأسباب توجد ولا يستطيع الإنسان أن يقوم بالفعل، لمانع كالمرض ونحو ذلك.
(4) سورة النساء، الآية: 29.
(5) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (68) تحقيق أنور. وما ذكره المؤلف في الاستثناء هو أصح الوجهين. انظر التبيان في إعراب القرآن (1/ 351) ، والدر المصون (3/ 663) ويكون المعنى: ولكن أقصدوا كون تجارة عن تراض منكم. انظر الكشاف (1/ 552) ، أو يكون المعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها. انظر المحرر الوجيز (4/ 91) .
(6) سورة النساء، الآية: 43.
(7) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (127) تحقيق أنور. وهذا السبب أخرجه أبو داود في سننه برقم (3671) ، وابن جرير في التفسير برقم (9524) ، والحاكم في المستدرك (2/336) كلهم أخرجوه من رواية علي بن أبي طالب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الأسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح.(47/456)
..قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} (1) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره: الجبت: السحر (2) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 51.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (762) ، والأثر أخرجه الطبري في جامع البيان برقم (9766) ، قال حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد قال: قال عمر رحمه الله: الجبت السحر ... وذكره البخاري معلقاً فقال: وقال عمر: الجبت السحر. انظر صحيحه مع الفتح (8/251) كتاب التفسير، باب {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} . وقال الحافظ في الفتح (8/252) : وصله عبد بن حميد في تفسيره، ومسدد في مسنده، وعبد الرحمن بن رستة في كتاب الإيمان كلهم من طريق أبي إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر مثله، وإسناده قوي. وقد وقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من حسان، وسماع حسان من عمر في رواية رستة. وهذا التفسير أيضاً أخرجه الطبري في جامع البيان (8/462) عن مجاهد والشعبي. وذكر ابن كثير في تفسيره (1/513) أنه رُوي عن ابن عباس، وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي. وانظر الدر المنثور (2/172) ، فقد أورده وذكر من أخرجه عن عمر. وهناك أقوال كثيرة في معنى ((الجبت والطاغوت)) ساقها ابن جرير في تفسيره (8/461-465) ثم اختار أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظَّم من دون الله فيدخل في ذلك جميع الأقوال التي قيلت. ونقل هذا الاختيار الحافظ في الفتح (8/252) مقراً له. وقال الجوهري في الصحاح 1/245 ((جبت)) : الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/513) كالراضي عنه المرجح به.(47/457)
.. قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) كيف قال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ولم يقل (وأطيعوا أولي الأمر منكم) ؟؛ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول؛ لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم في ذلك، وأما ولي الأمر، فقد يأمر بغير طاعة الله فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله (2) .
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} والمراد بالرد إلى الله الرد إلى كتابه، وبالرد إلى الرسول الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته (3) .
... قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (4) أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يُحكِّموا نبيه، ويرضوا بحكمه، ويسلموا تسليماً (5) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 59.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (542، 543) وهذه النكتة التي ذكرها في عدم إعادة العامل مع أولي الأمر ذكر نحوها الطيبي في فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (1/128) ونقلها عنه القاسمي في محاسن التأويل (2/361) ونحو هذا من النكتة في عدم إعادة العامل مع أولي الأمر قال أيضاً برهان الدين البقاعي في نظم الدرر (5/310) .
(3) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (544، 545) (تحقيق أنور) ، والاتباع، ص (31) وهذا التفسير قاله الطبري في جامع البيان (8/504، 505) وأسنده إلى بعض التابعين.
(4) سورة النساء، الآية: 65.
(5) شرح العقيدة الطحاوية، ص (242) ، ومعنى ما قال المؤلف هنا في كثير من كتب التفسير، منها تفسير القرآن العظيم (1/521) ، والجواهر الحسان (1/461) ، وبدائع التفسير (2/32) .(47/458)
.. قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) ... فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وبين قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} ؟. قيل: قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الخِصب والجدب، والنصر والهزيمة، كلها من عند الله، وقوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} : أي ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (2) يدل على ذلك ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: "وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأنا كتبتها عليك" (3) . والمراد بالحسنة - هنا - النعمة، وبالسيئة البلية (4) ، في أصح الأقوال.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 78، 79.
(2) سورة الشورى، الآية 30.
(3) انظر معالم التنزيل (1/454، 455) فهو نقل البغوي بحروفه، إلا بعض الكلمات فالمؤلف أخذه منه، أو أخذه ممن أخذه منه. وأثر ابن عباس أخرجه البغوي في معالم التنزيل 1/455، من طريق مجاهد عن ابن عباس. وفي سنده مسلم بن خالد الزنجي فقيه صدوق كثير الأوهام. انظر التقريب الترجمة رقم (6625) . وأورد الأثر السيوطي في الدر المنثور (1/185) ، ونسب إخراجه لابن المنذر. وأورده أيضاً عن مجاهد، قال: هي في قراءة أُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، ونسب إخراجه لابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف. ولا تصح هذه الرواية؛ لأن مجاهداً لم يدرك أبياً ولا ابن مسعود.
(4) انظر النكت والعيون (1/508) فقد أورد هذا القول الماوردي، ونسبه لبعض البصريين.(47/459)
وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية (1) . وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد (2) . والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث. والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول - قطعاً - ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدَّر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة (3) .
__________
(1) انظر جامع البيان (8/559) فقد أخرجه الطبري عن أبي العالية. وذكره الماوردي في النكت والعيون (1/509) منسوباً لأبي العالية.
(2) أخرجه الطبري في جامع البيان (8/558) ، من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/1010) . وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها الماوردي كلها من غير ترجيح. انظر النكت والعيون (1/508، 509) .
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (515، 516) . وانظر الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام، ص (22-25) ويبدو أن المؤلف أخذ أقوال المفسرين مع ما بعد ذلك من الجمع من هذا الكتاب.(47/460)
وفي قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها، فإن الشر كامن فيها، لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساؤوا إليه، فإن ذلك من السيئات التي أصابته، وهي إنما أصابته بذنوبه، فيرجع إلى الذنوب، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته. فبذلك يحصل له كل خير، ويندفع عنه كل شر؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (1) . فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة (2) .
... قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} (3) أي على القاعدين من أولي الضرر (4) ، بدليل قول الله تعالى: {وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (5) .
__________
(1) سورة الفاتحة، الآية: 6، 7.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (518، 519) ومن قوله: "وفي قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} " إلى أخر الكلام منقول من كتاب الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام، ص (83) .
(3) سورة النساء، الآية: 95.
(4) انظر جامع البيان (9/ 95) ، والمحرر الوجيز (4/221) فقد فسّر ابن جرير الآية به ولم يذكر غيره، ونقله ابن عطية أيضاً. وذكر ابن الجوزي في زاد المسير (2/174) قولين في الآية. هذا الذي ذكره المؤلف. والثاني: أن التفضيل بالدرجة على القاعدين من غير ضرر. وأرجح القولين ما ذهب إليه المؤلف، لما ذكر، ولأن الله ذكر في أخر الآية التفضيل على القاعدين من غير عذر بقوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} انظر زاد المسير (2/175) .
(5) التنبيه على مشكلات الهداية ص (220، 556) تحقيق أنور.(47/461)
..قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (1) ... المراد هو، أو من يقوم مقامه، كما في قوله تعالى (2) : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 102.
(2) سورة التوبة، الآية: 103.
(3) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (332) تحقيق عبد الحكيم. والمؤلف يريد أن يرد بهذا التفسير على قول من قال: إن صلاة الخوف لا تُصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلمبإمام واحد وإنما تُصلى بإمامين. انظر أحكام القرآن للجصاص (3/ 237) ، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 493) .(47/462)
.. في المسند أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (1) قال أبو بكر يا رسول الله نزلت قاصمة الظهر، وأيُّنا لم يعمل سوءاً؟. فقال "يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به" (2) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 123.
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص، (453، 454) والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/11) ، وابن جرير في التفسير برقم (10523) ، وأبو يعلى في مسنده (1/97، 98) ، وابن حبان في صحيحه مع الإحسان (7/170، 171) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/1071) ، والحاكم في المستدرك (3/78) ، والبيهقي في السنن (3/373) ، كلهم من طريق أبي بكر بن أبي زهير، عن أبي بكر الصديق. والحديث قال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتابعه الذهبي فقال: صحيح. انظر الموضع المتقدم من المستدرك. ومع ذلك فقد أعله كل من حقق الكتب السابقة بالانقطاع. فإن أبا بكر بن أبي زهير لم يدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وهو كما قالوا فإن الحافظ ابن حجر قد نص على أنه أرسل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. انظر تهذيب التهذيب (12/24) . وانظر أيضاً تقريب التهذيب برقم (7965) . وللحديث شاهد في صحيح مسلم برقم (2574) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وكذلك له أكثر من شاهد عند ابن أبي حاتم في تفسيره انظر منه (9/244-246) . قال شعيب الأرنؤوط: الحديث صحيح بطرقه وشواهده. انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (7/171) حاشيته. وقد عد شيخ الإسلام هذا الحديث مما استفاض من وجوه متعددة. انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (14/427) .(47/463)
قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (1) ... الخلة كمال المحبة (2) ، وأنكرت الجهمية (3) حقيقة المحبة من الجانبين، زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمُحْدَث توجب المحبة (4) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 125.
(2) انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص (199) ، وانظر محاسن التأويل (2/501) .
(3) الجهمية فرقة ضالة، تُنسب إلى جهم بن صفوان السمرقندي، الضال المبتدع، قتله سلم بن أحوز المازني سنة 128هـ. انظر في شأن هذه الفرقة ومؤسسها مقالات الإسلاميين، ص (279، 280) ، والفرق بين الفرق، ص (211) ، والملل والنحل، ص (86) .
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (394) . وانظر الكشاف (1/566) فقد أوَّل الزمخشري المحبة فقال: "مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله". وانظر نكت القرآن الدالة على البيان (1/241، 244) تجد فيه نسبة هذا القول إلى الجهمية والرد عليه.(47/464)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (1) ... شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء (2) ... ليس إلا، وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به (3) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 135.
(2) انظر جامع البيان (9/302) فقد فسَّره الطبري بما قاله المؤلف. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/1087) عن سعيد بن جبير. وبهذا فسّره غير من ذكرت، انظر مثلاً النكت والعيون (1/535) ، والوسيط (2/126) ، ومعالم التنزيل (1/489) ، والمحرر الوجيز (4/279) ، وتفسير القرآن للسمعاني (1/488) وذكر الرازي قولاً ثانياً في معنى الآية، حاصله أن المراد وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم وأقاربكم وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم وغيره. انظر التفسير الكبير (11/58) . قلت: والمعتمد في معنى الآية ما ذكره المؤلف.
(3) انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص (315) وأورد هذا التفسير أيضاً في التنبيه على مشكلات الهداية، ص (385) تحقيق أنور.(47/465)
سورة المائدة
[قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) ] ... لفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة، فإن المسح كما يُطلق ويراد به الإصابة، كذلك يطلق ويراد به الإسالة، كما تقول العرب: تمسحت للصلاة (2) . وفي الآية ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل، بل المسح الذي الغسل قسم منه، فإنه قال: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، ولم يقل: إلى الكعاب، كما قال: {إِلَى الْمَرَافِقِ} فدلّ على أنه ليس في كل رجل كعب واحد، كما في كل يد مرفق واحد، بل في كل رجل كعبان، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين، وهذا هو الغسل، فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين، وجعل الكعبين - في الآية - غاية يرد قولهم (3) . فدعواهم (4) أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشراك مردود بالكتاب والسنة.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) انظر المفردات ص، (467) ، والوسيط (2/159) ، ومعاني القرآن الكريم (2/272، 273) ، والمحرر الوجيز (5/48) .
(3) قوله: وجعل الكعبين ... الخ احتج به كثير ممن تقدم، منهم: الزجاج في معاني القرآن (2/154) ، والأزهري في تهذيب اللغة (4/352) "مسح"، والنحاس في معاني القرآن (2/273) .
(4) يعني بقوله: "فدعواهم" الشيعة فإنهم هم الذين يرون أن الفرض هو المسح، لا الغسل. انظر تفسير القرآن العظيم (2/23) .(47/466)
وفي الآية قراءتان مشهورتان النصب والخفض (1) ، وتوجيه إعرابهما مبسوط في موضعه (2) ، وقراءة النصب نص في وجوب الغسل؛ لأن العطف على المحل إنما يكون إذا كان المعنى واحداً، كقوله (3) :
... ... ... ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
__________
(1) يعني في لفظ "أرجلكم" وقراءة النصب، قرأ بها نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص، والباقون بالخفض. انظر المبسوط في القراءات العشر، ص (184) ، والنشر في القراءات العشر (2/254) .
(2) انظر الحجة للقراء السبعة (3/214، 215) ، والكشف عن وجوه القراءات السبع (1/406) .
(3) هذا الشعر لعُقَيْبة بن هُبيرة الأسدي، شاعر جاهلي إسلامي (ت نحو: 50هـ) قاله لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في أبيات وصدر البيت: (معاوي إننا بشر فأسجح) . ووجه الاستشهاد بالبيت أن "الحديدا" منصوب عطفاً على محل الجبال المجرورة لفظاً. وقد تبع المؤلف سيبويه وغيره في الاحتجاج بالبيت. انظر الكتاب (1/67) ، والإنصاف في مسائل الخلاف (1/332) ، ولسان العرب (10/120) "غمز" على أن قافية هذا الشعر قد جاءت مجرورة في خلاف يطول ذكره. انظر خزانة الأدب (2/260) . وإن أردت الوقوف على غير المراجع المذكورة التي أوردت هذا الشعر فانظر المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية (1/209، 210) .(47/467)
وليس معنى مسحت برأسي ورجلي، هو معنى مسحت رأسي ورجلي، بل ذكر الباء يفيد معنى زائداً على مجرد المسح، وهو إلصاق شيء من الماء بالرأس (1) ، فتعين العطف على قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ} (2) ... وفي ذكر المسح في الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجلين، فإن السرف يعتاد فيهما كثيراً (3) .
[وقال أيضاً] : قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (4) ... (من) هنا للتبعيض، لا للغاية (5) . أي: ألصقوا بوجوهكم وأيديكم بعضه. قال الزمخشري في الكشاف (6) : فإن قلت: قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض. قلت: هو كما تقول (7) ، والإذعان للحق خير من المراء. انتهى (8) .
__________
(1) تابع المؤلف شيخ الإسلام في عدم صحة عطف قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب على محل {بِرُؤُوسِكُمْ} لوجود الاختلاف بينهما وبين ما جاء في البيت المذكور. انظر فتاوى شيخ الإسلام (21/349) . وكون الباء للإلصاق هو رأي الزمخشري في الكشاف (1/597) ، وشيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (21/349) . وقد قيل في الباء غير ما ذكر. انظر الدر المصون (4/209) .
(2) يعني عطف قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب. وانظر الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/407) ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/349) ، والدر المصون (4/210) والأخير قد ذكر الخلاف بين العلماء في عطف الأيدي.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (553 - 555) وما ذكره بقوله: وفي ذكر المسح في الرجلين ... الخ. قاله الزمخشري في الكشاف (1/597) .
(4) سورة المائدة، الآية: 6.
(5) انظر الدر المصون (4/216) فقد ذكر السمين القولين، ووصف ما ذهب إليه المؤلف بأنه الأظهر.
(6) انظر منه (1/529) فقد قاله الزمخشري عند الآية (43) من سورة النساء.
(7) في التنبيه على مشكلات الهداية "يقول" بالياء، والتصحيح من الكشاف.
(8) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (91) تحقيق عبد الحكيم.(47/468)
.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) ... ذكر في سبب نزول الآية الكريمة عن ابن جريج، عن عكرمة أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم في صحابة تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح (2) ، وحرموا طيبات الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار، وما هموا به من الاختصاء، فنزلت فيهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "إن لأنفسكم عليكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطرواً، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا". فقالوا: اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت (3) .
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 87.
(2) المسوح جمع "مِسْح" بكسر الميم وإسكان السين كساء من شعر. انظر مختار الصحاح، ص (455) ، والمعجم الوسيط (2/903) "مسح".
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (788-790) . والأثر بهذا اللفظ أخرجه ابن جرير في تفسيره برقم (12348) عن ابن جريج عن عكرمة. قال ابن كثير بعد أن أورد هذا الأثر في تفسيره (2/89) : "وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة، ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين". قلت: وللوقوف على هذه الروايات المرسلة انظر جامع البيان (10/514-518) ، وتفسير ابن أبي حاتم (4/1187) . والمؤلف إما أنه نقل سبب النزول من جامع البيان، أو من تفسير شيخه ابن كثير.(47/469)
قال تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} (2) {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3) لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أُفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (4) الآية، كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم (5) ، على خلاف فيه (6) .
وكذلك الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان. ويقرب من هذا المعنى الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى (7) .
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 89.
(2) سورة المجادلة، الآية: 4.
(3) سورة البقرة، الآية 271.
(4) سورة التوبة، الآية 60.
(5) قال أبو جعفر النحاس: وقال أهل اللغة لا نعلم بينهم اختلافاً الفقير الذي له بلغة، والمسكين الذي لا شيء له. انظر معاني القرآن (3/222) فقد ذكر هذا المذهب عند اقتران أحد اللفظين بالآخر.
(6) انظر الجامع لأحكام القرآن (8/168) فقد قال القرطبي: اختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال. وانظر أيضاً معاني القرآن لأبي جعفر النحاس (3/220-223) فقد ذكر أبو جعفر طائفة من أقوال العلماء في ذلك.
(7) شرح العقيدة الطحاوية، ص (452-453) وانظر أيضاً، ص (493) وقد تكلم المؤلف أيضاً على لفظ الفقير والمسكين في كتابه التنبيه على مشكلات الهداية، ص (388) تحقيق عبد الحكيم، وسيأتي كلامه على الإيمان والإسلام في سورة الحجرات. وقضية أن المعنى يختلف بالاقتران والانفراد بحثها شيخ الإسلام في مواضع من مجموع الفتاوى، منها (7/162-169) ولعل المؤلف اطلع على شيء من هذا.(47/470)
.. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1) ... هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرَّم الخمر، وكان تحريمها بعد وقعة أُحد، قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (2) ، بيَّن فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يُحَرَّمْ فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس (3) .
... عن عمر رضي الله عنه في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} (4) قال: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رُمي به.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما طعامه ميتته، إلا ما قذرت منها (5) .
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 93.
(2) أخرجه الترمذي في جامعه، برقم (3050، 3051) ، وأبو داوود الطيالسي في مسنده برقم (715) ، وأبو يعلى في مسنده برقم (1719) ، والطبري في جامع البيان برقم (12528) ، وابن أبي حاتم في تفسيره برقم (6775) ، وابن حبان في صحيحه مع الإحسان برقم (5350، 5351) ، والواحدي في أسباب النزول، ص (209، 210) كلهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. والحديث قال عنه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول، ص (61، 62) .
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (446 - 448) .
(4) سورة المائدة، الآية: 96.
(5) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (574) تحقيق أنور. وأثر عمر أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (12687) بإسناد ضعيف. وأثر ابن عباس أخرجه ابن جرير أيضاً (12696) ورقم (12697) إلا قوله: "إلا ما قذرت منها" فلم أقف عليه. والسندان إلى ابن عباس رجالهما ثقات. وتفسير "طعامه" بأنه ما لفظه ميتاً. أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (12729) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح كما قال محمود شاكر.(47/471)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا ابتعناه من تميم وعدي بن بدّاء فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (1) رواه البخاري وأبو داود (2) .
سورة الأنعام
قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} (3) قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا إليه ملكاً، لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم، هل هو بشر أو ملك (4)
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 106.
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (406) تحقيق أنور. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح برقم (2780) ، وأبو داود في السنن برقم (3606) .
(3) سورة الأنعام، الآية: 8.
(4) أخرج نحوه الطبري في جامع البيان (11/268، 269) عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/1266) عن ابن عباس. وانظر تفسير القرآن العظيم (2/8125) ، والدر المنثور (3/5) .
والطبري وابن أبي حاتم ذكرا نحو هذا التفسير عند قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} وأما الآية التي ذكرها المؤلف فالمقصود منها لقضي الأمر بنزول العذاب إن لم يؤمنوا عند مجيء الآية، أو لقضي الأمر بقيام الساعة، أو لقضي الأمر بأن يموتوا؛ لأنهم لا يطيقون رؤية الملك في صورته الحقيقية. ثلاثة أقوال. ذكرها الطبري وغيره. انظر جامع البيان (11/267، 268) ، والمحرر الوجيز (6/9، 10) والقول الثاني ضعيف، قال ذلك ابن عطية.(47/472)
؟. ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منَّا (1) .
... قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) أي وأنذر من بلغه (3) .
... في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ... } (4) : "أعوذ بوجهك" {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: "هاتان أهون" (5) .
... ذكر ... الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (6) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص (220) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 19.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (169) . وبهذا فسَّر الإمام الطبري الآية، وأسند نحوه عن بعض الصحابة والتابعين، وكذا أسنده ابن أبي حاتم، وعبد الرزاق الصنعاني. انظر جامع البيان (11/290-292) ، وتفسير ابن أبي حاتم (4/1271، 1272) ، وتفسير القرآن لعبد الرزاق (2/205) .
(4) سورة الأنعام، الآية: 65.
(5) شرح الطحاوية ص (776) والحديث أخرجه البخاري برقم (4628) ، ورقم (7313) ورقم (7406) من حديث جابر رضي الله عنه، واللفظ الذي اختاره المؤلف هو برقم (7313) ولم أجده في صحيح مسلم المطبوع. وقد أخرجه غير الإمام البخاري.
(6) سورة الأنعام، الآية: 68. وانظر شرح العقيدة الطحاوية، ص (433) . والأثر لم أقف عليه في كتاب السنة المطبوع بعد البحث. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/7428) عن ابن سيرين بإسناد رجاله ثقات. وأورده السيوطي في الدر المنثور (3/20) ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. ولم يذكر أن الخلاَّل أخرجه.(47/473)
.. قوله تعالى في سورة الأنعام: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) الآيتان، وقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3) الآية فقد أمر الله سبحانه بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وعلق ذلك بالإيمان، وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، ونهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه وقال: {إِنَّهُ لَفِسْقٌ} وأن الأكل (4) مما لم يذكر اسم الله عليه لفسق (5) .
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (6) أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان (7) .
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 118.
(2) سورة الأنعام، الآية: 119.
(3) سورة الأنعام، الآية: 121.
(4) يريد المؤلف أن يُفسِّر الضمير الذي في قوله: {وإنه} والذي ذكره نحوه في زاد المسير (3/115) .
(5) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (545) تحقيق أنور.
(6) سورة الأنعام، الآية: 122.
(7) شرح العقيدة الطحاوية، ص (360) . وبهذا فسَّر الإمام الطبري الآية في جامع البيان (12/18) ، وأسنده ابن أبي حاتم في تفسيره (4/1381) عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. ثم قال: "ورُوي عن مجاهد، والسدي، وأبي سنان نحو ذلك" وبهذا فسر الآية المفسرون. انظر مثلاً: المحرر الوجيز (6/141) ، ومدارك التنزيل (2/31) ، والتسهيل (2/36) ، ولباب التأويل (2/178) ، وتفسير الجلالين بحاشية الفتوحات (2/85) ، والفتوحات الإلهية (2/85) .(47/474)
... قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، ونحو ذلك، واستمتاع الجن بالإنس تعظيمه إياه، واستعانته به، واستغاثته، وخضوعه له (2) .
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 128.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (766) . ونحو هذا التفسير أسنده ابن جرير في جامع البيان (12/116) عن ابن جريج. وبه فسر ابن جرير. وانظر معاني القرآن الكريم (2/489، 490) ، وتفسير القرآن للسمعاني (2/144) ففيهما هذا القول وغيره.(47/475)
.. قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (1) ... الرسل من الإنس فقط، وليس من الجنِّ رسول، كذا قال مجاهد (2) وغيره من السلف والخلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "الرسل من بني آدم ومن الجن نذر" (3) وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} (4) الآية، يدل على أن موسى مرسل إليهم أيضاً. والله أعلم.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 130.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/1389) عن مجاهد بإسناد رجاله ثقات.
(3) أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان (12/122) من طريق ابن جريج، قال: قال ابن عباس: هم الجن الذين لقُوا قومهم، وهم رسل إلى قومهم. ومعلوم أن ابن جريج لم يدرك ابن عباس. وقد نقل ابن حجر عن يحيى بن سعيد أنه قال: إذا قال ابن جريج قال، فهو شبه الريح. انظر تهذيب التهذيب (6/404) . ولهذا أورد ابن الجوزي قول ابن عباس هذا بصيغة التمريض فقال: "ورُوي عن ابن عباس" انظر زاد المسير (3/125) .
(4) سورة الأحقاف، الآية: 30.(47/476)
وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة (1) ، وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة وهي والله أعلم كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (2) والمراد من أحدهما (3) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير في جامع البيان (12/121) من طريق شيخه ابن حميد، قال حدثنا يحيى ابن واضح، قال حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم نبي. ثم ساق ما يفيد معنى ما ذكره المؤلف. وابن حميد قد تكلم فيه العلماء؛ ولذلك قال الذهبي في الكاشف (3/32) : وثقه جماعة والأولى تركه.
(2) سورة الرحمن، الآية: 22.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (168) . وما ذكره المؤلف هنا مختصر من كلام شيخه ابن كثير في التفسير (2/178) فقد أطال في الرد على الضحاك وذكر أدلة من خالفه. والقول ما ذهب إليه ابن كثير والمؤلف فإنه قول الأكثر فيما اطلعت عليه، وقد وصفه القرطبي في الجامع (7/86) بأنه الصحيح، ويمكن تخريج الآية على ما ذكر ابن كثير. وهو قول الأئمة من قبله: ابن جريج، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. انظر معاني القرآن (1/354) ، وتأويل مشكل القرآن، ص (287) ، وجامع البيان (12/122) فيه كلام ابن جريج، ومعاني القرآن وإعرابه (2/292) وأحسن من هذا التخريج ما جاء عن ابن عباس فإنه جمع بين القولين، وهو من ناحية الإسناد كما رأيت، إلا أن مثله قد جاء عن مجاهد بإسناد رجاله ثقات، كما تقدم من رواية ابن أبي حاتم.(47/477)
.. قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) ... يعود الضمير إلى المذكور كله، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير؛ فإن الأصل: قل لا أجد فيما أوحي إليّ شيئاً محرماً، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، ثم قال: إلا كذا وكذا، فإن هذا المذكور كله رجس، وإعادة الضمير إلى بعض المذكور فيه نظر (2) .
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 145.
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (64) تحقيق عبد الحكيم. وفي تفسير الضمير في "فإنه" ثلاثة أقوال. 1- يرجع إلى اللحم 2- يرجع إلى الخنزير 3- يرجع إلى الكل.
انظر بحر العلوم (1/521) ، والبحر المحيط (4/242، 243) وفتح القدير (2/178) ، وروح المعاني (8/44) وقد وصف الألوسي ما ذهب إليه المؤلف بأنه خلاف الظاهر. وقال ابن القيم: "فالضمير في قوله: (فإنه) وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم، فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به؛ لثلاثة أوجه. أحدها: قربه. والثاني: تذكيره دون قوله: فإنها رجس. والثالث: أنه أتى بالفاء وإن، تنبيهاً على علة التحريم لتنزجر النفوس عنه، ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه واستطابته فنفى عنه ذلك وأخبر أنه رجس، وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم؛ لأن كونهما رجساً أمر مستقر معلوم عندهم". بدائع التفسير (2/185) .(47/478)
.. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) فوحَّد لفظ "صراطه" و"سبيله" وجمع "السبل" المخالفة له (3) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً وقال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره، وقال: "هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} " (4)
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 153.
(2) سورة يوسف، الآية: 108.
(3) المؤلف يعني نحو ما قاله شيخه ابن كثير في تفسيره (2/192) فقد قال: "إنما وحد سبيله؛ لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها".
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (799، 800) .والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/435) ، والدارمي في سننه (1/78) برقم (202) ، والنسائي في تفسيره (1/483) ، والطبري في جامع البيان برقم (14168) ، وابن أبي حاتم في تفسيره برقم (8102) ، والحاكم في المستدرك (2/348، 349) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه ابن ماجة في المقدمة برقم (11) من حديث جابر. وحكم محقق جامع البيان بأن رواية الطبري صحيحة الإسناد، وقال شعيب الأرنؤوط: سنده حسن. انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص (800) .(47/479)
.. قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (1) ... روى البخاري عند تفسير الآية، عن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل" (2) . وروى مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أوَّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحىً، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً" (3) . أي أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر، مشاهدة مثلهم مألوفة، أما خروج الدابة على شكل غريب غير مألوف، ثم مخاطبتها الناس ووسمها إيَّاهم بالإيمان أو الكفر، فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها، على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية (4) .
سورة الأعراف
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 158.
(2) صحيح البخاري مع الفتح الحديث رقم (4636) ، وصحيح مسلم الحديث رقم (157) .
(3) صحيح مسلم الحديث رقم (2941) . وانظر الدر المنثور (3/57) .
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (757، 758) .(47/480)
.. روى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} (1) قال: ولم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم (2) .
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 17.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (379) . والأثر أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/396) من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة. وإبراهيم هذا ضعيف. انظر التقريب برقم (166) . وأبوه قال عنه الحافظ ابن حجر صدوق عابد وله أوهام. التقريب برقم (1438) . وأخرجه الطبري في تفسيره برقم (14382) عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ "ولم يقل من فوقهم؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم" وفي سند الطبري حفص بن عمر العدني ضعيف. انظر التقريب برقم (1420) . والأثر أورده ابن قدامة في إثبات صفة العلو ص (106) بسند اللالكائي ولفظه، وأورده السيوطي في الدر المنثور (3/73) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير واللالكائي.(47/481)
.. قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} (1) كيف استوى؟ فقال (2) : الاستواء معلوم والكيف مجهول (3) . ويُروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً (4) ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (5) .
قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} (6) يخبر سبحانه أنه استخرج ذريّة بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو.
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين، وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم (7) .
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 54.
(2) يعني الإمام مالكاً رحمه الله تعالى.
(3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/398) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/150) من طريق عبد الله بن وهب. وأورده السيوطي في الدر المنثور (3/91) ، وعزى إخراجه إلى اللالكائي والبيهقي. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/407) : بسند جيد. يعني سند البيهقي.
(4) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/397) ، وأورده السيوطي في الدر (3/91) ونسب أخراجه إلى ابن مردويه واللالكائي. وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي (5/365) : وقد رُوي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه.
(5) شرح العقيدة الطحاوية، ص (372، 373) وأشار إلى قول مالك أيضاً في ص (96) .
(6) سورة الأعراف، الآية: 172.
(7) قول المؤلف: "وقد وردت أحاديث ... الخ" هو كلام شيخه ابن كثير في تفسيره (2/262) .(47/482)
فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان (1) يعني عرفة أخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلاً (2) قال: {ألست بربكم قالوا: بلى، شهدنا} .. إلى قوله: {المبطلون} . ورواه النسائي أيضاً، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (3) .
__________
(1) نَعْمَان: بالفتح ثم سكون وآخره نون، هو واد بين مكة والطائف، بين أدناه ومكة نصف ليلة في قول الأصمعي. انظر معجم البلدان (5/339) .
(2) أي: عياناً ومقابلةً، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يولي أمرهم أو كلامهم أحداً من ملائكته. انظر النهاية في غريب الحديث (4/8) "قبل".
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/272) ، والنسائي في التفسير (1/506) وابن جرير في تفسيره برقم (15338) ، والحاكم في المستدرك (2/593) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/25) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وقد رجح الإمام ابن كثير في تفسيره (2/262) وقف هذا الحديث على ابن عباس. وناقش حكمه هذا الشيخان الفاضلان أحمد شاكر والألباني بما يفيد أن الحديث قد ثبت مرفوعاً، وأن الروايات الموقوفة لا تقدح في رفعه. انظر جامع البيان (13/223) حاشيته. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/158-162) .(47/483)
وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سُئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال: "إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار". ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن حبان في صحيحه (1) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/44، 45) ، وأبو داود في سننه برقم (4703) ، والترمذي في سننه برقم (3075) وقال: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلاً مجهولاً. وأخرجه النسائي في تفسيره (1/504) وقال محققه: إسناده ضعيف. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1612) ، وابن حبان في صحيحه مع الإحسان برقم (6166) . وقال محققو المسند: (1/400) صحيح لغيره.(47/484)
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً (1) من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك؟ فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي ربِّ من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، قال: ربِّ كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي ربِّ زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم، جاء ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطىء آدم، فخطئت ذريته". ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (2) .
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم، قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي". وأخرجاه في الصحيحين أيضاً (3) .
__________
(1) الوبيص البريق. انظر النهاية في غريب الحديث (5/146) "وبص".
(2) أخرجه الترمذي في سننه برقم (3076) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/355) وقال: هذا حديث صحيح على شرك مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في السنة برقم (205، 206) مختصراً. وأخرجه ابن حبان في صحيحه مع الإحسان برقم (6167) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/127) ، والبخاري في صحيحه مع الفتح برقم (3334) ، ومسلم في صحيحه برقم (2805) .(47/485)
وفي ذلك أحاديث أُخر أيضاً كلها دالَّةٌ على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل النار وأهل الجنة (1) ...
وأما الإشهاد عليهم هناك، فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم. ومن ثَمَّ قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه (2) .
__________
(1) قول المؤلف: "وفي ذلك ... الخ" نحوه قال ابن كثير في تفسيره (2/265) .
(2) قول المؤلف: (وأما الإشهاد عليهم ... الخ" هو كلام شيخه ابن كثير في تفسيره (2/265) .(47/486)
ومعنى قوله "شهدنا": أي قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. وهذا قول ابن عباس (1) وأبي بن كعب (2) . وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض (3) . وقيل: "شهدنا" من قول الملائكة، والوقف على قوله "بلى". وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي (4) . وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم (5) .والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول (6)
__________
(1) أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15340) وقال محمود شاكر: بإسناد صحيح.
(2) أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15363) وقال محمود شاكر: إسناده صحيح.
(3) أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15339) ضمن أثر عن ابن عباس وفيه "وأشهدهم على أنفسهم". وقال محمود شاكر: إسناده صحيح.
(4) أخرجه ابن جرير في جامع البيان من طريق مجاهد والضحاك في حديث مرفوع برقم (15354) وشيخ الطبري (عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني) لم أقف له على ترجمة، وكذلك قال الشيخ محمود شاكر. وقد تكلم ابن كثير على هذا الحديث في تفسيره (2/263) وقال وقفه أصح.
(5) أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15373) بإسناد رجاله ثقات غير شيخ الطبري فلم أقف له على ترجمة أجزم فيها بأنه شيخ الطبري. وقد قال أحمد شاكر: وما بنا من حاجة إلى ترجمته من جهة الجرح والتعديل، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد معروف عند أهل العلم بالحديث، وما هو إلا رواية كتاب، لا رواية حديث بعينه. انظر جامع البيان (1/156) حاشيته.
(6) يعني بالأول قول ابن عباس: إن بني آدم قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. ويؤيد صحة هذا القول أن جميع الأقوال الأُخر لم تسلم أسانيدها من علة، غير قول ابن عباس الآخر: أشهد بعضهم على بعض، فهو موافق لهذا القول بحمد الله؛ لأن شهادة بعضهم على بعض تفيد أنهم هم الذين شهدوا على أنفسهم بأن الله ربهم. وقد ذكر السجاوندي في علل الوقوف (2/522، 523) وقفين , الأول: على (شهدنا) ، والثاني: على (بلى) ووصف الثاني بالبعد. قلت: قَوْلَيْ ابن عباس مع من وافقه تتركب على الوقف الأول. وبقية الأقوال تتركب على الوقف الثاني.(47/487)
واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كالثعلبي والبغوي (1) وغيرهما. ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، كالزمخشري (2) وغيره.
__________
(1) انظر الكشف والبيان (4/54) مخطوط، صورة مكروفلم بالجامعة الإسلامية برقم (9786) ، ومعالم التنزيل (2/211، 212) وممن اقتصر على هذا القول شيخ المفسرين ابن جرير، والنسائي، وابن أبي حاتم، وهود بن محكم، وأبو جعفر النحاس. انظر مؤلفات هؤلاء على الترتيب: جامع البيان (13/222-249) ، وتفسير النسائي (1/504-506) ، وتفسير ابن أبي حاتم (5/1612-1615) ، وتفسير كتاب الله العزيز (2/58) ، ومعاني القرآن الكريم (3/101، 103) .
(2) انظر الكشاف (2/129) . وانظر أيضاً أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (1/376) ، ومدارك التنزيل للنسفي (2/85) ، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود (3/290) فإن هؤلاء لم يذكروا إلا هذا القول.(47/488)
ومنهم من ذكر القولين، كالواحدي والرازي والقرطبي (1) وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة، والثاني إلى المعتزلة (2) . ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم (3) ، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة، وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إيّاهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أهل القول الأول موقوف على ابن عباس وابن عمرو (4) ، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين، والحاكم معروف تساهله رحمه الله.
والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر، وذلك شواهده كثيرة، ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.
__________
(1) انظر الوسيط (2/424-426) ، والتفسير الكبير (15/39، 41) ، والجامع لأحكام القرآن (7/314) ، وممن ذكر القولين أيضاً السمرقندي في تفسير القرآن (1/579، 580) ، وابن عطية في المحرر الوجيز (7/198، 200) .
(2) انظر التفسير الكبير (15/39، 41) فقد نسب الأول للمفسرين وأهل الأثر، والثاني لأصحاب النظر وأرباب المعقولات. وهو معنى ما نسب إليه المؤلف.
(3) انظر التوفيق بين الآية والحديث في التفسير الكبير (15/43) ، ولباب التأويل (2/310) .
(4) أما حديث ابن عباس فقد تقدم الكلام عليه، وأنه قد ثبت مرفوعاً. وأما حديث عبد الله ابن عمرو فأخرجه ابن جرير في تفسيره برقم (15354) ورقم (15355) ورقم (15356) الأول منها مرفوعاً، والآخران موقوفان. وتكلم ابن جرير عليه وكذلك ابن كثير بما يفيد عدم صحة رفعه. انظر جامع البيان (13/250) وتفسير القرآن العظيم (2/263) .(47/489)
وأما الأول (1) : فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيه من المعاني المعقولة، ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.
قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك، حسب ما وقفنا عليه، فقال قوم: معنى الآية أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: ومعنى {أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} دلهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً. {ألست بربكم} أي: قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قالتا أتينا طائعين} (2) ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما عَلِمَتْ به ما خاطبها (3) . ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك إلى آخر كلامه (4) .
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرج في الصحيحين، الذي فيه: "قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي" (5) .
ولكن قد رُوي من طريق أُخرى: "قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار" (6) . وليس فيه (في ظهر آدم) وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول. بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين:
أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ، وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
__________
(1) يعني بالأول: أن الله استخرج ذريّة آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم.
(2) سورة فصلت، الآية: 11.
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن (7/314) .
(4) انظر المرجع نفسه (7/314-316) .
(5) تقدم تخريجه قريباً.
(6) انظر فتح الباري (11/403) فقد قال الحافظ: "في رواية ثابت (قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار") .(47/490)
والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه قال: {من بني آدم} ، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: {من ظهورهم} ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض، أو بدل اشتمال (1) ، وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: {ذريتهم} ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قال: {وأشهدهم على أنفسهم} أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، كما تأتي الإشارة إلى ذلك، لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: {إنا كنا عن هذا غافلين} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فُطروا عليها، كما قال تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (2) .
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة: {إنا كنا عن هذا غافلين} ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} (3) فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: ألا يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
__________
(1) انظر الدر المصون (5/511) .
(2) سورة النساء، الآية: 165.
(3) سورة الأعراف، الآية: 173.(47/491)
الثامن: قوله: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} (1) أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل، لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه (2) أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} (3) ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقولهم: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} (4) .
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين، مستلزمة للعلم به فقال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} (5) ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يُولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه، لا يتبدل ولا يتغير. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 173.
(2) في قوله تعالى: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} سورة الأنعام، الآية: 131.
(3) سورة لقمان، الآية: 25.
(4) سورة إبراهيم، الآية: 10.
(5) سورة الأعراف، الآية 174.(47/492)
وقد تفطن لهذا ابن عطية (1) وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم. وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات، ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه (2)
__________
(1) انظر المحرر الوجيز (7/198، 200) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (302-314) ولم أستطع الوقوف إلا على أوّل الكتاب المذكور، الذي ليس فيه سورة الأعراف. وما قاله المؤلف من تضعيف للقول الذي فسر به أهل الأثر الآية الكريمة تابع فيه هو وشيخه ابن كثير الإمام ابن القيم وتأثرا بما قال في كتابه الروح، ص (161-168) فإن ابن القيم على غير عادته رام فيه تضعيف القول الذي فسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، وذكر عليه هذه الاعتراضات العشرة، وتناول بعض الأحاديث بالنقد. وهذه الاعتراضات العشرة أكثرها من كلام المعتزلة، كما في نقل الرازي عنهم في التفسير الكبير (15/39-41) ومن قبله نقل أبو الليث في بحر العلوم (1/580) إلا أنه لم يصرح أن المخالف هم المعتزلة.
والحق في تفسير الآية هو ما ذهب إليه أهل الأثر؛ للأسباب التالية:
1- ... أن هذا التفسير قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طعن في رواية ابن عباس المرفوعة فقوله مرجوح، كما ذُكر ذلك عند تخريج الحديث، بل قد قال ابن عطية: "تواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس وغيرهما" المحرر الوجيز (7/198، 199) . وقال أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (3/101) : "أحسن ما قيل في هذا ما تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله جل وعز مسح ظهر آدم، فأخرج منه ذريته أمثال الذر، فأخذ عليهم الميثاق") . وقد أشار إلى تواتر الحديث تواتراً معنوياً العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/162) ولهذا هاب ابن عطية مخالفة الأحاديث، وليت الإمام ابن القيم فعل مثله، لا سيما وأنه من شيوخ أهل الأثر المتأخرين.
2- ... أن التفسير بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم، كما نقل ذلك ابن القيم في كتاب الروح، ص (163) ، بل هو قول جمهور المفسرين. انظر النكت والعيون (2/278) ، والوسيط (2/425) ، ولباب التأويل (2/310) ، والروح، ص (163) .
3- ... لا تعارض ببن آية أخذ الميثاق وبين الحديث الثابت في تفسيرها، وما قد يظهر فيه من تعارض أجاب عنه العلماء، كما نقل ذلك ابن القيم نفسه عن ابن الأنباري وغيره في كتاب الروح، ص (163) ، وكذلك أجاب الرازي عن بعض الإشكالات في التفسير الكبير (15/42، 43) ، والشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/161-163) .
4- ... تتابعت أقوال العلماء في الرد على من رد هذا التفسير، ومنهم أبو الليث في تفسير القرآن (1/580-582) ، والرازي في التفسير الكبير (15/42-43) ، والخازن في لباب التأويل (2/310) ، والشوكاني في فتح القدير (2/276) ، والهندي في فتح البيان
(3/452-454) .(47/493)
… قوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (1) قال ليث عن مجاهد: "هو الرجل يهم بالذنب، فيذكر الله فيدعه" (2) .
والشهوة والغضب (3) مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} (4) أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، ثم لا يقصرون (5) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا الإنس تُقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم" (6) .
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 201.
(2) لم أقف على هذا الأثر مسنداً من طريق ليث عن مجاهد. وأورده الواحدي في الوسيط
(2/438) عن ليث عن مجاهد. ونسبه جماعة من المفسرين إلى مجاهد بدون ذكر ليث. انظر معالم التنزيل (2/225) ، وزاد المسير (3/310) ، والبحر المحيط (4/446) . وليث - وهو ابن أبي سُليم - الراوي عن مجاهد قال فيه الحافظ: صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فتُرك. تقريب التهذيب رقم (5685) . قلت: لكن يتقوى إن شاء الله تعالى بما عند البغوي، فإنه ذكر في مقدمة تفسيره (1/28) ، سنده إلى مجاهد من غير طريق "ليث" وإن كانت لا تسلم من ضعف.
(3) قد جاء عن مجاهد من طرق تفسير الطائف بالغضب. انظر جامع البيان (13/336) . وانظر تفسير ابن أبي حاتم (5/1640) فقد ذكره عن مجاهد وغيره أيضاً.
(4) سورة الأعراف، الآية: 202.
(5) نحو هذا التفسير أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1641) إلى ابن عباس من طريق علي ابن أبي طلحة. والمقصود بإخوان الشياطين هم أتباعهم المستمعون لهم القابلون لأوامرهم. انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/280) .
(6) أخرجه ابن جرير في جامع البيان برقم (15564) ، وابن أبي حاتم في تفسيره أيضاً برقم (8709) كلاهما من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهي طريق مشهورة بالصحة والقبول بين العلماء. انظر الإتقان (2/532، 533) ، والتفسير والمفسرون (1/77، 78) .وتفسير المؤلف في شرح العقيدة الطحاوية، ص (468، 469) .(47/494)
سورة الأنفال
قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (1) ... الاستغفار تارة يُذكر وحده، وتارة يقرن بالتوبة، فإذا ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله (2) .
سورة التوبة
... قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (3) كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفراً وربيع الأول وعشرين من ربيع الآخر. وهذا قول زفر حكاه عنه أبو بكر الرازي في أحكام القرآن (4) .
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 33.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (452) .
(3) سورة التوبة، الآية: 2.
(4) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (462) تحقيق أنور. وانظر أحكام القرآن للجصاص (4/267) ولم أر ذكراً لزفر في هذا الموضع من نسخة أحكام القرآن التي بين يدي. وفي بيان بداية هذه الأربعة الأشهر ونهايتها أقوال غير ما ذكر هنا. إلا أن القول الَّذِي ذكره المؤلف أقواها، وقد رجحه الجصاص، وابن العربي، ولم يذكر غيره الكيا الهراسي. انظر أحكام القرآن للجصاص (4/267) ، وأحكام القرآن لابن العربي (2/885) ، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (3/172) .(47/495)
..قوله تعالى ... {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1) ... أهل مكة كانت معايشهم من التجارات، وكان المشركون يأتونهم بالطعام ويتجرون فلما منعوا من دخول الحرم خافوا الفقر وضيق العيش، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً وفاقة {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية (2) .
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 28.
(2) التنبيه على مشكلات الهداية، ص (616) تحقيق أنور. وانظر جامع البيان (14/194) ولباب النقول، ص (202) ، والتفسير الصحيح (2/441) .(47/496)
[قوله تعالى:] {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (1) رُوي عن حذيفة رحمه الله وغيره أنه قال: "لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم أحلوا لهم، وحرموا عليهم فاتبعوهم" (2) . وهذا المعنى قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وحديثه في المسند والترمذي مطولاً (3) .
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 31.
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسير القرآن (2/272) عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره برقم (10058) من طريق أبي البختري أيضاً قال: قيل لحذيفة. وسنده ضعيف؛ لأن أبا البختري حديثه مرسل عن حذيفة. انظر التهذيب (4/72) ويظهر هنا أن أبا البختري قد سمعه بواسطة، إلا أن الواسطة مبهم. وأخرجه الطبري في جامع البيان (14/211-213) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/116) كلاهما من طريق أبي البختري. وأورده السيوطي في الدر المنثور (3/231) ونسب إخراجه إلى هؤلاء وغيرهم. والأثر يشهد لصحته الحديث الذي أشار إليه المؤلف.
(3) الاتباع، ص (81، 82) . والحديث أخرجه الترمذي في سننه برقم (3095) وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وأخرجه الطبري في جامع البيان برقم (16631) ، وابن أبي حاتم في تفسيره برقم (10057) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/116) . والحديث قال عنه الشيخ سليم الهلالي: هو حسن لغيره. انظر الاعتصام (2/87) حاشيته. ولم أقف عليه في مسند الإمام أحمد المطبوع، وقد أورده السيوطي في الدر المنثور (3/230، 231) ولم يذكر الإمام أحمد فيمن خرجه.(47/497)
[قوله تعالى:] {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} (1) الآيتين ... أخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة فلما كرهه منهم، ثبطهم عنه (2) ، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أي: فساداً وشراً (3) {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} أي: سعوا بينكم بالفساد والشر (4) {الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي: قابلون منهم، مستجيبون لهم (5) ، فيتولد من سعي هؤلاء، وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه (6)
__________
(1) تمام الآيتين { ... فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . سورة التوبة، الآية: 46، 47.
(2) قال الزجاج: التثبيط ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله، أي كره الله أن يخرجوا معكم فردهم عن الخروج. معاني القرآن وإعرابه (2/450) .
(3) انظر جامع البيان (14/278) ، وتفسير غريب القرآن للسجستاني، ص (66) ، ومجاز القرآن (1/261) ، ومعالم التنزيل (2/298) .
(4) أصل الإيضاع في اللغة سرعة السير، وفسره المؤلف بالسعي؛ لأنه قريب منه. انظر معنى الإيضاع في غريب القرآن وتفسيره لليزيدي، ص (164) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة، ص (187) ، والعمدة في غريب القرآن، ص (148) .
(5) تفسير (سماعون لهم) بما ذكر المؤلف أسنده ابن جرير في جامع البيان (14/281) عن قتادة، ومحمد بن إسحاق. ورجحه ابن القيم على قول من قال: إن المقصود ب (سماعون) جواسيس؛ لأن أهل النفاق موجودون بين المسلمين لا يحتاجون إلى من يتجسس لهم. انظر بدائع التفسير (2/355) .
(6) شرح العقيدة الطحاوية، ص (333، 334) ، ويظهر أن المؤلف اطلع على كلام ابن القيم في هذا. انظر بدائع التفسير (2/357) .(47/498)
… قال تعالى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (1) الخلاق: النصيب، قال تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (2) ، أي استمتعتم بنصيبكم من الدنيا، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم (3) ، {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} ، أي: كالخوض الذي خاضوه، أو كالفوج، أو الصنف، أو الجيل الذي خاضوا (4) . وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض؛ لأن فساد الدين إمَّا في العمل، وإمَّا في الاعتقاد، فالأول من جهة الشهوات. والثاني من جهة الشبهات (5) .
وروى البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتأخُذَنَّ أمتي مآخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع" قالوا: فارس والروم؟ قال: "فمن الناس إلا أولئك" (6) .
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 69.
(2) سورة البقرة، الآية:200. وانظر جامع البيان (4/203) تجد ابن جرير يُفسِّر الخلاق بما قال المؤلف.
(3) نحو هذا التفسير الذي قاله المؤلف في معالم التنزيل (2/309) ، وفتح القدير (2/398) .
(4) نحو هذا التقدير الذي ذكره المؤلف قاله الزمخشري في الكشاف (2/201) ولعل المؤلف أخذه منه.
(5) من قوله: (وجمع) ، إلى قوله: (الشبهات) مأخوذ من كلام الإمام ابن القيم بتصرف يسير. انظر بدائع التفسير (2/367) .
(6) شرح العقيدة الطحاوية، ص (338، 339) . وهناك أحاديث غير هذا الحديث أوردها المؤلف هنا، وهي بمعنى هذا الحديث. وهذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح برقم (7319) ، والإمام مسلم في صحيحه برقم (2669) وقد أشار طائفة من المفسرين إلى هذا الحديث، أو ما في معناه عند تفسير هذه الآية. انظر جامع البيان (14/341، 342) ، وتفسير القرآن للسمعاني (2/ 326) ، ومعالم التنزيل (2/309) ، وتفسير القرآن العظيم (2/369) .(47/499)
… قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) ... والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم (2) ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
وقيل: إن السابقين الأولين من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة؛ لأن النسخ ليس من فعلهم، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة (3) .
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 100.
(2) ما قال المؤلف قوي جداً؛ لأنه قد جمع بين الأقوال المشهورة التي جاءت عن المتقدمين، وهي: 1- من أدرك بيعة الرضوان 2- أهل بدر 3- من صلى القبلتين. انظر جامع البيان (14/435، 436) ، وتفسير ابن أبي حاتم (6/1868) ، ومعاني القرآن الكريم (3/247، 248) ، وتفسير القرآن للسمعاني (2/341، 342) . وقد قال الشوكاني بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة: ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها. فتح القدير (2/416) ، وتابعه على ذلك الهندي في فتح البيان (4/186) . قلت: هو معنى كلام المؤلف.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص (689، 690، 692) .(47/500)
… قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ …} (1) وأمّا ما (2) رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله، في تفسيره عند هذه الآية، فقال: حدثنا الفقيه، قال: حدثنا محمد بن الفضل، وأبو القاسم السَّاباذي (3) ، قالا: حدثنا فارس ابن مردويه، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد (4) ، قال: حدثنا يحيي بن عيسى، قال: حدثنا أبو مطيع، عن حماد بن سلمة عن ابن المحزَّم (5) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: "لا، الإيمان مكمل في القلب، زيادته ونقصانه كفر" (6) . فقد سُئل شيخنا عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى عن هذا الحديث؟ فأجاب: بأن الإسناد من أبي الليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يُعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع، فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي، ضعفه أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، والبخاري،
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 124.
(2) هذا قاله بعد ما ذكر الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، ومنها الآية المذكورة.
(3) في تفسير أبي الليث المطبوع (الشنابازي) . انظر منه (2/83) .
(4) في المرجع السابق (محمد بن الفضل العابد) . انظر منه (2/83) .
(5) في المرجع السابق (عن أبي المهزّم) وسينبه عليه المؤلف، فلعل النسخة التي اطلع عليها فيها تحريف.
(6) أخرجه أبو الليث السمرقندي في تفسير القرآن (2/83، 84) . وحكم بوضعه جماعة منهم الذهبي في ميزان الاعتدال (1/3) حيث قال بعد أن أورده: … هذا وضعه أبو مطيع على حماد. وقد ذكر الذهبي أن أبا الليث ممن تروج عليه الأحاديث الموضوعة. انظر السير (16/323) . وانظر في شأن وضع هذا الحديث أيضاً اللآلي المصنوعة (1/38) وتنزيه الشريعة (1/149) .(48/1)
وأبو داود، والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو حاتم محمد بن حبَّان البُستي، والعُقيلي، وابن عَدي، والدارقطني، وغيرهم (1) . وأما أبو المُهزِّم، الراوي عن أبي هريرة وقد تصحف على الكاتب واسمه: يزيد بن سفيان، فقد ضعَّفه أيضاً، غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً (2) .
سورة يونس
__________
(1) انظر ميزان الاعتدال (1/574) .
(2) انظر المرجع السابق، (4/426) ، وتفسير المؤلف لهذه الآية في شرح العقيدة الطحاوية، ص (479، 480) ولعله أخذ هذا عن شيخه ابن كثير مشافهة، أو أنه في بعض كتبه غير التفسير.(48/2)
... قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) فالحسنى الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً ويريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة" (2) . ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أُخر، معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل (3)
__________
(1) سورة يونس، الآية: 26.
(2) صحيح مسلم الحديث رقم (181) ، وقوله: "وهي الزيادة" لم أقف عليها في صحيح مسلم المطبوع، وقد نسبها إليه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/455) ، وابن كثير في تفسيره (4/229) . فلعلهما فهما ذلك من إيراد الإمام مسلم للآية على إثر هذا الحديث. إلا أن ابن أبي عاصم قد أخرج الحديث في كتاب السنة برقم (472) من رواية صهيب مرفوعاً وفيه "فما شيء أعطوه أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة". وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: إسناده صحيح على شرط مسلم. انظر ظلال الجنة في تخريج السنة (1/206) .
(3) ممن رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة برقم (472) ، وصححه الشيخ الألباني كما تقدم ورواه أيضاً اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/456، 457) مرفوعاً من رواية أنس، وأُبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وأبي موسى الأشعري بألفاظ تفيد ما ذكر المؤلف. إلا أن أسانيد اللالكائي لا تخلو من ضعف. وأخرجه ابن جرير في جامع البيان (15/68، 69) مرفوعاً من رواية كعب بن عجرة، وأُبي بسندين فيهما ضعف. وانظر الدر المنثور (3/305) تجده قد ذكر من أخرج هذا التفسير مرفوعاً.(48/3)
وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم روى ابن جرير عن جماعة، منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس، رضي الله عنهم (1) .
قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ... } (2) الولي: من الولاية بفتح الواو التي هي ضد العداوة (3) . وقد قرأ حمزة: {مَا لَكُمْ مِنْ وِلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (4) بكسر الواو، والباقون بفتحها (5) . فقيل: هما لغتان، وقيل: بالفتح النصرة، وبالكسر الإمارة (6)
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص (210، 211) . وانظر رواية ابن جرير عن هؤلاء الصحابة في جامع البيان (15/63-68) ما عدا الرواية عن ابن عباس فلم أقف عليها في جامع البيان عند هذه الآية. وقد أخرجها البيهقي في الأسماء والصفات (1/182-184) وذكر الشيخ محمود شاكر ما يفيد أن أسانيد ابن جرير لا تخلو من ضعف. لكن صحح الشيخ الألباني الرواية عن أبي بكر وحذيفة. انظر ظلال الجنة في تخريج السنة الأثر رقم (473، 474) . وأما رواية البيهقي عن ابن عباس فسندها ضعيف؛ لأنها من طريق حفص بن عمر العدني عن شيخه الحكم بن أبان. وابن القيم قد تكلم على تفسير الآية في حادي الأرواح، ص (329) وما بعدها.
وبعد: فإن تفسير الزيادة في الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم قد ثبتت مرفوعة وموقوفة. ونص الإمام النسفي أن جمهور المفسرين على ذلك. انظر مدارك التنزيل
(4/180) عند قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} .
(2) سورة يونس، الآية:62.
(3) انظرمختار الصحاح، ص (537) ، ولسان العرب (15/404) "ولي".
(4) سورة الأنفال، الآية: 72.
(5) انظر النشر (2/277) ، وإتحاف فضلاء البشر، ص (239) .
(6) انظر الدر المصون (5/640) ، فقد نص السمين على هذا ونسبه للزجاج. وقاله أيضاً البناء في إتحاف فضلاء البشر، ص (239) وأصل هذا التوجيه للفراء في معاني القرآن
(1/418، 419) ، وبعضه في مجاز القرآن (1/251) .(48/4)
قال الزجاج: وجاز الكسر؛ لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكُلُّ ما كان كذلك مكسورٌ، مثل الخياطة ونحوها (1) .
والولي: خلاف العدو، وهو مشتق من الولي، وهو الدنو والتقرب (2) ، فولي الله: هو مَنْ والى الله بموافقته في محبوباته، والتقرب إليه بمرضاته، وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (3) . قال أبو ذر رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر لو عمل الناس بهذه الآية لكفتهم" (4) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص (505) . وما نسبه للزجاج لم أقف عليه في معاني القرآن. ونقل الأزهري كلام الزجاج في تهذيب اللغة (15/449) "ولي" ولم يذكر عنه ما قاله المؤلف هنا. وقد نص الأزهري على نحو ما قال المؤلف في كتابه القراءات وعلل النحويين (1/248) بدون أن ينسبه لأحد. ثم إنني اطلعت على لسان العرب فوجدته ينقل عن الزجاج بواسطة التهذيب، ويذكر عنه ما قال المؤلف هنا. انظر لسان العرب (15/401) "ولي". فلعل كلام الزجاج سقط من النسخة التي وصلت إلينا من التهذيب.
(2) انظر معجم مقاييس اللغة (6/141، 142) "ولي".
(3) سورة الطلاق، الآية: 2، 3.
(4) أخرجه ابن ماجة في السنن برقم (4220) ، والدارمي في سننه برقم (2725) ، والحاكم في المستدرك (2/534) كلهم من طريق أبي السليل عن أبي ذر. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. لكن الشيخ الألباني وغيره حكموا بضعفه. انظر ضعيف سنن ابن ماجة، ص (347) ، وشرح العقيدة الطحاوية تحقيق التركي وشعيب، ص (509) الحاشية. والصواب ما قاله المتأخرون؛ لأن أبا السليل حديثه مرسل عن أبي ذر. انظر التهذيب (4/458) . وأخرجه الإمام أحمد في المسند (5/178، 179) ، وابن حبان في الصحيح مع الإحسان برقم (6669) كلاهما من الطريق المذكور، ضمن حديث طويل.(48/5)
.. فـ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (1) منصوب على أنه صفة أولياء الله، أو بدل منه، أو بإضمار "أمدح"، أو مرفوع بإضمار "هم"، أو خبر ثان لإن، وأجيز فيه الجر، بدلاً من ضمير عليهم (2) . وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث، وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة، ولا تمزق (3) ، ولا رياضة. وقيل: {الَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، والخبر {لَهُمُ الْبُشْرَى} (4) وهو بعيد؛ لقطع الجملة عما قبلها، وانتثار نظم الآية (5) .
سورة هود
__________
(1) الآيات التي ذكر المؤلف شيئاً من إعرابها هنا هي قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة يونس، الآيات: 62، 63، 64.
(2) انظر معاني القرآن (1/470، 471) ، وإعراب القرآن (2/260) ، ومشكل إعراب القرآن (1/348) ، والكشاف (2/243) ، والبيان في غريب إعراب القرآن (1/416) ، والتبيان في إعراب القرآن (2/679) ، والبحر (5/173) ، والدر المصون (6/232) تجد أن بعضهم جاء ببعض هذه الأوجه، وأن كثيراً منهم جاء بأكثرها وأن أبا حيان وتلميذه جاءا بها جميعاً.
(3) "ولا تمزق" هكذا في النسخة التي اعتمدت عليها. وقال محققاها: كذا في الأصول، وفي مطبوعة مكة تملق.
(4) كل أصحاب المؤلفات السابقة ذكروا هذا الوجه، ولم يضعفه أحد منهم.
(5) شرح العقيدة الطحاوية، ص (506، 507) . وقد أحسن المؤلف بتضعيف هذا الوجه، وبالتعليل الذي ذكره. وغاب هذا عن العباقرة المتقدم ذكر مؤلفاتهم، وعن غيرهم كابن عطية، والجمل، والكرماني.(48/6)
.. قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} (1) أي: يتقدمهم (2) ، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً (3) ، كما يُقال: أخذني ما قدم وما حدث، ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه، ومنه سُمِّيت القدم قدماً؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان (4) .
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (5) أي: غير مقطوع (6) ، ولا يُنافي ذلك قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} .
واختلف السلف في هذا الاستثناء: فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أُخرج منها، لا لكلِّهم. وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه.
__________
(1) سورة هود، الآية: 98.
(2) بهذا فسر الزجاج الآية في معاني القرآن وإعرابه (3/76) ، والنحاس في إعراب القرآن
(2/300) ، والزمخشري في الكشاف (2/291) .
(3) انظر تهذيب اللغة (9/49) ، ولسان العرب (11/65) "قدم" ففيهما ما يدل لقول المؤلف.
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص (77، 78) . وقوله: "ومنه سميت القدم ... الخ" ذكر نحوه ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (5/66) "قدم".
(5) سورة هود، الآية:108.
(6) ثبت هذا التفسير عن ابن عباس وقتادة. انظر جامع البيان (15/490) . وبهذا فسَّره أبو عبيدة وغيره. انظر مجاز القرآن (1/99) ، وغريب القرآن وتفسيره لليزيدي، ص (178) .(48/7)
وقيل: "إلا" بمعنى (الواو) ، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف (1) . وسيبويه يجعل "إلا" بمعنى "لكن"، فيكون الاستثناء منقطعاً (2) ، ورجحه ابن جرير وقال: إن الله تعالى لا خُلْف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} . قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي: سوى ما شئت، أولكن ما شئت من الزيادة عليه (3) .
وقيل: الاستثناء لإعلامهم، بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} (4) وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (5) ، وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} (6) ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقيل: إن "ما" بمعنى "من" أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء. وقيل غير ذلك (7)
__________
(1) قول المؤلف "وهو ضعيف" هذا على رأي البصريين، والكوفيون يجيزون ذلك، نص على ذلك شيخهم الفراء عند هذه الآية. انظر معاني القرآن (2/28) ، وانظر الخلاف في المسألة في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف (1/266) .
(2) انظر الكتاب لسيبويه (2/319) تجد أنه قد وضع باباً ينطبق على هذه الآية.
(3) ابن جرير لم يرجح بهذا من عنده، وإنما نقله عن بعض أهل العربية من غير تحديد وهو يعني الفراء. انظر جامع البيان (15/487، 488) ، ومعاني القرآن (2/28) فنسبة القول لابن جرير فيها نظر.
(4) سورة الإسراء، الآية: 86.
(5) سورة الشورى، الآية: 24.
(6) سورة يونس، الآية: 16.
(7) انظر معاني القرآن للفراء (1/28) ، وتأويل مشكل القرآن، ص (77) ، ومعاني القرآن وإعرابه (3/79، 80) ، وجامع البيان (15/481-489) ، ومعاني القرآن الكريم
(3/381-384) ، والنكت والعيون (2/506، 507) ، وزاد المسير (4/161) ، وغرائب التفسير (1/520، 521) ، والجامع لأحكام القرآن (9/99-102) ، والدر المصون
(6/391-394) تجد مجموع هذه الأقوال في مجموع هذه المصنفات، وأحسن من استوفى ذكرها السمين، والكرماني، والقرطبي. وأولى الأقوال التي ذكرها المصنف بالصواب هو أولها، بل لعله أولى جميع الأقوال التي قيلت، وقد رجحه ابن جرير، والخازن، وغيرهما. انظر جامع البيان (15/489) ، ولباب التأويل (2/254) ، وروح المعاني (12/144) . وقال ابن كثير في تفسيره (2/461) : "وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديماً وحديثاً في تفسير هذه الآية الكريمة".(48/8)
وعلى كل تقدير، فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} محكم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (1) . وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} (2) . وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (3) . وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} (4) وهذا الاستثناء منقطع (5) ، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} تبين لك المراد من الآيتين. واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها. (6)
سورة يوسف
قال تعالى: ... {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (7) أي: بمصدق لنا (8) .
__________
(1) سورة ص، الآية: 54.
(2) سورة الرعد، الآية: 35.
(3) سورة الحجر، الآية: 48.
(4) سورة الدخان، الآية: 56.
(5) انظر الدر المصون (9/631) فقد ذكره السمين مصدراً به الأقوال التي قيلت في معنى الاستثناء.
(6) شرح العقيدة الطحاوية، ص (622 - 624) .
(7) سورة يوسف، الآية: 17.
(8) شرح العقيدة الطحاوية، ص (470، 471) ، وانظر مجاز القرآن (1/303) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة، ص (213) ، وجامع البيان (15/578) ، والعمدة في غريب القرآن، ص (159) .(48/9)
..قال تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) فإن كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} معطوفاً على الضمير في "أدعو" فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان معطوفاً على الضمير المنفصل فهو صريح في أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيرهم، وكلا المعنيين حق (2) .
سورة الرعد
... قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (3) ... في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟. فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وفارقناهم وهم يصلون" (4) .
وفي الحديث الآخر: "إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم، وأكرموهم" (5) .
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 108.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (11) ، وانظر معاني القرآن للفراء (2/55) فقد ذكر القول الثاني. وانظر الكشاف (2/326) ، والبحر (5/346) ، والدر المصون (6/561) تجد القولين وأكثر. وانظر مفتاح دار السعادة، ص (167،168) تجد أن ابن القيم ذكر القولين.
(3) سورة الرعد، الآية:11.
(4) متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح برقم (555) ، ومسلم في صحيحه برقم (632) .
(5) أخرجه الترمذي في السنن برقم (2800) من رواية ابن عمر رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قلت: ضعفه الألباني أيضاً في الإرواء برقم (64) والعلة فيه أنه من طريق ليث بن أبي سُليم.(48/10)
جاء في التفسير اثنان عن اليمين وعن الشمال، يكتبان الأعمال. صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه، وواحد أمامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان (1) . وقال عكرمة، عن ابن عباس: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلَّوا عنه (2) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص (557، 558) . وهذا التفسير الذي ذكره المؤلف، قاله شيخه ابن كثير في تفسيره (2/504) فلعل المؤلف أخذه منه، وكذلك الحديثان أوردهما ابن كثير عند تفسير الآية بنفس اللفظ فيترجح أن المؤلف أخذه منه. وتبين من كلام المؤلف أنه يرى أن المعقبات هي الملائكة. قال أبو جعفر النحاس بعد أن ذكر هذا القول وغيره: "وأولى هذه الأقوال الأول؛ لعلوِّ إسناده وصحته" معاني القرآن الكريم (3/479) . وهو يعني قول من قال: إنهم الملائكة. وقال القرطبي: والصحيح أن المعقبات الملائكة. الجامع (9/293) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (559) . والأثر أخرجه الطبري في تفسيره برقم (20216، 20217) من طريقين مدارهما على سماك بن حرب، وهو صدوق، وروايته عن عكرمة مضطربة، وقد تغير بأخرة فكان ربما تلقن. التقريب برقم (2624) . وله شواهد تدل على ثبوته عن ابن عباس. انظر الوسيط (3/8، 9) ، وتفسير القرآن العظيم (2/505) ، والدر المنثور (4/47) وقال السمعاني: إنه قول الأكثرين. تفسير القرآن (3/81) .(48/11)
ومعنى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قيل: حفظهم له من أمر الله (1) ، أي: الله أمرهم بذلك، يشهد لذلك قراءة من قرأ {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (2) .
قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} (3) ... السماء العلو (4) ، وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن (5) ، والمزن السحاب، وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات (6) .
__________
(1) هو أحد الأقوال في معنى الآية. انظر جامع البيان (16/375، 376) ، ومعاني القرآن (2/60) ، ومعاني القرآن وإعرابه (3/142) ، ومعاني القرآن الكريم (3/478-480) ، والجامع لأحكام القرآن (9/291-293) ولم يذكر الزجاج إلا القول الذي فسر به المؤلف هنا.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (560) وهذه القراءة شاذة. انظر المحتسب (1/355) . ونسبها ابن جني إلى علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما. وممن ذكرها حجة على هذا المعنى ابن جرير في تفسيره (16/376) ، والزمخشري في الكشاف (2/352) ، وأبو حيان في البحر (5/364) وغيرهم.
(3) سورة الرعد، الآية: 17.
(4) انظر المفردات، ص (243) ، وعمدة الحفاظ (2/257) .
(5) في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} سورة الواقعة، الآيتان: 68، 69.
(6) في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} سورة النبأ، الآية: 14. والمعصرات هي السحاب، سميت بذلك؛ لأنها تعتصر المطر. انظر المفردات، ص (336) ، وعمدة الحفاظ (3/100) . ولا تعارض بين هذه الآيات؛ لأن المزن والمعصرات هي السحاب، والسحاب في السماء. وتفسير المؤلف في شرح العقيدة الطحاوية، ص (196) .(48/12)
.. قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) ... المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة (2) ... وقوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} اللوح المحفوظ (3) ، ويدل على هذا الوجه (4) سياق الآية، وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ثم قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي: من ذلك الكتاب {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه (5)
__________
(1) سورة الرعد، الآية: 38،39.
(2) انظر جامع البيان (16/484، 485) ، ومعاني القرآن وإعرابه (3/150) ، ومعاني القرآن الكريم (3/502) ، والنكت والعيون (3/118) ، والوسيط (3/20) ، وتفسير القرآن للسمعاني (3/100) ، ومعالم التنزيل (3/23) ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (14/492) فقد ذكر أصحاب هذه المؤلفات هذا القول.
(3) انظر بحر العلوم (2/197) ، والنكت والعيون (3/118) ، وتفسير القرآن للسمعاني
(3/100) ، ومعالم التنزيل (3/23) ، والكشاف (2/363) وطائفة من المفسرين لم يذكروا إلا هذا القول مما يدل على أنه أقوى الأقوال.
(4) يعني المؤلف بالوجه أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة.
(5) انظر الوسيط (3/20) ، والكشاف (2/363) ، والبحر (5/388) ، وفتح القدير
(3/89) ، وفتح البيان (5/111) ، ومحاسن التأويل (4/455) ومن نسب من أصحاب هذه المؤلفات هذا القول إلى قتادة فنسبته فيها نظر؛ لأن المنقول عن قتادة أنه يقول: إن هذه الآية مثل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فهذا معناه أنه مثل النسخ الواقع في شريعة القرآن، فلم يجعله قتادة عاماً كما نقل هذا الناقل. انظر قول قتادة في: جامع البيان (16/485، 486) ، وتفسير القرآن العظيم (2/521) .(48/13)
، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أُخرى (1) ، والله أعلم بالصواب (2) .
سورة النحل
... قال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} (3)
__________
(1) انظر هذه الأقوال في المراجع التي ذُكرت عند القولين السابقين. ومع قوة ما ذكر المؤلف، فهناك قول جدير بأن تحمل هذه الآية المشكلة عليه، فهمته من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (14/491) ، وقاله الثعالبي في الجواهر الحسان (2/371) ، وحاصله: أن الله سبحانه وتعالى يمحو من الأمور ما يشاء، ويغيرها عن أحوالها مما سبق في علمه محوه وتغييره، ويثبتها في الحالة التي ينقلها إليها حسب ما سبق في علمه. وهذا القول يدل له ما جاء في الحديث أن الله تعالى جعل عمر داود عليه السلام ستين سنة، فوهب له آدم عليه السلام من عمره أربعين سنة. والحديث أخرجه الأمام الترمذي في جامعه برقم (3076) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (131، 132) .
(3) سورة النحل، الآية: 60.(48/14)
.. اختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى (1) . ووفق بين أقوالهم بعض من وفقه الله وهداه، فقال: المثل الأعلى يتضمن الصفة العُليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة، القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فهاهنا أمور أربعة:
الأول: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسَّرها بالصفة.
__________
(1) فقيل: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجازٍ. وقيل: ليس كمثله شيء. وقيل المثل الأعلى نحو قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} . وقيل: الصفة العليا المقدسة وهي أن له التوحيد، وأنه المنزه عن الولد، وأنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء. انظر جامع البيان (17/230) ، ومعاني القرآن الكريم (4/77) ، والنكت والعيون (3/195) ، والوسيط
(3/68) ، وتفسير القرآن للسمعاني (3/181) ، ومعالم التنزيل (3/73) ، والجامع لأحكام القرآن (10/119) ، ولباب التأويل (3/97) ، وليس كل هؤلاء ذكروا جميع الأقوال، بل بعضهم ذكر واحداً، وبعضهم ذكر أكثر.(48/15)
الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف-: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه، من معرفته وذكره، ومحبته وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه. وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته. وهذا معنى قول مَنْ قال من المفسرين: إن معناه أهل السماوات يُعظِّمونه ويُحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظِّمون له، مجلون خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (1) .
الثالث: ذِكرُ صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى.
فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الأربعة (2) .
__________
(1) سورة الروم، الآية: 26.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (119-121) وما ذكره المؤلف في تفسير الآية موجود في الصواعق المرسلة (3/1030-1035)(48/16)
الآثار السيئة للوضع في الحديث النبوي وجهود العلماء في مقاومته
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين، أنزل كتابه الكريم، وتكفل بحفظه ورعايته على مر السنين، فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد سيد الأولين والآخرين، أرسله ليبلغ الناس هذا الذكر ويبينه للعالمين، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) فكان حفظ القرآن يتضمن حفظ سنة نبيه الأمين وحمايتها من كيد الواضعين وعبث العابثين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فالقرآن والسنة هما مصدران أساسيان لمعرفة العقيدة والشريعة، لا يستغني أحدهما عن الثاني، فإن السنة هي المبينة لمبهم القرآن والمفصلة لمجمله، بل هي في حقيقة الأمر وواقعه تطبيق عملي للقرآن الكريم على يد رسول الإنسانية عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولما كانت السنة النبوية قد وصلت إلى درجة عالية في الكمال والشمول وخلت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله من كل ما يكدر الرسالة أو يشوه الصورة الصافية لمكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, فقد أغاظ هذا أعداء الدين من أولئك الذين آمنوا باللسان وكفروا بالقلوب.. فدسوا في الخفاء أحاديث مكذوبة وضعوها على النبي صلى الله عليه وسلم, آملين أن تختلط بالثابت عنه، وساعدتهم على الوضع ظروف أحاطت بالأمة الإسلامية في بعض فتراتها, من خلافات سياسية وجهل بالدين وأهدافه ومراميه إلى غير ذلك من الظروف التي تراكمت فأوجدت ركاماً من نزيف الأفكار وقيحها, وألصقت بالرسول صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً, فأوجدت رد فعل من جانب العلماء المسلمين, لكن.. بعد أن خلَّفت آثاراً سلبية في الأمة, ولا زالت تعاني من مخلفاتها في العصر الحديث!
__________
(1) سورة الحجر آية 9.
(2) سورة النحل آية 44.(48/17)
.. نعم ... في العصر الحديث, وفي هذه الفترة العصيبة والمنعطف التاريخي في حياة الأمة الإسلامية, نادى بعض من يعيش على أنقاض مخلفات ماضية, تدفعه خلفيات معينة إلى ترك السنة والاحتجاج بها, مدعياً أن فيها الكثير من المصنوع والموضوع, محاولاً التشكيك في سلامتها, وزاد الطين بلّة, وضغثاً على إبّالة ما مني به المسلمون في هذا العصر من ضعف في الثقافة الدينية الصحيحة عامة وعلم أصول الحديث ومصطلحه خاصة, فاستولت الخرافة الكاذبة والمذاهب الفكرية المنحرفة على عقول الكثير, فلو علم المنادي والمنادون ما قام به علماء الأمة من أدوار خالدة وجهود جبارة في مقاومة الوضع وتعريف الأمة به وتحذيرها منه لهان المصاب، ولكنهم جهلوا أو تجاهلوا هذه الجهود وحاولوا طمسها والقضاء عليها.
لهذا كله, ولما رأيته من انتشار الأحاديث الموضوعة بين الناس, والأخذ بها على أنها قضايا مسلمة وأحاديث ثابتة, مع أنها في أصلها موضوعة مكذوبة بل ومدونة بهذه الصفة في كتب الأحاديث الموضوعة.
فلما تهيأت هذه الأسباب رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع رغم علمي بكثرة الأبحاث والدراسات التي كتبت في هذا المجال.
ومعلوم لدى القارئ كثرة عناصر الموضوع (الوضع في الحديث النبوي) وكثرة المسائل والفصول التي يمكن أن يتطرق إليها الباحث فيه، لكني رأيت أن أقصر بحثي في هذا المقام على موضوعين، لأنهما في نظري حديث الساعة والمجال فيهما واسع يمكن لطالب العلم أن يبحر فيه وأن يأتي بالجديد والمفيد، وهما:
أولاً: بيان الآثار السيئة للوضع: فقد حاولت - قدر المستطاع - الإتيان بأسلوب جديد في هذا المضمار وبجهد ذاتي عن طريق استقراء النصوص الموضوعة وتطبيقها على الواقع المحسوس في عالمنا الإسلامي على مر العصور مع الحرص على الاستشهاد بأقوال أهل العلم من السلف والخلف كأدلة على ما أقول.(48/18)
ثانياً: جهود علماء الأمة من سلفها الصالح وخلفها الوفيّ في مقاومة الوضع ومحاربته على شتى الجبهات واستماتتهم في القضاء عليه، فكلما فتح الوضاعون وأعداء الدين باباً لهذه الفتنة سددوا إليه سهامهم وأغلقوه مما سنراه جلياً في موضعه إن شاء الله.
ولأجل الوصول إلى هذين الموضوعين وتجليتهما قدر المستطاع وبما يناسب المقام وضعت خطة بين يدي البحث أوضح فيها السبيل وأحدد معالم الطريق، وتتلخص فيما يأتي:
مقدمة البحث: وهي ما نعيش فيه الآن من فاتحة للبحث وبيان لأسباب اختيار الموضوع والخطة التي سأسير عليها في هذا البحث.
التمهيد: وأتحدث فيه بشكل مختصر عن تعريف الحديث الموضوع وعن حكم وضعه وحكم روايته وحكم العمل به.
الباب الأول: الآثار السيئة للوضع: وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: الآثار الدينية. ... ... ...
الفصل الثاني: الآثار الاجتماعية.
الفصل الثالث: الآثار الاقتصادية. ...
الفصل الرابع: الآثار النفسية.
الفصل الخامس: ظاهرة القصاص.
الباب الثاني: جهود العلماء في مقاومة الوضع: وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: جمع الأحاديث الثابتة.
الفصل الثاني: الاهتمام بالإسناد.
الفصل الثالث: مضاعفة النشاط العلمي في قواعد الحديث.
الفصل الرابع: نقد الرواة وتتبع الكذبة.
الفصل الخامس: التأليف في الوضاعين.
الفصل السادس: التأليف في الموضوعات.
ثم بعد ذلك ذيلت للبحث بخاتمة جامعة لنتائج البحث, تحدثت فيها عن ضرورة الحذر من الوضع والوضاعين في المجالات المختلفة, ثم عن واجب المسلمين تجاه سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وبها ختمت البحث.
... وأخيراً: لا يسعني إلا أن أقدم شكري وامتناني لكل من ساعدني في إخراج هذا البحث منذ كونه فكرة تعتلج في الصدر وتختمر في الذهن إلى كونه حقيقة واقعة ماثلة للعيان.(48/19)
.. كما أسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن يثقل به موازين حسناتي يوم ألقاه, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد:
الحديث الموضوع
تعريفه:
أ- لغة: سم مفعول من وضع الشيء يضعه - بالفتح - وضعاً، وتأتي مادة (وضع) في اللغة لمعاني عدة منها: الإسقاط، الترك، الافتراء والإلصاق (1) .
ب- أما في اصطلاح المحدثين: فقد عرفه ابن الصلاح (ت643) بقوله: هو المختلق المصنوع (2) ، وعرفه غيره بأنه هو: ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اختلاقا وكذباً مما لم يقله أو يفعله أو يقره (3) .
التعريف به:
الموضوع شر الحديث الضعيف جملة وتفصيلاً، وقد جعله العلماء آخر درجات الحديث الضعيف، وإنما جعلوه من درجاته لأجل التقسيم المعرفي وبحسب إدعاء واضعه، وإلا فهو ليس من أنواع الحديث أصلاً.
وللعلماء عبارات متعددة للتعريف به والإشارة إليه ومنها:
1- التصريح بوضعه فيقولون: موضوع، باطل، كذب.
2- قولهم في الحديث: لا أصل له، لا أصل له بهذا اللفظ، ليس له أصل، أو نحو هذه الألفاظ.
3- قولهم في الحديث: لا يصح, لا يثبت, لم يصح في هذا الباب شيء.
أصله ومصدره:
الحديث الموضوع يكون مصدره من عدة طرق، أهمها:
أ - قد يخترعه الواضع من نفسه ابتداءً, وينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, وبعرف ذلك: إما بإقراره أو ما ينزل منزلة الإقرار: كأن يدعو الحديث إلى مبدأ يدعو إليه الوضاع، أو تدل على ذلك قرائن الأحوال.
__________
(1) القاموس المحيط, مادة (وضع) 694, 695.
(2) علوم الحديث: لابن الصلاح ص 89.
(3) توضيح الأفكار: للصنعاني (الحاشية) ج2 ص 68.(48/20)
ب- قد يأخذ الواضع كلام غيره فينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ويكون الموضوع إما من كلام الصحابة أو من كلام التابعين أو بعض قدماء الحكماء.. ونحو ذلك (1) .
ج- قد يهم الراوي فينسب كلام الغير إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن غير قصد وتعمد للوضع مثل "ومن كثرت صلاته في الليل حسن وجهه في النهار" (2) ، ولذا عده بعضهم في حكم المدرج (3) .
حكم وضعه:
__________
(1) انظر لأمثلة ذلك: الفوائد الموضوعة: للكرمي ص101، الأسرار المرفوعة: للقاري ص 179، المصنوع ص 138.
(2) هذا الحديث رواه عدد من أهل العلم, فقد رواه ابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة, باب ما جاء في قيام الليل ج 1 ص 422 رقم 1333 بسنده إلى ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره. ورواه العقيلي في الضعفاء ج 1 ص 176 في ترجمة ثابت بن موسى, ثم قال: "عن الأعمش, حديثه باطل ليس له أصل" ثم ذكر هذا الحديث بإسناده إلى ثابت.. به, ورواه بن عدي في الكامل ج 2 ص 525 – 526 في ترجمة ثابت بن موسى, فقال: روى عن شريك حديثين منكرين بإسناد واحد ولا يعرف الحديثان إلا به, ثم ذكر هذا الحديث. وذكره ابن حبان في المجروحين ج 1 ص 207 في ترجمة ثابت بن موسى فقال: "وهو الذي روى عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه في النهار", وهذا قول شريك قاله عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد" فأدرج ثابت بن موسى في الخبر وجعل قول شريك كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم سرق هذا من ثابت بن موسى جماعة ضعفاء وحدثوا به عن شريك".ولمزيد البحث هنا انظر الموضوعات لابن الجوزي ج 2 ص 109 - 111, المقاصد الحسنة للسخاوي ص 666 رقم 1169.
(3) انظر: توضيح الأفكار: للصنعاني ج 2 ص 88-89.(48/21)
قال النووي (ت 676) في شرحه على صحيح مسلم: "وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب على آحاد الناس, فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي والكذب عليه كذب على الله تعالى, قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) " (2) .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكم وضعه, وتوعد بالعقاب الشديد والعذاب الأليم لمن فعل ذلك, حيث قال صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عني ولا حرج, بلغوا عني ولو آية, إن كذباً علي ليس ككذب على أحد, - روايات متعددة جاء في نهايتها كلها - ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (3) وقد حكي عن بعض الحفاظ أنه قال: "لا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرون بالجنة إلا هذا, ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا" (4) وقد رواه ابن الجوزي (ت 597) عن واحد وستين صحابيا, وسرد تلك الروايات في مقدمة موضوعاته (5) ، بل قال ابن دحيه (ت 633) "قد أخرج من أربعمائة طريق" (6) ، ولهذا قال ابن الصلاح (ت 643) : "وليس في الأحاديث ما في مرتبته من التواتر " (7) فيكون ما دل عليه من حكم الوضع والكذب ضروري العلم قطعي الثبوت.
عقوبة الواضع:
__________
(1) سورة النجم الآيتان 3, 4.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص 70.
(3) هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه في مواضع متعددة منها كتاب العلم باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1/199-202 رقم 106-110) وغير ذلك من المواضع، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد باب التثبت في الحديث (4/2298 - 2299 حديث رقم 72/3004) . كما رواه بهذه الألفاظ وغيرها عدد كثير من الصحابة، وقد يبلغ حد التواتر.
(4) علوم الحديث: لابن الصلاح ص 242-243.
(5) انظر: الموضوعات: لابن الجوزي ح1 ص 56-94.
(6) فيض القدير: للمناوي ج6 ص 216.
(7) الأسرار المرفوعة (مقدمة المحقق ص 16) وانظر: علوم الحديث ص 242.(48/22)
أما عقوبة الواضع في الدنيا, فقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بها, حيث روي عنه أنه قال فيمن كذب عليه: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه" لكنها رواية ضعيفة وفيها مقال (1) ، أما حكمها فليس فيه مقال، ويعضده ويقويه ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن التيمي عن أبيه أن عليا رضي الله عنه قال في من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: "تضرب عنقه" (2) وجدير بمن كذب على رسول الله أن يلقى ذلك المصير الدنيوي, فقد أخبر الصادق المصدوق أن مصيره في الآخرة إلى النار.
__________
(1) الحديث ورد بعدة طرق.. وكلها ضعيف جدا لا تقوم به حجة، فرواه الطبراني في المعجم الأوسط (3/59 حديث رقم 2112) بالسند إلى عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله ابن عمرو.. فذكر قصة لرجل كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبى بكر وعمر: انطلقا إليه فإن وجدتماه حيا فاقتلاه ... الحديث.
... ثم قال الطبراني: لم يروه عن عطاء إلا وهيب.. قلت: وفي إسناده عطاء وقد اختلط في آخر عمره، ووهيب روى عنه بعد الاختلاط (انظر الكواكب النيرات ص 327)
... كما روى هذا الحديث ابن الجوزي في مقدمة كتابه الموضوعات من طرق أخرى وكلها ضعيفة (انظر الموضوعات (1/55-56) .
(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجهاد باب من سب النبي صلى الله عليه وسلم. كيف يصنع به، وعقوبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ج5 ص 308 رقم 9708، وإسناده منقطع فإبن التيمي هو معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، ووالده لم يدرك علياً رضي الله عنه.(48/23)
وقد تواترت الأخبار من التابعين على هذا الحكم, فهذا يحي بن معين (ت 233) لما ذكر له حديث "من عشق وعف وكتم فمات مات شهيداً" (1) وهو من رواية سويد الأنباري, قال: لو كان لي فرس ورمح غزوت سويداً (2) وقال الشعبي (ت 104) وهو يخاطب كاذبين: "لو كان لي عليكم سبيل ولم أجد إلا تبراً لسبكته ثم غللتكما به" (3) .
توبة الواضع وحكم روايته بعدها:
لا خلاف بين العلماء أن توبة الواضع مقبولة, فمن تاب تاب الله عليه {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} (4) ولكن مع قبول توبته هل تقبل روايته أم لا؟ يرى الإمام أحمد (ت 241) وأبوبكر الحميدي (ت 219) شيخ البخاري وغيرهم أنه لا تقبل روايته أبدا, قال أبو بكر الصيرفي (ت 466) : "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر" (5) , واختار النووي (ت 676) القطع بصحة توبته وقبول روايته كشهادته، وحاله كحال الكافر إذا أسلم (6) .
وذهب أبو المظفر السمعاني (ت 489) إلى أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من روايته (7) .
حكم روايته:
__________
(1) الميزان ج2 ص 250.
(2) أنظر المجروحين ج3 ص 352.
(3) الكامل لأبن عدي ج3 ص 948.
(4) سورة الفرقان آية 7.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص 69.
(6) صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص70.
(7) نفس المصدر السابق ج1 ص 70.(48/24)
.. اتفق العلماء على تحريم رواية الحديث الموضوع, فلا تحل روايته لأحد علم حاله وعرف أنه موضوع، إلا مبينا حاله ومصرحاً بأنه موضوع، يقول الإمام مسلم (ت 261) : "إن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها, وثقات الناقلين لها من المتهمين, أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه.. وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع, والدليل على أن الذي قلناه هو اللازم دون غيره, قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (1) وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2) فدل بما ذكر من الآيتين أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول, وأن شهادة غير العدل مردودة" (3) اه.
أما من السنة فها هو صلى الله عليه وسلم يصرح بذلك في حديثه المشهور: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" (4) ، وكفى بهذا الوعيد الشديد في حق من روى حديثاً يظن أنه كذب، فضلاً عن أن يروي ما يعلم كذبه ولا يبينه.
__________
(1) سورة الحجرات آية 6.
(2) سورة البقرة آية 282.
(3) صحيح مسلم شرح النووي ج1 ص 60-61.
(4) رواه مسلم في صحيحه في المقدمة باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين (1/9) بإسنادين مختلفين إلى كل من سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما قالا.. فذكره.
... ورواه الترمذي في سننه في كتاب العلم باب ما جاء فيمن روى حديثا وهو يرى أنه كذب (5/36 حديث رقم 2662) بالسند إلى المغيرة بن شعبة - وحده -.. فذكره ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.
كما رواه ابن ماجة في سننه في المقدمة باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا وهو يرى أنه كذب (1/14-15 حديث رقم 38-40) عن علي وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم.. به مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(48/25)
ولاشك أن من روى حديثاً موضوعاً فلا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما أن يجهل أنه موضوع, وإما أن يعلم بوضعه بواحد من طرق العلم به, وهذا إما أن يقرن مع روايته تبيان حاله, وإما أن يرويه من غير بيان لها.
فأما الأول: وهو من يجهل أنه موضوع, فلا إثم عليه إن شاء الله (1) , وإن كنا نعتقد أنه مقصر في البحث عنه, لكن لا يؤمن عليه العقاب في تركه البحث عن حال ما يحدث به, لاسيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إنماً أن يحدث بكل ما سمع" (2) .
وأما الثاني: وهو من يعلم وضعه ويبين حاله فلاشيء عليه، إذ قد أمن ما كان يخشى منه وهو علوقه في الأذهان منسوباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أما إذا كانت روايته له قاصداً بها إبانة حاله, فهذا مأجور لنفيه الدخيل عن الحديث الشريف وتنبيه الناس عليه, فهو من عدول خلف الأمة ومن خيارها الذين امتازوا عمن سواهم بأنهم ينفون عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
__________
(1) انظر: توضيح الأفكار: (الحاشية) ج2 ص 73، المصباح: للاندجاني ص 96.
(2) رواه مسلم في صحيحه في المقدمة باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/10) وأبو داود في سننه في كتاب الأدب باب في التشديد في الكذب (5/265-266 حديث رقم 4992) عن أبي هريرة رضي الله عنه.. به مرفوعا، واللفظ لآبي داود.(48/26)
وأما الثالث: وهو من رواه من غير بيان لحاله مع علمه بأنه موضوع فهو مأزور وآثم, سواء ذكر إسناد الموضوع أم لا، إذ لا يكتفى بإيراد الإسناد في هذا الزمان, بل لابد من التصريح بأنه موضوع وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم, فذكر الإسناد وعدمه سواء, يقول السخاوي (ت 902) : "ولا تبرأ العهدة في هذه الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده - أي الموضوع - لعدم الأمن من المحذور به, وإن كان صنعة أكثر المحدثين في الأعصار الماضية" (1) وهذا في عصر السخاوي في القرن التاسع فما بالك بعصرنا الحاضر؟! فقد كانت طريقة الاكتفاء بالإسناد معروفة لدى القدماء، لأن علماء عصرهم يعرفون الإسناد, فتبرأ ذمتهم من العهدة بذكر السند، أما عصرنا هذا فقد سرت العدوى فيه من إضاعة الإسناد إلى إضاعة المتون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا:
أما عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا فقد أجاب ابن حجر الهيتمي المكي (ت 974) على سؤال ورد إليه ونصه كالتالي: لنا إمام يروي أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها فما الذي يجب عليه؟ فأجاب: "من فعله وهو ليس من أهل المعرفة بالحديث, ولم ينقلها عن عالم بذلك, فلايحل له ومن فعله عزر عليه التعزيز الشديد.. ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه" (2) هذا فيمن روى حديثاً مجهول الحال فضلاً عن أن يكون موضوعاً, أما عن الموضوع بالذات: فقد كتب البخاري (ت 256) على ظهر كتاب ورده فيه سؤال عن حديث مرفوع وهو موضوع, فكتب "من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل" (3) .
حكم العمل به:
__________
(1) فتح المغيث.. للسخاوي 1/175.
(2) الفتاوى الحديثية: لابن حجر ص 32.
(3) الأباطيل والمناكير ج1 ص19-20.(48/27)
العمل بالحديث الموضوع حرام بالإجماع، لأنه ابتداع في الدين بما لم يأذن به الله, يقول صلى الله عليه وسلم: "وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة" (1) ويقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (2) هذا في الأمور الدينية التعبدية, أما في الأمور الدنيوية: فالعمل به على أنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرام أيضاً, أما على غير ذلك فحكمه يختلف باختلاف تلك الأعمال، وتنطبق عليه الأحكام الشرعية والقواعد المرعية.
ومما يزيدنا يقيناً بحرمة العمل بالأحاديث الموضوعة ووجوب محاربتها ببيان حالها وتطهير الأمة - ما أمكن - من أدرانها، ما سنعرفه في هذا البحث - إن شاء الله - من آثارها السيئة على الأمة الإسلامية في شتى الأصعدة.. وهذا ما سنعرفه بالتفصيل في الباب الأول من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
الباب الأول
الآثار السيئة للوضع
__________
(1) هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592 رقم 43/867) ورواه النسائي في سننه في كتاب صلاة العيدين باب كيف الخطبة (3/188-189 حديث رقم 157) كما رواه الدرامي في سننه في المقدمة باب في كراهية أخذ الرأي (1/69) جميعهم من حديث جابر بن عبد الله.. فذكر خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها هذا اللفظ.. واللفظ لمسلم.
(2) الحديث رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (5/301 رقم 2697) ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة.. (3/1343 رقم 17/1718) كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.. بهذا اللفظ، مرفوعا.(48/28)
لقد كان للوضع آثار سيئة على الأمة الإسلامية لبست الطابع العلمي وتغلغلت في التفكير والسلوك وهذا أمر طبيعي, فكل مضر للمجتمع - أياً كان - إذا وجد البيئة التي يرتع فيها والمناخ الذي يتنفس فيه, فإنه يترك آثاراً لا تنمحي وجروحاً لا تندمل على مر الزمان, وكذلك الوضع والتزيد في الحديث النبوي. بل يمكن القول بأن الوضع هو رأس الحربة المسموم الذي طعن الإسلام في الصميم, بواسطة الغزو الفكري الذي لازالت آثاره ومخلفاته باقية إلى الآن.
ولم تكن حركة الوضع حركة ارتجالية عفوية في كل الأحيان, بل تطورت إلى حركة مدروسة هادفة, وخطة مدبرة شاملة لها خطرها في جميع الميادين، يروي حماد بن سلمة (ت 167) عن أحد كبار الوضاعين قوله: "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيءً جعلناه حديثاً ونحتسب الخير في إضلالكم" (1) فقد كان للوضاعين - على اختلاف منطلقاتهم - أبعاد حاولوا الوصول إليها عن طريق الدين, سواء منهم الأعداء الماكرون أو الأتباع الحمقى, فألصقوا فيه ما ليس منه, وأحلوا القشور مواضع اللباب, وألبسوا التفاهات ثوب المهمات, واستبدلوا الشرك بعقيدة التوحيد " فكان من النتائج المباشرة لتلك الحركة المشبوهة على العديد من أجيال المسلمين في العديد من أقطارهم, شيوع ما لا يحصى من الآراء الغريبة والقواعد الفقهية الشاذة والعقائد الزائفة والافتراضات المضحكة التي أيدتها وتعاملت بها وروجت لها فرق وطوائف معينة, لبست مسوح الدروشة والتصوف حينا, والفلسفة حيناً,, والعبادة والزهد حيناً آخر ... " (2) .
ولقد ساعد على بلوغ الوضع مأربه, وبروز آثاره بشكل واضح, ما مني به المسلمون في عصور الانحلال وإلى عصرنا الحاضر من ضعف في الثقافة الدينية الصحيحة, إلى جانب انتشار المذاهب الهدامة, فصارت ظلمات بعضها فوق بعض, بلغت بالأمة إلى ما نراه من جهل وذل وانكسار.
__________
(1) فتح المغيث: للسخاوي ج1 ص 240.
(2) الموضوعات: مقدمة المحقق ج1 ص 9.(48/29)
وسنتحدث الآن في هذه العجالة عن بعض آثاره التي تتلخص فيما يأتي:
الفصل الأول: الآثار الدينية
وأعني بها هنا دائرة الأعمال الدينية البحتة (العبادات) ، وإلا فالمؤمن في محيط التدين والعبادة مهما اتجه كما قال عز من قائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (1) .
فقد دخل في الدين الإسلامي - أيام الفتوح - من دخل فيه رغبة في الدس عليه والكيد له, فاعتنقوا الإسلام في الظاهر, ولكنهم في الحقيقة اعتنقوا الزندقة والإلحاد, فوضعوا الحديث وحاولوا خلطه بالثابت من تلك الذخيرة الدينية ولكن الله سَلّم, بل حاولوا ترويج بضاعتهم المزجاه, ومن ثم إضاعة الحديث وإماعته في الموضوعات, حين قالوا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتم بحديث يوافق الحق فخذوه, حدثت به أو لم أحدث" (2) قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ويمكن تلخيص تلك الآثار في موضعين:
1- الآثار الاعتقادية:
إن أعظم ما يملكه الإنسان في الدنيا هو دينه, وأعظم أركان الدين هو الإيمان, وأعظم أركان الإيمان هو الإيمان بالله, هذا الركن العظيم, لما استحال على الوضاعين إسقاطه حاولوا هزه بشتى الوسائل, وأقرب مثال لذلك محاولتهم لفلسفة خلق الله سبحانه وتعالى, فهاهم يقولون: "إن الله خلق الفرس فأجرها ثم خلق نفسه منها" (3) إلى غير ذلك من تلك المحاولات التي باءت بالفشل والحمد الله.
ولما لم ينجحوا في ما تقدم عدلوا إلى مرحلة أدنى فوضعوا أصول الحلول، فوضعوا " القلب بيت الرب" (4) وحديث "ما وسعني سمائي ولا أرضي، بل وسعني قلب عبدي المؤمن " (5) وقد اعتنق هذه الخرافة فرقة منحلة تسمى بـ "الحلولية والاتحادية " وتصُّور هذه العقيدة كاف في إسقاطها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية.
__________
(1) سورة الذاريات آية 56.
(2) الموضوعات ح1 ص 258.
(3) الموضوعات ح1 ص 105.
(4) المصنوع ص 200.
(5) أحاديث القصاص ص 67.(48/30)
ومن ناحية أخرى فقد حاولوا العودة بالأمة إلى الشرك، إلى تقديس الأحجار والأشجار فقالوا: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه" (1) يقول ابن القيم: هو من وضع المشركين عباد الأصنام.
ولكن الطاّمة الكبرى أن هذا ومثله من أحاديث زيارة القبور والتبرك بها والتمسح بأحجارها كان له أثر على إيمان الأمة في عهود تقدمت، وفي بعض البقاع حتى الآن.
2 - الآثار العملية:
وقد حاز قصب السبق في إنتاج هذه الآثار جهلة الأمة وزهادها, فأرهقوا الأمة وزادوا في الدين أشياء ما أنزل الله بها من سلطان, ووضعوا صلوات وأعمال تعبد أخرى رفعوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحكموا لها بالأجر من الله فكذبوا على الله ورسوله, ساء ما يحكمون, وذلك كصلاة عاشوراء والرغائب وصلاة ليالي رجب وليلة النصف من شعبان وكأنهم لم يعلموا بأن الدين يسر, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولا تنفروا" (2) .
وقد كانت هذه الصلوات وأشباهها حجر عثرة في تقدم الإسلام في الدول الغربية الآن, ويذكر أن أحدهم سأل شيخاً فاضلاً حين رأى هذه الصلوات وهاله الأمر قائلاً: إننا فررنا من المسيحية إلى الإسلام، نظراً لما ترهقنا به من عبادات!! فطمأنه الشيخ وأخبره أن ديننا ماهو إلا من خالق البشر الذي يعرف قدراتهم حيث قال عز من قائل: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} (3) وأما ما رآه فهو محض افتراء وكذب, وليس من الدين في شيء.
__________
(1) المنار المنيف ص 139.
(2) رواه البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم ... (1/163 حديث رقم 69) ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير (3/1359 حديث رقم 8/1734) كلاهما عن أنس بن مالك ... به، واللفظ للبخاري.
(3) سورة النساء آية 28.(48/31)
وزاد الطين بلة أن الوضاعين حين أخبروا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل بدعة ضلالة" (1) استثنوا ما هم عليه من جهل وضلال, فوضعوا زيادة في الحديث فقالوا: "كل بدعة ضلالة, إلا بدعة في عبادة" (2) ليجعلوا هذه الزيادة أصلاً ومستنداً لأعمالهم البدعية، فوضعوا الحجة لمن بعدهم وفتحوا ثغرة في الإسلام بالبدع التي شملت أرجاء العالم الإسلامي, تماماً كما فعلت الزنادقة حين قالوا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي, إلا أن يشاء الله" (3) فكان هذا الاستثناء الموضوع باباً يلجه كل صفيق مأفون, ولعل القادياني بنحلته المشهورة دخل مع هذا الباب الموضوع.
الفصل الثاني: الآثار الاجتماعية
المجتمع الإسلامي قائم على القرآن والسنة, فأي محاولة في التزيد في أحدهما تكون مناورة لهز كيان المجتمع, وخاصة إذا كانت الزيادة في مواضيع اجتماعية - كما سنتحدث - ولما كانت أعظم صفات المجتمع الإسلامي هي الاتحاد, فإن أكبر ضربة يمكن أن توجّه إليه هي "الفرقة والاختلاف".
ولقد وجهت إليه هذه الضربة فعلاً, ومازالت الأمة تعاني من آثارها، وليس غريباً أن أقول بأن هذه الضربة ماهي إلا أثر من آثار وضع الحديث.
ولقد أخذت الفرقة مسارين مختلفين, ترك الوضع بصماته فيهما على حد سواء, وهما:
أ - الخلاف السياسي:
__________
(1) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه وقد تقدم تخريجه انظر ص 20-21.
(2) الأسرار المرفوعة ص 271.
(3) الفوائد المجموعة: للشوكاني ص 320.(48/32)
لقد ولد الاختلاف السياسي مبكراً في التاريخ الإسلامي فنشأ معه من لحظته الأولى الوضع, يذكي ناره إذا خبت ويزيد سعيرها إذا ارتفعت, فكما أن الرجال كانوا وقوداً للحروب التي نشأت عن الاختلاف السياسي كذلك كان الوضع وقوداً لتلك الخلافات, فاتسعت رقعتها واتسمت بالطابع الديني فتفرق المسلمون واختلفت كلمتهم, بعد أن كانوا يداً واحدة وعلى قلب رجل واحد, فبدأ الانفراج في زاوية المسلمين من ذلك الحين ثم أخذت تتسع مع مسار الزمن وتكاثر الأحداث, يغذيها ركام الوضع والاختلاف, كما حدث بين الأمويين والعباسيين, حيث تكون تلك الافتراءات طاقة عصبية تحمس الجند وتدفعهم إلى القتال، فمما وضع أنصار الأمويين " أقبلت رايات بني العباس من قبل خرا سان جاءوا بنعي الإسلام.." (1) ومما وضع أنصار العباسيين "رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء" (2) وحين جاء المستعمرون لم يحتاجوا إلى سياسة "فرق تسد" بل وجدوا الباب مفتوحاً على مصراعيه, فجَرّوا عليهم البلاء في الدين والدنيا معاً.
ب - الخلاف المذهبي:
لقد وجدت المذاهب الإسلامية الأربعة ولا أثر للوضع في قيامها، إذ قامت على المعين الصافي: القرآن والسنة, وإنما وجد الأثر السيئ للوضع في إذكاء تلك الخلافات بين الأتباع وإشعال نارها, فقد جاء من بعدهم مقلدون أجلاء, لكن بعض الجهال أو المتجاهلين تعصبوا لمذهب معين فعمدوا إلى إسناد رأيه بالدليل, وإذا عجزوا عن ذلك أخذوا من بنات أفكارهم ألفاظاً هي إلى الفتاوى أقرب وألصقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم, وهكذا فعل الآخرون فاشتعلت نيران التعصب المذهبي وأقفل باب الاجتهاد (3) .
__________
(1) الأباطيل والمناكير ج1 ص 275-276.
(2) المرجع السابق ج1 ص 256.
(3) انظر تنزيه الشريعة ج1 ص11، السنة ومكانتها ص102.(48/33)
وعندما يسمع العامة والخاصة تلك الأحاديث المكذوبة يرونها عين الصواب، لأنها صادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حسب زعم الواضع, فيأخذون بهذا الرأي، وكذلك يفعل المخالف, وتحصل الشحناء والنزاع والخلافات, والأعظم من ذلك, أنهم وضعوا ما يشجع الخلاف وينادي به، فقالوا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة" (1) وزعموه حديثاً، وقد قال السبكي: "ليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع" (2) ، يقول الألباني: "بسبب هذا الحديث ونحوه ظل أكثر المسلمين بعد الأئمة الأربعة إلى اليوم مختلفين في كثير من المسائل الإعتقادية والعملية ولو أنهم يرون الخلاف شر - كما قال ابن مسعود وغيره - ودلت الآيات القرآنية على ذمه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (3) وإن شئت أن ترى أثر هذا الاختلاف والإصرار عليه, فانظر إلى كثير من المساجد، تجد فيها أربعة محاريب، يصلي فيها أربعة أئمة!! وجملة القول أن الاختلاف مذموم في الشريعة فالواجب محاولة التخلص منه ما أمكن، لأنه سبب ضعف الأمة {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (4) " (5) .
__________
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة. للألباني ج1 ص76. وانظر الأسرار المرفوعة: للقاري ص 84-87.
(2) فيض القدير: للمناوي ج1 ص 212.
(3) سورة النساء آية 82.
(4) سورة الأنفال آية 46.
(5) سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني ج1 ص77.(48/34)
ونتيجة للخلافات السياسية والمذهبية, ونتيجة لما أصيبت به الأمة من انحلال في بعض جهاتها.. نادى بعض من يغار على الدين عن جهل وضلال بالرهبانية والعزلة وترك الدنيا.. وذمّوا الاختلاط بالآخرين, فقالوا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: "رهبانية أمتي القعود في المسجد" (1) مخالفين بذلك أصول الشرع وقواعده, بل نادوا بالعزلة في البراري والقفار "إذا أتت على أمتي سنة 380 حلت لهم العزلة والترهب على رؤوس الجبال " (2) وحببوا إلى الناس الخمول والكسل "الخمول نعمه وكل يأباها" (3) بل حاولوا القضاء على الأمة كلياً بالقضاء على نظام الأسرة يقولون ويزعمون أن ذلك مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبداً اقتناه لنفسه ولم يشغله بزوجة ولا ولد" (4) من تلك الخرافات وشبهها نشأت فكرة الصوفية, التي عمت وطمت أنحاء العالم الإسلامي, فشَلَّت حركة المجتمع واتخذت الدروشة والرهبنة شعاراً والرقص والتواجد وأشباهه دثاراً، وقضت على الحركة الفكرية بانتحالها لعلم الباطن, وما أدراك ما علم الباطن, يقولون فيه على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم "علم الباطن سر من أسرار الله.. يقذفه في قلب من يشاء من عباده" (5) .
فزهَّدوا الناس في علم الحديث الذي يناوؤنه كما زهَّدوهم في الدنيا التي يعادونها, ولاشك أن العامة حين تسمع هذه الأحاديث, تسير في فلكها تبعاً لإيمانها الفطري عن جهل وضلال وما أعظم المصاب حين غزت الصوفية بأفكارها الضحلة العقلية الإسلامية فأفقرت الأمة في علوم الدين كما أفقرتهم في متاع الدنيا.
الفصل الثالث: الآثار الاقتصادية
__________
(1) المصنوع ص 57.
(2) المنار ص 111.
(3) المصنوع ص 69
(4) تنزيه الشريعة ح2 ص 212.
(5) تنزيه الشريعة ح1 ص 280.(48/35)
في هذا الخضم الهائل من الأفكار الدخيلة على التصور الإسلامي للحياة، وفي تلك الأجواء المكفهرة التي واكبها انفتاح المسلمين على الدنيا حين فتح الله لهم أرجاء المعمورة وأظهر لهم كنوز الأرض المطمورة, فانشغل بعضهم في العمل والإنتاج كليا وانصرفوا عن العبادة وانشغلوا عنها مما حدى ببعض الصالحين إلى كبح جماح النفوس, وكسر حدة شهواتها, ولما كان جاهلاً بنظرة الدين الإسلامي للحياة, أخذ يترجم ما في نفسه ويلصقه على الرسول صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً, فذموا الدنيا وزينوا للناس الفقر وذموا العمل والإنتاج, وجعلوا كل ذلك باسم الدين, ولما كان الإنتاج في المجتمع الإسلامي قائماً على الزراعة والتجارة في الغالب, قالوا في حديث مكذوب "شرار الناس التجار والزرّاع" (1) وفي رواية موضوعة: "شرار أمتي التجار والزرّاع" (2) .
أما الفقر فحدث عن مدحه ولا حرج لقد جعلوه فخراً للرسول, فتقولوا عليه صلى الله عليه وسلم: "الفقر فخري وبه افتخر" (3) مع أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ منه, وجعله قريناً للكفر في حديث صحيح حين قال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" (4) بل جعلوا الفقراء هم جلساء الله يوم القيامة (5) , وقالوا: "إنما سمي الدرهم لأنه دار هَمّ, وإنما سمي الدينار لأنه دار نار" (6) .
__________
(1) الفوائد المجموعة ص 141.
(2) اللآلي المصنوعة ح2 ص 142.
(3) أحاديث القصاص ص 90.
(4) رواه النسائي في سننه في كتاب الاستعاذة باب الاستعاذة من الفقر (8/262حديث رقم 5465) والإمام أحمد في مسنده (5/36) والحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان (1/35) جميعهم بالسند إلى أبي بكرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر" وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بعثمان الشحام.
(5) اللآلي المصنوعة ح2 ص 324.
(6) تنزيه الشريعة ح2 ص 89.(48/36)
ولاشك أن لهذه الأحاديث الموضوعة والخرافات المصنوعة أثر سلبي على الأمة التي تدين بالإسلام, ولكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وزنه وقيمته، فنتيجة لهذا وأشباهه ترك كثير من الناس الدنيا والاشتغال بها, فعطلت بذلك المنافع وانقطعت بعض سبل المعيشة فعاش الشعب المسلم في فقر مدقع ومسغبة مهلكة, وخاصة في العصور المتأخرة, التي واكبها التطور الفكري في الأمم الغربية, تلك الأمم التي هجمت على المسلمين فوجدتهم لقمة سائغة, فهجموا عليهم واستذلوهم وأخرجوا خيرات أرضيهم ونقلوها إلى بلادهم وهم ينظرون، علاوة على ما تركوه نتيجة التنصير والاستعمار من مخلفات في القلوب والعقول, تركت آثارها في الجيل الجديد, فقلب لدينه ظهر المجن على ما سنبينه في الفقرة التالية.
الفصل الرابع: الآثار النفسية
لقد خفف الوضع وزن الحديث الثابت في النفوس وأزال مقداره وهيبته عن بعض القلوب, فبعد أن كان لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وزنه وقيمته في قلوب العامة قبل الخاصة, أصبح عند البعض كلاماً عادياً, فلقد وصل الوضع إلى درجة مزرية من حيث السخافة والمجون واستعمل كأداة في تفضيل بعض البقاع على بعض, واستعمل كمروّج ومسير للبضائع, فبائع البطيخ يهذي عن الرسول بما لايدري, وبائع الهريسة كذلك, وعلى هذا فقس صاحب العدس والفول!! وكل هؤلاء جميعاً يروون عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله أنى يؤفكون, بل يروونه بسند متصل عن فلان عن علان عن الرسول, وإذا سمعتهم العامة صدقتهم في ذلك ورووه لأبنائهم بما فيه من رزايا وبلايا, فينعكس أثره على نفسياتهم لما فيه من سخافات تستهجنها النفوس.(48/37)
وبالفعل فقد ترك الوضع تراكمات نفسية في القلوب, فخف وقع كلامه صلى الله عليه وسلم صحيحه وموضوعه على النفوس، ولم يكن له ذلك التأثير الفعال في نفوس الناس ثم جاء دور التفسخ والانحلال فقضى على تلك النواميس وتمرد على الدين كله، بالإضافة إلى أن أعداء الإسلام استغلوا في إضلال هذا الجيل كثيراً من تلك الأحاديث الموضوعة وصاغوا على أساسها - بمكر وخبث - شبهات تنهض دليلاً على مازعموه من عدم صلاحية الإسلام للحياة, فَكوّن هذا وذاك ظلمات بعضها فوق بعض.
الفصل الخامس: ظاهرة القصاص
يمكن القول أن ظاهرة القصاص التي تفشت في المجتمع الإسلامي في بعض عصوره ما هي إلا أثر من آثار الوضع، ذلك لأن الموضوعات هي الركن الذي عليه يقومون, واللسان الذي به ينطقون, وهذا أمر طبيعي, لأن القصص يتطلب مادة كثيرة وجديدة تجذب آذان العامة إلى القاص وتشوقهم في الإقبال عليه والإصغاء إليه, فاضطروا إلى استعمال الخيال الخصب, ونسجوا منه الصور الغريبة وألصقوها على الرسول, فقد انتحل القصص عدد كبير من الناس, اتخذوها مهنة لهم يعيشون من ورائها, فكانت دوافع المبالغة والكذب عندهم قوية جداً حتى يجدوا المادة القصصية المشوقة التي تجلب السامعين ومن ثم تجذب لهم العطايا والفلوس (1) ، واتخذها آخرون وسيلة للشهرة, فكان جل همهم أن يجتمع الناس حولهم ويستغربون ما يقولون, فيضعون لهم ما يرضيهم ويثير عواطفهم, ولسان حال كل منهم يقول: "أنا فلان بن فلان فاعرفوني" كما قال علي رضي الله عنه (2) .
وعن آثارهم يقول الحافظ العراقي: "ومن آفاتهم أن يحدثوا كثيراً من العوام بما لا تبلغه عقولهم, فيقعوا في الاعتقادات السيئة, هذا لو كان صحيحاً, فكيف إذا كان باطلا (3) ".
__________
(1) انظر: تحذير الخواص: المقدمة ص 12.
(2) تحذير الخواص: للسيوطي ص 190،191.
(3) تحذير الخواص ص 180 عن الباعث على الخلاص: للعراقي.(48/38)
وإذا عرفنا أن جمهورهم المستمع والمشجع هم العامة الجهال, الذين يصدقون كل ما يسمعون عرفنا عظيم أثرهم وجليل خطرهم, يقول ابن الجوزي "والقاص يروي للعوام الأحاديث المنكرة, ويذكر لهم ما لو شم ريح العلم ماذكره, فيخرج العوام من عنده يتدارسون الباطل فإذا أنكر عليهم عالم قالوا: قد سمعنا هذا بـ "أخبرنا" و "حدثنا" فكم قد أفسد القصاص من الخلق بالأحاديث الموضوعة, كم لون قد اصفر من الجوع, وكم هائم على وجهة بالسياحة. وكم مانع نفسه ما قد أبيح, وكم تارك رواية العلم زعماً منه مخالفة النفس في هواها!! وكم موتم أولاده بالزهد وهو حي! وكم معرض عن زوجته لا يوفيها حقها فهي لا أيم ولا ذات بعل!! " (1) ويقول أبو قلابة: "ما أمات العلم إلا القصاص يجالس الرجل القاص سنة فلا يتعلق منه بشيء، ويجلس إلى العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء" (2) ويقول أيوب السختياني:"ما أفسد على الناس حديثهم إلا القصاص" (3) .
الباب الثاني
جهود العلماء في مقاومة الوضع
الناظر في ركام الأحاديث الموضوعة الموجودة في بطون الكتب، وتتداولها الألسن، قد يتساءل: ماذا كان موقف العلماء منها، وقد اختلطت بالأحاديث الصحيحة؟! وهو تساؤل وارد, عُرضَ على الإمام عبد الله بن المبارك فقيل له: هذه الأحاديث الموضوعة؟؟ فقال: تعيش لها الجهابذة (4) {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) وصدق الله العظيم فقد قيض لهذه الأمة رجالاً أمناء مخلصين, قاوموا الوضع والوضاعين وتتبعوهم, وميزوا بين الصحيح والسقيم, وبذلوا جهوداً جبارة في سبيل حفظ الشريعة وأصولها.
فكل ما قدمته في هذا البحث من تعريف بالوضع وأحكامه, وإيضاح لآثاره وسلبياته، وتشهير بالوضاعين وموضوعاتهم, ما هو إلا غيض من فيض مما فعلوه في مقاومة الوضع.
__________
(1) الموضوعات ج1 ص 32.
(2) الحلية: لأبي نعيم ج2 ص 287.
(3) المرجع السابق ج3 ص 11.
(4) تدريب الراوي: للسيوطي ص 184.
(5) سورة الحجر آية 9.(48/39)
ونستعرض الآن جزءاً آخر مما بذلوه في هذا المضمار, مما يناسب هذا الموضوع:
الفصل الأول: جمع الأحاديث الثابتة
كانت الأحاديث الثابتة مدونة في صدور الرجال ومسطرة في بطون الكتب، وكانت تلك وأولئك منتشرين في أنحاء العالم الإسلامي, وحين برز قرن الفتنة وظهرت معها طلائع الموضوعات ثم انتشرت وتكاثرت, خاف الغيورون على السنة من علماء الإسلام, فخفّوا إلى الصحابة يسمعون عنهم ويستفتونهم, وسارعوا إلى بطون صحفهم يستظهرونها.
وحين زاد تيار الوضع وطغى, وأخذت الزنادقة ومن لف لفهم يكتبون الموضوعات ويدسونها في الصحاح, ظهرت فكرة جمع الحديث في طبقة الإمام الزهري ومن بعدها كابن جريج وسفيان الثوري ومالك (1) ، فدونوا الحديث على الهيئة التي وجدوه عليها, ثم بحثوا عن أحوال الرواة، فأسقطوا ما يعرفون أنه موضوع, فقد كانوا - كما قال أبو داود - يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث (2) .
ومن أشهر تلك الكتب وأولها موطأ الإمام مالك الذي يقول عنه الشافعي: "ما على أديم الأرض بعد كتاب الله - كتاب أصح من موطأ مالك" (3) .
ثم جاءت من بعدهم طبقة أخرى انتهجت جمع الأحاديث النبوية على طريقة المسانيد, فجمعت مايروى عن الصحابي في باب واحد رغم تعدد الموضوع، ونقت الحديث من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين - بخلاف الطبقة السابقة - ومن هؤلاء: بقي بن مخلد وإسحاق بن راهوية, وأحمد بن حنبل الذي انتقى مسنده المشهور - كما يقول - من 750 ألف حديث (4) , ومن هذا يتبين لنا ما كانوا يكابدونه من جهد في جمع الأحاديث, لكنهم في طريقتهم - كسابقيهم - يمزجون الصحيح بغيره من حسن وضعيف.
__________
(1) انظر تقييد العلم: للخطيب البغدادي ص 105 وما بعدها.
(2) حجة الله البالغة ج1 ص 148 عن رسالة أبي داود لأهل مكة, ولم أجده في الرسالة المطبوعة.
(3) سير أعلام النبلاء ج8 ص 111.
(4) السير ج 11 ص 329.(48/40)
فجاء من بعدهم من قام بالعبء العظيم وأفرد الصحيح في كتاب مستقل, وهما الإمامان الجليلان البخاري ومسلم, وهما كفئان لهذا العمل الجليل, فقد كان البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح (1) ، وكذلك مسلم، فقد صنف صحيحه - كما يقول - من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة (2) ، وبعد أصحاب المسانيد والصحاح تتابعت عقود السنن تترى من أبي داود والنسائي والترمذي.. وغيرهم، وبهذا تم جمع الحديث وتطهيره من دنس الوضع ومخلفاته.
الفصل الثاني: الاهتمام بالإسناد
__________
(1) تذكرة الحفاظ: للذهبي ج 2 ص 556.
(2) المصدر السابق ج 2 ص 589.(48/41)
لقد أحس المسلمون - وخاصة العلماء - بالخطر الداهم الذي نشأ مع الوضع، فانتدبوا للمحافظة على السنة واجتهدوا في ذلك، فعنوا بالإسناد واهتموا به، وفحصوا أحوال الرواة بعد أن كانوا يرجحون توثيق من حدثهم، وطلبوا الأسانيد منهم قبل المتون، لأن السند للخبر كالنسب للبشر، ويخبرنا الإمام محمد بن سيرين عن ذلك فيقول: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة, قالوا: سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" (1) ولذا نجدهم يتواصون بالاهتمام بالاسناد والسؤال عنه, يقول هشام بن عروة: "إذا حدثك رجل بحديث، فقل عن من هذا" (2) لأنه إذا أخبر عن الراوي بلسان المقال, فكأنه أخبر عن حال المروي بلسان الحال, وبالإضافة إلى ما تقدم, فقد حثوا العامة على الاحتياط في حمل الحديث, وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به علماً وديناً, فهذا محمد بن سيرين يقول: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" (3) وقد شاعت كلمته وغيرها في الناس, فأصبح الإسناد أمراً بديهياً حتى عند العامة (4) . ولشدة اهتمام الأمة بالإسناد عده علماؤها من فروض الكفاية, قال الحافظ ابن حجر: "ولكون الإسناد يعلم به الموضوع من غيره, كانت معرفته من فروض الكفاية" (5) .
الفصل الثالث:
مضاعفة النشاط العلمي في قواعد الحديث
من خلال النظر في الكتب المتعددة المصنفة في علوم الحديث، يتبين لنا الجهود التي بذلها علماء الأمة في تقعيد علم الحديث، وكيف قسمه أكثر العلماء إلى رواية ودراية, وكيف كانت جهود العلماء في هذين المجالين, وحين ظهر الوضع في الحديث ضاعف العلماء نشاطهم في الرواية والدراية على حد سواء.
__________
(1) صحيح مسلم (المقدمة) ج1 ص15.
(2) الجرح والتعديل ج 2 ص 34.
(3) صحيح مسلم (المقدمة) ج1 ص14.
(4) انظر: أصول الحديث: للخطيب ص 428.
(5) قواعد التحديث: للقاسمي ص 174.(48/42)
ففي الرواية: هرعوا إلى من بقي من الصحابة رضي الله عنهم يسألونهم عما يسمعون من الأحاديث وهل قالها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أم هي كذب مصنوع، ولحكمة يعلمها الله مد في أعمار بعض الصحابة كعبد الله بن عباس وعائشة وجابر وأنس وعامر بن الطفيل, فساعدوا في حفظ السنة من الضياع, وكذلك فعل الأتباع مع التابعين, يقول الأوزاعي: "كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الدرهم الزائف على الصيارفة, فما عرفوا منه أخذنا, وما تركوا تركنا" (1) . وفي علم الرواية أيضاً: نشأ ما يسمى بـ"الرحلات" فقد قطع الرواة الفيافي والقفار، للتأكد من حديث سمعوه، خشية خطأ الراوي أو تعمده في الزيادة. فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يسير شهراً إلى الشام ليسأل عبد الله بن أنيس رضي الله عنه حديثاً سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ، وهذا سعيد ابن المسيب يقول: "إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد (3) " ويقول أبو العالية: "كنا نسمع بالرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما نرضى حتى أتيناهم فسمعنا منهم" (4) .
أما علم الحديث دراية, فقد كان من ثمار نشاطهم فيه الشيء الكثير, فقد وضع العلماء قوانين مخصوصة يتميز بها الغث من السمين, وجعلوها قائمة على أصول أسسوها ليبنوا عليها أحكامهم, ومنها:
1 - فن التواريخ, ليعلم منه تاريخ الراوي ووفاته, يقول سفيان الثوري: "لما استعمل الرواة الكذب, استعملنا لهم التاريخ" (5) .
2 - فن الجرح والتعديل, وبه استطاعوا معرفة أحوال الرواة, فانكشف لهم الوضاعون.
__________
(1) الموضوعات: لابن الجوزي ح1 ص 103.
(2) انظر: علوم الحديث: لابن الصلاح ص 8.
(3) الرحلة في طلب الحديث ص127.
(4) المرجع السابق ص93.
(5) الكفاية في علم الرواية ص 147.(48/43)
3 - النظر في كيفية التحمل وأخذ الرواة بعضهم عن بعض, وعن طريقه عرف العلماء اتصال الروايات من انقطاعها.. إلى غير ذلك من القواعد التي وضعوها لدراية الحديث, وبها حققوا أقصى ما في الوسع الإنساني، احتياطاً لدينهم, وأرسوا أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأرقاها، وقد قلدهم فيها علماء الفنون النقلية الأخرى من لغة وأدب وتاريخ ونحوها, فابن قتيبة الذي يعد من أوائل نقاد الأدباء, استمد ذلك من معارفه الحديثية, وكذلك فعل ابن خلدون في تمييزه الزائف من أخبار المؤرخين, فمقاييسه التي طبقها هي بعينها الأمثلة التي وضعها مسلم لمعرفة المنكر من الحديث (1) .
يقول السباعي رحمه الله تعالى: "وقد ألف أحد علماء التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصول الرواية التاريخية, اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث, واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات" (2) والمؤلف المقصود هو أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً, والكتاب هو "مصطلح التاريخ".
الفصل الرابع: نقد الرواة وتتبع الكذبة
فأما نقد الرواة:
__________
(1) انظر: مجلة الأزهر: مجلد 38 سنة 1386 ص 454.
(2) السنة ومكانتها ص 126.(48/44)
فقد أبلوا فيه بلاء حسنا, وتتبعوا الرواة ودرسوا حياتهم وتاريخهم وسيرهم وما ظهر من أمرهم وما بطن, ولم يخشوا أحداً، ولم تأخذهم في الله لومة لائم, ولا منعهم من تجريح الرواة والتشهير بهم ورع ولا حرج, فكان شعبة يقول: "تعالوا حتى نغتاب في الله عز وجل" (1) وسئل أن يكف عن بيان - أحد الكذابين - فقال: "لايحل الكف عنه، لأن الأمر دين" (2) يقول الإمام النووي: "اعلم أن جرح الرواة جائز بل واجب بالإتفاق، للضرورة الداعية إليه, لصيانة الشريعة المكرمة, وليس هو من الغيبة المحرمة, بل هو من النصيحة لله تعالى ولرسوله والمسلمين" (3) لذا نشط العلماء في هذا الباب حتى أصبح علماً قائماً بذاته وهو "علم الجرح والتعديل" وهو ميزان للرواة يعرف به الثقة من الوضاع, ويختص بسند الحديث, وصرح بعضهم بأنه نصف العلم (4) .
وأما تتبع الكذبة:
__________
(1) الموضوعات: المقدمة ج1 ص 50.
(2) نفس المرجع السابق ج1 ص 50.
(3) شرح صحيح مسلم للنووي ج1 ص 60.
(4) انظر: مقدمة تحفة الأحوذي: للمباركفوري ص 152.(48/45)
فهو تطبيق عملي لما نتج عنه نقد الرواة, وهو جهاد فعلي يسطر بالذهب من جهود العلماء في مقاومة الوضع, فكما أنهم قاوموهم بسلاح الفكر, كذلك قاوموهم بسلاح اليد واللسان, فقد كان بعضهم يحارب القصاص والكذابين ويمنعهم من التحديث, فهذا عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما حين دخل المسجد فوجد قاصاً يقص, فوجه إلى صاحب الشرطة أن أخرجه فأخرجه (1) , وكذلك فعل أبوه عمر من قبله, ومن أشهر من عرف بتصديه لهؤلاء من التابعين: عامر الشعبي, سفيان الثوري, عبد الرحمن بن المهدي وغيرهم, وأخبارهم في هذا المضمار اكثر من أن تحصى, فقد روى عبد الملك الجدي قال: "رأيت شعبة مغضباً مبادراً, فقلت: مه يا أبا البسطام؟ فأراني طينة في يده وقال: استعدي على جعفر بن الزبير، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) وروى الإمام مسلم عن حمزة الزيات قال: "سمع مرة الهمداني من الحارث الأعور شيئاً فقال له: اقعد بالباب, قال: فدخل وأخذ سيفه، قال: وأحس الحارث بالشر فهرب" (3) .
ونتيجة لذلك توارى كثير من الكذابين, وأصبح عند العامة وعي جيد, يميزون به بين المحدثين والمتطفلين.
الفصل الخامس: التأليف في الوضاعين
تتجلى ثمرة الجهود العظيمة التي بذلها العلماء من أجل حفظ الحديث وتخليصه من الوضع, في تلك الثروة العلمية الضخمة من كتب الموضوعات والوضاعين, فنتيجة لما تقدم من نقد الرواة وتتبع الكذبة, سجلوا أولئك الوضاعين في الصحف، كي يعرفهم من بعدهم فيجتنب أحاديثهم, واستلوهم من رواة الحديث كما تستل الشعرة من العجين, فطهروا منهم السنة الشريفة تطهيراً.
__________
(1) تحذير الخواص: للسيوطي ص 214.
(2) تهذيب الكمال ج5 ص34.
(3) صحيح مسلم المقدمة ج1 ص19.(48/46)
فوضع كثير من العلماء مؤلفات خصصوها للضعفاء والمتروكين من رواة الحديث, وأدرجوا فيها أسماء الوضاعين وأوصافهم وأقوال العلماء في نقدهم وتجريحهم, وذلك ككتب "الضعفاء" للإمام البخاري والنسائي وأبي حاتم ابن حبان, ثم جاء من بعدهم عبد الله بن عدي الجرجاني, فألف كتابه "الكامل " ذكر فيه كل من تكلم فيه ولو كان من رجال الصحيحين, وقد بلغ فيه أوج الكمال, وهو في مقدار ستين جزءاً في اثني عشر مجلداً, كما قال الكتاني (1) . وقد طبع هذا الكتاب في سبعة مجلدات كبار.
وكذلك أدرجوا الوضاعين في كتب التاريخ التي صنفت في أسماء الرجال وأخبارهم ومنها "تاريخ البخاري" الكبير والأوسط والصغير, وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي, وتاريخ أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني, وتاريخ جرجان للسهمي وتاريخ دمشق لابن عساكر و"المنتظم" لابن الجوزي (2) وبعد هؤلاء جاء الحافظ الذهبي فوضع كتابه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" وقد احتوى هذا الكتاب المطبوع في أربعة مجلدات ضخمة على ذكر الكذابين والوضاعين, ثم على المتهمين بالوضع, لكنه ذكر فيه كثيراً من الثقات - كما قال المباركفوري - تبعاً لابن عدي الذي أورد في "الكامل" كل من تكلم فيه ولو كان من رجال الصحيحين (3) , وقد فات الذهبي جماعة ذيلهم عليه الحافظ العراقي, وقد عقب عليه أيضا الحافظ ابن حجر في كتابه "لسان الميزان".
__________
(1) الرسالة المستطرفة للكتاني ص 145.
(2) انظر: توضيح الأفكار: للصنعاني ح1 ص 46،47.
(3) مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري ص 103.(48/47)
ومع كثرة الوضاعين وضخامة ما ألف في ذكرهم من كتب, لم أجد من أفردهم في كتاب مستقل سوى الحافظ برهان الدين ابراهيم الحلبي في كتابه "الكشف الحثيث عن من رمي بوضع الحديث" قال السخاوي: "وهو قابل للاستدراك (1) . وقد عقد الحافظ ابن عراق الكناني لهم فصلاً في مقدمة كتابه تنزيه الشريعة المرفوعة, وذكر فيه أسماء عدد كثير منهم وقد بلغت الأسماء (1774) اسماً.
الفصل السادس: التأليف في الموضوعات
لم يكتف علماؤنا الأجلاء بتسجيل هؤلاء الكذبة, بل جمعوا أكاذيبهم ودونوها ليس من قصد أن يقرأها الناس ثقافة خالصة, للتزود بالمعلومات, كلا.. بل لكي يجتنبوها وينبهوا إخوانهم على أضرارها وآفاتها, فهو من باب "عرفت الشر لا للشر.. لكن أتقيه".
من أجل هذا فقد جمع كثير من العلماء ما تناثر في كتب من سبقهم من الموضوعات, فأودعوها أسفاراً أشهروها بين الناس, وفيها ما هو خاص بالأحاديث الموضوعة وتبلغ أربعين مؤلفا تقريباً (2) , ومن أهمها الكتب الآتية وقد رتبتها حسب وفيات المؤلفين:
1 - تذكرة الموضوعات: لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي, توفي سنة 507 ورتبه على حروف المعجم, وفيه يذكر الحديث ومن جرح راويه من الأئمة, طبع بمصر سنة 1323هـ. وقد أعيدت طباعته عدة مرات, وكان آخرها في مطبعة النهضة الحديثة سنة 1401هـ.
2 – الموضوعات من الأحاديث المرفوعات: ويقال له "الأباطيل" لأبي عبد الله الحسين ابن إبراهيم الجورقاني المتوفى سنة 543 وقد اكثر فيه من الحكم بالوضع بمجرد مخالفته السنة الصريحة. (3) , وقد طبع هذا الكتاب تحت اسم (الأباطيل والمناكير) بتحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن الفريوائي سنة 1403هـ بالمطبعة السلفية في الهند.
__________
(1) فتح المغيث: للسخاوي ح1 ص 239.
(2) انظر: أصول الحديث: للخطيب ص 435.
(3) انظر: الرسالة المستطرفة: للكتاني ص 149.(48/48)
3 - الموضوعات: لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي توفي سنة 597هـ وهو أكبر كتب الموضوعات وأشهرها, تناول فيه ما ورد من الأحاديث التي يعتقد أنها موضوعة في "الكامل" لابن عدي, وكتب الضعفاء لابن حبان والعقيلي والأزدي, ومعاجم الطبراني الثلاثة, إلا أنه تساهل في الحكم على بعض الأحاديث بالوضع, فذكر حديثين في صحيح مسلم وحديثاً في البخاري وثمانية وثلاثين حديثاً في مسند أحمد, وقد تعقبه بعض العلماء ونبهوا على ما تساهل فيه (1) , طبع هذا الكتاب بمصر سنة 1386 في ثلاثة مجلدات كبار.
4 - المغني عن الحفظ والكتاب بقولهم لم يصح شيء في هذا الباب: للحافظ أبى حفص عمر بن بدر الموصلي المتوفى سنة 623, اكتفى فيه بذكر الأبواب التي لم يصح فيها شيء, وقد تعقب, قال السخاوي: وعليه فيه مؤاخذات كثيرة. وإن كان له سلف من الأئمة" (2) طبع الكتاب بالقاهرة سنة 1342 هـ. كما طبع مرة أخرى في دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1407هـ مع حاشية واسعة للاستدراك عليه تحت اسم جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب للشيخ إسحاق الحويني.
5 - الدرر الملتقط في تنبيه الغلط: للعلامة رضي الدين حسن بن محمد العمري المعروف بـ (الصغاني) المتوفى سنة 650, وقد تعقبه العلماء أيضاً.
6- موضوعات الصغاني: رضي الدين الحسن بن محمد العمري - المتقدم - جمع فيها - كسابقتها - بعضاً من الأحاديث الموضوعة وأدرج فيها كثيراً من الأحاديث التي لم تبلغ درجة الوضع (3) . وقد طبع الكتابان في كتاب واحد الأول تحت عنوان الدر الملتقط والثاني تحت عنوان الموضوعات بتحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي في بيروت دار الكتب العلمية سنة 1405هـ.
7- الأحاديث الموضوعة التي يرويها العامة والقصاص: وهي رسالة لعبد السلام بن عبد الله.. ابن تيميه, جد شيخ الإسلام توفي سنة 652هـ.
__________
(1) انظر: السنة ومكانتها: للسباعي ص 140.
(2) انظر: الرسالة المستطرفة ص 152.
(3) الرسالة المستطرفة ص 152.(48/49)
8- اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: للإمام السيوطي المتوفى سنة 911, اختصر فيه كتاب الموضوعات لابن الجوزي, وحرر فيه تعقباته وانتقاداته عليه, وزاد فيه موضوعات أخرى لم يذكرها ابن الجوزي, طبع اللآلئ طبعات عده منها: طبعة مصر سنة 1352هـ في جزئين, وأعيد تصويره في مطبعة دار المعرفة في بيروت سنة 1403هـ.
9- الذيل على اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للإمام السيوطي, وقد ذكر فيه عدداً آخر من الأحاديث الموضوعة لم يذكرها في الأصل ويسمى أيضاً (الذيل على الموضوعات) وله كتاب في التعقيب على الموضوعات أسماه (النكت البديعات على الموضوعات) ثم اختصره في كتاب آخر سماه (التعقبات على الموضوعات) وعدد الأحاديث التي تعقبه فيها ثلاثمائة ونيف (1) , طبع (الذيل) في الهند سنة 1303هـ, كما طبع ملحقاً باللآلئ في بعض طبعاته.
10- الفوائد المجموعة في بيان الأحاديث الموضوعة: لشمس الدين محمد بن يوسف بن علي الشامي الصالحي, صاحب السيرة توفي سنة 942 وقد أشار إلى هذا الكتاب في سيرته.
11 - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني المتوفى سنة 963, لخص فيه ما في موضوعات ابن الجوزي واللآلي للسيوطي وما وقف عليه مما لم يذكراه, ورتبه على الأبواب كترتيبهما (2) , وقدم له بمقدمة شاملة عن الوضع وسرد فيه أسماء مشاهير الوضاعين, طبع بمصر سنة 1378 في مجلدين, وأعيدت طباعته في مطبعة دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1401هـ.
12- تذكرة الموضوعات: لرئيس محدثي الهند جمال الدين محمد بن طاهر الفتني المتوفى سنة 976هـ وله أيضاً "قانون الأخبار الموضوعة والرجال الضعفاء" طبعا جميعاً في مجلد واحد سنة 1343هـ. وأعيدت طباعته بالأوفست في دار إحياء التراث العربي في بيروت سنة 1399هـ.
__________
(1) الرسالة المستطرفة ص 150.
(2) انظر: تنزيه الشريعة: المقدمة ص ع.(48/50)
13- الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: ويسمى "تذكرة الموضوعات" للشيخ: الملا علي القاري الهروي المتوفي سنة 1014, استفاد فيه من جهود من تقدمه, واهتم بما يدور على الألسنة - كما يقول محققه (1) طبع بالأستانة باسم "موضوعات كبير" وطبع مرة أخرى بتحقيق الأستاذ محمد الصباغ باسم "الأسرار المرفوعة " سنة 1391هـ.
14- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع: للملا علي القاري, وقد رتبه - كسابقه - على حروف الهجاء, وقد بلغت أحاديثه حسب تعداد المحقق 417 حديثاً (2) , طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبوغدة في لبنان سنة 1389هـ.
15- الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة: للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي المتوفى سنة 1033هـ وقد نشره الأستاذ الصباغ محققاً في العدد السادس من مجلة "أضواء الشريعة" سنة 1395هـ. ثم طبع هذا الكتاب منفرداً بتحقيق الأستاذ الصباغ في بيروت, الدار العربية سنة 1395هـ.
16- الكشف الإلهي عن شديد الضعف والواهي: لمحمد بن محمد الحسيني السندروسي المتوفى سنة 1177هـ جمع فيه الأحاديث الشديدة الضعف والواهية والموضوعة, وقد رتب أحاديثه على حروف المعجم, وجعل في كل حرف ثلاثة فصول لكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة, وقد طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور محمد محمود بكار, ونشرته مكتبة الطالب الجامعي سنة 1408هـ.
17- الدرر المصنوعات في الأحاديث الموضوعات: للشيخ محمد بن أحمد السفاريني المتوفى سنة 1188هـ, وقد اختصر فيه كتاب "الموضوعات" في مجلد ضخم (3) .
18- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: للقاضي محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ, وقد استفاد من مؤلفات السابقين مع زيادة وقف عليها في كتب الجرح والتعديل - كما يقول (4) , طبع في القاهرة سنة 1380هـ.
__________
(1) الأسرار: مقدمة المحقق ص 14.
(2) انظر: المصنوع ص 177..
(3) الرسالة المستطرفة ص 150.
(4) الفوائد المجموعة ص 4.(48/51)
19- الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: للعلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي المتوفى سنة 1304هـ وقد طبعت هذا الكتاب ونشرته "دار إحياء السنة" في باكستان, بدون تاريخ, وقد أعيدت طباعة هذا الكتاب بتحقيق الشيخ محمد السعيد ابن بسيوني زغلول ونشرته دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1405هـ.
20- اللؤلؤ المرصوع فيما قيل لا أصل له أو بأصله موضوع: للشيخ محمد بن خليل القاوقجي المتوفى سنة 1305هـ (1) , وقد طبع هذا الكتاب في بيروت طبعته دار البشائر سنة 1415هـ.
21- تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين لمحمد البشير ظافر المتوفى سنة 1325هـ ذكر فيه الأحاديث الموضوعة المشتهرة على الألسنة ورتبها على حروف المعجم, طبع هذا الكتاب بمصر سنة 1321هـ, وأعيدت طباعته بتصحيح وتعليق محي الدين مستو، ونشرته مكتبة دار التراث سنة 1405هـ.
22- الجد الحثيث في بيان ماليس بحديث: للشيخ أحمد بن عبد الكريم العامري الغزي, وقد طبع هذا الكتاب في طبعته الثانية ونشرته دار الراية بالرياض, قراءة وتصحيح الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد سنة 1413هـ.
23- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني, وهي سلسلة مقالات نشرها في مجلة "التمدن الإسلامي" ثم رأى طبعها تباعاً في أجزاء متسلسلة, وكل جزء 100 حديث, وكل خمسة أجزاء في مجلد (2) , وقد صدر الجزء الأول من هذه السلسلة في دمشق سنة 1379هـ. واستمرت في الصدور, وكان آخرها - فيما أعلم - المجلد الخامس وقد نشرته مكتبة المعارف بالرياض سنة 1417هـ.
وبالإضافة إلى ما تقدم من الكتب المؤلفة في الموضوعات خاصة, فقد تلقف العلماء رحمهم الله, ما يدور على ألسنة العامة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, واختبروها فعرفوا صحيحها من زائفها ونشروا ذلك في مؤلفات بين الناس, من أهمها:
__________
(1) الرسالة المستطرفة ص 120.
(2) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة.. المقدمة ص 4.(48/52)
1- التذكرة في الأحاديث المشتهرة: لبدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ. وطبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ مصطفى عبد القادر عطا وطبعته دار الكتب العلمية في بيروت الطبعة الأولى سنة 1406هـ.
2- اللآلي المنثورة في الأحاديث المشهورة, مما ألفه الطبع وليس له أصل في الشرع: للحافظ شهاب الدين ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ (1) .
3- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902هـ, وقد رتبه على حروف المعجم, وهو كتاب جيد طبع سنة 1375هـ بمصر, وأعيدت طباعته ونشره عدة مرات كان آخرها في مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 1405هـ.
4- الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: لجلال الدين السيوطي لخصه من "التذكرة" للزركشي وزاد عليه, وقد طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ خليل محي الدين الميس, وطبعته دار العربية ونشره المكتب الإسلامي, الطبعة الأولى سنة 1404هـ.
5- الوسائل السنية من المقاصد السخاوية والجامع والزوائد السيوطية: لعلي بن محمد المنوفي المتوفى سنة 939 لخصه من الكتب الثلاثة التي ذكرها.
6- تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث لعبد الرحمن بن علي بن الديبع المتوفى سنة 944 لخص فيه "المقاصد" وبين ما هو صحيح وموضوع, وقد طبع بالقاهرة سنة 1324هـ وأعيدت طباعته ونشره في القاهرة في مكتبة محمد على صبيح سنة 1382هـ.
7- البدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير: لعبد الوهاب بن أحمد الشعراني المتوفى سنة 973 انتخبها مما تقدم من الكتب وكذلك من كتاب "الغماز على اللماز" لجلال الدين السمهودي, وقد طبع هذا الكتاب قديماً بالقاهرة سنة 1277هـ.
8- تسهيل السبيل إلى كشف الالتباس عما دار من الأحاديث بين الناس: لمحمد بن أحمد القادري المتوفى سنة 1075هـ.
وغير ذلك.
الخاتمة
__________
(1) انظر السنة قبل التدوين ص 290.(48/53)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, وعليه يصلح أمر الدنيا والآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين وصفوة الخلق أجمعين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فها أنذا الآن أقف على عتبة النهاية، لأودع تلك الخلاصة المباركة, التي سرت فيها - ما استطعت - مع الوضع في مساره عبر تاريخه الطويل, الحافل بالكذب والأباطيل من ناحية, وبالجهد والجهاد والمقاومة من ناحية أخرى.
فأولاً: مهدت للموضوع بكلمات موجزة عن الحديث الموضوع وبينت تعريفه وحكم وضعه مرجحاً أنه من اكبر الكبائر, ثم تحدثت عن حكم روايته وأنه حرام بالإجماع إلا إذا بين الراوي حاله, وصرح بأنه موضوع.
ثانياً: تحدثت عن آثار الوضع السلبية ومبلغ الجروح التي أحدثتها في الأمة في دينها ومجتمعها واقتصادها ونفوس أبنائها, ثم عن ظاهرة القصاص وكيف أنها برمتها أثر من آثار وضع الحديث.
ونظرة عاجلة إلى تلك الآثار, تعطي القارئ درساً وعظة, فهي تنبيء عن المسئولية الضخمة الملقاة على عاتق الشباب المسلم في هذا العصر وفي هذا المضمار بالذات. وتنبئ عن الضرورة الملحة في الحذر من الوضاعين والموضوعات في جميع مجالات الحياة كي لا تتكرر المآسي, وتتجدد الآثار.
ثالثاً: أوضحت - ما أستطعت - بعض جهود العلماء لمقاومته في جميع الجهات من جمع للأحاديث الثابتة في مسانيد وصحاح وسنن ومصنفات، ومن اهتمام بالإسناد ووضع لقواعد علوم الحديث, وكيف أن هذين الموضعين كَوَّنا أصول النقد في العلوم الأخرى من أدب وتاريخ.. ونحوهما، ثم عن جهد العلماء في نقد الرواة وتتبع الكذابين في كل مجال, ثم عن التأليف والتصنيف في الوضاعين والموضوعات.(48/54)
ومن خلال الطرح السابق للقضايا المقصودة بالبحث يتبين لنا عظم المسؤلية الملقاة على طلبة العلم وبالذات المتخصصين في هذا المجال، فالتخلص من الوضع وخلفياته واجب إسلامي يحتّمه الواقع الذي نعيش فيه، وهي مهمة سهلة لمن وفقه الله, تتمثل في تهيئة المرء نفسه ليكون جندياً يذب عن حمى السنة المنيع, فيكوّن من نفسه عيوناً مبصرة وآذانا صاغية, لكل ما ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير, ثم يعرضه على موازين الأخبار التي نصبها العلماء الأجلاء في علامات الوضع, فما انطبقت عليه تلك العلامات أو بعضها وجب إطراحه، لأنه حينئذ كذب مصنوع, وبالتالي تنبيه قائله بأنه إنما يفرغ من فمه سماً زعافاً، لا كلاماً مباحاً فحسب, بَلْه أن يكون عسلاً مصفى عن الرسول.
ولا يمنعنا كون المتكلم ذا جاه أو علم, ولا كون الكلام طنّاناً ومعناه رنّاناً.. كلا، فإن الأمر دين. ولاشك أن الجهد الفردي لا يكون له أثر في محيط الجماعة, إذا لم تقم كلها بهذا الواجب المقدس, وعلى مستوى الدولة أيضا، لأن الضرر إذا وقع انعكست آثاره على الجميع, يقول الشيخ الصباغ: "ولئن كانت الدول اليوم تعاقب من يقدم على تعاطي الطب وهو ليس من أهل المهنة بالعقوبات الرادعة, فإن من واجب الدولة المسلمة, أن تجعل عقوبة من يروي الأحاديث الباطلة أشد، لأن ذلك يؤذي ببدن فرد, وهذا يؤذي دين الأمة" (1) .
__________
(1) تحذير الخواص: مقدمة المحقق ص 21.(48/55)
وكما يجب علينا إماتة الموضوعات، فإنه - في اتجاه مقابل- يتحتم علينا إحياء السنة الصحيحة ونشرها بين الناس، ليكونوا على معرفة تامة بحقائق دينهم, يقول صلى الله عليه وسلم: "نضَّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه, فرب مبلغ أوعى من سامع" (1) وقد خص المبلغ كما سمع بهذا الدعاء لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، وقوله: "كما سمع" يعطي مفهوماً آخر, وهو ضرورة التحرز والحذر في نقل الصحيح، ولاشك أن هذا العمل شرف عظيم يتطلب الجد والمثابرة وتحمل الصعاب الشداد في سبيل تحصيله والمحافظة عليه, فإنه علم تصح به العقيدة ويصلح به الدين، وبه تحصل السلامة في الدنيا والآخرة, ونعني بهذا العلم "علم السنّة المطهرة" الذي به تستقيم الأمور, فهو من أشرف العلوم, لأن شرف العلم يكون بشرف المعلوم.
__________
(1) رواه أبو داود في سننه في كتاب العلم باب فضل نشر العلم (4 /68 –69 حديث رقم 3660) والترمذي في سننه في كتاب العلم باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/33-34 حديث رقم 2657) وابن ماجة في سننه في المقدمة باب من بلغ علماً (1/84 حديث رقم 230) والإمام أحمد في مسنده (5/183) كلهم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً، واللفظ للترمذي، ثم قال بعد سياقه له حديث حسن. قال: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأنس.(48/56)
ومن المؤسف أن هذا العلم لم يؤت حقه كاملاً من البحث والتنقيب كغيره من العلوم في هذا العصر, مع أنه المرتكز الأساس الذي يقوم عليه عمود الدين بعد القرآن الكريم, نسأل الله أن يهيئ له أنصاراً يقومون به حق القيام, وسيكون ذلك - إن شاء الله - إنفاذاً لو عده صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحق, لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (1) يقول الأمام أحمد: "إن لم تكن الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري منهم" (2) .
وفي الختام: فهذا ما أردت بيانه في هذا المقام فإن أصبت فمن توفيق الرحمن, وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكلي أمل أن أكون قد وفقت لعرض هذا الموضوع بشكل يحقق الغاية المنشودة, فإني لم آل جهداً ولم أدخر وسعاً في سبيل الوصول إلى الحقيقة الصافية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم: كتاب الله عز وجل
- الأباطيل والمناكير: للحافظ أبي عبد الله الحسين ابن إبراهيم الجورقاني, تحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي, الطبعة الأولى في المطبعة السلفية بنارس الهندية 1403هـ.
__________
(1) ورد هذا الحديث بألفاظ متقاربة عن عدد من الصحابة فرواه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام باب قول النبي عن رسول الله لا تزال طائفة (13 /293 حديث رقم 7311) عن المغيرة بن شعبة - مرفوعاً مختصراً.
ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم (1/137 حديث رقم 247/56) عن جابر بن عبد الله ... مرفوعاً قريباً من هذا.
ورواه أيضاً في صحيحه في كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة ... " (3/ 1523 حديث رقم 170/1920) - عن ثوبان.... مرفوعاً بهذا اللفظ.
(2) معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص 2.(48/57)
- أحاديث القصاص: لشيخ الإسلام ابن تيميه, تحقيق الشيخ محمد الصباغ, الطبعة الأولى, نشر المكتب الإسلامي في بيروت سنة 1392هـ.
- الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (الموضوعات الكبرى) للعلاقة نور الدين علي بن محمد المشهور بالملا علي القاري تحقيق وتعليق الشيخ محمد الصباغ, الطبعة الأولى, نشر مؤسسة الرسالة سنة 1391هـ.
– أصول الحديث, علومه ومصطلحه للدكتور محمد عجاج الخطيب الطبعة الثالثة, مطبعة دار الفكر سنة 1395هـ.
- تحذير الخواص من أكاذيب القصاص: للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي, تحقيق الشيخ محمد بن لطفي الصباغ منشورات المكتب الإسلامي بدمشق الطبعة الأولى سنة 1392هـ.
- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للشيخ محمد بن عبد الرحمن المباركفوري طبع دار الكتب العلمية في بيروت الطبعة الأولى سنة 1410هـ.
- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: المتن: للإمام النووي، والشرح للإمام جلال الدين السيوطي منشورات المكتبة العلمية بالمدينة المنورة, الطبعة الثانية سنة 1392هـ.
– تذكرة الحفاظ: للإمام أبي عبد الله شمس الدين بن محمد الذهبي, طبع في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد بالهند سنة 1377 هـ, وصوّرته ونشرته في طبعته الثالثة دار إحياء التراث العربي في بيروت.
– تقيد العلم للحافظ الخطيب البغدادي تحقيق يوسف العش نشر دار إحياء السنة النبوية الطبعة الثانية سنة 1974م.
– تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة للشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني, حققه وراجع أصوله وعلق عليه عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمد الصديق, طبع ونشر دار الكتب العلمية في بيروت الطبعة الثانية سنة 1401هـ.
- توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: للعلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني, تحقيق الشيخ / محمد محي الدين عبد الحميد طبع دار السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1366هـ وأعادت تصويره ونشره دار الفكر بدمشق.(48/58)
– تهذيب الكمال في أسماء الرجال للإمام المزي تحقيق وتعليق الدكتور بشار عواد معروف طبع مؤسسة الرسالة في بيروت الطبعة الأولى سنة 1408هـ.
– الجرح والتعديل: للإمام أبي محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي, طبع في مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد بالهند الطبعة الأولى, سنة 71 - 1373هـ, وأعادت تصويره ونشره دار إحياء التراث العربي في بيروت.
– حجة الله البالغة للعلامة ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي, طبع ونشر دار التراث بمصر سنة 1355هـ.
- الحديث النبوي: مصطلحه, بلاغته.. للشيخ محمد ابن لطفي الصباغ طبع ونشر المكتب الإسلامي في بيروت الطبعة الأولى سنة 1392هـ.
- الحديث والمحدثون: لشيخ محمد محمد أبو الزهو، طبع شركة المطبعة المصرية بالقاهرة، الطبعة الأولى سنة 1378هـ.
- حلية الأولياء, وطبقات الأصفياء: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني, طبع دار الكتاب العربي في بيروت الطبعة الرابعة سنة 1405هـ.
- الرحلة في طلب الحديث، للخطيب البغدادي، تحقيق وتعليق الدكتور نور الدين عتر، طبع ونشر دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى سنة 1395هـ.
- الرسالة المستطرفة, لبيان مشهور كتب السنة المشرفة: للعلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني, طبع دار الفكر بدمشق الطبعة الثالثة سنة 1383هـ.
- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني طبع المكتب الإسلامي في بيروت الطبعة الخامسة سنة 1405هـ.
- السنة قبل التدوين: للدكتور محمد عجاج الخطيب طبع دار الفكر بدمشق الطبعة الثانية سنة 1391هـ.
- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي طبع مطبعة المدني بالقاهرة الطبعة الأولى سنة 1379هـ.
- سنن ابن ماجة: للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني " ابن ماجة " حقق نصوصه ورقمه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي طبع دار إحياء التراث العربي بالقاهرة الطبعة الثانية سنة 1395هـ.(48/59)
- سنن أبي داود: للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني, تحقيق وتعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد طبع ونشر دار الحديث بحمص, الطبعة الأولى, سنة 1389 - 1394هـ
- سنن الترمذي وهو الجامع الصحيح: للإمام الحافظ محمد بن عيسى بن سورة الترمذي تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف, طبع ونشر دار الفكر في بيروت, الطبعة الثانية سنة 1403هـ.
- سنن الدارمي: للإمام الحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن ابن الفضل الدارمي طبع ونشر دار الكتب العلمية ودار إحياء السنة النبوي في بيروت بلبنان.
- سنن النسائي (الصغرى، المجتبي) للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي. طبع في المطبعة المصرية بالأزهر بالقاهرة سنة 1348هـ, وقد أعيد تصويره بعناية وفهرسة الشيخ عبد الفتاح أبوغدة في طبعته الثانية سنة 1406هـ طبعة دار البشائر الإسلامية في بيروت ونشره مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
- سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي، أشرف على تحقيقه وخرج أحاديثه شعيب الأرنؤوط، طبع ونشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
- شرح النووي على صحيح مسلم (المنهاج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج) للإمام محي الدين يحيى بن شرف النووي طبع المطبعة المصرية بالقاهرة سنة 1349هـ وأعادت تصويره مكتبة دار الفكر في الطبعة الثانية سنة 1392هـ.
- صحيح البخاري (الجامع الصحيح المختصر) للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري, مطبوع مع شرحه فتح الباري، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1380-1390هـ, ونشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
- صحيح مسلم: للإمام الحافظ ابي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري. تحقيق وترقيم الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي طبع دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة سنة 1374هـ وأعادت تصويره دار أحياء التراث العربي.(48/60)
- الضعفاء الكبير: للحافظ أبي جعفر محمد بن عمر بن موسى العقيلي, تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي, طبع ونشر دار الكتب العلمية في بيروت, الطبعة الأولى سنة 1404هـ.
- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي, تحقيق الأستاذ إرشاد الحق الأثري, الناشر دار ترجمان السنة بلاهور.
- علوم الحديث: (مقدمة ابن الصلاح) للإمام أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المشهور بابن الصلاح طبع مطبعة الأصيل في حلب, الطبعة الأولى سنة 1386هـ.
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للإمام أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني, رقمه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي, أخرجه وصححه محب الدين الخطيب طبع المطبعة السلفية بالقاهرة 1380-1390هـ, ونشرته مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث: للإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوي طبع مطبعة العاصمة بالقاهرة, الطبعة الثانية سنة 1388هـ.
- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للعلامة محمد بن علي الشوكاني, بتحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي طبع مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة الطبعة الأولى سنة 1380هـ.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة عبد الرؤوف المنواي، طبع ونشر المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة سنة 1357هـ.
- الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة للعلامة مرعي الكرمي، تحقيق الدكتور محمد بن لطفي الصباغ، طبع ونشر دار الوراق بالرياض، الطبعة الثالثة سنة 1419هـ.
- القاموس المحيط: للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي, ضبط وتوثيق يوسف محمد البقاعي, طبع ونشر دار الفكر في بيروت سنة 1415 هـ الطبعة الأولى.
- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث, للشيخ محمد جمال الدين القاسمي مطبعة دار إحياء الكتاب العربي بمصر الطبعة الثانية سنة 1380هـ.(48/61)
- الكامل في ضعفاء الرجال: للإمام الحافظ أبي أحمد عبد الله ابن عدي الجرجاني, طبع ونشر دار الفكر في بيروت, الطبعة الثانية سنة 1405هـ.
- الكفاية في علم الرواية: للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي البغدادي, تحقيق وتعليق الدكتور أحمد عمر هاشم, طبع ونشر دار الكتاب العربي في بيروت, الطبعة الثانية سنة 1406هـ.
- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي طبع ونشر المكتبة الحسينية في مصر الطبعة الأولى سنة 1352هـ.
- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين: للإمام الحافظ محمد بن حبان بن أحمد, أبي حاتم البستي, تحقيق محمود إبراهيم زايد, طبع ونشر دار الوعي بحلب, الطبعة الأولى سنة 1396 هـ.
- مجلة الأزهر: مجلد 38 سنة 1386هـ مقال الشيخ علي الخفيف، والمجلة تصدر عن الجامع الأزهر وتطبع في المطبعة الأزهرية.
- المستدرك على الصحيحين في الحديث للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري, طبع في مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد بالهند سنة 1334-1342هـ واعادت تصويره ونشره دار الكتب العلمية في بيروت.
- مسند الإمام أحمد: للإمام ابي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني, طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313هـ وأعادت تصويره ونشره مطبعة المكتب الإسلامي في بيروت سنة 1389هـ.
- المصباح في أصول الحديث: للاستاذ قاسم بن عبد الجبار الاندجاني, طبع مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1379هـ.
- المصنف للإمام عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، طبع ونشر المكتب الإسلامي في بيروت الطبعة الأولى سنة 1390هـ.
- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (الموضوعات الصغرى) للعلامة نور الدين علي بن محمد المشهور بالملاعلي القاري تحقيق وتعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة, طبع في دار لبنان ببيروت الطبعة الأولى سنة 1389هـ.(48/62)
- المعجم الأوسط للإمام الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني, تحقيق الدكتور محمود الطحان طبع ونشر مكتبة المعارف بالرياض الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
- معرفة علوم الحديث: للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري, بتصحيح وتعليق معظم حسين طبع ونشر المكتب التجاري في بيروت الطبعة الأولى سنة 1373هـ.
- المقاصد الحسنة, في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: للعلامة المحدث محمد بن عبد الرحمن السخاوي, طبع ونشر دار الكتاب العربي في بيروت, الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
- المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية تحقيق وتخريج الشيخ عبد الفتاح أبو غدة طبع ونشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب الطبعة الأولى سنة 1390هـ.
- الموضوعات: للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة والطابع دار المجد بالقاهرة الطبعة الأولى سنة 1386هـ.
- ميزان الاعتدال: للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي, تحقيق, علي محمد البجاوي, طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر الطبعة الأولى سنة 1382هـ.(48/63)
قول فلاسفة اليونان الوثنيين في توحيد الربوبية
المقدمة
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فإن الله عز وجل قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأنزل كتابه ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ويهدي إلى صراط مستقيم.
وقد تنكبت البشرية طريق الهداية ووقعت في الغواية واستشرى فيها الفساد في نواحي كثيرة من مناحي حياتها، وكان من أكثر انحرافاتها خطراً وأعظمها جرماً انحرافهم في الله عز وجل، فقد ضل البشر عن ربهم ضلالاً بعيداً وجهلوه جهلاً شديداً أورثهم كثيراً من الضلالات والانحرافات.
وكان من أعظم مصادر ضلال البشر اعتمادهم على نظرهم القاصر وقياسهم الغائب على الشاهد، وقولهم على الله عز وجل بلا علم.
وكان من حاملي لواء الضلالة في العالم الفلاسفة وروادهم في ذلك الضلال المتقدمون منهم وهم فلاسفة اليونان، الذين برزوا على الناس بدعوى النظر العقلي، والتدقيق في الأمور،والمسائل المتعلقة بالإنسان، ثم لم يكتفوا بذلك، حتى جادلوا في الله عز وجل بغير علم، ولم يكن ظاهراً أمام أعينهم إلا الإنسان والمخلوقات المحيطة بهم، فقاسوا ما غاب عنهم على ما يشاهدونه، فكان ذلك من أعظم أخطائهم وغلطاتهم، ثم ما لم تسعفهم به عقولهم ونظرهم استلفوه واستلهموه من عقائد مجتمعهم، وما تربوا عليه في الأصل من الوثنيات والضلالات، فنتج عن ذلك كله مقولات في الله تبارك وتعالى هي من أفسد المقالات وأقبحها، وأكثرها بعداً عن العقل السليم، إلا أنها مع ذلك راجت على كثير من بني البشر لما لبست ثوب العلم والنظر العقلي.(48/64)
ويبدو - والله أعلم - أنها راجت بفعل وسوسة الشيطان، وقابلية كثير من الناس لذلك، لما فيها من إرضاء غرور الإنسان وإعجابه بنفسه وذكائه، فيرى أنه توصل إلى علم مغيب عنه بحسن نظره وقوة ذكائه، فيتيه بذلك كبراً وغطرسة، ويجتهد في الدفاع عن قناعته الشخصية، التي هي أشبه بالزبد الذي لا يشفي ولا يروي.
فتأثر بتلك المقولات الفاسدة كثير من أتباع الأديان، فقد دخلت على اليهود وتأثروا بها كثيراً، وأثرت في معرفتهم لربهم وعبادتهم له عز وجل، كما دخلت بشكل أكبر على النصارى، حتى آل أمر الديانة النصرانية إلى مزيج فلسفي وثني، ضاعت معه معالم التوحيد والنور.
وكما هو معلوم، فإن كلا من الديانتين السابقتين قد انطفأ نورها واستحكمت الضلالة على أهلها، بما حرفوا وضيعوا من وحي الله وشرعه، إلا أن الله تعالى الرحيم الكريم لم يترك البشر ألعوبة بيد أهل الضلالة يلقنونهم الغواية تلو الغواية، وإنما أرسل من لطفه وكرمه نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم إلى بني البشر كافة، وأنزل معه الكتاب بالحق ليقوم الناس بالقسط، ويتعرفوا على ربهم تبارك وتعالى المعرفة الصحيحة، التي تنير قلوبهم، وتشرح صدورهم وتزيح عنهم غشاوة الجهل والضلالة، وترفع عنهم إصرهم والأغلال التي غلهم بها الشيطان وحزبه من الفلاسفة، وأضرابهم من الأحبار والرهبان.(48/65)
فأنار الله بالوحي المنزل أرجاء الدنيا، وأظهر للناس المقولة الحقة في الله تبارك وتعالى، فتعرفوا على ربهم من خلال ما أنزل في كتابه، وما بينه ودعا إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، فتحولت معرفتهم بربهم وحقوقه جل وعلا من رب فقير لا حول له ولا طول ولا قدرة ولا إرادة ولا حق له ولا جزاء عنده لمطيع ولا عقوبة لعاص، إنما هو تعالى عن قولهم معطل غاية التعطيل مجحود خلقه، ومكفورة نعمته، ومعزوة إلى غيره من العقول والنفوس والأوثان والأصنام، مشكور غيره من المربوبين والمخلوقين من البشر والأصنام ـ فتحولت معرفة الناس من تلك المعرفة التي أملاها عليهم الفلاسفة، ومن أخذ بقولهم إلى أن الله تبارك وتعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ذو الجلال والإكرام، ذو الجبروت والملكوت، حي لا يموت، قيوم لا ينام، الخالق الباري المصور السميع البصير العليم الحكيم، ذو العزة والانتقام، وذو الرحمة والإنعام، لا يخفى عليه من شؤون عباده شيء، ويدبر أمورهم ويتصرف فيهم، لا يشاؤون إلا ما شاءه لهم، ولا ينالون إلا ما قضاه لهم، وهو الغني ذو الرحمة، فما من نعمة إلا هو مصدرها، وهو رازقها والمنعم بها، وما من بلية إلا هو وحده القادر على رفعها ودفعها، له العبادة وحده، وله الشكر وحده دون من سواه، وهو المتفضل على من أطاعه بجنة عرضها السماوات والأرض يوم القيامة رحمة وفضلاً، وهو المنتقم ممن عصاه في نار وقودها الناس والحجارة عدلا.(48/66)
فأشرقت الأرض بهذا العلم وهذا النور وهذه المعرفة، وثاب من شاء الله هدايته من الناس إلى ربهم، يعبدونه ويشكرونه، بعد أن عرفوه المعرفة الصحيحة، وآمنوا به الإيمان الصحيح، وخلعوا عنهم ضلالات الجاهلية وسخافاتها، واستمر هذا الحال بأمة الإسلام دهراً، إلى أن دب إليهم الداء الدوي، والشر المستطير، ألا وهو الإعراض عن الوحي، والإعجاب بالآراء والأهواء، فإذا بالطريق مطروق، والبضاعة موجودة، ألا وهي مقولات الفلاسفة، فتلقفها من المسلمين رديء الحظ، سيء النظر، ممن جهل ربه، وجهل دينه على تفاوت بينهم في مقدار الأخذ منها، فمنهم من استبدل الخبيث بالطيب، فأقصى وحي الله عز وجل، وأخذ بزبالة الأذهان، وحثالة المقولات، وجعلها أصلاً، ولم يقم لغيرها من وحي الله ونوره وزناً، وهؤلاء هم من يسمون (فلاسفة المسلمين) ويدخل فيهم الباطنيون وفلاسفة الصوفية أصحاب وحدة الوجود.
ومن المسلمين من أخذ بشيء من الفلسفة وترك شيئاً، فكان ما أخذه شر أقواله، وأخبث مقولاته، وهدم به ما قابله من نور الله ووحيه، وهؤلاء هم (المتكلمون) من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، والماتريدية، الذين أقاموا معرفتهم بالله عز وجل على قواعد فلسفية، مما ظنوا أنه لا يتعارض مع وحي الله وشرعه، وراحوا يحاولون التلفيق بين الوحي المنزل، وشرعة الفلاسفة وأنى يلتقيان:
ذهبت مشرقة وذهبت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب
فصاروا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إلا أنهم أسعد حالاً من سابقيهم، بما عندهم من الوحي والشرع.(48/67)
ولا شك أن أسعد الجميع حالاً من جعل شرع الله ووحيه هو إمامه وقائده وملهمه ومعلمه وموجهه، وهم سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن التزم بنهجهم وطريقهم من التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ممن لم يرد عن الله بديلا، ولا عن شرعه تحويلا، وقد أيقن هؤلاء أن النور والحق والنجاح والفلاح في شرع الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} النساء (122) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} النساء (87) وأن ما عداه إنما هو وسواس الشياطين، ليس له نصيب ولا حظ من العلم والحق.
وفي هذه الدراسة سنذكر قول الفلاسفة في التوحيد، ونبين بطلانه بما يفتح الله عز وجل به من أوجه بطلان تلك المقالات، وإن كان يغني عن بيان بطلان الباطل سماعه، وذلك لأن مقالة الفلاسفة هي الأصل لسائر أقوال أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة وغيرهم.
كما سنلقي قبل ذلك الضوء على مذهب السلف في التوحيد، حتى يتبين مقدار الفرق بين المقالتين، وما تضفيه مقالة الفلاسفة على النفس من الظلمة والحرج، وما تكتسي به النفوس من النور والبهاء والراحة بتعرفها على ما جاء عن الله عز وجل وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تبارك وتعالى.
وقد جعلت هذه الدراسة في مقدمة وفصلين:
الفصل الأول: تعريف موجز بمذهب السلف في التوحيد.
وفيه تمهيد ومبحث واحد في: بيان أنوع التوحيد الواجب لله عز وجل عند السلف
الفصل الثاني: قول الفلاسفة في التوحيد وفيه تمهيد ومبحثان:
أما التمهيد: ففيه تعريف الفلسفة والفلاسفة
المبحث الأول: قول ملاحدة الفلاسفة وبيان بطلانه.
المبحث الثاني: قول المؤلهة من الفلاسفة، وبيان بطلانه.
المطلب الأول: قولهم في وجود الله تعالى وصفاته، وبيان بطلانه.
المطلب الثاني: قولهم في إيجاد الكون، وبيان بطلانه.
خاتمة: وفيها أهم النتائج.
الفصل الأول:
تعريف موجز بمذهب السلف في التوحيد
تمهيد:(48/68)
قبل أن نشرع في بيان عقيدة السلف في التوحيد يجدر بنا أن نعرف بمفردات مهمة:
أولاً - السلف:
السلف لغة: جمع سالف. وهو كل من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك في السن أو الفضل (1) .
والسلف اصطلاحاً: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التابعين لهم بإحسان ومن تبعهم من أئمة الدين وأعلام الهدى، بخلاف من رمي ببدعة من الخوارج أو الشيعة أو الجهمية أو المعتزلة ونحوهم (2) .
ثانياً - التوحيد:
التوحيد لغة: مصدر وحد يوحد توحيداً، فهو موحد والواحد والأحد يدور معناه على الانفراد (3) .
والتوحيد اصطلاحاً: هو اعتقاد أن الله واحد في ذاته وواحد في ربوبيته، وواحد في أسمائه وصفاته واحد في ألوهيته وعبادته وحده لا شريك له.
فهذا التعريف يتضمن الإقرار والإيمان بأن الله واحد فرد من جميع الوجوه فهو واحد في ذاته لا ولد له ولا والد، وليس ثلاثة كما يدعيه النصارى - تعالى الله عن ذلك.
وهو واحد في ربوبيته، لا خالق معه ولا متصرف ولا مدبر لشيء في هذا الكون غيره، إنما الكون كله خلقاً وتدبيراً وتصرفاً بيده سبحانه.
وواحد في أسمائه وصفاته لا مثيل له سبحانه.
وواحد سبحانه في عبادته لا شريك له في العبادة لا أولياء ولا وسطاء، وإنما العبادة له وحده لا شريك له.
__________
(1) القاموس المحيط (ص 60) .
(2) لوامع الأنوار البهية (1/20) .
(3) المعجم الوسيط (2/1016) .(48/69)
ونشير هنا إلى أن السلف رحمهم الله لهم منهج واضح في الاستدلال على التوحيد وسائر مسائل العقيدة وتقريرها، ويمكن استخلاص هذا المنهج من كلام الآجري (1) رحمه الله؛ حيث قال في كتابه الشريعة: "باب الحث على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه رضي الله عنهم وترك البدع وترك النظر والجدال فيما يخالف فيه الكتاب والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم " (2) .
ومثله قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3) رحمه الله: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (4) .
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد" (5) .
ومن خلال ذلك نستطيع أن نستخلص أن منهج السلف في الاستدلال على التوحيد يقوم على أربع قواعد هي:
1- الاعتماد على الكتاب والسنة في أصول المسائل وتفريعاتها.
__________
(1) الآجري محمد بن عبد الله، فقيه شافعي محدث، نسبته إلى آجر من قرى بغداد،صاحب سنة واتباع. توفي سنة 360هـ. انظر: سير إعلام النبلاء 16/133-136.
(2) الشريعة (1/170) .
(3) أحمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام الشهير بابن تيمية، ألف في أكثر العلوم التآليف العديدة، وصنف التصانيف المفيدة في التفسير والفقه والأصول والحديث والكلام، وتصدى للرد على الفرق الضالة والمبتدعة، لم يسبق إلى مثل تأليفه وشهرته، توفي سنة 728هـ. انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص 61.
(4) أخرجه أبو داود في السنة 4/201.باب في لزوم السنة.
(5) العقيدة الواسطية (ص 28) .(48/70)
2- اتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
3- عدم عرض شيء من ذلك على الآراء والأهواء.
4- الحذر من البدع وأهلها.
فهذه القواعد هي عمدتهم في تقرير كل ما يتعلق بتوحيد الله تعالى، بل وجميع مسائل العقيدة والأمور الشرعية, وكل من نظر في كتبهم المصنفة في هذا الباب فإنه يجد الالتزام الواضح بهذه القواعد وتطبيقها في جليل المسائل ودقيقها.
مبحث في أنواع التوحيد الواجب لله عز وجل عند السلف
التوحيد هو رأس دعوة الرسل وغاية جهادهم وتبليغهم من لدن آدم عليه السلام إلى آخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي في الدلالة على ذلك قوله عز وجل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} النحل (36) .
وقال عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء (25) .
وقد ذكر الله عز وجل عن سائر أنبيائه دعوتهم إلى التوحيد والتركيز عليه فهو البداية وهو الغاية.
وهذا التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام وحققوه في أنفسهم وطلبوا من الناس تحقيقه هو توحيد الله بالعبادة، وهو وإن كان أحد أنواع التوحيد كما سيتبين إلا أنه أهمها وأعظمها،والإقرار به متضمن للإقرار بما سواه والانحراف عنه هو ديدن بني آدم من المشركين والكفار، لهذا كان الاعتناء به والبداءة بتحقيقه أولاً قبل أي مطلب آخر هو منهج الأنبياء عليهم السلام.
وكما هو ظاهر فإن من أقر لله عز وجل بالألوهية وعبده دون غيره، فإن ذلك متضمن للإقرار له بالأسماء والصفات والربوبية كما سنبين.
وقد خلف الصالحون من كل أمة أنبياء الله عز وجل في الاستقامة على منهجهم ودينهم وطريقتهم، وخلف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين في الإقرار لله بالتوحيد.(48/71)
وهذا التوحيد على مذهب السلف ثلاثة أنواع هي: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية.
أولاً: توحيد الربوبية:
معناه، الإقرار بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر لشؤون هذا الكون، والمتصرف فيه وحده، ليس له في ذلك ظهير ولا معين ولا شريك ولا مثيل.
ويصرح السلف بأن هذا النوع من التوحيد أدلته أكثر من أن تحصى أو تستقصى. ومن أهم هذه الأدلة وأظهرها: الفطرة.
والمراد بالفطرة لغة: الخلقة (1) .
أما المراد بها هنا فهو: أن الله تعالى قد خلق البشر عموماً على الإقرار بربوبيته تعالى وتوحيده، ومن المعلوم أن الله جل وعلا قد فطر الناس على أشياء كثيرة عديدة، ومن ضمن ما فطرهم عليه الاقرار لله بالربوبية. وهذا هو الذي يفسر اتفاق البشر على الإقرار لله بالربوبية، ولم يخالف في ذلك إلا شواذ من البشر من الملاحدة، مثل فرعون ومن كان على شاكلته (2) .
ويستدلون لهذا الدليل بأدلة عديدة، منها:
قوله عز وجل {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الأعراف (172) .
__________
(1) اللسان 5/3433.
(2) من الجدير بالذكر أن الملاحدة يظهرون الإلحاد ويتبجحون به وإن كانوا في قرارة نفوسهم يعلمون أن الله خالقهم كما قال تعالى عن فرعون وقومه {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} النمل (13-14) ، وقال تعالى ذاكراً خطاب موسى لفرعون {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} الإسراء (102)(48/72)
وأخرج الإمام أحمد (1) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني بعرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " (2) .
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها من جدعاء " (3) .
وحديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ... " (4) الحديث.
فهذه الأدلة تدل على أن الخلق مفطورون على الإقرار بالخالق.
ولا شك أن ذلك من رحمة الله تعالى بخلقه ولطفه بهم، إذ غرس فيهم الإقرار بربوبيته، ولذلك فوائد عظيمة، من أهمها: أن عبادة الله تعالى لا تتم إلا بالإقرار بربوبية الله.
__________
(1) أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة والمحدثين، ناصر الإسلام والسنة. كان الإمام الشافعي يجله ويثني عليه ثناءً حسناً، وكان من أصحابه وخواصه. توفي رحمه الله سنة 241هـ. انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص7-17.
(2) مسند الإمام أحمد (1/272) ، وذكر ابن كثير في تفسيره (2/241) روايات عديدة في هذا المعنى ورجح وقفها على ابن عباس رضي الله عنه.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري كتاب الجنائز، انظر: فتح الباري (3/246) .وهو في مواضع كثيرة من صحيح البخاري، ومسلم 4/2047. كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم 2658.
(4) أخرجه مسلم كتاب الجنة، باب 16 (4/2197) ، وأحمد (4/162) .(48/73)
ومن المعلوم أن أعظم حقوق الله على عباده وواجباتهم نحوه هو عبادته تعالى. فإذا كان دليل استحقاقها، وهو الربوبية حاضر في النفس مسلم به من العبد، سهل انقياده لهذا الأمر، وهو العبادة.
كما يستدل السلف على ربوبية الله عز وجل بما بثه جل وعلا في الكون من الآيات الظاهرة الباهرة القاهرة، التي تدل على ربوبيته دلالة واضحة صريحة، لا يغفل عنها أو يجحدها إلا أعمى البصر والبصيرة.
فإن السماء وما فيها آية عظمى دالة على عظمة خالقها وموجدها، وما بين السماء والأرض من الكواكب آيات واضحات ظاهرات، وفي الأرض آيات لا تحصى ظاهرة في جبالها وسهولها وأنهارها ومياهها وبحارها وهوائها وأشجارها وما بث فيها من دابة، وفي نفس الإنسان من الآيات ما لا يمكن رده وجحده بل الأمر كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد (1)
فهذه الدلائل الواضحة الظاهرة هي دالة على الله عز وجل، لمن كان في نفسه شك أو تردد، وإلا فالواقع أن الإقرار بالربوبية عام فطري، كما قال الرسل عليهم السلام {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إبراهيم (10) (2) .
لهذا لا حاجة لتكلف الأدلة، لأن الواضح لا يحتاج إلى توضيح، والظاهر لا يحتاج إلى استظهار وكما قيل:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل (3)
وتكلف الأدلة في ذلك كما هو شأن الفلاسفة ومن سلك منهجهم من المتكلمين وغيرهم إنما يمكن أن يصح في الاستدلال على القضايا الخفية، أما الأمور الظاهرة الواضحة المتفق عليها لا يحتاج إثباتها إلى تكلف دليل أو برهان.
__________
(1) اختلف في نسبته، فنسبه الصفدي إلى أبي فراس. انظر: الوفيات (7/138) ، وأما أبو الفرج فقد نسبه إلى أبي العتاهية انظر: الأغاني (4/35) .
(2) انظر: التوحيد لابن منده (1/97-305) ، الحجة في بيان المحجة (1/376-387) .
(3) انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (4/1221) .(48/74)
ولا شك أن من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده أن جعل أدلة وبراهين ربوبيته فطرية ظاهرة، يؤمن بها ويدركها أقل الناس حظاً من العلم والنظر، بل إن الأدلة لوضوحها وظهورها تضطر الإنسان اضطراراً إلى الإيمان بخالقها وموجدها رباً وخالقاً.
وهذا الإقرار والاضطرار مهم غاية الأهمية، بل هو من رحمة الله عز وجل بعبيده وخلقه، لأنه ينبني عليه عبادة الله عز وجل، التي هي الغاية من خلق الإنسان، وهو سبيل نجاته، إذ لا نجاة للعبد بدون إخلاص العبادة له عز وجل، فلهذا جعل الدليل على استحقاقه للعبادة وحده دون سواه كونه سبحانه هو الخالق الرازق المالك، المتصرف وحده دون سواه، وذلك كله من رحمة الله ولطفه بعباده.
لهذا كثر في القرآن ربط الألوهية بالربوبية، ووجوب عبادة الله وحده، استناداً على وحدانيته في ربوبيته جل وعلا،ومن ذلك قولهعز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة (21-22) .
وقال {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} الأنعام (102) .
وقال جل وعلا {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} النمل (60) .(48/75)
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ربوبية الله عز وجل، والتي أقام الله عز وجل بها الحجة على المشركين، الذين يقرون بربوبيته سبحانه، وينكرون وحدانيته في العبادة، ويعبدون معه سواه.
ثانياً: توحيد الأسماء والصفات:
هو اعتقاد أن الله تعالى له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلى الكاملة، التي لا يماثله فيها أحد.
والسلف يلتزمون من ذلك بما ورد في الكتاب والسنة، فمن نظر في كتبهم المصنفة مثل كتاب (السنة) للإمام أحمد، و (خلق أفعال العباد) للبخاري (1) ، و (الرد على بشر المريسي) (2) للدارمي (3) و (السنة) لابن أبي عاصم النبيل (4) و (السنة) للطبري، و (الشريعة) للآجري، و (الرؤية) للدارقطني (5) و (الرد على الجهمية) لابن منده (6)
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، الحافظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب الجامع الصحيح المعروف بصحيح البخاري. جبل الحفظ، ثقة الحديث. توفي سنة 256هـ. انظر: تقريب التهذيب2/144.
(2) بشر بن غياث بن أبي كريمة، عبد الرحمن المريسي، فقيه معتزلي عارف بالفلسفة،كان عين الجهمية في عصره. رمي بالزندقة. توفي سنة 218هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 10/199-202.
(3) عثمان بن سعيد بن خالد التميمي الدارمي أبو سعيد، قال عنه الذهبي: الإمام العلامة الحافظ الناقد، محدث هراة وتلك البلاد. توفي سنة 280هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/319) .
(4) أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، عالم بالحديث زاهد رحالة. توفي سنة 287هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 13/430.
(5) علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن الدارقطني الشافعي، إمام عصره في الحديث وأول من صنف في القراءات وعقد لها أبواباً، ولد بدار القطن من أحياء بغداد. توفي سنة 385هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 16/449-450.
(6) محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، أبو عبد الله العبدي، الأصبهاني،من كبار حفاظ الحديث.صاحب التصانيف. توفي سنة 395هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 17/29-42.(48/76)
و (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي (1) ، و (النزول) و (الصفات) ، و (الرد على الجهمية) ، و (عقيدة أصحاب الحديث) للصابوني (2) ، و (الحجة في بيان المحجة) لأبي القاسم التيمي الأصبهاني (3) ، وغيرها كثير، يرى الناظر فيها أنهم أثبتوا كل ما ورد في كتاب الله عز وجل من صفاته وما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رووا في تلك الكتب روايات عديدة عمن تقدمهم من الأئمة والعلماء تحدد موقفهم ومنهجهم في صفات الله عز وجل.
__________
(1) هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، أبو القاسم اللالكائي، حافظ للحديث، من فقهاء الشافيعة من أهل طبرستان، فنسبته إلى بيع اللوالك التي تلبس في الأرجل على خلاف القياس. توفي سنة 418هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 17/419.
(2) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، لقبه أهل السنة في خراسان بشيخ الإسلام، فلا يعنون عند إطلاقهم هذه اللفظة غيره. توفي سنة 449هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 18/40
(3) إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي التيمي الأصبهاني يلقب بقوام السنة، من أعلام الحفاظ. توفي سنة 535هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 20/80.(48/77)
من ذلك: ما روي عن الإمام أحمد أنه قال في الأحاديث"إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا "، و"أنه يضع قدمه " وما أشبه ذلك: "نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى (1) ، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد صحيحة ". وقال أيضاً: "يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول " وقال: "المشبهة تقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه " (2) .
وقال نعيم بن حماد (3) : "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه". (4)
__________
(1) مراده بقوله (ولا معنى) أي لا نتأوله كما تأولته الجهمية وإنما معناه تلاوته والإقرار بما دل عليه لفظه فإن هذا مذهب السلف فقد روى اللالكائي بسنده عن الزهري ومكحول أنهما كانا يقولان: ((أمروا الأحاديث كما جاءت)) وروى عن سفيان بن عيينة انه قال: ((كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره لا كيف ولا مثل)) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/430
(2) إبطال التأويلات للقاضي أبي يعلى (1/45) .
(3) نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي المروزي، أبو عبد الله، الإمام، العلامة، الحافظ. أول من جمع المسند في الحديث. توفي سنة 228هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 10/595-612.
(4) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (3/532) ، شرح الطحاوية (ص66) .(48/78)
وقال الصابوني في عقيدته: " أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم يشهدون لله بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه ... " (1) .
فمن هنا نحدد أن للسلف رحمهم الله في إثبات الصفات ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل نفياً وإثباتاً.
القاعدة الثانية: نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق في الصفات.
القاعدة الثالثة: قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الباري جل وعلا بالصفات (2) وسنذكر بإيجاز أدلة كل قاعدة وما يتعلق بها:
القاعدة الأولى: (الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل نفياً وإثباتاً) .
قد دلت الأدلة الكثيرة على وجوب الالتزام والأخذ بكل ما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب وغيره من أبواب التوحيد والدين ومن هذه الأدلة العامة:
__________
(1) عقيدة أصحاب الحديث (ضمن المجموعة المنيرية) (1/106) .
(2) انظر هذه القواعد الثلاث في الحجة في بيان المحجة (1/94-97) ، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني (1/106-107) ، إبطال التأويلات لأخبار الصفات للقاضي أبي يعلى (1/43) ، ذم التأويل لابن قدامة (ص 11) ، الرسالة التدمرية (ص 4) ، منهج دراسة آيات الصفات للشنقيطي (ص 6،44) ، معتقد أهل السنة والجماعة للتميمي (ص 95) .(48/79)
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر (7) ، وقوله عز وجل {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} الأعراف (3) وقال عز وجل {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الأنعام (151) ، وقال تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء (59) .
فهذه الآيات دالة بعمومها على وجوب التزام وأخذ كل ما ورد في الكتاب والسنة، ومن ضمن ذلك ما يتعلق بصفات الله تعالى وأفعاله، بل إن هذا الأمر ليس له طريق إلا الوحي، لأن الله عز وجل غيب عنا فلم نره ولم نر شبيهاً له، فليس أمامنا لمعرفته إلا الخبر، وليس أعلم من الله تعالى ولا أصدق منه جل وعلا، كما قال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} البقرة (231) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} كما لا أحد أعلم بالله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي جوامع الكلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، كما قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} النجم (53_54)
فمعرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة لا يمكن أن يتوصل إليها إلا من خلال الوحي، وما عدا ذلك إنما هو من باب الخرص والتخمين.
ولا بد أن نشير هنا إلى أن إثبات صفات الله تعالى وفق نصوص الشرع يلزم منه أمور عدة:
أ- أن الصفات المثبتة لله عز وجل وفق نصوص الشرع كثيرة منها: الوجه واليدان والعلو والعلم والكلام والسمع والبصر والقدرة والإرادة والحياة والرضى والغضب والرحمة، وغير ذلك.(48/80)
والله عز وجل موصوف بها على صفة الكمال، الذي لا يلحقه فيها نقص بوجه من الوجوه، لأنه سبحانه الكامل من كل وجه، وقد دلت الآيات الكثيرة على ذلك، فمن ذلك قوله عز وجل {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} الصافات (159) التي تدل على تنزيه الله عز وجل عن كل نقص وعيب (1) ، وقوله عز وجل {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة (255) ، فهذا في كمال العلو له سبحانه {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} النساء (167) وهذا في كمال العلم، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} الملك (19) وهذا في كمال البصر {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة (20) في كمال القدرة.
كما ينفى عن الله عز وجل كل ما نفاه عن نفسه سبحانه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} فاطر (44) {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} البقرة (250) {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} الجن (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} الإخلاص (4) ونحو ذلك.
وكل صفة منفية عن الله عز وجل فهي دليل من وجه آخر على الكمال، فنفي العجز دليل على كمال القدرة، ونفي السنة والنوم دليل على كمال الحياة والقيومية، ونفي الصاحبة والولد دليل على كمال الغنى وكمال الوحدانية، ونفي المكافئ والمماثل دليل على وحدانيته في صفاته، فلا مثيل له جل وعلا سبحانه.
ب- إن من الصفات الثابتة في القرآن ما يكون كمالاً في حال دون حال، فلا تثبت لله بإطلاق ولا تنفى عنه بإطلاق، وإنما تثبت في الحال التي تكون كمالاً، كما في الكيد والمكر والخداع والاستهزاء.
__________
(1) انظر معنى ((سبحان الله)) في تفسير ابن كثير (1/73، 75) .(48/81)
فهذه الصفات لم يثبتها الله عز وجل لنفسه إلا في مقابل فعل أعدائه، فيكون معاملتهم بجنس فعلهم، من الكمال في الانتقام منهم وعقوبتهم،وذلك في مثل قوله عز وجل {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} آل عمران (54) {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} النساء (142) {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} الطارق (15-16) .
جـ- ما لم يرد إثباته ولا نفيه في الكتاب والسنة فلا يجوز إطلاق القول به، لأنه من باب القول على الله بلا علم، وقد حرم الله ذلك كما في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} الأعراف (33) .
والواجب في مثل ذلك التوقف ومعرفة المعنى المراد، فإن كان المعنى المراد حقاً قبل وغير اللفظ إلى ما يتفق مع الشرع حتى يؤمن اللبس، وإن كان المعنى المراد باطلاً رد لفظه ومعناه. وهذا مثل نفي المتكلمين للجهة والمكان والجسم ونحوها، فإنه إن أريد بالجهة والمكان جهة السفل أو مكان يحوي الله عز وجل ويحوطه فهو معنى باطل مردود، وإن أريد بالجهة العلو أو المكان فوق العرش فهو معنى حق ثابت لله عز وجل، ولكن يغير اللفظ إلى العلو والاستواء على العرش ليؤمن اللبس، وكذلك الجسم إن قصد به جسم مركب من الأعضاء فهو معنى باطل، وإن أريد به الذات الموصوفة بالصفات فهذا حق ثابت لله عز وجل بالأدلة فيثبت المعنى وينفى اللفظ حتى يؤمن اللبس (1) .
القاعدة الثانية: (نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق في الصفات) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/41-42) ، القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص 53-79) .(48/82)
مما يجب اعتقاده في هذا أن الله تبارك وتعالى موصوف بالصفات على صفة تليق بجلاله وعظمته، وأن المخلوق موصوف بصفات على صفة تليق بضعفه وعجزه وحاجته، فلا تُمَاثِل صفات الخالق صفات المخلوق، فإن الله عز وجل لا يماثله سبحانه شيء في صفاته.
وقد دلت الأدلة على ذلك وهي قوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى (11) وقوله عز وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} الإخلاص (4) ، وقوله عز وجل {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} مريم (60) وقوله تعالى {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} النحل (74) .
فهذه الأدلة دالة على أن الله سبحانه لا يماثله ولا يشابهه ولا يكون مساوياً له بحال من الأحوال أحد من خلقه وهذه هي وحدانيته سبحانه في الصفات فلا يماثله أحد فيها.
ومن الجدير بالذكر هنا التنبيه على أهمية هذه القاعدة، وذلك أن المخلوق موصوف بصفات كثيرة، منها السمع والبصر والعلم والكلام واليد والوجه والقدرة، وغير ذلك، والله تعالى موصوف بتلك الصفات.
فقاعدة نفي المماثلة يتم بها التفريق بين ما اتصف به الله تعالى من الصفات، وبين ما يتصف المخلوق به من الصفات التي قد تتفق مسمياتها عند الإطلاق، إلا أنها تختلف وتتباين وتتميز عند التقييد والتخصيص، فإذا قيل سمع الله وبصر الله فهو يليق بجلاله وعظمته وكماله، وإذا قيل سمع زيد أو عمرو فإن المخلوق موصوف به على صفة تناسب ضعفه وعجزه وأنه مخلوق مربوب.
ويمكن أن تفهم هذه القاعدة بسهولة ووضوح، إذا أدركنا أن كل موصوف بصفة فإن صفاته تلائم ذاته، فمثلاً الإنسان موصوف بالحياة والبصر والسمع والقدرة، والنملة والفيل كل منهما موصوف بذلك، إلا أن ما يقوم بالإنسان منها يتلاءم ويختلف عما يقوم بكل من النملة والفيل، فكل منهما صفاته تلائم ذاته.(48/83)
والتماثل في الأسماء لا يلزم منه التماثل في المسميات، بل قد يكون هناك فارق كبير جداً بين المسميين، مع أن مسماهما واحد. ومثل هذا ما ذكر الله تعالى في الآخرة مما في الجنة،وموجود في الدنيا من جنسه،مثل الرمان والطير والأنهار والعسل،فما في الدنيا لا يقارن بما في الآخرة ولا يشابه به. كما قال ابن عباس رضي الله عنه "ليس في الدنيا من الجنة إلا الأسماء". (1)
فإذا كان هذا التفاوت بين المخلوقات، فلا شك أن التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم وأكبر بكثير من التفاوت بين المخلوقات بعضها مع بعض (2) .
القاعدة الثالثة: (قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الباري جل وعلا بالصفات) .
مما يؤمن به السلف في باب صفات الله عز وجل أنهم يثبتونها ويؤمنون بها، وهم في الوقت نفسه يجهلون كيف يتصف الباري تبارك وتعالى بتلك الصفات.
وذلك لأن الله عز وجل قد أخبرنا بالصفات، ولكنه جل وعلا لم يخبرنا بالكيفية، كما أخبرنا جل وعلا بأنه سبحانه لا يمكن أن يحاط به علما، فقال جل وعلا {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} طه (110) وقال جل وعلا {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأنعام (103) .
فمن هنا كثر كلام السلف في أن الواجب على المسلم أن يؤمن بصفات الله عز وجل بلا كيف، كما سبق أن ذكرنا ذلك عن العديد منهم، وكما هو مشهور عن الإمام مالك (3) رحمه الله لما جاءه رجل فقال: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فقال: " الكيف غير معقول، الاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (4) .
__________
(1) ابن جرير الطبري 1/392.
(2) انظر مجموع الفتاوى 5/200-210.
(3) هو الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي أبو عبد الله المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة. توفي سنة 179هـ. التقريب ص326.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (3/398) ، الأسماء والصفات للبيهقي (ص 408) .(48/84)
وعن شيخه ربيعة (1) أنه قال: " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق" (2) . فذهبت هذه المقولة أصلا من أصول أهل السنة وهي أن الاستواء معلوم معنىً، لأن الاستواء في اللغة: العلو والارتفاع (3) .
أما كيفية استواء الخالق على العرش فهي مجهولة ولا نعقل كيف يكون ذلك، والإيمان بالاستواء واجب شرعا لورود النصوص العديدة به.
وعدم العلم بكيفية الصفات لا ينفي الصفات ولا يقدح في الإيمان بها وإثباتها. لأن الله عز وجل أخبرنا بالصفة ولم يخبرنا بالكيفية وطلب منا الإيمان بها ولا تنافي في ذلك، فإن هناك أشياء عديدة نؤمن بها من مخلوقات الله ونحن لا نعرف كيفيتها، منها الروح التي في الإنسان فإن الإنسان عاجز عن معرفة كنهها وحقيقتها مع أن الإنسان يحس ويشعر بها وقد أخبرنا الله بها في قوله {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} الإسراء (85) ، فأخبرنا عن الروح ولم يخبرنا عن كيفيتها، فنحن نؤمن بها بدون أن نعرف كيفيتها وهذا لا يقدح في إيماننا بها، فكذلك ولله المثل الأعلى صفات الله عز وجل فجهلنا بكيفيتها لا ينفيها ولا يقدح في إيماننا بها.
__________
(1) ربيعة بن فروخ التيمي، أبو عثمان، إمام حافظ فقيه مجتهد، كان بصيراً بالرأي، لقب
((ربيعة الرأي)) وكان من أئمة الاجتهاد. توفي سنة 136هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 10/89.
(2) المصدران السابقان.
(3) انظر: قول الأخفش في اللسان (13/414) ، وانظر: صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التوحيد (13/403) باب وكان عرشه على الماء،وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/397) .(48/85)
وعلى هذا فمن كيّف صفات الله تعالى فقد افترى على الله عز وجل، وقفا ما ليس له به علم، قال جل وعلا {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء (36) .
ثالثاً: توحيد الألوهية:
وهو توحيد الله بأفعال العباد، أو هو إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده لا شريك له.
وهذا النوع من التوحيد أعظم حقوق الله على عباده وأعلاها شأنا وخطراً وقدراً، إذ هو النوع الذي يؤدي فيه العبد لله عز وجل الحق الواجب عليه له سبحانه، كما قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حق الله على العباد ... ثم قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " (1) . والقيام به وأداؤه متضمن لأداء غيره من أنواع التوحيد.
كما أن القيام به لله عز وجل، وإخلاص العبادة له ينسجم فيه العبد مع سائر ذرات هذا الكون الساجدة والمسبحة لله عز وجلكما قال عز وجل {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الإسراء (44) وقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... } الحج (18) ،كما أنه أول دعوة الرسل، ولا يصح بدونه عمل، ولا يرفع بغيره إلى الله عبادة.
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب التوحيد: باب دعاء النبيصلى الله عليه وسلم أمته إلى التوحيد. انظر: فتح الباري (13/ 347) .(48/86)
وقد توافرت الآيات القرآنية الكثيرة الدالة عليه، والمصرحة به، والمؤكدة له بما لا يسوغ بحال من الأحوال تجاهله أو تجاوزه إلى غيره، بل إن دعوة الأنبياء عموماً تصب في قالبه، وكما قيل هو الألف والياء، وهو البداية والنهاية، وهو الرأس والجسد، فلا دين إلا به، ولا فلاح إلا بإخلاصه، ولا نجاح إلا بتحقيقه، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وما خلقت الجنة إلا لأهله، ولا خلقت النار إلا لمنكريه والمنحرفين عنه، بل لم يخلق الخلق إلا لتحقيقه والقيام به، وإلا فإن الله عز وجل غني حميد عزيز مجيد.
وهو أول أمر في ترتيب المصحف الكريم، قال جل وعلا في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة (21) وهو الإقرار الذي يقر به المسلم، ويعلنه في اليوم سبع عشرة مرة فرضاً في صلاته، وذلك بقوله عز وجل في سورة الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والآيات الدالة عليه كثيرة جداً منها:
قوله عز وجل {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} النساء (36) .
وقوله {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} يونس (3) وقال {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} يوسف (40) .
وقال {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} طه (14) .(48/87)
وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء (35) وقال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات (56) .
وهذا النوع من التوحيد هو الذي بسببه قاتل النبي صلى الله عليه وسلم الكفار حتى يقروا به، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" (1) .
وهذا النوع من التوحيد هو المسمى توحيد العبادة. والذي يعني إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. والعبادة مثل: الخوف والرجاء والتوكل أو الدعاء والذبح والنذر والصلاة والزكاة والحج والصيام، ونحو ذلك من العبادات التي أمر الله تعالى بها.
ومن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك الشرك الأكبر، الذي يحبط العمل من أصله، كما أنه يفسد الإيمان، ولا يقبل الله معه صرفاً ولاعدلا.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الزمر (65) .
وقال جل وعلا بعد ذكره للعديد من الأنبياء عليهم السلام {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام (88) .
وهو الذنب الذي لايغفره الله لمن مات عليه قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} النساء (116) .
__________
(1) أخرجه مسلم. كتاب الإيمان،1/206.(48/88)
وصاحبه مخلد في النار أبد الآباد. قال تعالى {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} المائدة (72) .
وما ذلك إلا لأن المشرك أظلم الظالمين وأفجر الفاجرين لأنه قد صرف ما هو حق خالص لله تعالى إلى من لا يستحق منه شيئاً ألبته، وأعرض عن ربه وخالقه، والمنعم عليه، والمتصرف فيه إلى من لا يملك من ذلك شيئاً.
هذا هو منهج السلف في توحيد الله تعالى في ألوهيته، ومنهجهم في توحيده سبحانه في ربوبيته وأسمائه وصفاته، ذكرته على سبيل الاختصار.
وهو منهج ظاهر، واضح اعتماده على الخبر الصحيح، والعقل الصحيح، فليس فيه ولله الحمد شيء، يحيله العقل، بل هو مقبول عقلاً، بل إن العقل مضطر إلى كثير من مسائله.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الفصل الثاني:
قول الفلاسفة في التوحيد
وفيه تمهيد ومبحثان:
التمهيد
يقف على الضد من قول السلف في التوحيد قول الفلاسفة، ونعني بهم: فلاسفة اليونان الوثنيين.
وذلك لأن مصدر العقيدة في كل منهما مختلف، فمصدر العقيدة لدى السلف الوحي أما العقل فهو تابع للوحي وخاضع له.
أما الفلاسفة فلا يعرفون إلا العقل المجرد من نور الوحي، وهو عقل ملوث بالبيئات الوثنية التي كانوا يعيشون فيها، فلهذا كان قولهم في التوحيد مناقضاً لقول السلف وبعيداً عنه كل البعد، بل بعيد عن العقل السليم الصحيح في أكثر مقدماته ونتائجه، ومع ذلك فقد أثر في أمم كثيرة من بني آدم، وممن تأثر به كثير من المسلمين، والمنتسبين للإسلام، فمنهم من تبنى قولهم وأخذ به والتزمه، ومنهم من تأثر به تأثرا كبيرا في كثير من مناهجه العلمية ووسائله للمعرفة، فأثر بالتالي على النتائج التي توصلوا إليها خاصة فيما يتعلق بمعرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده.(48/89)
ولهذا سنذكر في هذه الدراسة قول فلاسفة اليونان عموماً الذين أثبتوا وجود الله عز وجل، وكذلك قول من أنكر وجوده تبارك وتعالى لأن كلا القولين كان له أثر في المسلمين أو في المنتسبين للإسلام، وسنبين بطلان كل مقالة عند ذكرها.
وقبل أن نبدأ بذلك نذكر تعريفا مختصرا للفلسفة والفلاسفة.
أما الفلسفة: فعرفها أرسطو بأنها: البحث عن علل الأشياء ومبادئها الأولى أو هي العلم الذي يبحث في الوجود من حيث هو وجود (1) .
وعرفها ابن رشد (2) بأنها: النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع (3) .
وهذان التعريفان خاصان بما نحن بصدده من كلامهم في الله عز وجل لارتباطهما به.
أما الفلاسفة: فهم الذين نظروا في طبائع الأشياء بفكرهم لمعرفة عللها الخفية وراء ظواهرها.
لذا نجد أن الفلاسفة لم يقتصروا على النظر والتفكر فيما هو ظاهر أمام أعينهم من المخلوقات، وإنما راحوا يبحثون فيما وراء ذلك وهو الخالق جل وعلا ويسمون ذلك ما وراء الطبيعة أو الإلهيات (4) .
وقبل أن نذكر قول الفلاسفة في التوحيد نشير إلى أن الفلاسفة ولجوا في هذا العلم بعقولهم المحدودة، ونظرهم القاصر، وقد أدركوا أن كلامهم إنما هو في أمر لا سبيل إلى التحقق منه بالعقول المجردة وإنما هي محاولات لن يصلوا منها إلى نتيجة حاسمة أبداً، فتبقى هكذا محاولات ومقدمات بلا نتائج لهذا قالوا: "إن عالِمَ ما بعد الطبيعة عالِمٌ درج في غير عشه ببحثه عن شيء فوق الحقائق فإذا هو شاعر" (5) .
__________
(1) أرسطو المعلم الأول لماجد فخري (ص 21-25) .
(2) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي أبو الوليد الفيلسوف عني بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية وزاد عليه زيادات كثيرة اتهم بالزندقة فنفاه الخليفة إلى مراكش فتوفي فيها سنة 595هـ الأعلام 5/318
(3) نقلا عن الفكر العربي لعمر فروخ (ص 659) .
(4) مبادئ الفلسفة (ص 24،25) ، أرسطو المعلم الأول (ص21) .
(5) مبادئ الفلسفة (ص26) .(48/90)
ومرادهم بقولهم: (فإذا هو شاعر) أي: أن الفيلسوف يعبر عن خيالاته وأحاسيس نفسه بالعبارات المنمقة التي لا تعتمد على عرض الحقائق على ما هي عليه.
وقال رسل (1) : " إن قيمة الفلسفة ليست فيما تقدمه من حلول نهائية للمسائل التي تطرحها، إذ ليس من الضروري أن تكون هناك دائما إجابات نهائية صحيحة، وإنما قيمة الفلسفة في مناقشاتها المفتوحة والفرصة التي تتيحها لتوسيع أفق تصورنا، ولإثراء خيالنا العقلي، ولتقليل التوكيد الجزمي، الذي يغلق كل سبيل أمام التنامي العقلي " (2) .
هذا الكلام تعبير دقيق عن فائدة الفلسفة ـ إذا كان هناك فائدة ـ وغايتها، وهذه الفائدة تتلخص في أنها تورد الإشكالات ولا تحلها، وتجعل المجال فيما يناقشه الفلاسفة مفتوحا لسائر الآراء والتصورات، مما يمنع الجزم واليقين بالأمر، وهذا لا شك مما يدل على عدم صلاحها، وعدم صحة الاعتماد عليها في مسائل العقيدة التي يطلب فيها الجزم واليقين.
كما أنها لا تصلح بديلا ألبتة للتعاليم الدينية في جميع النواحي التعبدية والأخلاقية والعلمية، لأن مصدر العلوم الدينية والأوامر الشرعية من لدن حكيم خبير، أما الفلسفة فإنها تعتمد على نظر عقلي بشري من أهم خصائصه الواضحة النقص وقلة العلم، وتأثير البيئات المحيطة بطريقة التفكير.
ونشير هنا إلى أن الفلاسفة الوثنيين على قولين في الله تعالى من ناحية وجوده،فمنهم من أنكر وجود الله تعالى جملة وتفصيلاً، فهؤلاء ملاحدتهم، ومنهم من أثبت لله تعالى وجوداً، وهم من يسمون المؤلهة. وسنورد قولهم في المبحثين التاليين:
المبحث الأول: قول ملاحدة الفلاسفة
__________
(1) رسل برتراند رياضي وفيلسوف إنجليزي ملحد من بناة المنطق الحديث عارض بشدة استعمال الأسلحة الذرية توفي 1970م. المنجد في الأعلام (ص306) .
(2) نقلا عن الموسوعة الفلسفية (ص319) .(48/91)
الفلاسفة اليونان الوثنيون الذين كانوا قبل المسيح عليه السلام بأكثر من ستمائة عام (1) قد بحثوا في أصل العالم ومصدر وجوده، فمنهم من أثبت وجوداً لموجود أعلى يعزى إليه علة وجود العالم، ومنهم من أنكر ذلك، وزعم أن وجود العالم أزلي، ولم يعزه إلى موجد أوجده، وهؤلاء هم الملاحدة المنكرون لوجود الله تبارك وتعالى، وهم على قولين في أصل العالم ومصدره:
القول الأول: القائلون بأن أصل العالم مادي.
أصحاب هذا القول زعموا أن أصل هذا العالم نوع أو أنواع من المادة، وأنكروا أن يكون ثمَّ خالق، وإنما المادة هي أصل العالم.
وهي عند متقدميهم أصحاب المدرسة الأيونية (2) إما الماء، وهو قول طاليس (3) أو عنصران هما الهواء والماء، أو اللامحدود، كما هو قول انكسمندريس (4) ، أو الهواء كما هو قول انكسمانس (5) .
__________
(1) تاريخ الفلسفة من منظور شرقي ص29
(2) الأيونية: نسبة إلى منطقة تسمى أيون بآسيا الوسطى كانت ثغراً من ثغور اليونان، ومدرستهم مادية وترجع أصل الوجود إلى المادة الواحدة.
(3) من أوائل الفلاسفة القدماء الماديين ولا يعرف عنه الشيء الكثير، كان في حدود 640ق. م.تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ص101
(4) انكسمندريس أو إنكسمندر، فيلسوف يوناني ولد بملطية إحدى ثغور اليونان بآسيا الصغرى نحو 610 وتوفي 547 ق م.
(5) انكسمانس، ولد نحو 588 وتوفي 524 ق. م، وهو آخر الفلاسفة الأيونيين الماديين. انظر في الإحالات الأربع السابقة الموسوعة الفلسفية (ص 72) .(48/92)
أما متأخروهم: فزعموا أن أصل العالم: الجواهر الفردة أو الذرات التي لا نهاية لعددها وحدِّها وهي غير قابلة للتغير والفساد. وهذا هو قول انكساغوراس (1) وديمقريطس (2) وهيرقليطس (3) وأبيقور (4) .
فكل هؤلاء زعموا أن الكون تكون من مادة أزلية أبدية، وهذه المادة كانت دائمة الحركة، وبسبب حركتها الدائمة اصطدم بعضها ببعض فأنتجت من خلال هذا التصادم الوجود (5) .
بيان بطلان قول القائلين بأن أصل العالم مادي:
هذا القول ظاهر منه إنكار ربوبية الله عز وجلوألوهيته بل ظاهر منه إنكار وجوده عز وجل.
وأدلة بطلانه من وجوه:
أولاً: إن اختلافهم وتفاوت أقوالهم في أصل الكون ومبدأ الوجود دليل على بطلان دعاويهم إذ أن التفاوت بين الماء والهواء أو اللامحدود أي الذرات الكثيرة التي لا نهاية لعددها وحدها لا يمكن الخروج منه بقول واحد، فلا بد من أن يتفقوا على شيء واحد لتثبت لهم النتيجة في أصل الكون.
ثانياً: إن هذه دعاوى تخمينية ليست قائمة على أي مبدأ علمي سليم فهم لم يرو من الوجود إلا ما يحيط بهم من الأرض وأنفسهم، فكيف زعموا أن الكون مكون مما ذكروا، مع أن ما لا يرونه وما لا يبصرونه من الكون أوسع وأعظم بملايين المرات مما رأوه، بل ما رأوه لا يعد شيئاً في مقابل ما لم يروه من الكون.
__________
(1) فيلسوف يوناني ولد نحو 500 وتوفي نحو 428 ق. م، الموسوعة الفسلفية (ص 72) .
(2) فيلسوف يوناني ولد نحو 460 وتوفي 361 ق. م من أهل تراقيه في اليونان، الموسوعة الفسلفية (ص 195) .
(3) فيلسوف يوناني عاش نحو 540 وتوفي 475 ق م،وهو من مدينة أفسس إحدى المدن الأيونية وكان من أسرة تتوارث الكهانة فترك ذلك وتوجه للفلسفة، في سبيل موسوعة الفلسفة (ص 92) .
(4) فيلسوف من أثينا عاش في حدود 341 - 270 ق م وهو صاحب المدرسة الأبيقورية، الموسوعة الفلسفية (ص 260) .
(5) انظر: الموسوعة الفلسفية (1/276 - 508) .(48/93)
ثالثاً: أن المادة التي زعموا ميتة لا يمكن أن تصدر عنها الحياة، ومن المعلوم أن الكائنات المرئية على قسمين: كائنات حية، وكائنات ميتة جامدة، والمادة من ضمن الكائنات الميتة التي لا يمكن أن تصدر عنها الحياة، فمن أين جاءت الحياة؟؟
رابعاً: أن المادة التي زعموا غير عاقلة ولا مدركة لما حولها، إضافة إلى موتها فكيف يمكن أن يوجد منها ما هو عاقل ومدرك؟؟
خامساً: أن المادة غير قادرة وليس لها إرادة، فكيف يمكن أن توجد ما هو قادر مريد، ففاقد الشيء لا يعطيه؟؟
سادساً: أن هذه الدعوى باطلة ببديهة العقول من ناحيتين:
1- أن المادة التي زعموا أنها أزلية لا يمكن أن تكون وجدت من لا شيء فهذا مستحيل، فلا بد لها من موجد أوجدها، وإلا تكون وجدت من لا شيء وهذا مستحيل معلوم بطلانه ببداهة العقول.
2- أن هذا الكون المنظم من أصغر ذرة فيه إلى أكبر جرم فيه لا بد أن يكون موجده أعظم منه وأكبر، وله صفات الكمال لأنه لا يمكن أن يوجد بهذا التنظيم وهذا الضبط بفعل حركة غير عاقلة، فإن الحركة التي لا يضبطها منظم لها لا يمكن أن يوجد منها شيء ذو معنى، كما لو وضعت حروف الهجاء في بطاقات ثم وضعتها في علبة وحركتها مئات بل ألوف الحركات فإنها لا يمكن بحال حين توقف الحركة أن تخرج لك منظومة شعرية ولا حكمة نثرية ولا خطبة ولا حتى جملة مفيدة، بل لا يخرج إلا تشويش وكلمات ليس لها معنى، هذا شيء ظاهر في أمر يسير، فما بالك بهذا الكون البديع والخلق العجيب، لا شك أن في كل ذلك دليلاً واضحاً على بطلان دعاوى أولئك الضلال ومن أخذ بأقوالهم، وهم في الحقيقة يكذبون على أنفسهم وإلا فوجوب وجود الخالق تبارك وتعالى من أوضح الواضحات.
وقد أقام الله عز وجل الحجة في ذلك بآية مكونة من كلمات معدودة وذلك قوله عز وجل {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} الطور (35-36) .(48/94)
فإن كونهم خلقوا من غير شيئ مردود بداهة، وأوضح منه في البطلان أن يكونوا هم الخالقين، وأظهر منه بطلاناً أن يكونوا خلقوا السماوات والأرض، فإذا كان الإنسان وهو أقدر المخلوقات على الأرض، وأكرمها بما أعطاه الله من قدرة وإرادة وعقل وسمع وبصر وما إلى ذلك من الصفات والخلق العجيب، لم يخلق من غير شيء فإن تركيبه دال على حاجته إلى صانع، وهو كذلك لم يخلق نفسه لأنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، بل أُخرج من بطن أمه رغماً عنه فكيف يكون خلق نفسه؟؟
وهو كذلك لم يخلق السماوات والأرض فلم يبق إلا أن يكون هناك خالقاً أوجد ذلك كله، وهذا الخالق لا بد أن يكون له من صفات الكمال والجلال ما يمكن أن يتأتى منه إيجاد هذا الكون، وهذا بديهة من البدهيات، فإن من رأى طائرة أو حاسباً آلياً أو غير ذلك من المصنوعات الحديثة العجيبة فإنه يستدل بها على عظمة صانعها وأن لديه إمكانيات مالية وآلات ومواد دقيقة، وقدرات متعددة، فكذلك ولله المثل الأعلى هذا الكون دليل على كمال وعظمة وجلال موجده وخالقه.
وهذا القول أعني: إنكار الخالق، ليس عليه إلا شرذمة قليلة من الفلاسفة الدهريين، وليس له أي صدى لدى المسلمين، بل إن جُلَّ بني آدم يستنكرونه ويردونه، فإن جميع أصحاب الأديان على خلافه، وحتى الدول الشيوعية الملحدة في هذه الأزمان إنما ملاحدتها هم الساسة ومن دار في فلك أحزابهم. أما الشعوب التي تحت حكمهم فهم ما بين نصارى ويهود ومسلمين يقرون بالخالق ويدينون له بدين.
القول الثاني: الوجوديون.(48/95)
الوجوديون هم القائلون بوحدة الوجود، وأساس مذهبم يقوم على قول القائلين من الملاحدة: إن أصل هذا العالم هو المادة ولا يوجد فيه إلا ما هو جسم، فركب عليه القائلون بوحدة الوجود: إن هذا العالم تشيع فيه قوة حية هذه القوة الحية هي الله تعالى عن قولهم وأنه منبث في هذا الكون في كل ذرة من ذراته وهو القوة المصرفة له (1) .
وأول من ثبت عنه هذا القول برمنيدس (2) ثم قال بهذا الرواقيون (3) وعلى رأسهم زعيمهم زينون (4) وميلوس، ثم من أخذ بهذا من الرومان واليهود والنصارى مثل سبينوزا اليهودي (5) .
بيان بطلان قول الوجوديين من الفلاسفة:
قول الوجوديين من جنس قول الملاحدة السابق في عدم إثبات وجود لله عز وجل وجوداً متميزاً به عن سائر المخلوقات، إلا أن من يسمون بالملاحدة أنكروا وجوده جملة وتفصيلاً، أما هؤلاء فقد زعموا أن وجود هذا الكون هو وجوده وهو ذاته تعالى الله عن قولهم، وهو قول لا نصيب له من الحق والهدى، وأوجه بطلانه هي أوجه بطلان الذي قبله. ويزاد عليها أيضاً:
__________
(1) انظر: موسوعة الفلسفة 1/539، 2/625، مبادئ الفلسفة ص 171.
(2) برمنيدس الإلياني: فيلسوف يوناني له قصيدة في الطبيعة، ادعى فيها التوحيد المطلق وعدم التغير وأزلية كل شيء كان نحو 540-450 ق. م. المنجد ص 127.
(3) الرواقيون: نسبة إلى الرواق، الذي اتخذه زينون مقراً له يجتمع فيه مع أصحابه في أثينا، فسموا رواقيين والرواقية فلسفة أخلاقية، ومن قولهم القول بوحدة الوجود. انظر: الموسوعة الفلسفية (ص214) .
(4) زينون الأيلي هو مؤسس مذهب الرواقية وكان حياً ما بين 490 - 430 ق. م. الموسوعة الفلسفية (ص 226) .
(5) بنيركت أوباروخ سبينوزا يهودي هولندي من القائلين بوحدة الوجود توفي سنة 1677م. الموسوعة الفلسفية (ص 237) .(48/96)
1- أن هذا فيه طعن في الله عز وجل وسب له هو من أقبح الطعن والسب له سبحانه حيث زعموا أنه تعالى عن قولهم هو هذه الموجودات بما فيها من طيب وخبيث وخير وشر، وجعلوه تعالى عن قولهم الناكح والمنكوح، والآكل والمأكول، والشارب والمشروب إلى غير ذلك من المعاني والأحوال المتضادة والمتناقضة، وقد عاب الله عز وجل من زعم أن الله هو المسيح بن مريم وكفره قال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} المائدة (72) .
كما عاب تبارك وتعالى من ادعى له الولد، وجعل هذا القول من أقبح القول وأفسده، واعتبره سبحانه سباً شنيعاً له، ولم يكن لابن آدم أن يسب الله تبارك وتعالى أو ينتقصه قال عز وجل {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} مريم (88-93) .
فإذا كان ادعاء أن الله هو المسيح، وادعاء الولد له بهذه الشناعة والقباحة والاعتداء والظلم فلا شك أن ادعاء أن الله هو هذا الكون بكل ما فيه من طيب وخبيث أشد ظلماً وبغياً وقباحةً، ولا يعدو أن يكون قول سفيه أملاه عليه الشيطان وصور له هذه المقولة والدعوى وزينها له حتى نطق بذلك الإفك المبين.
2- إن هذا القول يلزم منه أن الله تبارك وتعالى يزيد بزيادة المخلوقات كما يلزم منه في نفس الوقت أنه ينقص ويفنى بنقص المخلوقات وفنائها.
3- يلزم من هذا القول أن الله تبارك وتعالى يموت ويحرق ويغرق ويتألم ويتأذى ويهان سبحانه وتعالى ويصيبه كل ما يصيب المخلوقات عزيزها وذليلها.(48/97)
4- أن هذا يلزم منه أن يكون المخلوق خالقاً لنفسه موجداً لها، وهذا شيء يعلم كل إنسان من نفسه بطلانه، فهو كما سبق أن ذكرنا خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، بل إنه خُلِق وأُوجِدَ بغير إرادة منه واختيار، وإذا كان هذا حال الإنسان وهو ذو الإرادة والقدرة والقوة فغيره من المخلوقات من باب أولى.
5- أن هذا القول يلزم منه أن كل مخلوق صغير أو كبير، حقير أو جليل إله ورب، وجميع العقلاء يدركون بطلان ذلك من أنفسهم ببداهة العقول، إلا أن يكون من سفهاء بني آدم وطغاتهم مثل فرعون وأضرابه، ولا شك أن تصور هذا القول دال على بطلانه ومغن عن الرد عليه.
المبحث الثاني: قول المؤلهة (1)
المؤلهة من الفلاسفة هم: الذين يقولون بوجود موجود أعلى يسمونه الإله، وهم كثير من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، إلا أنهم يختلفون في تصوراتهم وعباراتهم عن الإله بالنسبة لصفاته وأفعاله وسنذكر قولهم بشيء من التفصيل لأهميته وخطورته.
المطلب الأول: أقوالهم بالنسبة إلى وجود الله عز وجل وصفاته
القول الأول: قول سقراط (2) : يُؤْثر عن سقراط أنه أثبت صانعاً مدبراً فوق الآلهة الأخرى، والآلهة الأخرى هي أدوات يستعين بها في صنع هذا الوجود (3) .
__________
(1) لا يعني قولنا ((المؤلهة)) سوى أنهم يثبتون وجود موجود أعلى قد يعزون إليه ترتيب الموجودات الأخرى أو إيجاده منها آلهة أخرى.
(2) سقراط، ولد نحو 470 وتوفي 399 ق. م من كبار فلاسفة اليونان، جعل محور فلسفته الإنسان نفسه، ودراسة تصرفاته، اتهم بالكفر بآلهة اليونان، فحكم عليه بالإعدام، فمات بالسم. انظر: الموسوعة الفلسفية (ص 244) ، والمنجد في الأعلام (ص358) .
(3) موسوعة الفلسفة (1/579) .(48/98)
القول الثاني: قول تلميذه أفلاطون (1) : الذي يذهب إلى أن الله روح عاقل، محرك، جميل، خير، عادل، كامل، وهو بسيط لا تنوع فيه، ثابت لا يتغير، صادق لا يكذب، ولا يتشكل أشكالاً، وهو في حاضر مستمر (2) .
القول الثالث: قول تلميذه أرسطو (3) : الذي زعم أن الله جوهر أزلي، وهو عقل ليس جسماً، وليس له مكان، وهو حي ليس بميت، أوحد ليس بمنقسم، محرك لا يتغير ولا يتحرك، وإنما هو محرك لغيره بمعنى أن الأشياء تتحرك به على طريقة تحريك المعشوق لعاشقه (4) .
القول الرابع: أفلوطين (5) : يزعم أن الله جل وعلا هو الأول الواحد المبدع اللامتناهي وأنه لا يوصف بأي صفة من الصفات كائنة ما كانت، فهو عنده الشيء الذي لا صفة له، ولا يمكن أن ينعت ولا يمكن أن يدرك، وهو الغني المكتفى بذاته، البسيط أي غير المركب لا يقبل التجزئ (6) .
بيان بطلان تلك المقالات:
__________
(1) أفلاطون، ولد نحو 427 وتوفي نحو 347 ق. م من مشاهير فلاسفة اليونان،وهو تلميذ سقراط ومعلم أرسطو. الموسوعة الفلسفية (ص 52) ، والمنجد في الأعلام (ص 54) .
(2) انظر: في سبيل موسوعة فلسفية (ص 48-49) ، موسوعة الفلسفة (1/174) .
(3) أرسطو طاليس ولد نحو 384 وتوفي نحو 322 ق. م، وهو أشهر فلاسفة اليونان وأكثرهم تأثيراً فيمن بعدهم وهو مربي الأسكندر المقدوني وتلميذ أفلاطون. انظر: الموسوعة الفلسفية (ص 35) والمنجد في الأعلام (ص 34) .
(4) انظر: أرسطو المعلم الأول (ص 96-100) ، في سبيل موسوعة فلسفية لمصطفى غالب ص 42-43، موسوعة الفلسفة (1/104) ، الموسوعة الفلسفية (ص 38) .
(5) أفلوطين، ولد نحو 205 م وتوفي 270 م، وهو فيلسوف مصري متأثر بأفلاطون، وتعزى إليه مع آخرين الأفلاطونية الحديثة، وكان يسعى في فلسفته للتوفيق بين المعتقدات الدينية والفلسفة اليونانية، وكان له تأثير كبير على النصرانية. الموسوعة الفلسفية (ص57) ، المنجد في الأعلام (ص 56) .
(6) موسوعة الفلسفة (1/199) .(48/99)
الأقوال السابقة لمؤلهة الفلاسفة يتبين منها أنهم يثبتون إلهاً أعلى يتفقون على إثبات وجوده وجوداً مطلقاً وعلى نفي وصفه بأي صفة ثبوتية، ونفي الحركة عنه، ويمكن أن يقال: إنهم يعتبرونه تعالى عن قولهم: عقل مجرد، أوحد لا ذات له، ولا حركة، ولا تغير وإنما يحرك غيره على طريقة تحريك المعشوق لعاشقه.
هذا غاية ما أثبته هؤلاء الفلاسفة الذين هم أكبر الفلاسفة وأعظمهم عند أتباعهم، وهو قول في غاية السقوط والانحراف، ولا يقاربه في الانحراف والسخف إلا قول الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق جل وعلا ويتضح بطلانه من وجوه:
1- أن كلامهم عن الخالق تبارك وتعالى كله من باب الظن والتخمين، لأنهم لم يروا الباري تبارك وتعالى، ولم يروا شبيهاً له، ولم يشهدوا خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، كما لم يأخذوا قولهم هذا عن مخبر صادق، فلا يعدو أن يكون ظناً وتخميناً.
2- أن الفلاسفة بنوا كلامهم عن الباري تبارك وتعالى على النظر في مخلوقاته مما يحيط بهم ويرونه ويشاهدونه، وهذا ليس كافياً في إعطاء العلم الصحيح الكامل بالله عز وجل لأن مخلوقاته تدل على أشياء عامة ولا تدل على أشياء دقيقة كما راحوا يحاولون أن يقرروا ويثبتوا.
3- أن الفلاسفة في كلامهم عن الله عز وجل قاسوا الغائب على الشاهد واستخدموا في ذلك قياس التمثيل وقياس الشمول، وكل ذلك باطل بالنسبة لله عز وجل لأن قياس التمثيل قياس يستوي فيه الأصل والفرع، وقياس الشمول يستوي فيه الأفراد تحت حكم واحد، وإذا كان الفلاسفة يرون أن الله لا يشبهه أحد فهذا القياس فاسد، وموصل إلى فساد، لأنهم به إما أن يجعلوه شبيهاً لغيره، بناء على قياس التمثيل، أو يجعلوه محكوماً بقاعدة واحدة، بناء على قياس الشمول، أو ينفوا وجوده، بناء على الغلو في نفي المشابهة.(48/100)
وهذا كله باطل والأولى من ذلك استعمال قياس الأولى وهو أن ما كان كمالاً في المخلوق فالخالق واهبه فهو أولى به، وما كان من نقص فالخالق منزه عنه لكماله وجلاله (1) .
4- أن الفلاسفة لم يتوقفوا في نظرهم ومحاولتهم التعرف على خالق هذا الكون بالنظر إلى المخلوقات الظاهرة أمام أعينهم فيهديهم ذلك إلى كمال وجلال موجدها وخالقها، وإنما راحوا يبحثون في أصل مادة الكون وعلة وجوده، ومباحث أخرى تبع لذلك مبنية على الظن والتخمين وبنوا على ذلك الخرص والتخمين، وصف لله عز وجل ومعرفته، مع أن معرفة أصل الأشياء ومادتها الأولية فيه صعوبة بل عسر، أما ما بعد عنا كالكواكب والسموات وما غاب عنا من المخلوقات فمعرفته أقرب إلى المستحيل، فيكون إدراج ذلك كله في قضية واحدة مع المشاهد المحسوس من الخلق خلفاً وخطأً كبيراً.
5- إن إثبات وجود الله عز وجل ضرورة من الضروريات بل هو من أوجبها وألزمها وأوضحها، ولا ينكر وجوده جل وعلا إلا مكابر جاحد لأن مما هو مستقر في الفطر وبدهي في العقل أن كل موجود لا بد له من موجد، ولا بد أن يصل التسلسل إلى نهاية وإلا كان باطلاً والتسلسل في الوجود موصل إلى نهاية وهو الله تبارك وتعالى، وهذا لا يخالف فيه إلا شذاذ ملاحدة الفلاسفة. (2) وهنا نقول كما أن الله تبارك وتعالى وجوده ضروري، فكذلك إثبات صفاته تعالى ضروري لعدة أمور:
أ- إن وجوده موجب لإثبات صفاته، لأن كل موجود لابد أن يكون له صفات، فإذا لم يكن له صفات فهو المعدوم، والمعدوم ليس شيئاً موجوداً بل هو كاسمه ليس بشيء.
فلا يفرق بين الموجود والمعدوم إلا بوجود الصفات في الموجود وانتفائها عن المعدوم.
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية 1/326، بمعناه.
(2) انظر الشهرستاني في نهاية الأقدام في علم الكلام ص 128، الآمدي في غاية المرام ص 9.(48/101)
ب- إن كل موجود إنما يتميز عن غيره بالصفات الخاصة به، فالبشر يتميزون فيما بينهم بالصفات وهكذا سائر المخلوقات، وهي وإن كان بينها تماثل من وجه في تلك الصفات إلا أن بينها تمايزاً ظاهراً فكذلك الخالق تبارك وتعالى يتميز عن البشر بالصفات التي تميزه عن المخلوقات تميزاً ظاهراً.
ج- إن إثبات التمايز وعدم التماثل بين الخالق والمخلوق ضروري، كإثباتنا لوجوده وصفاته، لأنه وإن كان البشر وسائر المخلوقات تتصف بصفة الوجود، والخالق تبارك وتعالى متصف بذلك إلا أن الفرق بين الوجودين ظاهر واضح، فوجود كل موجود سوى الله عز وجل محدود له بداية، كما أنه يستمد وجوده من إيجاد الله تبارك وتعالى له، أما الله تبارك وتعالى فلا بداية لوجوده ولا يستمد وجوده من أحد سبحانه فهو الفرد الصمد وهو الأول والآخر. فعلى هذا لابد أن يكون له من الصفات أكملها وأعلاها مما لايماثله فيها أحد من مخلوقاته.
د- إن وجود المخلوقات موجب لوجود الصفات للخالق لأنه لا يمكن بحال أن توجد هذه المخلوقات مع ما هي عليه من حسن الخلق وعجيب الصنع وبديع النظام، ممن هو فاقد للصفات، فلا بد من إثبات الصفات بموجدها حتى يصح نسبة الإيجاد إليه، وعزو الفلاسفة الإيجاد إلى أشياء في زعمهم صدرت عن الله مثل النفس الكلية والعقل وما إلى ذلك إنما هو خرافة لأنه لا يمكن أن توجد النفس الكلية التي تفعل وتوجد أو تدبر وتتصرف والأصل الذي صدرت عنه فاقد لذلك، فمن أين لها أن توجد لنفسها الصفات التي تؤهلها للفعل والتدبير ما لم يكن أصلها يملك ذلك.
هـ- إذا أثبتنا أن دعوى النفس الكلية أو العقل الأول وما إليها خرافة من خرافات الفلاسفة وأن الموجد هو الله تبارك وتعالى وحده، فإن كل فعل دليل على صفات فاعله، فإنا نستدل على كمال عقل الإنسان وقوة ملكاته بما يصنع من مصنوعات.(48/102)
فكذلك ولله المثل الأعلى بالنسبة لله عز وجل فإن هذه المخلوقات بما فيها من بديع الصنع ودقيق التركيب وحسن النظام دليل على أن موجدها لابد أن يكون له كل صفات الكمال والجلال حتى يتأتى إيجاد هذه المخلوقات بهذه الصفة العجيبة، لأن من البدهي أننا لا يمكن أن نسند صنع الطائرة إلى رجل معتوه أو عاجز فضلاً عن أن نعزو وجودها إلى ميت أو جماد أو إلى ما لا وجود له حقيقي كما هو زعم الفلاسفة بإثبات الوجود المطلق لله وهو وجود ذهني لا حقيقة له في خارج الذهن.
فهذا كله مما يمنعه العقل ويحيله بل يوجب أن يكون تناسب بين الفعل والفاعل من ناحية الصفات، فالفعل العظيم يدل على فاعل عظيم، والفعل الحقير يدل على فاعل ضعيف، فهذه السماوات والأرضين وهذه المخلوقات ظاهرها وخفيها جليلها ودقيقها دليل على أن خالقها مستحق لكل صفات الكمال والجلال والعظمة.
6- أن ما ذكره الفلاسفة في وصفهم لله تبارك وتعالى كلام فاسد، لايعدو أن يكون إثباتاً لشيء ليس هو بشيء وذلك يتضح من وجوه:
أولاً: قولهم: إن الله تبارك وتعالى عقل، ذلك يعني أن الله فكر أو فكرة أو شيء معقول أو يَعْقِل ويُعْقَل، وهذا كله إثبات لمعنى بدون ذات، وهو أمر لا يعقل ولا يفهم، إنما المفهوم منه أنه لا ذات له جل وعلا، وكل ما لا ذات له لا وجود له، أو لا وجود له بنفسه، بل يكون قائماً في غيره أو صادراً عن غيره مثل الأفكار والكلام فهي معاني وصفات تقوم بغيرها ولا تقوم بنفسها، والفلاسفة ينفون أن يكون الله قائماً بغيره أو صادراً عن غيره، فيكون مرادهم أنه لا ذات له، وهذا نفي لوجوده وهو قول يتناقض تماماً مع دعوى وجوده ودعوى صدور العالم عنه كما سيأتي. فيتفقون بذلك مع الملاحدة منهم وهم نفاة وجود الله تبارك وتعالى.(48/103)
ثانياً: قولهم بأنه واحد أو أوحد مرادهم به: أنه واحد من كل وجه بحيث لا يوصف بغير الواحدية أو الأحدية وهذا نفي لصفاته، وهو نفي لوجوده أيضاً، لأن كل موجود لا بد أن يوصف بالصفات كما سبق أن بينا، فإذا انتفت عنه الصفات فذلك نفي لوجوده، لأن إثبات وجود الشيء إنما هو إثبات لصفاته، فلا يمكن أن يكون موجوداً لا صفة له، لأنك حين تقول: لا صفة له، فذلك يعني أحد أمرين:
إما أنك غير قادر على التعبير عن صفاته بالعبارات الصحيحة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم عن سدرة المنتهى: "فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها" (1) . وهذا ما لا يقصده الفلاسفة.
والمعنى الآخر الذي يقصدونه: أنه لا صفة له في نفس الأمر يمكن أن تذكر أو يعبر عنها بعبارة، وحقيقة هذا أنه مثل قولك لا وجود له، لأن ما لا صفة له هو المعدوم الذي لا وجود له، وهذا يتنافى مع العقل، ولازم أخذهم بالعقل يوجب عليهم إثبات الصفات لأن نفي الصفات بالكلية عن الموجود ينافي العقل، فإن العقل لا يثبت موجوداً إلا له صفات، وما نفى العقل وجوده هو ما لا يستطيع أن يصفه بصفة وهذا هو حقيقة قول هؤلاء الفلاسفة الدهرية.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان (1/388) .(48/104)
ثالثاً: قولهم إنه لا يتغير يقصدون بذلك: أنه لا يحدث فيه أي تغير لا في الماضي ولا في المستقبل مهما كان هذا التغير قليلاً. وهو قول لا يقبله العقل فضلاً عن الشرع، لأن معنى ذلك نفي لفعله وتشبيه له بالمعدوم أو الجماد، لأن المعدوم لا يتأتى منه الفعل، كما أن الجماد لا يتأتى منه فعل ولا تغير إلا أن يُغَير أما هو فلا يغير نفسه، ومعنى ذلك أن الله تبارك وتعالى لا يريد ولا يأمر ولا ينهى ولا يدبر ولا يتصرف في شيء بل الأشياء هي التي تتصرف دونه، ولا قدرة له عليها ولا تدبير له فيها، وهي المدبرة المتصرفة بشأنها، وكل ذلك يأباه العقل، فإن الحياة والإيجاد والتصرف والتدبير الموجود في الكون، إما أن يعزى إلى فاعل مدبر متصرف ذي قدرة كاملة وإرادة، وإما أن يعزى إلى جماد أو عدم، ولا شك أن العقل مضطر إلى الإقرار بوجود الخالق المتصرف ذي القدرة والإرادة والتدبير، وإلا انتفى وجود الكون كله، لأن ما فيه من خلق وإيجاد وتصرف وتدبير يدل على وجود وحياة الخالق وكمال قدرته وإرادته دلالة واضحة يضطر إليها كل عاقل، فضلاً عمن أمعن ودقق النظر، فإنه سيضطر إلى الإقرار بوجود الخالق ذي الجلال والإكرام.
وقول الفلاسفة أن الخالق لا يتغير ثم يزعمون أن الخلق صدر عنه، كما سيأتي مثل من يزعم أن جبل أحد أو أن صخرة صماء أوجدت بنفسها إنساناً أو حيواناً بدون فعل فاعل أو أن إنساناً أو حيواناً صدر عنها ووجد منها، فهذا كله مناف للعقل ويستسخفه كل ذي عقل سليم.
رابعاً: قولهم إنه لا يتحرك هو مثل سابقه لأنه يتضمن نفي حياته، لأن فرق ما بين الحي والميت الحركة فالشيء الذي لا يتحرك هو الميت أو الجماد، والجماد ميت لا حياة فيه.(48/105)
ولا شك أن هنا سؤالاً يطرح نفسه وهو: كيف يتأتى من ميت أو فاقد للحركة أن يعطي الحياة ويبث الحركة في غيره؟ هذا أمر مرفوض غير مقبول لأنا إذا نظرنا في المصنوعات التي صنعها الإنسان فإنا نراه يصنع المصنوعات ويبث فيها الحركة بما يجعل فيها من الطاقة والقدرة على ذلك بواسطة الوقود أو الكهرباء أو نحو ذلك، والإنسان حي متحرك فأمكن له أن يوجد متحركاً بما مكنه الله فيه، فالله تبارك وتعالى أولى أن يكون حياً يفعل ما يشاء، فإن لم يكن كذلك فلا يمكن أن يوجد هذا الكون لأن الميت لا يفعل ولن يفعل شيئاً.
خامساً: قولهم إنه محرك لغيره بدون أن يتحرك: هو وصف اضطروا إليه حتى يثبتوا دوراً للخالق تبارك وتعالى في التصرف في الكون، وهو ما يسمونه: العلة الأولى، وحتى لا يضطروا إلى القول بأن الأشياء أو المادة التي يزعمون أنها قديمة، كما سيأتي فعلت بنفسها فتكون هي الخالقة الموجدة ويكون دعوى وجود الخالق دعوى فارغة لا حاجة إليها ولا ضرورة.
ولا شك أن قولهم إنه محرك بدون أن يتحرك قول لا يستقيم لهم وهو باطل بناءً على كلامهم من عدة أوجه:
1- أن دعاويهم السابقة في نفي ذاته وصفاته وأفعاله تبطل دعواهم إنه محرك لغيره لأنه لا يمكن لشيء لاصفة له ولا ذات ولا فعل أن يكون محركاً لغيره فهذا محال.
2- أن دعواهم إنه محرك لا يتحرك: دعوى متناقضة لأنه ما لم يكن بنفسه متحركاً فكيف يحرك غيره؟ إلا أن يكون كالصخرة التي تسقط على غيرها فتدفعها وتحركها، إلا أن ذلك ينفيه الفلاسفة لأن لازم ذلك أن لحركته علة خارجة عنه، والعله تحتاج إلى علة أخرى إلى ما لا نهاية، وهذا ما يحذره الفلاسفة ويمنعونه، فهم مضطرون إلى القول بهذه الدعوى المتناقضة حتى يدفعوا التسلسل إلى ما لا نهاية.(48/106)
3- أن دعواهم إن تحريكه لغيره على طريقة تحريك المعشوق لعاشقه دعوى خيالية ظنية باطلة، فليس لهم عليها أدنى دليل سوى الدعوى، ثم إن المعشوق حسب تعبيرهم لا يمكن أن يُعشَق وهو لا صفة له ولا ذات ولا فعل.
4- أن الحركة الناتجة من دعوى التحرك على طريقة تحريك المعشوق لعاشقه هي حركة في غاية الضعف لا تعدوا أن تكون حركة قلبية أو نحوها، فكيف يمكن لحركة بهذا الضعف أن ينتج عنها هذا الوجود الباهر والصنع المتقن للكون.(48/107)
فكل هذه الدعاوى التي ذكرها الفلاسفة في الله تبارك وتعالى دعاوى فاسدة معلوم فسادها ببداهة العقول، فإن أي عاقل إذا نظر في المخلوقات المحيطة به أو نظر في نفسه أدنى نظرة أدرك أن خالقه لابد أن يكون ذا صفات عظيمة وجلال وكمال من جميع الوجوه، لأنه ما لم يكن كذلك فإنه لا يمكن أن يوجد هذا الخلق وهذا الكون، فإذا لم يكن له ذات فكيف يوجد ما له ذات، وإذا لم يكن موصوفاً بصفات الكمال من السمع والبصر والعلم والحكمة والإرادة وغيرها فكيف يوجد الموصوفين بهذه الصفات، وما لم يكن فاعلاً مختاراً كيف يوجد الفاعلين المختارين، وما لم يكن حياً كيف يوجد الحياة، ففاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن لجاهل أن يعلم الناس القرآن أو الشرع أو الدين لأنه فاقد للعلم، وغير البصير لا يمكن أن يرشد الناس إلى الطريق، والميت لا يمكن أن يفعل ولا يحي الموتى ولا يبعث الحياة في الموات ففاقد الشيء لا يعطيه، ولكن هؤلاء الفلاسفة لم ينظروا إلى المخلوقات ليستدلوا بها على الخالق بعين صحيحة، وإنما نظروا إليها بعقول قد لوثتها الوثنية والإلحاد فأثمرث هذه المقولات التي إن دلت على شيء فإنما تدل على إفلاسهم من النظر الصحيح والرأي السديد الذي يتوصل إليه أقل الناس حظاً من العلم, فهذه المخلوقات المحكمة الصنع والعظيمة في خلقها وهيئتها والعظيمة في دورها وعملها تدل على حكيم عليم بصير خبير، لابد أن يكون موصوفاً بكل صفات الكمال ألا وهو الله جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه.
المطلب الثاني: قولهم في إيجاد الكون(48/108)
الفلاسفة المؤلهة لا يعرفون الإيجاد من العدم ولا يقرون بأن الله تبارك وتعالى خلق الأشياء وأبدعها وهو مدبرها والمتصرف بشؤونها، وإنما يزعمون: أن المادة قديمة لا موجد لها ولا خالق، ويعزون إلى الله تبارك وتعالى نوع تأثير فيها، ويعزون إلى آلهة أخرى فاضت منه أو صدرت عنه الإيجاد والتدبير، على خلاف بينهم فيما نقل عنهم من رأي في ذلك، فإن بعضهم قد نقل عنه في ذلك كلام كثير، ومنهم من لم ينقل عنه إلا العبارات القليلة، فنذكر هنا قول بعض كبرائهم ومنهم:
سقراط: فقد زعم كما ذكرنا عنه من قبل: أن ثمة صانعاً فوق الآلهة ومدبراً فوق سائر الآلهة، والآلهة الأخرى هم أدوات يستعين بها في صنع الوجود (1) .
أما أفلاطون: فيزعم أن الله هو علة وجود العالم وسببه، ويزعم أن صور الأشياء (2) التي يسميها المُثل أزلية، كما يعزى إليه أن المادة (3) أزلية أيضاً، وهي في حركة دائمة، وأن الصانع أوجد: أولاً النفس الكلية مما يسميه المتشابه واللامتشابه، فصنعها شبيهة له فهي إلهة.
ومن النفس الكلية صنع العناصر الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب. وأنه صنع من ذلك الكواكب، وجعل لها نفوساً خلقها مما بقي من خلق النفس الكلية، وجعلها آلهة عاقلة خالدة واتخذ منها أعواناً تصنع نفوس الخلق الآخرين.
ويقول: إن الصانع يعتني بسائر مصنوعاته كلياتها وجزئياتها (4) .
__________
(1) موسوعة الفلسفة (1/579) .
(2) يعني بالصورة شكل الشيء وصورته قبل تشكيل المادة على تلك الهيئة والصورة،وهي مراد أفلاطون بالمثل. انظر: المعجم الفلسفي (ص 303) .
(3) مرادهم بالمادة جرم الشيء وجسمه قبل إعطائه الهيئة والصورة ويسمى الهيولى. المعجم الفلسفي (ص 297) .
(4) في سبيل موسوعة فلسفية (ص 54-57) ، موسوعة الفلسفة (1/168-178) .(48/109)
أرسطو: يزعم أن الصورة والمادة قديمتان أزليتان ليستا مخلوقتين، وهما متحركتان في الأزل موجودتان مع المحرك الأول الذي يزعم أنه الله، ثم إن المحرك الأول بغير أن يتحرك حرك الصورة والمادة فاجتمعتا فتكون من اجتماعهما الأجسام، وهو يرى أن الله تبارك وتعالى هو سبب نظام الأشياء الموجودة وترتيبها فقط وأنه لا يتدخل في الأحداث الجزئية ولا يعتني بشيء في الوجود خلا ذاته (1) .
أما أفلوطين المصري: فيزعم أن هناك عالمين:
أحدهما: عالم المعقول، وهو ثلاثة: الله والعقل والنفس (2) .
والله عنده هو الأول، وقد صدر عنه العقل وهو شبيه به.
والعقل: هو الحامل للصور وهو أبدي لا يفنى.
أما النفس: فقد صدرت عن العقل وهي شبيهة بالعقل وهي حاملة للصور بشكل أكبر من العقل.
ثانيهما: عالم المحسوس، وقد صدر عن النفس الكلية ونتج عنها، فهي التي صنعته وأوجدته، كما أنها هي التي أمدته بالنفوس التي تبث الحياة فيه، وعنده أن الله تعالى لا يعتني إلا بالأشياء الكلية، أما الأمور الجزئية والفردية فلا يعتني بها ولا يعلمها (3) .
بيان بطلان قولهم:
أقوال الفلاسفة السابقة في إيجاد الكون يمكن أن نلاحظ منها شيئاً وهو: تركب بعضها على بعض.
فسقراط شيخهم المتقدم زعم أن هناك إلهاً أكبر وآلهة دونه تساعده في صنع هذا الوجود.
__________
(1) موسوعة الفلسفة (1/106) ، في سبيل موسوعة فلسفية (ص 75-76) ، قصة الفلسفة (ص 112-114) .
(2) موسوعة الفلسفة (1/197) .
(3) موسوعة الفلسفة (1/204-207) .(48/110)
ثم جاء أفلاطون تلميذه فرتب هذه المقالة فزعم: أن الصور مع الإله الواحد قديمة،ويعزى إليه قدم المادة أيضاً، فشقشق كلاماً حتى يوجد رابطاً بين الإله الواحد والصور والمادة يتوصل منه إلى إيجاد هذا الكون، فاخترع النفس الكلية وادعى تكونها من المادة والصورة وهي التي تولت من بعد إيجاد الكون، فأخذ بهذه الدعوى كل من جاء بعد أفلاطون من الفلاسفة فبنوا كلامهم على هذه الأربعة أشياء: الإله، الصورة، المادة، النفس الكلية، على خلاف بينهم في بعض المسميات والترتيبات حسب قدرة الفيلسوف على التخيل والتعبير.
ومن هنا يمكننا أن نقول إن قول الفلاسفة في إيجاد الكون يتلخص في أن هناك موجودان أزليان وهما الله تبارك وتعالى وأصل مادة العالم، وأن الله تبارك وتعالى بدون أن يفعل شيئاً أو يريد شيئاً تكوَّن العالم وتصور على الصور المحسوسة بفعل وسائط صدرت عن الله تبارك وتعالى، وفي هذه الدعاوى من الفساد ما هو ظاهر واضح البطلان ومما يرد عليهم في ذلك أن يقال لهم:
أولاً: إن دعوى أن المادة والصورة أزليتان وغير مخلوقتين وهو ما يسمى بقدم العالم عندهم قول فاسد ظاهر الفساد، إذ أنه يلزم منه أن المادة والصورة وجدا من غير شيء، وهذا معلوم الفساد ببداهة العقول، فإن كل موجود لابد له من موجد حتى ينتهي إلى الموجد الأول، وهو الخالق تبارك وتعالى، وإلا لزم من ذلك التسلسل إلى ما لا نهاية وذلك باطل ومستحيل.
ثانياً: قولهم بأنه صدر عن الله أولاً النفس الكلية أو العقل ثم نفوس الكواكب إلى آخر كلامهم في هذا، كله ضرب من الظن والتخمين الذي لا يمكن بحال أن يقول بصحته إلا كل سفيه لا عقل له ولا دين، لأنه ليس قولاً مبنيا على أي معنى علمي، كما أنه لم يبن على ما هو مشاهد ومحسوس، إنما هو فرية افتراها أفلاطون وتبعه عليها من جاء بعده من الفلاسفة،(48/111)
وأصل هذه المقالة والموجب لها اعتقادهم أن الله تبارك وتعالى لا يوصف بشيء من الصفات الثبوتية، فاحتاجوا بناءً على اضطرارهم للقول بالخالق لوجود المخلوقات إلى القول بوجود الوسيط بين الخالق أو من يسمونه المبدع الأول: الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً ولا يملك شيئاً وليس له صفة، وبين المخلوقات، وهذا الوسيط هو النفس الكلية أو العقل على خلاف بينهم في التسميات، وهو الذي تولى إيجاد نفوس الكواكب ثم العناصر وما إلى ذلك من ضروب الظن والتخمين الفاسد.
وهذه الدعاوى تطورت عند من جاء بعده إلى زيادة العقول وترتيب هذه المقالة وفق ما يرون من تصحيح أو زيادة.
وهذا كله محض افتراء وكذب، وخيال عقلي، وأشبه بأسطورة من الأساطير منه ببيان علمي، والدليل على ذلك أمور:
1- أن مصدر العلم الصحيح إما التجربة أو المشاهدة أو الخبر.
ولا شك أن الله تبارك وتعالى ليس داخلا لا ذاته ولا صفاته تحت مشاهدتهم ولا تجربتهم، وكذلك أصل العالم ومادته وإيجاد الله له كما قال عز وجل {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} الكهف (51) .
فكل ذلك ليس مجالاً للمشاهدة والتجربة، كما أنهم ليس لهم مصدر علمي صحيح أخبرهم بذلك، فإذاً عادت دعواهم إلى مجرد خرص وتخمين فاسد بعيد كل البعد عن العلم الصحيح والنظر الصحيح.
2- أن تناقض الفلاسفة وزيادة بعضهم على بعض في هذه المقولة وتخطئة بعضهم لبعض في ذلك دليل على أن الأمر يعود إلى قدرة كل واحد منهم على الخرص والتخمين أكثر من الآخر، وذلك دليل على أن الأمر ليس حقيقة علمية يجب التسليم لها، وإنما هو تعبير خاص من قائله يعود إلى رأيه ونظره ولا يعود إلى أن ذلك هو حقيقة الأمر وواقعه.(48/112)
ولو فهمت هذه الآراء على أنها آراء خاصة بأصحابها لكان الخطب يسيراً ولكن مع الأسف فقد جعلت تلك المقالات الفاسدة والآراء الكاسدة حقاً ثابتاً ويقيناً راسخاً يقاس غيرها عليها، ويقرب ما نفر عنها منها، وهي حكم على ما سواها، وهذا انحراف خطير، وخروج بالأمر عن مساره، وقلب لموازينه، إذ أن حقيقة الآراء المبنية على الخرص والتخمين أن تبقى آراءً خاصة لا تتعدى قائلها، ولا تعطى أي صفة علمية.
ثالثا: أن ما ادعوه من النفس الكلية والعقل إن أثبتوا له الإرادة والقدرة على التصرف فقد زعموا أن المبدع الأول، على حد تعبير بعضهم قد صدر عنه الإرادة والفعل، مع أنه في زعمهم فاقد لهذه الصفات، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإن لم يثبتوا للنفس الكلية أو العقل الإرادة والقدرة والفعل فقد عاد الأمر كما كان بالنسبة للمبدع الأول، فتكون النفس الكلية أو العقل مسلوبي القدرة والإرادة والفعل ومعطلين، فلا يمكن أن يوجد ويدبر ويتصرف كما هو الحال بالنسبة للأول، ولازم ذلك عدم وجود المخلوقات وذلك باطل معلوم البطلان.
رابعاً: دعواهم أن العقل أو النفس الكلية هي التي أوجدت الكون ورتبته ووضعت فيه نظامه وأحكمته وما إلى ذلك مؤد إلى أن المبدع الأول فيما يزعمون أوجد من هو أفضل منه وأكمل وأجل وأقدر وهذا خلف وضلال مبين، فكيف يوجد من هو أفضل منه وهو عندهم في الأصل عاجز تمام العجز.(48/113)
خامساً: إن زعمهم أن الكواكب لها نفوس تدبرها وهي التي أوجدت الإنسان وما إلى ذلك، ظاهر فيه الكذب والضلال، فإن من أعظم الكواكب الأرض وفيها من الخيرات والأحوال ما ليس في غيرها ومع ذلك فظاهر لكل ذي عينين أنها جامدة مسخرة لا روح فيها، وإنما هي مكونة من تراب وحجارة وماء وغير ذلك من المواد الجامدة، ولها نظام في شكلها وهيئتها ووضعها في هذا الكون لا يمكن بحال أن تخرج عنه بنفسها، ولا يمكن أن تكون أوجدته هي بنفسها، فإذا كان هذا حال الأرض فالكواكب الأخرى لا شك مثلها في ذلك وهي أبعد عن أن تكون لها أرواح تدبر أمرها، وفي هذا الوقت اتضح كذبهم وظهر أكثر من ذي قبل خاصة بعد وصول أناس من البشر إلى القمر وما لم يصلوا إليه استطاعوا أن يصوروه أو يروه بالمكبرات فلم يتبين فيها إلا أنها أقل حالاً من الأرض بل إنها فاقدة لكل معاني الحياة على ظهرها، فبالتالي ادعاء أن لها أرواحاً وأنها مدبرة لهذا الكون أو موجدة لا يعدو أن يكون من الأساطير السخيفة التي لا تروج إلا على أسخف الناس عقلاً وأبعدهم عن الإدراك السليم.
سادساً: إن من نظر في قول الفلاسفة في إيجاد هذا الكون يدرك أنه مبني على أمرين:
الأمر الأول: نظر عقلي فاسد أوصلهم إلى أن الله ليس له أي صفة ثبوتية سوى الواحدية أو الأولية وهذا من أجل أن يتوصلوا إلى إثبات علة للوجود.
الأمر الثاني: الوثنية المغرقة في الضلالة والخرافة مما كان عليه المجتمع اليوناني في زمنهم من تأليه الكواكب واعتقاد أنها التي أوجدت هذا الكون وتتصرف فيه.
فركب الفلاسفة قولهم من هذين الأمرين وكلاهما واضح بطلانه ظاهر سخافته وتهافته.
وقبل أن ننهي الكلام عن قول الفلاسفة ودعاويهم في صفات الله تبارك وتعالى وفعله وإيجاده لهذا الكون لابد أن نشير إلى أمر مهم وهو:(48/114)
أن الفلاسفة قد يكونوا أجادوا بعض الإجادة في الكلام عن بعض المخلوقات أو الأمور المعنوية المتعلقة بالسياسة أو التربية ونحو ذلك، وكلامهم هذا مهما بلغوا فيه من حسن القول والإجادة لا يلزم أن يكونوا أهلاً لأن يتكلموا فيما وراء طاقة الإنسان وقدرته سواء فيما يتعلق بالله عز وجل، أو المخلوقات غير الظاهرة للعيان، فذلك غيب عن الإنسان، وعقل الإنسان وقدراته متعلقة بما يراه أو يرى شبيهاً له فيقيس عليه.
فحديثهم عن الله جل وعلا وحديثهم عن تكوين الكون ومادته وأصله كله كلام في أمر غير داخل تحت طاقتهم وقدرتهم، وكلامهم فيه لا يعدو أن يكون ككلام المتطفل على علم لا يحسنه. وهم في هذا مثل طبيب من أمهر الناس في الطب مثلاً هل يليق أن يذهب إليه أحد بناءً على حذقه في الطب فيسأله عن مسألة شرعية أو مسألة متعلقة بالسياسة أو مسألة متعلقة بالهندسة، لا شك أن هذا لا يليق ولا يصح.
ومن رام أن يأخذ من الطبيب جواب مسألة شرعية دقيقة أو مسألة متعلقة بالهندسة أو المحاسبة فهو مخطئ. فكذلك من رام أن يجد عند هؤلاء الفلاسفة علم ما يتعلق بالله عز وجل فقد أخطأ الطريق وأخطأ الهدف.
ثم إنه من رحمة الله عز وجل لما كانت وسائل البشر إلى معرفته المعرفة الصحيحة الكاملة مسدودة إلا من خلال الوحي أنزل الله في ذلك كتبه وأرسل رسله لتعليم الناس وتعريفهم به، وهذا من أعظم الرحمة وأعظم المنة من الله عز وجل على خلقه، لأنه بذلك يهيئ من شاء منهم إلى رحمته العظمى ورضوانه الأكبر في جنات عدن.
خاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي هدانا بغير حول منا ولا طول، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلي الله على معلم البشرية الخير وهاديها إلى كل فلاح ونجاح نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
أما بعد:(48/115)
فبعد أن طوفنا خلال قول أهل الحق في الله عز وجل وربوبيته وألوهيته وصفاته ثم عرجنا على قول أهل الباطل من الفلاسفة نختم هذا البحث بأهم النتائج المستفادة منه وهي:
1- أنه جاءنا عن الله تبارك وتعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق الذي تستريح له النفوس وتطمئن له القلوب ويغنيها عن سواهما ويعطيها ما تحتاج إليه من العلم الصحيح والتعبد الصحيح للمعبود الحق لأهل الأرض والسماء.
2- أن الطريق إلى العلم الصحيح في الله عز وجل مغلق إلا من الطريق الذي جعله الله عز وجل طريقاً إليه وهم أنبياؤه وأمناؤه على وحيه.
3- أن العقل غير قادر باستقلال للوصول إلى العلم الصحيح عن الله عز وجل.
4- أن العقل مهما كان ناضجاً وقوياً فإنه لا يسلم من تأثير البيئات المحيطة به، والتربية التي تربى عليها الانسان، فلهذا تأتي أحكامه وتصوراته متأثرة بمؤثرات خارجية، تفسد عليه نقاوته وصحته وتقلب في بعض الأحيان موازينه.
5- أن الفلاسفة ليسوا مؤهلين بحال للكلام في الله عز وجل لا من ناحية منهجهم، ولا مستواهم، ولا أهدافهم، وغاياتهم.
6- أن كلام الفلاسفة في الله عز وجل متناقض، وهو من أفسد الكلام وأقبحه.
7- أن الفلاسفة المعتمدين على العقل كما تناقضوا مع الحق في قولهم، فقد تناقضوا فيما بينهم، فمنهم من نفي وجود الله عز وجل جملة وتفصيلاً، ومنهم من زعم أنه هو هذا الوجود صغيره وكبيره، ومنهم من أثبت له وجوداً مطلقاً وعزله عن الخلق والإيجاد والتدبير والتصرف. وفي هذا التناقض دليل كاف على فساد المنهج العقلي وعدم قدرته على الوصول إلى العلم الصحيح في هذا الباب.
8- أن الفلاسفة كما لم يثبتوا لله تعالى وجوداً حقيقياً، فهم أيضاً لم يثبتوا له فعلاً ولا ربوبية ولا ألوهية.
9- أن الفلاسفة المؤلهة لما لم يثبتوا لله تعالى وجوداً حقيقياً ولا فعلاً اضطروا إلى ادعاء صدور أشياء عديدة، تسلسلت في الصدور عنه، عزوا إليها الخلق والتدبير.(48/116)
10- أن الفلاسفة لا يستطيعون بحال أن يقيموا برهاناً عقلياً واحداً على دعاويهم تلك،وإنما هي خيالات وأوهام مبنية على وهم خاص بكل واحد منهم.
11- أن الله تعالى رحم البشرية عموماً بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، التي استفاد منها خلق كثير من بني آدم، سلم وامن خرافات ودعاوى الفلاسفة، التي راجت على بعض الناس، مع خلوها من البرهان أو الدليل.
12- أن الفلاسفة الوثنيين أثروا في أناس عديدين من أهل الأديان من اليهود والنصارى والمسلمين، وهذا ما سنبينه بشيء من التفصيل في دراسة لاحقة إن شاء الله تعالى.
هذا ما تيسر جمعه في هذه الدراسة الموجزة. وفي الختام نحمد الله تعالى أولاً وآخراً الذي بنعمته تتم الصالحات، ونصلي ونسلم على نبينا محمد الهادي البشير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.(48/117)
تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين؛ لعلم الدين البلقيني
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .
أما بعد:
__________
(1) آية (102) ِ سورة آل عمران.
(2) آية (1) من سورة النساء.
(3) آية (70 - 71) من سورة الأحزاب.(48/118)
فإن العلم من أفضل القُرَب التي يتقرب بها العبد إلى ربه، كيف لا، وقد أثنى الله تعالى على أهله في غير آية، منها: قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18) (1) . وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} (2) ، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: منها حديث معاوية رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" (3) .
وقد هيأ الله تبارك وتعالى ظهورَ علماء أجلاء في كل عصر من العصور، وقفوا أنفسهم على خدمة الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما، فخلفوا ثروة عظيمة زخرت بها مكتبات العالَم في شتى الأقطار، ومن أولئك العلماء الأجلاء علم الدين صالح عمر البلقيني المتوفى سنة 868 هـ، فقد خلف ما يزيد على عشرين مؤلفا، ومما اطلعت عليه من مؤلفاته مخطوطة بعنوان: "تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين" فأردت أن أدلي بدلوي - مع قلة بضاعتي - بإخراج هذا المؤلف محققا.
أسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يعينني على ذلك، وييسره لي وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
خطة البحث
يحتوي هذا البحث على مقدمة وقسمين: قسم في الدراسة، وقسم في التحقيق.
فأما قسم الدراسة فيشتمل على ما يلي:
- التعريف بالمؤلف:
__________
(1) آية (18) من سورة آل عمران.
(2) آية (9) من سورة الزمر.
(3) أخرجه البخاري 1/25 في كتاب العلم، باب: من يرد الله خيرا يفقه في الدين، واللفظ له، ومسلم 2/719 في الزكاة، باب النهي عن المسألة.(48/119)
وهذا يشتمل على البحث عن: اسمه ونسبه، ومولده، ومكانته العلمية، وأبرز علماء أسرته، وشيوخه، وتلاميذه، وثناء العلماء عليه، وولايته للقضاء، ومؤلفاته، ووفاته.
- التعريف بالكتاب المحقق:
وذلك يشتمل على البحث عن: نسبة الكتاب للمؤلف، وموضوعات الكتاب وسبب تأليفه ومنهجه، ووصف النسخ المعتمدة في التحقيق، ونماذج من المخطوط، ومنهج التحقيق.
وأما قسم التحقيق فقد اتبعت فيه المنهج الآتي بيانه في صفحة (258) .
القسم الدراسي
في
التعريف بالمؤلف والمخطوط المحقَّق
أولا: التعريف بالمؤلف
ويشتمل عل النقاط التالية:
اسمه ونسبه:
هو علم الدين صالح بن عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن شهاب بن عبد الحق بن عبد الخالق البلقيني (1) .
اشتهر بلقبه: "علم الدين " (2) .
وكنيته: "أبو البقاء "و " أبو النقى " (3) .
ونسبته إلى " بلقينة " محلة بالقرب من " بنها "إلى الشمال من القاهرة (4) .
مولده:
اتفق أكثر المترجمين له أن ولادته كانت ليلة الاثنين، الثالث من شهر جمادى الأولى، عام واحد وتسعين وسبعمائة للهجرة (5) .
غير أن الحافظ ابن حجر ذكر أن المؤلف ولد سنة تسعين وسبعمائة للهجرة (6) .
__________
(1) وردت ترجمة المؤلف في:
رفع الإصر لابن حجر 2/256، الدليل الشافي 1/351، الشيوخ لابن فهد ص/357، ذيل رفع الإصر ص/155، الضوء اللامع 3/312-314، حسن المحاضرة للسيوطي 1/444-445، نظم العقيان ص/119، شذرات الذهب 9/454، بدائع الزهور 2/419، كشف الظنون
1/354-363، 619، البدر الطالع 1/286-287، هدية العارفين 1/422، الأعلام
3/279، معجم المؤلفين 5/9، عصر السلاطين 2/116-117.
(2) انظر: المصادر السابقة.
(3) انظر: نظم العقيان ص/119، معجم المؤلفين 5/9.
(4) انظر: عصر السلاطين 2/116.
(5) انظر: مصادر ترجمته في هامش رقم (1) .
(6) انظر: رفع الإصر عن قضاة مصر 2/256.(48/120)
والأول هو الأقرب للصواب؛ إذ هو المثبت في جميع مصادر الترجمة، إلا ما ورد في كتاب "رفع الإصر " للحافظ ابن حجر، ولعله خطأ في النسخ أو الطباعة.
مكانته العلمية:
تبوأ المؤلف مكانة علمية سامية، وبلغ رتبة عالية حتى كان إمام العلماء في عصره والمبرز فيهم، ولم يأت نبوغه من فراغ، بل إن نشأته في أسرة علمية، وترعرعه في بيت عريق اشتهر بالريادة العلمية، كان له الأثر الكبير في تكوين شخصيته العلمية الفذة.
فأسرة ... " مدرسة أسهمت في تخريج كثير من العلماء الأفذاذ الذين أسهموا في نشر العلوم الشرعية، وإثراء المكتبة الإسلامية بالعديد من الكتب والرسائل، التي أفاد منها المعاصرون لهم ومن جاءوا بعدهم وقد اشتهر العديد منهم، ممن كانوا على قدر كبير من العلم والخلق والورع.
ومن أبرز علماء هذه الأسرة:
محمد بن عمر بن رسلان البلقيني " أخو المؤلف".
من أشهر الفقهاء في القرن الثامن الهجري، درَّس وأفتى، وتولى القضاء، له مؤلف بعنون «رسالة الكليم في تسلية أهل المصائب» ، توفي رحمه الله بالقاهرة سنة 791 هـ. (1)
عمر بن رسلان بن نصير سراج الدين البلقيني (والد المؤلف) .
برز في كافة العلوم الشرعية، وأثنى عليه علماءُ عصره، وفاق أقرانه في الفقه وحفظ متون الحديث. من مصنفاته: التدريب في الفقه، ومناسبات تراجم أبواب البخاري، وتصحيح المنهاج. توفي رحمه الله سنة 805 هـ. (2)
عبد الرحمن بن عمر بن رسلان البلقيني، جلال الدين (أخو المؤلف) .
__________
(1) انظر: أنباء الغمر 2/376، طبقات ابن قاضي شهبة 3/171، شذرات الذهب 8/546.
(2) انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 4/36، البدر الطالع 1/506، الأعلام 5/46.(48/121)
اشتهر بالذكاء وقوة الحفظ، وولي القضاء عدة مرات، ووصفه الحافظ ابن حجر بأنه من عجائب الدنيا في سرعة الفهم، وجودة الحفظ. من مؤلفاته: الإفهام لما في صحيح البخاري من الإبهام، وبيان الكبائر والصغائر، وحواشي الروضة. توفي رحمه الله سنة 824 هـ. (1)
أحمد بن أبي بكر بن رسلان البلقيني، شهاب الدين، ابن أخ المؤلف.
كان فقيها عالما فاضلا، وجيها. من مؤلفاته: الروضة الأريضة في قسمة الفريضة. توفي رحمه الله سنة 844 هـ. (2)
قاسم بن عبد الرحمن بن عمر بن رسلان، زين الدين (ابن أخ المؤلف) .
من فقهاء الشافعية. من مؤلفاته: شرح التنبيه، وشرح الحاوي، وشرح المنهاج. توفي رحمه الله سنة 861 هـ. (3)
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن رسلان البلقيني، بدر الدين،
(ابن ابن أخ المؤلف) .
اشتغل بالفقه والأصول والفرائض، ونبغ فيه، وتتلمذ عليه عدد كبير، وأخذوا عنه. من مؤلفاته: حاشية على خبايا الزوايا للزكشي في الفقه، وشرح مقدمة المناوي في النحو. توفي رحمه الله سنة 889 هـ. (4)
شيوخه:
ظهر خلال الحقبة الزمنية التي عاش فيها المؤلف عدد كبير من أبرز العلماء والمجتهدين الذين تميزوا في مختلف العلوم والفنون، وازدهرت فيه الحركة العلمية، وكان لأولئك الجهابذة تأثير في إبراز شخصية العلم البلقيني، حيث أفاد من أولئك العلماء المبرزين، ومن أشهرهم:
عمر بن رسلان بن نصير البلقيني، سراج الدين، والد المؤلف المتوفى سنة 805 هـ (5) .
__________
(1) انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 4/87، أنباء الغمر 7/440، الأعلام 3/320.
(2) انظر: الضوء اللامع 1/253، شذرات الذهب 9/362، معجم المؤلفين 1/176.
(3) انظر: الضوء اللامع 6/181، شذرات الذهب 9/437، معجم المؤلفين 8/105.
(4) انظر: الضوء اللامع 11/3، البدر الطالع 2/244، هدية العارفين 2/213.
(5) سبقت ترجمته في صفحة (6) .(48/122)
عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، الإمام الحافظ العراقي الشافعي، المتوفى سنة 806 هـ (1)
أحمد بن حجي بن موسى، شهاب الدين الشافعي، الحافظ المؤرخ المتوفى سنة 816 هـ. (2)
محمد بن عبد الله بن ظهيرة القرشي المخزومي، قاضي مكة وخطيبها، المتوفى سنة 817 هـ. (3)
محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة، عز الدين، أحد أبرز فقهاء الشافعية. توفي رحمه الله سنة 819 هـ. (4)
عبد الرحمن بن عمر بن رسلان، جلال الدين، أخو المؤلف، المتوفى سنة 824 هـ. (5)
أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، الحافظ الشهير، والإمام المحدث، صاحب كتاب «فتح الباري» ، المتوفى سنة 852 هـ (6) .
تلاميذه:
برز المؤلف في عصره، واشتهر بالإمامة في الفقه وغيره، وذاع صيته، وفاق أقرانه، فاتجه إليه طلاب العلم من كل مكان، ولازموا حلقاته الدراسية، ونهلوا من العلوم التي يلقيها.
ومن أشهر التلاميذ الذين أخذوا عنه: -
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن رسلان، بدر الدين، المتوفى سنة 889 هـ (7) .
أحمد بن أحمد بن عبد الخالق الأسيوطي، ولي الدين الشافعي، أحد القضاة، المتوفى سنة 891 هـ. (8)
عبد الله بن زيد بن أبي بكر الجراعي الحنبلي، جمال الدين الصالحي، المتوفى سنة 896 هـ (9) .
__________
(1) انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 4/29-33، البدر الطالع 8/72، هدية العارفين 1/562.
(2) انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 4/12، شذرات الذهب 9/173، أنباء الغمر 7/121.
(3) انظر: الضوء اللامع 8/83، طبقات ابن قاضي شهبة 4/54، هدية العارفين 2/182.
(4) انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 4/49، أنباء الغمر 7/240، البدر الطالع 2/147.
(5) سبقت ترجمته في صفحة (7) .
(6) انظر: الضوء اللامع 2/36، شذرات الذهب 9/395، الأعلام 1/178.
(7) سبقت ترجمته في صفحة (7 – 8) .
(8) انظر: الضوء اللامع 1/210، متعة الأذهان 1/39.
(9) انظر: متعة الأذهان 1/465.(48/123)
محمد بن إسماعيل بن محمد الشافعي، شمس الدين، الشهير بخطيب السقيفة، المتوفى سنة 896 هـ (1) .
محمد بن إسماعيل بن خالد السعدي، بدر الدين، الفقيه الحنبلي، المتوفى سنة 900 هـ (2) .
محمد بن عبد الرحمن بن محمد، شمس الدين السخاوي الشافعي، الحافظ المؤرخ الشهير المتوفى بالمدينة المنورة سنة 902 هـ (3) .
عبدا لرحمن بن أبي بكر بن محمد، السيوطي، جلال الدين، الحافظ، صاحب المؤلفات التي زادت عل ستمائة مصنف، والمتوفى سنة 911هـ (4) .
عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح الراميني، نجم الدين الصالحي، الفقيه الحنبلي، المتوفى سنة 919 هـ (5) .
زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري، زيد الدين، القاضي الفقيه الشافعي، المتوفى سنة 926 هـ (6) .
أبو بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن، الفقيه الشافعي، المعروف بابن قاضي عجلون، المتوفى سنة 928 هـ (7) .
ثناء العلماء عليه:
تبوأ الإمام البلقيني مكانة مرموقة بين علماء عصره، وكان لنبوغه العلمي وسيرته في القضاء أثر محبة الناس له، واحتفظ التاريخ بذكراه العطرة، وسطر سيرته الحسنة، وعدد مناقبه الغزيرة، ومآثره العديدة.
ويتضح ذلك من خلال قراءة تاريخ حياته في المصادر التاريخية التي أوردت ترجمته:
قال عنه السخاوي، وهو من أبرز تلاميذه (8) : -
__________
(1) انظر: متعة الأذهان 2/630.
(2) انظر: الضوء اللامع 9/59، شذرات الذهب 9/552.
(3) انظر: الضوء اللامع 9/59، الكواكب السائرة 1/53، الأعلام 6/194.
(4) انظر: الكواكب السائرة 1/226، شذرات الذهب 1/74، البدر الطالع 1/328.
(5) انظر: متعة الأذهان 1/542، الكواكب السائرة 1/284، شذرات الذهب 1/132.
(6) انظر: الضوء اللامع 3/118، الكواكب السائرة 1/178، الأعلام 3/46.
(7) انظر: الكواكب السائرة 1/114، شذرات الذهب 10/17، الأعلام 2/66.
(8) انظر: الضوء اللامع 3/312-313، ذيل رفع الإصر ص/159.(48/124)
كان إماما فقيها، عاملا قوي الحافظة، سريع الإدراك، خلق العبارة فصيحا، بساما بشوشا، طلق المحيا، فاشيا للسلام، مهابا، لطيفا في المحاضرة، فكها، ذاكرا لكثير من المتون والفوائد الحديثية والمبهمات، مستحضرا لجملة من الرقائق والمواعظ والأشعار، وكذا الوقائع والحوادث العلمية، شهما مقداما لا يهاب.
وقال عنه العلامة السيوطي (1) : هو شيخنا، حامل لواء مذهب الشافعي في عصره في عراقه وحجازه وشامه ومصره، قاضي القضاة، شيخ الإسلام، تفرد بالفقه، وأخذ عنه الجم الغفير، وألحق الأصاغر بالأكابر، والأحفاد بالأجداد، وقد أفردت ترجمته بالتأليف.
وقد اشتهر الإمام البلقيني بأسلوبه الأخَّاذ في الوعظ والإرشاد المميز في الخطب، فكان يجتمع في مجالسه، والمسجد الذي يُلقي الإمام البلقيني فيه الخطب جموع غفيرة وأعداد كبيرة من الناس، وأصبح علما يشار إليه بالبنان، وقال أحد الأدباء مثنيا عليه (2) .
وعظ الأنام إمامنا الحبر الذي
سكب العلوم كبحر فضل طافح
فشفا القلوب بعلمه وبوعظه
والوعظ لا يشفي سوى من صالح
ولايته القضاء:
لا عجب أن يتولى الإمام البلقيني منصب القضاء بعد الشهرة العلمية، والمنزلة الفقهية التي بلغها، وليس غريبا أن يتولى القضاء، وقد ولي معظم العلماء من أسرته وأقاربه هذا العمل.
فقد تولى القضاء مبكرا قبل بلوغه العشرين من عمره نيابة عن أخيه القاضي جلال الدين بن عمر، في «دمنهور» شمال مصر.
ثم استقر في القضاء بالديار المصرية، ثم عزل، ثم أعيد، وتوالى عزله وإعادته عدة مرات، وبلغ مجموع ما أمضاه في القضاء ثلاثة عشر عاما ونصف.
وعرض عليه الوالي قضاء دمشق، فامتنع. وأثنى عليه السخاوي، وذكر أنه سار في القضاء سيرة حسنة (3) .
مؤلفاته:
__________
(1) انظر: حسن المحاضرة ص/445، نظم العقيان ص/119.
(2) انظر: البدر الطالع 1/268.
(3) انظر: الضوء اللامع 3/313، رفع الإصر 2/258-259، ذيل رفع الإصر ص/168، حسن المحاضرة 1/444، شذرات الذهب 9/454.(48/125)
حفل عصر العلامة البلقيني بأفذاذ من العلماء الذين أسهموا إسهاما بارزا في زيادة الإنتاج العلمي وتدوينه، وكثرت المؤلفات المختلفة في شتى أنواع المعارف والفنون بالإضافة إلى ما كانوا يقومون به من الإفتاء والتدريس، وإرشاد الناس وتوجيههم فإنهم لم يغفلوا عن جانب التأليف والكتابة، ولم ينصرفوا عنه رغم كثرة المشاغل والأعمال الأخرى.
والإمام البلقيني واحد ممن كان لهم دور بارز في ذلك، فقد قدم للمكتبة الإسلامية عددا من المؤلفات التي جادت بها قريحته، وسطرها قلمه، أعانه عليها ما وهبه الله من ذكاء وفطنة، وحفظ واستيعاب للفنون المختلفة والعلوم المتنوعة.
وفيما يلي سرد لمؤلفاته التي أوردتها المصادر التي ترجمت له:
أجوبة عن أسئلة منظومة (1) .
أحكام المبعض (2) .
التجرد والاهتمام بجمع فتاوى الوالد شيخ الإسلام (3) .
يقع في ثلاثة مجلدات، مجموع أوراقها (908) ورقات، محفوظ بالمكتبة الأزهرية (4) ، ومرتب على أبواب الفقه.
ويتضمن فتاوى والده في مختلف المسائل، وفرغ من تأليفه في شهر شعبان سنة أربع وأربعين وثمانمائة.
تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين.
... وهو هذه الرسالة التي حققتها، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى (5) .
التذكرة، في ست مجلدات (6) .
ترجمة البلقيني، كتاب ذكر فيه سيرة والده وحياته العلمية (7) .
__________
(1) انظر: ذيل رفع الإصر ص/174.
(2) انظر: ذيل رفع الإصر ص/172.
(3) انظر: ذيل رفع الإصر ص/171، الضوء اللامع 3/313، البدر الطالع 1/287، هدية العارفين 1/422، كشف الظنون 1/345، الأعلام 3/194، معجم المؤلفين 5/9.
(4) انظر: فهرس المكتبة الأزهرية 2/230.
(5) في صفحة (18) وما بعدها.
(6) انظر: ذيل رفع الإصر ص/174، كشف الظنون 1/389، الأعلام 3/194.
(7) انظر: ذيل رفع الإصر ص/174، الأعلام 3/194.(48/126)
ترجمة الجلال البلقيني، أفرد فيه ترجمة لأخيه جلال الدين عبد الرحمن (1) .
تفسير القرآن العظيم، في ثلاثة عشر مجلدا، فرغ من تأليفه سنة 863 هـ (2) .
تكملة التدريب.
أكمل المؤلف فيه مؤلفا في الفقه لوالده، اسمه "التدريب" (3) ، كان قد وصل فيه إلى كتاب "الرضاع"، وأتمَّه المؤلف إلى نهاية أبواب الفقه، وفرغ من تأليفه في شهر محرم سنة 857 هـ (4) .
تلخيص الفوائد المحضة على الرافعي والروضة.
وهو تعليقات على كتاب "فتح العزيز" و "روضة الطالبين"، ويقع في سبع مجلدات (5) .
الجوهر الفرد فيما يخالف فيه الحر العبد (6) .
وهي رسالة جمع فيها المؤلف المسائل الفقهية التي يخالف فيها العبيد الأحرار مرتبة على أبواب الفقه. وقد حققها الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله السحيمي.
دخول العبد المسلم في ملك الكافر.
توجد منها نسخة مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تحت رقم (523/ف) كتب على غلافها اسم المؤلف، ولم أر من نسبها إليه ممن ترجموا له.
الغيث الجاري على صحيح البخاري (7) .
شرح للمؤلف على صحيح البخاري من أوله إلى أواخر كتاب الصيام (8) .
القول المستبين في أحكام المرتدين (9) .
__________
(1) انظر: ذيل رفع الإصر ص/174، الأعلام 3/194، كشف الظنون 1/397، هدية العارفين 1/422.
(2) انظر: حسن المحاضرة 1/445، شذرات الذهب 9/454، كشف الظنون 1/445، هدية العارفين 1/442.
(3) انظر: التعريف عن كتاب «التدريب» في ترجمة والد المؤلف في صفحة (6-7) .
(4) انظر: ذيل رفع الإصر ص/171، البدر الطالع 1/187، كشف الظنون 1/382.
(5) انظر: ذيل رفع الإصر ص/171.
(6) انظر: الضوء اللامع 3/314، البدر الطالع 1/287، والأعلام 3/194، معجم المؤلفين 5/9.
(7) انظر: ذيل رفع الإصر ص/171.
(8) انظر: ذيل رفع الإصر ص/171.
(9) انظر: البدر الطالع 1/287، هدية العارفين 1/422، معجم المؤلفين 5/9.(48/127)
القول المفيد في اشتراط الترتيب بين كلمتي التوحيد (1) .
القول المقبول فيما يدعي فيه بالمجهول (2) .
مخطوطة صغيرة في ست ورقات محفوظة في مكتبة أحمد الثالث بتركيا، منها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تحت رقم (523/ف) .
الكشاف على الكشاف (3) .
... وهو تعليق على شيء من تفسير الكشاف للزمخشري في عدة مجلدات.
مؤلف في الطاعون (4) .
مقالات نثرية.
... وهو تقريظ على بعض مصنفات معاصريه (5) .
المقال المقطر في مقام المنبر.
... وهو ديوان خطب في مجلد واحد (6) .
النثر الرائق في الرقائق.
... وهو أربعة أجزاء في المواعظ (7) .
النثر الفائق في الرقائق.
... وهو في مجلد واحد في المواعظ (8) .
وفاته:
أجمعت المصادر التاريخية التي ترجمت للمصنف – رحمه الله تعالى – على أن وفاته كانت في يوم الأربعاء، الخامس من شهر رجب، عام ثمان وستين وثمانمائة للهجرة النبوية. ودفن في اليوم التالي لوفاته بعد أن أدت جموع غفيرة الصلاة عليه بجامع الحاكم (9) .
ثانيا: التعريف بالمخطوط المحقق:
ويشتمل على النقاط التالية:
نسبة الرسالة إلى المؤلف:
وردت نسبة رسالة (تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين) ضمن قائمة مؤلفاته التي توردها المصادر المختصة، وكتاب (هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين) لمؤلفه إسماعيل باشا البغدادي المتوفى 1339هـ، من أهم المصادر التي عنيت بنسبة المؤلفات إلى أصحابها وربط عناوينهابأسماء مؤلفيها.
__________
(1) انظر: ذيل رفع الإصر ص/171، الأعلام 3/194، معجم المؤلفين 5/9.
(2) انظر: ذيل رفع الإصر ص/170-171.
(3) انظر: ذيل رفع الإصر ص/171.
(4) انظر: ذيل رفع الإصر ص/172.
(5) انظر: ذيل رفع الإصر ص/175-178.
(6) انظر: ذيل رفع الإصر ص/174، الأعلام 3/194.
(7) انظر: ذيل رفع الإصر ص/174.
(8) انظر: ذيل رفع الإصر ص/174.
(9) انظر: مصادر ترجمته في صفحة (240) .(48/128)
وحين عدد البغدادي في كتابه هدية العارفين 1/422 أسماء مؤلفات العلامة البلقيني، ذكر منها هذه الرسالة: (تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين) .
كما نسبها للبلقيني، الحاج خليفة في مؤلفه الذي خصصه لذكر أسماء المؤلفين ومؤلفاتهم. فقد جاء في كتابه: «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 1/363: «تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين» لعلم الدين صالح بن سراج الدين عمر البلقيني.
فنسبة الرسالة إلى المؤلف ثابتة من خلال هذين المصدرين.
كما أن أسلوب المؤلف ومنهجه في كتابتها لا يختلف عن المنهج الذي سلكه في تأليف رسائله الأخرى التي اطلعت عليها، ومنها:
الجوهر الفرد فيما يخالف فيه الحر العبد.
القول المقبول فيما يدعي فيه بالمجهو.
دخول العبد المسلم في ملك الكافر.
موضوع المخطوط وسبب تأليفه ومنهجه:
هذا المؤلف (تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين) يتحدث فيه مؤلفه عن بعض المسائل المتعلقة بمن يقبل قوله بلا يمين على مذهب الإمام الشافعي الذي ينتسب إليه.
أما سبب تأليفه فقد أشار المؤلف إليه في المقدمة حيث قال: ليتذكر بها الفقيه المتين الراغب في الفقه ولينتفع بذلك أهل التقوى والدين.
أما منهجه في هذا المؤلف فهو يختار من كل باب من أبواب الفقه مسألة أو مسألتين أو أكثر، ولذلك يعبر بـ (من) التبعيضية عند بداية كل باب.
ثم بعد ذلك يورد المسألة ويصوغها بأسلوبه في بعض الأحيان، وأحيانا ينقلها بنصها من كتب المذهب وأحيانا يصرح بالنقل من هذه الكتب كالتتمة، والكفاية، والحاوي، وغيرها. وقد اعتمد كثيرا على النقل من روضة الطالبين للإمام النووي.
وفي الغالب لا يذكر الأوجه في المسألة، بل يجزم بحكمها وهو الصحيح في المذهب، وفي بعض المسائل يذكر الأقوال والأوجه بدون تصحيح، وقد لا يذكر قولا أو وجها في المسألة بخلاف ما عليه المذهب، وهذا قليل.(48/129)
والمؤلف – رحمه الله تعالى – جمع هذه المسائل ورتبها ونقلها من بطون كتب المذهب في مؤلف خاص بها وعرضها بأسلوب سهل واضح، وعلق على بعض المسائل بتعليقات مفيدة ولم يستقص المؤلف جميع المسائل الوادرة في هذا الموضوع، كما أنه لم يذكر الأدلة النقلية أو العقلية لما أورده من مسائل.
وصف النسخ المعتمدة في التحقيق:
بعد الاجتهاد في البحث والتنقيب في فهارس المخطوطات المختلفة لم أعثر إلا على نسخة فريدة لهذا المؤلَّف: (تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين) ، وهذه المخطوطة محفوظة بالهند - حيدر أباد - في الجامعة العثمانية تحت رقم (361/297) .
وتقع هذه المخطوطة في أربع ورقات، في كل لوحة (23) سطرا ما عدا اللوحة الأخيرة من الورقة الرابعة، فهي أقل من ذلك وتتراوح كلمات كل سطر ما بين 10 إلى 11 كلمة. وقد كتبت هذه المخطوطة بخط جيد مختلط بين النسخ والرقعة، وهي خالية من التعليقات والحواشي. وناسخها: محمد بن المساوي الأهدل.
أما تاريخ نسخها فكان الفراغ منه ضحى يوم الاثنين في شهر محرم سنة 1223 هـ، كما هو مدون في آخر لوحة من المخطوط وكتب بعد ذلك:
كمل الكتاب تكاملت نعم السرور لصاحبه وعفى الإله بفضله وبجوده عن كاتبه
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماكثيرا.
نماذج من المخطوط
P258
P259
منهج التحقيق:
من أجل أن تظهر هذه الرسالة على الوجه الصحيح، والصورة التي وضعها عليها المؤلف، سرت في تحقيقها على المنهج الآتي: -
كتبت النص حسب القواعد الإملائية المتعارف عليها في عصرنا الحاضر.
وثقت الأقوال التي نسبها المؤلف في المخطوط لبعض فقهاء الشافعية أو نقلها عنهم.
علقت على بعض المواضع التي رأيت مناسبة التعليق عليها في الهامش معتمدا في ذلك على مصادر الشافعية الأصلية.
عرفت بالكتب التي ذكر المؤلف ووثقت ما نقله منها.
ترجمت للأعلام الذين ذكرهم المؤلف ترجمة موجزة معتمدا على المصادر الأصلية في ذلك.(48/130)
شرحت الكلمات الغريبة التي ورد ذكرها في المخطوط، وذلك بالرجوع إلى المصادر الأصلية المهتمة بذلك.
حددت نهاية كل ورقة، وذلك بوضع خط مائل (/) هكذا، ثم ذكرت في الهامش: نهاية لوحة رقم كذا من المخطوط.
وضعت في نهاية الكتاب فهرسا للمصادر التي اعتمدت عليها وآخر للموضوعات.(48/131)
قسم تحقيق كتاب:
تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين لعلم الدين صالح بن عمر بن رسلان البلقيني الشافعي
المتوفى سنة 868هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الحق المبين الذي رفع عن دعوى المدعي دعواه في بعض كلفة اليمين، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقين محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد استخرت الله تعالى في هذا التعليق على نبذ من المسائل التي يقبل فيها قول الأمين وغيره بلا يمين، ليتذكر بها الفقيه المتين الراغب في الفقه لينتفع بذلك أهل التقوى والدين، وسميته: "تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين" والله المسئول والمعين أن ييسره بفضله المتين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
من باب الزكاة (1) :
لو قال الفقير لا كسب لي وحاله يشهد بصدقه لكبر أو زمانة (2) أعطي بلا بينة ولا يمين (3) . وحيث لا تهمة في دعوى المسكين والفقير يكتفي بقولهما ولا يندب التحليف، وحيث اتُّهِم مدعي الفقر والمسكنة حلَّفه الحاكم ندبا (4) .
ومن قال: من المؤلفة (5)
__________
(1) الزكاة لغة: الطهارة والنماء والمدح والبركة.
واصطلاحا: اسم لقدر مخصوص من مال مخصوص على أوصاف مخصوصة لطائفة مخصوصة.
انظر: لسان العرب 14/254، المصباح المنير 1/301، المجموع 5/325، فتح الجواد1/240.
(2) الزمانة: العاهة المزمنة القديمة.
انظر: لسان العرب 6/87، معجم لغة الفقهاء ص/233.
(3) بلا خلاف؛ لأن الأصل والظاهر عدم الكسب.
انظر: الوجيز 1/294، التهذيب 5/197، فتح العزيز 7/399-400
(دار الكتب العلمية) ، المجموع 6/195.
(4) انظر: التنبيه ص/63، التهذيب 5/197، فتح العزيز 7/399 (ط. دار الكتب العلمية) ، المجموع 6/195، المنثور 3/390، إعانة الطالبين 2/189، 190، فتح المعين 2/189، المنهج ص/496.
(5) المؤلفة: من أسلم ونيته ضعيفة أو له شرف يتوقع بإعطائه إسلام غيره.
انظر: المنهاج للنووي 3/109، معجم لغة الفقهاء ص/367.(48/132)
، نيتي في الإسلام ضعيفة قُبِلَ قوله بلا يمين (1) .
مسألة: لو ادعى المالك تلف النصاب (2) المخروص (3) أو بعضه فإن أسنده إلى سبب خفي كالسرقة صدق بيمينه (4) أو ظاهر كالنهب (5) وعرف السبب (6) صدق بلا يمين إن لم يتهم، وإلا حلف (7) .
مسألة: - النِّتاج (8)
__________
(1) انظر: الوجيز 1/294، التهذيب 5/197، فتح العزيز 7/400 (دار الكتب العلمية) ، المجموع 6/197، 198، 199، 200، الإقناع للشربيني 1/231، مغني المحتاج 3/109، 114، فتح الوهاب 2/47، نهاية الزين 1/180.
(2) النصاب: القدر الذي تجب فيه الزكاة إذا جمعه نحو مائتي درهم وخمس من الإبل.
انظر: المصباح المنير 2/243، أنيس الفقهاء ص/132، النظم المستعذب 1/142.
(3) الخرص لغة: التقدير والحزر، والمخروص هو المقدر والمحزور. واصطلاحا: هو تقدير ما على النخل أو الكرم رطبا وعنبا ثم تمرا أو زبيبا.
انظر: لسان العرب 4/62، أنيس الفقهاء ص/212، فتح العزيز 5/585 (ط. دار الكتب العلمية) ، فتح الباري 3/344، حاشيتي قليوبي وعميرة 2/21.
(4) وهي مستحبة في أصح الوجهين، فلا زكاة فيما يدعي هلاكه سواء حلف أم لا.
انظر: المجموع 5/485، روضة الطالبين 2/253.
(5) النهب: الغارة والسلب قهرا.
انظر: المصباح المنير 2/769، النهاية في غريب الحديث والأثر 5/133.
(6) وإن لم يعرف، فالصحيح أنه يطالب بالبينة لإمكانها. انظر: روضة الطالبين 2/254.
(7) انظر: الأم 2/34، المهذب 1/155، الحاوي 3/227، نهاية المطلب 2/ق 76-78، التهذيب 3/85، المحرر ق 46/أ، فتح العزيز 5/591 (دار الكتب العلمية) ، المجموع 5/439، شرح المحلي 2/21، مغني المحتاج 1/388، حواشي الشرواني والعبادي 4/302.
(8) النتاج - بالكسر -: اسم يشمل وضع البهائم من الغنم وغيرها. وإذا ولي الإنسان ناقة أو شاة ماخضا حتى تضع، قيل: نتجها نتجا من باب ضرب. وهو أيضا ثمرة الشيء، فنتاج الحيوان ولده ونتاج الحقل غلته.
انظر: المصباح المنير 2/722، لسان العرب 2/373، معجم لغة الفقهاء ص/444.(48/133)
يزكى بزكاة الأصل، ولو ادعى المالك أن النتاج بعد الحول صدق بلا يمين (1) ، فإن اتهم حلف (2) .
من باب بيع الأصول والثمار:
فيما إذا باع الثمرة بعد بدو الصلاح، قال في "التتمة" (3) : "لو اختلف في وقوع الجائحة (4) فالغالب أنها لا تخفى، فإن لم تعرف أصلا، فالقول قول البائع بلا يمين، وإن عُرف وقوعها عاما فالقول قول المشتري بلا يمين، وإن وقعت وأصابت قوما دون قوم فالقول قول البائع مع يمينه" (5) .
__________
(1) بلا خلاف؛ لأن الأصل براءته.
انظر: المجموع 5/36.
(2) انظر: التهذيب 3/30، فتح العزيز 5/489 (مع المجموع، ط. دار الفكر) ، روضة الطالبين 2/186، فتح الوهاب 1/183، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/510، حواشي الشرواني 3/254.
(3) التتمة) لأبي سعيد عبد الرحمن بن مأمون المتولي المتوفى سنة 478هـ.
قال النووي: " وسمي بالتتمة لكونه تتميما للإبانة ـ يعني للفوراني ـ وشرحا لها، وتفريعا عليها. وقد وصل فيه إلى كتاب الحدود، وقيل: إلىكتاب القضاء، وكمله بعده جماعة". ا. هـ. ولها عدة تتمات للعجلي وغيره. وتوجد من الكتاب نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم (50 فقه شافعي) ، وفي معهد المخطوطات بمصر رقم (69 فقه شافعي) .
انظر: طبقات ابن الصلاح 1/452، تهذيب الأسماء واللغات 2/281، طبقات الأسنوي 1/146، كشف الظنون 1/146، الأعلام 3/323.
(4) الجائحة لغة: الآفة والشدة.
واصطلاحا: هي النازلة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها كالفيضانات والحرائق والأمراض ونحوها.
انظر: المصباح المنير 1/138، 139، لسان العرب 2/431، معجم لغة الفقهاء ص/157.
(5) لأن الأصل عدم الهلاك ولزوم الثمن. وانظر: عن قول صاحب "التتمة" في روضة الطالبين 3/563.(48/134)
مسألة: إذا وجد بالمبيع عيبا، فإن لم يحتمل تقديمه (1) كجراحة طرية، وقد جرى البيع والقبض من سنة، فالقول قول البائع بلا يمين (2) .
من باب الرهن (3) :
لو قال: رهنتني الأشجار مع الأرض يوم رهن الأرض، فقال الراهن: لم تكن الأشجار أو بعضها يوم رهن الأرض، بل أخذتها بعد، نظر: إن كانت الأشجار بحيث لا يتصور وجودها يوم الرهن، فالمرتهن كاذب، والقول قول الراهن بلا يمين، وإن كانت بحيث لا يتصور حدوثها بعده، فالراهن كاذب، فإن اعترف في معاوضها (4) أنه رهن الأرض بما فيها كانت الأشجار مرتهنة، ولا حاجة إلى قبول يمين المرتهن (5) .
__________
(1) وإن احتمل تقديمه وحدوثه كالمرض فالقول قول البائع؛ لأن الأصل لزوم العقد واستمراره. انظر: روضة الطالبين 3/388.
(2) انظر: فتح العزيز 4/274 (ط. دار الفكر) ، روضة الطالبين 3/388، مغني المحتاج 2/61، فتح الوهاب 1/299.
(3) الرهن لغة: الثبوت والدوام والحبس. واصطلاحا: جعل عين مال وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه.
انظر: المصباح المنير 1/287، تصحيح التنبيه ص/70، كفاية الأخيار 1/163، مغني المحتاج 2/121.
(4) هكذا في المخطوط. وفي فتح العزيز 4/528 (ط. دار الكتب العلمية) : معارضتها. وفي روضة الطالبين 3/350 (ط. دار الكتب العلمية) : مفاوضتها.
(5) انظر: المهذب 1/316، الوجيز 1/168، فتح العزيز10/170، 171 (ط. دار الفكر) ، نهاية المحتاج 4/297.(48/135)
مسألة: إذا قبلنا إقرار الراهن بالجناية (1) على الغير، فهل يحلف أم يقبل بلا [حلف] (2) ؟ قولان أو وجهان:
أحدهما - لا يحلف.
والثاني - وهو الأصح -: يحلف (3) .
مسألة: لو ادعى الراهن جناية المرهون وكذبه المرتهن، فالقول قول المرتهن. فإذا قلنا: قول الراهن، فهي المسألة الثانية (4) .
مسألة: لو أتت المرهونة بولد، فقال الراهن: وطأتها بإذنك، وهذا الولد مني، وهي أم ولد (5) ، فقال المرتهن: بل هو من زوج أو زنا، فالقول قول الراهن بلا يمين (6) .
من باب الفلس (7) :
__________
(1) الجناية لغة: مصدر جنى يجني. والجناية: الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه القصاص والعقاب في الدنيا والآخرة. واصطلاحا: هي التعدي على البدن بما يوجب عليه قصاصا أو مالا. انظر: المصباح المنير 1/136، 137، القاموس المحيط 4/212، لسان العرب 14/154، التعريفات ص/79، تكملة المجموع 18/344.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في المخطوط. والمثبت موافق لاقتضاء السياق وموافق لما في المصادر بهامش (1) في الصفحة التالية.
(3) وذلك لحقِّ المرتهن.
انظر: المهذب 1/318، الوسيط 3/529، فتح العزيز 10/185 (ط. دار الفكر) ، روضة الطالبين 4/120، 121.
(4) انظر: روضة الطالبين 4/121، مغني المحتاج 2/143.
(5) أم ولد: هي كل أمة أتت بولد ظاهر التخطيط علقت به من السيد في ملكه. انظر: الغاية القصوى 2/1051.
(6) انظر: الأم 3/147، الحاوي 6/60، المهذب 1/319، فتح العزيز 10/113 (ط. دار الفكر) ، روضة الطالبين 4/83.
(7) الفلس في اللغة: اسم من أفلس؛ أي صار إلى حال ليس معه فيها فلوس. وقال بعضهم: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم، فهو مفلس. وحقيقته: الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر.
والفلس اصطلاحا: تراكم الديون على المرء وعجزه عن وفائها لكون خرجه أكثر من دخله.
انظر: المصباح المنير 1/319، معجم لغة الفقهاء ص/318.(48/136)
لو جرى تأبير (1) ورجوع، فادعى البائع رجوعه قبل التأبير فالثمار له وكذبه المفلس، فالمذهب تصديقه بيمينه، لكن بشرط تحليف إن ادعى البائع علمه أن الرجوع قبل التأبير، فلو صدقه البائع بأن المفلس لا يعلم تاريخ الرجوع، سلمت الثمرة للمفلس بلا يمين (2) .
مسألة: إذا جرى التأبير والرجوع، فقال البائع: رجعت قبل التأبير والرجوع (3) فالثمار لي، وقال المفلس: بل بعده، فالمذهب: أن القول قول المفلس مع يمينه، وأن الأصل عدم الرجوع حينئذ، وبقاء الثمار له (4) .
قال المسعودي (5) : "ومخرَّجُ (6)
__________
(1) التأبير لغة: من أبر النخل يأبره أَبْرا وإبارا؛ لقحه. و (أبَّرتُه) (تأبيرا) مبالغةٌ وتكثيرٌ.
واصطلاحا: تلقيح النخل بشق طلع النخلة الأنثى، ووضع شيء من طلع النخلة الذكر في هذا الشق.
انظر: المصباح المنير 1/5، مختار الصحاح ص/2، معجم لغة الفقهاء ص/318.
(2) انظر: المهذب 1/324، 325، فتح العزيز 10/255 (دار الفكر) ، روضة الطالبين
4/162.
(3) في المخطوطة تكرار (فقال: رجعت قبل التأبير) ، ولعله سهو من الناسخ.
(4) انظر: فتح العزيز 10/255 (دار الفكر) ، روضة الطالبين 4/162.
(5) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن مسعود بن أحمد المروزي، المعروف بالمسعودي، أحد فقهاء الشافعية، أصحاب الوجوه، كان إماما فاضلا مبرزا عالما زاهدا، ورعا حسن السيرة، تفقه على القفال، وشرح المختصر. مات ـ رحمه الله ـ بمرو سنة 420هـ.
انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/216، وفيات الأعيان 3/350، مرآة الجنان 3/40.
(6) القول المخرج؛ هو أن ينص الإمام على حكمين مختلفين لمسألتين متشابهتين، ولم يظهر الفرق بينهما، فينقل بعض الأصحاب جوابه في كل مسألة إلى الأخرى، فيُحصل في كل منهما قولان منصوص ومخرج، فالمنصوص في هذه هو المخرج في تلك، والمخرج في تلك هو المنصوص في هذه. والصحيح أن القول المخرح لا ينسب للشافعي؛ لأنه ربما روجع فيه، فذكر فرقا.
انظر: المجموع 1/68، تحفة المحتاج 1/53.(48/137)
قول أن القول قوله / (1) بلا يمين بناءً على أن النكول (2) ورد اليمين كالإقرار، ولو أقرّ لم يقبل، وفي قول أن القول قول البائع؛ لأنه أعرف بقصده" (3) .
فلو أقرّ البائع أن المفلس لا يعلم تاريخ الرجوع سلمت الثمرة للمفلس بلا يمين؛ لأنه يوافقه على نفي علمه، قاله الإمام (4) (5) .
من باب الحجر (6) :
ولد المرتزقة (7) إذا ادعى البلوغ (8)
__________
(1) نهاية لوحة رقم (1) من المخطوط.
(2) النكول؛ هو الجبن والتأخر. والمراد هنا: الامتناع عن حلف اليمين. انظر: المصباح المنير 2/766، النظم المستعذب 1/169.
(3) انظر: عن قول المسعودي في فتح العزيز 10/255 (دار الفكر) ، روضة الطالبين 4/163.
(4) هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي. تفقه على والده، مجمع على إمامته وغزارة علمه. له مصنفات كثيرة منها: نهاية المطلب في الفقه، والشامل، والبرهان، والورقات في أصول الفقه، والإرشاد في أصول الدين. توفي - رحمه الله - بنيسابور سنة 478هـ.
انظر: طبقات الأسنوي 1/97، سير أعلام النبلاء 18/468، شذرات الذهب 5/338.
(5) انظر: عن قول الإمام في روضة الطالبين 4/162، 163.
(6) الحجر لغة؛ المنع والحظر.
واصطلاحا؛ منع من تصرف خاص بسبب خاص.
انظر: المصباح المنير 1/147، النظم المستعذب 1/328، مغني المحتاج 1/411.
(7) المرتزقة؛ من ارتزق القوم إذا أخذوا أرزاقهم فهم مرتزقة، وتطلق على الجنود الأجانب المستأجرين للقتال. انظر: المصباح المنير 1/268، معجم لغة الفقهاء ص/390.
(8) البلوغ لغة؛ الإدراك والنضوج.
واصطلاحا؛ بلوغ الذكر أو الأنثى سن الحلم والتكليف.
وللبلوغ علامات حسية معروفة: منها – ما يشترك فيه الذكر والأنثى كالاحتلام، والإنبات. ومنها – ما تختص بالأنثى كالحيض والحبل. انظر: المصباح المنير 1/77، لسان العرب 8/420، المهذب 1/330، مغني المحتاج 1/166، المبدع 4/332.(48/138)
بالاحتلام وطلب ثبات اسمه في الديوان (1) فوجهان:
أحدهما – يصدق بلا يمين؛ لأنه إن كان كاذبا، فكيف يحلف وهو صبي، وإن كان صادقا وجب تصديقه.
وأصحهما – يحلف عند التهمة، كذا رجحه في الروضة (2) ، وهو متعقب [فقد] (3) جزم بالأول في طرف [الحالف] (4) ، فقال: "إن كان الصبي إذا ادعى البلوغ في وقت الإمكان، صدق بلا يمين، كما سبق في الإقرار (5) . (وإذا ادعى الصبي فإنه لا يحلف) (6) .
مسألة: لو أقرّ الصبي، وادعى بلوغه في سن الاحتلام في سن يحتمل ذلك، فإن صدقناه قبل قوله من غير يمين (7) .
__________
(1) الديوان؛ جريدة الحساب ثم أطلق على الحساب ثم أطلق على موضع الحساب، وهو معرب، والأصل (دِوَّانٌ) فأبدل من أحد المضعفين ياءً للتخفيف، ولهذا يرد في الجمع إلى أصله، فيقال: دَوَاوِين، وفي التصغير: دُوَيْوِين؛ لأن التصغير وجمع التكسير يردان الأسماء إلى أصولها، ودوَّنتُ الديوانَ؛ أي وضعته وجمعته. ويقال: إن عمر - رضي الله عنه - أول من دوَّن الدواوين في العرب؛ أي رتَّب الجرائد للعمال وغيرها. انظر: المصباح المنير 1/243، وتاريخ الخلفاء ص/152.
(2) يعني: روضة الطالبين 12/49، وهو كما في أصله فتح العزيز 13/216 (ط. دار الكتب العلمية) ، وانظر أيضا: الوسيط 7/428، مغني المحتاج 4/479، حاشية البجيرمي 3/74.
(3) في المخطوط: (فقدم) ، ولعل الصواب ما أثبت لاقتضاء السياق. وانظر أيضا: روضة الطالبين 12/38.
(4) ما بين المعقوفين في المخطوط: (الحال) ، لعله سقطت الفاء من قلم الناسخ؛ لأن النووي ذكر هذه المسألة في الروضة 12/38 في الطرف الثالث، وهو في الحالف. وهو طرف من الأطراف الواردة في باب اليمين.
(5) يعني في روضة الطالبين باب الإقرار 5/350-351.
(6) ما بينهما في الروضة 12/38: "ومن ادعى عليه بشيء، فقال: أنا صبي بعد وهو محتمل؛ لم يحلف".
(7) انظر: الوسيط 3/317، 7/421، فتح العزيز 13/201 (دار الكتب العلمية) ، مغني المحتاج 2/238، حاشية البجيرمي 2/433.(48/139)
مسألة: السفيه في إتلاف المال الأصح في باب القسامة (1) أنه لا يحلف (2) .
مسألة: ولد المرتزقة إذا ادعى البلوغ بالاحتلام وطلب إثبات اسمه في الديوان فوجهان:
أحدهما – تصديقه بلا يمين.
وأصحهما – تحليفه للتهمة، فإن نكل لم يثبت اسمه إلى أن يظهر بلوغه (3) .
ويقرب منه من شهد الوقعة من المراهقين إذا ادعى الاحتلام وطلب سهم المقاتلة يعطى إن حلف، وإن لم يحلف فوجهان:
أحدهما – يعطى ويصدق بغير يمين.
وأصحهما – لا يعطى، لفقد حجته، وهو الحلف، وقيل: النكول (4) .
مسألة: إذا ادعى الابن على أبيه أنه رشيد (5) وطلب فك الحجر عنه، فأنكر الأب لم يحلف (6)
__________
(1) القسامة - بالفتح -: الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم، يقال: قتل فلان بالقسامة إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل فادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم ومعهم دليل دون البينة، فحلفوا خمسين يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمون: قسامة أيضا.
انظر: المصباح المنير 2/607، التعريفات ص/175، مغني المحتاج 4/109.
(2) انظر: الوسيط 6/396، روضة الطالبين في القسامة 10/5، 6، وفي الإقرار 5/350-351، وفي الحجر 4/185، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/509.
(3) انظر: الوسيط 7/428، فتح العزيز 13/216 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 12/49، نهاية المحتاج 5/66-67.
(4) انظر: التلخيص لابن القاص ص/647، فتح العزيز 13/216-217 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 12/49، نهاية المحتاج 5/66.
(5) الرشيد: هو من عرف بصلاحه في دينه وحسن تصرفه في ماله. فصلاح الدين: أن لا يرتكب من المعاصي ما تسقط به عدالته. وصلاح المال: أن يكون حافظا له غير مبذر. انظر: المهذب 1/331، مغني المحتاج 2/168.
(6) أي لا يحلف الأب؛ لأنه أمين، ولأن الرشد مما يوقف عليه بالاختبار، فلا يثبت بقوله.
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص/509، مغني المحتاج 2/166، نهاية المحتاج 4/357.(48/140)
قال في "الإشراف" (1) للهروي (2) : "ويحتمل وجه أنه يحلف، ولعله يقر فتزول ولايته" (3) .
من باب الوكالة (4) :
على الإنسان حق لرجل وطالبه به رجل وزعم أنه وكيل المستحق، فأنكر المديون وكالته ولا بينة؛ لم يحلف على المذهب (5) .
من باب [الإقرار] (6) :
لو قال: علي ألف مؤجل، إن اتصل ذكر الأجل بالإقرار فالقول قوله بلا يمين (7)
__________
(1) هو: كتاب الإشراف في غوامض الحكومات، وهو شرح لكتاب أدب القضاء للعبادي، وقد نقل بعض فوائده السبكي في طبقاته. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 5/365-371.
(2) هو: أبو سعيد محمد بن أحمد بن يوسف الهروي، تلميذ القاضي أبي القاسم العبادي وقاضي همدان. قال السبكي: "كان أحد الأئمة، وهو في حدود الخمسمائة". وذكر الأسنوي عن عبد الغفار الفارسي: أن أبا سعيد قتل شهيدا مع أبيه في جامع همدان في شعبان سنة ثماني عشرة وخمسمائة. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 5/365، طبقات الشافعية للأسنوي 2/519، 520.
(3) انظر: روضة الطالبين 4/177،حاشية أبي الضياء الشبراملسي 4/357.
(4) الوكالة - بكسر الواو وفتحها - مشتقة من وكل الأمر إليه إذا فوضه إليه واعتمد عليه.
واصطلاحا: تفويض ماله وفعله مما يقبل النيابة إلى غيره، ليحفظه حال حياته.
انظر: المصباح المنير 2/838، النظم المستعذب 1/348، كفاية الأخيار 1/175، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5/15.
(5) انظر: فتح العزيز 5/269 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 4/345، 346، المنثور 3/389، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/506.
(6) ما بين المعقوفتين لا يوجد في المخطوط، لعله سهو من الناسخ. والمثبت من الاستقراء.
والإقرار لغة: الاعتراف بالشيء. واصطلاحا: هو إخبار عن ثبوت حق الغير على نفسه.
انظر: المصباح المنير 2/599، أنيس الفقهاء ص/43، مغني المحتاج 2/238.
(7) انظر: الوسيط 3/350، فتح العزيز 5/336 (دار الكتب العلمية) روضة الطالبين
4/398، وقد ذكروا المسألة ولم يتعرضوا لذكر اليمين.(48/141)
وكذا لو قال: علي ألف وفسره على الفور بثمن عبد باعه مني، ولم يسلم العبد، فإنه يقبل قوله بلا يمين (1) .
مسألة: لو قال: علي ألف من جهة تحمل العقل (2) مؤجلا فقولان: أظهرهما – قبوله من غير يمين (3) .
من باب العارية (4) :
لو اختلف المالك والمتصرف، فادعى المالك الإعارة، والمتصرف الإجارة (5) فإن كان بعد تلف العين بعد زمن لمثله أجرة، فالمالك يدعي القيمة وينكر الأجرة، والمتصرف بالعكس، فإن قلنا: اختلاف الجهة لا يمنع الأخذ - وهو الصحيح - فإن القيمة والأجرة سواء أو كانت القيمة أقل؛ أخذها المالك بلا يمين (6) .
__________
(1) انظر: فتح العزيز 5/334 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 4/396، نهاية المحتاج 5/101.
(2) العقل: الدية، وأصله أن القاتل إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول؛ أي يشدها في عُقُلها يسلمها إليهم ويقبضونها منه، فسميت الدية عقلا - بالمصدر - وكان أصل الدية الإبل، ثم قومت بعد ذلك بالذهب والفضة والبقر والغنم. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/278، المصباح المنير 2/504.
(3) انظر: الوسيط 3/350، فتح العزيز 5/336 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين
4/398.
(4) العارية في اللغة: من تعاوروا الشيء واعتوروه؛ تداولوه.
واصطلاحا: إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه ليرده.
انظر: الصحاح 2/761، تصحيح التنبيه 1/78، كفاية الأخيار 1/180.
(5) الإجارة لغة: اسم للأجرة، وهي الكراء.
واصطلاحا: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبدل والإباحة بعوض معلوم.
انظر: مختار الصحاح ص/6، المصباح المنير 2/642، مغني المحتاج 2/233.
(6) انظر: حلية العلماء 5/206، الحاوي 7/124، فتح العزيز 11/238
(دار الفكر) ، روضة الطالبين 4/442-443، إعانة الطالبين 3/135، فتح الجواد 1/549.(48/142)
من باب الوقف (1) :
لو اختلف أرباب الوقف في شرط الواقف ولا بينة، فإن كان الواقف حيًّا أخذ بقول الواقف (2) ، قال في (الحاوي) (3) بلا يمين (4) .
مسألة من (5) باب الشهادات (6) :
لو ادعى جماعة من الورثة الوقف، لكن3 نكل بعض وحلف بعض (7) ؛ فيأخذ الحالف الثلث وقفا، وأما الباقي فهو تركة (8) .
__________
(1) الوقف لغة: الحبس. واصطلاحا: حبس ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ممنوع من التصرف تقربا إلى الله تعالى. انظر: المصباح المنير 2/838، كفاية الأخيار 1/197، حاشية الشبراملسي 5/358.
(2) انظر: المهذب 1/446، روضة الطالبين 5/352، مغني المحتاج 2/295، حاشية البجيرمي 3/215، حاشية الشرواني 6/259.
(3) كتاب عديم النظير في بابه، لم يؤلف في المذهب مثله، وهو شرح مختصر المزني. وقد طبع بتحقيق علي محمد معوض، وعادل عبد الموجود. الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، عام 1414هـ.
(4) 7/533، وكذا أيضا قال الروياني. انظر: كفاية الأخيار 1/169.
(5) في المخطوط: (في) ، ولعل الصواب ما أثبت كما في غير هذا الموضع.
(6) الشهادات) جمع شهادة. والشهادة في اللغة؛ الحضور والمعاينة.
واصطلاحا: هي الإخبار على غيره عن مشاهدة وعيان، لا عن تخمين وحسبان.
انظر: المصباح المنير 1/384، النظم المستعذب 2/323، مغني المحتاج 4/427، معجم لغة الفقهاء ص/266.
(7) - هكذا في المخطوط، ولكن عبارته في فتع العزيز 13/104، والروضة 11/286: "فإذا حلف واحد ونكل اثنان".
(8) يظهر أن في الكلام حذفا يدل على ذلك ما في روضة الطالبين 11/286: "… وأما الباقي فهو تركة تقضى منها الديون والوصايا، فما فضل ففيه وجهان: والأصح – أن يقسم بين المنكرين من الورثة واللذين نكلا دون الحالف".(48/143)
فلو مات غير الحالف وهو الناكل والحالف حي، فنصيب الميت للحالف، وفي اشتراط يمينه ما سبق (1) من الوجهين. (2) قال في "الكفاية" (3) : "الوجه انتقاله بلا يمين".
أو مات الحالف دون الناكل، ففي نصيب الحالف أوجه: أصحها – ينتقل إلى البطن الثاني، وهل يحلفون؟ فيه الوجهان. (4)
والصورتان أن يدعوا وقف تشريك وأقاموا شاهدا واحدا:
فإن حلفوا معه أخذوا الدار وقفا ثم إن حدث لأحدهم ولد؛ فمقتضى الوقف شركته، فيوقف نصيبه إلى أن يبلغ، فيصرف إليه إن حلف على المذهب. وفي وجه: لا حاجة إلى حلفه. (5)
فإن نكل الحادث (6) عن اليمين ففي الموقوف ثلاثة أوجه:
أصحها – يصرف إلى الحالفين بلا يمين، هذا هو المنصوص.
والثاني – كوقف تعذر مصرفه.
__________
(1) في صفحة: (29-30) .
(2) انظر: فتح العزيز 13/104 (ط. دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 11/286.
(3) يريد «كفاية النبيه شرح التنبيه» لأبي العباس أحمد بن محمد بن الرفعة المتوفى سنة 710 هـ. يقع هذا الكتاب في عشرين مجلدا، لم يعلق على التنبيه مثله، مشتمل على غرائب وفوائد كثيرة. له نسخ بدار الكتب المصرية برقم 1747، وبالأزهرية برقم 478، وبشستربتي برقم 3061، 3555. وله نسخة مصورة بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم 2635، وبمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى برقم 336-338.
انظر: طبقات الشافعية للسبكي 9/26، طبقات الشافعية للأسنوي 1/297، طبقات ابن قاضي شهبة 2/212، الدرر الكامنة 1/135، كشف الظنون 1/491.
(4) انظر: الوسيط 7/380، فتح العزيز 13/104-105 (ط. دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 11/286.
(5) انظر: الوسيط 7/381، فتع العزيز 13/106-107 (ط. دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 11/287-288.
(6) أي نكل الولد الحادث بعد بلوغه.
انظر: فتح العزيز 13/107، روضة الطالبين 11/288.(48/144)
والثالث – إن شرط الواقف وقف الشركة [من حدث] (1) عدمَ رد من يحدث، فإذا لم يحلف صرف للحالفين بلا يمين (2) .
من باب إحياء الموات (3) :
الأرض المملوكة إذا كانت لغير واجد الركاز / (4) ووجد فيها كنزا لم يملكه الواجد، بل إن ادعاه مالكها فهو له بلا يمين كالأمتعة (5) .
من كتاب الوصية (6) :
إذا ادعى رجل دينا على ميت وللميت وصي في قضاء دينه، فإن الوصي لم يحلف (7) .
من كتاب النكاح (8)
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة في المخطوط، ولعل الصواب حذفها، كما في فتح العزيز 13/107 (ط. دار الكتب العلمية) .
(2) انظر: الوسيط 7/379-381، فتح العزيز 13/107 (ط. دار الكتب العلمية) روضة الطالبين 11/288.
(3) إحياء الموات: هو جعل الارض الميتة التي لا مالك لها منتفعا بها بوجه من وجوه الانتفاع كالغرس والزرع والبناء. انظر: المصباح المنير 2/713، النظم المستعذب 1/423، معجم لغة الفقهاء ص/27.
(4) نهاية لوحة (2) من المخطوط.
والركاز بمعنى المركوز، كالكتاب بمعنى المكتوب. ومعناه؛ الثبوت، ومنه ركَز رمْحَه يركُزه - بضم الكاف - رَكْزا؛ إذا غوره وأثبته. واصطلاحا: هو المال المدفون في الأرض الذي لا يعرف له مالك معدنا كان أم نقدا.
انظر: المصباح المنير 1/281، شرح السنة 6/59، المجموع 6/91، معجم لغة الفقهاء
ص/226.
(5) انظر: الأم 2/44، الحاوي 3/342، التهذيب 3/1991، فتح العزيز 3/140 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 2/288، شرح التنبيه للسيوطي 1/243، فتح الوهاب 1/193، مغني المحتاج 1/396.
(6) الوصية لغة: الإيصال. من وصى الشيء بكذا؛ وصل به. واصطلاحا: تبرع بحق مضاف – ولو تقديرا – لما بعد الموت. انظر: المصباح المنير 2/827، تهذيب الأسماء واللغات 4/192، تصحيح التنبيه 1/94، مغني المحتاج 1/396.
(7) انظر: الوسيط 7/421، فتح العزيز 13/202 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 12/39.
(8) النكاح لغة: الضم والجمع والتداخل. يقال: تناكحت الأشجار؛ إذا تمايلت.
واصطلاحا: عقد يفيد استمتاع كل من الزوجين بالآخر بلفظ خاص.
انظر: الصحاح 1/413، المصباح المنير 2/765، مغني المحتاج 3/124.(48/145)
:
الأب إذا ادعى الحاجة إلى التصرف يصدق بلا يمين (1) .
مسألة: من قاعدة "بناء العقود على قول أربابها": قال بعض الأصحاب: لو جاءت امرأة إلى القاضي وقالت: "كان لي زوج في بلد كذا أو كذا، فبلغني أنه مات وانقضت عدتي، فزوجني"؛ فإنه يقبل قولها ولا بينة عليها ولا يمين (2) .
من باب الصداق (3) :
لو ادعى الزوج تجديد لفظ العقد من غير فرقة صدقت في وجه بلا يمين. (4)
مسألة: لو أتت المرأة ببينة العيّ (5) في عقدين لازما، فلو ادعى تجديد لفظ العقد من غير فرقة؛ حلفت الزوجة على نفي ما يدعيه. وقيل: تصدق من غير يمين (6) .
من باب الخلع (7) :
إذا تحالفا بألف وأطلقا ثم حلف كل منهما على بينة الآخر، وادعى توافق البينتين، فوجهان:
أحدهما – يجب مهر المثل بلا تحالف.
__________
(1) ولا يكلفه إثبات الحاجة بالبينة؛ لأنه غير متهم.
انظر: روضة الطالبين 4/187، 188، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/509.
(2) انظر: المنثور 1/171-172، الأشباه والنظائر لابن الوكيل 1/255، 256.
(3) الصداق لغة: مأخوذ من الصدق لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة. والمراد به: المهر. وله مسميات كثيرة غير المهر.
واصطلاحا: ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بضع قهرا، كرضاع ورجوع شهود.
انظر: الصحاح 4/1506، المصباح المنير 1/397، مغني المحتاج 3/220.
(4) ولكن المذهب إذا ثبت العقدان بالبينة أو بإقراره أو بيمينها بعد نكوله؛ لا يلتفت إلى قوله، ولا يحتاج إلى التعرض لتخلل الفرقة.
انظر: الوسيط 5/272، فتح العزيز 8/340 (د. ك.ع) ، مشكل الوسيط 5/272، روضة الطالبين 7/328.
(5) العي: العجز. انظر: المصباح المنير 2/528.
(6) انظر: الوسيط 5/272، فتح العزيز 8/340 (دار الكتب العلمية) ، مشكل الوسيط
5/272، روضة الطالبين 7/328، حاشية الشرواني 7/391.
(7) الخُلع - بالضم والفتح - من الخَلع وهو النزع.
واصطلاحا: فرقة على عوض راجع إلى الزوج.
انظر: المصباح المنير 1/213، كفاية الأخيار 2/49.(48/146)
والأصح – التحالف. (1)
ولو قال الزوج: أردت التبرة (2) ، ولم يتعرض لجانبها، وقالت المرأة: أردت الفلوس، ولم تتعرض لجانبه؛ حصلت الفرقة، ووجب مهر المثل بلا تحالف (3) . وفي وجه: [يتحالفان] (4) . (5)
من باب الاستبراء (6) :
لو قالت المستبرأة: حضت، صدقت بلا يمين (7) .
مسألة: إذا أتت بولد لدون ستة أشهر من الاستبراء؛ لحقه الولد. فلو ادعى الاستبراء بعد الوطء، وأنكرته، ففي [وجه] (8) تحليف السيد أوجه:
أصحها – أن السيد يحلف.
والرابع – يصدق بلا يمين (9) .
من باب الحضانة (10)
__________
(1) انظر: الوسيط 5/355، التهذيب 5/581، فتح العزيز 8/469، 470 (ط. دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 7/432.
(2) التبرة: ما كان من الذهب غير مضروب، فإن ضرب الدناير فهو عين.
انظر: المصباح المنير 1/89، القاموس المحيط 1/393.
(3) انظر: الوسيط 5/355 – 356، فتح العزيز 8/470 (ط. دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 7/432-433.
(4) في المخطوط: (يتحالفا) ، لعله سقطت النون من قلم الناسخ.
(5) وهو الأصح عند النووي واختاره إمام الحرمين والغزالي. انظر: المصادر السابقة.
(6) الاستبراء لغة: طلب البراءة، وهو السلامة؛ أي براءة الرحم من الولد.
واصطلاحا: هو التربص الواجب بسبب ملك يمين حدوثا وزوالا.
انظر: المصباح المنير 1/60، النظم المستعذب 2/192، كفاية الأخيار 2/80، نهاية المحتاج 7/163.
(7) انظر: الوجيز 2/104، فتح العزيز 9/542 (ط. دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 8/437، فتح الوهاب 2/192، فتح المعين 4/58، نهاية الزين 1/333، مغني المحتاج
3/412، 413.
(8) هكذ في المخطوط، ولعل الصواب حذفها؛ لاقتضاء السياق.
(9) انظر: الوجيز 2/104، فتح العزيز 9/545، 546 (د. ك. ع) ، روضة الطالبين 8/440، مغني المحتاج 3/413.
(10) الحضانة - بالفتح والكسر - لغة: مصدر حضن الشيء إذا جعله في حضنه أو رباه. والحضن هو ما دون الإبط إلى الكشح أو الصدر والعضدان وما بينهما، وجانب الشيء وناحيته.
واصطلاحا: القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره وتربيته على ما يصلحه ووقايته عما يؤذيه.
انظر: مختار الصحاح ص/142، المصباح المنير 1/170، كفاية الأخيار 2/93.(48/147)
:
لو اختلف المنتقل والحضانة في النقلة؛ صدق المنتقل بلا يمين في وجه (1) .
من باب الجنايات (2) :
إذا قطع يد إنسان ورجليه فمات، واختلف الجاني والولي، فقال الجاني: مات بالسراية (3) فلا يلزمني إلا دية واحدة. وقال الولي: مات بعد الاندمال (4) في تلك المدة، في المصدق أوجه: الذي قاله الأكثرون: يصدق يمينه. (5)
وعلى تصديق الولي، قال جماعة: إن طال الزمان بحيث لا يمكن أن تبقى الجراحة فيه غير مندملة، فلا تحليف، ويصدق الولي بلا يمين، وينبغي وجوب اليمين (6) .
مسألة: لو ادعى الجاني أنه كان يوم القتل صغيرا وكذبه ولي المقتول، فالمصدق الجاني باليمين بشرط إمكان الصِّغَر في يوم القتل (7) .
__________
(1) اختاره القفال. والأصح أنه يصدق بيمينه. انظر: التهذيب 6/400، فتح العزيز 10/99 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 9/107، المنثور 3/390، مغني المحتاج 3/459.
(2) الجنايات: جمع جناية وقد سبق تعريفها.
(3) السراية: التعدي. يقال: سرى الجرح إلى النفس، معناه؛ دام ألمه حتى حدث منه الموت. وقطع كفه فسرى إلى ساعده؛ أي تعدى أثر الجرح. انظر: المصباح المنير 1/326.
(4) الاندمال: يقال: اندمل الجرح؛ أي تراجع إلى البرء. انظر: المصباح المنير 1/237، مختار الصحاح ص/210.
(5) انظر: فتح العزيز 10/251-252 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 9/211، فتح الوهاب 2/232، مغني المحتاج 4/38-39.
(6) انظر: المصادر السابقة.
(7) لأن اليمين لإثبات المحلوف عليه، ولو حلف لبطلت يمينه.
انظر: فتح العزيز 10/158، روضة الطالبين 9/149.(48/148)
فإن قال الجاني: أنا الآن صغير، فلا قصاص ولا يمين، قاله الرافعي (1) . (2)
من باب القضاء (3) :
لو قال خصم: حكم القاضي بشهادة عبدين، أُحضِرَ القاضيُ، فإن أنكر صدق بلا يمين (4) . وقال النووي (5) : "الأصحّ اليمين" (6) .
من باب الدعوى (7)
__________
(1) هو: عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل الرافعي، أبو القاسم شيخ الشافعية في زمانه، تفقه بأبيه وغيره، واشتهر بكتابه "الشرح الكبير" الذي لم يصنف في المذهب مثله، وله المحرر وشرح مسند الشافعي وغيرها. توفي - رحمه الله - بقزوين سنة 623هـ. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 8/281، طبقات الأسنوي 1/281، سير أعلام النبلاء 22/252، العبر 5/94.
(2) انظر: عن قول الرافعي في كتابه فتح العزيز 10/158 (دار الكتب العلمية) .
(3) القضاء لغة: إحكام الشيء وإمضاؤه.
واصطلاحا: الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى.
انظر: النظم المستعذب 2/289، مغني المحتاج 4/372.
(4) هكذا فيما صححه الرافعي، ووافقه النووي في الروضة في الدعاوى 12/38، وخالفه في القضاء 11/129، 130، ونقل السيوطي اختيار السبكي والبلقيني ما صححه الرافعي.
انظر: المهذب 2/297، فتح العزيز 12/447، 13/201 (دار الكتب العلمية) ، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/510، المنثور 3/389 – 391.
(5) هو: الإمام شيخ الإسلام يحيى بن شرف بن مري النووي، محيي الدين أبو زكريا، المحدث المشهور والفقيه المعروف بورعه، من كبار أئمة الشافعية، ومحرر المذهب ومرتبه وحافظه، صاحب المصنفات الكثيرة النافعة: كالمنهاج، والروضة، والمجموع، والإيضاح، وشرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين وغيرها. توفي - رحمه الله - سنة 676. انظر: طبقات الأسنوي 2/266، شذرات الذهب 5/354، تذكرة الحفاظ 4/147، الأعلام 8/149.
(6) انظر: المنهاج مع مغني المحتاج 4/384، 385، روضة الطالبين في كتاب القضاء
11/130.
(7) الدعوى لغة: الطلب والتمني.
واصطلاحا: إخبار عن وجوب حق على غيره عند حاكم.
انظر: المصباح المنير 1/232، مغني المحتاج 4/461.(48/149)
:
لو ادعى ثلاثة بنين من ورثة أن أباهم وقف عليهم هذه الدار، وأنكر سائر الورثة وأقاموا شاهدا ليحلفوا معه تفريعا على ثبوت الوقف بالشاهد واليمين، وادعوا وقف ترتيب، فإذا حلف المدعون ثبت الوقف، فإذا انقرض المدعون أخذ البطن الثاني الدار وقفا، وهل يأخذونه بيمين أم لا؟ وجهان (1) :
أصحهما عند الجمهور: بلا يمين، وهو ظاهر نصه في "المختصر" (2) .
مسألة: القاضي يقنع من الأمين باليمين إن لم يكن سببا ظاهرا، ثبت ذلك السبب بالبينة، إذا لم يعرف ما يدعيه في تلك البقعة. أما إذا ادعى ذلك فيها بالمشاهدة أو الاستفاضة، فإن عرف عمومه؛ صدق بلا يمين، وإن لم يعرف عمومه واحتمل أنه لم يصب المال؛ صدق بلا يمين (3) .
مسألة من باب الشهادة (4) :
لا يحلف على ما شهد به؛ لأنه منهي عن الكتمان، كان القول قوله بلايمين (5) .
وقال: إذا ادعت المرأة الحمل، فإنها تصدق بلا يمين (6) ؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (7) ./ (8)
مسألة: إذا ادعى على القاضي على أنه ظلمه في الحكم، فأنكر؛ لم يحلف، لارتفاع منصبه (9)
__________
(1) ويقال قولان.
انظر: الوسيط 7/379-380، التهذيب 8/241-242، فتح العزيز 13/102-103 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 11/285.
(2) أي مختصر المزني ص/323.
(3) انظر: المنثور 3/389، إعانة الطالبين 4/63، مغني المحتاج 3/91، شرح ابن رسلان
1/263.
(4) سبق تعريف الشهادة.
(5) انظر: الوسيط 7/421، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/509.
(6) انظر: التنبيه ص/218، المنثور 3/151.
(7) آية 228 من سورة البقرة.
(8) نهاية لوحة رقم (3) من المخطوط.
(9) لأنه أمين الشرع، فيصان منصبه عن التحليف.
انظر: فتح العزيز 13/201 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 12/38، مغني المحتاج 2/177، 384.(48/150)
، وادعى على المعزول أنه حكم عليه أيام قضائه ظلما، فإنه يصدق بلا يمين على الأصح (1) .
مسألة: إذا ادعى على الشاهد أنه تعمد الكذب أو الغلط، أو ادعى ما يسقط عدالته؛ لم يحلف، لارتفاع منصبه (2) .
من باب الجزية (3) :
إذا طُولب الذمي (4) بجزية السنة، فادعى أنه أسلم قبل تمام السنة، فليس عليه جزية أو ليس له عليه تمامها، حلف استحبابا على الأصح، فإن نكل لم يطالب بشيء (5) .
من باب العتق (6)
__________
(1) نقل الخطيب الشربيني عن الزركشي: وهذا فيمن عزل مع بقاء أهليته. أما من ظهر فسقه وشاع جوره وجنايته، فالظاهر أنه يحلف قطعا. انظر: روضة الطالبين 12/38، مغني المحتاج 4/384.
(2) انظر: فتح العزيز 13/201 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 12/38، المنثور
3/389.
(3) الجزية لغة مأخوذة من المجازاة.
واصطلاحا: هي المال المأخوذ من أهل الذمة بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، أو لكفِّنا عن قتالهم.
انظر: المصباح المنير 1/123، كفاية الأخيار 2/133، مغني المحتاج 4/243.
(4) الذمي) من الذمة، وهي في اللغة؛ العهد والأمان والضمان. وفي الاصطلاح: هو المعاهد أو من أمضى له عقد الذمة أو الكافر الذي يقيم في دولة الإسلام بعقد يصير به من مواطنيها.
انظر: المصباح المنير 1/249، معجم لغة الفقهاء ض/191.
(5) ذكر هذه المسألة ابن القاص وقيدها بما إذا غاب ثم عاد مسلما. وقال إمام الحرمين: "وظاهر هذا أنه لو كان عندنا وصادفناه مسلما بعد السنة، وادعى أنه أسلم قبل تمامها، وكتم إسلامه؛ لم يقبل قوله؛ لأن الظاهر أن من أسلم بدار الإسلام لم يكتمه".
انظر: التلخيص لابن القاص ص/646، الوسيط 7/427، فتح العزيز 13/216 (دار الكتب العلمية) ، روضة الطالبين 12/48، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/504.
(6) العتق لغة: الكرم والجمال والنجابة والشرف والحرية.
واصطلاحا: هو إزالة الرق عن الآدمي.
انظر: مختار الصحاح ص/411، كفاية الأخيار 2/175، نهاية المحتاج مع حاشيته 8/377.(48/151)
:
لو ادّعى على من هو بيده أنه أعتقه، وادعى عليه آخر أنه باعه وأقرَّ بالبيع، فإنه لا يحلفه العبد ولا يغرم (1) . قال الروياني (2) : "وليس من لا يغرمه لأحد المدعيين ولا يغرم للآخر قطعا إلا هذا" (3) .
من باب أمية الولد:
لو ادعت الولد وأنكر أصل الوطء فأشهر الوجهين: لا يحلف (4) ،هذا إذا كان ولد، فلو لم يكن ولد؛ لم يحلف قطعا (5) . والله أعلم.
تم الكتاب بعون الملك الوهاب، فله المنة وإليه المآب / (6) .
فهرس المصادر
مرتبا حسب الحروف الهجائية
- القرآن الكريم.
- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية. لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911هـ. الطبعة الأولى 1413هـ، دار الكتب العلمية.
- الأعلام. لخير الدين الزركلي المتوفى سنة 1396هـ. الطبعة الخامسة 1980م، الناشر: دار العلم للملايين، بيروت.
- إعانة الطالبين. لأبي بكر محمد شطا الدمياطي، المعروف بالسيد البكري.
-الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع. لمحمد بن أحمد الشربيني الخطيب المتوفى سنة 977هـ. الطبعة الأولى. دار المعرفة, بيروت.
- الأم. لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى 204هـ. الناشر: مطبعة الشعب, القاهرة.
__________
(1) انظر: روضة الطالبين 12/74، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/509.
(2) هو عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني الطبري الشافعي، أبو المحاسن، المعروف بصاحب البحر. برع في الفقه وكان من المتمكنين فيه، أحد أئمة الشافعية تفقه على أبيه وجده. من مصنافاته: البحر والفروق والحلية والكافي وغيرها. توفي - رحمه الله - سنة 502هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 19/260، النجوم الزاهرة 5/197، الأعلام 4/175.
(3) انظر: روضة الطالبين 12/74، الأشباه والنظائر للسيوطي ص/509.
(4) وهو الصحيح في المذهب.
انظر: فتح العزيز 9/546 (ط. دار الكتب العملية) ، روضة الطالبين 8/440، مغني المحتاج 4/476.
(5) انظر: المصادر بهامش 6 في الصفحة السابقة.
(6) نهاية لوحة 4 من المخطوط.(48/152)
- إنباء الغمر بأنباء العمر. لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ. تحقيق: د. حسن حبشي. القاهرة 1389هـ.
- أنيس الفقهاء. للشيخ قاسم القونوي المتوفى 978هـ. تحقيق: د. أحمد عبد الرزاق الكبيسي. الناشر: دار الوفاء – جدة. الطبعة الأولى 1406هـ.
- بدائع الزهور في وقائع الدهور. لمحمد بن أحمد بن إياس الحنفي المتوفى 930هـ. تحقيق: محمد مصطفى. مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة.
- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. للإمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى 1250هـ. الناشر: مطبعة السعادة بمصر. الطبعة الأولى 1348هـ.
- تاريخ الخلفاء. لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى 911هـ. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. الناشر: دار المعرفة, بيروت.
- تحفة المحتاج شرح المنهاج. لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المتوفى سنة 974هـ. الناشر: مطبعة البابي الحلبي.
- تصحيح التنبيه. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676هـ. مطبوع بهامش التنبيه. مطبعة مصطفى البابي الحلبي, القاهرة.
- التعريفات. للشريف علي بن محمد الجرجاني. الناشر: دار الكتب العلمية, بيروت.
- التلخيص في الفقه. لأبي العباس أحمد بن أحمد الطبري المعروف بابن القاص المتوفى 478هـ. تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض. مكتبة نزار الباز.
- التنبيه في الفقه الشافعي. لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476هـ. الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
- التهذيب في فقه الإمام الشافعي. للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفى 519هـ. تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض. دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان. الطبعة الاولى 1418هـ.
- تهذيب الأسماء واللغات. لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ. تحقيق: د. بشار عواد معروف. الناشر: مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى 1405هـ.(48/153)
- حاشية البجيرمي على الخطيب. لسليمان بن محمد بن عمر البجيرمي المتوفى سنة 1221هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. الطبعة الأخيرة 1370هـ.
- حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج. لنور الدين أبي الضياء، علي الشبراملسي المتوفى 1087هـ. مطبوع مع نهاية المحتاج. الطبعة الأخيرة 1386هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
- حاشية الشرواني على تحفة المحتاج. للعلامة عبد الحميد الشرواني. مطبوع مع تحفة المحتاج المتقدم ذكره.
- حاشية قليوبي على منهاج الطالبين. لشهاب الدين أحمد القليوبي المتوفى سنة 1069هـ. الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. الطبعة الثالثة.
- الحاوي الكبير. لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي المتوفى 450هـ. تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود. الناشر: دار الكتب العلمية. الطبعة الأولى سنة 1414هـ.
- حلية العلماء. لمحمد بن أحمد الشاشي القفال المتوفى سنة 507هـ. تحقيق: ياسين أحمد دراكة. الطبعة الأولى 1988م، مكتبة الرسالة الحديثة - الأردن - عمان.
- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ. الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة. الطبعة الاولى 1387هـ.
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ. تحقيق: محمد سيد جاد الحق. الناشر: دار الكتب الحديثة – القاهرة.
- ذيل رفع الإصر عن قضاة مصر. لشمس الدين السخاوي المتوفى 902هـ. تحقيق: د. حامد عبد المجيد وآخرون.
- رفع الإصر عن قضاة مصر. للحافظ أحمد بن حجر، سبق ذكره قريبا. الناشر: المطبعة الأميرية. 1957هـ.
- روضة الطالبين وعمدة المفتين. لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة 676هـ. الناشر: المكتب الإسلامي – دمشق 1388هـ.
- سير أعلام النبلاء. لشمس الدين، محمد بن أحمد الذهبي، المتوفى سنة 748هـ.(48/154)
تحقيق: شعيب الأرناؤوط. الناشر: مؤسسة الرسالة.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. لشهاب الدين عبد الحيّ ابن العماد الحنبلي 1089هـ. الطبعة الأخيرة، دار ابن كثير, دمشق.
- شرح التنبيه. لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى 911هـ. دار الفكر. الطبعة الأولى 1416هـ.
- شرح السنة. لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي المتوفى 516هـ. تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش. المكتبة الإسلامي. الطبعة الأولى 1390هـ.
- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. لإسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. الناشر: دار العلم للملايين, بيروت.
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. لشمس الدين السخاوي المتوفى 902هـ. الطبعة الأولى عام 1354هـ. القاهرة.
- طبقات الشافعية. لتقي الدين أبي عمرو، عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح المتوفى 643هـ. تحقيق: محيي الدين علي نجيب. الطبعة الأولى 1413هـ. دار البشائر, بيروت.
- طبقات الشافعية الكبرى. لتاج الدين أبي نصر، عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 717 هـ. تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو. الناشر: دار إحياء الكتب العربية. القاهرة.
- طبقات الشافعية. لجمال الدين، عبد الرحيم الأسنوي، المتوفى 772هـ. الطبعة الأولى. دار الكتب العلمية، بيروت.
- طبقات الشافعية. لأبي بكر بن أحمد بن قاضي شهبة المتوفى 851هـ. تحقيق: د. عبد الله الطباع. الناشر: عالم الكتب، بيروت.
- عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي. تأليف: محمود رزق سليم. الناشر: مكتبة الآداب. القاهرة 1947م.
- الغاية القصوى في دراية الفتوى. للقاضي عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة 685هـ. تحقيق: علي داغي. الناشر: دار النصر للطباعة الإسلامية، مصر.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار المعرفة، بيروت.(48/155)
- فتح الجواد بشرح الإرشاد. لأبي العباس أحمد بن حجر الهيتمي المتوفى سنة 974هـ. الناشر: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، بمصر. الطبعة الثانية 1391هـ.
- فتح العزيز شرح الوجيز (وهو الشرح الكبير) . لأبي القاسم عبد الكريم محمد الرافعي المتوفى 623هـ. مطبوع مع المجموع ومعهما التلخيص الحبير. الناشر: دار الفكر, بيروت.
- فتح المنان شرح زبد ابن رسلان. لمحمد بن علي، المعروف بالمفتي الحبيشي المتوفى 1283هـ. مراجعة: عبد الله الحبشي. الطبعة الأولى 1409هـ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
- فتح الوهاب بشرح منهاج الطلاب. للشيخ زكريا الأنصاري، المتوفى سنة 926هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأخيرة 1367هـ، القاهرة.
- فهرس المكتبة الأزهرية. الطبعة الأولى 1371هـ، القاهرة.
- القاموس المحيط. لمجد الدين محمد يعقوب الفيروز أبادي المتوفى 817هـ. الطبعة الثانية. شركة مصطفى البابي، حلب، القاهرة.
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. لحاجي خليفة، المتوفى سنة 1067هـ.
الناشر: مكتبة المثني، بيروت.
- كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار. لتقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني المتوفى 829هـ. الناشر: دار المعرفة, بيروت. الطبعة الثانية.
- الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة لنجم الدين الغزي المتوفى سنة 1061هـ. الناشر: دار الآفاق الجديدة. الطبعة الثانية 1979م، بيروت.
- لسان العرب. لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري.
دار صادر, بيروت.
- المبدع في شرح المقنع. لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح، المتوفى 884هـ. الطبعة الثانية بالأفسيت عام 1398هـ. الناشر: دار المعرفة, بيروت.
- متعة الأذهان. لمحمد بن طولون الحنبلي، المتوفى 953هـ. الناشر: دار صادق، بيروت. الطبعة الأولى 1999م.(48/156)
- المجموع شرح المهذب. لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المتوفى 676هـ. مع تكملتيه للسبكي والمطيعي، ومعه فتح العزيز والتلخيص الحبير. الناشر: دار الفكر, بيروت.
- المحرر. للإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي المتوفى 623هـ. مخطوط بمكتبة الأزهرية رقم 13، وعنه نسخة مصورة على فلم بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى برقم 155.
- مختار الصحاح. لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي. الناشر: دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى 1967م.
- مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان. لأبي محمد عبد الله اليافعي المتوفى 768هـ. الناشر: دائرة المعارف النظامية - حيدر أباد - الهند، 1390هـ.
- مشكل الوسيط. لأبي عمرو ابن الصلاح المتوفى 643هـ. تحقيق: أحمد محمود إبراهيم، ومحمد محمد تامر. مطبوع بهامش الوسيط. طبعة دار السلام. الطبعة الأولى 1417هـ.
- المصباح المنير. لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفى 770هـ. الناشر: المطبعة الأميرية بولاق، مصر. الطبعة الأولى 1321هـ.
- معجم الشيوخ. لنجم الدين الزاهي، دار اليمامة, الرياض 1402هـ.
- معجم المؤلفين. لعمر رضا كحالة. الناشر: دار إحياء التراث العربي, بيروت.
- معجم لغة الفقهاء. للدكتور محمد رواس، والدكتور حامد صادق. الطبعة الأولى. دار النفائس, بيروت.
- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. للشيخ محمد الشربيني الخطيب، المتوفى 977هـ. الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي. عام 1377هـ.
- المهذب في فقه الشافعي. لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، المتوفى 476هـ. الناشر: شركة ومطبعة الحلبي وأولاده، عام 1396هـ.
- المنهاج. لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ. المتن المطبوع مع مغني المحتاج. الناشر: مصطفى البابي الحلبي، مصر 1377هـ.(48/157)
- المنهاج القويم شرح على مقدمة الحضرمية. لأحمد بن حجر الهيتمي المتوفى سنة 974هـ. تحقيق: د. مصطفى الخان وغيره. الناشر: مؤسسة علوم القرآن. بيروت – لبنان.
- المنثور في القواعد. لبدر الدين محمد بن بهادر الشافعي الزركشي، المتوفى 794هـ. نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في الكويت. الطبعة الثانية 1402هـ.
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. لأبي المحاسن، يوسف بن تغري بردي الأتابكي المتوفى 874هـ. مصور عن مطبعة دار الكتب المصرية.
- نظم العقيان في أعيان الأعيان. لجلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ. الناشر: المكتبة العلمية. الطبعة الأولى 1346هـ، بيروت.
- النظم المستعذب في شرح غريب المهذب. لمحمد بن أحمد بن بطال المتوفى سنة 633هـ. مطبوع بهامش المهذب. الناشر: عيسى البابي الحلبي، مصر.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج. لشمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي المتوفى 1004هـ. الناشر: شركة ومطبعة مصطفى البابي، مصر. الطبعة الأخيرة 1386هـ.
- نهاية المطلب في دراية المذهب. لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي المتوفى 478 هـ. مصور بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم 3756، 3757.
- هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين. لإسماعيل باشا البغدادي، المتوفى 1339 هـ. الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت.
- الوجيز في فقه الإمام الشافعي. لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى 505هـ.
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت 1399هـ.
- الوسيط في المذهب الشافعي. للعلامة محمد بن محمد الغزالي، المتوفى 505هـ. الطبعة الأولى 1417هـ، دار السلام للطباعة والنشر.
- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. لأبي العباس، أحمد بن محمد بن خلكان، المتوفى 681هـ.(48/158)
حكم تكرار الجماعة في المسجد
إعداد: د. محمد طاهر حكيم
الأستاذ المساعد في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الصلاة إحدى أركان الإسلام الخمسة، وأهم دعائم الدين التي لا يقوم بناؤه إلا بها، ولا يرتكز إلا عليها وبها مع أركان الإسلام الأخرى يدخل المرء في جماعة المسلمين، وقد فرضها الله سبحانه في كتابه فقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) وبين النبي صلى الله عليه وسلم فرضيتها ووضح مكانتها في الدين فقال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ المشهور لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" الحديث (2) .
وقد ندب الشارع الناس إلى أداء الصلاة جماعة (3) تعبدا لله وتحقيقاً للتعارف والتآلف والتعاون بين المسلمين، ولغرس معاني الود والمحبة والرحمة في قلوبهم حتى يشعر كل واحد منهم نحو الآخر أنه أخوه يشاركه في آماله وآلامه، هذا بالإضافة إلى مضاعفة الثواب وعموم البركة.
__________
(1) سورة البقرة آية (43) .
(2) رواه البخاري 3/261 ومسلم 1/196 وأبو داود 2/242، 243 والترمذي 3/259، 260 وابن ماجه 1/568 وغيرهم.
(3) اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعة، فقال الحنفية والمالكية: الجماعة في الفرائض غير الجمعة سنة مؤكدة للرجال العاقلين القادرين، وقال الشافعية: إنها فرض كفاية على الأصح، وذهب الحنابلة إلى أنها فرض عين ولكنها ليست شرطا لصحة الصلاة. انظر أقوال الفقهاء وأدلتهم في تبين الحقائق 1/132 وملتقى الأبحر 1/93 والمنتقى 1/228 والشرح الصغير 1/428 ومغني المحتاج 1/229 وكشاف القناع 1/532.(48/159)
وقد اتفق العلماء على أن الجماعة من أوكد العبادات وأجل الطاعات وأعظم شعائر الإسلام، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضلها وحث على حضورها فقال عليه الصلاة والسلام: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وفي رواية: "بخمس وعشرين درجة" (1) وقال عليه الصلاة والسلام: "بشّر المشّاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (2) .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وأنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم … ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ... " (3) .
إذا كان هذا فضل صلاة الجماعة ومكانتها، فماذا عن حكم إعادة الجماعة وتكرارها، أعني: إذا صلى الإمام الراتب بجماعة، ثم بعد انصرافه حضر أناس فاتتهم الجماعة، فهل لهم أن يصلوا تلك الصلاة جماعة بعد جماعة الإمام الراتب في المسجد أم ليس لهم ذلك؟ هذا هو موضوع البحث.
__________
(1) رواه البخاري 2/131 ومسلم 5/125.
(2) رواه أبو داود 1/379 والترمذي 2/14 وقال: حسن غريب من حديث بريدة وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه 1/257 والحاكم 1/212.
(3) رواه مسلم 5/156.(48/160)
وتكمن أهمية الموضوع - فيما يُرى - في تكرار الجماعة في بعض المساجد بعد جماعة الإمام الراتب، وما يثير ذلك من إشكالات ويترك من آثار على الأمة المسلمة ووحدتها وتماسكها، إذ يحتمل أن يكون تأخر بعض هؤلاء إهمالاً وعدم مراعاة لأوقات الصلاة ظنّاً منهم أن بإمكانهم إقامة الجماعة الثانية والثالثة.. ويحتمل أن يكون تخلف طائفة منهم لإظهار بدعتهم وضلالهم وظنهم أنهم يقيمونها أفضل مما يقيمها الإمام الراتب، وقد يتخذ بعض الناس من إعادة الجماعة وتكرارها ذريعة لمنابذة الأئمة ومفارقة الجماعة وتفريق كلمة المسلمين وتمزيق وحدتهم شذر مذر.
كما أن بعضهم قد يكون تأخر عن الجماعة لعذر فيريد أن يصليها جماعة لينال ثوابها كما ينال ثواب الجماعة الأولى.
أمام هذه الاحتمالات والحالات كان لابد من دراسة هذه المسألة في ضوء نصوص الوحي والمصالح الشرعية لبيان حكم الشرع فيها.
لأجل هذا قمت بإعداد هذا البحث مبيناً فيه تحرير محل الن-زاع وأقوال الفقهاء وأدلتهم؛ ومناقشتها، محاولاً الوصول إلى القول الراجح بعد النظر إلى مقاصد الشرع ومصالحه المعتبرة، في لغة مُيسّرة وعبارة واضحة وأسلوب سهل وفق المنهج العلمي المتبع - قدر المستطاع - وجعلته بعنوان: (حكم تكرار الجماعة في المسجد)
ونظراً لطبيعة الموضوع فقد جاء تقسيمه إلى موضوعات متتابعة في إطار المعالجة الموضوعية التي تتطلبها طبيعة البحث والمادة العلمية المتاحة له.
وأسأل الله تعالى أن ينفعني به وإخوتي المسلمين وأن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
حكم تكرار الجماعة في المسجد
حالات التكرار وحكمها:(48/161)
أجمعوا على أن المسجد إذا لم يكن له أهل معروفون، بأن كان على شوارع الطرق، ويصلي الناس فيه فوجاً فوجاً فهذا لا يكره فيه تكرار الجماعة، بل الأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حده (1) لأن هذا المسجد ليس له أهل معروفون، وأداء الجماعة فيه مرة بعد أخرى لا يؤدي إلى تقليل الجماعات.
أجمعوا - كذلك - على عدم كراهة تكرار الجماعة في مسجد ليس له إمام ولا مؤذن (2) .
ولا يكره أيضا عند عامة الفقهاء تكرار الجماعة في مسجد صلى فيه أولا غيرُ أهله جماعة، ثم جاء الإمام الراتب بعدهم في جماعة أن له فيصلي بهم جماعة.
وذكر الحنفية أنه: "إذا كان مسجد محلة، وقد صلى فيه أولا غير أهله، بأذان وإقامة فلا يكره لأهله أن يعيدوا الأذان والإقامة، وإن صلى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله، فإنه يكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يعيدوا" (3) .
وقال المالكية - كما ذكر ابن عبد البر - (4) لو أن جماعة تقدّمتْ فصلّتْ جماعة، ثم جاء الإمام الراتب بعدهم في جماعة فإن له أن يصلي بهم جماعة.
وبنحو هذا قال الحنابلة (5) .
__________
(1) انظر الأصل للإمام محمد بن الحسن 1/134 والأم للإمام الشافعي 1/278والمدونة الكبرى للإمام مالك 1/89 والاستذكار لابن عبد البر 4/63 والمجموع للنووي 4/221 والفروع لابن مفلح الحنبلي 1/583.
(2) انظر الشرح الصغير للدردير 1/432، 442، وبدائع الصنائع للكاساني 1/418 وبذل المجهود في حل أبي داود للشيخ خليل السهارنفوري 4/177.
(3) انظر بدائع الصنائع 1/418، 419 وحاشية ابن عابدين 1/553.
(4) في الكافي في فقه أهل المدينة المالكي 1/220 وانظر كذلك التفريع لابن الجلاب البصري المالكي 1/263 (ط: دار الغرب الإسلامي) .
(5) انظر حاشية الروض المربع 2/271.(48/162)
لأن المسجد إذا صلّى فيه غير أهله فإنه لا يؤدي إلى تقليل الجماعة، لأن أهل المسجد ينتظرون أذان المؤذن المعروف فيحضرون حينئذ، ولأن حق المسجد لم يُقض بعد، لأن قضاء حقه على أهله (1) .
4- إذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة، فهل يصلون جماعة بإمامةِ غير الراتب بعد الراتب؟ فيه خلاف، وهذا تفصيله:
أقوال الفقهاء في المسألة:
القول الأول: يُصلون فرادى ولا يُصلون جماعة، قال به الحسن (2) وأبو قلابة (3) والقاسم بن محمد (4) وإبراهيم النخعي (5) .
ففي مصنف عبد الرزاق (6) عن الحسن قال: "يُصلون فرادى"، وعنه: "يُصلون وُحدانا"، وبه يأخذ الثوري (7) ، قال عبد الرزاق (8) : وبه نأخذ أيضاً.
وروى ابن أبي شيبة (9) عن أبي قلابة قال: "يُصلون فرادى" وروي عن وكيع عن أفلح قال: "دخلنا مع القاسم المسجد وقد صُلي فيه، قال: فصلى القاسم وحده" (10) .
وفي مصنف عبد الرزاق (11) عن الحسن بن عمرو: "أن إبراهيم كره أن يؤمهم في مسجد قد صُلي فيه".
__________
(1) انظر بدائع الصنائع الصفحة السابقة
(2) الحسن بن أبي الحسن البصري إمام فقيه حجة (ت110هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد 7/156 والتهذيب 2/263.
(3) عبد الله بن زيد بن عمرو البصري محدث فقيه عالم (ت106هـ) وترجمته في التهذيب 5/224.
(4) القاسم بن محمد بن أبي بكر بن الصديق عالم محدث فقيه المدينة (ت106هـ) وترجمته في التهذيب 8/333 ووفيات الأعيان 4/59.
(5) إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق ومن أكابر العلماء (ت 96هـ) وترجمته في التهذيب1/177 والحلية 4/217.
(6) 2/293 ورواه أيضاً ابن أبي شيبة في مصنفه 2/221.
(7) سفيان بن سعيد الثوري محدث فقيه حجة (ت 151هـ) وترجمته في تذكرة الحفاظ1/302 والتهذيب 4/111.
(8) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري صاحب المصنف عالم محدث (ت211هـ) وترجمته في التهذيب 6/310 ووفيات الأعيان 3/216.
(9) ابن أبي شيبة 2/221.
(10) ابن أبي شيبة 2/222.
(11) 2/292.(48/163)
وهو قول ابن المبارك (1) وسالم (2) والليث بن سعد (3) والأوزاعي (4) وجماعة (5) وبه قال من الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي.
ففي كتاب الأصل (6) "أرأيت قوماً فاتتهم الصلاة في جماعة فدخلوا المسجد وقد أقيم في ذلك المسجد وصُلي فيه، فأراد القوم أن يُصلوا فيه جماعة.. قال: ولكن عليهم أن يُصلوا وُحدانا" وهو ظاهر الرواية في المذهب (7) .
وفي الموطأ (8) "سئل مالك عن مؤذن (9) أذّن لقوم ثم انتظر هل يأتيه أحد فلم يأته أحد، فأقام الصلاة وصلّى وحده، ثم جاء الناس بعد أن فرغ، أيعيد الصلاة معهم؟ قال: لا يعيد الصلاة، ومن جاء بعد انصرافه فليصل لنفسه وحده.
__________
(1) عبد الله بن المبارك إمام محدث حافظ فقيه (ت181هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد 7/372 والتهذيب 5/382.
(2) سالم بن عبد الله بن عمر عالم محدث من فقهاء المدينة (ت106هـ) وترجمته في التهذيب3/438 ووفيات الأعيان 2/249.
(3) الليث بن سعد مفتي مصر وإمامها في الحديث والفقه (ت175هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد 7/517 والتهذيب 8/459.
(4) عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام فقيه حجة (ت157هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد 7/488 والتهذيب 6/238.
(5) انظر سنن الترمذي 2/9 وشرح السنة للبغوي 3/437 والاستذكار لابن عبد البر 4/65 وعمدة القاري للعيني 5/165.
(6) 1/134.
(7) بدائع الصنائع 1/418 وتحفة الفقهاء للسمرقندي 1/188 وحاشية ابن عابدين 1/377، 396، 553.
(8) 1/148 (مع الزرقاني) .
(9) قال ابن نافع (المؤذن) هنا: هو الإمام الراتب، ولم يُرد المؤذن، قال ابن عبد البر: وهذا تفسير حسن على أصل قول مالك: المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين. انظر الاستذكار 4/63.(48/164)
ويكره عند المالكية تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب، وكذلك يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب، ويحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب، والقاعدة عندهم: أنه متى أُقيمت الصلاة مع الإمام الراتب، فلا يجوز إقامة صلاة أخرى فرضاً أو نفلاً، لا جماعة ولا فرادى، ومن صلّى جماعة مع الإمام الراتب وجب عليه الخروج من المسجد لئلا يؤدي إلى الطعن في الإمام، وإذا دخل جماعة مسجداً فوجدوا الإمام الراتب قد صلّى ندب لهم الخروج ليُصلّوا جماعة خارج المسجد، إلا المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فيُصلّون فيها فرادى - إن دخلوها - لأن صلاة المنفرد فيها أفضل من جماعة غيرها.
ولا يكره تكرار الجماعة في المساجد التي ليس لها إمام راتب - كما تقدم (1) - وفي الأم (2) للإمام الشافعي: "وإن كان للمسجد إمام راتب، ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة، صلّوا فرادى، ولا أحب أن يصلّوا فيه جماعة …".
ويكره عندهم إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن من الإمام الراتب مطلقاً قبله أو بعده أو معه، ولا يكره فيما ليس له إمام راتب أو له وضاق المسجد عن الجميع، أو خيف خروج الوقت، لأنه لا يحمل التكرار على المكيدة (3) .
أدلة هذا القول:
ومما احتج به هؤلاء المانعون لتكرار الجماعة:
__________
(1) انظر المدونة 1/89 والاستذكار 4/63 والشرح الصغير للدردير 1/432، 442 والكافي 1/220 والمنتقى للباجي 1/137 والمعونة للبغدادي 1/258.
(2) 1/278.
(3) انظر شرح السنة 3/437 والمجموع 4/222 ومغني المحتاج 1/234.(48/165)
1- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أُخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين (1) حسنتين لشهد العشاء" (2) .
قال العثماني في إعلاء السنن (3) : "دلّ الحديث بعبارته أن الجماعة الأولى هي التي ندب الشارع إلى إتيانها كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: "هممت أن آمر رجلاً يصلّي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها" فلو كانت الجماعة الثانية مشروعة لم يهم بإحراق من تخلف عن الأولى لاحتمال إدراك الثانية، إذا ثبت هذا فنقول: إن وجوب الإتيان إلى الجماعة الأولى يستلزم كراهة الثانية في المسجد الواحد حتماً، فإنهم لا يجتمعون إذا علموا أنهم لا تفوتهم الجماعة الثانية.
2 - وحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلّوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم (4) .
قالوا: فلو كانت جائزة بغير كراهة لما ترك فضيلة الصلاة في مسجده.
3 - وعن الحسن قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة صلّوا في المسجد فرادى (5) .
__________
(1) قوله "العرق" قال ابن أثير: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، وقال الأصمعي: قطعة لحم، انظر النهاية 3/220 والفتح 2/129 و"مرماتين" تثنية مرماة وهي ظلف الشاة وقيل غير ذلك انظر شرح الكلمة في النهاية 2/269، 270 والفتح 2/129، 130.
(2) رواه البخاري 2/125 (مع الفتح) ومسلم 5/153 (مع شرح النووي) وأبو داود1/371 والترمذي مختصرا 1/631 والنسائي 2/107 وابن ماجه 1/259.
(3) 4/246.
(4) رواه الطبراني في الأوسط وقال رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد 2/45.
(5) رواه ابن أبي شيبة 2/222.(48/166)
4 - ولأن التكرار يؤدي إلى تقليل الجماعة، لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة فيستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنها لا تفوتهم، يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه (1) .
القول الثاني: وذهب آخرون إلى أنه لا يُكره تكرار الجماعة بإمامة غير الراتب بعد انتهاء الإمام الراتب، روي ذلك عن أنس وابن مسعود (وعطاء (2) وقتادة (3) وهو رواية عن الحسن والنخعي فقد روى البخاري (4) معلقاً "أن أنساً جاء إلى مسجد قد صُلي فيه فأذّن وأقام وصلّى جماعة".
قال الحافظ (5) : وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان قال: مرّ بنا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة، فذكر نحوه، قال: وذلك في صلاة الصبح، وفيه: "فأمر رجلاً فأذن وأقام ثم صلّى بأصحابه" وأخرجه ابن أبي شيبة (6) من طرق عن الجعد وكذلك عبد الرزاق في المصنف (7) .
وروى ابن أبي شيبة (8) عن سلمة بن كهيل أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلّوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود.
وروى عن أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً أن تصلّي الجماعة بعد الجماعة في مسجد الكلاّءِ بالبصرة (9) .
وروى عن عطاء أنه صلّى هو وسالم بن عطية في المسجد الحرام في جماعة بعد ما صلّى أهله (10) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1/419.
(2) عطاء بن أبي رباح عالم فقيه تابعي (ت 115هـ) وترجمته في التهذيب 7/199 والأعلام 5/29.
(3) قتادة بن دعامة البصري إمام فقيه لغوي (ت 117هـ) وترجمته في التهذيب 8/315 والحلية 2/333
(4) 2/131.
(5) فتح الباري 2/131 ورواه ابن حزم أيضاً في المحلى 4/237.
(6) 2/220،221.
(7) 2/291، 292.
(8) المصنف 2/221.
(9) المصنف 2/221 والكلاّء بالفتح ثم التشديد والمد: محلة مشهورة وسوق بالبصرة، انظر مراصد الاطلاع على أسماء الأماكن والبقاع لصفي الدين البغدادي 3/1173
(10) المصنف 2/221(48/167)
وروى عبد الرزاق (1) عن قتادة قال: إذا دخل الرجلان المسجد خلاف الصلاة (2) صلّيا جميعاً أمَّ أحدهما صاحبه.
وروي عن عبد الله بن يزيد قال: "أمَّني إبراهيم في مسجد قد صُلي فيه فأقامني عن يمينه بغير أذان ولا إقامة" (3) وروي ذلك عن عدي بن ثابت (4) وإسحاق (5) وأشهب (6) وابن حزم (7) وبه قال الإمام أحمد (8) وزاد: إلا في مسجد مكة والمدينة فقط فإنه تكره إعادة الجماعة فيهما، رغبة في توفير الجماعة، أي لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى وذلك في غير عذر كنوم ونحوه.
ويحرم عنده إقامة جماعة في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه - وهو مكروه عند غيره - لأنه بمنزلة صاحب البيت، وهو أحقّ بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤَمَّنَّ الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بإذنه" رواه أبو داود. (9) وفي رواية لمسلم (10) : "ولا يؤمّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" قال النووي (11) : "إن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحقّ من غيره".
__________
(1) المصنف 2/293
(2) أي عقب صلاة انتهاء الجماعة.
(3) المصنف 2/292 وروى نحوه ابن أبي شيبة عنه 2/221 وابن حزم 4/238
(4) عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي عالم ثقة (ت 116هـ) وترجمته في التهذيب 7/165
(5) إسحاق بن راهويه المروذي إمام محدث فقيه (ت 288هـ) وترجمته في الحلية 9/224 والتهذيب 11/316
(6) أشهب بن عبد العزيز العامري، اسمه مسكين وأشهب لقب فقيه مالكي (ت 204هـ-) وترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون 1/307
(7) انظر مصنف عبد الرزاق 2/294 وسنن الترمذي 2/9 والسنن الكبرى للبيهقي
3/69،70 وشرح السنة 3/437 وعمدة القاري 5/165 والاستذكار 4/63 والمحلى
4/237
(8) انظر المغني 3/10،11 وكشاف القناع 1/537،539 والإنصاف 2/219 والمبدع
2/46،47 وحاشية الروض المربع 2/267،270
(9) 1/390،391
(10) 5 /173.
(11) شرح مسلم 5/173.(48/168)
ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه، وتبطل فائدة اختصاصه بالتقدم.
وكذلك يحرم إقامة جماعة أخرى أثناء صلاة الإمام الراتب، ولا تصح الصلاة في كلتا الحالتين - أي قبل الإمام الراتب وأثناء صلاته - وعلى هذا فلا يحرم ولا تكره الجماعة بإذن الإمام الراتب لأنه مع الإذن يكون المأذون نائبا عن الراتب.
ولا يحرم ولا تكره أيضا إذا تأخر الإمام الراتب لعذر وضاق الوقت أو ظن عدم حضوره، ولم يكن يكره أن يُصلي غيره في حال غيبته لصلاة أبي بكر - رضي الله عنه - بالناس حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم (1) .
__________
(1) عن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر – رضي الله عنه – فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك… ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال: "يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ " فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "من رابه شيء في صلاته فليسبح … وإنما التصفيق للنساء". رواه البخاري واللفظ له 2/167 ومسلم 4/145 وأبو داود 1/578.(48/169)
وفعل كذلك عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - لما تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة ثم أتم صلاته (1) .
ويكره للإمام إعادة الصلاة مرتين، بأن ينوي بالثانية عن فائتته وغيرها وبالأولى فرْض الوقت، والأئمة متفقون على أنه بدعة مكروهة (2) .
واحتج القائلون بجواز تكرار الجماعة – فيما عدا حالات الحرمة والكراهة - بالآتي:
1- عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة" وفي رواية: "بسبع وعشرين درجة" (3) الحديث دلّ على فضيلة صلاة الجماعة، وهو يدلّ بعمومه أن الجماعة لو تكررتْ فإن الفضيلة المذكورة حاصلة، ولأن المفرد (صلاة) إذا أضيف إلى الجمع (الجماعة) فإنه يدلّ على الشمول والاستغراق فتدخل فيه كل جماعة، سواء كانت الأولى أو التي بعدها.
__________
(1) عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه- قال: تخلّفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فتبرّز، وذكر وضوءه، ثم عمد الناس وعبد الرحمن يصلي بهم، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فلما قضاها، أقبل عليهم، فقال: "قد أحسنتم وأصبتم، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها". رواه الإمام مسلم 4/147 والإمام أحمد 4/249،251.
(2) انظر كشاف القناع 1/539.
(3) سبق تخريجه في المقدمة، والجمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه:
منها: أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد. ومنها: أنه أخبر بالخمس أولاً ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بسبع. ومنها: الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع، أو الفرق بكثرة الجماعة وقلتها. وقيل غير ذلك. انظر شرح مسلم للنووي 5/151 وفتح الباري 2/132(48/170)
2- وحديث أبي سعيد قال: جاء رجل وقد صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم يتجر (1) على هذا؟ " فقام رجل وصلّى معه (2) .
3- وحديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده، فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " فقام رجل فصلى معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان جماعة" (3) .
4- وعن أنس - رضي الله عنه - أنه جاء إلى مسجد قد صُلي فيه فأذن وأقام وصلّى جماعة (4) .
مناقشة الأدلة:
هذا وقد أورد المانعون لتكرار الجماعة على هذه الأدلة ما يأتي:
إن حديث تفضيل صلاة الجماعة على الفذ يحتمل أن يكون في الجماعة الأولى لأنها هي التي ندب الشارع إليها.
__________
(1) قال في النهاية 1/182: هو (يفتعل) من التجارة لأنه يشتري بعمله الثواب، ولا يكون من الأجر على هذه الرواية، لأن الهمزة لا تدغم في التاء، وإنما يقال فيه: (يأتجر) وراجع غريب الحديث للخطابي 3/229 والمجموع المغيث 1/218،219.
(2) رواه الترمذي 2/6 وأبو داود 1/386 والإمام أحمد 3/64 و 5/45 والحاكم 1/209 والدارمي 1/318 وابن أبي شيبة 2/220 وابن حزم في المحلى 4/238 وقال: "لو ظفروا - يعني مخالفيه - بمثل هذا لطاروا به كل مطار". يريد بذلك أنه صحيح عنده لا مطعن فيه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 3/69،70 وعنده: "فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فصلى معه، وكان قد صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". ورواه أيضاً ابن حبان 6/157، 158 بلفظ: "ألا من رجل يتصدق على هذا فليصلّ معه"، وهذا لفظ أبي داود أيضا، وسماه صدقة لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة إذ لو صلى منفردا لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة. قاله المظهري كما في بذل المجهود في حل أبي داود 4/177.
(3) أخرجه الإمام أحمد 5/254 والطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/45: "له طرق كلها ضعيفة".
(4) رواه البخاري معلقاً 2/131 وقد تقدم تخريجه قريباً.(48/171)
وحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - لا يتم الاستدلال به، لأن فيه اقتداء المتنفل بالمفترض ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في اقتداء المفترض بالمتنفل (1) . وقال الزرقاني (2) إنها واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهية.
وحديث أبي أمامة طرقه كلها ضعيفة كما قال الهيثمي (3) .
وأما ما روي عن أنس - رضي الله عنه - فإنه يحتمل أن يكون المسجد مسجد الطريق الذي لا يكره تكرار الجماعة فيه، ويرجح هذا الاحتمال تكراره - رضي الله عنه - الأذان والإقامة الذي لا يجوّزه من جوّز تكرار الجماعة في مسجد المحلة. (4) .
وقد أجيب عن هذه الإيرادات بما يلي:
أن حمل حديث التفضيل على الجماعة الأولى لا دليل عليه. والظاهر أن هذه الفضيلة تحصل لكل جماعة بقطع النظر عما ذكر، لأن الحديث دلّ على فضيلة الجماعة على المنفرد فيدخل فيه كل جماعة، ويقويه ما رواه ابن أبي شيبة (5) بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: "إذا صلّى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهما التضعيف خمس وعشرين درجة" (6) .
وأما حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - ففيه دليل على إعادة الجماعة - وهو المطلوب - وأما اقتداء المفترض بالمتنفل أو بالمفترض فهو بحث آخر لا علاقة له بموضوع البحث. وأما دعوى الزرقاني بأنها واقعة حال وقضية عين فلم أقف على دليل يدل عليه، والأصل أنه تشريع عام، والله أعلم.
وأما حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - فلا يضره ضعفه، إذ في الباب حديث أبي سعيد - المتقدم آنفاً - وقد حسّنه الترمذي وصححه الحاكم وابن حبان وابن خزيمة، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (7) .
وفي الباب عن أبي موسى والحكم بن عمير (8) وأنس وسلمان وعصمة بن مالك الخطمي. (9) .
__________
(1) انظر إعلاء السنن 4/248.
(2) شرح الزرقاني على الموطأ 1/149.
(3) مجمع الزوائد 2/45.
(4) انظر إعلاء السنن 4/248.
(5) المصنف 2/412.
(6) انظر فتح الباري 2/136.
(7) انظر نصب الراية للزيلعي 2/57.
(8) سنن الترمذي 2/7.
(9) نصب الراية 2/57،58.(48/172)
وأمّا ما روى عن أنس - رضي الله عنه - فلا يُردّ بالاحتمال الذي أوردتموه.
هذا وقد ناقش القائلون بتكرار الجماعة أدلة المانعين بما يأتي:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ليس نصاً في هذه المسألة، بل هو في التشديد على من تخلف عن الجماعة، أو أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة، أو أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة. أو أن الحديث ورد في حق المنافقين فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه، ذكره الحافظ، وقال: "والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر" الحديث (1) ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لو يعلم أحدهم أنه يجد …الخ" لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل. (2) وقال الشاطبي (3) : الحديث مختص بأهل النفاق بدليل قول ابن مسعود: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق". (4)
وأما حديث أبي بكرة فلا دليل لكم فيه فإنه يدل بعمومه على استحباب إعادة الجماعة - لا على منعها - بغض النظر عن أن تكون الإعادة في المسجد أو في البيت، فالإعادة حصلتْ، وهذا هو الشاهد، ثم إن هذا الحديث لا يُعلم حاله، كيف هو قابل للاحتجاج أم لا؟ وقول الهيثمي: رجاله ثقات، لا يدل على صحته إذ لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحاً، قال الزيلعي: (5) في الكلام على بعض روايات الجهر بالبسملة: "لا يلزم من ثقة الرجال صحة الحديث حتى ينتفي منه الشذوذ والعلة".
وقال الحافظ في (التلخيص) (6) عند الكلام على بعض روايات حديث بيع العينة: "لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات، أن يكون صحيحاً".
__________
(1) رواه البخاري 2/141.
(2) انظر فتح الباري 2/126،127.
(3) الموافقات 4/156.
(4) رواه مسلم 5/156.
(5) في نصب الراية 1/347.
(6) التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير 3/19.(48/173)
هذا إذا سُلم أن رجال هذا الحديث ثقات على ما قاله الهيثمي. لكن قال صاحب (العرف الشذى) - كما في (تحفة الأحوذي) (1) و (إعلاء السنن) –: "إن في سنده معاوية بن يحي وهو متكلم فيه".
وقد ذكر الذهبي (2) أحاديثه المناكير وذكر فيها حديث أبي بكرة هذا وكذلك فعل ابن عدي. (3)
ثم لو سُلّم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صُلي فيه فيجوز له أن لا يُصلى فيه جماعة، بل يخرج منه فيميل إلى منزله فيصلي بأهله فيه، وأما أنه لا يجوز له أن يُصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة للحديث عليه ألبتة، كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفرداً.
ثم لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة لأجل أنه صلى الله عليه وسلم لم يُصل في المسجد لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضاً في مسجد قد صُلي فيه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُصل في المسجد لا منفرداً ولا جماعة، والحاصل: أن الاستدلال بحديث أبي بكرة المذكور على كراهة تكرار الجماعة في المسجد، واستحباب الصلاة فرادى ليس بصحيح. ذكره المباركفوري وقال: "ولم أجد حديثاً مرفوعاً صحيحاً يدل على هذا المطلوب". (4)
وأما أثر الحسن "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد - وقد صُلي فيه - صلوا فرادى" فقد أجاب عنه صاحب (تحفة الأحوذي) (5) بأن صلاتهم فرادى إنما كانت لخوف السلطان محتجاً بما رواه ابن أبي شيبة (6) حدثنا هشيم، أخبرنا منصور عن الحسن قال: "إنما كانوا يكرهون أن يجمعوا مخافة السلطان".
الترجيح:
__________
(1) 2/10.
(2) في ميزان الاعتدال 4/139،140.
(3) في الكامل في ضعفاء الرجال 6/401، 403.
(4) تحفة الأحوذي 2/10،11.
(5) 2/11.
(6) المصنف 2/221 وذكره ابن عبد البر في الاستذكار 4/68.(48/174)
وبهذا يظهر أن أدلة الفريق الثاني القائلين باستحباب تكرار الجماعة أصح وأصرح في الدلالة - كما لا يخفى.
ولكن المانعين للجماعة الثانية - وهم الجمهور - يقولون، إنما قلنا بمنع تكرار الجماعة إذا كان تكرارها يؤدي إلى اختلاف الكلمة ومفارقة الجماعة، ومنابذة الأئمة ووقوع العداوة، فالمقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة هو تأليف القلوب واتحاد الكلمة حتى يقع الأنس والمحبة بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الحقد والحسد، فإذا كانت الجماعة الثانية تؤدي إلى ضياع هذه المعاني وغياب هذه المقاصد وإبطال هذه الحِكم فلا تشرع.
وأيضاً فإن إطلاق القول باستحباب تكرار الجماعة، يُعطي ذريعة لأهل الزيغ والضلال والبدع لإظهار نحلتهم وإعلان بدعتهم. وفي ذلك حصول المكروه، لأجل هذا كله رأى هؤلاء القوم من أهل العلم منع تكرار الجماعة حفاظاً على وحدة الصف واتحاد الكلمة، ومنعاً لأهل الضلال والباطل من إظهار نحلتهم وبدعتهم.
قال الشافعي (1) : "… وإنما كرهتُ ذلك لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم قال: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم، إنما كان لتفرق الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام الجماعة فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف، وتفرق كلمة وفيهما المكروه، وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بُني على ظهر الطريق، أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم ويصلى فيه المارة ويستظلون، فلا أكره ذلك فيه، لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة …".
__________
(1) الأم 1/278.(48/175)
وقال الإمام ابن عبد البر - بعد أن ذكر قول الإمام مالك وغيره ممن منع تكرار الجماعة - قال: "هذه المسألة لا أصل لها إلا إنكار جمع أهل الزيغ والبدع، وألا يتركوا وإظهار نحلتهم، وأن تكون كلمة السنة والجماعة هي الظاهرة لأن أهل البدع كانوا يرتقبون صلاة الإمام ثم يأتون بعده، فيجمعون لأنفسهم بإمامهم، فرأى أهل العلم أن يمنعوا من ذلك وجعلو الباب بابا واحداً، فمنعوا منه الكل، والأصل ما وصفت لك". (1)
وقال الإمام ابن العربي في قوله تعالى: {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) : "يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرّقوا شملهم في الطاعة وينفردوا عنهم للكفر والمعصية، وهذا يدلّك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب… ولهذا المعنى تفطّن مالك - رضي الله عنه - حين قال: إنه لا تُصلى جماعتان في مسجد واحد لا بإمامين ولا بإمام واحد…حيث كان ذلك تشتيتاً للكلمة وإبطالاً لهذه الحِكمة …" (3) .
وقال الباجي: "… ولو جاز الجمع في مسجد مرتين لكان ذلك داعية إلى الافتراق والاختلاف ولكان أهل البدع يفارقون الجماعة بإمامهم ويتأخرون من جماعتهم ثم يُقدّمون منهم، ولو جاز مثل هذا لفعلوا مثل ذلك بالإمام الذي تؤدى إليه الطاعة فيؤدي ذلك إلى إظهار منابذة الأئمة ومخالفتهم ومفارقة الجماعة فوجب [أن يغلق] عليهم هذا الباب.
ووجه آخر: أنه لو وسع في مثل هذا الأمر لأدى إلى أن لا تُراعى أوقات الصلاة، ولأخّر من شاء وصلى بعد ذلك في جماعة. وقصْر الناس على إمام واحد داع إلى مراعاة صلاته والمبادرة إلى إدراك الصلاة معه". (4)
__________
(1) الاستذكار 4/64، 65.
(2) سورة التوبة آية (107) .
(3) أحكام القرآن 2/582 وانظر أيضاً تفسير القرطبي 8/257
(4) المنتقى 1/137.(48/176)
يظهر من هذا أن المنع من تكرار الجماعة حيث كان ذلك تشتيتاً للكلمة وتفريقاً للجماعة وتمزيقاً للوحدة، أي ما كان على سبيل التداعي والاجتماع. أما إذا لم يكن على هذا الوجه بأن حصل ذلك لنفرٍ قليل تأخروا عن الجماعة لعذر - دون قصد الاختلاف والافتراق عن جماعة المسلمين أو مخالفة الأئمة ومنابذتهم - فإن تكرار الجماعة في مثل هذه الحالة لا يُكره. وقد نصّ على ذلك القائلون بالمنع، وهذا الشافعي يقول: ".. فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة.. واحسب كراهية من كره ذلك منهم أنما كان لتفرق الكلمة" (1) .
وقال أبو يوسف: "إنما يُكره إذا كانت الجماعة الثانية كثيرة (2) ، فأما إذا كانوا ثلاثة أو أربعة فقاموا في زاوية من زوايا المسجد وصلوا بجماعة لا يُكره" وروي عن محمد بن الحسن الشيباني: "أنه إنما يُكره إذا كانت الثانية على سبيل التداعي والاجتماع فأما إذا لم يكن فلا يُكره" (3) .
وروي نحو هذا عن أشهب المالكي (4) فعن أصبغ، قال: دخلت المسجد مع أشهب، وقد صلّى الناس، فقال لي: "يا أصبغ ائتم بي وتنحّى إلى زاوية فأْتممتُ به" وتقدم قول المالكية أنهم يصلون جماعة خارج المسجد.
وقال الإمام النووي: - بعد أن ذكر الصحيح المشهور في المذهب وهو كراهة تكرار الجماعة بعد جماعة الإمام الراتب بغير إذنه - قال: "أما إذا حضر واحد بعد صلاة الجماعة فيستحب لبعض الحاضرين الذين صلوا، أن يُصلي معه لتحصل له الجماعة" (5) وفي مغني المحتاج (6) : "ويستحب لمن صلّى إذا رأى من يُصلي تلك الفريضة وحده أن يُصلًيها معه ليحصل له فضيلة الجماعة".
__________
(1) الأم 1/278.
(2) وحمل الكاساني حديث أبي سعيد المتقدم على هذا حيث قال: "لأنه أمر واحداً - يعني في قوله: أيكم يتجر على هذا - وذا لا يُكره وإنما المكروه ما كان على سبيل التداعي والاجتماع" البدائع 1/419.
(3) بدائع الصنائع 1/418.
(4) الاستذكار 4/63.
(5) المجموع 4/222.
(6) 1/234.(48/177)
والذين قالوا باستحباب تكرار الجماعة لم يغب عنهم هذا المعنى - أي أنها إذا كانت تفضي إلى اختلاف القلوب والتهاون بها مع الإمام فإنها تكره وإلا فلا - ففي الروض المربع شرح زاد المستقنع (1) بعد أن ذكر المذهب، وهو: استحباب تكرار الجماعة، قال: "وعنه: تكره …لئلا يُفضي إلى اختلاف القلوب، والتهاون بها مع الإمام" وقال ابن مفلح الحنبلي: (2) "ولا تكره إعادة الجماعة" أي: إذا صلّى إمام الحي، ثم حضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلّوا جماعة… وقال القاضي: "يُكره لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب…"، وقال ابن حزم: "… وأما نحن فإن من تأخر عن صلاة الجماعة لغير عذر لكن قلة اهتبال أو لهوى أو لعداوة مع الإمام فإننا ننهاه…". (3)
نخلص من هذا إلى أن الفريقين يكادان يتفقان على مشروعية تكرار الجماعة إذا لم يكن التكرار على سبيل التداعي والاختلاف والافتراق ومنابذة الأئمة وشقاً لعصا المسلمين.
وأما إذا اتُّخذ التكرار ذريعة ووسيلة لتفريق الجماعة وتشتيت الكلمة وتمزيق الوحدة من قبل أهل الأهواء الزائغة والفرق المبتدعة أو كان يُفضي إليه - ولو غالباً - لم يكن مشروعاً، بل كان ممنوعاً، لأن ما يؤدي إلى الممنوع فهو ممنوع، والنظر في المآلات معتبر عند أهل العلم. قال الإمام الشاطبي: (4)
__________
(1) 2/271.
(2) المبدع شرح المقنع 2/46،47.
(3) المحلى 4/237.
(4) الموافقات 5/177، 178.(48/178)
"النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، [فقد يكون] مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب (1) جار على مقاصد الشريعة".
ثم أخذ رحمه الله يستدل على صحة ذلك بأمور، منها: أن استقراء الشريعة وأدلتها يدل على اعتبار المآلات، وذكر أمثلة تفصيلية كامتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، فقد قال - حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه -: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه" (2) فينفروا من الدخول في الإسلام. ثم قال الشاطبي: "… يكون العمل في الأصل مشروعاً، لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة…".
__________
(1) أي: العاقبة.
(2) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية 6/546 وفي التفسير، باب قوله: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) 8/ 648.(48/179)
قلت: وهذا ينطبق على مسألتنا هذه، فإن الجماعة في الأصل مشروعة لحِكم، منها: مضاعفة الثواب وعموم البركة، والتواصل والتوادد، ولأجل معرفة أحوال بعضهم ببعض فيقوموا بعيادة المرضى وتشييع الموتى وإغاثة الملهوفين، وليحصل بينهم التعاون والائتلاف ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ". (1)
إذاً: فالجماعة موضوعة لهذه المعاني العظيمة والحِكم الجليلة، وهي وسيلة إلى الخير والوحدة والاتفاق، ولكن لو اتخذ من تكرار الجماعة وسيلة وذريعة إلى مفسدة الاختلاف والافتراق أو كان يفضي إليها لم تكن مشروعة.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - (2) : "الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان…والثاني: أن تكون (الأفعال أو الأقوال) موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه…كمن يُصلي تطوعاً بغير سبب في أوقات النهي، أو يسبّ أرباب المشركين بين أظهرهم …" ثم دلّل على المنع بوجوه، فقال: (3) "الوجه الثامن والثلاثون: أن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف، مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن، وذلك سداً لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع، وطلباً لاجتماع القلوب وتآلف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة، لئلا تختلف القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر".
__________
(1) رواه أبو داود 1/432 وأحمد 4/122 والحاكم 1/583 وأبو عوانة 2/41،42.
(2) إعلام الموقعين 3/136.
(3) المرجع السابق 3/145.(48/180)
قلت: ومن أجل هذا منع جماعة من أهل العلم من تعدد الجمعة في بلد واحد - إذا لم تدع الحاجة إلى التعدد - بأن كان المسجد الكبير كافياً لهم، فلا يجوز في مسجدين إذا حصل الغنى بالمسجد الواحد، قال ابن قدامة: (1) "لا نعلم في هذا مخالفاً إلا أن عطاء قيل له: "إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر" فقال: "لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزي ذلك عنهم" قال ابن جرير: "فأنكر الناس ذلك أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر" (2) كل ذلك حرصاً على توحيد كلمة المسلمين وردعاً لأهل الأهواء الزائغة الذين يعتزلون المسجد الكبير ويبنون لأنفسهم مساجد أخرى ضراراً وتفريقاً للكلمة وشقاً لعصا المسلمين ليبطلوا المعنى الروحي من هذا الاجتماع العظيم (3) ، وسداً لذريعة التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
__________
(1) المغني 3/213.
(2) رواه عبد الرزاق في المصنف 3/170.
(3) انظر (الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد) للإمام تقي الدين السبكي (منشور ضمن فتاويه) .(48/181)
قال الشاطبي: "وقد يقع الترك لوجوه… ومنها: الترك للمطلوب خوفاً من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها -: "لولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تُنكر قلوبهم أن أدخل الجدْر في البيت، وأن ألصِق بابه بالأرض". (1) فما منعه صلى الله عليه وسلم من إعادة بناء البيت الحرام على قواعد إبراهيم - عليه السلام - إلا خوف حدوث بلبلة بين العرب ومن أن يقولوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يهدم المقدّسات ويغيّر معالمها. ولهذا قال الشاطبي: "فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد وإن كان أصله مطلوباً" (2) وقال: "إن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى…كإتمام عثمان - رضي الله عنه - الصلاة في حجه بالناس (3) وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة" (4) وقد قال لهم: "إني إمام الناس فينظر إليّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين، فيقولون: هكذا فرضت". (5)
__________
(1) رواه البخاري 3/439 بهذا اللفظ ومسلم 9/88، وروى نحوه النسائي 5/215 وأحمد 6/57، 239، وفي لفظ للبخاري 3/439: "لولا حداثة قومك لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام".
(2) الموافقات 3/529.
(3) إتمام عثمان - رضي الله عنه - ثابت في البخاري 2/563، 569 و3/509 ومسلم 5/203 وأبي داود 2/492، 493 والنسائي 3/120 والدارمي 2/55 وأحمد 1/416، 425، 464.
(4) انظر الموافقات 4/59، 60.
(5) رواه عبد الرزاق في المصنف 2/518، 519 والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/425 نحوه عن الزهري ورواه البيهقي في الكبرى 3/144 من طريق عبد الرحمن بن حميد أن عثمان أتم بمنى ثم خطب.. وعن ابن جريج أن أعرابياً ناداه في منى: "يا أمير المؤمنين: ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين" قال الحافظ ابن حجر في الفتح 2/571: "ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام".(48/182)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (1) "المسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام".
وقال - بعد كلامه في مسألة البسملة في الصلاة -: "أما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه - إلى أن قال - ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك مثل هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا". (2)
قلت: هذا - والله - هو الفقه، فإن تكرار الجماعة مستحب، فإن كان يؤدي إلى مفسدة تفريق كلمة المسلمين وتمزيق وحدتهم وإيقاع الخلاف والفرقة بينهم فإنه يُترك وينهى عنه لأجل مصلحة اتحاد الكلمة ووحدة الصف، وتأليف القلوب الواجب شرعاً، وبه تتحد نصوص الشرع وحِكمها، ومن تدبّر مقاصد الشرع وفَقَه موارده وأدلته وما اشْتملتْ عليه من المصالح لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة. وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الخاتمة
تطرق هذا البحث بعد بيان فرضية الصلاة وأهمية أدائها جماعة إلى حكم إعادة الجماعة في المسجد بعد جماعة الإمام الراتب.
وقد ظهر اتفاق الفقهاء على أن المسجد إذا لم يكن له أهل معروفون بأن كان على شوارع الطرق أو كان لا إمام له ولا مؤذن فإنه لا يكره فيه تكرار الجماعة.
كما اتضح مذهب جمهور الفقهاء أنه إذا كان مسجد محلة وقد تقدم قوم فصلوا جماعة، ثم جاء الإمام الراتب بعدهم فإن له أن يصلي بأهله جماعة.
__________
(1) مجموع الفتاوى 24/195.
(2) مجموع الفتاوي 22/405، 407.(48/183)
أما إذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت قوماً فيه الجماعة فهل يصلون جماعة بإمام غير الراتب بعد الراتب؟ ذهب جماعة من الفقهاء إلى المنع من إعادة الجماعة وقالوا يصلون فرادى، وذهب آخرون إلى استحباب إعادة الجماعة بالنسبة لهم إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي فإنه يكره فيهما إعادة الجماعة لئلا يتوانى الناس عن حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى وذلك في غير عذر كنوم ونحوه.
وقد بينت أدلة الفريقين وذكرت ما أورد عليهما ثم الجواب عن ذلك بالتفصيل، وفي الأخير ترجح لي - بعد النظر إلى أدلة الشرع ومقاصده ومصالحه المعتبرة - أن إعادة الجماعة إذا كان بقصد الاختلاف على الأئمة ومفارقة الجماعة أو لجأ إليها أهل الزيغ والضلال لإظهار نحلتهم وإعلان بدعتهم. فإن الإعادة تمنع حفاظاً على وحدة الصف واتحاد الكلمة ومنعا لأهل الباطل من إظهار بدعتهم.
وأما إذا لم تكن الإعادة على هذا الوجه بأن حصل لقوم تأخروا عن الجماعة لعذر - دون قصد الاختلاف والافتراق ومنابذة الأئمة وإظهار البدعة - فإن الإعادة والتكرار في هذه الحالة لا يُكره، بل يُشرع للأدلة المذكورة، وبه تتحد نصوص الشرع وحِكمها.
وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المراجع
أحكام القرآن لابن العربي المالكي، تعليق محمد عبد القادر، دار الفكر.
الاستذكار لابن عبد البر تحقيق عبد المعطي قلعجي، القاهرة 1393هـ.
الأصل للإمام محمد بن الحسن الشيباني. ط.الهند 1393هـ.
إعلاء السنن للعلامة ظفر أحمد العثماني. كراتشي. ط: الأولى.
أعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية، دار الجيل، بيروت.
الأم للإمام محمد إدريس الشافعي تحقيق محمود مطر جي، دار الكتب العلمية، بيروت 1413هـ.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين الكاساني، مطبعة العاصمة، القاهرة.(48/184)
تحفة الأحوذي بشرح الترمذي للعلامة محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، المكتبة السلفية، المدينة المنورة 1385هـ.
التفريع لابن الجلاب البصري المالكي ط: دار الغرب الإسلامي.
التلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر تحقيق عبد الله هاشم اليماني، المدينة المنورة.
حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لعبد الرحمن محمد النجدي 1397هـ.
الدر المختار للعلامة محمد أمين بن عابدين طبع مصطفى البابي الحلبي 1386هـ.
سنن الترمذي للإمام أبي عيسى محمد الترمذي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة 1385هـ.
سنن أبي داود للحافظ أبي داود سليمان بن أشعث السجستاني، دار الحديث.
سنن ابن ماجه للإمام محمد بن يزيد القزويني، دار إحياء التراث العربي 1395هـ.
السنن الكبرى للإمام أحمد بن الحسين البيهقي، الهند 1355هـ.
شرح الزرقاني على الموطأ لسيدي محمد الزرقاني، دار الفكر.
شرح السنة للإمام الحسين بن مسعود البغوي، المكتب الإسلامي 1390هـ.
صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، الطبعة السلفية، القاهرة.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة 1418هـ.
صحيح مسلم مع شرح النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
عمدة القارئ شرح صحيح البخاري للعلامة بدر الدين العيني، دار الفكر، بيروت.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، الطبعة السلفية.
الفروع لابن مفلح الحنبلي، عالم الكتب، الطبعة الرابعة 1405هـ.
الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لابن عبد البر، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض 1398هـ.
الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، دار الفكر 1409هـ.
كشاف القناع عن متن الإقناع للعلامة منصور البهوتي، ط: مكة المكرمة 1394هـ.
المبدع في شرح المقنع لإبراهيم بن مفلح الحنبلي، المكتب الإسلامي.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي، القاهرة.(48/185)
مجموع الفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد وابنه، طبع المغرب.
المجموع شرح المهذب للإمام أبي زكريا النووي (مع التلخيص الحبير) دار الفكر.
المحرر في الفقه لمجد الدين أبي البركات عبد السلام الحراني، مكتبة المعارف، الرياض 1404هـ.
المحلى للإمام أبي محمد علي بن حزم، تصحيح الشيخ أحمد شاكر، دار الفكر.
المدونة الكبرى للإمام مالك، برواية سحنون، دار الفكر 1411هـ.
مرقاة المفاتيح شرح مرقاة المصابيح للعلامة علي القاري، دار الفكر 1412هـ.
المستدرك على الصحيحين للإمام الحاكم النيسابوري، دار الفكر، بيروت1398هـ.
مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي 1389هـ.
المصنف للإمام ابن أبي شيبة، تعليق سعد اللحام، دار الفكر 1409هـ.
المصنف للإمام عبد الرزاق الصنعاني تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي.
المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبد الوهاب، دار الفكر.
المغني لابن قدامة، تحقيق د/عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة 1407هـ.
مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج للشيخ محمد الخطيب الشربيني، دار الفكر.
المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، دار الكتاب العربي، بيروت.
الموافقات للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق مشهور بن حسن، دار ابن عفان 1417هـ.
نصب الراية لأحاديث الهداية، للإمام الزيلعي، مكتبة الرياض الحديثة، الطبعة الثالثة.(48/186)
معجم المؤلفات الأصولية المالكية المبثوثة في كشف الظنون وإيضاح المكنون وهدية العارفين
المقدمة
الحمد لله خالق الثقلين لعبادته، ومنزل الكتاب على خاتم رسله، ليكون بشيرًا ونذيرًا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرًا؛ فصلاةُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن سار على هديِه إلى يوم الدين.
وبعد؛ فإن الله - جلّ في علاه - اصطفى من الملائكة جبريل لوحيه، ومن الناس محمد بن عبد الله الأمين ليختم به رسالته، واختار له خير الأصحاب ليكونوا لمن في عصرهم ومَن بعدهم كالنّجوم يُقتدى بها ويهتدى.
ومِن رحمة الله بخلقه: أن جعل ـ جلّ جلاله ـ من كل خلَفٍ عدوله ليكونوا أمناء وحيه وشرعه فينقلونه ويتناقلونه كما أنزل جيلاً بعد جيل إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك.
قال الله ـ تعالى ـ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ؛ فالله ـ جلّ جلاله ـ قد تكفّل وتعهّد بحفظ دينه وشرعه، كتابٍ وسنّةٍ من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل؛ فما أن يقع شيء مما سبق إلا ويقيّض ـ سبحانه ـ له من العلماء من يكشف ذلك، فيوضح الحق ويدحض الباطل، قال ـ تعالى ـ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (2) .
ومن لوازم حفظ الله لدينه حفظ العلوم التي سُمِّيَت فيما بعد بعلوم الآلة؛ التي يتوصل بها إلى معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومن تلكم العلوم: علم أصول الفقه.
وهذا العلم قد كان في الجيل الأول والثاني وصدرًا من الثالث؛ في الصَّدر دون السّطر، إلى أن احتاجت الأمّة إلى تدوينه.
__________
(1) سورة الحجر، آية: (9) .
(2) سورة الأنبياء، آية: (18) .(48/187)
وقد نال شرف تدوينه والسبْق إلى ذلك الإمام الشافعي (1) - رحمه الله - حيث كتب رسالته "الرسالة الأولى" التي كتب بها إلى عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله - إمام أهل الحديث في بغداد بناءً على طلبه.
ثم الرسالة الثانية التي كتبها حين استقرّ به المقام في مصر - وهذه الرسالة هي التي بقيت بأيدي الناس إلى يومنا هذا - وقد ضمّنها الشافعي - رحمه الله - أغلب وأهمّ المباحث الأصوليّة التي يحتاج إليها الفقيه لاستنباط الأحكام من أدلتها الشرعية (2) .
ثم تتابع العلماء - في جميع المذاهب - في التأليف في أصول الفقه، وقد اشتهر السّائرون والمقتفون لآثار الشافعي - رحمه الله - في رسالته في الاستنباط والتأصيل بأصحاب الطريقة الشافعية، أو الجمهور؛ لأن الأئمة الثلاثة: مالكاً، وأحمد، والشافعي؛ متّفقون في الغالب الكثير على العمل بالأصول المذكورة في الرسالة، كما اشتهرت - فيما بعد - هذه الطريقة: بطريقة المتكلمين؛ لأنها اعتنت بتحرير القواعد والمسائل الأصولية وتحقيقها تحقيقاً منطقياً نظرياً دون تعصب لمذهب بعينه. وهي تميل ميلاً شديداً إلى الاستدلال العقلي والجدلي؛ فيثبت أصحابها ما أثبته الدليل - في نظرهم - وينفون ما نفاه بغية الوصول إلى أقوى القواعد وأضبطها.
والإمام الشّافعي - رحمه الله - لم يكن بدعاً من الأئمة في ذلك، وإنّما هو متّبع، حيث أخذ هذا العلم عن شيوخه وأساتذته السالفين؛ فكان ممن أخذ عنهم العلم: الإمام مالك بن أنس - رحمه الله.
أهمية البحث:
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد (2/64-65) ، ومقدمة تحقيق أحمد شاكر للرسالة (10-11) ، و ((أصول الفقه)) للبرديسي (9-10) ، و ((أصول الفقه الإسلامي)) (12- 13) ، و ((الوجيز في أصول الفقه)) (16) .
(2) انظر: المصادر السابقة.(48/188)
لقد تتلمذ الكثير من طلبة العلم على يد الإمام مالك - رحمه الله - في فنون شتّى كالفقه، والحديث، والسنّة، والتفسير، وأصول الفقه، والإمام مالك - رحمه الله - كما أنه فقيه؛ فهو أصولي.
وهذا واضح من رسالته الشهيرة التي كتب بها إلى الليث بن سعد.
وكما هو واضح - أيضا - من صنيعه في "الموطأ"؛ حيث مكث في تأليفه أربعين سنة، وقد عرضه على أكثر من سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلّهم واطؤه عليه، فسمّاه لأجل ذلك بـ"الموطأ" (1) ؛ ولا يعقل - والحالة هذه - أن يكون هذا الفقه بني بلا أصول يستند إليها.
والإمام مالك - رحمه الله - هو أحد الأئمة الأربعة الذين اشتهرت مذاهبهم وانتشرت في أقطار الدنيا، شرقا وغربا، وقد كان أتباعه ينشرون فقهه وأصوله في جميع الأزمنة والأمكنة؛ بالتدريس تارة، وبالتأليف والردّ على المخالف تارة أخرى، مما ورَّثَ ثروة فقهية وأصوليّة كبيرة وكثيرة.
لذا أحببتُ أن أجمع تلك المؤلفات الأصولية في كتاب واحد.
وقد قمت باستخراجها من كتاب: "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" للمولى مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي، الشهير بالملا كاتب الجلبي، والمعروف بحاجي خليفة.
وكتاب: "إيضاح المكنون"، وكتاب "هدية العارفين"، وكلاهما لإسماعيل باشا البغدادي.
وقد اقتصرت على هذه المؤلفات لظني أنها قد استوعبت وحوت جُل الكتب الأصولية عموما والمالكية - منها - على وجه الخصوص؛ وذلك لتأخُّر وفاة مؤلفيها، بخلاف الكتب المصنّفة في الطبقات وما شابهها، فإنّ تأليفها والمؤلفات فيها تنتهي بنهاية عصر مؤلفيها.
خطة البحث:
وقد جعلت هذا البحث في: مقدمة، وتمهيد، ومبحثين، وخاتمة.
__________
(1) انظر: تنوير الحوالك (1/7) .(48/189)
أما المقدمة: فقد اشتملت على بيان تكفّل الله - سبحانه وتعالى - بحفظ دينه، وإشارة سريعة لتدوين علم ""أصول الفقه""، ومدوِّنِه، ونشأة طرق التأليف فيه، كما اشتملت - أيضاً - على أهمية هذا البحث، والأسباب التي دفعتني إلى تأليفه، وخطة البحث، ومنهجي فيه.
وأما التمهيد: ففي ترجمة موجزة للإمام مالك - رحمه الله.
وأما المبحثان:
فالأول: في سرد المؤلفات الأصولية المالكية عموماً.
والثاني: في ذكر المتون الأصولية الحنفية المشروحة من قِبَل علماء المالكية.
وأما الخاتمة: فقد ذكرت فيها أهم نتائج البحث.
أسباب كتابتي في هذا الموضوع:
يمكن إجمال الأسباب التي دفعتني للقيام بهذا العمل؛ في أمور، أهمها:
1 - إبراز تدرج التأليف ونموّه في أصول الفقه من عصر إلى عصر.
2 - بيان مدى اهتمام العلماء بأصول الفقه واختلاف مصنفاتهم فيه ما بين متون وشروح ومختصرات.
3 - لتذكير طالب العلم بهذه المؤلفات المفيدة.
4 - لبيان مدى استفادة المتأخر من المتقدم.
5 - لمعرفة الكتب المعتمدة في المذهب، والتي حظيت باهتمام العلماء على مرّ العصور من أصحاب المذهب وغيرهم.
6 - لوضع قائمة ميسّرة لطلاب العلم الراغبين في البحث عن تلكم الكتب لتحقيقها ودراستها ونشرها.
7 - فتح أُفق جديد لطلاب العلم في إتمام هذا المشروع والبناء عليه؛ وذلك بأن يُحدد الطالب - باستيعاب تام أو شبهه - الموجود منها من المفقود، والمطبوع منها من المخطوط، والمطبوع منها يتكلم عن أحسن طبعاتها، وأدق تحقيقاتها، والمخطوط منها بالكلام عن عدد مخطوطاتها ومواطنها، ووصف مفصّل لها.
علماً بأني قد صنعت شيئاً من ذلك كما سيراه القاري الكريم في هذا البحث.
8 - لجدته وابتكاره، فإني لم أَرَ أحدًا كتب في هذا الباب على هذا النحو - فيما أعلم - بخلاف من كتب في طبقات الأصوليين وتراجمهم ومعاجمهم؛ فإنهم لم يستوعبوا المؤلفات الأصولية، بل أحياناً يذكر العلم الأصولي ولا تذكر له مؤلفات أصولية.(48/190)
وقد سميتُ هذا البحث بـ"معجم المؤلفات الأصولية المالكية المبثوثة في "كشف الظنون" و"إيضاح المكنون" و"هدية العارفين".
منهجي في التأليف:
وقد سرتُ في تأليف هذا البحث على النحو التالي:
1 - حصرت جميع المؤلفات الأصولية المالكية من كتاب "كشف الظنون" و "إيضاح المكنون" و "هدية العارفين".
وأعني بالكتب الأصولية المالكية: ما كان متنه - إن كان له متن - مالكياً وشارحه مالكياً أيضا؛ فهذا في المرتبة الأولى، ويليه في الرتبة: ما كان متنه حنبليًّا أو شافعياً وشارحه مالكياً.
أما إن كان الشارح مالكياً والمتنُ حنفيا فإني لم أذكره إلا تتميما للفائدة، وبيانا لتواصل العلماء واستفادة بعضهم من بعض، وإبرازًا لجهود علماء المالكية.
وإن كان المتن مالكياً وشارحه غير مالكي فإني لم أعده من المصنفات المالكية لكون مؤلفه غير مالكي، ولاختلاف الطريقتين في التأليف.
2 - قمتُ بذكر المؤلفات الأصولية مرتباً إياها زمنيا على حسب وفيات مؤلفيها.
3 - جعلت على الكتاب الأصولي رقماً، وذكرت في الهامش بعض المصادر التي نسبت هذا الكتاب إلى مؤلفه.
4 - ذكرتُ موطن ذكر الكتاب الأصولي وتكرره في "كشف الظنون" و"إيضاح المكنون" و"هدية العارفين" معتبرًا هذه المصادر كالكتاب الواحد في أجزاء ستة؛ فالكشف فيه الجزء الأول والثاني، والإيضاح فيه الجزء الثالث والرابع، والهدية فيه الجزء الخامس والسادس، فإذا قلت: "الإشارة في أصول الفقه" "4/267"، "5/397"، فإني أعني أنه ذُكر في "إيضاح المكنون" في الجزء الثاني - لوكان بمفرده - صفحة 267،وتكرّر ذكرُه في "هدية العارفين" في الجزء الأول - لو كان بمفرده - صفحة 397، وهكذا....(48/191)
5 - قمت بتمييز هذه المؤلفات إلى مطبوع طبعة تجارية،وطبعة محققة، وإلى محققة تحقيقاً علمياً كرسائل علمية لمرحلة الماجستير أو الدكتوراه في الجامعات، وإلى مخطوطة مبيناً بعض مواطن وجودها في مكتبات العالم من غير استيعاب لها؛ لأن استيعاب ذلك بوصف كل مخطوط وصفاً دقيقاً وذلك بذكر اسمه واسم مؤلفه وناسخه وسنة نسخه وخطه حسناً أو قبحاً ونوعه، وعدد صفحاته وأسطره في كل صفحة وهل هو تام أو ناقص، سليم أو معيب؟ وهل هو مقابل أو لا؟ ونقل شيء منه من أوله ووسطه وآخره يعتبر عملاً موسوعياً يحتاج إلى جهد كبير وقت طويل ومال كثير لا يتناسب مع طبيعة بحثي هذا. وإني لأرجو الله أن ييسر لهذا العمل من يقوم به، فلقد وضعت له - ولله الحمد - اللبنة الصلبة لبنائه.
وقد بقي كثير من تلك المؤلفات من غير تمييز لعدم وقوفي على حقيقة أمرها. علماً بأني قد رجعت إلى الكثير والكثير من الفهارس المتخصصة في ذلك. وقد جعلت الرموز على النحو التالي:
مخ – تعني أنه مخطوط.
ط – تعني أنه مطبوع.
حقق – تعني أنه حقق كرسالة علمية في جامعة.
6 - قمت بذكر الكتاب الأصولي، ثم أردفته بترجمة موجزة لمؤلِّفه، ثم سردت بقية كتبه الأصولية - إن وُجِدَت - بعده قائلاً - هكذا -: "الإشارة في أصول الفقه" "4/267"، "5/397". لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب ابن وارث التجيبي القرطبي الباجي الذهبي المالكي ... إلخ.
"إحكام الفصول في أحكام الأصول" "1/19 - 20"، "5/397" له.
7 - كل المصادر التي ذكرتها في ترجمة المؤلف ولم أذكرها عند المؤلفات الأصولية له فهذا يعني أنها لم تذكر ذلك الكتاب ولم تنسبه إليه.
8 - اقتصرتُ في ترجمة المؤلف على سنة وفاته، ولم أذكر سنة ولادته؛ وذلك لأن الاهتمام بسنة الولادة أقلّ من سنة الوفاة، ولأن الترتيب الزمني على سنة الوفاة لا الولادة.(48/192)
9- إذا اختُلف في سنة وفاة المصنف فإني في الغالب الكثير أقتصرُ على اختيار صاحب "معجم المؤلفين" عمر رضا كحّالة؛ لدقّته - في نظري - في ذلك.
10 - ذكرتُ سنة الوفاة قبل الكتاب مباشرة ليتضح التسلسل الزمني بمجرد النظر إليه.
11 - جعلت للبحث خاتمة، ذكرتُ فيها أهمّ نتائج البحث.
12 - جعلتُ له فهارس علمية على النحو التالي:
أ - فهرس المؤلفات الأصولية مرتبة حسب حروف المعجم.
ب - فهرس الأعلام مرتبا حسب حروف1 المعجم.
ج - فهرس المصادر والمراجع.
هذا، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تمهيد
ترجمة موجزة للإمام مالك - رحمه الله
اسمه ونسبه (1) :
هو: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن غَيْمان بن خُثَيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي، وينتهي نسبه إلى يعرب بن قحطان.
مولده ونشأته (2) :
ولد - رحمه الله - سنة ثلاث وتسعين من الهجرة على الأشهر، وقد طلب العلم في سنّ مبكِّرة.
قال الإمام مالك - رحمه الله -: قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، فألبستني ثيابا مشمرّة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: إذهب فأكتب الآن.
وكانت تقول: إذهب إلى ربيعة فتعلّم من أدبه قبل علمه.
ولقد صبر - رحمه الله - على طلب العلم ولاقى في سبيل ذلك الشدائد، حتى أفضى به إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه - كما ذكره ابن القاسم - ثم مالت عليه الدنيا بعد.
__________
(1) انظر ما ذكر في ترجمته هنا في المصادر التالية: سير أعلام النبلاء (8/48) وتهذيب الأسماء واللغات (2/75 - 79) ومعجم المؤلفين (8/168) وتذكرة الحفّاظ (1/207 - 213) والديباج المذهب (1/82 - 135) ، و ((الأعلام)) (5/257 - 258) .
(2) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (8/49) ، و ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/79) ، و ((الديباج المذهب)) (1/88، 110) ، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/87) .(48/193)
وكان يقول: كتبت بيدي مائة ألف حديث.
ثناء العلماء عليه (1) :
قد اعترف له بالإمامة الأئمة الأعلام: فقال شيخه ابن هرمز: إنه عالم الناس.
وقال سفيان بن عيينة - لما بلغته وفاته -: ما ترك على الأرض مثله.
وقال بقية بن الوليد: "ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنّة ماضية ولا باقية من مالك".
وقال الشافعي: "مالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، وما أحدٌ أَمَنَّ عليّ من مالك، وجعلت مالكاً حجة بيني وبين الله؛ وإذا ذكر العلماء فمالك النّجم الثاقب، ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم؛ لحفظه وإتقانه وصيانته".
وقال أحمد: "هو إمام الحديث والفقه".
مؤلفاته (2) :
قال القاضي عياض (3) : "اعلموا - وفقكم الله تعالى - أنّ لمالك أوضاعاً شريفة مرويّة عنه، أكثرها بأسانيد صحيحة في غير فَنٍّ من العلم، لكنه لم يشتهر عنه منها، ولا واظب على إسماعه وروايته غير ""الموطأ""، مع حذفه منه وتلخيصه له شيئا بعد شيء، وسائر تواليفه إنما رواها عنه من كتب بها إليه، أو سأله إيّاها أحد من أصحابه، ولم تروها الكافة".
ومن هذه المؤلفات التي لها تعلّق بأصول الفقه:
رسالة في الفتوى.
ورسالة إلى الليث بن سعد، تكلّم فيها عن إجماع أهل المدينة وعملهم.
أصول مذهبه (4) :
الأدلّة التي بنى عليها مالك مذهبه عشرون:
الأول: نصّ الكتاب العزيز. الثاني: وظاهره وهو العموم.
الثالث: ودليله، وهو مفهوم المخالفة. الرابع: ومفهوم الموافقة.
الخامس: والتنبيه على العلّة.
ومن السنة - أيضا - مثل هذه الخمسة؛ فهذه عشرة.
والحادي عشر: الإجماع. والثاني عشر: القياس.
__________
(1) انظر: الديباج المذهب (1/74 - 75) ، وتهذيب الأسماء واللغات (2/76 - 77) ، و ((الفكر السامي)) (1/377) .
(2) انظر: ((الديباج المذهب)) (1/118 -126) ، و ((معجم المؤلفين)) (8/168) ، و ((الأعلام)) (5/257 - 258) .
(3) انظر: ترتيب المدارك (1/204) ، والديباج المذهب (1/124)
(4) انظر: ((الفكر السامي)) (1/385 - 393) .(48/194)
والثالث عشر: عمل أهل المدينة. والرابع عشر:
والخامس عشر: الاستحسان. والسادس عشر: الحكم بسدّ الذرائع.
والسابع عشر: المصالح المرسلة. والثامن عشر: قول الصحابي.
والتاسع عشر: شرع من قبلنا شرعٌ لنا. والعشرون: مراعاة الخلاف.
قال محمد بن الحسن الفاسي في كتابه ""الفكر السامي"" "1/387": - "وقال السبكي في الطبقات: إن أصول مذهب مالك تزيد على الخمسمائة.
ولعله يشير إلى القواعد التي استخرجت من فروعه المذهبية؛ فقد أنهاها القرافي في فروقه إلى خمسمائة وثمانية وأربعين، وغيره أنهاها إلى الألف والمائتين كالمَقرّي وغيره، لكنها في الحقيقة تفرّعت عن هذه الأصول.
والإمام لم ينصّ على كل قاعدة قاعدة، وإنما ذلك مأخوذ من طريقته وطريقة أصحابه في الاستنباط" انتهى.
وفاته (1) :
توفي الإمام مالك - رحمه الله - سنة 179هـ بالمدينة النبوية، وصلى عليه والي المدينة عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ومشى في جنازته وحملَ نعشَه.
المبحث الأول:
المؤلفات الأصولية المالكية
من سنة "331هـ" حتى سنة "1235هـ"
1" 331 "" اللمع في أصول الفقه "" (2) "5/781". لعمرو بن محمد بن عمرو الليثي، البغدادي، المالكي، أبي الفرج. كان فصيحا، لغويا، فقيها، أصوليا، قاضيا. توفي عطشا في البريّة في طريق رجوعِه من بغداد إلى البصرة سنة "331هـ" (3) .
__________
(1) انظر: ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/79) ، و ((الديباج المذهب)) (1/133) ، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/92) .
(2) انظر: ((شجرة النور)) (79) ،و ((الديباج المذهب)) (2/127) ،و ((الفتح المبين)) (1/181) ، و ((الفهرست)) (283) ، و ((معجم المؤلفين)) (8/12) .
(3) انظر ترجمته في المصادر السابقة.(48/195)
2" 375 "" أصول الفقه "" (1) "6/50". لمحمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري، المالكي، أبي بكر. فقيه، أصولي، مقرئ، محدِّث. توفي سنة "375هـ" (2) .
3" 422 "" الإفادة في أصول الفقه "" (3) "1/499". لعبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين الثعلبي، البغدادي، المالكي، أبي محمد. فقيه، أصولي، أديب، شاعر، أحدُ أئمّة المالكيّة وقضاتِها في بغداد ثم مصر. توفي بمصر سنة "422هـ" (4) .
4" 436 "" أصول الفقه "" (5) "5/625 - 626". لعبد الملك بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن الأصبغ القرشي، المالكي، أبي مراون، المعروف بابن المش. فقيه، متكلّم، مشاركٌ في بعض العلوم. توفي بأشبيليّة سنة "436هـ" (6) .
__________
(1) انظر: ((الديباج المذهب)) (2/209) ، و ((شجرة النور)) (91) ، و ((الفهرست)) (283) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/241) ، و ((الأعلام)) (6/225) ، و ((الفتح المبين)) (1/209) .
(2) انظر ترجمته في المصادر السابقة، و (تاريخ بغداد) (5/462) و (البداية والنهاية)) (11/325) .
(3) انظر: ((شجرة النور الزكيّة)) (104) ، و ((الديباج المذهب)) لابن فرحون (2/28) ، و ((الفتح المبين)) (1/231) .
(4) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (2/26) ، و ((وفيات الأعيان)) (3/219) ، و ((البداية والنهاية)) (12/34) ، و ((شذرات الذهب)) (3/223) ، و ((حسن المحاضرة)) (1/314) ، و ((شجرة النور الزكيّة)) (103) ، و ((الأعلام)) (4/184) ، و ((معجم المؤلفين)) (6/226) ، و ((الفتح المبين)) (1/230) .
(5) انظر: ((معجم المؤلفين)) (6/180) ، و (الديباج المذهب) (2/18) ، و ((الأعلام)) (4/156) .
(6) انظر ترجمته في المصادر السابقة.(48/196)
5" 474 "" الإشارة في أصول الفقه "" (1) "4/267"، "5/397" "ط" (2) . لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، القرطبي، الباجي، الذهبي، المالكي، أبي الوليد. فقيه، أصولي، أديب، كاتب، شاعر، مفسّر، متكلّم. توفي بالمريّة من بلاد الأندلس، ودُفن بالرباط سنة "474هـ" (3) .
6" 474 "" إحكام الفصول في أحكام الأصول "" (4) "1/19"، "5/397" "ط" (5) . له.
7" 474 "" كتاب الحدود "" (6) "5/397" "ط" (7) . له.
8" 479 "" الفصول في معرفة الأصول "" (8) "5/693". لعلي بن فضال بن علي بن غالب بن جابر المجاشعي، القيرواني، المالكي، أبي الحسن، المعروف بالفرزدقي. أديب، نحوي، صرفي، لغوي، مفسّر، مؤرّخ. توفي ببغداد سنة "479هـ" (9) .
__________
(1) انظر: ((الديباج المذهب) (1/384) ، و ((الأعلام)) (3/125) ، و ((الفتح المبين)) (1/254) ، و ((تذكرة الحفّاظ)) (2/1180) .
(2) بتحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض.
(3) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (1/377) ، و ((تذكرة الحفّاظ)) (2/1178) ، و ((معجم المؤلفين)) (4/261) ، و ((الأعلام)) (3/125) ، و ((الفتح المبين)) (1/252) ، و ((البداية والنهاية)) (12/130) .
(4) انظر: (الديباج المذهب) (1/384) ، و ((تذكرة الحفّاظ)) (2/1180) ، و ((البداية والنهاية)) (12/131) ، و (الأعلام) (3/125) ، و (معجم المؤلفين) (4/261) ، و (الفتح المبين)
(1/254) .
(5) بتحقيق الدكتور عبد المجيد تركي.
(6) انظر: (الديباج المذهب) (1/384) ،و (تذكرة الحفّاظ) (2/1180) و ((الأعلام)) (3/125) ، و ((الفتح المبين)) (1/254) .
(7) بتحقيق الدكتور نزيه حماد.
(8) انظر: ((معجم المؤلفين)) (7/166) .
(9) انظر ترجمته في: ((البداية والنهاية)) (12/141) ، و ((شذرات الذهب)) (3/363) ، و ((الأعلام)) (4/319) ، و ((معجم المؤلفين)) (7/166) .(48/197)
9" 536 "" إيضاح المحصول في برهان الأصول للجويني "" (1) "3/156"،
"6/88". لمحمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري، المالكي، أبي عبد الله، المعروف بالإمام. محدِّث، فقيه، حافظ، أصولي، أديب، متكلّم، فاضل، متقن.
توفي بالمهديّة سنة "536هـ" (2) .
10" 543 "" المحصول في علم الأصول "" (3) "4/422" "حقق" (4) . لمحمد ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الأندلسي، الأشبيلي، المالكي، أبي بكر، المعروف بابن العربي. فقيه، أصولي، محدِّث، أديب، نحوي، مؤرّخ، مفسّر، تولى قضاء أشبيليّة. توفي بالعدوة، ودُفن بفاس سنة "543هـ" (5) .
__________
(1) انظر: (معجم المؤلفين) (11/32) ،و (شجرة النور) (127) و ((الديباج المذهب)) (2/251) ، و ((وفيات الأعيان)) (4/285) ، و ((الأعلام)) (6/277) ، و ((الفتح المبين)) (2/27) .
(2) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (2/250) ، و ((وفيات الأعيان)) (4/285) ، و ((شجرة النور)) (127) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/32) ، و ((الأعلام)) (6/277) ، و ((الفتح المبين)) (2/26) .
(3) انظر: (الديباج المذهب) (2/254) ، و (الأعلام) (6/230) ، و (معجم المؤلفين)
(10/242) ، و ((الفتح المبين)) (2/29) .
(4) حقق في الجامعة الإسلامية من قبل الطالب عبد اللطيف الحمد لنيل شهادة الماجستير ونوقش في عام 1410هـ.
(5) انظر ترجمته في: ((وفيات الأعيان)) (4/296) ، و ((تذكرة الحفّاظ)) (2/1294) ، و ((شذرات الذهب)) (4/141) ، و ((الديباج المذهّب) (2/252) ، و ((الأعلام)) (6/230) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/242) ، و ((شجرة النور)) (175) ،و ((الفتح المبين)) (2/28) .(48/198)
11" 595 "" منهاج الأدلّة في علم الأصول "" (1) "4/585"، "6/104". لمحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، القرطبي، المالكي، أبي الوليد، المعروف بابن رشد الحفيد. عالم، حكيم، فيلسوف، أصولي، فقيه، امتحن بالنفي وإحراق كتبه آخر أيّام يعقوب المنصور. توفي بمرّاكش سنة "595هـ" (2) .
12" 639 "" حاشية على المستصفى "" (3) "5/413". لسهل بن محمد بن سهل بن أحمد بن مالك الأزدي، الغرناطي، المالكي، أبي الحسن. فقيه، محدّث، أصولي، عالمٌ بالعربيّة والنظْم والنثر.
توفي بغرناطة سنة "639هـ" (4) .
13" 646 ""مختصر منتهى السؤل والأمل"" (5) "2/1853"، "5/654" "ط" (6) . لعثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي، الدويني، الأسنائي، المالكي، جمال الدين، أبي عمرو، المعروف بابن الحاجب. فقيه، أصولي، مقرئ، نحوي، صروفي، عروضي. توفي بالاسكندريّة سنة "646هـ" (7) .
__________
(1) انظر: ((الأعلام)) (5/318) ، و ((الفتح المبين)) (2/39) .
(2) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (2/257) ، و ((شجرة النور)) (146) ، و ((شذرات الذهب)) (4/320) ، و ((الأعلام)) (5/318) ، و ((معجم المؤلفين)) (8/313) ، و ((الفتح المبين)) (2/38) .
(3) انظر: ((معجم المؤلفين)) (4/285) ، و ((الفتح المبين)) (2/62) ، و ((الديباج المذهب)) (1/397) .
(4) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (1/395) ، و ((الأعلام)) (3/143) ، و ((معجم المؤلفين)) (4/285) ، و ((الفتح المبين)) (2/62) .
(5) انظر: ((الديباج المذهب)) (2/88) ، و ((شجرة النور)) (167) ، و ((البداية والنهاية))
(13/188) ، و ((معجم المؤلفين)) (6/265) ، و ((الأعلام)) (4/211) .
(6) نص عليه الزركلي في الأعلام (4/211) .
(7) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (2/86) ، و ((شجرة النور)) (167) ، و ((البداية والنهاية)) (13/188) ، و ((معجم المؤلفين)) (6/265) ، و ((الأعلام)) (4/211) .(48/199)
14" 646 ""منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل"" (1) "2/1853"، "5/655" "ط" (2) . له.
14" 651 "" حاشية على مشكلات المستصفى "" (3) "5/95". لأحمد بن محمد ابن أحمد الأزدي، الأشبيلي، المالكي، أبي العبّاس، المعروف بابن الحاج. كان متفنناً، متحقّقاً بالعربية، حافظاً للغات. توفي في سنة "647هـ"، وقيل: "651هـ" (4) .
15" 651 "" مختصر المستصفى للغزالي "" (5) "2/1673"، "5/95". له.
16" 679 ""شرح المستصفى"" (6) "2/1673"، "5/283"، "5/313". للحسن - وقيل: للحسين - بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن محمد القرشي، الفهري، الغرناطي، البلنسي الأصل، الجياني المولد، المالكي، أبي علي بن أبي الأحوص، المعروف بابن الناظر. مقرئ، فقيه، نحوي، أديب، صوفي، تولى القضاء بالمريّة ومالقة. توفي بغرناطة سنة "680هـ"، وقيل: "699هـ"، وقيل: "679هـ" (7) .
__________
(1) انظر: الأعلام (4/211) وشجرة النور (167) .
(2) طبعته دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م.
(3) انظر: ((بغية الوعاة)) (1/359) ، و ((شجرة النور)) (184) ، و ((الفتح المبين)) (2/67) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/198) .
(4) انظر ترجمته في: ((بغية الوعاة)) (1/359) ، و ((شجرة النور)) (184) ، و ((معجم المؤلفين)) (2/64) ، و ((الفتح المبين)) (2/67) ، و ((معجم الأصوليّين)) (1/197) .
(5) انظر: بغية الوعاة (1/359) ، و ((شجرة النور)) (184) ، و ((معجم المؤلفين)) (2/64) ، و ((الفتح المبين)) (2/67) ، و ((معجم الأصوليّين)) (1/198) .
(6) انظر ((معجم المؤلفين)) (4/17) ، و ((بغية الوعاة)) (1/535) .
(7) انظر ترجمته في: بغية الوعاة (1/535) ، ومعجم المؤلفين (4/17) ، والأعلام (2/241) ، و ((تاريخ قضاة الأندلس)) (127) .(48/200)
17" 684 ""تنقيح الفصول في الأصول "" (1) "1/499"،"5/99""ط" (2) . لأحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي، البهنسي، المالكي، شهاب الدين، أبي العباس، المعروف بالقرافي. كان إماماً بارعاً في الفقه، والأصول، والعلوم العقلية، وله معرفة بالتفسير. توفي بدير الطين بالقرب من مصر القديمة، ودُفن بالقرافة سنة "684هـ" (3) .
18" 684 ""شرح تنقيح الفصول "" (4) "1/499"، "5/99" "ط" (5) له.
19" 684 "" العقد المنظوم في الخصوص والعموم في الأصول"" (6) "5/99" "طبع" (7) . له.
20" 684 "" شرح المحصول للرازي "" (8) "5/99" "ط" (9) . له.
21" 684 ""أنوار البروق في أنواع الفروق"" (10) "الفروق" 1/186"، "5/99""ط" (11) .له.
__________
(1) انظر: ((الديباج المذهب)) (1/237) ، و ((شجرة النور)) (188) ، و ((الفتح المبين)) (2/86) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/158) .
(2) طبعة تجارية.
(3) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (1/237) ، و ((شجرة النور)) (188) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/158) ، و ((الفتح المبين)) (2/86) .
(4) انظر: ((الديباج المذهب)) (1/237) ، و ((شجرة النور الزكيّة)) (188) ، و ((الفتح المبين)) (2/86) .
(5) بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد.
(6) انظر: ((شجرة النور الزكية)) (188) ، و ((الفتح المبين)) (2/87) .
(7) بتحقيق الدكتور أحمد سر الختم عبد الله.
(8) انظر: ((الديباج المذهب)) (1/237) ،و ((شجرة النور)) (188) ،و ((الفتح المبين)) (2/86) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/158) .
(9) حققه ثلاثة طلاب في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض منهم الدكتور عبد الكريم النملة لنيل شهادة الدكتوراه.
(10) انظر: انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (1/237) ، و ((شجرة النور)) (188) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/158) ، و ((الفتح المبين)) (2/86) .
(11) طبع الطبعة الأولى بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر سنه 1347هـ.(48/201)
22" 699 "" شرح المستصفى "" (1) "4/477"، "5/102". لأحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن مسعدة العامري، الغرناطي، المالكي، أبي جعفر. كان فقيها، حافظا للمسائل، صدْرًا في الفرائض والحساب، مشاركا في كثير من الفنون؛ تولى القضاء بمواضع من الأندلس. توفي سنة "699هـ" (2) .
23" 723 "" إدرار الشروق على أنواء الفروق في الأصول "" (3) "5/829" "ط" (4) . لقاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط الأنصاري، الأشبيلي، المالكي، أبي القاسم، أبي محمد. فقيه، فرضي، مشاركٌ في بعض العلوم. توفي بسبتة سنة "723هـ" (5) .
24" 731 ""تحفة الواصل شرح الحاصل في الأصول "" (6) "6/134- 135". لمحمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي، المالكي، أبي عبد الله، المعروف بابن راشد. كان فقيها فاضلاً، وأديبا عارفا بالعربيّة، مشاركا في بعض العلوم، ولي قضاء قفصة، ثم عزل. توفي بتونس سنة "685هـ"، وقيل: "736هـ"، وقيل: "731هـ" (7) .
25" 731 ""الشهاب الثاقب في شرح مختصر ابن الحاجب"" (8) "6/134-135". له.
__________
(1) انظر: (الديباج المذهب) (1/184) ، و ((معجم المؤلفين) (2/70) ، و ((الفتح المبين) (2/98) .
(2) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (1/183) ، و ((معجم المؤلفين)) (2/70) ، و ((الفتح المبين)) (2/98) .
(3) انظر: ((الأعلام)) (5/177) .
(4) طبع بهامش فروق القرافي من قبل عالم الكتب في بيروت.
(5) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (2/152) ، و ((شجرة النور)) (217) ، و ((الأعلام)) (5/177) ، و ((معجم المؤلفين)) (8/105) ، و ((الفتح المبين)) (2/123) .
(6) انظر: ((الديباج المذهب)) (2/329) ، و ((شجرة النور)) (208) .
(7) انظر ترجمته في: ((الديباج المذهب)) (2/328) ، و ((شجرة النور)) (207) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/213) ، و ((الأعلام)) (6/234) .
(8) انظر: ((الديباج المذهب)) (2/329) ، و ((شجرة النور)) (208) ، و ((معجم المؤلفين))
(10/214) ((الأعلام)) (6/234) .(48/202)
26" 741 "" تقريب الوصول إلى علم الأصول "" (1) "3/314"،"6/160" "ط" (2) . لمحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى الكلبي، الغرناطي، المالكي، أبي القاسم. كان فقيها، حافظا، مشاركا في فنون من عربيّة وأصول، وحديث، وقراءات، وأدب، وتفسير.
توفي في واقعة طريف بالأندلس سنة "741هـ" (3) .
27" 744 ""شرح مختصر المنتهى "" (4) "2/1855". لمحمد بن محمد بن إبراهيم ابن أبي القاسم السفاقسي، المغربي، المالكي. فقيه، أصولي، عروضي، مشاركٌ في بعض العلوم.
توفي بمدينة حلب سنة "744هـ" (5) .
28" 767 ""شرح مختصر ابن الحاجب"" (6) "2/1855"، "5/352". لخليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب المالكي، ضياء الدين، أبي المودّة، المعروف بالجندي. فقيه، أصولي، مشاركٌ في فنونٍ من العربيّة، والحديث، والفرائض. توفي بالطاعون سنة "776هـ"، وقيل: "767هـ" (7) .
29" 771 "" شرح منتهى السؤل والأمل لابن الحاجب "" (8) "6/165". لمحمد بن الحسن بن محمد المالقي، المالكي، أبي عبد الله. فقيه، نحوي، متواضع، حسن التعليم. توفي بدمشق سنة "771هـ" (9) .
__________
(1) انظر: ((الديباج المذهب)) (2/274) ، و ((شجرة النور)) (213) ، و ((معجم المؤلفين)) (9/11) ، و ((الأعلام)) (5/325) ، و ((الفتح المبين)) (2/148) .
(2) بتحقيق الدكتور محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي.
(3) انظر ترجمته في المصادر السابقة.
(4) انظر: ((الدرر الكامنة)) (4/158) ، و ((شجرة النور)) (209) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/178) و ((الفتح المبين)) (2/151) .
(5) انظر ترجمته في المصادر السابقة.
(6) انظر: ((شجرة النور)) (223) ، و ((الدرر الكامنة)) (2/86) .
(7) انظر ترجمته في المصادر السابقة.
(8) انظر: ((معجم المؤلفين)) (9/219) .
(9) انظر ترجمته في: ((الدرر الكامنة)) (3/424) ، و ((بغية الوعاة)) (1/87) ، و ((معجم المؤلفين)) (9/218) ، و ((الأعلام)) (6/87) .(48/203)
30" 776 "" أصول الفقه "" (1) "6/167" "نظمٌ من ألف بيت". لمحمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني، اللوشي، الغرناطي، الأندلسي، المالكي، لسان الدين، أبي عبد الله، ابن الخطيب. أديب، ناثر، شاعر، مؤرّخ، برع في الطب؛ وُجّهت إليه تهمة الزندقة وسلوك مذهب الفلاسفة، وسُجن بفاس، وقُتل فيه سنة "776هـ" (2) .
31" 790 "" عنوان التعريف بأسرار التكليف في الأصول "" "الموافقات" (3) "4/127" "ط" (4) . لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الغرناطي، المالكي، أبي إسحاق، المعروف بالشاطبي. محدِّث، فقيه، أصولي، مفسّر، لغوي. توفي سنة "790هـ" (5) .
32" 799 ""كشف النقاب الحاجب على مختصر ابن الحاجب في الأصول"" (6) "4/368"، "5/18". لإبراهيم بن علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليعمري، المدني، المالكي، برهان الدين، أبي الوفاء. فقيه، عالم، فاضل، أصولي، نحوي، فرضي؛ ولي قضاء المالكيّة بالمدينة. توفي بسبب إصابتِه بالفالج في المدينة سنة "799هـ" (7) .
__________
(1) انظر: ((شجرة النور)) (230) ، و ((الفتح المبين)) (2/195) .
(2) انظر ترجمته في: ((الدرر الكامنة)) (3/469) ، و ((شذرات الذهب)) (6/244) ، و ((البدر الطالع)) (2/191) ، و ((شجرة النور)) (230) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/216) ، و ((الأعلام)) (6/235) ، و ((الفتح المبين)) (2/195) .
(3) انظر: ((شجرة النور)) (231) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/118) ، و ((الأعلام)) (1/75) ، و ((الفتح المبين)) (2/204) ، و ((معجم الأصوليّين)) (1/65) ، و ((أصول الفقه تاريخه ورجاله)) (384) ، و ((الفكر السامي)) (2/248) .
(4) بتعليق عبد الله دراز.
(5) انظر ترجمته في المصادر السابقة.
(6) انظر: ((معجم المؤلفين)) (1/38) .
(7) انظر ترجمته في: ((الدرر الكامنة)) (1/48) ، و ((شذرات الذهب)) (6/357) ، و ((شجرة النور)) (222) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/68) ، و ((الأعلام)) (1/52) ، و (الفتح المبين) (2/211)(48/204)
33" 801 "" شرح منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل "" (1)
"2/1855"، "5/117". لأحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عطاء الله بن عوض الزبيري، الأسكنداري، المالكي، المعروف بابن التنسي. فقيه، أصولي، مهر في العربيّة، وتولى القضاء بمصر. توفي بالقاهرة سنة "801هـ" (2) .
34" 805 "" شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب "" (3) "2/1855"، "5/244"
"مخ" (4) . لبهرام بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض السلمي، الدميري، القاهري، المالكي، تاج الدين، أبي البقاء. كان إماماً في الفقه، والعربيّة، وغيرهما؛ تصدّر للإفتاء والتدريس، وولي قضاء مصر. توفي بمصر سنة "805هـ" (5) .
35" 810 "" أصول الفقه "" (6) "6/179". لمحمد بن عثمان بن موسى بن محمد الأسحاقي، القاهري، المالكي، ناصر الدين، أبي عبد الله. فقيه، أصولي، تولى القضاء. توفي سنة "810هـ" (7) .
__________
(1) انظر: (شجرة النور) (234) و ((الضوء اللامع)) (2/192) و ((معجم المؤلفين)) (2/153) ، و ((الفتح المبين)) (3/6) ، و ((معجم الأصوليّين)) (1/227) و ((حسن المحاضرة)) (1/461) .
(2) انظر ترجمته في المصادر السابقة، و ((بغية الوعاة)) (1/382) ، و ((الأعلام)) (1/225) .
(3) انظر: ((الضوء اللامع) (3/19) ، و ((شجرة النور)) (239) ، و ((معجم المؤلفين)) (3/80) ، و ((حسن المحاضرة)) (1/461) ، و ((الفتح المبين)) (3/12) ، و ((الأعلام)) (2/76) .
(4) له نسخة في دار الكتب المصرية تحت رقم [32] أصول.
(5) انظر ترجمته في المصادر السابقة عند ذكر مصنفه.
(6) انظر: ((معجم المؤلفين)) (10/287 - 288) ، و ((الضوء اللامع)) (8/150) .
(7) انظر ترجمته في: ((الضوء اللامع)) (8/150) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/287) .(48/205)
36" 824 "" أداء الواجب في تصحيح ابن الحاجب "" "حاشية على منتهى السؤل والأمل "" (1) "6/184". لمحمد الرضى الحسني، الفاسي، المكّي، المالكي، أبي حامد. كان خيِّرًا، ساكناً، متواضعاً، فقيهاً؛ تصدّر للتدريس والإفتاء، ولي القضاء بمكّة. توفي بمكّة، ودُفن بالمعلاة سنة "824هـ" (2) .
37" 829 ""مرتقى الوصول إلى الضروري من علم الأصول "" (3) "4/465"، "6/185". لمحمد بن محمد بن محمد بن عاصم القيسي، الغرناطي، المالكي، أبي بكر. فقيه، أصولي، فرضي، ناظم. توفي سنة "829هـ" (4) .
38" 829 "" مهيع الوصول إلى علم الأصول "" (5) "4/610"،"6/185" "ط" (6) .له.
39" 844 "" زوال المانع في شرح جمع الجوامع للسبكي "" (7) "3/614"،
"6/194". لمحمد بن عمار بن محمد بن أحمد القاهري، المالكي، شمس الدين، أبي ياسر، المعروف بابن عمار. فقيه، أصولي، محدِّث، نحوي، صرفي، مشاركٌ في كثيرٍ من الفنون.
__________
(1) انظر: ((الضوء اللامع)) (8/41) ، و ((معجم المؤلفين)) (9/319) .
(2) انظر ترجمته في: ((الضوء اللامع)) (8/41) ، و ((معجم المؤلفين)) (9/319) .
(3) انظر: ((معجم المؤلفين)) (10/116) ، و ((الفتح المبين)) (3/25) .
(4) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (247) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/116) ، و ((الفتح المبين)) (3/25) ، و ((الأعلام)) (7/45) .
(5) انظر: ((شجرة النور الزكيّة)) (247) ، و ((معجم المؤلفين) (11/290) ، و ((الأعلام)) (7/45) ، و ((الفتح المبين)) (2/25) .
(6) له في الجامعة الإسلامية نسخة برقم (405) مصورة عن دار الكتب الوطنية بتونس.
(7) انظر: ((الضوء اللامع)) (8/233) ، و ((البدر الطالع)) (2/232) ، و ((الأعلام)) (6/311) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/74) ، و ((شجرة النور)) (242) .(48/206)
توفي بالناصرية سنة "844هـ" (1) .
40" 854 "" شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل "" (2)
"4/572". لقاسم بن سعيد بن محمد العقباني، التلمساني، المغربي، المالكي، أبي الفضل، وأبو القاسم. فقيه، أصولي، مفسّر، نحويّ، ناظم، صوفي. توفي سنة "854هـ" (3) .
41" 897 "" شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل "" (4)
"4/572". لمحمد بن محمد بن محمد بن علي بن إبراهيم بن عبد الخالق النويري، الميموني، القاهري، المالكي، أبي القاسم، الشهير بمحبّ الدين النويري. فقيه، أصولي، نحوي، صرفي، عروضي، بياني، مقرئ، خطيب.
توفي بمكّة سنة "857هـ"، وقيل. "897هـ" (5) .
42" 898 "" التوضيح في شرح تنقيح الفصول "" (6) "1/499"،"5/136" "ط" (7) . لأحمد بن خلَف - وقيل: عبد الرحمن بن موسى - حلولو، القروي، المغربي، اليزليطني، القيرواني، المالكي، المعروف بحلولو. فقيه، أصولي.
__________
(1) انظر ترجمته في: ((الضوء اللامع)) (8/232) ، و ((البدر الطالع)) (2/232) ، و ((شذرات الذهب)) (7/254) ، و ((بغية الوعاة)) (1/203) ، و ((شجرة النور)) (242) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/74) ، و ((الأعلام)) (6/311) .
(2) انظر: ((الضوء اللامع) (6/181) ، و ((الأعلام)) (5/176) ، و ((معجم المؤلفين)) (8/101) .
(3) انظر ترجمته في المصادر السابقة، و ((شجرة النور الزكيّة)) (255) .
(4) انظر: الضوء اللامع (9/247) ، والبدر الطالع (2/256) ، وشجرة النور الزكيّة (243) .
(5) انظر ترجمته في: ((الضوء اللامع)) (9/246) ، و ((البدر الطالع)) (2/256) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/250، 286) ، و ((الأعلام)) (7/47) ، و ((شجرة النور الزكيّة)) (243) .
(6) انظر: ((شجرة النور)) (259) ، و ((معجم المؤلفين) (1/215) ، و ((الضوء اللامع)) (2/260) ، و ((معجم الأصوليّين)) (1/142) ، و ((الأعلام)) (1/147) ، و ((الفتح المبين)) (3/44) .
(7) طبع في تونس سنة 1328هـ على هامش التنقيح.(48/207)
توفي في تونس سنة "875هـ"، وقيل: "898هـ" (1) .
43" 898 "" الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع للسبكي "" (2) "5/136" "ط" (3) .له.
44" 914 "" كافي المطالب في شرح مختصر ابن الحاجب "" (4) "2/1855"، "6/235". لمحمد الناسخ الطرابلسي الشامي المالكي، كمال الدين. فقيه، أصولي، فرضيّ، نحوي. تولى القضاء بطرابلس الشام، وتوفي بها سنة "914هـ" (5) .
45" 926 "" شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل "" (6) "4/572". لمحمد بن القاسم المصري، المالكي، جلال الدين، أبي الفتح. عالم، فاضل، من القضاة. توفي سنة "926هـ" (7) .
46" 954 ""قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين "" (8) "4/223، 704"، "6/242" "ط" (9) . لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسين المالكي، شمس الدين، أبي عبد الله، المعروف بالحطّاب الرعيني. فقيه، أصولي، صوفي؛ له مشاركات في بعض العلوم. توفي بطرابلس الغرْب سنة "954هـ" (10) .
__________
(1) انظر ترجمته في المصادر السابقة المذكورة عند ذكر كتابه.
(2) انظر: ((شجرة النور)) (259) ، و ((الأعلام)) (1/147) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/215) ، و ((معجم الأصوليّين)) (1/142) ، و ((الضوء اللامع)) (2/260) .
(3) طبع بفاس سنة 1327 هـ على هامش نشر البنود على مراقي السعود.
(4) انظر: (معجم المؤلِّفين) (12/71) و (الكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرة) (1/81)
(5) انظر ترجمته في المصدرين السابقين.
(6) انظر: ((معجم المؤلفين)) (11/147) .
(7) انظر ترجمته في: ((معجم المؤلفين)) (11/147) .
(8) انظر: جرة النور (270) والأعلام (7/58) ومعجم المؤلفين (11/231) والفتح المبين (3/75)
(9) انظر: معجم المطبوعات العربية والمعربة (1/780) .
(10) انظر ترجمته في المصادر المذكورة عند ذكر كتابه.(48/208)
47" 958 ""حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع للسبكي"" (1) "1/595"، "6/244" "مخ" (2) . لمحمد اللّقاني المالكي، ناصر الدين، أبي عبد الله. فقيه، أصولي، صرفي.
توفي سنة "958هـ" (3) .
48" 964 ""الدرر في أصول الفقه "" (4) "1/751" "مخ" (5) . لعبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد بن موسى المغربي، المالكي. مقرئ، أديب، شاعر، متواضع. توفي بالمدينة النبوية سنة "964هـ" (6) .
49" 1008 ""شرح مختصر ابن الحاجب"" (7) "6/263".لمحمد بن يحيى بن عمر ابن يونس القرافي، المالكي، بدر الدين. عالم، فقيه، لغوي، رئيس العلماء في عصره؛ تولى القضاء. توفي بمصر سنة "1008هـ" (8) .
50" 1041 ""البدور اللوامع من خدور جمع الجوامع للسبكي"" (9) "3/171"، "5/30""مخ" (10) . لإبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن علي اللقّاني، المالكي، المصري، برهان الدين، أبي الأمداد، وأبي إسحاق. له دراية واطّلاع بالفقه، والفتوى، والحديث؛ متصوّف.
__________
(1) انظر: ((معجم المؤلفين)) (11/167) .
(2) له إحدى عشرة نسخة في المكتبة الأزهرية. انظر: فهرسها (2/40) .
(3) انظر ترجمته في: ((معجم المؤلفين)) (11/167) .
(4) انظر: ((شذرات الذهب)) (8/342) ، و ((معجم المؤلفين)) (5/252) .
(5) له نسخة في الخزانة التيمورية تحت رقم [336 مجاميع] (5) .
(6) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (282) ، و ((شذرات الذهب)) (8/342) ، و ((الأعلام)) (4/22) ، و ((معجم المؤلفين)) (5/252) .
(7) انظر: (شجرة النور) (288) ، و (الفكر السامي) (2/273) ، و ((معجم المؤلفين)) (12/108) ، و ((أصول الفقه تاريخه ورجاله)) (479 - 480) ، و ((الفتح المبين)) (3/87) .
(8) انظر ترجمته في المصادر السابقة.
(9) انظر: ((معجم الأصوليّين)) (1/20) .
(10) له نسخة في مكتبة الحرم المكي برقم [64] ، وأخرى في التيمورية برقم [180] ، وثالثة في المكتبة الأزهرية برقم [12] 582.(48/209)
توفي بالقرب من العقبة عائدًا من الحج سنة "1041هـ" (1) .
51" 1052 "" تلقيح الأذهان بتنقيح البرهان "" (2) "3/320". لمحمد العربي بن يوسف بن محمد الفهري، القصري، الفاسي، المالكي، أبي حامد، أبي عبد الله. عالم، فاضل، أديب، ناظم، مشاركٌ في بعض العلوم. توفي بتطوان سنة "1052هـ" (3) .
52" 1057 ""مسالك الوصول إلى مدارك الأصول"" (4) "4/473"، "5/756" "منظومة". لعلي بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الله الأنصاري، السجلماسي، الجزائري، المالكي، أبي الحسن. عالم، فاضل، محدّث، فقيه، متقن. توفي بالجزائر سنة "1057هـ" (5) .
53" 1072 ""الروض المبهج في تكميل المنهج في الأصول "" (6) "3/589". لمحمد بن أحمد بن محمد الفاسي، المالكي، أبي عبد الله، الشهير بميارة فقيه، عالم، مشاركٌ في بعض العلوم. توفي سنة "1072هـ" (7) .
__________
(1) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (291) ، و ((الفكر السامي)) (2/277) ، و ((معجم المؤلفين)) (1/2) ، و ((الأعلام)) (1/28) ، و ((فهرس الفهارس)) (1/130) .
(2) انظر: ((شجرة النور)) (302) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/290) .
(3) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (302) ، و ((معجم المؤلفين)) (10/290) ، و ((الأعلام)) (6/264) .
(4) انظر: ((شجرة النور)) (308) ، و ((الفتح المبين)) (3/95) ، و ((معجم المؤلفين)) (7/143) ، و ((الأعلام)) (4/309 -310) .
(5) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (308) ، و ((معجم المؤلفين)) (7/143) ، و ((الفتح المبين)) (3/95) ، و ((الأعلام)) (4/309) ، و ((أصول الفقه تاريخه ورجاله)) (488) .
(6) انظر: ((شجرة النور)) (309) .
(7) انظر ترجمته في: ((معجم المؤلفين)) (9/14) ، و ((الأعلام)) (6/11) ، و ((معجم المطبوعات)) (1821)(48/210)
54" 1089 ""المعارج المرتقات إلى معاني الورقات لإمام الحرمين"" (1) "6/296" "مخ" (2) . لمحمد بن محمد بن أبي بكر الدلائي، الفشتالي، المغربي، المالكي، أبي عبد الله، الشهير بالمرابط الصغير. عالم بالعربيّة، أديبٌ، شاعر، من بيت أمارة في المغرب. توفي بفاس سنة "1090هـ"، وقيل: "1089هـ" (3) .
55" 1120 "" نظم الورقات لإمام الحرمين "" (4) ""معارج الوصول إلى علم الأصول"" "4/704"، "6/310" "مخ" (5) . لمحمد بن قاسم بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن زاكور الفاسي، المالكي، أبي عبد الله عالم، فقيه، أديب، لغوي، شاعر. توفي بفاس"1120هـ" (6) .
56" 1156 ""شرح على شرح المحلي على جمع الجوامع "" (7) "5/174". لأحمد بن مبارك بن محمد بن علي السجلماسي، الملطي، البكري، الصديقي، المالكي. عالم، متبحّر، نظّار، فقيه، مفسّر، محدِّث، مقرئ. توفي في فاس سنة "1156هـ" (8) .
__________
(1) انظر: ((شجرة النور)) (313) ، و ((الأعلام)) (7/64) ، و ((الفتح المبين)) (3/106) ، و ((أصول الفقه تاريخه ورجاله)) (497) .
(2) له نسخة في خزانة الرباط تحت رقم (276 ك) .
(3) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (313) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/199) ، و ((الأعلام)) (7/64) ، و ((الفتح المبين)) (3/106) ، و ((أصول الفقه تاريخه ورجاله)) (497) .
(4) انظر: ((شجرة النور)) (330) .
(5) له نسخة في الخزانة التيمورية برقم [124] .
(6) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (330) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/145) ، و ((الأعلام)) (7/7) ، و (الفتح المبين) (3/121) ، و (أصول الفقه تاريخه ورجاله) (508) ، و (فهرس الفهارس) (1/185)
(7) انظر: ((معجم المؤلفين)) (2/56) ، و ((الفتح المبين)) (3/127) ، و ((شجرة النور)) (352) .
(8) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (352) ، و ((معجم المؤلفين)) (2/56) ، و ((الأعلام)) (1/201) ، و ((الفتح المبين)) (3/127) ، و ((الفكر السامي)) (2/289) .(48/211)
57" 1230 "" نظم جمع الجوامع في الأصول "" (1) "6/423". لمختار بن بونة الشنقيطي، الجكني، المالكي. عالم، أديب، مشاركٌ في بعض العلوم توفي بالمغرب سنة "هـ" (2) .
58" 1235 ""أرجوزة في أصول الفقه "" ""مراقي السعود "" (3) "3/57" "ط" (4) . لعبد الله بن إبراهيم بن عطاء الله بن العلوي، الشنقيطي، المالكي. فقيه، عالم، أديب. توفي سنة "1235هـ" تقريبا (5) .
59" 1235 ""نشر البنود في شرح مراقي السعود "" (6) "5/491""ط" (7) له.
المبحث الثاني:
المتون الأصولية الحنفية
المشروحة من قبل علماء المالكية
أ - ""التوضيح شرح التنقيح"". لعبيد الله بن مسعود بن محمود المحبوبي الحنفي، صدر الشريعة. توفي بعد "747هـ".
59"880 "" حاشية على التوضيح شرح التنقيح في الأصول لصدر الشريعة عبيد الله الحنفي "" (8) "1/499"، "5/597". لعبد القادر بن أبي القاسم ابن أحمد بن محمد بن عبد المعطي الأنصاري، الخزرجي، السعدي، العبادي، المكّي، المالكي، محي الدين. فقيه، أصولي، محدّث، مفسّر، نحوي؛ تولى قضاء مكّة. توفي بمكة سنة "880هـ" (9) .
__________
(1) انظر: ((معجم المؤلفين)) (12/210) .
(2) انظر ترجمته في: ((معجم المؤلفين)) (12/210) .
(3) انظر: ((الأعلام)) (4/65) ، و ((أصول الفقه تاريخه ورجاله)) (563) .
(4) طبعته دار الكتب العلمية في بيروت مع شرحه نشر البنود سنة 1409هـ – 1988م.
(5) انظر ترجمته في: ((معجم المؤلفين)) (6/18) ، و ((الأعلام)) (4/65) .
(6) انظر: ((معجم المؤلفين)) (6/18) ، و ((الأعلام)) (4/65) .
(7) طبعته دار الكتب العلمية في بيروت طبعة أولى سنة 1409هـ – 1988م.
(8) انظر: ((شذرات الذهب)) (7/330) ، و ((الضوء اللامع)) (2/284) ، و ((بغية الوعاة)) (2/105) ، و ((معجم المؤلفين)) (5/297) ، و ((الأعلام)) (4/42) .
(9) انظر ترجمته في: ((شذرات الذهب)) (7/329) ، و ((الضوء اللامع)) (2/283) ، و ((بغية الوعاة)) (2/104) ، و ((معجم المؤلفين)) (5/297) ، و ((الأعلام)) (4/42) .(48/212)
ب - ""التحرير في أصول الفقه"". لمحمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السواسي الحنفي، المعروف بابن الهمام. توفي سنة "861هـ".
60"1094 "" مختصر التحرير لابن الهمام "" (1) "6/298". لمحمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي بن طاهر السوسي، الروداني، المغربي، المالكي، أبي عبد الله. أديب، محدّث، له اليدُ الطولى في الرياضيّات، والهيئة؛ عالمٌ بالنحو، والمعاني، والبيان.
توفي بدمشق سنة "1094هـ" (2) .
61"1094 "" شرح مختصر التحرير لابن الهمام "" (3) "6/298" له.
خاتمة البحث
بعد استقرائي التام - إن شاء الله - لثلاث كتب من أهم وأضخم كتب التراجم - إن لم تكن الأضخم مطلقا - توصّلت بحمد الله إلى نتائج طيّبة، أجمل أهمَّها فيما يأتي:
أولاً- أنَّ بِدْأ التأليف في أصول الفقه بالنسبة لعلماء المالكية كان في الثلث الأول من القرن الرابع على يد الإمام عمرو بن محمد بن عمرو الليثي البغدادي، المتوفى سنة 331هـ. حيث ألف كتابه اللمع في أصول الفقه.
ثانياً- لم يكن للمالكية في القرن الرابع من كتب الأصول إلاّ كتابين: أحدهما السابق ذكرُه، والآخر كتاب أصول الفقه لمحمد بن عبد الله بن محمد الأبهري، المتوفى سنة 375هـ.
__________
(1) انظر: ((شجرة النور)) (316) ،و ((الفتح المبين)) (3/107) ، و ((الفكر السامي)) (2/282) .
(2) انظر ترجمته في: ((شجرة النور)) (316) ، و ((الفتح المبين)) (3/107) ، و ((الفكر السامي)) (2/281) ، و ((أصول الفقه تاريخه ورجاله)) (498) ، و ((معجم المؤلفين)) (11/221) ، و ((الأعلام)) (6/151) ، و ((الفكر السامي)) (2/281) ، و ((فهرس الفهارس)) (1/425) .
(3) انظر: ((شجرة النور)) (316) ، و ((الفتح المبين) (3/107) ، و ((الفكر السامي)) (2/282) .(48/213)
ثالثاً- لقد حظي القرن الخامس بستة مؤلفات أصولية، بينما كانت ثلاثة مؤلفات في القرن السادس، وعشرةً في السّابع، واثناعشر في القرن الثامن، وثلاثة عشر في التاسع، وخمسة مؤلفات في العاشر، وثمانية مؤلفات في القرن الحادي عشر، ومؤلَّفين في الثاني عشر، وثلاثة في الثالث عشر؛ ولم تذكر تلك المصادر أيَّ مؤلف أصولي مالكي في القرن الرابع عشر.
رابعاً- أن ذروة المؤلفات الأصولية المالكية كانت في القرن السابع والثامن والتاسع؛ حيث بلغ مجموع المؤلفات الأصوليّة فيها خمسة وثلاثين مؤلفا.
خامساً- لم يحظ أي متن أصولي مالكي بالشرح إلا مختصر ابن الحاجب؛ وأصله، حيث اعتنى بهما علماء المالكية اعتناءً كبيرًا من القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر، فشرحوهما ثلاثة عشر شرحا؛ ومن العجيب أنّ جميعها شروح لهما، ولم يكن هناك اختصار لهما أو نظم.
وهذه الشروح هي:
أ- شروح الأصل "منتهى السؤل والأمل":
1-شرح منتهى السؤل والأمل لابن الحاجب. لمحمد بن الحسن بن محمد المالقي "ت 771هـ".
2-شرح منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل. لأحمد بن محمد بن محمد بن محمد الزبيري، الأسكنداري "ت 801هـ".
3-شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل. لقاسم بن سعيد بن محمد العقباني، التلمساني، المغربي "ت 854هـ".
4-شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل. لمحمد بن محمد بن محمد بن علي الشهير بمحب الدين النويري "ت 897هـ".
5-شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل. لمحمد بن القاسم "ت 926هـ".
ب-شروح المختصر:-
1- الشهاب الثاقب في شرح مختصر ابن الحاجب. لمحمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي "ت 731هـ".
2-شرح مختصر المنتهى. لمحمد بن محمد بن إبراهيم السقاقسي"ت 744هـ".
3-شرح مختصر ابن الحاجب. لخليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب"ت 767هـ".
4-كشف النقاب الحاجب على مختصر ابن الحاجب. لإبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري، المدني "ت 799هـ".(48/214)
5-شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب. لبهرام بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض السلمي، الدميري، القاهري "ت 805هـ".
6-أداء الواجب في تصحيح ابن الحاجب. لمحمد الرضى الحسني، الفاسي "ت 824هـ".
7-كافي المطالب في شرح مختصر ابن الحاجب. لمحمد الناسخ الطرابلسي، الشامي "ت 914هـ أو 941هـ".
8-شرح مختصر ابن الحاجب. لمحمد بن يحيى بن عمر بن يونس القرافي "ت 1008هـ".
سادساً- بدأ التأليف في أصول الفقه عند علماء المالكية في الثلث الأول من القرن الرابع كما قلت، وبدأ ينشط ويتصاعد شيئا فشيئا؛ حتى بلغ الذروة القصوى في القرن التاسع حيث بلغت المؤلفات فيه ثلاثة عشر مؤلفا أصوليًّا، ثم بدأت تقلّ شيئاً فشيئاً حتى بلغت في القرن الثالث عشر ثلاثة مؤلفات، ولم تذكر المصادر السابقة أي مؤلف للمالكية في القرن الرابع عشر.
سابعاً- لم أجد لعلماء المالكية أي شرح لمتن أصولي حنبلي.
ثامناً - وجد تواصل بين علماء المالكية وعلماء الشافعية؛ حيث قام علماء المالكية بشرح بعض المتون أو الكتب الأصولية الشافعية.
فمن تلك المتون أو الكتب المشروحة:
أ- الورقات لإمام الحرمين: حيث شرحت ثلاث مرات هي:
1- قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين. لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسين المالكي "ت 954هـ".
2- المعارج المرتقات إلى معاني الورقات لإمام الحرمين. لمحمد بن محمد بن أبي بكر الدلائي، الفشتالي، المغربي، المالكي "ت 1089هـ".
3- نظم الورقات لإمام الحرمين. لمحمد بن قاسم بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن زاكور الفاسي "ت 1120هـ".
ب-البرهان لإمام الحرمين: شرح في كتابين هما:
1-إيضاح المحصول في برهان الأصول. لمحمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري "ت 536هـ".
2- تلقيح الأذهان بتنقيح البرهان. لمحمد العربي بن يوسف بن محمد الفهري، القصري، الفاسي "ت 1052هـ".
ج-المستصفى للغزالي: شرح خمس مرات، هي:(48/215)
1- حاشية على المستصفى. لسهل بن محمد بن سهل بن أحمد بن مالك "ت 639هـ".
2- حاشية على مشكلات المستصفى. لأحمد بن محمد بن أحمد الأزدي "ت 651هـ".
3- مختصر المستصفى للغزالي. له.
4- شرح المستصفى. للحسن بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز "ت 679هـ".
5- شرح المستصفى. لأحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن "ت 699هـ".
د- جمع الجوامع للسبكي: لقد حظي جمع الجوامع بستة شروح، هي:
1- زوال المانع في شرح جمع الجوامع. لمحمد بن عمار بن محمد بن أحمد القاهري، المالكي، شمس الدين "ت 844هـ".
2- الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع. لأحمد بن خلف حلولو، القوي، المغربي، القيرواني "ت 898هـ".
3- حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع. لمحمد اللّقاني المالكي، ناصر الدين "ت 958هـ".
4- البدور اللوامع من خدور جمع الجوامع. لإبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن علي اللقّاني "ت 1041هـ".
5- شرح على شرح المحلي على جمع الجوامع. لأحمد بن مبارك بن محمد ابن علي السجلماسي، الملطي، البكري، الصديقي "ت 1156هـ".
6-نظم جمع الجوامع في الأصول. لمختار بن بونة الشنقيطي، الجكني "ت 1230هـ".
هـ - المحصول للرازي:
قام بشرحه أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي شهاب الدين، المعروف بالقرافي "ت 684هـ".
تاسعاً- بلغ عدد المؤلفات الأصوليّة المالكية في المصادر المستقرأة من القرن الرابع حتى القرن الرابع عشر تسعاً وخمسين مؤلّفا.
عاشراً- بلغ عدد المؤلفات الأصولية المطبوعة ثمانية عشر مؤلفاً، وخمس مخطوطات معلوم أماكن وجودها ونسخها، وحقق من تلك المؤلفات مخطوطان، ولم أعلم شيئاً عن مصير ثلاث وثلاثين مخطوطة منها حتى الآن.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.
الفهارس
1-فهرس المؤلفات الأصولية مرتبة حسب حروف المعجم.
2-فهرس الأعلام مرتباً حسب حروف المعجم.
3-فهرس المصادر والمراجع.
4-فهرس الموضوعات.
فهرس المؤلفات الأصولية(48/216)
1- أداء الواجب في تصحيح ابن الحاجب"حاشية على منتهى السؤل والأمل" لمحمد الرضى الحسني، الفاسي، المكّي "ت 824هـ".
2- أرجوزة في أصول الفقه. لعبد الله بن إبراهيم بن عطاء الله بن العلوي، الشنقيطي "ت 1230هـ" تقريبا.
3- أصول الفقه. لعبد الملك بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن الأصبغ القرشي "ت 436هـ".
4- أصول الفقه. لمحمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني، اللوشي، الغرناطي، الأندلسي "ت 776هـ".
5- أصول الفقه.لمحمد بن عبد الله بن محمد الأبهري "ت 375هـ".
6- أصول الفقه. لمحمد بن عثمان بن موسى الأسحاقي، "ت 810هـ".
7- إدرار الشروق على أنواء الفروق في الأصول. لقاسم بن عبد الله بن محمد
ابن الشاط الأنصاري، الأشبيلي "ت 723هـ".
8- إحكام الفصول في أحكام الأصول. لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب ابن وارث التجيبي، القرطبي، الباجي "ت 474هـ".
9- الإشارة في أصول الفقه. لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، القرطبي، الباجي "ت 474هـ".
10-الإفادة في أصول الفقه. لعبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين الثعلبي، البغدادي، أبو محمد "ت 422هـ".
11-إيضاح المحصول في برهان الأصول للجويني. لمحمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري "ت 536هـ".
12-البدور اللوامع من خدور جمع الجوامع للسبكي. لإبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن علي اللقّاني "ت 1041هـ".
13-تحفة الواصل شرح الحاصل في الأصول. لمحمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي، المعروف بابن راشد "ت 731هـ".
14-تقريب الوصول إلى علم الأصول. لمحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله ابن يحيى الكلبي، الغرناطي "ت 741هـ".
15-تلقيح الأذهان بتنقيح البرهان. لمحمد العربي بن يوسف بن محمد الفهري "ت 1052هـ".
16-تنقيح الفصول في الأصول. لأحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي، المعروف بالقرافي "ت 684هـ".(48/217)
17-التوضيح في شرح مختصر منتهى السؤل والأمل. لخليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب، المعروف بالجندي "ت 767هـ".
18-حاشية على التوضيح شرح التنقيح في الأصول. لعبد القادر بن أبي القاسم بن أحمد بن محمد بن عبد المعطي الأنصاري "ت 880هـ"
19-حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع للسبكي. لمحمد اللّقاني "ت 958هـ".
20حاشية على المستصفى. لسهل بن محمد بن سهل بن أحمد بن مالك الأزدي، الغرناطي "ت 639هـ".
21-حاشية على مشكلات المستصفى. لأحمد بن محمد بن أحمد الأزدي، المعروف بابن الحاج "ت 651هـ".
22-الدرر في أصول الفقه"" لعبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد بن موسى، المكناسي "ت 964هـ".
23-الروض المبهج في تكميل المنهج في الأصول "" لمحمد بن أحمد بن محمد، الشهير بميارة "ت 1072هـ".
24-زوال المانع في شرح جمع الجوامع للسبكي. لمحمد بن عمار بن محمد بن أحمد، المعروف بابن عمار ت "844هـ".
25-شرح تنقيح الفصول. لأحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي، المعروف بالقرافي "ت 684هـ".
26-شرح تنقيح الفصول. لأحمد بن خلَف - وقيل: عبد الرحمن بن موسى - حلولو، القروي، المعروف بحلولو "ت 898هـ".
27-شرح على شرح المحلى على جمع الجوامع. لأحمد بن مبارك بن محمد بن علي السجلماسي "ت 1156هـ".
28-شرح مختصر ابن الحاجب. لمحمد بن يحيى بن عمر بن يونس "ت 1008هـ".
29-شرح مختصر التحرير. لمحمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي بن طاهر السوسي "ت 1094هـ".
30-شرح مختصر المنتهى. لمحمد بن محمدبن إبراهيم بن أبي القاسم السقاقسي، المغربي "ت 744هـ".
31-شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب. لبهرام بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض السلمي "ت 805هـ".
32-شرح المحصول للرازي. لأحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي، المعروف بالقرافي "ت 684هـ".
33-شرح المستصفى. لأحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن مسعدة العامري "ت 699هـ".(48/218)
34-شرح المستصفى. للحسن بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن محمد القرشي، المعروف بابن الناظر "ت 679 هـ".
35-شرح منتهى السؤل والأمل لابن الحاجب. لمحمد بن الحسن بن محمد المالقي "ت 771هـ".
36-شرح منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل. لأحمد بن محمد ابن محمد بن محمد، المعروف بابن التنسي "ت 801 هـ"
37-شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل. لقاسم بن سعيد ابن محمد العقباني، التلمساني "ت 854هـ".
38-شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل. لمحمد بن القاسم المصري "ت 926هـ".
39-شرح منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل. لمحمد بن محمد ابن محمد بن علي الشهير بمحبّ الدين النويري "ت 897هـ".
40-الشهاب الثاقب في شرح مختصر ابن الحاجب. لمحمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي، المعروف بابن راشد "ت 731هـ".
41-الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع للسبكي. لأحمد بن خلَف القروي، المعروف بحلولو "ت 898 هـ".
42-العقد المنظوم في الخصوص والعموم في الأصول. لأحمد بن إدريس ابن عبد الرحمن الصنهاجي، المعروف بالقرافي "ت 684هـ".
43-عنوان التعريف بأسرار التكليف في الأصول "الموافقات". لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، المعروف بالشاطبي "ت 790هـ".
44-الفصول في معرفة الأصول. لعلي بن فضال بن علي بن غالب بن جابر المجاشعي المعروف بالفرزدقي "ت 479هـ".
45-قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين. لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسين، المعروف بالخطّاب الرعيني "ت 954هـ".
46-كافي المطالب في شرح مختصر ابن الحاجب. لمحمد الناسخ الطرابلسي الشامي، كمال الدين "ت 914هـ أو 941هـ".
47-كتاب الحدود. لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، القرطبي، الباجي "ت 474هـ".
48-كشف النقاب الحاجب على مختصر ابن الحاجب في الأصول.
لإبراهيم بن علي بن محمد بن أبي القاسم اليعمري "ت 799هـ".(48/219)
49-اللمع في أصول الفقه. لعمرو بن محمد بن عمرو الليثي، البغدادي، أبو الفرج "ت 331هـ".
50-المحصول في علم الأصول. لمحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري، المعروف بابن العربي "ت 543هـ".
51-مختصر التحرير لابن الهمام. لمحمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي بن طاهر السوسي "ت 1094هـ".
52-مختصر المستصفى للغزالي. لأحمد بن محمد بن أحمد الأزدي، المعروف بابن الحاج "ت 651هـ".
53-مختصر منتهى السؤل والأمل. لعثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي، الدويني، الأسنائي، المعروف بابن الحاجب "ت 646 هـ".
54-مرتقى الوصول إلى الضروري من علم الأصول. لمحمد بن محمد بن عاصم القيسي، الغرناطي "ت 829هـ".
55-مسالك الوصول إلى مدارك الأصول "منظومة" لعلي بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الله الأنصاري، السجلماسي "ت 1057 هـ".
56-المعارج المرتقات إلى معاني الورقات لإمام الحرمين. لمحمد بن محمد بن أبي بكر الدلائي، الشهير بالمرابط الصغير "ت 1089هـ".
57-منهاج الأدلّة في علم الأصول. لمحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، القرطبي، المعروف بابن رشد الحفيد "ت 595هـ"
58-مهيع الوصول إلى علم الأصول "أرجوزة". لمحمد بن محمد بن عاصم القيسي، الغرناطي "ت 829هـ".
59-نشر البنود في شرح مراقي السعود.لعبد الله بن إبراهيم بن عطاء الله ابن العلوي، الشنقيطي "ت 1230هـ" تقريبا.
60-نظم الورقات لإمام الحرمين. لمحمد بن قاسم بن محمد بن عبد الواحد ابن أحمد بن زاكور الفاسي "ت 1120هـ".
61-نظم جمع الجوامع في الأصول. لمختار بن بونة الشنقيطي، الجكني "ت 1230هـ".
فهرس الأعلام
1-إبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن علي اللقّاني "ت 1041هـ".
2-إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري "ت799هـ".
3-إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، المعروف بالشاطبي "ت790هـ"
4-أحمد بن إدريس الصنهاجي، المعروف بالقرافي "ت684هـ".
5-أحمد بن خلَف المعروف بحلولو "ت 898هـ".(48/220)
6-أحمد بن مبارك بن محمد بن علي السجلماسي "ت 1156هـ".
7-أحمد بن محمد بن أحمد الأزدي، المعروف بابن الحاج "ت 651هـ".
8-أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن العامري "ت699هـ".
9-أحمد بن محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن التنسي "ت 801هـ".
10-بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر السلمي "ت805هـ"
11-حسن بن عبد العزيز بن محمد المعروف بابن الناظر "ت 679هـ".
12-خليل بن إسحاق بن موسى، المعروف بابن الجُنْدي "ت767هـ".
13-سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب القرطبي، الباجي "ت 474هـ".
14-سهل بن محمد بن سهل بن أحمد بن مالك، الغرناطي "ت 639هـ".
15-عبد الرحمن بن عفّان الجزولي المالكي "ت 741هـ".
16-عبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد، المكناسي "ت964هـ".
17-عبد القادر بن أبي القاسم بن أحمد بن محمد الأنصاري "ت880هـ".
18-عبد الله بن إبراهيم بن عطاء الله الشنقيطي "ت 1230هـ" تقريبا
19-عبد الملك بن أحمد بن محمد بن عبد الملك القرشي "ت436هـ".
20-عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد الثعلبي "ت 422هـ".
21-عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب "ت 646هـ".
22-علي بن عبد الواحد بن محمد السجلماسي "ت 1057هـ".
23-علي بن فضال بن علي بن غالب المعروف بالفرزدقي "ت 479هـ".
24-عمرو بن محمد بن عمرو الليثي، البغدادي "ت 331هـ".
25-قاسم بن سعيد بن محمد العقباني، التلمساني "ت 854هـ".
26-قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط، الأشبيلي "ت723هـ".
27-محمد الرضى الحسني، الفاسي، المكّي "ت 824هـ".
28-محمد العربي بن يوسف بن محمد الفهري "ت 1052هـ".
29-محمد اللّقاني "ت 958هـ".
30-محمد الناسخ الطرابلسي، كمال الدين "ت914هـ أو941هـ".
31-محمد بن أحمد بن محمد، الشهير بميارة "ت 1072هـ".
32-محمد بن أحمد بن محمد المعروف بابن رشد الحفيد "ت 595هـ"
33--محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الكلبي، الغرناطي "ت741هـ".
34-محمد بن الحسن بن محمد المالقي "ت 771هـ".(48/221)
35-محمد بن القاسم المصري "ت 926هـ".
36-محمد بن عبد الله البكري المعروف بابن راشد "ت731هـ".
37-محمد بن عبد الله بن سعيد الأندلسي "ت 776هـ".
38-محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري "ت 375هـ".
39-محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن العربي "ت 543هـ".
40-محمد بن عثمان بن موسى بن محمد الأسحاقي، "ت 810هـ".
41-محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري "ت 536هـ".
42-محمد بن عمار بن محمد بن أحمد، المعروف بابن عمار ت "844هـ"
43-محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الواحدزاكور الفاسي "ت1120هـ"
44-محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم السقاقسي، "ت744هـ".
45-محمد بن محمد الدلائي، الشهير بالمرابط الصغير "ت1089هـ".
46-محمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي السوسي "ت1094هـ".
47-محمد بن محمد بن عاصم القيسي، الغرناطي "ت 829هـ".
48-محمد بن محمد عبد الرحمن المعروف بالخطّاب الرعيني "ت954هـ".
49-محمد بن محمد بن محمد الشهير بمحبّ الدين النويري "ت 897هـ".
50-محمد بن يحيى بن عمر بن يونس "ت 1008هـ".
51-مختار بن بونة الشنقيطي، المغربي، الجكني "ت 1230هـ".
فهرس المصادر والمراجع
1-أصول الفقه. لمحمد زكريا البرديسي. الطبعة الثالثة 1407هـ/ 1987م. دار الفكر. بيروت - لبنان.
2-أصول الفقه الإسلامي. تأليف الدكتور: بدران أبو العينين بدران. الناشر: مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر والتوزيع. الإسكندرية.
3-أصول الفقه، تاريخه ورجاله. للدكتور: شعبان محمد إسماعيل. الطبعة الأولى 1401هـ - 1981م، والطبعة الثانية 1419هـ - 1998م الناشر: دار السلام والمكتبة المكية - مكة المكرمة.
4-أصول الفقه الميسّر. للدكتور: شعبان محمد إسماعيل. الطبعة الأولى 1415هـ/ 1994م. الناشر: دار الكتاب الجامعي. القاهرة - مصر
5-الأعلام. قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين. خير الدين الزركلي. دار العلم للملايين. بيروت - لبنان(48/222)
6-البداية والنهاية. تأليف: أبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي. دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.
7-البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. للقاضي العلامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 هجرية. الناشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة.
8-بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي. تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية صيدا - بيروت -.
9-تاريخ بغداد. للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي "ت 463 هـ". دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.
10-تاريخ قضاة الأندلس.
11-التحصيل من المحصول. تأليف: سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي "ت 682 هـ". درساة وتحقيق الدكتور: عبد الحميد علي أبو زنيد. الطبعة الأولى 1408هـ/1988م. مؤسسة الرسالة. بيروت.
12-تذكرة الحفاظ. للإمام أبي عبد الله شمس الدين الذهبي "ت 748هـ". دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان، ودار الكتب العلمية. بيروت.
13-ترتيب المدارك وتقريب المسالك. للقاضي عياض بن موسى اليحصبي "ت 544هـ". تحقيق الدكتور: أحمد بكير محمود. طبع سنة 1387هـ - 1967م. الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت، لبنان.
14-التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي "ت463هـ". تحقيق الأستاذ: مصطفى بن أحمد العلوي، والأستاذ: محمد عبد الكبير البكري. الطبعة الثالثة 1408هـ - 1988م. طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب.
15-تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك تأليف عبد الرحمن السيوطي "911هـ" طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.
16-تهذيب الأسماء واللغات. للإمام العلامة الفقيه الحافظ أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676هـ. دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.(48/223)
17-حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي. بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم.
18-الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. تأليف: شيخ الإسلام حافظ العصر شهاب الدين ابن حجر العسقلاني. دار الجيل - بيروت.
19-الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب. لابن فرحون المالكي 799هـ. تحقيق: د. محمد الأحمدي أبي النور: مدرس الحديث بجامعة الأزهر. دار التراث للطبع والنشر - القاهرة.
20-سير أعلام النبلاء. لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي "ت 748 هـ". تحقيق: شعيب الأرناؤوط وجماعة من المحققين. الطبعة الثانية 1402هـ/ 1982م. مؤسسة الرسالة. بيروت - لبنان.
21-شجرة النور الزكية في طبقات المالكية. تأليف: الشيخ محمد بن محمد مخلوف. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
22-شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب. للمؤرخ الفقيه الأديب أبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
23-الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. تأليف: المؤرخ الناقد شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي. منشورات دار مكتبة الحياة. بيروت.
24-الفتح المبين في طبقات الأصوليين. عبد الله مصطفى مراغي. الطبعة الثانية 1394هـ - 1974م. الناشر. محمد أمين دمج وشركاه بيروت.
25-الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. تأليف: محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي 1291 هـ - 1376هـ. الناشر: المكتبة العلمية بالمدينة المنورة لصاحبها محمد بن سلطان النمنكاني.
26-فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات. تأليف: عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني. باعتناء د. إحسان عباس. دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان.
27-الفهرست. لابن النديم. مع مقدمة شائقة عن حياة ابن النديم وفضل الفهرست بقلم أحد أساتذة الجامعة المصرية. الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت - لبنان.(48/224)
28-الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة. لنجم الدين الغزي. تحقيق: جبرائيل سليمان جبور. الناشر: محمد أمين دمج وشركاه. بيروت - لبنان.
29-معجم الأصوليين. تأليف: د. محمد مظهر بقا. جامعة أم القرى: معهد البحوث العلمية وإيحاء التراث الإسلامي، مركز بحوث الدراسات الإسلامية - مكة المكرمة.
30-معجم المطبوعات العربية والمعربة. ليوسف إليان سركيس. الناشر: مكتبة الثقافة الدينية.
31-معجم المؤلفين تراجم مصنفي الكتب العربية. تأليف: عمر رضا كحّالة. درا إحياء التراث العربي.
32-الوجيز في أصول الفقه. لعبد الكريم زيدان. سنة الطبع 1987م. طبع مؤسسة الرسالة - بيروت، لبنان.
33-وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر خلكان 608 - 681هـ. حققه: الدكتور إحسان عباس 1977م / 1397هـ. دار صادر - بيروت.(48/225)
ظاهرة المد في الأداء القرآني دراسة صوتية للمدة الزمنية للمد العارض للسكون
المقدّمة
يحاول هذا البحث - بطريق التجريب والتطبيق - أن يقف - بدقة - على المدة الزمنية لصوت المد فيما يعرف بالمد العارض للسكون الذي رأى القراء أنه يجوز مده بمقدار حركتين وأربع وست حركات، وقد استطاع هذا البحث أن يتعامل - بدقة - مع هذا المقدار الزمني المعطى لصوت المد الذي قدره علماء القراءات بالحركة في ضوء حساب الآلة المقدر بجزء من عشرة آلاف من الثانية، وذلك في قراءة أربعة من القراء المجيدين المعاصرين. وقد قسم هذا البحث: إلى قسمين رئيسين:
قسم نظري: اشتمل على مقدمة عن المد العارض للسكون وأوجهه وأحكام كل وجه منه، والمقدار الذي يجوز مده عند علماء القراءات.
قسم تجريبي تطبيقي: قام على إدخال نص من القرآن الكريم (هو سورة هود - عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة وأتم التسليم) كلها برواية حفص عن عاصم بن أبي النجود مقروءة بأصوات أربعة من القراء هم على الترتيب (الشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد - يرحمهم الله جميعا - والشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - أمد الله في عمره -) إلى المعمل الصوتي (Sona - Graph Model 5500) وذلك بهدف الوقوف - بجلاء -.
على المتوسط العام للمدة الزمنية محسوبة بجزء من عشرة آلاف من الثانية للمد العارض للسكون في الآيات القرآنية التي وردت في السورة المذكورة في السياقات الأدائية التي تعرض لصوت المد في هذا النوع من المدود في الأداء.
أهداف البحث: يتكون النظام الصوتي لأصوات اللغة العربية وسواها من اللغات المنطوقة من دعامتين أساسيتين:
1. فونيمات قطعية (Segmental Phonames) ويقصد بها الصوامت والصوائت في اللغة.(48/226)
2. فونيمات فوقطعية (Supra Segmental) وتشتمل على الفواصل والنبرات والنغمات، وهي ظواهر غير واضحة في أبجديتها ولكنها متصلة ومصاحبة للنطق والأداء (1) ، وحينما نتكلم فإننا لا نصدر أصواتا أو فونيمات قطعية ذات أصوات مفردة منعزلة لأن الكلام - في أدائه الصحيح حسب نظام أصوات اللغة المنطوقة - مكون من سلسلة من الأصوات المتعاقبة المتتابعة التي يأخذ بعضها بحجز بعض في تناسق وترتيب دقيقين حتى ليخال للمتأمل في النشاط الكلامي الإنساني أن وضع حواجز وحدود واضحة ودقيقة بين مقطع أو صوت وآخر في النشاط الأدائي للكلام أمر بالغ الصعوبة ذلك لأن المتكلم بأصوات لغته الأم أثناء كلامه يصبغ فونيمات اللغة القطعية جميعها بألوان لا تحصى من الفونيمات الفوقطعية (2) جميعها كالضغط على بعض المقاطع الصوتية دون بعض أو علو درجة الصوت وموسيقاه أو انخفاضهما وكذا اختلاف مواطن الفصل والوصل بين الوحدات الصوتية المتتابعة وكل ذلك يساعد المتكلم والمتلقي على:
__________
(1) . Lade Foged , P. (A course in Phonetics) .1975 P:30.
(2) . Fujimora , Osama. Syllables as concatenative Phonetics Units. written in 1977 PP: 370.(48/227)
أ. إبراز المعاني وتجليتها: لعل من أهم وظائف الفونيمات الفوقطعية في اللغة أنها تعمل على إيضاح كثير من المعاني التي لم يسطع المتكلم بيانها والإفصاح عنها في أحيان كثيرة من خلال أنظمة اللغة الأخرى كالصوامت والصوائت …إلخ، وأي إخلال بهذه الطرق الأدائية التي يقتضيها نظام اللغة أو بعضها أو اللحن فيها يؤدي إلى صعوبة فهم المعنى المراد من الكلام أو تعذره، وإذا كان ما يحدد وظيفة الفونيم في اللغة هو قدرته على تغيير المعنى سواء أكان فونيما قطعيا أم فوقطعيا (1) فإننا نرى أن معرفة مواطن الفصل والوصل (الوقف والابتداء) مما يعين على فهم المراد من الكلام ولا يتم إدراك المعاني إلا به فربما وقف المتكلم قبل تمام المعنى ولا يصل ما وقف عليه مما بعده حتى ينتهي إلى ما يصح أن يقف عنده وعندئذ لا يفهم هو ما يقول ولا يفهمه السامع بل ربما يفهم من هذا الوقف معنى آخر غير المعنى المراد وهذا في الكلام العادي فكيف إذا كان ذلك فيما يتعلق بفهم كتاب الله الكريم والوقوف على مراد الله تعالى به، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها - مثلا - أن يقرأ أحدهم قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فيقف على {الظَّالِمِينَ} . أو أن يقرأ أحدهم قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} فيقف على {وَإِذَا غَرَبَتْ} .
__________
(1) . Lass Roger. Phonology (An Introduction to basic concepts) .1984 PP 248.(48/228)
ب. أهمية الوقفة (المفصل) بين أجزاء الكلام: - ولأن الوقفة تغير أحيانا المعنى وقد تضيف معاني أخرى فقد أدرك القدماء من المهتمين بفنون القول والمعنيين بطرق الأداء فيه من الخلفاء والخطباء والكتاب وأئمة القراء ما للوصل والفصل في اللغة العربية من أهمية في تغير المعنى فحضوا على تفقد مواطنه من الكلام، وأوجبوا على القارىء لآي القرآن الكريم معرفة الوقف والابتداء لما جاء في ذلك من الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة البلاغة وأصحاب البيان فقد ثبت أن الإمام عليا كرم الله وجهه لما سئل عن قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قال: الترتيل معناه تجويد الحروف ومعرفة الوقوف (1) . وما رواه ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها حين سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} - ثم يقف - {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} - ثم يقف - وكان يقرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (2) ، وفي رواية أخرى قالت: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . يقطع قراءته آية آية (3) . وروى الحافظ ابن الجزري - رحمه الله - قول ابن عمر رضي الله عنهما: لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلا لها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها. ويعلق على ذلك ابن الجزري - رحمه الله -: ففي كلام علي رضي الله عنه دليل على وجوب تعلمه ومعرفته، وفي كلام ابن
__________
(1) النشر في القراءات العشر. ابن الجزري. دار الفكر 1م225.
(2) صحيح الترمذي - رقم 2954.
(3) جامع الأصول في أحاديث الرسول. ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات. تح. عبد القادر الأرناؤوط. ج2 ص: 463.(48/229)
عمر برهان على أن تعلمه إجماع من الصابة رضي الله عنهم … (1) ، وقال معاوية رضي الله عنه: قم يا أشدق عند قروم العرب وجحاجحها فسل لسانك وجل في ميادين البلاغة وليكن التفقد لمقاطع الكلام منك على بال فإني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى على علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتابا وكان يتفقد مقطع الكلام كتفقد المصرم صريمته. ونسب إلى الأحنف بن قيس أنه قال: ما رأيت رجلا تكلم فأحسن الوقوف عند مقاطع الكلام ولا عرف حدوده إلا عمرو بن العاص رضي الله عنه (2) . وصح بل تواتر - كما يقول الحافظ ابن الجزري (رحمه الله) - عند أهل الأداء وأئمة القراءة تعلم الوقف والابتداء والاعتناء به من السلف الصالح كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين وصاحبه الإمام نافع بن نعيم، وأبي عمرو بن العلاء، ويعقوب الحضرمي، وعاصم بن أبي النجود وغيرهم من الأئمة (3) . وقال يزيد بن معاوية: إياكم وغيركم من أن تجعلوا الفصل وصلا فإنه أشد وأعيب من اللحن … وكان أكثم بن صيفي إذا كاتب ملك الجاهلية يقول لكاتبه: افصلوا بين كل منقض معنى، وصلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض… ونسب إلى أبي العباس السفاح قوله: قف عند مقاطع الكلام وحدوده وإياك أن تخلط المرعي بالمهمل ومن حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل والوصل… وقال المأمون: إن البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآليء بلا نظام … وسئل الفارسي ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل. ونسب إلى المأمون أيضا قوله: ما أتفحص من رجل شيئا كتفحصي عن الفصل والوصل في كتابه. ومما قاله الحسن بن سهل لكاتبه الحراني لما سأله ما منزلة الكاتب في قوله وفعله: أن يكون مطبوعا محنكا بالتجربة عالما بحلال الكتاب والسنة وطريقها وبالدهور في تداولها وتصرفها والملوك في سيرها
__________
(1) النشر 1/225.
(2) كتاب الصناعتين. أبو هلال العسكري. الأستانة. 1319 هـ. ص: 346.
(3) النشر 1/225.(48/230)
وأيامها مع براعة اللفظ وحسن التنسيق وتأليف الأوصال بمشاكلة الاستعارة وشرح المعنى حتى تنصب صدورها بمقاطع الكلام ومعرفة الفصل من الوصل فإذا كان ذلك فهو كاتب مجيد … والقول إذا استعمل آلته واستتم معناه فالفصل عنده (1) .
يتبين لنا - بوضوح - من هذه النصوص وغيرها مما لا يعدم الباحث وجودها إن طلبها في مظانها من الكتب والمصادر القديمة - اهتمام المشتغلين بفنون القول - عامة - والمعنيين بأداء الكلام العربي - حسب ما تقتضيه أنظمة الأداء في اللغة العربية - بهذه المسألة اللغوية وذلك لما للوصل والوصل من أهمية في تغير المعنى، ومن ثم اعتنى بعلم الوقف والابتداء وتعلمه والعمل به المتقدمون والمتأخرون من أئمة أهل الإقراء فأفردوه بالتصنيف الخاص به منهم الإمام أبو بكر بن الأنباري والإمام أبو جعفر النحاس والحافظ أبو عمرو الداني والحافظ ابن الجزري وابنه العلامة الشيخ أحمد المعروف بابن الناظم وشيخ الإسلام أبو زكريا الأنصاري والعلامة المحقق الشيخ أحمد بن عبد الكريم الأشموني وخلق غير هؤلاء - رحمهم الله أجمعين - (2) . والأصل في الوقف السكون. أما الروم والإشمام فلبيان الحركة التي هي للحرف وقد أخفاها السكون (3) ، والملاحظ من جهود هؤلاء القدماء أن جل اهتمامهم كان منصبا على خدمة القرآن الكريم ولهذا نجدهم اجتهدوا في وضع علامات الوقف الواجب والجائز والممتنع في المصحف الكريم وقسموه إلى: وقف اختياري واضطراري (4) لأن الكلام إما أن يتم أولا، فإن تم كان اختياريا، وكونه تاما لا يخلو إما أن لا يكون له تعلق بما بعده ألبتة أي لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى نحو قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقوله تعالى:
__________
(1) كتاب الصناعتين ص: 346 وما بعدها. وهداية القارئ إلى تجويد كلام البارئ. عبد الفتاح المرصفي. دار النصر للطباعة الإسلامية. ط1 ص: 369.
(2) هداية القاريء ص: 369.
(3) من كلام أحد المحكمين للبحث.
(4) النشر 1/225 وما بعدها.(48/231)
{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وأكثر ما يوجد هذا النوع في رؤوس الآي، وعند انقضاء القصص، ويسمى هذا النوع من الوقف بالتام لتمامه المطلق يوقف عليه ويبتدأ بما بعده. فإن كان له تعلق فلا يخلو هذا التعلق إما أن يكون من جهة المعنى فقط نحو قوله تعالى: {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم} فآخر الآية كلام تام ليس له تعلق بما بعده لفظا ولكنه متعلق من جهة المعنى لأن كلا منهما إخبار عن حال الكفار، فالوقف في هذه الآية على قوله تعالى: {يُؤْمِنُون} والابتداء بقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم} ، وسمي كافيا للاكتفاء به عما بعده واستغناء ما بعده عنه وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده. أما إن كان التعلق من جهة اللفظ فقط نحو الوقف على قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وعلى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وعلى {الرَّحْمَنِ} يفهم ولك الابتداء بقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} و {رَبِّ الْعَالَمِينَ} و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} و {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} و {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لا يحسن لتعلقه لفظا فإنه تابع لما قبله إلا ما كان من ذلك رأس آية فالابتداء به سنة، ويسمى هذا النوع من الوقف بالوقف الحسن لأنه في نفسه حسن مفيد يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده للتعلق اللفظي إلا أن يكون رأس آية - كما أشرنا - فإنه يجوز في اختيار أكثر أهل الأداء. فإن لم يتم الكلام لتعلق معناه بما بعده لفظا ومعنى كالوقف على المضاف دون المضاف إليه أو على المبتدأ دون خبره أو على الفعل دون فاعله كالوقف على {الْحَمْدُ} من {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، أو على لفظ {بِسْمِ} من {بِسْمِ اللَّه} وهكذا كل ما لا يفهم منه معنى لأنه لا يعلم إلى أي شيء أضيف، فالوقف عليه قبيح لا يجوز تعمده إلا لضرورة كانقطاع نفس أو عطاس أو نحو ذلك فيوقف عليه(48/232)
للضرورة ويسمى (وقف ضرورة) . فإذا وقف (اختياريا أو اضطراريا) على آخر الكلمة في آي القرآن الكريم، وكان ما قبل هذا الحرف الأخير حرف مد أو لين جاز مد الصوت به أو قصره، فالقصر: حركتين، والمد ويشمل: التوسط: وهو بمقدار أربع حركات، والإشباع: وهو بمقدار ست حركات - كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
التعريف بالمد العارض للسكون: حده، أقسامه، أحكام المد به عند القراء
حده وأقسامه:
المد العارض للسكون ويقال له أيضا الجائز والعارض (1) ، وسمي عارضا لعروض سببه في الوقف وهو السكون، وجائزا لجواز قصره ومده عند كل القراء (2) ، ويعنون به: أن يقع سكون عارض للوقف على الحرف بعد حرف المد - قيل - وحده (3) - وهو الغالب - أو اللين - عند بعضهم - (4) ، وذلك بأن يكون الحرف قبل الأخير من الكلمة حرف مد - غالبا - أو لين - على قول -، والحرف الأخير متحرك طبعا، فإن درجنا الكلام ووصلنا الكلمة بما بعدها كان طبيعيا، وإن وقفنا على الحرف الأخير بالسكون صار المد الذي قبل الحرف الأخير مدا بسبب السكون العارض، فمثال حرف المد نحو قوله تعالى: {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} - سورة هود - آية - 115، وقوله تعالى: {بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} - هود - آية - 45، وقوله تعالى: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} - هود - آية - 39 وقوله تعالى: {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} - هود - آية - 60. ومثال حرف اللين قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} - هود - آية - 37. ويدخل فيه ما إذا كان الساكن في همز بعد حرف المد نحو قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} - هود - آية - 7، وقوله تعالى: {مِمَّا
__________
(1) النشر 1/335.
(2) هداية القاريء ط1 ص:307.
(3) نفسه ص:307.
(4) حق التلاوة. حسني عثمان. طباعة شركة المطابع النموذجية. عمان - الأردن. ص: 77. وانظر أيضا "أسنى المعارج إلى معرفة صفات الحروف والمخارج" لعبد الرقيب مقبنة. دار الروائع - دمشق - سنة 1407هـ. ص:22.(48/233)