وقد سرت الثورة إلى كل الغرب؛ لأنه لا يدين بالإسلام دين العلم والحق والعدل.
رابعاً: نظرية التطور:
في سنة 1859م نشرالباحث الإنجليزي "تشارلزداروين" كتابه "أصل الأنواع"الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعلت نظريته كون الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها فاحدث ذلك ضجة لم يحدثها أي مؤلف آخر في التاريخ الأوروبي قاطبة، وكان له من الآثار في المجالات الفكرية والعملية مالم يكن في الحسبان.
وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد استغلها اليهود استغلالاً بشعاً.
والنظرية في جوهرها فرضية بيولوجية أبعد شيء عن أن تكون نظرية فلسفية عامة، كما أنها بعيدة عن أن تكون حقيقة علمية ثابتة، وقد قال أحد العلماء الغربيين في النظرية الداروينية: بـ "بإنَّها أبوها الكفر وأمها القذارة".
والنظرية الداروينية باطلة بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وباطلة بجميع الكتب السماوية، وباطلة بإجماع المسلمين في كل زمان ومكان، وباطلة بالعقل الصحيح، وبالفطرة السليمة من الشذوذ والانحراف.
فبنو آدم وجميع الحيوانات والطيور، وجميع مافي البراري والبحار، من آلاف السنين وهي على ما هي عليه لم تتغير أشكالها ولا أسماؤها.
ومذهب داروين باطل؛ لعدم مشاهدة أي ارتقاء من أي نوع من مخلوقات الله، فمن الذي عاش آلاف السنين حتى شاهد تغير الإنسان من خلية إلى حشرة إلى حيوان إلى قرد كما يزعم داروين، وهو الذي لم يعش سوى أقل من 75 سنة.
قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} (1) .
__________
(1) سورة الكهف، الآية (51) .(44/248)
والنظرية باطلة بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (1) فالله تعالى إنما أهبط من الجنة أدمياً يعقل ولم يهبط حشرة ثم صارت حيواناً لا يعقل ثم صار قرداً.
والداروينيون الملاحدة يقولون على الله بغير علم قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (2) وهم يجادلون بالباطل، قال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوا} (3) إلى غير ذلك من الأدلة التي تنسف خرافة النظرية الداروينية.
خامساً: طبيعة التعاليم النصرانية:
بالإضافة إلى ما سبق نجد أن التعاليم النصرانية قد تحولت إلى طقوس جامدة لا حياة فيها، واتجهت في جوهرها للتزهد، واحتقار الحياة الدنيوية، والتجرد من عالم المادة مثل:
"من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين".
"مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني ملكوت الله".
"أحبوا أعداءكم، وأحسنوا إلى مُبغضيكم، باركوا لاعينكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم، من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضاً، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً".
"لاتهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون".
لقد نظرت أوروبا إلى هذه التعاليم الموغلة في السماحة فوجدتها بعيدة عن واقع الحياة وظروف العصر.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (36) .
(2) سورة النجم، الآية (28) .
(3) سورة الكهف، الآية (56) .(44/249)
أما الإسلام فلأنه الرسالة الخاتمة للناس جميعاً فقد جمع بين الحياتين، وطلب العناية بهما معاً - وإن وجه إلى تغليب العمل للباقية منهما، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة} (1) .
وقال تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} (2) .
والإسلام شرع مقابلة السيئة بمثلها ردعاً للظلم، وكسراً لشوكته، ثم حث على العفو والصفح عن المسيء؛ ذلك أن الناس يختلفون في طباعهم، فمنهم اللين المتسامح، ومنهم الشديد الصعب. فشرع الإسلام لهذا وذاك وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (3) .
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (4) .
أما ما جاء في النصرانية فلا يصلح توجيهاً عاماً لكل الناس ذلك أن مطالبة الإنسان بمحبة عدوه ومباركة لاعنيه أمر قد لا تطيقه بعض النفوس، كما قد لا تحتمل السكوت على الضرب؛ ولذلك جاءت الشريعة الإسلامية بمنهج وسط. العقوبة بالمثل وفتح الباب للعفو والصفح.
على أن معاملة المعتدين والمجرمين بمثل هذا الأسلوب المتساهل، وتركهم دون معاقبة أو تأديب فيه تشجيع لهم على المضي في سلوكهم إلى آخر مدى؛ ولذلك كان التشريع الإسلامي تشريعاً مناسباً في كل زمان ومكان والحمد لله.
سادساً: دور اليهود:
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 32.
(2) سورة القصص، الآية 77.
(3) سورة الشورى، الآية 40.
(4) سورة النحل 126.(44/250)
وليس غريباً بعد الذي تقدم - كما جاء في الثورة الفرنسية - أن يكون اليهود وراء الدعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وذلك من أجل السيطرة، ومن أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.
هذه أهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهور هذا الفكر الجاهلي، والذي هيمن على أوروبا كلها، وأصبح يحمل شعارات الإلحاد والفوضى الأخلاقية عناداً للكنيسة ورجالها.
والحق أَنَّ هذه الأسباب وتلك الظروف ليست مبررة لابتعاد النصارى وغيرهم عن الدين، وإنما يجب عليهم أن يبحثوا عن الدين الصحيح، والإسلام هو دين الله الحق الذي ارتضاه للناس جميعاً، وهو دين العلم للعالم كله، كما أثبت العلم بكل فروعه أنه لا يعادي هذا الدين ولا ينافيه، بل يسير في ركابه ويكشف جوهره الثمين للناس.
وفكرة أن العلم لا صلة له بالدين وأن الدين يحارب العلم، هى الفكرة السائدة في الغرب طيلة القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر الميلاديين، ومع إطلالة القرن العشرين بدأت بوادر التفاهم والمصالحة بين رجال الكنيسة والاتجاه الجاهلي، وانتهت بتنازلات كبيرة من الطرفين إلى أن دخلت الأحزاب الدينية النصرانية مجالات السياسة في بعض الدول الغربية.
المبحث الثاني
آثار العلمانية في الغرب(44/251)
وعلى الرغم من أن الحضارة العلمانية الغربية قد قدمت للإنسان كل وسائل الراحة وكل أسباب التقدم المادي، إلا أنها فشلت في أن تقدم له شيئاً واحداً وهو السعادة والطمأنينة والسكينة، بل العكس قدمت للإنسان هناك مزيداً من التعاسة والقلق والبؤس والتمزق والاكتئاب، وذلك لأن السعادة والسكينة أمور تتعلق بالروح، والروح لا يشبعها إلا الإيمان بخالقها، والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} (1) أي جعل الطمأنينة والوقار في قلوب المؤمنين الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما أطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيماناً مع إيمانهم.
وكيف تنزل السكينة في قلوب أناس أقاموا حضارتهم على غير أساس من الإيمان بالله تعالى وشرعه؟
بل الذي يحصل لهم هو مزيد من القلق والتعاسة والضيق والخوف يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (2) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام": يقول تعالى: "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به".
في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} .
__________
(1) سورة الفتح، الآية (4) .
(2) سورة الأنعام، الآية (125) .(44/252)
قال الإمام الطبري - رحمه الله -: "ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى لشغله بكفره، وصده عن سبيله، يجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه حرجاً، والحرج: أشد الضيق. وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة، ولا يدخله نور الإيمان لرين الشرك عليه".. وقوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} قال: وهذا مثل ضربه لله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه يقول: فمثله في امتناعه عن قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه.
وقوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بينا لك يا محمد في هذه السورة وغيرها من سور القرآن، هو صراط ربك، يقول: طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه ديناً، وجعله مستقيماً لا اعوجاج فيه فاثبت عليه وحرّم ما حرمته عليك، وأحلل ما أحللته لك، فقد بينا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته لقوم يذّكرون.. وخصَّ بها الذين يتذكرون؛ لأنهم هم أهل التمييز والفهم، وأولو الحجا والفضل".أ. هـ
وبهذا يتبين لنا حالة القلق الرهيب التي تعيشها المجتمعات التي تسير على غير هدى الله وشرعه، على الرغم من تقدمها المادي، ووصولها إلى أرقى أساليب التقنية الحديثة.
وهذا ما أيده الواقع الملموس في البلاد التي ابتعدت عن شرع الله، فالإنسان إنما يكون في حالة طيبة نفسياً وبدنياً عندما تقوى صلته بالله تعالى، ويلتزم بأوامره ويجتنب نواهيه.(44/253)
ولذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "في القلب شعث - أي تمزق وتفرق - لا يلمهُ إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً".
إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الغربية كان - ولا يزال - من أهم الأسباب التي أدت إلى الإفلاس والحيرة والضياع.
وإن مما نتج عن ذلك مما هو مشاهد وملموس ما يلي:
1- الولوغ والانغماس في المشروبات الروحية والإدمان على المخدرات.
2- الأمراض العصبية والنفسية.
3- الجرائم البشعة بمختلف أنواعها كالسرقات، والاغتصاب، والشذوذ الجنسي، والقتل وغيرها.
4- تأجيج الغرائز الجنسية بين الجنسين.
5- انتشار الأمراض المخيفة كالزهري، والسيلان، وأخيراً يبتلي الله تلك المجتمعات بالطاعون الجديد وهو مرض "الإيدز".
6- الانتحار.
إن الغرب يعيش حياة الضنك والقلق، فلا طمأنينة له ولا راحة، ولا انشراح لصدور أهله، بل صدورهم في ضيق وقلق وحيرة، وما ذلك إلا لضلالهم وبعدهم عن الله، وإن تنعموا ظاهراً في الحياة الدنيا.
قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (1)
قال ابن كثير رحمه الله: "أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة".
__________
(1) سورة الروم، الآية (7) .(44/254)
وقال تعالى: { ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) .
أما الزواج فقد قل في المجتمعات الغربية - إن لم يكن قد ندر - وفترات الاختيار التي تسبقه قد تمتد سنين، وفي هذه الفترة يمارس فيها الزنا والفحش، وغالباً ما تنتهي فترات الاختيار بالاكتفاء بما حصل فيها، ثم الانتقال إلى اختيار آخر أو العدول عن فكرة الزواج إلى فكرة المعاشرة الحرة الاختيارية بينهما دون أعباء الزواج.
وحتى إذا اختاروا الزواج فهم ينفرون من الأطفال، وقد بلغ الأمر أن أكثرهم إذا رزق باطفال فإنهم غالباً لا يصحبونهم في فترات الفسح في نهاية الأسابيع حتى يستمتعوا وحدهم بالفسحة دون ضجيج الأولاد.
أما المجتمع فهو يعاني من التفكك والانحلال، وانعدام العلاقات بين الجيران حتى إن الواحد إذا مات لا يُعرف إلا من رائحته النتنة التي تتصاعد بعد أيام من موته.
وإن العلاج الناجع لتلك الأمراض التي تعاني منها المجتمعات الغربية وغيرها، إنما يوجد في تطبيق الإسلام، عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، على جميع الأفراد والجماعات؛ إذ هو الدين الذي ارتضاه الله، واصطفاه وحده للناس جميعاً في كل زمان ومكان وهو – سبحانه - أعلم بما يصلح أمور خلقه في دنياهم وآخرتهم.
__________
(1) سورة طه، الآيتان (123-124) .(44/255)
تابع العلمانية وموقف الإسلام منها
الفصل الثالث
الإسلام يتنافى مع العلمانية
مما سبق يظهر لنا أنَّ العلمانية ظهرت في أوروبا نتيجة لظروف خاصة بعضها يتعلق بالكنيسة وديانتها المحرفة، وطغيانها الأعمى في شتى المجالات الدينية والاقتصادية والسياسية، وبعضها يتعلق بتعاليم النصرانية نفسها ودور اليهود.
وتلك الظروف لا تنطبق على الإسلام؛ وذلك لأسباب أبرزها وأهمها ما يلي:
1- أنَّ أول ما يلاحظ في دين أوروبا هو التحريف الذي أصاب العقيدة والشريعة. عقيدة التثليث المضطربة، والأناجيل المحرفة والمتناقضة، ثم النظرة القاصرة التي فصلت الدين عن الدولة والحياة، وحصرته في الأديرة والكنائس.
أما الإسلام فهو عقيدة، وشريعة دين ودولة، حيث وضع نظاماً كاملاً ومحدداً لكل شأن من شئون الحياة.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) .
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية:
قال ابن مسعود: "قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء"، وقال مجاهد: "كل حلال وكل حرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ماسبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ومعاشهم ومعادهم..".
وقد تكفل الله تعالى بحفظ هذا القرآن من التغيير بخلاف الكتب السابقة قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
2- أَنَّه ليس في الإسلام كهنوت (3) ولا واسطة بين الخالق وخلقه، وبإمكان أي مسلم في أي مكان وفي أي زمان، من ليل أو نهار أن يتصل بربه بلا كاهن ولا قسيس.
__________
(1) سورة النحل، الآية (89) .
(2) سورة الحجر، الآية (9) .
(3) الكهنوت رجال الدين عند اليهود والنصاري ونحوهم. انظر: المعجم الوسيط (2/803) .(44/256)
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) .
وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) .
والإسلام إنما جاء لتحرير العباد، من عبودية العباد إلى عبادة ربِّ العباد دون من سواه، ولا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى كائناً من كان.
قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) .
والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إنما بعثوا بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) .
وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5) .
وقال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (6) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية (186) .
(2) سورة آل عمران، الآية (135) .
(3) سورة آل عمران، الآيتان (79-80) .
(4) سورة النحل، الآية (36) .
(5) سورة الأنبياء، الآية (25) .
(6) سورة الزخرف، الآية (45) .(44/257)
وقال تعالى إِخباراً عن الملائكة الكرام: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (1) .
فالإسلام إنما جاء لإخراج الناس من عبادة البشر إلى عبادة الله وحده، ولذلك قال ربعي بن عامر - رضي الله عنه - لرستم قائد جيش الفرس: "إن الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ... ".
3-والإسلام يقرر أنه لا عصمة لبشر إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه، وبعد ذلك فالكل سواء رجل دين أو رجل دنيا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) ، وبذلك سد الإسلام الباب أمام نظام الكهانة الذي ابتدعه القساوسة، ولم يعترف بوجود طبقة ممتازة يدعي رجال الدين أن لها عصمة أو قداسة، وأساس التحاكم بين جميع الناس هو كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (3) .
4- أَنَّه ليس في الإسلام صراع أو خصام بين الدين والعلم، كالذي حدث بين الكنيسة ورواد الفكر الغربي في عصر النهضة، بل إن الإسلام على العكس من ذلك فيه انسجام تام بينهما، ودعوة جادة من الإسلام للعلم والتعليم.
إن طلب العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة ولم يقيد حرية العلماء والباحثين، فقد دعا القرآن إلى العلم في كثير من الآيات البينات.
__________
(1) سورة الأنبياء، الآية (29) .
(2) سورة الحجرات، الآية (13) .
(3) سورة النساء، الآية (59) .(44/258)
وفي رحاب القرآن الكريم، وبتوجيه منه قامت في العالم نهضة علمية، ووصل العلماء من خلاله إلى كثير من الابتكارات العلمية في مختلف المجالات؛ كالطبيعة والكيمياء والفلك والطب وغيرها.
وقد أشاد القرآن الكريم بمنزلة العلماء قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) .
وقد قرنهم الله تعالى بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيته تعالى؛ قال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
كما أن أول نزول القرآن الكريم على النبي - صلى الله عليه وسلم -قد نوه بقيمة القراءة والتعليم؛ قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر، الآية (28) .
(2) سورة آل عمران، الآية (18) .
(3) سورة العلق، الآيات (1-5) .(44/259)
والعلم في الإسلام عام وشامل، يقوم على استغلال طاقات الإنسان والكون بما يحقق للإنسانية الرخاء والاستقرار، وذلك يشمل جميع المعارف التي تحتاج إليها البشرية، سواء أكان مصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية، كعلوم الدين من العقيدة والتفسير والحديث والفقه والدعوة وغيرها، أم كان مصدرها التجربة والنظر في الكون والحياة؛ كالرياضيات والكيمياء وعلوم الطب والفيزياء والهندسة وغيرها، وهذا الشمول دلت عليه نصوص كثيرة؛ منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله به طريقاً إلى الجنة" (1) .وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (2) .
ومما يدل على أنه لا مجال للصراع بين الدين والعلم في الإسلام، أنه لم يحدث في التاريخ الإسلامي أن عالماً يبحث في الطب أو يبحث في الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء، وجد نفسه معزولاً عن العقيدة الإسلامية، أو وجد أنها تعطله عن البحث العلمي الدقيق، وإنما عاش العلم في ظلال العقيدة.
5- ليس في الإسلام تعاليم فات أوانها، أو أحكام انقضى زمنها. إن كل مافي الإسلام حيٌ دائماً، متجدد دائماً، صالح للتطبيق في كل زمان ومكان إلى أن تعود الحياة إلى ربها. والإسلام بهذا الشمول، وبهذه المرونة قد كفل لأحكامه التطبيقية النمو والتجدد على مدى الأزمان.
__________
(1) صحيح مسلم (4/2074) كتاب الذكر والدعاء ... حديث (2699) وسنن الترمذي كتاب العلم حديث (2646) وابن ماجه المقدمة رقم (225) ومسند الإمام أحمد المكثرين رقم (7118) .
(2) صحيح مسلم (3/1255) كتاب الوصية حديث (1631) وسنن أبي داود كتاب الوصايا حديث (2494) وسنن الترمذي كتاب الأحكام حديث (1376) والنسائي كتاب الوصايا حديث (3651) ومسند الإمام أحمد المكثرين حديث (7842) .(44/260)
قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} (3) .
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - عند تفسيره للآية الأخيرة:
"هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل الله تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم - صلوات الله وسلامه عليه - ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف".
وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4) .
6- أَنَّ الملاحظ أن الموطن الذي ولد فيه الفكر العلماني - وهو إنجلترا وفرنسا وألمانيا - لم يأخذ بالاتجاه العلماني في التطبيق في الحياة العلمية، فالتاج البريطاني لم يزل حامياً للبروتستانت، وفرنسا لم تزل حامية للكثلكة في صورة عملية، والدولة في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا على الرغم من أنها علمانية - تساعد المدارس الدينية من ضرائبها الخاصة التي تجبيها من المواطنين، مع علمها باستقلال هذه المدارس في برامجها التعليمية.
جاء في صحيفة المدينة المنورة العدد (12227) :
__________
(1) سورة الأنعام، الآية (38) .
(2) سورة النحل، الآية (89) .
(3) سورة المائدة، الآية (3) .
(4) سورة الأنعام، الآية (115) .(44/261)
إن العلمانية في مفهوم المجتمع الغربي لا تعني التحرر من الدين ونبذه كما يتوهم البعض في عالمنا الإسلامي، ففي حرب "الفولكلاند" الشهيرة التي حدثت بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982م نقل التليفزيون البريطاني صوراً لرئيسة الوزراء -آنذاك- وهى تذهب إلى الكنيسة مصلية وداعية، وأثناء حرب الخليج اتصل الرئيس الأمريكي – السابق - "جورج بوش"باثنين من رجال الدين أبلغهما أنه يصلي من أجل السلام، وإن الرجال الثلاثة صلوا معاً، وهذا الأمر لا يقتصر على الرؤساء، بل يشمل الأحزاب كذلك، فهذا حزب العمال البريطاني يبدأ مؤتمره السنوي بالصلوات المسيحية في الكنيسة، وممن عرفوا بتدينهم في هذا الحزب: النائب العمالي السابق "إريك هيفر"وكان محسوباً على اليسار المتشدد في الحزب نفسه وكان - أيضاً - عضواً عاملاً في الكنيسة، وألف قبل وفاته كتاباً عن الديانة المسيحية.
وقد حضرت "تاتشر"رئيسة وزراء بريطانيا - آنذاك - صلاة تخصه بعد وفاته، ولما سئلت: ما الذي يجمعها بشخص مثل "هيفر"؟
أجابت فيما معناه: هو التوجه الديني المسيحي.
وكذلك شوهد "ديفيد أوين"وزير خارجية بريطانيا العمالي السابق في عهد حكومة جيمس كالاهان وهو داخل الكنيسة متأملاً ومتعبداً.
وقد كان "جورتوماس"المتحدث باسم مجلس العموم البريطاني لفترةطويلة يعمل واعظاً في الكنيسة إضافة إلى عمله.(44/262)
هذه أمثلة قليلة ولكنها ذات دلالة ومعنى، وهى تكشف جهل كثير من العلمانيين في عالمنا الإسلامي، وتخبطهم في مفهوم العلمانية الذي أولعوا به. وإذا كانت هذه الفئة المحسوبة على المسلمين تجعل التجرؤ على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من باب حرية الكلمة، فإنها تجهل أن حرية الكلمة في الغرب لا تجيز التجديف ضد الديانة المسيحية، وإن من يفعل ذلك يتعرض لعقاب صارم، ومناهضة شديدة من قبل المؤسسات الرسمية والشعبية على حدٍّ سواء، وإذا كان هذا البعض يتوهم أن التنصل من ثوابت عقيدته الإسلامية السمحة يجعله عظيماً في عيون الآخرين، فإن العكس هو الصحيح؛ فالأمم لا تحترم من ينبذون تعاليم دينهم أو يتجرأون عليه زوراً وبهتاناً.
الفصل الرابع
عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي وآثارها السيئة عليه
المبحث الأول
عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي
بدأت فكرة العلمانية تغزو العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان لكنها لم تتمكن إلا في بداية القرن العشرين الميلادي، حين طبقت - على مستوى الدولة - على أنقاض الخلافة العثمانية ثم سرت إلى أكثر بلدان العالم الإسلامي وكانت هناك عدة عوامل رئيسية ساعدت على ظهور انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي أهمها:
أولاً: انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة، ومن هنا كثرت البدع والخرامات والشعوذة والأهواء وقلَّ الفقه في الدين بينهم.
ومن انحراف بعض المسلمين عن عقيدتهم ظهور الفرق الصوفية
بينهم، وكان من الأخطاء الأساسية في الفكر الصوفي النظرة العدائية إلى الحياة الدنيا تلك التي يبدو أنها متأثرة بالفكر البوذي والفلسفات المنحرفة.(44/263)
وحدث أن أقبل العامة بقيادة المتصوفين على الطقوس والأوراد. وهذا الخلط الصوفي الأحمق يعتبر أول تصدع أصاب كيان الأمة الإسلامية، وهذا الانحراف العقدي وقع قبل احتكاك الغرب اللاديني بالشرق، بل قبل قيام الدولة العثمانية، وفي آخر عهد العثمانيين ازداد الأمر سوءاً وتطورت الانحرافات حتى توهم الناس أن العبادة هي ما يأمر به المشايخ والأولياء من البدع، ووقعت الأمة في شرك حقيقي، وذلك بما يمارسه الناس من بدع الأضرحة والمشاهد والمزارات، وتقديس الموتى والاعتماد عليهم في جلب النفع ودفع الضرر، ووصل الأمر إلى حالة مزرية جداً حين كانت جيوش المستعمرين تقتحم المدن الإسلامية، والمسلمون يستصرخون بالأسياد أو الأولياء الذين قد مضى على وفاتهم مئات السنين.
ومن ذلك قول بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر
لوذوا بقبر أبي عمر
وقال:
عوذوا بقبر أبي عمر
ينجيكم من الضّرر
ولذلك يقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عنهم:
"وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد من غيرهم، حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله، والغضب والغيرة لمحارم الله، مالا يوجد فيهم، حتى إِنَّ كثيراً منهم يعدون ذلك - أي الجهاد - نقصاً في طريق الله وعيباً".
بل ربما يظنون أن الذكر والتفكر والفناء والبقاء هو الأصل والأهم".
ثانياً: الاستعمار الغربي والشرقي:(44/264)
لقد تعرض العالم الإسلامي لهجمات قوية من قبل أعدائه عبر عصور التاريخ، ولكن لما كان المسلمون متمسكين بدينهم وأكثر استعداداً للجهاد في سبيل الله، استطاعوا أن يردوا حملات أعدائهم، ولكن لما ضعف المسلمون وكثرت فيهم البدع والخرافات واجتالتهم الطرق الصوفية، ولجأ بعضهم إلى التعلق بالقبور والتمسح بها والذبح لها ودعاء الموتى، واستسلم بعضهم إلى ملذات الدنيا، والبعض الآخر بدأ يتشبث بالأفكار الوافدة، وقعدوا عن الجهاد، بعد ذلك انقض عليهم الأعداء من كل جانب ولم تنته الحربان العالميتان إلا والعالم الإسلامي غالبه تحت السيطرة الغربية النصرانية أو الروسية الشيوعية.
عدا المملكة العربية السعودية التي حماها الله تعالى من الاستعمار والاحتلال، وذلك لأن هذه البلاد حرم الإسلام، بها المدينتان المقدستان: مكة المكرمة دار القبلة ومهبط الوحي، والمدينة النبوية مأوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومأرز الإيمان، وقد أنعم الله عليها بدعوة التوحيد التي أعلنها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى- ونصرها الإمام محمد ابن سعود وأحفاده - رحمهم الله - ثم هيأ الله لها الملك عبد العزيز - رحمه الله - الذي جمع الكلمة ووحَّد الصف تحت راية التوحيد، وهذا هو السر في عدم دخول المحتلين هذه البلاد.
وكذلك أفغانستان وشمال اليمن لم يدخلهما الاحتلال - آنذاك - وذلك لتمسك أهلهما بالإسلام، ولوعورة مسالكهما، ولصلابة أهلهما في الدفاع ولكن لما كثر في أهل أفغانستان الخبث، وقل تمسكهم بالإسلام غزتهم الشيوعية الملحدة، ولكن لم يلبث المجاهدون الأفغان - ومعهم كثير من المسلمين - أن أعلنوا الجهاد في سبيل الله، ووقفوا أمام جحافل الكفر والإلحاد.
ونسأل الله الذي أخرج الشيوعيين من أفغانستان أن يجمع كلمة أهلها على الحق، وما فيه مصلحة أفغانستان المسلمة.
وفيما يلي نوّد اعطاء فكرة عن كل من الاستعمار الغربي والاستعمار الشرقي:(44/265)
أولاً: الاستعمار الغربي:
إن الاستعمار الغربي الذي سيطر على كثير من البلدان الإسلامية لم يكن مخططه أن يستغل خيرات تلك البلاد ويستعبد سكانها فحسب - كما يظن البعض - بل كان أهم مخطّطاته محاربة الإسلام، وتجهيل المسلمين بحقيقة دينهم بجميع الوسائل الممكنة له الظاهرة والخفية.
وإليك أهم الوسائل التي استعملها الاستعمار في محاربة المسلمين:
أ- نشر الثقافة الغربية على نطاق واسع، مع السعي في التخفيف من الثقافة العربية الإسلامية أو القضاء عليها إن أمكن ذلك ولو مع طول الزمن.
ب- تشجيع مدارس التبشير المسيحي، وتدوين مناهجها لكي ينصرف أبناء المسلمين إليها تاركين مدارسهم الإسلامية، وقد نجح في ذلك كله.
ج- تشجيع الطوائف المنحرفة التي تعمل باسم الإسلام في ميدان الدعوة كالقاديانية، وبعض الطوائف الصوفية؛ ليتمكن من ضرب الإسلام ودعوته من الداخل بأيد تنتمي إليه، تلهج بذكره، وهذا أخطر سلاح استعمله الاستعمار ضد الإسلام ودعوته.
هـ- اعتبار اللغة الإنجليزية لغة رسمية في كثير من البلدان العربية والإسلامية، مما جعل شباب المسلمين يقبلون على هذه اللغة في الوقت الذي يجهلون فيه لغتهم الأصلية، بل استطاع الاستعمار أن يحمل الشباب السذج على كراهية الإسلام وأهله بدعوة أنه دين تعصب، ودين تأخر، وانطلى هذا الكلام على شباب المسلمين؛ لجهلهم حقيقته فضلوا.
وبسبب الاستعمار والتبشير انتشرت المعتقدات العلمانية في العالم الإسلامي.
وقد حرص الغرب منذ وطئت أقدامه أراضي المسلمين على نشر العلمانية بأكثر من سبيل. وكان أهم مجالات نشرها ووسائلها فيما يلي:
1- في التعليم وله في ذلك أكثر من سبيل أهمها:
(أ) حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنوياً.
(ب) الابتعاث إلى الدول غير الإسلامية وحقق ذلك الابتعاث نتائجه المقصودة.
(ج) نشر المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية.
(د) تمييع المناهج الإسلامية باسم التطور.(44/266)
(هـ) نشر الاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم وقد بدأوا بها في الجامعات.
2- في الإعلام والإعلام يخاطب الملايين من الناس ببرامجه، وأكثر هذه الملايين ساذجة تؤثر فيها الكلمة مقروءة أو مسموعة أو منظورة.
3- إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق.
ومما يدل على دور الاستعمار الغربي في نقل العلمانية إلى البلدان الإسلامية أن أول عمل قام به الإنجليز في الهند هو إلغاء الشريعة الإسلامية، وأول عمل قام به نابليون في مصر هو تعطيل الشريعة الإسلامية، وإحلال القانون الفرنسي محلها، وأول عمل قام به المخطط اليهودي الصليبي في تركيا هو إلغاء الشريعة الإسلامية ثم إعلان تركيا دولة لادينية.
"وأخيراً غادر المستعمرون ديار المسلمين بعد أن خلفوا على تركتهم ورثة مخلصين؛ ليحافظوا عليها، ولأنهم يتمكنون من العمل في صالحهم أكثر مما يتمكنون هم بأنفسهم".
ثانياً: الاستعمار الشرقي:(44/267)
يقول شيخنا الدكتور محمد أمان الجامي - رحمه الله -: "فبينما يعاني الدعاة تلك المعاناة من الاستعمار الغربي وورثته المخلصين إذا هم يفاجأون باستعمار من نوع آخر أشد ضراوة، وأشد حقداً على الدعوة الإسلامية وأهلها، وهو الاستعمار الشرقي الملحد، وكان ماكراً يظهر للغوغاوّيين نوعاً من الرحمة في أسلوب معسول يخدع السذج من الناس، فقد خدع الطبقة الفقيرة ووعدهم بثراء يأتيهم بين عشية وضحاها إذا آمنوا به، وأخلصوا له ليثيرهم ضد الأغنياء، وأصحاب الأموال الطائلة، وكان يضحك على سذاجة الفقراء، فيقول لهم: إن هؤلاء الإقطاعيين طالما ظلموكم، ونحن نريد أن نمنَّ عليكم، وننقذكم مما أنتم فيه من الفقر والحاجة، ونرفعكم إلى المستوى اللائق بكم؛ لتحقق بذلك العدالة الاجتماعية، حتى تعيشوا مع هؤلاء الأثرياء الإقطاعيين جنباً إلى جنب، ومن هنا طار الفقراء فرحاً وصفقوا لهم حتى كلت أيديهم من التصفيق، وهتفوا لهم بالبقاء: يعيش يعيش حتى بحت حناجرهم، فجعل الفقراء ينتظرون الثراء الموعود به من السادة المستعمرين الشيوعيين فلم يجدوا شيئاً بل الحالة تزداد سوءاً، فإذا المستعمرون يهجمون على أموال الأثرياء فيصادرونها باسم الفقراء، ولكن لم تنقل إلى خزائن الفقراء -كما كان يتوقع الفقراء - بل نقلت إلى الخزينة الخاصة لتشتري بها الضمائر الرخيصة، والأيدي الأثيمة لتسلط على دعاة الإسلام، وعلماء المسلمين بالتعذيب والتشريد والتقتيل لمحاولة القضاء على الدعوة وأهلها.
إن هذا الاستعمار الشرقي من مكائده أنه دخل المنطقة وهو ينادي ويهتف مع المواطنين: يسقط الاستعمار، يسقط الاستعمار، الاستعمار عدو الإنسانية إلى آخر الهتافات المضللة فاطمأن الغوغاويُّون، وهتفوا بحياة الرفيق المخلص على درب الحرية: الرفيق الرفيق، ولكنه لم يرفق بهم ولم يرحمهم.(44/268)
وهكذا. ولا يزال يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، ويهلك الحرث والنسل، ويكسب الأصدقاء من أناس من بني جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، وينتسبون إلى ديننا وإسلامنا، فيما يبدو للناس، وعلى الرغم من ذلك كله كان هذا الاستعمار هو صديق جمهور الغوغائيين؛ لأنه يمدنا بالأسلحة التي يحارب بها الاستعمار إنها من عجائب الدهر!! وهل هناك استعمار أظلم من هذا الاستعمار الذي لم يترك لنا ديناً ولا دنيا. {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1)
فما قيمة الأسلحة التي ندفع ثمنها ديننا وعقيدتنا؟؟ أفلا يعقلون!! ".إهـ
وهكذا صور لنا شيخنا محمد أمان – رحمه الله - حقيقة الاستعمار الشرقي الشيوعي، الذي قام على تضليل السذج والغوغاويّين من الناس، فلما مكنوه من الأمر، وجدوا أنفسهم أنه قد سلبهم دينهم ودنياهم.
قال الشاعر:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجلِ
ثالثاً: الغزو الفكري:
وذلك بمحاولة إبعاد المسلمين عن دينهم بوسائل مختلفة، وتحت أسماء خادعة رقيقة مثل: "التغريب، التحديث أو الحداثة، التمدين، التحضر، التغيير الاجتماعي، وعملت العلمانية في مجالاتها، وشقت طريقها في مجاريها".
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: "الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة.
وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة، ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحبُّ ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه.
__________
(1) سورة الحج، الآية (46) .(44/269)
وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه؛ ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً..".
رابعاً: المستشرقون:
سلك المستشرقون طرقاً عديدة في الوصول إلى أغراضهم ومنها:
1- التدريس الجامعي.
2- جمع المخطوطات العربية وفهرستها.
3- التحقيق والنشر.
4- الترجمة من العربية إلى اللغات الأوروبية.
5- التأليف في شتى مجالات الدراسات العربية والإسلامية، بالإضافة إلى الاشتراك في بعض المجامع اللغوية، والمجامع العلمية في العالم الإسلامي.
ولكن أخطر وسائلهم على الإطلاق كانت هى: التأليف حيث ألفوا كثيراً من الكتب التي تطعن في الإسلام ومنها كتاب "حياة محمد"للسير ولين مور، و"الإسلام"للفردجيوم، و"الإسلام"لهنري لامنس، و"دعوة المآذنة"لكينيت كراج، و"ترجمة القرآن"لآربري، و"الإسلام"لصموئيل زويمر (1) و"مصادر الإسلام"لتسدل، ومن أخطر الكتب التي بثها المستشرقون: دائرة المعارف، وقاموس المنجد، والموسوعة الغربية الميسرة.
وما كتبه المستشرقون عن الإسلام قد اشتمل على الكثير من الافتراءات إما عمداً عن حقد وقصد إلى إضعاف عقيدة المسلمين - وهو الأرجح - وإما جهلاً منهم بالمصادر الإسلامية، ساعد عليه جهلهم بلغة الإسلام اللغة العربية.
وتتلخص جهود المستشرقين في هذا المجال فيما يلي:
1- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.
2- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه، وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.
3- الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني.
__________
(1) زويمر صمويل (1867-1952م) رئيس المبشرين في الشرق الأوسط، تولىتحرير مجلة العالم الإسلامي التي أنشأها مع ماكدونلد، وله مصنفات في العلاقات بين المسيحية وبين الإسلام أفقدها بتعصبه واعتسافه وتضليله قيمتها العلمية. المستشرقون لنجيب العقيقي3/138.
ولم أقف على تراجم لبقية هؤلاء المستشرقين.(44/270)
4- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.
5- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.
6- تشويه الحضارة الإسلامية وتاريخها.
7- تضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي، والزعم بأنها حركات إصلاح.
8- إحياء الحضارات القديمة.
9- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.
10- تربية الأجيال تربية لا دينية.
وقد انتشرت هذه المعتقدات مع الأسف في العالم الإسلامي.
خامساً: المنصّرون:
كما أن للمستشرقين والمنصرين أهدافاً مشتركة لهم وسائل متداخلة، ويمكن القول بأن ميدان المستشرقين الأساسي هو الثقافة والفكر، بينما يركز المنصرون جهودهم في النواحي الاجتماعية والتربوية.
وقد نقل المنصّرون العلمانية من خلال نشراتهم وكتبهم، ومن خلال
التمثيليات والأفلام، ومن خلال المدارس المختلفة التي بدأت بالأجنبية، ثم كان تأثيرهم على مناهج التعليم الوطنية.
ووسائل المنصرين في هذا المجال كثيرة جداً نذكر منها:
1- استخدام الطب كوسيلة للتنصير.
2- استخدام أعمال الخير والخدمات الاجتماعية: كإنشاء ملاجئ للأيتام، ومراكز رعاية اجتماعية للفقراء والمحتاجين.
3- استخدام الطلبة وعامة الناس في التنصير.
4- استخدام الرشوة.
5- استخدام المكتبات والصحافة.
6- استخدام النوادي والجمعيات.
7- الاهتمام بالمرأة المسلمة وذلك بمحاولة إبعادها عن عقيدتها وإغرائها بتقليد المرأة الغربية.
8- المؤتمرات المشتركة.
9- البعثات الخارجية.
10-إنشاء المحاضن والمدارس والجامعات الأجنبية.
11-استخدام القوة أحياناً.(44/271)
إلى غير ذلك من الأساليب التي استخدمها المنصرون في الوصول إلى غاياتهم المكشوفة؛ كبناء الكنائس، وتوزيع الأناجيل، وإقامة الندوات، والاهتمام بإفساد الريف الإسلامي - الذي يتميز عادةً بالمحافظة على القيم الإسلامية - والسيطرة على وسائل التربية والإعلام واستخدامها في سمومهم، وتوهين العقيدة الإسلامية في النفوس، مع صرف العناية إلى الأطفال، والنفاذ إلى عقولهم من خلال تلك الوسائل.
سادساً: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية:
وذلك كالنصارى، واليهود، والشيوعيين، وأصحاب الاتجاهات المنحرفة من جمعيات وأحزاب ونحوهم، وكل هؤلاء لاينعمون بضلالتهم وانحرافهم وفسادهم إلا تحت شعار كشعار ما يسمى بالعلمانية، لذلك تضافرت جهودهم على نشرها وبثها، والدعاية لها، حتى انخدع بذلك كثيرون من السذج، وأنصاف المتعلمين من أبناء المسلمين.
سابعاً: تقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي والقوة جعل كثيرين من المسلمين ينبهرون بذلك التقدم، ويعزونه إلى الاتجاه الجاهلي الحديث (العلماني) ، وصدقوا دون تفكير مزاعم الكفار بأن الدين معوق للعلم، وظنوا أن بلادهم لا تتقدم حتى تفصل الدين -الإسلام- عن الدولة والحياة، وهذا بلا شك جهل بالإسلام جنى ثماره النكدة أكثر المسلمين.
ثامناً: البعثات إلى الخارج:
إن الطلاب الذين يذهبون من أبناء المسلمين إلى الدول غير الإسلامية، ولم تكن لديهم الحصانة الكافية من عقيدتهم، إن هؤلاء من أخطر الوسائل؛ لأن كثيراً منهم تعلقوا بقيم الغرب أو الشرق ومثله وعاداته، وقد عاد هؤلاء إلى بلدانهم وهم يحملون ألقاباً علمية وضعتهم في مناصب التوجيه، ونظر الناس إليهم على أنهم قدوة؛ لأنهم وطنيون.
المبحث الثاني
آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي
وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم.(44/272)
وإليك بعض الآثار السيئة التي جنتها المجتمعات الإسلامية من تطبيق العلمانية:
1- رفض التحاكم إلى كتاب الله تعالى، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن كافة مجالات الحياة، والاستعاضة عن ذلك بالقوانين الوضعية المقتبسة عن أنظمة الكفار، واعتبار الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تخلفاً ورجعية.
2- جعل التعليم خادماً لنشر الفكر العلماني وذلك عن الطرق التالية:
أ- بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية.
ب- تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن، وتكون في آخر اليوم الدراسي وقد لا تؤثر في تقديرات الطلاب.
ج- منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم وتزييف ضلالاتهم.
د- تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل لا تعارضه.
3-إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة، وهم المسلمون، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد، وصهر الجميع في إطار واحد. فالمسلم والنصراني، واليهودي، والشيوعي، والمجوسي، والبرهمي، وغيرهم يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني.
4- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية وذلك عن طريق:
أ- القوانين الوضعية التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها.
ب- وسائل الإعلام المختلفة التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة.
ج- محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات.(44/273)
إن أعداء الإسلام لم يكتفوا بإبعاد الشريعة الإسلامية عن مجالات الأنظمة السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية فحسب، بل تمادوا في الاعتداء على أنظمة الأسرة المسلمة، وهذا أمر في غاية الخطورة؛ لأن تلك الأنظمة جاءت ملائمة لطبيعة الإنسان وغرائزه، حتى لا يحيد ويصرف تلك الغرائز في المحرمات، ولذا فإن الله تعالى أمر بالزواج؛ فقال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ... } (1) وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً…} (2) .
وعن أبي هريرة وأبي حاتم المزني - رضي الله عنهما - قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (3) ، ووجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب بقوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج" (4) .
وحرم الإسلام الزنا وحذر من الاقتراب منه؛ قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (5) .
__________
(1) سورة النور، الآية (32) .
(2) سورة الروم، الآية (21) .
(3) سنن الترمذي 3/395 كتاب النكاح رقم الحديث (1085) وسنن ابن ماجه 1/632 كتاب النكاح رقم الحديث (1967) واللفظ له.
(4) صحيح البخاري بشرح الفتح 9/106 كتاب النكاح رقم الحديث (5065) وصحيح مسلم 2/1018 كتاب النكاح رقم الحديث (1400) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه.
(5) سورة الإسراء، الآية (32) .(44/274)
وأمر الله المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم، وحفظ فروجهم، وفرض الحجاب على المرأة المسلمة، ومنعها من التبرج وإظهار محاسنها ومفاتنها، وذلك صيانة لكرامتها، وحفاظاً على عفتها، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ} (2) .
وحرم الإسلام الخلوة بالأجنبية، ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" (3) .
فالله سبحانه وتعالى جعل للأسرة المسلمة نظاماً متكاملاً، يكفل لها الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ولذا فإن الله حينما يحرم علينا الفواحش والخبائث التي تضر بنا في ديننا ودنيانا، لا يريد حرماننا، وإنما يحافظ على ما فيه صلاحنا فيحل الطيبات لنا، وهو العالم بطبائع البشر، فلا يعرض الناس للفتنة للوقوع فيها، بل يسد أبوابها حتى لا يكلفهم مقاومتها، فهو دين وقاية للمجتمع، قبل أن يقيم الحدود ويوقع العقوبات عليها، وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
__________
(1) سورة النور، الآية (30) .
(2) سورة النور، الآية (31) .
(3) صحيح البخاري بشرح الفتح9/330-331 كتاب النكاح رقم 5233،ومسلم 2/978 كتاب الحج رقم (1341) واللفظ له.(44/275)
ولهذا نقول: ماذا يريد دعاة السفور، والمزينون للناس حب الشهوات؟! إنهم يريدون إطلاق الغرائز من عقالها، بالكلمة، والصورة، والقصة، والفلم، والمعسكر المختلط؛ ليوقعوا الفتاة المسلمة التي أعزها الله بدين الإسلام، وتعاليمه السمحة القيمة، التي تصونها من الوقوع في حبائلهم، حتى تصبح بضاعة مزجاة ساقطة لا قيمة لها، كما كانت في الجاهلية، فأعزها الله بالإسلام فحماها طفلة من الوأد الذي كان يمارس في حقها، فتدفن حية لا ذنب لها إلا أن الله خلقها أنثى {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (1) بل جعلها الإسلام حجاباً من النار لكافلها، ثم جعلها أختاً مصونة، وأماً كريمة، حث على البر بها، والإحسان إليها، هكذا تكون المرأة إذا كانت صالحة، وهي فتنة إن حادت عن هذا الطريق؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخبر أنه لم يترك فتنة أشد على أمته من الدنيا والنساء، فهى فتنة إذا تركت تعاليم دينها، وذهبت مع دعوات الذين يريدونها سلعة يعبث بها ذئاب البشر، باسم الحرية والمساواة الزائفة. إن العزة والكرامة في الدنيا والآخرة للمرأة المسلمة، المحافظة على تعاليم دينها، وإننا نجد بحمد الله في كثير من مجتمعات العالم الإسلامي عودة الفتاة المسلمة إلى تعاليم دينها، وأبرز ذلك ظاهرة الحجاب في تلك البلاد الإسلامية، وذلك ما يدعو إلى التفائل بعز هذا الإسلام ونصره، وذلك بعد أن جرب المخدوعون ما دعاهم إليه من يدعون إلى الحرية الزائفة، التي ظهر عوارها، وبان خداعها، فظهر الحق وهم كارهون، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
__________
(1) سورة التكوير، الآيتان (8، 9) .(44/276)
5- الدعوة إلى القومية أو الوطنية، وهى دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس، أو اللغة، أو التاريخ، أو المكان، أو المصالح، أو المعيشة المشتركة، أو وحدة الحياة الاقتصادية، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل الاجتماع ولمّ الصف، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعدُّ عاملاً من عوامل التفرق والشقاق.
ولا شك أَنَّ الفكرة القومية أو الوطنية وفدت إلى ديار المسلمين من الغرب، والذي احتضنها وغذاها ودعا إليها عقول غير إسلامية، وأشخاص ليسوا بمسلمين، ولقد كان ظهور الفكرة - سواء أكانت عربية أم طورانيّة - مصدر شر على جميع المسلمين، وزاد الأمر سوءاً عندما امتزجت القومية العربية مؤخراً بالاتجاهات الاشتراكية العربية الثورية.
ولقد أثارت الدعوة إلى القومية طوائف أخرى تعيش في المنطقة، ودفعتها لأن ترفع نفس الراية، ففي السودان دعا سكان الجنوب إلى بعث القومية الزنجية، وفي الشمال الإفريقي ارتفعت أصوات بقومية بربرية؛ كرد فعل للقومية العربية، وفي العراق دعا سكان الشمال إلى بعث القومية الكردية، وفي الهند ظهر مسلمون يفخرون بالانتساب إلى القومية الهندية.
وهكذا كانت الآثار القومية السيئة لا حد لها، وبدل أن تكون طريقا لوحدة عربية شاملة، كما زعم دعاتها، أصبحت من عوامل بث الاضطرابات والتفرق بين الأمة الإسلامية، خاصة عندما عرّج بها دعاتها على الاشتراكية الثورية، وأغرقوا الشعوب بسيل من الشعارات التي لا محتوى لها، ولا مضمون وراءها، كالتغيير الثوري، والحل الثوري، ومجتمع الكفاية والعدل والتقدمية والتحررية وغير ذلك من الشعارات الزائفة.(44/277)
ولا يفهم من هذا توهين علاقة الإنسان بقومه أو وطنه، فتلك من الفطرة البشرية المركوزة في جبلة الإنسان، وليست محبة الإنسان لوطنه وأمته وسعيه في سبيل تقدمها وازدهارها، والعمل على أن تكون كرامتها مصونة، وحصونها محمية، وإنما الإنكار على ابتعاد المسلم عن دينه وعقيدته، وحصر ولائه للقوم أو الوطن، والتحول إلى العصبية العمياء، التي تنتصر للقوم أو الوطن بالحق أو بالباطل، وعدم الاهتمام بالإسلام وقضايا المسلمين.
6-الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب وأخذ حضارته دون وعي ولا تمييز:
فقد قام بهذه الفكرة كثير من دعاة التضليل للأمة الإسلامية عند ضعف المسلمين وتفرقهم، حيث زعموا أن سبيل التقدم والنهضة، هو السير خلف ركاب الغربيين، والأخذ بمنهجهم وطريقتهم في كل شيء، حتى نكون مثلهم في الحضارة الحديثة، بخيرها وشرها، وما يحمد منها وما يُعاب.
ونتيجة لتلك الدعوات المغرضة من أدعياء الفكر، ذهب كثير من أبناء المسلمين إلى الدول الأوروبية، لإكمال تعليمهم، وغالباً مايتأثر هؤلاء الطلاب بعادات الغرب وأفكاره.
7- الزعم بأن الشريعة الإسلامية لا تتوافق مع الحضارة الحديثة:
وهذا الزعم جاء نتيجة لاحتكاك أبناء الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية الحديثة، فظنوا – جهلاً - أن الإسلام لا يتوافق مع الحياة العصرية، ولا ينسجم مع متطلبات الإنسان في هذا العصر.
بل قالوا إن الشريعة الإسلامية هى السبب في التخلف والرجعية، وأن السبيل إلى التخلص من هذا الداء، والنهوض بالأمة إلى التقدم والحضارة هو نبذ الإسلام وتعاليمه.
فهذه بعض الآثار والثمار السيئة والخبيثة التي انتهجتها العلمانية في البلاد الإسلامية التي تبنت العلمانية.(44/278)
"والعلمانيون في العالم الإسلامي يعرفون بالاستهانة بالدين، والتهكم والاستهزاء بالمتمسكين به، كما يعرفون بإثارة الشبهات، وإشاعة الفواحش (كالسكر، والتبرج، والاختلاط المحرم) ونشر الرذائل، ومحاربة الحشمة والفضيلة، والحدود الشرعية، والاستهانة بالسنن، كما يعرفون أيضاً بحب الفساق والكفار والإعجاب بمظاهر الحياة الغربية وتقليدها".(44/279)
تابع العلمانية وموقف الإسلام منها
الفصل الخامس
موقف الإسلام من العلمانية
المبحث الأول
حكم الإسلام من العلمانية
الإسلام يرفض العلمانية رفضاً قاطعاً سواء أكانت العلمانية بمعنى فصل الدين عن الحياة، أم بمعنى اللادينية؛ لأنها دعوة ضد الإسلام.
فالدولة في الإسلام ضرورة لابد منها، وذلك لإنفاذ الأحكام الشرعية، وصيانة الحقوق، ووصول الدين إلى أهدافه وأغراضه في حفظ الدين والنفوس والعقول والأعراض والمال وغيرها.
أمَّا إذا أبعد الإسلام عن الحكم وعطلت صلاحياته، فستصبح كثيرٌ من أحكامه وتشريعاته حبراً على ورق؛ لأنه لا يمكن تنفيذ تلك الأحكام من قبل الفرد وحده، وذلك كالجهاد في سبيل الله تعالى، وتنفيذ القصاص، وجباية الزكاة، وتأمين الطرق، ونشر الأمن، وفض الخصومات وما شابه ذلك.
إن الإسلام جاء عقيدة تنظم علاقة الناس بربهم، وشريعة تدير جميع شئون الحياة كلها، والدين عند الله تعالى هو الإسلام، والإسلام كما يدلُّ عليه اسمه هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك.
وقد شملت أوامر الله ونواهيه الحياة بأسرها، فليس هناك جانب من جوانب الحياة أو شيء من نظمها إلا ولله تعالى فيه حكم، فحياتنا العقدية، والاجتماعية، والتربوية والاقتصادية، والسياسية، وضع لنا أصول التعامل فيها، وفصل لنا بعض جوانبها تفصيلاً.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) .
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله-: "قال ابن مسعود: قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء. وقال مجاهد: كل حلال وكل حرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل نافع من خبر ماسبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم".
ويمكن إيضاح وبيان حكم الإسلام من العلمانية كما يلي:
__________
(1) سورة النحل، الآية (89) .(44/280)
1- العلمانية من الجانب العقدي تعني التنكر للدين وعدم الإيمان به، وترك العمل بأحكامه، وحدوده، وهذا كفر صريح.
2- العلمانية في الجانب التشريعي تعني فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن الحياة كلها، وهذا يعني الحكم بغير ما أنزل الله.
وقد فصل علماء العقيدة الحكم بهذا على النحو التالي:
أ- إذا وقع الحكم بغير ما أنزل الله تعالى والحاكم (سواء أكان فرداً أم مجموعة) يرى أن حكم الله غير صالح أو غير جدير، أو أن حكم القوانين أصلح وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس ... أو اعتقد أن حكم القوانين مساوية لحكم الله ورسوله، أو اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله ونحو ذلك فهو كفر اعتقاد مخرج عن الملة.
وهو من نواقض الإسلام، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: "من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر".
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -:(44/281)
"ويدخل في القسم الرابع - أي من نواقض الإسلام - من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام أو أنها مساوية لها أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى، ويدخل في الرابع أيضاً من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن، لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضاً كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة، لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرمه الله إجماعاً، وكل من استباح ما حرمه الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين".
ب- وإذا وقع الحكم عن جهل، أو ضعف، أو لهوى في نفس صاحبه، أو لغرض دنيوي، مع الاعتقاد بأن حكم الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم - أحق وأصلح وأجدر، وأنه أفضل من القوانين الوضعية فهذا كفر عملي، وهو فسق وظلم تقام الحجة على صاحبه، ويبين له الحق، ويجب على المسلم أن يتوب إلى الله تعالى، ويرجع إليه.
ويدل على ذلك فهم السلف لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) .
حيث قال ابن عباس - رضي الله عنهما:"ليس بكفر ينقل عن الملة"بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا (2) .
وقال طاووس مثله، وقال عطاء: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق".
__________
(1) سورة المائدة، الآية (44) .
(2) انظر: كتاب الإيمان لأبي عبيد بن سلام ص94 (ضمن رسائل أربع) . وتفسير الطبري (6/256) مدارج السالكين (1/364-365) .(44/282)
قال شارح الطحاوية: "وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة"وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافرا".
ومن المعلوم أن الحكم بما أنزل الله في الشريعة الإسلامية يعني الحكم بالكتاب والسنة على السواء.
كما يدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله-:
" ... أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى، أو لرشوة، أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أو لأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاص لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر ويعتبر قد أتى كفراً أصغر وظلماً أصغر وفسقاً أصغر، كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن طاووس وجماعة من السلف الصالح وهو المعروف عند أهل العلم".
3-والعلمانية من الجانب الأخلاقي تعني: الانفلات والفوضى في إشاعة الفاحشة والرذيلة والشذوذ، والاستهانة بالدين والفضيلة، وسنن الهدى، وهذا ضلال مبين وفساد في الأرض، ومن العلمانيين من يرى أن السنن والآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية إنما هى تقاليد موروثة. وهذا تصور جاهلي منحرف.
__________
(1) سورة النساء، الآية (59) .(44/283)
إن العلمانية في حكم الإسلام دعوة مرفوضة؛ لأنها دعوة إلى حكم الجاهلية، أي إلى الحكم بما وضع البشر، لا بما أنزل الله، والله تعالى يقول في محكم كتابه العزيز:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
يقول ابن كثير -رحمه الله- عند قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} : أي فاحكم يا محمد بين الناس: عربهم، وعجمهم، أُمِّيِّهم وكتابِيِّهم بما أنزل الله إليك هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء، ولم ينسخه في شرعك".
__________
(1) سورة المائدة، الآيات (48-50) .(44/284)
وقال رحمه الله عند قوله تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} : "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله؛ كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم … ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء".
ومن الآيات المبينة لأصول الحكم وقواعده:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1) .
وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (2) .
__________
(1) سورة النساء، الآيتان (58-59) .
(2) سورة آل عمران، الآية (159) .(44/285)
وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (1) .
يقول ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند الآية الأخيرة: "يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً" ولهذا قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} :أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ... ".
وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (2) .
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
إلى غير ذلك من الآيات في هذا الخصوص.
ومن نصوص السنة التي تتعلق بالحكم مايلي:
1-عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنما الإمام جُنَّة (4) يقاتل من ورائه ويتقى به (5) ... ".
__________
(1) سورة النساء، الآية (65) .
(2) سورة النور، الآية (51) .
(3) سورة آل عمران، الآية (85) .
(4) الإمام جنة أي: كالستر؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته. شرح النووي على مسلم (12/230) .
(5) ومعنى يتقى به: أي يتقى به شر العدو وشر أهل الفساد والظلم مطلقاً.(44/286)
2-وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أتى ابن مطيع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية" (1) .
3-وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعنى، ومن يعص الأمير فقد عصاني" (2) .
4-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة (3) عليك" (4) .
5-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" (5) .
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى لا يقع بينهم خلاف.
6-وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ... لايحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم ... " (6) .
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "فإذا كان - أي النبي صلى الله عليه وسلم - قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولي أحدهم كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك".
__________
(1) صحيح مسلم (3/1478) كتاب الإمارة حديث (1851) .
(2) صحيح البخاري بشرح الفتح 6/116كتاب الجهاد رقم الحديث (2957) صحيح مسلم (3/1466) كتاب الإمارة حديث (1835) .
(3) الأثرة هى الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، اي أسمعوا وأطيعوا، وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم.
انظر: شرح النووي على مسلم (12/225) .
(4) صحيح مسلم (3/1467) كتاب الإمارة حديث (1836) .
(5) سنن أبي داود (3/81) كتاب الجهاد حديث (2608- 2609) .
(6) سنن أبي داود (3/81) ومسند الإمام أحمد (2/177) واللفظ له.(44/287)
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة التي تدل على أنه لابد من إقامة حاكم يرعى حقوق الله تعالى، ويصون حقوق الناس، ويسوس الأمة بالعدل، وينصف المظلوم، ويؤدي لكل ذي حق حقه.
وأنه يجب له السمع والطاعة في غير معصية الله، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأنه لا يجوز الخروج أو خلع هذه الطاعة، وأن من خلع هذه الطاعة لا حجة له في فعله، ولا عذر له يوم القيامة.
كما أن الأحاديث تدل على وجوب لزوم الجماعة، وعدم الخروج عنها، لأن ذلك يؤدي إلى الافتراق والاختلاف في الأمة، وهذا الأمر أصل من أصول أهل السنة والجماعة، التي باينوا فيها أهل البدع والأهواء، فعلى المرء المسلم أن يسمع ويطيع لولاة الأمر في المعروف، فإن ذلك من طاعة الله - عز وجل.
ولقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إذا أعياه أمر سأل الناس، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بقضاء؟ فإن كان عندهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه قضاء أخذ به وقال: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، وإن لم يجد فيه سنة، استشار رؤوس الناس وخيارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به.
وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فإن لم يجد في القرآن والسنة نظر: هل لأبي بكر فيه قضاء، فإن وجد قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين فاستشارهم فإذا اجتمعوا على أمر أخذ به.
المبحث الثاني
عمد وقواعد العلمانية
لم أجد من كتب عن عمد وقواعد العلمانية، وإنما أثبت ما أوردته هنا اعتماداً على الاستقراء لأفكار ومباديء العلمانيين، وقد لخصت ذلك فيما يلي:
1- ينكر بعض العلمانيين وجود الله تعالى، ويهملون أمور الغيب، من بعث وثواب وعقاب وغير ذلك، وبعضهم يفصل بين وجود الله سبحانه، وبين تأثيره في الحياة.
ومما لاشك فيه أن الله تعالى فطر الناس على وجوده ووحدانيته(44/288)
قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (1) وكل الأدلة الشرعية والبراهين العقلية وغيرها، تدل دلالة قاطعة على ذلك.
وفي كل شيء له آيةٌ
تدلُ على أنه واحدُ
ولقد بينا ذلك في غير هذا البحث.
وهذه العقيدة القائمة على الإلحاد ينشأ عنها مجتمع لا يؤمن بالله الواحد الأحد، ولا يؤمن باليوم الآخر، وما فيه من الثواب والعقاب، ولا يؤمن بدين، ولا يعترف بخلق، وإنما ينشأ عنه مجتمع غايته متع الحياة وملذاتها، ولذلك فإن قبول العلمانية في أي مجتمع معناه تبني الإلحاد والمروق من الإسلام وردة صريحة عن دين الله الذي ارتضاه لعباده حتى ولو كانت العلمانية بمعناها المعتدل في مرحلتها الأولى.
2- إقامة حاجز بين عالمي الروح والمادة، والقيم الروحية لديهم سلبية، وإقامة الحياة على أساس مادي.
والعلمانيون بهذا المبدأ يفرضون على الإنسان قوانين لا تلائم تكوينه الذاتي، القائم على التوازن الدقيق بين المادية والروحية، فإنها تتعرض دائما للتمرد والعصيان، الأمر الذي يدفعها دائماً إلى إعادة النظر في قوانينها ونظمها وتغيير مناهجها، وذلك من أجل تقبل الناس لها ومحاولة للتوازن والتوافق.
والمجتمعات العلمانية عامة تقوم على أساس الإشباع المادي للإنسان، مع إهمالها تماماً للناحية الروحية والنفسية؛ لأنها استبعدت الدين من مجال الحياة، وأقامت حضارة غربية أفقدت الرؤية الواضحة للإنسان، وحولته إلى حيوان يأكل ويشرب، ولا هم له غير ذلك، وأغلب ما يقع اليوم من الجرائم والمآثم، إنما هو بسبب هذا الإشباع المادي، وثمرة الكفر بالله واليوم الآخر، وأثر من آثار التنكر للحق، والاستهانة بالأخلاق.
__________
(1) سورة الروم الآية (30) .(44/289)
ومن ثَم كانت هذه النظرة المادية للحياة نظرة من شأنها أن تباعد بين الإنسان وفطرته الخيّرة، وتسلخه من الطيبة والسماحة، وتميت فيه عاطفة المحبة والرحمة، وتجعل منه عدواً لنفسه وللبشرية، وتجعله شر ما يدب على الأرض؛ قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (1) .
أما الإنسان في ظل الإسلام المتمسك به عقيدةً وشريعة ومنهج حياة، فإنه سوف يعيش مكرما معززاً، لأنه يعيش حياته وفقاً لشرع الله الذي يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (2) وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)
3- فصل الدين عن السياسة، أو إقامة الحياة على غير الدين.
إن العلمانية بفصلها الدين عن الدولة، أو إقامة الحياة على غير الدين، تفتح المجال للانتماءات الوضعية والطبقية والمذهبية والقومية وغيرها.
والهدف من فصل الدين عن السياسة وعن شؤون الحياة، هو هدم العقيدة الصحيحة، وإخراج الناس من نور التوحيد إلى ظلمات الشرك الإلحاد، وإحلال القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية، وإبعاد الإسلام عن التطبيق العملي.
__________
(1) سورة الأنفال، الآيتان (22، 23) .
(2) سورة الإسراء، الآية (70) .
(3) سورة النحل، الآية (97) .(44/290)
وهذه الفكرة بعيدة كل البعد عن عقيدة الإسلام وشريعته، فالله –تعالى - يخاطب رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (1) .وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) .
إن القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه كل ما تحتاج إليه البشرية في كل زمان ومكان، من خيري الدنيا والآخرة.
وفصل الدين عن الدولة أساس العلمانية التي نادى بها الغرب، ولجأ إليها كرد فعل لاضطهاد الكنيسة للعلم والعلماء، لا يبرر إبعاده للدين عن شؤون الحياة؛ لأنه لو اتجه إلى الإسلام دون تعصب أو غرور لوجد فيه ضالته وهدايته.
4- العلمانية تقوم على تطبيق مبدأ النفعية (البراجماتية) (3) مع كل شيء في الحياة.
والبراجماتية تقوم على إنكار وجود الله وألوهيته، وتنكر الدين والأخلاق، وتجعل المنفعة المادية العاجلة وحدها المسيطرة على هذا المذهب، وهى أساس أي عمل أو فكرة، وتجعل مصلحة الإنسان لنفسه فوق مصالح الآخرين حتى ولو أضرَّ بهم.
__________
(1) سورة المائدة، الآية (49) .
(2) سورة النحل، الآية (89) .
(3) يتلخص مذهب (البراجماتية) في أنه يقيس القضية بنتائجها العملية، ويرى أتباعها أن قيمة المعتقدات والقيم الخلقية نابعة من أثرها، فما حقق منفعة للإنسان، فهو خير وصحيح، والعكس بالعكس، ومن أبرز روادها: وليم جيمس، وتشارلز برس، وجون ديوي.
انظر: اتجاهات في الفلسفة المعاصرة عزمي إسلام 85، العصرانية ص50، والاتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الإسلام منها 65.(44/291)
أما الإسلام فقد جاء بما يكفل الخير والصلاح لكل الناس، وجميع المصالح والمنافع في الإسلام يسودها التعاون والإيثار والمحبة، وابتغاء الأجر والمثوبة من الله تعالى.
قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (1) وقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (3) وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (4) .
وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّجَ الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" (5) .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" (6) إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة في هذا الشأن.
__________
(1) سورة النساء، الآية (114) .
(2) سورة البقرة، الآية (195) .
(3) سورة البقرة، الآية (272) .
(4) سورة المائدة، الآية (2) .
(5) صحيح البخاري بشرح الفتح 5/97 كتاب المظالم رقم 2442، ومسلم 4/1996 كتاب البر والصلة والآداب رقم 2580.
(6) صحيح البخاري بشرح الفتح 5/309 كتاب الصلح رقم 2707، ومسلم 2/699 كتاب الزكاة رقم 1009 واللفظ له.(44/292)
5- تعتمد العلمانية على مبدأ (الميكيافيلية) (1) في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق. وهو مبدأ يقوم على أن (الغاية تبرر الوسيلة) مهما كانت هذه الوسيلة منافية للدين والأخلاق، ومهما كانت حسنة أو سيئة.
وهذا الاتجاه المنحرف إذا أُخذ على إطلاقه، فَهو طريق كل المنحرفين الظالمين المفسدين في الأرض، والأخذ بهذا الاتجاه - المستهين بفضائل الأخلاق الإنسانية - لتحقيق غايات الأفراد أو الجماعات هو نذير دمار عام وشامل لكّل الشعوب التي تأخذ به.
إن الرذائل الخلقية التي تقتضيها المكيافيلية مقبولة عند دعاتها إذا كانوا يمارسونها هم ضد غيرهم، ومرفوضة إذا كان غيرهم يمارسها ضدهم، وهذا تناقض منطقي بدهي، لا يلتزم به من يحاكم الأمور بعقله، ولكن يكابر فيه من يحاكم الأمور بأهوائه، وشهواته، ومصالحه الخاصة.
إن من المعروف في الحياة أن لكل إنسان، ولكل مجموعة بشرية، مطالب نفسية، وحاجات جسدية، وأنه لابد لتحقيق أي مطلب من مطالب النفس، وأية حاجة من حاجات الجسد من اتخاذ وسيلة إلى ذلك.
فهل يصح في عقل أي إنسان عاقل اتخاذ أية وسيلة في الدنيا، مهما كان شأنها عظيماً، لأية حاجة مهما كان شأنها حقيراً تافهاً؟
فإذا كانت الغايات مطلقاً تبرر أية وسيلة دون قيد أو شرط، فما أجدر المكيافيلي الذي يأخذ بهذه الفكرة الفاسدة أن ينحدر إلى أخس مرتبة يمكن أن تُتصور في الوجود، ويُرد إلى أسفل سافلين.
__________
(1) نسبة إلى ميكافيلي نيقولا (1469-1527م) إيطالي الجنسية، وهو أول المفكرين السياسيين الأوروبيين، اشتهر بكتابه (الأمير) الذي فيه دعوة صريحة إلى فصل السياسة عن الدين والأخلاق، ووضع مبدأً عملياً لها وهو (الغاية تبرر الوسيلة) .
انظر: كواشف زيوف ص379، وموقف الإسلام من نظرية ماركس ص612.(44/293)
والإسلام يراعي الحق والعدل والخير والفضيلة، ويأمر المسلمين بالتزام ما أمر الله به من الخير واجتناب ما نهى عنه من الشر، وغايات الإنسان يجب أن تكون مقيدة بشرع الله تعالى، فلا يجوز الوصول إلى الغاية الشريفة بالوسائل المحرمة.
المبحث الثالث
التطبيق العملي للإسلام
ولقد جاء التطبيق العملي للإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في شتى المجالات، وقد كان عليه الصلاة والسلام مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله - تعالى - بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان إمام الأمة وقاضيها، والمعلم والموجه، وقائد الجيش، وقد كان لهذه التربية النبوية الكريمة الأثر الكبير في توجيه سلوكهم، كما كان للعقيدة الإلهية الأثر العظيم في توجيه النفوس المؤمنة نحو الخير والفضيلة.
ومن هنا سطر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في العدل، والسياسة، وفي المعاملات، والأخلاق، وفي الخوف من الله والتوكل عليه، وفي علاقة الرجل مع أهله وخدمه، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، ضربوا أروع الأمثلة في شتى المجالات؛ لأن الإيمان بالله إذا وقر في نفس الإنسان فإنه يسعى إلى عمل كل ما يرضي الله تبارك وتعالى، ويبتعد عن كل ما يخالف أوامره ونواهيه.
وسار على نهج النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفاؤه الراشدون فلم يفصلوا بين الدين والسياسة، أو الدين والحياة، بل ربطوا ذلك ربطاً محكماً، وكانوا يرجعون إلى الكتاب والسنة في كل أمورهم.
ومن شواهد ذلك ما حصل بين أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من محاورة بشأن قتال مانعي الزكاة.
فأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه".(44/294)
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعارض في ذلك مستدلاً بقول - النبي صلى الله عليه وسلم -: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" (1) .
ويحتج الصديق بما جاء في الحديث: "إلا بحقها" ويقول الزكاة من حق الأموال.
وهكذا نجد أن الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون لم يفصلوا بين دين وسياسة، بل إنهم كانوا يسيرون مع الدين حيث سار.
إن الإسلام هو شريعة الله الخالدة، وقد تناولت الشريعة الإسلامية شؤون الحياة كلها: عقيدة، وعبادة، واجتماعاً، واقتصاداً، وسياسةً، وحكماً، وحددت النصوص الشرعية أصول الأحكام في: الأحوال الشخصية، والمعاملات، والعقوبات، واستمد فقهاء الإسلام من هذه الأصول - من الكتاب والسنة - الأحكام الجزئية التي تتجدد بتجدد الأحداث في كل عصر، وظل تطبيق أحكام هذه الشريعة الغراء في أمة الإسلام مستمراً، في عصور التاريخ المختلفة - وإن ذكرت بعض المصادر توقف العمل بالأحكام الشرعية عندما دخل هولاكو بغداد - ولم يقبل أحد من حكام المسلمين التهاون في الأحكام الشرعية، لأن تحكيم الشريعة الإسلامية من أصول الإيمان بهذا الدين القويم.
فلما كثُر احتكاك المسلمين بالغرب تأثر بعض المسلمين بالثقافة الغربية، وتسرب الفكر الغربي إلى ديار الإسلام، وبدأ التهاون في التزام أحكام الشريعة، ثم كان استبدال القوانين الوضعية بها مرحلة مرحلة.
ولا يزال تطبيق الشريعة الإسلامية قائماً ولله الحمد، فنحن في هذه البلاد نعيش تحت راية التوحيد، ونستظل بأحكام الإسلام وتشريعاته السمحة.
الخاتمة
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح (1/75) كتاب الإيمان. باب: فإن تابوا ... ، وصحيح مسلم (1/53) كتاب الإيمان حديث (22) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما.(44/295)
وبعد حمد الله – تعالى - وتوفيقه لي على إتمام هذا البحث المتواضع أود أن ألخص أهم ما اشتمل عليه فيما يلي:
1-إن العلمانية اصطلاح جاهلي، لا صلة له بالعلم، وإنما سماها أعداء الإسلام بذلك إمعانا منهم في التضليل والخداع، وإلا فإن عزل الدين عن العقيدة والشريعة وجميع نواحي الحياة يعني في الإسلام الكفر، والمروق من الدين، وحكم الجاهلية وتعطيل حدود الله وشرعه.
2-إن أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في أوروبا هو التحريف في أصول الدين، وتسلط رجال الكنيسة دينياً، واقتصادياً، وسياسياً، ولا يخفى ما لليهود من دور بارز في ذلك.
3-إن ظروف نشأة العلمانية في أوروبا لا تنطبق على الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وذلك لأنه - بحمد الله - ليس في الإسلام تحريف في مصدر عقيدته، وليس فيه كهنوت، ولا واسطة بين الخالق وخلقه، وأنه لا عصمة لأحد إلا للرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغونه عن الله - تبارك وتعالى - كما أَنَه ليس في الإسلام صراع أو خصام بين الدين والعلم، بل إن الإسلام يدعو إلى العلم النافع المثمر، ويحث عليه، كما أن الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومجتمع ومكان.
4-إن من أسباب انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وسيطرة الاستعمار الغربي والشرقي على كثير من أقطاره عسكرياً، وثقافياً، واقتصادياً، بالإضافة إلى إعجاب كثير من المسلمين بتقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي.
5- إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الأوروبية قد حولها إلى الإفلاس والحيرة والضياع، وحياة الضنك وعدم الطمأنينة، وذلك بسبب ابتعادها عن الإيمان بالله - تعالى - وشرعه، كما أنه كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم، وذلك لابتعادهم عن نور الكتاب والسنة.(44/296)
6- إن الإسلام يرفض العلمانية رفضاً قاطعاً؛ لأنها دعوة ضد الإسلام الذي جاء لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
7- إن العلمانية تتعارض مع الإسلام تعارضاً تاماً في شتى المجالات، ولا وجه للمقارنة بينهما على الإطلاق، وذلك لأن الإسلام نظام إلهي شرعه رب الخلق الذي يعلم أحوال عباده، وما يصلح معاشهم، وما يحقق لهم الخير في دنياهم وأخراهم.
والعلمانية هى من وضع البشر وهم يخضعون للأهواء والشهوات، وتتغلب عليهم العواطف البشرية التي تحيد بهم عن الحق والصواب.
8- إن الإسلام هو دين الحق الذي يجب على الناس جميعاً أن ينقادوا له، ويتمسكوا به، عقيدةً وشريعة، ومنهج حياة وفقاً لما جاء في كتاب الله – تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإن على ولاة أمور المسلمين أن يطبقوا هذا الدين على شعوبهم؛ لينعم الناس بالعدل والأمان والهداية والاستقرار.
وإن في تطبيق ولاة الأمر للشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية لخير شاهد على صلاحها، وإمكان تطبيقها في العصر الحديث. نسأل الله تعالى لهم التوفيق والسداد والثبات على ذلك.
وفي الختام أحب أن أذكر بما قصه الله - تعالى - علينا في كتابه الكريم عن أمة انتكس رأيها فزهدت بحق واضح بين يديها، وتعلقت بباطل عند غيرها جهلاً وسفهاً.
يقول - سبحانه وتعالى -: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (1) .
__________
(1) سورة الأعراف، الآيات (138-140) .(44/297)
وعن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: "يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر إنها السنن قلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" (1) .
هذا، وأسأل الله - تعالى - أن يعزّ دينه ويعلي كلمته، وأن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، ويعافينا من أسباب غضبه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
قائمة بأهم المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
1-الاتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الإسلام منها:
د. جمعة الخولي، الطبعة الأولى 1407هـ، مطابع الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة.
2-الاتجاهات الفكرية المعاصرة:
د. علي جريشة، ط الأولى، 1407هـ، دار الوفاء للطباعة، المنصورة.
3- أحجار على رقعة الشطرنج:
وليام كار، دار النفائس، ط الأولى.
4- احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام:
د. سعدالدين السيد صالح، ط الثانية1413هـ-1993م، دار الأرقم، الزقازيق.
5- أخطار الغزو الفكري على العالم الإسلامي:
د. صابر طعيمة، ط الأولى 1404هـ-1984م، عالم الكتب، بيروت.
6- أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي:
د. علي جريشة وزميله، دار الاعتصام، القاهرة.
7-الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية:
د. إبراهيم خليل، القاهرة.
8-الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري:
__________
(1) سنن الترمذي (4/475) كتاب الفتن، باب ماجاء لتركبن سنن من كان قبلكم، وقال: حديث حسن صحيح، وذكر «خيبر» بدل «حنين» .ومسند الإمام أحمد (5/218) .(44/298)
د. محمد زقزوق، دار المنار، ط الثانية 1409هـ-1989م.
9-الاستقامة لابن تيمية:
لأبي العباس تقي الدين أحمد عبد الحليم المتوفى سنة (728هـ) مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية 1409هـ.
10- أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام:
د. محمد أمان الجامي، طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد، الرياض 1404هـ.
11- أعلام الموقعين:
لابن قيّم الجوزية، دار الجيل، بيروت، 1973م.
12- الإيمان:
لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار الكتب العلمية، ط ا، بيروت 1403هـ.
13- تاريخ أوروبا في العصور الوسطى:
أ. هـ فيشر، ت مصطفى زيادة، مصر 1966م.
14-تاريخ نجد:
للشيخ حسين بن غنام، تحقيق د. ناصرالدين الأسد، دار الشروق، ط4، 1415هـ-1994م.
15-التبشير الصليبي:
دار الفلاح، بيشاور، ط الثانية 1413هـ-1992م.
16-التبشير والاستعمار في البلاد العربية:
د. مصطفى خالدي، وعمر فروج، المكتبة العصرية، بيروت.
17-الترغيب والترهيب:
للإمام الحافظ زكي الدين المنذري (ت656هـ) نشر إحياء التراث العربي، بيروت ط3، 1388هـ.
18-تفسير القرآن العظيم:
للحافظ ابن كثير (ت774هـ) مطبعة الفجالة الجديدة، القاهرة، ط الأولى 1384هـ، نشر المكتبة الحديثة.
19-تهافت العلمانية في الصحافة العربية:
سالم بهنساوي، دار الوفاء، ط الأولى 1410هـ-1990م.
20-تهافت العلمانية في مناظرة نقابة المهندسين بالأسكندرية:
د. صلاح الصاوي ط1413هـ، الآفاق الدولية للإعلام، القاهرة.
21-تهافت العلمانية:
د. عمادالدين خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403هـ-1983م.
22-جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بتفسير الطبري:
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط الثالثة.
23-الجامع الصحيح:
للحافظ أبي عيسى محمد الترمذي (279هـ) دار إحياء التراث العربي.
24-الجامع الفريد:(44/299)
يحتوي كتُباً ورسائل لأئمة الدعوة الإسلامية، طبع على نفقة محمد بن إبراهيم النعمان، دار الأصفهاني للطباعة بجدة.
25-جذور العلمانية:
د. السيد أحمد فرج، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة، ط الخامسة1413 هـ-1993م.
26-الحسبة في الإسلام:
لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار العلمية، ط ا، بيروت، 1412هـ-1992م.
27-حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر:
م. أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط الأولى، 1401هـ-1988م.
28-الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون) :
ت. محمد خليفة التونسي، دار الكتاب العربي، بيروت.
29-ركائز الإيمان:
محمد الغزالي، القاهرة، 1974م.
30-سنن أبي داود:
للإمام الحافظ أبي داودسليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (ت275هـ) دار الحديث للطباعة والنشر، بيروت، ط الأولى، 1388هـ، إعداد وتعليق الدعاس.
31-سنن الدارمي:
دار الريان للتراث، القاهرة، ط 1، 1407هـ.
32-شرح نواقض الإسلام:
لأبي أسامة حسن بن علي العواجي، ط 1، 1413هـ-1993م، أضوء المنار، المدينة المنورة.
33-شرح النووي على صحيح مسلم:
دار الفكر، بيروت.
34-صحيح البخاري مع فتح الباري:
للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) طبع المكتبة السلفية.
35-صحيح مسلم:
للإمام الحافظ أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت261هـ) دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق فؤاد عبد الباقي.
36-الصوفية نشأتها وتطورها:
لمحمد العبده، وطارق عبد الحكيم، دار الأرقم، الكويت، ط 1، 1406هـ- 1986 م.
37-العصرانية في حياتنا الاجتماعية:
د عبد الرحمن الزنيدي، دار المسلم، ط 1، 1415هـ-1994م، الرياض.
38-عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين:
للشيخ صالح البليهي، ط 2، 1404هـ.
39-العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة:
لسفر الحوالي، دار مكة للطباعة والنشر، نشر جامعة أم القرى، ط، 1402 ... هـ-1982م.
40-العلمانية، النشأة والأثر في الشرق والغرب:(44/300)
زكريا فايد، ط1، 1408هـ-1988م، الزهراء للأعلام العربي.
41-العلمانية وثمارها الخبيثة:
لمحمد شاكر الشريف، دار الوطن، ط 1، 1411هـ، الرياض.
42-الغارة على العالم الإسلامي:
ترجمة محمد الخطيب، ومساعد اليافي، مكتبة أسامة بن زيد، بيروت.
43-الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي:
د. محمد البهي، دار الفكر، ط 6، 1973م.
44-قاموس المورد:
لمنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1977م.
45-قصة الحضارة:
لديورانت، نشر الإدارة العربية في جامعة الدول العربية، مطابع الدجوي، القاهرة، ترجمة محمد بدران.
46-الكتاب المقدس:
دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
47-الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد:
لخالد محمد علي الحاج، دولة قطر، 1403هـ-1983م.
48-كواشف زيوف:
عبد الرحمن الميداني، دار القلم، ط 1، 1405هـ-1985م.
49-لماذا نرفض العلمانية:
محمد محمد بدري، دار ابن الجوزي، ط1، 1412هـ الدمام.
50-مجموع فتاوي ومقالات متنوعة:
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، ط2، 1411هـ-1990م.
51-محاضرات في النصرانية:
لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، ط 3، 1381هـ.
52-مختار الصحاح:
للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة لبنان.
53-المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام:
لمحمد محمود الصواف، دار الإصلاح، السعودية، الدمام.
54-مدارج السالكين:
للإمام ابن قَيِّم الجوزيّة (ت751هـ) دار الكتب العلمية، بيروت،
ط1، 1403هـ-1983م.
55-مذاهب فكرية معاصرة:
محمد قطب، دار الشروق، بيروت، ط 2، 1407هـ-1987م.
56-مذابح وجرائم محاكم التفتيش في الأندلس:
محمد على قطب، مكتبة القرآن.
57-مسند الإمام أحمد بن حنبل:
دار صادر، بيروت.
58-المسيحية:
د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
59-معالم تاريخ الإنسانية:(44/301)
هـ. ج. ولز، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، ط 1، 1950م.
60-معاول الهدم والتدمير في النصرانية وفي التبشير:
إبراهيم الجبهان، دار المجتمع، جدة، ط 6، 1413هـ-1993م.
61-المعجم العربي الحديث:
لأروس، د. خليل الجسر، مكتبة الأروس، باريس.
62-المعجم الوسيط:
لمجموعة من علماء اللغة العربية، مصر.
63-المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي:
رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين، نشره د. أ-ي ونسك، أستاذ العربية بجامعة ليدن، 1936م.
64-المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم:
وضعه محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.
65-المواجهة بين الإسلام والعلمانية:
د. محمد صلاح الصاوي، ط 1، 1413هـ، الآفاق الدولية للإعلام.
66-مؤامرة فصل الدين عن الدولة:
محمد كاظم حبيب، دار الإيمان، لبنان، ط 1، 1394هـ-1974م.
67-الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة:
ناصر القفاري وزميله، ط1، 1413هـ-1992م، دار الصميعي للنشر، الرياض.
68-الموسوعة العربية الميسرة:
دار نهضة لبنان للطبع والنشر، 1401هـ-1981م، بيروت.
69-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة:
الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ط 2، 1409هـ-1989م، الرياض.
70-موقف الإسلام من نظرية ماركس:
أحمد العوايشة، دار مكة للطباعة، ط 1، 1402هـ-1982م.
71-النهاية في غريب الحديث والأثر:
تحقيق طاهر الزواوي، ومحمود الطناحي، المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ القاهرة بدءً من 1383هـ – 1963م.
72-نواقض الإسلام:
رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أعدها وصححها مجموعة من العلماء الذين شاركوا في مؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود.(44/302)
أبو تراب الغوي وكتابه الإعتقاب (القسم الثاني)
إعداد:
د. عبد الرزاق بن فراج الصاعدي
الأستاذ المشارك في كلية الغة العربية في الجامعة
(باب اعتقاب الفاء واللام)
267- أبو تراب عن الكلابيّ: "وادٍ جَرِل، إذا كان كثيرَ الجِرَفَةِ، والعَتَبُ والشَّجَر".
قال: وقال حَتْرش: "مكان جَرِل، فيه تَعَادٍ واختلاف".
قال: وقال غيره من أعراب قيس: "أرض جَرِفة مختلفة، وقِدْحٌ جَرِفٌ ورجل جَرِفٌ كذلك".
268- قال ابن الفرج: "تغلّف بالغالية إذا كان ظاهراً، وتغلّل بها إذا كان داخلاً في أصول الشَّعَر".
(باب اعتقاب الفاء والميم)
269- أبو تراب عن بعض بني سُليم: "في الغِرارة ثُفْلة من تمر، وثُمْلة من تمر؛ أي: بقيّة منه".
270- قال أبو تراب: قال زائدة القَيسِيّ: "خَضَفَ بها وخَضَمَ بها؛ إذا ضَرَطَ".
قال: وقاله عرّام، وأنشد للأغلب:
إن قَابَلَ العِرسَ تَشَكَّى وخَضَمْ"
271- روى ابن الفرج عن أعرابيّ أنه قال: "أصفقت الباب وأصمقتُه بمعنى أغلقته.
وقال غيره: هي الإجافةُ دون الإغلاق".
272- روى إسحاق بن الفرج عن شبانة الأعرابيّ أنه قال: "غُلامٌ أُملودٌ وأُفلوذٌ إذا كان تاماً مُحْتَلماً شَطْباً".
(باب اعتقاب الفاء والهاء)
273- قال ابن الفَرَج: "سمعت عَرَّاماً يقول: تاه بَصَرُ الرجل وتاف؛ إذا نظر إلى الشيء في دوام، وأنشد:
فَمَا أَنسَ مِن أشياءَ لا أَنسَ نَظْرتي
بِمَكَّةَ إِنِّي تَائِفُ النَّظَرَاتِ
وتَافَ عَنِّي بَصَرُك وتاه؛ إذا تَخَطَّى".
274- قال الجوهري: "وهَرْهَرْتُ الشيء: لغة في فَرْفَرْتُهُ، إذا حَرّكتَه. وهذا الحرف نقلته من كتاب الاعتقاب لأبي تراب من غير سماع".
(باب اعتقاب القاف والكاف)
275- ابن الفرج: "الحَسَاكل والحَسَاقل صغار الصّبيان؛ يقال: مات فلان وخَلَّفَ يَتَامَى حَسَاكل، واحدهم حِسْكِل، وكذلك صغار كلّ شيء حَسَاكل".
276- قال ابن الفرج: " ... قال: والزّحاليك والزّحاليق واحد.(44/303)
ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال: "والتَّزَحْلُكُ: التزحلق، وهي الزّحاليك والزّحاليق".
277- قال أبو تراب: قال الأصمعيّ: "شقأ نابُ البعير وشَكَأَ، إذا طلع فشَقَّ اللَّحْم".
278- أبو تراب عن الأصمعيّ: "إبل شُوَيقِئة وشويكئة حين يطلع نابها، من شقأ نابه وشكأ وشاك - أيضاً، وأنشد:
شُويقيّة النَّابَينِ تَعْدِلُ دَفَّها
بأَفْتَلَ من سَعَدانه الزَّورِ بائنِ
وقال آخر:
عَلَى مُسْتَظِلاتِ العُيُونِ سَوَاهِم
شُوَيكئةٍ يَكْسُو بُرَاهَا لُغامُهَا"
279- قال إسحاق بن فرج: "سمعت أعرابياً يقول: عَقَدَ فلانُ بن فلان عُنقه إلى فلان؛ إذا لجأ إليه، وعكدها".
280- قال ابن الفرج: "كان ذلك في إقحاط الزَّمَان وإكحاط الزَّمَان، أي في شِدَّته".
281- قال الأزهريّ: "قال ابن الأعرابيّ: خرج فلان يَتَقَّمَّهُ في الأرض: لا يدري أين يذهب.
وقال أبو سعيد: ويَتَكَمَّهُ مثله، رواه أبو تراب في كتابه".
282- قال أبو تراب: قال شُجَاع: غُلامٌ قُدُرٌّ وكُدُرٌّ، وهو التَّامّ دون المُحْتَلِم".
283- قال أبو سعيد فيما روى عنه أبو تراب: قَصَمَ راجعاً، وكَصَمَ راجعاً إذا رجع من حيث جاء ولم يتمّ إلى حيث قَصَدَ، وأنشد بيت عَدِيّ بن زيد:
وأَمَرْنَاهُ بِهِ مِن بَيْنِهَا
بَعْدَ ما انْصَاعَ مُصِرّاً وكَصَمْ"
284- قال أبو تراب: "قال عرام: هذه قُمْزَةٌ من تَمْرٍ وكُمْزَةٌ، وهي الفِدْرَةُ كجثمان القطا أو أكثر قليلاً، والجَمِيعُ: كُمَزٌ وقُمَزٌ".
285- روى أبو تراب عن أبي العَمَيثل، يُقَالُ: نُقِتَ العَظْمُ ونُكِتَ، إذا أُخْرِجَ مُخُّهُ، وأنشد:
وَكَأَنَّهَا في السِّبِّ مُخَّةُ آدبٍ
بَيْضَاءُ أُدّبَ بدؤُها المَنقُوتُ"
(باب اعتقاب القاف واللام)
286- قال ابن الفرج: سمعت الحُصينيّ يقول: "هو أَفْلَسُ من ضَارِبِ قِحْفِ اسْتِهِ، ومن ضارب لِحْفِ اسْتِهِ.
قال: وهو شقّ الاست، وإنما قيل ذلك؛ لأنه لا يجد شيئاً يلبسه؛ فتقع يدُه على شُعب أسته".(44/304)
287- قال أبو تراب: سمعت الحصينيّ يقول: "قطّيتُ على القَومِ وتَلَطَّيْتُ عليهم، إذا كانت لي عندهم طَلِبَةٌ فأخذتُ من مالهم شيئاً فسبقت به".
(باب اعتقاب القاف والميم)
288- قال أبو تراب: "سمعتُ شمراً وأبا سعيد يقولان: رجل حُزُقَّةٌ وحُزُمَّةٌ إذا كان قصيراً".
289- أبو تراب عن السّلميّ: "صَقَلَه بالعصا وصَمَلَه: إذا ضربه بها".
(باب اعتقاب القاف والنّون)
290- قال أبو تراب: "سمعت عرّاماً يقول: كذبت عَذَّاقته وعَذَّانته، وهي استه. وامرأة عَذَقَانةٌ وشَقَذَانةٌ، وغَذَوَانةٌ، أي: بَذيّةٌ سَلِيطة. وكذلك امرأة سَلَطانةٌ وسَلَتانةٌ".
(باب اعتقاب القاف والهاء)
291- أبو تراب: قال الأصمعيّ: "مَرَّ فُلان يَهْزَعُ ويَقْزَعُ، أي: يَعْرُجُ، وهو أن يعدوَ عدواً شديداً - ايضاً".
292- روى ابن الفرج عن مُدْرِك، يقال: "للرّجل قَوْمٌ يقمِشونَ له، ويهمشون له، بمعنى واحد".
(باب اعتقاب الكاف واللام)
293- قال أبو تراب: قال الفراء: "كَفَخَه كَفْخاً؛ إذا ضَرَبَه. وقال أبو زيد: لَفَخَهُ لَفْخاً على رأسه، إذا ضَرَبَه".
(باب اعتقاب الكاف والميم)
294- روى أبو تراب عن عقبة السّلميّ أنه قال: "كَدَشْتُ من فلان شيئاً، واكتَدَشْتُ، وامْتَدَشْتُ؛ إذا أصبت منه شيئاً".
(باب اعتقاب الكاف والنّون)
295- قال ابن الفرج: قال أبو عمرو: الكَعْظَلَةُ والنَّعْظَلَةُ: العَدْوُ البَطِئ. وأنشد:
لا يُدْرَكُ الفَوْتُ بِشَدٍّ كَعْظَلِ
إلا بإجْذَامِ النَّجَاءِ المُعْجَلِ"
(باب اعتقاب الكاف والهاء)
296- قال ابن الفرج: "سمعت خليفة يقول: للبيت كِواءٌ كَثِيرةٌ وهِواءٌ كثيرة، والواحدة كَوّة وهَوّة، وأمّا النّضر فإنه زعم أنّ الهَوَّةَ بمعنى الكوّة تجمع هُوىً، مثل قرية وقُرىً".
(باب اعتقاب اللام والميم)
297- قال أبو تراب: "سمعت مبتكراً السّلميّ يقول: دَقَل فلانٌ لَحْيَ الرّجل ودَقَمَه، إذا ضرب فمه وأنفه.(44/305)
والدّقل لا يكون إلا في اللَّحْي والقَفَا، والدَّقْمُ في الأنْفِ والفَمِ".
298- روى ابن الفرج لأبي عمرو: يقال: مَقِسَتْ نَفْسُهُ تَمْقَسُ فَهِيَ مَاقِسةٌ إذا أَنِفَتْ، وقال مرةً خَبُثَتْ، وهي بمعنى لَقِسَتْ".
(باب اعتقاب اللام والنّون)
299- قال أبو تراب: قال المُؤَرِّجُ: "حَطَبٌ جَزْنٌ وجزلٌ، وجَمْعُهُ: أجزُنٌ وأَجْزُلٌ، وهي الخشب الغلاظ. قال جَزْء بن الحارث:
حَمَى دُونَه بالشَّوك والتّفَّ دُونَهُ
من السِّدْر سُوقٌ ذاتُ هَوْلٍ وأجْزُنِ"
300- قال ابن الأعرابيّ: "الحَقْلَةُ والحَقْنَةُ وَجَعٌ يكون في البطنِ، والجميع أَحْقَالٌ وأَحْقَانٌ، رواه أبو تراب".
301- روى ابن الفرج - عن بَعضِهم - أنه قال: "هو خَامِلُ الذِّكر، وخَامِنُ الذِّكْر، بمعنى واحد".
302- قال أبو تراب: سَمِعتُ السُّلَمِيّ يقول: رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَطَايَرُ شِلَّمُهُ وشِنَّمُهُ؛ أي شراره من الغضب، وأنشد:
إن تحمليه ساعةً فَرُبَّما
أطار في حُبِّ رِضاكِ الشِّلَّمَا
30- قال أبو تراب: سمعت غير واحد من الأعراب يقول: فلانٌ
عِسْلُ مَالٍ وعِسْنُ مال؛ إذا حسن القيام عليه".
304- أبو تراب: قال بعض قبائل غَنِيّ: "يقال لَجْلَجْتُ المُضْغَةَ ونَجْنجَتْهَا؛ إذا حَرَّكتَها في فِيكَ ورَدَّدْتَهَا، فلم تبتلعها".
305- قال أبو تراب: "سمعت شُجاعاً السُّلَمِيّ يقول: لكع الرَّجُلُ الشَّاة؛ إذا نهزها، ونكعها؛ إذا فعل بها ذلك عند حلبها، وهو أن يضرب ضرعها لِتَدرَّ".
306- قال أبو تراب: "يقال: لاصَ عن الأمر وناص: بمعنى حادَ. وقال أبو سعيد اللحياني: أَلَصْتُ أن آخُذَ منه شَيئاً أُلِيصُ إلاصَةً، وأنَصْتُ أُنِيصُ إِنَاصَةً؛ أي: أَرَدْتُ".
307- أبو تراب عن الكِلابيّ: "امْتَشَلْتُ النَّاقَةَ وامتَشَنتها؛ إذا حَلَبْتَهَا".
308- أبو تراب: "يقال للمَنجَنِيقِ: المِنجَلِيقُ".
(باب اعتقاب اللام والواو)(44/306)
30- قال أبو تراب: "قال السّلميّ: الوَخِيفَةُ واللَّخِيفة والحَزِيرة:
واحد. وهي من أطعمة الأعراب، وقريب منها: السَّخِينة".
310 – قال أبو تراب: قال: "وعبد أَلْكَعُ أَوْكَعُ، وامْرَأَةٌ لَكْعَاءُ ووَكْعَاءُ، وهي الحَمْقَاءُ".
(باب اعتقاب اللام والياء)
311- روى أبو تراب للكسائيّ: "هو خَاتِلٌ له وخاتٍ له؛ بمعنى واحد، وقال أوس بن حجر:
يَدِبُّ إليه خَاتِياً يَدَّرِِي لَهُ
لِيَعْقِرَهُ في رَمْيهِ حِينَ يُرْسِلُ"
312- أبو تراب: "تَزَلَّقَ فُلانٌ وتَزَيَّقَ؛ إذا تَزَيَّنَ".
(باب اعتقاب الميم والنون)
313- روى أبو تراب لأبي عمرو الشّيبانيّ: يقال: "إبْزِيمٌ وإبْزِين، ويُجْمَعُ أبازين، وقال أبو دُواد أيضاً في صِفَةِ الخَيل:
مِنْ كُلّ جَردَاءَ قَدْ طَارَتْ عَقِيْقَتُهَا
وكلِّ أَجْرَدَ مُسْتَرخِي الأبَازِينِ"
314- قال ابن الفرج: "سمعت السّلميّ يقول: جَنَشَ القومُ للقوم وجمشوا لهم؛ أي: أقبلوا إليهم. وأنشد:
أَقُولُ لعَبَّاسٍ وقَدْ جَنَشَتْ لَنَا
حُيَيٌّ وأَفْلَتْنَا فُوَيْتَ الأظافِرِ"
315- روى أبو تراب لأبي مالك: "المُدَمَّسُ والمُدَنَّس بمعنى واحد، وقد دَنِسَ ودَمِسَ".
وقال أبو زيد: "المُدَمَّس: المخبوء".
وقال أبو تراب: المدمَّس: الذي عليه وَضَر العَسَل، وأَنكَرَ قول أبي زيد".
316 - قال أبو تراب: قال أبو عمرو: "الدِّمْدِم: أُصُول الصِّلِّيان المحيل، في لُغَةِ بَني أَسَد، وهو في لغة بني تميم: الدِّندِن".
317- قال ابن الفرج: "سمعتُ جماعةً من قيسٍ يقولون: فلان يَعْثِمُ ويَعْثِنُ؛ أي: يجتهد في الأمر ويُعْمِلُ نَفْسَهُ فيه".
318- قال أبو تراب: "سمعت أبا سعيد وغيره من أهل العلم يقولون: إِدَاوَةٌ مقموعة ومقنوعة، بالميم والنّون: خُنِثَ رَأسُهَا".
319- روى أبو تراب عن بعض العرب: "امتَتَحْتُ الشَّيءَ وانتَتَحْتُه وانتزعته بمعنى واحد".(44/307)
320- قال أبو تراب: "وسمعت واقعاً يقول: مَثَّ الجُرْحَ ونَثَّهُ؛ إذا دَهَنَهُ.
وقال ذلك عرّامٌ".
321 - قال أبو تراب: قال الفراء وأبو سعيد: "مَسَخَه الله قِرْداً، ونَسَخَه قِرْداً: بمعنى واحد".
322 - قال ابن الفرج: "سمعت شُجَاعاً السُّلَمِيّ يقول: أَمْضَحْتُ عِرْضي وأَنضَحْتُهُ؛ إذا أَفْسَدْتُهُ، وقال خَلِيفة: أَمْضَحْتُهُ إذا أنهبتَهُ النَّاس".
323- قال أبو تراب: "يقال انتَطَلَ فلانٌ من الزِّقِّ نَطْلَةً، وامتَطَلَ مَطْلَة؛ إذا اصْطَبَّ منه شيئاً يسيراً.
ويقال: "نَطَلَ فُلانٌ نفسَهُ بالماء نَطْلاً؛ إذا صَبَّ عليه منه شيئاً بعد شيءٍ يَتَعَالَجُ به".
(باب اعتقاب الميم والهاء)
324- قال أبو تراب: "سمعتُ عَرَّاما يقول: طَمَّسَ في الأرض، وطَهَّسَ، إذا دَخَلَ فيها: إمّا راسخاً، وإمّا واغِلاً، وقاله شُجَاعٌ - أيضاً – بالهاء".
325- قال أبو تراب سمعت الخُصيبيّ يقول: "مَرَدَهُ وهَرَدَهُ؛ إذا قَطَعَه وهَرَطَ عِرْضَهُ وهَرَدَهُ، ومن أمثالهم: تَمَرَّدَ مَارِدٌ وعَزَّ الأبلَقُ، وهما حِصنان في بلاد العرب غَزَتْهُمَا الزَّبَّاء، فامتنعا عليها، فقالت هذه المقالة، وصارت مثلاً لكُلّ عَزِيز ممتنع، والمرِّيدُ الخَبِيثُ".
326- أبو تراب عن واقع: "بعير نَمِشٌ ونَهِشٌ؛ إذا كان في خُفِّه أثرٌ يَتَبَيَّن في الأرض من غير أثره".
(باب اعتقاب الميم والواو)
327- أبو تراب عن الأشجعيّ: يقال: "ما أدري أين طَمَسَ وأين طَوَّسَ؛ أي: أين ذَهَبَ".
328- أبو تراب الطَّوَاطِمُ والطَمَاطِمُ العُجْمُ، وأنشد للأفوه الأوديّ:
كالأسود الحَبَشِيّ الحَمْشِ يَتْبَعُهُ
سُودٌ طماطمُ في آذانها النُّطَفُ"
(باب اعتقاب النّون والهاء)
329 - قال الأصمعيّ فيما روى له ابن الفَرَج: "نَزَأْتُ الرّاحلَةَ
وهَزَأتُهَا؛ إذا حَرَّكْتَهَا".
(باب اعتقاب النّون والواو)(44/308)
330 - أبو تراب عن الحُصَيِنِي قال: "أَنضَفَتِ النَّاقَةُ وأوْضَفَتْ؛ إذا خَبَّتْ. وأَوْضَفْتُهَا فَوَضَفَتْ؛ إذا فَعَلَتْ".
331- قال أبو تراب: "سمعت أبا الجهم الجعفريّ يقول: سمعت منه نَغْمَةً ووَغْمَةً عرفتها، قال: والوغم: النغمة وأنشد:
سَمِعْتُ وَغْماًمِنك يا بَلْهَيْثَمِ
فَقُلتُ لَبَّيهِ ولم أُهَتِّمِ"
(باب اعتقاب النّون والياء)
332- أبو عبيد: الأمويّ، قال: "الزِّنجيل الضّعيف من الرّجال".
قال: وقال الفَرَّاء: "الزيجيل بالياء".
وقال أبو تراب، قال مزاحم: "الزِّنجيل القَوِيُّ الضَّخم".
333- قال أبو تراب: "سَمِعْتُ العَبْسِيِّين يقولون: فَنَّش الرجل عن الأمر، وفَيَّش؛ إذا خام عنه".
(باب اعتقاب الواو والياء)
334- الدَّليص: البريق، وأنشد أبو تراب:
بات يضُوزُ الصِّلِّيانَ ضَوزا
ضَوْزَ العجوزِ العَصَبَ الدَّلَّوْصَا
قال: "والدَّلَّوص: الّذي يَدِيصُ".
335 - أبو تراب عن الكلابي: "شَوَّط القِدْر وشَيَّطَها؛ إذا أغلاها".
336- قال أبو تراب: "يقال للكثير: كَيْثَرٌ، وكَوْثَرٌ، وأنشد:
هل العِزُّ إلا اللُّهَى والثَّرا
ءُ والعَدَدُ الكَيْثَرُ الأعظم"
337- قال أبو تراب: "سمعت الجعفريين: أنا مُسْتَوْهِر بالأمر، أي: مستيقن.
وقال السّلميّ: "مستَيهر".
(باب اعتقاب الياء والألف اللّيّنة)
338 - روى أبو تراب عن عرّام: "يقال: رأيت ضُوَاكةً من الناس، وضَوِيكةً؛ أي: جماعة من سائر الحيوان.
ويقال: "اضطَوَكُوا على الشيء واعْتَلَجُوا وادَّوَّسُوا؛ إذا تنازعوا بشدة".
(باب الاعتقاب في حروف مختلفة)
339- روى إسحاق بن الفرج للأصمعي: "يقال: بضّعه، وكنّعه، وكوَّعه، بمعنى واحد".
340- قال أبو تراب: "احتفد واحتمد واحتفل، بمعنى واحد".
341- قال ابن الفرج: "سمعت مُدْرِكاً الجعفري يقول: سبقني فلان قَبْصاً وحَقْصاً وشدّاً بمعنى واحد".(44/309)
342 - أبو تراب: قال الأصمعيّ: "شَخَزَ عينه وضخزها وبخصها بمعنى واحد. قال: ولم أر أحداً يعرفه".
343- روى أبو تراب عن أصحابه: "أَصْمَقْتُ البابَ: أَغْلَقْتُهُ".
344- روى أبو تراب عن مُدرِك الجعفريّ: "مَرَط فلان فُلاناً، وهَرَدَه؛ إذا آذاه".
345 - قال ابن فارس: "ذكر عن رجل يقال له أبو تراب، ولا نعرفه نحن: بَجَسْتُ الجرح مثل بَطَطْتُهُ".(44/310)
تابع أبو تراب الغوي وكتابه الإعتقاب (القسم الثاني)
(باب الفوائد والنوادر)
346- قال أبو تراب: "كنت سمعتُ من أبي الهَمَيسَع حرفاً، وهو جَحْلَنجع، فذكرتُهُ لشَمِر بن حَمْدَوَيه، وتبرّأت إليه من معرفته، وأنشدته فيه ما كان أنشدني، قال: وكان أبو الهَمَيْسَع ذكر أنُه من أعراب مَدْين، وكنا لا نكاد نفهم كلامه، فكتبه شَمِر، والأبيات الّتي أنشدني:
إن تَمْنَعِي صَوْبَكِ صَوْبَ المَدْمَعِ
يَجْرِي عَلَى الخَدِّ كضِئْبِ الثَّعْثَعِ
من طَمْحَةٍ صَبيرُهَا جَحْلنْجَع
لم يَحْضُهَا الجَدْوَلُ بالتَّنَوَّع
قال: وكان يُسمِّي الكور المِحْضى".
347- قال أبو تراب - أيضاً -: "سمعت أعرابياً من بني تميم يكنّى أبا الخَيْهَفْعَى، وسألته عن تفسير كنيته، فقال: إذا وقع الذئب على الكلبة جاءت بالسِّمع، وإذا وقع الكلبُ على الذّئبة جاءت بالخَيْهَفْعَي. وليس هذا على أبنية أسمائهم مع اجتماع ثلاثة أحرف من حروف الحلق".
قال الأزهريّ: "قلت: وهذه حروف لا أعرفها، ولم أجد لها أصلاً في كتب الثّقات الّذين أخذوا عن العرب العاربة ما أودعوا كتبهم، ولم أذكرها وأنا أحُقُّها، ولكني ذكرتها استنداراً لها، وتعجّباً منها، ولا أدري ما صحّتها".
348- قال أبو تراب: "سمعت أبا الهَمَيسَع الأعرابيّ يُنشد:
إن تمنعي صَوْبَكِ صَوْبَ المَدْمَعِ
يَجْرِي على الخدّ كَصَيبِ الثَّعْثَع"
349- قال ابن الفرج: "سألت عامرياً عن أصل عشبة رأيتها معه. فقلت: ما هذا؟ فقال: عُنقُر.
وسمعت غيره يقول: عُنْقَر بفتح القاف. وأنشد:
يُنجِدُ بَينَ الإِسْكَتَينِ عُنقَرَهْ
وبَيْنَ أَصْلِ الدَّرَكَين قَنفَرَهْ"
350- قال النّضر - فيما حكى عنه أبو تراب: "الغَوهَقُ: الغراب، وأنشد:
يَتْبَعْنَ وَرْقَاءَ كَلََوْنِ الغَوْهَقِ"
351 - قال أبو تراب: "القُطْعة في طَيِّئ كالعنعنة في تميم، وهو أن يقول: يا أبا الحكا، يريد يا أبا الحكم، فيقطع كلامَه".(44/311)
352- قال أبو تراب: "وأنشدني جماعة من فصحاء قيس وأهل الصّدق منهم:
حاملةٌ دَلْوُكَ لا مَحْمُولَه
مَلأَي مِنَ الماءِ كعين النُّوْنَهْ
فقلت لهم: "رواها الأصمعي: كعين المُوْلَه، فلم يَعْرفوها، وقالوا: النونة: السمكة".
353- قال ابن الفرج: وسألت مُبتكراً عن النُّباج فقال: لا أعرف النُّباج إلا الضُّراط".
354- قال أبو تراب: "سمعت أعرابياً من بني سُليم يقول: ما مأنت مَأنه، أي ما عَلِمتُ عِلمه. وهو بِمَأنه؛ أي: بعلمه".
355- قال الأزهريّ: "أخبرني المنذريُّ عن ابن حَمُّوَيْه، قال سمعت أبا تراب يقول: كتب أبو محلّم إلى رجل: اشتر لنا جَرَّة، ولتكن غير قَعْراء ولا دَنَّاء ولا مُطَرْبَلة الجوانب.
قال ابن حَمُّوَيْة: "فسألت شَمِرا عن الدَّنّاء فقال: القصيرة، قال: والمطربلة: الطّويلة".
356- أبو تراب عن الأصمعيّ: "العنك: الثلث الباقي من الليل.
وقال أبو عمرو: العِنك ثلثه الثّاني".
357- قال إسحاق بن الفرج: "عَرَبه: باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام.
قال: وفيهما يقول قائلهم:
وعَرْبَةُ أَرْضٌ ما يُحِلُّ حَرَامَها
مِنَ النَّاسِ إلا اللَّوْذَعِيُّ الحُلاحِلُ
يعني النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم: أُحِلَّتْ له مكّة ساعة من نهار، ثمّ هي حرام إلى يوم القيامة.
قال: واضطُرّ الشّاعر إلى تسكين الرّاء من عَرَبة فسكَّنها. وأنشد قول الآخر:
ورُجَّتْ بَاحَةُ العَرَباتِ رَجّاً
تَرَقْرَقُ في مَنَاكِبِهَا الدَّمَاءُ
كما قال: "وأقامت قريش بعربة، فَتَنَّخَتْ بها، وانتشر سائر العرب في جزيرتها، فنُسبوا كلّهم إلىعَرَبة؛ لأنّ أباهم إسماعيل - صلّى الله عليه وسلّم - بها نشأ، ورَبَلَ (أي كثر أولاده) فيها فكثروا، فلمّا لم تحتملهم البلاد انتشروا، وأقامت قريش بها".(44/312)
358- قال أبو تراب قال عرّام: "الحُلاّمُ: ما بَقَرْتُ عنه بطن أَمّه، فوجدتُهُ قد حَمَّم وشَعَّر فإن لم يكن كذلك فهو غَضِين. وقد أغضنت النّاقة إذا فعلت ذلك".
359- روى أبو تراب للأصمعي أنه قال: "العَهْجُ والعَوْهجُ: الطّويلة".
360- قال أبو تراب: "قال سلمان بن المغيرة: مَصَلَ فلان لفلان من حَقّه: إذا خرج له منه.
وقال غيره: ما زِلت أطالبه بحقِّي حتى مصل به صاغراً".
361- "قال ابن الفرج: "غلام هَبَرْكل: قوي.
قال: وأنشدتنا أمّ البُهْلُول:
يا رُبّ بيضاءَ بِوَعْثِ الأَرْمُلِ
قَدْ شُغِفَتْ بِنَا شِيءٍ هَبَرْكلِ"
362- قال مبتكر الأعرابيّ فيما روى أبو تراب عنه: "إنّهم يسيرون سَيرَ الميقابِ، وهو أن يواصلوا بين يوم وليلة".
363- قال أبو تراب: "القَرْقَل: قميص من قُمُصِ النساء، بلا لَبِنَةٍ، وجمعُه قَراقل".
364- روى ابن الفرج عن أبي سعيد الضّرير أنّه قال: أما أنا فأقرأ: {بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُم في الآخِرَة} (1) ومعناه عنده أنهم علموا في الآخرة أنّ الذي كانوا يوعدون حقٌ. وأنشد الأخطل:
وأَدْرَكَ عِلمي في سُوَاءَةَ أَنَّهَا
تُقِيمُ عَلَى الأَوْتَارِ والمَشْرَبِ الكَدْرِ
أي: أحاطَ عِلْمِي أنَّها كذلك.
قال: والقَول في تفسير أَدْرَكَ وادَّراك، ومعنى الآية ما قاله السُّدِّيّ، وذهب إليه أبو معاذ النّحويّ وأبو سعيد الضّرير، والّذي ذهب الفّرّاء في معنى تدارك؛ أي: تتابع علمهم بالحَدْسِ والظَّنِّ في الآخرة أنّها تكون أو لا تكون ليس بالبَيِّن، إنما معناه أنّ عِلمهم في الآخرة تواطأ وحقَّ حين حَقّتِ القيامة وحُشِرُوا وبان لهم صدق ما وُعِدُوا به حين لا ينفعهم ذلك العلم ثمّ قال جلّ وعزّ {بَلْ هُمْ في شَكٍّ مِنها بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُون} (2) أي: جاهلون.
والشَّكُّ في أمر الآخرة: كُفْرٌ".
__________
(1) سورة النمل: الآية: 66.
(2) سورة النمل: الآية 66، والآية في التّهذيب 10/112 محرفة.(44/313)
365- قال أبو تراب: "القَهْبَلِسُ: الأبيض الّذي تعلوه كُدْرَة".
366- قال أبو عبيد عن الفرّاء: "قَرْطَبْتُهُ؛ إذا صرعتَه، والقُرطبَى: السّيف. وأنشد أبو تراب في كتاب الاعتقاب بيتاً لابن الصَّامت الجُشَمِيّ:
رَفَوْني وقالوا لا تُرَعْ يا ابنَ صامِتٍ صَامِتٍ
فَظَلْتُ أُنَادِيهم بثَدْيٍ مُجَدَّدِ
وَمَا كُنْتُ مُغْترَّاً بأَصْحَابِ عَامِرٍ
مع القُرطُبَى تبّتْ بقائمة يَدِي
قال: "القُرْطُبَى: السَّيْفُ".
367- "قال أبو تراب: "أنشدني الغَنَويّ في القوس:
تُجَاوِبُ الصَّوْتَ بتَرْنَمُوتِهَا
تَسْتَخْرِجُ الحَبَّةَ مِن تَابُوتِهَا
يعني: حبَّةَ القلب من الجوف".
368- الرَّمَشُ تَفَتُّلٌ في الشُّفْر وحُمْرَةٌ في الجَفْنِ مع ماءٍ يسيل. رَجُل أَرْمَشُ وامْرَأَةٌ رَمْشَاءُ وعَيْنٌ رَمْشَاءُ، وقد أَرْمَشَ، وأنشد ابن الفَرَج:
لَهُم نَظَرٌ نَحْوي يَكَادُ يُزِيلُنِي
وَأَبْصَارُهُم نَحْوَ العَدُوِّ مرامِشُ
قال: "مَرامِشُ غَضِيضَةٌ من العَدَاوَةِ".
369- روى أبو تراب: لبعض الأعراب: "ضاج السَّهم عن الهدف إذا مال عنه.
قال: وقال غيره: "ضَاجَ الرَّجُلُ عَنِ الحَقِّ: مَالَ عنه".
370- "أبو تراب، عن الأَصْمَعِيّ، يُقَالُ: "قُمْ يَافُلُ، ويَافُلاه، فمن قَالَ: يافُلُ، فَمَضَى فَرَفَعَ بِغَير تَنْوِينٍ، فَقَال: قُمْ يَافُلُ؛ وقَالَ الكُمِيتُ:
يُقال لمثلي: وَيْهاً فُلُ
ومَن قَالَ: يَافُلاه، فَسَكَتَ أَثْبَتَ الهَاءَ، فَقَالَ: قُلْ ذَلِكَ يا فُلاه، وإذا مَضَى قَالَ: يَا فُلا قُلْ ذلك، فَطَرَحَ ونَصَبَ".
371- قال الجوهريُّ: "قال الخَليل: الكُمْلُولُ: نَبْتٌ، وهو بالفَارِسِيَّةِ: بَرْغَسْتْ، حَكَاه أبو تراب في كِتابِ الاعْتِقَابِ".
372- وعن أبي تراب؛ أَنْشَدَنِي الجَهْمُ الجَعْديّ:
قَالَتْ لَهُ واقتَبَصَتْ مِنْ أَثَرِه
يا رَبِّ صاحِبْ شيخنا في سَفَرِه(44/314)
فَقُلْتُ لَه: كَيْفَ اقْتَبَصَتْ من أَثَرِهِ؟ فَقَال: أَخَذَتْ قُبْصَةً مِنْ أَثِرِهِ في الأَرْضِ فَقَبَّلَتْهُ".
373- قَالَ أبو تُرابٍ عَنِ الأَصْمَعِيِّ: "الطُّحُومُ: الدَّفْعُ، والطَّحْمُ: الدَّفْعُ، وكَذّلِكَ طَحْمَةُ السَّيْلِ".
374- قال الأزهريّ: "ابن السِّكِّيت: القَرْفُ: شيءٌ من جُلُودٍ يَعمَلُ فِيْه الخَلْعُ. والخَلْعُ: أَنْ يُؤْخَذَ لَحْمُ جَزُورٍ ويُطْبَخَ بِشَحْمِهِ ويُجْعَلَ فيه تَوَابِل، ثُمَّ يُفَرَّغَ في هَذَا الجِلْدِ. قَالَ مُعَقِّر البارقيّ:
وذُبْيانِيَّةٍ وَصَّتْ بَنِيهَا
بأَنْ كَذَبَ القَراطِفُ والقُرُوفُ
قال وقِرْفُ كُلِّ شَجَرَةٍ: قِشْرُهَا.
وقال أبو سَعِيدٍ في قَولِهِ:
بِأَنْ كَذَبَ القَرَاطِفُ والقُرُوفُ
قال: "القَرْفُ: الأَدِيمُ الأَحْمَرُ".
ورَوَى أبو تُرابٍ عَن أَبِي عَمْروٍ: "القُرُوفُ: الأُدْمُ الحُمْرُ. الوَاحِدُ قَرْفٌ.
قَالَ: والقُرُوفُ والظُّرُوفُ بِمَعْنىً وَاحِدٍ ".
375- قَالَ الجَوْهَرِيُّ: "حَكَى أَبُو عَمْرٍو: الحَرْشَفَةُ: الأَرْضُ الغَلِيظَةُ. نَقَلْتُهُ مِن كِتَابِ "الاعْتِقَابِ"من غَيْرِ سَمَاعٍ".
(انتهت المادّة المجموعة بعون الله وفضله، وتَمّتْ مراجعتها الأخيرة في يوم الاثنين
الموافق للسابع والعشرين من شهر جُمادى الآخرة من سنة 1421هـ
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين)(44/315)
تابع أبو تراب الغوي وكتابه الإعتقاب (القسم الثاني)
فهرس ألفاظ التعاقب
(أحن) أَحِنَ عليه ووَحِنَ.
7
(أرض) آرضهم وآركهم.
198
(أرك) آرضهم وأركهم.
198
(أسس) ألحق الحِسّ بالإسِّ.
131
(أشش) ألحق الحش بالإشّ.
131
(ألس) أُلاق وأُلاس.
157
(ألق) أُلاق وأُلاس.
157
(أنث) يقال للحديد اللّين: أَنِيف وأَنيث.
53
(أنف) يقال للحديد: أَنِيف وأنيث.
53
(بتع) الانبتاع والانبتال
243
(بتل) الانبتاع والانبتال
243
(بجس) بجستُ الجرح وبططته.
345
(بحت) برد بَحْت ولَحْت
برد بحت وسحت ولحت.
32
21
(بخز) بخز عينه وبخسها.
120
(بخس) بخز عينه وبخسها.
120
(بخص) شَخَرَ عينه وضخزها وبخصها
342
(برجس) البرجاس والمرجاس.
36
(برغست) يقال للكُمْلُول: بَره غَسْت.
371
(برى) انبرى واندرى.
16
(بزم) إِبْزِيم وإبزين
313
(بزن) إبْزِيم وإبزين.
313
(بسر) اختصر الجارية وابتسرها
161
(بصص) حصيص القوم وبصيصهم
حصيص القوم وبصيصهم ونصيصهم.
13
15
(بضض) احتضضت نفسي لفلان وابتضضتها
14
(بضع) بجست الجرح وبططته
345
(بقط) تذقَّطتُ الشّيء وتبقّطته
تَسَقَّطتُ الخبر وتبقّطته.
19
20
(بلبل) البَلابل والتَلاتل
10
(بلج) بلج بالشيء وثلج به
12
(بلل) ما فيه بُلالة ولا علالة
26
(بنش) بّنَّش الرجل في الأمر وفَنَّش
27
(بنظ) امرأة شنظيان بنظيان
22
(بنن) أدنّ الرجل بالمكان وأبنّ.
16
(بهض) بهضني الأمر وبهظني
192 202
(بهط) بهضني الأمر وبهطني
202
(بهظ) بهضني الأمر وبهظني
192
(بوح) باحة الدار وقاحتها
باحة العرب
31
357
(بوك) داك الرجل المرأة وباكها
17
(بوى) إلحق بطيّتك وبيّتك
24
(تأق) تئق الرجل ومئق
47
(ترنم) الترنموت = رنم
(تلتل) البلابل والتلاتل
10
(تنبل) رجل تنبل وتنتل
11
(تنتل) رجل تنبل وتنتل
11
(تيف) تاه بصره وتاف
273
(تيه) تاه بصره وتاف
273
(ثرو) هو ذو ذروة من المال وثروة
46
(ثعب) الثَّعب والثَّغْب
رأيتهم مذعابين ومثعابين.
215
50
(ثعثع) الثَّعْثع
344(44/316)
(ثعجر) اثعنجح المطر واثعنجر
76
(ثعحج) اثعنحج المطر واثعنجر
76
(ثغب) الثَّعْب والثَّغْب
218
(ثفل) ثُفْلة من تمر وثملة
269
(ثلج) بلج بالشيء وثلج به
12
(ثمل) ثفلة من تمرو وثملة
269
(ثوج) الثَّوج والفوج
54
(جبس) هو جِبْس عِبْس لِبْس
68
(جحس) الجَحْس والجَحْش
132
(جحش) الجَحْش والجَحْس
132
(جحلجع) جحلنجع
446
(جخر) رجل أجخى وأجخر
117
(جخى) رجل أجخى وأجخر
117
(جدف) جدفت السماء بالثلج وخدفت
62
(جذن) الجذّان والكَذّان
69
(جردب) جَرْدَبت الطعام وجردمته
37
(جردم) جردّبت الطعام وجردمته
37
(جرر) جرّة قعراء ودناء
351
(جرف) رجل مُجارف ومحارف
وادٍ جَرِل وجَرِفٌ
267
60
(جرل) جرل وجَرِفٌ،
267
(جرمق) الجرماق والجلماق
90
(جزل) حطب جَزْن جَزْلٌ
299
(جزن) حطب جَزْنٌ جَزْلٌ
299
(جسم) تجشَّمت الأمر وتجسمته
133
(جشم) تجشَّمت الأمر وتجسّمته
133
(جضد) رجل جلد وجضد
199
(جعب) ضربه فجعبه وجعفه
28
(جعجع) الجعجع والجفجف
232
(جعف) ضربه فجعبه وجعفه
28
(جفجف) الجعجع والجفجف
232
(جلد) رجل جلد وجضد
199
(جلع) الجَلَعة والجَلَقة
236، 237
(جلق) الجَلَعة والجَلَقة
236، 237
(جلمق) الجرماق والجلماق
90
(جمش) جمش القومُ لهم وجنشوا
314
(جنش) جمش القومُ لهم وجنشوا
314
(حبج) حدجه بالعصا وحبجه
حبجه بالعصا وخبجه
18
61
(حبر) ما أصبت منه حَبَربراً ولا حبنبراً
106
(حبض) الإحباض والإحباط
189
(حبط) الإحباض والإحباط
189
(حثو) حذوت التراب وحثوته
49
(حدج) حدجه بالعصا وحبجه
18
(حذو) حذوت التراب وحثوته
49
(حرشف) الحرشفة
375
(حرف) رجل مُجارف ومحارف
60
(حزق) رجل حُزُقّة حُزُمّة
288
(حزم) رجل حَزُقّة حُزُمّة
288
(حسس) ألحق الحسّ بالإسّ
131
(حسفل) جاء بحسكِلِه وبحسفِله
الحساكل والحسافل
262
(حسقل) الحساقل والحساكل
275
(حسكل) جاء بحسكله وبحسفله
الحساكل والحسافل
275
259
(حشش) ألحق الحشّ بالإشّ
131
(حصص) حصيص القوم وبصيصهم(44/317)
حصيص القوم وبصيصهم ونصيصهم
13
15
(حضض) احتضضت نفسي لفلان وابتضضتها
14
(حطب) احتطَبَ عليه واحتَقَبَ
207
(حظب) حظب على العمل عظب
80
(حفد) احتفد واحتمد واحتمل
340
(حفظ) محافظ عليه ومحافل
217
(حفل) محافظ عليه ومحافل
احتفل واحتفد واحتمد
217
340
(حقب) احتطب عليه واحتقب
207
(حقص) سبقني قبصاً وحقصاً
341
(حقل) الحَقْلة والحقْنَة
300
(حقن) الحَقْلَة والحَقْنَة
300
(حلأ) حَلَتُّه وحلأته
1
(حلت) حَلَتُّه وحلأته
1
(حلم) الحُلام
358
(حمد) احتمد واحتفل واحتفد
340
(حمز) حَمَزَه وحَمَظَه
126
(حمظ) حَمَزَه وحَمَظَه
126
(خبج) حبجه بالعصا وخَبَجَه
7
(ختل) هو خاتلٌ له وخاتٍ له
310
(ختى) هو خاتل له وخاتٍ له
311
(خدف) خدفت السماء بالثلج وخدفت
62
(خرش) لي عنده خراشة وخماشة
101
(خزع) اختزعه عرقُ سوء فاختزله
244
(خزل) اختزعه عرقُ سوء فاختزله
245
(خصر) اختصر الجارية وابتسرها
161
(خضف) خضف بها وخضم بها
270
(خضم) خضف بها وخضم بها
270
(خمش) لي عنده خراشة وخماشة
101
(خمل) خامل الذكر وخامن
301
(خمن) خامل الذكر وخامن
301
(خثفع) الخيهفعى
347
(دخمس) أمر مُدَخمس ومدهمس
84
(درفق) مرّ مراً درنفقا ودلنفقا
91
(درقع) درقل القوم ودرقعوا
245
(درقل) درقل القوم ودرقعوا
245
(درك) ادّارك
360
(درى) انبرى واندرى
16
(دعس) طريق مدعوس ومدعوق
158
(دعق) طريق مدعوس ومدعوق
158
(دغمس) أمر مُدَغْمس ومُدَهْمَس
259
(دقل) دقل لحيَه ودقمه
297
(دقم) دقل لحيَه ودقمه
297
(دلص) الدَّليص والدَّلُوص
334
(دلع) اندلع بطن المرأة واندلق
238
(دلنق) مرّ مراً درنفقا ودلنفقاً
(دلق) اندلع بطن المرأة واندلق
91
238
(دمدم) الدَّمدم والدِّندن
316
(دمس) المُدَمَّس والمُدَنَّس
315
(دندنه) الدَّمدم والدِّندن.
316
(دنس) المُدَمَّس والمُدَنَّس.
315
(دنن) أدنَّ الرجل بالمكان وأبنَّ
جرّة لا قعراء ودنّاء
16
355
(دهمس) أمر مَدَ خمس ومدهمس
أمر مُدَ غمس ومُدَ همس(44/318)
84
259
(دوغ) داغ القوم وداكوا
258
(دوك) داغ القوم وداكوا
داك الرجل المرأة وباكها
256
17
(ذأت) ذَأَتَه وذعته
2
(ذرو) هو ذو ذروة من المال وثروة
48
(ذعب) رأيتهم مذعابّين ومثعابيّن
50
(ذعت) ذأته وذعته
2
(دقط) تَذَقَّطْتُ الشيء تَذَقُّطاً
وتَبَقَّطْتُهُ وتَبَقُّطاً
19
(رجب) رجبتُ فلاناً ورجمته
38
(رجز) الرِّجز والرِّجس
118
(رجس) الرِّجز والرِّجس
والمرجاس والبرجاس
118
36
(رجع) رَجَعَ كلامي في الرجل ونجع فيه
106
(رجل) المنجول والمرجول
108
(رجم) رجبتُ فلاناً ورجمته
38
(ردد) ردّه عن الأمر ولدَّه
92
(ردم) هَدَّم ثوبه وردّمه
113
(رزم) المهزام والمرزام
114
(رسح) الرَّصَح والرَّسَح
81
(رسم) الرَّسْم والرَّشْم
الروسم والروشم
134
(رشم) الرَّسْم والرَّشم
الروسم والروشم
134
(رصح) الأرصح والأرصع
81
(رصع) الأرصح والأرصع
81
(رعج) الارتعاج والارتعاش والارتعاد
66
(رعد) الارتعاج والارتعاش والارتعاد
66
(رعش) الارتعاج والارتعاش والارتعاد
66
(ركز) رُمْح مركوز وموكوز
116
(رمز) ارتمزت الفرس وارتمضت
122
(رمش) الرَّمشُ والأرْمَش
368
(رمض) ارتمزت الفرس وارتمضت
122
(رنم) الترنموت
367
(رهس) تركت القوم قد ارتهسوا وارتهشوا
136
(رهش) تركت القوم قد ارتهسوا وارتهشوا
136
(زأب) زأبت وقأبت
128
(زأج) زمج بين القوم وزأج
6
(زجل) الزِّنجيل والزِّيجيل
332
(زحف) أزحف الرّجل وأزحك
261
(زحك) أزحف الرّجل وأزحك
261
(زحلق) الزّحاليك والزّحاليق
276
(زخر) زاخرته وفاخرته
127
(زعب) زَعَبَ لي وزَهَبَ
ازدهبه وازدعبه
247
251
(زغب) أخذت بزغب رقبته ولغبها
129
(زقم) الزَّقم واللَّقم
130
(زلق) تزلّق وتزيّق
312
(زمج) زمج بين القوم وزأج
نيّة زَمَجٌ وشَمَخٌ
زمج بأنفه وشمخ.
6
121
121
(زنجل) الزَّنجبيل والزِّنجبيل
332
(زهب) زَغَبَ لي وزَهَبَ
ازدهبه وازدعبه.
250
251
(زيق) تزلّق وتزيّق.
312
(سبح) السِّباح والسٍّماح
سبحت في الأرض وسبخت فيها.(44/319)
39
62
(سبخ) سبَخت في الأرض وسبخت فيها
62
(سحت) برد بحت وسحت ولحت
21
(سخا) سخا النّار وصخاها
147
(سدأ) السِّندأو القندأو
159
(سدر) يضرب أَسْدَرَيه وأَصْدَرَيه
148
(سذق) السَّوْذق والشَّوذق
137
(سرع) سُرُوع وسُرُوغ
225
(سرغ) سُرُوع وسُرُوغ
225
(سرهف) سَرْهَفَ غذاءه وشرهفه
138
(سطأ) سطأ المرأة وشطأها
137
(سعط) السعوط والصعوط
208
(سقط) تسقّطت الخبر وتبقطته
20
(سقع) الديك يَسْقَع ويَصْقَع
149
(سلت) ذهب فَلْتَة وسلته
انسلت يعدو وانهلت
سلت الدم وهلته.
158
167
167
(سلج) سَلَجَ الناقة وملجها
165
(سلح) السُّلَحة والسُّلَكة
83
(سلحف) الشَّلَّحف والسَّلَّحف
141
(سلعف) الشِّلَّعف والسِّلَّعف
141
(سلك) السُّلحة والسُّلَكة
83
(سلل) امتلّ واستلّ وانملّ وانسلّ
166
(سمح) السِّباح والسَّماح
39
(سمر) تركتكم سامراً وعامراً
154
(سندق) سُندوق وصندوق
150
(سنسن) السَّناسن والشناشن
142
(سوم) سار القوم وساموا
102
(سير) سار القوم وساموا
102
(شخب) شخل فلان ناقته وشخبها
33
(شخر) شَخَرَ عينه وصخرها
342
(شخل) شخل فلان ناقته وشخبها
33
(شذق) السَّوذق والشَّوذق
137
(شرهف) سَرْهَفَ غذاءه وشرهفه
138
(شرى) أشريت بين القوم وأغريت
139
(شسب) الشاسب والشاسف
29
(شسف) الشاسب والشاسف
29
(شصب) هي الشصائب والشصائص
الشصائب والشطائب.
23
179،180
(شصص) هي الشصائب والشَّصائص.
23
(شطأ) شَطَأتْ به وفطأت
سطأ المرأة وشطأها
168
139
(شطب) شَطَبَ وشطف
الشصائب والشطائب.
30
179،180
(شطف) شَطَفَ وشَطَبَ
30
(شظظ) طاروا شظاظاً وشعاعاً
216
(شعع) طاروا شطاظاً وشعاعاً
216
(شقأ) شقأ ناب البعير وشكأ
إبل شويقئة وشويكئة
277
278
(شكأ) شقأ ناب البعير وشكأ
إبل شويقئة وشويكئة.
277
278
(شلحف) الشّلّحف والسِّلّحف
140
(شلعف) الشِّلّغف والسِّلّعف
الشِّلّغف والشِّلَّعف
137
219
(شلغف) الشِّلَّغف والشِّلّعف.
219
(شلم) يتطاير شِلَّمه وشنَّمه
202(44/320)
(شمخ) زمج بأنفه وشمخ
نيّة زَمَخٌ شَمَخٌ
121
121
(شمر) انشمل في حاجته وانشمر فيها
93
(شمعط) اشمعطّ القوم واشمعلوا
212
(شمعل) اشمعطّ القوم واشمعلوا
212
(شمل) انشمل في حاجته وانشمر فيها
93
(شنشن) السناسن والشناسن
144
(شنظ) امرأة شنظيان بنظيان
22
(شنعف) الشِّنَّعف والشِّنَّغف
220
(شنم) يتطاير شلَّمه وشِنّمه
292
(شوط) شَوَّط القِدر وشيطها
335
(صأب) صؤاب القمل وصغا به
فئبت وصئبت
5
183
(صأبل) الصئبل والضئبل
176
(صأم) فئمت وصئمت
183
(صخا) سخا النار وصخاها
147
(صدد) صَدَّه عنه وضَدَّه
177
(صدر) يضرب أسْدَرَيه وأَصْدَرَيه
148
(صرع) المهروع والمصروع
188
(صرى) صراهنّ وطِراهنّ
181
(صطع) خطيب مصْطَع ومِصْقَع
208
(صعصع) صعصع رأسه وصغصغه
221
(صعط) الصَّعوط والسَّعوط
208
(صغب) صؤاب القمل وصغابه
5
(صغصغ) صعصع رأسه وصغصغه
221
(صفق) أصفقت الباب وأصمقته
271
(صقع) الديك يسقع ويصقع
خطيب مِصْطَع ومِصْقَع
صقعٌ خالٍ وصقلٌ خالٍ
صقله بالعصا وصقعه.
149
208
246
246
(صقل) صِقعٌ خالٍ وصقل خالٍ
صقله بالعصا وصقعه
صقله بالعصا وصمله.
246
246
289
(صلت) صلتُّ الفرس كَلَتُّهُ
186
(صمق) أصفقت الباب وأصمقته
أصمقت الباب وأغلقته
271
343
(صمل) صقله بالعصا وصمله
289
(صندق) سُندوق وصُندوق.
150
(ضأبل) الصئبل والضئبل
176
(ضبر) الضِّبن والضبر
109
(ضبن) الضّبن والضبر
109
(ضجع) اضطجع والطَجَعَ
200
(ضخز) شخز عينه وضخزها
342
(ضدد) صَدَّه عن الأمر وضدّه
177
(ضمد) العَمَد والضَّمد
194
(ضهد) أضهدتُ بالرّجل وألهدت به
201
(ضوك) رأيت ضُواكه من النّاس وضَوِيكه
338
(ضوو) سمعت ضَوّة القوم وعوَّتهم
195
(ضيج) ضاج السّهم
369
(طحم) الطَّحْم والطّحوم
373
(طخف) الطّخيفة واللخيفة
213
(طربل) المطربلة
355
(طرخم) شباب مطرهم ومطرخم
إنه لمُطْرخِمّ ومُطْلَخِمّ
84
94
(طرد) اضطرادٌ والطِراد
200
(طرق) عَرَقة الإبل وطرقتها
203(44/321)
(طرهم) شباب مطرهم ومطرخم.
85
(طرى) صَراهنّ وطراهنّ
181
(طسم) الغَسَمُ والطّسم
204
(ططم) الطّواطم والطّماطم
328
(طلخم) إنه لُمطرَخِمّ ومُطْلَخِمّ
94
(طلف) لا تذهب به طلفاً ولا ظلفاً
203
(طمس) طَمَّس في الأرض وطَهَّس
طَمَسَ وطَوَّس.
324
327
(طمطم) الطّواطم والطماطم
328
(طهس) طَمَّسَ في الأرض وطَهَّسَ
324
(طوس) طَمَسَ وطَوَّس
327
(طول) التنوّل والتطوّل
215
(طوى) اِلْحَقْ بطيّتك وبيّتك
24
(ظلف) الظّلَف والطَّلف
203
(عبج) العبكة والعبجة
70
(عبس) هو جِبْسٌ عِبْسٌ
68
(عبك) العبكة والعبجة
70
(عتر) عادت لعِتْرِها لميس ولعكرها
45
(عثث) يقال للعجوز عُفَّة وعُثّة
55
(عثم) فلان يعثم ويعثِن
317
(عثن) العثن والعهن
فلان يعثم ويعثن
58
317
(عدف) عِدْفة وهِدْفة وهَدِف
252
(عذق) كذبت عذّاقته وعذّانته
290
(عذن) العذّانة والكذّانة
كذبت عذّاقته وعذّانته
242
290
(عرجم) علجوم وعُرْجوم
95
(عرز) التعريز والتعريض
120
(عرض) التعريز والتعريض
123
(عرق) عَرَقَة الإبل وطرقتها
205
(عسس) المعَسُّ المعَشُّ
144
(عسق) العشق والعسق
143
(عسل) عِسْل مالٍ وعسْنُ مال
303
(عسن) أَعْسَان وأغْسان
عِسْل مالٍ، وعِسْنُ مال
219
303
(عشش) المَعَسّ والمَعَشُّ
144
(عشق) العشق والعسق
143
(عظب) حظب على العمل وعظب
82
(عفط) عَفَقَ بها وعَفَطَ
209
(عفف) يقال للعجوز: غُفَّة وعُثَّة
55
(عفق) عَفَقَ بها وعَفَطَ
عافق وغافق
209
223
(عقد) عقد عنفه وعكدها
279
(عكد) عقد عنقه وعكدها
279
(عكر) عادت لعِتْرها لميس ولعكرها
45
(عكظ) عكّظه عن حاجته ونكّظه
248
(علجم) عُلْجوم وعُرْجوم
95
(علل) ما فيه بُلالة ولا علالة
26
(عمد) العمد والضمد
194
(عمر) تركتكم سامراً وعامراً
154
(عمس) تعامست وتعامشت
147
(عمش) تعامست وتعامشت
147
(عنذ) فلانة تغنذي به وتعنذي
225
(عنعن) العنعنة في تميم
351
(عنقر) عُنقر وعُنقُر
349
(عنك) العِنك
356(44/322)
(عنى) ما أعْنَى شيئاً وما أغنى
ما يعانون ما لَهم ولا يُفانونه
224
233
(عهج) العهج والعوهج.
359
(عهن) العثن والعهن.
59
(عوو) ضوّة القوم وعوّتهم
195
(غبش) الغطش والغبش
25
(غثر) تركت القوم في غيثرة وغيثمة
103
(غثم) تركت القوم في غيثرة وغيثمة
103
(غدد) أغدّ وأضدّ
196
(غذذ) غضضت منه وغَذذت
89
(غرى) أشريت بين القوم وأغريت
169
(غسس) غُسَّ له الخنجر وغُلّ
163
(غسم) الغَسَمُ والطسم
206
(غسن) أغسان وأعسان
222
(غضض) غضضت منه وغذذت
غضضت الغصن وغضفته
89
197
(غضف) غضضت الغصن وغضفته
197
(غطش) الغَطَش والغبش
25
(غطغط) المغطغطة والمغظغظة
204
(غظغظ) المغطغطة والمغظغظة
204
(غفق) عافق وغافق
223
(غلف) تغلّف بالغالية وتغلل بها
268
(غلل) غُسَّ له الخنجر وغُلَّ
تغلّف بالغالية وتغلل بها.
163
268
(غمم) المغمّة والمكمة
258
(غنذ) فلانة تغنذي بهم وتعنذي
225
(غنظ) غنظه وكنظه
257
(غنى) ما أَعْنَى شيئاً وما أَغْنَى
224
(غهق) الغَوْهق
350
(فأب) فَئِبْتُ وصئبْتُ
183
(فخر) زاخرته وفاخرته
127
(فرس) فريصة وفريسة
الفَرْسُ والفَرْصُ
151
151
(فرص) الفَرْس والفَرْصُ
فريصة وفريسة
151
151
(فرطح) فَرْطح، القُرْص وفلطحه
96
(فرطس) الفنطيسة والفرطيسة
110
(فرع) فَرَّع بين القوم وفرّق
239
(فرفر) هرهرته وفرفرته
274
(فرق) فرّع بين القوم وفرّق
239
(فسل) فصلت المرأة وفسلت
152
(فشش) الأفعى تكشّ وتَفِشُّ
265
(فشى) كلمة فاغية وفاشية
170
(فصص) فصصته وفصلته
187
(فصل) فصلت المرأة وفسلت
فصصته وفصلته
152
187
(فطأ) فطأت به وشطأت به
171
(فعم) أفعمت الرجل وأفغمته
225
(فغم) أفعمت الرجل وأفغمته
225
(فغى) كلمة فاغية وفاشية
170
(فكر) تفكّن وتفكّر
111
(فكن) تفكّن وتفكّر
111
(فلت) ذهب فَلْتَةً وسَلْتَةً
فَرَسٌ فُلَّتٌ كُلَّتٌ وفُلَتٌ كُلَتٌ
156
264
(فلد) غلام أملودٌ وأُفلود
272
(فلطح) فرْطح القرص وفلطحه
96
(فلن) يا فلان ويا فلاه
366(44/323)
(فنش) بَنَّش الرجل في الأمر وفنَّش
فَنَّش عن الأمر وفَيَّش
27
333
(فنطس) الفنطيسة والفِرطيسة
110
(فني) ما يعانون ما لهم ولا يفانونه
لا يقانون مالهم ولا يفانونه
233
261
(فوج) الثوج والفوج
54
(فيش) فَنَّش عن الأمر وفَيَّش
333
(قأب) زأبت وقأبت
128
(قبح) قاذحني وقابحني
82
(قبص) سبقني فلان قبصاً وحقصاً
أخذت قُبصَة من أثره
341
372
(قحط) إقحاط الزمان وإكحاطه
280
(قحف) قحف استه ولحفها
286
(قدأ) القندأو والسندأو
159
(قدر) غلام قُدُرٌ وكُدُرٌ
282
(قدفر) = (قندفر)
(قدفل) = (قندفر)
(قذح) المقاذحة والمقاذعة
أقزع له وأقذع
82
88
(قرطب) القُرطُبَى
366
(قرفل) القَرْفَل
359
(قزع) مَرَّ فلان يَهْزَع ويَقْزَع
أقزع له وأقذع.
291
88
(قصم) قَصَمَ راجعاً وكَصَمَ
283
(قطع) القُطعة في طيِّئ
351
(قطى) تقطّيت عليهم وتلطّيت
287
(قعث) انقعث الجدار انقعف
56، 58
(قعر) جَرَّة لا قعراء ولا دنّاء
355
(قعف) انقعث الجدار وانقعف
56، 57
(قمز) هذه قُمْزَةٌ وكُمْزَةٌ
284
(قمش) يقمشون ويهمشون
291
(قمع) إداوة مقموعة ومقنوعة
318
(قمه) يَتَقَمَّهُ ويتكمَّهُ
281
(قندفر) القندفيل والقندفير
97
(قندفيل) القندفيل والقندفير
97
(قنع) إداوة مقموعة ومقنوعة
318
(قنى) لا يقانون ما لهم ولا يفانونه
261
(قهبلس) القَهْبَلِسُ
365
(قوز) تَقَوّز البيت وتَقَوَّض
124
(قوض) تقَوَّز البيت وتَقَوّض
124
(قيح) باحة الدار وقاحتها
31
(كبع) الكبوع والكنوع
41
(كثأ) أُكثّعُ السقاءَ وأكثّئه
3
(كثح) كسح وكثح
51
(كثر) الكَيْثَرُ والكوثر
336
(كثع) أُكثِّعُ السقاءَ وأُكثِّئُهُ
3
(كحط) إقحاط الزمان وإكحاطه
280
(كدر) غلام قُدُرٌّ وكُدُرٌّ
والكَدَرُ والكَدَنُ.
282
112
(كدش) اكتدشت وامتدشت
294
(كدن) الكدن والكدر
112
(كذن) الجذّان والكذّان
كذبت عذّانته وكذّانته
69
242
(كرع) كمع الفرس وكرع
104
(كسح) كسح وكثح
51
(كسم) روضة أكسوم ويكسوم
9(44/324)
(كشش) الأفعى تَكشّ وتَفِشُّ
265
(كصم) قصم راجعاً وكصم
283
(كعظل) الكعظلة والنعظلة
295
(كفخ) كفخه ولمخه
293
(كلت) صَلتُّ الفرسَ وكَلَتُّه
فرس فُلَّتٌ وكُلَّتٌ وفُلَت كُلَت
185
264
(كلس) كَلَّسَ على القوم وكلَّل
164
(كلل) كلَّسَ على القوم وكلّلَ
164
(كمز) هذه قُمْزَةٌ وكُمْزَةٌ
284
(كمش) يقمشون له ويكمشون
288
(كمع) كمع الفرسُ وكرع
104
(كمل) الكملُول
371
(كمم) المِغمّة والمِكمّة
258
(كنظ) غنظه وكنظه
257
(كنع) الكبوع والكنوع
بَضَّعَه وكَنَّعَه وكوَّعه
41
339
(كوع) بضّعه وكنّعه وكوَّعه
339
(كوا) للبيت كِواء وهواء
296
(لبأ) اللباء واللياء
42
(لبس) هو جِبْسٌ وعِبْسٌ لِبْسٌ
68
(لتأ) لعن الله أماً لتأت به ولكأت به
46
(لتب) التُبْ بها والتم بها.
40
(لتم) اُلْتُبْ بها والتم بها
40
(لجلج) لجلجت المضغة ونجنجتها
304
(لحت) برد بحت وسحت ولحت
21
(لحف) قِحْف استه وكفته
286
(لخف) الطخيفة واللخيفة
الوخيفة واللخيفة
213
309
(لدد) رَدَّه عن الأمر ولَدَّه
92
(لزب) طين لازب ولازق
31
(لزق) طين لازبٌ ولازق
31
(لطى) تقطّيت عليهم تلطّيت
287
(لغب) زغب رقبته ولغبها
129
(لفأ) لفأه بالعصا ولكأه
266
(لفخ) كفخه ولفخه
293
(لقس) مَقِسَتْ نفسُه ولَقِسَتْ
298
(لقم) الزقم واللقم
130
(لكأ) لفأه بالعصا ولكأه
266
(لكع) لَكَعَ الشاة ونكعها
عبد ألكعُ أوكع
305
310
(لهدت) أَضْهَدتُ بالرجل وألهدتُ
200
(لوص) لاص عنه وناص
306
(ليأ) اللباء واللياء
42
(مأق) تئِق الرجل ومَئق
47
(مأن) ما مأنت مأنه
354
(متج) سرنا عُقْبة متوجاً ومتوحاً
61
(متح) سرنا عُقْبةً متوجاً ومتوخاً
متح الشيء ومتخه
امتتحت الشيء وانتتحته.
61
73
319
(متخ) متخ الشيء ومتحه
سرنا عُقْبَةً متوجاً ومتوخاً
73
61
(مثث) مثّ الجرح ومشّه
مَثّ الجرح ونثَّه
52
320
(مجع) ثماجن الرجلان وتماجعا
249
(مجن) تماجن الرجلان وتماجعا
246
(محج) محج المرأة ومخجها
74(44/325)
(مخج) محج المرأة ومخجها
74
(مدش) اكتدشت وامتشت
294
(مرج) المِرِّيج والمرِّيخ
هو المريخ والمرِيج
65
64
(مرخ) المِرِّيخ والمِرّيخ
هو المريخ والمريج
65
64
(مرد) مَرَدَه وهَرَدَه
325
(مرط) مرطه وهرده
344
(مسخ) مسخه ونسخه
321
(مشش) مثّ الجرح ومَشّه
يمتشّ ويمتشن
52
175
(مشط) الممشوط والممشوق
210
(مشع) امتشعتُ ما فيه وامتشقته
240
(مشغ) مشغه ومشقه
254
(مشق) امتشعت ما فيه وامتشقته
مشغه ومشقه
240
254
(مشل) امتشلت الناقة وامتشنتها
307
(مشن) يمتشّ ويمتشن
امتشلت الناقة وامتشنتها
175
307
(مصص) مضمض إناءه ومصمصه
178
(مصل) مصل فلان لفلان حقّه
مصل به صاغراً
360
360
(مصمص) مضمض إناءه ومصمصه.
178
(مضح) أمضحته وأنضحته
322
(مضض) تماضّ القوم وتماظّوا
194
(مضمض) تماضّ القوم وتماظّوا
194
(مضمض) مضمض إناءه ومصمصمه
178
(مطأ) مطا الرجل المرأة ومطأها
8
(مطل) انتطله وامتطله
323
(مطا) مطا الرجل المرأة ومطأها
8
(مظظ) تماضّ القوم وتماظّوا
194
(معص) في بطنه مَعَص ومَغَص
227
(معط) طويل مُمعَّط ومُمَغّط
228
(مغص) في بطنه معَص ومَغَص
227
(مغط) طويل مُمَعّط ومُمَغّط
228
(مقس) مَقِسَتْ نفسه ولَقِسَتْ
298
(ملج) سلَج الناقة وملجها
165
(ملد) غلام أُمْلودٌ وأُفلود
272
(ملز) امَّلز من الأمر وامّلَسَ
119
(ملس) بعته الملسى والملطى
امَّلَز من الأمر وامَّلَس
ملسني بلسانه وملطني.
150
119
160
(ملط) بعته الملسى والملطى
ملسني بلسانه وملطني
153
160
(ملع) ناقة مَيْلَع ميلق
241
(ملق) ناقة مَيْلَع ميلق
241
(ملل) امتلّ واستلّ وانملّ وانسلّ
166
(منجلق) المنجنيق والمنجليق
308
(منجنق) المنجنيق والمنجليق
308
(موله) عين المولة
352
(نبث) نبّث عن الأمر ونقَّث
نبيثة البئر ونقيثتها
31
31
(نبج) النّباج
353
(نبط) ينتبق وينتبط
211
(نبق) ينتبق وينتبط
211
(نتت) لبطنه نتيت ونفيت
44
(نتح) امتتحت الشيء وانتَتَحْتُهُ
319(44/326)
(نجنج) لجلجت المضغة ونجنجتها
304
(نخس) نُخِشَ لحم الرجل ونُخِسَ
145
(نخش) نُخِشَ لجم الرجل ونُخِسَ
145
(ندش) نَدَفَ القطن وندشه
172
(ندف) نَدَفَ القطن وندشه
172
(نزأ) نزأت الراحلة وهزأتها
329
(نزر) نَزَّره ونَزَّهه
115
(نزه) نَزَّره ونَزَّهه
115
(نسخ) مسخه ونسخه
321
(نسس) النَّسيس والنَّكيس
162
(نشط) نشلتْه الحيّة ونشطته
214
(نشع) نشغه ونشعه
نُشِغ به ونُشِع به
النشوع والنشوغ.
228
228
230
(نشغ) نشغه ونشعه
نُشِغ به ونشع به
النشوع والنشوغ.
228
228
230
(نشل) نشلته الحية ونشطته.
214
(نصع) شرب حتى نَصَعَ ونَقَعَ
النِّصَع والنِّطع.
185
182
(نضح) النَّضح والنَّضخ
أمضحته وأنضحته.
75
322
(نضخ) النضح والنضخ
75
(نضف) أنضفتِ الناقةُ وأوضفت
330
(نطس) تنطّع وتنطّس
155
(نطع) تنطّع وتنطّس
النِّصَع والنِّطع
155
182
(نطل) انتطله وامتطله
323
(نعج) النعج والنهج
258
(نعظل) النعظلة والكعظلة
295
(نغض) نهضنا إلى القوم ونغضنا.
260
(نغم) سمعت منه نغمة ووغمة
331
(نغى) نغْيَة حق ونَقْية
255
(نفت) لبطنه نتيت ونفيت
44
(نفف) هي النَّفِّيّة والنَّيِّيّة
58
(نقت) نُقِتَ العظم ونُكِتَ
285
(نقث) نبيثة البئر ونقيثتها
31
(نقش) المنقِّشة والمنقّلة
174
(نقع) شرب حتى نَصَعَ ونقع
185
(نقل) المُنَقِّشة والمنقلة
174
(نقى) نَغْيَة حق ونَقْية
255
(نكت) نُقِتَ العظم ونُكِث
285
(نكس) النَّسِيس والنكيس
162
(نكش) نكف البئر ونكشها
162
(نكظ) عَكّظَه عن حاجته ونكّظه
248
(نكع) نكع عن الأمر ونكل
لكع الشاة ونكعها
247
305
(نكف) نكف البئر ونكشها
173
(نكل) نكع عن الأمر ونكل
247
(نمر) نمر في الجبل ونمل
98
(نمش) بعير نمِشٌ ونَهِش
326
(نمل) نمر في الجبل ونمل
98
(نهج) النعج والنهج
253
(نهش) بعير نمش ونهِش
326
(نهض) نهضنا إلى القوم ونغضنا
260
(نوص) لاص عن الأمر وناص
306
(نوض) الأنواض والأنواط
190
(نوط) الأنواض والأنواط
190(44/327)
(نول) التنوّل والتطوّل
215
(نون) عين النونة وعين المولة
352
(هبركل) غلام هبركل
361
(هجأ) هَجَعَ غرثُهُ وهجأ
4
(هجع) هجع غرثه وهجأ
هجيع من الليل وهزيع
4
67
(هجنع) الهَجَنَّع والهَجَنّف
235
(هجنف) الهَجَنَّعَّ والهَجَنَّفَّ
235
(هدر) هَدَرَ الغلام وهَدَلَ
99
(هدف) عِدْفَة وعِدَف وهِدْفة وهِدَف
252
(هدل) هَدَرَ الغلام وهَدَلَ
99
(هدم) هَدَّمَ ثوبه وردّمه
113
(هرجب) الهراجيب والهراجيل
34
(هرد) مَرَدَ وهَرَدَهُ
مرطه وهرده
325
444
(هرع) المهروع والمصروع
188
(هرهر) هرهرته وفرفرته
274
(هزأ) نَزَأت الراحلة وهزأتها
329
(هزز) جاء يهزُّ المشي ويهضّه
125
(هزع) هجيع من الليل وهزيع
مرَّ فلان يهزَع ويَقْزَع
67
291
(هزم) المهزام والمرزام
114
(هضب) يهضل بالكلام ويهضب به
35
(هضض) جاء يهز المشي ويهضه
125
(هضل) يهضل بالكلام ويهضب به
35
(هلت) انسلت يعدو وانهلت
سلت الدم وهلته
167
167
(هلغف) الهِلَّغف
220
(همش) يقمشونَ ويهمشون
292
(هوا) للبيت كواء وهواء
296
(وبع) كذبت وبّاعته ووبّاغته
231
(وبغ) كذبت وبّاعته وبّاغته
231
(وحن) أَحِنَ عليه ووَحِنَ
7
(وخض) وخطه الشيب وخضه
193
(وخط) وخطه الشيب وخضه
193
(وخف) الوَخيفة واللخيفة
309
(وضع) أوضفت الناقة وأوضعت
234
(وضف) أَنضَفتِ الناقة وأوضفت
أوضفت الناقة وأوضعت
330
234
(وطأ) وطأ الرجل المرأة ووطاها
8
(وطا) وطا الرجل المرأة ووطأها
8
(وغر) الوغر والوغم
105
(وغم) الوغر والوغم
سمعت منه نغمه ووغمه
105
331
(وقب) يسيرون سيراً الميقاب
362
(وقش) الوَقَش والوقص
168
(وقص) الوَقَش والوقص
168
(وكز) رمح مركوز وموكوز
116
(وكع) عبد ألكع أوكعُ
310
(وله) عين المولة وعين النونة
348
(وهر) مستوهر بالأمر ومستيهر.
337
(ويح) الويح والويس
77،78
(ويس) الويح والويس
77، 78
(ويل) الويح والويس والويل
78، 79
(يهر) مستوهر بالأمر ومستيهر
337(44/328)
أبو تراب الغوي وكتابه الإعتقاب (القسم الثاني)
فهرس المصادر والمراجع
1- الإبدال، لأبي الطيب اللغوي، بتحقيق عز الدين التنوخي، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق 1379هـ.
2- الإبل، للأصمعي، بعناية أوغست هفنر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1903 (ضمن كتاب الكنز اللغوي)
3- إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، لعبد الباقي اليمني، بتحقيق الدكتور عبد المجيد دياب، مركز الملك فيصل للبحوث، الرياض 1406هـ.
4- الأشباه والنظائر، للسيوطي، بتحقيق عبد الإله نبهان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1406هـ
5- الأفعال، للسرقسطي المعفاري، بتحقيق الدكتور حسين محمد شرف، الهيئة العامةلشؤون المطابع الأميرية، مصر 1395هـ.
6- الأمالي، لأبي علي القالي، بتحقيق محمد عبد الجواد الأصمعي، دار الكتب المصرية 1926م.
7- إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، القاهرة، ومؤسسة الكتب الثقافية بيروت 1406هـ.
8- الأنساب، للسمعاني، بتحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي، بيروت1400هـ الطبعة الثانية.
9- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، للبغدادي، دار الفكر، بيروت 1402هـ.
10- البارع في اللغة، لأبي علي القالي، بتحقيق هاشم الطعان، مكتبة النهضة، بغداد 1973م.
11- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1964م.
12-تاج العروس، للزبيدي، المطبعة الخيرية، القاهرة 1306هـ.
13- تاريخ التراث العربي، (المجلد الثامن) للدكتور فؤاد سزكين، إدارة الثقافة والنشر العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1408هـ.
14- التتمة في التصريف، لابن القبيصي، بتحقيق الأستاذ الدكتور محسن ابن سالم العميري، مطبوعات نادي مكة الأدبي، 1414هـ.
15- تحبير الموشّين في التعبير بالسين والشين، للفيروز آبادي، نسخة خطية بمكتبة عارف حكمت، برقم (101 - 410) .(44/329)
16- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، لابن مالك، بتحقيق محمد كامل بركات، دار الكتاب العربي، القاهرة 1387هـ.
17- التكملة والذيل والصلة، للصغاني، بتحقيق عبد العليم الطحاوي وآخرين، مطبعة دار الكتب، القاهرة 1970م.
18- تلخيص ابن مكتوم (تلخيص أخبار النحويين) لابن مكتوم، مخطوط برقم 2069، دار الكتب المصرية (تاريخ - تيمور)
19- التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح، لابن بري، بتحقيق مصطفى حجاري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1980م.
20- تهذيب اللغة، للأزهري بتحقيق عبد السلام هارون وآخرين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، القاهرة 1384هـ.
21- الجمهرة، لابن دريد، بتحقيق الدكتور رمزي بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت 1987م.
22- الخاطريات، لابن جني، بتحقيق علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1408هـ.
23- خزانة الأدب، لعبد القادر البغدادي، بتحقيق عبد السلام هارون، الخانجي، القاهرة 1409هـ، الطبعة الثالثة.
24- الخصائص، لابن جني، بتحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، القاهرة 1371هـ.
25- ديوان الأدب، للفارابي، بتحقيق الدكتور أحمد مختار عمر، الهيئة المصرية لشؤون المطابع الأميرية 1394هـ.
26- شرح الشافية، للرضي، بتحقيق محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ.
27- شرح المفصل، لابن يعيش، عالم الكتب، بيروت.
28- الصاحبي في فقه اللغة، لابن فارس بتحقيق السيد أحمد صقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة 1977م.
29- الصحاح، للجوهري، بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت.
30- طبقات ابن قاضي شهبة، بتحقيق محسن غياض، مطبعة النعمان، النجف 1974م.
31- طبقات النحويين واللغويين، لأبي بكر الزبيدي، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة 1984م.
32- ظاهرة الإبدال اللغوي، للدكتور علي حسين البواب، دار العلوم، الرياض، 1404هـ.(44/330)
33- العباب، للصغاني (حرف الهمزة) بتحقيق الدكتور قير محمد حسن، مطبوعات المجمع العلمي العراقي 1398هـ 1987م.
34- العباب، للصغاني (حرف الغين) بتحقيق محمد حسن آل ياسين، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980م.
35- العباب، للصغاني (حرف الفاء) بتحقيق محمد حسن آل ياسين، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1981م.
36- العين، للخليل بن أحمد، بتحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة الأعلمي، بيروت 1408هـ.
37- الفائق في غريب الحديث، للزمخشري، بتحقيق محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت 1399هـ.
38- فقه اللغة وسر العربية، للثعالبي، بتحقيق سليمان البواب، دار الحكمة، دمشق 1409هـ.
39- الفهرست، لابن النديم، بتحقيق رضا تجدّد، دار المسيرة، بيروت 1407هـ.
40- القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1407هـ.
41- الكتاب، لسيبويه، بتحقيق عبد السلام هارون، عالم الكتب، بيروت 1403هـ.
42- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، للحاجّ خليفة، دار الفكر، بيروت 1402هـ.
43- لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت.
44- المحكم، لابن سيده، بتحقيق جماعة من العلماء، القاهرة 1377هـ.
45- المحيط في اللغة، للصاحب بن عبَّاد، بتحقيق محمد حسن آل ياسين، عالم الكتب 1414هـ - 1994م.
46- المخصص، لابن سيده، بعناية محمد محمود التركزي الشنقيطي ومعاونة عبد الغني محمود، مطبعة بولاق، القاهرة 1321هـ.
47- المزهر، للسيوطي، بتحقيق محمد جاد المولى وعلي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت.
48- المصباح المنير، للفيومي، بتحقيق عبد العظيم الشناوي، المكتبة العلمية، بيروت.
49- معجم الأدباء (إرشاد الأريب) لياقوت الحموي، بتحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الغرب، بيروت 1993م.
50- المعجم العربي، للدكتور حسين نصّار، دار مصر للطباعة، القاهرة 1956م.(44/331)
51- المفصل في علم العربية، للزمخشري، دار الجيل، الطبعة الثّانية.
52- مقاييس اللغة، لابن فارس، بتحقيق عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية إيران، قم.
53- المقتضب، للمبرد، بتحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت.
54- نزهة الألباء في طبقات الأدباء، للأنباري، بتحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار، عمان 1405هـ.
55- نكت الهميان في نكت العميان، للصفدي، بتحقيق أحمد زكي باشا، المطبعة الجمالية، القاهرة 1329هـ.
56- هدية العارفين، لإسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر 1402هـ.
57- الوافي بالوفيات، للصفدي، باعتناء جماعة من العلماء، دار صادر، بيروت 1969م.
58- الوجيز في علم الصرف، لأبي البركات الأنباري، بتحقيق الدكتور علي حسين البواب، دار العلوم، الرياض 1402هـ.
59- وفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم، لابن مالك، بتحقيق بدر الزمان محمد شفيع النيبالي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة 1409هـ.
60- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، بتحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1398هـ.(44/332)
تابع مع الإمام أبي اسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم وتفسيره
الفصل الثاني
مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم (وفيه اثنا عشر مبحثا)
سنصحب - بإذن الله تعالى - الإمام أبا إسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم، وسيتبيّن لنا من خلال هذه المباحث أنّ الإمام أبا إسحاق الشاطبي مفسر مؤصل لعلم التفسير، يضع القواعد والأسس التي يُعتمد عليها في فهم كتاب الله تعالى.
وكنت أود أن يكون عنوان هذا الفصل "مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أصول التفسير"، لكنّ هذا العنوان يُخرج بعض المباحث النفيسة المتعلقة بعلوم القرآن الكريم، ففضلت أن يكون العنوان شاملاً لأصول التفسير وغيره؛ إذْ لا ريبَ أنّ أصول التفسير يدخل ضمن علوم القرآن الكريم.
فإلى هذه المباحث نتركك، ونسأل الله أن ينفعنا وإيّاك بما نقرأ وندرس.
المبحث الأول: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أسباب النزول
قال رحمه الله تعالى: "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن - فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب - إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك كالاستفهام لفظه واحد، ويدخله معان أُخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك. وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال ... ومعرفة الأسباب رافعةٌ لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب....
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع".(44/333)
ثم ضرب أبو إسحاق الشاطبي أمثلة توضّح ما ذكره ثانيا، نذكر بعضها فيما يلي:
أ - "روى ابن وهب عن بكير، أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحروريّة؟ (1) ، قال: "يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين".
ب - "ورُوي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس، وقال: قل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنُعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إيَّاه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه، بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب ... } إلى قوله: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (2) فهذا السبب بيَّن أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان".
ج - "ورُوي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر. فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟. قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول. وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدُك. قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟. قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} (3) الخ. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله ".
__________
(1) الحرورية هم الخوارج. انظر الفرق بين الفرق ص (75) . وسموا بالحروريّة لأنهم نزلوا مكان-ايسمّى بذلك. انظر فتح الباري (12/284) .
(2) سورة آل عمران، الآية: 187 - 188. والحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (8/233) كتاب التفسير، باب {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} ح (4568) .
(3) سورة المائدة، الآية: 93.(44/334)
ثم قال أبو إسحاق الشاطبي: "ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التن-زيل تؤدِّي إلى الخروج عن المقصود بالآيات".
ثم ساق أبو إسحاق الشاطبي الأثر الذي فيه إنكار ابن مسعود على من قال: إن المقصود بالدخان في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (1) يوم القيامة، ثم ذكر قول ابن مسعود في الآية، وأن الدخان إنما كان في الدنيا استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال أبو إسحاق: "وهكذا شأنُ أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزَّل، بحيث لو فقد ذكر السبب، لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون تطرق من الاحتمالات، وتوجه الإشكالات ... ".
ثم ساق أبو إسحاق الشاطبي عن بعض الصحابة والتابعين آثارًا تحرض طالب العلم على تعلم علم الأسباب، وتشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن.
التعليق على مبحث: أسباب النزول:
هذا المبحث من المباحث المهمة في علوم القرآن الكريم، ولأهميّته فقد أفرده طائفة من العلماء بالتأليف، منهم الإمام علي بن المديني، والإمام الواحدي، وكتابه مشهور معروف، والإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه "العجاب في بيان الأسباب"قال عنه تلميذه السيوطي: "مات عنه مسوَّدة فلم نقف عليه كاملاً".
ثم ألف فيه الإمام السيوطي كتابا حافلاً موجزًا محررًا، سمّاه "لباب النقول في أسباب النزول".
ثم أفرد الشيخ مقبل بن هادي الوادعي الصحيح من أسباب النزول بمؤلف سماه "الصحيح المسند من أسباب النزول".
وأما من تكلّم على هذا المبحث ضمن مؤلّف فهم كثيرون جدًّا، فإنه لا يكاد يخلو مؤلف في التفسير من هذا المبحث، وكذلك لا يخلو كتاب بحث في علوم القرآن الكريم من هذا المبحث.
__________
(1) سورة الدخان، الآية: 10.(44/335)
هذا، ولا يخفى على من قرأ كلام أبي إسحاق الشاطبي أنه قد اختصر في حديثه على هذا المبحث على بعض أهمية أسباب النزول، وهو معذور في ذلك؛ إذ إن كتابه الموافقات إنما هو في أصول الفقه، وليس في علوم القرآن.
وإليك بعض ما قاله العلماء في فوائد معرفة أسباب النزول.
1 - معرفة حكمة الله تعالى، التي دعت إلى تشريع حكم من الأحكام، فيزداد المؤمن إيمانا، وتسوق الكافر إلى الإيمان والتصديق.
2 - معرفة السبب يُعين على فهم الآية، ويدفع الإشكال عنها، ويكشف الغموض الذي يكتنف تفسيرها، وهذا أشار إليه أبو إسحاق الشاطبي، ونص عليه الواحدي، وابن دقيق العيد، وابن تيمية.
3 - دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر.
4 - تخصيص حكم ما نزل - إن كان بصيغة العموم - بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وهي مسألة خلافية.
5 - معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية إذا ورد مخصص لها.
6 - معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين حتى لا يشتبه بغيره، فيتهم البريء، ويبرأ المريب.
7 - تيسير الحفظ، وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها؛ وذلك أن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة، كل ذلك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن.
المبحث الثاني: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في الأقوال المحكية في القرآن الكريم
قال الإمام أبو إسحاق رحمه الله تعالى: "كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها - وهو الأكثر - رد لها، أو لا، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل على صحة المحكى وصدقه.(44/336)
أما الأول فظاهر، ولا يحتاج إلى برهان، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (1) فأعقب بقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (2) ....
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون} (3) فرد عليهم بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} (4) .
وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} (5) ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (6) ، وقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَاأَرْض} (7) ، وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} (8) الآية، وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ} (9) إلى آخره، وأشباه ذلك".
وقد ذكر أبو إسحاق أمثلة كثيرة أكتفي منها بما أوردت، ومن أراد الوقوف عليها فلينظر كتابه الموافقات.
ثم قال رحمه الله تعالى: "وأما الثاني فظاهر أيضا، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها، فإن القرآن سُمي فرقانا، وهدىً، وبرهانا، وبيانا، وتبيانا لكل شيء، وهو حجة على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 91.
(2) سورة الأنعام، الآية: 91.
(3) سورة الفرقان، الآية: 4.
(4) سورة الفرقان، الآية: 4.
(5) سورة البقرة، الآية: 116.
(6) سورة الأنبياء، الآية: 26.
(7) سورة البقرة، الآية: 116.
(8) سورة يونس، الآية: 68.
(9) سورة مريم، الآية: 90.(44/337)
وأيضا فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأوّلين وأحكامهم، ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق، يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا ويمنعه قوم، لا من جهة قدح فيه، ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك، فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا، ولا يفترق ما بينهما إلاّ بحكم النسخ فقط".
"ومن أمثلة هذا القسم: جميع ما حُكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا، كحكايته عن الأنبياء والأولياء، ومنه قصة ذي القرنين، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام، وقصة أصحاب الكهف، وأشباه ذلك".
المبحث الثالث: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في منهج القرآن الكريم في الترغيب والترهيب
قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي:"إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب، في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس، وكذلك الترجية مع التخويف، وما يرجع إلى هذا المعنى مثله، ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار، وبالعكس؛ لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية، وفي ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا، فهو راجع إلى الترجية والتخويف.
ويدل على هذه الجملة عرض الآيات على النظر فأنت ترى أن الله جعل الحمد فاتحة كتابه، وقد وقع فيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) إلى آخرها. فجيء بذكر الفريقين.
ثم بدئت سورة البقرة بذكرهما أيضا، فقيل: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (2) ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (3) ، ثم ذُكِرَ بإثرهم المنافقون وهم صنف من الكفار، فلما تم ذلك أعقب الأمر بالتقوى، ثم بالتخويف بالنار، وبعده بالترجية فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}
إلى قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} (4) الآية".
__________
(1) سورة الفاتحة، الآية: 6، 7.
(2) سورة البقرة، الآية: 2.
(3) سورة البقرة، الآية: 6.
(4) سورة البقرة، الآية: 24، 25.(44/338)
وقد أطال أبو إسحاق الشاطبي في تتبع آيات سورة البقرة، وتنزيلها على القاعدة المذكورة، ثم أورد بعض آيات سورة الأنعام، وبيّن كيف تنطبق على القاعدة.
ثم قال: "وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال، فيرد التخويف ويتسع مجاله، لكنه لا يخلو من الترجية كما في سورة الأنعام، فإنها جاءت مقررة للحق، ومنكرة على من كفر بالله، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه، وصد عن سبيله، وأنكر ما لا ينكر، ولدَّ فيه وخاصم، وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف، وإطالة التأنيب والتعنيف، فكثرت مقدماته ولواحقه، ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية؛ لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق، وقد تقدم الدعاء وإنما هو مزيد تكرار، إعذارًا وإنذارًا، ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية؛ لأن درء المفاسد آكد.
وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها، وذلك في مواطن القنوط ومظنته، كما في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (1) الآية فإن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة، فنزلت.
فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط، فجيء فيه بالترجية غالبة، ومثل ذلك الآية الأخرى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (2) وانظر في سببها في الترمذي، والنسائي، وغيرهما.
ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب كان جانب التخويف أغلب، وذلك في مظانه الخاصة، لا على الإطلاق؛ فإنه إذا لم يكن هنالك مظنَّة هذا، ولا هذا أتى الأمر معتدلاً".
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 53.
(2) سورة هود، الآية: 114.(44/339)
ثم أورد أبو إسحاق اعتراضا على ما قرره سابقا فقال: "فإن قيل: هذا لا يطرد فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر، فيأتي التخويف من غير ترجية، وبالعكس، ألا ترى قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (1) إلى آخرها فإنها كلها تخويف، وقوله: {كَلا إِنَّ الأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (2) إلى آخر السورة، وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (3) إلى آخر السورة ... وفي الطرف الآخر قوله تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (4) إلى آخرها،
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (5) إلى آخرها".
وأورد الإمام الشاطبي من الآيات أيضا ما يؤيّد هذا الاعتراض.
ثم قال: "فالجواب إن ما اعترض به غير صاد عن سبيل ما تقدم، وعنه جوابان: إجمالي وتفصيلي:
فالإجمالي أن يقال: إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدّم، فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية؛ لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية، واعتمدت في الحكم بها وعليها، شأن الأمور العادية الجارية في الوجود، ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل، يدل عليه الاستقراء، فليس بقادح فيما تأصل.
__________
(1) سورة الهمزة، الآية: 1.
(2) سورة العلق، الآية: 6، 7.
(3) سورة الفيل، الآية: 1.
(4) سورة الضحى، الآية: 1، 2.
(5) سورة الشرح، الآية: 1.(44/340)
وأما التفصيلي: فإن قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (1) قضية عين في رجل معين من الكفار، بسبب أمر معين، من همزه النبي عليه الصلاة والسلام وعيبه إيَّاه، فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح، لا أنه أُجري مجرى التخويف، فليس مما نحن فيه. وهذا الوجه جار في قوله: {كَلا إِنَّ الأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (2) ... وكذلك سورة والضحى، وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (3) غير ما نحن فيه، بل هو أمر من الله للنبي عليه الصلاة والسلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح".
المبحث الرابع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أقسام العلوم المضافة إلى القرآن الكريم
قسم أبو إسحاق العلوم المضافة إلى القرآن إلى أربعة أقسام، فقال:
"قسم: هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه، كعلوم اللغة العربية - التي لا بد منها - وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك".
ثم ذكر أبو إسحاق أن هذا الجانب قد يُدخل فيه ما ليس منه، كقول من قال: إن علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (4) ، وقول من قال: إن علوم الفلسفة مطلوبة إذ لا يُفهم المقصود من الشريعة إلا بها.
ثم رد أبو إسحاق على قائل ذلك بقوله: "ولو قال قائل إن الأمر بالضد مما قال لما بَعُد في المعارضة. وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها، أو غافلين عنها؟ مع
القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم
الغفير، فلينظر امرؤ أين يضع قدمه".
__________
(1) سورة الهمزة، الآية: 1.
(2) سورة العلق، الآية: 6، 7.
(3) سورة الشرح، الآية: 1.
(4) سورة ق، الآية: 6.(44/341)
ثم ذكر أبو إسحاق القسم الثاني بقوله: "وقسم هو مأخوذٌ من جملته من حيث هو كلام لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو، وذلك ما فيه من دلالة النبوة، وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا المعنى ليس مأخوذًا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية، إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما، وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله، وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء، ولا سورة دون سورة، ولا نمط منه دون آخر ... ".
ثم ذكر القسم الثالث بقوله: "وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به ... ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية، والمحاسن الأدبية".
ثم ذكر على هذا القسم تسعة أمثلة، جدير بأهل القرآن أن يراجعوها ففيها من الفوائد الشيء الكثير.
ثم ذكر القسم الرابع بقوله: "وقسم هو المقصود الأول ... وذلك أنه محتوٍ من العلوم على ثلاثة أجناس ... أحدها: معرفة المتوجَّه إليه، وهو الله المعبود سبحانه. والثاني: معرفة كيفية التوجه إليه. والثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه".
ثم شرح هذه الأجناس الثلاثة بكلام نفيس، نحيل القارئ على مراجعته.
المبحث الخامس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في التفسير الإشاري للقرآن الكريم
قال - رحمه الله تعالى -: "من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرًا وباطنا ... ". ثم ذكر أبو إسحاق الأدلة على ذلك، وأطنب، وسيأتي بعضها - إن شاء الله تعالى - في التعليق على هذا المبحث.
ثم ذكر أبو إسحاق أمثلةً على التفسير الإشاري الباطل.
ثم خلص أبو إسحاق إلى ذكر شروط التفسير الإشاري المقبول فقال: "فصل: وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها، ولكن يشترط فيه شرطان:(44/342)
أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، ويجري على المقاصد العربية. والثاني: أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرًا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
فأما الأوّل: فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيا، فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب، لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق؛ ولأنه مفهوم يُلصق بالقرآن ليس في ألفاظه، ولا في معانيه ما يدل عليه، وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلاً ... وأما الثاني: فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر، أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدّعى على القرآن، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء.
وبهذين الشرطين يتبيّن صحة ما تقدّم أنه الباطن؛ لأنّهما مُوَفّران فيه، بخلاف ما فسّر به الباطنية، فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر".
ثم ذكر أمثلةً من تفاسير الباطنية تخالف هذين الشرطين.
ثم قال: "وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل، أو من قبيل الباطن الصحيح، وهي منسوبة لأناس من أهل العلم، وربما نسب منها إلى السلف الصالح" ثم ذكر أمثلة على هذه التفاسير المشكلة.
التعليق على مبحث: التفسير الإشاري للقرآن الكريم
التعليق على هذا المبحث من ثلاثة أوجه:(44/343)
الأوّل: أن المعتمد لمن ذهب إلى هذا التفسير - التفسير الإشاري - هو ما أخرجه الإمام البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنَّ بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟. فقال عمر: إنه من حيث علمتم. فدعا ذات يوم فأدخله معهم فما رُئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (1) فقال بعضهم: أُمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (2) وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (3) فقال عمر: ما أعلم منها إلاَّ ما تقول". وقد ذكر أبو إسحاق هذا الدليل.
والثاني أن أبا إسحاق لم يرد التفسير الإشاري جملة، ولم يقبله جملة، بل فصّل في ذلك وهذا هو الحق.
والثالث: قد أتى أبو إسحاق الشاطبي على أهم الشروط التي تشترط لصحة هذا التفسير، وقد أضاف بعض العلماء ما يلي:
1 - ألاَّ يُدَّعى أنه المراد وحده دون الظاهر.
2 - أن يُبيَّن المعنى الموضوع له اللفظ الكريم أولاً.
3 - ألاَّ يكون من وراء هذا التفسير الإشاري تشويش على المفسَّر له.
المبحث السادس:
مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في قوله: إن المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً على المكي في الفهم، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض
__________
(1) سورة النصر، الآية: 1.
(2) سورة النصر، الآية: 1.
(3) سورة النصر، الآية: 3.(44/344)
قال أبو إسحاق الشاطبي: "المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلاَّ لم يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني - في الغالب - مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله.
وأوّل شاهد على هذا أصل الشريعة؛ فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق، ومصلحة لما أُفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام.
ويليه تنزيل سورة الأنعام فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد، وأُصول الدين، وقد خرَّج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلّمون، من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة ... ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام؛ فإنها بيّنت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبيّن في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها.
وأيضا فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها، وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها، كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيا عليها، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك، حذو القذة بالقذة، فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى؛ فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه".
التعليق على مبحث: المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً على المكي في الفهم(44/345)
التعليق على هذا المبحث من وجهين:
الأوّل: أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي قد سبق من كتب في علوم القرآن - وتعرض للمكي والمدني - إلى دراسة هذه المسألة.
ومن كتب في هذا المبحث فهو تبع للإمام أبي إسحاق الشاطبي، على أن أهمّ كتابين متداولين في علوم القرآن لم يتعرض مؤلّفاهما لهذا المبحث بهذه الطريقة التي سلكها أبو إسحاق.
الثاني: أن هذا المبحث بهذا النحو الذي طرقه الإمام أبو إسحاق الشاطبي فيه أحسن رد على أولئك الملاحدة الذين زعموا أن لا صلة بين المكي والمدني في القرآن الكريم.
وفي ظني أن الذي رد على هذه الشبهة وفندها لو تنبه لكلام الإمام أبي إسحاق الشاطبي لنقله؛ لأن فيه البرهان الدامغ المزهق لشبهة أولئك الملاحدة.
المبحث السابع:
مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أن تفسير القرآن الكريم يتبع فيه المفسر التوسط والاعتدال، ويجتنب فيه الإفراط والتفريط
قال أبو إسحاق عند هذه المسألة: "ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه.
وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال: إما على الإفراط وإما على التفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم".
ثم بيّن رحمه الله تعالى أن الذين فسروه على التفريط هم الذين قصروا في فهم اللسان الذي جاء به، وهو العربية، ومن هؤلاء الباطنية وغيرهم.
ثم قال: "ولا إشكال في اطِّراح التعويل على هؤلاء".
ثم وضَّح رحمه الله تعالى أن الذين اتبعوا الإفراط في تفسير القرآن هم الذين دققوا في الألفاظ المفردة والمعاني البلاغية، ولم ينظروا إلى المعنى الذي سيق الكلام من أجله؛ لأنّ هذه الأشياء إنما تبحث بقدر ما تؤدي به المعاني الأصلية، المقصودة من سياق الكلام.(44/346)
ثم شرح أبو إسحاق الوسطية التي ينبغي أن يسير عليها المفسر فقال: "والقول في ذلك - والله المستعان - أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان، فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم ... الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضيّة، وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها؛ فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض؛ لأنّها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن ردّ آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلَّف، فإن فرق النظر في أجزائه، فلا يتوصل به إلى مراده؛ فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلاَّ في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية، رجع إلى نفس الكلام، فعمّا قريب يبدو له منه المعنى المراد، فعليه بالتعبد به وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل؛ فإنها تبين كثيرًا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر ... ".
ثم ساقه الكلام على القاعدة المتقدمة إلى التعرض إلى مقاصد بعض سور القرآن الكريم، فجاء فيه بالفوائد الممتعة.(44/347)
فمما قال في ذلك قوله رحمه الله تعالى:"وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) نازلة في قضية واحدة. وسورة " اقرأ" نازلة في قضيتين الأولى إلى قوله: {عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (2) ، والأخرى ما بقي إلى آخر السورة. وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة، وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان - أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى - أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق ... والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد، وأنه رسول الله إليهم جميعا، صادق فيما جاء به من عند الله ... والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة، وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة، والرد على من أنكر ذلك، بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به....
فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامّة الأمر، وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب، والأمثال والقصص، وذكر الجنة والنار، ووصف يوم القيامة، وأشباه ذلك".
ثم رجع أبو إسحاق إلى تطبيق المعاني الثلاثة على سورة المؤمنين، يقف على ذلك من أحب في موطنه من كتاب الموافقات.
التعليق على مبحث: تفسير القرآن الكريم يتبع فيه المفسر التوسط والاعتدال
قضية التوسط والاعتدال التي ألمح إليها أبو إسحاق الشاطبي قضيّة مهمّة جدًّا سواء في فهم القرآن الكريم وتفسيره، أو في غير ذلك من حياة المسلم.
ولو اتُّبع كل من فسر القرآن الكريم التوسط والاعتدال في تفسيره لما وجدنا الأبحاث المطولة التي لا علاقة لها بتفسير الآية.
ولو اتُّبع التوسط والاعتدال لما جُعل تفسير القرآن كتاب نحو تذكر فيه القواعد النحوية ودقائق علوم النحو، والاعتراضات والردود، ورد الردود.
__________
(1) سورة الكوثر، الآية: 1.
(2) سورة العلق، الآية: 5.(44/348)
ولو اتُّبع التوسط والاعتدال لما وجدنا بين كتب التفسير ما يشبه كتاب علوم مدرسي فيه صور الحيوانات والنباتات، ثم يدعي صاحبه أن هذا هو مقصود الله من إنزال كتابه، وأن جميع علماء التفسير المتقدمين أخطأوا عندما لم يظهروا هذه العلوم النباتية الحيوانية؟.
ولو اتُّبع التوسط والاعتدال لما وجدنا بين المفسرين لهذا الكتاب الكريم من يقع في بدعة الاعتزال، والإرجاء، والتشبيه، والتكفير، وغيرها من البدع، ثم يفسر القرآن على ما يوافق بدعته، ويزعم أن هذا هو مقصود الله من كلامه.
ولو اتُّبع التوسط والاعتدال في تفسير القرآن الكريم لسلم تراثنا التفسيري من خزعبلات بني إسرائيل التي قُصد بها إفساد فهمنا لكتاب الله تعالى.
ولو اتُّبع التوسط والاعتدال في تفسير القرآن الكريم وتطبيقه لما وصلنا إلى هذه الحال - التي نحن عليها اليوم - من الانحطاط والتبعية لأمم الكفر من يهود ونصارى وغيرهم.
المبحث الثامن:
مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في بيان المقصود بالرأي المذموم والرأي الممدوح في تفسير القرآن الكريم
قال أبو إسحاق رحمه الله تعالى: "إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيض-اما يقتضي إعماله، وحسبك من ذلك ما نقل عن الصدِّيق، فإنه نقل عنه أنه قال - وقد سُئل في شيء من القرآن -: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ... ". ثم سُئل عن الكلالة المذكورة في القرآن فقال: "أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، الكلالة كذا وكذا".
فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن، وهما لايجتمعان".
ثم أجاب أبو إسحاق عما رُوي عن أبي بكر - رضي الله عنه - مما يقتضي إعمال الرأي وتركه فقال: "والقول فيه أن الرأي ضربان: أحدهما: جار على موافقة كلام العرب، وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور:(44/349)
أحدها: إن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى، واستنباط حكم وتفسير لفظ، وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير ممكن، فلا بد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك؛ للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف؛ فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول، والمعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بيَّن منه ما لا يوصل إلى علمه إلاَّ به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم، فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا؛ فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصحّ.
والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأنّ النظر في القرآن من جهتين:
من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلاً.
ومن جهة المآخذ العربية؛ وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأوّلين، وهو باطل، فاللازم عنه مثله، وبالجملة فهو أوضح من إطناب فيه".
ثم وضَّح أبو إسحاق المقصود بالرأي المذموم فقال: "وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية، أو الجاري على الأدلة الشرعية فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال كما كان مذموما في القياس أيضا حسبما هو مذكورٌ في كتاب القياس؛ لأنه تقول على الله بغير برهان، فيرجع إلى الكذب على الله تعالى، وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء".
ثم أورد أبو إسحاق الشاطبي عن جملة من الصحابة والتابعين ذمّ هذا النوع من الرأي.
ثم ختم هذه المسألة بقوله: "فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء:(44/350)
منها: التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلاَّ على بينة، فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات: إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين، ومن يليهم، وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم، فنحن أولى بذلك منهم، إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم، وهيهات.
والثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم، فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه.
والثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد، أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه؛ لأن الأصل عدم العلم، فعندما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال، وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال، وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين، ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل.
ومنها: أن من ترك النظر في القرآن، واعتمد في ذلك على من تقدّمه، ووكل إليه النظر فيه غير ملوم، وله في ذلك سعة، إلاَّ فيما لا بد له منه، وعلى حكم الضرورة، فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس، كما هو مذكور في بابه، وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه، وكذلك وجدناهم في القول في القرآن، فإن المحظور فيهما واحد، وهو خوف التقول على الله، بل القول في القرآن أشد، فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا بكلامه المنزل، وهذا عظيم الخطر.(44/351)
ومنها: أن يكون على بالٍ من الناظر والمفسر، والمتكلِّم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله، فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام، فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد، وإلا فمجرّد الاحتمال يكفي بأن يقول: يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم، وإلاَّ فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة، فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمّل من شاهد يشهد لأصله، وإلاَّ كان باطلاً ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم، والله أعلم".
قلت: ليت شعري أين يضع نفسه من يستقل بتفسير القرآن في زماننا هذا؟!. إنه لا يمكن أن يضع نفسه مع الطبقة الأولى في العلم بأدوات التفسير، فلم يبق إلا الطبقة الثانية، والثالثة، وكلاهما ممنوعة من القول في القرآن وتفسيره، كما وضَّح ذلك أبو إسحاق، رحمه الله تعالى.
المبحث التاسع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في حكم ترجمة القرآن الكريم
قدم أبو إسحاق الشاطبي لهذه المسألة بمقدمة بنى عليها حكم ترجمة القرآن، فقال في هذه المقدمة: "للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران: أحدهما: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة ... وهي الدلالة الأصليّة. والثاني: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيّدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة.
فالجهة الأولى: هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى؛ فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلاً كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتىله ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأوّلين - ممن ليسوا من أهل اللغة العربية - وحكاية كلامهم، ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها، وهذا لا إشكال فيه.(44/352)
وأما الجهة الثانية: فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورًا خادمة لذلك الإخبار بحسب الخَبر والمُخبِر والمخبَر عنه والمُخبَر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق، ونوع الأسلوب، من الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك".
ثم ضرب أبو إسحاق أمثلة لبيان الجهة الثانية وتوضيحها.
ثم قال: "وإذا ثبت هذا، فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال، فضلاً عن أن يترجم القرآن، ويُنقل إلى لسان غير عربي إلاَّ مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا، كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدّم تمثيله ونحوه، فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب، أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدًّا ... وقد نفى ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن - يعني على هذا الوجه الثاني - فأما على الوجه الأوَّل فهو ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامّة، ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزًا باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجّة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي".
التعليق على مبحث: حكم ترجمة القرآن الكريم
الكلام على مسألة ترجمة القرآن يطول جدًّا، وقد بحثها العلماء بحثا مستفيضا؛ ولذلك سوف أقتصر في هذا المبحث على التعليق على كلام أبي إسحاق الشاطبي بذكر كلام بعض العلماء، ثم أذكر أنواع الترجمة، وبيان الجائز منها والممنوع.(44/353)
1 - قال الشيخ مناع القطان رحمه الله تعالى - بعد أن نقل بعض كلام الإمام أبي إسحاق الشاطبي -: "ومع هذا فإن ترجمة المعاني الأصلية لا تخلو من فساد، فإن اللفظ الواحد في القرآن قد يكون له معنيان، أو معانٍ تحتملها الآية، فيضع المترجم لفظا يدل على معنى واحد، حيث لا يجد لفظا يشاكل اللفظ العربي في احتمال تلك المعاني المتعددة. وقد يستعمل القرآن اللفظ في معنى مجازي فيأتي المترجم بلفظ يرادف اللفظ العربي في معناه الحقيقي؛ ولهذا ونحوه وقعت أخطاء كثيرة فيما ترجم لمعاني القرآن. وما ذهب إليه الشاطبي واعتبره حجّة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي ليس على إطلاقِه؛ فإن بعض العلماء يخص هذا بمقدار الضرورة في إبلاغ الدعوة بالتوحيد وأركان العبادات، ولا يتعرض لما سوى ذلك، ويؤمر من أراد الزيادة بتعلم اللسان العربي".
قلت: فتبين لك بهذا أن ترجمة المعاني الأصلية غير ممكن إلا مع وجود الفساد والأخطاء الكثيرة، ولو كان هذا الفساد والأخطاء الكثيرة في غير القرآن لمُنع من يفعل ذلك، فكيف بالقرآن الكريم؟!.
2 - أنواع الترجمة، وبيان الجائر منها والممنوع. هي ثلاثة أنواع، بيانُها فيما يلي:
أ - الترجمة اللفظية المثلية: وهي إبدال لفظ بلفظ آخر يرادفه في المعنى، مع الاحتفاظ بما للمبدل منه من التراكيب والنسق والأسلوب، والدلائل الأصلية والتبعية، وبما له من خفة على الأسماع وتأثير على القلوب، وبما له من إحكام وتشابه وإعجاز.
وحكم هذا النوع أنه محال عقلاً وشرعا. أما عقلاً؛ فلأن التجارب العلمية برهنت على أن نقل كلام من لغة إلى أخرى بكل ما في الأصل مما ذكر في التعريف مستحيل في كلام البشر، فكيف به في كلام الله المعجز.(44/354)
وأما شرعا فإنه مستحيل أيضا؛ لأن معناه الإتيان بقرآن مثل هذا القرآن بلغة أُخرى، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (1) .
ب - الترجمة المعنوية: وهي إبدال لفظ بلفظ آخر يرادفه في المعنى الإجمالي، أو في المعنى القريب بصرف النظر عن المعاني التبعية والبعيدة، وبصرف النظر عن الخصائص والمزايا، وهذه ممكنة على وجه الإجمال بالقدر المستطاع في بعض الألفاظ دون بعض، وفي بعض اللغات دون بعض، ولا تسلم من الخطأ والبعد عن المراد.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية (88) وانظر مناهل العرفان (2/40) ترى مسألة الاستحالة الشرعية.(44/355)
وهذا النوع من الترجمة، وإن جاز في كلام الناس، فإنه يَحرُم في كلام الله القرآن الكريم؛ لأمورٍ كثيرة يطول شرحُها، منها: أنها لن تسلم من الخطأ والبعد عن المراد. ومنها: أن هذه الترجمة تؤدي إلى ضياع الأصل، كما ضاعت أصول الكتب المتقدمة. ومنها: أن ذلك يؤدي إلى انصراف الناس عن كتاب ربهم مكتفين بما يزعمونه ترجمة للقرآن. ومنها: ضعف لغة القرآن والقضاء عليها في النهاية. ومنها: وجود الاختلاف بين المسلمين، فكلُّ دولة تضع ترجمة للقرآن وتزعمها أفضل الموجود، وهكذا الدولة الأخرى، فيحصل الاختلاف بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ونكونُ بهذا قد خالفنا ما أمرنا الله به ونهانا، حيث قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (1) ، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) . ومنها: أن نصوص علماء المذاهب تدلُّ على تحريم هذا النوع من الترجمة. قال الإمام الألوسي: "وفي معراج الدراية: مَن تعمّد قراءة القرآن
أو كتابته بالفارسية فهو مجنون، أو زنديق. والمجنونُ يُداوى، والزنديق يُقتل".
وقال الإمام النووي: "مذهبنا أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب، سواء أمكنه العربية أو عجز عنها، وسواء كان في الصلاة أوغيرها".
وقال الإمام ابن قدامة: "ولا تجزئه القراءة بغير العربية، ولا إبدال لفظها بلفظ عربي، سواء أحسنَ قراءتها بالعربية أو لم يحسن". ونحو هذا قال المالكية، وأهل الظاهر.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 103.
(2) سورة آل عمران، الآية: 105. وانظر القول السديد، ص (14-37) ، ومناهل العرفان (2/43-48) ترى ما ذُكر من هذه الأمور وأكثر.(44/356)
وقال العلامة محمد رشيد رضا: "المعوّل عليه عند الأئمة وسائر العلماء أنه لا يجوز كتابة القرآن وقراءته ولا ترجمته بغير العربية مطلقا، إلا فيما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من جواز قراءة القرآن بالفارسية في خصوص الصلاة".
ومن الأمور التي تمنع جواز ترجمة القرآن: أن الملحدين الذين يريدون هدم الإسلام يضللون الناس بهذه الترجمة، ويزعمون أنها قرآن، وقد وقع ذلك في بعض البلاد الإسلامية التي كانت يوما تقودُ العالم الإسلامي أجمع.
ومَن أجاز هذا النوع من الترجمة فإنما اعتمد على شُبه سرعان ما انهارت أمام نقد العلماء، فلا نطيلُ بذكرها والردِّ عليها.
ج - الترجمة التفسيرية: وهي ترجمة تفسير من التفاسير التي ألّفها العلماء باللغة العربية إلى لغة أُخرى.
وهذه الترجمة عارضها بعض العلماء، وأجازها آخرون، وكأنّ الذين عارضوها لم يروا فرقا واضحا بين هذا النوع والذي قبلَه - أي: بين الترجمة المعنوية والترجمة التفسيرية -، أو رأوا أنها غطاء يريد بعض من يقول بها الوصول إلى الترجمة المعنوية.
وعلى رأس المجيزين لهذا النوع من الترجمة مشيخة الأزهر، ثم فتوى صدرت عن دار الإفتاء بالرياض مضمونُها جواز هذا النوع من الترجمة بشرط أن يُفهم المعنى فهما صحيحا، وأن يعبّر عنه من عالمٍ بما يُحيل المعاني باللغات الأخرى تعبيرًا دقيقا، يفيد المعنى المقصود من نصوص القرآن، ونقلوا عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ما يُفيد جواز هذا النوع.
وقد وضعت اللجنة المنبثقة عن فتوى علماء الأزهر قواعد خاصة بالطريقة التي تتبعها في تفسيرها معاني القرآن الكريم - الذي سيترجم - نوردُها فيما يلي:
1 - تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور، فتفحص مروياتها وتنقد ويدوّن الصحيحُ منها بالتفسير، مع بيان وجه قوة القوي، وضعف الضعيف من ذلك.
2 - تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا، وخصائص التراكيب القرآنية بحثا بلاغيا وتدوّن.(44/357)
3 - تبحث آراء المفسرين بالرأي والتفسير بالمأثور، ويختار ما تفسر الآية به، مع بيان وجه ردّ المردود وقبول المقبول.
4 - وبعد ذلك كله يصاغ التفسير - مستوفيا ما نُص على استيفائه في الفقرة الثانية من القواعد السابقة - وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لإفهام جمهرة المتعلمين خال من الإغراب والصنعة.
قلت: ولعلّ هذا القول أقرب من قول المانعين - إن شاء الله تعالى - لأن ذلك وسيلة من وسائل أداء واجب البلاغ، لمن لا يعرف اللغة العربية، بشرط الالتزام التام بما جاء في القواعد السابقة، وبغيرها من القواعد التي لا يتسعُ المقام لذكرها.
المبحث العاشر: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في التفسير العلمي للقرآن الكريم
ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن الشريعة الإسلاميّة أُمية وأنها جارية على مذاهب أهلها، ثم بنى على هذه المسألة أشياء:
"منها: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ فأضافوا إليه كل علم يُذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها؛ وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح.
وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى ... ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلاَّ أن ذلك لم يكن؛ فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا.(44/358)
وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) ، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) ، ونحو ذلك، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب، وبما نقل عن الناس فيها، وربما حُكي من ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء.
فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا كعدد الجمل الذي تعرَّفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلاَّ الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يدعه أحد ممن تقدّم، فلا دليل فيها على ما ادعوا، وما ينقل عن عليّ أو غيره في هذا لا يثبت.
فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصّة فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه ... ".
التعليق على مبحث: التفسير العلمي للقرآن الكريم
اختلف العلماء في التفسير العلمي للقرآن الكريم، فنقل السيوطي عن ابن أبي الفضل المرسي أنه قال: "جمع القرآن علوم الأولين والآخرين"، ثم عدد أنواعا من العلوم حتى ذكر الخياطة، والحدادة، والنجارة، والغزل، والنسج، والفلاحة، والملاحة، والخبز، والطبخ، والغسل.
__________
(1) سورة النحل، الآية: 89.
(2) سورة الأنعام، الآية: 38.
(3) سورة الأنعام، الآية: 38.(44/359)
وتابعه على هذا الاتجاه بعض المعاصرين، وعلى رأسهم الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه "الجواهر الحسان"الذي هو أشبه بكتاب علوم مدرسي، فيه صور الحيوانات والنباتات وغير ذلك مما زعم أن القرآن دل عليه وطالبنا بالبحث فيه.
وذهب أبو إسحاق الشاطبي إلى خلاف هذه الفكرة، كما رأيت في كلامه، وذهب إلى فكرته طائفة من العلماء المعاصرين.
ولكل من الفريقين أدلّة، أشار أبو إسحاق الشاطبي إلى بعضها، وأتى على أكثرها الأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي.
وهناك رأي يقول: بقبول التفسير العلمي للقرآن الكريم بالشروط التالية:
1 - ألاَّ تطغى تلك المباحث عن المقصود الأول من القرآن الكريم، وهو الهداية والإعجاز.
2 - أن تذكر تلك الأبحاث على وجه يدفع المسلمين إلى النهضة، ويلفتهم إلى جلال القرآن الكريم، ويحركهم إلى الانتفاع بقوى هذا الكون العظيم - الذي سخره الله لنا - انتفاعا يعيد لأمة الإسلام مجدَها.
3 - أن تذكر تلك العلوم لأجل تعميق الشعور الديني لدى المسلم، والدفاع عن العقيدة ضد أعدائها.
4 - أن لا تذكر هذه الأبحاث على أنها هي التفسير الذي لا يدل النص القرآني على سواه، بل تذكر لتوسيع المدلول، وللاستشهاد بها على وجه لا يؤثر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني، ذلك أن تفسير النص القرآني بنظرية قابلة للتغيير والإبطال يثير الشكوك حول الحقائق القرآنية في أذهان الناس، كلما تعرضت نظرية للرد أو البطلان.
وهذا الرأي الأخير هو وسط بين القولين، ويؤيده أن في القرآن الكريم إشارات علمية سيقت مساق الهداية، فالتلقيح في النبات ذاتي وخلطي، والذاتي ما اشتملت زهرته على عضوي التذكير والتأنيث. والخلطي: هو ما كان عضو التذكير فيه منفصلاً عن عضو التأنيث كالنخيل، فيكون التلقيح بالنقل، ومن وسائل ذلك الرياح، وجاء في هذا قول الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (1) ".
__________
(1) سورة الحجر، الآية: 22.(44/360)
و"الأوكسجين"ضروري لتنفس الإنسان، ويقل في طبقات الجو العليا، فكلما ارتفع الإنسان في أجواء السماء أحس بضيق الصدر وصعوبة التنفس، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ".
المبحث الحادي عشر:
مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أسباب الاختلاف غير المؤثرة في تفسير القرآن الكريم
ذكر الإمام أبو إسحاق الشاطبي أن من الخلاف خلافا لا يعتد به، وهو الخلاف الذي وقع مخالفا لمقطوع به في الشريعة.
ثم قال: "والثاني ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالاً مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ... وهذا الموضع مما يجب تحقيقه فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح".
بعد هذه المقدمة الممتعة عدد لنا أبو إسحاق أسباب الاختلاف غير المؤثرة - نورد منها في هذا المبحث ما نرى أنه يخصّ التفسير - فقال:(44/361)
"أحدها: أن يُذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا، فينصهما المفسرون على نصهما، فيظن أنه خلاف، كما نقلوا في " المن" أنه خبز رقاق، وقيل: زنجبيل، وقيل: الترنجبين، وقيل: شراب مزجوه بالماء، فهذا كله يشمله اللفظ؛ لأن الله مَنَّ به عليهم؛ ولذلك جاء في الحديث: "الكمأة من المنِّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل". فيكون المن جملة نعم، ذكر الناس منها آحادًا.
والثاني: أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد، فيكون التفسير فيها على قول واحد، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق، كما قالوا في " السلوى" إنه طير يشبه السماني، وقيل: طير أحمر صفته كذا، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور، وكذلك قالوا في " المن": شيء يسقط على الشجر فيؤكل، وقيل: صمغة حلوة، وقيل: الترنجبين، وقيل: مثل رب غليظ، وقيل: عسل جامد، فمثل هذا يصحّ حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها.
والثالث: أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي، وفرق بين تقرير الإعراب، وتفسير المعنى، وهما معا يرجعان إلى حكم واحد؛ لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع، والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال، كما قالوا في قوله تعالى: {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} (1) أي للمسافرين، وقيل: النازلين بالأرض القَوَاءَ وهي القفر.
وكذلك قوله: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} (2) أي داهية تفجؤهم، وقيل: سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشباه ذلك.
__________
(1) سورة الواقعة، الآية: 73.
(2) سورة الرعد، الآية: 31.(44/362)
والرابع: يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم، كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد، بناء على تغيير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه، فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة؛ لأن رجوع الإمام عن القول الأوّل إلى القول الثاني اطّراح منه للأول ونسخ له بالثاني، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع، والحق فيه ما ذكر أولاً....
والخامس: أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافا في الترجيح، بل على توسيع المعاني خاصة، فهذا ليس بمستقر خلافا؛ إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالاً يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبنى عليه دون غيره، وليس الكلام في مثل هذا.
والسادس: أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد فيحمله قوم على المجاز مثلاً، وقوم على الحقيقة، والمطلوب أمر واحد، كما يقع لأرباب التفسير كثيرًا في نحو قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} (1) ، فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما، ومنهم من يحملهما على المجاز، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ... ومثل ذلك قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (2) فقيل: كالنهار بيضاء لا شيء فيها، وقيل: كالليل سوداء لا شيء فيها، فالمقصود شيء واحد، وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان.
التعليق على مبحث: أسباب الاختلاف غير
المؤثرة في التفسير
هذا المبحث مهم جدًّا؛ لأن كتب التفسير قد ملئت بتعديد الأقوال التي تُذكر على سبيل الاختلاف، أو تذكر على أنها مما جاء عن العلماء، وعند النظر فيها والتحقيق على ضوء ما ذكره الإمام أبو إسحاق الشاطبي وغيره نجد كثيرًا منها مؤتلف، غير مختلف.
وممن نبه على هذه المسألة شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى.
__________
(1) سورة الروم، الآية: 19.
(2) سورة القلم، الآية: 20.(44/363)
وكم هو جدير بالمتأخرين المعاصرين من علماء التفسير أن يولوا هذه المسألة اهتماما بالكتابة في ذلك وتوجيه الباحثين إليها، فهم بذلك يقربون تراث المتقدمين إلى المتأخرين، ويحببونهم فيه، وينقونه مما شابه من الشوائب الكثيرة.
وأما أسباب الاختلاف الحقيقية فلم يذكرها أبو إسحاق الشاطبي هنا؛ لأنها معروفة، طرقها الباحثون ضمن مؤلفاتهم، وأفردها بعضهم بالتأليف.
المبحث الثاني عشر: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي
في وجود المعرَّب في القرآن الكريم
أشار أبو إسحاق إلى هذه المسألة إشارة تبعية تحت عنوان وضعه بقوله: "النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل".
فقال: "وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم، أو لم يجيء فيه شيء من ذلك فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به، وجرى في خطابها، وفهمت معناه، فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها، ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم، إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب، وهذا يقل وجوده، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب، فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب، أو كان بعضها كذلك دون بعض، فلا بد لها من أن تردها إلى حروفها، ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلاً، ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم، ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها، وإذا فعلت ذلك صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها كالألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها، هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال.
ومع ذلك فالخلاف الذي يذكره المتأخرون في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي، ولا يستفاد منه مسألة فقهية، وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية يبنى عليها اعتقاد، وقد كفى الله مؤنة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجميّة".
التعليق على مبحث: وجود المعرَّب في القرآن الكريم(44/364)
يُفهم من كلام أبي إسحاق في هذه المسألة أنه لا يستبعد وجود بعض الكلمات في القرآن أصلها ليس عربيا، إلاَّ أنه يرى أن العرب بعد أن تكلمت بها، وغيَّرت فيها حتى تتناسب مع العربية أصبحت في هذه الحالة عربية وبها نزل القرآن الكريم.
وهذا الذي ذهب إليه أبو إسحاق هو مذهب من أراد الجمع بين قولين، أحدهما: ينفي وجود المعرَّب في القرآن الكريم، والآخر: يثبت وجود المعرَّب.
وإن أردت الإحاطة بهذه المسألة من جميع جوانبها فانظر فيها آراء الأئمة: الشافعي، وابن جرير الطبري، وأبي عبيدة، وابن فارس، وابن عطية، والجواليقي، والسيوطي، وغيرهم.(44/365)
تابع مع الإمام أبي اسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم وتفسيره
الفصل الثالث
مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في مباحث من تفسير القرآن الكريم (وفيه عشرة مباحث)
في الفصل الثاني صحبنا الإمام أبا إسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم، وفي هذا الفصل سنصحبه - بإذن الله تعالى - في أهم المباحث التفسيريّة، التي يعتمد عليها في تفسير القرآن الكريم، ضاربين على هذا أمثلة مما قاله في ثنايا مؤلّفاته، فإلى هذه المباحث نتركك، غير شاكين في إفادتك منها بإذن الله تعالى.
المبحث الأول: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بالقرآن
قرر أبو إسحاق الشاطبي أن القرآن يتوقف فهمُ بعضه على بعض، فقال: " يتوقف - يعني القرآن الكريم - فهم بعضه على بعض بوجه ما، وذلك أنه يبين بعضه بعضا، حتى إن كثيرًا منه لا يُفهم معناه حقّ الفهم إِلاَّ بتفسير موضع آخر، أو سورة أُخرى".
وإليك بعض الأمثلة مما قال أبو إسحاق في تفسير القرآن بالقرآن:
(1) يرى أبو إسحاق أنّ قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} (1) بيان لقوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) خلافا لمن قال: إنها نسختها.
(2) يرى أبو إسحاق أن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) بيّنه قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} (4) خلافا لمن قال: بالنسخ بين الآيتين.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 41.
(2) سورة الأنفال، الآية: 1.
(3) سورة البقرة، الآية: 284.
(4) سورة البقرة، الآية: 286.(44/366)
(3) يرى أبو إسحاق أن قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (1) بيان لقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} (2) ، ويوجه قول من قال بالنسخ بين الآيتين إلى أن مقصوده البيان، إذ أن آية الشورى خبر محض، والأخبار لا نسخ فيها.
(4) يرى أبو إسحاق أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) تقييد - والتقييد نوع من البيان - لقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (4) ، وهو مراد من قال بالنسخ بين الآيتين.
وفي معرض الرد على الفرق المخالفة لأهل السنة ذكر أبو إسحاق الشاطبي طائفةً من الآيات التي يُفسر بعضها بعضا فقال: "… عُدّت المعتزلة من أهل الزيغ؛ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (5) ، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (6) وتركوا مبينه وهو قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (7) .
واتبع الخوارج نحو قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} (8) ، وتركوا مبينه وهو قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (9) ، وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} (10) .
واتبع الجبرية نحو قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (11) وتركوا بيانه وهو قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (12) وما أشبهه".
المبحث الثاني: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بالسنة
__________
(1) سورة غافر، الآية: 7.
(2) سورة الشورى، الآية: 5.
(3) سورة التغابن، الآية: 16.
(4) سورة آل عمران، الآية: 102.
(5) سورة فصلت، الآية: 40.
(6) سورة الكهف، الآية: 29.
(7) سورة التكوير، الآية: 29.
(8) سورة يوسف، الآية: 40.
(9) سورة المائدة، الآية: 95.
(10) سورة النساء، الآية: 35.
(11) سورة الصافات، الآية: 96.
(12) سورة التوبة، الآية: 82، 95.(44/367)
يعرف أبو إسحاق ما لهذا النوع من تفسير القرآن الكريم من أهمية، ولهذا حرص أن يشرح به الآيات التي احتاج إلى تفسيرها في مؤلفاته، وقد احتوت مؤلفاته على الشيء الكثير من هذا، خصوصا في كتابه الموافقات، ولكن بما أن الفصل الثاني كان الاعتماد فيه على كتاب الموافقات، فسوف نحرص في هذا الفصل أن يكون أكثر الاعتماد فيه على غيره من كتب أبي إسحاق الشاطبي؛ ليتبين للقارئ أن كتب هذا الإمام مشحونة بالتفسير وعلوم القرآن.
(1) قال رحمه الله عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ …} (1) الآية -: "وصح عنها (يعني عائشة رضي الله عنها) أنها قالت: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... } إلى آخر الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم (2) ".
ثم أطال - رحمه الله - بذكر الروايات التي جاءت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان معنى الآية.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 7.
(2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - مع الفتح - (8/209) ، كتاب تفسير القرآن، باب (منه آيات محكمات) ح (4547) وفيه: " تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية"بدل " سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية".(44/368)
(2) وقال - رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (1) -: "وفي الترمذي عن ابن عباس قال: "إن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله الآية" (2) .
وقد أطال رحمه الله تعالى بذكر الروايات الأُخر التي قيل: إنها سبب نزول الآية.
(3) وقال رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (3) -: "فخرَّج الترمذي عن عَدي بن حاتم قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عُنُقي صليب من ذهب فقال: "يا عَدي اطرح عنك هذا الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (4) قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرَّموه" (5) حديث غريب".
المبحث الثالث: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بأقوال الصحابة رضي الله عنهم
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 87.
(2) الاعتصام (1/418) .
(3) سورة التوبة، الآية: 31.
(4) سورة التوبة، الآية: 31.
(5) أخرجه الترمدي في سننه (5/278) ، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، ح (3095) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.
وأخرجه الطبري في تفسيره (14/209) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/116) ، وقال سليم الهلالي: هو حسن لغيره. انظر الاعتصام (2/871) حاشيته.(44/369)
اهتم أبو إسحاق الشاطبي بنقل تفسير الصحابة في الآيات التي احتاج إلى تفسيرها في مؤلفاته، وما ذلك إلاَّ دراية منه بأهمية ذلك، فالصحابة هم الذين حضروا التن-زيل، وتلقوا علومهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العرب الذين يحتج بكلامهم في فهم معاني القرآن الكريم.
وإليك بعض الأمثلة مما نقله أبو إسحاق رحمه الله تعالى:
(1) قال رحمه الله - عند قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) -: "وفي رواية يا أبا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادٌّ، وعن يساره جوادٌّ، وعليها رجال يدعون من مر بهم: هلم لك، هلم لك، فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار، ومن استقام إلى الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة، ثم تلا ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ …} (2) الآية كلها".
(2) وقال أبو إسحاق - رحمه الله تعالى -: "وخرَّج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (3) قال: "ما قدمت من عمل خير أو شر، وما أخرت من سنة يَعمل بها من بعده"".
(3) وقال أبو إسحاق - نقلاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال -: "كنت لا أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} (4) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها".
(4) "وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} (5) فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص".
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 153.
(2) سورة الأنعام، الآية: 153.
(3) سورة الانفطار، الآية: 5.
(4) سورة يوسف، الآية: 101.
(5) سورة النحل، الآية: 47.(44/370)
المبحث الرابع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بأقوال التابعين وأتباعهم
اعتنى أبو إسحاق الشاطبي - رحمه الله تعالى - بنقل أقوال التابعين وأتباعهم في الآيات التي فسرها في كتبه، وما ذلك إلاَّ معرفة منه بأهميّة أقوالهم؛ لأنهم - التابعين رحمهم الله - أخذوا غالب علمهم عن الصحابة، فحري بهم إصابة الحق في تفسير كلام الله تعالى.
وهاك بعض الأمثلة نسوقها تقريرًا لهذا المبحث:
(1) قال أبو إسحاق: "وعن مجاهد: {قَصْدُ السَّبِيلِ} (1) أي: المقتصد منها بين الغلو والتقصير"، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدع".
(2) وقال أيضا: "وعن عكرمة: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (2) يعني في الأهواء {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّك} (3) هم أهل السنة".
3 - وقال أيضا: "وعنه أيضا في قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4) قال: "كتب الله صيام رمضان على أهل الإسلام كما كتبه على من كان قبلهم، فأما اليهود فرفضوه، وأما النصارى فشق عليهم الصوم فزادوا فيه عشرًا، وأخروه إلى أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة"".
(4) وقال رحمه الله تعالى: "وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (5) فهذا يوم أخذ ميثاقهم، لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم".
(5) وقال أيضا: "وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال
في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (6) خلق أهل الرحمة ألاَّ يختلفوا".
__________
(1) سورة النحل، الآية: 9.
(2) سورة هود، الآية: 118.
(3) سورة هود، الآية: 119.
(4) سورة البقرة، الآية: 183.
(5) سورة البقرة، الآية: 213.
(6) سورة هود، الآية: 119.(44/371)
6 - وذكر الإمام أبو إسحاق عن الإمام مالك أنه قال في قوله تعالى: " {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (1) إلى آخر الآيات ... قال: فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه، وأنصاره {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} (2) فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه".
المبحث الخامس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في شيء من تعقيباته وآرائه في التفسير
(1) قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي - في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (3) -: "فالمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ألا ترى إلى قول الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (4) يعني اليهود. والضالون هم النصارى؛ لأنهم ضلوا في الحجة في عيسى عليه السلام، وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة الحشر، الآية: 8.
(2) سورة الحشر، الآية: 10.
(3) سورة الفاتحة، الآية: 7.
(4) سورة البقرة، الآية: 146.(44/372)
ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين أشركوا مع الله إلها غيره؛ لأنّه قد جاء في أثناء القرآن ما يدل على ذلك؛ ولأنّ لفظ القرآن في قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} يعمهم وغيرهم، فكل من ضل عن سواء السبيل داخل فيه. ولا يبعد أن يقال: إن {الضَّالِّينَ} يدخل فيه كل من ضل عن الصراط المستقيم، كان من هذه الأمة أو لا، إذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله، فقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) عام في كل ضال كان ضلاله كضلال الشرك أو النفاق، أو كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية، وهو أبلغ وأعلى في قصد حصر أهل الضلال، وهو اللائق بكليّة فاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم، الذي أُوتيه محمد صلى الله عليه وسلم".
(2) وقال - رحمه الله تعالى، في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) الآية -: "فوصفهم الله تعالى بأوصاف، منها: أنهم أحصروا في سبيل الله، أي: منعوا وحبسوا حين قصدوا الجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم، كأن العذر أحصرهم، فلا يستطيعون ضربا في الأرض؛ لاتخاذ المسكن، ولا للمعاش؛ لأن العدو قد كان أحاط بالمدينة، فلا هم يقدرون على الجهاد حتى يكسبوا من غنائمه، ولا هم يتفرغون للتجارة أو غيرها لخوفهم من الكفار؛ ولضعفهم في أوّل الأمر، فلم يجدوا سبيلاً للكسب أصلاً.
وقد قيل: إن قوله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} (3) أنهم قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاروا زمنى.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 153.
(2) سورة البقرة، الآية: 273.
(3) سورة البقرة، الآية: 273.(44/373)
وفيهم أيضا نزل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ [الْمُهَاجِرِينَ] (1) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (2) ألا ترى كيف قال: " أُخرجوا" ولم يقل: (خرجوا من ديارهم وأموالهم) ؟! فإنه قد كان يُحتمل أن يخرجوا اختيارًا، فبان أنهم إنما خرجوا اضطرارًا، ولو وجدوا سبيلاً أن لا يخرجوا لفعلوا، ففيه ما يدل على أن الخروج من المال اختيارًا ليس بمقصود للشارع، وهو الذي تدل عليه أدلة الشريعة".
(3) وقال أبو إسحاق أيضا - بعد أن أورد قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (3) ، وبعض الآثار في معناها -: "ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: {إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (4) متصلاً، ومنفصلاً. فإذا بنينا على الاتصال، فكأنه يقول: ما كتبناها عليهم إلاَّ على هذا الوجه الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله، فالمعنى أنها مما كتبت عليهم - أي مما شرعت لهم - لكن بشرط قصد الرضوان.
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (5) يريد أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول طائفة من المفسرين؛ لأن قصد الرضوان إذا كان شرطا في العمل بما شُرع لهم، فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد، فإلى أين سار بهم ساروا، وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره، رجعوا إلى ما أُحكم، وتركوا ما نُسخ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول، كان ذلك اتباعا للهوى، لا اتباعا للمشروع، واتباع المشروع هو الذي يحصل به الرضوان، وقصد الرضوان بذلك.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من النسخة المطبوعة التي بين يدي. وسقوطه سهو.
(2) سورة الحشر، الآية: 8. ولم أقف على من يقول: إن هذه الآية نزلت فيهم، إلاَّ عند أبي إسحاق.
(3) سورة الحديد، الآية: 27.
(4) سورة الحديد، الآية: 27.
(5) سورة الحديد، الآية: 27.(44/374)
قال تعالى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (1) فالذين آمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله، والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها، إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يُسمى ابتداعا، وهو خلاف ما دل عليه حدّ البدعة.
والجواب أنه يُسمى بدعة من حيث أخلُّوا بشرط المشروع، إذ شرط عليهم فلم يقوموا به، وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط، فيعمل بها دون شرطها، لم تكن عبادة على وجهها، وصارت بدعة، كالمخل قصدًا بشرط من شروط الصلاة، مثل استقبال القبلة، أو الطهارة، أو غيرها، فحيث عرف بذلك وعلمه، فلم يلتزمه، ودأب على الصلاة دون شرطها، فذلك العمل من قبيل البدع، فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بُعِث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته، فالبقاء عليه مع نسخه بقاءٌ على ما هو باطل بالشرع، وهو عين البدعة.
وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع، وهو قول فريق من المفسرين، فالمعنى: ما كتبناها عليهم أصلاً، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فلم يعملوا بها بشرطها، وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بعث إلى الناس كافة.
وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين:
أحدهما: يرجع إلى أنها بدعة حقيقية - كما تقدم - لأنها داخلة تحت حد البدعة.
والثاني: يرجع إلى أنها بدعة إضافية؛ لأنّ ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق، بل لأنهم أخلوا بشرطها، فمن لم يخل منهم بشرطها، وعمل بها قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم حصل له فيها أجر، حسبما دل عليه قوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} (2) أي أن من عمل بها في وقتها، ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثه وفيناه أجره.
__________
(1) سورة الحديد، الآية: 27.
(2) سورة الحديد، الآية: 27.(44/375)
وإنما قلنا: إنها في هذا الوجه إضافية؛ لأنّها لو كانت حقيقيّة لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه؛ لأن هذا حقيقة البدعة، فلم يكن لهم بها أجر، بل كانوا يستحقون العقاب؛ لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه، فدل على أنهم ربما فعلوا ما كان جائزًا لهم فعله، وعند ذلك تكون بدعتهم جائزًا لهم فعلها، فلا تكون بدعتهم حقيقية، لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة، وسيأتي بعد بحول الله.
وعلى كل تقدير: فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم؛ لأنه نُسخ في شريعتنا، فلا رهبانية في الإسلام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" (1) .
على أن ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال:
الأول: ما تقدم. والثاني: أن الرهبانية رفض النساء، وهو المنسوخ في شرعنا. والثالث: أنها اتخاذ الصوامع للعزلة. والرابع: السياحة.
قال: وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان.
وظاهره يقتضي أنها بدعة؛ لأن الذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارًا منهم بدينهم، ثم سميت بدعة، والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها، فكيف يجتمعان؟!.
ولكن للمسألة فقه يذكر بحول الله.
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - مع الفتح - (9/104) ، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ح (5063) ، ومسلم في صحيحه (2/1020) ، كتاب النكاح، ح (5) .(44/376)
وقيل: إن معنى قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} (1) أنهم تركوا الحق، وأكلوا لحوم الخنازير، وشربوا الخمر، ولم يغتسلوا من جنابة، وتركوا الختان {فَمَا رَعَوْهَا} (2) يعني: الطاعة والملة، {حَقَّ رِعَايَتِهَا} (3) فالهاء راجعة إلى غير مذكور وهو الملة، المفهوم معناها من قوله: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} (4) ؛ لأنه يفهم منه أن ثَم ملة متبعة كما دل قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} (5) على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله تعالى: {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (6) وكان المعنى على هذا القول: ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه، وإنما أمرناهم بالحق، فالبدعة فيه إذًا حقيقية لا إضافية.
وعلى كل تقدير فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء، فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة".
تبين لنا من هذا المبحث أن الإمام أبا إسحاق له آراء في التفسير، ومناقشات، وأنه ليس مجرد ناقل، يأخذ كل ما قيل مسلما، بل يناقش، ويشرح، ويأتي بالجديد، وما ذكرته أمثلة من كتاب واحد له، هو "الاعتصام"وما ذكره من الآراء والمناقشات في كتابه "الموافقات"أضعاف أضعاف ما جاء به في "الاعتصام".
المبحث السادس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في نحو القرآن وبلاغته
الإمام أبو إسحاق الشاطبي من أئمة النحو، وقد ألَّف شرحا على ألفية ابن مالك قال عنه أحمد بابا التنبكتي: "شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار لم يؤلَّف عليها مثله بحثا وتحقيقا فيما أعلم".
__________
(1) سورة الحديد، الآية: 27.
(2) سورة الحديد، الآية: 27.
(3) سورة الحديد، الآية: 27.
(4) سورة الحديد، الآية: 27.
(5) سورة ص، الآية: 31.
(6) سورة ص، الآية: 32.(44/377)
وإمامته في النحو ظاهرة في أثناء مؤلفاته، ولكنني سأقتصر على ذكر بعض الأمثلة - من بعض مؤلفاته - التي تتعلق بنحو القرآن وبلاغته مما نقله عن الأئمة والشيوخ، أو قاله هو:
(1) قال رحمه الله تعالى: "ذكر لي الفقيه الأستاذ الفاضل أبو عبد الله محمد بن البكا عن بعضهم، وحكاه ابن مالك في شرح التسهيل أنه أعرب " نفسه " من قوله تعالى: {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (1) :" نفسه " توكيدًا لـ" من " و" مَنْ " منصوبة على الاستثناء واستحسنه؛ لأن الناس اختلفوا فيه اختلافا كثيرًا.
فقلت له: إن المعنى على الرفع والتفريغ. فقال لي: أتسلم أن في " يرغب " ضميرًا هو فاعله؟. فقلت: نعم، لولا أن المعنى: ما يرغب عن ملة الإسلام إلا من سفه نفسه. فوقف الكلام ها هنا، ثم دلني الأستاذ الكبير أبو سعيد بن لب على ما يؤيد ما ذكرته، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} (2) وجهه الزمخشري على التفريغ من جهة المعنى، أي: ما يغفر الذنوب إلا الله ... ".
(2) وقال رحمه الله تعالى: "حكى لنا الأستاذ الشهير أبو سعيد بن لب - أبقاه الله - أن الفارسي قال: وجدت في القرآن من وضع الجملة الاسمية موضع الفعلية قوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} (3) ، فقوله: {فَهُوَ يَرَى} جملة اسميّة في موضع فعلية.
وقال ابن جني: وجدت أنا موضعا آخر، قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} (4) . وقال أبو الحسن الأبهري: وجدت أنا موضعا آخر: قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 130.
(2) سورة آل عمران، الآية: 135.
(3) سورة النجم، الآية: 35.
(4) سورة الطور، الآية: 41، وسورة القلم، الآية 47.
(5) سورة الأعراف، الآية: 193.(44/378)
وقال الأستاذ أبو سعيد: وجدت أنا موضعا آخر، قوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} (1) .
قلت: ووجدت أنا موضعا آخر، قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (2) على أني وجدت بعد هذا لأبي علي الفارسي في "التذكرة"موضعا آخر، قوله تعالى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} (3) ".
(3) وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي - في قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (4) -: "فحُذف المجرور الثاني لدلالة الأول عليه …".
(4) وقال أيضا - في باب المفعول المطلق -: "وفي التنزيل: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} (5) وهو مصدر عند سيبويه جار على غير الفعل، فكانه نائب عن قوله: (إنباتا) ، ومنه قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (6) فـ" تبتيلاً " ليس بمصدر لِتبتَّلَ، وإنما هو مصدر (بَتَّلَ) ، وفي قراءة ابن مسعود: {وأُنْزِلَ الملائكةُ تنزيلاً} (7) ومصدر (أُنزل، إنزالاً، وتنزيلاً مصدر نَزَّلَ كقراءة الجماعة ... ".
__________
(1) سورة الروم، الآية: 35.
(2) سورة الطور، الآية: 40.
(3) سورة الروم، الآية: 28.
(4) سورة مريم، الآية: 38.
(5) سورة نوح، الآية: 17.
(6) سورة المزمل، الآية: 8.
(7) سورة الفرقان، الآية: 25. وهي قراءة شاذّة؛ لأن ابن الجزري لم يذكرها عن أحد من العشرة. انظر النشر (2/334) ، ونسبها ابن عطية إلى ابن مسعود والأعمش. انظر: المحرر الوجيز (12/20) .(44/379)
(5) وقال - في قوله تعالى: {إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (1) -: "تقديره: فإما تمنون منا وإما تفادون فداءً، إلاَّ أنهم حذفوا الفعل وعوضوا المصدر منه؛ فلا يجتمعان معا ... ".
(6) وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي - في قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (2) -: "التقدير: ولأن هذه أمتكم، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (3) على قراءة الفتح، أي: بأني لكم نذير مبين، ومثله قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (4) حمله سيبويه على تقدير اللام. وقال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} (5) ... ".
والحقيقة أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي قد أكثر من المباحث النحوية المتعلقة بالقرآن الكريم، ولا أُبالغ إن قلت: إن هذه المباحث لو جُرّدت لبلغت مجلدَين.
المبحث السابع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في ذكر القراءات وتوجيهها
اشتهر أهل المغرب والأندلس بملازمة علمين عظيمين، والتبحر فيهما، هما علم العربية والقراءات.
والإمام أبو إسحاق الشاطبي قد أثَّر فيه هذا الاتجاه، فهو أحد علماء العربية الذين يشار إليهم بالبنان، وكتابه "المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية"شاهد بإمامته في فن العربية.
__________
(1) سورة محمد صلى الله عليه وسلم، الآية: 4.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 52. وفتح الهمزة من قوله: " وأن هذه " قراءة متواترة. انظر النشر (2/328) .
(3) سورة هود، الآية: 25.
(4) سورة الجن، الآية: 18.
(5) سورة القمر، الآية: 10. ويريد الشاطبي أن يقول: التقدير: لأني مغلوب.(44/380)
أما القراءات فهو عالم بها متمكن فيها، خصوصا القراءات السبع، فقد ذكر تلميذه المجاري أن الإمام الشاطبي قرأ القراءات السبع على شيخه محمد بن الفخار البيري - الذي كان من أحسن قراء الأندلس تلاوة وأداء - في سبع ختمات.
وقد تعرض أبو إسحاق الشاطبي - في أثناء مؤلفاته - لذكر القراءات السبع وتوجيهها، وهاك بعض الأمثلة في ذلك:
(1) قال أبو إسحاق الشاطبي - في أثناء الكلام على أن النكرة قد يتخصص بالإضافة -: "وفي القرآن الكريم ... {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} (1) على قراءة غير نافع وابن عامر، هو جمع قبيل، أي: قبيلاً قبيلاً، وصِنْفا صِنْفا، وإنما ساغ هنا الحال من النكرة المُخصَّصة كما ساغ الابتداء بالنكرة إذا خُصِّصت؛ لأنها بذلك تقرب من المعرفة، فعوملت معاملة المعرفة في صحة نصب الحال عنها".
(2) وقال - أيضا -: " ... إلا أنه قد حكى في التسهيل أن الواو قد تدخل على المضارع المنفي بـ (لا) ،واستشهد عليه بقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (2) في قراءة غير نافع، فقوله: " ولا تُسْأل ُ "جملة حالية دخلت عليها الواو.
وهذا الشاهد لا شاهد فيه؛ لعطفه على " بشيرًا " و" نذيرًا " فالواو عاطفة، وإنما الشاهد في قراءة ابن ذكوان: " ولا تتبعَانِ " (3) بتخفيف النون، فالنون فيه نون الرفع، وهو خبر لا نهي، والجملة في موضع الحال، أي: فاستقيما غير متبعين ... ".
(3) وقال - في قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (4) -: "على قراءة من قرأ بذلك أي: اقتدِ اقتداء ... فتضمر المصدر ثم تبنيه لما لم يُسمَّ فاعله،
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 111.
(2) سورة البقرة، الآية: 119. ولم أر الآية - في النسخة التي اطلعت عليها من التسهيل - في الموضع المشار إليه.
(3) سورة يونس، الآية: 89.
(4) سورة الأنعام، الآية: 90.(44/381)
مضمرًا فيه اسم المفعول كما أضمرته في بناء الفاعل ".
(4) وقال في قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} (1) -: "فنصب " السماء " باعتبار " يسجدان " ولو اعتبر أوَّل الجملة لجاء: (والسماءُ رفعها) ... وفي القرآن أيضا: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} (2) قرأ الحرميان وأبو عمرو بالرفع في " القمر " وباقي السبعة بالنصب، فالرفع على اعتبار " والشمسُ تجري " والنصب على اعبتار " تجري ".
المبحث الثامن: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير آيات العقيدة
العقيدة السليمة المستقيمة على منهاج الكتاب والسنة وسلف الأمة هي أهم شرط ينبغي أن يوجد فيمن أراد تفسير كتاب الله تعالى.
والمفسرون المحققون لهذا الشرط هم كثير في السلف، قليل في الخلف.
والمصنفات التفسيرية التي نهج أصحابها المنهج القويم تختلف في الاهتمام بالناحية العقدية، فمنها المكثر، ومنها المقل، مع عدم خلوها - جمعا وإفرادًا - من هذا المقصد الأعظم عند تفسير كتاب الله تعالى.
والإمام أبو إسحاق الشاطبي قد اهتم بالناحية العقدية من خلال الآيات التي رأيته فسرها، فهو يبين - رحمه الله تعالى - مقصود الآية على المنهج الصحيح، ويرد على من خالف ذلك من الفرق الضالة، ويستدل بالأحاديث والآثار وأقوال السلف كثيرًا في هذه الناحية.
وتلمح اهتمامه بهذا الموضوع من خلال أكثر مؤلفاته؛ إلا أن كتابه العظيم "الاعتصام"قد تميز في هذه الناحية.
وإليك بعض الأمثلة على هذا المبحث:
__________
(1) سورة الرحمن، الآية: 6، 7.
(2) سورة يس، الآية: 38، 39.(44/382)
قال أبو إسحاق الشاطبي - رحمه الله تعالى -: "ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان، قال: "سمعت رجلاً يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (1) فقال جابر: لم يجيء تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكذب. قال الحميدي: فقلنا لسفيان: ما أراد بهذا؟. فقال: إن الرافضة تقول: إن عليا في السحاب، فلا يخرج - يعني مع من خرج من ولده - حتى ينادي منادٍ من السماء - يريد عليا أنه ينادي -: اخرجوا مع فلان. يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية، وكذب كانت في إخوة يوسف".
فهذه الآية أمرها واضح، ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها، كما دل الخاص على معنى العام، ودل المقيد على معنى المطلق، فلما قطع جابر الآية عما قبلها وما بعدها ... صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه، فكان من حقه التوقف، لكنه اتبع فيه هواه، فزاغ عن معنى الآية".
(2) وقال - في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (2) -: "وتأملوا هذه الآية، فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه لا أحد أضل منه، وهذا شأن المبتدع؛ فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله، وهدى الله هو القرآن ... ".
(3) وقال - رحمه الله تعالى -: "وعن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} (3) قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة".
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 80.
(2) سورة القصص، الآية: 50.
(3) سورة آل عمران، الآية: 106. ولو أكمل نص الآية لكان أوضح وأحسن.(44/383)
(4) وقال رحمه الله تعالى - في معرض الرد على المبتدعة -: "ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (1) فأثبت لهم الزيغ أولاً - وهو الميل عن الصواب - ثم اتباع المتشابه، وهو خلاف المحكم الواضح المعنى، الذي هو أمّ الكتاب ومعظمه، ومتشابهه على هذا قليل، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوما واضحا؛ ابتغاء تأويله، وطلبا لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله، أو يعلمه الله والراسخون في العلم، وليس إلاَّ برده إلى المحكم، ولم يفعل المبتدعة ذلك ... ".
(5) وقدم أبو إسحاق الشاطبي بعض الأوجه الإعرابية لكونها موافقة لقول أهل السنة في القدر، فقال - نقلاً عن ابن مالك مستدركا به عليه حيث لم يذكره في الألفية -: "ومن مرجحات النصب أن يكون مخلِّصا من إيهام غير الصواب، والرفع بخلاف ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) فَنَصْبُ " كل شيء " رفعٌ لتوهم كون " خلقناه" صفة؛ إذ لو كان صفة لم يفسِّر ناصبا لما قبله.
وإذا لم يكن صفةً كان خبرًا فيلزم عموم خلق الأشياء بقدر خيرًا كانت أو شرًّا. وهذا قول أهل السنة. قال: ولو قُرئ (كلُّ شيء) بالرفع لاحتمل أن يكون " خلقناه " صفة محضة، وأن يكون خبرًا، فكان النصب لرفعه احتمال غير الصواب أولى. فهذه ثلاثة مواضع كان من حقه التنبيه عليها هنا".
والأمثلة على هذا الاتجاه في تفسيره كثيرة جدًّا، أكتفي بما ذكرت، ومن أراد الوقوف عليها فليراجع مؤلفات أبي إسحاق الشاطبي، رحمه الله تعالى، خصوصا الاعتصام، والموافقات.
المبحث التاسع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أحكام القرآن الكريم
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 7.
(2) سورة القمر، الآية: 49.(44/384)
لم يُغفل الإمام أبو إسحاق الشاطبي أحكام القرآن في آيات الأحكام التي تعرض إلى تفسيرها، وكيف يغفلها وهو الفقيه الأصولي الذي سارت بفتاواه الركبان؟.
والإمام أبو إسحاق الشاطبي - على عادته - قد جاء بالفوائد، والاستنباطات البديعة، التي قد لا توجد عند كبار المفسرين المعتنين بأحكام القرآن، ولا عند من خصه بمؤلف.
وإلى جانب ما تقدم فقد نقل عن أئمة من المالكية وغيرهم، كتبهم في عداد المفقود، وما وُجد منها لم يطبع حتى الآن، مثل أحكام القرآن للقاضي إسماعيل المالكي البغدادي.
إلاّ أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي لم يكن مكثرًا في تفسير أحكام القرآن إذا قورن هذا المبحث بالمباحث الأُخر التي ذكرتها في هذا الفصل.
وقد استفاد في هذا الجانب من الإمام أبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، فإنه قد رجع إلى كتابه أحكام القرآن.
وإليك بعض الأمثلة على هذا المبحث:
(1) قال - رحمه الله تعالى -: " ... وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذًا من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (1) مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (2) فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل، ثم بيَّن في الثانية مدة الفصال قصدًا، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدًا، فلم يذكر له مدّة؛ فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر".
__________
(1) سورة الأحقاف، الآية: 15.
(2) سورة لقمان، الآية: 14.(44/385)
(2) وقال - رحمه الله تعالى -: " ... قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ... } إلى قوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} (1) ... فُسّرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها، بأن يطلقها، ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها، ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة، وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها".
(3) وقال - أيضا -: "فصل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (2) رُوي في سبب نزول هذه الآية أخبارٌ جملتها تدور على معنى واحد، وهو تحريم ما أحل الله من الطيبات تدينا أو شبه التدين، والله نهى عن ذلك، وجعله اعتداء، والله لا يحب المعتدين، ثم قرر الإباحة تقريرًا زائدًا على ما تقرر بقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} (3) ثم أمرهم بالتقوى؛ وذلك مشعر بأن تحريم ما أحل الله خارج عن درجة التقوى.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 231.
(2) سورة المائدة، الآية: 87، 88.
(3) سورة المائدة، الآية: 88.(44/386)
فخرَّج إسماعيل القاضي من حديث أبي قلابة، قال: أراد ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا، وتركوا النساء، وترهبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ عليهم المقالة، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم" قال: ونزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (1) ... ".
المبحث العاشر: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في الإفادة من أصول الفقه في تفسير القرآن الكريم
علم أصول الفقه من العلوم المهمة، ولو لم يكن كذلك لما شُغل به علماء المسلمين تعلما وتعليما وتأليفا، ومجاله في علم الفقه واضح لا غبار عليه.
وأمَّا أهميته في تفسير القرآن الكريم فهي لا تقل عن أهميته في الفقه؛ إذ به يُعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط.
ولأهمية هذا العلم للمفسر عدّه الإمام السيوطي مما يجب على المفسر أن يتقنه قبل أن يبدأ في تفسير كلام الله تعالى.
والإمام أبو إسحاق الشاطبي في هذا الفن - أصول الفقه - نسيج وحده، وإمام عصره، وكتابه "الموافقات"لا نظيرله في هذا الفن. فهو المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة، وصور الحياة المختلفة المتعاقبة.
وعندما تعرض الإمام أبو إسحاق الشاطبي لتفسير القرآن الكريم أفاد من علم أصول الفقه لإظهار معاني القرآن الكريم، فهو تارة يطبق قواعده فتظهر المعاني وتزول الإشكالات.
وتارة يجعل ما يفهمه من القرآن الكريم مستندًا له في بناء بعض القواعد الأصوليّة وتوضيحها. وإليك بعض الأمثلة في هذا المبحث:
__________
(1) سورةن المائدة، الآية: 87.(44/387)
(1) قال رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) -:"وقوله:" في شيء " نكرة في سياق الشرط، فهي صيغة من صيغ العموم، فتنتظم كل تنازع على العموم، فالرد فيها لا يكون إلا أمر واحد، فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا".
(2) وقال - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (2) : "ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل له مخرجا".
(3) وقال رحمه الله تعالى: "وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله".
(4) وقال رحمه الله تعالى: " ... فقول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (4) لما نزلت أولاً كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة وإمكان الامتثال - وهو السابق - فلم يتنزل حكم أولي الضرر، ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء يستوي فيه ذو الضرر وغيره فخاف من ذلك وسأل الرخصة، فنزل {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (5) ... ".
__________
(1) سورة النساء، الآية: 59.
(2) سورة الطلاق، الآية: 2.
(3) سورة النساء، الآية: 80.
(4) سورة النساء، الآية: 95.
(5) سورة النساء، الآية: 95.(44/388)
تابع مع الإمام أبي اسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم وتفسيره
الخاتمة
أهم النتائج - التي ظهرت لي من خلال هذا البحث - والتوصيات
1 - أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي عالم بعلوم القرآن وتفسيره، وهو لا يقل في هذا العلم عن معرفته بالفقه وأصوله.
2 - أن مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي قد حوت دررًا نفيسة، لا غنى لأهل القرآن من الرجوع إليها.
3 - أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي قد دوّن في علوم القرآن مباحث قيمة، بعضها لا يوجد عند الزركشي، ولا عند السيوطي، ولا عند غيرهما ممن اطلعت على مؤلفاته.
4 - أن كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي لم تُدرس وينتفع بما فيها في مجال علوم القرآن الكريم، فهي لا زالت بكرًا في هذه الناحية، وكذلك في ناحية اللغة العربية.
5 - ظهر لي أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي يستشهد أحيانا بالروايات الضعيفة من الأحاديث والآثار.
6 - أُوصي بأن ينبري ثلاثة باحثين - من أهل القرآن الكريم وعلومه - إلى العكوف على مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي، ويكون مهمة أحدهم جمع ما سطّره الإمام أبو إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن الكريم ومقارنته بأقوال المفسرين والتعليق عليه.
ومهمة الثاني: جمع ما سطّره في أصول التفسير وقواعده والتعليق عليه.
ومهمة الثالث: جمع ما سطّره في إعراب القرآن الكريم وقراءاته والتعليق عليه.
7 - أُوصي جميع الباحثين في علوم القرآن الكريم وأصول التفسير وقواعده بالرجوع إلى مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي والاستفادة منها وخصوصا كتابه العظيم ((الموافقات)) .
8 - أشكر الباحثين - من أهل القرآن الكريم وعلومه - الذين رجعوا في أبحاثهم المتعلقة بالقرآن الكريم إلى مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي، وأعتب عليهم أنهم لم يشيدوا بالإمام أبي إسحاق الشاطبي في هذا المجال، حتى ولو في مقالة علمية.(44/389)
9 - أحث إخواني الباحثين في كليات اللغة العربية إلى دراسة كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي، وإظهار آرائه النحوية وتعقيباته على الإمام ابن مالك، خصوصا في كتابه الممتاز ((المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية)) .
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- اتجاهات التفسير في العصر الراهن، لعبد المجيد عبد السلام. منشورات مكتبة النهضة الإسلامية، عمان، الأردن، الطبعة الثانية، 1400هـ.
- إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، للبنا، تعليق: الضبَّاع. دار الندوة الجديدة.
- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق: محمد شريف سكر، ومصطفى القصاص. دار إحياء العلوم، بيروت، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1407هـ.
- الإحاطة في أخبار غرناطة، للسان الدين بن الخطيب، تحقيق: محمد عبد الله عنان. الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1393هـ.
- أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي. دار الفكر.
- اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره، لسعود بن عبد الله الفنيسان. مركز الدراسات والإعلام، دار إشبيليا، الطبعة الأولى، 1418هـ.
- إرشاد المبتدي وتذكرة المنتهي في القراءات العشر، للقلانسي، تحقيق: عمر حمدان الكبيسي. المكتبة الفيصليّة، الطبعة الأولى، 1404هـ.
- أزهار الرياض في أخبار عياض، لأحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: أحمد أعراب، ومحمد بن تاويت. صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة.
- أسباب النزول، للواحدي، تحقيق: عصام بن عبد المحسن. دار الإصلاح، الطبعة الأولى، 1411هـ.
- استدراكات القاضي ابن عطية على الإمام ابن جرير الطبري في تفسير القرآن الكريم، لشايع بن عبده الأسمري. مطبوع على الكمبيوتر، 1417هـ، ومنه نسخة في المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية.(44/390)
- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: طه محمد الزيني. الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1411هـ.
- الاعتصام، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي. نشر دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1412هـ.
- أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، لابن عاصم محمد الأندلسي. مكتبة النجاح تونس.
- الأعلام، لخير الدين الزركلي. دار العلم للملايين بيروت، الطبعة السابعة، 1986م.
- أعلام المغرب العربي، لعبد الوهاب بن منصور. المطبعة الملكية بالرباط، 1398هـ.
- الإفادات والإنشادات، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق أبي الأجفان. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1403هـ.
- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لإسماعيل باشا. طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في مطبعتها البهيّة، 1366هـ.
- بحر العلوم، لأبي الليث السمرقندي، تحقيق: علي محمد وعادل أحمد وزكريا عبد المجيد. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1413هـ.
- البحر المحيط، لأبي حيان. تصوير دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.
- بحوث في التفسير ومناهجه، لفهد بن عبد الرحمن الرومي. نشر مكتبة التوبة، 1416هـ.
- بدعُ التفاسير في الماضي والحاضر. مؤسسة الأنوار للنشر والتوزيع، الرياض، 1390هـ.
- البدعة ضوابطها وأثرها السيءُ في الأمّة، لعلي ناصر فقيهي. مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة.
- برنامج المجاري، لمحمد المجاري الأندلسي، تحقيق: أبي الأجفان. دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م.
- البرهان في علوم القرآن، للزركشي، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم. دار الفكر، الطبعة الثانية، 1400هـ.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، تحقيق: محمد أبي الفضل. المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت.
- تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين، ترجمة فهي أبي الفضل. طبع جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية.(44/391)
- التحرير والتنوير، لابن عاشور. لم يذكر معلومات عن الطبع.
- ترجمات معاني القرآن الكريم وتطور فهمه عند الغرب، لعبد الله عباس الندوي. دار الفتح، الطبعة الأولى، 1392هـ.
- ترجمة القرآن وكيف ندعو غير العرب إلى الإسلام، لعبد الوكيل الدروبي. مكتبة دار الإرشاد، حمص.
- ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام، لمحمد رشي رضا. مطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى 1344هـ.
- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، لابن مالك، تحقيق: محمد كامل بركات. دار الكاتب العربي بمصر، 1387هـ.
- التسهيل لعلوم التن-زيل، لابن جزي الكلبي، تحقيق: محمد عبد المنعم وإبراهيم عطوة. الناشر: أم القرى للطباعة والنشر، القاهرة.
- تفسير سورة العصر، لعبد العزيز عبد الفتاح قارئ. مكتبة الدار، الطبعة الأولى، 414هـ.
- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير. دار الفكر، الطبعة الأولى، 1400هـ.
- تفسير القرآن العظيم مسندًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، لعبد الرحمن بن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب. نشر مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1417هـ.
- تفسير القرآن، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: مصطفى مسلم. مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ.
- التفسير الكبير، للرازي. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411هـ.
- التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي. دار الكتب الحديثة، الطبعة الثانية،139هـ.
- تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوَّامة. دار البشائر الإسلامية، ودار الرشد، الطبعة الأولى، 1406هـ.
- تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني. تصوير دار الكتاب الإسلامي، لإحياء ونشر التراث الإسلامي
- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، تحقيق: إبراهيم اطفيش. دار الكتب المصرية.
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد
ومحمود شاكر. دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية.(44/392)
- حدث الأحداث في الإسلام الإقدام على ترجمة القرآن، لمحمد بن سليمان، مطبعة جريدة مصر الحرة، الطبعة الثانية 1355هـ.
- درة الحجال في أسماء الرجال، للمقري، تحقيق: أبي النور محمد الأحمدي. نشر دار التراث القاهرة، والمكتبة العتيقة بتونس.
- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، تحقيق: أحمد محمد الخراط. دار القلم دمشق، الطبعة الأولى، 1414هـ.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي. تصوير دار المعرفة.
- الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق: أحمدبن محمد شاكر. دارالكتب العلمية، بيروت.
- روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، للألوسي. دار الفكر، 1408هـ.
- زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة،1404هـ.
- الزهد والرقائق، لعبد الله بن المبارك، تحقيق: أحمد فريد. دار المعراج الدولية للنشر، الطبعة الأولى1415هـ.
- سنن ابن ماجة، لابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر.
- سنن أبي داود، لأبي داود، تحقيق: محمد محي الدين. دار الفكر.
- سنن الترمذي، للترمذي، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض. دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان.
- السنن الكبرى، للبيهقي. دار المعرفة، بيروت.
- سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: جماعة بإشراف شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1403هـ.
- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد مخلوف. الناشر دار الكتاب العربي بيروت.
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية، 1411هـ.
- شرح التسهيل، لابن مالك، تحقيق: عبد الرحمن السيد، ومحمد بدوي المختون. هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1410هـ.
- الصاحبي، لابن فارس، تحقيق: أحمد صقر. مكتبة ومطبعة دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1974م.(44/393)
- صحيح ابن حبان - مع الإحسان - لابن حبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ.
- صحيح البخاري – مع فتح الباري - للإمام البخاري. الناشر دار المعرفة.
- صحيح سنن ابن ماجة، لناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1408هـ.
- صحيح مسلم، للإمام مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي.
- الصحيح المسند من أسباب النزول، لمقبل بن هادي الوادعي. نشر مكتبة المعارف الرياض، 1400هـ.
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي. منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان.
- طبقات المفسرين للداوودي. دار الكتب العلمية، بيروت.
- العبر في خبر من غبر، للذهبي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ.
- علل القراءات، لأبي منصور الأزهري، تحقيق: نوال بنت إبراهيم الحلوة، الطبعة الأولى، 1412هـ
- فتاوى الإمام الشاطبي، حققها وقدم لها محمد أبو الأجفان. مطبعة الكواكب، تونس، الطبعة الثانية، 1406هـ.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر. دار المعرفة للطباعة والنشر.
- الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، تحقيق: محمد محيي الدين. الناشر دار المعرفة بيروت.
- فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، للكتاني، باعتناء إحسان عباس. دار الغرب الإسلامي، بيروت.
- القرآن العظيم، هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين، لمحمد الصادق عرجون.
الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، 1386هـ.
- قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل، لمحمد الأمين المحبي، تحقيق: عثمان محمود الصيني، مكتبة التوبة الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ.
- قواعد التفسير جمع-اودراسة، لخالد بن عثمان السبت. دار ابن عفان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1417هـ.
- القول السديد في حكم ترجمة القرآن المجيد، لمحمد مصطفى الشاطر. مطبعة حجازي بالقاهرة،1355هـ.(44/394)
- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، للذهبي، تحقيق: لجنة من العلماء. دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ.
- الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف - ملحق بآخر الكشّاف - لابن حجر. دار المعرفة.
- كتاب سيبويه، لسيبويه، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري.
دار الفكر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1397هـ.
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة. منشورات مكتبة المتنبي ببغداد.
- الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لمكي بن أبي طالب، تحقيق: محي الدين رمضان. مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة، 1407هـ.
- لسان العرب، لابن منظور، تعليق: علي شيري. دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408هـ.
- لغة القرآن الكريم، لعبد الجليل عبد الرحيم. مكتبة الرسالة، الطبعة الأولى، 1401هـ.
- مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثامنة،1401هـ-.
- المبسوط في القراءات العشر، لأحمد بن الحسين الأصبهاني، تحقيق: سبيع حمزة. مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
- مجاز القرآن، لأبي عبيدة، تحقيق: محمد فؤاد سزكين. الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.
- المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر، لعبد المتعال الصعيدي، نشر: مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز.
- مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية، العدد (6) 1402هـ.
- المجموع شرح المهذب، للنووي. دار الفكر.
- محاسن التأويل، للقاسمي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. مؤسسة التاريخ العربي، الطبعة الأولى، 1415هـ.
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، تحقيق: المجلس العلمي بفاس، 1413هـ.
- مدارك التن-زيل وحقائق التأويل، للنسفي. الناشر: دار الكتاب العربي.(44/395)
- مدرسة التفسير في الأندلس، لمصطفى إبراهيم المشني. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1406هـ.
- المحلى لابن حزم، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي. دار الآفاق الجديدة، بيروت.
- مسألة ترجمة القرآن، لمصطفى صبري. المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة،1351هـ.
- المسند، للإمام أحمد. المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1405هـ.
- المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى 1392هـ.
- معالم التن-زيل، للبغوي، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار. دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1406هـ.
- معاني القرآن الكريم، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: محمد علي الصابوني. نشر معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى.
- معجم البلدان، لياقوت الحموي، تحقيق: ريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ.
- المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. مطبعة الزهراء الحديثة، الطبعة الثانية.
- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة. الناشر مكتبة المثنى بيروت، ودار إحياء التراث العربي بيروت.
- المُعرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، للجواليقي، تحقيق:
أحمد بن محمد شاكر. مطبعة دار الكتب، الطبعة الثانية، 1389هـ.
- المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، لأحمد ابن يحيى النوشريسي، خرجه جماعة من الفقهاء، بإشراف محمد حجي.
- المغني، لابن قدامة. مكتبة الرياض الحديثة.
- المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق: عياد الثبيتي، نشر: مكتبة دار التراث، الطبعة الأولى، 1417هـ.
- مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية. دار الصحابة للتراث، الطبعة الأولى،1409هـ.
- مناظرات في أُصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي، لعبد المجيد تركي، ترجمة عبد الصبور شاهين. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1406هـ.(44/396)
- مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني. دار إحياء الكتب العربية.
- منهج ابن عطية في تفسير القرآن الكريم. لعبد الوهاب فايد. الهيئة العامّة لشئون المطابع الأميرية، 1393هـ.
- المهذب فيما وقع في القرآن من المعَرَّب، للسيوطي، تحقيق: التهامي الراجي الهاشمي.
مطبعة المحمدية المغرب.
- الموافقات، للشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن. نشر دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417هـ.
- الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، تحقيق: عبد الله دراز. دار المعرفة بيروت.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي البجاوي. دار المرفعة، بيروت.
- الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز وما فيه من الفرائض والسنن، للقاسم بن سلاَّم، تحقيق: محمد بن صالح المديفر. مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1411هـ.
- الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عز وجل واختلاف العلماء في ذلك، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: سليمان بن إبراهيم اللاحم. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى،1412هـ.
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، تحقيق: الضباع. دار الكتب العلمية.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للمقّري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس. دار صادر بيروت.
- نكت القرآن الدالّة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، لمحمد بن علي القصاب، تحقيق: شايع بن عبده الأسمري. يوجد من الكتاب نسخ في المكتبة المركزية، قسم المخطوطات.
- النكت والعيون، للماوردي، تحقيق: السيد بن عبد المقصود. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1412هـ.
- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق: طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي. المكتبة العلمية بيروت.
- نواسخ القرآن، لابن الجوزي، تحقيق: محمد أشرف. نشر المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1404هـ.(44/397)
- نيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأحمد بابا التنبكتي. ملتزم طبعه عباس بن عبد السلام ابن شقرون، بالفحامين بمصر، الطبعة الأولى 1351هـ.(44/398)
حقيقة السحر وحكمه
في
الكتاب والسنة
إعداد
الدكتور عواد بن عبد الله المعتق
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد؛ فنظراً لكثرة المشعوذين في كل زمان وخصوصا في هذا الزمان الذي كثرت فيه المشكلات النفسية حتى أصبحت سمة هذا العصر. وأخذ كثير ممن ابتلوا بمثل هذه المشكلات - وخصوصا من يغلب عليهم الجهل أو قلة الإيمان - أخذوا يلجأون إلى المشعوذين الذين يدعون الطب عن طريق الكهانة أو السحر يبحثون عندهم عن حل لمشكلاتهم النفسية ظناً أن لديهم حلاً لها أو علاجاً لأثرها. ومعلوم ما في هذا من الخطر على الإسلام والمسلمين لما فيه من التعلق بغير الله ومخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. لما ذكرت رأيت أن أكتب لمحة موجزة عن السحر مبيناً فيها حقيقته وحكم تعلمه وتعليمه والعمل به - وعقوبة الساحر وتوبته - ثم علاجه. وقد جعلتها في مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة.
المقدمة: في أهمية الموضوع وبعض الدوافع التي دفعتني لإعداده.
المبحث الأول: في تعريف السحر وأنواعه.
المبحث الثاني: السحر له حقيقة أم لا؟
المبحث الثالث: حكم السحر والسحرة.
المبحث الرابع: في علاج السحر.
الخاتمة: في ذكر أهم النتائج التي توصلت إليها.
وأخيراً أسأل الله أن يتقبل صوابه ويتجاوز عن خطئه إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المبحث الأول: في تعريف السحر وأنواعه
أولا: تعريف السحر:
السحر لغة: هو الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، والجمع أسحار، وسحور. وسحره يسحره سَحراً وسِحراً وسَحّره، ورجل ساحر من قوم سحرة وسُحّار، وسَحّار من قوم سحّارين، ولا يكسر."
والسحر أيضا: البيان في فطنة كما جاء في الحديث أنه صلىالله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحرا" (1)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب الخطبة، ومسلم في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة.(44/399)
قال ابن الأثير: يعني إن من البيان لسحرا: أي منه ما يصرف قلوب السامعين وإن كان غيرحق. وقيل معناه إن من البيان ما يكسب من الإثم ما يكتسبه الساحر بسحره فيكون في معرض الذم. ويجوز أن يكون في معرض المدح، لأنه تستمال به القلوب ويرضى به الساخط ويستنزل به الصعب.
قال الأزهري: وأصل السَّحر: صرف الشي عن حقيقته إلى غيره فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق وخيّل الشيء على غير حقيقته قد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه.
قال الفراء: في قوله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (1) معناه فأنى تصرفون.
كما يأتي السحر ويراد به الخديعة. يقال سحره بالطعام والشراب: أي خدعه، والسحور المفسد من الطعام أو المكان.
يقال: سحر المطر الطين والتراب: أفسد فلم يصلح للعمل.
السحر في الإصطلاح:
عرف السحر اصطلاحا بتعاريف كثيرة مختلفة متباينة، ذلك لكثرة الأنواع الداخلة تحته ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعًا لغيرها.
ولاختلاف المذاهب فيه بين الحقيقة والتخييل. فمثلا البعض يعرفه بتعاريف لا تصدق إلا على ما لا حقيقة له من أنواع السحر، أو ما هو سحر في اللغة.
ومن هؤلاء أبو بكر الرازي حيث قال: "هو كل أمر خفي سببه وتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخدع".
وعرفه البعض بماله حقيقة وأثر كابن قدامة حيث قال: "السحرعزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين امرء وزوجه ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه".
وعرفه أحد العلماء المعاصرين - تعريفاً جمع فيه القسمين. فقال: "هو عبارة عن أمور دقيقة موغلة في الخفاء يمكن اكتسابها بالتعلم تشبه الخارق للعادة وليس فيها تحد، أو تجري مجرى التمويه والخداع تصدر من نفس شريرة تؤثر في عالم العناصر بغير مباشرة أو بمباشرة".
ونستخلص من هذه التعاريف وغيرها تعريفاً لعله يكون جامعاً بلفظ موجز إن شاء الله.
__________
(1) آية 89 المؤمنين.(44/400)
فنقول: السحر: هو كل ما فيه مخادعة أوتأثير في عالم العناصر نتيجة الاستعانة بغير الله من شيطان أو نحوه، يشبه الخارق للعادة وليس فيه تحد يمكن اكتسابه بالتعلم.
ثانياً: أنواع السحر:
السحرأنواع كثيرة منها: ماله حقيقة، ومنها ما ليس له حقيقة، ومنها ما هو سحر في اللغة "هو السحر المجازي"، ولذا اختلفت تقسيمات العلماء للسحر فبعضهم جمع الجميع كالرازي وبعضهم اقتصر على ما هو سحر في عرف الشرع وبعضهم اقتصر على ماله حقيقة فقط. وإليك شيئاً من هذه الأنواع بشيء من الإيجاز.
القسم الأول:- ما هو سحر في الشرع - ومنه ماله حقيقة، ومنه ما ليس له حقيقة - ومن أنواعه ما يلي:
النوع الأول: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية. ذلك أن الوهم والنفس لهما تأثير على الإنسان، وبناءً على ذلك يقوم الساحر بأقوال وأفعال مخصوصة تقوي النفس حتى تؤثر في الآخرين بقدرة الله تعالى.
وقد ذكر الرازي وجوها كثيرة تؤكد أن للوهم والنفس تأثيراً، منها:
الأول: أن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجذع الموضوع على وجه الأرض ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه ذلك أن توهم السقوط متى قوي أوجبه.
الثاني: قد أجمع الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر خشية أن يؤثر هذا على نفسه فيستمر رعافه وعلى نهي المصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران لأن هذا يؤثر في نفسه فيتمادى به صرعه.
كل ذلك دليل على أن التصورات النفسية التي تعرض للنفس تؤثر في صاحبها.
الثالث: التجربة والعيان شاهدان بأن هذه التصورات مبادئ قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان فإن الغضبان تشتد سخونة مزاجه حتى إنه يفيده سخونة قوية. وذلك دليل على أن النفوس لها تأثير في بدن صاحبها وإذا جاز كون التصورات مبادئ لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادئ لحدوث الحوادث خارج البدن.
الرابع: ومما يؤكد أن النفس قد تؤثر بالآخرين الإصابة بالعين(44/401)
وقد اتفق النقل والعقل على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" (1)
ثم قال: "النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً تستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات ... وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات.
وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن ... ثم أرشد إلى أنه لا بد لمزاولة هذه الأعمال من انقطاع المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء والانقطاع عن مخالطة الخلق، وكلما كانت هذه الأمور أكثر كان ذلك التأثير أقوى".
والحق أن هذا الساحر لم يؤثر على الآخرين بنفسه فقط بل هناك معين، وهذا المعين إنما هو شيطان، ذلك أن الساحر عندما خرج عن حد الاعتدال المشروع في تلبية رغبات الروح والجسد وأشقى نفسه في معصية الله، تعلت روحه على بدنه وقويت حتى أصبح من السهل على الأرواح التعامل معها، ومن ثم تولتها الأرواح الشيطانية لكونها خبيثة ورغبتها في هذا السلوك، وذلك بتحقيق أمور لا تستطيعها في حال اعتدالها، لتستمر في هذا الطريق الباطل مع عدم شعورها بعون تلك الأرواح. ولذا يمكن أن يطلق على ما تحققه من أمور أحوال شيطانية أعاذنا الله منها.
النوع الثاني: السحر الذي يستعان فيه بالكواكب ومنه:
__________
(1) رواه مسلم والترمذي جامع الأصول حديث 5737.(44/402)
1- سحر الكلدانيين وأهل بابل وغيرهم، وهؤلاء كانوا قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويعتقدون أنها المدبرة للعالم وأن حوادث العالم كلها من أفعالها، ومنها يصدر كل مظهر خير وشر، وقد بعث الله إليهم إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم ونظراً لاعتقادهم أنها مدبرة من دون الله فهم يزعمون أن لها ادراكات روحانية فإذا قوبلت ببخور خاص ولباس خاص على الذي يباشر البخور مع إقدامه على أفعال خاصة، وألفاظ يخاطب بها الكواكب كانت روحانية الفلك مطيعة له متى ما أراد شيئاً فعلته له على حد زعمهم. والحق أن الروحانيات التي قضت حوائجهم إنما هي الشياطين أعاذنا الله منها ليستمروا في باطلهم فيضلوا ويضلوا
2- ومنه نوع يسمى بالطلاسم: وهو عبارة عن نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب - على زعم أهلها - في جسم من المعادن أو غيرها تحدث به خاصية ربطت في مجاري العادات، ولا بد مع ذلك من نفس صالحة لهذه الأعمال فإن بعض النفوس لا تجري الخاصية المذكورة على يده
وهذا النوع من السحر يحصل في الغالب إما من محتال ذكي مع مغفل فنتيجة تصديقه يحصل الشعور النفسي بتأثيره. وأما من صاحب علاقة بالشياطين، وإنما يستعمل هذا الطلسم لإخفاء ضلاله وكفره وكلاهما محرم. فالأول كذب وغش، والثاني شرك ظاهر من فاعله. وعليه فليس للكواكب فيه أي أثر.
3- ومنه: النظر في حركات الأفلاك ودورانها وطلوعها وغروبها واقترابها وافتراقها معتقدين أن لكل نجم منها تأثير حال انفراده كما أن له تأثيراً حال اجتماعه بغيره، على الحوادث الأرضية من غلاء الأسعار ورخصها ووقوع الحوادث وهبوب الرياح ونحو ذلك وقد ينسبون إليه ذلك مطلقاً
4- ومنه النظر في منازل القمر الثمانية والعشرين معتقدين التأثير، في اقتران القمر بكل منها ومفارقته وان في تلك المقارنة أو المفارقة سعوداً أو نحساً أوتأليفا أو تفريقاً وغير ذلك.(44/403)
5- ومنه ما يفعله من يستخدم الأرقام لحروف أبجد هوز.... المسمى بعلم الحرف. وهو أن يكتب حروف أبجد هوز ... الخ. ويجعل لكل حرف منها قدراً من العدد معلوماً ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة وغيرها ويجمع جمعاً معروفاً عنده ويطرح طرحاً خاصاً ويثبت إثباتاً خاصاً، وينسبه إلى الأبراج الاثني عشر المعروفة عند أهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان وكثير منهم يفرق بين المرء وزوجته بذلك بدعوى أنهم إن جمعهم بيت لا يعيش أحدهم، وقد يتحكم بذلك في الغيب فيدعي أن هذا يولد له وهذا لا. وهذا يكون غنياً وهذا يكون فقيرا ونحو ذلك. كأنه هو الكاتب ذلك للجنين في بطن أمه لا والله لا يدريه الملك الذي يكتب حتى يسأل ربه فكيف بهذا الكاذب المفترى ولا شك في تحريم هذا العمل وكذب مدعيه وأن أحكامه رجم بالغيب.
النوع الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن. وهم على قسمين مؤمنين - وكفار، وهم الشياطين. أما المؤمنون فمن المعلوم أنهم لا يعملون فعل محرم أو يعينون عليه. إذا فالاستعانة إنما هي بالشياطين.
واتصال النفوس الناطقة بها سهل، لما بينهما من المشابهة والقرب. وهذا الاتصال يحصل بشي من الرقى والدخن والتجريد.
قال الرازي: "إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل تسخير الجن".
وعندما يتحقق الاتصال تحصل الاستعانة ثم الإعانة لكن ذلك لا يكون دون الشرك بالله تعالى.
وأصحاب هذا النوع قد يخفون استعانتهم بالشياطين بما يزعمونه من أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمروا بتعظيمها ومتى أقسم عليهم بها أطاعواوفعلوا ما طلب منهم ولا يخفى بطلان هذا الزعم، وأن ما يحصل من تعظيم وقسم إنما هو متوجه إلى الشياطين.(44/404)
النوع الرابع: العقد والنفث فيه قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (1)
والنفاثات في العقد: هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن في كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر وذلك إذا كان المسحور غير مباشر، أما إذا كان مباشراً فينفثن عليه مباشرة. وذلك كله بعد أن تكيف نفس الساحر بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري. ويطلق البعض على هذا النوع الرقى لشبهها بها في الصورة ومن هذا النوع سحر لبيد بن ألاعصم اليهودي للرسول صلى الله عليه وسلم والشرك في هذا النوع ظاهر ذلك أنه استعانة بالأرواح الخبيثة وهم الشياطين.
النوع الخامس: الهيمياء بكسر الهاء على وزن كبرياء، وهو ما تركب من خواص سماوية تضاف لأحوال الأفلاك يحصل لمن عمل له شيء من ذلك أمور معلومة عند السحرة، وقد يبقى له إدراك وقد يسلبه بالكلية فتصير أحواله كحالات النائم من غير فرق حتى يتخيل مرور السنين الكثيرة في الزمن اليسير وحدوث الأولاد وإنقضاء الأعمار وغير ذلك في ساعة ونحوها من الزمن اليسير، ومن لم يعلم له ذلك لا يجد شيئا مما ذكر وكل ما يتصوره المسحور في هذه الحالة من الأوهام التي لا حقيقة لها.
النوع السادس: السيمياء: بكسر السين وهو عبارة عما تركب من خواص أرضية كدهن خاص أو كلمات خاصة توجب إدارك الحواس الخمسة أو بعضها بما له وجود حقيقي، أو بما هو تخييل صرف.
وهذا النوع تخييلي. يأتي بأحد أمرين إما بتأثير عقاقير بخواصها. وهذا ليس سحراً في الشرع. وإما بكلمات خاصة، وهذا لا يحصل بمجرد الكلام وإنما هو بمعين من الشياطين يكون منه التخييل على الحواس بعد ذلك الكلام الذي يستدعي به الساحر ذلك المعين وهذا الكلام تذلل للشياطين يعاوضون عنه الساحر بما يريد من الخداع. ولا شك في حرمته لكونه شركاً.
__________
(1) آية 4 سورة الفلق.(44/405)
القسم الثاني: ماسحر في اللغة. وهو"السحر المجازي"ومداره على قوة البيان وخفة اليد، والحيل والاكتشافات التي سبق بها الساحر عصره وإنما أدخل هذا القسم في فن السحر للطافة مأخذه، ذلك أن السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه. وهو أنواع منها:
الأول: الأخذ بالأبصار والشعبذة، وهذا النوع مبني على مقدمات. أحدها: أن أغلاط البصر كثيرة ومن أمثلة ذلك أن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً ومثلها السيارة ونحوها. وذلك دليل على أن الساكن يرى متحركاً والمتحرك يرى ساكناً.
ثانيها: أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوسات وقوفاً تاماً إذا أدركت المحسوسات في زمان له مقدار ما، أما إذا أدركت المحسوس في زمان قصير جداً ثم أدركت بعده محسوساً آخر وهكذا فانه يختلط البعض بالبعض.
وثالثها: أن النفس إذاكانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ولا يشعر الحس به ألبتة. مثاله: أن الإنسان عند دخوله على السلطان قديلقاه إنسان آخر ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه، إذ إن قلبه مشغول بشيء آخر. ثم بعد أن فصّل الرازي في تلك المقدمات قال: إذا عرفت هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر، وذلك أن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئا آخر بسرعة شديدة فيبقى ذلك العمل خفياً لتفاوت الشيئين.
أحدهما: اشتغالهم بالأمر الأول والثاني: سرعة الإتيان بهذا العمل الثاني وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غيرما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله.(44/406)
وهذا النوع - كما نرى - تخييل لا حقيقة له وهو محرم، لما يتضمنه من الكذب والخداع وقد قال البعض بأن سحر سحرة فرعون من هذا النوع والأظهر والله أعلم أنه ليس من هذا النوع ذلك أن سحرة فرعون لم يكن منهم حركات سوى إلقاء الحبال والعصي ثم تراءى للناس أنها متحركة فكان سحرهم بفعل آخر أثر على الأعين، وهو من نوع الاستخدامات.
الثاني: الاستعانة بخواص الأدوية والأطعمة والملابس ونحوها. وهو ضرب من الاحتيال يقوم به بعض من يدعي السحر.
فمن ذلك أن يدعي القدرة على فعل أمور خارقة، فيستخدم خواص بعض المواد التي خلقها الله مما عرف خاصيته ولم يعلمه بقية الناس.
ومن أمثلة ذلك دخول بعض هؤلاء النار بعد أن يدهنوا جلودهم بمواد لها خاصية مقاومة النار، أو يلبس ثياب لا تحرقها النار، فيظن الرائي الجاهل أنه فعل أمراً خارقاً، ولو علم بما فعل لزال العجب، كذلك من هذا النوع أن يجعل في طعام من يريد إيذاءه بعض الأدوية أو الأطعمة المبلدة المزيلة للعقل أو الدخن المسكرة، فإذا تناولها الضحية تبلد عقله وقلت فطنته فيتصرف تصرفاً غيرسليم فيقول الناس إنه مسحور، وقد يستعين بهذه الأدوية ونحوها في مسك الحيات، ثم يزعم أمام جهلة الناس أنها أحوال له.
الثالث: السعي بالنميمة وإغراء بعض الناس ببعض من وجوه لطيفة خفية وهذا شائع بين الناس وخصوصاً ضعاف الإيمان منهم.
قال أبو الخطاب في عيون المسائل: "ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس"
وإنما أطلق على النميمة للإفساد سحراً، لأنها تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بوسيلة خفية كاذبة.
وقال ابن كثير: "النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه، فأما إذا كانت على وجه الإصلاح بين الناس ... أو على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة فهذا أمر مطلوب كما فعل نعيم بن مسعود".
الرابع: تعليق القلب:(44/407)
وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف اسم الله الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة، وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل ما يشاء.
قال الرازي: "وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار".
المبحث الثاني: السحر له حقيقة أم لا؟
اخُتلف في السحر هل له حقيقة أم لا حقيقة له بل مجرد تخييل؟ على قولين وإليك رأي كل من الفريقين مع بيان الرأي الصائب إن شاء الله.
القول الأول: قول أهل السنة والجماعة:
وهو أن للسحر حقيقة وأثراً ثابتاً بالكتاب والسنة. قال النووي: "والصحيح أن السحر له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء ... " وقال القرطبي رحمه الله "ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة ... " وقال أيضاً: "وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عندها ما يشاء" وقال الإمام المازري: "مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافاً لمن أنكر ذلك ... (1) " وقال الإمام ابن القيم: "وقد دل قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (2)
وحديث عائشة رضى الله عنها على تأثير السحر وأن له حقيقة.
أدلة أهل السنة:
لقد استدل أهل السنة على أن للسحر حقيقة وأثراً بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ومن الواقع وإليك شيئا منها:
أولا: الأدلة من الكتاب منها ما يلي:
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي ج14 ص174.
(2) آية 4 سورة الفلق.(44/408)
1- قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1)
وجه الاستدلال: الآية تدل على أن للسحر حقيقة من وجوه الأول: أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر فيها عن السحر وأنه مما يعلم ويتعلم وأن متعلمه يكفر بذلك وهذه الصفات لا تكون إلا لماله حقيقة، مما يدل على أن له حقيقة.
الثاني: أن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية بأن للسحر آثاراً محسوسة كالتفريق بين المرء وزوجه والأثر دليل على وجود المؤثر وأن له حقيقة.
الثالث: كما أخبر الله تعالى في هذه الآية بأن للسحرضرراً لا يتحقق إلا بإذنه، والاستثناء دليل على حصول الآثار بسببه والضرر أو الأثر لا يكون إلا مماله حقيقة.
2- قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (2)
__________
(1) آية 102 سورة البقرة.
(2) سورة الفلق.(44/409)
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمرنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بالاستعاذة من شر النفاثات في العقد وهن السواحر كما فسرها جمهور المفسرين مما يدل على أن للسحر حقيقة وأثرا إضافة إلى ذلك أن هذه السورة وسورة الناس باتفاق جمهور المفسرين سبب نزولهما سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولو لم يكن له حقيقة وأثر لما أنزلت هاتان السورتان لإبطال أثره.
ثانياً: الأدلة من السنة وهي كثيرة منها ما يلي:
1- أخرج البخاري بسنده إلى عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة - وهو عندي لكنه دعا ودعا، ثم قال "يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل؟ قالا: مطبوب (1)
قال: ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم. قال في أي شيئ؟ قال في مشط ومشاطة (2) وجف طلع (3) نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال في بئر ذروان (4) .فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة كأن مائها نقاعة الحنا (5) وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين (6) قلت يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال قد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شراً فأمر بها فدفنت
__________
(1) المطبوب: المسحور.
(2) المشط: ما يسرح به الشعر، المشاطة هي الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند تسريحه.
(3) وعاء طلع النخل: هو الغشاء الذي يكون عليه ويطلق على الذكر والأنثى، ولذا قيده في الحديث بالذكر.
(4) وهي بئر في المدينة في بستان بني رزيق.
(5) الماء الذي ينقع فيه الحنا أي أحمر
(6) أي كأن نخلها الذي يشرب من مائها - وقد التوى سعفه - رؤس الشياطين أي في قبحه(44/410)
وفي رواية لمسلم "فقلت يا رسول الله أفلا أحرقته"
ويقول الإمام النووي عن الروايتين: "كلاهماصحيح: فطلبت أن يخرجه ثم يحرقه والمراد إخراج السحر".
وفي رواية عمرة عن عائشة "فنزل رجل فاستخرجه" وفيه من الزيادة أنه "وجد في الطلعة تمثالاً من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذابه وتر فيه إحدى عشرة عقدة فنزل جبريل بالمعوذتين فكلما قرأ آية انحلت عقدة وكلما نزع إبرة وجد لها ألما ثم يجد بعدها راحة" (1)
وجه الاستدلال: الحديث كما نرى يروي واقعة سحره عليه الصلاة والسلام ابتداءً من تغيرعادته صلى الله عليه وسلم حتى إنه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله وانتهاءً بقراءة المعوذتين وحل العقد ونزع الإبر وما بين ذلك من دعائه صلىالله عليه وسلم ثم نزول الملكين ونقاشهما فيما حصل له صلى الله عليه وسلم ثم ذهابه إلى البئر في جماعة من أصحابه وإخبار عائشة فيما حصل. وطلبها رضي الله عنها استخراجه، قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله شفاني" كل هذا لا يكون إلا فيما له حقيقة وأثر بيّن.
2- ما رواه البخاري بسنده إلى أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" (2)
__________
(1) فتح الباري ج10 ص 230
(2) واه البخاري في كتاب الوصايا. باب قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} برقم 2615 ورواه مختصرا بلفظ"اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر"في كتاب الطب باب الشرك والسحر من الموبقات برقم 5431(44/411)
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا باجتناب السبع الموبقات وعد منها السحر بل جعله في المرتبة الثانية بعد الشرك بالله. مما يدل على أن له حقيقة.
3- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تصّبح بسبع تمرات عجوة (1) لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" (2)
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى ما فيه وقاية من السحر ولايتوقى إلاشيء له حقيقة وأثر بين، كما أنه قارنه بالسم والسم متفق بأن له حقيقة وأثراً فكذلك إذاً السحر.
ثالثاً: الدليل من الواقع: كذلك من أدلة أهل السنة على أن للسحر حقيقة: الواقع المشاهد وما اشتهر بين الناس من عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدرعلى إتيانها. وحل عقده فيقدر عليها بعد عجز عنها حتى صار متواتراً لا يمكن جحده.
وروى من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه.
كل هذا دليل ظاهر على أن للسحر حقيقة والله أعلم.
القول الثاني: وهو قول عامة المعتزلة.
وجماعة من العلماء كأبي منصور الماتريدي وابن حزم وأبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الجصاص، وغيرهم.
ويتلخص رأيهم في أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل فلا تأثير له لا في مرض ولا حل ولا عقد ولاغير ذلك، وعلى ذلك فهم ينكرون من أنواع السحر ما كان له حقيقة ويجعلونه ضرباً واحداً وهو سحر التخييل.
يقول القاضي عبد الجبار:"إن السحر في الحقيقة لا يوجب المضرة لأنه ضرب من التمويه والحيلة…"
ويقول أبو منصور الماتريدي: "والأصل أن الكهانة محمول أكثرها على الكذب والمخادعة والسحر على التشبيه والتخييل"
__________
(1) ضرب من أجود تمر المدينة والينه. انظر فتح الباري ج10 ص 238.
(2) رواه البخاري في كتاب الطب باب الدواء بالعجوة للسحر برقم 5769، ومسلم في كتب الأشربة باب فضل تمر المدينة. انظر: صحيح مسلم المطبوع مع شرح النووي ج14ص2.(44/412)
ويقول ابن حزم: "…وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (1) فأخبر الله تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخيلاً لا حقيقة ... "
وقال ابن حجر: "واختلف في السحر: فقيل هو تخييل فقط ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الاستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة"
وقد أيدوا قولهم هذا بشبهات نقلية وعقلية.
وإليك شيئاً منها مع المناقشة:
أولا: الشبهات النقلية منها، ما يلي
الشبهة الأولى: قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (2)
وجه الاستدلال: قالوا الآية تدل على أن السحرة حاولوا إرهاب الناس وتخويفهم بأن خيلوا لأعين الناظرين أمراً لا حقيقة له مما يدل على أن السحر لا حقيقة له.
الشبهة الثانية قوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (3)
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (4)
وجه الاستدلال: يقول ابن حزم:"وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (5)
فأخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا حقيقة له.
وقال تعالى {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (6)
فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له"
الجواب يقال لهم:
__________
(1) آية 66 سورة طه.
(2) آية 116 سورة الأعراف
(3) آية 66 سورة طه.
(4) آية 69 سورة طه.
(5) آية 66 سورة طه.
(6) آية 69 سورة طه.(44/413)
أولاًً: الآيات دليل على أن للسحر حقيقة إذ إنها دلت على أن للسحر أثراً في نظر المسحور حتى تخيل الشيء علىخلاف ما هو عليه وهو تأثير في إحساسهم، وإذا جاز، فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم؟ وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير الواقع في صفة أخرى من صفات النفس والبدن؟ وعليه فالآيات حجة عليكم لا لكم.
ثانياً: على التسليم بدلالة الآيات على التخييل فقط فإن هذا لا يمنع أن يكون غير التخييل من جملة السحر؛ لأنها لم تحصر السحر في التخييل، وإنما دلت على أن سحر سحرة فرعون ونحوهم كان من هذا النوع ونحن لاننكر أن يكون التخييل من أنواع السحر وعلى ذلك فلا حجة في الآيات على نفي حقيقة السحر وتأثيره والله أعلم.
ثانياُ: الشبهات العقلية: منها ما يلي:
الشبهة الأولى: قالوا إن في القول بأن للسحر أثراً خارقاً للعادة يلزم منه أن يكون هناك موجوداً مثلاً لله تعالى. كما أنه لا يمكن العلم معه بالفرق بين ما يختص الله بالقدرة عليه وبين مقدور العباد.
الجواب: يقال لهم هذه الشبهة باطلة ولا يلزم من القول بأن للسحر أثراً ما زعمتم، ذلك أن أهل السنة لما قالوا بأن للسحر أثراً لم يطلقوا القول بحصول كل أثر أو بحصول أثر يصل إلى مرتبة الخلق والإيجاد، ذلك أن الموجد الحق هو الله وحده لا شريك له.
قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.... الآية} (1) وقال تعالى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (2) وقال تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ 000 الآية} (3) والقول بأن أثر السحر يصل إلى درجة الخلق شرك في الربوبية. أعاذنا الله منه.
وإنما قالوا له أثر على النفس والبدن يؤدي إلى المرض.
__________
(1) آية 62 سورة الزمر.
(2) آية 2 سورة الفرقان.
(3) آية 17 سورة النحل.(44/414)
فهو سبب قد ربط الله به بعض المسببات في حدود قدرة الخلق من الجن والإنس وبما أن قدرة الشياطين تختلف عن قدرة الإنس لذا قد يظن الجاهل أن حصول الأثر المناقض للعادة فوق قدرة الخلق والواقع أنه في حدود قدرة الخلق من الجن والإنس ولذا يمكن معارضته بمثله وأقوى منه.
وإذا كان كذلك فلن يلزم من القول بان للسحر أثراً ما زعمتم. والله أعلم.
الشبهة الثانية: يروي الرازي عن القاضي أنه قال: "أنا لو جوزنا ذلك " لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات لأنا لو جوزنا استحداث الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية لم يمكنا القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام صدرت عن الله تعالى بل يجوز فيها أنهم أتوا بها عن طريق السحر وحينئذ يبطل القول بالنبوات من كل الوجوه.
الجواب: يقال لهم العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر.
ولكن النبي يتحدى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه فلو كان كاذباً لم تنخرق العادة على يديه. ولذا لا يمكن معارضته بمثله أو أقوى منه؛ إذ إنّه ليس في مقدور الجن والإنس.
قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (1)
أما الولي والساحر: فلا يتحديان الخلق ولا يستدلان على نبوة ولو ادعيا شيئاً من ذلك لم تنخرق العادة لهما.
وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجوه منها:
الأول: وهو المشهور، إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على فاسق أو كافر، والكرامة لا تظهر إلا على ولي.
الثاني: أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم لساحر ما يريد.
والكرامة لا تفتقر إلى شيئ من ذلك. وفي كثير من الأوقات تقع الكرامة اتفاقا من غير أن يستدعيها أو يشعر بها.
__________
(1) آية 88 سورة الإسراء.(44/415)
الثالث: أن ما يأتي به السحرة، يمكن معارضته بمثله وأقوى منه كما هو الواقع بخلاف الكرامات فهي كالمعجزات لا يمكن لأحد أن يعارضها بمثلها أو أقوى منها.
الرابع: إن مايأتي به السحرة لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن بخلاف الكرامات فهي كالمعجزات لا يقدر عليها إلا الله.
الشبهة الثالثة: يروي الرازي عن القاضي أنه قال:" ... لو جوزنا أن يكون في الناس من يقدر علىخلق الجسم والحياة والألوان لقدر ذلك الإنسان على تحصيل الأموال العظيمة من غير تعب. لكنا نرى من يدعي السحر متوصلا ً إلى اكتساب الحقير من المال بجهد جهيد فعلمنا كذبه."
الجواب: يقال لهم هذه الشبهة باطلة ولا تلزمنا لأنا لم نطلق الحكم بحصول كل تأثير مهما كان بل قلنا في نطاق معين لا يتجاوز التصرف في الأعراض من باب التأثير على القلوب بالحب والبغض وعلى الأبدان بالألم والسقم. أما أن يقلب الجماد حيواناً أو عكسه أو الحديد ذهباً أو نحوه فليس في مقدور الساحر.
وبذلك يزول اللبس وتبطل هذه الشبهة. والله أعلم.
والأظهر في هذه المسألة - والله أعلم - أن السحر المذموم صاحبه ليس كله حقيقة وليس كله تخييلاً. بل منه ما هو حقيقة كما دلت عليه أدلة أهل السنة، ومنه ما هو تخييل كما دلت عليه الآيات التي استدل بها المخالفون. وبذلك يتضح عدم التعارض بين الأدلة النقلية. وعلى هذا جماهير العلماء من المسلمين. والله أعلم.(44/416)
تابع لحقيقة السحر وحكمه في الكتاب والسنة
المبحث الثالث: حكم السحر والسحرة.
سنتناول في هذا المبحث إن شاء الله ما يلي:
أولاً: حكم تعلم السحر وتعليمه.
ثانيا: حكم العمل به.
ثالثا: عقوبة الساحر.
رابعا: توبة الساحر.
أولا: حكم تعلم السحر وتعليمه:
اختلف العلماء في حكم تعلم السحر وتعليمه على أقوال.
الأول: قول الجمهور من علماء أهل السنة، قالوا إن تعلم السحر وتعليمه حرام. قال ابن قدامة رحمه الله " ... فإن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم"
لكن ما هي درجة هذا التحريم؟
إن قصد من تعلمه العمل به وكان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر، أو تعلمه معتقداً إباحته فهو كفر، وإلا فهو فسق.
قال الإمام الشافعي: "إذا تعلم السحر قيل له صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر وإلا فلا (1)
وقال النووي رحمه الله وهو يتكلم عن السحر: " ... وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن تضمن ما يقضي الكفر كفر وإلا فلا" (2) .
وقال أبو حيان: "وأما حكم السحر فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين وإضافة ما يحدثه الله إليها فهوكفر إجماعاً لا يحل تعليمه ولا العمل به وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء والتفريق بين الزوجين والأصدقاء، وأما إذا كان لا يعلم منه شيئا من ذلك بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه والعمل به ... (3) "
وقال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب: "وقد نص أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه (4) .
الأدلة: وقد أيدوا قولهم بأدلة كثيرة منها ما يلي:
__________
(1) أضواء البيان ج4ص455.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي ج14 ص176.
(3) روائع البيان ج1ص84.
(4) تيسير العزيز الحميد ص 335.(44/417)
الأول: قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ... الآية} (1)
قال ابن حجر:"فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر" (2)
الثاني: قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ... الآية} (3)
قال ابن حجر: "الآية فيها إشارة إلى أن تعلم السحركفر" (4)
الثالث: قوله تعالى { ... وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ... الآية} (5)
قال الشوكاني: "الآية فيها تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض وخسران بحت" (6)
وإذا كان كذلك فتعلمه لا يجوز. لأنه وسيلة إلى هذا الضرر والخسران الرابع: قوله تعالى { ... وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (7)
قال أبو جعفر:".... قد دللنا فيما مضى على أن معنى "شروا"باعوا فمعنى الكلام إذا ولبئس ماباعه نفسه من تعّلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته" (8)
الخامس: ما روى عبد الرّزّاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم شيئاً من السحرقليلاً كان أو كثيراً كان آخر عهده من الله" (9)
القول الثاني: جواز تعلم السحر عند الضرورة:
__________
(1) آية 102 سورة البقرة.
(2) فتح الباري ج10ص225.
(3) آية 102 سورة البقرة.
(4) فتح الباري ج10ص225.
(5) آية 102 سورة البقرة.
(6) تفسير الشوكاني ج1ص121.
(7) آية 102 سورة البقرة.
(8) تفسير الطبري ج 1ص 371.
(9) مصنف عبد الرزاق ج10 ص 184 حديث 18753 وانظر كنز العمال ج6ح17653.(44/418)
قال ابن حجر: "وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأمرين، إما لتمييز ما فيه كفر من غيره، وإما لإزالته عمن وقع فيه" (1)
ثم قال ابن حجر: فأما الأول: فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا يستلزم منعاً كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان، لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل بخلاف تعاطيه والعمل به.
وأما الثاني: فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور" (2)
القول الثالث جواز تعلم السحر مطلقاً: والى هذا ذهب الرازي في تفسيره حيث قال: "العلم بالسحر غيرقبيح ولا محظور اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضا لعموم قوله تعالى { ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... الآية} (3)
ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب. فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً (4) وهذا قول باطل ولذا رد عليه بعض الأئمة كابن كثير في تفسيره حيث قال – بعد أن عرض رأيه-"وفي كلام الرازي نظر من وجوه أحدها: قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور اتفق المحققون على ذلك.
__________
(1) فتح الباري ج10ص224.
(2) فتح الباري ج10ص 224 - 225.
(3) آية 9 سورة الزمر.
(4) تفسير الرازي ج3 ص214.(44/419)
أ- أما قوله"ليس بقبيح: إن عنىبه ليس بقبيح عقلاً فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا وإن عني أنه ليس بقبيح شرعاً ففي الكتاب والسنة ما يبطل زعمه، فمن الكتاب قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ... الآية} (1)
ففي هذه الآية تبشيع لتعلم السحر. ومن السنة ما في الصحيح (2) "من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" (3)
وفي السنن:"من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر ... الحديث" (4) تبشيع لتعلم السحر أيضا.
ب_ وأما قوله "لا محظور"فيقال: كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الآية والحديث وما ورد فيهما من التبشيع له.
ج_ وأما قوله "اتفق المحققون على ذلك"فيقال: اتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم وأين نصوصهم على ذلك؟
ثانياً: أ- أن إدخال السحر في عموم قوله تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... الآية} (5)
فيه نظر، لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي والعلم بالسحر ليس من العلم الشرعي فلم قلت أنه منه؟
__________
(1) آية 102 سورة البقرة.
(2) إن كان يعني أنه صحيح فلا مانع وإن كان يعني أنه ورد في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك.
(3) رواه أحمد في المسندج2 ص429 والحاكم في المستدرك ج1ص8 عن أبي هريرة انظر: كنز العمال، حديث 17678.
(4) رواه النسائي في التحريم باب الحكم في السحرة ج7ص112 وفي سنده عباد بن ميسره وهو لين الحديث، انظر جامع الإصول حديث 3071.
(5) آية 9 سورة الزمر.(44/420)
ب_ ثم ترقيته إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به: ضعيف بل فاسد لما يلي:
1- إن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والعلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلاً.
2- أن من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ويفرقون بينه وبين غيره ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه (1) وبذلك يتبين بطلان قوله. والله أعلم.
كما تعقبه الألوسي في تفسيره. (2)
وبذلك يتضح أن القول الأول هو الصحيح للأدلة الدالة من الكتاب والسنة.
وأما القول الثاني: فيمكن إرجاعه إلى القول الأول، كما تعقبه ابن حجر بأنه يشترط سلامة الاعتقاد في الأول وأن لا يكون بنوع فيه كفر في الثاني.
وأما القول الثالث: فلا صحة له كما رد عليه ابن كثير والألوسي.
ثانياً: حكم العمل بالسحر:
محرم بالكتاب والسنة بلاخلاف بين أهل العلم ولكن ما هي درجة هذا التحريم؟
إن كان فيه اعتقاد أوقول أوفعل يقتضي الكفر مثل: اعتقاد أن الكواكب السبعة أو غيرها مدبرة مع الله.
أو أن الساحر قادر على خلق الأجسام أو اعتقد أن فعله مباح أو تضمن تقرباً إلى الشياطين بشيء من الأوراد الكفرية، أو الذبح لها ونحو ذلك فهو كفر.
أما إذا لم يكن فيه شيء من ذلك وهو ما يسمى بالسحر المجازي مثل: السحر بالأدوية والتدخين، وسقيا شيء يضر، أو بالحركات الخفية ونحو ذلك فليس
بكفر وإنما هو فسق (3) .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج1 ص144- 145 0 بتصرف.
(2) روح المعاني ج1 ص339 – 340.
(3) انظر: تفسير ابن كثير ج1 ص 147، وتفسير الرازي ج3ص 214-215 وشرح النووي على صحيح مسلم ج14ص176، والمقنع لابن قدامة ج3ص 523 – 524 والتنقيح المشبع ص 383.(44/421)
يقول النووي: "علم السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفراً ومنه ما لا يكون كفراً، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كافر، وإلا فلا" (1)
ويقول ابن قدامة: "والساحر الذي يركب المكنسة وتسيربه في الهواء ونحوه يكفر ويقتل، فأما السحر بالأدوية والتدخين وسقيا شيء يضر فلا يكفر" (2)
الأدلة: وهي كثيرة منها ما يلي:
1-"ما سبق ذكره آنفا في أدلة الجمهور الدالة على تحريم تعلم السحر تعليمه، ذلك أن كل دليل يدل على تحريم تعلم السحر فدلالته على تحريم العمل به أولى.
2-"ومن الأدلة أيضا قوله تعالى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3)
وجهة الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نفى الفلاح عن الساحر نفياً عاماً حيث توجه وسلك وذلك دليل كفره، لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ذلك أنه قد عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظه "لا يفلح" يراد بها الكافر. كقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (4) وقوله تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (5) إلى غير ذلك من الآيات (6) .
3- قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (7)
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم ج14 ص176.
(2) المقنع ج3ص523-524.
(3) آية 69 طه.
(4) آية 69- 70 يونس.
(5) آية 17 يونس.
(6) انظر أضواء البيان ج4 ص442-443.
(7) آية 103 سورة البقرة.(44/422)
وجه الدلالة: أن الآية تدل على نفي الإيمان عن السحرة، إذ إن لو حرف امتناع، فيثبت نقيضه وهو الكفر (1)
قال ابن عباس: "كل شيء في القرآن لو فإنه لا يكون أبداً" (2)
وقال الشوكاني: "ولو أنهم آمنوا واتقوا ما وقعوا فيه من السحر والكفر" (3)
وقال ابن كثير:"وقد استدل بقوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} من ذهب إلى تكفير الساحر كما هو رواية الإمام أحمد وطائفة من السلف" (4)
4- قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافاً أوساحراً أو كاهناً فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" (5) في الحديث - كما نرى - تحذير من إتيان العرافين أو السحرة أو الكهنة وتصديقهم - مشيراً إلى أن تصديقهم كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا حال الآتي فكيف حال المأتي.
والكفر هنا ظاهره الكفر الحقيقي وهو الكفر الأكبر، وقيل الكفر المجازي وهو الكفر الأصغر، وقيل من اعتقد أن العراف أو الساحر أو الكاهن يعرفان الغيب ويطلعان على الأسرار الإلهية كان كافراً كفراً أكبر كمن اعتقد تأثير الكواكب، وإلا فلا. (6)
5- قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له.... الحديث" (7)
في الحديث إشارة إلى براءة المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن يفعل شيئا من هذه الأفاعيل التي منها السحر ولا يتبرأ صلى الله عليه وسلم من فاعل فعل مباح.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي ج2ص47-49 وأحكام القرآن ج1ص63-64.
(2) الدر المنثور ج1ص103.
(3) فتح القدير ج1ص121.
(4) تفسير ابن كثير ج1ص144.
(5) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد. وقال: رواه البزار ورجاله ورجال الصحيح خلا هبيرة بن مريم، وهو ثقة. انظر: مجمع الزوائد ج5 ص121.
(6) نيل الأوطار ج7 ص368.
(7) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد. قال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع. وهو ثقة انظر: مجمع الزوائد ج5 ص120 وكشف الأستار ج3 ص400 المتن والحاشية.(44/423)
6- قوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله ما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" (1) في هذا الحديث - قد عد المصطفى صلى الله عليه وسلم السحر من السبع الموبقات وأمر باجتنابها لما يترتب على فعلها من ضرر في الدنيا وعذاب في الآخرة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق بشيء وكل إليه" (2)
وجه الدلالة: أن في الحديث تصريحاً بأن فاعل السحر قد أشرك.
هذا شيئ من الأدلة من الكتاب والسنة. كلها صريحة بتحريم السحر وعده إما كفراً أو معصية كبيرة - مما يدل على أن السحر قد يكون كفراً، وذلك إذا كان فيه ما يقتضي الكفر، ويكون فسقاً إذا لم يكن فيه شيء من ذلك. وهو السحر المجازي والله أعلم.
ثالثاً: عقوبة الساحر:
نظراً لتعدد أنواع السحر لذا اختلف العلماء في عقوبة الساحر على قولين:
القول الأول: وهو ما ذهب إليه جمهور أهل السنة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ورواية عن الإمام الشافعي أنه متى ما ثبتت جريمة السحر بحق إنسان بإقرار أو بيّنه وجب قتله مطلقاً من غير استتابة إلا أن يأتي تائباً قبل أن يقدر عليه.
__________
(1) رواه البخاري الوصايا باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} ومسلم في الايمان باب بيان الكبائر وأكبرها وأبو داؤد، والنسائي، انظر: جامع الأصول حديث 8229.
(2) أخرجه النسائي في التحريم باب الحكم في السحرة وفي سنده عباد بن ميسرة المنقري وهو لين الحديث، جامع الأصول حديث 3071.(44/424)
يقول الإمام أبو حنيفة: "يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله إني أترك السحر وأتوب منه."فإذا أقرّ أنه ساحر فقد حل دمه، وإن شهد عليه شاهدان أنه ساحر فوصفوا ذلك بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب، وإن أقرّ فقال: كنت أسحر وتركت هذا منذ زمان قبل منه ولم يقتل. وكذا لو شهد عليه أنه كان مرة ساحر وأنه ترك منذ زمان لم يقتل إلا أن يشهدوا أنه الساعة ساحر وأقرّ بذلك فيقتل. (1)
وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي. قال: سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في الساحر: يقتل ولا يستتاب. لمَ لم يكن ذلك بمنزلة المرتد؟ فقال الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد والساعي بالفساد إذا قتل قتل. (2)
وقال الإمام مالك: "الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله كالزنديق" (3)
وقال أيضاً: "فإذا جاء الساحر أو الزنديق تائباً قبل أن يشهدوا عليهما قبلت توبتهما" (4)
وقال ابن قدامة:" ... وحد الساحر القتل روي ذلك عن عمر وعثمان ابن عفان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس ابن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول أبي حنيفة ومالك ... إلى أن قال: وهل يستتاب الساحر؟ فيه روايتان: أحدهما: لا يستتاب، وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحراً. (5)
وقال عياض: "وبقول مالك قال أحمد وجماعة من التابعين" (6)
وقال القرطبي: "اختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم ... فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفراً يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته؛ لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ... وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة. (7)
__________
(1) أحكام القرآن ج1ص60 وانظر: تفسير الرازي ج3ص215.
(2) أحكام القرآن ج1ص61.
(3) فتح الباري ج10ص224، ونيل الوطار ج7ص363.
(4) تفسير القرطبي ج2 ص49.
(5) المغني لابن قدامة ج8ص153.
(6) فتح الباري ج10ص224.
(7) تفسير القرطبي ج2ص47-48.(44/425)
وقد أيدوا قولهم بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وأفعال الصحابة والتابعين منها ما يلي:
الأول: قال تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ... الآية} (1)
وجه الدلالة: أن الآية تدل على أن السحر كفر من وجوه - أحدها: نفي الكفر عن سليمان عليه السلام في معرض اتهامه بالسحر وإثباته للشياطين لتعليمهم الناس السحر دليل على أن السحر كفر.
ثانيها: تحذير الملكين من تعلم السحر بأنه كفر (2) . وعليه فإن الساحر يقتل لأنه كافر.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن الحسن عن جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "حد الساحر ضربة السيف" (3)
__________
(1) آية 102 سورة البقرة.
(2) المغني ج8ص152 وتفسير القرطبي ج2 ص 47، 49 وأحكام القرآن للجصاص ج1ص63.
(3) واه الترمذي في كتاب الحدودباب ماجاء في حد الساحر ج4 ص60 وضعف إسناده حيث قال: لا نعرفه مرفوعاً: إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم يضّعف في الحديث من قبل حفظه ... والصحيح عن جندب موقوف انظر نيل الأوطار ج7ص362-363 وعلى هذا فهو عند الترمذي المرفوع ضعيف والصحيح أنه موقوف. ورواه أيضاً الحاكم في المستدرك في كتاب الحدود باب حد الساحر ضربة بالسيف ج4ص360 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ويرحج ما قاله الحاكم العمل بمدلوله عند كثير من الصحابة والتابعين - كعمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وغيرهم - انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2 ص48 وأحكام القرآن ج1ص60.(44/426)
ولجندب راوي الحديث قصة توضح معنى الحديث وتؤكده وهي: أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يلعب فذبح إنساناً وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله (1) .فثبت بهذا أن عقوبة الساحر هي القتل.
الثالث: ما روي عن بجالة بن عبدة قال: كنت كاتباً لجزي بن معاوية عم الأحنف بن قيس فأتى كتاب عمر قبل موته بسنة "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ... " (2) فقتلنا ثلاث سواحر في يوم.
الرابع: ماروي عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبّرتها فأمرت بها فقتلت رواه مالك في الموطأ (3) .
الخامس: ما ذكره ابن حزم عن يحي بن أبي كثير قال: إن غلاماً لعمر بن عبد العزيز أخذ ساحرة فألقاها في الماء فطفت فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إن الله لم يأمرك أن تلقيها في الماء فإن اعترفت فاقتلها (4) .
كما روي قتل السحرة عن غير هؤلاء من الصحابة والتابعين من الصحابة: عثمان وابن عمر وأبي موسى وقيس بن سعد، ومن التابعين سبعة منهم عمر بن عبد العزيز. (5)
وكما نرى قتل الساحر مذهب عدد من كبار الصحابة ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة (6) .
__________
(1) رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي، انظر تيسير العزيز الحميد ص343.
(2) رواه أبو داؤد في كتاب الإمارة باب في أخذ الجزية من المجوس ج3ص168 وأحمد في مسنده ج1 ص190- 191 وانظر: نيل الأوطار ج7 ص 362 والمغني ج8 ص 153.
(3) الموطأ: كتاب العقول باب ما جاء في الغيلة والسحرة ج2ص628.
(4) المحلى لابن حزم ج11 ص 395.
(5) انظر تفسير القرطبي ج2ص48، وأضواء البيان ج4 ص461.
(6) انظر: أضواء البيان ج4ص460.(44/427)
وعند علماء الأصول أن الصحابي إذا قال قولاً أو فعله واشتهر ولم يعلم له مخالف فإنه يعد إجماعاً سكوتياً (1) ويؤكد هذا أنه مذهب جماعة من التابعين قال ابن قدامة - بعد أن ذكر من قال بوجوب قتل الساحرمن الصحابة وهذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعا (2) .
وبذلك ثبت في الكتاب والسنة والإجماع من الصحابة والتابعين قتل الساحر مطلقاً عند الجمهور.
قال الإمام الشنقيطي: "فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحداً من الصحابة أنكرها على من عمل بها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور هي حجة من قال بقتله مطلقاً، والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر لأن الساحر الذي قتله جندب كان سحره من نوع الشعوذة ... وقول عمر: "اقتلوا كل ساحر"يدل على ذلك بصيغة العموم (3) .
القول الثاني: وهو مذهب الإمام الشافعي وابن المنذر وراية عن الإمام أحمد (4) أن الساحر إذا عمل بسحره ما يبلغ الكفر وجب قتله كفراً بعد الاستتابة أما إذا لم يبلغ الكفر وقتل نفساً قتل قصاصاً. وما سوى ذلك يعزر. يقول السبكي "وأما مذهب الشافعي فحاصله أن الساحر له ثلاثة أحوال حال يقتل كفراً، وحال يقتل قصاصاً، وحال لا يقتل أصلاً بل يعزر. أما الحالة التي يقتل فيها كفراً فقال الشافعي رحمه الله أن يعمل بسحره ما يبلغ الكفر. وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة - أحدها: أن يتكلم بكلام هو كفر، ولاشك أن ذلك موجب للقتل ومتى تاب منه قبلت توبته وسقط عنه القتل وهو يثبت بالإقرار وبالبينة.
المثال الثاني: أن يعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل بأنفسها، فيجب عليه أيضاً القتل ... وتقبل توبته. ولا يثبت هذا القسم إلا بالإقرار.
__________
(1) أصول الفقه الإسلامي ص 239.
(2) المغني لابن قدامة ج8 ص 153.
(3) أضواء البيان ج4 ص 461.
(4) انظر: المغني لابن قدامة ج8 ص153.(44/428)
المثال الثالث: أن يعتقد أنه حق يقدر به على قلب الأعيان فيجب عليه القتل ... ولا يثبت ذلك أيضاً إلا بالإقرار، وإذا تاب قبلت توبته وسقط عنه القتل. وأما الحالة التي يقتل فيها قصاصاً فإذا اعترف أنه قتل بسحره إنسانا ... وأنه مات به وأن سحره يقتل غالباً فها هنا يقتل قصاصاً ولا يثبت هذه الحالة إلا الإقرار ولا يسقط القصاص بالتوبة. وأما الحالة التي لا يقتل فيها أصلاً ولكن يعزر فهي ما عدا ذلك (1) .
وقال القرطبي: "نقل عن ابن المنذر أنه قال: "إذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفراً وجب قتله إن لم يتبت وكذلك لو ثبتت عليه بينة، ووصفت البينة كلاماً يكون كفراً وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن عمد ذلك" (2) .
أدلتهم: وقد استدل الشافعي ومن وافقه على هذا القول بأدلة منها ما يلي:
1- ما رواه الشافعي في مسنده من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس" (3) .
يقول السبكي: بعد إيراد الحديث - "القتل"في الحالة الأولى بقوله "كفر بعد إيمان، وفي الحالة الثالثة بقوله "أو قتل نفس بغير نفس"وامتنع في الثانية لأنها ليست بإحدى الثلاث، فلا يحل دمه عملاً بصدر الحديث (4) .
2- ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها باعت مدبرة لها سحرتها (5) .
__________
(1) فتاوى السبكي ج2 ص324.
(2) تفسير القرطبي ج2ص 48.
(3) مسند الشافعي ص 164ورواه الترمذي في الفتن باب ماجاء لايحل دم امرىء إلا بإحدى ثلاث، والنسائي في تحريم الدم باب ما يحل به دم المسلم بنحوه"انظر: جامع الأصول حديث 7731 عن أبي أمامه عن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم "قال.
(4) فتاوى السبكي ج2 ص324.
(5) المغني ج8 ص 153، وأضواء البيان ج4ص461.(44/429)
وجه الدلالة: أنه لو وجب قتلها تأجل بيعها قاله ابن المنذر وغيره (1) .
3- ما ورد في الصحيحين وغيرهما: أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله (2) فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" (3) .
4- ما وراه ابن حزم عن ربيعة بن عطاء أن "رجلاً عبداً سحر جارية عربية فكانت تتبعه فرفع إلى عروة بن محمد وكان عامل عمر بن عبد العزيز فكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يبيعه بغير أرضها وأرضه ثم أمره أن يدفع ثمنه إليه" (4) فعمر كما نرى أمر بتعزير فقط دليل على أنه لا يقتل. وقد استدل به الشافعية على الحالة الثالثة. مما ذكرنا يظهر - والله أعلم - أنه لا خلاف في قتل الساحر الذي بلغ بسحره الكفر أو قتل بسحره نفساً اللهم - إلا أن الجمهور قالوا يقتل حداً والشافعي ومن معه قالوا: يقتل كفراً أو قصاصاً.
وإنما الخلاف في الساحر الذي لم يبلغ بسحره الكفر ولم يقتل نفساً. فالجمهور - كما نرى- قالوا بقلته مطلقاً. والشافعي ومن معه قالوا لا يقتل، إنما يعزر. وقد رجح البعض (5) ورأي الجمهور – لاتفاق الكتاب والسنة وفعل الصحابة له من غير نكير. ولذا أجابوا عن أدلة الشافعي ومن معه بما يلي:
أما الدليل الأول: فأجيب عنه: بأن الساحر عند الجمهور كافر، ذلك أن السحر في الشرع لا يتحقق إلا بالتقرب إلى الشياطين وعبادة الكواكب ونحوه، وذلك عين الكفر، وعليه فهو حلال الدم وعلى فرض أنه ليس بكافر فإن هذا الدليل عام.
__________
(1) اتظر: أضواء البيان ج4 ص461.
(2) سبق تخريجه، وانظر فتح الباري ج10ص231.
(3) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن حبان والدارقطني عن أنس كنز العمال حديث 374 ورواه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه باب على من يقاتل الناس ج8 ص 109 وانظر: جامع الأصول حديث 38.
(4) المحلى لابن حزم ج1 ص 395.
(5) انظر: تيسير العزيز الحميد 342 وأضواء البيان ج4 ص462.(44/430)
وأدلة قتل الساحر خاصة. والخاص يقضي على العام (1) .
أما الدليل الثاني: فقيل لعل الأمة التي سحرت عائشة كان سحرها ليس فيه كفر كالأدوية ونحوها. أو أن السحر لم تعلمه وإنما عمل لها أو أنها تابت فسقط عنها القتل والكفر بتوبتها (2) .
أما الدليل الثالث: فأجيب عنه بما يلي:
1-الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك قتل لبيد لأنه ليس بواجب وإنما ترك قتله خشية أن تثار فتنة بين الناس، وهي أعظم من قتل واحد. وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "قد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس شراً" (3) .
أو يكون في قتله تنفير عن الدخول في الإسلام.
قال القرطبي: "لا حجة على مالك من هذه القصة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام وهو من جنس ما راعاه صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال: " لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" (4) .
2- على فرض أنه صلى الله عليه وسلم ترك قتله لأنه ليس بواجب فوجب أن يكون المؤمن كذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم" يقال استدلال غير مسلم؛ لأن المراد بالحديث: المنقادون للدين الإسلامي فأصبحوا مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ويدل على ذلك أول الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ماعلى المسلمين" (5) وعلى هذا فليس المراد أهل الكتاب (6) .
وأما الدليل الرابع: فأجيب عنه بما يلي:
__________
(1) انظر تيسير العزيز الحميد ص 335 وأضواء البيان ج4 ص462.
(2) انظر المغني ج8 ص 153.
(3) جزء من حديث سبق تخريجه.
(4) فتح الباري ج10 ص 231.
(5) سبق تخريجه.
(6) انظر السحر بين الحقيقة والخيال ص 169.(44/431)
1- أن هذا الخبر غير صحيح؛ لأنه يتنافى مع رأي عمر إذ إنه من أصحاب القول الأول.
2- على فرض صحة هذا الخبر فإنه مؤول بالسحر المجازي الذي يقوم على حسن البيان ونعومة الألفاظ التي تستمال بها القلوب. وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن من البيان لسحرا" (1) . ويؤكد ذلك استدلال الشافعية به على الحالة الثالثة، وهي التعزير. ورجح البعض رأي الشافعي ومن معه، بأن دماء المسلمين حرام إلا بيقين ولا يقين مع الإختلاف (2) وأقول: الذي يظهر- والله أعلم- أن الخلاف بين الجمهور والشافعي ومن معه فيما يتأتى به السحر الحقيقي. فالجمهور: يرون أن السحر الحقيقي لايتأتى إلا بالتقرب إلى الشياطين وعبادة الكواكب ونحو ذلك، وذلك عين الكفر. ولذا كان حقه القتل مطلقاً والشافعي ومن معه يظنون أنه يتأتى بدون الشرك ولذا فصّلوا فيه. والحق أن السحر أنواع، الأول: ماله حقيقة والثاني سحر التخييل وهذان يطلق عليهما السحر الحقيقي، ولا يتأتيان إلا بقول أو فعل أواعتقاد مكفر كالتقرب إلى الشياطين وعبادة الكواكب ونحو ذلك ولذا فهو كفر يقتل صاحبه.
الثالث: السحر المجازي: وهذا يتأتى بالأدوية وبالكلام وخفة الحركة ونحو ذلك ولذا فهو ليس بكفر بل معصية حق صاحبها التعزير إذا لم يقتل نفساً (3) والله أعلم.
حكم المرأة الساحرة: اختلف في حكمها. فذهب الأئمة الثلاثة أحمد والشافعي ومالك إلى أن حكم المرأة الساحرة حكم الرجل.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن حكمها الحبس حتى ترجع إلى الإسلام بالتوبة، لأنها مرتدة أو تموت (4) .
__________
(1) رواه الترمذي في الأدب باب ماجاء إن من الشعر لحكمة، وأبو داود في الآداب باب ماجاء في الشعر وانظر: جامع الأصول حديث 3219.
(2) تفسير القرطبي ج2 ص 48، وأضواء البيان ج4 ص 462.
(3) انظر: تيسير العزيز الحميد ص335 وعالم السحر والشعوذة ص 240-24 وأحكام القرآن ج1ص63.
(4) انظر: تفسير ابن كثير ج1ص147 والروضة الندية ج2ص419.(44/432)
والأظهر - والله أعلم - الأول: بدليل قول عمر: "اقتلوا كل ساحر وساحرة"حيث لم يفرق بينهما، ولأن لفظ من في قوله: صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" (1) تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى (2) .
حكم ساحر أهل الكتاب:
ذهب الإمام أبوحنيفة إلىأنه يقتل لعموم ما تقدم من الأخبار التي دلت على قتل الساحر المسلم ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمي كالقتل (3) .
وذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وابن شهاب الزهري إلىأنه لا يُقتل إلا أن يقتل بسحره، وهو مما يقتل غالباً لما يلي:
1- أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله
2- أن الكتابي مشرك، والشرك أعظم من السحر ولا يقتل به (4) وقد رجح البعض (5) رأي الجمهور، ولذا أجابوا عن أدله أبي حنيفة بما يلي:
1- أما الأخبار التي وردت في قتل الساحر المسلم، فلأن المسلم يكفر بسحره. والكتابي كافر أصلى.
2- أما قوله "بأن السحر جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمي، كالقتل. فيقال: هذا القياس ينتقض باعتقاد الكفر والتكلم به. وينتقض بالزنى من المحصن فإنه لا يقتل به الذمي ويقتل به المسلم (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في استتابة المرتد باب حكم المرتد، والترمذي في الحدود ما جاء في المرتد وانظر: جامع الأصول حديث 1801.
(2) انظر اضواء البيان ج4ص459.
(3) المغني لابن قدامةج8ص155،وتفسير ابن كثير ج1ص147، وفتح الباري ج10ص236.
(4) المغني لابن قدامةج8ص155، وتفسير ابن كثير ج1ص147، وفتح الباري ج10 ص236.
(5) مثل ابن قدامة: المغني ج8 ص155.
(6) المغني ج8 ص155.(44/433)
3- ورجح البعض (1) رأي أبي حنيفة وأجابوا عن استدلال الجمهور بقصة لبيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتله، لأنه لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي أن تثور بسبب قتله فتنه، ولئلا يكون في قتله تنفير عن الإسلام (2) .ولعل قول الجمهور أولى، لأنه غير مسلم فلا يؤاخذ بمخالفة تعاليم الإسلام. ما لم يكن في ذلك نقض للعهد.
رابعاً: توبة الساحر:
ذكرنا آنفا عند الكلام على عقوبة الساحر أن مذهب الإمام أبي حنيفة، ومالك وأبي ثور ورواية عن أحمد، وعدد من كبار الصحابة، وجماعة من التابعين أن الساحر يقتل بدون استتابة وذكرنا جملة من أقوالهم التي تؤكد ذلك وقد استدلوا على ذلك بأدلة منها:
الأول: قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ... الآية} (3)
وجه الدلالة: أن الآية دلت على أن الكفار لاينفعهم الإيمان بعد رؤية العذاب. فكذلك الساحر بعد الشهادة عليه قد رأى البأس فلا ينفعه الإيمان ولا تقبل توبته (4) ، الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً ... إلى قوله تعالى- إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5)
وجه الدلالة: أن الله أطلق في هذه الآية الحكم على المحاربين والذين يسعون في الأرض فساداً إلا من تاب قبل أن يقدر عليه. ومثل ذلك الساحر، إذ هو من الذين يسعون في الأرض بالفساد - إذا تاب قبل أن يقدر عليه قبلت توبته وإلا فلا (6) .
__________
(1) مثل الإمام الشنقيطي. أضواء البيان ج4 ص471.
(2) انظر فتح الباري ج10ص236 وأضواء البيان ج4ص471.
(3) آية 85 سورة غافر.
(4) انظر تفسير القرطبي ج2 ص49 ج15 ص 336.
(5) آية 33-34 المائدة.
(6) انظر: فتح القدير ج2ص36 تفسير الرازي ج3ص215 الإنسان بين السحر والعين والجان ص 107.(44/434)
الثالث: فعل الصحابة في السحرة حيث قتلوهم من غير استتابة (1) .
الرابع: أن السحر أمر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق (2) .
الخامس: أن السحر معنى في القلب، وعلم لا يزول بالتوبة، فيشبه من لم يتب (3) .
وذهب الإمام الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد (4) إلى أن الساحر يستتاب ويمهل ثلاثة أيام فإن تاب قبلت منه.
وقد استدلوا بأدلة منها:
الأول: قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} (5) .
وجه الدلالة: أن الله تعالى علق الغفران على الانتهاء عن الكفر والانتهاء لا يكون إلا بالتوبة. وعليه فالسحر كغيره من أنواع الكفر الانتهاء عنه بالتوبة سبب للمغفرة (6) .
الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7)
__________
(1) تفسير القرطبي ج2ص49 المغني ج8 ص153 تيسير العزيز الحميد 342.
(2) تفسير القرطبي ج2ص49 المغني ج8 ص153 تيسير العزيز الحميد 342.
(3) تفسير القرطبي ج2ص49 المغني ج8 ص153 تيسير العزيز الحميد 342.
(4) تفسير بن كثير ج1 ص 147 وأضواء البيان ج4ص 456.
(5) آية 38 الأنفال.
(6) انظر: تفسير القرطبي ج7ص401-403 وجواهر الإكليل ج2ص 281.
(7) آية 86- 89 آل عمران.(44/435)
وجه الدلالة: الآيات تدل على الوعيد باللعنة والخلود بالنار للمرتد، إلا من تاب وذلك دليل على قبول توبة المرتد. وإذا كان كذلك فالساحر كغيره من المرتدين يستتاب وتقبل توبته.
يقول القرطبي:" ويدخل في الآية بالمعنى كل من راجع الإسلام وأخلص" (1) . .
الثالث: أن الله تعالى قد أخبر أن سحرة فرعون قد آمنوا وقبل توبتهم، قال تعالى عنهم: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ... } الآية (2) وعليه فإن المعرفة بالسحر لا تمنع قبول التوبة.
الرابع: أن ذنب الساحر ليس بأعظم من الشرك، والمشرك يستتاب.
الخامس: أن الساحر لو كان كافراً فأسلم صح إسلامه وتوبته.
السادس: أن الكفر والقتل إنما هو بعمله السحر لا بعلمه بدليل الساحر إذا أسلم. والعمل به يمكن التوبة منه، وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده يمكن التوبة منه كالشرك (3) .
ولعل القول الأول هو الأولى لظاهر عمل الصحابة، وأما قياسه على المشرك فلا يصح لأنه أكثر فساداً وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب أو الكافر لأن الإسلام يجب ما قبله (4) .
وهذا الخلاف - إنما هو في ثبوت حكم التوبة في الدنيا من سقوط القتل ونحوه. أما فيما بينه وبين الله تعالى وسقوط عقوبة الدار الآخرة عنه فلا خلاف في صحة توبته إن كان صادقاً فإن الله تعالى لم يسد باب التوبة عن أحد من خلقه، ومن تاب إلى الله قبل توبته لا خلاف في ذلك (5) .
المبحث الرابع: علاج السحر "النشرة ":
__________
(1) تفسير القرطبي ج4 ص129 –130.
(2) آية 78 طه.
(3) انظر المغني ج8 ص153- 154 وتيسير العزيز الحميد ص343.
(4) انظر: تيسير العزيز الحميد ص343.
(5) المغني ج8 ص154.(44/436)
تقديم: السحر - كما هو معلوم - داء يؤثر يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه. ولما كان كذلك اقتضى أن يسعى في علاجه من باب الأخذ بالأسباب المؤدية إلى الشفاء لأن الله تعالى ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء قال: صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء" (1) وقال: صلى الله عليه وسلم – فيما روي عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: نعم، يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال: دواء ... الحديث" (2) .
وعلى هذا فالسحر داء كغيره يبحث له عن دواء. ويطلق على ذلك الدواء إذا وجد "النشرة".
ما هي النشرة؟ لغة: مصدر نشر ينشر نشراً، وهو في لغة العرب يرد لمعان منها: الريح الطيبة.
قال مرقش:
النشر مسك والوجوه
دنانير وأطراف الأكف عَنم
ومنها: الإحياء. يقال: نشر الله الميت ينشره نشراً ونشوراً: أحياه كما قال تعالى {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (3) ومنها البسط. تقول نشرت الثوب: أي بسطته ومنها: الإذاعة. يقال نشرت الخبر أنشره نشراً أي أذعته.
ومنها: النحت أو القطع، نقول: نشرت الخشبة بالمنشار أي نحتها أو قطعتها (4) . والمراد هنا بالنشرة: هي حل السحرعن المسحور برقية أو علاج وسميت بذلك؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال (5) .
حكمها: حل السحر عن المسحور إما أن يكون بسحر مثله، وهذا لا يجوز لما فيه من التقرب إلى الشياطين.
__________
(1) رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الطب باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء برقم 5678 وأحمد ج1ص377.
(2) رواه الترمذي في كتاب الطب باب ما جاء في الدواء والبحث عنه ج4 ص 383 وقال حديث حسن صحيح، وأبي داود برقم 3855 في الطب باب ما جاء في الرجل يتداوى - وانظر: جامع الأصول حديث 5628.
(3) آية 15 سورة الملك.
(4) انظر لسان العرب، مادة نشر.
(5) انظر تيسير العزيز الحميد ص 367 والنهاية في غريب الحديث والأثر ج5 ص54.(44/437)
وإما أن يكون بالرقية الشرعية والأدوية المباحة، وهذا جائز.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "النشرة حل السحرعن المسحور وهي: نوعان، حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن (1) فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعويذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز (2) .
وقال الشيخ حافظ حكمي: "يحرم حل السحر عن المسحور بسحر مثله، فإنه معاونة للساحر وإقرار له على عمله وتقرب إلى الشياطين بأنواع القرب ليبطل عمله عن المسحور ... " (3) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "وقال بعض الحنابلة يجوز الحل بسحر ضرورة. والقول الآخر: أنه لا يحل، وهذا الثاني هو الصحيح" (4) .
صفتها: للنشرة الجائزة صفات كثيرة منها ما يلي:
الأولى: الرقى والأوراد المشروعة.
يقول الشيخ ابن باز: "ومن الأدعية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان صلىالله عليه وسلم يرقى بها أصحابه "اللهم رب الناس اذهب البأس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقما" (5) ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبريل عليه السلام – النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله "بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك" (6) وليكرر ذلك ثلاثاً" (7) .
__________
(1) هو الحسن البصري روي عنه أنه قاللا يحل السحر إلا ساحر انظر: فتح الباري ج10 ص233 وتيسير العزيز الحميد ص367.
(2) تيسير العزيز الحميد ص 367.
(3) معارج القبول ج1 ص530.
(4) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ج1ص165.
(5) رواه البخاري في الطب باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم برقم 5410.
(6) رواه مسلم في السلام باب الطب والمرض والترمذي في الجنائز باب ماجاء في التعوذ للمريض.
(7) انظر رسالة في حكم السحر والكهانة للشيخ عبد العزيز بن باز ص14-15 وانظر جامع الأصول حديث 5715.(44/438)
وروى ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال:"بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور.
1- قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (1) .
2-وقوله تعالى {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} (2) .
3- وقوله تعالى {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3) (4) .
وقال ابن القيم: "ومن أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هومن تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والقراءة، فالقلب إذاكان ممتلئا من الله معموراً بذكره وله وردمن الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له. ومنه أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه" (5) .
الثانية: استخراج السحر وإبطاله:
__________
(1) آية 81 – 82 يونس.
(2) آية 118-125 الأعراف.
(3) آية 69 طه.
(4) انظر تيسير العزيز الحميد ص 368.
(5) فتح الباري ج10 ص235 وانظر: الطب النبوي ص 126-127.(44/439)
والمقصود بذلك البحث عن موضع السحر ثم استخراجه وإتلافه، وبذلك يبطل السحر - إن شاء الله.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاج السحر نوعان:
أحدها: وهو أبلغها استخراجه وإبطاله كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه وتعالى في ذلك فدل عليه فاستخرجه من بئر، فكان في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر. فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال. فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ (1) .
وروى البيهقي في الدلائل عن عمرة عن عائشة قصة سحر لبيد للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فأتاه جبريل بالمعوذتين فقال: يا محمد {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) وحل عقدة {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (3) وحل عقدة حتى فرغ منها ثم قال {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (4) وحل عقدة حتى فرغ منها وحل العقد كلها (5) .
الثالثة: العلاج باستعمال أدوية مباحة نص عليها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم منها: التصبح كل يوم بسبع تمرات من عجوة المدينة.
عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من اصطبح كل يوم بتمرات عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل، وفي رواية بسبع تمرات" (6) .
والعجوة: ضرب من أجود تمر المدينة وألينه.
والاصطباح: تناول الشيء صباحاً (7) .
وقال ابن حجر: ثم هل هو خاص بزمان نطقه صلى الله عليه وسلم أو في كل زمان؟ هذا محتمل ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة فمن جرب ذلك فصح معه عرف أنه مستمر وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان (8) .
__________
(1) الطب النبوي ص 124-125 فتح الباري ج10 ص200.
(2) آية 1سورة الفلق.
(3) آية 2 سورة الفلق.
(4) آية 1 سورة الناس.
(5) دلائل النبوة ج7ص94.
(6) رواه البخاري في كتاب الطب باب الدواء بالعجوة للسحر برقم 5435-5436.
(7) انظر: فتح الباري ج10ص238.
(8) انظر: فتح الباري ج10 ص240.(44/440)
الرابعة: العلاج بالاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر وهي الحجامة. قال ابن القيم: ".... النوع الثاني: الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر فإن للسحر تأثيراً في الطبيعة وهيجان أخلاطها وتشويش مزاجها، فإذا ظهر أثره في عضو وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جداً. وقد ذكر أبو عبيد (1) : في كتاب غريب الحديث له بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى:"أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب" (2) قال أبو عبيد: معنى طب سحر" (3) .
الخامس: استعمال ورق السدر مع الرقية.
وبيانه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آيه الكرسي والمعوذتين وآيات السحر الواردة في الأعراف، ويونس، وطه ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل بالباقي. وهوعلاج لأشر أنوع السحر وهو السحر الذي يربط الرجل عن زوجته.
يقول القرطبي: " وروي عن ابن بطال قال: "وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ويغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به - إن شاء الله تعالى - وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله" (4) .
__________
(1) هو القاسم بن سلام.
(2) انظر غريب الحديث له ج2 ص43 وتهذيب الآثار للطبري ج2 ص124.
(3) زاد المعاد ج3ص104.
(4) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص49-50 وانظر: تفسير ابن كثير ج1 ص148.(44/441)
وقال الشيخ ابن باز: "ومن علاج السحر - بعد وقوعه - أيضاً وهو علاج نافع للرجل إذا حبس عن جماع أهله، أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر ونحوه ويجعلها في إناء ويصب عليها من الماء ما يكفيه للغسل ويقرأ فيها آية الكرسي، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله احد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وآيات السحر التي في سورة الأعراف وهي قوله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (1) .
والآيات التي في سورة يونس: وهي قوله تعالى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (2) والآيات التي في سورة طه: وهي قوله تعالى {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3) .
__________
(1) آية 117-122 سورة الأعراف.
(2) آية 79-82 يونس.
(3) آية 65-69 سورة طه.(44/442)
وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب بعض الشيء ويغتسل بالباقي وبذلك يزول الداء إن شاء الله (1) . .
الخاتمة
بسم الله بدأنا وبحمده والشكر له ختمنا ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد: فإنه من خلال كتابتي لهذا البحث المتواضع - توصلت إلى نتائج هامة منها ما يلي:
· الأولى: أن السحر في اللغة - يرد لمعان منها: الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر. ومنها البيان في فطنة، ومنها الخديعة.
· الثانية: أن السحر في الاصطلاح عرف بتعاريف كثيرة مختلفة ومتباينة بسبب كثرة الأنواع الداخلة تحته ولاختلاف المذاهب فيه بين الحقيقة والتخيل منها ما يصدق على ما لا حقيقة له أو ما هو سحر في اللغة، ومنها - ما يصدق على ما له حقيقة وأثر ومنها- ما يصدق على الأمرين وهو الأولى.
· الثالثة: أن السحر أنواعه كثيرة منها ما له حقيقة. ومنها ما ليس له حقيقة ومنها ما هو سحر في اللغة وهو السحر المجازي.
· الرابعة: أن القول الصحيح في السحر أن له حقيقة وأثراً ثابتة في الكتاب والسنة وهو قول أهل السنة والجماعة.
· الخامسة: أن تعلم السحر وتعليمه حرام وهو قول الجمهور من علماء أهل السنة.
· السادسة: أن العلم بالسحر محرم بالكتاب والسنة بلا خلاف بين أهل العلم لكنه يكون كفراً إذا تضمن قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً يقتضي الكفر – وهو السحر الحقيقي - ويكون فسقاً إذا لم يكن فيه شيء من ذلك وهو السحر المجازي.
· السابعة: أن مذهب جمهور أهل السنة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ورواية عن الإمام الشافعي أنه متى ثبتت جريمة السحر بحق إنسان وجب قتله مطلقاً.
· الثامنة: أن الأظهر في حكم المرأة المسلمة الساحرة هو حكم الرجل.
· التاسعة: أن ساحر أهل الكتاب لا يقتل إلا أن يقتل بسحره وهو مما يقتل غالباً وهو قول الجمهور.
· العاشرة: أن الساحر يقتل بدون استتابة وهو قول الجمهور.
__________
(1) رسالة في حكم السحر والكهانة للشيخ عبد العزيز بن باز ص 15-17.(44/443)
· الحادية عشرة: أن السحر كغيره يبحث له عن علاج ويطلق على دوائه إذا وجد النشرة والمراد بالنشرة: هو حل السحر عن المسحور.
· الثانية عشرة: أن حل السحر عن المسحور إما أن يكون بسحر مثله وهذا لا يجور لما فيه من التقرب إلى الشياطين. وإما أن يكون بالرقية الشرعية والأدوية المباحة وهذا جائز.
· الثالثة عشرة: أن للنشرة الجائزة صفات كثيرة منها:
1- الرقى بالأوراد المشروعة.
2- استخدام السحر وإبطاله.
العلاج باستعمال أدوية مباحة نص عليها المصطفى صلى الله عليه سلم مثل التصبح بسبع تمرات.
3- العلاج بالاستفراغ في المحل الذي يصل أذى السحر وهي الحجامة.
4- استعمال ورق السدر مع الرقية.
هذه أهم النتائج التي توصلت إليها.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
فهرس المصادر والمراجع
1- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمدبن علي الرازي الجصاص. ط الأولي 1415هـ دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
2- أسباب النزول للسيوطي - "بهامش قرآن تفسير وبيان"دار الرشيد دمشق بيروت.
3- أسباب النزول للنيسابوري، لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري علم الكتب بيروت لبنان.
4- أصول الفقه الإسلامي بدران أبو العينين بدران. الناشر مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية.
5- أضواء البيان، الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ط.1403هـ المطابع الأهلية للأوفست الرياض.
6- الإنسان بين السحر والعين والجان، زهيرالحموي -ط الأولي 1410هـ مكتبة دار التراث الكويت.
7- بدائع الفوائد، للإمام ابن قيم الجوزية - دار الفكر.
8- تفسير الطبري "جامع البيان في تفسير القرآن"أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. ط 1406هـ دار المعرفة. بيروت لبنان.
9- التفسير القيم، للإمام ابن القيم - ط - 1398هـ دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
10- التفسير الكبير، فخرالدين الرازي – ط - الثالثة دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.(44/444)
11- تفسير ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي، ط 1388هـ دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.
12- التنقيح المشبع، علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، الناشر المؤسسة السعيدية بالرياض.
13- التوحيد، لأبي منصور الماتريدي تحقيق د. فتح الله خليف. الناشر دار الجامعات المصرية الإسكندرية.
14- تهذيب الآثار، محمد بن جرير الطبري. مطابع دار الصفاء 1402هـ.
15- تيسير العزيز الحميد، سليمان بن عبد الله بن محمدبن عبد الوهاب مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
16- الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ط الأولي مكتبة السلام العالمية القاهره - دار الثقافة القاهرة.
17- جامع الأصول، مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد "ابن الأثير الجزري" ط.1390هـ مكتبة الحلواني مطبعة الملاح مكتبة دار البيان.
18- جواهر الإكليل، صالح عبد السميع الآتي الأزهري دار المعرفة بيروت لبنان.
19- حاشية رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين بن عابدين. ط الثانية 1386هـ مصطفى البابي.
20- الدر المنثور، جلال الدين السيوطي - دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت لبنان.
21- دلائل النبوة، لأبي بكر بن الحسين البيهقي - ط الأولى 1405هـ دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
22- رسالة في حكم السحر والكهانة، للشيخ عبد العزيز بن باز. ط 1415هـ. مطابع القصيم.
23- روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن، محمد علي الصابوني. الناشر دار التراث العربي مطبعة نهضة مصر.
24- روح المعاني، لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي البغدادي دار الطباعة المنيرية،دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.
25- الروضة الندية شرح الدرر البهية، لأبي الطيب صديق بن حسن بن علي بن حسن القنوجي البخاري. المكتبة العصرية بيروت لبنان.
26- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن قيم الجوزية ط. الثانية 1392هـ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.(44/445)
27- السحر بين الحقيقة والخيال، أحمد بن ناصر الحمد. ط. الأولى 1408هـ مكتبة التراث بمكة.
28- السحر بن الحقيقة والوهم، عبد السلام عبد الرحيم السكري. ط1407هـ مطبعة دار الكتب الجامعية الحديثة - طنطا.
29- سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ط.1382هـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
30- سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي تحقيق - محمد محي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية صيدا، بيروت.
31- سنن النسائي، أبوعبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي. الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
32- شرح صحيح مسلم، للإمام النووي، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
33- شرح المهذب،لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، دار الفكر.
34- صحيح البخاري، محمدبن إسماعيل البخاري. ط الأولى 1401هـ دار القلم دمشق بيروت.
35- صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري،دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت لبنان.
36- الطب النبوي، لابن قيم الجوزية. ط التاسعة 1406هـ مؤسسة الرسالة عالم الكتب الرياض.
37- عالم السحر والشعوذة، د. عمر سليمان الأشقر. ط الأولى 1410هـ مكتبة الفلاح للنشروالتوزيع، الكويت،دار النفائس الكويت.
38- غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام "الهروي"ط. الأولى 1384هـ مطبعة مجلس دائرة المعارف - بحيدر آباد الدكن.
39- الفتاوى لشيخ الإسلام، أحمدبن تيمية تصوير الطبعة الأولى 1398هـ.
40- فتاوى السبكي، لأبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي. ط الأولى 1412هـ دار الجيل بيروت لبنان.
41- فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع وترتيب ابن قاسم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة. ط الأولى 1399هـ.
42- فتح الباري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية.(44/446)
43- فتح المجيد، لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. ط 1403هـ نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية.
44- الفصل، لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري – ط الأولى مطبعة التمدن 1321هـ دار الفكر.
45- القاموس المحيط، لمجد الدين محمدبن يعقوب الفيروز آبادي الشيرازي. دار الفكر بيروت 1398هـ.
46- الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لعبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، الطبعة الرابعة 1405هـ المكتب الإسلامي.
47- كشف الأستار عن زوائد البزار، لعلي بن أبي بكر الهيثمي ط. الأولى 1404هـ مؤسسة الرسالة.
48- كنز العمال، لعلاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري ط. الخامسة 1405هـ، مؤسسة الرسالة بيروت لبنان.
49- لسان العرب،لابن منظور، دار لسان العرب بيروت - لبنان.
50- متشابه القرآن، لعبد الجباربن أحمد الهمذاني - دار الثقافة بالقاهرة، دار النصر للطباعة بالقاهرة.
51- مجمع الزائد،علي بن أبي بكر الهيثمي - مؤسسة الرسالة بيروت لبنان 1406هـ.
52- المحلى، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت لبنان.
53- مختصر تفسير الطبري، لابن صمادح الأندلسي دار الشروق القاهرة.
54- المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري،دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
55- المسند،لأحمد بن حنبل. ط الخامسة 1405هـ المكتب الإسلامي. بيروت لبنان.
56- مسند الشافعي، محمد بن إدريس الشافعي،دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1400هـ.
57- المصنف، لعبد الرزاق بن همام الصنعاني. ط الأولى 1392هـ المكتب الإسلامي بيروت لبنان.
58- معارج القبول، حافظ بن أحمد الحكمي ط. الأولى 1410هـ دار ابن القيم المملكة العربية السعودية، الدمام.
59- المغني، عبد الله بن احمد بن قدامة المقدسي،ط. مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.(44/447)
60- المقنع، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ط. 1402هـ، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
61- الموطأ، للإمام مالك رواية يحي الليثي. إعداد أحمد راتب عمر موسى ط. السابعة 1404هـ دار النفائس بيروت لبنان.
62- الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، لأبي القاسم هبة الله بن سلامة ط. الأولى 1414هـ دار الحكمة للطباعة والنشر. دمشق سورية.
63- النبوات، للإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. مكتبة الرياض الحديثة.
64- النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري "ابن الأثير "المكتبة العلمية بيروت لبنان.
65- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، محمد بن علي الشوكاني، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية.(44/448)
تابع لحقيقة السحر وحكمه في الكتاب والسنة
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان:
بترتيب الأمير علاء الدين علي بن بلبان.
- أحكام القرآن:
تأليف محمد بن عبد الله؛ المعروف بابن العربي، المتوفى سنة 543هـ، تحقيق علي بن محمد البجاوي، الناشر دار المعرفة.
- أحكام القرآن:
تأليف عماد الدين بن محمد الطبري؛ المعروف بألكيا الهراسي، المتوفى 504هـ، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت.
- أحكام القرآن:
تأليف أبي بكر بن أحمد بن علي الرازي الجصاص، المتوفى 370هـ، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت.
- الاختيار لتعليل المختار:
تأليف عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي، المتوفى 683هـ، الناشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة.
- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل:
تأليف محمد بن ناصر الدين الألباني، إشراف زهير الشاويش، الناشر المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1399هـ.
- الاستذكار:
لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، المتوفى463هـ، تحقيق علي ناصف، الناشر لجنة إحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى.
- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية:
لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، المتوفى 911هـ، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت 1399هـ.
- الإشراف على مسائل الخلاف:
للقاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي، المتوفى 422هـ، الناشر مطبعة الإدارة، الطبعة الأولى.
- الأصل:
لمحمد بن الحسن الشيباني، المتوفى 189هـ، تعليق أبي الوفاء الأفغاني، طبع حيدر آباد الدكن، الهند 1391هـ.
- الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار:
لمحمد بن موسى بن عثمان الحازمي، الطبعة الأولى.
- إعلاء السنن:
تأليف ظفر أحمد العثماني، الناشر إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي باكستان، الطبعة الأولى.
- الإفصاح عن معاني الصحاح:
تأليف يحيى بن محمد بن هبيرة، المتوفى 560هـ، الناشر المؤسسة السعيدية، الرياض.(44/449)
- الأم:
للإمام محمد بن إدريس الشافعي، المتوفى 204هـ، مطبعة الشعب، القاهرة.
- الانتصار في المسائل الكبار على مذهب الإمام أحمد بن حنبل:
لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني، المتوفى 510هـ، تحقيق د. سليمان العمير، د. عوض رجاء العوفي، د. عبد العزيز البعيمي الطبعة الأولى 1413هـ، الناشر مكتبة العبيكان، الرياض.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد:
لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، المتوفى سنة 855هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة الأولى سنة 1376هـ.
- الأوسط:
لأبي بكر محمد بن المنذر، المتوفى سنة 318هـ، تحقيق الدكتور أبو حماد صغير، الناشر دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع:
تأليف علاء الدين مسعود الكاساني الحنفي، الناشر زكريا علي يوسف، طبع بمطبعة الإمام بمصر.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المتوفى سنة 595هـ، الناشر دار المعرفة، بيروت.
- بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك:
لأحمد بن محمد الصاوي، المتوفى سنة 1241هـ الناشر دار المعرفة، بيروت.
- البيان والتحصيل:
لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المتوفى سنة 520هـ، الناشر دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان 1404هـ.
- تاج العروس من جواهر القاموس:
تأليف محمد بن مرتضى الزبيدي، الناشر دار مكتب الحياة، بيروت.
- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
لأبي يعلي محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، المتوفى سنة 1353هـ، تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، طبع الاتحاد العربي 1384هـ، الناشر المكتبة السلفية.
- تحفة الفقهاء:
لعلاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، المتوفى سنة 540هـ تحقيق محمد المنتصر، ووهبة الزحيلي، الناشر دار الفكر، بيروت.
- التعريفات:
للشريف علي بن محمد الجرجاني، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت 1403هـ.
- التفريع:(44/450)
لأبي القاسم عبيد الله بن الحسين بن الجلاب، المتوفى سنة 378هـ، دراسة وتحقيق د. حسين بن سالم الدهماني، الناشر دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى 1408هـ.
- تفسير القرآن العظيم:
لإسماعيل بن عمر بن كثير، المتوفى سنة 774هـ، تحقيق عبد العزيز غنيم، ومحمد أحمد عاشور، ومحمد إبراهيم البنا، كتاب الشعب.
- تقريب التهذيب:
للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852هـ، الناشر دار الرشد، سوريا، حلب.
- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير:
للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852هـ، تصحيح السيد هاشم عبد الله اليماني، الناشر، دار المعرفة، بيروت.
- تلخيص المستدرك:
لشمس الدين أبي عبد الله بن أحمد الذهبي، المتوفى سنة 848هـ، مطبوع بذيل المستدرك، الناشر دار الباز للنشر والتوزيع، مكة.
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد:
لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، المتوفى سنة 463هـ، الناشر مطبعة فضالة، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المغرب.
- جامع البيان في تفسير القرآن:
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، المتوفى سنة 310هـ تحقيق محمود محمد شاكر، الناشر دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية.
- الجامع لأحكام القرآن:
تأليف محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المتوفى سنة 671هـ، الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1362هـ.
- الجرح والتعديل:
لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، المتوفى سنة 327هـ، الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1362هـ.
- جواهر الإكليل شرح مختصر خليل:
لصالح عبد السميع الآبي الأزهري، الناشر دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، مصر.
- الجوهر النقي:
لعلاء الدين بن علي بن عثمان الشهير بابن التركماني، المتوفى 745هـ، مطبوع بذيل السنن الكبرى للبيهقي.
- حاشية علي سنن الترمذي:(44/451)
لأحمد شاكر، مطبوعة بذيل سنن الترمذي، الناشر مصطفى البابي الحلبي وشركاه.
- حاشية رد المحتار على الدر المختار المعروف بحاشية ابن عابدين:
لمحمد أمين الشهير بابن عابدين، المتوفى سنة 1252هـ، مع التكملة لنجل المؤلف، الناشر مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية 1386هـ.
- الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي:
لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، المتوفى سنة 405هـ تحقيق علي محمد معوض، عادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ.
- حلية العلماء:
لمحمد بن أحمد الشاشي القفال، المتوفى سنة 507هـ، تحقيق د. ياسين أحمد دراكه، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1400هـ.
- الذخيرة:
لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، المتوفى سنة 684هـ، تحقيق د. محمد حجي، مطبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت.
- روضة الطالبين:
لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، المتوفى سنة 676هـ، الناشر المكتب الإسلامي.
- سنن الترمذي (الجامع الصحيح) :
للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، المتوفى سنة 279هـ، تحقيق أحمد شاكر ورفقاه، الناشر مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
- سنن الدارقطني:
للحافظ علي بن عمر الدارقطني، المتوفى سنة 385هـ، تحقيق عبد الله هاشم المدني، الناشر دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
- سنن أبي داود:
للحافظ أبي داود سليمان الأشعث السجستاني، المتوفى سنة275هـ، تحقيق عزت عبيد الدعاس، طبع محمد علي السيد، حمص.
- السنن الكبرى:
لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، المتوفى سنة 458هـ، الناشر دار الفكر.
- سنن ابن ماجه:
لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، المتوفى سنة 275هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر عيسى البابي.
- سنن النسائي:
لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، المتوفى سنة 303هـ، الناشر دار إحياء التراث، بيروت.
- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك:(44/452)
لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، المتوفى سنة 1122هـ، الناشر دار المعرفة، بيروت.
- شرح الزركشي على مختصر الخرقي:
لشمس الدين الزركشي، المتوفى سنة 772هـ، تحقيق وتخريج د. عبد الله الجبرين، طبع بمطابع العبيكان، الرياض.
- شرح السنة:
لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، المتوفى سنة 516هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وزهير الشاويش، الطبعة الأولى 1390هـ، الناشر المكتب الإسلامي.
- الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك:
لأحمد بن محمّد بن أحمد، المعروف بالدّردير المتوفّى سنة: 1206هـ الناشر دار المعارف بمصر.
- شرح فتح القدير على الهداية:
لكمال الدين محمد بن عبد الواحد، المعروف بابن الهمام الحنفي، المتوفى سنة 681هـ، الطبعة الثانية عام 1397هـ، الناشر دار الفكر.
- شرح ابن القيم على سنن أبي داود:
للإمام محمد بن أبي بكر؛ المعروف بابن القيم، المتوفى سنة 571هـ، مطبوع مع مختصر المنذري.
- شرح معاني الآثار:
لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي، المتوفى سنة 321هـ، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت.
-الشرح الممتع على زاد المستقنع:
للشيخ محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الأولى 1415هـ مؤسسة آسام للنشر، الرياض.
- شرح منظومة المرشد المعين:
للشيخ محمد بن أحمد الفاس.
- شرح النووي على صحيح الإمام مسلم:
لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، المتوفى سنة 676هـ، الناشر دار الفكر، بيروت.
- صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري:
لمحمد بن ناصر الدين الألباني، الناشر مكتبة ابن تيميه، القاهرة.
- صحيح البخاري:
للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى سنة 256هـ، بتصحيح محمد ذهني.
- صحيح ابن خزيمة:
لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي، المتوفى سنة 311هـ، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، الناشر شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض 1401هـ.(44/453)
- صحيح سنن أبي داود، صحيح سنن ابن ماجه، صحيح سنن الترمذي، صحيح سنن النسائي:
لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، المكتب الإسلامي، بيروت، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
- صحيح مسلم:
للإمام مسلم بن حجاج القشيري، المتوفى سنة 261هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر عيسى البابي الحلبي، 1374هـ.
- عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة:
لجلال الدين ابن شاس، المتوفى616هـ، تحقيق د. محمد أبو الأجفان، عبد الله منصور، الطبعة الأولى 1415هـ، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
- عمدة القاري شرح صحيح البخاري:
لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني، المتوفى سنة 855هـ، الناشر مطبعة البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى 1392هـ.
- الغاية القصوى في دراية الفتوى:
لقاضي القضاة عبد الله بن عمر البيضاوي، المتوفى سنة 685هـ، تحقيق علي محي الدين القرة داغي، الناشر دار الإصلاح، الدمام، السعودية.
- غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام:
لعبد المحسن بن ناصر آل عبيكان، الناشر مكتبة العبيكان، الرياض.
- فتاوى وتنبيهات ونصائح:
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الطبعة الأولى 1419هـ، دار الأندلس، حائل.
- فتح العزيز شرح الوجيز وهو الشرح الكبير:
لأبي القاسم عبد الكريم محمد الرافعي، المتوفى سنة 623هـ، مطبوع مع المجموع، ومع التلخيص الحبير لابن حجر، الناشر دار الفكر، بيروت.
- الفروع:
لشمس الدين أبي عبد الله بن مفلح المقدسي، المتوفى سنة 763هـ، الطبعة الثانية، 1388هـ، الناشر عالم الكتب.
- القوانين الفقهية:
لأبي القاسم محمد بن جزي، المتوفى سنة 741هـ، الناشر دار العلم، بيروت.
- الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل:
لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامه، المتوفى سنة 620هـ، تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الثالثة عام 1402هـ، الناشر المكتب الإسلامي، بيروت.
- الكافي في فقه أهل المدينة:(44/454)
لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، تحقيق محمد بن محمد ولد ماديك الموريتاني، الناشر المحقق عام 1399هـ.
- الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية:
لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، منشورات وزارة الثقافة الإرشاد القومي، دمشق.
- اللباب في الجمع بين السنة والكتاب:
لأبي محمد علي بن زكريا المنبجي، المتوفى سنة 686هـ، تحقيق محمد فضل مراد، الطبعة الأولى عام1403هـ، الناشر دارالشروق، جدة.
- لسان العرب:
لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، الناشر دار صادر بيروت.
- المباشرة وأثرها في نقض العبادة:
تأليف د. عبد العزيز مبروك الأحمدي، الناشر دار البخاري للنشر والتوزيع، 1416هـ.
- المبدع في شرح المقنع:
لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد عبد الله بن مفلح، المتوفى سنة 884هـ، الطبعة الثالثة بالأوفست 1318هـ، الناشر دار المعرفة بيروت.
- المبسوط:
لأبي بكر محمد بن أحمد السرخسي، المتوفى سنة 483هـ، الطبعة الثالثة بالأوفست عام 1398هـ، الناشر دار المعرفة، بيروت.
- مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر:
تأليف عبد الله بن الشيخ محمد بن سليمان؛ المعروف بـ (داما أفندي) المتوفى سنة 1078هـ الناشر دار إحياء التراث العربي.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:
لنورالدين علي بن أبي بكر الهيثمي، المتوفى سنة 807هـ الناشر مكتبة القدس، القاهرة، 1352هـ.
- المجموع شرح المهذب:
لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، المتوفى سنة 676هـ مع تكملته لابن السبكي والمطيعي، الناشر دار الفكر.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: المتوفى سنة 728هـ
جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، الطبعة الأولى1381هـ، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت.
- المحرر في الفقه:
لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله الحراني، المتوفى سنة 652هـ، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت.
- المحلى:(44/455)
لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المتوفى سنة 456هـ، قوبلت هذه النسخة على النسخة التي حققها أحمد شاكر، الناشر دار الفكر.
- مختصر الطحاوي:
لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، المتوفى سنة 321هـ، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، الناشر مطبعة دار الكتاب العربي، القاهرة، عام 1370هـ.
- مختصر القدوري في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة:
لأبي الحسن أحمد بن محمد القدوري، المتوفى سنة 428هـ، الناشر مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية 1377هـ.
- المدونة الكبرى:
رواية سحنون بن سعيد عن أبي القاسم عن الإمام مالك بن أنس، الناشر دار الفكر، بيروت، 1398هـ.
- مراتب الإجماع:
لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المتوفى سنة 456هـ، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت.
- مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود:
لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني، المتوفى سنة 275هـ، الناشر دار المعرفة، بيروت.
- مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله:
لعبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق د. علي بن سليمان المهنا، الطبعة الأولى، الناشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
- المستدرك على الصحيحين:
لأبي عبد الله بن عبد الله المعروف بالحاكم، المتوفى سنة 848هـ، الناشر دار الباز للنشر والتوزيع، مكة.
- المستوعب:
لنصير الدين السامري، المتوفى سنة 616هـ، تحقيق د. مساعد الفالح، الطبعة الأولى 1413هـ، مكتبة المعارف، الرياض.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل:
وضعه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، المتوفى سنة 241هـ، الطبعة الرابعة سنة 1403هـ، الناشر المكتب الإسلامي، بيروت.
- مسند الإمام الشافعي:
وضعه الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، المتوفى سنة 204هـ، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1400هـ.
- المصباح المنير:
لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، المتوفى سنة 770هـ، الناشر المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، الطبعة الأولى 1321هـ.(44/456)
- المصنف:
للحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، المتوفى 235هـ، تحقيق عامر العمري الأعظمي، الطبعة الثانية 1399هـ، الناشر الدار السلفية الهند.
- المصنف:
للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة 213هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى 1392هـ، الناشر المكتب الإسلامي، بيروت.
- معالم التنزيل:
لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، المتوفى سنة 516هـ، تحقيق خالد العك، مروان سوار، الطبعة الأولى 1406هـ، الناشر دار المعرفة، بيروت.
- معجم الطبراني الكبير:
للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المتوفى سنة 388هـ، تحقيق حمدي السلفي، الناشر مطبعة الأمة، بغداد.
- معجم لغة الفقهاء:
تأليف د. محمد رواس، د. حامد صادق، الناشر دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
- معجم مقاييس اللغة:
لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، المتوفى سنة 395هـ، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الثانية1392هـ، الناشر مصطفى الحلبي، مصر
- المعجم الوسيط:
تأليف د. إبراهيم أنيس، د. عبد الحليم منتصر، د. عطية الصوالحي، أشرف على الطبع حسن عطية، محمد شوقي أمين، مطابع دار المعارف.
- معرفة السنن والآثار:
لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، المتوفى سنة 458هـ، تحقيق د. عبد المعطي أمين، الناشر دار الوعي، القاهرة.
- المعونة على مذهب عالم المدينة الإمام مالك بن أنس:
للقاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي، المتوفى سنة 422هـ، تحقيق د. حميش عبد الحق، الناشر المكتبة التجارية، مكة المكرمة.
- المغني:
لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه المقدسي، المتوفى سنة 620هـ، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح الحلو، الناشر هجر للطباعة والنشر، القاهرة.
- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المناهج:
للشيخ محمد الشربيني الخطيب، المتوفى سنة 977هـ، الناشر مطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1377هـ.(44/457)
- مفردات ألفاظ القرآن:
للعلامة الراغب الأصفهاني، المتوفى سنة 425، الطبعة الأخيرة عام 1412هـ، الناشر دار القلم، دمشق.
- المقدمات الممهدات:
لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، المتوفى سنة 520هـ، تحقيق د. حمد صبحي، الناشر دار الغرب الإسلامي.
- المهذب في فقه الإمام الشافعي:
لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، المتوفى سنة 476هـ، الناشر شركة ومطبعة الحلبي وأولاده، عام 1396هـ.
- المنتقى شرح موطأ الإمام مالك:
لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، المتوفى سنة 494هـ، الطبعة الثالثة الأوفست 1403هـ، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت.
- منهاج الطالبين:
لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، المتوفى سنة 676هـ، المتن المطبوع مع مغني المحتاج، الناشر مصطفى البابي الحلبي، مصر1367هـ.
- مواهب الجليل لشرح مختصر خليل:
لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن؛ المعروف بالحطاب، المتوفى سنة 954هـ، الطبعة الثانية 1398هـ.
- موطأ الإمام مالك:
وضعه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، المتوفى سنة 179هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر عيسى البابي الحلبي، 1370هـ.
- نصب الراية لأحاديث الهداية:
لجمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي، المتوفى سنة 762هـ، الطبعة الثانية الأوفست من الطبعة الأولى عام 1357هـ، دار المأمون، القاهرة.
- النهاية في غريب الحديث والأثر:
لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن الأثير الجزري، المتوفى سنة 606هـ تحقيق محمود محمد الطناحي، الناشر المكتبة الإسلامية.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج:
لشمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي، المتوفى سنة 400هـ، الناشر شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأخيرة 1386هـ.
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار:
لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، المتوفى سنة 1255هـ، الناشر مكتبة الدعوة الإسلامية، شباب الأزهر.
- الوسيط في المذهب:(44/458)
لحجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي، المتوفى سنة 505هـ تحقيق علي محي الدين علي القرة داغي، الناشر دار النصر للطباعة الإسلامية بمصر، الطبعة الأولى 1404هـ.(44/459)
أحكام
اللّمس في الطّهارة
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .
أما بعد:
__________
(1) آية: (102) من سورة آل عمران.
(2) آية: (1) من سورة النساء.
(3) آية: (70) و (71) من سورة الأحزاب.(44/460)
فإن التفقه في الدين أمر يجلُّ قدره، ويعظم شأنه، نوه الله تعالى بفضله في محكم تنزيله، فقال عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين} (1) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيرية في التفقه في الدين حيث قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (2) فتبين بذلك ما للفقه في الدين من مكانة ومنزلة مرموقة، فأشرف العلوم علوم أحكام أفعال العباد، إذ الله لم يخلق الخلق عبثاً بل خلقهم لتحقيق أسمى الغايات وهي العبادة ولا يتحقق ذلك إلا بالتفقه في الدين ألا وإن من الأمور التي ينبغي للمرء معرفتها وفقهها أحكام اللمس ما تنتقض به الطهارة فلا تصح معه العبادة وما لا تنتقض به، فأحببت أن أفرد هذا الموضوع ببحث مستقل أبين فيه مباحثه ومسائله وما يتعلق به سائلاً الله عز وجل الإعانة والتوفيق.
خطة البحث
قسمت هذا البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وثلاثة فصول:
المقدمة:
وتشتمل على الافتتاحية، وخطة البحث ومنهجه.
التمهيد:
ويشتمل على تعريف اللمس والفرق بينه وبين المس ومفهومهما في الكتاب والسنة.
الفصل الأول:
في لمس العورة، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في لمس الفرج، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في لمس الرجل فرجه.
المطلب الثاني: في لمس فرج الغير.
المطلب الثالث: في لمس المرأة فرجها.
المبحث الثاني: في لمس غير الفرج من العورة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في لمس الدبر.
المطلب الثاني: في لمس الأنثيين والألية والعانة.
المطلب الثالث: في لمس فرج البهيمة.
المبحث الثالث: في كيفية اللمس، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في اللمس ببطن الكف وبظهره.
المطلب الثاني: في اللمس بقصد وبغير قصد.
المطلب الثالث: في اللمس من وراء حائل.
الفصل الثاني:
__________
(1) آية: (122) من سورة التوبة.
(2) أخرجه البخاري 1/25، 26 في كتاب العلم باب من يرد الله به خيراً يفقهه من حديث معاوية رضي الله عنه.(44/461)
في لمس غير العورة من البدن، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في لمس المرأة والرجل، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: في لمس الرجل للمرأة والمراة للرجل.
المطلب الثاني: في لمس الأمرد.
المطلب الثالث: في لمس الرجل للرجل.
المطلب الرابع: في لمس المرأة للمرأة.
المبحث الثاني: في لمس المحارم والصغير وما اتصل بالجسم ووضوء الملموس، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في لمس المحارم والصغيرة.
المطلب الثاني: في لمس ما اتصل بالجسم كالشعر والظفر والسن.
المطلب الثالث: في وضوء الملموس.
الفصل الثالث:
في لمس الميت والمصحف، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في لمس الميت، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في لمس الميت أثناء تغسيله.
المطلب الثاني: في لمس الميت أثناء حمله أو غيره.
المبحث الثاني: في لمس المصحف، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في لمس المصحف باليد مباشرة.
المطلب الثاني: في حمل المصحف بدون ملامسته باليد مباشرة.
الخاتمة
منهج البحث
سلكت في إعداد هذا البحث المنهج الآتي:
1-جمعت المادة العلمية المتعلقة بأحكام اللمس في الطهارة.
2-درست المسائل الواردة في هذا البحث دراسة موازنة، وحرصت على بيان المذاهب الأربعة في كل مسألة، وقد أذكر في المسألة أقوال بعض الصحابة والتابعين وغيرهم من الفقهاء كما أنني ذكرت قول الظاهرية في بعض المسائل مراعياً في ذلك الترتيب الزمني بين الفقهاء.
3-حرصاً مني على إخراج المسائل بأسلوب مبسط، يسهل معه معرفة الحكم في المسألة، صدرتها بالإجماع إن كانت من المسائل المجمع عليها، كما أنني إن رأيت الخلاف ليس قوياً في المسألة صدرت المسألة بقول أكثر أهل العلم وبعد ذلك أشير إلى القول المخالف ثم أذكر أدلة كل قول وما قد يرد عليه من نقاش إن وجد، ثم أختم المسألة بالقول الراجح وقد أؤخر المناقشة مع الترجيح.
4-حرصت على نقل أقوال الفقهاء من مصادرها الأصلية.(44/462)
5-ذكرت أرقام الآيات القرآنية الواردة في البحث مع بيان أسماء سورها.
6-خرجت الأحاديث الواردة في البحث مبيناً الكتاب والباب والجزء والصفحة، فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما أو من أحدهما، وإن لم يكن فيهما أو في أحدهما اجتهدت في تخريجه من كتب السنة الأخرى مع ذكر درجة الحديث صحة أو ضعفاً معتمداً على الكتب التي تعنى بذلك.
7-بينت معاني الكلمات التي تحتاج إلى بيان معتمداً على الكتب التي تعنى بذلك.
8-لم أترجم للأعلام الواردة في البحث خشية الإطالة.
9-بينت في نهاية البحث في الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها.
10-وضعت فهرساً للمصادر التي اعتمدت عليها مرتباً حسب الحروف الهجائية، وآخر للموضوعات.
التمهيد
في التعريف باللمس والفرق بينه وبين المس واللمس في الكتاب والسنة.
تعريف اللمس في اللغة:
لمس: بفتح فسكون مصدر لمس الشيء، أمسه بيده فهو لا مس، ولمس المرأة باشرها.
واللام والميم والسين أصل واحد يدل على تطلب شيء ومسيسه أيضاً. تقول: تلمست الشيءإذا تطلبته، ويأتي بمعنى الحس.
وقال ابن الأعرابي: اللمس قد يكون مس الشيء بالشيء ويكون معرفة الشيء وإن لم يكن ثم جوهر.
وقال الراغب الأصفهاني: "اللمس مطلقاً؛ لأنه يقال المس إدراك بظاهر البشرة، واللمس والملامسة المجامعة مجازاً".
تعريف اللمس في اصطلاح الفقهاء:
هو: قوة منبثقة في جميع البدن تدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ونحو ذلك عند التماس الاتصال به.
وقيل هو: إلصاق الجارحة بالشيء وهو عرف باليد؛ لأنها آلته الغالبة، ويستعمل كناية عن الجماع.
وقيل هو: أن يلمس الرجل بشرة المرأة والمرأة بشرة الرجل بلا حائل بينهما.
وقيل: حقيقة اللمس ملاقاة البشرتين.
وكما هو واضح من هذه التعاريف كلها تدل على أن المراد من اللمس ملاقاة البشرتين.
الفرق بين اللمس والمس:
ذُكرت بعض الفروق بين اللمس والمس ومن ذلك:(44/463)
أن مطلق التقاء الجسمين يسمى مساً، فإن كان بالجسد سمي مباشرة، وإن كان باليد سمي مساً، وإن كان بالفم على وجه مخصوص سمي قبلة.
أن المس كاللمس لكن اللمس قد يقال لطلب شيء وإن لم يوجد والمس يقال فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس.
أن اللمس لصوق بإحساس، والمس أقل تمكناً من الإصابة وهو أقل درجاتها.
أنه يكنى بالمس عن النكاح والجنون، ويقال في كل ما ينال الإنسان من أذى مس، ولا اختصاص له باليد لأنه لصوق فقط، وهذا بخلاف اللمس فإنه يكون باليد.
أن اللمس أخص من المس إذ لا يطلق إلا على مس لطلب معنى من حرارة مثلاً.
أن المس لا يكون إلا بباطن الكف، واللمس يكون بأي جزء من البدن.
أن المس يكون من شخص واحد بخلاف اللمس فإنه لا يكون إلا بين اثنين.
أن المس يختص بالفرج بخلاف اللمس فلا يختص به.
مفهوم اللمس في القرآن الكريم:
ورد ذكر اللمس والمس في عدة آيات من القرآن الكريم:
1- قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ …} (1) .
2- قول الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} (2) .
3- قول الله تعالى: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ... } (3) .
4- قول الله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} (4) .
واللمس في القرآن الكريم ليس مقصوراً على معنى واحد أو مفهوم واحد فإنه يكنى به عن النكاح حيث يقال مسَّها وماسها ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (5) والمسيس كناية عن النكاح.
__________
(1) آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.
(2) آية: (7) من سورة الأنعام.
(3) آية: (13) من سورة الحديد.
(4) آية: (8) من سورة الجن.
(5) آية: (237) من سورة البقرة.(44/464)
ويكنى به عن المس بالجنون قال تعالى: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) .
والمس يقال في كل ما ينال من أذى كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} (2) .وكقوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} (3) .
وكقوله تعالى: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (4) .
ويكنى باللمس عن الجس باليد كقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} (5) .
ويكنى باللمس عن الطلب كقوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} (6) .
ويطلق اللمس والمس على المباشرة في الفرج ومنه قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (7) .
... أما قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (8) . وقريء: {أو لمستم النساء} (9) . فاختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين:
أحدهما: أن ذلك كناية عن الجماع.
الثاني: أن المراد بذلك: كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان.
قال ابن جرير: "وأولى القولين بالصواب قول من قال عنى الله بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ".
__________
(1) آية: (275) من سورة البقرة.
(2) آية: (80) من سورة البقرة.
(3) آية: (214) من سورة البقرة.
(4) آية: (48) من سورة القمر.
(5) آية: (7) من سورة الأنعام.
(6) آية: (4) من سورة الجن.
(7) آية: (287) من سورة البقرة.
(8) من آية: (43) من سورة النساء، ومن آية: (6) من سورة المائدة.
(9) انظر: معالم التنزيل 1/433، تفسير القرآن العظيم 2/275.(44/465)
وفسره بذلك حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنهما - الذي علمه الله تأويل كتابه واستجاب فيه دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم وتفسيره أولى من تفسير غيره لتلك المزية.
وبناء على هذا الاختلاف في مفهوم اللمس اختلف الفقهاء في أثر هذا اللمس هل ينتقض به الوضوء أو لا؟ وسيأتي الكلام عليه مفصلاً إن شاء الله في الفصل الثاني من هذا البحث.
مفهوم اللمس في السنة:
ورد ذكر اللمس في عدة أحاديث من ذلك:
1-حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة: وهي طرح الرجل ثوبه إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه؛ ونهى عن الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه.
قال ابن الأثير: "هو أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع".
2-حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ " (1)
3-ما جاء عن عائشة رضي الله عنها في حديث البيعة أنها قالت: "ولا والله ما مست يده امرأة قط في المبايعة ما يبايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك".
ويظهر من هذه الأحاديث أن اللمس الوارد فيها هو اللمس باليد وهو ليس مقصوراً على ذلك.
بل ورد اللمس بمعنى البحث والتحري ومنه:
1-حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان".
2-حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في شأن ليلة القدر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان" (2) .
الفصل الأول
في لمس العورة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في لمس الفرج.
__________
(1) أخرجه البخاري 7/24 في كتاب الحدود باب: هل يقول الإمام لعلك لمست أو غمزت.
(2) أخرجه البخاري 2/254 في كتاب فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر ومسلم 1/823 في كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر.(44/466)
المبحث الثاني: في لمس غير الفرج من العورة.
المبحث الثالث: في كيفية اللمس.
المبحث الأول
في لمس الفرج
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في لمس الرجل فرجه.
المطلب الثاني: في لمس فرج الغير.
المطلب الثالث: في لمس المرأة فرجها.
المطلب الأول
في لمس الرجل فرجه
اتفق الفقهاء على أن من لمس فرجه بغير يده من أعضائه أنه لا ينتقض وضوءه.
واختلفوا فيمن مس فرجه بيده على قولين:
القول الأول: أن من لمس ذكره انتقض وضوءه، وهو مروي عن عمر ابن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان، وبه قال مكحول، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، وعروة، وسليمان بن يسار، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، والشعبي، وأبو العالية، والأوزاعي، والليث.
وهو المشهور من مذهب الإمام مالك والشافعي إذا كان اللمس بباطن الكف، وأحمد في المذهب، وداود وابن حزم.
القول الثاني: أن من لمس ذكره لا ينتقض وضوءه، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وحذيفة، وعمران بن حصين، وأبي الدرداء، وهو قول سعيد بن جبير، وطاووس والنخعي، والحسن بن حيي، وشريك، وابن المبارك، ويحيى بن معين، والحسن البصري، وقتادة، والثوري.
وإليه ذهب أبو حنيفة، ومالك في قول، وأحمد في رواية، واختاره ابن المنذر، وابن تيمية.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة التالية:(44/467)
1-حديث بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مس ذكره فليتوضأ" (1) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ 1/42 في الطهارة باب: الوضوء من مس الفرج، والشافعي في مسنده 1/21، وأحمد في المسند 6/406، وأبو داود 1/126 في الطهارة باب: الوضوء من مس الذكر، والترمذي 1/126 في الطهارة باب: الوضوء من مس الذكر وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي 1/100، في الطهارة باب: الوضوء من مس الذكر وابن ماجه 1/161 في الطهارة باب: الوضوء من مس الذكر، وابن حبان في الإحسان1/220، والبيهقي1/128، والدارقطني1/146وصححه، وابن خزيمة1/22، والحديث صححه الإمام أحمد كما في مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص 309 وصححه ابن حبان، وابن خزيمة، والدارقطني، ونقل الترمذي عن البخاري أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة، وحسنه النووي في المجموع 2/35. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/122: صححه يحيى ابن معين والبيهقي والحازمي. وقال البيهقي: هو على شرط البخاري بكل حال، ونقل عن الإسماعيلي أنه يلزم البخاري إخراجه فقد أخرج نظيره، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/150.(44/468)
2-حديث أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مس فرجه فليتوضأ" (1) .
3-حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ وضوءه للصلاة" (2) .
4-ولأنه لمس يفضي إلى خروج المذي فأشبه مس الفرج بالفرج.
5-أن الذكر يختلف عن سائر الجسد لأنه تتعلق به أحكام ينفرد بها من وجوب الغسل بإيلاجه والحد والمهر وغير ذلك.
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
حديث بسرة اعترض عليه بعدة اعتراضات أهمها:
__________
(1) أخرجه ابن ماجة1/162في الطهارة باب: الوضوء من مس الذكر، والبيهقي1/130 والطحاوي 1/75، وقال الحافظ في التلخيص1/124: أما حديث أم حبيبة فصححه أبو زرعة والحاكم، وأعله البخاري بأن مكحولاً لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان، وكذا قال يحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي أنه لم يسمع منه، وخالفهم دحيم وهو أعرف بحديث الشاميين، فأثبت مكحول من عنبسة، وقال الخلال في العلل: صحح أحمد حديث أم حبيبة. أخرجه ابن ماجة من حديث العلاء بن الحارث عن مكحول. وقال ابن السكن: لا أعلم به علة. وقال الألباني في إرواء الغليل 1/151: والحديث صحيح على كل حال؛ لأنه إن لم يصح بهذا السند فهو شاهد جيد لما ورد في الباب من أحاديث.
(2) أخرجه أحمد في المسند 2/333، والدارقطني 1/147، والبيهقي 1/133، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/74، والحاكم في المستدرك 1/138 وصححه، وابن حبان في الإحسان 2/222. وقال ابن عبد البر في التمهيد 17/195، والاستذكار 1/312 كان هذا الحديث لا يعرف إلا ليزيد بن عبد الملك النوفلي وهذا مجمع على ضعفه حتى رواه عبد الرحمن بن القاسم عن نافع بن أبي نعيم القاري وهذا إسناد صالح إن شاء الله. وقال النووي في المجموع 2/35، وفي إسناده ضعف لكنه يقوى بكثرة طرقه. قال الحافظ في التلخيص 1/12: قال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب.(44/469)
1-رواه عنها مروان بن الحكم وهو كان يحدث في زمانه مناكير ولذلك لم يقبل عروة منه.
2-أن ربيعه شيخ مالك قال: "ويحكم مثل هذا يأخذ به أحد ويعمل بحديث بسرة؟ والله لو أن بسرة شهدت على هذا النعل لما أجزت شهادتها، وإنما قوام الدين الصلاة، وإنما قوام الصلاة الطهور، فلم يكن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقيم هذا الدين إلا بسرة".
3-قال ابن معين: لم يصح في مس الذكر حديث.
4-رواية ابن وهب عن مالك أن الوضوء من مس الذكر سنة فكيف يصح عنده هذا الحديث ثم يستجيز هذا القول؟
5-أن الرجل أولى بنقله من بسرة.
6-أنه مما تعم به البلوى فينبغي أن ينقل مستفيضاً ولما لم يكن كذلك دل على ضعفه.
7-إنكار كبار الصحابة لحكمه كعلي وابن مسعود وغيرهما كما تقدم في القول الثاني.
8-أنه مخالف لإجماع الصحابة.
9-لو سلم بصحته يحمل على غسل اليد لأنهم كانوا يستجمرون ثم يعرقون ثم يؤمر من مس موضع الحدث بالوضوء الذي هو النظافة.
10-أنه معارض بحديث طلق، والقياس على سائر الأعضاء.
وقد أجيب على هذه الاعتراضات بما يأتي:
1-أن مروان كان عدلاً ولذلك كانت الصحابة تأتم به وتغشى طعامه وما فعل شيئاً إلا عن اجتهاد، وإنكار عروة لعدم اطلاعه.
2-أن عدم استقلال المرأة في الشهادة لا يدل على عدم قبول روايتها وإلا لما قبلت رواية كثير من الصحابيات.
قال الشافعي: "والذي يعيب علينا الرواية عن بسرة يروي عن عائشة بنت عجرد وأم خداش وعدة من النساء لسن بمعروفات ويحتج بروايتهن ويضعف بسرة مع سابقتها وقديم هجرتها وصحبتها النبي صلى الله عليه وسلم وقد حدثت بهذا في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون ولم يدفعه
منهم أحد بل علمنا بعضهم صار إليه منهم عروة بن الزبير".(44/470)
3- إذا لم يصح الحديث عند ابن معين فقد صح عند غيره فقد صححه الجماهير من الأئمة الحفاظ واحتج به الأوزاعي والشافعي وأحمد وهم أعلام الحديث والفقه فلو كان باطلاً لم يحتجوا به، لكنه مع هذا لم يثبت عند ابن معين كما قال الحافظ ابن حجر وابن الجوزي.
4-أن مالكاً لم يطعن في الصحة وإنما تردد في دلالة اللفظ هل هي للوجوب أم للندب؟
5-أن بسرة لم تنفرد بروايته بل رواه نحو خمسة عشر من الرجال والنساء فإن في الباب عن أم حبيبة وأبي هريرة وأروى بنت أنس وعائشة وجابر وزيد بن خالد وعبد الله بن عمرو وسعد بن أبي وقاص وأم سلمة وابن عباس وابن عمر والنعمان بن بشير وأنس وأُبي بن كعب ومعاوية بن حيدة وقبيصة رضي الله عنه.
6-أن الخبر نقل مستفيضاً.
7-أن الحديث لم يثبت عندهم أو لم يبلغهم، وقد بلغهم حديث طلق ولم يبلغهم ما ينسخه ولو بلغهم لقالوا به ولا يجب على الصحابي أن يطلع على سائر الأحاديث.
8-أنه لم ينعقد في هذه المسألة إجماع وإلاَّ لما ساغ الخلاف فيها ومن أراد الاطلاع على معرفة قدر اختلاف الصحابة فيها فليراجع المصادر التي ذكرتها عند عرض الأقوال في أول المسألة.
9-أن حديث طلق الذي استدل به أصحاب القول الثاني لا يصح والقياس الذي ذكروه في قبالة النص فيكون فاسداً.
10-أن الألفاظ الشرعية الأصل فيها أن تحمل على الحقيقة إلا إذا ورد دليل يصرفها عنها ولم يرد بل ورد هنا ما يخالفه كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره - ليس بينهما شيء - فليتوضأ وضوءه للصلاة" (1) .
__________
(1) انظر: سبق تخريجه ص: (222) .(44/471)
قال البيهقي وغيره: "ويكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يحتج الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بسائر رواة حديثها، وهذا وجه رجحان حديثها على حديث طلق من طريق الإسناد؛ لأن الرجحان إنما يقع بوجود شرائط الصحة والعدالة في حق هؤلاء الرواة دون من خالفهم".
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1-حديث قيس بن طلق، عن أبيه قال: "قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال:"هل هو إلا مضغة (1) منه؟ أو قال: بضعة (2) منه"
2-ما روى جعفر بن الزبير عن القاسم، عن أبي أمامه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مسست ذكري وأنا أصلي، فقال: "لا بأس إنما هو حذية (3) منك" (4)
3-إجماع أهل العلم على أن لا وضوء على من مس بولاً أو غائطاً أو دماً فمس الذكر أولى أن لا يوجب وضوءاً.
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1-أن حديث طلق ضعيف باتفاق المحدثين وقد بين البيهقي وجوهاً من ضعفه.
2-أنه منسوخ بحديث بسرة لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام ووفادة طلق على النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة الأولى من الهجرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجده وقدوم أبي هريرة وإسلامه كان في السنة السابعة من الهجرة.
__________
(1) المضغة: القطعة من اللحم قدر ما يمضغ. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/339 المصباح المنير 2/699.
(2) بضعة: بالفتح القطعة من اللحم. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/123، المصباح المنير 1/65.
(3) حذية: أي قطعة قيل هي بالكسر: ما قطع من اللحم طولاً. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 1/357.
(4) أخرجه ابن ماجه 1/163 في الطهارة باب: الرخصة في ذلك، وفي سنده جعفر بن الزبير متروك، والقاسم ضعيف كما في التقريب 140، ونصب الراية 1/69.(44/472)
3-أنه محمول على المس من فوق حائل لأنه قال: سألته عن مس الذكر في الصلاة، والظاهر أن الإنسان لا يمس ذكره في الصلاة بدون حائل.
4-أن حديث بسرة أكثر رواة من حديث طلق كما تقدم.
5-أن حديث بسرة فيه احتياط للعبادة.
6-أن حديث جعفر بن الزبير حديث ضعيف كما تقدم في تخريجه.
7-أن القياس الذي ذكروه قياس في مقابل النص فيكون فاسداً.
وقد أجيب عن هذه الاعتراضات بما يلي:
1-القول بأن حديث طلق حديث ضعيف باتفاق المحدثين غير مسلم فقد صححه كما سبق في تخريجه الطحاوي، وابن حبان، وابن حزم وغيرهم.
2-دعوى النسخ لا تقبل إذ ليس في حديث بسرة ما يدل على النسخ
3-أن كثرة الرواة لا أثر لها في باب الترجيحات لأن طريق كل واحد منهما غلبه الظن فصار كشهادة شاهدين مع شهادة أربعة.
الراجح:
أطال أهل العلم النقاش حول هذه المسألة وأكثروا الاحتجاج لها وذهب كل فريق يرجح حديثه الذي احتج به بمرجحات ومبررات وقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الجمع بين الأدلة فحمل الأمر بالوضوء من مس الذكر على الاستحباب وأخذ به الشيخ محمد ابن عثيمين - رحمه الله - للقرينة الصارفة في حديث طلق السابق ذكره وهي: "وهل هو إلا بضعة منك" وليس فيه نسخ، وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ.
وأما دعوى أن حديث طلق منسوخ لأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد أول الهجرة، ولم يعد إليه بعد، فهذا غير مسلم لما يأتي:
1-أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن ومن أوجه الجمع:
أ-حمل حديث بسرة وما شابهه على ما كان لشهوة، وحديث طلق على ما إذا كان لغير شهوة.
ب-أن يكون الأمر في حديث بسرة للاستحباب، وحديث طلق السؤال فيه للوجوب، فهو سأل عن الواجب "أعليه"وكلمة "على"ظاهرة في الوجوب.(44/473)
2-أن في حديث طلق علة لا يمكن أن تزول، وإذا ربط الحكم بعلة لا يمكن أن تزول، فإن الحكم لا يمكن أن يزول لأن الحكم يدور مع علته، والعلة قوله: "إنماهو بضعة منك" ولا يمكن في يوم من الأيام أن يكون ذكر الإنسان ليس بضعة منه، فلا يمكن النسخ.
3-أن أهل العلم قالوا: إن التاريخ لا يعلم بتقدم إسلام الراوي أو تقدم أخذه، لجواز أن يكون الراوي حدث به عن غيره.
وخلاصة القول في المسألة كما ذكر الشيخ محمد العثيمين: "أن الإنسان إذا مس ذكره استحب له الوضوء مطلقاً سواء مس بشهوة أو بغير شهوة وإذا مسه لشهوة فالقول بالوجوب قوي جداً وهو الأحوط" والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني
في مس ذكر الغير
بينت في المطلب السابق حكم انتقاض وضوء الإنسان بمس ذكره وفي هذا المطلب أذكر حكم مس الإنسان لذكر غيره.
والكلام في هذه المسألة مبني على الكلام في مسألة من مس ذكره.
فذهب الفقهاء القائلون بنقض الوضوء من مس الإنسان ذكره إلى أنه لا فرق بين مس الإنسان ذكره وذكر غيره
وذهب داود وابن حزم إلى أن من مس ذكر غيره لا ينتقض وضوءه
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-حديث بسرة فقد ورد في بعض ألفاظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس الذكر فليتوضأ" (1) .
وجه الدلالة: أن الحديث على عمومه يدخل تحت عمومه ذكره وذكر غيره.
2-أن مس ذكر غيره معصية، وأدعى إلى الشهوة، وخروج الخارج، وحاجة الإنسان تدعو إلى مس ذكر نفسه، فإذا انتقض بمس ذكر نفسه فمس ذكر غيره أولى وهذا تنبيه يقدم على الدليل.
3-ولأن من مس فرج غيره أغلظ من مس فرجه لما يتعلق به من هتك حرمة الغير فكان بالنقض أحق.
واستدل أصحاب القول الثاني بالآتي:
أنه لا نص فيه، والأخبار إنما وردت في ذكر نفسه، فيقتصر عليه.
واعترض على هذا الاستدلال:
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 24/197، حديث رقم: (499) وصححه.(44/474)
أن ادعاء أنه لا نص فيه غير صحيح فقد ورد في بعض ألفاظ حديث بسرة كما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: "من مس الذكر فليتوضأ".
والراجح في المسألة:
هو كما تقدم في المسألة السابقة أن الإنسان إذا مس ذكره استحب له الوضوء مطلقاً سواء مس بشهوة أو بغير شهوة، وإذا مس بشهوة فالقول بالوجوب قوي جداً وهو الأحوط فإذا كان هذا في مس ذكره ففي مس ذكر غيره من باب أولى، والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث
لمس المرأة فرجها
تقدم الكلام في المطلب الأول على حكم لمس الرجل ذكره وفي هذا المطلب أبين حكم لمس المرأة لفرجها أهو كحكم لمس الرجل لفرجه أم أن بينهما اختلافاً؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن لمس المرأة فرجها ينتقض به الوضوء، وهو قول مالك في المشهور عنه، والشافعي إذا كان المس بباطن الكف، وأحمد في الصحيح من المذاهب.
القول الثاني: أن لمس المرأة فرجها لا ينقض الوضوء، وهو قول أبي حنيفة ومالك في رواية، وأحمد في رواية.
الأدلة:
1-حديث أم حبيبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مس فرجه فليتوضأ" (1) .
وجه الدلالة: أن الفرج هنا اسم جنس فيدخل فيه قبل المرأة لأن الفرج في اللغة الفرج بين الشيئين ويطلق على القبل والدبر من الرجل والمرأة وكثر استعماله في العرف في القبل، فعلى هذا ينتقض وضوء المرأة بلمسها فرجها.
__________
(1) سبق تخريجه في ص: (222) .(44/475)
2-حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ" (1) .
3-حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للذين يمسون ذكورهم ويصلون ولا يتوضئون" قالت عائشة: "فهذا للرجال فما بال النساء قال عليه الصلاة والسلام: "إذا مست إحداكن فرجها توضأت (2) .
1. ولأن المرأة آدمي مس فرجه فانتقض وضوءه كالرجل.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:
1-أن الأصل عدم ورود دليل يدل على النقض.
2-أن الحديث المشهور في مس الذكر وليس مس المرأة فرجها في معناه.
3-أن مس الفرج لا يدعو إلى خروج خارج فلا ينقض الوضوء.
4-أنه عضو منها فأشبه لمسه لمس سائر بدنها.
وقد أجابوا عن حديث أم حبيبة بأن فيه انقطاعاً، وحديث عمرو بن شعيب قالوا: إن الإمام أحمد سئل عنه فقال: ليس بذاك.
وقد أجاب أصحاب القول الأول عن ذلك بأن حديث أم حبيبة حديث صحيح كما سبق تخريجه، وأن حديث عمرو بن شعيب حسن الإسناد صحيح المتن بما قبله كما سبق تخريجه.
والراجح في المسألة: أن المرأة إذا مست فرجها استحب لها الوضوء مطلقاً سواء مست بشهوة أم بغير شهوة، وإذا مست بشهوة فالقول بالوجوب قوي جداً وهو الأحوط.
المبحث الثاني
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2/223، والدارقطني 1/147 في الطهارة باب: ما روى في لمس القبل والدبر والذكر، والبيهقي 1/132، في الطهارة باب: الوضوء من مس المرأة فرجها وقال الحافظ في التلخيص الحبير 1/124: قال الترمذي في العلل عن البخاري هو عندي صحيح، وصححه الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ ص: (44) وقال: رواته ثقات معروفون، وقال الألباني في ارواء الغليل 1/152: الحديث حسن الإسناد صحيح المتن بما قبله.
(2) أخرجه الدارقطني 1/147و148، في الطهارة باب: ما روي في لمس القبل والدبر والذكر وضعفه، وقال الحافظ في التلخيص الحبير 1/126: وضعفه ابن حبان وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب.(44/476)
في لمس غير الفرج من العورة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في لمس الدبر.
المطلب الثاني: في لمس الأنثيين والألية والعانة.
المطلب الثالث: في لمس فرج البهيمة.
المطلب الأول
في لمس الدبر
تقدم في المبحث الأول الكلام على حكم لمس الفرج ولما كان الدبر يدخل في مسمى الفرج فقد يتبادر إلى الذهن أنه يأخذ حكم القبل وحيث إن الدبر يختلف في بعض الصفات عن القبل كالشهوة وخروج المذي والمني فهل يأخذ حكم القبل أو لا؟
اختلف العلماء في لمس الدبر على قولين:
القول الأول: أن الوضوء لا ينتقض بلمس الدبر وهو مروي عن قتادة وسفيان الثوري وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي في القديم وأحمد في رواية، وداود.
القول الثاني: أن الوضوء ينتقض بلمس الدبر وهو مروي عن عطاء والزهري، والأوزاعي، والشافعي في الجديد وهو الصحيح، وأحمد في الصحيح من المذهب، وإسحاق.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-حديث بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مس ذكره فليتوضأ" (1) .
وجه الدلالة: أنه خص الذكر بالحكم وهذا ليس في معناه لأنه لا يقصد مسه.
2-أن مس القبل إذا كان على سبيل الشهوة يفضي إلى خروج المذي وغيره فأقيم مسه مقام خروج الخارج بخلاف الدبر.
3-أنه لا يلتذ بمسه كالقبل فأشبه سائر الأعضاء.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1-حديث أم حبيبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مس فرجه فليتوضأ" (2) .
وجه الدلالة: أن اسم الفرج يطلق على القبل والدبر جميعاً.
2-أنه أحد سبيلي الحدث فوجب أن يكون مسه حدثاً كالقبل.
واعترض على هذين الدليلين بما يأتي:
__________
(1) سبق تخريجه في ص: (221) .
(2) سبق تخريجه في ص: (222) .(44/477)
1-حديث أم حبيبة اعترض عليه بأن بعض الأحاديث أطلق فيها الفرج وبعضها صرح فيها بالذكر فتحمل الأحاديث التي جاءت بلفظ الفرج أنه يراد به الذكر الذي صرح به في بعض الأحاديث ويحمل الفرج الذي أمرت المرأة بالوضوء إذا هي مسته على ما يقابل ذكر الرجل وهو القبل منها.
2-دليلهم الثاني اعترض عليه بوجود الفارق بين القبل والدبر حيث إن الدبر ليس محلاً للشهوة بخلاف القبل فإن الشهوة تثور بلمسه غالباً ومن أجل هذا أمر بالوضوء من مسه، أما الدبر فهو كأي جزء آخر من البدن لا تثور الشهوة بمسه فلا يلزم من مسه الوضوء.
الراجح:
هو القول بعدم انتقاض الوضوء بمس الدبر لأن الأحاديث التي جاء فيها ذكر الفرج مطلقاً تحمل على الفرج المصرح به في حديث بسرة ولأن القبل يختلف عن الدبر في كثير من الأحكام وهو المراد في كثير من النصوص كقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم} (1) خطاب للرجال بحفظ فروجهم من الزنا والمراد الذكر وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُن} (2) خطاب للنساء بحفظ فروجهن من الزنا والمراد القبل، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} بيان لحال المؤمنين الذين حصنوا فروجهم من الزنا، والمراد الرجال بدلالة قوله تعالى بعد ذلك: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3) فعلى هذا فإن المراد بالفرج في النصوص هو القبل الذي هو محل الشهوة دون الدبر، والله أعلم.
المطلب الثاني
في لمس الأنثيين والألية والعانة
عامة أهل العلم يرون أن الوضوء لا ينتقض بلمس الأنثيين والألية والعانة.
__________
(1) آية: (30) من سورة النور.
(2) آية: (31) من سورة النور.
(3) آية: (6) من سورة المؤمنون.(44/478)
وروى عن عروة أن الوضوء ينتقض بلمسها، وقال الزهري: "أحب إليَّ أن يتوضأ"، وقال عكرمة: "من مس ما بين الفرجين فليتوضأ".
استدل عامة أهل العلم بما يأتي:
1-أنه لا نص في هذا ولا هو في معنى المنصوص عليه فلا يثبت الحكم فيه.
2-ولأنها مواضع من البدن لا لذة في مسها فأشبهت سائر الأعضاء.
واستدل من رأى انتقاض الوضوء بلمسها:
بما روي عن بسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه (1) فليتوضأ" (2)
وقد اعترض على هذا بأنه من قول عروة غير مرفوع، كذلك رواه الثقات، عن هشام منهم: أيوب السختياني، وحماد بن زيد وغيرهما وكلا الطريقين صحيح.
وقال البيهقي: "القياس أن لا وضوء في المس، وإنما اتبعنا السنة في إيجابه بمس الفرج فلا يجب بغيره".
وقال النووي: "وهذا حديث باطل موضوع إنما هو من كلام عروة كذا قاله أهل الحديث والأصل أن لا نقض إلا بدليل".
بل نقل ابن هبيرة الإجماع على عدم النقض فقال: "وأجمعوا على أنه لا وضوء على من مس أنثييه سواء كان من وراء حائل أو من غير وراء حائل".
وعلى هذا فيكون الراجح هو قول عامة العلماء أن الوضوء لا ينتقض بلمس الأنثيين والألية والعانة، والله أعلم.
المطلب الثالث
في لمس فرج البهيمة
جمهور العلماء على أن لمس فرج البهيمة لا ينقض الوضوء
وذهب الليث إلى أن لمس فرج البهيمة ينقض الوضوء، وفرق عطاء بين لمس البهيمة مأكولة اللحم وغير مأكولة اللحم فقال بالوضوء من مس مأكولة اللحم ولم يقل بالوضوء من لمس غير مأكولة اللحم.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
__________
(1) الرفغ أصل الفخذ وسائر المغابن وكل موضع اجتمع فيه الوسخ.
انظر: المصباح المنير 1/277.
(2) أخرجه البيهقي1/137في الطهارة باب: مس الأنثيين، والدارقطني1/148،في الطهارة باب: ما روي في لمس القبل والدبر، وعبد الرزاق في مصنفه 1/121.(44/479)
1-أن لمس فرج البهيمة ليس بمنصوص على النقض به، ولا هو في معنى المنصوص عليه.
2-أنه لا حرمة لها ولا تعبد عليها أي لا حرمة لها في وجوب ستر فرجها وتحريم النظر إليه ولا تعبد عليها أي أن الخارج من فرجها لا ينقض طهراً ولا يوجب وضوءاً.
3-أنه لمس لا لذة فيه فأشبه لمس الجماد.
واستدل للقول الثاني بما يأتي:
قياس لمس فرج البهيمة على لمس فرج الآدمي.
واعترض على هذا الدليل:
أن نقض الوضوء بلمس فرج الآدمي قد ورد فيه نص بخلاف لمس فرج البهيمة.
والراجح قول جمهور العلماء، لأن لمس فرج البهيمة مما لم يرد النص على النقض به وقياسه على فرج الآدمي قياس مردود.
المبحث الثالث
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في اللمس ببطن الكف وظهره.
المطلب الثاني: في اللمس بقصد وبغير قصد.
المطلب الثالث: في اللمس من وراء حائل.
المطلب الأول
في اللمس ببطن الكف أم بظهره
تقدم الكلام على حكم لمس العورة وفي هذا المبحث أبين هل اللمس المقصود ببطن الكف أم بظهره؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن اللمس لا ينتقض به الوضوء إلا إذا كان ببطن الكف وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد في رواية، والليث , وإسحاق.
القول الثاني: أن اللمس ينتقض به الوضوء سواء كان ببطن الكف أم بظهره وهو قول أحمد فيما عليه المذهب وعطاء والأوزاعي.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس بينهما سترة فليتوضأ" وفي لفظ "إذا أفضى أحدكم إلى ذكره فقد وجب عليه الوضوء" (1) .
وجه الدلالة: أن الإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف.
2-أن ظاهر الكف ليس بآلة للمس، فأشبه ما لو مسه بفخذه.
__________
(1) سبق تخريجه في ص: (222) .(44/480)
3-أن المعنى الذي اختصت به اليد في مسه ينقض الوضوء دون سائر الجسد إما أن يكون لحصول اللذة المقتضي إلى نقض الطهر وإما لأن اليد آلة الطعام فخيف تنجيسها بآثار الاستنجاء، وكلا المعنيين مختص بباطن الكف دون ظاهرها كما كان مختصاً باليد دون غيرها.
واعترض على هذا:
أن الإفضاء يكون بظاهر الكف كما يكون بباطنها وحتى لو كان الإفضاء بباطن الكف لما كان في ذلك ما يسقط النقض عن غير الإفضاء.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1-حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما سترة فليتوضأ" وفي لفظ "إذا أفضى أحدكم إلى ذكره فقد وجب عليه الوضوء" (1) .
وجه الدلالة: أن ظاهر كفه من يده والإفضاء اللمس من غير حائل.
2-أن ظهر الكف جزء من يده تتعلق به الأحكام المعلقة على مطلق اليد فأشبه باطن الكف.
والراجح:
أن اللمس حاصل سواء كان بظهر الكف أم بباطنه ولكن لا ينتقض وضوءه ما لم ينزل منه شيء كما سبق ترجيح ذلك.
المطلب الثاني
اللمس بقصد وبغير قصد
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن لمس الفرج لا ينقض الوضوء إلا إذا كان بقصد وهو قول مكحول، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومالك، وأحمد في رواية.
القول الثاني: أن لمس الفرج ينقض مطلقاً بقصد وبغير قصد وهو قول الشافعي، وأحمد في الصحيح من المذهب، والأوزاعي وإسحاق.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالآتي:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما سترة فليتوضأ" وفي لفظ "إذا أفضى أحدكم إلى ذكره فقد وجب عليه الوضوء" (2) .
وجه الدلالة: أن الحديث ورد فيمن مس فرجه أو ذكره ولا يكون ماساً إلا من قصد إلى المس، لأن الفاعل حقيقة هو من قصد إلى الفعل وأراده.
واعترض على هذا:
__________
(1) سبق تخريجه في ص: (222) .
(2) سبق تخريجه في ص: (222) .(44/481)
أن لفظ الحديث يفيد العموم على كل حال ولا يوجد ما يقيده بالعمد.
واستدل أصحاب القول الثاني بالآتي:
1-عموم أحاديث مس الفرج فإنها لم تقيد المس بعمد أو غير عمد بل رتبت الوضوء على حصول اللمس.
2-ولأنه لمس يؤثر في نقض الطهر فاستوى عمده وسهوه أصله مس النساء.
الراجح:
أنه لا فرق في اللمس بين القصد وغير القصد لأن كل معنى نقض الطهر مع القصد نقضه مع غير القصد أصله الحدث.
المطلب الثالث
في اللمس من وراء حائل
تقدم في المطلبين السابقين الكلام على اللمس ببطن الكف وظهره واللمس بقصد وبغير قصد وفي هذا المطلب أبين حكم اللمس من وراء حائل.
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن اللمس من وراء حائل لا ينقض الوضوء وهو قول الحنفية، وابن عبد البر، والشافعية، والحنابلة في المذهب.
القول الثاني: أن اللمس من وراء حائل ينقض الوضوء إذا كان الحائل رقيقاً لا يمنع اللذة وهو قول ربيعة، والليث، والمالكية، والحنابلة في رواية.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وجه الدلالة من الآية أن حقيقة الملامسة هي ملاقاة البشرة بدون
حائل.
2-أنه لم يلمس الجسم وإنما لمس الثياب والشهوة بمجردها لا تكفي كما لو مس رجلاً أو وجدت الشهوة من دون لمس.
3-أنه لمس دون حائل فوجب أن لا ينقض الوضوء كلمس الخف.
استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:
1-عموم قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (2) .
وجه الدلالة: أنه ملتذ بلمس يوجب الوضوء وهما متلامسان والمعنى فيهما وجود اللذة.
2-أن الشهوة موجودة ولا يمنعها الحائل الرقيق.
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.
(2) من آية: (43) من سورة النساء، وآية (6) من سورة المائدة.(44/482)
واعترض على هذا: بأن حقيقة الملامسة ملاقاة البشرة وإلا كان لامساً ثوباً ولم يكن لامساً جسماً وعلى هذا لو حلف لا يلمس امرأة فلمس ثوبها لم يحنث، فإذا انتفى اللمس عنه لم يتعلق به الحكم
والراجح:
أن اللمس من وراء حائل لا ينقض الوضوء، ما لم ينزل منه شيء.
فقد سبق أن اللمس من دون حائل لا ينقض الوضوء ما لم ينزل منه شيء فهذا من باب أولى.(44/483)
تابع لأحكام اللمس
الفصل الثاني
في لمس غير العورة من البدن
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في لمس المرأة والرجل.
المبحث الثاني: في لمس المحارم والصغيرة وما اتصل بالجسم ووضوء الملموس.
المبحث الأول
في لمس المرأة والرجل
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: في لمس الرجل للمرأة والمرأة للرجل.
المطلب الثاني: في لمس الأمرد.
المطلب الثالث: في لمس الرجل للرجل.
المطلب الرابع: في لمس المرأة للمرأة.
المطلب الأول
في لمس الرجل للمرأة والمرأة للرجل
اختلف العلماء في هذه المسألة إلى أقوال أوصلها بعضهم إلى سبعة أقوال وأشهرها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أو بغير شهوة وهو مروي عن علي، وابن عباس، وعطاء، ومسروق، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ولكن إذا باشرها وليس بينهما ثوب وتماس الفرجان وانتشر استحب له الوضوء استحساناً والقياس أن لا يكون حدثاً وهو قول محمد بن الحسن، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية.
القول الثاني: أن لمس المرأة ينقض الوضوء إذا كان بشهوة ولا ينقض إذا كان بغير شهوة، وهو مروي عن الحكم، وعلقمة، والنخعي والليث، وإسحاق وهو قول مالك، وأحمد في المذهب.
القول الثالث: أن لمس المرأة ينقض مطلقاً بمجرد التقاء البشرتين ولو بغير شهوة أو قصد وهو مروي عن عمر وابنه، وابن مسعود ومكحول، والشعبي، والنخعي، ويحيى الأنصاري، وسعيد بن عبد العزيز، وهو قول الشافعي وأحمد في رواية، وابن حزم إلا أنه قيده بالعمد دون الخطأ.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ"قال عروة: قلت لها: "من هي إلا أنت".
وجه الدلالة من الحديث: أن القبلة إذا كانت لا تنقض الوضوء فمن باب أولى أن لا ينقض اللمس الوضوء.(44/484)
2-حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتها".
وفي رواية: "فإذا أراد أن يوتر مسني برجله".
3-حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان".
وجه الدلالة من الحديثين: أنهما دلا على أن اللمس لا يؤثر في الوضوء، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السجود - كما ورد في الحديث - غمز عائشة، والغمز لمس بلا شك، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم قطع صلاته لذلك وهذا عام لم يفرق فيه بينما إذا كان بشهوة أو بغير شهوة.
4-حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب بنت رسول صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها".
وجه الدلالة من الحديث: أن الظاهر أنه لا يسلم من مسها.
4-أن اللمس ليس بحدث بنفسه ولا سبب لوجود الحدث غالباً فأشبه مس الرجل الرجل والمرأة المرأة ومس المحارم والشعر، وأن لمس الزوجين مما يكثر وجوده فلو جعل حدثاً لوقع الناس في الحرج.
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1-حديث حبيب بن أبي ثابت اعترض عليه من أربعة أوجه:
أ-أنه ضعيف وعروة المذكور في سنده هو عروة المزني ولم يدرك عائشة، وممن ضعفه الثوري ويحيى بن سعيد القطان وأحمد والترمذي وأبو داود والبيهقي والبخاري وأبو حاتم وغيرهم.
ب-ما ذكره الإمام أحمد وغيره أن حبيب بن أبي ثابت غلط فيه من الصيام إلى الوضوء.
ج-أنه لو صح الحديث فهو محمول على أن القبلة كانت لغير شهوة براً بها وإكراماً لها ورحمة، أو كانت من وراء حائل جمعاً بين الأدلة
د-إذا صح الحديث يكون ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يملك إربه كما ذكرت عائشة في تقبيله صائماً.
وأجيب عن هذه الاعتراضات:(44/485)
أن تضعيف بعض الحفاظ لهذا الحديث قابله تصحيح البعض له كابن عبد البر، والزيلعي، والتركماني وغيرهم، وله طرق وشواهد متعددة يقوي بعضها بعضاً وتجعل له أصلاً فيصلح للاستدلال.
أما ما ذكره الإمام أحمد وغيره ففيه نظر، وحمل القبلة على أنها كانت لغير شهوة أو كانت من وراء حائل غير مسلم ولا دليل عليه.
أما القول بأنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فغير مسلم لأن التخصيص يحتاج إلى دليل ولا دليل.
2-و 3- حديث عائشة رضي الله عنها أن يدها وقعت على بطن قدمي النبي صلى الله عليه وسلم اعترض عليه من ثلاثة أوجه:
أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملموساً ولا وضوء عليه.
ب-أنه كان داعياً ولم يكن في صلاة وذلك يجوز للمحدث، وليس من شرط الدعاء ألا يكون إلا في الصلاة.
ج-أنه يحتمل أن لمسه لها فوق حائل وهذا هو الظاهر فيمن هو نائم في فراشه.
وأجيب عن هذه الاعتراضات:
بأنها احتمالات فيها نظر ولا دليل عليها، ولو قيل إن اللمس كان بغير شهوة لكان أقرب.
4-حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامه
اعترض عليه من ثلاثة أوجه:
أ-أظهرها أنه لا يلزم من ذلك التقاء البشرتين فحملها لا يقتضي مباشرة بدنها.
ب-أنها صغيرة لمسها لا ينقض الوضوء.
ج-أنها من ذوات المحارم.
وأجيب عما ذكروه بأنه ادعاء يحتاج إلى دليل، ودعوى أنها صغيرة لم يرد دليل يدل على أن لمس الصغيرة لا ينقض الوضوء.
أدلة أصحاب القول الثاني:
1-قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1) .
وجه الدلالة من الآية: أن اللمس هو الجس باليد لكنه مقيد في الآية بقصد الشهوة دون غيره للجمع بين الآية والأحاديث، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمس زوجته في الصلاة، وتمسه، ولو كان ذلك ناقضاً لما فعله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، ومن آية: (6) من سورة المائدة.(44/486)
2-حديثي عائشة وحديث أبي قتادة السابقة في أدلة أصحاب القول الأول.
وجه الدلالة من الأحاديث المذكورة:
أن اللمس لا ينقض الوضوء ولو كان ناقضاً لانتقض وضوء النبي صلى الله عليه وسلم واستأنف الصلاة؛ لأن الظاهر من غمزه رجليها كان من غير حائل.
وكذلك الظاهر أنه لا يسلم من لمس أمامه عند حملها في الصلاة، ولكن لم يكن ذلك ناقضاً للوضوء، لأنه كان من غير شهوة.
3-أن اللمس ضربان أعلى وأدنى، والطهر نوعان أعلى وأدنى، فلما وجب بالأعلى - وهو التقاء الختانين - أعلى الطهرين، وجب أن يجب بالأدنى - وهو ما دونه - أدناهما وهو الوضوء.
4-أن المس ليس بحدث في نفسه، وإنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت الحالة التي يدعو فيها إلى الحدث وهي حالة الشهوة.
5-أن إيجاب الوضوء بمجرد اللمس فيه مشقة عظيمة، وما كان فيه حرج ومشقة فإنه منفي شرعاً.
واعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1-استدلالهم بالآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} اعترض عليه بأن تقييد اللمس في الآية بالشهوة غير مسلم إذ لا دليل عليه.
وأجيب عن هذا: بأن الشهوة مظنة فوجب حمل الآية على ذلك.
2-حديثي عائشة وحديث أبي قتادة سبق الاعتراض عليها والإجابة عليها في أدلة أصحاب القول الأول.
3-ما استدلوا به من المعقول اعترض عليه بأنه في مقابل نصوص من الكتاب والسنة والاستدلال بالنصوص مقدم على الاستدلال بالمعقول.
أدلة أصحاب القول الثالث:
1- قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وقرأ حمزة الكسائي {أو لمستم} بمعنى أو لمستم أنتم أيها الرجال نساءكم وهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأنه لا يكون الرجل لامساً امرأته إلا وهي لامسته.
قال ابن المنذر: "فجائز أن يقال لمن قبل امرأته أو لمسها بيده قد لمس فلان زوجته".(44/487)
ويدل على أن اللمس قد يكون باليد قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: "لعلك قبلت أو غمزت" (2) فظاهر الكتاب والسنة واللغة تدل على أن اللمس يكون باليد وغيره.
والله تعالى أمر اللامس بأن يتيمم عند عدم الماء حيث قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا…} (3) .
ففي ذلك دلالة على انتقاض وضوء الرجل بملامسة المرأة.
2- حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْل…} (4) الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل" قال معاذ فقلت: يا رسول الله أَلَهُ خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: "بل للمؤمنين عامة" (5) .
وجه الدلالة من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر السائل بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.
__________
(1) من آية: (7) من سورة الأنعام.
(2) سبق تخريجه في ص: (216) .
(3) من آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.
(4) آية: (114) من سورة هود.
(5) أخرجه أحمد في المسند 5/244، والترمذي 5/291 باب: ومن سورة هود، وقال: هذا حديث ليس بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ومعاذ بن جبل مات في خلافة عمر …، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/135 في الطهارة باب: الدليل على أن اللمس ما دون الجماع وسكت عليه وتابعه الذهبي، والدارقطني 1/134 وصححه، والبيهقي 1/125 في الطهارة باب: الوضوء من الملامسة، وضعفه الزيلعي في نصب الراية 1/70.(44/488)
3- ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: القبلة من اللمس فتوضّؤوا منها.
4- ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء.
1-أنه لمس يوجب الفدية على المحرم فنقض كالجماع.
واعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1-استدلالهم بالآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ…}
اعترض عليه: أنه جائز في اللغة أن يقال لمن لمس امرأته بيده قد لمسها ولكن الملامسة التي ذكرها الله في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الجماع الموجب للجنابة دون غيره، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} يعني: وقد أحدثتم قبل ذلك {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فأوجب الله عز وجل غسل الأعضاء التي ذكرها بالماء ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} يريد الاغتسال بالماء، فأوجب الوضوء من الأحداث، والاغتسال بالماء من الجنابة، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يريد الجماع الذي يوجب الجنابة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تتوضؤن به من الغائط أو تغتسلون به من الجنابة كما أمرتم به في أول الآية {فَتَيَمَّمُوا} (1) فإنما أوجب في آخر الآية التيمم على ما كان أوجب عليه الوضوء والاغتسال بالماء في أولها وقد تأكد هذا التفسير بفعله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت في الأحاديث السابقة في أدلة أصحاب القول الأول أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويلمس زوجته ولا يتوضأ.
ويؤيد هذا أن ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن والذي استجاب الله فيه دعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم قد فسر اللمس في الآية بالجماع وهو قول جمهور المفسرين وصوبه واختاره الإمام الطبري
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، ومن آية: (6) من سورة المائدة.(44/489)
وورد عن أهل اللغة أن اللمس إذا قرن بالنساء يراد به الوطء تقول العرب: لمست المرأة أي جامعتها.
2-استدلالهم بحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ اعترض عليه من وجهين:
أ-أن الحديث منقطع كما تقدم في تخريجه.
ب-أنه لم يثبت أن السائل كان متوضأ قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء ولا يثبت أنه كان متوضأ عند اللمس فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد انتقض وضوءه
2-ما روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما، اعترض عليه:
أنه لا حجة في قول الصحابي لا سيما إذا وقع معارضاً لما ورد عن الشارع وعلى فرض حجيته يحمل على القبلة التي تكون بشهوة
واعترض على قياس اللمس على الفدية.
أنه قياس مع الفارق لأن لمس المحرم بدون شهوة لا يؤثر في الحج ولا يوجب شيئاً.
الراجح:
هو أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان لشهوة أو لغير شهوة إلا إذا أمنى أو أمذى وذلك لما يلي:
1) أنه لم يرد دليل على أن مجرد اللمس حدث ينقض الوضوء والملامسة الواردة في الآية المراد بها الجماع فسرها بذلك حبر الأمة وترجمان القرآن الذي علمه الله تأويل كتابه واستجاب فيه دعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم وقد ثبت هذا التفسير بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير كما ذكره ابن حجر.
2) أكد هذا التفسير فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يلمس زوجته وهو في الصلاة ولو كان ذلك ناقضاً للطهارة لما فعله وثبت أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.(44/490)
3) أن الأدلة التي استدل بها على أن اللمس ينقض الوضوء تدل على أن مجرد اللمس لا ينقض الوضوء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأما تعليق النقض بمجرد اللمس فهذا خلاف الأصول وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار وليس مع قائله نص ولا قياس فإن كان اللمس في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قال ابن عمر وغيره - فقد علم أنه حيث ذكر مثل ذلك في الكتاب والسنة فإنما يراد به ما كان لشهوة مثل قوله تعالى في آية الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد} (1) ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه بخلاف المباشرة لشهوة وكذلك المحرم الذي هو أشد - لو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه ولم يجب عليه به دم فمن زعم أن قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن بل وعن لغة الناس في عرفهم فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم ومن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى ولا يزال الرجل يمس امرأته فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي صلى الله عليه وسلم بينه لأمته وكان مشهوراً بين الصحابة … فعلم أنه قول باطل.
__________
(1) آية: (187) من سورة البقرة.(44/491)
وقد رجح هذا القول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ومما قال: "إن الأصل عدم النقض حتى يقوم دليل صحيح صريح على ذلك ولم يرد حديث صحيح صريح ولا صحيح غير صريح يوجب على من لمس امرأته الوضوء أما الاستدلال بالآية على وجوب الوضوء من لمس المرأة فهو في غير موضعه، وأن الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي ولا دليل على ذلك، وهذا الأمر مما تعم به البلوى، فلو أوجبنا الوضوء به لكان في ذلك حرج ومشقة، وما كان كذلك فإنه منفي شرعاً، ولأن تقييد النقض بالشهوة لا أعلم له دليلاً أصلاً.
والمرأة كالرجل لا ينتقض وضوءها إذا لمست الرجل سواء كان اللمس بشهوة أو بغير شهوة ما لم ينزل منها شيء
المطلب الثاني
في لمس الأمرد
اختلف العلماء في حكم لمس الأمرد على قولين:
القول الأول: أن لمس الأمرد لا ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة وبه قال الشافعية في الأصح، والحنابلة في المذهب.
القول الثاني: أن لمس الأمرد ينقض الوضوء وبه قال المالكية والشافعية في وجه، والحنابلة في رواية.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1-قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وجه الدلالة: أن الآية لا تتناوله ولا هو داخل في معناها.
2-أنه من جنس لا ينتقض الوضوء بلمسه فكان ما شذ منه ملحقاً بعموم الجنس.
3-أنه ليس محلاً للشهوة، والمرأة محل لشهوة الرجل شرعاً وطبعاً.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1-أنه مما يلتذ بلمسه.
2-أنه محل للشهوة كالمرأة ولأن من الناس - والعياذ بالله - من قلب الله حسه وفطرته فأصبح يشتهي الذكور دون النساء.
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.(44/492)
وهذا خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها، وقد قال بعض أهل العلم إن النظر إلى الأمرد حرام كالنظر إلى المرأة مطلقاً، ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية: لا تجوز الخلوة بالأمرد ولو بقصد التعليم.
الراجح:
أن لمس الأمرد لا ينقض الوضوء إلا إذا خرج من اللامس شيء كما سبق ترجيح ذلك في مسألة لمس المرأة وهذا من باب أولى.
المطلب الثالث
في لمس الرجل للرجل
لمس الرجل للرجل لا ينقض الوضوء فيجوز للرجل أن يمس بدن رجل آخر عدا عورته وهي ما بين السرة والركبة.
لحديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا" (1)
وعن ثابت البناني أن أنساً كان إذا أصبح دهن يده بدهن طيب لمصافحة إخوانه.
وجه الدلالة: أن في ذلك دلالة على جواز مصافحة الرجل لصاحبه ويلزم من ذلك المس إذ لا مصافحة بدون مس.
ولفقد اللذة غالباً في لمسه.
أما عدم جواز مس العورة فلحديث أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (2) .
وجه الدلالة: أن فيه دليلاً على تحريم لمس عورة الغير بأي موضع من بدنه كان وهذا متفق عليه.
المطلب الرابع
في لمس المرأة للمرأة
__________
(1) أخرجه أبو داود 5/388، في كتاب الأدب باب: في المصافحة واللفظ له، والترمذي 5/74 في كتاب الاستئذان باب: ما جاء في المصالحة وقال حديث حسن غريب، وابن ماجة 2/1220 في كتاب الأدب باب: المصافحة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/979.
(2) أخرجه مسلم 1/266 في كتاب الحيض باب: تحريم النظر إلى العورات.(44/493)
حكم المرأة مع المرأة كحكم الرجل مع الرجل على حد سواء فكل ما يجوز للرجل أن يمسه من الرجل يجوز للمرأة أن تمسه من المرأة ولا ينتقض به الوضوء فالرجل لا يجوز له أن يرى عورة الرجل ولا أن يمسها وكذلك المرأة لا يجوز لها أن ترى عورة المرأة ولا أن تمسها.
لحديث أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد".
قال النووي: "فيه دليل على تحريم لمس عورة غيره بأي موضع من بدنه كان، وهذا متفق عليه".
في لمس المحارم وما اتصل بالجسم ووضوء الملموس
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في لمس المحارم والصغيرة.
المطلب الثاني: في لمس ما اتصل بالجسم كالشعر والظفر والسن.
المطلب الثالث: في وضوء الملموس.
المطلب الأول
في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت والخالة
وغيرهن من المحارم والصغيرة
تقدم في المبحث الأول قبل هذا المبحث الكلام على لمس المرأة عموماً ولما كان لمس المحارم والصغيرة قد يتوهم أنه لا خلاف فيه افردته بمطلب مستقل بينت فيه خلاف العلماء وهو كما يأتي:
اختلف العلماء في لمس المحارم والصغيرة هل ينقض الوضوء أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أن لمس المحارم والصغيرة لا ينقض الوضوء، وبه قال الحنفية والشافعية في المذهب، والحنابلة في رواية.
القول الثاني: أن لمس المحارم والصغيرة كلمس الأجنبية ينتقض به الوضوء إذا كان بشهوة، وبه قال المالكية والشافعية في قول، والحنابلة في المذهب.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:(44/494)
1- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة، قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي صلى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت إليه ثم أخذت بيده".
2- حديث أبي قتادة الأنصاري صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب - بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها".
وجه الدلالة من الحديثين: أنهما قد دلا على جواز لمس المحارم وأن ذلك لا يؤثر في نقض الوضوء لا سيما حمل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامه وهو يصلي
3- أن لمس المحارم والصغيرة لا يفضي إلى خروج شيء فأشبه لمس الرجل الرجل
4- أن الاعتبار في اللمس في الغالب أنه للشهوة وهذا مفقود في المحارم 5) وقد سبق في مسألة لمس الرجل للمرأة ما على هذه الأدلة من اعتراضات والجواب عليها.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- عموم قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وجه الدلالة: أن الشهوة مظنة الحدث فوجب حمل الآية عليه، وهي لم تفرق بين الأجنبية وغيرها من النساء.
قال ابن قدامة: "واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع".
2- أن اللمس يؤثر في نقض الوضوء فلا فرق فيه بين المحارم والأجنبيات والصغائر والعجائز كالإيلاج.
3- ولأن ما نقض الطهر من الأجانب نقضه من ذوات المحارم كلمس الفرج والتقاء الختانين.
وقد سبق في مسألة لمس المرأة ما على هذه الأدلة من اعتراضات والجواب عليها.
الراجح:
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، ومن آية: (6) من سورة المائدة.(44/495)
هو عدم نقض الوضوء بمس المحارم والصغيرة إلا إذا خرج منه شيء لما ذكرت في عدم النقض بلمس المرأة ما لم ينزل شيء وهنا عدم النقض من باب أولى.
المطلب الثاني
في لمس ما اتصل بالجسم
كالشعر والظفر والسن
تقدم الكلام على لمس العورة وغيرها من البدن، وهنا أبين حكم ما اتصل بالبدن هل له حكم البدن في نقض الطهارة وعدم النقض أم لا؟
اختلف العلماء في نقض الوضوء بلمس ما اتصل بالبدن كالشعر والظفر والسن على قولين:
القول الأول: أن لمس ما اتصل بالبدن كالشعر والظفر والسن لا ينقض الوضوء وهو قول الحنفية والشافعية في المذهب والحنابلة.
القول الثاني: أن لمس ما اتصل بالبدن ينقض الوضوء وهو قول المالكية وبعض الشافعية.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- أنه لا يلتذ بلمس هذه الأشياء وإنما يلتذ بالنظر إليها.
2- أن هذه الأشياء لا يقصد لمسها للشهوة غالباً وإنما تحصل اللذة وتثور الشهوة عند التقاء البشرتين للإحساس.
3- أن هذه الأشياء في حكم المنفصل ولا حياة فيها ولا شعور وهي إنما تحدث بعد كمال الخلقة فهي باللباس أشبه.
4- أن ذلك مما لا يقع الطلاق على المرأة بتطليقه ولا الظهار، ولا ينجس الشعر بموت الحيوان، ولا بقطعه منه في حياته.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- عموم قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وجه الدلالة: أن له حكم البدن لاتصاله بالبدن.
2- ولأن الشعر له حكم البدن في الحل بالنكاح ووقوع الطلاق بإيقاعه عليه ووجوب غسل الجنابة وغير ذلك من الأحكام فأُلحق به.
3- أنه جزء من البدن متصل به اتصال خلقه فأشبه اللحم.
وقد سبق الاعتراض على بعض هذه الأدلة والإجابة عليها في مسألة لمس المرأة.
والراجح في المسألة:
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.(44/496)
هو عدم انتقاض الوضوء بلمس هذه الأشياء فقد سبق في مسألة لمس المرأة عدم انتقاض الوضوء ما لم ينزل منه شيء فعدم النقض بلمس هذه الأشياء من باب أولى.
المطلب الثالث
حكم وضوء الملموس
تبين فيما سبق حكم وضوء اللامس وفي هذا المطلب أبين حكم وضوء الملموس ولا شك أن أثر اللمس على الملموس بالنسبة لنقض الطهارة أقل منه على اللامس.
وقد اختلف العلماء في انتقاض وضوء الملموس باللمس على قولين:
القول الأول: أن وضوء الملموس لا ينتقض سواء كان رجلاً أو امرأة، وهو قول الحنفية والشافعية في وجه، والحنابلة في المذهب.
القول الثاني: أن وضوء الملموس ينتقض وهو قول المالكية والشافعية في الأصح، والحنابلة في رواية.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وجه الدلالة: أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء فيتناول اللامس من الرجال فيختص به النقض كلمس الفرج.
2- أن عائشة رضي الله عنها لمست قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فما أنكر ذلك.
3- ولأن اللمس الموجب للوضوء يختص باللامس دون الملموس.
4- ولأن الشهوة من اللامس أشد منها في الملموس وأدعى إلى الخروج، فلا يصح القياس عليه، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.
5- ولأن الملموس لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (2) .
وجه الدلالة: من الآية: أن الله أوجب الوضوء على اللامس والملموس لاشتقاقه من المفاعلة.
2- أنه لمس بين رجل وامرأة ينقض طهر اللامس فنقض طهر الملموس كالجماع.
3- ولأنهما قد اشتركا في الالتذاذ به فوجب أن يشتركا في انتقاض الوضوء به كالتقاء الختانين.
__________
(1) من آية: (43) من سورة النساء، وآية: (6) من سورة المائدة.
(2) من آية (43) من سورة النساء، وآية (6) من سورة المائدة.(44/497)
4- ولأن الملموس مظنة لنزول الحدث وهو المذي كاللامس.
الراجح:
هو عدم انتقاض وضوء الملموس ما لم ينزل منه شيء كما سبق في مسألة لمس المرأة وعدم انتقاض الوضوء في الملموس من باب أولى.
الفصل الثالث
في لمس الميت والمصحف
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في لمس الميت.
المبحث الثاني: في لمس المصحف.
المبحث الأول
في لمس الميت
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في لمس الميت أثناء تغسيله.
المطلب الثاني: في لمس الميت أثناء حمله أو غيره.
المطلب الأول
في لمس الميت أثناء تغسيله
من المسائل المتعلقة باللمس لمس الميت أثناء الغسل يجب به الغسل أو لا؟.
اختلف العلماء في لمس الميت أثناء تغسيله على قولين:
القول الأول: أن الغسل لمن غسل الميت سنة وليس بواجب، وبه قال أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، والحسن، والنخعي، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر وهو قول أبي حنيفة، ومالك والشافعي، وأحمد
القول الثاني: أن الغسل لمن غسل الميت واجب وهو مروي عن علي، وأبي هريرة، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والزهري وهو قول الشافعي في القديم، وأحمد في رواية، وابن حزم.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- حديث صفوان بن عسال قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم".
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنزع الخفاف من الجنابة لوجوب الغسل الذي لا يتحقق إلا بالنزع ولم يأمر بنزع الخفاف من غسل الميت فدل على عدم وجوب الغسل من غسله.
2- حديث عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر رضي الله عنهما غسلت أبا بكر حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: "إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل عليَّ من غسل؟ قالوا: لا".(44/498)
قال الإمام الشوكاني في كلامه على هذا الحديث: "وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه، وهو أيضاً من القرائن الصارفة من الوجوب، فإنه يبعد غاية البعد أن يجهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجباً من الواجبات الشرعية.
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم".
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل".
5- أن الميت آدمي فلم يجب الغسل من غسله كغسل الحي.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (1) .
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال من غسل الميت والأصل في الأمر الوجوب.
وقد اعترض على الاستدلال بحديث أبي هريرة بما يأتي:
أ-أنه موقوف على أبي هريرة.
ب-على فرض صحته ورفعه يحمل الأمر فيه على الندب.
الراجح:
__________
(1) أخرجه أبو داود واللفظ له 3/511و512 في كتاب الجنائز باب: في الغسل من غسل الميت وقال: وهذا منسوخ وسمعت أحمد بن حنبل وسئل عن غسل الميت فقال: يجزيه الوضوء، والترمذي 3/318 في كتاب الجنائز باب: في غسل الميت وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن، وقد روي عن أبي هريرة موقوفاً، وقد أنكر النووي في المجموع5/185على الترمذي تحسينه لهذا الحديث فقال: قد ينكر عليه قوله أنه حسن بل هو ضعيف، ونقل ابن قدامه في المغني1/279عن ابن المنذرأنه قال: ليس في هذا الباب حديث يثبت. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/137 حسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/609.(44/499)
عدم وجوب الغسل على من غسل ميتاً ويؤيد حمل الأمر في الحديث على الندب ما سبق من الأدلة على عدم الوجوب، ولأنه يستبعد أن يجهل أهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجباً من الواجبات الشرعية، ولأن الحديث فيه شيء من الضعف فلا يكون دليلاً على الوجوب وهذا مبني على قاعدة وهي أن النهي إذا كان في حديث ضعيف لا يكون للتحريم، والأمر لا يكون للوجوب، لأن الإلزام بالمنع أو الفعل يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة لإلزام العباد.
المطلب الثاني
في لمس الميت أثناء الحمل أو غيره
تقدم في المطلب السابق حكم الغسل بالنسبة لمن غسل ميتاً وفي هذا المطلب أبين حكم الوضوء لمن لمس الميت:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن لمس الميت لا ينتقض به الوضوء وهو قول أبي حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية (1) .
القول الثاني: أن لمس الميت ينقض الوضوء وهو قول إسحاق، والنخعي، وأحمد في المذهب
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- أن الوضوء ثبت بدليل شرعي والنقض يحتاج إلى دليل شرعي يرتفع به الوضوء ولا دليل على ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من الإجماع فيبقى على الأصل.
2- أن الميت المسلم طاهر، ومس الطاهر ليس بحدث ولو كان نجساً فمس النجس ليس بحدث أيضاً.
3- أنه غسل آدمي فأشبه غسل الحي.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (2) .
وجه الدلالة من الحديث: أنه قد دل على أن لمس الميت ناقض للوضوء.
__________
(1) انظر: الأصل1/62و63، عمدة القاري 8/48،اللباب1/140الاستذكار1/220، المنتقى1/65،قوانين الأحكام الشرعية 27،المجموع2/203، 5/138، 185،مغني المحتاج1/35، المغني 1/256، الكافي 1/58، الإنصاف 1/215و216.
(2) سبق تخريجه في ص: (289) .(44/500)
2- أن الغالب في الغاسل أن لا يسلم أن تقع يده على فرج الميت - ومس الفرج من نواقض الوضوء - فكان مظنة ذلك قائماً مقام حقيقته كما أقيم النوم مقام الحدث.
وقد اعترض على هذين الدليلين بما يأتي:
حديث أبي هريرة اعترض عليه بأنه ضعيف ولو ثبت فالمراد من قوله "من غسل ميتاً فليغتسل" أي إذا أصابته الغسالات النجسة. وقوله: "ومن حمله فليتوضأ" إذا كان محدثاً ليتمكن من أداء الصلاة عليه.
واعترض على دليلهم الثاني: بأنه قياس غير صحيح فإنه لا يسلم أن مس الفرج ينقض الوضوء.
والراجح:
أن لمس الميت لا ينقض الوضوء، وهو اختيار كثير من العلماء فقد نقل الإمام النووي عن المزني قوله: وقد اجمعوا على أن من مس حريراً أو ميتة ليس عليه وضوء ولا غسل فالمؤمن أولى ثم قال وهو قوي. وقال ابن قدامة عن هذا القول: وهو الصحيح إن شاء الله، وحمل ما نقل عن الإمام أحمد على الاستحباب دون الإيجاب حيث قال: وما روي عن الإمام أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الإيجاب، فإن كلامه
يقتضي نفي الوجوب، فإنه ترك العمل بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من غسل ميتاً فليغتسل" وعلل ذلك بأن الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة فإذا كان لم يوجب الغسل بقول أبي هريرة رضي الله عنه مع احتمال أن يكون من قول رسول صلى الله عليه وسلم فلأن لا يوجب الوضوء بقوله مع عدم ذلك الاحتمال أولى وأحرى.
المبحث الثاني
في لمس المصحف
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في لمس المصحف باليد مباشرة.
المطلب الثاني: في حمل المصحف بدون ملامسته باليد مباشرة.
المطلب الأول
في لمس المصحف باليد مباشرة
من المسائل المتعلقة باللمس لمس المصحف؟
اختلف العلماء في لمس المصحف باليد مباشرة بدون طهارة على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز لمس المصحف باليد مباشرة بدون طهارة وهذا قول جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة.(45/1)
القول الثاني: أنه يجوز لمس المصحف بدون طهارة وهو مروي عن أنس، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وحماد، والحكم وهو قول الظاهرية.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1- قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) .
وجه الدلالة من الآية: أن الخبر في قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} بمعنى النهي ولا يمكن أن يقال إن المقصود الإخبار فقط لأنه يحدث أن يمسه غير طاهر فقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . دليل على أن المقصود هو القرآن والمطهر هو الذي أتى بالوضوء والغسل من الجنابة بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (2) ولا يحمل على غير ذلك إلاَّ بدليل صحيح صريح. .
2- حديث عبد الله بن عمررضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" (3) .
3- ماجاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: "ألا يمس القرآن إلا طاهر".
__________
(1) آية: (77-79) من سورة الواقعة.
(2) آية: (6) من سورة المائدة.
(3) أخرجه الدارقطني واللفظ له 1/121 في كتاب الطهارة باب: في نهي المحدث عن مس القرآن، والبيهقي 1/88 في كتاب الطهارة في باب: نهي المحدث عن مس المصحف، والطبراني في المعجم الصغير 2/408 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/276: ((رجاله موثقون)) وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/140: إسناده لا بأس به.(45/2)
وجه الدلالة من الحديث: أن الطاهر: هو المتطهر طهارة حسية من الحدث بالوضوء أو الغسل، لأن المؤمن طهارته معنوية كاملة، والمصحف لا يقرأه غالباً إلا المؤمنون، فلما قال: "إلاَّ طاهر"علم أنها طهارة غير الطهارة المعنوية، بل المراد الطهارة من الحدث ويدل لهذا قوله تعالى: {ما مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (1) أي طهارة حسية لأنه قال ذلك في آية الوضوء والغسل.
4- أن تعظيم القرآن واجب وليس من التعظيم مس المصحف بيد حلها الحدث.
5- أنه ليس في الوجود كلام أشرف من كلام الله، فإذا أوجب الله الطهارة للطواف في بيته، فالطهارة لتلاوة كتابه الذي تكلم به من باب أولى.
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1) استدلالهم بالآية {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ…} . (2) اعترض عليه أنه لا حجة فيه لأنه ليس أمراً وإنما هو خبر والله تعالى لا يقول إلاَّ حقاً، ولا يحوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلاَّ بنص جلي أو إجماع متيقن، فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه لم يعن المصحف وإنما عنى كتاباً آخر، والمطهرون هم الملائكة.
1) اعترض على حديث عمرو بن حزم بأنه ضعيف لأنه مرسل والمرسل من أقسام الضعيف.
2) اعترض على استدلالهم بالقياس لا يقر به الظاهرية أصلاً
وقد أجيب على هذه الاعتراضات بما يأتي:
1) اعتراضهم على الاستدلال بالآية: أجيب عنه بأنه قد يأتي الخبر بمعنى النهي، بل إن الخبر المراد به النهي أقوى من النهي المجرد، لأنه يصور الشيء كأنه مفروغ منه، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} (3) .
__________
(1) آية: (6) من سورة المائدة.
(2) آية: (79) سورة الواقعة.
(3) آية: (234) من سورة البقرة.(45/3)
وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبيع الرجل على بيع أخيه" (1) بلفظ الخبر والمراد النهي.
2) اعتراضهم على حديث عمرو بن حزم، أجيب عنه بأن من العلماء من صححه كما تقدم في تخريجه، وقبول الناس له واستنادهم عليه فيما جاء فيه من أحكام الزكاة، والديات وغيرها، وتلقيهم له بالقبول يدل على أن له أصلاً، وكثيراً ما يكون قبول الناس للحديث سواء كان علمياً أو عملياً يكون قائماً مقام السند أو أكثر، والحديث يستدل به من زمن التابعين إلى الوقت الحاضر ثم يقال لا أصل له هذا بعيد جداً.
3) أما اعتراضهم على الاستدلال بالقياس فغير مسلم؛ لأن القياس دليل من الأدلة الشرعية المعتبرة.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1. حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه".
وجه الدلالة من الحديث: أن القرآن ذكر ففي ذلك دلالة على أنه يجوز الذكر دون فرق بين متطهر وغير متطهر.
2. حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى هرقل عظيم الروم كتاباً فيه آية من القرآن الكريم".
وجه الدلالة من الحديث: أنه يعلم أنهم سيمسونه على غير طهارة فلو كان ذلك غير جائز لما بعثه إليهم، وإذا جاز مس الآية جاز مس ما هو أكثر منها قياساً عليها.
3. حديث أبي هريرة وحذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المؤمن لا ينجس".
4. ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، كما أنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى.
وقد اعترض على هذه الأدلة بما يأتي:
1) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه.
اعترض عليه: أن المقصود بالذكر فيه غير القرآن، لأنه هو المفهوم من الذكر عند الإطلاق.
__________
(1) أخرجه البخاري 3/24 من حديث أبي هريرة في كتاب البيوع باب: لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه.(45/4)
2) استدلالهم بحديث ابن عباس في قصة هرقل: اعترض عليه بأن الذي أرسل إليه هو كتاب فيه آية قصد به المراسلة، والآية في الرسالة أو كتاب فقه ونحوه لا يسمى بها الكتاب مصحفاً ولا تثبت له بها حرمة فهو خارج عن محل النزاع (1) .
3) استدلالهم بقوله:"إن المؤمن لا ينجس" اعترض عليه أنه ليس فيه ما يدل على جواز القراءة بدون طهارة، لأن الحديث دل على طهارة المسلم وأنه لا يصير نجساً إذا أجنب أما إباحة الأفعال التي تشترط لها الطهارة فلم يتعرض لها بدليل أنه لم يحتج به أحد على صحة الصلاة بدون طهارة.
4) استدلالهم بحمل الصبيان للألواح: اعترض عليه بأن إباحته كانت للضرورة.
والراجح:
هو عدم جواز مس المصحف بغير طهارة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلاَّ طاهر" والطاهر يطلق على الطاهر من الحدث الأصغر والأكبر لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (2) ولم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبر عن المؤمن بالطاهر لأن وصفه بالإيمان أبلغ، فتبين من ذلك أنه لا يجوز أن يمس القرآن من كان محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر ولأن القرآن كلام الله وهو أشرف الكلام وأعظمه فكان جديراً بمن يريد مسه أن يكون على طهارة ولأن أدلة من أجاز مسه بدون طهارة ليست صريحة في الدلالة على ذلك ولم تسلم من الاعتراض.
المطلب الثاني
في حمل المصحف بدون ملامسته باليد مباشرة
كحمله بعلاقة أو مسه بحائل كثوب ونحوه
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم جواز ذلك إلا بطهارة وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد في رواية.
القول الثاني: جواز ذلك وهو قول أبي حنيفة، وأحمد في المشهور.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
1-عموم الأدلة في منع مس المصحف لغير الطاهر
2-أن الحمل أبلغ من المس.
__________
(1) انظر: المجموع 2/172، المغني 1/203.
(2) آية: (6) من سورة المائدة.(45/5)
واستدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:
1-أن من حمل المصحف بعلاقة ونحوها غير ماس له، فلم يمنع منه كما لو حمله في رحله.
2-أن الأدلة التي ورد فيها المنع إنما تتناول المس والحمل ليس بمس فلا يتناوله المنع.
والراجح:
هو جواز ذلك لوجاهة ما استدل به من قال به ولأن الحاجة قد تستدعي ذلك وقد أفتى بهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث أجاب وقد سئل عن ذلك؟ فقال: "ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشة وفي خرجه وحمله ولا بأس أن يحمله بكمه ولكن لا يمسه بيديه" ورجح هذا القول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
الخاتمة
في ختام هذا البحث أحمد الله وأشكره أولاً وآخراً على نعمه التي لا تعد ولا تحصى ومنها ما منَّ به عليَّ من إتمام هذا البحث الذي أحب أن أختمه بذكر أهم ما توصلت إليه من نتائج وتتلخص فيما يأتي:
1-أن من لمس فرجه بغير يده من أعضائه لا ينتقض وضوؤه.
2-أن من مس ذكره استحب له الوضوء مطلقاً سواء مسه بشهوة أو بغير شهوة، وإذا مسه بشهوة فالأحوط وجوب الوضوء. وهذا فيمن مس ذكره ومن مس ذكر غيره من باب أولى.
3-أن المرأة إذا مست فرجها استحب لها الوضوء مطلقاً سواء مست بشهوة أو بغير شهوة وإذا مست بشهوة فالقول بالوجوب أحوط.
4-أن لمس الأنثيين والألية والعانة لا ينقض الوضوء.
5-أن لمس فرج البهيمة لا ينقض الوضوء.
6-أنه لا فرق في اللمس بين بطن الكف وظهره وأنه لا ينتقض وضوؤه ما لم ينزل منه شيء.
7-أنه لا فرق في اللمس بين القصد وغير القصد إذ كل معنى نقض الطهر مع القصد نقضه مع غير القصد أصله الحدث.
8-أن اللمس من وراء حائل لا ينقض الوضوء ما لم ينزل منه شيء.
9-أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان لشهوة أو لغير شهوة إلاَّ إذا أمنى أو أمذى.
10-أن لمس الأمرد لا ينقض الوضوء إلاَّ إذا خرج منه شيء.
11-جواز مس الرجل للرجل عدا عورته وكذلك مس المرأة للمرأة عدا عورتها.(45/6)
12-أن لمس المحارم والصغيرة لا ينقض الوضوء ما لم ينزل منه شيء.
13-أن لمس ما اتصل بالجسم كالشعر والسن والظفر لا ينقض الوضوء.
14-عدم انتقاض وضوء الملموس ما لم ينزل منه شيء.
15-عدم وجوب الغسل على من غسل ميتاً.
16-أن لمس الميت لا ينقض الوضوء.
17-عدم جواز مس المصحف بدون طهارة.
18-جواز حمل المصحف بدون ملامسته باليد كحمله بعلاقة ونحوه.(45/7)
العدد 116
فهرس المحتويات
1- المدبج ورواية الأقران: د. موفق بن عبد الله بن عبد القادر
2- قاعدة في الصبر: لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق أ. د. محمد بن خليفة التميمي
3- كتاب الكبائر: للحافظ أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي تحقيق د. محمد بن تركي التركي
4- رعاية المصلحة والحكمة في تشريع نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) : د. محمد طاهر حكيم
5- المنصوب على نزع الخافض في القرآن: الدكتور إبراهيم بن سليمان البعبمي
6- الأزد ومكانتهم في العربية
... تابع (1)
الدكتور أحمد بن سعيد محمد قشاش
7- التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية: د / خالد بن حامد الحازمي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(45/8)
المدبج ورواية الأقران
إعداد
د. موفق بن عبد الله بن عبد القادر
الأستاذ المشارك في كلية الدعوة في جامعة أم القرى
مقدمة
الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتَّقين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خاتمِ المُرسلينَ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
أما بعد، فإنَّ مناهج رواية الحديث النَّبويّ الشَّريف قد لقيت عنايةً فائقةً مِنَ المُحَدِّثينَ قَلَّ أن نَجِدَ لها مثيلاً في بقيَّةِ العلومِ، ولَمَّا كان الإسنادُ هو الطَّريق إلى الحديثِ، فقد اهتمَّ به المُحدِّثون.
قال الحاكم النَّيسابوريُّ: لولا الإسنادُ، وطلب هذهِ الطَّائفة لهُ، وكثرة مواظبتهم على حفظهِ، لدرسَ منار الإسلامِ، ولتمكنَ أهلُ الإلحادِ والبِدَعِ فيهِ، بوضعِ الأحاديث، وقلب الأسانيدِ، فإنَّ الأخبارَ إذا تَعَرَّت عن وجودِ الأسانيدِ فيها كانت بتراء.
قال عبدُاللَّهِ بنُ المُبارك: الإسنادُ مِنَ الدِّينِ، ولولا الإسناد لَقَالَ مَن شاءَ ما شَاء.
هذا وقد ظهرت القاعدة المشهورة: إنَّ هذا العلم دينٌ، فانظروا عَمَّن تأخذونَ دينكم.
إنَّ العنايَةَ الفائقة بالأسانيد في الرِّوايةِ أضحت خَصيصة مِن خصائص هذهِ الأمَّة، حتَّى قال محمدُ بنُ حاتِم بنِ المُظَفَّرِ: إنَّ اللَّهَ أكرمَ الأمَّة وشَرَّفها وفَضَّلها بالإسنادِ، وليسَ لأحدٍ مِنَ الأُممِ كُلِّها قديمهم وحديثهم إسنادٌ، وإنَّما هي صُحفٌ في أيديهم.
وقال ابنُ أبي حاتمٍ الرَّازيُّ: لم يكن في أُمَّةٍ مِنَ الأُممِ منذ خلقَ اللَّهُ آدمَ أمناء يحفظونَ أثار الرُّسل إلاَّ في هذهِ الأُمَّةِ.(45/9)
وقال ابنُ حزمٍ: نقلُ الثِّقَة، عن الثِّقةِ يبلغ به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مع الاتصالِ، خصَّ به اللَّهُ المُسلمينَ دون سائر الملل، وأمَّا مع الإرسالِ والاتصال، والإعضال، فيوجد في كثيرٍ من اليهود، لكن لا يقربونَ فيه من موسى قريباً من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بل يقفونَ بحيثُ يكون بينهم وبينَ موسى أكثر مِن ثلاثينَ عصراً، وإنَّما يبلغون إلى شمعونَ، ونحوه.
وأمَّا النَّصارى فليس عندهم مِن صفة هذا النَّقل إلاَّ تحريم الطَّلاق فقط، وأمَّا النَّقل بالطُّرقِ المشتملة على كذَّاب، أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنَّصارى.
وأمَّا أقوال الصَّحابة والتَّابعينَ، فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبيٍّ أصلاً، ولا إلى تابعٍ لهُ، ولا يمكن النَّصارى أن يصلوا إلى أعلى مِن شمعون وبولص.
إنَّ رواية المُحَدِّثين للأخبار لم تكن روايةً عشوائية، وإنَّما كانت تندرج تحت ضوابط وقوانينَ تتسم بالموضوعية، فقد وضعوا شروطاً لمعرفة مَن تُقبل روايتُهُ، وما يتعلَّق بهِ مِن جرحٍ وتعديل، كما سَنُّوا قواعدَ في معرفة كيفية سَماع الحديث وتحمُّلِهِ وصفةِ ضبطهِ.(45/10)
ومن الوسائل التي اتَّبعها المُحَدِّثون في أنواع الرِّوايةِ، والتي تُعَدُّ من وسائل توثيقِ النُّصوصِ وضبطها، ابتكارهم لأنماطٍ مختلفة من أنماط الرِّواية، والتي تدلُّ على الدِّقَّةِ في التَّصنيف في بعض أنواعِ التَّحمُّلِ مثل: رواية الأكابرعن الأصاغِر، ورواية التَّابعين عن بعضهم، ومَن روى عن أبيهِ عن جدِّهِ، والرواة من الإخوة والأخوات، والمُدَبَّج، ورواية الأقرانِ، والأسانيد القائمةعلى أساس المدن، كالأسانيد الحِجازيَّة، أو المكيَّة، أو المَدنيَّة، أو البصريَّة، أو الكوفيَّة، أو الشَّاميَّة، واختلاف الروايات للكتاب الواحد، وفنّ المستخرجات، وعلم الأثبات ومعاجم الشُّيوخ والمشيخات.. وغير ذلك من التَّصنيفات المختلفة، والتي يستشفُ منها الباحث المُدقق أنَّ المُحَدِّثينَ قد قطعوا شوطاً بعيداً في علم الرواية، وأنَّ بحوثهم قد أعطت الباحث الواعي، والدَّارس المتمكنَ والموضوعيّ القدرة على التَّحركِ، ووضعت بينَ يديهِ الوسائل التي تعينهُ على التَّثبتِ مِن صحَّةِ الأسانيدِ، وتدقيق الرِّواياتِ، وتميزت بحوثهم المختلفة بالابتكار والإبداع والتي استطاعوا بها أن ينشروا السُّنَّة ويحافظوا عليها بنجاحٍ منقطع النَّظير، وأنَّ السَّواد الأعظم من المُحدِّثين كان يُدركُ أنَّ علم الرِّواية لم يكن طحناً في الماءِ، وإنَّما هو عِلْمٌ مُنَسَّقٌ، قائمٌ على قواعدَ مفصَّلةٍ وعميقةٍ.
وبحثنا هذا هو حلقةٌ مِن سلسلةِ بحوث مماثلة كتبتها وتناولت علم الرِّواية وأثرهُ في توثيق النُّصوصِ وضبطها، وقد تناول جانباً من جوانبَ علم الرِّوايةِ والذي قد صَنَّفَ فيه العُلماءُ الكبارُ مُصَنَّفات لم نقف عليها في وقتنا الحاضر، وبقيت منهُ أبحاثٌ توزعتها كتب علم أصول الحديثِ المُختلفة، أو بعض الشُّروح الحديثية، وهذا النَّوع هو المُدَبَّجُ، ورواية الأقران.(45/11)
إنَّ الدِّراسة الموضوعيَّة لهذا النَّوع من أنواعِ علوم الحديثِ، تظهر لنا أنَّ هذا النَّوعَ مِنَ المُصَنَّفاتِ هدفهُ إزالة النِّقاب عن الخطأ والوهم الذي قد يتطرَّقُ إلى الإسناد.
وإذا كان ابنُ عباسٍ رضي الله عنه قد حذَّرَ من قَبولِ جرح الأقران بعضهم لبعضٍ، وقال: استمعوا علم العُلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعضٍ، فوالذي نفسي بيدهِ لهم أشدّ تغايراً من التّيوسِ في زروبتها.
وقال الذَّهبيُّ: وكلامُ الأقرانِ بعضهم في بعضٍ لا يُعبأ به لا سيما إذا لاحَ أنَّهُ لعداوةٍ، أو لحسدٍ، ما ينجو منه إلاَّ مَن عصم اللَّهُ، وما علمتُ أنَّ عصراً مِنَ الأعصارِ سلمَ أهلهُ من ذلكَ سوى الأنبياء والصِّدِّيقينَ.
فإنَّ روايةَ الأقران بعضهم عن بعضٍ فيه شهادة بعضهم لبعضٍ على صِحَّةِ المرويات، وإشارةٌ صادقةٌ على تجاوز الكثير منهم للعوامل النَّفسيَّةِ التي تختلجُ في صدور الأقرانِ، والتي حَذَّرَ منها العُلماء.
ونظراً لأهميَّةِ رواية الأقران بعضهم عن بعضٍ في توثيق النُّصوصِ وضبطها، فقد حرص الإمامُ الجِهبذُ أبو عبدِاللَّهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ البُخاريُّ على هذا النَّمط مِن الأسانيدِ في كتابه (الجامع الصَّحيح) ، وكذا اشتملت كتب السُّنَّةِ الأخرى على ذِكرِ هذا النَّوع من المروياتِ، وأدرجتها ضمن مروياتها المُختلفةِ.
إنَّ دراسة مرويات الأقران بعضهم عن بعضٍ ستقودنا إلى معرفةِ تواريخ ولادةِ ووفيات الرُّواة، كما أنَّها ستقدِّمُ لنا نتائج جليلة عن علم طبقات الرُّواة، وتجمع لنا دلائل عن البلدان ورواتها، سيما إذا اجتمعَ في الرِّواية الواحدةِ أهل بلدٍ في نَسقٍ كما سيأتي بيان ذلكَ مِن خلالِ بحثنا هذا.(45/12)
إنَّ الكتابة عن بعضِ الجُزئياتِ في علم مصطلح الحديثِ، والتي لم نقف فيها على مُصَنَّفٍ مستقلٍّ لإمامٍ ناقدٍ، تعني ميلاد عهدٍ جديدٍ لهذا العلمِ، الذي ينتمي إلى طرازٍ مُعيَّنٍ في التَّأليفِ يتَّصِفُ بالإيجازِ والبُعدِ عن الإسهابِ في موضوعاتهِ.
وبحثنا هذا حاولَ أن يُقدِّمَ تحليلاً عميقاً لهذا النَّوع مِنَ أنواعِ مصطلحِ الحديث، وذلكَ مِن خلالِ ما ذكرته كتب مصطلح الحديث مِنَ الأمثلة، مع بيان مارواهُ الإمامُ البُخاريّ رحمهُ اللَّهُ تعالى في (صحيحه) مِن رواية الأقرانِ، والتي قام الحافظ ابن حجرٍ رحمه اللَّهُ تعالى بذِكْرِها، وبيان بعض لطائفها، وبالتالي الخروج بنتائج جديدةٍ عن رواية الأقران، وأهميتهِ، ومحاولة تنظيم هذهِ المادة في صورةٍ تُلقي الضَّوء على جانبٍ من جوانبِ علم الرِّواية عندَ المُحَدِّثينَ، وأثره في توثيق النٌّصوصِ وضبطها.
ولقد حرصتُ في عرضي للمادة أن لا أقسِّم البحث إلى أبوابٍ وفصولٍ، وذلكَ خشية أن يطولَ البحث، وتتشعب جوانبه، كما أنَّي لم أتوسع في تخريج النُّصوصِ، والآثار، نظراً لأنَّ شروط نشر البحوث مرهونة برقمٍ محدد من الصَّفحات.
واللَّهَ الكريم أسأل التَّوفيقَ والسَّداد، ومنهُ استمدُ العونَ، وعليه التُّكلان، وهو حسبي ونعمَ الوكيل، وصلَّى اللَّهُ على سيدِنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
أولاً: تعريف المُدبَّج:
أ- المدبَّج لُغَةً: اسم مفعول من التَّدْبِيْج، بمعنى التَّزيين.
والمُدَبَّجُ: المُزَيَّن، ودِيبَاجَةُ الوجهِ وَدِيباجُهُ: حُسن بشرتهِ، وكأنَّ المُدَبَّج سُمِّيَ بذلكَ لتساوي الرَّاوي والمَرْوِي عنهُ، كما يتساوى الخدَّانِ.
ورجلٌ مُدَبَّجٌ: قبيحُ الوجهِ والهامة والخِلقةِ.
ب- المُدبَّجُ اصطلاحاً: أنْ يَرْوي القَرينان كُلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه.
شرحُ التَّعريفِ:(45/13)
قال الإمامُ العراقيُّ: ما المناسبة المُقتضية لتسمية هذا النَّوع بالمُدَبَّجِ وَمن أيٍّ شيءٍ اشتقاقه،؟
لم أرَ مَن تَعَرَّضَ لذلكَ، إلاَّ أنَّ الظَّاهرَ أنَّهُ سُمِّيّ بهِ لِحُسنهِ، لأنَّهُ لُغةً: المُزَيَّنُ، قال صاحبُ (المُحكم) : الدَّبْجُ: النَّقشُ والتَّزيينُ، فارسيٌّ مُعرَّبٌ.
قال: ودِيباجةُ الوجهِ حُسنُ بشرتهِ، ومنهُ تسمية ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه الحَواميم ديباج القرءان.
والرِّواية كذلكَ إنَّما تقعُ لنُكتةٍ يعدلُ فيها عن العُلوِّ إلى المُساواة، أو النُّزول لأجل ذلك فحصل للإسنادِ بذلكَ تحسينٌ وتزيين.
قال: ويحتملُ أنهُ سمُّيَ بذلكَ لنزولِ الإسنادِ، فإنَّهما إن كانا قرينينِ نزل كل منهما درجة، وإن كان من رواية الأكابر عن الأصاغر نزل درجتين، وقد روينا عن يحيى بن مَعينٍ قال: الإسنادُ النَّازلُ قُرحة في الوجهِ.
وروينا عن عليِّ ابن المَدينيِّ، وأبي عَمْروٍ المُسْتَمْليِّ قالا: النُّزولُ شؤم. فعلى هذا لا يكونُ المُدَبَّجُ مدحاً لهُ ويكونُ ذلكَ من قولِهِم: رجلٌ مُدَبَّجٌ، قبيحُ الوجهِ والهامةِ، حكاهُ صاحبُ (المُحكم) .
قال العراقيُّ: وفيهِ بُعدٌ، والظَّاهرُ إنَّما هو مدحٌ لهذا النَّوع.
قال: ويحتمل أن يُقالَ: إنَّ القرينين الواقعينِ في المُدَبَّجِ في طبقةٍ واحدةٍ بمنزلةٍ واحدةٍ، فشبها بالخدَّينِ، فإنَّ الخدَّينِ يقالُ لهما: الدِّيباجتان، كما قاله صاحبُ (المحكم) و (الصّحاح) .
قال: وهذا المعنى يتَّجهُ على ما قاله الحاكم، وابنُ الصَّلاحِ: أنَّ المُدَبَّجَ مُختصٌ بالقرينينِ.
قال السَّخاويُّ: وبذلك سَمَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أخذاً مِن دِيباجَتي الوجه، وهما متحدان لتساويهما وتقابلهما.(45/14)
قال الحاكم النَّيْسَابوريُّ: رواية الأقران مِنَ التَّابعينَ وأتباع التَّابعينَ وَمَن بعدهم مِن علماء المسلمينَ، ورواية بعضهم عن بعضٍ، وهذا النَّوع منه غير رواية الأكابر عن الأصاغر. وإنَّما القرينان إذا تقاربَ سِنُّهما وإسنادهما وهو على ثلاثة أجناسٍ:
فالجنس الأول منه الذي سَمَّاهُ بعض مشايخنا المُدَبَّج، وهو أن يروي قرينٌ عن قرينهِ، ثُمَّ يروي ذلك القَرين عنه، فهو المُدَبَّج.
مثاله في الصَّحابة:
أخرج الحاكم بسندهِ: عن أبي هُريرة، عن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها قال: فقدتُ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عليه وسلَّم ذات ليلةٍ مِنَ الفِراشِ، فجعلتُ أطلبهُ بيدي فوقَعت يدي على باطن قدميه وهما مَنصوبتان، فسمعتهُ يقولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ برحمتكَ مِن سَخَطِكَ، وأعوذُ بِمُعافَاتِكَ مِن عقوبَتِكَ، وأعوذُ بِكَ مِنْك لا أُحْصي ثناءً عليك أنت كما أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ".
قال أبو عبْدِ اللَّهِ: وقد روت عائشةُ عن أبي هُريرةَ وسألتهُ عن حديثهِ.
وأخرج الحاكم بسنده: عن علقمةَ أنَّ عائشَةَ قالت لأبي هُريرةَ: أنت حَدَّثت عن رسولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم: أنَّ امرأةً عُذِّبت في هِرَّةٍ؟ فقال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقولُ ذلك الحديث.
مثال آخر: قال الحاكم: عن جابر عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال: "يدخُلُ الجَنَّةَ مَن بايعَ تحتَ الشَّجَرَة إلاَّ صاحِب الجمل الأحمر".
قال أبو عبدِ اللَّهِ: وقد رويَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ، عن جابرٍ.(45/15)
وأخرج الحاكم بسنده: عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: حَدَّثني جابرُ بنُ عبدِاللَّهِ أنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قرأَ: {وإذَا سَأَلَكَ عِبادي عَنِّي فإنِّي قريبٌ أُجيبُ دَعوةَ الدَّاعِ إذا دَعان} الآية. قال صلى اللَّهُ عليه وسلَّم: "اللَّهُم أمرتَ بالدُّعاءِ وتكفَّلتَ بالإجابةِ، لبيكَ لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيكَ إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لكَ والمُلْكْ، لا شَريكَ لَكْ" (1) .
قال أبو عبدِا للَّهِ: ومثالُ ذلكَ في التَّابعين.
وأخرج بسنده عن: الزُّهريِّ، قال: أخبرني عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ بن مروان أنَّ إبراهيمَ بنَ عَبْدِ اللَّه بن قَارظ الزُّهريَّ أخبرهُ أنَّهُ وجدَ أبا هُريرَةَ يتوضَّاُ على ظهرِ المسجِدِ، فقال أبو هريرةَ: إنَّما أتوضأ مِن أثوار أَقِط أكلتها لأنَّ النَّبيَّ صلى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: "توضؤا مِمَّ مَسَّت النَّارُ".
قال أبو عبدِاللَّهِ: وقد روى عمرُ بنُ عبدِالعزيز، عن الزُّهريِّ.
وأخرج بسنده عن: عمرَ بنِ عبدِالعزيز، عن الزُّهريِّ، عن سالم، عن أبيهِ قال: دعا رسولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليهِ وسلم يوَمَ النَّاس للبيعَةِ فجاءَ أبو سِنان بن مُحصِنٍ فقال: يارسول اللَّهِ، أبايعكَ على ما في نَفْسِكَ؟ قال:"وما في نَفْسِي؟ " قال: أضربُ بسيفي بينَ يَديكَ حتَّى يُظْهِرَكَ اللَّهُ، أو أُقتل. قال: فبايعهُ وبايع النَّاس على بيعَةِ أبي سِنان.
قال أبو عبدِاللَّهِ: ومثالهُ في أتباع التَّابعين.
وأخرج بسندهِ، عن: الأوزاعيّ عن مالك بنِ أنسٍ، عن أبي نُعيمٍ وهب ابن كيسان، عن عمرَ بنِ أبي سَلَمَةَ، قال: قال لي رسولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلَّم: "ادن بُنيّ، فسمِّ اللَّهَ وكُل بيمينكَ، وكُل مِمَّا يلكَ".
قال أبو عبدِاللَّهِ: وقد روى مالكُ بنُ أنسٍ، عن الأوزاعِيِّ.
__________
(1) معرفة علوم الحديث: 216.(45/16)
وأخرج بسندهِ عن: مالك بن أنسٍ قال: حدَّثني الأَوْزَاعِيُّ، عن الزُّهريُّ، عن عُرْوَةَ، عن عائشَةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قال: "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمْرِ كُلِّهِ" (1) .
قال أبو عبدِاللَّهِ: ومثالهُ في أتباع الأتباع.
وأخرج بسنده، عن: الإمام أحمد بنِ حَنْبَل قال: حدَّثني عبدُالرَّزاقِ، قال: ثنا عمرُ بنُ حَوْشَبٍ، قال: حدَّثني إسماعيلُ بنُ أُمَيَّةَ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، قال: كان لهم غُلامٌ يُقال لهُ طَهمان، أو ذَكوان، قال: فأعتق جدُّهُ نصفهُ، قال: فجاء العبدُ إلى النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلَّم فأخبرهُ، فقال النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم: "يُعتق في عُنقك، ويُرقّ في رِقِّكَ"، فكان يخدم سيدهُ حتَّى مات.
قال أبو عبدِاللَّهِ: وقد حَدَّثَ عبدُالرَّزاق، عن أحمدَ بنِ حَنْبَل.
وأخرج بسنده عن: عبدُالرَّزاق، قال: حدَّثني أحمدُ بنُ حَنْبَل، عن الوليدِ ابنِ مُسلِمٍ، عن زيد بنِ واقدٍ، قال: سمِعْتُ نافِعاً مولى ابن عمر يقولُ: كان ابنُ عمرَ إذا رأى مُصَلِّياً لا يرفعُ يديهِ في الصَّلاةِ حصبهُ وأمرهُ أن يرفع يديه.
قال أبو عبدِاللَّهِ: ومِثال ذلكَ في الطَّبقةِ الخامسة: حدَّثنا أبو عبدِاللَّهِ محمدُ بنُ يعقوبَ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ محمدِ بن يحيى، قال: حدَّثنا أبي، قال: ثنا سعيدُ بنُ واصلٍ، قال ثنا شُعبةُ، عن عبدِاللَّهِ بنِ صُبيحٍ، عن محمدِ ابنِ سيرينَ، أنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلم، قال: "هذا خالي فمن شَاء منكم فليُخرج خالهُ" يعني أبا طلحةَ زوج أمّ سُلَيمٍ في الكرمِ قال هذا.
قال أبو عبدِاللَّهِ: وقد حدَّثَ محمدُ بنُ يحيى، عن ابنه يحيى بن محمدٍ بأحاديثَ.
__________
(1) معرفة علوم الحديث: 217-218.(45/17)
حدَّثنا أبو عبدِاللَّه محمدُ بنُ يعقوبَ، قال: ثنا أبو عمرو المُسْتَمليُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: حدَّثني ابني أبو زكريا، قالَ: ثنا عبدُالرَّحمن بنُ المبارك العَيشيُّ، قال: حدَّثنا قريشُ بنُ حَيَّانَ، عن بكر بنِ وائلٍ، عن الزُّهريِّ، عن أبي عبدِاللَّهِ الأغَر، عن أبي هريرةَ، قال: لا تُكلموهم إذا أقبلوا، ولا تسبُّوهم إذا أدبروا، يعني السُّعاة.
قال أبو عبدِاللَّهِ: ومثال ذلك في الطَّبقة السَّادسة: أخبرنا أبو بكرٍ محمدُ ابنُ داودَ بنِ سُليمانَ الزَّاهدُ، قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ محمدِ بنِ سعيدٍ الكوفِيُّ، قال: حدَّثنا يعقوبُ بنُ يوسُفَ الضَّبِيُّ، قال: ثنا أبو جُنادةَ، عن عُبيدِاللَّهِ بنِ الحَسَنِ، عن ابنِ سيرينَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: "إحدى صَلاتي العِشَاء"، فذكَرَ الحديث.
قال أبو عبدِاللَّهِ: وقد روى أبو العَبَّاسِ بنُ عُقْدَةَ، عن شَيخِنا أبي بكرِ بن داودَ.
حَدَّثني أبو ذَرّ بن المنذِرِ المُفيدُ بالكوفةِ، قال: حدَّثنا أبو العبَّاسِ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا أبو بكرٍ محمدُ بنُ داودَ النَّيْسَابُوريُّ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ أحمدَ بنِ زيادٍ، قال: حدَّثنا خالدُ بنُ الهَيَّاجِ، عن أبيهِ، عن مِسْعَرٍ، عن وَبرةَ، عن ابنِ عمرَ: أنَّ النَّبيَّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صلَّى في البيتِ.
قال أبو عبدِاللَّهِ: هذا الذي ذكرتُهُ الجنس الأوَّلُ، مِنَ الأقرانِ، وهو الذي سمَّاهُ بعض مشايخنا المُدَبَّج.
ومن أمثلة المُدَبَّجِ: في الصَّحابةِ: أبو هريرة، وعائشة، روى كلٌ منهما عن الآخر.
وفي التَّابعين: الزُّهريّ، عن أبي الزُّبير، وأبو الزُّبيرعن الزُّهرِيِّ، والزُّهريّ عن عمر بن عبد العزيز، وعمر بن عبد العزيز عن الزُّهريِّ.
وفي أتباعهم: مالك، عن الأوزاعيّ، والأوزاعيُّ عن مالكٍ.(45/18)
وفي أتباع التَّابعينَ: أحمد، عن ابن المدينيّ، وابن المدينيّ عن أحمد، مع نزاع في كونهما قرينينِ.
قال السَّخاويّ: وفي المُتأخرينَ: المِزِّيّ، والبِرْزاليّ، وشيخنا، والتَّقيّ
الفَاسيّ كذلك.
ثانياً: روايةُ الأقران:
تعريفُ الأَقران:
أ- لغة: الأقْرَانُ جمعُ قَرِين، بمعنى المُصَاحِب.
والاقْتِرَانُ: كالازْدِواج في كونهِ اجتماعَ شَيْئَيْنِ أو أشياءَ في مَعْنًى مِنَ المَعاني.
والقَرْنُ: أهلُ كلّ زمان، وهو مِقْدار التَّوسُّط في أعمار أهل كلّ زمانٍ، مأخوذٌ مِنَ الاقترانِ، وكأنَّهُ المِقْدَار الذي يَقْتَرِنُ فيهِ أهل ذلكَ الزَّمان في أعمارهم وأحوالهم.
ب- اصطلاحاً: هم المُتقاربونَ في السِّنِّ، والإسنادِ.
شَرْحُ التَّعريف:
إذَا تماثلَ، أو تقاربَ الرُّواة في الأعمارِ والإسنادِ، أي في الأخذِ عن الشُّيوخِ، حصلت المُقارنة، وإن تفاوتوا في الأعمارِ.
وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ: فإن تشاركَ الرَّاوي وَمَن روى عنهُ في أمرٍ مِنَ الأمورِ المُتعلِّقةِ بالرِّوايةِ مثل: السِّن، واللّقي، وهو الأخذُ عن المشايخِ، فهو النَّوع الذي يُقالُ لهُ: رواية الأقرانِ، لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ راوياً عن قرينه.
من أمثلة رواية الأقران:
ومثالهُ: ما أخرجه الحاكم بسنده من طريق: المُعْتَمِر بن سُليمانَ، عن أبيه، عن مِسْعَر، عن أبي بكر بنِ حفص، عن عبدِاللَّهِ بنِ الحَسَنِ، عن عبدِاللَّهِ بنِ جَعفرٍ، قال في شأن هؤلاءِ الكلمات: "لا إلهَ إلاَّ اللَّه الحَليمُ الكريمُ، سبحان اللَّه ربّ العرش العظيم، الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمين، اللَّهم اغفر لي، اللَّهم ارحمني، اللَّهم تجاوز عنِّي، اللَّهم اعف عنِّي فإنَّكَ عفوٌّ غفور"، قال عبدُاللَّهِ بنُ جعفرٍ: أخبرني عمِّي أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم علَّمهُ هؤلاء الكلمات.
قال أبو عبدِاللَّه: مِسْعَرُ وسُليمان التَّيْمِيّ قرينان إلاَّ أنِّي لا أحفظ لِمِسْعَر عنهُ رواية.(45/19)
وأخرج الحاكمُ بسندهِ، عن: زائدة، عن زهير، عن أبي إسحاقَ، عن عمرو بنِ ميمون، عن عبدِاللَّهِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ إذَا دَعا دَعا ثلاثاً.
قال أبو عبدِاللَّهِ: زائدة بن قُدامةَ، وزهير بن مُعاويةَ قرينان، إلاَّ أنِّي لا أحفظ لزهير عنهُ رواية.
وأخرج الحاكم بسندهِ، عن: ابنِ الهاد، عن إبراهيمَ بن سَعْدٍ، عن أبيهِ، عن أبي أُسامةَ، عن عائشةَ، عن النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم قال: "قد كانَ يكونُ في الأُممِ مُحَدَّثونَ، فإنْ يَكُنْ في أُمَّتي أحدٌ فعمر بن الخَطَّابِ".
قال أبو عبد اللَّهِ: يزيد بن عبدِاللَّه بن أُسامةَ بن الهاد، وإن كانَ أسند وأقدم مِن إبراهيمَ بن سعدٍ فإنَّهما في أكثر الأسانيد قرينان، ولا أحفظ لإبراهيمَ ابنِ سَعْدٍ عنهُ رواية.
وأخرجِ الحاكمُ بسنده عن: سُليمان بن طَرْخَانَ، عن رَقَبَةَ بنِ مَصْقَلَةَ، عن أبي إسحاقَ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، قال: ذَكر رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلم الغُلام الذي قتلهُ الخُضر، فقال: "طُبعَ كافراً".
قال أبو عَبْدِاللَّهِ: سليمان بن طَرْخانَ، ورقبة بن مَصْقَلَةَ قرينان، ولا أحفظُ لرقبةَ عنهُ رواية، فقد جعلتُ هذهِ الأحاديثَ مثالاً لمعرفة الأقرانِ، وأنَّه غير رواية الأكابر عن الأصاغر.
قال السَّخاويُّ: روى كلّ من الثَّوريِّ، ومالك بن مِغْوَلٍ، عن مِسْعَرٍ، وهم أقران، والأعمشِ، عن التَّيْمِيِّ، وهما قَرينان، والزَّين رضوان، عن الرَّشيديِّ، وهما قرينان من شيوخنا.
وقد يجتمعُ جماعةٌ مِنَ الأقرانِ في سلسلةٍ كروايةِ أحمد، عن أبي خيثمة زهير ابن حربٍ، عن ابن مَعينٍ، عن عليِّ بن المَدينيِّ، عن عُبيدِاللَّهِ بنِ مُعاذٍ، لحديثِ أبي بكر بن حفصٍ، عن أبي سلمةَ، عن عائشةَ: "كانَ أزواجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يأخُذْنَ مِن شُعُورِهِنَّ حَتَّى تكونَ كالوفرة"، فالخمسة كما قال الخطيبُ: أقرانٌ.(45/20)
ورواية ابن المُسيّبِ، عن ابنِ عُمرَ، عن عُمَرَ، عن عُثمانَ، عن أبي بكرٍ الحديثِ "ما نجاة هذا الأمر"، ففيه أربعةٌ مِنَ الصَّحابة في نسقٍ.
وكذا اجتمعَ أربعةٌ مِنَ الصَّحابةِ في عدَّة أحاديثَ بعضها في (الصَّحيحين) ، وغيرهِما، وأفردَ فيهِ كلٌّ مِن عبدِالغني بن سعيدٍ المِصْرِيِّ، وأبي الحجَّاجِ يوسُفَ ابنِ خليلٍ الدِّمشقيِّ، فيما سمعناهُ (جزءاً) ، بل اجتمعَ منهم خمسةٌ في حديثِ "الموتُ كَفَّارةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"، وذلكَ مِن روايةِ: عَمرو بن العاص، عن عُثمان، عن عُمر بن الخَطَّابِ، عن أبي بكرٍ الصِّديقِ، عن بلالٍ، وهو غريبٌ لاجتماع الخلفاء الثلاثة فيه، ويدخلُ في النَّوع قبلهُ ودون هذين العددينِ مِمَّا أكثر فيه اجتمع فيه ثلاثةٌ مِن الصَّحابة، كمُعاوية بنِ أبي سُفيانَ، عن مالكِ بنِ يخامر، على القولِ بصُحبتهِ، عن مُعاذٍ، وكمُعاوية بنِ خَديجٍ، عن مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ، عن أختِهِ أمِّ حبيبةَ.
ثُمَّ مِمَّا أكثرَ مِمَّا يدخلُ في هذا النَّوعِ، ومِمَّا لا يدخلُ كابنِ عُمَرَ، عن كُلٍّ مِن أبيهِ، وأختِهِ حفصةَ.
وأمَّا رواية الليث، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعدِ بنِ إبراهيمَ، عن نافعِ ابنِ جُبيرِ بنِ مُطْعِمٍ، عن عُرْوَةَ بنِ المُغيرَة بنِ شُعبةَ، عن أبيهِ لحديثِ "اتَّبعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بإداوة"، ورواية محمد بن عَجْلانَ، عن محمد بن يحيى بن حبانَ، عن عبدِاللَّهِ ابن مُحَيْريزٍ، عن الصُّنابِحِيِّ، عن عُبادةَ بن الصَّامتِ ففيهِما أربعةٌ مِنَ التَّابعينَ في نسقٍ، ودونَ هذا العدد مِمَّا أمثلتهُ أكثر ما اجتمعَ فيه ثلاثةٌ منهم: كالزُّهْرِيِّ، وعبدِالمَلكِ بنِ أبي بكرِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، عن خارجةَ بنِ زيدِ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ، عن أبيهِ رضي الله عنه.(45/21)
وكذا الزُّهريّ، عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ إبراهيمَ بنِ قَارِظٍ، عن أبي هُريرَةَ، رضي الله عنه، ثُمَّ ما اشتملَ على اثنين فأكثر، ماوجد منهم حسبما أشرتُ إليهِ في المُرْسَلِ في نَسَقٍ، إمَّا ستة، أو سبعة، وفي أشباه ماذكرتُهُ طول، وللخطيبِ (رواية التَّابعينَ بعضهم عن بعضٍ) ، وهو معَ رواية الصَّحابة بعضهم عن بعضٍ الَّذي علمت إفراد نوعٍ منهُ بالتَّأليفِ أيضاً مِمَّا لم يذكرهُ ابنُ الصَّلاحِ وأتباعه، ولكن قد استدركهما بعضُ المُتأخرينَ عليهِ.
الصِّلة بين رواية الأقران، والمُدَبَّج، ورواية الأكابر عن الأصاغِر، وبعض أنواع مصطلح الحديث:
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: فإن تشارك الرَّاوي وَمَن معهُ في أمر مِنَ الأمورِ المُتعلقةِ بالرِّواية، مثل: السِّن، واللَّقي، وهو الأخذُ عن المشايخ فهو النَّوع الذي يُقال لهُ: رواية الأقران، لأنَّهُ حينئذٍ يكونُ راوياً عن قرينه، وإذا روى كلّ منهما، أي القرينينِ عن الآخرِ، فهو المُدَبَّج، وهو أخصّ مِنَ الأوَّل، فكُلّ مُدَبَّج أقرانٌ، وليس كُلّ أقران مُدَبَّجاً ... وإذا روى الشَّيخُ عن تلميذهِ صدق أنَّ كلاً منهما يروي عن الآخرِ، فهل يُسَمَّى مُدَبَّجاً؟ فيه بحثٌ، والظَّاهرُ: لا، لأنَّهُ مِن روايةِ الأكابرِ عن الأصاغِرِ، والتَّدْبيج مأخوذٌ مِن ديباجَتي الوجه، فيقتضي أن يكونَ ذلكَ مُستوياً من الجانبين فلا يجيء فيه هذا.
وإن روى الرَّاوي عَمَّن هو دونهُ، في السِّنِّ، أو في اللُّقيِّ، أو في المقدارِ، فهذا النَّوعُ هو رواية الأكابر عن الأصاغر.
مِن العلوم التي لها صلة بالمُدَبَّج ورواية الأقران:
إنَّ معرفة المُدَبَّج ورواية الأقران تتطلَّب مِنَ المُحَدِّثِ أن يكون على اطِّلاعٍ واسعٍ بعدد مِن أنواع علوم الحديث، والتي تعتبر معرفتها مِن وسائل معرفة المُدَبَّج ورواية الأقران، وَمِن هذهِ الأنواع:
1- معرفة طبقات العلماء:(45/22)
والطَّبَقَةُ في اللُّغة: هم القومُ المُتَشَابِهونَ.
والطبقة في الاصطلاح: الطَّبقةُ قومٌ تقاربوا في السِّنِّ والإسنادِ، أو في الإسنادِ فقط بأن يكون شيوخ هذا هم شيوخ الآخر، أو يُقاربوا شيوخه.
قال ابنُ الصَّلاح: والباحث النَّاظرُ في هذا الفنّ يحتاجُ إلى معرفة المواليد، والوفيات، وَمَن أخذوا عنهُ، وَمَن أخذ عنهم، ونحو ذلك.
ومن فوائده:
1- الأمنُ مِن تداخل المتشابهينَ في اسم، أو كنية، او نحو ذلك.
2- الاطلاع على التَّدليس، والوقوف على حقيقة المراد مِنَ العنعنة.
قال السَّخاويُّ: بين الطَّبقة والتَّاريخ عموم وخصوص وجهي فتجمعان في التَّعريف بالرُّواة، وينفردُ التَّاريخُ بالحوادثِ والطَّبقات بما إذا كان في البدريين مثلاً مَن تأخرت وفاته عَمّن لم يشهدها لاستلزامه تقديم المتأخر الوفاة.
وقد فرق بينهما المتأخرونَ بأنَّ التَّاريخ ينظر فيه بالذَّات إلى المواليد والوفيات، وبالعرض إلى الأحوال، والطَّبقات ينظر فيها بالذَّات إلى الأحوال وبالعرض إلى المواليد والوفيات، ولكن الأوَّل أشبه.
2- معرفة تواريخ الرُّواة والوفيات: وهو التَّعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال في مولد الرُّواة والأئمةِ، من وفاةٍ، وصحَّةٍ، وعَقلٍ، وَبَدَنٍ، ورِحلَةٍ، وحَجٍ، وحِفظٍ، وَضبطٍ.. ويلتحق به ما يتَّفق من الحوادث والوقائع الجليلة ... .(45/23)
إن معرفة سني الوفيات لايستفاد منه معرفة كذب الرُّواة من صدقهم فقط بل له فوائد حديثية أخرى إذ: يتبين به ما في السند من انقطاعٍ، أو عَضلٍ، أو تدليسٍ، أو إرسال ظاهر أو خفيٍّ للوقوف به على أن الرَّاوي مثلاً لم يعاصر من روى عنه، أو عاصره ولكن لم يلقه لكونه في غير بلده وهو لم يرحل إليها مع كونه ليست له منه إجازة أو نحوها، وكون الراوي عن بعض المختلط سمع منه قبل اختلاطه، ونحو ذلك، ورُبَّما يتبين به التَّصحيف في الأنساب، وهو أيضاً أحد الطُّرق الَّتي يتميز بها النَّاسخ والمنسوخ ... ورُبما يستدل به لضبط الرَّاوي حيث يقول في المَروي وهو أوَّل شئ سمعته منه، أو رأيته في يوم الخميس يفعل كذا، أو كان فلان آخر من روى عن فلان، أو سمعت من فلان قبل أن يحدّث ما حدَّث، أو قبل أن يختلط.. .
3- معرفة روايةِ الأَكَابرِ عن الأَصَاغِرِ:
يُعتبرُ بيان رواية الرَّاوي عَمَّن دونَهُ في اللُّقي، أو السِّنِّ أو في المقدار، أحد فنون عِلمِ الرِّجال الَّتي عني بها العُلماءُ، ووَضعوا فيها المؤلَّفات.
وهو نَوعٌ مُهمٌ تدعو إليه الهممُ العليَّةُ، والأنْفُسُ الزَّكيَّةُ، ولذا قيلَ: لايكون الرَّجُلُ مُحدِّثاً حتَّى يأْخُذَ عَمَّن فَوقهُ، ومثلهُ، ودونه، وفائدةُ ضبطه الخوف مِن ظنِّ الانقلاب في السَّنَدِ مَعَ مافيه مِنَ العَمَل بقولهِ صلّى الله عليه وسلَّم: "أنْزلوا النَّاسَ منازلهم" (1) ، ومِن الفائدة أيضاً: أن لايتوهم كون المَرْويّ عنه أكبر وأفضل مِنَ الرَّاوي، لكونه الأغلب، والأصلُ فيه رواية النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في خطبته حديث الجَسَّاسة عن تَميمٍ الدَّاريِّ.
وهو أقسام:
__________
(1) فتح المغيث: 3/157. وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح: 276، صحيح مسلم بشرح النووي: 1/55، وتدريب الرَّاوي: 2/244.(45/24)
أحدُها: أن يكون الرَّاوي أكبر سِنّاً، وأقَدَمَ طبقةً مِنَ المَرْوِيِّ عنه، كرِوايةِ كُلٍّ مِنَ الزُّهريِّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريِّ عن تلميذهما الإمام الجليل مالك بن أنسٍ في خلقٍ غيرهما مِمَّن روى عن مالك مِن شيوخه، بحيث أفردهم الرَّشيدُ العَطَّارُ في مُصَنَّف سَمَّاه: (الإعلامُ بِمَن حَدَّثَ عَن مالكِ بن أنسٍ مِن مشايخهِ السَّادة الأعلام) .
الثاني: أن يكون الرَّاوي أكبر قَدْراً – لا سِناًًّ - مِنَ المَرْويِّ عنهُ، أي أكبر وأعلم، كرواية مالك، وابن أبي ذِئبٍ عن شيخهما عبد الله بن دينار وأشباهه.. .
الثالث: أن يكونَ الرَّاوي أكبر في السِّنِّ، والقَدْرِ مِنَ المَرْويِّ عَنْهُ، كرِوَاية كثيرٍ مِن العُلماءِ عن تَلامِذتِهِم، مثل رِواية عبد الغني بن سعيد الأزْدي المتوفَّى سنة (409هـ) ، عن الخطيبِ البغداديّ، المتوفَّى سنة (463هـ) ، ورواية أحمد بن محمد بن غالب البَرْقَانيّ (ت425هـ) ، عن الخطيب البغداديّ.
ولقد صَنَّفَ الإمامُ أبو يعقوبَ إسحاقُ بنُ إبراهيم البغداديّ الورَّاق (ت403هـ) كتاب (مارواه الكبار عن الصِّغار، والآباء عن الأبناء) .
4- رواية الآباء عن الأبناء: وهو أن يوجد في سَنَدِ الحديثِ أبٌ يروي الحديث عن ابنه.
وأهمية معرفة هذا النَّوع: ضبطه الأمن مِن ظنّ التَّحريف النَّاشئ عن كَون الابن أباً. أو أن يُظنّ أنَّ في السَّنَدِ انقلاباً أو خطأً.
وللخطيب فيه كتاب (رواية الآباء عن الأبناء) ، ومثاله: مارواهُ العباس، عن ابنه الفضل رضي اللَّهُ عنهما: "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلَّم جمع بينَ الصَّلاتين في المُزْدَلِفَة".
وقد يجتمع في الإسناد مجموعة من الأنواعِ مثاله: مارويَ عن: مُعْتَمِر بن سليمانَ التَّيْمِيِّ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثتني أنتَ عَنِّي، عن أيوبَ، عن الحسنِ، قال: ويح كلمة رحمة.(45/25)
وهذا ظريفٌ يجمعُ أنواعاً منها: رواية الآباء عن الأبناء، وعكسه، ورواية الأكابر عن الأصاغر، والمُدَبَّج، ورواية التَّابعيّ، عن تابعهِ، وأنَّهُ حدَّثَ عن واحدٍ، عن نفسهِ، والتَّحديث بعد النّسيان.
قال النَّوويُّ: وهذا في غاية الحُسْنِ، ويبعدُ أن يوجد مجموع هذا في حديثٍ.
قال السَّخاويُّ: ويلتحقُ بهذا رواية المرء عن ابن بنته، وفي قصة الحبَّال مع عبد الغني أنَّهُ أرسل ابن بنته أبا الحسنِ ابن بقا إلى بعض الشيوخ بمصرَ في حديثٍ، فحدَّثهُ به، فقرأه عبدُالغني عن ابنِ بنتهِ، عن ذلك الشَّيخ.
وَمن ظريفه ما اجتمع فيه رواية الأبوين، عن الابنِ، كرواية أمِّ رُومانَ، عن ابنتها عائشة لحديثينِ، ورواية أبي بكرٍ الصِّديقِ عنها أيضاً لحديثينِ.
مِن فوائدِ معرفة المُدَبَّجِ، ورواية الأقران:
1- إنَّ معرفة المُدَبَّج ورواية الأقران، ترشدنا لمعرفة الأشكال المختلفة للأسانيد، والأنماط المتنوعة في رواية الحديث النَّبويِّ، وتفرعها وانتشارها.
2- رواية الأقران تزيل النِّقاب عن الخَطأ والوهم الذي قد يتطرَّق إلى بعضِ الرُّواة.
3- إنَّ رواية الأقران بعضهم من بعضٍ تدلُّ على روح الأخوة والمحبَّة التي كانت تسود بين طبقات المُحَدِّثينَ في مختلف العصور.
4- ضبطُهُ الأمن من ظَنّ الزِّيادة في الإسنادِ.
5- ألاَّ يُظنّ إبدال عَن، بالوَاو، إن كان بالعَنْعَنَةِ.
6- الحرص على إضافة الشَّيء لراويه.
7- الرَّغبة في التَّواضعِ في العِلْمِ.
8- إنَّ هذا النَّوع مِنَ الأسانيد، يرتبطُ ارتباطاً وثيقاً بغيره من العلوم الأخرى، مثل: علم معرفة طبقات العلماء، ومعرفة تواريخ الرُّواة والوفيات، وعلم رواية الأكابر عن الأصاغر، ورواية الآباء عن الأبناء، ورواية الأبناء عن الآباء، إضافةً إلى علم الجرحِ والتَّعديل، واختبار مرويات الشُّيوخ.
أشهر المُصَنَّفات في المُدَبَّج، ورواية الأقران:(45/26)
1- كتاب المُدَبَّج: تأليف الإمام أبي الحسن عليّ بن عمر الدَّارَقُطنيِّ (ت385هـ) ، في عشرة أجزاء.
قال الإمامُ العراقيُّ: وهو أولُ مَن سَمَّاهُ بذلك فيما أعلم، وصَنَّفَ فيه كتاباً حافلاً سمَّاهُ (المُدَبَّج) ، في مجلدٍ، وعندي منهُ نسخة صحيحة.
2- التَّعريج على التَّدبيج، ويُسمَّى أيضاً المُخَرَّج من المُدَبَّجِ: للإمام الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيِّ (ت852هـ) .
3- الأقران: للإمامِ أبي الحسين مسلم بن الحجاج (ت261هـ) ، ولا أعلم إن كان هذا الكتاب يبحثُ في نفس مادة رواية الأقران بعضهم عن بعضٍ أم انَّه يتناول جوانب أخرى من جوانب الأقران.
4- الأقران: لأبي محمدٍ عبد اللَّه بن محمد بن جعفر بن حيَّانَ الأصبهانيِّ، المعروف بأبي الشَّيخ (ت369هـ) .
5- الأقران: للإمامِ أبي عبدِاللَّه محمد بن يعقوب بن يوسفَ الشَّيبانيِّ النَّيسابوريِّ، المعروف بابن الأخْرَمِ (ت344هـ) .
6- الأفنان في رواية الأقران: للإمام الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيِّ (ت852هـ) .
عناية الإمام الحافظ أبي عبدِاللَّه محمد بن إسماعيل البُخاريّ برواية الأقران في كتابه (الجامع الصَّحيح) :
لقد نال الإمامُ البُخاريُّ رحمه اللَّهُ تعالى في (صحيحه) ، قصب السَّبق في الكشفِ عن الأسانيدِ المُختلفةِ، والأساليب المتنوعةِ في روايةِ الأحاديثِ، ولعلَّ عنايته برواية الأقران تمثل أنموذجاً ممتازاً، وبرهاناً ساطعاً على الذَّوق الحديثيِّ الذي كان يتمتع به هذا الإمام، لذا رأينا أن نذكر أمثلةً من (صحيحه) على رواية الأقران، وهي فائدة مِنَ الفوائد الإسناديَّةِ المختلفة التي يحفل بها هذا الكتاب العظيم، والتي تُضفي عناصر علميَّة في مجال توثيق النُّصوصِ، وتقوي حبّ الاستطلاع لدى الباحثين المتأصلين الذين يُدركونَ المفهوم الواسع لهذهِ الأسانيد.. .(45/27)
1- قال البُخاريُّ: حَدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ محمدٍ، قال: حدَّثنا أبو عامرٍ العَقَدِيُّ، قال: حدَّثنا سُليمانُ بنُ بلالٍ، عن عبدِاللَّهِ بنِ دينارٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمانُ بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعبةً، والحَياءُ منَ الإيمان" (1) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: في الإسنادِ المذكورِ رواية الأقران، وهي: عبدُاللَّه ابن دينار، عن أبي صالحٍ لأنَّهما تابعيَّان، فإن وجِدت رواية أبي صالحٍ، عنهُ صار مِنَ المُدَبَّجِ.
2- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عبدُاللَّه بنُ يوسُفَ، قال: حدَّثنا اللَّيثُ، عن سعيدٍ- هو المَقْبُرِيُّ - عن شَريكِ بنِ عبدِاللَّهِ بنِ أبي نَمِرٍ، أنَّهُ سمِعَ أنسَ بنَ مالكٍ يقولُ: بينما نحنُ جُلوسٌ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المَسْجِدِ..الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: وفيه رواية الأقران، لأنَّ سعيداً، وشَريكاً تابعيَّان من درجةٍ واحدة، وهما مدنيَّان.
3- قال البُخاريُّ: حدَّثنا يحيى بنُ بُكيرٍ، قال: حدَّثنا اللَّيثُ، عن خالدٍ، عن سعيدِ بنِ أبي هلالٍ، عن نُعيمٍ المُجْمِرِ، قال: رَقيتُ معَ أبي هريرةَ على ظَهْرِ المَسْجِدِ.. الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: خالد، هو ابنُ يزيد الإسكندرانيّ أحد الفقهاء الثِّقات، وروايته عن سعيد بنِ أبي هلالٍ، من بابِ رواية الأقران.
4- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ يوسُفَ، قال: أخبرنا مالكٌ، عن سعيدٍ المَقْبُرِيِّ، عن عُبيدِ بنِ جُريجٍ، قال لعبدِاللَّهِ بنِ عمرَ: يا أبا عبدِالرَّحمن، رأيتُكَ تَصْنَعُ أربعاً لَمْ أرَ أحداً مِنْ أصْحابِكَ يَصْنَعُها..الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: وهذا الإسنادُ كلّه مدنيونَ، وفيه رواية الأقران، لأنَّ عبيداً، وسعيداً تابعيَّانِ مِن طبقةٍ واحدةٍ.
__________
(1) البخاري: 1/51، برقم: (9) .(45/28)
5- قال البُخاريُّ: حدَّثنا حفصُ بنُ عُمَرَ، قال: حدَّثنا شُعبةُ، قال: أخبرني أشْعَثُ بنُ سُلَيْمٍ، قال: سمعتُ أبي، عن مَسْروقٍ، عن عائشةَ..الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: قوله: سمعتُ أبي، هو سُليمُ بنُ أسودَ المُحَارِبيُّ الكوفيُّ، أبو الشَّعثاء، مشهور بكنيته أكثر مِن اسمه، وهو من كبار التَّابعين كشيخهِ مسروق، فهما قرينان، كما أنَّ أشعث وشُعبةَ قرينان، وهما مِن كبار التَّابعين.
6- قال البخاريُّ: حدَّثني محمدُ بنُ سلامٍ، قال: أخبرنا يَزيدُ بنُ هارونَ، عن يحيى، عن موسى بنِ عُقبةَ، عن كُريبٍ مولى ابنِ عبَّاسٍ، عن أُسامةَ بنِ زيدٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أفاضَ مِن عَرَفةَ..الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: ويحيى هو ابنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، وفي هذا الإسنادِ رواية الأقران، لأنَّ يحيى، وموسى بن عُقبةَ تابعيَّان صغيرانِ، مِن أهلِ المدينةِ، وكُريب مولى ابن عباسٍ، مِن أوسطِ التَّابعينَ، ففيه ثلاثة مِنَ التَّابعينَ في نَسَقٍ.
7- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عَمرو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا عبدُالوَهَّابِ، قال: سمعتُ يحيى بنَ سعيدٍ، قال: أخبرني سَعْدُ بنُ إبراهيمَ، أنَّ نافعَ بنَ جُبير بنِ مُطْعِمٍ أخبرهُ أنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بنَ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ يُحَدِّثُ عن المُغيرَةِ بنِ شُعبةَ، أنَّهُ كانَ مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، وأنَّهُ ذَهبَ لحاجةٍ..الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: وفي الإسنادِ رواية الأقرانِ في مَوضعينِ، لأنَّ يحيى وسَعداً تابعيَّان صغيران، ونافع بن جُبير، وعُروة بن المُغيرة تابعيَّان وسطان، ففيه أربعةٌ مِنَ التَّابعينَ في نَسَقٍ، وهو مِنَ النَّوادِرِ.(45/29)
8- قال البخاريُّ: حدَّثنا إسماعيلُ، قال: حدَّثني مالكٌ، عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عن امرأتهِ فاطمةَ، عن جدَّتِهَا أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ، أنَّها قالت: أتيتُ عائشَةَ زوجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حينَ خَسَفَتِ الشَّمسُ..الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: الإسنادُ كلُّهُ مدنيُّونَ، وفيهِ رواية الأقران هِشام وامرأته فاطمة بنت عَمِّه المنذر.
9- قال البُخاريُّ: حدَّثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدَّثنا زُهيرٌ، عن أبي إسحاقَ، قال: حدَّثني سُليمانُ بنُ صُرَدٍ، قال: حدَّثني جُبيرُ بنُ مُطْعِمٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أمَّا أنا فأُفيضُ على رَأْسِي ثلاثاً" وأشار بيديهِ كِلتَيْهِما.
قال الحافظُ ابنُ حجر: وسُليمانُ بنُ صُرَدٍ خُزاعيٌّ، وهو مِن أفاضل الصَّحابةِ، وأبوهُ وشيخهُ مِن مشاهير الصَّحابةِ، ففيهِ رواية الأقران.
10- قال البُخاريُّ: حدَّثنا أبو مَعْمَرٍ، قال: حدَّثنا عبدُالوارثِ، عن الحُسينِ، قال: يحيى: وأخبرني أبو سَلَمَةَ أنَّ عطاءَ بنَ يسارٍ أخبرهُ أنَّ زيدَ بنَ خالدٍ الجُهَنِيَّ أخبرهُ أنَّهُ سَأَلَ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ، فقال: "أرأيتَ إذا جامعَ الرَّجلُ امرأَتَهُ فَلَمْ يُمْني؟ قال عُثمانُ: يَتَوَضَّأُ للصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ"قال عُثْمانُ: سَمِعتُهُ مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فسَأَلْتُ عن ذلكَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ، والزُّبيرَ بنَ العَوَّامِ، وطَلْحَةَ بنَ عُبيدِاللَّهِ، وأُبيَّ بنَ كَعبٍ، رضي اللَّهُ عنهم، فأمروهُ بذلكَ. قال يحيى: وأخبرني أبو سَلَمَةَ أنَّ عُروةَ بنَ الزُّبيرِ أخبرهُ أنَّ أبا أيُّوبَ أخبرهُ أنَّهُ سَمِعَ ذَلكَ مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.(45/30)
قال الحافظُ ابنُ حجر:.. مع أنَّ أبا سلمةَ، وهو ابن عبد الرَّحمن بن عوفٍ أكبر قَدْراً وسنّاً وعلماً من هشام بن عروة، وروايته عن عُروة من بابِ رواية الأقران لأنَّهما تابعيَّان فقيهان مِن طبقةٍ واحدةٍ، وكذلك رواية أبي أيوبَ، عن أُبيِّ بن كعبٍ لأنَّهما فقيهان صحابيَّانِ كبيران.
11- قال البخاريُّ: حدَّثنا يحيى بنُ بُكيرٍ، قال: حدَّثنا الليثُ عن جعفرِ ابنِ ربيعةَ، عن الأعرجِ، قال: سمعتُ عُميراً مولى ابنِ عباسٍ، قال: أقبلتُ أنا وعبدُاللَّهِ بنُ يسارٍ مَولى مَيمونةَ زوجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم..الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجر: قوله: "سمعتُ عُميراً مولى ابن عباس"، هو ابن عبيد اللَّه بن عباس..وليس لهُ في الصَّحيح غير هذا الحديثِ، وحديث آخر عن أمِّ الفضلِ، ورواية الأعرج عنهُ مِن رواية الأقران.
12- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِاللَّهِ، قال: حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ بنِ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، عن صالحِ بنِ كيسانَ، قال: حدَّثنا نافعٌ، أنَّ عَبْدَاللَّهِ أخبرهُ أنَّ المسجِدَ كانَ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبنيَّاً باللَّبِنِ وَسَقفُهُ الجَريدُ وَعَمَدُهُ خشَبُ النَّخلِ..الحديث
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: ورواية صالح بن كيسانَ، عن نافعٍ، مِن رواية الأقرانِ، لأنَّهُما مدنيَّانِ ثِقتانِ، تابعيَّانِ، من طبقةٍ واحدةٍ.
13- قال البُخاريُّ: حدَّثنا مُسَدَّدٌ، قال: حدَّثنا حمَّادٌ، عن أيوبَ، وعبدِالحميدِ صاحبِ الزِّيادِيِّ، وعاصِمٍ الأحولِ، عن عبدِاللَّهِ بنِ الحارثِ، قال: "خَطَبَنا ابنُ عَبَّاسٍ في يومِ رَدْغٍ، فلمَّا بَلَغَ المُؤذِّنُ ... "، الحديث.(45/31)
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ: حمَّاد، هو ابنُ زيد، وعبد الحميد هو ابن دينارٍ، وعبد اللَّهِ بن الحارثِ، هو البصريُّ ابن عَمِّ ابن سيرينَ وزوج ابنته، وهو تابعيٌّ صغير، ورواية الثلاثة عنهُ مِن بابِ رواية الأقران لأنَّ الثَّلاثةَ مِن صغار التَّابعينَ، ورجال الإسناد كلّهم بصريون.
14- قال البخاريُّ: إسحاقُ الواسطيُّ، قال: حدَّثنا خالدٌ، عن الجُرَيْرِيِّ، عن أبي العلاء، عن مُطَرِّفٍ، عن عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ، قال: "صَلَّى مع عَلِيٍّ رضي الله عنه بالبصرةِ فقال: ذَكَّرَنا هذا الرَّجُلُ صلاةً كُنَّا نُصليها مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: خالدٌ هو الطَّحَّانُ، والجُريريُّ هو سعيدٌ، وأبو العلاء، هو يزيدُ بنُ عبدِاللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ، أخو مُطَرِّف الذي روى هذا الحديث عنهُ، والإسنادُ كُلُّهم بصريونَ، وفيه رواية الأقران والإخوة.
15- قال البخاريُّ: وقال اللَّيثُ: حدَّثني يحيى بنُ سعيدٍ حدَّثهُ عن ابنِ شِهابٍ، عن امرأٍ مِن قُريشٍ حدَّثَهُ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: يحيى بنُ سعيدٍ، وهو الأنصاريُّ، وروايتهُ عن الزُّهريِّ مِن رواية الأقران.
16- قال البُخاريُّ: حدَّثنا حَفصُ بنُ عُمرَ، حدَّثنا شُعبةُ، قال: أخبرني عبدُالملكِ، عن قَزَعَةَ، قال: سمعتُ أبا سعيدٍ رضي الله عنه أربعاً.. .الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: ورواية عبد الملك بن عُميرٍ، عنه - أي قزعة - من رواية الأقران، لأنَّهما مِن طبقةٍ واحدة.
17- قال البُخاريُّ: حدَّثنا أبو عاصمٍ، أخبرنا ابنُ جُريجٍ، قال: أخبرني صالحُ بنُ كَيسانَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ رضي الله عنه قال: أهَلَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: ورواية صالح بن كيسان، عن نافعٍ من رواية الأقرانِ.(45/32)
18- قال البُخاريُّ: حدَّثنا مُسَدَّدٌ، حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زيدٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن موسى بنِ عُقبةَ، عن كُريبٍ مولى ابن عبَّاسٍ، عن أُسامةَ بنِ زيدٍ رضي اللَّهُ عنهما: "أنَّ النَّبَيَّ صلى الله عليه وسلم حيثُ أفاضَ مِن عرفةَ مالَ إلى الشّعب..".
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ عن يحيى بن سعيدٍ، هو الأنصاريّ، وروايته عن موسى بن عُقبة مِن رواية الأقران لأنَّهما تابعيَّان صغيران، وقد حملهُ موسى عن كُريبٍ، فصار في الإسناد ثلاثة مِنَ التَّابعينَ.
19- قال البُخاريُّ: حدَّثني يحيى بنُ بُكيرٍ، قال: حدَّثني اللَّيْثُ، عن عُقيلٍ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: أخبرني ابنُ أبي أنسٍ مولى التَّيْمِيينَ أنَّ أباهُ حدَّثهُ أنَّهُ سمعَ أبا هُريرةَ رضي الله عنه يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إذا دخلَ شهرُ رَمَضَانَ فُتِحَت أبوابُ السَّماءِ، وَغُلِّقَتْ أبوابُ جَهنَّمَ.." الحديث.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وهذا الإسنادُ يُعدُّ مِن روايةِ الأقران، وقد تأخر أبو سُهيلٍ في الوفاة عن الزُّهريِّ.
20- قال البُخاريُّ: حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، حدَّثنا أبو عاصمٍ، أخبرنا ابنُ جُريجٍ، قال: أخبرني موسى بنُ عُقبةَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ رضي اللَّهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "خرجَ ثلاثةُ نَفَرٍ يمشونَ.." (1) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وروايتهُ - أي ابن جُريج - عن موسى، من نوع رواية الأقران، وفي الإسنادِ ثلاثةٌ مِنَ التَّابعينَ في نَسَقٍ.
21- قال البُخاريُّ: حدَّثنا يحيى بنُ بُكيرٍ، حدَّثنا اللَّيثُ، عن يُونُسَ، عن ابنِ شِهابٍ، عن عُبيدِاللَّهِ بنِ عبدِاللَّهِ بن عُتبةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما، أنَّ الصَّعْبَ بنَ جُثَّامةَ قال:: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لا حِمى إلاَّ لِلَّهِ ولرسولهِ.." (2) .
__________
(1) البخاري: 4/408 (2215) .
(2) البخاري: 5/44 (2370) .(45/33)
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: يونُس، هو ابنُ يزيدَ الأَيْلِيُّ، وروايتُهُ عن اللَّيثِ مِنَ الأقرانِ، لأنَّهُ قد سمعَ مِن شيخهِ ابنِ شِهابٍ، وفي الإسنادِ تابعيان، وصحابيَّانِ.
22- قال البُخاريُّ: حدَّثنا أحمدُ بنُ يُونُسَ، حدثنا عاصمُ بنُ محمدٍ، قال: حدَّثني واقِدُ بنُ محمدٍ، قال: حدَّثني سعيدُ بنُ مَرْجَانَةَ صاحبُ عَليِّ بنِ الحُسينِ، قال: قال لي أبو هريرةَ رضي الله عنه: قال النَّبِّيُّ صلى الله عليه وسلم:"أيَّما رجُلٍ أعتَقَ مُسْلِماً استنقَذَ اللَّهُ بكُلِّ عُضوٍ منهُ عُضواً مِنَ النَّار ... " (1) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: عبدُاللَّهِ بنُ جعفر، أي ابن أبي طالبٍ، وهو ابن عمِّ والد عليّ بن الحُسين، وكانت وفاته سنة ثمانين من الهجرة، ومات سعيد بن مَرْجَانَةَ سنة سبعٍ وتسعينَ، ومات عليّ بن الحُسين قبله بثلاثٍ، أو أربعٍ، روايته عنهُ من رواية الأقرانِ.
23- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ محمدٍ، حدَّثنا سُفيانُ، عن عَمرٍو، سمعَ جابراً، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ رضي اللَّهُ عنهم، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي زمانٌ يَغزو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ.." (2) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وجابرُ هو ابنُ عبد اللَّهِ، وروايته عن أبي سعيدٍ، من رواية الأقران.
24- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِاللَّهِ، حدَّثنا سُفيانُ، حدَّثنا أبو الزِّنادِ، عن الأعرجِ، عن أبي سلمةَ، عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: صلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصُّبح، ثُمَّ أَقبلَ على النَّاسِ فقال: "بينا رجُلٌ يسوقٌ بَقَرَةً.." (3) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ: عن الأعرجِ، عن أبي سَلَمَةَ، هو مِن روايةِ الأقرانِ.
__________
(1) البخاري: 5/146 (2517) .
(2) البخاري: 6/88 (2897) .
(3) البخاري: 6/512 (3471) .(45/34)
25- قال البُخاريُّ: حدَّثنا إسماعيلُ، قال: حدَّثني أخي، عن سُليمانَ ابنِ بلالٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، قال: أخبرني حفصُ بنُ عُبيدِاللَّهِ بنِ أنسِ بن مالكٍ، أنَّهُ سمعَ جابرَ بنَ عبدِاللَّهِ رضي اللَّهُ عنهما، يقولُ:"كانَ المسجدُ..".
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: إسماعيلُ هو ابنُ أبي أويسٍ، وأخوهُ هو أبو بكرٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ هو الأنصاريُّ، وروايته عن حفصٍ، من رواية الأقران، لأنَّهُ مِن طبقتهِ.
26- قال البُخاريُّ: حدثنا عليُّ بنُ عبدِاللَّهِ، حدَّثنا سفيانُ، عن عَمرٍو، قال: سمعتُ جابرَ بنَ عبدِاللَّهِ يقول: حدَّثنا أبو سعيدٍ الخُدْرِيِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يأتي على النَّاسِ زمانٌ فيغزو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ ... " (1) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: حديثُ جابر بن عبدِاللَّهِ، عن أبي سعيدٍ، هو من رواية صحابيّ، عن صحابي.
27- قال البُخاريُّ: حدَّثنا إسحاقُ، حدَّثنا النَّضْرُ، أخبرنا شُعبةُ، عن أبي جَمْرَةَ، سمعتُ زَهْدَمَ بنَ مُضَّربٍ، قال: سمعتُ عِمرانَ بنَ حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنهما، يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُ أُمَّتي قَرْنِي، ثُمَّ الذينَ.." (2) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: والنَّضْرُ هو ابنُ شُميلٍ، وأبو جَمْرَةَ صاحب ابن عباسٍ، وحدَّثَ هنا تابعيٌّ، عن تابعِيٍّ مثله.
28- قال البُخاريُّ: حدَّثنا إسماعيلُ، قال: حدثني أخي، عن سُليمانَ، عن يحيى، عن حُميدٍ الطَّويلِ: سمعَ أنسَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: ويحيى هو ابنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، وروايته عن حُميدٍ من رواية الأقران.
__________
(1) البخاري: 7/3 (3649) .
(2) البخاري: 7/3 (3651) .(45/35)
29- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عَمرُو بنُ محمدٍ، حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، حدَّثنا أبي، عن صالحِ بنِ كَيسانَ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: أخبرني أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه أنَّ اللَّهَ تعالى تابعَ على رسوله صلى الله عليه وسلم حتَّى قبلَ وفاتهِ ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: ورواية صالح بن كيسان، عن ابنِ شِهابٍ، من رواية الأقرانِ، بل صالح بن كيسان أكبر سِناً، وأقدمُ سَماعاً.
30- قال البُخاريُّ: وزادَ أبو مَعْمَرٍ: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ جعفرٍ، عن مالكِ ابن أنسٍ، عن عبدِالرَّحمن بن عبد اللَّهِ بن عبد الرَّحمن بن أبي صَعْصَعَةَ، عن أبيهِ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، أخبرني أخي قَتَادة بن النُّعمان: أنَّ رجُلاً قامَ في زمن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يقراُ مِنَ السَّحَرِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لايزيدُ عليها.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ جعفرٍ، عن مالكٍ، هو مِن رواية الأقران.
قلتُ: ورواية أبي سعيدٍ الخُدريِّ، عن أخيه قتادة بن النُّعمان بن زَيد بن عامر الأنصاريِّ الظَّفَريّ، وهو صحابيٌّ، شَهِدَ بدراً، وهو أخو أبي سعيدٍ لأمِّهِ، من رواية الأقران.
31- قال البُخاريُّ: حدَّثني محمدُ بنُ سلامٍ، أخبرنا وكيعٌ، عن ابنِ عُيينةَ، قال: قال لي مَعْمَرٌ، قال الثَّوريُ: هل سمعتَ في الرَّجُلِ يجمعُ لأهلهِ قُوتَ سنتهم أو بعض السَّنَة؟ قال معمَرٌ: فلم يحضرني، ثُمَّ ذَكرتًُ حديثاً حدَّثناهُ ابنُ شِهابٍ الزُّهريُّ، عن مالكِ بن أوسٍ، عن عمر رضي الله عنه ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: هذا الحديثُ فات ابن عُيينة سماعه من الزُّهريِّ، فرواه عنه بواسطة مَعْمَر.. وأخرجه الحُميديُّ، وأحمدَ في مُسنديهما، عن سُفيانَ، عن مَعمَر، وعَمرو بنِ دينار جميعاً..وفي كلٍّ من الإسنادين رواية الأقران، فإنَّ ابن عُيينة عن معمر قرينان، وعَمرو بن دينارٍ عن الزُّهريِّ كذلك.(45/36)
32- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِاللَّهِ، حدَّثنا مُعاذُ بنُ هِشامٍ، قال: حدَّثني أبي، عن يُونُسَ - قال عليٌّ: هو الإسكاف - عن قتادةَ، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: ماعلِمتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أكلَ على سُكُرُّجةٍ قطُّ ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وفي الحديثِ رواية الأقران، لأنَّ هِشَاماً ويُونُس مِن طبقةٍ واحدةٍ.
33- قال البُخاريُّ: حدَّثنا حِبَّانُ بنُ موسى، أخبرنا عبدُاللَّهِ، حدَّثنا يُونُسُ ابنُ يزيدَ، عن عُقيلٍ، عن ابنِ شِهابٍ، عن عُروةَ، عن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها: أنَّها كانت تأمرُ بالتَّلبين للمريضِ، وللمحزونِ على الهالكِ ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ: حدَّثنا يونُسُ بنُ يزيدَ، عن عُقَيْلٍ، هو مِن روايةِ الأقرانِ.
34- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ يوسُفَ، أخبرنا مالكٌ، عن ابنِ شِهابٍ، عن عبدِالمجيدِ بنِ عبدِالرَّحمن بنِ زيدِ بنِ الخَطَّابِ، عن عبدِاللَّهِ بنِ عبدِاللَّهِ بنِ الحارثِ بنِ نوفَلٍ، عن عبدِاللَّهِ بنِ عبَّاسٍ: أنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه خرجَ إلى الشَّامِ، حتَّى إذَا كانَ بِسَرْغ لقيهُ أمراء الأجناد ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ: عن عبدِالحميدِ، روايتُهُ عن شيخه فيه مِن رواية الأقرانِ، وفي السَّنَدِ ثلاثة مِنَ التَّابعينَ في نَسَقٍ، وصحابيَّانِ، في نَسَقٍ، وكلُّهُم مدنيُّونَ، وقوله: عن عبدِاللَّهِ بنِ عبدِاللَّهِ بن الحارثِ، أي ابن نوفل بن الحارث ابن عبد المُطَّلِبِ، لجدِّ أبيه نوفل ابن عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صُحبة، وكذا لولدهِ عبدِاللَّهِ بنِ الحارثِ، وولدَ عبد اللَّهِ بن الحارث في عهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فعدَّ لذلكَ في الصَّحابةِ، فهم ثلاثةٌ مِنَ الصَّحابةِ في نَسَقٍ.(45/37)
35- قال البُخاريُّ: حدَّثني عبدُاللَّهِ بنُ محمدٍ، حدَّثنا عارِمٌ، حدَّثنا المُعْتَمِرُ ابنُ سُليمانَ، يُحَدِّثُ عن أبيهِ، قال: سمعتُ أبا تَمِيْمَةَ يُحدِّثُ عن أبي عُثمانَ النَّهْدِيِّ يُحدِّثُهُ أبو عُثمانَ، عن أُسامةَ بن زيدٍ، رضي اللَّهُ عنهما: كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يأخذُني فَيُقْعِدُني على فَخِذِهِ ... وعن عليٍّ، قال: حدَّثنا يحيى، حدَّثنا سُليمانُ، عن أبي عُثمانَ، قال التَّيْمِيُّ: فوقعَ في قلبي منهُ.. .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ: وعن عليٍّ، قال: حدَّثنا يحيى، حدَّثنا سُليمانُ، أمَّا عليّ فهو عليُّ بن عبدِاللَّهِ المَدينيُّ، وأمَّا يحيى، فهو ابنُ سعيدٍ القطَّانُ، وأمَّا سُليمانُ، فهو التَّيْمِيُّ المذكور قبل، ثُمَّ هو معطوفٌ على السَّنَدِ الذي قبلهُ، وهو قولهُ: حدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ محمدٍ، فيكونُ مِن رواية البُخاريّ، عن عليٍّ، ولكنَّهُ عَبَّرَ عنهُ بصيغة عن، فقال: حدَّثنا عبدُاللَّه بنُ محمد إلخ، ويحتملُ: أن يكونَ معطوفاً على قولهِ: حدَّثنا عارمٌ، فيكونُ مِن روايةِ البُخاريِّ، عن شيخهِ بواسطة قَرينهِ، عبد اللَّهِ بن محمدٍ، ولا يُستغرَبُ ذلكَ مِن روايةِ الأقران، ولا مِنَ البُخاريِّ فقد حدَّثَ بالكثيرِ عن كثيرٍ من شيوخهِ، ويُدخلُ أحياناً بينهم الواسطة. وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وفي السَّندِ على الأوَّلِ ثلاثةٌ بصريونَ مِنَ التَّابعينَ في نسقٍ، مِن سُليمانَ التَّيْمِيِّ، فصاعداً.
36- قال البُخاريُّ: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ أبي أويسٍ، قال: حدَّثني مالكٌ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، قال: أخبرني أبو بكر بنُ محمدٍ، عن عَمْرَةَ، عن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مازالَ جِبْريلُ يُوصيني بالجار، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثهُ" (1) .
__________
(1) البخاري: 1/441 (6014) .(45/38)
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قولهُ: أبو بكر بن محمدٍ، أي ابن عَمرو بن حزمٍ، وَعَمرةُ هي أمُّهُ، والسَّنَدُ كلُّهُ كوفيُّونَ، وفيه ثلاثةٌ مِنَ التَّابعينَ في نسقٍ، وقد سمعَ يحيى بنُ سعيدٍ وهو الأنصاريُّ من عَمرةَ كثيراً وربَّما دخل بينهما واسطة مثل هذا، وروايتُهُ عن أبي بكر المذكور مِنَ الأقران.
37- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عليُّ بنُ الحَدَّادِ، أخبرنا شُعبةُ، عن سَيَّارٍ، عن ثابتٍ البُنَانِيِّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه: أنَّهُ مَرَّ على صبيانٍ فَسَلَّمَ وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَفعله.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: سيَّار، هو أبو الحَكَمِ وهو عَنَزِيٌّ واسطيٌ، من طبقةِ الأعمشِ، وتقدَّمت وفاتُهُ على وفاة شيخِهِ ثابتٍ البُنانيِّ بِسَنَةٍ وقيل: أكثر، وليس لهُ في (الصَّحيحين) عن ثابتٍ إلاَّ هذا الحديث.. ورواية شُعبة عنهُ مِن رواية الأقرانِ، وقد حدَّثَ شُعبةُ عن ثابتٍ نفسِهِ بعدَّة أحاديث.
38- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ مَسْلَمَةَ، عن مالكٍ، عن عبدِاللَّهِ ابنِ أبي بكرٍ، عن أبيهِ، عن عَمرو بنِ سُليمٍ الزُّرَقِيِّ، قال: أخبرني أبو حُميدٍ السَّاعديُّ، أنَّهُم قالوا: يارسولَ اللَّهِ، كيفَ نُصَلِّي عليكَ؟ ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: عبدُاللَّهِ بنُ أبي بكرٍ، هو أبو بكر بنُ محمدِ بن عَمرو ابن حزمٍ الأنصاريُّ، وروايتُهُ عن عَمرو بنِ سُلَيْمٍ منَ الأقرانِ، وولده من صغار التَّابعينَ، ففي السَّنَدِ: ثلاثةٌ مِنَ التَّابعينَ في نَسقٍ، والسَّنَدُ كلُّهُ مَدنيُّونَ.
39- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عُثمانُ بنُ أبي شيبةَ، حدَّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ، عن مسروقٍ، عن عائشةَ قال: دَخَلَتْ عَلَيَّ عجوزانِ مِن عُجُزِ يهودِ المدينةِ فقالتا لي: إنَّ أهلَ القُبورِ يُعذَّبونَ في قُبُورِهِم ... .(45/39)
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وجريرٌ المذكور.. هو ابنُ عبدِالحميدِ، ومنصورُ، هو ابنُ المُعْتَمِرِ، من صغار التَّابعين، وأبو وائلٍ، هو شقيقُ بنُ سَلَمَةَ، وهو ومسروق شيخه، من كبار التَّابعينَ، ورجالُ الإسنادِ كُلُّهم كوفيُّونَ إلى عائشةَ، ورواية أبي وائلٍ، عن مَسْروقٍ مِنَ الأقران.
40- قال البُخاريُّ: حدَّثنا إسماعيلُ، حدَّثني أخي، عن سُليمانَ، عن ثَوْرٍ، عن أبي الغَيْثِ، عن أبي هريرةَ: أنَّ النَّبَيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّلُ مَن يُدعى يومَ القيامَةِ آدَمُ، فَتَراءى ذُرِّيتهُ فيقالُ: هذا أبوكُم آدَمُ...." (1) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: إسماعيلُ، هو ابنُ ابي أُويسٍ، وأخوهُ هو أبو بكر ابنُ عبدِالحميدِ، وسُليمانُ، هو ابنُ بلالٍ.. وثورُ، هو ابنُ زيدٍ الدِّيليُّ، وأبو الغَيْثِ، هو سَالمٌ، والكُلُّ مدنيُّونَ، ورواية إسماعيلَ، عن أخيهِ مِن روايةِ الأقرانِ، وكذا سُليمانُ عن ثورٍ، ولكنَّ إسماعيل أصغر مِن أخيهِ، وسُليمان أصغر مِن ثورٍ.
41- قال البُخاريُّ: حدَّثني محمدُ بنُ الحُسينِ بنِ إبراهيمَ، أخبرنا عُبيدُاللَّهِ ابنُ موسى، أخبرنا كيسانُ، عن فِراسٍ، عن الشَّعبيِّ، عن عبدِاللَّهِ بنِ عَمرو، رضي اللَّهُ عنهما، قالا: جاءَ أعرابيٌّ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يارسولَ اللَّهِ ماالكبائِر؟ قال: "الإشراكُ باللَّهِ … " (2) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: ومحمدُ بنُ الحسين بن إبراهيمَ في أول السَّنَدِ هو المعروف بابنِ أشْكَاب، أخو عليٍّ، وهو مِن أقران البُخاريِّ، ولكنَّهُ سمع قبلهُ قليلاً، ومات بعدهُ، وعُبيدُاللَّهِ بنُ موسى شيخهُ، هو مِن كبار شيوخ البُخاريِّ المشهورينَ، وقد أكثرَ عنهُ بلا واسطة.
__________
(1) البخاري: 11/378 (6529) .
(2) البخاري: 12/264 (6920) .(45/40)
42- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ محمدِ بنِ أسماء، حدَّثنا جُويْريَّةُ، عن مالكٍ، عن الزُّهريِّ: أنَّ سعيدَ بنَ المُسَيّبِ، وأبا عُبيدٍ أخبراهُ، عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لو لَبِثْتُ في السِّجْنِ ما لَبِثَ يوسُفُ ثُمَّ أتاني الدَّاعي لأجَبتُهُ" (1) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: جُويريَّةُ، هو ابنُ إسماعيلَ الضُّبَعِيُّ، وروايتُهُ عن مالكٍ مِنَ الأقرانِ.
43- قال البُخاريُّ: حدَّثنا عبدُاللَّهِ بنُ يزيدَ المقرئ، حدَّثنا سعيدٌ، حدَّثني عُقيلٌ، عن ابنِ شِهابٍ، عن عامرِ بنِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، عن أبيهِ، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أعظَمَ المسلمينَ جرماً مَن سَألَ عن شيءٍ لَمْ يُحَرَّم، فَحُرِّمَ مِن أجلِ مَسْأَلَتِهِ" (2) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: سعيدُ، هو ابنُ أبي أيُّوبَ، وهو الخُزاعيُّ المِصريُّ، وروايتُهُ عن عُقيلِ هو ابنُ خالدٍ، تدخلُ في روايةِ الأقرانِ، لأنَّهُ مِن طبقتهِ.
44- حدَّثنا حَمَّادُ بنُ حُميدٍ، حدَّثنا عُبيدُاللَّهِ بنُ مُعاذٍ، حدَّثنا أبي، حدَّثنا شُعبةُ، عن سَعْدِ بنِ إبراهيمَ، عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ، قال: رأيتُ جابرَ بنَ عبدِاللَّهِ يَحْلِفُ باللَّهِ أنَّ ابنَ الصَّيَّادِ الدَّجَّال ... .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وسعدُ بنُ إبراهيمَ أي ابن عبد الرَّحمن بن عوفٍ، وروايتُهُ عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ منَ الأقرانِ، لأنَّهُ مِن طبقتهِ.
__________
(1) البخاري: 12/381 (6992) .
(2) البخاري: 12/264 (7289) .(45/41)
45- قال البُخاريُّ: حدَّثنا إسحاقُ، حدَّثنا عفَّانُ، حدَّثنا وُهَيْبٌ، حدَّثنا موسى - هو ابن عُقبةَ - حدَّثني محمدُ بنُ يحيى بن حَيَّانَ، عن ابنِ مُحَيْريزٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ في غزوةِ بني المُصْطَلَقِ أنَّهُم أصابوا ... وقال مجاهدٌ، عن قَزَعَةَ: سمعتُ أبا سعيدٍ فقال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ليست نَفْسٌ مَخْلوقَة إلاَّ اللَّهُ خالقها" (1) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: مُجاهدٌ، عن قزَعَةَ، هو ابنُ يحيى، وهو مِن روايةِ الأقرانِ، لأنَّ مُجاهداً وهو ابنُ جَبْرٍ المُفَسِّرُ المشهور المكيُّ في طبقةِ قَزَعَةَ.
إنَّ هذا التَّتبع لروايات الأقران في (صحيح البخاري) لا يفيد الحصر، غير أنَّهُ يبرز للباحث المتأمل أهمية المُدَبَّج ورواية الأقران، وأثره في علم الرِّواية، وتوثيق النُّصوص، كما أنَّه يظهر مدى الثِّقة والاعتزاز بالشُّيوخِ، والعمل على ترجيح رأيهم وإعطائهِ أهمية في موطن الخلاف، سيما أنَّ رواية الأقران تعني في غالب الأحوال، رواية أهل الأمصار بعضهم عن بعض، وهذا سيقودنا إلى ظاهرة التَّنافس العلمي التي برزت بينَ المدارس والأقاليم، في القرن الثَّاني الهجري، والتي كان من مظاهرها الاعتزاز والتَّشبث بمرويات الشُّيوخ، وتفضيل آرائهم الفقهية، وتقديمها على مرويات وآراء غيرهم مِن شيوخ المدن الأخرى.
قال البُخاريُّ: حدَّثني محمدُ بنُ عرعرةَ، حدَّثنا شُعبةُ، عن سعدِ بنِ إبراهيمَ، عن أبي سلمةَ، عن عائشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنَّها قالت: سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللَّهِ؟ قال: "أدوَمُها وإنْ قَلَّ". وقال: "اكلَفوا منَ الأعمالِ ما تُطيقُونَ" (2) .
__________
(1) البخاري: 13/390-391 (7409) .
(2) البخاري: 11/294 (6465) .(45/42)
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: قوله: عن سعدِ بنِ إبراهيمَ: أي ابن عبد الرَّحمن ابن عوفٍ، وأبو سلمة شيخه هو عمه. قوله: عن عائشةَ: وقع عندَ النَّسائيّ: من طريق ابنِ إسحاقَ، وهو السَّبيعِيّ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أمِّ سَلَمَةَ، فذكر معنى حديث عائشةَ، ورواية سعد بن إبراهيمَ، أقوى لكون أبي سَلَمَةَ بلديه وقريبه.
عناية كتب التَّراجم برواية الأقران:
إنَّ عناية النُّقاد والمؤرخين من المُحَدِّثين في كتُبِ التَّراجم على ذِكرِ رواية الأقران قد لقيت العناية في كثيرٍ من المواضع في أثناء ترجمتهم للرواة، ومن أمثلة ذلك:
قال الإمامُ المِزِّيُّ في ترجمة إسحاق بن إبراهيم بن يونس: روى عنهُ النَّسائيُّ وهو من أقرانه.
قال الإمامُ المِزِّيُّ في ترجمة سليمان بن داود المُباركيِّ: روى عنهُ..خلف ابن هِشامٍ البزَّارُ، وهو مِن أقرانهِ.. .
وقال الحافظ ابنُ حجرٍ في ترجمة سلامة بن روح الأُمويِّ: روى عنهُ قرينه محمد بن عزيز.
وقال الحافظ ابنُ حجرٍ في ترجمة عثمان بن خالد بن عمر الأُمويِّ: روى عنهُ قرينه سعيد بن خالد بن عبدِاللَّهِ.
وبعد، فإنَّ الحديث عن المُدَبَّجِ وروايةِ الأقران، والذي يقومُ على أساس دراسةِ الأسانيد، يمثل نمطاً من أنماط الرِّواية عند المُحَدِّثينَ، قد يستغرق مساحة أكبر ممَّا جاء في هذهِ الصَّفحات، غير أنَّ ماذكرناه في هذا البحث قد استوفى المادة العلميَّة المتمثلة في تحليل مادته، وإبراز عناصره الهامة، وأثر هذا النَّوع من المُصنَّفات في توثيق النُّصوصِ، قد أعطى صورة متكاملة عن أهميَّة علم الرِّواية، وأثره في الحضارة الإسلاميَّة، بل في الحضارة جمعاء.
الخاتمة(45/43)
تُعدُّ رواية الحديث النَّبويّ الشَّريف، وقوانينها المُحكمة، والأنماط المُتَّبعة لروايتها منَ العُلومِ التي أدّت دوراً بارزاً في الحفاظ على السُّنَّةِ وعلومها، ولا تزال هذهِ القوانينُ والأنماط مجهولة لدى الكثير من المشتغلين في توثيق النُّصوصِ وضبطها، وتفتقر إلى المزيد من البحوثِ المُعاصرة كي تسترعي نظر الباحثينَ والمُحللين، وتميط اللثام عن أهميَّة هذا العلم ومنهجه الفريد، واتجاهاته المُختلفة التي حالت دون العبث بتراثنا، وقدَّمت برهاناً ساطعاً غير مشكوك فيه على دقَّةِ المُحدِّثينَ وسلامة منهجهم في توثيقِ النُّصوصِ وضبطها.
وبحثنا هذا حاول أن يبرز جانباً من جوانب علم الرِّواية عند المُحَدِّثين، وأثره المميز الذي تفتقده معظم الحضارات القديمة والحديثة على حدٍّ سواء.
إنَّ الأمثلة التي حرصنا على ذِكرها في بحثنا هذا والتي كان معظمها من كتاب (الجامع الصَّحيح) للإمام البُخاريِّ، رحمه اللَّهُ تعالى، قد وفرت لنا مادةً علميَّةً أعطت لنا القُدرة على التَّحركِ للكتابةِ في مجال المُدَبَّجِ وروايةِ الأقران.(45/44)
وعلى الرّغم من فقدانِ المؤلَّفات المُستقلَّة التي كتبها المتقدمونَ، عن هذا النَّوع من أنواع علم الرِّوايةِ، أو أنَّها ماتزال في طيّ المجهول - ووضعت بين أيدينا الحجج التي ساعدتنا على إثبات المزيد مِنَ الأفكار التي قدمت لنا مُعطيات علميَّةٍ عن علم الرِّواية وأثرهِ في توثيق النُّصوصِ وضبطها، وأعطتنا صوراً واضحةً مفادها أنَّ هذا العلمَ لم يكن ارتجالياً، وإنَّما هو عِلْمٌ قائمٌ على قواعدَ واضحة المعالمِ، ويسودها طابع الدَّقَّةِ، والوحدة الموضوعيَّةِ، وأنَّ هذا النَّوعَ من أنواعِ علم الرِّواية، هو حلقة من حلقات علم توثيق النُّصوصِ وضبطها عند المُحَدِّثين، وأنَّها تتميز بالتحليل العميق، والدِّراسة المنظمةِ لفنِّ الرِّواية عند المسلمينَ، والذي يمكننا أن نقول وبكل اطمئنان: إنَّ هذا الفنَّ لقي العناية الفائقة، وأنَّهُ استطاعَ أن يُثبت لنا صِحَّةَ النُّصوصِ، وصدقَ رواتها، ودقَّةَ أدائهم، من غير أن نخشى الخطأ والزلل الذي قد يتطرقُ إلى أذهان الرواةِ.
كما أنَّ بحثنا هذا على وجازته استطاعَ أن يُثبتَ لنا أنَّ علمَ الرِّواية وقواعدها المُحكمة عند المُحدِّثينَ، هو مِنَ العلوم التي تفيض ذكاء، وتتميَّزُ بالابتكارِ، والإبداعِ، والمهارة، وأنَّهُ من العلومِ المُنسَّقةِ التي تمتلئ بالحيويَّةِ، وأنَّ الكثيرَ مِنَ النَّاقدينَ للسُّنَّةِ والمشككينَ في صحتها، قد أسرفوا على أنْفُسِهم، وأنَّ الجماهير منهم لم يكن علم الرِّواية عندَ المُحدِّثينَ قد وضحَ في مَخيلتهِ، فانقضُّوا في النَّقدِ مترسمينَ آثاراً، ذات نزعةٍ مُغاليةٍ لا يمكن أن تسعفهم، في رحلتهم، أو أن تحقق لهم الطَّابع العلميَّ الذي يجب أن يتَّسمَ به الدَّارسونَ للمؤلَّفات القديمة، وتتطلبه الأمانة العِلميَّة، وأنَّ ما سطرتهُ أقلام كبار المنتقدين للسُّنَّةِ وتدوينها، لم يكن كلامهم سوى شططٍ، لجهلهم بقوانين الرِّوايةِ وأنماط التَّصنيف فيها.(45/45)
ثَبَتُ المصادر والمراجع
- الاقتراح في بيان الاصطلاح: للإمام تقي الدين محمد بن علي المعروف بابن دقيق العيد (ت702هـ) ، تحقيق ودراسة قحطان عبد الرَّحمن الدُّوري، مطبعة الإرشاد، بغداد 1402هـ-1982م.
- تاج العروس من جواهر القاموس: لأبي الفيض محمد بن مرتضى الحُسينيّ الزَّبيديّ (ت1205هـ) ، منشورات مكتبة الحياة بيروت.
- التاريخ: للإمام النَّاقد أبي زكريا يحيى بن معين (ت233هـ) ، تحقيق الدكتور أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399هـ.
- التبصرة والتذكرة: للإمام أبي الفضلِ عبد الرحيم بن الحسين بنِ عبد الرحمن العراقي (ت806هـ) ، تصدير محمد بن الحسين العراقي الحُسيني، طبع دار الكتب العلمية، بيروت.
- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: للإمام أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزيِّ (ت742هـ) ، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة، الهند، الطبعة الأولى 1384هـ – 1965م.
- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطيِّ (ت911هـ) ، تحقيق عبد الوهاب عبد الطيف، دار الكتب الحديثة، القاهرة، الطبعة الثانية (1385هـ- 1966م) .
- تذكرة الحفاظ: للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ) ، دائرة المعارف العثمانية، الهند، الطبعة الرابعة (1390هـ-1970م) .
- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمَّةِ: للإمام أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، النَّاشر دار الكتاب العربي، بيروت.
- تقريب النَّووي: ليحيى بن شرف النَّووي (ت676هـ) ، مع شرحه تدريب الراوي للسيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1379هـ-1959م.
- التَّقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصَّلاح: لنور الدِّين عبد الرَّحيم بن الحُسين العراقي (ت806هـ) ، تحقيق عبد الرَّحمن محمد عُثمان، دار الفكر، بيروت، 1401هـ.(45/46)
- تهذيب التهذيب: للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن 1325هـ.
- تهذيب الكمال: للإمام أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزِّيِّ (ت742هـ) ، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الثانية 1403هـ.
- توضيح الأفكار: لمحمد بن إسماعيل الأمير الصَّنعاني (ت1182هـ) ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1366هـ.
- تيسير مصطلح الحديث: للدكتور محمود الطَّحان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثامنة 1407هـ-1987م.
- جامع بيان العِلْمِ وفضلهِ وما ينبغي في روايتهِ وحملهِ: للإمامِ أبي عُمر يوسف بن عبدِالله بن عبد البر النَّمَرِيِّ القُرطُبِيِّ (ت463هـ) ، إدارة الطباعة المنيرية 1398هـ- 1978م.
- الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه: للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريِّ (ت256هـ) ، المكتب الإسلامي، محمد أزدمير، تركيا إسطنبول (1979م) ، وانظر: (فتح الباري) .
- الجرح والتَّعديل: لعبد الرحمن بن محمد بن إدريس الشَّافعي، المعروف بابن أبي حاتم الرازي (ت327هـ) ، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، دائرة المعارف العثمانية، الهند، الطبعة الأولى 1371هـ-1952م.
- ذيل طبقات الحفاظ: للحافظ شمس الدين محمد بن عليِّ بن الحسن الحُسينيِّ (ت 765هـ) ، دار إحياء التراث العربي.
- الرِّحلة في طلب الحديث: لأبي بكر أحمد بن عليٍّ الخطيب البغدادي (ت463هـ) ، تحقيق نور الدين عتر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1395هـ.
- شرف أصحاب الحديث: لأبي بكر أحمد بن عليٍّ الخطيب البغداديٍّ (ت463هـ) ، تحقيق محمد سعيد خطيب أوغلي، نشريات كلية الإلهيات، جامعة أنقرة 1971م، تصوير دار إحياء السنة النبوية.(45/47)
- شعب الإيمان: للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م.
- الصِّحاح: لإسماعيل بن حمَّادٍ الجوهريِّ (ت393هـ) ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطَّار، القاهرة 1402هـ.
- صحيح البخاري = فتح الباري.
- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسن مُسْلِم بن الحَجَّاج بن مُسْلِمٍ القُشَيريِّ النَّيْسَابوريِّ (ت261هـ) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى 1374هـ-1955م.
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902هـ) ، مكتبة حسام الدين القدسي، القاهرة 1353هـ.
- طبقات الحُفَّاظ: لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911هـ) ، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة.
- عِلْمُ الأثبات ومعاجم الشُّيوخِ والمشيخات وفنُّ كتابة التَّراجم: للدكتور موفق ابن عبد الله بن عبد القادر، طبع معهد البحوث وإحياء التُّراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
- علوم الحديث: للإمام أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشَّهْرَزُرِيِّ، المعروف بابن الصلاح (ت643هـ) ، تحقيق الدكتور نور الدين عتر، المكتبة العلمية، بيروت 1401هـ-1981م.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري: للإمام أبي الفضل أحمد بن عليِّ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، طبع المطبعة السلفية، بمصر.
- فتح الباقي على ألفية العراقي: للإمام زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري (ت928هـ) ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، طبع مع (التبصرة والتذكرة) للإمام العراقي.
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث: للإمام أبي الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي (ت902هـ) ، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن عثمان، المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية 1388هـ- 1968م.(45/48)
- الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل: لأبي محمد عليّ بن حزم الظَّاهريِّ (ت456هـ) ، دار المعرفة، بيروت، 1395هـ.
- الكامل في ضعفاء الرجال: للإمام أبي أحمد عبد الله بن عَدي الجرجانيِّ (ت365هـ) ، تحقيق لجنة من المختصين، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.
- الكفاية في علم الرواية: للإمام أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، (463هـ) ، المكتبة العلمية، بيروت.
- لسان العرب: لجمال الدين محمد بن مكرم، المعروف بابن منظور (ت771هـ) ، دار صادر بيروت.
- لسان الميزان: للإمام أبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر (ت852هـ) ، مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى 1331هـ.
- المُحَدِّث الفاصل بين الراوي والواعي: للقاضي الحسن بن عبد الرحمن الرَّامَهُرْمُزِيِّ (ت360هـ) ، تحقيق الدكتور محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، سوريا، الطبعة الأولى، 1391هـ.
- المُحْكَم والمُحيط الأعظم: لعليِّ بن إسماعيل بن سيده (ت458هـ) ، مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأولى 1377هـ.
- المسند: للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت241هـ) ، المكتب الإسلامي، ودار صادر، بيروت، الطبعة الأولى 1398هـ.
- مسند أبي يعلى الموصليِّ: للإمام الحافظ أحمد بن عليّ بن المثنى الموصليِّ التَّميميِّ (ت307هـ) ، تحقيق الأستاذ حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.
- مشيخة قاضي القُضاة شيخ الإسلام بدر الدين أبي عبدِاللَّه محمد بن إبراهيم ابن جماعة (ت833هـ) ، تخريج شيخ الإسلام علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف البِرْزَاليِّ (ت739هـ) ، تحقيق ودراسة الدكتور موفق بن عبد اللَّه بن عبدِالقادر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م.
- المصباح المنير في غريب الشرح للرَّافعي: للإمام أبي العبَّاس أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيوميِّ (ت770هـ) ، المكتبة العلمية، بيروت.(45/49)
- معرفة علوم الحديث: للإمام الحاكم أبي عبد الله محمدِ بنِ عبد الله النيسابوريِّ (ت405هـ) ، تحقيق الأستاذ معظم حسين، المكتب التجاري، بيروت، الطبعة الثاتية 1977م.
- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: لمحمد بن عبد الرحمن السَّخاوي (ت902هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ) ، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1382هـ-1963م.
- نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: للإمام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ،المكتبة العلمية، المدينة المنورة،1975م.
- النكت على كتاب ابن الصلاح: للإمام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق الدكتور ربيع بن هادي عمير، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.
- النهاية في غريب الحديث والأثر: لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد، المعروف بابن الأثير الجَزَرِيِّ (ت606هـ) ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
- هدي الساري مقدمة فتح الباري: للإمام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، المطبعة السلفية(45/50)
قاعدة في الصبر
لشيخ الإسلام ابن تيمية
أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم
المتوفى سنة (728هـ)
تحقيق
أد. محمد بن خليفة التميمي
الأستاذ في كلية الدعوة في الجامعة
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران 102] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء 1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 70-71] .
أما بعد، فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد، فإن الصبر من أعظم خصال الخير التي حث الله عليها في كتابه العظيم، وأمر بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، وقد وردت مادة (صبر) في القرآن الكريم في مائة وأربعة مواضع، على تنوع في مواردها وأسباب ذكرها.
فقد أمر الله نبيه بخلق الصبر فقال: رضي الله عنه {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [النحل 127] وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف 35] .(45/51)
وأمر الله به المؤمنين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران 200] .
وأثنى على أهله، فقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة 177] .
وأخبر بمحبته للصابرين، فقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران 146] ، ومعيته لهم، فقال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال 46] .
وأخبر أن الصبر خير لأصحابه، فقال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل 126] .
ووعدهم أن يجزيهم أعلى وأوفى وأحسن مما عملوه، فقال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل 96] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر 10] . وبشرهم فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة 155] وأخبر أن جزاءهم الجنة فقال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان 12] .(45/52)
وقد قرن الله الصبر بالقيم العليا في الإسلام، فقرنه باليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة 24] ، وقرنه بالتوكل، قال تعالى: {َنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت 58، 59] ، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة} [البقرة 153] ، وقرنه بالتقوى في عدة آيات منها: قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران 186] ، وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران 120] ، وقوله تعالى في سورة يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف 90] .(45/53)
وقرن الله - تبارك وتعالى - الصبر بالعمل، فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود 11] ، وقرنه بالجهاد، في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل 110] ، وفي قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين} [محمد 31] ، وقرنه بالاستغفار: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالأِبْكَارِ} ، وقرنه بالتسبيح، في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور 48] وفي قوله تعالى في سورة طه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه 130] ، وقرن الصبر في القرآن الكريم بالحق، في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر 1-3] ، وقرنه بالرحمة، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد 17] ، وقرنه بالشكر في عدة آيات، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم 5] .(45/54)
وحديث القرآن عن الصبر متنوع وممتع مما يدل على أهميته ومكانته العظيمة، وكذا الشأن في السنة النبوية، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على هذا الخلق الكريم، وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم أنموذجاً يحتذى في التخلق بخلق الصبر بشتى أنواعه وأعلى درجاته، ومن قرأ في سيرته العملية وسنته القولية سيجد أن للصبر شأناً عظيماً.
ولقد وقفت على مؤلف لطيف لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى - في موضوع الصبر بعنوان (قاعدة في الصبر) حوى - على لطافته وصغر حجمه - فوائد غزيرة وتأصيلات مفيدة وبخاصة في جانب الصبر على أذى الغير، صاغها المؤلف - رحمه الله - بأسلوب مميز فريد، جلى فيه مميزات هذا النوع من الصبر وبين فوائده، وما إن انتهيت من مطالعته وقراءته، حتى عقدت العزم على تحقيقه وإخراجه بغية الانتفاع به في خاصة نفسي، وتسهيل انتفاع عامة المسلمين بما حواه من فوائد وفرائد، وقد قدمت لهذا المؤلف بمقدمة في التعريف بهذه الرسالة، ووصف نسخها الخطية، والعمل الذي قمت به، وذلك على النحو التالي:
القسم الأول: في التعريف بالرسالة ووصف نسخه الخطية وعملي فيها.
أ- التعريف بالرسالة.
أولاً: اسم الرسالة.
ثانياً: توثيق نسبة الرسالة إلى المؤلف.
ثالثاً: موضوع الرسالة.
ب- وصف النسخ الخطية.
ج- عملي في الرسالة.
القسم الثاني: تحقيق النص.
وإذ أقدم هذه الرسالة لأرجو الله أن ينفع بها من اطلع عليها، وأن يجعل عملي عملاً صالحاً لوجهه خالصاً، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
القسم الأول
التعريف بالرسالة ووصف النسخ الخطية وعملي فيها
أولاً: التعريف بالرسالة.
أ- اسم الرسالة: اسم الرسالة كما هو مسجل في الصفحة الأولى من النسختين الخطيتين هو: (قاعدة في الصبر) .(45/55)
ولكن جاء في رسالة (أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية) تأليف: محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيق المغربي (ت 74) وكذا في العقود الدرية لابن عبد الهادي تسميتها بـ: (قاعدة في الصبر والشكر. نحو ستين ورقة) .
وهذا الكلام يدل على أن الرسالة التي بين أيدينا هي جزء من مؤلف أكبر يشمل موضوعي الصبر والشكر، ويؤكد ذلك مقدمة الرسالة ونهايتها حيث ذكر المصنف الشكر فقال في المقدمة: "وإذا اعتبر العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر"وقال في نهاية الرسالة: "والأصل الثاني الشكر وهو العمل بطاعة الله تعالى".
ولكن لم أقف على تكملة هذه الرسالة.
ب- توثيق نسبة الرسالة إلى المؤلف:
يدل على صحة نسبة الرسالة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أمور منها:
1- ما جاء على طرة الرسالة من قول الناسخ: (قاعدة في الصبر للشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله) .
2- ما جاء في رسالة (أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية) تأليف: محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق المغربي (ت 749) حيث قال: (قاعدة في الصبر والشكر. نحو ستين ورقة) .
3 - ما جاء في كتاب العقود الدرية لابن عبد الهادي (ص 39) حيث ذكر أن من مؤلفات ابن تيمية (قاعدة في الصبر والشكر) .
ج - موضوع الرسالة:
بدأ المؤلف - رحمه الله - هذه الرسالة ببيان أن الدين كله يرجع بجملته إلى أمرين هما: الصبر والشكر، واستدل لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وبقوله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله عجب، لا يقضي الله لمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
ثم بين أن الصبر عموماً ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
أولاً: صبر على الطاعة حتى يفعلها.
ثانياً: صبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله.
ثالثاً: الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب.
ثم بين أن المصائب نوعان:(45/56)
النوع الأول: نوع لا اختيار للخلق فيه، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، وهذا النوع يسهل الصبر فيه لأن العبد يشهد فيه قضاء الله وقدره، وأنه لا مدخل للناس فيه فيصبر إما اضطراراً وإما اختياراً.
والنوع الثاني: المصائب التي تحصل للعبد بفعل الناس، في ماله أو عرضه أو نفسه، وهذا النوع يصعب الصبر عليه جداً لأن النفس تستشعر المؤذي لها وهي تكره الغلبة فتطلب الانتقام، ولا يصبر على هذا النوع إلا النبيون والصديقون.
وقد اقتصر كلام المصنف - رحمه الله - في بقية الرسالة على الأسباب التي تعين العبد على الصبر على المصائب التي تصيبه بفعل الناس، وذكر ذلك من عشرين وجهاً.
وختم المصنف كلامه بالإشارة إلى الأصل الثاني وهو: الشكر وفسره بأنه العمل بطاعة الله واقتصر على ذلك وخلت الرسالة من تفصيل القول في ذلك، ولعل السبب في ذلك هو تصرف من أفرد الرسالة بالذكر وفصلها عن باقي التصنيف وإلا فالرسالة لها تتمة، ويشهد لذلك ما ذكره ابن رشيق في تعداده لمؤلفات ابن تيمية حيث قال: "قاعدة في الصبر والشكر. نحو ستين ورقة"فقد تصرف المختصر في العنوان واقتصر كذلك على ما كتب في موضوع الصبر فقط، ولم يكمل بقية الرسالة، والله أعلم.
ولعل في ذلك ما يبرر كون الرسالة قد خلت من الخاتمة وكتب بدلاً من ذلك في آخرها "تمت بحمد الله وعونه".
ب- وصف النسخ الخطية:
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين خطيتين.
النسخة الأولى: نسخة جامعة أكسفورد.
وتقع ضمن مجموع فيه كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولها صورة فلمية في قسم المخطوطات بعمادة شؤون المكتبات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، برقم (ف 8570/5) .
وعدد لوحاتها: 4 أربع لوحات.
وعدد الأسطر: يبلغ ما بين عشرين وواحد وعشرين سطراً.
وعدد الكلمات: متوسط عدد الكلمات في كل سطر خمس عشرة كلمة.
اسم الناسخ: جاء في صفحة العنوان العبارة التالية:(45/57)
"هذه الرسالة بخط العلامة بيدكين التركماني، تلميذ ابن تيمية مؤلف هذه الرسالة". وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي في كتابه "شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه": "أن من تلاميذ ابن تيمية إدريس ابن بيدكين بن عبد الله التركي الحنفي مؤلف كتاب اللمع في الحوادث والبدع. تتلمذ على شيخ الإسلام".
تاريخ النسخ: جاء في آخر النسخة: "تمت - بحمد الله تعالى وعونه - في يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانمائة".
نوع الخط ووصفه: كتبت هذه النسخة بخط نسخ عادي منقوط، واضح ومقروء، وهي سالمة من الخرم والعيوب، ولكنها خالية من المقابلة أو السماعات.
وقد رمزت لهذه النسخة بالرمز (أ) .
النسخة الثانية: نسخة جامعة برنستون بنيوجرسي بالولايات المتحدة الأمريكية.
وهي في ضمن مجموع فيه كتاب (العرش) للذهبي، و (لمعة الاعتقاد) لابن قدامة و (فصل في شرح حديث سيد الاستغفار) لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولها صورة فيلمية في قسم المخطوطات بعمادة شؤون المكتبات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم (9742/3) .
وعدد لوحاتها: 8 ثماني لوحات.
وعدد الأسطر: 13 ثلاثة عشر سطراً.
وعدد الكلمات: متوسط عدد الكلمات في السطر اثنتا عشرة كلمة.
اسم الناسخ: محمد بن إسحاق التميمي داري.
تاريخ النسخ: لم يذكر.
نوع الخط ووصفه: كتبت هذه النسخة بخط نسخ عادي منقوط واضح ومقروء وسالم من الخرم والعيوب، وخالية من المقابلة والسماعات.
وقد رمزت لهذه النسخة بالرمز (ب) .
وهناك نسخة ثالثة لهذه الرسالة وقفت على معلومات عنها ضمن (ثبت فيه قوائم ببعض مخطوطات شيخ الإسلام ابن تيمية) تصنيف الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل.
جاء فيه (ص 91) : "رسالة في الصبر في 8 ورقات بمكتبة الأوقاف العامة ببغداد، برقم (4715/2) ، كتبها سلطان بن ملا حسين القره غول، سنة 1217هـ".
ولم أستطع الوقوف عليها للأوضاع الراهنة في العراق.
ج- عملي في الكتاب:(45/58)
1- نسخت النص وفق القواعد الإملائية الحديثة، مع الضبط بالشكل لما قد يشكل.
2- عزوت الآيات القرآنية إلى سورها مع ذكر رقمها في الحاشية.
3- قمت بتخريج الأحاديث النبوية المرفوعة مع بيان حكم أهل العلم عليها، كما اجتهدت في تخريج الآثار الموقوفة حسب ما وقفت عليه.
4- شرحت ما يحتاج لشرح من الألفاظ الغريبة الواردة في النص.
5- وضعت للكتاب مقدمة فيها تعريف بالكتاب ومحتواه، وبالنسخ الخطية، وعملي فيه.
نماذج من النسخ الخطية
P83
صورة من الورقة الأولى من النسخة (أ)
P84
صورة من الورقة الأخيرة من النسخة (أ)
P85
صورة من الورقة الأولى من النسخة (ب)
P86
صورة من الورقة الأخيرة من النسخة (ب)
القسم الثاني
التحقيق
قاعدة في الصَّبر
للشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة (ت 728) رحمه الله
ورحم جميع أموات المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم اعف واغفر.
قال الشيخ الإمام العامل شيخ الإسلام، مفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد اتيمية.
فصل:
جعل الله - سبحانه وتعالى - عباده المؤمنين بكل منزلة خيراً منه، فهم دائماً في نعمة من ربهم، أصابهم ما يحبون، أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقاً يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم الذين إذا دعي يوم القيامة كل أناس بإمامهم دعوا به -صلوات الله وسلامه عليه - أنه قال: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله عجب لا (1) يقضي الله لمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" (2)
__________
(1) في (ب) : (ما) .
(2) أخرجه مسلم،كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير (8/227) ، وأخرجه الإمام أحمدفي المسند (1/173) ، وأخرجه الدارمي في سننه، كتاب الرقائق،باب المؤمن يؤجر في كل شيء (2/318) ، بلفظ: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ... الحديث".
ولم أقف على الحديث بلفظ: " ... كله عجب" كما أورده المؤلف.(45/59)
فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن وأنها خيرله إذا صبر على مكروهها وشكر لمحبوبها، بل هذا داخل في مسمى الإيمان كما قال بعض السلف: "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (1) وإذا اعتبر العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك لأن الصبر ثلاثة أقسام:
صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبرٍ ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.
النوع الثاني: صبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها، وتزيين الشيطان، وقرناء السوء، تأمره بالمعصية وتجرئه عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها، قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يقدر على ترك المعاصي إلا صديق.
النوع الثالث: الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب وهي نوعان:
نوع لا اختيار للخلق فيه، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وإنه لا مدخل للناس فيها، فيصبر إما اضطرارا، وإما اختيارا، فإن فتح الله على قلبه باب الفكرة في فوائدها وما في حشوها من النعم والألطاف انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذ في حقه نعمة، فلا يزال هجيرى قلبه ولسانه رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وهذا يقوى ويضعف بحسب [قوة] محبة العبد لله وضعفها، بل هذا يجده أحدنا في الشاهد كما قال الشاعر يخاطب محبوبا له [ناله ببعض ما يكره] :
لئن ساءني أن نِلتِنِي بمساءة
لقد سرني أني خطرت ببالِكِ
النوع الثاني: أن يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه.
__________
(1) الآية [5] من سورة إبراهيم والآية [31] من سورة لقمان والآية [19] من سورة سبأ والآية [33] من سورة الشورى(45/60)
فهذا النوع يصعب الصبر عليه جداً، لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصديقون، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول: يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر وأخبر عن نبي من الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (1) وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه جرى له هذا مع قومه [فجعل يقول مثل ذلك] ، فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والعز والسرور والأمن والقوة في ذات الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له وزيادة العلم، ولهذا قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (2) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولهذا قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا} يعني: الأعمال الصالحة مثل العفو والصفح {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (3) نصيب وافر وهي الجنة.
ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (54) رقم (3477) .
ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، باب غزوة أحد (5/179) .
(2) الآية [24] من سورة السجدة.
(3) الآيتان [34،35] من سورة فصلت.(45/61)
أحدها: أن يشهد أن الله - سبحانه وتعالى - خالق أفعال العباد حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه، ومشيئته والعباد آلة، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تستريح من الهم والغم والحزن.
الثاني: أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كلمة من جواهر الكلام: لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه، ولا يخافنّ عبدٌ إلا ذنبه (2) وروي عنه وعن غيره: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة (3) .
الثالث: أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (4) . ولما كان الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقه، ومقتصد يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو ويترك حقه. ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين.
__________
(1) الآية [30] من سورة الشورى.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/122) رقم (9718) .
والأصبهاني في الترغيب والترهيب (2/662) رقم (1586) .
وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/383) رقم (547-548) .
(3) ق 3/أ) .
(4) الآية [40] من سورة الشورى.(45/62)
ويشهد نداء المنادي يوم القيامة ألا ليقم من وجب أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفى وأصلح (1) وإذا شهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام والاستيفاء سهل عليه الصبر والعفو.
الرابع: أن يشهد أنه إذا عفى وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش، والغل، وطلب الانتقام، وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافا مضاعفة، ويدخل في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من أُخِذَ منه دراهم فَعُوِّضَ عنها ألوفاً من الدنانير، فحينئذ يفرح بما مَنَّ الله عليه أعظم فرحٍ ما يكون.
الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلاً [جده] في نفسه، فإذا عفى أعزه الله. وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً" (3) فالعز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عِزٌّ في الظاهر وهو يورث في الباطن ذُلاً، والعفو ذل في الباطن وهو يورث العز باطناً وظاهراً.
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجره فلايقوم إلا من عفى في الدنيا وذلك قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ".
أورده السيوطي في الدر المنثور (6/11) .
والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11/198) .
وأخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (ص 276، 277) عن الحسن البصري مرسلاً، ووصله البيهقي في شعب الإيمان (13/136) برقم (7050) .
ورواه هناد ابن السري في الزهد (2/904) ، وأبو نعيم في الحلية (9/204) عن الحسن البصري موقوفاً.
(2) الآية [134، 148] من سورة آل عمران.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الأدب والبر والصلة باب استحباب العفو (8/20) .(45/63)
السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفى عن الناس عفى الله عنه، ومن غفر غفر الله له، فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه، سبب لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويحسن إليه على ذنوبه، ويسهل عليه عفوه وصبره ويكفي العاقل هذه الفائدة.
السابع: أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه، ما لا يمكن استدراكه، ولعل هذا يكون أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفى وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
الثامن: أن انتقامه واستيفاءه وانتصاره لنفسه وانتقامه، لها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على الله لم يكن ينتقم لنفسه (1) مع أن أذاه أذًى لله ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفس، وأزكاها، وأبرها وأبعدها من كل خُلقٍ مذموم، وأحقها بكل خُلقٍ جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها. فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها وبما فيها من العيوب والشرور بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها.
التاسع: إن أوذي على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله، فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله - تعالى - اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله تلفه كان على الله خلفه.
وإن كان قد أوذي على معصية، فليرجع باللوم على نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه.
__________
(1) ق 3/ب) .(45/64)
وإن كان قد أوذي على حضٍ، فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أَمْرٌ أَمَرُّ من الصبر، فمن لم يصبر على حر الهواجر، والأمطار، والثلوج، ومشقة الأسفار، ولصوص الطريق، وإلا فلا حاجة له في المتاجر، وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في [طلب] شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقه في طلبه.
العاشر: أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لا يدفع عنه أحد من خلقه، قال الله تعالى: {وَاصْبِرُوا (1) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) وقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (3) .
الحادي عشر: أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان،فلا يبدل من إيمانه جزءاً في نصرة نفسه، فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص والله - تعالى - يدفع عن الذين آمنوا.
الثاني عشر: أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه، وأسره، وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها مقهوراً معها لم تزل [به] حتى تهلكه، أو [تتداركه] رحمة من ربه.
فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه، فحينئذ يظهر سلطان القلب وتثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه.
الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه، ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها، فأين من ناصره الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه.
__________
(1) في (ب) : "واصبر".
(2) الآية [46] من سورة الأنفال.
(3) الآية [146] من سورة آل عمران.(45/65)
الرابع عشر: أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره، ولوم الناس له فيعود بعد إذائه له مستحييا منه، نادماً على ما فعله، بل يصير موالياً له وهذا معنى قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (1) .
الخامس عشر: ربما كان انتقامه ومقابلته سبباً لزيادة شر خصمه وقوة نفسه وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفى أمن من هذا الضرر. والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت به نفوس ورياسات وأموال وممالك لو عفى المظلوم لبقيت عليه.
السادس عشر: أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما، ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبين هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالماً ينتظر المقت والعقوبة.
السابع عشر: أن هذه المظلمة التي قد ظُلمها هي سبب، إما لتكفير سيئة، أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته.
الثامن عشر: أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا كان صبره وعفوه موجباً لذل عدوه، [وخوفه] وخشيته منه، ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله، ولهذا تجد كثيراً من الناس إذا شتم غيره أو آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلاً كان يجده.
__________
(1) الآيتان [34،35] من سورة فصلت.(45/66)
التاسع عشر: أنه إذا عفى عن خصمه، استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو.
العشرون: أنه إذا عفا وصفح كانت هذه حسنة، فتولد له حسنة أخرى، وتلك الأخرى تولد أخرى، وهلم جرا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها، وربما كان هذا سبباً لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك.
والأصل الثاني الشكر وهو العمل بطاعة الله تعالى.
تمت بحمد الله تعالى وعونه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
فهرس المصادر والمراجع
- اقتضاء الصراط المستقيم – ابن تيمية- ط دار الإفتاء.
- تاريخ بغداد - أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- تاريخ دمشق - ابن عساكر- ط دار الفكر.
- الترغيب والترهيب – أبو القاسم الأصبهاني - الناشر: مكتبة النهضة الحديثة.
- الترغيب والترهيب - المنذري.
- تفسير ابن جرير الطبري - ط مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 3.
- الجامع الصغير – عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي- دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 4.
- جامع بيان العلم وفضله - ابن عبد البر - تحقيق أبي الأشبال الزهيري، ط دار ابن الجوزي، ط الأولى.
- حلية الأولياء - أبو نعيم الأصبهاني- دار الكتاب بيروت، لبنان، ط2، 1387 هـ.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور – عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي- دار المعرفة، بيروت، لبنان.
- ديوان ابن الدمينة – تحقيق أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة ط الأولى.
- روضة العقلاء - ابن حبان - تحقيق حامد الفقي، نشر مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
- الزهد للبيهقي.
- الزهد - هناد السري - تحقيق عبد الرحمن الفريوائي، الكويت.
- الزهد - وكيع بن الجراح - تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، ط مكتبة الدار بالمدينة المنورة.(45/67)
- سلسلة الأحاديث الضعيفة - محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
- السنن (مع شرح السيوطي، وحاشية السندي) - أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي - دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- السنن - عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- السنن - علي بن عمر الدارقطني - مطبوعات السيد عبد الله هاشم اليماني، المدينة النبوية، 1386 28.
- السنن - أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي - تعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، نشر وتوزيع محمد علي السيد، حمص ط 1، 1388.
- شعب الإيمان - أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ط الهند.
- الشكر - ابن أبي الدنيا - تحقيق ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، دمشق، سوريا، 1405هـ.
- صحيح البخاري ط: دار السلم، الرياض.
- صحيح مسلم – مسلم بن الحجاج القشري - دار المعرفة، بيروت، لبنان.
- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية - أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي التيمي - تحقيق إرشاد الحق الأثري، دار العلوم الأثرية، فيصل أباد، باكستان، ط2، 1401هـ.
- فتح الباري – محمد بن علي بن حجر العسقلاني - المكتبة السلفية.
- فضيلة الشكر لله على نعمته - أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد السامري المعروف بالخرائطي - تحقيق محمد مطيع الحافظ، ط دار الفكر، الطبعة الأولى 1402هـ.
- الفوائد – تمام الرازي – ترتيب وتخريج جاسم فهيد الدوسري، دار البشائر الإسلامية، بيروت لبنان، ط 2، 1987.
- لسان العرب – أبوالفضل جمال الدين محمد بن مكرم المصري - دار صادر، بيروت، لبنان.
- المجالسة وجواهر العلم – أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري - ط دار ابن حزم.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1402هـ.(45/68)
- المستدرك على الصحيحين – أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري - دار الفكر، بيروت، لبنان، 1398هـ.
- المسند – أبو يعلى تحقيق حسين سليم أسد - دار المأمون للتراث، دمشق.
- المسند - الإمام أحمد - ط. مؤسسة الرسالة.
- مسند الشهاب – محمد بن سلامة القضاعي - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة بيروت، لبنان، 1405هـ.
- المعجم الكبير – أبو القاسم، سليمان بن أحمد الطبراني - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، الدار العربية، بغداد، العراق، ط1.(45/69)
كتاب الكبائر
للحافظ أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي
تحقيق
د. محمد بن تركي التركي
الأستاذ المساعد في كلية التربية في جامعة الملك سعود
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ ّحقَ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنتُمْ مُسْلِمُون} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَآلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكم رَقِيبَاً} .
{يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدَاً يَصْلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِع اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً} .
أما بعد، فهذا كتاب صغير في حجمه، كبير في مادته وموضوعه، ولإمام من الأئمة الحفاظ المغمورين، أحببت التعليق عليه، وخدمته بما يليق به.
ودفعني إلى اختياره عدة أمور، من أهمها كونه أول كتاب يُصنف في الكبائر، بل يكاد يكون الكتاب الوحيد من الكتب المتقدمة التي وصلتنا في هذا الموضوع، إذ لم أقف على شيء مما ألف في بيان الكبائر قبل كتاب الذهبي سوى هذا الكتاب.
إضافة إلى أنه لإمام من الأئمة الحفاظ الذين لم يصلنا من مصنفاته إلا كتابين فقط، طبع أحدهما، وهذا هو الآخر، أحببت أن أقوم بتحقيقه وإخراجه إلى عالم المطبوعات، على الوجه اللائق به.
ولهذا وغيره قمت بتحقيقه ودراسته بما تقتضيه قواعد التحقيق، من غير تطويل ممل ولا إيجاز مخل، محاولاً قدر الإمكان التركيز على الجانب الحديثي في تعليقي على الكتاب.(45/70)
ولذا فلم أر أن أترجم لرجال الإسناد كلهم، وإنما أقتصر على بيان حال من عليهم مدار الحديث، ممن يكون في بيان حالهم دور في تصحيح الحديث أو تضعيفه.
ولكني توسعت في تخريج الأحاديث، لأن هذا في نظري أهم من الإطالة في التراجم، وخاصة أن أكثر هذه الأحاديث جاء في أسانيدها بعض العلل، فكان لابد من التوسع في ذلك، لبيان الأوجه الراجحة من المرجوحة.
وقد قدمت للكتاب بمقدمة قصيرة، ذكرت فيها نبذة موجزة عن الكبائر، ثم ترجمة موجزة للمؤلف، ثم دراسة للكتاب، كما سيأتي.
وأخيراً هذا هو جهد المُقِل، ولا ينفك عن كونه عمل بشر، وعمل البشر مهما كان لا يخلو من النقص والخلل، وعذري أني بذلت جهدي واستطاعتي فيه، فما كان من صواب فبتوفيق من الله وحده، وما كان فيه من خلل ونقص فمني ومن الشيطان، وأسأل الله بمنه وكرمه أن يتجاوز ذلك كله عني.
كما أسأله - عز وجل - أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به، يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نبذة موجزة عن الكبائر
تعريف الكبيرة:
اختلف العلماء في تعريف حد الكبيرة على أقوال كثيرة جداً ليس هنا موضع ذكرها وبيان اختلاف العلماء فيها.
ومن أشهر ما قيل في تعريف الكبيرة:
قيل: إن الكبيرة هي ما عليه حدٌّ في الشرع.
وقيل: إنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة.
وقيل: إنها كل ذنب رُتب عليه حدٌّ في الدنيا، أو وعيد شديد في الآخرة.
وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
وقيل: هي كل ذنب خُتم بلعنة، أو غضب، أو نار.
وقد رجح هذا التعريف الأخير شيخ الإسلام ابن تيمية، وبين سلامة هذا التعريف من القوادح الواردة على غيره، وتكلم بكلام نفيس في هذا الجانب، فليراجع.(45/71)
وقال الحافظ ابن حجر بعد استعراضه لعدد من الأقوال، قال: ومن أحسن التعاريف قول القرطبي في المفهم: "كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم، أو أخبر فيه بشدة العقاب، أو علق عليه الحد، أو شدد النكير عليه فهو كبيرة".
قال الحافظ: وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو اللعن أو الفسق، من القرآن، أو الأحاديث الصحيحة والحسنة، ويُضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عُرف منه تحرير عدّها.
وتبعاً للاختلاف السابق في تعريف الكبيرة اختلف العلماء أيضاً في تحديد عدد الكبائر، وما هي، فمن اقتصر على أنها ما جاء النص على أنه كبيرة قال إنها سبع، أو تسع، كما جاء ذلك في الأحاديث الواردة في الكبائر ومن عرّفها بتعريف أوسع قال إنها أكثر من ذلك، وهكذا.
ولمعرفة الأقوال في ذلك راجع المصادر المتقدمة في تعريف الكبيرة.
المؤلفات في الكبائر
رغم أهمية هذا الموضوع وخطره، فلم أقف إلا على عدد قليل من الكتب ممن أفرد هذه الكبائر بكتاب مستقل، إلا أن الكثير من العلماء قد ضمنوها كتبهم، فتجد ذكر الكبائر ضمن كتب الحديث، والعقيدة، وغيرها.
ومما وقفت عليه ممن أفرد الكبائر بتأليف مستقل ما يلي:
1- كتاب الكبائر، للبرديجي.
وسيأتي الكلام عليه مفصلاً.
2- كتاب الكبائر للذهبي.
وهو كتاب معروف ومشهور، وقد طبع عدة مرات.
3- الكبائر، للعلائي.
ذكره ابن حجر الهيثمي في الزواجر 1/14، فقال: وقال شيخ الإسلام العلائي في قواعده:إنه صنف جزءاً جمع ما فيه نص صلى الله عليه وسلم فيه على أنه كبيرة.
ثم ذكر العلائي عدداً من الكبائر، وقال: فهذه الخمسة والعشرون هي مجموع ما جاء في الأحاديث منصوصاً عليه أنه كبيرة.
4- الكبائر للديلمي.(45/72)
ذكره ابن حجر الهيثمي في الزواجر 1/14، فقال: قال الديلمي من أصحابنا: وقد ذكرنا عددها في تأليف لنا باجتهادنا، فزادت على أربعين كبيرة.
5- كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر، لابن حجر الهيثمي.
وهو أيضاً مطبوع عدة مرات، ولعله من أوسع الكتب المؤلفة في هذا الموضوع.
6- كتاب الكبائر، للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وهو كتاب مشهور، وقد طبع عدة طبعات أيضاً.
7- العمدة بتمييز الكبائر، لأحمد الشريف البرقاوي.
وهو مطبوع، وصدر عن دار الأرقم بالكويت، عام 1405هـ.
8- الكبيرة والمذاهب فيه، تأليف حاسي كوتا.
وهو رسالة ماجستير، بجامعة أم القرى، كلية الشريعة، عام 1401هـ.
هذا بعض ما وقفت عليه من الكتب المفردة في موضوع الكبائر، إلا أنه كما قدمت قد تكلم عنه عدد من الأئمة في ثنايا كتبهم.
ومن أوسع ما وجدته ما يلي:
الإمام ابن منده في كتابه الإيمان 2/544، وما بعدها.
والإمام اللالكائي في كتابه شرح اعتقاد أصول أهل السنة 6/1103، وما بعدها.
والإمام ابن القيم في إعلام الموقعين 4/401. وقد اقتصر على تعداد الكبائر فقط.
وكذا تكلم عنها في الجواب الكافي ص186، وما بعدها.
والإمام ابن النحاس في كتابه تنبيه الغافلين ص119، وما بعدها.
وقد ذكر أنه استدرك كثيراً من الكبائر مما أغفله الذهبي وابن القيم.
وانظر أيضاً المراجع المتقدمة في تعريف الكبيرة.
ترجمة موجزة للمؤلف (1)
اسمه ونسبه ومولده:
هو: الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون بن رَوح البَرْدِيجي، البَرْذَعي، النيسابوري، نزيل بغداد.
ولد بعد الثلاثين ومائتين، أو قبلها.
شيوخه:
سمع الحافظ البرديجي من الكثير من الشيوخ، ولا عجب في ذلك، فهو قد رحل إلى بلدان كثيرة، ومن الطبيعي كثرة شيوخه مع تعدد رحلاته.
__________
(1) أهم مصادر ترجمته:
طبقات المحدثين بأصبهان 4/84، تاريخ بغداد 5/194، تاريخ دمشق 6/ 64، سير أعلام النبلاء 14/122، تذكرة الحفاظ 2/746، النجوم الزاهرة 3/184، شذرات الذهب 4/ 6.(45/73)
وقد ذكر له مترجموه عدداً من الشيوخ، وسأكتفي بذكر بعضهم مراعاة للاختصار، ولأن استيعابهم مما ليس من مقصدنا هنا.
فمن أشهر شيوخه:
أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، محمد بن إسحاق الصَّغاني، محمد بن عبد الملك الدَّقيقي، محمد بن يحيى الذهلي، نصر بن علي الجَهْضَمي، هارون بن إسحاق الهمداني، أبو سعيد الأشج، وغيرهم.
تلاميذه:
كما ذكر له مترجموه عدداً من التلاميذ، فمن أشهرهم:
أبو عمرو أحمد بن المبارك المُسْتَملي، جعفر بن أحمد بن سنان القطان، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، عبد الله بن محمد بن عمران المعدل، علي بن محمد بن لؤلؤ الوراق، وغيرهم.
طلبه للعلم، ورحلاته العلمية:
كان الإمام البرديجي - رحمه الله - حريصاً على طلب العلم، جاداً في تحصيله، ولا أدل على ذلك من أنه قد رحل في طلب العلم في سن مبكرة.
يدلّ على ذلك ما أورده الحاكم في تاريخه قال: قرأت بخط أبي علي المُستملي سماعه من أحمد بن هارون البردعي الحافظ في مسجد محمد بن يحيى - يعني الذهلي - في صفر، سنة خمس وخمسين ومائتين.
وتقدم أنه قد ولد حوالي سنة ثلاثين ومائتين.
ويدل على حرصه أيضاً كثرة البلدان التي سمع فيها.
قال الذهبي بعد أن ذكر معظم شيوخه: وطبقتهم بالشام، والحرمين، والعَجَم، ومصر، والعراق، والجزيرة.
وقال ابن العديم: وهو حافظ معروف رحل وطاف.
وهذا ما جعل البرديجي يبلغ مكانة عالية، ويحرص العلماء على السماع والاستفادة منه، سواء كانوا من شيوخه أو تلامذته.
قال الحاكم في تاريخه: ورد نيسابور على محمد بن يحيى الذهلي، فاستفاد وأفاد، وكتب عنه مشايخنا في ذلك العصر، ولا أعرف إماماً من أئمة عصره في الآفاق إلا وله عليه انتخاب يُستفاد.(45/74)
وقد أورد الحافظ ابن عساكر عدداً من شيوخه الذين سمع منهم، وذكر البلدان التي سمع فيها منهم، فمن هذه البلدان: بيروت، ودمشق، وحمص، ومصر، وحَرَّان، والمِصَّيصة، والكوفة، وبغداد، ومكة.
توثيقه، وثناء العلماء عليه:
أجمع كل من ترجم له على إمامته وتوثيقه وحفظه.
قال الدارقطني: ثقة مأمون جبل.
وقال أبو الشيخ الأصبهاني: من حفاظ الحديث وكبرائهم.
وقال الخطيب: كان ثقة فاضلاً فَهماً حافظاً.
قال الذهبي: الإمام الحافظ الحجة… جمع وصنف، وبرع في علم الأثر.
وبنحو ذلك وصفه غير واحد من الأئمة، مما يطول استقصاؤه.
مؤلفاته:
ذكر غير واحد ممن ترجم له أنه له عدة مصنفات.
وقد تتبعت مؤلفاته في بحثي الموسع عن ترجمته، ونقولات العلماء عن هذه المؤلفات، وما وصلنا منها، وسأكتفي هنا بذكر أسماء هذه المؤلفات فقط:
1- كتاب الكبائر، وسيأتي الكلام عليه.
2- كتاب طبقات الأسماء المفردة من الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث، وهو مطبوع.
3- كتاب معرفة المتصل من الحديث، والمرسل والمقطوع، وبيان الطريق الصحيحة.
4- كتاب المراسيل.
5- كتاب الفوائد.
6- كتاب في الجرح والتعديل.
ولم أقف على اسمه، ولكن وجدت منه نقولات عدة في جرح الرجال وتعديلهم عند الخطيب البغدادي، وابن عدي، والحافظ ابن حجر، وغيرهم.
وفاته:
اتفقت مصادر ترجمته على أنه توفي سنة إحدى وثلاث مائة، ببغداد.
قال أبو الشيخ الأصبهاني: مات سنة إحدى وثلاث مائة ببغداد.
وقال أحمد بن كامل: مات في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثمائة ببغداد.
وكذا قال أكثر من ترجم له.
التعريف بالكتاب
اسم الكتاب:
جاء اسم الكتاب في النسخة المخطوطة: "جزء فيه من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة في الكبائر"، وجاء في السماعات الملحقة بالكتاب باسم: "ما روي في الكبائر".
توثيق نسبته إلى مؤلفه:(45/75)
لم أقف على من ذكر أن للبرديجي كتاباً في الكبائر، إلا أن هذا لا يعني التشكيك في صحة نسبته إليه، بل يمكن الجزم بأنه من تأليفه لعدة أمور:
1- وجود الإسناد المتصل إلى مؤلفه، وأنه من تأليفه.
2- جود السماعات الكثيرة التي على الكتاب، والتي تثبت أنه من تأليفه، ومن بينها سماعات لعدد من الحفاظ كالضياء المقدسي، وابن عبد الهادي، وغيرهم.
3- إن الشيوخ المذكورين في بداية كل حديث هم من شيوخ المصنف.
4- وجود بعض الأحاديث قد رويت من طريق المصنف بنفس الإسناد الوارد عنده في هذا الكتاب، كما سيأتي في تخريج الأحاديث، مما يدل على اعتماد من أخرج الحديث من طريقه على كتابه هذا.
كما إن الحافظ ابن حجر نقل روايات عن البرديجي، كماسيأتي، موجودة في كتابه هذا، مما يدل على استفادته منه، وإن كان لم يصرح باسم كتابه.
ولهذا فالراجح أنه من تأليفه، وأما عدم اشتهاره، وذكره عند العلماء فلعل ذلك بسبب كونه صغير الحجم، إذ إن عدد الأحاديث الواردة فيه أحد عشر حديثاً فقط.
موضوع الكتاب:
يكاد عنوان الكتاب ينبئ عن مضمونه وموضوعه، فهو كتاب خاص بذكر الأحاديث الواردة في الكبائر وما ورد في التشديد فيها.
وإن كان لم يستوعب جميع هذه الأحاديث، فقد فاته الكثير، كما سيأتي.
أهمية الكتاب:
يحتل كتابنا هذا أهمية خاصة، وذلك لعدة أمور:
1- أنه يعتبر أول كتاب أفرده مؤلفه لذكر الكبائر، فلم أقف بعد طول بحث على من ألف في الكبائر قبله.
2- أنه يعتبر الكتاب الوحيد في بابه خلال القرون المتقدمة، فلم أقف أيضاً على من ألف في الكبائر بعده إلا الإمام الذهبي، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة.
3- أنه يمتاز بأن مؤلفه يسوق الأحاديث فيه بإسناده، شأنه شأن العلماء في عصره، وهذا مما يعطي الكتاب أهمية أخرى.
4- أن مؤلفه إمام حافظ متفق على إمامته وتوثيقه، كما تقدم.
5- أنه انفرد بطرقٍ لبعض الأحاديث، لم أجدها عند غيره، كما في حديث أبي هريرة، وحديث أبي أيوب.(45/76)
6- أنه في موضوع مهم جداً لكل مسلم، ولابد له من الإحاطة به.
بالإضافة إلى عدة أمور أخرى ستأتي في منهج المؤلف.
منهج المؤلف في الكتاب:
من خلال نظرة بسيطة على الكتاب، يمكن أن نوجز منهج المؤلف في كتابه في النقاط التالية:
1- أنه اقتصر فيه على ما ورد النص صراحة بأنه من الكبائر، ولم يذكر الأحاديث الأخرى التي يمكن أن تندرج تحت الكبائر، مما ليس فيه النص بأنه كبيرة.
2- أنه اقتصر في كل حديث على طريق واحد عن كل صحابي، فتراه يذكر الصحابي، ثم يورد عنه طريقاً واحداً، ولعله أراد الاختصار في ذلك، بدليل أننا نجده أحياناً يذكر أنه روي عن هذا الصحابي من أكثر من طريق، ويقتصر على أحدها، فيقول مثلاً: وعبد الله بن عمرو، من طرقٍ أصحها، ثم يورد الطريق إليه.
وهذا يعني أن عنده طرقاً أخرى، ولكنه أراد الاختصار على رواية واحدة.
3- أنه يعتني بالتفريق بين ألفاظ الرواة، فتراه مثلاً في الحديث الأول يفرق بين لفظ ابن نمير للحديث، ولفظ الثوري وجرير.
4- اهتمامه بمتون الأحاديث، وما فيها من زيادات، فتراه مثلاً في الحديث رقم 5 يقول بعده: وليس في كل الحديث:"ذكر قذف المحصنات".
5- عنايته بتعليل الأحاديث، فتراه في الحديث التاسع يفرق بين من رواه مرفوعاً، ومن رواه موقوفاً.
6- ومن منهجه أيضاً العناية بالأسماء والألقاب، ففي الحديث التاسع قال: وهو طيسلة بن ميَّاس، وميّاس لقب، وهو طيسلة بن علي الحنفي.
الملاحظات على الكتاب:
ليس هناك من ملاحظات تذكر على الكتاب، إلا عدم شموله للأحاديث الواردة في الكبائر.
ويمكن الجواب على هذا بأن يقال: إن هذه الأحاديث هي التي وقعت للمؤلف بإسناده، ويدل على ذلك قول المؤلف في بداية الكتاب: "روى أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر ". فهذا دليل على أنه لم يقع له غير أحاديثهم، وإلا لذكرها.(45/77)
ومن الملاحظات أيضاً سياقه لبعض الأحاديث التي في أسانيدها ضعفاء، وعدم التنبيه على ذلك.
وهذا يمكن الجواب عليه بأن سياقه للإسناد كاف في ذلك، وهذا منهج معروف عند الكثير من العلماء.
وصف النسخة الخطية:
اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على النسخة الوحيدة له - حسب علمي - وهي من محفوظات المكتبة الظاهرية، ضمن المجموع رقم 81، من الورقة 1 إلى الورقة 5.
وهي من رواية الضياء المقدسي، وقد روى معها أيضاً إملاءان من أمالي أبي سعيد محمد بن أحمد بن جعفر بن ملة.
كما أن الحافظ الضياء المقدسي قد استدرك بعض الأحاديث على البرديجي، وساق أكثرها بإسناده.
وهذه النسخة مكتوبة بخط واضح، وقد استدرك الناسخ في الهامش بعض الأخطاء والسقط، إلا أنه في مواضع قليلة قد فاته بعض الشيء، كما سيأتي.
وهذه النسخة عليها الكثير من السماعات، وسيأتي ذكر بعضها.
تراجم رواة الكتاب
وصل إلينا هذا الكتاب من رواية الضياء المقدسي أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد، عن أبي القاسم عبد الواحد بن القاسم، عن أبي علي الحسن بن أحمد الحداد، عن أبي نعيم الأصبهاني، عن أبي علي الصواف، عن مؤلفه.
وفيما يلي تراجم موجزة لهؤلاء الرواة:
1- الضياء المقدسي:
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي.
ولد سنة تسع وستين وخمسمائة.
وهو ثقة حافظ متقن، أثنى عليه كل من ترجم له.
وأخباره، وثناء العلماء عليه كثير جداً، ليس هنا مجال التفصيل في ذلك.
قال ابن النجار: هوحافظ متقن، ثبت ثقةصدوق، نبيل حجة، عالم بالحديث وأحوال الرجال، له مجموعات وتخريجات، وهو ورع تقي زاهد عابد، محتاط في أكل الحلال، مجاهد في سبيل الله، ولعمري ما رأيت مثله في نزاهته وعفته، وحسن طريقته في طلب العلم.(45/78)
وقال الذهبي: برع في هذا الشأن، وكتب عن أقرانه ومن هم دونه، وحصَّل الأصول الكثيرة، وجرَّح وعدَّل، وصحح وعلل، وقيّد وأهمل، مع الديانة والأمانة، والتقوى والصيانة، والورع والتواضع، والصدق والإخلاص، وصحة النقل.
وقد ألف عدداً من المؤلفات المشهورة، كالأحاديث المختارة، وغيرها.
توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
2- أبو القاسم عبد الواحد بن أبي المطهر القاسم بن الفضل الأصبهاني الصيدلاني.
سمع من أبيه، وجعفر بن عبد الواحد، وابن أبي ذر الصَّالحاني، وغيرهم.
حدَّث عنه الضياء المقدسي، وابن خليل، وجماعة.
قال الذهبي في السير: الشيخ الجليل المسند الرّحلة.
وقال في تاريخ الإسلام: شيخ مُسند مُعمر مشهور ببلده.
ولد في ذي الحجة سنة أربع عشرة وخمسمائة.
وتوفي في جمادى الأولى، سنة خمس وستمائة، عن إحدى وتسعين سنة.
3- أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد الأصبهاني.
وهو ثقة حافظ مشهور، ترجم له غير واحد، ووصفوه بالحفظ والإتقان، وقد روى عن أبي نعيم الأصبهاني أكثر كتبه.
قال السمعاني: كان عالماً ثقة صدوقاً، من أهل العلم والقرآن والدين.
وقال الذهبي: الشيخ الإمام، المقريء المجود، المحدث المعمر، مسند العصر، شيخ أصبهان في القراءات والحديث جميعاً.
توفي سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقد قارب المائة.
4- الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني:
إمام حافظ متقن مشهور، صاحب المستخرج، والحلية، ومعرفة الصحابة، وغيرها من المؤلفات الكثيرة النافعة، التي تدل على سعة علمه وإمامته في هذا الشأن.
وقد ترجم له الكثيرون، وأفرد بعضهم في ترجمته رسائل مستقلة.
توفي سنة ثلاثين وأربعمائة.
5- أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن الصَّواف:
سمع من الإمام الترمذي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والبرديجي، وغيرهم.
حدث عنه: أبو بكر البرقاني، وأبو نعيم، وابن بشران، وغيرهم.
وصفه جميع من ترجم له بالحفظ والإتقان.(45/79)
قال الدارقطني: ما رأت عيناي مثل أبي علي بن الصواف.
وقال ابن أبي الفوارس: كان ثقة مأموناً، ما رأيت مثله في التحرز.
وقال الذهبي: الشيخ الإمام المحدث الثقة الحجة.
كان مولده في سنة سبعين ومائتين.
وتوفي في شعبان، سنة تسع وخمسين وثلاث مائة.
سماعات الكتاب:
جاء في الكتاب سماعات كثيرة، ولذا فسأكتفي ببعضها، فمن ذلك:
1- بلغت من أوله سماعاً، بقراءتي على أبي القاسم عبد الواحد بن القاسم ابن الفضل بن عبد الواحد الصيدلاني، بحق إجازته من أبي علي الحداد، في يوم الخميس، ثاني ذي الحجة، من سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. كتبه محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي، حامداً لله ومصلياً على محمد وآله.
2- سمع جميع ما في هذا الجزء عليّ بقراءة أبي الكرم عبد الرحيم بن علي ابن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي الفقيه: أبو عبد الله محمد بن عبد الحميد ابن عبد الهادي المقدسي، يوم الجمعة، في العشر الآخرة، من ذي الحجة، سنة خمس وثلاثين وستمائة. كتبه محمد بن أحمد. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
3- قرأت من هذا الجزء: حديث البرديجي وما في معناه، على الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد ابن عبد الرحمن المقدسي، فسمعه أبو بكر يوسف بن أبي الفرج الحراني وأبو النجم بدر بن عبد الله العلائي، وأبو الفضل عمر بن عبد الله بن علي الفارسي، وأبو بكر بن أحمد بن عثمان المقدسي، يوم …. حادي وعشرين، جمادى الأولى، سنة أربعين وستمائة، بالجبل. كتبه يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسن النابلسي.(45/80)
4- قرأت جميع هذا الجزء، وفيه: ما روي في الكبائر، لأبي بكر البرديجي وإملاءان عن أبي سعيد بن ملة، وكذلك ما أُلحق به، على الشيخ الإمام العالم الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي فسمعه الفقيه الإمام مجد الدين محمد بن محمد بن عمر الصفار الاسفراييني وولده عبد الرحمن، وأبو عبد الله محمد بن ثابت بن تاوان بن أحمد التفليسي وذلك يوم السبت، في العشر الأوسط من ربيع الآخر، سنة اثنتين وأربعين وستمائة. كتبه أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي، حامداً الله تعالى، ومصلياً على رسوله محمد وآله وأصحابه وسلم.
5- سمع جميع هذا الجزء على الشيخ الإمام الحافظ الناقد ضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي أبقاه الله، بقراءة الإمام العالم شمس الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن أمية العبدري، وصح ذلك وكمل في يوم الثلاثاء، ثامن ربيع الآخر، سنة ثنتين وأربعين وستمائة، بمدرسة الشيخ المُسمع. كتبه أحمد ابن عبد الرحمن بن محمد، حامداً لله ومصلياً على رسوله.
6- قرأت هذا جميعه، والذي في حواشيه على صاحبه الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله محمد، أثابه الله، بسماعه فيه. وصح وثبت في المحرم سنة سبع وثلاثين وستمائة. كتبه محمد بن عبد الله بن عبد الغني المقدسي.
نماذج من صور المخطوط
P131
P132
P133
جزء فيه
من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة في الكبائر
رواية
أبي بكر أحمد بن هارون بن روح البرديجي
رواية أبي علي محمد بن أحمد بن عبد الله الحافظ عنه
رواية أبي علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد عنه
رواية أبي القاسم عبد الواحد بن القاسم إجازة عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا قوة إلا بالله
طرق أحاديث الكبائر(45/81)
أخبرنا أبو القاسم عبد الواحد بن القاسم بن الفضل بن عبد الواحد بقراءتي عليه، أخبرنا أبو علي الحدَّاد إجازة، أخبرنا أبو نُعيم، قال: أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن الصَّواف - رحمه الله - البغدادي، قال: سمعت أبا بكر أحمد بن هارون بن رَوح البَرّديجي يقول: روى أحد شر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، وهو مما يدخل في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم.
1- منهم عبد الله بن مسعود:
وهو ما حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش عن أبي وائل، عن عمرو بن شُرحبيل، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال: "أن تُشرك بالله وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، وأن تزني بحليلة جارك". ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وَالذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَر} (1) الآيات.
لم يرو هذا إلا ابن نمير على لفظ: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر.
ورواه الثوري، وجرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الكبائر أعظم.
2- وابن عباس رضي الله عنه:
وهو ما حدثناه أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عِكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث الكبائر.
وقال فيه: "والفرار من الزحف" (2)
__________
(1) سورة الفرقان آية رقم 68.
(2) إسناده ضعيف.
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/931، رقم 5201،عن ابن أبي عاصم، به.
والبزار (كشف الأستار 1/71، رقم 106) ، عن عبد الله بن إسحاق العطار، عن أبي عاصم: الضحاك بن مخلد، به.
وذكره ابن عبد البر في التمهيد 5/ 77، من رواية شبيب، به.
وجاء متنه عند ابن أبي حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متكئاً فدخل عليه رجل فقال: ما الكبائر؟ فقال: "الشرك بالله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله، وهذا أكبر الكبائر".
وجاء متنه عند البزار، وابن عبد البر: "الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله".
وقال الهيثمي في المجمع 1/ 102: رواه البزار، والطبراني في الأوسط، ورجاله موثقون.
قلت: ولم أقف عليه في الأوسط، ولا في مجمع البحرين.
وإسناده ضعيف، فيه شَبيب بن بشر، وهو صدوق يخطيء (التقريب 1738) .
وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 46: وفي إسناده نظر، الأشبه أن يكون موقوفاً، فقد روي عن ابن مسعود نحو ذلك.
قلت: وروايته عن ابن مسعود جاءت من عدة طرق صحيحة عنه، أخرج أكثرها الطبري في تفسيره، وذكر بعضها ابن كثير في تفسيره، ثم قال: وهو صحيح إليه بلا شك.(45/82)
3- وعبد الله بن عمرو:
من طُرق أصحها ما رواه فِراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما.
ورواه شعبة، وشَيبان، عن فِراس.
حدثناه الحسن بن علي بن عفان، حدثنا عبيد الله بن موسى [حدثنا شيبان] عن فِراس.
وحدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن مُعاذ، حدثنا أبي، عن شعبة، عن فراس عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما– أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين" (1)
__________
(1) حديث صحيح.
أخرجه البخاري 12/276 (مع الفتح) ، كتاب استتابة المرتدين، باب إثم من أشرك بالله، رقم 6920، وابن حبان 12/373، رقم 5562، والبيهقي في الكبرى10/35، في الصغرى4/97، رقم 4005، والطبري في تفسيره 8/249، رقم 9223، وفي تهذيب الآثار (مسند علي) ، رقم 307، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 2/345، رقم 891، وابن منده في الإيمان 2/552، رقم 479، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 6/1104، رقم 1903، وأبو نعيم في مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب (ص28) ، رقم 5/6، وقوام السنة في الترغيب والترهيب 1/212، رقم 448. من طريق عبيد الله بن موسى.
والبيهقي في الكبرى10/35، وفي الصغرى 4/97، رقم 4005، وابن منده في الإيمان 2/552، رقم 479. من طريق محمد بن سايق.
وعبيد الله بن موسى، ومحمد بن سايق كلاهما عن شيبان، به.
وأخرجه البخاري 11/564 (مع الفتح) ، كتاب الأيمان والنذور، باب اليمين الغموس، رقم 6675 – ومن طريقه البغوي في شرح السنة 1/84، رقم 44، وفي تفسيره 1/418، وابن الجوزي في البر والصلة (ص88) ، رقم 105، وفي الحدائق 2/465 -، ورواه النسائي 7/89، كتاب تحريم الدم، باب ذكر الكبائر، رقم 4011، و8/63، كتاب القسامة، تأويل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً…} رقم 4868، وابن أبي عاصم في كتاب الديات (ص42) – ومن طريقه ابن منده في الإيمان 2/553، رقم 481-، ورواه أبو نعيم في مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب (ص28) ، رقم 5/ 4. من طريق النضر بن شميل.
والبخاري 12/1999 (مع الفتح) ، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا…} رقم 6870، والترمذي 5/236، كتاب التفسير، باب تفسير سورة النساء، رقم 3021، والدارمي 2/112، رقم 2365، وأحمد 2/201 - ومن طريقه أبو نعيم في مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب (ص28) ،رقم5/2-، ورواه الطبري في تفسيره 8/248، رقم 9222، وابن منده في الإيمان 2/552، رقم480، وأبو نعيم في مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب (ص28) ، رقم5/3، وقوام السنة في الترغيب والترهيب 2/1022، رقم 2511.من طريق محمد بن جعفر.
وأبو نعيم في المستخرج [ولم أقف عليه في المستخرج 1/164، 165، حيث ساق طرق الحديث] (كما في النكت الظراف 6/346) ، وفي مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب (ص28) ، رقم 5/5. من طريق عبد الله بن المبارك.
وأبو نعيم في الحلية 7/202، وفي مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب (ص27) ، رقم 5/1. من طريق داود بن إبراهيم الواسطي.
وعبد الله بن أحمد في العلل 1/217، رقم 4941، وقوام السنة في الترغيب والترهيب 2/945 رقم 2307. من طريق يحيى بن سعيد.
كلهم عن شعبة، عن فراس، به.(45/83)
4- وأبو بكرة رضي الله عنه:
حدثنا محمدبن عبد الملك وغيره، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الجريري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين".
ثم احتفز فقال: "وشهادة الزور" (1)
__________
(1) حديث صحيح.
أخرجه البخاري في صحيحه 5/309 (مع الفتح) ،كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم2654، وفي 11/69،كتاب الاستئذان، باب من اتكا بين يدي أصحابه، رقم 6274،وفي 12/276، كتاب استتابة المرتدين، باب إثم من أشرك بالله…،رقم 6919،وفي الأدب المفرد (19) ، رقم 15- ومن طريقه البغوي في شرح السنة 1/84، رقم 43، وفي تفسيره 1/418، وقوام السنة في الترغيب والترهيب 2/889، رقم 2179، وفي 1/214 رقم 452-، ورواه البخاري أيضاً من طريق أخرى11/69، كتاب الاستئذان، باب من اتكأ يدي أصحابه، رقم 6273، والترمذي4/312، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في عقوق الوالدين، رقم1901، وفي 4/548، كتاب الشهادات، باب ما جاء في شهادة الزور، رقم 2301، وفي 5/235، كتاب التفسير، في تفسير سورة النساء، رقم 3019- ومن طريقه البغوي في شرح السنة 1/83، رقم 43، وابن النقور في الفوائد الحسان (ص39) ، رقم 9- ورواه أبو نعيم في المستخرج1/165، رقم 260، وأبو عوانة 1/54، والبيهقي في الكبرى 10/121، والطبري في تهذيب الآثار (مسند علي) ، رقم 296، وابن منده في الإيمان 2/547، رقم 472، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 6/1106، رقم 1907، والخطيب في الكفاية (ص104) ، والرافعي في التدوين في أخبار قزوين 4/5، وأبو يعقوب الكاتب في المناهي وعقوبات المعاصي (ق125/ب) . كلهم من طريق بشر بن المفضل.
والبخاري 12/276 الموضع السابق، رقم 6919، ومسلم 1/91، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم143ومن طريقه ابن حزم في المحلى 4/245، و11/269، وابن عبد الهادي في مسألة التوحيد (ص75) ، رقم 41، ورواه البيهقي في الكبرى 10/121، وأحمد 5/36، 38- ومن طريقه ابن الجوزي في البر والصلة (ص87) ، رقم 103، وفي الحدائق 2/464-، ورواه البزار 9/97، رقم 3629، والطبري في تهذيب الآثار (مسند علي) رقم 296، وابن منده في الإيمان 2/547، رقم 471، والواحدي في الوسيط 2/39، 40.
من طريق إسماعيل بن علية.
والبخاري 10/41، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، رقم 5976، والبيهقي في الشعب 6/188، رقم 7866. من طريق خالد الطحان.
وأبو نعيم في المستخرج 1/165، رقم 260. من طريق أبي بشر.
والبيهقي في الكبرى 10/121، وفي شعب الإيمان 6/188، رقم 7866، والخرائطي في مساؤي الأخلاق، رقم 153 [وقع في إسناده في هذا الموضع "عبيد الله بن أبي بكرة"، ولعله تصحيف أو وهم من الناسخ، حيث ورد في الموضع الثاني على الصواب، وإسناده المصنف في الموضعين واحد، والله أعلم] .،ورقم 244،وابن منده في الإيمان2/546، رقم 470،وقوام السنة في الترغيب والترهيب1/69، رقم88. من طريق يزيد بن هارون.
والبزار 9/97، رقم 3630، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 2/347، رقم82. من طريق عبد الوهاب بن عطاء.
وابن المنذر في تفسيره (بهامش تفسير ابن أبي حاتم) (ق130/أ) من طريق وهيب.
كلهم عن سعيد بن إياس الجريري، به، نحوه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي بكرة إلا من حديث الجريري، ورواه عن الجريري غير واحد، فاقتصرنا على حديث إسماعيل بن إبراهيم.(45/84)
5- وأبو هريرة من ثلاثة أوجه:
فأحسن ذلك ما حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رَبَاح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا السبع الموبقات".
قلنا: وما هنَّ؟.
قال: "الشرك بالله، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، والزنا، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
وليس في كل الحديث ذكر: "قذف المحصنات" إلا في هذا.
6- وأنس بن مالك رضي الله عنه:
حدثنا سليمان بن سيف، حدثنا أبو عتَّاب الدَّلال، حدثنا شعبةح.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن عبيد الله ابن أبي بكر بن أنس، عن أبيه – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق" (1)
__________
(1) حديث صحيح.
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (ص276) ، رقم 2075- ومن طريقه أبو عوانة1/54، والبيهقي في الكبرى10/186،وفي شعب الإيمان 4/223، رقم4860، وفي الاعتقاد (ص165) ، والخطيب في الكفاية (ص104) ، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/930، رقم5195،وابن منده في الإيمان2/548، رقم473. كلهم من طريق يونس بن حبيب، عن أبي داود.
والبخاري 10/419 (مع الفتح) ، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، رقم 5977 - ومن طريقه ابن الجوزي في البر والصلة (ص87) ، رقم 104، وفي الحدائق 2/465 -، ورواه مسلم 1/92، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم 144 - ومن طريقه ابن حزم في المحلى 11/268 -، ورواه أبو نعيم في المستخرج 1/165، رقم 261، وأحمد 3/131، والبيهقي في شعب الإيمان 6/189، رقم 7867، والطبري في تفسيره 8/247، رقم 9219، وابن منده في الإيمان 2/549، رقم 475، وأبو يعقوب الكاتب في المناهي وعقوبات المعاصي (ق125/ب) . من طريق محمد بن جعفر.
والبخاري 5/309 (مع الفتح) ، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم 2653، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 2/351، رقم 897. من طريق وهب بن جرير.
والبخاري 5/309 (مع الفتح) ، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم2653، والبيهقي في الكبرى 10/121، وابن منده في الإيمان 2/548، رقم 474. من طريق عبد الملك بن إبراهيم الجدي.
والبخاري 12/199 (مع الفتح) ، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا…} ، رقم 6871. من طريق عبد الصمد.
ومسلم 1/91، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم 144، والترمذي 3/504، كتاب البيوع، باب ما جاء في التغليظ في الكذب والزور ونحوه، رقم 1207، وفي 5/235، كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، رقم 3018، والنسائي 7/88، كتاب تحريم الدم، باب ذكر الكبائر، رقم 4010، و8/63، كتاب القسامة، تأويل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً…} ، رقم 4867، والطبري في تفسيره 8/248، رقم 9220، وفي تهذيب الآثار (مسند علي) ، رقم 295، وابن منده في الإيمان 2/548، رقم 474. من طريق خالد بن الحارث.
والنسائي7/88،كتاب تحريم الدم، باب ذكر الكبائر، رقم4010،و 8/63، كتاب القسامة تأويل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً…} رقم 4868. من طريق النضر بن شُميل.
وأبو نعيم في المستخرج 1/165، رقم 261. من طريق روح بن عبادة.
والبيهقي في الكبرى 8/20، وفي 10/121، و10/197، وفي الصغرى 3/203، رقم 2924، والحربي في غريب الحديث 1/43، وابن منده في الإيمان 2/548 رقم 474، وابن الحطاب الرازي في مشيخته (ص139) ، رقم 35- ومن طريقه الذهبي في تذكرة الحفاظ 4/1443-. من طريق عمر ابن مرزوق.
وأحمد 3/134- ومن طريقه ابن حجر في تغليق التعليق 5/385-، ورواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 6/1105، رقم 1905، 1906. من طريق بهز بن أسد.
وابن منده في الإيمان 2/548، رقم 473 ومن طريقه ابن حجر في تغليق التعليق 3/384-، ورواه أبو سعيد النقاش في كتاب الشهود (كما في الفتح 5/310) - ومن طريقه ابن حجر في التغليق5/385-. من طريق أبي عامر العقدي.
وابن منده في الإيمان 2/548، رقم474. من طريق بشر بن عمرو، ويحيى ابن حبيب، ومحمد بن عبد الأعلى.
والطبري في تفسيره 8/248، رقم 9221. من طريق يحيى بن كثير.
كلهم عن شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، نحوه.
وخالفهم روح بن عبادة، فرواه عن شعبة، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أنس:
ذكر ذلك الترمذي، في الموضع السابق، ولم أقف على من أخرجه.
قال الترمذي - بعد إخراجه للوجه السابق -: هذا حديث حسن غريب صحيح ورواه روح بن عبادة عن شعبة، وقال: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ولا يصح.
قلت: وقد تقدمت رواية روح بن عبادة عند أبي نعيم في المستخرج، وقد وافق من رواه على الوجه الأول، فيقدم من روايتيه ما وافقه فيه غيره، ولعل الحمل في روايته الثانية على أحد الرواة عنه، والله أعلم.(45/85)
7- وعمران بن حُصين رضي الله عنه:
حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن بشر، حدثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الكبائر فيكم؟ ".
قلنا: الشرك بالله، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر.
قال: "هُنَّ كبائر، وفيهن عقوبات، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر".
قلنا: بلى. قال: "شهادة الزور" (1)
__________
(1) إسناده ضعيف.
أخرجه الروياني في مسنده 1/105، رقم86، عن ابن إسحاق.
والبخاري في الأدب المفرد (25) ، رقم 30.
وابن أبي الفوارس في الخامس من حديث أبي الحسن الحمامي (ق151/أ) - ومن طريقه ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر 1/359-، ورواه الضياء في الذيل على الكبائر (ق3/أ) . من طريق عباس الدوري.
كلهم عن الحسن بن بشر، عن الحكم بن عبد الملك، به.
وتوبع الحكم، تابعه سعيد بن بشير:
أخرجه ابن أبي أسامة في مسنده (بغية الباحث 1/176،رقم 29،والمطالب 3/269،رقم 244) ومن طريقه ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر1/355، ورواه البيهقي في الكبرى 8/209. من طريق عمر بن سعيد الدمشقي.
والطبراني في الكبير 18/140، رقم 293، وفي مسند الشاميين 4/26، رقم 2635.من طريق أبي الجماهر: محمد بن عثمان التنوخي.
وابن أبي حاتم في تفسيره 3/71، رقم 5429. من طريق محمد بن بكار.
وابن مردويه في تفسيره (كما في تفسير ابن كثير 1/523) ، من طريق معن.
كلهم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران، نحوه.
وقال البيهقي: تفرد به عمر بن سعيد الدمشقي، وهو منكر الحديث، وإنما يعرف من حديث النعمان بن مرة مرسلاً.
قلت: وفي هذا الكلام نظر، حيث لم يتفرد به عمر بن سعيد، وإنما تابعه عدد من الرواة، ورواية النعمان لا تعارض هذه الرواية، بل تشهد لها.
ولذا قال الحافظ ابن حجر في موافقة الخُبر 1/356، بعد ذكره لقول البيهقي المتقدم، قال: كذا قال، ولم ينفرد به كما ترى، بل تابعه عليه ثقتان.
وقال ابن أبي الفوارس: هذا حديث غريب من حديث قتادة عن الحسن، تفرد به الحكم بن عبد الملك.
وتعقبه ابن حجر في موافقة الخبر فقال: قد تقدم من طريق سعيد بن بشير، فلم ينفرد به الحكم.
وقال الهيثمي في المجمع 1/ 103: رجاله ثقات، إلا أن الحسن مدلس وعنعنه.
وقال ابن حجر في الفتح 12/190: سنده حسن.
وقال في موافقة الخبر 1/356: هذا حديث حسن غريب من حديث الحسن، عزيز من حديث قتادة… له شاهد مرسل من حديث النعمان بن مرة…، ولآخره شاهد في الصحيحين من حديث أبي بكرة.
قلت: إسناده ضعيف، فالحسن لم يسمع من عمران بن حصين (المراسيل ص 38) .
وخولف قتادة في روايته للوجه السابق:
فرواه يونس بن عبيد، والسري بن يحيى، عن الحسن، مرسلاً:
أخرجه المروزي في زياداته على كتاب البر والصلة لابن المبارك (ص143) ، رقم 105، عن يزيد بن زريع، عن يونس بن عبيد، عن الحسن مرسلاً.
وأخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن (كما في موافقة الخبر1/359) ، من طريق يونس بن عبيد، والسري بن يحيى، عن الحسن مرسلاً.
قلت: ولعل الحمل في هذا الاختلاف على الحسن، فهو معروف بكثرة الإرسال والتدليس، فلعله كان يرويه مرة عن عمران، ومرة بإسقاطه، والله أعلم.
وله شاهد قوي، ولكنه مرسل:
أخرجه مالك في الموطأ 1/167 - ومن طريقه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله1/480، رقم 765، وابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر 1/360.
وعبد الرزاق 2/ 371، رقم 3740، عن ابن عيينة.
كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن النعمان بن مرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه مختصراً، وزاد فيه: "وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته…"الحديث.
وقال الحافظ ابن حجر: هذا حديث مرسل قوي الإسناد شاهد لحديث الحسن، يعتضد كل منهما بالآخر. ولآخره شاهد في الصحيح من حديث أبي هريرة.
قلت: ولعل هذا الشاهد يرقى بالحديث إلى الحسن لغيره، والله أعلم.(45/86)
8- وخُريم بن فاتك رضي الله عنه:
حدثنا سليمان بن سيف، ومحمد بن إسحاق: أبو بكر، قالا: حدثنا يعلى ابن عبيد، حدثنا سفيان العَصْفُري، عن أبيه، عن حَبيب بن النعمان، عن خُرَيم ابن فاتك – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح ذات يوم بعدما صلى الغداة فقال: "عدلت شهادة الزور الشرك بالله وعقوق الوالدين". ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (1) (2)
__________
(1) سورة الحج، آية رقم 30.
(2) إسناده ضعيف.
أخرجه البيهقي في الكبرى 10/121، وفي شعب الإيمان 4/223، رقم 4861،وابن أبي شيبة في مسنده2/254،رقم 745ومن طريقه الجصاص في أحكام القرآن 3/356، ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه1/160،وابن عساكر في تاريخ مشق10/39،و10/40. من طريق يعلى بن عبيد.
وأخرجه الترمذي 4/547، كتاب الشهادات، باب ما جاء في شهادة الزور، رقم 2300، وأبو داود 4/23، كتاب الأقضية، باب في شهادة الزور، رقم 3599، وابن أبي شيبة في مسنده 2/254، رقم 744، وفي المصنف 7/257، رقم 3090- ومن طريقه ابن ماجه 2/794، كتاب الأحكام، باب شهادة الزور، رقم 2372، والطبراني في الكبير 4/209، رقم 4162، وابن أبي زمنين في أصول السنة (253) ، رقم 177، والجصاص في أحكام القرآن 3/356-، ورواه البيهقي في الكبرى 10/121، وفي شعب الإيمان 4/223، رقم 4861، وأحمد 4/321ومن طريقه المزي في تهذيب الكمال 3/446، 447، وابن عساكر في تاريخ دمشق 10/39-، ورواه الطبراني في الكبير 4/209، رقم 4162، وابن بشران في أماليه 1/92، رقم 177، والخطيب في تلخيص المتشابه 1/160، وابن عساكر في تاريخ دمشق10/39، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ 3/129، وأبو يعقوب الكاتب في المناهي وعقوبات المعاصي (ق125/أ، ب) .كلهم من طريق محمد بن عبيد.
ويعلى بن عبيد، ومحمد بن عبيد، كلاهما عن سفيان بن زياد، به نحوه.
وقال الترمذي: وهذا عندي أصح، وخريم بن فاتك له صحبة، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وهو مشهور.
قلت: وقد اختلف على سفيان بن زياد في هذا الحديث:
فرواه يعلى بن عبيد، ومحمد بن عبيد، كما تقدم، عن سفيان بن زياد، عن أبيه، عن حبيب بن النعمان، عن خريم بن فاتك.
ومحمد بن عبيد، ويعلى كلاهما ثقة (التقريب 6114، 7844) .
ورواه مروان بن معاوية، عن سفيان، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن ابن خريم:
أخرجه الترمذي 4/547، الموضع السابق، رقم 2299- ومن طريقه ابن الأثير في أسد الغابة 1/160 -. عن أحمد بن منيع.
وأحمد4/178،233،322ومن طريقه أبو نعيم في معرفة الصحابة2/374 رقم996،وابن قانع في معجم الصحابة1/53، والمزي في تهذيب الكمال3/446، 447، وابن عساكر في تاريخ دمشق [إلا أنه جاء في معجم الصحابة، وفب تاريخ دمشق: "فائد بن فضالة". وقال ابن عساكر: "كذا قال، وصوابه: "فاتك"] 10/38. كلهم من طريق أحمد
والبغوي في معجم الصحابة (ق13) – ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 10/38، والواحدي في الوسيط 3/270-. عن جده.
وابن عساكر في تاريخ دمشق10/39،والمزي في تهذيب الكمال23/135 من طريق أيوب بن محمد الوزان [وقع في تاريخ دمشق: "الوراق"، ولعله تصحيف] .
وأبو نعيم في معرفة الصحابة 2/374، رقم 996. من طريق سويد بن سعيد.
والطبري في تفسيره 17/154، عن أبي كريب.
كلهم عن مروان بن معاوية، عن سفيان، عن فاتك، عن أيمن بن خريم.
وقال الترمذي: وهذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد، واختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم [جاء في المطبوع بعده: "وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد" ولعل هذا وهم من الناسخ، فليس لهذا الكلام هنا معنى، ولم يذكره المزي في التحفة 1/11، وليس في الطبعة التي حققها محمد عثمان 3/375، ولا الطبعة التي حققها عزت الدعاس 7/64، وذكر هذا الأخير أن هذه الزيادة في أحد النسخ دون النسخ الأخرى] .
وقال ابن معين في تاريخه2/ 147: الحديث كما حدَّث به محمد بن عبيد. ومروان بن معاوية لم يُقمه.
وقال يعقوب بن سفيان في المعرفة 3/130: وقد خالف مروان محمداً، والصحيح رواية محمد.
قلت: ومروان بن معاوية: ثقة حافظ (التقريب 6575) .
ورواه أبو أسامة، عن سفيان بن زياد، عن أبيه، عن خريم بن فاتك:
أخرجه الطبري في تفسيره 17/154،عن أبي السائب، عن أبي أسامة، به.
قلت: وأبو أسامة، هو حماد بن أسامة: ثقة ثبت، كان بأخرة يحدث من كتب غيره (التقريب 1487) .
وأبو السائب، هو سلم بن جنادة: ثقة ربما خالف (التقريب2464) .
ورواه سلمة بن رجاء، عن سفيان، عن أبيه، عن ابن خريم بن ثابت، عن أبيه:
ذكره أبو نعيم في معرفة الصحابة 2/375، ولم أقف على من أخرجه.
قلت: وسلمة بن رجاء: صدوق يُغرب (التقريب 2490) .
ولعل الوجه الأول أرجح هذه الأوجه، حيث رواه ثقتان كذلك، في حين لم أقف على من تابع رواته في بقية الأوجه.
وإسناده من هذا الوجه الراجح ضعيف، فيه زياد العصفري، والد سفيان، وهو مجهول، قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام 3/548: مجهول.
وقال الذهبي في الميزان 2/96: لا يدرى من هو.
وله طريق أخرى عن خريم، ولكنها لا تثبت:
فقد أخرجه العقيلي في الضعفاء 3/433. من طريق عمرو بن زياد الباهلي، عن غالب بن غالب، عن أبيه، عن جده، عن جندب، عن خريم بن فاتك، نحوه.
وقال العقيلي: غالب بن غالب عن أبيه عن جده، إسناده مجهول، لا يعرف إلا بهذا الحديث.
ثم قال: هذا يروى عن خريم بن فاتك بإسناد صالح من غير هذا الوجه.(45/87)
9- وابن عمر رضي الله عنهما:
حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، حدثنا أيوب ابن عتبة، عن طَيْسَلة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر سبع، الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والزنا، والسحر، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم".
هكذا رواه مرفوعاً.
وروى هذا الحديث عن طيسلة: يحيى بن أبي كثير، وزياد بن مخراق، عن طيسلة، عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً.
وهو طَيْسَلة بن ميَّاس، وميّاس لقب، وهو طيسلة بن علي الحنفي (1)
__________
(1) إسناده ضعيف.
وقد اختلف على طيسلة، وأيوب بن عتبة في هذا الحديث:
فرواه أكثر من ثقة، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة، عن ابن عمر، مرفوعاً:
أخرجه المصنف هنا - ومن طريقه الخطيب البغدادي في الكفاية (ص105) -. من طريق الحسن بن موسى الأشيب [كما ذكر روايته هذه ابن كثير في تفسيره 1/493] .
والبيهقي في الكبرى3/409،والخرائطي في مساويء الأخلاق رقم246، و 740- ومن طريقه ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر 1/344-، ورواه الخطيب في الكفاية (ص105) . من طريق حسين بن محمد المروذي.
وأبو القاسم البغوي في الجعديات 2/480، رقم 3339 – ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد 5/69-، عن علي بن الجعد.
كلهم عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة، عن ابن عمر، مرفوعاً.
ورواه سلم بن سلام، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة، عن ابن عمر، موقوفاً:
أخرجه الطبري 8/240، رقم 9188، وفي تهذيب الآثار (مسند علي) ، رقم 314، عن سليمان بن ثابت الخزاز، عن سلم بن سلام، عن أيوب بن عتبة، به، موقوفاً.
وتوبع أيوب بن عتبة على هذا الوجه:
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (17) ، رقم 8- ومن طريقه ابن الجوزي في البر والصلة (ص112) ، رقم 142، ببعضه، وابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر 1/343-، ورواه الطبري في تفسيره 8/239، رقم 9187، وأبو يعقوب الكاتب في المناهي وعقوبات المعاصي (ق105/أ) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده وفي تفسيره، وإسماعيل القاضي في أحكام القرآن (كما في موافقة الخُبر الخَبر1/34) . كلهم من طريق إسماعيل بن علية.
والبخاري في الأدب المفرد (ص25) ، رقم 31، ببعضه، وابن المنذر في تفسيره (بهامش تفسير ابن أبي حاتم (ق130/ب) . من طريق حماد بن سلمة.
وإسماعيل بن علية، وحماد، كلاهما عن زياد بن مخراق.
وتابع زياداً على هذا الوجه: يحيى بن أبي كثير:
ذكر ذلك المصنف هنا، وابن عبد البر في التمهيد 5/69.
كلاهما، عن طيسلة بن مياس، عن ابن عمر، موقوفاً.
وقال الحافظ ابن حجر في موافقة الخبر: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث طيسلة، وهو بفتح الطاء المهملة، وسكون التحتانية وفتح السين المهملة، وتخفيف اللام، ووهم من قدَّم اللام على السين … الخ.
ثم قال: والموقوف أصح إسناداً.
وقال أيضاً: وأقوى طرقه رواية زياد بن مخراق الأولى.
ورواه عيسى بن خالد، وسلم بن سلام، عن أيوب بن عتبة، عن يحيى ابن أبي كثير، عن عبيد بن عمير، عن أبيه، مرفوعاً:
أخرجه الطبراني في الكبير17/48، رقم 102. من طريق عيسى بن خالد اليمامي.
والطبري في تفسيره 8/241، رقم 9189، وفي تهذيب الآثار (مسند علي) ، رقم 315. من طريق سلم بن سلام.
كلاهما عن أيوب بن عتبة، به.
وخولف أيوب في روايته لهذا الوجه عن يحيى، خالفه حرب بن شداد، فرواه عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، عن أبيه.
وقد تكلمت عن هذه المخالفة بالتفصيل في تحقيقي لتتمة الضياء المقدسي على هذا الكتاب، ولم أر أن أذكرها هنا مراعاة للاختصار.
ولعل الحمل في هذا الاختلاف على أيوب نفسه، فهو ضعيف (التقريب 619) ، ولعله كان يحدث بهذه الأوجه جميعاً.
ولكن من حيث الترجيح عموماً عن طيسلة فالوجه الثاني أرجح، حيث توبع أيوب عليه من ثقتين، وهما زياد بن مخراق، ويحيى بن أبي كثير (التقريب 2098،7632) .
وعليه فالراجح أنه موقوف على ابن عمر، ولم يثبت مرفوعاً، والله أعلم.(45/88)
10- وأبو أيوب رضي الله عنه:
حدثنا يزيد بن عبد الملك، حدثنا يزيد بن عمرو السكوني، حدثنا بقية، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن محكول يرده إلى أبي أيوب – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، ومنع ابن السبيل، والفرار من الزحف" (1)
__________
(1) إسناده ضعيف.
وقد روى بقية هذا الحديث، واختلف عليه من عدة أوجه:
فرواه يزيد بن عمرو، عن بقية، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن أبي أيوب:
أخرجه المصنف هنا، ولم أقف على من أخرجه من هذا الوجه غيره.
ورواه أكثر من ثقة، عن بقية، عن بَحِيْر بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن أبي رُهْم السَّمعِي، عن أبي أيوب الأنصاري:
أخرجه النسائي في الصغرى 7/88، كتاب تحريم الدم، باب ذكر الكبائر، رقم 4009ومن طريقه عبد الغني المقدسي في كتاب التوحيد (86) ، رقم 90،
ورواه الطبراني في مسند الشاميين 2/178، رقم 1144، وابن المنذر في تفسيره - بهامش تفسير ابن أبي حاتم (ق131/أ) . من طريق إسحاق بن راهويه.
والنسائي أيضاً في الكبرى 5/198، رقم 8655- وعنه الطحاوي في شرح مشكل الآثار2/350، رقم 896، ورواه ابن أبي عاصم في الجهاد2/644، رقم 271. كلاهما عن عمرو بن عثمان.
وأحمد 5/413، والطبراني في الكبير 4/128، رقم 3885، وفي مسند الشاميين 2/178، رقم 1144- ومن طريقه الشجري في أماليه 1/20-. من طريق حيوة بن شريح.
وأحمد 5/413. من طريق زكريا بن عدي.
والطبراني في الكبير4/128، رقم 3885 ومن طريقه الشجري في أماليه 1/20 من طريق عيسى ابن المنذر.
واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 6/1134، رقم 1979، من طريق عبد الرحمن بن يونس السراج.
كلهم عن بقية، عن بَحِيْر بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن أبي رُهْم السَّمعِي، عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويجتنب الكبائر كان له الجنة" فسألوه عن الكبائر، فقال: "الإشراك بالله، وقتل النفس المسلمة، والفرار يوم الزحف".
ورواه أكثر من ثقة، عن بقية، عن بَحِيْر بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة:
أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد 2/200، رقم 278، وفي كتاب الديات (ص42) - وعنه أبو الشيخ في التوبيخ والتنبيه [إلا أنه جاء في أصل المخطوط: "عن المتوكل"، ولعله سهو من الناسخ، فهو قد رواه عن ابن أبي عاصم ووقع عنده: "عن أبي المتوكل"، وهو كذلك في المطبوع من كتابيه: الديات والجهاد، وكذا هو في المخطوط من كتاب الجهاد، كما أفادني بذلك محققه مشكوراً، والله أعلم] . (233) ، رقم211 ورواه ابن أبي حاتم في العلل 1/339، رقم 1005.
من طريق محمد بن مصفى، وعمرو بن عثمان.
وابن أبي حاتم في الموضع السابق من العلل. من طريق عبد الجبار بن عاصم.
وابن شاهين في الأفراد (كما في أطراف المسند 8/18) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق 2/383، رقم 2028 من طريق داود بن رشيد.
كلهم عن بقية، عن بَحِيْر بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً، وأدى زكاة ماله طيباً بها نفسه، محتسباً، وسمع وأطاع، فله الجنة – أو دخل الجنة - وخمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، أو بهت مؤمن، أو الفرار يوم الزحف، أو يمين صابرة تقتطع مالاً بغير حق".
ورواه إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، عن بقية، عن بَحِيْر بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن المتوكل، عن أبي هريرة:
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده 1/342، رقم 336.
والطبراني في مسند الشاميين 2/200، رقم 1183، 1184، وابن أبي حاتم في العلل [وقع في المطبوع من العلل، وفي جميع النسخ الخطية: "عن أبي المتوكل"، ولعل خطأ فيها جميعاً.
وذلك أن ابن أبي حاتم سأل أبا زرعة عمن قال: "عن أبي المتوكل"، فأجابه بقوله: "أبو المتوكل أصح". فلو كان إسناده هنا "عن أبي المتوكل"لما كان هناك اختلاف أصلاً، إضافة إلى أن رواية هشام بن عمار قد وقعت على الصواب عند الطبراني، فتأكد وجود الزيادة في نسخ العلل، والله أعلم.
وقد رجحت احتمال أن جميع نسخ العلل الموجودة الآن إنما تنقل عن أصل واحد، وعدم وجود نسخة منها يمكن أن تتخذ أصلاً، وذلك في تحقيقي للقسم الثالث من علل ابن أبي حاتم، فليراجع، والله أعلم] 1/339، رقم 1005، من طريق هشام بن عمار.
. كلاهما عن بقية، عن بَحِيْر بن سعد، به.
وتوبع بقية على هذا الوجه:
أخرجه الطبراني في مسند الشاميين 2/200، رقم 1183، 1184، عن أحمد بن المعلى الدمشقي، عن هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش وبقية، به.
قلت: وأحمد بن المعلى: صدوق (التقريب 108) توفي سنة 286.
وهشام بن عمار: صدوق كبر فصار يتلقن (التقريب 7303) ، وتوفي سنة 245.
وعلى هذا فبين وفاته ووفاة أحمد بن المعلى أكثر من أربعين سنة، فاحتمال أن تكون رواية أحمد عنه إنما كانت حال تغيره وبعد كبره قوي جداً.
وعليه ففي ثبوت هذه المتابعة نظر، وخاصة أن ابن أبي حاتم قد روى هذا الحديث عن أبي زرعة، عن هشام بن عمار لوحده، وأبو زرعة ثقة ثبت كما هو معلوم، وروايته مقدمة على رواية أحمد بن المعلى، والله أعلم.
ورواه زكريا بن عدي، عن بقية، عن بَحِيْر بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن المتوكل، أو أبي المتوكل، عن أبي هريرة:
أخرجه أحمد [جاء في المطبوع من المسند: "عن أبي المتوكل"فقط، وكان التصحيح من أطراف المسند، وتعجيل المنفعة (ص256) ، وكذا أخرجه عبد الغني من طريق أحمد، ووقع عنده على الصواب] . 2/361، 362- ومن طريقه عبد الغني المقدسي في كتاب التوحيد (68) رقم 71-، عن زكريا بن عدي، عن بقية به، على الشك.
قلت: وزكريا بن عدي: ثقة (التقريب 2024) .
وقال الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة (ص256) ،رقم 1004:المتوكل، أو أبو المتوكل، كذا وقع بالشك، عن أبي هريرة حديث: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً"الحديث، وفيه: "وخمس ليس لهن كفارة"، روى عنه خالد بن معدان، وذكره ابن حبان في الثقات، فقال: لا أدري من هو، ولا ابن من هو.
قلت (أي ابن حجر) : وقد أخرج ابن شاهين في كتاب الأفراد الحديث الذي له في المسند، فقال: عن أبي المتوكل، ولم يشك، ولم أره في كتاب الحاكم أبي أحمد في الكنى، فظن ابن الجوزي أنه أبو المتوكل الناجي المخرج له في الصحيح، فاحتج بحديثه هذا في التحقيق، فوهم في ذلك، وقد جزم البخاري، وتبعه ابن أبي حاتم بأنه المتوكل، اسم لا كنية، وقال أبو حاتم: مجهول، وهذا هو المعتمد. انتهى.
قلت: إن كان مراد الحافظ قوله: "وهذا هو المعتمد"ترجيح أنه المتوكل، وأنه اسم لا كنية، ففي ذلك نظر، حيث تقدم في التخريج أن من قال: "أبو المتوكل"أكثر ممن قال بأنه: "المتوكل". وهذا يقتضي ترجيح رواياتهم.
وهذا ما رجحه أبو زرعة كما تقدم بقوله: "أبو المتوكل أصح". ولعله الصواب.
ولكن أحد رواته على الوجه الآخر، وهو ابن راهويه ثقة ثبت، فلعل الحمل في هذا الاختلاف على بقية، إذ الرواة عنه في كل الأوجه أقوى منه حالاً.
ويؤيد ذلك أنه رواه أيضاً عند الإمام أحمد على الشك، فتأكد أنه كان يرويه مرة على وجه، ومرة على وجه آخر، ومرة ثالثة بالشك بينهما، والله أعلم.
ورواه حيوة بن شريح، عن بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن أبي بحرية، عن معاذ بن جبل:
أخرجه الطبراني في مسند الشاميين 2/187، رقم 1161، عن أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، عن حيوة بن شريح، به.
قلت: وأحمد بن محمد، قال عنه الذهبي: له مناكير (الميزان 1/151) .
وعليه فهذا الوجه منكر، حيث خالف الثقات في هذه الرواية، والله أعلم.
ومما تقدم يتضح أن بقية قد رواه على عدة أوجه، والرواة عنه في كل هذه الأوجه - ما عدا الوجه السادس - كلهم أقوى منه حالاً، فلعل الحمل في هذا الاختلاف عليه، فكان يحدث بها جميعاً، وهذا يدل على اضطرابه فيها.
وبقية كماهومعلوم مشهور بتدليس التسوية، ولم يصرح بالتحديث في أيّ منها.
إلا أنه قد توبع على الوجه الثاني، تابعه ابن أبي السري:
فقد أخرجه الطبري في تفسيره 8/349، رقم 9224، عن ابن أبي السري: محمد بن المتوكل عن بحير بن سعد [أثبت محقق الكتاب: "يحيى بن سعيد"، بدلاً من: "بحير بن سعد".ولعله تصحيف، وقد ذكر هذا الاحتمال محقق الكتاب الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله -، إلا أنه استبعده، لأنه لم يجد ذكراً لبحير في شيوخ ابن أبي السري في تهذيب الكمال، وإنما وجد في شيوخه يحيى بن سعيد.
قلت: وهذا الكلام ليس بدقيق، فالمزي – رحمه الله – كما هو معلوم ليس من منهجه حصر جميع شيوخ الرجل وتلامذته، وإنما اقتصر على من لهم رواية في الكتب الستة.
كما أن اتفاق طرق الحديث على رواية بحير، يقوي احتمال أنه هو الذي في إسناد الطبري، والله أعلم] .
، عن خالد بن معدان، به.
ومحمد بن المتوكل: صدوق له أوهام كثيرة (التقريب 6263) .
وله طريق أخرى من رواية أبي رهم عن أبي أيوب:
أخرجه الطبراني في الكبير 4/129، رقم 3886- ومن طريقه الشجري في أماليه 1/21-. عن عمرو بن إسحاق الحمصي.
وابن أبي عاصم في الجهاد 2/645، رقم 272، عن محمد بن عوف.
كلاهما عن محمد بن إسماعيل بن عياش، عن أبيه، عن ضَمْضَم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي رهم، عن أبي أيوب، نحوه.
قلت: وإسناده لا بأس به، وإن كان فيه محمد بن إسماعيل، وهو ضعيف (انظر الجامع في الجرح 2/450) ، وقيل إنه لم يسمع من أبيه، لكن إحدى طريقي الحديث من رواية محمد بن عوف عنه، وقد قال الحافظ في التهذيب: "وقد أخرج أبو داود عن محمد بن عوف عنه عن أبيه عدة أحاديث، لكن يروونها بأن محمد بن عوف رآها في أصل إسماعيل" (التهذيب 9/61) .
وله طريق أخرى عن أبي أيوب:
وقد خرجتها بالتفصيل في الذيل عن الكبائر، وإسنادها صحيح لغيره.
ومما تقدم فلعل الحديث بمجموع الطرق السابقة يكون صحيحاً لغيره، والله أعلم.(45/89)
11- عبد الله بن أنيس رضي الله عنه:
حدثنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن هشام بن سعد، عن محمد بن زيد. ح.
وحدثنا ابن سهل، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ، عن أبي أمامة الأنصاري، عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الكبائر، فإنهن سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، والزنا، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين" (1)
__________
(1) صحيح لغيره.
وقد روى المؤلف هذا الحديث من طريقين:
أما الطريق الأولى:
فقد أخرجها الطبراني في الكبير 13 (القسم المتمم) ص142، رقم 349وعنه أبو نعيم في الحلية 7/327-، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/930، رقم 5199، والطبري في تهذيب الآثار (مسند علي) ، رقم 317. من طريق عبد الله بن صالح.
وعبد بن حميد في تفسيره (كما في تفسير ابن كثير 1/495) – وعنه الترمذي 5/236، كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، رقم 3020-، ورواه لحاكم 4/296، وأحمد في المسند [وقع في المطبوع من المسند عبد الله بن يونس، والتصحيح من أطراف المسند 2/683، وقد نبه على ذلك محققه، وكذا وقع على الصواب في المختارة، وهو قد أخرجه من طريق أحمد] . 5/495- ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة 9/15، رقم 2، وابن الجوزي في البر والصلة (88) ، رقم 106، والمزي في تهذيب الكمال 33/51، 52-، ورواه ابن أبي شيبة في مسنده 2/346، رقم 850، وفي المصنف 7/5 (بمتنه الأخير الآتي) - وعنه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 4/80، رقم 2036-، ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 2/348، رقم 893، والخرائطي في مساوئ الأخلاق، رقم 124 (بمتنه الأخير) ، وابن المنذر في تفسيره، وعبد بن حميد في تفسيره – كما في هامش تفسير ابن أبي حاتم (ق 130/ب) - كلهم من طريق يونس بن محمد المؤدب.
والطبراني في الكبير 13 (القسم المتمم) ص142،رقم 349،وفي الأوسط4/150 رقم 3261- وعنه أبو نعيم في الحلية 7/327-. من طريق شعيب ابن يحيى.
كلهم (عبد الله بن صالح، ويونس، وشعيب) عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن محمد بن زيد، عن أبي أمامة، عن عبد الله بن أنيس.
وجاء متنه عند أكثرهم: "أكبر الكبائر الإشراك بالله – عز وجل - وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وأيم الله الذي نفسي بيده لا يحلف أحدٌ وإن كان على مثل جناح البعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة".
وقال الترمذي: وأبو أمامة الأنصاري، هو ابن ثعلبة، ولا نعرف اسمه، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وهذا حديث حسن غريب.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
وقال الطبراني في الأوسط: لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن أنيس إلا بهذا الإسناد، تفرد به الليث.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث الليث وهشام، وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا [ابن] [ساقطة من الحلية، ولابد منها ليستقيم الكلام] أنيس.
أما الطريق الثانية:
فقد اختلف على وهب بن بقية فيها على ثلاثة أوجه:
فرواه أسلم بن سهل، عن وهب بن بقية، عن خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن ابن إسحاق، عن محمد بن زيد، عن أبي أمامة الأنصاري، عن عبد الله بن أنيس:
أخرجه المصنف هنا – ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة 9/16، رقم 3 - عن أسلم بن سهل، عن وهب بن بقية، به.
قلت: وأسلم بن سهل، هو الواسطي، الراجح أنه ثقة ثبت فقد وثقه غير واحد، قال السلفي: سألت خميساً الحوزي عنه فقال: ثقة إمام ثبت جامع، يصلح للصحيح، جمع تاريخ الواسطيين، وضبط أسماءهم، فكان لا مزيد عليه في الحفظ والاتقان. وقال أبو نعيم: كان من كبار الحفاظ العلماء. وقال ابن المنادى: كان مشهوراً بالحفظ.
وأورده الذهبي في المغني، وفي الميزان، وقال: لينه أبو الحسن الدارقطني.
قلت: وكلام الدارقطني ليس صريح في ذلك، قال الدراقطني في سؤالات الحاكم له (64) : "تكلموا فيه".
وعليه فالراجح أنه ثقة ثبت، ولم يذكر الدارقطني من الذي تكلم فيه، لنرى هل هو ممن يعتبر قوله أم لا، كما إن الجرح غير مفسر، والله أعلم.
انظر لما سبق المغني في الضعفاء 1/126، الميزان 1/211، سير النبلاء 13/553، لسان الميزان 1/388] .
ورواه أكثر من ثقة، عن وهب بن بقية، حدثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ، عن عبد الله ابن أبي أمامة، عن عبد الله بن أنيس:
أخرجه ابن حبان 12/374، رقم 5563، والضياء في المختارة 9/17، رقم 4، وابن الأثير في أسد الغابة 3/120. من طريق أبي يعلى الموصلي.
والطبراني في الكبير [وقد زاد محقق الكتاب اسم أبي أمامة بين عبد الله بن أبي أمامة، وبين عبد الله بن أنيس، ولا أدري ما مستنده في ذلك، وقد أخرجه الضياء من طريق الطبراني وليس فيه ذلك!] . القسم المتتم للجزء 13/412، رقم 350- ومن طريقه الضياء في المختارة 9/17، رقم 5- عن محمود بن محمد الواسطي.
وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 4/80، رقم 2035 [وقع عند ابن أبي عاصم في هذا الموضع: "وهبان"، وصوابه: "وهب"، كما في الموضع الثاني] ، وفي 5/20، رقم 2556. كلهم عن وهب بن بقية، به.
قلت: وأبو يعلى، وابن أبي عاصم: ثقتان ثبتان معروفان.
ومحمود الواسطي قال الذهبي: الحافظ المفيد العالم، وكان من بقايا الحفاظ ببلده (السير 14/242) .
ورواه البغوي، وإبراهيم بن إسحاق، عن وهب بن بقية، عن خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمد بن زيد، عن عبد الله بن أبي أمامة الأنصاري، عن أبي أمامة، عن عبد الله بن أنيس:
أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة (ق 370) .
وأبو يعقوب الكاتب في المناهي (ق114/أ، ب) ، عن إبراهيم بن إسحاق.
كلاهما عن وهب بن بقية، به.
وذكره المزي في تحفة الأشراف4/275،من رواية عبد الرحمن بن إسحاق، به.
وقال المزي: فزاد فيه: "عبد الله بن أبي أمامة ".
قلت: والبغوي ثقة حافظ معروف.
وإبراهيم بن إسحاق، لعله السراج، وهو ثقة (السير 13/489) .
قلت: ولعل الوجه الثاني أرجح عن وهب، حيث رواه الأكثر كذلك، مع ثقتهم.
إلاإنه يمكن القول بأن الوجهين الأول والثالث محفوظان عن وهب، إذ الرواة ف يهما ثقات، ولعل الحمل في هذا الاختلاف على عبد الرحمن بن إسحاق، وهو صدوق (التقريب 3800) ، والرواة دونه في كل الأوجه أوثق منه، والله أعلم.
ولكن الوجه الأول أرجح عموماً، حيث توبع عبد الرحمن بن إسحاق، تابعه هشام بن سعد، كما تقدم في تخريج الطريق الأولى، والله أعلم.
وإسناده من هذا الوجه صحيح لغيره، فعبد الرحمن، تقدم أنه صدوق، وهشام بن سعد: صدوق له أوهام (التقريب 5894) . وأبو أمامة: صحابي جليل.(45/90)
تم بحمد الله ومنه.
فهرس المصادر والمراجع
أولاً: المصادر المخطوطة:
1- حديث أبي الحسن الحمامي: علي بن أحمد، رواية أبي الحسن العلاف الحاجب عنه، الجزء الخامس، مصورة عندي عن مصورة جامعة الإمام، رقم 7236 (146-155) .
2-الذيل على الكبائر، للضياء المقدسي: محمد بن عبد الواحد، مصورة عندي عن نسخة الظاهرية، مجموع رقم 81 (1- 5) .
3- معجم الصحابة، للبغوي: أبي القاسم عبد الله بن محمد، مصورة عندي، عن نسخة الخزانة العامة بالرباط.
4- المناهي وعقوبات المعاصي والتحذير منها، لأبي يعقوب محمد بن إسحاق الكاتب، مصورة عندي عن نسخة الظاهرية، رقم 4585 عام (1-203) .
ثانياً: المصادر المطبوعة:
1- الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم، أبي بكر أحمد بن عمرو (ت 287) ، تحقيق د. باسم الجوابرة، دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى1411هـ– 1991م.
2- الأحاديث المختارة، للحافظ ضياء الدين المقدسي (ت463) ، تحقيق عبد الملك بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1411هـ.
3- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (ت354هـ) ، ترتيب علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت739) ، تحقيق شعيب الأرنأوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
4- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص (ت 370) ، مراجعة صدقي محمد جميل، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، 1414هـ.
5- الأدب المفرد، للإمام البخاري، محمّد بن إسماعيل (ت256هـ) ، مع شرحه فضل الله الصمد، المطبعة السلفية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1388هـ.
6- كتاب الأربعين حديثاً، لأبي بكر الآجري، محمد بن الحسين (ت360هـ) ، تحقيق بدر البدر، مكتبة المعلا، الكويت، الطبعة الأولى 1408هـ.
7- إرشاد طلاب الحقائق، للإمام النووي: أبي زكريا يحيى بن شرف (ت676هـ) ، تحقيق عبد الباري السلفي، مكتبة الإيمان، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1408هـ.(45/91)
8- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد البر (ت463هـ) ، تحقيق د. طه الزيني، مطبوع بهامش الإصابة، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ.
9- أسد الغابة في معرفة الصحابة، للإمام ابن الأثير الجزري (ت630هـ) تصوير دار إحياء التراث العربي، بيروت.
10- الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، تحقيق د. طه الزيني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ.
11- أصول السنة، لابن أبي زمنين، محمد بن عبد الله الأندلسي (ت399هـ) ، تحقيق عبد الله البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1415هـ.
12- إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق زهير الناصر، دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ.
13- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، للإمام البيهقي، أحمد بن الحسين (ت458هـ) ، تعليق كمال الحوت، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
14- الإقناع، لابن المنذر: أبي بكر محمد بن إبراهيم (ت318هـ) ، تحقيق د. عبد الله الجبرين، مطابع الفرزدق، الطبعة الأولى 1408هـ.
15-الأمالي، لابن بشران: عبد الملك بن محمد (ت430هـ) ، تحقيق عادل العزازي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ.
16-الأمالي، للإمام يحيى بن الحسين الشجري، ترتيب محمد بن أحمد العبشمي، مطبعة الفجالة، مصر، بدون سنة طبع.
17- الأنساب، للإمام السمعاني، عبد الكريم بن محمد (ت562هـ) ، تعليق عبد الله البارودي دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1408 – 1988م.
18- كتاب الإيمان، للحافظ ابن منده: محمد بن إسحاق (ت395) ، تحقيق د. علي الفقيهي، مطبوعات الجامعة الإسلامية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1401هـ.(45/92)
19- البحر الزخار (مسند البزار) ، للحافظ أبي بكر أحمد بن عمرو البزار (ت292هـ) ، تحقيق محفوظ السلفي، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، الطبعة الأولى، بدء في طبعه عام 1409هـ، وصدر منه حتى الآن تسعة أجزاء، ولم يكتمل بعد.
20- كتاب البر والصلة، لابن الجوزي، أبي الفرج عبد الرحمن بن علي (ت597هـ) ، تحقيق عادل عبد الموجود، علي معوض، مكتبة السنة، القاهرة، الطبعة الأولى 1413هـ.
21- بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، للحافظ نور الدين الهيثمي (ت 807هـ) ، تحقيق د. حسين الباكري، مطبوعات مركز خدمة السنة، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1413هـ.
22- بغية الطلب في تاريخ حلب، لابن العديم: عمر بن أحمد (ت660هـ) ، تحقيق د. سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، لبنان، لم تذكر سنة الطبع.
23- بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام، للحافظ ابن القطان الفاسي (ت628هـ) تحقيق د. الحسين آيت سعيد، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ.
24- التاريخ، للإمام يحيى بن معين (ت233هـ) ، تحقيق د. أحمد نور سيف، مركز البحث العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، الطبعة الأولى 1399هـ– 1979م.
25- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت (ت463هـ) ، تصوير دار الكتاب العربي، بيروت.
26- تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين، تعريب محمود حجازي، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1403هـ1987م.
27- تاريخ جرجان، لأبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي (ت427هـ) ، بعناية محمد عبد المعيد خان، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الرابعة 1407هـ– 1987م.
28- تاريخ دمشق، لابن عساكر: علي بن الحسن الشافعي (ت571هـ) ، تحقيق عمرو غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ.
29- التاريخ الكبير، للإمام البخاري، محمد بن إسماعيل (ت256هـ) ، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت.(45/93)
30- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، للحافظ المزي: يوسف بن عبد الرحمن (ت742هـ) ، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة، الهند، الطبعة الثانية 1403هـ– 1983م.
31- التحقيق في أحاديث الخلاف، لأبي الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) ، تحقيق مسعد السعدني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ.
32- التدوين في أخبار قزوين، للإمام عبد الكريم بن محمد الرافعي (ت623هـ) ، تحقيق عزيز الله العطاردي، مطبعة العزيزية، حيدر آباد، الطبعة الأولى 1404هـ.
33- الترغيب والترهيب، للحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت656هـ) ، تحقيق مصطفى عمارة، المكتبة العصرية، بيروت 1405هـ.
34- الترغيب والترهيب، للإمام إسماعيل بن محمد الأصبهاني، قوام السنة (ت535هـ) ، تحقيق محمد زغلول، ومحمود زايد، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة.
35- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق عبد الله هاشم المدني، دار المحاسن للطباعة، 1386هـ.
36-تغليق التعليق، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق سعيد القزقي، المكتب الإسلامي، بيروت، دار عمار، الأردن، الطبعة الأولى 1405هـ.
37- تفسير البغوي (معالم التنزيل) ، للإمام الحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) ، تحقيق خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1407هـ.
38- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) ، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) ، مطبعة مصطفى بابي الحلبي، مصر.
39- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) ، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) ، تحقيق محمود شاكر، أحمد شاكر، دار المعارف، مصر.
40- تفسير القرآن العظيم، للحافظ إسماعيل بن كثير (ت747هـ) قدم له يوسف مرعشلي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ.
41- تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم الرازي (ت327هـ) تحقيق أسعد الطيب، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، الرياض، الطبعة الأولى،1417هـ.(45/94)
42- تقريب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد، سوريا، الطبعة الأولى 1406هـ– 1986م.
43- التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح، للعراقي: عبد الرحيم بن الحسين (ت806هـ) ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ.
44- تلخيص المتشابه في الرسم، للخطيب البغدادي، أحمد بن علي (ت463هـ) ، تحقيق سكينة الشهابي، دار طلاس للترجمة، دمشق، الطبعة الأولى 1985م.
45- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، للحافظ أبي عمر بن عبد البر القرطبي (ت463هـ) ، تحقيق سعيد اعراب وآخرين، طبعة وزارة الأوقاف المغربية.
46- تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، لابن النحاس: أحمد بن إبراهيم الدمشقي (ت814هـ) ، طبع على نفقة مريم الدعيج، مطابع الرياض، شارع المرقب.
47- تهذيب الآثار، للإمام الطبري: محمد بن جعفر (ت310هـ) ، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، مصر.
48- تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند.
49- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للمزي: يوسف بن عبد الرحمن (ت842هـ) ، تحقيق بشار عواد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى.
50- التوبيخ والتنبيه، لأبي الشيخ الأصبهاني: عبد الله بن محمد بن حيان (ت369هـ) تحقيق أبي الأشبال حسين المندوه، مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، الطبعة الأولى 1408هـ.
51- التوحيد لله عز وجل، لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ت660هـ) ، تحقيق محمد النابلسي، عبد الأكرم السقا، دار السقا، دمشق، الطبعة الأولى 1418هـ.
* جامع البيان عن تأويل آي القرآن، انظر: تفسير الطبري.
52- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر الأندلسي (ت463هـ) ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1415هـ.(45/95)
53- جامع المسانيد والسنن، للحافظ ابن كثير، إسماعيل بن عمر (ت774هـ) تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ.
54- الجامع في الجرح والتعديل، جمع وترتيب أبي المعاطي النوري وآخرين، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ.
55- الجرح والتعديل، للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت327هـ) ، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الأولى 1372هـ.
56- الجعديات (حديث علي بن الجعد) ، لأبي القاسم البغوي (ت317هـ) ، تحقيق رفعت فوزي، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى 1415هـ.
57- كتاب الجهاد، لابن أبي عاصم: أحمد بن عمر النبيل (ت287هـ) ، تحقيق د. مساعد الراشد الحميد، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1409هـ.
58- الجواب الكافي عن الدواء الشافي، لابن القيم: محمد بن أبي بكر (ت751هـ) ، تحقيق سعيد اللحام، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1407هـ.
59- الحدائق في علم الحديث والزهديات، لأبي الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) ، تحقيق مصطفى السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
60- حلية الأولياء، للحافظ أبي نعيم الاصبهاني، أحمد بن عبد الله (ت430هـ) ، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1405هـ- 1985م.
61- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام جلال الدين السيوطي (ت911هـ) ، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ– 1983م.
62- ذكر أخبار إصبهان، للحافظ أبي نعيم الأصبهاني (ت430هـ) ، الدار العلمية، الهند، الطبعة الثانية 1405هـ– 1985م.
63- الزواجر عن اقتراف الكبائر، لابن حجر الهيثمي: أبي العباس أحمد بن محمد المكي (ت974) ، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1417هـ.
64- سنن الترمذي، للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ) ، تحقيق أحمد شاكر وآخرين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية 1395هـ.(45/96)
65- سنن الدارقطني، للإمام أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت385هـ) ، تحقيق عبد الله هاشم المدني، حديث أكادمي، فيصل آباد، باكستان.
66- سنن الدارمي، للإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت255هـ) ، تحقيق عبد الله هاشم المدني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة 1386هـ– 1966م.
67- سنن ابن ماجه، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت275هـ) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، استانبول.
68- سنن أبي داود، للإمام سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ) تحقيق عزت الدعاس، نشر محمد علي السيد، حمص، الطبعة الأولى 1391هـ.
69- السنن الصغرى، للإمام البيهقي: أحمد بن الحسين (ت458هـ) ، تحقيق عبد المعطي قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية، باكستان، الطبعة الأولى 1410هـ– 1989م.
70- السنن الكبرى، للإمام البيهقي، مصورة عن الطبعة الهندية، دار المعرفة، بيروت.
71- السنن الكبرى، للإمام النسائي، أحمد بن شعيب (ت303هـ) ، تحقيق عبد الغفار البنداري، وسيد كسروي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ.
72- سنن النسائي الصغرى (المجتبى) ، للإمام النسائي (ت303هـ) باعتناء عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ– 1986م.
73- سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي، محمد بن أحمد (ت748هـ) ، تحقيق شعيب الأرنأوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى.
74- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي (ت1089هـ) ، تحقيق محمود الأرنأوط، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى 1406هـ.
75- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي (ت418هـ) ، تحقيق أحمد الغامدي، دار طيبة، الرياض، الطبعة الثالثة، 1415هـ.
76- شرح السنة، للإمام الحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) ، تحقيق شعيب الأرنأوط، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ– 1983م.(45/97)
77- شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، أحمد بن محمد (ت321هـ) ، تحقيق شعيب الأرنأوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
78- شعب الإيمان، للإمام البيهقي، أحمد بن الحسين (ت458هـ) ، تحقيق محمد السعيد زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ.
79- صحيح البخاري، المطبوع مع فتح الباري، انظر: فتح الباري.
80- صحيح ابن خزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت311هـ) ، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية1401هـ.
81- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت261هـ) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، استانبول، الطبعة الأولى 1374هـ– 1955م.
82- الضعفاء الكبير، لأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي (ت322هـ) ، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ.
83- طبقات الأسماء المفردة، للبرديجي: أحمد بن هارون (ت301هـ) ، تحقيق سكينة الشهابي، دار طلاس للدراسات والترجمة، دمشق، الطبعة الأولى 1987م.
84- طبقات المحدثين بأصبهان، لأبي الشيخ الأصبهاني (ت369) ، تحقيق عبد الغفور البلوشي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
85- علل الحديث، لابن أبي حاتم الرازي، عبد الرحمن بن محمد (ت327هـ) ، دار المعرفة، بيروت 1405هـ– 1985م.
86- العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) ، تحقيق وصي الله عباس، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ– 1988م.
87- غريب الحديث، لأبي إسحاق الحربي، إبراهيم بن إسحاق (ت285هـ) ، تحقيق د. سليمان العايد، مطبوعات جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1405هـ.
88- الغيلانيات، لأبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي البزاز (ت354هـ) ، تحقيق د. حلمي كامل أسعد، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1418هـ.(45/98)
89- الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم (ت728هـ) ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، توزيع الرئاسة العامة للإفتاء، الرياض.
90- فتح الباري، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثانية 1400هـ.
91- فتح المغيث، شرح ألفية الحديث، للسخاوي: محمد بن عبد الرحمن (ت902هـ) ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة النبوية، الطبعة الثانية 1388هـ.
92- الفصل للوصل المدرج في النقل، للخطيب البغدادي (ت463هـ) ، تحقيق د. محمد مطر الزهراني، دار الهجرة للنشر والتوزيع، الثقبة، الطبعة الأولى 1418هـ.
93- الفوائد الحسان (مشيخة ابن النقور) لأبي بكرعبد الله بن محمد بن النقور (ت565هـ) تحقيق مسعد السعدني، مكتبة أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ.
94- الفوائد المنتخبة (المهروانيات) ، لأبي القاسم يوسف بن محمد المهرواني (ت468هـ) تخريج الخطيب البغدادي، تحقيق خليل العربي، مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، الطبعة الأولى 1415هـ.
95- كتاب الكبائر، للذهبي: محمد بن أحمد (ت748هـ) ، تحقيق محيي الدين مستو، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الثانية، 1405هـ.
96- كشف الأستار عن زوائد البزار، للحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
97- الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي: أحمد بن علي (ت462هـ) ، مصورة عن الطبعة الهندية، المكتبة العلمية، المدينة النبوية.
98- لسان الميزان، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) مصورة عن طبعة دائرة المعارف النظامية بالهند، تصويرمؤسسة الأعلمي، بيروت.
99- مجمع البحرين في زوائد المعجمين، للحافظ الهيثمي (ت807هـ) ، تحقيق عبد القدوس نذير، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1413هـ.(45/99)
100- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) ، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1402هـ– 1982م.
101- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، للرامهرمزي: الحسن بن عبد الرحمن (ت360هـ) ، تحقيق محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، الطبعة الثالثة 1404هـ.
102- المحلى، لابن حزم الأندلسي: أبي محمد علي بن أحمد (ت456هـ) ، تحقيق أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
103- المدخل إلى السنن الكبرى، للإمام البيهقي (ت458هـ) ، تحقيق د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، لم تذكر سنة الطبع.
104- كتاب المراسيل، لابن أبي حاتم الرازي (ت327هـ) ، تحقيق شكر الله قوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1402هـ– 1982م.
105- مسألة في التوحيد وفضل لا إله إلا الله، للإمام يوسف بن عبد الهادي (ت909هـ) ،تحقيق عبد الهادي منصور، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى1416هـ.
106- مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب (ت129هـ) ،جمع أبي نعيم الأصبهاني (430هـ) ، تحقيق محمد المصري، مطابع ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى 1413هـ.
107- مساوئ الأخلاق ومذمومها، للخرائطي، محمد بن جعفر السامري (ت327هـ) ، تحقيق مجدي السيد، مكتبة القرآن، القاهرة، لم تذكر سنة الطبع.
108- المستخرج على صحيح مسلم، لأبي نعيم الأصبهاني (ت430هـ) ، تحقيق محمد حسن الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ.
109- المستخرج على صحيح مسلم، لأبي عوانة، المطبوع باسم مسند أبي عوانة، مصورة عن الطبعة الهندية، تصوير دار الكتب، مصر.
110- المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله (ت405هـ) ، مصورة عن الطبعة الهندية، دار المعرفة، بيروت.
111- مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت241هـ) ، تصوير دار الفكر العربي، بيروت.(45/100)
112- مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ.
113- مسند إسحاق بن راهويه، للإمام إسحاق بن إبراهيم المروزي (ت238هـ) ، تحقيق د. عبد الغفور البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1412هـ.
114- مسند أبي داود الطيالسي، للإمام سليمان بن داود (ت204هـ) ، تصوير دار المعرفة، بيروت.
115- مسند ابن أبي شيبة، لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت235هـ) ، تحقيق عادل العزازي، أحمد المزيدي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ.
116- مسند أبي عوانة، انظر المستخرج على صحيح مسلم.
117- مسند أبي يعلى الموصلي، للإمام أحمد بن علي الموصلي (ت307هـ) ، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون، دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ– 1984م.
118- مسند الشاشي: الهيثم بن كليب (ت335هـ) ، تحقيق د. محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1410هـ.
119- مسند الشاميين، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) ، تحقيق حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى1409هـ– 1989م.
120- مشكل الآثار، انظر: شرح مشكل الآثار.
121- مشيخة ابن الحطاب الرازي: محمد بن أحمد (ت525هـ) ، بانتقاء أبي طاهر السلفي، تحقيق الشريف حاتم العوني، دار الهجرة، الثقبة، الطبعة الأولى1415هـ.
122- المصنف، لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت235هـ) ، تحقيق مختار الندوي، الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى 1401هـ– 1981م.
123- المصنف، لعبد الرازق بن همام الصنعاني (ت211هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ-1983م.
124- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، (النسخة المسندة) ، تحقيق غنيم عباس، ياسر إبراهيم، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ.(45/101)
125- المعجم الأوسط، للإمام الطبراني، سليمان بن أحمد (ت360هـ) ، تحقيق محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1405هـ– 1985م.
126- معجم البلدان، لياقوت بن عبد الله الحموي (ت626هـ) ، تحقيق فريد الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ.
127- معجم الصحابة، لابن قانع: أبي الحسين عبد الباقي بن قانع (ت351هـ) ، تحقيق صلاح المصراتي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1418هـ.
128- المعجم الكبير، للحافظ الطبراني، سليمان بن أحمد (ت360هـ) ، تحقيق حمدي السلفي، الطبعة الثانية.
129- معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله (ت430هـ) ، تحقيق محمد راضي عثمان، مكتبة الدار بالمدينة ومكتبة الحرمين بالرياض، الطبعة الأولى 1408هـ.
130- معرفة علوم الحديث، للحاكم النيسابوري: محمد بن عبد الله (ت405هـ) ،تحقيق معظم حسين، المكتبة العلمية، المدينة النبوية، الطبعة الثانية 1397هـ.
131- المعرفة والتاريخ، للفسوي، يعقوب بن سفيان (ت277هـ) ، تحقيق د. أكرم العمري، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ– 1981م.
132- المغني في الضعفاء، للإمام الذهبي، محمد بن أحمد (ت748هـ) ، تحقيق نور الدين عتر، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، الطبعة الثانية 1407هـ.
133- المهروانيات: انظر الفوائد المنتخبة.
134- موافقة الخُبْر الخَبَر في تخريج أحاديث المختصر، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق حمدي السلفي، صبحي السامرائي، مكتبة الرشد، الرياض الطبعة الأولى 1412هـ.
135- الموطأ، للإمام مالك بن أنس (ت179هـ) ، رواية يحيى بن يحيى الليثي (ت234هـ) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكاتب العربي، مصر.
136- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للإمام الذهبي، محمد بن أحمد (ت748هـ) ، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.(45/102)
137- الوسيط في تفسير القرآن المجيد، لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي (ت468هـ) ، تحقيق عادل عبد الموجود وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ.(45/103)
رعاية المصلحة والحكمة في تشريع نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)
إعداد
د. محمد طاهر حكيم
الأستاذ المساعد في كلية الشريعة في نواكشوط
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه.
وبعد، فإن العلم بالمصالح والمفاسد واعتبارها وتقديرها عند دراسة الأحكام والفتاوى الشرعية أمر مهم عند أهل العلم، بل إنه لا يمكن فهم الكتاب والسنة ودراستهما واستلهام هديهما والعمل بأحكامهما إلا بفهم المقاصد والمصالح التي شرعت الأحكام لأجلها. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "الأحكام الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قُصد بها أمور أخرى هي معانيها وهي المصالح التي شُرعت لأجلها"
والفقيه لا يكون فقيها بحقٍ إلا بمعرفة حِكم الشريعة ومصالحها ومقاصدها والنفوذ إلى دقائقها والمعرفة بأسرارها ليبين للناس أن لكل حكم من أحكام الإسلام غاية يحققها ووظيفة يؤديها وحكمة ظاهرة أو كامنة يعمل لإيجادها ومقصداً وهدفاً يقصده ويستهدفه لتحقيق مصلحة لإنسان أو دفع مفسدة عنه.
وأن مالم يكن فيه تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة فهو عبث تتنزه عن مثله شريعة الله.
إذن فإن دراسة المصالح والمفاسد ومعرفتها واعتبارها وبيانها للناس أمرٌ مُهمّ وضرورة مُلحّة لإظهار محاسن الشريعة وأسرارها ولتجديد الفقه وتقوية دوره ونشاطه وحيويته وصفائه ومنعاً من جموده وخموده في الحياة.
لأجل هذا أدليتُ بدلوي بكتابة هذا البحث المتواضع في هذا الموضوع الهام، قاصداً إظهار أهمية المصلحة - المنصوصة والمستنبطة - ومؤكداً على ضرورة دراستها وبيانها للناس.(45/104)
ونظراً لطبيعة الموضوع فقد جاء تقسيمه إلى موضوعات متتابعة في إطار المعالجة الموضوعية التي تتطلبها طبيعة البحث والمادة العلمية المتاحة له، وذلك من خلال تعريف المصلحة وأنواعها واعتبارها، وضرورة معرفة المصالح والمفاسد. ثم تطرقت إلى منكري تعليل الأحكام بالمصالح ووضحت موقفهم وبينت شبهاتهم مفنداً لها مبينا في هذا الصدد أن الموجب للحكم هو الله تعالى لا المصلحة ولا الحكمة ناقلاً كلام العلماء في هذا كله. وأشرت إلى كيفية تقدير المصالح والمفاسد والنظر إلى المآلات عند تقديرها، وأخيراً شروط المصلحة المعتبرة. وتوخيت في ذلك اللغة السهلة والعبارة الواضحة والعرض المقرب وفق المنهج العلمي المتبع - قدر استطاعتي - حتى يكون في متناول جميع طبقات المتعلمين وأهل الاختصاص، وجعلته بعنوان:
(رعاية المصلحة والحكمة في تشريع نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم)
سائلا المولى عز وجل أن ينفعني به وإخواني من طلبة العلم وأن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه وأن يجزي علماءنا خير الجزاء إنه سميع مجيب كريم {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
مدخل:
العاقل لا يقدم على فعل إلا لمصلحة، ولا يأمر أو ينهى عن شيء إلا لحكمة فضلاً عن الله سبحانه وتعالى الذي هو مصدر كل كمال ومنبع كل نوال كما قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (2) أي كان ولم يزل يصدر في أفعاله وأحكامه عن علم وحكمة - لا عن جهل وعبث – سبحانه.
__________
(1) سورة هود آية (88) .
(2) سورة الفتح آية (4) .(45/105)
فهو جل وعلا لم يخلق شيئاً باطلاً أو لعباً، ولم يشرع شرعاً عبثاً أو اعتباطاً بل إن كل أحكامه – عز وجل – مثل كل أفعاله منوطة بالحكمة فهو سبحانه حكيم فيما خلق، وحكيم فيما شرع. كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} (1) أي عابثين، والعبث: ما خلا عن المصلحة والحكمة.
وقال جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} (2) أي من غير مصلحة مقصودة وحكمة منشودة؟!
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ} (3) "أي تقدس أن يخلق شيئاً عبثاً فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك".
وقال عز وجل - في مقادير المواريث -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} حتى ختمها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (4) "لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره، فهو كذلك المصلحة المبنية على كمال العلم والحكمة، فالله يحكم لأنه عليم وهم لا يعلمون، والله يفرض لأنه حكيم وهم يتبعون الهوى".
ومن هنا قال العلماء: حيث المصلحةُ فثَم شرع الله، أي حيث المصلحة محققة فثم شرع الله بها موجود. فما هي المصلحة؟.
تعريف المصلحة:
المصلحة كالمنفعة وزنا ومعنى، فهي مصدر بمعنى الصلاح، كالمنفعة بمعنى النفع، أو هي اسم للواحدة من المصالح، وقد صرّح صاحب لسان العرب بالوجهين فقال: "والمصلحة الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح". فكل ما كان فيه نفع - سواء كان بالجلب والتحصيل كاستحصال الفوائد واللذائذ، أو بالدفع والاتقاء كاستبعاد المضار والآلام - فهو جدير بأن يسمى مصلحة.
والمصلحة عند علماء الشريعة الإسلامية هي: "المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها"قاله الرازي.
__________
(1) سورة الأنبياء آية (16) .
(2) سورة المؤمنون آية (115) .
(3) سورة المؤمنون آية (116) .
(4) سورة النساء آية (11) .(45/106)
وعرفها الطوفي بحسب العرف: "بأنها السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح"وبحسب الشرع: "بأنها السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة".
فالمصالح عند الطوفي هي الوسائل إلى الصلاح، وعند الرازي هي الوسائل والمقاصد جميعا: "ونرى أن المصلحة هي الغاية، وما يؤدي إليها وسيلة، وتسمية الوسيلة مصلحة باعتبار إفضائها إليها لا أنها هي، ولا بد من الفصل بينهما، لأن من الوسائل ما قد يتغير أو ينسخ دون المقاصد".
ونقول: إن المصلحة: "هي مقتضى العقول القويمة والفطر السليمة من الرشاد، ما يحقق مقصود الشارع والعباد من صلاح المعاش والمعاد".
فقولي: "هي مقتضى العقول القويمة": أي غير المصابة بمرض الشهوة أو الشبهة كالتي تزعم أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع من مدارس ومكاتب ونحوهما يهذب من الخلق ويخفف من شره الميل الجنسي وكالتي تزعم أن استحلال الربا ينعش الاقتصاد الوطني ... الخ فهذه المزاعم الباطلة مفاسد لا مصالح، وهي نتاج شهوة أو شبهة، وهي علامة الخذلان!. كما قال محمد بن كعب القرظي لما سئل عن علامة الخذلان! - يعني: الحرمان من توفيق الله وتسديده - قال: "أن يستقبح الرجلُ ما كان يُستحسن! ويستحسن ما كان قبيحاً"، قال المتنبي:
يُقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسنِ
وهذا من انتكاس الفطرة وخَطَل القول وفساد الرأي، نعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر ومن الفساد بعد السداد.
وقولي: "الفِطر السليمة"أي لا المنكوسة: فطرة الله التي فطر الناس عليها قبل أن يطرأ عليها الانحراف عن الطريق السويّ.
وقولي: "من الرشاد"أي لا من الغيّ والفساد كالأمثلة التي سلفتْ.
وقولي: "ما يحقق مراد الشارع ومراد العباد"ومراد الشارع: تحقيق العبودية لله بامتثال أوامر الله تعالى، سواء أدرك العبد حكمتها، كالأعمال المعللّة، أو لم يدرك حكمتها كالأعمال التعبدية.(45/107)
"ومراد العباد من صلاح المعاش والمعاد"أي صلاح الدنيا وفلاح الآخرة وهما غاية السعادة. رزقنا الله إياهما.
تعريف الحكمة والعلة والسبب والفرق بينها:
الحكمة: ما يترتب على ربط الحكم بعلته أو سببه، من جلب مصلحة أو دفع مضرة.
والعلة: وصف مناسب ظاهر منضبط ناط الشرع به الحكم كجعله الإتلاف علة لضمان المتلف، والجريمة علة للعقوبة عليها.
والفرق بين العلة والحكمة: أن العلة: هي الوصف المناسب المعرّف لحكم الشارع وباعثه على تشريع الحكم كالإسكار علة لتحريم الخمر.
والحكمة: ما يجتنيه المكلف من الثمرة المترتبة على امتثال حكم الشارع من جَلب نفع أو دفع ضر. كحفظ العقل من تحريم الخمر.
وعلة القصاص القتل العمد والعدوان، وحكمته: حفظ النفس. والسرقة علة القطع، والغصب علة الضمان والحكمة فيهما: حفظ المال.
والزنا علة الحد وحكمته حفظ الأنساب.
وأما السبب: "فهو وصف ظاهر منضبط، ناط الشارع به الحكم مناسباً كان - كالأمثلة السابقة - أو غير مناسب كجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة وشهود رمضان سببا لوجوب صومه" فهو أعم من العلة.
وهذه التفرقة بين الحكمة والعلة والسبب اصطلاح حادث، أما القدماء فقد استعملوا الحكمة مرادفة لقصد الشارع أو مقصوده، فيقولون: هذا مقصوده كذا، أو حكمته كذا، فلا فرق، وإن كان استعمالهم للفظ الحكمة أكثر من استعمالهم للفظ المقصد. قال الونشريسي: " ... الحكمة في اصطلاح المتشرعين: هي المقصود من إثبات الحكم أو نفيه وذلك كالمشقة التي شُرع القصر والإفطار لأجلها".(45/108)
وقد يبدو في هذا الكلام شيء من الإشكال - كما يقول الدكتور الريسوني وهو: هل المشقة حكمة ومقصود؟ والجواب: إن الكلام فيه حذف، ومراده: أن رفع المشقة عن المسافر هو مقصود الحكم وحكمته، وقد نبه على هذا الأصولي الحنفي شمس الدين الفناري حيث قال: "أما ما يقال في رخص السفر: أن السبب السفر، والحكمة المشقة، وأمثاله، فكلام مجازي، والمراد أن الحكمة الباعثة دفع مشقة السفر".
ويؤكد الدكتور بدران أبو العينين بدران هذا التطابق بين مقصود الحكم وحكمته في اصطلاح الفقهاء فيقول: "على أن جمهور الفقهاء كانوا يذهبون في اجتهاداتهم إلى أن ما شرعه الله من أحكام، لم يشرعه الله إلا لمصلحة جلب منفعة لهم أو دفع مضرة عنهم، فلهذا كانت تلك المصلحة هي الغاية المقصودة من التشريع وتسمى حكمة". ثم قال: "أما حكمة الحكم فهي الباعث على تشريعه والمصلحة التي قصدها الشارع من شرعه الحكم".
وأما مصطلح العلة فهو مما يُعبر به عن مقصود الشارع، فيكون على هذا مرادفاً لمصطلح (الحكمة) وهذا هو الاستعمال الأصلي والحقيقي لمصطلح العلة ثم غلب استعماله فيما بعد بمعنى الوصف الظاهر المنضبط الذي تناط به الأحكام الشرعية، على أساس أن الحكمة وهي مناط الحكم ومقصوده في حقيقة الأمر ترتبط غالباً بذلك الوصف الظاهر المنضبط، الذي يسهل إحالة الناس عليه في تعرفهم لأحكام الشارع - كما أوضح ذلك الدكتور الريسوني - ففي باب الرخص مثلاً، لاشك أن رفع المشاق عن الناس والتخفيف عنهم هي الحكمة والمقصود، وهي العلة الحقيقية للرخص الشرعية، ولكن الشارع لا يقول للمكلفين: كلما وجدتم عنتاً فترخّصوا. وإنما حدد لهم أمارات معروفة وأسباباً معينة، هي ما يسميه الأصوليون: الأوصاف الظاهرة المنضبطة، فبناء عليها يقع الترخيص كالسفر والمرض والعجز والإكراه.(45/109)
فهذه الأوصاف أو الأمارات المنضبطة يطلق عليها العلل أو الأسباب بينما العلة الحقيقية والسبب الحقيقي هو مقصود الحكم وحكمته من جلب مصلحة أو درء مفسدة أو هما معاً، ولكن الشارع يربط الأحكام بأمارات ظاهرة منضبطة ضبطا للأحكام وتجنباً للفوضى في التشريع. على أن تلك الأمارات تكون متلازمة عادة مع المصالح أو المفاسد التي هي علة التشريع الحقيقية أو تكون مظنة لها. قال الشاطبي: "فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية".
نخلص من هذا إلى أن العلة - وإن استعملتْ استعمالات متعددة مختلفة - لكن معناها الحقيقي والأصلي هو الحكمة والمصلحة.
يقول الشاطبي: " ... وأما العلة فالمراد بها الحِكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي ... فعلى الجملة: العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها ... ".
وهذا الذي صنعه الشاطبي من تفسير العلة- عنده - بالمصلحة والمفسدة المقصودة بالحكم هو اللائق في باب المقاصد، لأن البحث في المقاصد هو بحث في العلل الحقيقيّة التي هي مقاصد الأحكام بغض النظر عن كونها ظاهرة أو خفية منضبطة أو غير منضبطة، وعلى أساس هذا المعنى الأصلي لمصطلح العلة، تفرع مصطلح التعليل بمعناه العام، وهو تعليل أحكام الشريعة بجلب المصالح ودرء المفاسد.
أنواع المصالح:
وقد علم بالاستقراء أن المصالح المقصودة من الشرائع ثلاثة أنواع:
1- مصالح ضرورية: وهي التي تتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدتْ اختلتْ الحياة الإنسانية في الدنيا، وفات النعيم وحل العقاب في الآخرة، وهي تنحصر بالاستقراء في المحافظة على خمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.(45/110)
2- مصالح حاجية: وهي رفع المشقة ودفع الحرج والضيق عن الناس فبفقدها لا تختل حياتهم، بل يصيبهم حرج وضيق لا يبلغان مبلغ الفساد المتوقع في فقد الضروريات، كتيسير حاجاتهم بإباحة البيع والإجارة ونحوهما، وتخفيف التكاليف عنهم بقصر الصلاة والفطر في رمضان للمسافر وإباحة المسح على الخفين، ونحو ذلك.
3- مصالح تحسينية: وهي مالا يدخل في النوعين السابقين، بل يرجع إلى اجتناب ما لا تألفه العقول الراجحات، وإلى الأخذ بمحاسن العادات وما تقتضيه المروءات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، مثل ستر العورة وأخذ الزينة عند كل مسجد، والأخذ بآداب الأكل والشرب وتجنب الإسراف والامتناع عن بيع النجاسات وما أشبه ذلك.
ودليل انحصار مصالح الخلق في هذه الأنواع الثلاثة: استقراء مصالح الناس وتبيُّن رجوع كل مصلحة منها إلى نوع من هذه الأنواع، وقد يتردد الباحث في إلحاق شيء منها بأحد الأنواع، ولكن لا يتردد في عدم خروجه منها بحال.
قيام الشريعة على أساس مصالح العباد:
الشريعة الإسلامية مبنية على تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، سواء ما أمرتْ به من فرائض ومندوبات أو ما نهتْ عنه من محرمات ومكروهات فهي في كل ذلك تهدف إلى تحقيق مقاصد ومصالح وحكم، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: " ... فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليستْ من الشريعة، وإنْ أُدخلتْ فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها ... ".(45/111)
فالشريعة إذاً ليست تعبّدية تحكّمية تحلّل وتحرّم دون أن تقصد إلى شيء وراء أمرها ونهيها، وحظرها وإباحتها، وبعبارة أخرى: إن أحكام الشريعة الإسلامية - في جملتها - معللة عند الجماهير من أهل العلم وإن لها مقاصد في كل ما شرعتْه وإن هذه المقاصد والحكم معقولة ومفهومة في الجملة، بل معقولة ومفهومة تفصيلاً إلا في بعض الأحكام التعبدية المحضة التي يصعب تعليلها تعليلاً مفصّلاً ظاهراً معقولاً مثل ما ورد في الأحكام والعبادات من تحديدات وهيئات ومقادير كعدد الصلوات وعدد الركعات في كل صلاة وجعل الصيام شهراً وفي شهر معين، وكذا بعض تفاصيل الحج وأحكام الكفارات ومقاديرها والعقوبات المحددة (الحدود) ، من حيث نوعها ومقاديرها وعدد الأشهر في العدة والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول وغير ذلك مما استأثر الله بعلمه ولم نطلع عليه. فهذه الأحكام التعبدية يصعب تعليلها بالتفصيل - وإن كانتْ هي معللة في أصلها وجملتها.
قال الشاطبي: "وقد عُلم أن العبادات وُضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة - وإن لم يُعلم ذلك على التفصيل، ويصح القصد إلى مسبباتها - ثمرتها وفوائدها - الدنيوية والأخروية على الجملة".(45/112)
وقال إمام الحرمين الجويني بعد أن عرض آراء العلماء فيما يُعلل وما لا يُعلل من الأحكام وذكر نماذج لتعليلاتهم، وفي معرض ذكر تقسيمه الخماسي للعلل والمقاصد الشرعية. قال: "والقسم الخامس: هو ما لا يظهر له تعليل واضح ولا مقصد محدد، لامن باب الضرورات، ولا من باب الحاجات، ولا من باب المكرمات - أي التحسينات - قال: وهذا يندر تصوره جداً" ثم مثل له بالعبادات البدنية المحضة، لكنه سرعان ما نبه على أن هذه العبادات يمكن تعليلها تعليلاً إجمالياً، وهو أنها تمرن العباد على الانقياد لله تعالى وتجديد العهد بذكره مما ينتج النهي عن الفحشاء والمنكر ويخفف من المغالاة في اتباع مطالب الدنيا ويذكر بالاستعداد للآخرة ... "قال: "فهذه أمور كلية لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية، وقد أشعر بذلك بنصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1) (2) .
وقال ابن القيم:"وبالجملة فللشارع في أحكام العبادات أسرار لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل، وإنْ أدركتْها جملة".
__________
(1) سورة العنكبوت آية: 45.
(2) البرهان 2 / 958.(45/113)
إن العبادات في الإسلام ليستْ مجرد مظاهر وشعائر وطقوس يؤديها المسلم لمجرد أنها مفروضة عليه من ربه فحسب، فليس عليه إلا الإذعان والامتثال لأوامر الله وإظهار العبودية له، ولاشك أن هذا مطلوب ومقصود على الوجه الأكمل، ولكن العبادات - إلى جانب هذا - تنطوي على غايات نبيلة وحكم جليلة إذا قام العبد بها على وجهها خالصة لله تعالى اجتنى منها ثمرات كريمة وفوائد عظيمة من تطهير النفس وتزكيتها وطهارة القلب وسلامته مما ران عليه وتنوير البصيرة وانشراح الصدر واطمئنان القلب، ومحبة الله ورضاه ومحبة عباد الله الصالحين، وصلاح الدنيا وفلاح الآخرة إلى غير ذلك من الأسرار والأنوار والخير الكثير والنفع الوفير مالا يأتي عليه حصر، فيصبح بعد ذلك عبداً مثالياً ربانياً في أنوار مشرقة بعد أن كان تائهاً في ظلمات حالكة كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (1) ويكون - إلى جانب كل ما تقدم - قد حقق العبودية المحضة لله تعالى وتحقيق العبودية الخالصة لله غاية الغايات ومصلحة المصالح وحِكمة الحِكم وغاية ما تسمو إليه الهمم، وأسمى المقاصد وأنبلها عند أولي الألباب.
كما أن لها حكماً وأسراراً أخرى لا يدركها العقل الإنساني القاصر لأن للعقل حداً ينتهي إليه - كما قال الشافعي - رحمه الله - ومن يحيط بعلم الله وحكمته؟ {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (3) .
نخلص من هذا إلى أن أحكام الشريعة كلها معللة - في الجملة - وأن لها غايات نبيلة وحكماً جليلة قال ابن القيم: "ليس في الشريعة حكم إلا وله حكمة وإن لم يعقلها كثير من الناس أو أكثرهم".
__________
(1) سورة الأنعام آية 122.
(2) سورة البقرة آية 225.
(3) سورة الإسراء آية 85.(45/114)
ونص الآمدي على أنه لا يجوز القول بوجود حكم إلا لعلة: "إذ هو خلاف إجماع الفقهاء على أن الحكم لا يخلو من علة".
وقال ابن الحاجب: " ... فإن الأحكام شرعت لمصالح العباد بدليل إجماع الأمة".
وقال ابن القيم: " ... والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها ولكن يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة" ثم نبه على عدد كثير من صيغ التعليل المستعملة في القرآن.
ويؤكد على هذا الاتجاه الإمام عز الدين بن عبد السلام موضحاً أن الشريعة كلها معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد، سواء منها ما وقع النص على تعليله أو ما لم ينص عليه، فما نص على تعليله فيه تنبيه على ما لم ينص عليه يقول: "والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فتأمل وصيته بعد ندائه فلا تجد إلا خيراً يحثّك عليه أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثاً على إتيان المصالح".
ويؤكد في موضع آخر وبجلاء أكثر وأسلوب أوضح على هذا المعنى فيقول: "التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم والله غني عن عبادة الكل، لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين ... ".
وقال الشاطبي: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً".
وقال أيضاً: "إذاً ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات" وقد كرر هذا المعنى في كتابه كثيراً.(45/115)
وقد انتقد الإمام الشاه ولي الله الدهلوي منكري التعليل، وأنكر عليهم ظنهم أن الشريعة ليستْ سوى تعبد واختبار، لا اهتمام لها بشيء من المصالح قائلاً: "وهذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجماع القرون المشهود لها بالخير ... ".
الأدلة على أن أحكام الله تعالى معللة بالحكم والمصالح:
وقد دلت أدلة كثيرة على أن أحكام الشريعة مبنية على مصالح العباد من صلاح المعاش والمعاد، منها:
1- النصوص الكثيرة الدالة على تعليل أفعاله تعالى وأحكامه، وهي من الكثرة في الكتاب والسنة بحيث يتعذر إحصاؤها، منها على سبيل المثال:
قوله تعالى في الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} (1) .
وقوله سبحانه في الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) .
وقوله في الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجّ ... لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (3) .
وقال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} (4)
وقال عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5)
وقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (6) .
وقال في أربع قبل الظهر: "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح" (7) .
__________
(1) سورة العنكبوت آية: 45.
(2) سورة التوبة آية: 103.
(3) سورة الحج آية: 27، 28.
(4) سورة الأنفال الآية: 39.
(5) سورة البقرة آية: 179.
(6) رواه البخاري 9 / 106 (مع الفتح) ومسلم 2 / 1018، ورواه كذلك الترمذي وأبو داود والنسائي وغيرهم.
(7) رواه أحمد 5 / 417، 430 والترمذي وغيرهما.(45/116)
وقال عليه الصلاة والسلام في نقض الوضوء بالنوم: " ... فإنه إذا اضطجع استرختْ مفاصله" (1) .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي وغيره"إلى أن قال: "وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة".
2- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) .
قال العضد الإيجي: "وظاهر الآية التعميم، أي يفهم منه مراعاة مصالحهم فيما شرع لهم من الأحكام كلها، إذ لو أرسل بحكم لا مصلحة لهم فيه لكان إرسالاً لغير الرحمة، لأنه تكليف بلا فائدة، فخالف ظاهر العموم".
3- ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" (3) فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن مناط قرب الإنسان من الله تعالى هو مدى تقديمه النفع والخدمة لعباده، وذلك برعاية مصالحهم وتوفير ما به سعادتهم الحقيقية.
وإذا كان ميزان ما يتقرب به الإنسان إلى الله في أعماله هو: خدمة مصالح العباد، فأحرى أن يكون هذا الميزان هو نفسه المحكم في نظام الشريعة الإسلامية نفسها.
فقهاء الصحابة ينظرون إلى مقاصد الشريعة:
__________
(1) رواه الترمذي1/ 253وأبو داود1/139والإمام أحمد1/256 والدارقطني1/159 وابن أبي شيبة1/132 والبيهقي1/121 وقال أبو داود: هو حديث منكر ونحوه قال ابن عبد البر انظر الاستذكار1/191 ونصب الراية1/44.
(2) سورة الأنبياء آية: 107
(3) رواه الطبراني وأبو يعلى وذكر السخاوي له عدة طرق في المقاصد الحسنة ص 200.(45/117)
ومن نظر إلى ما أثر عن فقهاء الصحابة رضي الله عنه مثل الخلفاء الراشدين وابن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وغيرهم ونظر إلى فقههم وتأمله بعمق تبين له أنهم كانوا ينظرون إلى ما وراء الأحكام من علل ومصالح وما تحمله الأوامر والنواهي من حكم ومقاصد، فإذا أفتوا في مسألة أو حكموا في قضية لم يغبْ عن بالهم مقاصد الشريعة وأهدافها، ولم يهدروا هذه المقاصد الكلية في غمرة الحماس للنصوص الجزئية، ولا العكس، بل ربطوا الجزئيات بالكليات والفروع بالأصول، والأحكام بالمقاصد.
فهذا معاذ - رضي الله عنه - أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن معلماً وقاضياً وأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم ليردها إلى فقرائهم، حيث قال له: "وأعلمهم أن الله افترض عليهم الصدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب" (1) . وكان فيما قاله له أيضاً: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم والبعير من الإبل، والبقرة من البقر" (2) ولكن معاذاً - رضي الله عنه - لم يجمد على ظاهر الحديث بحيث لا يأخذ من الحب إلا الحب ... الخ ولكن نظر إلى المقصد من أخذ الزكاة، وهو التزكية والتطهير للغني وسد خلة الفقراء من المؤمنين فلم ير بأساً من أخذ قيمة العين الواجبة في الزكاة، كما ذكره البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم، ورواه البيهقي في سننه بسنده عن طاوس عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: "ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة".
__________
(1) رواه البخاري 1 / 322 وفي أمكنة أخرى ورواه أيضاً مسلم وأصحاب السنن وغيرهم.
(2) رواه أبو داود في الزكاة 2 / 253 وابن ماجه (1841) والحاكم 1 / 338 وصححه على شرط الشيخين - إن صح سماع عطاء بن يسار من معاذ وقال الذهبي: لم يلقه.(45/118)
وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه والثوري وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وأحمد - في غير زكاة الفطر - وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه.
ومن ذلك: جمع الصحابة القرآن الكريم ثم كتابة المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد، دفعاً لمفسدة اختلاف الناس وتفرقهم وتنازعهم وربما تكفير بعضهم بعضاً التي هي أعظم من مصلحة التورع بإبقاء الحال في ذلك على ما كانت عليه في عهده - صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك - أيضاً - اقتداء ابن مسعود برسول الله صلى الله عليه وسلم في تخول الناس بالموعظة - كما رواه البخاري عن أبي وائل - قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس: فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.
ومن هذا الباب - أيضاً - ما حكي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أن ابنه عبد الملك قال له:"مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق؟ "قال: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في آيتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدمغوه جملة ويكون منا ذا فتنة".(45/119)
ومن ذلك ما قرره العلماء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اعتبار المصالح والمفاسد في ذلك والحرص على تقديرها قبل الهجوم بالأمر أو الإنكار: قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات والمستحبات، ولابد أن المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به هو صلاح وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين ءامنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجباً وفعل محرماً ... ".
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله … ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر بطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر.(45/120)
وقال– رحمه الله: "فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد وإلا كان تركهم على ذلك خيراً [من] أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك… وهذا باب واسع …، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم".
وهذا باب واسع ويطول سرد الأمثلة إذا تتبعناها، وحسبنا هذه الملامح والإرشادات.
مصالح منصوص عليها وأخرى غير منصوص عليها:
وإذا تقرر هذا فإن المصلحة أو الحكمة قد تكون منصوصاً عليها في كلام الشارع وقد لا تكون منصوصاً عليها فيهتدي إليها العالم بنور الله: بالفهم الذي يؤتاه الرجل في الكتاب والسنة وهو المعنيّ بالحكمة في قوله سبحانه وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء} (1) يعني: - والله أعلم - الإصابة في الفهم والسداد في القول والعمل وحسبك بهما نعمة.
فمن أمثلة القسم الأول:
- شرعت الصلاة لذكر الله تعالى. قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (2) .
- شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله وإزالة الفتنة كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة آية: 269.
(2) سورة طه آية:14.
(3) سورة الأنفال آية: 39.(45/121)
- شرع القصاص زاجراً عن القتل كما قال جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
- حرمت الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
- حرم الزنا لأنه فاحشة كما قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (3) .
نهى عن الجمع بين المرأة ومحارمها منعاً من القطيعة كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (4) وأمثلة هذا القسم كثيرة معلومة في القرآن والسنة كما تقدم من كلام ابن القيم.
ومن أمثلة القسم الثاني:
- شرع البيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه.
- شرعت الإجارة لسد حاجة الناس إذ لو لم يشرع لدخل على الناس حرج شديد.
- رخص في بيع (العرايا) دفعاً للحاجة ورحمة بالمسلمين مع أن فيه معنى الربا لأن الرطب إذا جف نقص وزنه.
- شرعت الشفعة لدفع ضرر الشركة عن الشريك، فإذا أراد بيع نصيبه كان شريكه أحق من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن.
__________
(1) سورة البقرة آية: 179.
(2) سورة المائدة آية: 90، 91.
(3) سورة الإسراء آية: 32.
(4) رواه الطبراني في المعجم الكبير 11/337، وقال الحافظ ابن حجر في الدراية 2/56: صححه ابن حبان اه، وهو في صحيح ابن حبان 9/426 لكنه أعله بأبي حريز عبد الله بن الحسين قاضي سجستان فقال: ضعيف واهي.(45/122)
- شرعت العقوبات في الجنايات لحكمة الردع والزجر، ليرتدع الناس عن الظلم والبغي والعدوان ويقتنع كل إنسان بما آتاه الله مالكه وخالقه.
- أعطى لكل من الزوجين حق خيار فسخ النكاح إذا وجد في الآخر عيباً يستحيل معه تحقيق المقصود من النكاح كالعُنة والجبّ والخصاء في الزوج والرتق والقرن في الزوجة، أو الجنون والجذام والبرص ونحوهما - عافانا الله والمسلمين منها - في أحدهما كما هو مذهب الجماهير غير الظاهرية مع خلاف في بعض العيوب -والحكمة من ذلك: أن مقصود النكاح لا يتحقق مع وجود هذه العيوب ومن ثم لا يوجد (السكن) بين الزوجين بما تشمله كلمة السكن من معاني الشعور بالأمن والراحة والمتعة، وتبادل المودة والرحمة، فإذا استحال تحقيق هذه الغاية كان هذا مسوغا كافيا لحل عقدة النكاح. قال ابن القيم: " ... والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار ... ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة".
وأمثلة هذا القسم كثيرة لا حصر لها، لا سيما في باب المعاملات.
ونظراً لأن المصلحة والحكمة في هذا القسم إنما يتوصل إليها بالاستنباط والنظر فلا بد - إذاً - من مراعاة قواعد التعليل وضوابطه ومسالكه وحدوده حتى لا يكون معللاً بذوقه وتخمينه وهواه، كما أنه لا يحسن المبالغة في التنقير عن الحكم والمصالح - ولا سيما في الأحكام التعبدية -أدبا مع الله وخشية الوقوع في التكلف والتمحل والقول بغير علم وحتى لا يتكلف التعليل بمجرد الذوق والوجدان من غير دليل وبرهان.(45/123)
إن عدم إدراك العقل الإنساني القاصر حِكم بعض الأحكام لا يعني - قطعاً- أنها عِروٌ وخِلْو من الحكمة والمصلحة، لأن عدم العلم ليس علماً بالعدم، وإنما يعني قصور العقل الإنساني وعجزه، فرحم الله امرأ وقف عند حده ولم يتعد طوره، ولله در أبي العلاء المعري ما أصدق قوله:
وروم الفتى ما قد طوى الله علمه
يعد جنونا، أو شبيه جنون
ضرورة معرفة المصالح والمقاصد:
ومع هذا فإن معرفة المصالح والمقاصد والعلل للأحكام الشرعية ضرورة لا بد منها، لإظهار محاسن الشريعة وأسرارها و"لأن الجهل بمقصد الحكم الشرعي قد يدفع بعض الناس إلى إنكاره، لاعتقاده بأن الشارع لا يشرع شيئا إلا لمصلحة الخلق، أفرادا وجماعات، فإذا لم يتعلق بالحكم مصلحة معتبرة أو كان منافيا للمصلحة، اعتبر ذلك دليلا على أنه ليس بحكم شرعي، وإنما هو مما أدخله الناس في الشريعة بالاجتهاد والتأويل. وقد يستدل هنا بقول ابن القيم الذي نقلناه من قبل: "الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصلحة كلها ... الخ".
ويجب أن يكون الفقيه له من اليقظة والبصيرة وعمق النظر والاطلاع الشامل ما يمكنه من استنباط العلة المناسبة والحكمة المقصودة من الحكم ولا شك أن هذا مرتقى صعب ولكن لا مفر منه للعلماء الربانيين الراسخين في العلم، لان التهرب منه يؤدي إلى غياب مقاصد الشريعة وحكمها، وإغلاق هذا الباب من أبواب الاجتهاد، وقد يربك الفقه الإسلامي ويضر بمسيرته الطبعية، ويفتح بابا للأعداء الحاقدين المتربصين بالأمة ليقولوا: إن الشريعة الإسلامية جامدة خامدة صارمة لا يتسع صدرها لمسايرة التطور البشري وتحقيق مصلحة الإنسان ودفع المضرة عنه.(45/124)
إذاً، فالحاجة ماسة إلى معرفة هذا النوع من الفقه، هذا الفقه الذي وصفه ابن القيم بأنه (الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان) ففي فصل له بعنوان: (اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ) نقل عن وكيع "أن عمر قضى في امرأة قالت لزوجها: سمني، فسماها: الطيبة، فقالت: لا، فقال لها: ماذا تريدين أن أسميك؟ قالت: سمني خلية طالق، فقال لها: فأنت خلية طالق. فأتت عمر بن الخطاب فقالت: إن زوجي طلقني، فجاء زوجها فقص عليه القصة، فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها"وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان، ومعلوم أن الذي قال لما وجد راحلته: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" وأخطأ من شدة الفرح، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يرده.
ولقد أتى على فقهنا حين من الدهر صار فيه أقرب إلى الجمود والخمود منه إلى الحياة والفعالية، ذلك أنه افتقد - فيما افتقده - روح المقاصد والمصالح وقد تعرض العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور لأسباب انحطاط الفقه وتخلفه فعدّ منها: "إهمال النظر في مقاصد الشريعة من أحكامها"ثم قال: "كان إهمال المقاصد سببا في جمود كبير للفقهاء ومعولا لنقض أحكام نافعة، وأشأم ما نشأ منه مسألة الحيل التي ولع بها الفقهاء بين مكثر ومقل" ومن هنا فإن البحث في المصالح والمقاصد عمل ضروري لتجديد الفقه وتقوية دوره ونشاطه وحيويته وصفائه.
المنكرون لتعليل الأحكام بالمصالح:
كان ما تقدم قول جماهير العلماء في أن أحكام الله تعالى معللة بالحِكم والمصالح وأدلتهم، وضرورة معرفة هذه المصالح.
وقد أنكر التعليلَ بعضُ أهل العلم منهم الرازي والأشاعرة والظاهرية.
قال ابن النجار الحنبلي: "وفِعْله تعالى وأمره، لا لعلة ولا لحكمة، في قول اختاره الكثيرون من أصحابنا ... واختاره الظاهرية والأشعرية والجهمية".
وقال الشاطبي عن الرازي: "وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة كما أن أفعاله كذلك".(45/125)
وأما الظاهرية فقد أنكروا التعليل جملة وتفصيلاً، وهم أوضح قولاً وأقوى خصومة ممن أنكروا التعليل ودافعوا عن التعبد المحض للشريعة، وقد خصص أبو محمد بن حزم باباً كاملاً في كتابه (الإحكام) لهدم فكرة التعليل، وقال: "الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين"ونسب هذا الإنكار إلى جميع الظاهرية قبله حيث قال: "وقال أبو سليمان – يعني: داود الظاهري - وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه ... وقال أبو محمد: وهذا هو ديننا الذي ندين الله تعالى به، وندعو عباد الله تعالى إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى".
وقد بالغ ابن حزم في الإنكار على خصومه - مثبتي التعليل والمصالح - وبالغ في مهاجمتهم واستفزازهم، ولا أرى إلا أن كلامه هو الذي استفز ابن القيم كما يقول الدكتور الريسوني - حتى قال - وهو يتهيأ للرد المفصل على منكري القياس -: "الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم..".
إيضاح موقف الرازي من التعليل:
وقبل أن أذكر أدلة منكري التعليل بالمصلحة، أود أن أوضح موقف الرازي منه، فقد خصه الإمام الشاطبي بالذكر ونسبه وحده إلى إنكار التعليل وهو ما يحتاج إلى نظر وتحقيق، فالرازي من أهل القياس، ولا قياس بدون تعليل.
وموقف الرازي من التعليل يجب أن يؤخذ أساسا من كتبه، ولا سيما من كتابه (المحصول) حيث يقول عند كلامه على (مسلك المناسبة) :
"المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به"ثم قال: "بيان الأول من وجهين:
الأول: أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهذه مصلحة فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة.(45/126)
وثانيها: أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثا، والعبث على الله تعالى محال، للنص والإجماع والمعقول. فثبت أنه تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد.
وسادسها: أنه وصف نفسه بكونه رؤوفا رحيما، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (1) فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة، لم يكن ذلك رأفة ورحمة فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد".
وقد واصل الرازي دفاعه عن التعليل بالمصلحة بكل قوة وحماس، وفند كل ما يعترض به عليه حتى قال: "انعقد الإجماع على أن الشرائع مصالح، إما وجوبا كما هو قول المعتزلة، أو تفضلا كما هو قولنا".
هذا هو موقف الرازي من التعليل بالمصلحة. فهل يجوز أن ينسب صاحب هذا الموقف إلى إنكار التعليل؟.
توجيه كلام الشاطبي عن الرازي:
وإذا كان هذا هو موقف الرازي من التعليل بالمصلحة من خلال ما كتبه فكيف يوجه كلام الشاطبي المتقدم - قريبا: "وزعم الرازي أن أحكام الله تعالى ليست معللة بعلة ألبتة"؟
الجواب: يمكن توجيهه بالآتي:
1 - الرازي يمنع التعليل بالمصلحة والمفسدة لعدم انضباطها، لكون أحكام الله غير معللة في حقيقتها بجلب المصالح ودرء المفاسد، فكلامه المتقدم قاطع في أنه يعتبر المصلحة أو المفسدة، ومن هنا يفضل الفقهاء والأصوليون تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة بدل تعليلها - مباشرة - بالمصلحة والمفسدة ولا سيما إذا كانت خفية أو عسيرة الضبط.
2 - أن التعليل الذي ينكره الرازي هو التعليل الفلسفي في مباحث علم الكلام والذي يثبته هو التعليل الأصولي الفقهي، وقد صرّح بهذا في (تفسيره) عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (2)
وسيأتي مزيد بيان لهذا عند الكلام على أدلة الأشاعرة قريبا.
__________
(1) سورة الأعراف آية: 156.
(2) سورة البقرة آية: 29.(45/127)
3 - هذا الإنكار منه - ومن الأشاعرة - كان فرارا من المقولات والإلزامات الاعتزالية، التي تجعل القول بالتعليل مقدمة للقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله تعالى.
4 - لعل سبب ذلك هو ما نقله الإمام ابن تيمية من تقلبات الرازي وتباين مواقفه من فترة لأخرى حيث قال: "أما ابن الخطيب - وهو الرازي - فكثير الاضطراب جدا، لا يستقر على حال، وإنما هو بحث وجدل بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه، بخلاف أبي حامد - الغزالي - فإنه كثيرا ما يستقر".
الأشاعرة والتعليل:
تقدم أن الأشاعرة ينكرون التعليل بالمصلحة، وأريد هنا أن أبين دليلهم على هذا الإنكار، يقولون: إن كل من فعل فعلا لعلة، يتحقق له من الكمال بوقوع تلك العلة ما لم يكن له من قبل، فيكون ناقصا بذاته كاملا بغيره. والله سبحانه منزه عن النقص لذاته.
وأترك (ابن السبكي) - وهو أحد المنكرين للتعليل - يوضح هذا الدليل حيث يقول: " ... لا يجوز أن تعلل أفعال الله تعالى، لأن من فعل فعلا لغرض، كان حصوله بالنسبة إليه أولى، سواء كان الغرض يعود إليه أم إلى الغير، وإذا كان كذلك، يكون ناقصا في نفسه مستكملا في غيره ويتعالى الله سبحانه عن ذلك".
هذا الكلام - أو المنطق - رده كثير من العلماء، وقال عنه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بأنه "يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين " ثم بينهما ورد عليهما.
ويرد عليه - جملة - بأنه غير مسلم، لأن المقاصد المطلوبة بأفعاله تعالى وأحكامه لا تُراد لتكميل ذاته، فإنه سبحانه مستغنٍ بذاته عن كل ماعداه وإنما تراد لتكميل المكلفين، ورعايته سبحانه لذلك مع استغنائه عن كل ما سواه ضرب من الكرم، ومظهر من مظاهر الحكمة البالغة والرحمة بالعباد والحقيقة أن موقف الأشاعرة هذا مشتمل على تناقض، إذ من المعروف أنهم جميعاً يقولون بمشروعية القياس في الأصول، ولا قياس بدون تعليل، بل اتفق جميع القائلين بالقياس أن أحكام الله تعالى شرعت لتحقيق مصالح العباد.(45/128)
وقد حاول عدد من العلماء دفع هذا التناقض وتقريب شقة الخلاف بين المثبتين والمنكرين.
فقال الشيخ ابن عاشور: "والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافاً يشبه أن يكون لفظياً، فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه، وأن جميعها مشتمل على حكم ومصالح ... وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضاً وعللا غائية أم لا؟ "ثم نبه إلى أن المنكرين قد اضطروا إلى هذا الإنكار فرارا من المقولات والالتزامات الاعتزالية التي تجعل القول بالتعليل مقدمة للقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله.
أما الدكتور البوطي فقد ذهب إلى توفيق آخر، فهو يرى أن التعليل المنفي هنا غير المثبت هناك. فالمنفي هنا هو "العلة التي يقصدها الفلاسفة وهي ما يوجب الشيء لذاته ... ولا ريب أنه لا يصح أن ينسب هذا التعليل إلى أفعال الله تعالى بأي حال"والمثبت هناك عند أهل السنة هي: "التي يثبتونها للأحكام في بحث الأصول، فهو العلة الجعلية التي تبدو لنا كذلك إذ جعلها الله تعالى موجبة لحكم معين بمعنى أنه أناط وجوب ذلك الحكم بوجودها"قال: "إذا فليس هناك تناقض بين كلا مذهبيهم في كل من المبحثين".
قلت: لكن هذا التوفيق يعكر عليه أن بعضهم - كالسبكيين مثلا - ينكرون أيضا تعليل الأحكام التشريعية، وبصورة مطلقة - كما تقدم - ولهذا لم يجد الدكتور (مصطفى شلبي) بدا من اتهام الأصوليين المتكلمين بمخالفة طريقة السلف، وهي التعليل بلا نزاع، وأنهم ناقضوا أنفسهم بإنكار التعليل في علم الكلام، وإثباته في علم أصول الفقه، لأن القياس يقوم عليه.
ابن حزم والتعليل:(45/129)
لم يبق من منكري التعليل إلا ابن حزم، وقد نقلنا موقفه من تعليل الأحكام سابقا، وأنه ينكر ربط الحكم بأي حكمة أو مصلحة، ويبالغ في الأخذ بظواهر النصوص والاستمساك بحرفيتها إلى حد ينتهي به إلى أفهام عجيبة، وآراء غريبة رغم عبقريته التي تشهد بها آثاره العلمية التي كان فيها نسيج وحده، وقد بسط ابن حزم أدلته على إنكار التعليل في كتابه (الإحكام) ولعل أهم دليل يقيم عليه ابن حزم مذهبه هو قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) وأترك ابن حزم يوضح استدلاله بالآية يقول بعد ذكر هذه الآية: "فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأن أفعاله لا يجري فيها (لِمَ) وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله: لِمَ كان هذا؟، فقد بطلت الأسباب جملة وسقطت العلل البتة، إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمر كذا لأجل كذا ... فلا يحل لأحد أن يقول: لم كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره..لأن من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل وألحد في الدين وخالف قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فمن سأل الله عما يفعل فهو فاسق..".
ويقول: "وهذه - يعني الآية - كافية في النهي عن التعليل جملة، فالمعلل بعد هذا عاص لله، وبالله نعوذ من الخذلان".
__________
(1) سورة الأنبياء آية: 23.(45/130)
وقد رد أهل العلم قديما وحديثا احتجاج ابن حزم بهذه الآية وفندوه - منهم الدكتور الريسوني - وخلاصة ما قاله: معنى الآية: أن الله سبحانه لا يحاسبه أحد على أفعاله ولا يعترض على فعله وحكمه أحد {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه} (1) بخلاف العباد، فإنهم يسألون ويحاسبون ويلامون ويخطّئون، وذلك أن الله تعالى - من جهة - هو خالق كل شيء، ومالك كل شيءله ما في السموات وما في الأرض، له الأولى والآخرة،.. ولأنه - من جهة أخرى - هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأصدق القائلين وهو العليم الخبير فعلى هذا الأساس - أو هذه الأسس - تأتى أفعاله وأحكامه، فلا مجال فيها للاستدراك أو الاعتراض.
لهذا وذاك فإن الرب سبحانه لا يُسأل سؤال محاسبة أو اعتراض ولا شك أن توجيه مثل هذا السؤال كفر.
أما السؤال عن علل الأحكام الشرعية وعن أسرار وحِكم أفعال الله تعالى فهو سؤال تفهم وتعلم، وهو على أصل الاستفهام - أي طلب الفهم - وهذا النوع من الأسئلة صدر عن الأنبياء والصالحين وورد ذكره وإقراره في القرآن الكريم.
فسِرّ المسألة، والفيصل فيها بين سؤال وسؤال، بين سؤال يُفسَّق صاحبه كما ذهب إلى ذلك ابن حزم وبين سؤال يرجو به صاحبه الأجر والتقرب إلى الله تعالى، والفرق هو أن السؤال الموجه إلى الله، أو إلى أي فعل من أفعاله أو قول من أقواله أو حكم من أحكامه إذا كان الغرض منه: الاعتراض أو الإنكار أو الاستهزاء أو المحاسبة فهو ضلال وكفر، أما إذا كان السؤال صادراً عن إيمان تام بالله وصفاته الكمالية وبعدله وحكمته على الخصوص، تحدوه الرغبة في الفهم والتعلم، ويدفعه التطلع والتشوق إلى مزيد من الاطلاع على حِكم الله في تشريعه وتدبيره، فهذا سؤال مشروع لا غبار عليه، بل هو محمود غير مذموم والسؤالات من هذا القبيل صدرت عن الرسل الأخيار المقتدى بهم.
الموجب للحكم هو الله تعالى لا العلة ولا المصلحة:
__________
(1) سورة الرعد آية: 41.(45/131)
ها هنا أمر آخر ينكره ابن حزم على أصحاب التعليل - وخاصة من أهل السنة - وهو التعليل بمعناه الفلسفي، يقول: "إن العلة اسم لكل صفة توجب أمرا ما، إيجاباً ضرورياً" والقول بهذا النوع من العلل في شرع الأحكام معناه "أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليه أن يشرعها".
وهذا لا يقول به أحد من أهل السنة. وقد تقدم أن الأشاعرة ينكرونه أيضا فعلماء السنة يقولون - كما تقدم - بعلل جعلية، جعلها الله تعالى بمشيئته لا يلزمه منها شيء، بل تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا وضرورة.
قال شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله -: " ... البيع علة للملك شرعاً والنكاح علة للحل [أي: للاستمتاع بالزوجة] شرعاً، والقتل العمد علة لوجوب القصاص شرعاً، باعتبار أن الشرع جعلها موجبة لهذه الأحكام".
وقد بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها، وإنما الموجب للحكم هو الله تعالى [أي لا المصلحة ولا الحكمة ولا العلة إذ لا موجب على الله، بل الله الموجب بما شاء على من شاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) إلا أن ذلك الإيجاب غيب في حقنا، فجعل الشرع الأسباب التي يمكننا الوقوف عليها علة لوجوب الحكم في حقنا للتيسير علينا، فأما في حق الشارع فهذه العلل لا تكون موجبة شيئا، وهو نظير الإماتة فإن المميت والمحيي هو الله تعالى حقيقة، ثم جعله مضافا إلى القاتل بعلة القتل فيما ينبني عليه من الأحكام، وكذلك أجزية الأعمال فإن المعطي للجزاء هو الله تعالى بفضله، ثم جعل ذلك مضافا إلى عمل العامل بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) فهذا هو المذهب المرضي المتوسط بين الطريقين لا كما ذهب إليه الجبرية من إلغاء العمل أصلا، ولا كما ذهب إليه القدرية من الإضافة إلى العمل حقيقة، وجعل العامل مستبدا بعمله".
__________
(1) سورة الأنبياء آية: 23.
(2) سورة السجدة آية: 17.(45/132)
ونقل القرطبي في تفسيره - في قضية أمر الله تعالى بتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَر} (1) ثم نسخ تعالى تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لطفاً بعباده الفقراء غير القادرين على الصدقة - نقل عن ابن العربي قوله: "وفي هذا الخبر عن زيد [ابن ثابت بمعنى ما سبق ذكره آنفا] ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَر} ثم نسخه مع كونه خيراً وأطهر، وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح".
وبين الإمام ولي الله الدهلوي أن جلب المصالح ودرء المفاسد - وإن كانا مراعين غالبا - لكن مصدر التشريع ومناط التكليف هو ما جاء في الكتاب والسنة.
__________
(1) سورة المجادلة آية:12.(45/133)
يقول: "فقد أوجبت- يعني: السنة - أيضا أن نزول القضاء بالإيجاب والتحريم سبب عظيم في نفسه مع قطع النظر عن تلك المصالح لإثابة المطيع وعقاب العاصي، وأنه ليس الأمر على ما ظن من أن حسن الأعمال وقبحها بمعنى استحقاق العامل الثواب والعذاب عقليان من كل وجه، وأن الشرع وظيفته الإخبار عن خواص الأعمال على ما هي عليه دون إنشاء الإيجاب والتحريم بمنزلة طبيب يصف خواص الأدوية وأنواع المرض، فإنه ظن فاسد تمجه السنة بادي الرأي ... كيف ولو كان ذلك لجاز إفطار المقيم الذي يتعانى كتعاني المسافر – يعني: يتجشم المشقة كمشقة المسافر - لمكان الحرج المبني عليه الرخص، ولم يجز إفطار المسافر المترفه - المستريح المتنعم - وكذلك سائر الحدود التي حددها الشارع، وأوجبت - يعني السنة - أنه لا يحل أن يتوقف في امتثال أحكام الشرع - إذا صحت بها الرواية - على معرفة تلك المصالح لعدم استقلال عقول كثير من الناس على معرفة كثير من المصالح، ولكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أوثق عندنا من عقولنا ... ".
هذا هو الحق الذي لا شك فيه عند أهل السنة: أن الحكم الشرعي لا ينبني على مجرد المصلحة والحكمة، وأن العلل الشرعية ليست موجبة بذواتها، بل الله جعلها- بمشيئته- موجبة للأحكام تفضلا منه وإحسانا، وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء - وليس لأحد أن يوجب عليه سبحانه شيئا - بل هو الموجب بما شاء على من شاء، وأن أحكامه - سبحانه وتعالى - لا تخلو من مراعاة المصلحة – غالبا - لأنه تعالى حكيم - والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة - كما تقدم.(45/134)
وهذا هو مسلك القرآن والسنة، والنصوص الدالة على ذلك من الكثرة بحيث يتعذر إحصاؤها، وقد تقدم قول ابن القيم - رحمه الله: "والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام ... ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها ولكن يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة ... ".
وقد علل الصحابة بفطرتهم السليمة، وبتلقائية لا تكلف فيها، وبنوا اجتهاداتهم على ما فهموه من العلل والمصالح، ثم صار على دربهم التابعون ومن جاء بعدهم من العلماء المجتهدين يعللون الأحكام بالمصالح ويفهمون معانيها ويخرجون للحكم المنصوص مناطا مناسبا لدفع ضر أو جلب نفع كما هو مبسوط في كتبهم ومؤلفاتهم ثم أتى الغزالي والخطابي وابن عبد السلام وابن القيم وأمثالهم - شكر الله مساعيهم - بنكت لطيفة وتحقيقات شريفة ومعانٍ بديعة.
بعد هذا يمكن أن نقول ونقرر باطمئنان: أن أحكام الله سبحانه وتعالى مبنية على تحقيق مصالح العباد، وأن هذه المصالح يجوز التساؤل عنها، كما يجوز البحث عنها بكل ما أوتينا من وسائل العلم والمعرفة والبحث، وقد أمرنا الله بالنظر والتفكر والتدبر، سواء في دينه وشريعته أو في خلقه وكونه، فقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (1) وقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (2) وقال جل وعلا عن عباده الذين وصفهم بـ {أُولِي الأَلْبَابِ} أنهم: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (3) .
__________
(1) سورة النساء آية: 82.
(2) سورة يونس آية: 101.
(3) سورة آل عمران آية: 191.(45/135)
فلا بد من التساؤل والبحث - ما أمكن - عن هذه المصالح التي تنطوي عليها الأحكام الشرعية لنفهمها ولنطبقها في ضوء مصالحها ولنهتدي بمعرفة تلك المصالح فيما لم ينص عليه، يقول العلامة ابن عاشور: "وجملة القول: أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد، وهي حكم ومصالح ومنافع، ولذلك كان الواجب على علمائنا تعرف علل التشريع ومقاصده ظاهرها وخفيها".
كيف تقدر المصالح؟
إذا تقرر هذا فليعلم أن تقدير المصالح والمفاسد إنما يكون بالشرع لا بالهوى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه …" فالمرحلة الأولى أن ننظر: هل المصالح والمفاسد التي نحن بصددها ورد بالموازنة بينها نص في الشريعة أم لا؟ فحيث ورد النص باعتبار مصلحة ما أو بإلغائها وجب اتباعه، فمن سأل هل يبقى مع والديه لبرهما وخدمتهما أم يخرج متطوعاً للجهاد ولو لم يأذنا؟ أي المصلحتين تقدم؟ فهذا وارد تقديره والجواب عنه في نصوص الشرع بما لا يدع مجالا للاجتهاد في رأي، ففي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" (1) .
أما إذا أشبهت المسألة ولم يوجد نص صريح يقضي باحتمال مفسدة ما أو تفويت مصلحة، أو تقديم مصلحة على أخرى فهنا يكون الاجتهاد.
النظر إلى المآلات عند تقدير المصالح والمفاسد:
__________
(1) رواه البخاري في المواقيت 2 / 9 وأحمد 1 / 181 وغيرهما.(45/136)
ومما يجب على المجتهد والمفتي حين يجتهد ويفتي أن يقدّر مآلات الأفعال وعواقب الأمور وما يؤول إليه الأمر في النهاية، وأن لا يعتبر مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي، بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو ناظر إلى آثاره ومآلاته ويقول الشاطبي في هذا: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، [فقد يكون] مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق ... ".(45/137)
ثم أخذ يستدل على صحة ذلك بأمور، منها: أن التكاليف مشروعة لمصالح العباد، ومنها أن الاستقراء للشريعة وأدلتها يدل على اعتبار المآلات، وذكر أمثلة تفصيلية كامتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع قدرته على ذلك خشية أن يظن الناس أنه يقتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام، وكامتناعه عن إعادة بناء البيت الحرام على قواعد إبراهيم عليه السلام حتى لا يثير بلبلة بين العرب ويقولوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم يهدم المقدسات ويغير معالمها، وكنهيه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن زجر الإعرابي حال تبوله في المسجد خشية أن يؤدي هذا إلى نجس مواضع أخرى في المسجد وربما كان فيه ضرر صحي عليه ... إلى أن قال: قال ابن العربي:"النظر في مآلات الأفعال في الأحكام، اختلف الناس بزعمهم فيها - وهي متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها".
ورد - رحمه الله - على من يهمل هذه القاعدة بحجة أن عليه العمل وليس عليه النتيجة فقال: (لا يقال إنه قد مرّ في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب، لأنا نقول - وقد تقدم أيضاً - أنه لا بد من اعتبار المسببات في الأسباب ... وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب وهو مآل السبب".(45/138)
وقال أيضاً - رحمه الله – "ومن هذا الأصل - أي النظر في المآلات - تستمد قاعدة أخرى، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من الخارج أمور لا ترضي شرعاً، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج ... كطلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنازة، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة مالا يرضى، فلا يُخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها، لأنها أصول الدين، وقواعد المصالح، وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله، والحاصل: أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق. والله أعلم".
شروط المصلحة المعتبرة:
نخلص بعد هذا إلى أن المصلحة المعتبرة شرعا التي يجوز بناء الأحكام عليها هي: مقتضى العقول المستقيمة والفِطر السليمة، المحققة لمراد الشارع من العبودية والرشاد، ومراد العباد من صلاح المعاش والمعاد، ليست وليدة الشهوة أو الشبهة، يقول الشاطبي: "ولقد علم من التجارب والعادات أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى والمشي مع الأغراض، لما يلزم ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذي هو مضاد تلك المصالح".
ولتكون المصلحة مقرونة بالرشاد، بعيدة عن الغي والفساد، محققة لمراد الشارع ومراد العباد، لها ضوابط، فإذا كانت منضبطة بها فهي معتبرة شرعاً وبالتالي يسوغ العمل بها وإلا فهي مجرد شهوة أو شبهة التبست على صاحبها فتوهمها مصلحة، وهيهات أن تكون - وهي بهذه الحال - مصلحة شرعية معتبرة، وإنما هي نزعة نفسانية أو نزغة شيطانية، لبست عليه الحق بالباطل فأرته المفسدة مصلحة.(45/139)
ومن هذه الشروط التي يجب توافرها لتحقق المصلحة الشرعية المعتبرة:
1- أن يثبت بالبحث والنظر والاستقراء أنها مصلحة حقيقية لا وهمية أي أن بناء الحكم عليها يجلب نفعاً أو يدفع ضراً، لأنها بهذا تكون مصلحة معتبرة، أما مجرد توهم المصلحة من غير نظر دقيق ولا استقراء شامل ومن غير موازنة عادلة بين وجوه النفع ووجوه الضرر فهذه مصلحة وهمية لا يسوغ بناء الحكم عليها.
2- أن تكون هذه المصلحة الحقيقية عامة، أي ليست مصلحة شخصية أي أن بناء الحكم عليها يجلب نفعا لأكثر الناس أو يدفع ضرراً عن أكثرهم، أما المصلحة التي هي نفع لأمير أو عظيم أو أي فرد بصرف النظر عن أكثر الناس فلا يصح بناء الحكم عليها.
3- أن لا تكون معارضة للكتاب والسنة، إذ لا يجوز التعارض بين مصلحة معتبرة ونص ثابت من كل وجه، فإن عارضت المصلحة نصاً فهي إما أن تكون موهومة لا تستند إلى أصل تقاس عليه، فهي لا عبرة بها فإذا توهم متوهم أن مصلحة الناس تقتضي حرية تعاملهم بالربا فالتعارض ليس إلا بين وهمه وكلام الله تعالى، أما حقيقة المصلحة فهي ما قضى به كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ضرورة إغلاق باب الربا.
وإما أن تكون مستندة إلى أصل قيست عليه بجامع بينهما، ولا يكون التعارض هنا بين النص والمصلحة إلا جزئياً كالذي يكون بين الخاص والعام والمطلق والمقيد، فالتعارض في الحقيقة هنا بين دليلين شرعيين، وليس بين نص ومجرد مصلحة متوهمة، وأمر التأويل والترجيح في هذه الحال عائد إلى اجتهاد الأصولي الثبت في فهمه وعلمه، وعليه أن يجمع بين المصلحة الجزئية العارضة والمصلحة المقصودة من النص (أو القياس) ويقدم الراجحة منهما، ومجال الاجتهاد العقلي هنا واسع جداً - كما يقول الأستاذ علي حسب الله ويقول أيضاً:(45/140)
"واعلم أن معارضة المصلحة للنص أو القياس لا تكون إلا في جزئيات يَعدّ اعتبارها فيها استثناء من قاعدة النص أو القياس، ولا يُعدّ إلغاء لواحد منهما فإن القواعد الثابتة بالنص أو القياس هي المعالم الواضحة إلى المقاصد الشرعية فإذا تبين في بعض الجزيئات أن العمل بالنص أو القياس لا يحقق المصلحة المقصودة ... وجب استثناء هذه الجزئيات في أضيق الحدود تحقيقاً للمصلحة المشروعة، وبقي النص أو القياس قائماً فيما عداها، كما لو أشرف إنسان أو جماعة على الموت جوعاً، فإنه يجب إطعامهم من مال الغير عنوة مع وجوب دفع المثل أو القيمة عند القدرة، وفي هذا اعتداء على حرمة المال، لكنه استثناء لعارض في مسألة جزئية لا يُبطل القاعدة العامة التي تحرم العدوان على أموال الناس في كل حال" قال تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وهذا واضح من خلال فتاوى الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أنهم لم يُراعوا المصلحة على أنها نظام عام يُلغي النص أو القياس، بل روعيت في بعض الجزئيات استثناء من النص أو القياس، ولهذا قال الغزالي في الإفتاء بقتل الزنديق المتستر: "فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم، وذلك لا ينكره أحد" وقال الطوفي في معارضة المصلحة لدليل شرعي: "وإن خالفها دليل شرعي وُفق بينها وبينه بما ذكرنا من تخصيصه بها ... ".
وقال الشاطبي نقلاً عن ابن العربي: "فالعموم إذا استمر، والقياس إذا اطرد، فإن مالكاً وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يُخص بالمصلحة ... ".
__________
(1) سورة البقرة آية: 188.(45/141)
وإذا تقرر هذا فإنه لا يجوز القول بتقديم المصلحة - مطلقاً - على النص والإجماع عند معارضتها لهما، كما نادى بذلك نجم الدين الطوفي بدعوى أن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى.
وقال: "إن النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعاً ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعاً فكان اتباعه أولى".
والحقيقة أن الطوفي وقع في تناقض عجيب، فهو عندما عرض في كتابه (شرح الأربعين حديثاً) أدلة الشرع وجعلها تسعة عشر دليلاً، ثم قال: "وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع ... "ثم عاد - كما تقدم - فقال: "إن رعاية المصلحة مقدمة على الإجماع"إذاً فهي أقوى أدلة الشرع كلها، أفيكون تناقض أبلغ من هذا وأوضح؟!
ثم إن الأساس الذي بنى عليه زعمه هذا أساس محال غير متصور الوقوع ألا وهو فرض كون المصلحة مخالفة للنص والإجماع، ومحال أن تجد آية أو حديثاً صحيحاً يدعوان إلى ما يخالف المصلحة الحقيقية.
4- أن لا تعارض القياس الصحيح، لأن القياس إنما هو مراعاة مصلحة في فرع بناء على مساواته الأصل في علة حكمه المنصوص عليه، فبينهما من النسبة إذاً العموم والخصوص المطلق، إذ القياس فيه مراعاة لمطلق المصلحة، وفيه زيادة على ذلك العلة التي اعتبرها الشارع، ومراعاة مطلق المصلحة أعم من أن توجد فيها هذه الزيادة، أو لا، فكل قياس مراعاة للمصلحة، وليس كل مراعاة للمصلحة قياساً.(45/142)
فإذا وجد أن مصلحة عارضتْ قياساً صحيحاً، فإما أن تكون مصلحة موهومة فهذه لا عبرة بها كما في شرب البيرة، فقد يرى بعض الناس فيه وصفاً مناسباً لحلّه من لذة أو فائدة متخيلة عند الطعام مثلاً، ولكن فيه وصفاً آخر هو جنس الإسكار الذي هو علة في حرمة الخمر، ومقتضى ذلك: القياس عليه في الحرمة، فقد عارض ما خُيل كونه مصلحة (مرسلة) القياس الصحيح الذي هو أعلى رتبة منه فلا عبرة بهذه المصلحة.
وأما إن كانت المصلحة معتبرة فلا يكون التعارض بينهما - إن وجد – إلا جزئياً كالذي يكون بين العام والخاص والمطلق والمقيد، فالتعارض في الحقيقة بين دليلين شرعيين، وأمر الترجيح والتأويل في هذه الحال عائد إلى الاجتهاد الأصولي الثبت في علمه وفهمه، وعليه أن يجمع بينهما ويقدم الراجح منهما لأن الشرع يقصد إلى الأرجح من المصلحتين عند التعارض - كما تقدم.
5- عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
وذلك لأن الشريعة قائمة على أساس مراعاة مصالح العباد، والمقصود بمراعاتها لمصالحهم أنها تقضي بتقديم الأهم منها على ما هو دونه، وبالتزام المفسدة الدنيا لاتقاء الكبرى حينما تتلاقى المصالح والمفاسد في مناط واحد، أو يستلزم إحداهما الأخرى لسبب ما.
فإذا تعارضت مصلحتان في مناط واحد بحيث كان لا بد لنيل إحداهما من تفويت الأخرى نظر إلى قيمتها من حيث الذات - وقد وجدنا أن كليات المصالح المعتبرة شرعاً مندرجة حسب الأهمية في خمس مراتب وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال - فما به يكون حفظ الدين مقدم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما، وما به يكون حفظ النفس مقدم على ما يكون به حفظ العقل وهكذا ...
ثم إن رعاية كل من هذه الكليات الخمس يكون بوسائل متدرجة حسب الأهمية في ثلاث مراتب، وهي: الضروريات فالحاجيات فالتحسينات فالضروري مقدم على الحاجي عند تعارضهما، والحاجي مقدم على التحسيني عند التعارض.(45/143)
أما إذا كانت المصلحتان المتعارضتان في رتبة واحدة كما لو كان كلاهما من الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فينظر، فإن كان كل منهما متعلقاً بكلى على حدة جعل التفاوت بينها حسب تفاوت متعلقاتها فيقدم الضروري المتعلق بحفظ الدين على الضروري المتعلق بحفظ النفس وهكذا ...
أما إذا كانت المصلحتان المتعارضتان متعلقتين بكلى واحد كالدين أو النفس أو العقل فينظر إليهما من حيث شمولهما للناس فيقدم أعم المصلحتين شمولاً على أضيقهما في ذلك. فيقدم مثلاً الانشغال بتعليم شرعي على الانشغال بما وراء الفروض من نوافل العبادات، لأن الأول أشمل فائدة من الثاني. ومن هذا الباب قول الأصوليين:
أ - دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، مثاله: ما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا"وترجم له البخاري بقوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا" فترك مصلحة كثرة الوعظ والتعليم لدفع مفسدة النفور والفتور والسآمة.
ب - ويقولون: تتحمل أدنى المفسدتين لدفع أعظمهما، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ... } (1) أي أن مفسدة صد المشركين عن سبيل الله، وكفرهم به وصدهم المؤمنين عن المسجد الحرام، وإخراجهم منه، أكبر من مفسدة قتالهم في الشهر الحرام، فتحتمل أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما. فلا بأس بالقتال في الشهر الحرام في تلك الظروف.
__________
(1) سورة البقرة آية: 217.(45/144)
ج - ويقولون: إذا تعارضت المصلحة مع المفسدة روعي الأغلب منهما كما في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ... } (1) فشارب الخمر يتعدى على الآخرين بالضرب والشتم ويأتي بالعظائم والكبائر ويترك العبادة وهذه مفاسد عظيمة لا تقاومها المصالح المزعومة، فعند تعارضهما يُراعى الأغلب منهما، والمفسدة هنا أغلب فغلب جانبها.
د - ويقولون: قد يُفعل المفضول ويترك الفاضل للمصلحة. كما ذكر الشيخ الإمام ابن تيمية - رحمه الله - ونقل عن الإمام أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المؤمنين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يسلم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه ... .
وقال رحمه الله بعد ذكر مسألة البسملة - إن الإمام قد يجهر بها استحباباً قصداً إلى تأليف القلوب بترك المستحب إذا كان من وراءه لا يرون الإسرار قال: "ويستحب للرجل أن يقصد إلى تاليف القلوب بترك مثل هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا".
هـ- ويقولون: يجوز ترك واجب لفعل الأوجب أو السكوت على مفسدة لدفع الأفسد عند تعذر تحصيل جميع الواجبات أو دفع جميع المفاسد.
__________
(1) سورة البقرة آية: 219.(45/145)
من ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذا الحال واجباً ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً على الحقيقة وإن سمى ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو الضرورة أو لدفع ما هو أحرم".
ومن هذا الباب ما قاله سلطان العلماء وبائع الأمراء العز بن عبد السلام: - رحمه الله: "إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقاً مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع وفسق الآخر بالتعرض للأموال قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع ... فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم، دفعا لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءاً للأفسد فالأفسد …"ويطول سرد الأمثلة إذا تتبعناها ولكن نكتفي في نهاية هذه الأمثلة بالتذكير بالقاعدة العامة في ذلك كما قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله: "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته".(45/146)
وبعد، فهذه الأمور أو الشروط الخمسة يجب أن تنضبط بها المصلحة حتى تكون مصلحة شرعية معتبرة يسوغ العمل بها، وإلا كانت ملغاة غير معتبرة لأن الشارع لم يعتبرها بل نص على إلغائها لكونها مخالفة لنص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح.
ومن أمثلة هذا النوع:
- ما قد يراه بعض خبراء الاقتصاد والتجارة من أن الربا لابد منه لتنشيط الحركة التجارية والنهوض بها فهو مخالف لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} (1) .
- ما يقوله بعض المهتمين بعلم النفس والتربية من أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع من مدارس ومكاتب ونحوهما يهذب من الخلق ويخفف من شره الميل الجنسي، فهذا متصادم مع القرآن والسنة، قال تعالى: {وقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) وقال صلى الله عليه وسلم: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" (3) .
- الدعوة إلى التسوية بين الذكر والأنثى في المواريث، بل إلى تفضيل المرأة على الرجل لأنها أضعف وأحوج من الرجل، فهذا المعنى ملغى بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (4) .
- الدعوة إلى جعل الطلاق بيد المرأة استقلالا أو اشتراكاً على الأقل لأن النكاح حصل باتفاق الزوجين، فهذا المعنى ملغى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (5) .
__________
(1) سورة البقرة آية:275.
(2) سورة النور آية:30،31.
(3) رواه أحمد 1 / 18، 26 والترمذي 2 / 391.
(4) سورة النساء آية: 11.
(5) رواه ابن ماجة في الطلاق (2081) وفي سنده ابن لهيعة وباقي رجاله ثقات وقد قوي باعتضاده بالقرآن وبالعمل.(45/147)
- الزعم بأن المصلحة تقتضي التحلل من الأحكام الشرعية لمواكبة الحضارة العصرية والانفتاح عليها من غير التقيد بالقيود الشرعية. فهذا وأمثاله من قبيل المصالح الملغاة التي رفضها الشارع ولم يعوّل عليها ألبتة بسبب أنها مرجوحة من حيث الصلاح، ومغلوبة من حيث النفع، وبالنسبة لما ستؤول إليه من مفاسد عظمى ومهالك محققة، فهي - وإن تضمنت في بعض الأحيان في الظاهر - بعض الصلاح النادر وقلة من النفع العابر ولكنها لا تقوى على مزاحمة المصالح المعتبرة والمنافع الغالبة والمقاصد المقررة، فالتشبث بها اتباع للشهوات وتصيّد للشبهات وتحيّل لتحليل المحرمات، بل تحلّل من أحكام الشريعة، والتعلق بمثل هذه الشهوات الفاسدة والشبهات الكاسدة بدعوى المصلحة المزعومة ومواكبة التطور والحضارة المنهارة قرمطة وسفسطة، ومسايرة للهوى ومجانبة للهُدى، لأن هذه المصلحة المزعومة في الحقيقة شهوة نفسانية أو شبهة شيطانية، لا مصلحة إنسانية ولا حكمة ربانية ولا مقاصد شرعية {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (1) .
إن ميزان المصالح في التشريع الإسلامي ميزان دقيق ومضبوط. وهو علم جليل له شروطه وآدابه وأصوله وضوابطه، ويختص به أهله وأربابه من العلماء المجتهدين الربانيين، وهو ليس متروكاً للهوى والتشهي ومفوضاً لكل من هب ودب من أدعياء المصلحة بلا قيد ولا ضابط قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} (2) .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الخاتمة
تبين لنا من هذا البحث المتواضع:
__________
(1) سورة النساء آية: 27.
(2) سورة آل عمران آية: 7.(45/148)
1- أن أفعال الله تعالى كلها منوطة بالحكمة، مبنيّة على تحقيق مقاصد ومصالح تعود على الخلق، وأن هذه المقاصد وتلك المصالح تتركز على جلب خير أو دفع ضر عن الخلق.
2- أن للمصلحة تعاريف متعددة عند أهل العلم، والمختار - عندي - من هذه التعاريف: "أنها مقتضى العقول القويمة والفطر السليمة من الرشاد ما يحقق مقصود الشارع والعباد من صلاح المعاش والمعاد".
3- الفرق بين الحكمة والعلة والسبب عند المتأخرين، وأن المتقدمين استخدموا هذه المصطلحات مترادفة.
4- أن الشريعة قائمة على تحقيق مصالح العباد في الدارين، وأنها ليستْ تعبّدية تحكّمية تحلّل وتحرّم دون أن تقصد إلى شيء وراء أمرها ونهيها وحظرها وإباحتها، بل إن أحكامها - في الجملة - معلَّلة بالحكم والمصالح عند عامة أهل العلم، وقد دل على ذلك القرآن والسنة والإجماع وعمل الصحابة.
5- أن المصلحة قد تكون منصوصاً عليها في كلام الشارع، وقد لا تكون منصوصاً عليها ولكن يهتدي إليها العالم بنور الله، وبالفهم الذي يؤتاه في الكتاب والسنة فيستنبطها، ولا بد في هذه الحالة من مراعاة قواعد التعليل وضوابطه ومسالكه وحدوده حتى لا يكون معللاً بذوقه وتخمينه وهواه، كما أنه لا بد أن يكون للفقيه من اليقظة والبصيرة وعمق النظر والاطلاع الشامل ما يمكّنه من استنباط العلة المناسبة والحكمة المقصودة من الحكم.
6- أنه قد أنكر بعض أهل العلم منهم الرازي والأشاعرة والظاهرية تعليل الأحكام بالمصالح قائلين أن الله لم يشرع الأحكام لمقاصد أرادها منها، ولم يربطها بأوصاف تقتضيها، وإنما أمره تعالى لا لمصلحة بل لمحض مشيئته العارية عن حكمة أو مصلحة ملحوظة في التشريع واستدل هؤلاء لمذهبهم بأدلة متعددة بطرق شتى، وقد رد عليهم المحققون مبينين التناقض والاضطراب في قولهم وعدم صحة الاستدلال من دليلهم.(45/149)
7- أنه مع أهمية البحث في المصالح والمفاسد، وضرورة اعتبارها وتقديرها فإن الموجب للحكم هو الله تعالى لا المصلحة ولا العلة، والعلل إنما جعلها الشارع أمارات على الحكم، والموجب للحكم هو الله تعالى. وجاء في تقرير ذلك كلام السرخسي والقرطبي والدهلوي مع ذكر أمثلة من الكتاب والسنة.
8- أن تقدير المصالح والمفاسد يكون بالشرع مع وجوب نظر المجتهد عند الاجتهاد والإفتاء إلى المآلات وعواقب الأمور حيث إن مهمته لا تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي، ونقل كلام الشاطبي والأدلة التي أوردها على ذلك.
9- شروط المصلحة المعتبرة، والتي هي:
1) أن يثبت بالاستقراء أنه مصلحة حقيقية لا وهمية.
2) أن تكون هذه المصلحة الحقيقية عامة لا شخصية خاصة.
3) أن لا تكون معارضة للكتاب والسنة.
4) أن لا تكون معارضة للقياس الصحيح.
5) عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
10- وأخيراً: كيفية العمل إذا تعارضت المصالح، وأن الضرورية مقدمة على الحاجيّة، والحاجية مقدمة على التحسينية.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
المراجع
1 - الإحكام في أصول الأحكام للإمام سيف الدين الآمدي، دار الكتب العلمية، بيروت. ط: الأولى.
2 - الإحكام في أصول الأحكام للإمام أبي محمد بن حزم الظاهري تحقيق الشيخ أحمد شاكر دار الآفاق. بيروت 1403هـ.
3 - الأدلة على اعتبار المصالح والمفاسد في الفتاوى والأحكام لهشام عبد القادر آل عقدة. دار الصفوة. القاهرة 1411هـ.
4 - أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها للدكتور بدران أبو العينين الإسكندرية.
5 - أدلة التشريع المختلف فيها للدكتور عبد العزيز علي الربيعة. مؤسسة الرسالة. ط: الثالثة 1402هـ.
6 - أصول التشريع الإسلامي للشيخ علي حسب الله. دار المعارف بمصر. ط: الخامسة 1396هـ.
7 - أصول السرخسي. للإمام السرخسي الحنفي. تعليق أبو الوفا. دار المعرفة بيروت.(45/150)
8 - أعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن القيم الجوزية. دار الفكر. بيروت. ط: الثانية 1397هـ.
9 - البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني تحقيق الدكتور عبد العظيم الديب. دار الأنصار. القاهرة.
10-تعليل الأحكام للدكتور مصطفى شلبي. مطبعة الأزهر1362هـ.
11– تفسيرالتحرير والتنويرللشيخ محمد الطاهر بن عاشور ط: تونس.
12 -تفسير القرآن العظيم للإمام أبي الفداء ابن كثير ط: دار الرشاد.
13- التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي. دار الكتب العلمية. طهران. ط: الثانية
14- الجامع لأحكام القرآن للإمام محمد أحمد الأنصاري القرطبي. دار الكتاب العربي. القاهرة 1387هـ.
15– حجة الله البالغة للشاه ولي الله الدهلوي. دار الكتب الحديثة. القاهرة.
16 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم الأصبهاني. دار الكتاب العربي بيروت ط: الثانية 1400هـ.
17 - زاد المعاد في هدى خير العباد للإمام ابن قيم الجوزية. تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط مؤسسة الرسالة 1399هـ.
18 - سنن الترمذي للإمام أبي عيسى الترمذي. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1383هـ.
19 - سنن أبي داود للإمام أبي داود السجستاني ط: دار الحديث.
20 - سنن ابن ماجه للإمام محمد بن يزيد القزويني تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط: عيسى البابي الحلبي.
21-شرح الكوكب المنير لابن النجار. جامعة أم القرى مكةالمكرمة1400هـ.
2 – صحيح البخاري (مع الفتح) المطبعة السلفية. القاهرة1380هـ.
23- صحيح مسلم (مع شرح النووي) دارالفكر. بيروت 1398هـ.
24 - ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. مؤسسة الرسالة. ط: الرابعة 1402هـ.
25 – فتح الباري شرح صحيح البخاري. المطبعة السلفية. القاهرة 1380هـ.
26 - فقة الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي. مكتبة وهبة.
27- في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب. دار الشروق. ط: الخامسة1397هـ.(45/151)
28 - قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام العز بن عبد السلام. مكتبة الكليات الأزهرية 1388هـ.
29 - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية. جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه. الرئاسة العامة لشؤون الحرمين.
30 - المحصول في علم أصول الفقه للإمام فخر الدين الرازي. تحقيق: د. طه جابر. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ط: الأولى 1400هـ.
31 – مختصر شرح الروضة لنجم الدين الطوفي. تحقيق: د. عبد الله التركي. مؤسسة الرسالة ط: الأولى 1407هـ.
32 - المرجعية العليا في الإسلام للكتاب والسنة للدكتور يوسف القرضاوي. بمؤسسة الرسالة. ط: الأولى 1414هـ.
33 – المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي. تصوير دار صادر بيروت.
34-مسند الإمام أحمد بن حنبل. المكتب الإسلامي. بيروت1398هـ.
35 – مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه للأستاذ عبد الوهاب خلاف دار القلم. الكويت ط: الثانية 1390هـ.
36 – المعجم الفلسفي للدكتور عبد المنعم الحفني، الدر الشرقية، مصر1410هـ.
37-المعيار المعرب للإمام أحمد يحيى الونشريسي. دار المغرب العربي بيروت.
38- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والارادة للإمام ابن قيم الجوزية. نشر رئاسة الإفتاء بالرياض.
39 - المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة للإمام السخاوي. مكتبة الخانجي بمصر 1375هـ.
40 - مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور. الشركة التونسية للتوزيع 1978 م.
41 - الموافقات في أصول الفقه للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي. دار المعرفة بيروت. تحقيق مشهور حسن، دار عثمان بن عفان. ط: الأولى.
42 - نصب الراية لأحاديث الهداية للإمام الزيلعي. مطبوعات المجلس العلمي. ط: الثانية 1393هـ.
43 – نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للدكتور أحمد الريسوني. المعهد العالي للفكر الإسلامي. ط: الرابعة 1416هـ.(45/152)
المنصوب على نزع الخافض في القرآن
إعداد
الدكتور إبراهيم بن سليمان البعيمي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، أنزل القرآن الكريم علىعبده الأمين، هدى وبشرى للمؤمنين، وجعله محفوظاً إلى يوم الدين، وصلّى الله وسلّم على رسوله المصطفى، أفصح من نطق بالضاد، وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين، الذين حملوا شعلة الدين، وبلّغوا الأمانة كما احتملوها رضي الله عنهم أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
أمَّا بعد، فإن القرآن الكريم معين لا ينضب، والدرس فيه مبارك، ودارسه موفّق، كتبْتُ فيما مضي بحثين في النحو أولهما: المنصوب على التقريب، وثانيهما ما تمِّم من الأفعال الناسخة في القرآن، وكان مدار هذينك البحثين القرآن الكريم: دراسة وتطبيقاً، فأحببت أن ينتظم العقد بحثاً ثالثاً هو: (المنصوب على نزع الخافض في القرآن جمعاً ودراسة) ولعليّ - إن كان في العمر فسحة - أكمل العقد ببحوث نحوية وصرفية يكون مجالها التطبيقي القرآن الكريم كالتقاء الساكنين، والتنازع، وأثر المجاورة، والاستثناء المنقطع، وأحكام حتّى، وغيرها مما هو مدوّن لديّ في جذاذات تنتظر الإخراج.
في كثير من القراءات القرآنية أسرار دفينة، وأحكام نحوية وصرفية، إبرازها خير من اللهاث خلف شاهد شعريٍّ، تضطرب روايته عند التمحيص، فخير الأعمال ما كان في خدمة كتاب الله الكريم يبارك الله فيها ونسأله أن تكون شاهدة لنا لا علينا بمنه وكرمه، وأن يجعلها في موازين أعمالنا يوم الحساب.(45/153)
هذا البحث لم يتأتَّ لي سهواً رهواً، وإنما أخذت أنقِّب عن مادته العلمية بحثاً عن شاهد في بطون كتب النحو، والتفسير، وإعراب القرآن، والقراءات، والمعاجم اللغوية، وغيرها كثير، ككتاب (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) للشيخ محمد عبد الخالق عضيمة رحمه الله، إذ أفدت منه كثيراً في الشواهد، ومعجم الأدوات والضمائر في القرآن، والمعجم المفهرس لألفاظ القرآن، كما تتبّعت الأفعال اللازمة في القرآن، أدرس ما عُدّي منها، فإن كانت تعديته بنزع الخافض ادَّخرته، وإن كان معدَّى بغير ذلك من طرق التعدية المعروفة اطَّرحته، ولم أدرجه في بحثي، ومن خلال التنقيب والبحث رأيت أن المادة العلمية جديرة بإفرادها في بحث مستقل، استهللته بالحديث عن نزع الخافض: تعريفه، وأحكامه، وقياسيته، والفرق بين نزع الخافض والتضمين، فكان فصلاً، ثم درست نزع الخافض في القرآن في الفصل الثاني، فما كان منه قياسياً اكتفيت بأمثلة تجلّيه وتوضِّحه، دون استقصاء وحصر لجميع ما جاء منه في القرآن، لأن البحث ليس معجماً للقرآن، وما كان غير قياسي فإنني أحرص علىالاستقصاء والتحرّي، فإن فاتني منه شيء فالكمال لله.
ولا يخفى أن وجه الشاهد في بعض الآيات المستشهد بها يكون مرجوحاً، أو يكون القول به غير واضح الدلالة، أو ينازعه التضمين، فأورده، وأورد معه الوجه الأرجح، استيفاءً لما قيل في الآية، وخروجاً من لائمة التقصير، فإن قيل إن نزع الخافض في غير مواطنه القياسية موقوف على السماع، ولا تحمل الشواهد القرآنية إلا على المسائل القياسية، فأقول: إن الأئمة من النحاة والمفسرين والمعربين للقرآن أكثروا من القول بنزع الخفض في غير مواطن القياس، وارتضوه في آيات كثيرة، ومن الخير عدم الشذوذ عنهم، والتعسُّف في توجيه تلك الشواهد فراراً من القول بنزع الخافض، ولكن يقال هذه شواهد تحفظ ولا تتخذ قياساً.(45/154)
والناظر في كتب التفسير، وكتب إعراب القرآن، يلحظ كثرة اختلاف النحويين في إعراب الآيات القرآنية، ومردّ ذلك - والله أعلم - إلى أسلوب القرآن المعجز، فالبشر لا يستطيعون الإحاطة بكلِّ مراميه ومقاصده، فاحتمل كثيراً من المعاني، والوجوه التي نشأ عنها كمٌّ من التوجيهات النحوية.
هذا وقد اقتضت الدراسة المنهجية الحديثة أن يكون البحث في فصلين انتظما مباحث ومطالب بحسب الحاجة.
المنصوب على نزع الخافض في القرآن (جمعاً ودراسة)
وفيه تمهيد وفصلان:
التمهيد يشتمل على ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: تعدِّي الفعل ولزومه.
المسألة الثانية: علامات تعدِّي الفعل ولزومه.
المسألة الثالثة: تعلّق الجار والمجرور.
الفصل الأول: دراسة نزع الخافض.
وانتظم مباحث:
المبحث الأول: تعريف المصطلح.
المبحث الثاني: أحوال نزع الخافض في العربية.
المبحث الثالث: حكم منزوع الخافض.
المبحث الرابع: المنصوب بعد (ما) الحجازية.
المبحث الخامس: نزع الخافض والتضمين.
الفصل الثاني: المنصوب على نزع الخافض في القرآن.
وتحته مباحث:
المبحث الأول: نزع الخافض قياساً في القرآن وتحته مطالب:
المطلب الأول: دراسة أنَّ وأنْ بعد نزع الخافض.
المطلب الثاني: نزع الخافض من أنَّ وأنْ في القرآن.
المطلب الثالث: دراسة كي في اللغة.
المطلب الرابع: كي في القرآن.
المبحث الثاني: نزع الخافض سماعاً في القرآن.
وفيه مطالب:
المطلب الأول: نزع الخافض من المفرد.
المطلب الثاني: دراسة التعليق والجُمل التي بعده.
المطلب الثالث: نزع الخافض من الجملة المعلّقة في القرآن.
الطلب الرابع: المفعول الثاني منصوب على نزع الخافض.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، ويسدد خطانا، ويبارك لنا في أعمالنا إنه سميع مجيب.
تمهيد(45/155)
من أراد أن يقرأ بحثاً في نزع الخافض فلا بدَّ له بادئ ذي بدء أن يقف على معنى التعدي واللزوم ويلمَّ بأحكامهما، ويعرف علاماتهما، ومعنى تعلقهما بالفعل أو ما فيه رائحة الفعل، ليدرك بنفسه الأفعال المتعدية أصالة، والأفعال التي تعدت بسبب نزع الخافض منها، وذلك لتكون أحكامه بعدئذٍ دقيقة موافقة للقواعد التي وضعها علماء العربية في هذا الشأن، ولهذا رأيت أن أتحدث عن هذه المعاني تمهيداً للبحث، فجاءت في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: تعدّي الفعل ولزومه
للفعل في العربية تقسيمات كثيرة: من حيث الصحة والاعتلال، ومن حيث التمام والنقصان، ومن حيث التجرد والزيادة، ومن حيث التعدي واللزوم ومن حيث الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، ومن حيث الأبنية، وغير ذلك مما هو مبسوط في علم التصريف.
ويخصنا هنا تقسيمه من حيث التعدي واللزوم فنقول: الفعل ضربان: متعدٍّ، ولازم.
فالمتعدّي: هو المتجاوز يقال عدا فلان طورَه أي: جاوزه، وعند النحاة هو: تجاوز الفعلِ الفاعلَ إلى مفعول به أو أكثر.
وهو يصل إلى المفعول به بدون واسطة حرف جرّ، ويسمّى متعدياً بنفسه، وواقعاً، ومتجاوزاً، وإنما سمّي بهذه الأسماء، لأنه تعدّى الفاعلَ إلى المفعول به، وتجاوزه إليه، ووقع عليه فعل الفاعل.
ولازم: وهو الذي لا يصل إلى المفعول به إلا بواسطة حرف جرّ ويسمّي أيضاً قاصراً، أومتعدياً بحرف جرِّ، وسمّي بهذه الأسماء للزومه فاعلَه فلم يتعدَّه إلى سواه، ولم يتجاوزه إلى غيره، واللازم ينصب ما سوى المفعول به من المفاعيل وأشباهها نحو: جلست آمناً جلوساً أمامَ المسجد يومَ الخميس وزيداً.(45/156)
وفي العربية أفعال كثيرة استعملت متعدية ولازمة منها: غاض الماءُ، وغضته، وفَغَرَ الرجلُ فاه، وفَغَرَ فوه، وكسفتِ الشمسُ، وكسف اللهُ الشمسَ، ودَلَعَ لسانُه، ودَلَعَ الرجلُ لسانَه، وهي كثيرة جاء منها في القرآن قوله تعالى: {ما يَأْتيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رّبِّهم مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعوهُ وَهُمْ يَلْعَبونَ} وقال تعالى: {وَإذا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعوا لَهُ وَأَنْصِتوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1)
المسألة الثانية: علامات تعدّي الفعل ولزومه.
وضع النحاة علامات يُستدلُّ بها على معرفة اللازم من المتعدّي، وهي: صحة اتصال ضمير المفعول به بالفعل، ومجيء اسم مفعول تامٍّ منه، نحو القطار ركبته وهو مركوب، واللازم لا يجيء منه ذلك إلا بواسطة حرف الجرّ نحو الكرسي جلست عليه وهو مجلوس عليه.
وجعلوا للازم علامات يُستدلّ عليه بها، من هذه العلامات: كونه من أفعال السجايا، أو العوارض، أو يدلّ على نظافة، أو ضدها، ومطاوع المتعدي لواحد، وذكر ابن عصفور أنَّ من علامات اللازم ألاَّ يصحَّ السؤال عنه بأيِّ شيء وقع، نحو: (قام) و (جلس) ، إذ لا يقال: بأيِّ شيء وقع قيام زيد؟، ولا بأيِّ شيء وقع جلوس بكر؟ ، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتب النحو قال ابن مالك في علامة المتعدّي:
علامة الفعل المعدّى أن تصل
ها غير مصدر به نحو عمل
وزاد في شرح التسهيل: "أن يصاغ منه اسم مفعول تام باطراد".
واعترض عليه الشاطبيّ والدماميني باعتراضات منها:
أوّلاً: أن من الأفعال العربية ما يتعدّى بنفسه تارة، وبحرف الجرّ تارة أخرى، نحو شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له، ومثل هذه الأفعال تكون داخلة تحت قاعدته وخارجة عنها في آنٍ واحد بحسب الاستعمال، ومثل هذه الأفعال تكون مشكلة، والقواعد يستلزم فيها أن تكون حاصرة.
وأجيب عن هذا الاعتراض بأن باب شكرت له وشكرته موقوف علىالسماع، والحديث عمَّا ينقاس.
__________
(1) الأنبياء: 2 0(45/157)
ثانياً: أن العرب تتوسع في المتصرف من ظروف الزمان والمكان، فتلحق الفعل ضميراً يعود على أحدهما، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ َ} ، وكذلك يقال: يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وكلّ هذا على إجراء الظرف مجرى المفعول به مجازاً، ولا يقال: إن الضمير هنا ضمير مفعول به، ولكن يصح أن يقال: إن هذه الضمائر ليست ضمائر مصدر.
وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن التوسع في الظروف مجاز على خلاف الأصل، والأصل ألاّ يصل الفعل إلى ضمير الظرف إلا بواسطة حرف الجر، والضوابط تكون بحسب الأصل، لا بحسب التوسع المجازي.
ثالثاً: أن الأفعال المتعدية في العربية ثلاثة أقسام: قسم يتعدى بنفسه، وقسم يتعدى بواسطة حرف الجرّ وهوما يطلب المجرور على جهة اللزوم كممرت به ورغبت فيه وعجبت منه، وقسم يتعدى مرة بنفسه ومرة بحرف الجرّ كما سبق في شكرته، وشكرت له.
والضابط الذي ذكره ابن مالك قد أخرج من أقسام المتعدى القسم الثاني، وهو ما يطلب المجرور على جهة اللزوم، وساوى بينه وبين ما لايطلب المجرور على جهة اللزوم، كقام وقعد، فطلب هذه للمجرور- إن وُجد - لا يسمّى تعدياً وإنما يسمّى تعلُّقاً.
وأجيب بأن من سمّى المجرور متعدَّى إليه فهذا اصطلاح خاص به ولا مشاحة في الاصطلاح.
رابعاً: أن هذا الضابط دوريٌّ، إذ تتوقف فيه معرفة اسم المفعول التام على معرفة الفعل المتعدّي، وبالعكس، وكذلك تتوقف معرفة المتعدي على صحة اتصال ضمير المفعول به بالفعل، ويتوقف تمييز ضمير المفعول به عن غيره من الضمائر، على معرفة كون الفعل متعدياً، فجاء الدور0
وأجيب عن هذا الاعتراض بأن المقصود التمييز وليس الحدُّ.
خامساً: أن العرب تنصب الاسم على نزع الخافض، كـ (تمرون الديار) والمنزوع الخافض مفعول به، والفعل في مثل هذا لايصح أن يتصل به ضمير المفعول به.
وأجيب بأن منزوع الخافض بابه ضرورة الشعر، أو الشذوذ، ولاتحمل القواعد على الضرائر والشذوذ.(45/158)
المسألة الثالثة: تعلق الجار والمجرور:
معنى التعلق: هو الارتباط المعنوي بين الحدث وشبه، الجملة بحيث لا يكتمل معنى أحدهما إلا بالآخر، ولا يتعلّق من حروف الجر إلا ما كان أصلياً فقط، وتكتفي أشباه الجمل في التعلّق بما فيه رائحة الفعل، وفي تعلّق الظرف والمجرور بالناقص، والجامد، وأحرف المعاني خلاف فإذا وصل اللازم إلى المفعول به بواسطة حرف الجر تعلّق به الجار والمجرور.
ويفرّق الشاطبي بين التعلّق، والتعدّي بالحرف فيقول: "إن التعدّي يطلق حيث يكون الفعل طالباً لحرف الجر على اللزوم كمررت بزيدٍ وعجبت من فعله ورغبت في الخير، فإن مثل هذه الأفعال في طلبها للمجرور كالمتعدّي بالنسبة إلى المفعول، والتعلّق حيث يكون لا يطلبه على اللزوم بل بالنسبة إلى القصد في الكلام كذهبت معك وقعدت في منزلك وانطلقت إليك، فإن هذه الأفعال إنما تطلبه بحسب ما طلبته مقاصد الكلام، فتقول مرّة: انطلقت من عندك، وتارة: انطلقت معك، وتارة انطلقت إليك، وتارة: انطلقت بسببك، ولأجلك، ومن جرَّائك، وتقول مرّة: انطلقت لاغير فلا تُعَدِّيه، ولا يطلب شيئاً، وفرق بين فعل يطلب الحرف الجار من جهة وضعه، وفعل يطلبه من حيث هو مقصود في الكلام".
الفصل الأول: دراسة نزع الخافض:
وفيه مباحث:
المبحث الأول: تعريف المصطلح:
مادة: (نزع) تدلّ على القلع والإزالة يقال: نزع النجارُ المسمارَ فهو منزوع بمعنى اقتلعه، ونزع الأميرُ العاملَ عن عمله أزاله قال ابن منظور:"نزع الشيءَ يَنْزِعُه نزْعاً فهو منزوع، ونزيع، وانتزعه فانتزع اقتلعه فاقتلع. ونزع الأميرُ العاملَ عن عمله أزاله وهو على المِثْل، لأنه إذا أزاله فقد اقتلعه وأزاله"، وفرّق سيبويه بين (نزع) و (انتزع) فقال:"وأما انتزع فإنما هي خطفةٌ كقولك استلب، وأما نزع فإنه تحويلك إياه وإن كان على نحو الاستلاب".(45/159)
وللصبَّان تعليل آخر إذ يقول:"وإنما سمّيت حروف الجر، إما لأنها تجرُّ معاني الأفعال إلى الأسماء، أي: توصلها إليها، فيكون المراد من الجرّ المعنى المصدري، ومن ثَمّ سمّاها الكوفيون حروف الإضافة، لأنها تضيف معاني الأفعال أي: توصلها إلى الأسماء، وإما لأنها تعمل الجرَّ فيكون المراد بالجرّ الإعراب المخصوص".
المبحث الثاني: أحوال نزع الخافض في العربية:
لحذف حرف الجرّ في العربية ثلاث حالات:
الأولى: أن يحذف قياساً مطّرداً - فيصير الفعل متعدّياً - وذلك مع الأحرف المصدرية (أنّ وأن) - وزاد ابن هشام: (كي) -، لطول الصلة، ولأن حرف الجر لم يظهر له تأثير في العمل، والحذف هنا مشروط بأن يتعيّن الحرف عند حذفه نحو: عجبت أن يفوز مهمل، أي من أن يفوز مهمل، أمّا إن لم يتعيّن الحرف فابن مالك وكثير من النحاة يمنعون الحذف، لأنه يؤدّي إلى لبس نحو: رغبت أن تذهب، إذ لا يعلم المراد بالرغبة (فيها أم عنها) ، ويشكل على هذا قوله تعالى: {وَتَرْغَبونَ أَنْ تَنْكِحوهُنَّ} إذ يصحّ أن تكون الرغبة في نكاحهنّ لجمالهنّ، ويصح أن تكون الرغبة عن نكاحهنَّ لدمامتهنّ، وأجيب عن هذا الإشكال بجوابين:
أحدهما: أن يكون حذف الحرف اعتماداً على القرينة الرافعة للبس وبه قال المرادي نقلاً عن أبي حيّان في منهج السالك، والذي في منهج السالك: "ويطّرد حذف حرف الجرّ من أنّ وأن إذا أمن اللبس فلا يجوز رغبت أن تقعد، لأنه ملبس، إذ يحتمل أن يكون المعنى رغبت في أن تقعد، ويحتمل أن يكون رغبت عن أن تقعد، فإن زال اللبس وتعيّن حرف الجر جاز ذلك نحو قول: {وَتَرْغَبونَ أَنْ تَنْكِحوهُنَّ} ".
وثانيهما: أن يكون حذف الحرف لمعنى بلاغي وهو قصد الإبهام ليرتدع بذلك الطامع والمعرض.(45/160)
واختلف في محل (أنَّ) و (أن) عند حذف حرف الجر المطّرد حذفه معهما فقيل: محلّهما نصبٌ، قياساً على الاسم الصريح، ونُسب للخليل وإليه ذهب الفراء والمبرّد وعزاه ابن مالك - متابعاً ضياء الدين بن العلج - إلى سيبويه، وصححه، وقيل محلّهما جرٌّ ونُسب للكسائي، ومال إليه السيرافي، واستدلوا بقول الشاعر:
وَما زُرْتُ لَيْلى أَنْ تَكونَ حَبيبَةً
إليَّ وَلا دَيْنٍ بِها أَنا طالِبُهْ
بجر (دينٍ) عطفاً على محل: (أن تكون) إذ أصله (لأن تكون) .
وأجاز الزجاج الوجهين، وهو ظاهر مذهب سيبويه قال: "وسألت الخليل عن قوله جلّ ذكره: {وَأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَّاحِدَةً وَّأَنا رَبُّكُمْ فَاتَّقونِ} فقال إنما هو على خذف اللام كأنه قال: ولأنَّ هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون، وقال: ونظيرها: {لإيْلافِ قُرَيْشٍ} ،لأنه إنما هو: لذلك {فَلْيَعْبُدُوا} ، فإنْ حذفْتَ اللامَ من (أنَّ) فهو نصب، كما أنك لو حذفت اللام من لإيلاف كان نصباً هذا قول الخليل. ولو قال إنسان: إنَّ (أنّ) في موضع جرٍّ في هذه الأشياء، ولكنه حرف كثر استعماله في كلامهم فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا ربَّ في قولهم:
وَبَلَدٍ تَحْسَبُهُ مَكْسوحا
لكان قولاً قويّاً وله نظائر نحو قوله: لاهِ أبوك. والأوَّل قول الخليل".
الحالة الثانية: حذف جائز في سعة الكلام: المنثور والمنظوم، فيما سمع من أفعال استعملها العرب مرة متعدية بنفسها، وتارة بحرف الجرّ، مع الاتحاد في اللفظ والمعنى وهي:"شكر، ونصح، ووزن، وكال يكيل، يقال: شكرت له وشكرته، ونصحت له ونصحته، ووزنت له ماله ووزنته ماله، وكلت لزيد طعامه وكلته طعامه، وكذلك: اختار وأمر يقال اخترت زيداً قومَه واخترت زيداً من قومه، وأمرتك الخيرَ، وأمرتك بالخير"قال الشاعر:
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِهِ
فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ(45/161)
وهذه الأفعال موقوفة على السماع، قال ابن مالك:"ومأخذ هذا النوع السماع" وسمّاها المتعدية بوجهين.
واختلف النحاة في أصالة هذه الأفعال التي تتعدّى مرة بنفسها ومرة بحرف الجرّ فذهب فريق: منهم ابن عصفور وأبو حيّان إلى أنَّ كلّ واحد منهما أصل برأسه، وليس أحدهما متفرعاً من الآخر، وذهب فريق ثانٍ منهم الشَّلَوْبين الصغير إلى أن الأصل في هذه الأفعال التعدي بنفسها، فإن دخل على المفعول حرف جرّ فهو زائد، وذهب ابن درستويه إلى أن الفعل (نصح) يتعدّى إلىمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر، وأنكر الكسائي أن يقال: شكرتك ونصحتك ويرى أنَّ الصواب أن يقال: "شكرت لك ونصحت لك"وقال: هذا كلام العرب وقال الفراء: "العرب لا تكاد تقول شكرتك، إنما تقول شكرت لك، ونصحت لك، ولايقولون نصحتك، وربّما قيلتا"
وأجاز الأخفش الصغير: أن يُحكم باطراد حذف حرف الجر، والنصب فيما لا لَبْسَ فيه إذا كان الفعل يتعدّى إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بواسطة حرف الجرّ، إنْ تعيّن الحرف، وتعين موضعه، كقول الشاعر:
تَحِنُّ فَتُبْدي ما بِها مِنْ صَبابَةٍ
وَأُخْفي الَّذي لَوْلا الأُسى لَقَضانِي
قال ابن مالك: "والصحيح أن يتوقف فيه على السماع".
الحالة الثالثة: حذف سماعي مخصوص بالضرورة كقول الشاعر:
يُشَبَّهونَ سُيوفاً في مَضائِهِمُ
وَطولِ أَنْضِيَةِ الأعْناقِ والأَمَمِ
أي: يشبّهون بسيوف، وقول الآخر:
كَأَ نِّيَ إذْ أَسْعى لأظْفَرَ طائِراً
مَعَ النَّجْمِ في جَوِّ السَّماءِ يُصَوِّبُ
أي: لأظفر بطائرٍ، وقول الآخر:
لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ
فيهِ كَما عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
أي: كما عسل في الطريق، وقول الآخر:
تَمُرّونَ الدِّيارَ وَلَمْ تَعوجوا
كَلامُكُمُ عَلَيَّ إذن حَرامُ
أي: تمرون بالديار، وقال الآخر:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ
رَبَّ العِبادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ(45/162)
أي: أستغفر الله من ذنب، وقال الآخر:
آلَيْتُ حَبَّ العِراقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ
وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ في القَرْيَةِ السّوسُ
أي: آليت على حبِّ العراق، وقال الآخر:
فَبِتُّ كَأَنَّ العائِداتِ فَرَشْنَنِي
هَراساً بِهِ يُعْلى فِراشي وَيُقْشَبُ
يريد: فرشن لي، وقول الآخر:
مِنَّا الّذي اخْتيرَ الرِّجالَ سَماحَةً
وَخَيْراً إذا هَبَّ الرِّياحُ الزَّعازِعُ
أي: اختير من الرجال.
هذا مع نصب الاسم بعد حذف الجار.
وقد يحذف الجار ويبقى عمله، ولا خلاف في شذوذ الإعمال حينئذٍ ومنه قول الآخر:
إذا قيلَ أيٌّ النّاسِ شَرٌّ قبيلةً
أَشارَتْ كُلَيْبٍ بِالأكُفِّ الأصابِعُ
بجرِّ (كليبٍ) أي: أشارت إلى كليب فحذف الجار، وأبقى عمله شذوذاً، وكقول الشاعر:
وَكَريمَةٍ مِنْ آلِ قَيْسَ أَلِفْتُهُ
حَتَّى تَبَذّخَ فَارْتَقى الأعْلامِ
بجر (الأعلام) أي: فارتقى في الأعلام.
قال ابن مالك: "ومن بقاء الجرّ بالحرف المحذوف قوله عليه الصلاة والسلام:"صلاة الرجل في الجماعة تضعَّف علىصلاته في بيته وفي سوقه خمسٍ وعشرين ضعفاً" قال: أي بخمسٍ.
قال ومنه قوله عليه السلام:"فضل الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك سبعين صلاة"قال: "أي بسبعين صلاة".
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانَ عِنْدَهُ طَعامُ اثْنَينِ فَلْيَذْهَبْ بِثالِثٍ، وَإنْ أَرْبَعَةٍ فَخامِسٍ أَوْ سادِسٍ" وقدّر ابن مالك المحذوف هنا: "وَإنْ قامَ بِأَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخامِسٍ أَوْ سادِسٍ".
المبحث الثالث: حكم منزوع الخافض:
منزوع الخافض يجب نصبه، نص على ذلك الأئمة من النحاة قال الشاطبي شارحاً قول الناظم:
وعدّ لازماً بحرف جرَّ
وإن حُذِفْ فالنصب للمنجرّ
نقلا ً……………(45/163)
"يعني: أنَّ الحرف إن حذف فلا بدّ للمنجر به من النصب، فيصير الفعل متعدّياً بنفسه بالعَرَضِ كالمتعدّي بحق الأصل، وذلك لأنه إذا تعلّق به فقد صار موضعه نصباً، ولذلك تقول مررت بزيدٍ وعمراً فتعطف على موضعه نصباً".
واختلف في عامل النصب حينئذٍ، فذهب الكوفيون إلى أن العامل هو نزع الخافض، وقال البصريون العامل هو الفعل نفسه قاله الصبان.
المبحث الرابع: المنصوب بعد (ما) الحجازية:
(ما) : حرف نفي غير مختص، يدخل على الجمل الاسمية نحو: ما محمد قائماً، وعلى الجمل الفعلية نحو: ما قام محمد، ومن حق الحرف غير المختص الإهمال، ولكن الحجازيين أعملوا (ما) عمل ليس فيرتفع المبتدأ بعدها على أنه اسم لها، وينتصب الخبر على أنه خبر لها، وأهمل إعمالها التميميون.
واختلف البصريون والكوفيون في ناصب الخبر بعدها، فذهب البصريون إلى أن ناصب الخبر هو: (ما) نفسها حملاً لها على ليس، وذهب الكوفيون إلى أن الخبر منصوب على نزع الخافض، والأصل جرّه بالباء، قال الفراء في قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً} :"نصبت {بَشَراً} ، لأن الباء قد استعملت فيه، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء، فلما حذفوها أحبّوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه فنصبوا على ذلك) ، وقال ابن مالك:"وزعم الكوفيون أنّ (ما) لا عمل لها، وأنَّ نصب ما ينتصب بعدها بسقوط الباء. وما قالوه لا يصحّ، لأن الباء قد تدخل بعد هل، وبعد ما المكفوفة بـ (إنْ) ، وإذا سقطت الباء تعين الرفع بإجماع، فلو كان سقوط الباء ناصباً لنصبه في هذين الموضعين، ومثل تعين الرفع في هذين الموضعين عند سقوط الباء تعينه عند سقوطها في نحو كفى بزيد رجلاً، وبحسب عمرو درهمٌ، وتعينه عند سقوط من في نحو: ما فيه من رجل".
المبحث الخامس: نزع الخافض والتضمين:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: دراسة التضمين:(45/164)
البحث في التضمين يطول لمن أراد أن يستوفي البحث حقه، والكلام فيه تتنازعه الحقيقة والمجاز، والنحو والبلاغة، ولكني سأُلم به في هذه العجالة، مشيراً إلى أهم ما دون فيه من بحوث، لمن أراد الوقوف على التفاصيل فأقول:
التضمين: من مصطلحات النحو والبلاغة والعروض.
وهو عند أهل اللغة: مصدر ضمّن يضمِّن تضميناً، كعلّم يعلِّم تعليماً، ويريدون به: إيداع شيء شيئاً، يقال: ضمّنت الميّت القبر، أودعته إياه، وكلُّ شيء أُحرز فيه شيء فقد ضُمِّنَهُ، وبمعنى غَرِمَ يقال: ضمَّنته الشيء فَضَمِنَهُ، غرَّمته إياه، وضَمِنَه عنّي، التزم الغرم ومنه الغريم، لأنه ضامن، فعيل بمعنى فاعل.
والتضمين عند البلاغيين هو: "استعارة الشاعر كلاماً من غيره، وإدخاله في شعره" ومثاله قول الشاعر:
لئنْ أَخْطَأْتُ في مَدْحيـ
ـكَ ما أَخْطَأْتَ في مَنْعي
لَقَدْ أَنْزَلْتُ حاجاتي
بِوادٍ غَيْرِ ذي زَرْعِ
فضمَّن بيته قوله تعالى: {بِوادٍ غَيْرِذي زَرْعِ} من الآية 37 من سورة إبراهيم.
وعند العروضيين هو:"تعلُّق قافية البيت الأول بالبيت الثاني) وهم يعدونه من عيوب الشعر.
قال الشاعر:
يا ذا الَّذي في الحُبِّ يَلْحى أَما
تَخْشى عِقابَ اللهِ فينا أَما
تَعْلَمُ أنَّ الحُبَّ داءٌ أَما
وَاللهِ لَوْ حُمِّلتَ مِنْهُ كما
حُمِّلْتُ مِنْ حُبِّ رَخيمٍ لَما
لُمْتَ عَلى الحُبِّ فَذَرْني وَما
أَطْلُبُ إنِّي لَسْتُ أَدْري بِما
قُتِلتُ إلاَّ أّنَّني بَيْنما
أَنا بِبابِ القَصْرِ في بَعْضِ ما
أَطْلُبُ مِنْ قَصْرِهِمْ إذْ رَمى
شِبْهُ غَزالٍ بِسِهامٍ فَما
أَخْطَأَ سَهْماهُ وَلَكِنَّما
عَيْناهُ سَهْمانِ لَهُ كُلَّما
أَرادَ قَتْلِي بِهِما سَلَّما
فكل بيت من هذه الأبيات تعلقت قافيته بالبيت اللاحق له.(45/165)
وهو في اصطلاح النحاة: يدور حول المعنى اللغوي، إذ يعرفه ابن هشام بقوله:"قد يُشرِبون لفظاً معنى لفظ آخر فيعطونه حكمه" ويقول، الشريف الجرجاني: "أن يقصد بلفظ معناه الحقيقي، ويلاحظ معه معنى فعلٍ آخر يناسبه، ويُدَلُّ عليه بذكر شيء من متعلقاته" ويقول الأشموني: "إشراب اللفظ معنى لفظ آخر، وإعطاؤه حكمه لتصير الكلمة تؤدِّي مؤدَّى الكلمتين" ويرى الصبان أن الأولى أن يقال: "التضمين إلحاق مادة بأخرى في التعدِّي واللزوم، لتناسب بينهما أو اتحادٍ".
ويرى بعض العلماء: أن التضمين النحوي من أبواب المجاز وليس من باب الحقيقة، وما سمع منه يحمل على التجوُّز في اللفظ كابن السِّيْد البَطَلْيَوْسي في قوله: "اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدّى بحرف جرٍّ، والثاني بحرف جرٍّ آخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع الآخر، مجازاً وإيذاناً بأن هذا الفعل في معنى الآخر"، ويرى آخرون أنه من باب الحقيقة، وليس فيه مجاز، لأن كلاًّ من المعنيين مقصود لذاته، بخلاف المجاز الذي يكون القصد فيه لازم المعنى، كالزمخشري، والشريف الجرجاني، وسعد الدين التفتازاني، ومنهم من يرى فيه جمعاً بين الحقيقة والمجاز وعليه العز بن عبد السلام في كتابه مجاز القرآن.
والتضمين: يقع في ثلاثة أبواب نحوية هي: باب الأسماء المبنية، وباب التعدّي واللزوم، وباب حروف المعاني.
وكما اختلفوا فيه بين الحقيقة والمجاز، تنازعوا كذلك في قياسية التضمين من عدمها على ثلاثة مذاهب:
فريق يرى أن التضمين سماعيّ لا قياسي، وإنما يُلجأ إليه عند الضرورة، أمَّا إن أمكن إجراء اللفظ على مدلوله فهو أولى.
وذهب فريق ثانٍ: إلى القول بإطلاق القياس في التضمين دون قيود.
وتوسط فريق ثالث: فأجاز التضمين في الأفعال بشروط ثلاثة:
أ- تحقق المناسبة بين الفعلين.
ب- وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.
ج- ملاءمة التضمين للذوق العربي.(45/166)
المطلب الثاني: الفرق بين التضمين ونزع الخافض:
أوّلاً: من الناحية البلاغية: التضمين أبلغ من نزع الخافض، لأن الفعل المضمَّن معنى فعل آخر يؤدِّي المعنيين في وقت، واحد أحدهما أصالة، والآخر تضميناً، فيكون أبلغ في تأدية المعنى المراد، أما نزع الخافض فهو: حذف وإيصال فقط، وليس فيه معنى زائد عن المعنى الأصلي، وهذه المسألة تنبَّه لها ابن القيم فقال في معرض رده على من يرى أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض: "ظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأمَّا فقهاء أهل العربية، فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، فيُشربون الفعل المتعدِّي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى، وطريقة حذاق أصحابه، يضمّنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن، وهذا نحو قوله تعالى: {عَيْناً يَّشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ} فإنهم يضمنون: (يَشْرَبُ) معنى (يَرْوَى) فيعدونه بالباء التي تتطلَّبها، فيكون في ذلك دليل على الفعلين، أحدهما بالتصريح والثاني بالتضمين، والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة، ومحاسنها، وكمالها. وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الرِّيِّ، وأن يقال يروى بها، لأنه لا يدلّ على الشُّرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال يشرب بها دلّ على الشرب بصريحه، وعلى الرِّيّ بالباء فتأمله".(45/167)
ثانياً: من الناحية الإعرابية: الفعل اللازم الذي يصل إلى المفعول به بواسطة حرف الجر هو متعدّ بالواسطة، والجار والمجرور بعده في محل نصب، والدليل على ذلك أنه لو عطف على المجرور لنصب المعطوف يقال: مررت بزيد وعمراً بالنصب، قال الشاطبي: "إنَّ الحرف إنْ حُذف فلا بد للمنجر به من النصب، فيصير الفعل متعدياً بنفسه بالعرض كالمتعدي بحق الأصل، وذلك لأنه إذا تعلق به الجار فقد صار موضعه نصباً، ولذلك تقول: مررت بزيد وعمراً فتعطف على موضعه نصباً" فمنزوع الخافض انتصب بالعَرَض الذي طرأ عليه لا بسبب تحمُّل فعله معنى لم يكن فيه ذلك المعنى من ذي قبل، أما التضمين، فلأن الفعل قد ضُمّن معنى آخر لم يكن فيه ذلك المعنى من ذي قبل، فيأخذ معنى جديداً مع بقاء المعنى الأصلي للفعل فهو جمع بين معنيين معنى أصلي، ومعنى تضمني، وبسبب المعنى التضمنى تعدى الفعل لا بسبب نزع الخافض.
الفصل الثاني: المنصوب على نزع الخافض في القرآن:
وتحته مباحث:
المبحث الأوّل: نزع الخافض قياساً في القرآن:
وفيه مطالب:
المطلب الأول: دراسة أنّ وأنْ بعد نزع الخافض:
يري فريق من العلماء أنَّ: (أنَّ وأنْ) بعد حذف الخافض منهما في محلَّ نصب، وذهب فريق إلى القول ببقاء الجر فيهما، واضطرب النقل عن الخليل وسيبويه، فعزى ابن مالك، والأشموني للخليل القول ببقاء الجر فيهما، ولسيبويه القول بأنهما في موضع نصب، واختارا رأي سيبويه، قال الأشموني: "وهو الأقيس"وعلل ابن مالك ذلك بأن بقاء الجر بعد حذف عامله قليل، والنصب كثير، والحمل على الكثير أولى من الحمل على القليل.
والذي في الكتاب يخالف ذلك، قال سيبويه:"هذا باب آخر من أبواب (أنَّ) : تقول: جئتك أنك تريد المعروف، إنما أراد: جئتك لأنك تريد المعروف، ولكنك حذفت اللام ههنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت:
وَأَغْفِرُ عَوْراءَ الكَريمِ ادِّخارَهُ
وَأُعْرِضُ عَنْ ذَنْبِ اللئيمِ تَكَرُّما(45/168)
أي لادّخاره، وسألت الخليل عن قوله جلّ ذكره: {وأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأنا رَبُّكُمْ فَاتَّقونِ} فقال: إنما هو على حذف اللام، كأنه قال: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، وقال ونظيرها: {لإيْلافِ قُرَيْشٍ} لأنه إنما هو لذلك فليعبدوا، فإن حذفت اللام من أن فهو نصب، كما أنك لو حذفت اللام من لإيلاف كان نصباً، هذا قول الخليل. ولو قال إنسان: إنَّ (أنَّ) في موضع جرٍّ في هذه الأشياء، ولكنه حرف كثر استعماله في كلامهم فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا ربّ من قولهم:
وَبَلَدٍ تَحْسَبُهُ مَكْسوحا
لكان وجهاً قوياً وله نظائر نحو قوله: لاهِ أبوك، والأول قول الخليل".
ووَهَّم أبو حيّان ابنَ مالك فيما حكاه عن الخليل.
وكثير من المتأخرين يرجحون نصب المصدر المنزوع الخافض، قال ابن هشام عن حذف حرف الجر: (وقد يحذف وينصب المجرور وهو ثلاثة أقسام: سماعي جائز في الكلام المنثور. وسماعي خاص بالشعر. وقياسي وذلك بعد أنَّ وأنْ وكي"، وقال الأشموني: "إنما اطرد حذف حرف الجر مع أنّ وأنْ لطولهما بالصلة، واختلفوا في محلِّهما بعد الحذف فذهب الخليل والكسائي إلى أنّ محلَّهما جرّ تمسكاً بقوله:
وَما زُرْتُ لَيْلى أنْ تَكونَ حَبيبَةً
إليّ وَلا دَيْنٍ بِها أَنا طالِبُهْ
بجر دين، وذهب سيبويه والفراء إلى أنهما في موضع نصب وهو الأقيس".
المطلب الثاني: نزع الخافض من أنَّ وأن في القرآن:
جاءت آيات كثيرة جداً تحتوي على أحد الحرفين المصدريَّين (أنَّ وأنْ) قال عنها المعربون للقرآن: إنها منزوعة الخافض - ونزع الخافض معهما أمر قياسي عند النحاة -، ولهذا سأكتفي بإيراد أمثلة توضح هذه المسألة دون استقصاء لجميع ما ورد منها في القرآن.
قال تعالى: {وَبَشِّر الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ} .
أي: بأنَّ لهم جنات.
وقال تعالى: {إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحوا بَقَرَةً} .(45/169)
أي بأن تذبحوا بقرة.
وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعونَ أَنْ يُّؤْمِنوا لَكُمْ} .
أي بأن يؤمنوا لكم.
وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ} .
أي: بأنه لا إله إلا هو.
وقال تعالى: {إذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا} .
أي: بأن تفشلا.
وقال تعالى: {قالوا إنَّ اللهِ عَهِدَ إلَيْنا ألاَّ نُؤْمِنَ لِرَسولٍ} .
أي: بألأ نؤمن، أو على تضمين الفعل (عهد) معنى ألزم.
وقال تعالى: {وَتَرْغَبونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} .
أي: في أن تنكحوهنَّ، أو عن أن تنكحوهنَّ.
وقال تعالى: {سُبْحانَهُ أَنْ يَّكونَ لَهُ وَلَدٌ} .
أي: من أن يكون له ولد.
وقال تعالى: {لَنْ يَّسْتَنْكِفَ المَسيحُ أنْ يَّكونَ عَبْداً للهِ} .
أي: من أن يكون عبداً لله، أو عن أن يكون عبداً لله.
وقال تعالى: {وَبَشِّر الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} .
أي: بأنَّ لهم قدم صدق.
وقال تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكونَ مِنَ المُؤْمِنينَ} .
أي: بأن أكون من المؤمنين.
وقال تعالى: {مالَكَ ألاَّ تَكونَ مَعَ السّاجِدينَ} .
أي: من أن تكون، أو في أن تكون.
المطلب الثالث: دراسة كي في اللغة:
جاءت (كي) في اللغة على أربعة أضرب: منها وجه واحد سماعي، والثلاثة الباقية قياسية.
الضرب الأول السماعي::اسم مختصرمن كيف، كما اُختصر (سَوْ) من (سوف) ، قال الفراء:"سمعت بيتاً حذفت الفاء فيه من كيف قال الشاعر:
مَنْ طالِبينَ لِبُعْرانٍ لَنا رَفَضَتْ
كَيْ لا يُحِسُّونَ مِنْ بُعْرانِنا أَثَرا
أراد كيف لا يحسون".
قال ابن مالك: "وإن ولي (كي) اسم، أو فعل ماض، أو مضارع مرفوع عُلم أن أصلها (كيف) حذفت فاؤه".
وقال ابن يعيش: "في (كيف) لغتان: (كيف وكي) ".(45/170)
وأنكر أبو علي الفارسي على الفراء أن تكون (كي) في البيت السابق مرخمة من كيف، وحتَّم أن تكون فيه حرفاً بمعنى اللام، بحجة أن كيف اسم ثلاثي خال من علامة التأنيث، والثلاثي لا يرخم منه إلا ما لحقتة علامة التأنيث، كما أنه نكرة والنكرة لا ترخم، وهو مبني لمشابهته الحروف، والحذف لا يكون في الحروف قال: "وكذلك ينبغي أن لا يكون فيما غلب عليه شبهُها وصار بذلك في حيّزها".
الضرب الثاني وهو قياسي: حرف تعليلي كاللام معنى وعملاً، وذلك إذا وليها (ما) الاستفهامية نحو كيمه؟، أو المصدرية، ويمثل لها النحاة بقول الشاعر:
إذا أنْتَ لَمْ تَنْفَعْ فَضُرَّ فَإنَّما
يُرَجّى الفَتى كَيْما يَضُرُّ وَيَنْفَعُ
أو وليتها اللام ومنه قول:
وَأَوْقَدْتُ ناري كَيْ لِيُبْصَر َضَوْؤُها
وَأَخْرَجْتُ كَلْبِي وَهْوَ في البَيْتِ داخِلُهْ
ونُسب للأخفش أن (كي) لا تكون إلا تعليلية، ولايصح كونها مصدرية، والذي في معاني القرآن لا يحتِّم ذلك، بل يجيز كونها مصدرية، قال:"قوله: {لِيَشْتَروا بِهِ ثَمَناً قَليلاً} فهذه اللام إذا كانت في معنى (كي) كان ما بعدها نصباً على ضمير (أنْ) وكذلك المنتصب بـ (كي) هو أيضاً على ضمير (أن) كأنه يقول للاشتراء فـ (يشتروا) لا يكون اسماً إلا بـ (أن) فـ (أن) مضمرة وهي الناصبة، وهي في موضع جرّ باللام وكذلك: {كَيْ لا يَكُونَ دُوْلَةً} (أن) مضمرة وقد جرّتها كي، وقالوا: (كَيْمَهْ) فـ (مه) اسم، لأنه (ما) التي في الاستفهام وأضاف (كي) إليها.
وقد تكون (كي) بمنزلة (أن) هي الناصبة، وذلك قوله: {لِكَيْ لا تَأْسَوا} فأوقع عليها اللام، ولو لم تكن (كي) وما بعدها اسماً لم تقع عليها اللام"
الضرب الثالث وهو قياسي: حرف مصدري ينصب المضارع بنفسه وذلك إذا دخلت على كي اللام التعليلية ولم يقع بعدها أن المصدرية نحو: زرتك لكي تكرم محمداً.
الضرب الرابع وهو قياسي: جواز أن تكون مصدرية وتعليلية ولها حينئذ صورتان:(45/171)
الأولى: أن تكون مجرّدة من لام التعليل قبلها ومن أن المصدرية بعدها نحو: جئتك كي تكرمني.
الثانية: المتوسطة بين لام التعليل وأن المصدرية نحو: جئتك لكي أن تكرمني ومنه قول الشاعر:
أَرَدْتَ لِكَيْما أنْ تَطيرَ بِقِرْبَتِي
فَتَتْرُكَها شَنّاً بِبَيْداءَ بِلْقَعِ
وكثير من النحاة يدمجون الضرب الرابع مع الضرب الثالث.
المطلب الرابع: كي في القرآن:
جاءت كي في القرآن في عشرة مواضع: سته منها مجرورة باللام، والأربعة الباقية غير مجرورة.
ووقع المصدر بعدها منفياً بـ (لا) في سبعة مواضع، أربعة منها وُصلت كي بـ (لا) رسماً هكذا: (كيلا) ، وفُصلت في ثلاثة هكذا: (كي لا) - مع اختلاف في عدد المرسوم - ويعلل الإمام الزركشي الوصل في الرسم بأن النفي إذا كان داخلاً على معنى كُلّيّ وُصِلَ حرفُ النفي بـ (كي) ، لأن نفي الكلّيّ نفي لجزئياته، ويرى أن الكلي المنفي ليس له أفراد في الوجود، وأما فصل (كي) عن (لا) النافية رسماً فسببه أن النفي منصبٌّ على جزئي ولا يلزم منه نفي الكلّيّ.
قال تعالى: {ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسولِهِ مِنْ أهْلِ القُرى فَللَّهِ وَلِلرَّسولِ وَلِذي القُرْبى واليَتامى والمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ كَيْ لا يَكونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمْ الرَّسولُ فَخُذوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ} يرى ابن هشام أن كي في الآية مجرورة بلام محذوفة والتقدير (لكي لا) قال:"وذلك إذا قدّرت كي مصدرية" وهو يشير بقوله إذا قدّرت كي مصدرية إلى المذهب الكوفي الذي يحتم كون كي مصدرية.
فالمصدر منصوب على نزع الخافض بفعل مقدّر وهو: (فَعَلْنا، أو بيّنا ذلك، أو حكمنا بذلك) لئلا تكون الغنائم دولة بين الأغنياء، قال المنتجب:"أي فعلنا ذلك في هذه الغنائم، أو بيّنا ذلك لئلا يغلب الأغنياء على الفقراء على الفيء"(45/172)
وقال تعالى: {إذْ تَمْشي أُخْتُكَ فَتَقولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَن يَّكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتوناً فَلَبِثْتَ سِنينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَّا موسى} .
وقال تعالى: {فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَّلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمونَ} .
وقال تعالى: {وَأَشْرِكْهُ في أَمْري كَيْ نَسَبِحَكَ كَثيراً} .
يجوز في الآيات الكريمة السابقة أن تكون لام كي محذوفة والتقدير: لكي تقر عينها، ولكي نسبحك، والمصدر منصوب على نزع الخافض كما سبق في آية الحشر.
المبحث الثاني: نزع الخافض سماعاً في القرآن:
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: نزع الخافض من المفرد:
نزع الخافض من المفرد موقوف على السماع، كما سبق ذكره، وقد جاءت آيات في القرآن كثيرة قال عنها عددٌ من النحاة، والمفسرين، والمعربين له بأنها منزوعة الخافض، وذلك مع أفعال لازمة، أو مما يتعدى لواحد بنفسه، وللثاني بالحرف، في غير المسائل القياسية الآنفة الذكر، منها قوله تعالى: {وَاللاتي تَخافونَ نُشوزَهُنَّ فَعِظوهُنَّ وَاهْجُروهُنَّ في المَضاجِعِ وَاضْرِبوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغوا عَلَيْهِنَّ سَبيلاً إنَّ اللهَ كانَ عَلِيّاً كَبيراً} .
يتوقف إعراب {سِبيلاً} على معرفة أصل اشتقاق الفعل (بغى) فإن أُخِذَ من (البَغْي) وهو الظُّلم فهو لازم وتكون كلمة (سيبلاً) حينئذٍ منزوعةَ الخافض والمعنى فلا تظلموهنَّ.(45/173)
وإنْ فُسِّر الفعل (بغى) بـ (طلب) يقال بغيت الأمر أي طلبته، فالفعل حينئذٍ متعدٍّ بنفسه ويكون (سبيلاً) معمولاً له، والمعنى: لا تطلبوا عليهن ذنوباً تعنتاً لتتوصلوا بها إلى سبيل من السبل الثلاثة المتاحة لكم وهي: الوعظ، والهجر، والضرب التي كانت مباحة لكم وقت نشوزهن، أو الخوف من نشوزهن.
واختتام الآية الكريمة بـ {علياً كبيراً} غاية في البلاغة والإعجاز، ففيه إعلام للأزواج الذين منحهم الله صفة القوامة والعلو على أزواجهم بأن هذه صفة محكومة بأمر الله، وتوصيتهم بعدم الظلم والإسراف فيما أبيح لهم، فلا تستعلوا عليهنّ ولا تتكبروا، وتنبيه لهم بخفض الجناح ولين الجانب، وإشارة إلى أن قدرة الله فوق قدرتهم عليهنّ، وتذكيرهم بأن العلو والكبر من صفات الله تعالى.
وقال تعالى: {وَقالوا كونوا هوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْراهيمَ حَنيفاً وَّما كان مِنَ المُشْرِكينَ} .
قراءة الجمهور بنصب: (مِلَّةَ) ، وقرئ في الشواذ برفع (مِلَّةُ) ، وتوجَّه قراءة الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره بل الهَدْيُ ملةُ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره بل ملةُ إبراهيم حنيفاً هدْيُنا.
وفي توجيه قراءة النصب أربعةُ أقوال:
الأول: أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره بل نتَّبِعُ ملةَ إبراهيم.
الثاني: أنه منصوب على الإغراء أي: عليكم ملةَ إبراهيم، وبه قال أبو عبيدة.
الثالث: أنه منصوب على أنه خبر لـ (نكون) محذوفة، والمعنى حينئذٍ بل نكون أهلَ ملَّةِ إبراهيم، أو أصحابَ ملَّةِ إبراهيم، فحذف المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مُقامه وهو رأي الفراء، والأخفش، والزجاج، والزمخشري.
الرابع: أنه منصوب على نزع الخافض والمعنى نقتدي بملة إبراهيم.
فالوجه الأول والثاني من هذه الأقوال واحد وهو أنه مفعول به ولكن العامل مختلف، والوجه الرابع مفعول به توسعاً بعد نزع الخافض، والثالث خبر كان.(45/174)
والوجه الرابع عندي ضعيف، لأن نزع الخافض مع غير أنْ وأنَّ وكي غير قياسي، ولا ينبغي حمل إعراب الآيات على وجه ضعيف، ما أمكن حملها على وجه أقوى منه، ولاسيما أن من الأوجه ما يدعمه السياق.
وقال تعالى: {إنَّ الصَّفا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَو اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أن يَّطّوَفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيراً فَإنَّ اللهَ شاكِرٌ عَليمٌ} .
وقال تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أيَّامٍ أُخُرَ وَعَلى الَّذينَ يُطيقونَه ُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُوموا خَيْرٌ لَّكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ} .
في توجيه نصب (خيراً) في الآيتين الكريمتين أربعة أقوال:
الأول: أنه منصوب على نزع الخافض، أي: تطوّع بخير فنزع الخافض، وانتصب (خيراً) ، وتعضد هذا الوجهَ قراءةُ ابن مسعود: (ومن تطوع بخير) .
الثاني: منصوب على تضمين الفعل (تطوّع) معنى (فَعَلَ) فيكون المعنى ومن فَعَلَ خيراً.
الثالث: مفعول مطلق نائب عن المصدر الأصلي، لأنه وصف له في الأصل، والتقدير ومن يتطوّع تطوّعاً خيراً فحذف المصدر وحلت صفته محله.
الرابع: إذا قدر المصدر المحذوف معرفة فـ (خيراً) حال منه، والتقدير ومن تطوّع تطوّعه خيراً فإن الله شاكر عليم.
وقال تعالى: {وإنْ عَزَموا الطَّلاقَ فَإنَّ اللهَ سَميعٌ عَليمٌ}
وقال تعالى: {وَلا تَعْزِموا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتابُ أَجَلَهُ} .
الفعل عزم لازم، يتعدَّى بـ (على) ، قال في القاموس: "عزم على الأمر يعزِم عزماً ويضمّ ومعزماً كمقعَد ومجلِس وعُزْماناً بالضم وعزيماً وعزيمة واعتزمه وعليه وتعزّم أراد فعله".
وقال الشاعر:
عَزَمْتُ عَلى إقامِةِ ذي صَباحٍ
لأمْرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسودُ(45/175)
فـ (الطلاق) في الآية الأولى، و (عقدة) في الآية الثانية منصوبان على نزع الخافض، والأصل - والله أعلم - وإن عزموا على الطلاق، ولا تعزموا على عقدة النكاح، فحذف الخافض، وانتصب معموله.
ويجوز أن يضمّن الفعل (عزم) معنى الفعل (نوى) فينتصب ما بعده مفعولاً به.
وقال تعالى: {وَلَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرّاً إلاّ أنْ تَقولوا قَوْلاً مَعْروفاً} .
في انتصاب (سِرّاً) مع الفعل (واعد) ستة أوجه ذكرها العلماء، وقدّروا في بعضها مفعولاً محذوفاً وهو لا تواعدوهنّ نكاحاً سراً:
الأول: أنه مفعول ثانٍ للفعل (واعد) .
والثاني: أنه حال من فاعلِه أي لا تواعدوهنّ مستخفين.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف والتقدير: لا تواعدوهنّ مواعدةً سرّاً.
الرابع: أنه حال من ذلك المصدر المحذوف مع جعل المصدر معرفه والتقدير: المواعدة مستخفية.
الخامس: أنه منصوب على الظرفية أي في سرٍّ.
السادس: أن يكون منصوباً على نزع الخافض والتقدير على سرٍّ، وذلك عند من فسّر السر بالجماع، ذكر هذا المنتجب، وابن هشام، وعزاه للأخفش.
وقال تعالى: {وإنْ كُنْتُم مَّرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا ماءً فَتَيَمَّموا صَعيداً طَيِّباً} .
الفعل: (تَيَمَّمَ) سمع من العرب متعدياً بنفسه قال خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ:
تَيَمَّمْتُ كَبْشَ القَوْمِ حَتَّى عَرَفْتُهُ
وَجانَبْتُ شُبَّانَ الرِّجالِ الصَّعالِكا
فإنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصيبَ صَميمُها
فَعَمْداً عَلى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مالِكا
وقال الأعشى:
تَيَمَّمْتُ قَيْساً وَكَمْ دُوْنَهُ
مِنَ الأرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ
وقال كُثيِّر عَزَّة:
تَيَمَّمْتُ لِهْباً أَبْتَغِي العِلْمَ عِنْدَهُمْ
وَقَدْ رُدَّ عِلْمُ العائِفِينَ إلى لِهْبِ
قال امرؤ القيس:
تَيَمَّمَتِ العَيْنَ الَّتي عِنْدَ ضارِجٍ
يَفِيءُ عَلَيْها الظِّلُّ عِرْمِضُها طامِ
وقال ذو الرُّمَّة:(45/176)
تَيَمَّمْنَ عَيْناً مِنْ أُثالٍ نَميرَةً
قَموساً يَمُجُّ المُنْقِضاتِ احْتِفالُها
ولو ذهبتُ أتتبعُ الشواهد الشعرية في تعدية الفعل (تَيَمَّمَ) عند العرب لطال البحث وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقال ابن السكيت: "أَصْلُ التَّيَمُّم: القصد، ويقال تيمّمته إذا قصدت له، قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً} أي اقصدوا لصعيد طيّب، ثم كثر استعمالهم هذه الكلمة حتى صار التيمُّم مسح الوجه واليدين بالتراب".
والياء في تيمّم منقلبة عن همزة، وأصل الفعل: (أمَّ) بمعنى قصد يقال أمَّه يؤمُّه أمّاً بمعنى قصده.
ومع أن الفعل استعمل متعدِّياً كما رأينا في الشواهد السابقة إلا أننا نجد من المعربين للقرآن من أجاز أن تكون (صعيداً) منزوعة الخافض، قال أبو البقاء: "صعيداً مفعول تيمّموا، أي: اقصدوا صعيداً، وقيل: هو على تقدير حذف الباء أي: بصعيد".
وقال المنتجب: "وقيل: هو على تقدير حذف الباء أي بصعيد، وقيل هو ظرف وهذا على قول من جعل الصعيد الأرض، أو وجه الأرض، والوجه هو الأول وعليه المعنى والإعراب"
وقال السمين:"وصعيداً مفعول به لقوله تيمّموا أي اقصدوا، وقيل: هو على إسقاط حرفٍ أي: بصعيد، وليس بشيء لعدم اقتياسه".
وقال الجمل: "وصعيداً مفعول به لقوله فتيمّموا أي اقصدوا، وقيل هو على إسقاط حرف أي لصعيد، وليس بشيء لعدم انقياسه".
وقال تعالى: {قالَ فَبِما أَغْوَيْتَني لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُسْتَقيمَ} .
جاءت كلمة (صراطَ) في الآية منصوبة، والفعل الذي يطلبها هو (قَعَدَ) ، وهو لازم، وللنحاة في توجيه نصبها ثلاثة أقوال:
الأول: أنه منصوب على إسقاط الخافض وهو رأي الأخفش قال: (أي على صراطك، كما تقول توجه مكة أي: إلى مكة وقال الشاعر:
كَأَنِّيَ إذْ أسْعى لأظْفَرَ طائِراً
مَعَ النِّجْمِ في جَوِّ السَّماءِ يُصَوِّبُ(45/177)
يريد: لأظفر بطائر، فألقى الباء، ومثله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} يريد عن أمر ربكم".
ووافقه الزجاج، وحكى الإجماع على ذلك قال: "لا اختلاف بين النحويين في أنَّ (على) محذوفة، ومن ذلك قولك ضُرِبَ زَيدٌ الظهرَ والبطنَ".
الوجه الثاني: أنَّه منصوب على الظرفية المكانية: وإليه مال الفراء قال: "المعنى - والله أعلم- لأقعدنَّ لهم على طريقهم، أوفي طريقهم، وإلقاء الصفة من هذا جائز، كما قال قعدت لك وَجْهَ الأرض، وعلى وجه الأرض، لأن الطريق صفة في المعنى فاحتمل ما يحتمله اليوم والليلة والعام إذا قيل آتيك غداً أو في غدٍ".
القول الثالث: هو مفعول به للفعل: (لأقعدنَّ) لأنه قد ضمِّن معنى (لألزمنَّ) ذكره أبوحيّان، والسمينُ وغيرهم.
واسْتضعفَ الرأيُ الأولُ، لأن حذف حرف الجر هنا ليس من مواضع القياس.
وضُعّف القول الثاني، لأن الصراط ظرف مكان مختص، وظروف المكان المختصة لايصل إليها الفعل إلابواسطة حرف الجر.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَّالقَمَرَ نوراً وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَموا عَدَدَ السِّنينَ وَالحِسابِ ما خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالحقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَّعْلَمونَ} .
الضمير في: {قَدَّرَهُ} قيل: إنه منصوب على نزع الخافض، و {مَنازِلَ} مفعول به للفعل قدّر، والفعل (قدّر) حينئذٍ على بابه، والمعنى: والقمر قدّر له منازل، قال أبو جعفر النحاس:" {وقَدَّرَهُ مَنازِلَ} : بمعنى: وقدّر له، مثل: وإذا كالوهم"، ووافقه أبو البقاء، والمنتجب، وأبو حيّان والسمين.(45/178)
ويصح أن يكون الضمير مفعولاً به، ومنازل حينئذٍ إما ظرف مكان أي: قدّر القمر في منازل، ويشكل أن العامل في الظرف ليس من مادته، أو مفعولٌ به ثانٍ بعد حذف مضافٍ وإحلال المضاف إليه محلّه، وذلك إذا ضمّن الفعل قدّر معنى صيّر، والمعنى صيّر القمر ذا منازل، أو حال من الضمير إذا فسّر قدّر بـ (خلق أو هيَّأ) ، والمعنى خلق الله القمر متنقلاً.
وقال تعالى: {وَاسْتَبَقا البابَ وَقَدَّتْ قَميصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ} الفعل (استبق) بمعنى (تسابق) فهو لازم يتعدى بـ (إلى) ، فـ (البابَ) في الآية الكريمة منصوب إمّا على نزع الخافض، وإما على تضمين (استبق) معنى (ابتدر) ، ونزع الخافض هنا ليس قياسياً، والتضمين في قياسيته كلام.
وقال تعالى: {آتُوني زُبَرَ الحَديدِ} .
قرأ أبوبكر شعبةُ بنُ عيّاش عن عاصم (ايتوني) بهمزة وصل ثم ياء منقلبة عن همزة هي فاء الكلمة من (أتى يأتي) من المجيء، والفعل: (أتى) يتعدَّى لواحد بنفسه فعلى هذه القراءة يكون الفعل قد استوفى معموله في ياء المتكلم، وكلمة (زُبَرَ) على هذه القراءة منصوبةٌ على نزع الخافض والتقدير: ايتوني بزبر الحديد.
وقرأ الباقون: (آتوني) من الإيتاء وهو الإعطاء، والفعل حينئذ يتعدى إلى مفعولين الأول ياء المتكلم، والثاني (زبر) وعليها فلا شاهد في الآية.
وقال تعالى: {وَقالَ الّذينَ كَفَروا إنْ هَذا إلاَّ إفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرونَ فَقَدْ جاءوا ظُلْماً وَّزُورا} .
الفعل: (جاء) سمع متعدياً بنفسه كقوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَّقينٍ} ، وقوله تعالى: {وَجاءَ السَحَرَةُ فِرْعَوْنَ} (1) وسمع لازماً كقوله تعالى: {جاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ} (2) تعالى: {مَنِ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِهَا} (3) صاحب التاج: "ويرد في كلامهم لازماً ومتعدياً".
__________
(1) النمل: 22.
(2) اف: 113.
(3) ف: 100.(45/179)
فعلى كون الفعل متعدياً يصحّ في إعراب (ظلماً) وجهان:
الأوّل: أنها مفعول به للفعل جاء.
والثاني أنها حال في تأويل مصدر باسم فاعل أي: ظالمين، أو على حذف مضاف أي ذوي ظلم، أو جعل المصدر حالاً على حدّ: (طلع زيد بغتة) وكقوله تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتينَكَ سَعْياً} وقوله تعالى: {ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً} (1)
وعلى كونه لازماً فلها توجيهان أيضاً: الأول: أنها منصوبة على نزع الخافض، أي: جاءوا بظلم وزور، ومال إلى هذا الوجه جماعة من المفسرين.
والثاني: أنه حال من فاعل جاء بحسب التوجيه السابق.
وقال تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ} .
{مَثَلاً} :في الآية الكريمة مفعول لـ {ضَرَبَ} ، و {رَجُسلاً} بدل منه، واختار هذا العكبري والمنتجب.
وروى أبو حيّان والسمين: أنَّ الكسائي قال: "انتصب رجلاً على إسقاط الجار أي: لرجل، أو في رجل".
وقال تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَميمٌ حَميماً} .
الجمهور على قراءة الفعل (يَسأل) بالبناء للفاعل فـ (حميماً) مفعول به أوّل لـ (يَسْأَلُ) أي يسأله عن حاله لما هو فيه من الشغل بنفسه، أو لا يسأله شفاعة، أو لا يسأله نُصْرَةً ومَنفعةً، أو لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئاً، وقيل بل هو منصوب على نزع لخافض أي: لا يسأل حميمٌ عن حميمٍ.
__________
(1) البقرة: 260.(45/180)
وقرأ ابن كثير بروايةٍ عنه، وأبو جعفر، وأبو حيوة، وشيبة، والبزي بالبناء للمفعول: (يُسْأَلُ) فـ (حميماً) منصوب على نزع الخافض أي: عن حميمٍ، قال أبو علي الفارسي: "من ضمّ فقال: {لا يُسْأَلُ حَميمٌ حَميماً} فالمعنى- والله أعلم -: لا يُسألُ حميمٌ عن حميمه ليُعرفَ شأنُه من جهته كما قد يُتعرّف خبرُ صديق من جهة صديقه، والقريب من قريبه، فإذا كان كذلك، فالكلام إذا بنيت الفعل للفاعل: سألتُ زيداً عن حميمه، وإذا بنيت الفعل للمفعول قلت: سُئل زيدٌ عن حميمه، وقد يحذف الجار فيصل الفعل إلى الاسم الذي كان مجروراً قبل حذف الجار فينتصب بأنه مفعول الاسم الذي أسند إليه الفعل المبني للمفعول به فعلى هذا انتصاب قوله حميم حميماً".
وقال تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوى} .
وقال تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنَّ وَالسَّلوى} .
الفعل (ظَلَّلَ) المضعّف: يتعدى إلى واحد بنفسه وللثاني بالحرف ومثاله قول الشاعر:
قامَتْ تُظَلِّلُنِيْ مِنَ الشَّمْسِ
نَفْسٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسي
قامَتْ تُظَلِّلُنِيْ وَمِنْ عَجَبٍ
شَمْسٌ تُظَلِّلُنِيْ مِنَ الشَّمْسِ(45/181)
ذهب جمهرة من المفسرين: إلى أنَّ الغمام في الآية إنما هو آلة الظل، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به، لأنه لم يقع عليه فعل الفاعل، إلا بتأويل: جَعَلْنا الغمامَ عليكم طبقات، فالطبقة العليا تُظِلُّ التي أسفل منها، ولهذا حكموا عليه بأنه منزوع الخافض أي ظَلَّلَناكم بالغمام، أشار إلى ذلك أبو البقاء، ومنع أن يكون الفعل متعدياً إلى الغمام بنفسه، لأنه لم يقع عليه فعل الفاعل، وقال أبوحيّان:"مفعول على إسقاط حرف الجر، أي بالغمام كما تقول ظلَّلْتُ على فلان بالرداء، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظُلَلاً، فعلى هذا الوجه الثاني يكون (فَعَّل) فيه بجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم: عدَّلت زيداً أي: جعلته عدلاً فكذلك هذا، معناه: جعلنا الغمام عليكم ظُلّة، وعلى الوجه الأول تكون (فَعَّل) فيه بمعنى أفعل، فيكون التضعيف أصله للتعدية ثم ضمِّن معنى فِعْلٍ يُعدَّى بـ (على) فكأن الأصل: وظلَّلناكم أي أظللناكم بالغمام"، ويرى السمين أنَّ الغمام مفعول به للفعل ظَلَّلَ على تضمين (ظلَّل) معنى (جَعَلَ) ، وحكى قول أبي البقاء السابق، وقال عنه: إنه تفسير معنى لا إعراب وعلَّل ذلك بقوله: "لأن حذف حرف الجر لا ينقاس"، وقال المنتجب: "أي: جعلنا الغمام يُظِلُّكُم".
وعلى هذا نجد أن أبا البقاء، وأبا حيان يذهبان إلى أن الغمام منصوب على نزع الخافض، وأن المنتجب والسمين يذهبان إلى تضمين الفعل (ظلَّل) معنى الفعل (جعل) ، والتضمين - وإن نودي بقياسيته - إلا أنه محكوم بأضيق نطاق، ونزع الخافض في الآية ليس من مواطن القياس فكلاهما على المشهور غير قياسي، ولعلَّ مما يرجح التضمين على القول بنزع الخافض أن الفعل (ظلَّل) عُدِّي إلى المفعول به بـ (على) مع أنه - في الأصل- متعدّ بنفسه، ولم يكن السياق ظلّلناكم بالغمام، لأن (جعل) يتعدى للثاني بـ (على) فلمّا ضمَّن ظلَّل معنى جعل عُدّي بالحرف الذي يتعدى به جعل.(45/182)
المطلب الثاني: دراسة التعليق والجمل التي بعده:
التعليق هو: إبطال العمل لفظاً لا محلاًّ، لمجيء ما له صدر الكلام بعد الفعل المعلَّق، والأصل اختصاصه بأفعال القلوب المتصرفة، وليس كلّ قلبيٍّ يُعلَّق، ألا ترى أن: أحبّ، وكره، وأبغض، وأراد أفعال قلبية ولا أعلم أحداً قال بأنها عُلّقت، وذكر العلماء أفعالاً عُلِّقت وهي ليست قلبية: كنظر، وأبصر، وسأل، لتلطِّفهم في معانيها بما يتلاءم مع الأفعال القلبية.
ومن الأدوات المعلِّقة: لام الابتداء، ولام القسم، وأدوات النفي: (ما، ولا، وإنْ) ، والاستفهام، وإنَّ المشدّدة المكسورة التي في خبرها اللام.
والجملة المعلَّقة في محل نصب على نزع الخافض إنْ كان الفعل الذي قبلها لازماً، وفي موضع نصب إن كان يتعدَّى إلى واحد، وسادَّة مسدَّ المفعولين إن كان يتعدّى إلى مفعولين، قال ابن مالك: "والجملة بعد المعلِّق في موضع نصب بإسقاط حرف الجرّ إن تعدّى به، وفي موضع مفعوله إن تعدى إلى واحد، وسادة مسدّ مفعوليه إن تعدى إلى اثنين، وبدل من المتوسط بينه وبينها إن تعدّى إلى واحد، وفي موضع الثاني إن تعدّى إلى اثنين ووجد الأول".
وقال ابن عصفور: "وإذا عُلِّق الفعلُ فلا يخلو أن يكون من باب ما يتعدّى إلى واحد بحرف جرّ نحو: فكَّرت، أو من باب ما يتعدّى إلى واحد بنفسه نحو: عرفت، أو من باب ما يتعدّى إلى اثنين أصلهما المبتدأ والخبر نحو: علمت، فإن كان من باب ما يتعدّى إلى واحد بحرف الجر كانت الجملة في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجرّ".
وقال الرضي:"الجملة بعد الفعل المعلَّق في موضع النصب، وهي: إمّا في موضع مفعولٍ يُنصب بنزع الخافض، وذلك بعد كلّ فعل يقيد الشك".(45/183)
وألحقَ بعضُ العلماء بالأفعال القلبية في التعليق مع الاستفهام خاصة: "نظر سواء أكانت بصرية أم قلبية، وأبصر، وتفكَّر، وسأل، ونسي، ونبّأ، وأنبأ"، قال ابن مالك عن تعليق الأفعال القلبية: "ويشاركهنّ فيه مع الاستفهام: نظر، وأبصر، وتفكّر، وسأل، وما وافقهن، أو قاربهن، لا ما لم يقاربهن خلافاً ليونس، وقد تعلَّق نَسِيَ"، وقال: "وعُلِّقَ أيضاً مع الاستفهام نظر بالعين، أو بالقلب، وأبصر، وتفكَّر، وسأل. وأشرت بما وافقهن إلى نحو: أما ترى أيُّ برق هاهنا؟ بمعنى: أما تبصر حكاه سيبويه، وإلى نحو: {وَيَسْتَنْبِئونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} ، وأشرت بما قاربهن إلى نحو: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (1) وعُلِّق نسي، لأنه ضد علم، والضد قد يحمل على الضد".
المطلب الثالث: نزع الخافض من الجمل المعلّقة في القرآن:
قال تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أنَّى يُؤْفَكُونَ} .
الفعل (نظر) لازم، يتعدّى بـ (إلى) ، وقد عُلِّق عن العمل في الجملتين بـ (كيف) و (أنَّى) ، وجملتا (كيف نبيّن لهم الآيات) و (أنَّى يؤفكون) في محل نصب على نزع الخافض ونظر هنا قلبية.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّروا ما بِصاحِبِهِمْ مِّنْ جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نّذيرٌ مُّبينٌ} .
قال أبو حيّان: "الظاهر أن: {يَتَفَكَّروا} مُعلّق عن الجملة المنفية، وهي في موضع نصب بـ (يتفكروا) بعد إسقاط حرف الجر، لأن التفكُّر من إعمال القلوب، فيجوز تعليقه".
وقال تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضيلاً} .
__________
(1) نس: 53.(45/184)
جملة: {كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} جعلها أبو حيّان منصوبة على نزع الخافض، فقال عنها: "في موضع نصب بعد حذف حرف الجرّ، لأن نظر يتعدَّى به، فانظر هنا معلَّقة، ولمّا كان النظر مفضياً وسبباً إلى العلم جاز أن يعلَّق" ونظر هنا يصح أن تكون قلبية وبصرية.
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أيُّها أَزْكىطَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} .
(أيُّها) :يصح أن تكون استفهاماً فهي مبتدأ، خبره (أزكى) ، والجملة في محل نصب على نزع الخافض لـ (ينظر) ، لأن الفعل (نظر) لازم يتعدى بـ (إلى) ، ويصح أن تكون موصولاً، فهي مفعول لـ (ينظر) على نزع الخافض أيضاً، و (أزكى) خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديره: هو أزكى، و (نظر) هنا بصرية.
وقال تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبينَ} .
قال أبو حيّان: جملة {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبينَ} عُلِّق عنها: (سننظر) ، وهي في محل نصب على نزع الخافض، و (نظر) هنا يصِحّ أن تكون قلبية وبصرية.
وقال تعالى: {فَانْظُرِيْ ماذا تَأْمُرينَ} .
جملة {ماذا تَأْمُرينَ} في موضع نصب على نزع الخافض، والفعل مُعلَّق عنها بسبب الاستفهام ونظر هنا قلبيه.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّروا في أَنْفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إلاَّ بالحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمَّى} .
(ما) : نافية، والجملة بعدها يصح أن تكون استئنافية، فلا محل لها من الإعراب.
ويصحّ أن تكون منصوبة على نزع الخافض.
وأُجيز - على ضعف- أن تكون (ما) استفهامية بمعنى النفي، والجملة بعدها فيها الوجهان السابقان.
وقال تعالى: {قُلْ إنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أنْ تَقوموا لله مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّروا ما بِصاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ} .
الفعل: (تتفكّر) لازم يتعدّى بالحرف، والجملة المنفية {ما بصاحبكم من جنة} أجيز أن تكون استئنافية فلا محل لها من الإعراب.(45/185)
وأجيز أن تكون في محل نصب على نزع الخافض وهو مَحَطُّ التفكر، أي: ثم تتفكروا في انتفاء الجنة عن محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {عَلى الأَرائِكِ يَنْظُرونَ هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ ما كانوا يَفْعَلونَ} .
قال السمين:" {هَلْ ثُوِّبَ} يجوز أن تكون الجملة الاستفهامية مُعَلِّقة للنظر قبلها فتكون في محل نصب بعد إسقاط الخافض، ويجوز أن تكون على إضمار القول أي: يقولون: هل ثُوِّبَ الكفار"
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ} .
الاستفهام مُعلِّق للفعل عن العمل، وجملة (مم خلق) في محل نصب بالفعل (فلينظر) على نزع الخافض، ونظر هنا قلبية.
المطلب الرابع: المفعول الثاني منصوب على نزع الخافض والفعل معلّق عنه:
قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
{أيُّكم أحسنُ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب مفعول ثانٍ بعد إسقاط الخافض، والاستفهام مُعلِّق للفعل، قال الزمخشري:"فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلتُ: لِمَا في الاختيار من معنى العلم، لأنه طريق إليه فهو ملابس له كما تقول: انظر أيهم أحسن وجهاً، واسمع أيهم أحسن صوتاً، لأن النظر والاستماع من طُرُق العلم"
وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَناتُ وَلَهُمُ البَنونَ} .
أجاز الدماميني أن يكون الفعل (استفتى) مُعلَّقاً عن العمل بالاستفهام، وجملة: (ألربك البنات) في موضع نصب على نزع الخافض قال:"الظاهر أن هذه الجملة المقترنة بالهمزة في محل مفعول مقيّد بالجار على ما قرروه، والفعل مُعلّق، لأن الاستفتاء طريق العلم كالسؤال فجاز تعليقه كما علّق فِعْلُ السُّؤال نحو {سَلْهُم ْأَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعيمٌ} ".
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُناديهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهيدٍ} .
الفعل: (آذن) يتعدَّى لواحد بنفسه وللثاني بالباء يقال آذنته بالسفر بمعنىأعلمته به قال الشاعر:
آذَنَتْنا بِبَيْنِها أَسْماءُ(45/186)
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّواءُ
وقد أجاز أبو حيّان وجماعة تعليق الفعل (آذن) في الآية الكريمة، لأنه بمعنى أعلم، وأعلم يعلّق فما كان بمعناه يأخذ حكمه قال في تفسير الآية الكريمة: "وآذنّاك معلّق، لأنه بمعنى الإعلام، والجملة من قوله: {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} في موضع المفعول، وفي تعليق باب أعلم خلافٌ، والصحيح أنه مسموع من كلام العرب"، وقال السمين: " {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} هذه الجملة المنفية معلِّقة لـ (آذناك) ،لأنها بمعنى أعلمناك، وتقدّم لنا خلاف في تعليق أعلم، والصحيح وقوعه سماعاً من العرب".
وقال تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعيمٌ} .
أجاز أبو حيان والسمين أن تكون جملة (أيُّهم بذلك زعيمٌ) في محل نصب على نزع الخافض مفعول ثانٍ لـ (سأل) ، لأن (سأل) إذا كان بمعنى استفهم تعدَّى للثاني بـ (عن) ، أو بـ (الباء) قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها} وقال تعالى: {ويَسْأَلونَكَ عَنِ ذي القَرْنَيْنِ} (1) وقال تعالى: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} (2)
وقال علقمة الفحل:
فَإنْ تَسْأَلونِي بالنِّساءِ فَإنَّني
بَصيرٌ بِأَدْواءِ النِّساءِ طَبيبُ
وإن كان (سأل) بمعنى (طلب) نصب الثاني بنفسه نحو قوله تعالى: {قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِلعالَمِينَ} وقوله تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعاقِبَةُ للتَّقْوى} (3) وقوله تعالى: {وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً} (4) وقوله تعالى: {قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ في القُرْبى} (5)
وقال الشاعر:
فَلَوْ أَنْكِ في يَوْمِ الرَّخاءِ سَأَلْتِنِي
طَلاقَكَ لَمْ أَبْخَلْ وَأَنْتِ صَدِيقُ
__________
(1) الأعراف: 187.
(2) الكهف: 83.
(3) الأنعام: 90.
(4) طه: 132.
(5) الأحزاب: 53.(45/187)
قال الدماميني:"ألا ترى أن سأل التى يراد بها طلب العلم لا المال إنما يتعدى إلى الثاني بالجار".
فـ (أيهم) في قوله تعالى: {سَلهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعيمٌ} معلّق لـ (سلهم) ، لكونه سبباً في العلم.
ويشكل قول الفيروز أبادي:"سأله كذا وعن كذا وبكذا بمعنى"، إذ جعل (سأل كذا) وهو متعدٍّ للثاني بدون واسطة، بمعنى (سأله عن كذا وبكذا) وهو متعدٍّ للثاني بالحرف، ويمكن توجيه كلامه بأن سأل تفيد الطلب حيثما كانت فالأولى تفيد طلب المال ونحوه، والثانية تفيد طلب العلم ونحوه، وهذا معنى كلام الدماميني السابق (طلبُ العلمِ لا المالِ) إذ الجميع طلب.
وقال تعالى: {وَما أَدْراكَ ما الحاقَّةُ} .
وتكرر هذا الأسلوب في ثلاث عشرة آية.
ذهب جماعة من المفسرين للقرآن والمعربين له إلى أن الفعل (أدرى) في الآية الكريمة السابقة نصب (الضمير) مفعولاً أوَّلاً بنفسه، وعُلِّق عن العمل في الجملة التي بعده بالاستفهام، وهي عندهم في محلِّ نصب على نزع الخافض، بناءً على أن الأشهر في الفعل (درى) أن يصل إلى المفعول به بواسطة حرف الجر، فإذا صحبته همزة النقل - كما هو الحال في الآية الكريمة السابقة - نصب الأول بنفسه، والثاني بالباء، قال أبو حيّان:" (ما) : مبتدأ، والحاقة: خبر، والجملة في موضع نصب بـ (أدراك) ، و (أدراك) معلَّقة، وأصل (دَرى) أن يتعدَّى بالباء، وقد تُحْذف على قلة، فإذا دخلت همزة النقل تعدَّى إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، فقوله: {ما الحاقَّةُ} بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر" اه.
وقال السمين: "قوله: {ما الحاقَّةُ} : في موضع نصب على إسقاط الخافض، لأن (أدرى) بالهمزة يتعدَّى لاثنين، الأول بنفسه، والثاني بالباء قال تعالى: {ولا أَدْراكُمْ بِهِ} ، فلمَّا وقعت جملة الاستفهام معلِّقة لها كانت في موضع المفعول الثاني، ودون الهمزة تتعدَّى لواحد بالباء نحو: دَرَيْتُ بكذا، ويكون بمعنى (علم) فيتعدّى لاثنين".(45/188)
وذهبت طائفة أخرى إلى أن الفعل (أدرى) نصب الجملة المعلقة بنفسه قال مكي: " {وَما أَدْراكَ ما الحاقَّةُ} : ما مبتدأ، وما الثانية مبتدأ ثانٍ، والحاقة خبره، والجملة في موضع نصب بأدراك، وأدراك وما اتصل به خبر عن ما الأولى" وقال المنتجب: "ما الثانية مبتدأ ثانٍ والحاقة خبره، وأدرى تعدَّى إلى مفعولين فالكاف مفعول أول، والجملة مفعول ثانٍ".
هذا آخر ما منَّ الله بجمعه وأسأل الله أن يعلمنا ما جهلنا، وينفعنا بماعلمنا، ويزيدنا علماً، ويلهمنا رشدنا، وييسرلنا من أمرنا رشداً بمنه وكرمه، وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
فهرس المراجع والمصادر
- ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة لعبد اللطيف الزبيدي، تحقيق طارق الجنابي، عالم الكتب.
- ابن يعيش = شرح المفصل لابن يعيش.
- إتحاف فضلاء البشر لأحمد الدمياطي، مراجعه محمد علي الصباغ، دار الندوة بيروت.
- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية بيروت 1407هـ.
- أدب الكاتب لابن قتيبة، تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1405هـ.
- ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان، تحقيق رجب عثمان محمد، الخانجي، القاهرة 1418هـ.
- إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود، تحقيق عبد القادر عطا، مكتبة الرياض لا ط.
- أساس البلاغة للزمخشري، دار صادر بيروت: 1399هـ.
- أسرار البلاغة للجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة: 1412هـ.
- أسرار العربية لأبي البركات بن الأنباري، تحقيق محمد بهجت البيطار، مجمع اللغة بدمشق: 1377هـ.
- الأشباه والنظائر للسيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة بيروت: 1406هـ.
- الأشموني = منهج السالك إلى ألفية ابن مالك.(45/189)
- إصلاح المنطق لابن السكيت، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف الطبعة الثالثة.
- الأصول في النحو لابن السراج، تحقيق عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1405هـ.
- إعراب القرآن للنحاس، تحقيق زهير غازي زاهد، عالم الكتب بيروت 1405هـ.
- إعراب مشكل القرآن، مكي بن أبي طالب، تحقيق د حاتم الضامن، مؤسسة الرسالة ط الثالثة:1407هـ.
- الأغاني للأصفهاني، تحقيق عبد الستار فراج، الدار التونسية للنشر تونس 1983م.
- الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، لابن السيد البطليوسي، تحقيق مصطفى السقا وحامد عبد المجيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب1981م.
- الإقناع في القراءات السبع، لابن الباذش، تحقيق عبد المجيد قطامش، جامعة أم القرى 1403هـ.
- إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت: 1406هـ.
- الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات بن الأنباري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر بيروت.
- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام، مصطفى الحلبي، القاهرة 1403هـ.
- الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم الزجاجي، تحقيق مازن المبارك، دار النفائس بيروت: 1402هـ.
- الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني، تحقيق عليق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني: 1403هـ.
- البحر المحيط لأثير الدين أبي حيان، المكتبة التجارية مكة المكرمة 1412هـ.
- بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية، مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.
- البرهان في علوم القرآن للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة بيروت.
- بغية الوعاة للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية بيروت.
- البيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات بن الأنباري، تحقيق طه عبد الحميد، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1400هـ.
- تاج العروس للزبيدي، تحقيق علي شيري دار الفكر بيروت1414هـ.(45/190)
- التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري، تحقيق علي البجاوي، عيسى الحلبي 1976م.
- تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب للدماميني، بهامش المنصف من الكلام على مغني ابن هشام، المطبعة البهية بمصر 1305هـ.
- تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد، لابن هشام، تحقيق علي عباس دار الكتاب الربي 1406هـ.
- التذكرة في القراءات الثمان لابن غلبون، تحقيق د. عبد الفتاح بحيري إبراهيم، الزهراء بالقاهرة 1410هـ.
- تحرير التحبير لابن أبي الأصبع المصري، تحقيق د. حفني محمد شرف، لجنة إحياء الثراث الإسلامي بالقاهرة.
- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، دار الكتاب العربي 1387هـ.
- التصريح بمضمون التوضيح للشيخ خالد الأزهري، تحقيق د. عبد الفتاح بحيري إبراهيم، الزهراء 1418.
- تعليق الفرائد وتسهيل الفوائد لبدر الدين الدماميني، تحقيق د. محمد المفدى، مطابع الفرزدق بالرياض 1403هـ.
- تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل القرآن.
- تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن.
- تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق نخبة من العلماء، المؤسسة العامة للتأليف والنشر القاهرة: 1964م.
- التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، دار الكتاب العربي بيروت 1406هـ.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، دار الكتب العلمية بيروت 1408هـ.
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري، دار الفكر1405هـ.
- الجنى الداني في حروف المعاني للمرادي، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل، دار الآفاق بيروت 1403هـ.
- حاشية الدسوقي على مغني اللبيب لمحمد عرفة الدسوقي، مطبعة المشهد الحسيني 1386هـ.
- حاشية الصبان على الأشموني لمحمد على الصبان، عيسى البابى الحلبي.
- حاشية الشريف الجرجاني على تفسير الكشاف لعلى بن محمد الجرجاني، مطبعة مصطفى الحلبي:1392هـ.
- حاشية يس زين الدين العليمي على التصريح بمضمون التوضيح، عيسى البابي الحلبي لا ط.(45/191)
- حجة القراءات لابن زنجلة، تحقيق سعيد الأفعاني، مؤسسة الرسالة1402هـ.
- الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي، تحقيق بدر الدين قهوجي وبشير جويجاني، دارالمأمون 1413هـ.
- الحماسة لأبي تمام، تحقيق د. عبد الله عسيلان، جامعة الإمام محمد بن سعود 1401هـ.
- الحماسة للبحتري، تحقيق عليق كمال مصطفى، المطبعة الرحمانية بمصر 1929م.
- الحماسة البصرية لعلي بن حسن البصري، تحقيق مختار الدين أحمد، عالم الكتب 1401هـ.
- الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مصطفي البابي الحلبي 1356هـ.
- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لبعد القادر البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1979م.
- الخصائص لأبي الفتح بن جني، تحقيق محمد على النجار، دار الكتب المصرية 1371هـ.
- دراسات لأسلوب القرآن الكريم، للشيخ محمد عبد الخالق عضيمة، مطبعة حسان القاهرة.
- الدرر اللوامع لأحمد بن الأمين الشنقيطي، تحقيق عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة 1405هـ.
- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي، تحقيق د. أحمد الخراط، دار القلم دمشق1406هـ.
- ديوان ابن الرومي، تحقيق د. حسين نصار.
- ديوان أبي النجم العجلي، صنعة علاء الدين أغا، النادي الأدبي بالرياض1401هـ.
- ديوان الأعشى الكبير، شرح وتعليق محمد محمد حسين، مؤسسة الارسالة 1403هـ.
- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف 1964م.
- ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، تحقيق د. نعمان محمد أمين طه، دار المعارف الطبعة الثالثة.
- ديوان حاتم الطائي صتعة يحيى بن مدرك الطائي، تحقيق عادل سليمان جمال، الخانجي 1411هـ.
- ديوان الحارث بن حلزة، جمع أميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي بيروت1411هـ.
- ديوان خفاف بن ندبة السلمي (ضمن شعراء إسلاميون) صنعة نوري القيسى، عالم الكتب بيروت ط الثانية: 1405هـ.(45/192)
- ديوان ذي الرمة شرح أبي نصر الباهلي، تحقيق د. عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان بيروت 1402هـ.
- ديوان عباس بن مرداس السلمي جمع، د. يحيى الجبوري، مؤسسة الرسالة 1412هـ.
- ديوان علقمة الفحل بشرح الأعلم، تحقيق لطفي الصقال ودرية الخطيب، دار الكتاب العربي بحلب 1389هـ.
- ديوان عمر بن أبي ربيعة = شرح ديوان عمر.
- ديوان عمرو بن معدي كرب = شعر عمر بن معدي كرب.
- ديوان الفرزدق دار صادر بيروت 1385هـ.
- ديوان قيس بن الخطيم، رواية ابن السكيت، تحقيق د. ناصر الدين الأسد، مكتبة العروبة ط الأولى:1381هـ.
- ديوان كثير عزة جمع الدكتور إحسان عباس، دار الثقافة بيروت 1971م.
- ديوان المتلمس الضبعي، تحقيق د. حسن كامل الصيرفي، معهد المخطوطات العربية 1390هـ.
- ديوان منصور النمري = شعر منصور النمري.
- ديوان النابغة الجعدي = شعر النابغة الجعدي.
- ديوان النابغة الذبياني شرح الأعلم، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بالقاهرة: 1977.
- ديوان الهذليين = شرح أشعار الهذليين.
- رصف المباني في شرح حروف المعاني لأحمد بن عبد النور المالقي، تحقيق أحمد الخراط، دار القلم بيروت 1405هـ.
- السبعة في القراءات لابن مجاهد، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف الطبعة الثالثة 1980م.
- الشافي في علم القوافي لابن القطاع الصقلّي، تحقيق د. صالح بن حسين العايد، دار إشبيليا بالرياض 1418هـ.
- شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي، تحقيق د. محمد علي سلطاني، دار المأمون دمشق 1979م.
- شرح أشعار الهذليين لأبي سعيد السكري، تحقيق عبد الستار فراج، مكتبة العروبة بالقاهرة.
- شرح التسهيل لابن مالك، تحقيق د. عبد الرحمن السيد, ود. محمد بدوي مختون، هجر بالقاهرة1410هـ.
- شرح جمل الزجاجي لابن عصفور، تحقيق د. صاحب أبو جناح، وزارة الأوقاف العراقية 1980م.
- شرح ديوان جرير لمحمد إسماعيل الصاوي، دار الأندلس بيروت.(45/193)
- شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة، محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني 1384هـ.
- شرح الكافية لرضي الدين الإستراباذي، تحقيق يوسف حسن عمر منشورات جامعة قار يونس ليبيا 1398.
- شرح الكافية الشافية لابن مالك، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، جامعة أم القرى مكة المكرمة 1402هـ.
- شرح المفصل لابن يعيش، المطبعة المنيرية بالقاهرة 1928م.
- شروح التلخيص، دار الكتب العلمية بيروت لاط.
- شعر الشمردل اليربوعي (ضمن شعراء أمويّون الجزء الثاني) ، نوري حمودي القيسي 1396هـ.
- شعر عمروبن أحمر الباهلي، جمعه حسين عطوان، مطبوعات مجمع اللغة بدمشق.
- شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي، حمع مطاع الطرابيشي، مجمع اللغة بدمشق 1405هـ.
- شعر منصور النمري، جمع الطيب العشاش، مجمع اللغة بدمشق1401هـ.
- شعر النابغة الجعدي، منشورات المكتب الإسلامي بدمشق 1384هـ.
- شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح لابن مالك، تحقيق فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية بيروت.
- الصحاح للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، نسخة مصورة عن الطبعة الأولى.
- صحيح البخاري ت د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير الطبعة الرابعة1410هـ.
- صحيح مسلم، فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية إستانبول.
- الصناعتين لأبي هلال العسكري، تحقيق علي بن محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، الكتبة العصرية بيروت1406هـ.
- طبقات القراء = معرفة القراء الكبار.
- طبقات النحويين واللغويين لأبي بكر الزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
- عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، مصطفى البابي الحلبي ط الأولى: 1392هـ.
- عناية القاضي وكفاية الراضي، لشهاب الدين الخفاجي، دار الكتب العلمية 1407هـ.
- العين المنسوب للخليل بن أحمد، تحقيق مهدي الخزومي، وإبراهيم السامرائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت 1408هـ.
- عيون الأخبار لابن قتيبة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب.(45/194)
- غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري، عني بنشره ج برجشتراسر، دار الكتب العلمية بيروت 1402هـ.
- فتح الباري لابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية الطبعة الثالثة 1407هـ.
- فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية في علم التفسير، للشوكاني، ضبط عبد الرحمن عميرة، دار الوفاء المنصورة:1415هـ.
- الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، لسليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل، عيسى البابي الحلبي.
- الفريد في إعراب القرآن المجيد للمنتجب الهمذاني، تحقيق د. محمد النمر, وفؤاد مخيمر، دار الثقافة الدوحة1411هـ.
- الفصول في القوافي لمحمد بن سعيد بن الدهان النحوي، تحقيق د. صالح العايد، دار إشبيليا الرياض:1418هـ.
- في النحو العربي لسعيد الأفغاني، الكتب الإسلامي، دمشق: 1407هـ.
- القاموس المحيط للفيروز أبادي، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1406هـ.
- القوافي للأخفش، تحقيق د. عزة حسن، وزارة الثقافة السورية دمشق:1390هـ.
- القوافي للتنوخي، تحقيق د. عوني عبد الرؤف، مكتبة الخانجي 1987م.
- قيس ولبنى شعر ودراسة (ديوان قيس بن ذريح) للدكتور حسين نصار، دار مصر للطباعة 1979م.
- الكامل لأبي العباس المبرد، تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة 1406هـ.
- الكتاب لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977م.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، لجار الله الزمخشري، مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1392.
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، مكتبة المثنى بغداد.
- الكليات لأبي البقاء الكفوي ت. د. عدنان درويش, ومحمد المصري، دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة.
- اللباب في علل البناء والإعراب، لأبي البقاء العكبري، تحقيق غازي طليمات وعبد الإله نبهان، مطبوعات جمعة الماجد بدبي، الطبعة الأولى:1416هـ.
- لسان العرب لابن منظور، دار الفكر بيروت 1410هـ.(45/195)
- ما تلحن فيه العامة للكسائي، تحقيق د. رمضان عبد التواب، الخانجي بالقاهرة:1402هـ.
- المبسوط في القراءات العشر للأصبهاني، تحقيق سبيع حمزة حاكمي، دار القبلة جدة 1408هـ.
- مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي 1988م.
- مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي، ضبط إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت 1418هـ.
- المحرر الوجيز لابن عطية، تحقيق المجلس العلمي بفاس، وزارة الأوقاف المغربية1395هـ.
- مختصر في شواذ القراءات لابن خالويه، مكتبة المتنبي بالقاهرة.
- المزهر للسيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى وزملائه، دار التراث بالقاهرة الطبعة الثالثة.
- المسائل البغداديات أو المسائل المشكلة لأبي علي الفارسي، تحقيق صلاح الدين السنكاوي، مطبعة العاني بغداد 1983م.
- المسائل العسكرية لأبي علي الفارسي، تحقيق د. محمد الشاطر أحمد، مطبعة المدني 1403هـ.
- المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، تحقيق د. محمد كامل بركات، جامعة أم القرى 1400هـ.
- المقاصد الشافية للشاطبي (قطعة من الكتاب) ، تحقيق د. عياد الثبيتي، دار التراث مكة المكرمة 1417هـ.
- معاني القرآن للأخفش، تحقيق د. فائز فارس، دار البشير1401هـ.
- معاني القرآن للفراء، عالم الكتب بيروت.
- معاني القرآن وإعرابه للزجاج، تحقيق د، عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب 1408هـ.
- معاهد التنصيص للعباسي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب 1367هـ.
- معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي، ضيط أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت 1408هـ.
- المصباح المنير للفيومي، مكتبة لبنان 1987م.
- معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب.
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار للذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة 1404هـ.
- مغني اللبيب لابن هشام ت مازن المبارك ورفاقه، دار الفكر 1979م.(45/196)
- المقاصد النحوية للعيني "بهامش خزانة الأدب"طبعة بولاق.
- المقتضب لأبي العباس المبرد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، وزارة الأوقاف المصرية 1399هـ.
- المقرب لابن عصفور، تحقيق أحمد الجبوري, وعبد الله الجبوري، مطبعة العاني بغداد 1391هـ.
- المنصف من الكلام على مغني ابن هشام لأحمد الشمني، المطبعة البهية 1305هـ.
- منهج السالك لأثير الدين أبي حيّان، رسالة دكتوراه في الولايات المتحدة نسخة مصورة.
- منهج السالك إلى ألفية ابن مالك لعلي بن محمد الأشموني، عيسى البابي الحلبي.
- النحو الوافي عباس حسن دار المعارف بالقاهرة ط الثامنة.
- نزهة الألباء في طبقات الأدباء لا بن الأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر.
- النشر في القراءات العشر لابن الجزري، تحقيق صحيح علي محمد الضباع، دار الكتب بيروت.
- نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة معمر بن المثنى، دار الكتاب العربي بيروت.
- همع الهوامع للسيوطي، تحقيق عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية1394هـ.
- الوافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي، تحقيق فخر الدين قباوة، دار الفكر دمشق 1407هـ.
- يتيمة الدهر للثعالبي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة. السعادة 1375هـ.(45/197)
الأزد ومكانتهم في العربية
إعداد
الدكتور أحمد بن سعيد محمد قشاش
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيه العربي الأمي محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فالأزد جرثومة العرب، بلغوا من المجد قمته، ومن الشرف ذروته، حفظ التاريخ ذكرهم، ودون مجدهم، فهم أصحاب الجنتين في مملكة سبأ، وهم سادة العرب وملوكها بعد نزوحهم من اليمن وتفرقهم في أرجاء الجزيرة العربية. وبعد البعثة النبوية كان لهم في الإسلام بادرة عظيمة ومنزلة شريفة، إذ هم أول القبائل العربية إيمانًا بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقا برسالته، فآووه في أرضهم، ونصروه بأموالهم وأنفسهم. وهم في الفتوحات الإسلامية أصحاب مواقف مشرفة في رفع راية التوحيد ونشر الإسلام في أصقاع الأرض، ثم كان منهم العلماء والشعراء الذين أثروا الثقافة العربية والإسلامية.
وعُرف الأزد بالفصاحة، فكانوا من أفصح الناس لسانًا، وأعذبهم بيانًا، اعتُمد على لغاتهم في أخذ اللسان العربي، وظهر أثرها الواضح في ألفاظ القرآن الكريم وقراءاته، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أثر عنهم من أقوال وأشعار وأمثال. كما كانت لغاتهم من مصادر الاحتجاج اللغويّ والنحويّ عند علماء العربية وغيرهم.
ولما كان أمرهم كذلك، رأيت أن يكون بحثي هذا عن (الأزد ومكانتهم في العربية)
وقد أدخلت تحت هذا العنوان كل بطون الأزد التي نزحت من موطنها الأول مأرب، وهم أزد السراة، وأزد شنوءة، وأزد غسان، وأزد عمان.
وجمعت بين هذه البطون - مع تفرقها في الأوطان المتباعدة - لأمرين:
أحدهما: أن هذه البطون- وإن تفرقت وتباعدت - احتفظت في مواطنها الجديدة بكثير من الخصائص اللغوية الواحدة، ولم يشاركهم فيها أحد من القبائل المجاورة، أو شاركهم فيها قبائل أخرى هاجرت - أيضًا- من بيئتهم اليمنية القديمة، وهي تمثل جميعًا بيئة لغوية واحدة، هي منطقة مأرب وما حولها من بلاد اليمن.(45/198)
ثانيهما: أن كتب التراث تعزو في أحيان كثيرة الظاهرة اللغوية إلى الأزد عامة، ولم يكن بوسعي معرفة أي بطون الأزد سُمِعت منها تلك الظاهرة، فجعلت العنوان عاماً ليتنظم تحته كل ما عزي إلى الأزد عامة أو إلى أحد بطونهم.
وقد سلكت في كتابة هذا البحث منهجًا تاريخيًا وصفيًا، فرجعت في تاريخ الأزد إلى كثير من المصادر التاريخية والجغرافية، وكتب الأنساب، والتراجم والطبقات.
أما لغاتهم فرجعت في جمعها إلى كل ما وقعت عليه يدي من كتب العربية، وكتب القراءات والتفسير والحديث الشريف، بل وكتب الفقهاء والجغرافيين والمؤرخين، وغيرهم.
وخرجت من استقراء هذه المصادر المتناثرة بمادة وفيرة تمثل لغات الأزد بكافة مستوياتها (الصوتية والصرفية، والنحوية، والدلالية) وقد بلغت من الكثرة حدًا لا ينهض به بحث واحد كهذا، بل تحتاج كل ظاهرة منها إلى بحث مستقل يوفيها ما تستحق من الدراسة الشّاملة المتأنّية، من أجل هذا أردت أن يكون هذا البحث مدخلاً لدراسة تلك اللغات، وحافزًا إليها، فاخترت من لغاتهم أمثلة كثيرة متنوعة، تنتظم جميع المستويات اللغوية المذكورة، مع محاولة الربط - ما أمكن - بين هذه اللغات وما هو امتداد لها في لهجاتهم المعاصرة.
وقد أقمت هذه الدراسة بعد المقدمة على فصلين وخاتمة وفهرسين.
فكان الفصل الأول بعنوان: (تاريخ الأزد) وفيه تحدثت عن أنسابهم، وقبائلهم، وخروجهم من مأرب وتفرقهم في البلدان، وديانتهم في الجاهلية، ثم ذكرت طرفاً من مآثرهم في الجاهلية والإسلام، وأشرت إلى أشهر من برّز من أبنائهم في الثقافة العربية والإسلامية، ثم انتهيت إلى ذكر بعض الأحاديث والآثار والأشعار التي جاءت في فضلهم والثناء عليهم.
أما الفصل الثاني فكان بعنوان (مكانة الأزد في العربية) .
وقد ابتدأت هذا الفصل بالحديث عن فصاحة الأزد، وسقت أقوال عدد من العلماء الذين شهدوا لهم بالفصاحة المتناهية، ابتداء من عصور الاحتجاج وانتهاء بعصرنا الحاضر.(45/199)
ثم أوردت أمثلة متنوعة تشتمل على جميع المستويات اللغوية في لغات الأزد، حاولت من خلالها إبراز أهمية هذه اللغات، ومدى شيوعها في كتب التراث العربي والإسلامي بعامة.
ثم الخاتمة، وقد تضمنت خلاصة للبحث، وأهم نتائجه.
أما الفهرسان، فكان أحدهما للمصادر والمراجع، والآخر للموضوعات.
والله أسال أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، إنه خير مسؤول، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيراً.
الفصل الأول: تاريخ الأزد
المبحث الأول: نسبهم:
تنتسب قبائل الأزد جميعًا إلى الأزْد بن الغوث بن نَبْتٍ بن مالك بن زيد بن كَهْلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان والأزد لقبه، واسمه دِراء بوزن (فِعَال) ، والأزْد والأسْد لغتان، والأخيرة أفصح، إلا أن الأولى أكثر.
قال ابن دريد:"اشتقاق الأسْد من قولهم: أسِدَ الرجل يأسَدُ أسْدًا، إذا تشبّه بالأسد".
وفي التصريح: "اختلف في تسميته أزدًا، وأسدًا، فقيل: لأنه كان كثير العطاء، فقيل له ذلك، لكثرة من يقول أسدى إليّ كذا، أو أزدى، وقيل لأنه كان كثير النكاح، والأزْد والأسْد النّكاح".
وكان للأزد سبعة أولاد تفرعت عنهم جميع قبائل الأزد، وهم: مازن، ونصر، والهنو، وعبد اللَّه، وعمرو، وقُدار، والأهْيُوب.
المبحث الثاني: قبائلهم:
يذكر النسابون أن القبائل التي تنتسب إلى الأزد افترقت على نحو ست وعشرين قبيلة، وهي: جَفْنَة، وغسّان، والأوس والخزرج، وخُزاعة، ومازن، وبارق، وألمع، والحَجْر، والعَتيك، وراسب، وغامد، ووالِبَة، وثُمَالة، ولِهْب، وزهران، ودُهمان، والحدّان، وشَكْر، وعَكّ، ودوس، وفَهْم، والجَهاضم، والأشاقر، والقَسامل، والفَراهيد.
المبحث الثالث: خروجهم من مأرب وتفرقهم في البلدان:(45/200)
كانت مأرب وما حولها من أرض اليمن الموطن القديم للأزد، حيث كانوا يعيشون في رغد من العيش على ضفاف وادي سد مأرب الشهير، وقد وصف المسعودي أرضهم فقال: "كانت من أخصب أرض اليمن، وأثراها، وأغدقها، وأكثرها جنانًا وغيطانًا، وأفسحها مروجًا، مع بنيان حسن، وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة، وأنهار وأزهار متفرقة" حتى قيل: إن المرأة كانت تخرج وعلى رأسها مكتل، وتسير بين الشجر، فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها ولم يكن بأرضهم بعوض ولا ذباب ولا براغيث ولا عقارب ولا حيّات ولا هوام، فكانت كما قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (1) ولكنهم كفروا بأنعم اللَّه، وأعرضوا عن اتباع رسله، وعبدوا الشمس والكواكب فعاقبهم اللَّه بسيل العرم، فخرّب سدهم، وأتى على أموالهم وزروعهم وبيوتهم فدمرها، كما قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (2)
وقد تفرقوا بعد خراب السّد في البلاد مزقًا، كما قال اللَّه عنهم:
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (3) .
وضرب العرب بتفرقهم الأمثال، فقالوا:
"تفرقوا أيدي سبأ، وذهبوا أيادي سبأ".
__________
(1) سورة سبأ 15،16،19. وينظر: تفسير القرطبي 14/182،183، ومروج الذهب 2/174.
(2) سورة سبأ 16.
(3) سورة سبأ 19. وينظر: تفسير القرطبي 14/182،183.(45/201)
ويرى أكثر المؤرخين أن نزوح الأزد عن مأرب كان قبيل انهيار السد بزمن قليل في عهد عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن نحو سنة 115 قبل الميلاد، على إثر علامات ظهرت لهم تنذر بخرابه.
ومن المؤرخين من يرى أنهم نزحوا جميعًا عن مأرب في عهد عمرو المذكور بعد خراب السد، وغرق جناتهم، وذهاب أشجارهم، وإبدالهم خمطًا وأثلاً وشيئًا من سدر قليل.
ويشكك الشيخ حمد الجاسر في تحديد رحيل الأزد من اليمن بخراب السد، فيقول: "وانتقال تلك القبائل - أو جلها - من اليمن أمر معقول ومقبول، ولكن كونها انتقلت إثر خراب السد أمر مشكوك فيه، ذلك أن المتقدمين يؤرخون حادثة الخراب بأنها في عصر الملك الفارسي دارا بن بهمن، ودارا هذا هو الذي غزاه الإسكندر الكبير في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، والأدلة التاريخية والنقوش التي عثر عليها في أمكنة كثيرة في جنوب الجزيرة وشمالها، وفي أمكنة أخرى خارجها، تدل على انتشار كثير من تلك القبائل التي ورد ذكرها خارج اليمن قبل سيل العرم، وليس من المعقول أيضًا أن تلك الرقعة الصغيرة من الأرض، وهي مأرب تتسع لعدد كبير من السكان يتكون من قبائل.
والأمر الذي لا ريب فيه أن انتقال تلك القبائل كان في فترات متفرقة، وفي أزمان متباعدة، فعندما تضيق البلاد بسكانها ينتقل قسم منهم بحثًا عن بلاد تلائم حياتهم".(45/202)
وذكر الهمداني خبر نزوحهم من مأرب وتفرقهم في البلدان، فقال: "ولما خرج عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء هو ومالك بن اليمان من مأرب في جماعة الأزد، وظهرا إلى مخلاف خولان، وأرض عَنْس، وحقل وصنعاء، فأقبلوا لا يمرون بماء إلا أنزفوه، ولا بكلأ إلا سحقوه لما فيهم من العَدد والعُدد والخيل والإبل والشاء والبقر وغيرها من أجناس السوام، وفي ذلك تضرب لهم الرواد في البلاد تلتمس لهم الماء والمرعى ... ثم إنهم أقاموا بأزال وجانب من بلد همدان في جوار ملك حمير في ذلك العصر حتى استحجرت خيلهم ونعمهم وماشيتهم، وصلح لهم طلوع الجبال، فطلعوها من ناحية سهام ورَمِعَ، وهبطوا منها على ذؤال، وغلبوا غافقًا عليها، وأقاموا بتهامة ما أقاموا حتى وقعت الفرقة بينهم وبين كافة عكّ، فساروا إلى الحجاز فرقًا، فصار كل فخذ منهم إلى بلد، فمنهم من نزل السروات، ومنهم من تخلف بمكة وما حولها، ومنهم من خرج إلى العراق، ومنهم من سار إلى الشام، ومنهم من رمى قصد عمان، واليمامة والبحرين ... فأما ساكن عمان من الأزد فيحمد وحدّان ومالك والحارث وعتيك وجديد، وأما من سكن الحيرة والعراق فدوس، وأما من سكن الشام فآل الحارث: محرق وآل جفنة ابنا عمرو، وأما من سكن المدينة فالأوس والخزرج، وأما من سكن مكة ونواحيها فخزاعة، وأما من سكن السروات فالحَجْر بن الهنو ولهب وناه وغامد ومن دوس وشَكْر وبارق السوداء وحاء وعلي بن عثمان والنمر وحوالة وثمالة وسلامان والبقوم وشمران وعمرو، ولحق كثير من ولد نصر بن الأزد بنواحي الشحر وريسوت وأطراف بلد فارس فالجويم فموضع الجلندى".(45/203)
وذكر ابن هشام أنهم ساروا بعد حروبهم مع عك وهمدان إلى نجران، ومنها تفرقوا في البلدان، فسار بنو نصر بن الأزد إلى عمان، ونزل أزد شنوءة أرض شنء، ونزلت خزاعة بطن مرّ، ونزلت قبيلتا الأوس والخزرج يثرب، ونزل بنو همدان بن الأزد بابل بالعراق، وسار بنو جفنة إلى الشام، ونزلوا دمشق وبصرى وغويرًا وحفيرًا، ونزل السراة بنو هبير بن الهبور بن الأزد، وبعض بني نصر بن الأزد.
وفي أخبار مكة للأزرقي: أنهم ساروا جميعًا إلى مكة، فقاتلوا جرهمًا بعد أن منعتهم الجوار، فهزموها، ولم يفلت منها إلا الشريد أو من اعتزل القتال، ثم أقاموا بمكة وما حولها حولاً، فأصابتهم الحمى، وكانوا في بلادهم لا يدرون ما الحمى، فدعوا طريفة الكاهنة، فشكوا إليها الذي أصابهم، فأشارت عليهم في ألفاظ مسجوعة بالرحيل إلى عدد من البلدان على نحو ما ذكر ابن هشام.
وذكر البكري وياقوت أن خثعم بن أنمار كانت منازلهم جبال السراة وما والاها أو قاربها في جبل يقال له: شنء، وجبل آخر يقال له: بارق، وجبال معهما، حتى مرت بهم الأزد في مسيرها من أرض سبأ وتفرقهم في البلدان، فقاتلوا خثعمًا فأنزلوهم من جبالهم وأجلوهم عن مساكنهم، ونزلها أزد شنوءة غامد وبارق ودوس، وتلك القبائل من الأزد، فظهر الإِسلام، وهم أهلها وسكانها.
وحدد الهمداني مواطن الأزد في جبال السراة وذكر بعض القبائل المجاورة لهم، وأشار إلى شيء من مظاهر حياتهم المعيشية كالزراعة والرعي والصيد، فقال: "بطون الأزد، مما تتلو عَنْز إلى مكة منحدرًا: الحجر.. ثم قطع بين الحجر وبين بلاد شَكْر بطنان من خثعم يقال لهم ألوس والفزع فقطعتاه إلى تهامة وسعد الهماهم نزارية، ثم بلد شَكْر سروي، ثم غامد، ثم بلد النمر، ثم بلد دوس، ومن وراء ذلك بلد بجيلة ... وبسراة الحجر البر والشعير والبلس والعتر واللوبياء واللوز والتفاح والخوخ والكمثرى والإجاص، والعسل في غربيها والبقر وأهل الصيد، وشرقيها من نجد أهل الغنم والإِبل".(45/204)
وقال: "سراة الحجر نجدها خثعم وغورهم بارق، ثم سراة ناه من الأزد وبنو القرن، وبنو خالد نجدهم خثعم وغورهم قبائل من الأزد، ثم سراة الحال لشَكْر نجدهم خثعم وغورهم قبائل من الأسْد بن عمران، ثم سراة زهران من الأزد دوس وغامد، والحُر نجدهم بنو سواءة بن عامر وغورهم لهب، وعويل من الأزد وبنو عمرو، وبنو سواءة خليطي والدعوة عامرية، ثم سراة بجيلة".
وقسم بعض العلماء قبائل الأزد إلى مجموعات رئيسة بحسب المواطن التي رحلوا إليها، قال الجوهري: "يقال: أزد شنوءة، وأزد عُمان، وأزد السّراة".
وقال ياقوت: "الأزد تنقسم إلى أربعة أقسام: أزد شنوءة، وأزد السّراة، وأزد غسّان، وأزد عُمان".
فأما أزد السّراة: فهم جميع بطون الأزد الذين نزلوا جبال السّراة، كما جاء في قول الهمداني المتقدم، وقد غلبوا عليها حتى خصهم بها كثير من العلماء، وهم بنو نصر بن الأزد (أزد شنوءة) غامد وزهران ولهب وثمالة وغيرهم، وبطون أخرى من بني مازن بن الأزد، وهم بارق وشَكْر وألمع والأسد بن عمران، وبنو الحجر بن الهنو بن الأزد، وبنو قَرْن بن عبد اللَّه بن الأزد.
وأما أزد عمان: فهم بطون من أبناء العتيك بن الأزد بن عمرو مزيقياء من نسل مازن بن الأزد، وبطون من أبناء عمرو بن نصر بن الأزد ولحق بهم من السّراة مالك بن فهم الدوسي، وبطون أخرى من نسل غالب بن عثمان بن نصر بن زهران، وغلب هؤلاء على عمان، فعرفوا هم وأخوتهم من أبناء العتيك بأزد عمان.
ورحل كثير من هؤلاء إلى مدن العراق كالبصرة والحيرة والموصل، وكان منهم جَذِيمة الأبرش بن مالك بن فهم، ملك العراق، وأعظم ملوك العرب في الجاهلية، ومنهم من عبر البحر إلى بلاد فارس، وهم من ولد سُلَيمة بن مالك ابن فهم، وسكنوا جبل يقال له: القُفْس، من أقليم كرمان.(45/205)
ويرى بعض المحدثين أن بطون الأزد التي نزحت إلى عمان سموا أزد السّراة. وهذا غير صحيح، لما تقدم من أن أزد السّراة إنما سموا بهذا الاسم، لأنهم نزلوا جبال السّراة، وأما من نزل منهم بعمان فقد عُرف بأزد عمان، سواء أولئك الذين هاجروا إليها من مأرب، أو الذين هاجروا إليها لاحقًا من السّراة.
وأما أزد غسّان: فهم أشهر بطون الأزد، وهم خزاعة، والأوس والخزرج، وآل جَفْنة، وبارق، وشَكْر، والعتيك، والأسد بن عمران، وهؤلاء كلهم يجتمعون في عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف من أبناء مازن بن الأزد، وقد استوطنت خزاعة مكة، والأوس والخزرج المدينة، وآل جفنة الشام، وغلب عليهم اسم غسّان، واستوطن العتيك عمان، واستوطن البقية جبال السّراة.
قال ابن الكلبي: "غسّان: ماء شربوا منه فسموا به، وهو ما بين زَبِيْد ورِمَع، وهذان واديان للأشعرين".
وقال ابن عبدة النّسّابة: (غسّان ماء بالمُشَلَّل فمن شرب منه من الأزد أيام تفرقهم بعد سيل العرم فهو غسّاني".
والمشلل: جبل مشرف على قُدَيد قريب من الجحفة، وهو في طريق السائر من مكة إلى المدينة.
أما أزد شنوءة: فقد نزلوا السّراة، وهم أعظم بطون الأزد عددا وأصرحهم نسبًا، قال الخليل: أزد شنوءة: أصح الأزد فرعًا وأصلاً. وأنشد:
فما أنتم بالأزد أزد شنوءة
ولا من بني كعب بن عمرو بن عامر
وشنوءة بالهمز، وشنوّة بتشديد الواو من غير همز، من الشنآن، وهو التباغض، قال ابن دريد: "وبه سمي أبو هذا الحي من الأزد".
وقال أبو عبيد: الشنوءة: الذي يتقزز من الشيء، وبه سمي أزد شنوءة.
وقال الخفاجي: سموا بهذا "لعلو نسبهم وحسن أفعالهم، من قولهم: رجل شنوءة، أي طاهر النسب ذو مروءة".
وقال ياقوت: "شنوءة ... مخلاف باليمن، بينها وبين صنعاء اثنان وأربعون فرسخًا، تنسب إليها قبائل من الأزد يقال لهم: أزد شنوءة".(45/206)
وقال العمروي: "شنوءة هي: قبائل الأزد، شربوا من جبال شنء الواقعة في بلاد بني مالك عسير، وهي إلى الشمال من أبها بخمسة عشر كيلاً، وتعرف العيون حاليًا بـ"عيون ابن يعلا، وعين ابن جرادة، وعين ابن مصافح، وعين ابن الغربيين"وتنبع كلها من جبال شنء، وهي مجموعة من الجبال عُرفت في الماضي والحاضر بجبال شنء، وعُرف الذين شربوا منها برجال شنوءة".
واختلفوا في صاحب هذا اللقب على أقوال أرجحها أنه لقب لنصر بن الأزد غلب على بنيه، وهم غامد وزهران ولهب وثمالة وماسخة وراسب وغيرهم، فكل من ينتسب إلى أزد شنوءة فهو من بني نصر بن الأزد بن الغوث.
ونزل معظم أزد شنوءة السراة، وشاركهم في منازلهم بالسّراة - كما ذكرنا - بنو الحجر بن الهنو بن الأزد، وبنو قرْن بن عبد اللَّه بن الأزد، وبطون من بني مازن بن الأزد، وهم بارق وشكر والأسد بن عمران، ولذلك عد بعض العلماء بارقًا من أزد شنوءة، ولعل ذلك من باب التغليب لمجاورتهم هؤلاء.
وبقي فريق من الأزد في تهامة إلى جانب عكّ، وسموا (أزد الجيش) ، واستقر فريق منهم في الجبال المطلة على تهامة، وسموا (أزد نجد) جاء ذكرهما في النقوش اليمنية، ولم أجد لهما ذكرًا بهذا الاسم في المصادر العربية.
المبحث الرّابع: ديانتهم في الجاهلية:
كان الأزد في الجاهلية على بقية من دين إبراهيم عليه السلام، فكانوا يعظمون البيت ويطوفون به، ويحجون ويعتمرون، ويقفون بعرفة ومزدلفة، ويهدون البُدَن وكانت تلبيتهم إذا قصدوا مكة:
يا رب لولا أنت ما سعينا
بين الصفا والمروتين فينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
ولا حللنا مع قريش أينا
البيت بيت اللَّه ما حيينا
والله لولا اللَّه ما اهتدينا
نحج هذا البيت ما حيينا
وكانت تلبية خزاعة، وهم أحد بطون الأزد:
نحن ورثنا البيت بعد عادْ
ونحن من بعدهم أوتادْ
فاغفر فأنت غافر وهادْ
ويُروى للأوس والخزرج:
لبيك حجًا حقًّا
تعبدًا ورقًّا
جئناك للنّصاحة
لم نأت للرّقاحة(45/207)
وكان لهم - كغيرهم من قبائل العرب - أصنام يعبدونها لتُقَرِّبهم - كما زعموا - إلى اللَّه زلفى، ومن أشهرها:
1- مَنَاة، وكان يعبده الأوس والخزرج، وأزد شنوءة وغيرهم من الأزد، وكان على ساحل البحر قرب قُديد، وسدنته الغطاريف من الأزد.
2- السّعَيدة: كانت تعبدها الأزد، وكان سدنتها بنو العجلان، وكان موضعها بأحد.
3- ذو الخَلَصَة، قال ابن الكلبي: "وكان مروة بيضاء منقوشة كهيئة التاج، وكانت بتَبَالَة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة، وكان سدنتها بنو أمامة من باهلة بن أعصر، وكانت تعظمها وتهدي لها خثعم وبجيلة وأزد السّراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن".
وقال ابن إسحاق: "وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة".
وفي صحيح البخاري أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة" (1) ، أي يعبدونه كما كانوا يعبدونه في الجاهلية.
وقد بعث إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد اللَّه البجلي فهدمه.
4- ذو الكَفَّين، وكان لدوس وبني منهب بن دوس وقال ابن حبيب: "وكان ذو الكفين لخزاعة ودوس". فلما أسلموا بعث النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل ابن عمرو الدوسي فحرّقه، وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عُبّادكا
ميلادنا أكبر من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
5- ذو الشَّرَى، وكان لبني يشكر بن مُبشّر من الأزد وفي السّيرة لابن هشام عن الطفيل بن عمرو الدوسي أنه كان صنمًا لدوس.
6- عائم، ذكر الكلبي أنه كان لأزد السراة.
7- باجَر، قال ابن دريد: هو صنم كان للأزد في الجاهلية ومن جاورهم من طيئ وقضاعة، وربما قالوا: باجِر بكسر الجيم.
المبحث الخامس: مآثرهم في الجاهلية والإسلام:
__________
(1) أخرجه البخاري (باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان- 6699) 6/2604.(45/208)
وُصِف الأزد بأنهم من أعظم قبائل العرب وأكثرها بطونًا وأمدها فروعًا وتاريخ الأزد حافل في الجاهلية والإِسلام، ففي الجاهلية - قبل رحيلهم عن مأرب - كانت لهم السّيادة والسّيطرة على أجزاء كثيرة من بلاد اليمن.
وبعد تفرقهم ملكوا معظم بلاد الشّام والعراق وعُمان والحجاز والسّروات.
ولما كانت البعثة النبوية، ودعا الرسول صلى اللَّه عليه وسلم الناس إلى الإِسلام كان الطفيل بن عمرو الدوسي أول من اعتنق الإِسلام من الأزد، وكان ذلك منه قبل الهجرة، وقد عرض على الرسول - صلى اللَّه عليه وسلم - الإيواء والنصرة.
وكان الأوس والخزرج أول القبائل العربية استجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم وأول من آواه ونصره، ومن ثم سماهم اللَّه (الأنصار) ، وأثنى عليهم في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} (1) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شِعبًا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. فقال أبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي آووه ونصروه".
وكان للأزد في الفتوحات الإِسلامية المواقف البطولية المشرفة، والذكر الحسن المعروف، إذ كان منهم: القادة والجند والشعراء الذين دون التاريخ أسماءهم، وسجل أخبارهم، فلهم بسالة مشهودة، وجهاد صادق معهود.
__________
(1) سورة الأنفال 74.
(2) سورة الحشر 9.(45/209)
وقد برّز من أبناء الأزد رجال كثيرون كان لهم أثر كبير في الثقافة العربية والإِسلامية، منهم: الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه الذي كان أكثر الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - رواية لحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومُسَدَّد بن مُسَرْهَد شيخ الإمام أحمد، وهو أول من صنّف مسندًا للحديث في مدينة البصرة، والإِمام محمد ابن أحمد الطّحاوي صاحب المصنفات المعروفة، ومن أشهرها شرح معاني الآثار، والخليل بن أحمد مصنف كتاب العين، ومخترع علم العروض، وابن دريد مؤلف معجم جمهرة اللغة، ومحمد بن يزيد المبرد، صاحب كتاب الكامل في اللغة والأدب، والحافظ عبد الغني بن سعيد مؤلف أول كتاب في الموتلف والمختلف من الأسماء والكنى والألقاب، وأبو زيد الأنصاري، وأبو سعيد السكري، وأبو الحسن الهنائي، وغيرهم كثير.
كما برّز من أبناء الأزد شعراء فحول، من أشهرهم في الجاهلية عبد الله بن سلمة الغامدي أحد شعراء المفضليات، وقيس بن الخطيم، والشنفرى الأزدي، صاحب (لامية العرب) وهي القصيدة التي فاقت بشهرتها الأدبية واللغوية سائر ما نظمه الشعراء الجاهليون، الأمر الذي أغرى العلماء بشرحها وإعرابها، وقد زادت شروحها عن خمسة عشر شرحًا. وتجاوز الاعتناء بها علماء العرب إلى المستشرقين، فدرسوها ونقلوها إلى لغاتهم، وأهم اللغات التي نقلت إليها الإنجليزية والفرنسية واليونانية والإيطالية والروسية.
ومن شعرائهم في الإسلام حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب ابن مالك - رضي الله عنهم أجمعين - والثلاثة - من شعراء الأنصار الخزرجيين الذين أبلوا بلاء حسنًا في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، والرد على شعراء الكفر الكثيرين (1) .
__________
(1) الأغاني 4/138، 143،145.(45/210)
وقد ورد في فضل الأزد والثناء عليهم أحاديث وآثار كثيرة، نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم:"الأزد جرثومة العرب فمن أضل نسبه فليأتهم" (1) .
وقوله: "الأمانة في الأزد والحياء في قريش" (2) .
وقوله:"أتتكم الأزد أحسن الناس وجوهًا، وأعذبها أفواهًا، وأصدقها لقاءً" (3) .
وفي خبر قدوم وفد الأزد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال بعد أن سمع مقالتهم: "حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء" (4) .
وعن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنه قال: "للأزد أربع ليست لحيّ: بذل لما ملكت أيديهم، ومنع لحوزتهم، وحيّ عمارة لا يحتاجون إلى غيرهم، وشجعان لا يجبنون".
وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه محبًا لهم، معتمدًا عليهم، واثقًا بهم، روى الحارث بن يزيد أنه كتب إلى مسلمة بن مخلد وهو على مصر: "ولا تولّ عملك إلا أزديًّا أو حضرميًّا، فإنهم أهل الأمانة".
وكان أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: "إن لم نكن من الأزد فلسنا من الناس".
وفي حج عام (579هـ) وصف الرَّحَّالة ابن جبير أزد السّراة بأنهم أهل صلاح وصدق نية، واعتقاد صحيح، فقال: "فلا تجد لديهم من أعمال العبادات سوى صدق النية، فهم إذا طافوا بالكعبة المقدسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الأم المشفقة، لائذين بجوارها، متعلقين بأستارها، فحيثما علقت أيديهم منها تمزق لشدة اجتذابهم لها، وانكبابهم عليها، وفي أثناء ذلك تصدع ألسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب، وتتفجر لها الأعين الجوامد فتصُوب، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنّين على أدعيتهم، متلقنين لها من ألسنتهم على أنهم طول مقامهم لا يتمكن معهم طواف، ولا يوجد سبيل إلى استلام الحجر".
__________
(1) الغريبين 1/335، والنهاية 1/254، وتاريخ بغداد 2/58.
(2) الإصابة (5159) .
(3) الجامع الكبير، السيوطي 12، والإصابة (51229) . وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1701) .
(4) الحلية 9/279، 10/192، والبداية والنهاية 5/85.(45/211)
وبمثل هذا وصفهم الرحالة ابن بطوطة، وأضاف: "وهم شجعان أنجاد، ولباسهم الجلود، وإذا وردوا مكة هابت أعراب الطريق مقدمهم، وتجنبوا اعتراضهم. ومن صحبهم من الزوار حمد صحبتهم، وذُكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم وأثنى عليهم خيرًا، وقال: "علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء"وكفاهم شرفًا دخولهم في عموم قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "الإِيمان يمان والحكمة يمانية".
وذُكر أن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما كان يتحرى وقت طوافهم، ويدخل في جملتهم، تبركًا بدعائهم، وشأنهم عجيب كله، وقد جاء في أثر: "زاحموهم في الطواف، فإن الرحمة تنصب عليهم صبًا" (1) .
واشتهر أزد شنوءة بكمال الخلقة البشرية. وفي الحديث في حق موسى: "كأنه من رجال شنوءة" (2) .
ووُصِف بنو لِهْب من بني نصر بن الأزد بأنهم أعْيَف العرب، ولهم في ذلك أمور عجيبة، وفيهم يقول كثير عزة.
تيممت لهبًا ابتغي العلم عندهم
وقد ردّ علمُ العائفين إلى لهب
كما وُصف بنو ثمالة، وهم إخوة بني لهب، بأنهم أهل رويّة وعقول، وإليهم ينتمي محمد بن يزيد المبرد.
وذكرهم الشعراء، فأثنوا على خصالهم الحميدة، قال مُضَرِّس بن دُومي النهدي:
إذا الحرب شالت لا قحًا وتحَدَّمَت
رأيت وجوه الأزد فيها تَهَلَّلُ
حياء وحفظًا واصطبارًا وإنهم
لها خُلِقوا والصَّبر للموت أجملُ
وهم يضمنون الجار من كلّ حادثٍ
ويمشون مشي الأُسْدِ حين تبسّلُ
يُرى جارهم فيها منيعًا مكرمًا
على كلّ ما حالٍ يُحبُّ ويوصَلُ
إذا سِيم جارُ القوم خَسْفًا فجارهم
عزيزٌ حِمَاه في عَمَايةَ يعقِلُ
الفصل الثاني: مكانة الأزد في العربية
المبحث الأول: شواهد من أقوال العلماء:
__________
(1) رحلة ابن بطوطة 181. وينظر: صحيح البخاري (كتاب المناقب -3499) ، والحلية 7/363.
(2) صحيح البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء - 3396) ومسند الإمام أحمد (2353) المعجم الكبير للطبراني24/433.(45/212)
كان الأزد، وبخاصة أزد السّراة من أفصح قبائل العرب، شهد لهم بذلك العلماء عبر العصور، بدءً ابعصور الاحتجاج اللغوي، وانتهاء بعصرنا الحاضر.
قال أبو حاتم السجستاني: نزل القرآن على سبع لغات متفرقة في القرآن الكريم، وهي لغات قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر.
وقال ابن فارس: "ويروى مرفوعًا أن القرآن نزل على لغة الكعبين: كعب بن لويّ، وكعب بن عمرو، وهو أبو خزاعة". وخزاعة - كما تقدم - قبيلة أزدية، نزلت بعد نزوحها من اليمن مكة وما جاورها. قال ابن شميل: الخزاعيون من أعرب الناس.
ووصف أبو حاتم السجستاني أهل المدينة - وجل أهلها من الأزد، وهم الأنصار - بأنهم فصحاء، لقلة ما يخالطهم من الأعاجم.
وقال الخليل بن أحمد: "أفصح الناس أزد السراة".
وقال أبو عمرو بن العلاء: "كنا نسمع أصحابنا يقولون: أفصح الناس تميم وقيس وأزد السّراة وبنو عذرة".
وقال أيضًا: "أفصح الناس أهل السروات، وهي ثلاث: وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن، أولها هذيل، وهي التي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة، وهي السّراة الوسطى، وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد أزد شنوءة، وهم بنو كعب ابن الحارث بن كعب بن عبد اللَّه بن مالك بن نصر بن الأزد".
ونقل ابن رشيق والسيوطيّ (1) قول أبي عمرو هذا مصدرًا بعبارة: "أفصح الشعراء ألسنًا وأعربهم أهل السروات" ثم ساقا بقية النص على نحو ما أوردنا.
وقال المبرد: "حدثني علي بن القاسم الهاشمي قال: رأيت قومًا من أزد السّراة لم أر أفصح منهم، وكانوا يلبسون الثياب المصبّغة، قلت لأحدهم: ما حملك على لبس الثياب المصبّغة؟ قال: ابتغاء الحسن".
__________
(1) المزهر 2/483.(45/213)
وحدد الهمداني القبائل الفصيحة في عصره بقوله: "ثم الفصاحة من العَرْض في وادعة، فجَنْب، فيام، فزُبيد، فبني الحارث، فما اتصل ببلد شاكر من نجران إلى أرض يام، فأرض سنحان، فأرض نهد وبني أسامة، فعَنْز، فخثعم، فهلال، فعامر بن ربيعة، فسراة الحَجْر، فدوس، فغامد، فشَكْر، ففهم، فثقيف، فبجيلة، فبنو علي، غير أن أسافل سروات هذه القبائل ما بين سراة خولان والطائف دون أعاليها في الفصاحة".
ووصف الهجري أزد السّراة بأنهم فصحاء، وأنشد لخمسة عشر شاعرًا منهم.
وأثنى ابن جبير على فصاحتهم فقال: "والقوم عرب صرحاء فصحاء جُفاة أصحاء، وأما فصاحتهم فبديعة جدًا ... وشاهدنا منهم صبيًا في الحجر قد جلس إلى أحد الحجاج يعلّمه فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص، فكان يقول له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيقول الصبي: (هو اللَّه أحد) فيعيد عليه المعلم، فيقول له: ألم تأمرني بأن أقول: هو اللَّه أحد؟ قد قلت) فكابد في تلقينه مشقة، وبعد لأي ما علقت بلسانه.
وكان يقول له: " {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "فيقول الصبي:"بسم اللَّه الرحمن الرحيم، والحمد للَّه"فيعيد عليه المعلم، ويقوله له: "لا تقل: والحمد للَّه، إنما قل: الحمد للَّه"فيقول الصبي: "إذا قلت بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أقول: والحمد للَّه، للاتصال، وإذا لم أقل: بسم اللَّه، وبدأت قلت: الحمد للَّه"فعجبنا من أمره ومن معرفته طبعًا بصلة الكلام وفصله دون تعلّم".
وذكر ابن بطوطة، وهو من أعيان القرن الثامن الهجري، أزد السّراة فأثنى عليهم خيرًا، وقال: "وأهلها فصحاء بالألسن".
وربما كان من أسباب ثبات أزد السّراة على فصاحتهم أن جبالهم كانت "أحصن الجبال للدفاع، ورجالها من صفوة العرب في البأس والبسالة … ونفرة من الأجانب".(45/214)
وأرجع الشيخ حمد الجاسر فصاحة سكان السروات "إلى كون بلادهم بعيدة عن الاختلاط بمن ليس عربيًا، فطرق القوافل التجارية وطرق الحجاج الذين يأتون من خارج الجزيرة كلها لا تمر بهذه السروات، ومن هنا قل اختلاط أهلها بالأعاجم فصفت لغتهم وخلصت من العجمة".
وقد بقيت ألسنة القوم فصيحة نقية من شوائب اللحن إلى عهد قريب، ومن شواهد ذلك ما كتبه فؤاد حمزة في كتابه (قلب جزيرة العرب) حيث كتب يقول: "أفصح اللهجات وأقربها إلى الفصحى - فيما نعتقد - هي اللهجات اليمانية الواقعة ما بين جنوبي الحجاز وشمالي اليمن، وكثيرًا ما سمعنا أهل هذه البلاد يلفظون الكلمات من مخارجها الصحيحة، ويتكلمون بما هو أقرب إلى الفصيح من سواه، وبعض البداة من أهل المنطقة يُخرجون جملاً يظن منها الإِنسان أنهم تمرنوا في المدارس على إخراجها على ذلك النحو، بينما أن الحقيقة هي بخلاف ذلك، لأنهم يتكلمون بالسليقة وعلى البديهة فيجيء كلامهم فصيحًا معربًا لا غبار عليه.
ويستعملون ألفاظًا نظنها في الأقطار العربية المتمدنة مهملة ومتروكة ولكنهم هم يستعملونها على البداهة".
ونقل الدكتور جواد علي قول فؤاد حمزة المتقدم وذكر أن بعض اللهجات لا تزال باقية على ألسنة أولئك الناس يتكلمون بها على سليقتها الأولى، وقال: "وآسف لأن أقول: إن علماء العربية في الوقت الحاضر، لم يوجهوا عنايتهم نحوها لدراستها قبل انقراضها وزوالها في الوقت الحاضر". وكتب فيصل الغوري: "بأن لا وجود للغة القرآن التي على أساسها ومنهجها وضعت قواعد اللغة العربية في أية قبيلة من قبائل العرب. وما بوسعنا إلا أن نقول بأن لغات بعض القبائل العربية قريبة بدرجة كبيرة من اللغة العربية القديمة، وعلى هذا السبيل فإن قبائل بلاد غامد وزهران مثال واضح ومميز لمثل هذه القبائل".(45/215)
كما كتب الأستاذ الأديب سعود السديري أمير منطقة الباحة سابقًا، في مقال نشره عام (1389هـ) بعنوان (ما أعجبني في منطقة السروات) كتب يقول عن أهلها: "ثم هم فوق ذلك يتمسّكون بالكثير من ألفاظ العربية الفصحى في محادثتهم العامة، وهي ظاهرة تبعث في النفس الاعتزاز، وتؤكد أن ما اعترى لغتنا في بعض المناطق إن هو إلا بسبب الاختلاط بغير العرب، والتأثر بما جلبوه من بضاعة لم تكن منطقة السروات من أسواقها في يوم من الأيام، ولهذا احتفظ أهالي منطقة السروات بالكثير من ألفاظ لغتهم الفصحى، وكم يسر المرء حينما يرى طفلاً صغيرًا يشير إلى المؤنث القريب بقوله: (تي) أو طلب حاجة من الآخر فيقول: (هب لي هذا) أو يستمع إلى المتكلم العادي عن شجرة العنب فيقول: (حَبَلَة) أو المكان المنخفض فيقول: (الوَهْدَة) أو المكان المرتفع فيقول: (الرَّهْوَة أو الشَّعَف) أو الطريق فيقول: (السُّبْل) أو كبير القرية وهو الذي دون شيخ القبيلة فيقول: (العَرِيف) أو الجبل الغليظ المنقاد في الأرض الذي يصعب صعوده فيقول: (العِرْق) أو عن دعوته إلى الآخر ليقترب فيقول: (هَلُّم) إلى غير ذلك من الألفاظ العربية المحضة التي تأتي دونما تكلف أو تقعّر".
وهكذا.. حتى جاءت الأزمنة الأخيرة، حيث انتشرت وسائل الحضارة الحديثة، وكثر الاختلاط بين سكان الجزيرة شرقها وغربها، وقويت صلتهم بالعالم خارج جزيرتهم، وتمكن الأجانب من الوصول إلى هذه البلاد، وتعلم أهلها في مدارس خارجها، واختلطوا بغيرهم، فتغيرت لغتهم، إلا أنه تغيّر لا يبعد كثيرًا عن العربية الفصحى، ولعلها ما تزال أقرب اللغات إلى الفصحى في سائر الجزيرة العربية.(45/216)
أولئك أزد السراة، أما أزد عمان، وأزد غسّان، فلم يأخذ عنهم اللغويون حين بدأوا في تدوين اللغة، كما لم يأخذوا عن قبائل أخرى لاختلاطها بأمم غير عربية، وفي ذلك يقول أبو نصر الفارابي: "الذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب، هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإِعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضريّ قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم.
فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قضاعة، ولا من غسّان، ولا من إياد، فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى، يقرأون في صَلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب، ولا من النمر، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس، ولا من عبد القيس، لأنهم كانوا من سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان، لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن أصلاً، لمخالطتهم الهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وسكان الطائف، لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم".(45/217)
وقد عزل اللغويون بهذا المنهج الذي سلكوه في مجال الاستشهاد معظم القبائل العربية، وفي ذلك تحجير لواسع، لأن القبائل التي اعتمدوا عليها في الأخذ لا تمثل إلا جزءًا ضئيلاً من القبائل العربية، وحجتهم في ذلك أن لهجات تلك القبائل غير فصيحة. لأنهم كانوا يجاورون الأمم حولهم، فهم مختلطون بالأجانب، ولكن يقف في سبيلهم أنهم عدوا قريشًا أفصح العرب، وأن لهجاتها فصيحة مع اتصالها بكثير من الأمم الأجنبية في رحلاتها التجارية صيفًا وشتاء، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم.
ولهذا السبب طعن الدكتور أحمد علم الدين الجندي في هذا المنهج الذي سلكه اللغويون في الاحتجاج بلغات العرب، وأضاف إلى ذلك سببين آخرين:
أحدهما: أن لغات هذه القبائل التي رفض الرواة الأخذ عنها موجودة في القرآن الكريم، ومثل بعدد من اللغات، منها لغة غسّان، وأزد عمان.
ثانيهما: أن بعضًا من أئمة العربية قد استشهد بلهجات هذه القبائل، ومنهم ابن مالك حيث اعتمد على لغات لخم وخزاعة وقضاعة.
وليس معنى هذا التقليل من جهود أولئك العلماء الذين تكبدوا المصاعب، وعرضوا أنفسهم للمخاطر وهم يشافهون الأعراب الفصحاء في بواديهم النائية، ولكن سلامة المنهج كانت تقتضي منهم أن يأخذوا من جميع القبائل العربية، لا سيما تلك التي تمثلت لغاتها في القراءات القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام العرب شعرًا ونثرًا، ثم يعرضوا جميع ما يأخذونه للموازنة والاختيار والتقعيد، ولو أنهم فعلوا ذلك لأفادوا العربية إفادة كبيرة، وسلموا من الوقوع في محاذير لم يقصدوها، جرّها عليهم ذلك المنهج الضيّق، ومن ذلك طعنهم في بعض القراءات القرآنية التي تمثل لهجات عربية لم يعتدوا بها.
المبحث الثاني: شواهد من لغاتهم:(45/218)
حفلت كتب اللغة والنحو والقراءات والتفسير بمادة وفيرة من لغات الأزد، وكانت مصدرًا مهمًا من مصادر الاحتجاج اللغوي والنحوي عند علماء العربية وغيرهم. وسأكتفي في هذا المبحث بضرب أمثلة لعدد من الظواهر التي اتسمت بها هذه اللغات، وذكرها العلماء معزوة إليهم، ليبرز لنا من خلالها أهمية لغات الأزد وأثرها في العربية، وذلك من غير ما إسهاب وتفصيل، إلا ما احتاج إلى شيء من التوضيح، فليس غرضي في هذا المبحث دراسة ما كانت تتسم به هذه اللغات من ظواهر صوتية، أو نحوية، أو ظواهر البنية أو الدلالة دراسة تحليل وتعليل، فهذا مما يضيق عنه هذا البحث، إذ تحتاج كل ظاهرة منها إلى بحث مستقل.
وفيما يلي شواهد تمثل لغاتهم على المستويات الآتية:
1- المستوى الصوتي:
روي عن أزد السّراة أنهم كانوا يسكّنون هاء الغائب المتحرك عند الوصل، كقولهم في (لَهُ مالٌ) : (لَهْ مالٌ) .قال الأخفش: "وهذا في لغة أزد السّراة كثير".واستشهد هو وغيره بقول يعلى الأزدي:
فظَلْتُ لدى البيت العتيق أخِيلَهُ
ومِطْواي من شوقٍ لَهْ أرِقَانِ
واستشهدوا بهذه اللغة على قراءة ابن عباس (رضي الله عنهما) {ونادَى نُوحٌ ابْنَهْ} (1) بإسكان الهاء.
وإذا كانت الفصحى تقف على المنون بإبدال تنوينه ألفًا، إن كان بعد فتحة، وبحذفه إن كان بعد ضمة أو كسرة بلا بدل، فإن أزد السّراة يقفون بإبدال التنوين ألفًا بعد الفتحة، وواوًا بعد الضمة، وياء بعد الكسرة، فيقولون: رأيت زيدا، وهذا زيدو، وهذا عُمَرو، ومررت بزيدي، وبعمري. عزا هذه اللغة إليهم سيبويه، وقال: "جعلوه قياسًا واحدًا، فأثبتوا الياء والواو كما أثبتوا الألف".
__________
(1) سورة هود 42. وينظر في قراءاتها: المحتسب 1/323، وشواذ القرآن 60، والبحر المحيط 6/157، والدر المصون6/328.(45/219)
وهو قياس طريف له وجه مقبول، ووصْفُ ابن الشجري لهذه اللغة بالرداءة، وتعليل ذلك بثقل الواو والضمة، والياء والكسرة، ولالتباس الياء في نحو: مررت بزيدي وبغلامي بياء المتكلم، لا يقدح في فصاحة هذه اللغة. قال السيوطيّ: "وكأن البيان عندهم أولى، وإن لزم الثقل".
ولعلهم - أعني: أزد السّراة - قد حذفوا التنوين في الرفع والجر على القياس من كلام العرب، ثم أشبعوا الضمة فتولد عنها واو، وأشبعوا الكسرة فتولد عنها الياء. والإشباع ظاهرة تكاد تكون مطردة في لغاتهم، كقول الشنفرى الأزدي:
أو الخَشْرَمُ المبعوثُ حَثْحَثَ دَبْرَهُ
محابيضُ أرساهنَّ شارٍ مُعَسَّلِ
قال الزَّبيدي: "أشبع الكسرة في محابضَ فولّد ياء، وأراد بالشّاري الشّائر فقلبه".
ولا تزال هذه الظاهرة باقية إلى اليوم في أزد السراة، فأنت تسمعهم يقولون في أخذتُه للمتكلم، وأعطيتَه للمخاطب،وأعطيتِه للمخاطبة: "أخذتُوه، أعطيتَاه، أعطيتِيه". أشبعوا الحركات الثلاث فتولد عنها حروف المد الثلاثة.
وقد استشهدوا بهذه اللغة على كتابة (مُحِلّي) بالياء، والوقوف عليه بها في قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1) .
وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة امرأة، فقال: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك" (2) .
ومن الظواهر الصوتية التي عزيت إلى الأزد ظاهرة الإتباع، وهو ضرب من تأثر الحركات المتجاورة بعضها ببعض، وغايته تحقيق الانسجام بين الأصوات، كقولهم: (الحَمْدِ لله) بكسر الدال إتباعًا لكسرة اللام، أو (الحمدُ لُلَّه) بضم اللام إتباعًا لحركة الدال.
__________
(1) سورة المائدة 1. وينظر: البحر المحيط 4/163، والدر المصون 4/183 - 184.
(2) أخرجه ابن ماجة (2075- 1/671) والطبراني في المعجم الكبير (11962- 11/345) .(45/220)
وغلَّط كثير من النحاة واللغويين قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} (1) بضم التاء إتباعًا لحركة الجيم.
وذكر ابن الجزري أن هذه القراءة جاءت على لغة أزد شنوءة، ومن ثم رد على من طعن في صحتها، بقوله: "إن أبا جعفر إمام كبير، أخذ قراءته عن مثل ابن عباس وغيره، كما تقدم، وهو لم ينفرد بهذه القراءة، بل قد قرأ بها غيره من السلف، ورويناها عن قتيبة عن الكسائي من طريق أبي خالد، وقرأ بها أيضًا الأعمش، وقرأنا بها من كتاب المبهج وغيره، وإذا ثبت مثله في لغة العرب فكيف ينكر؟ ".
أضف إلى ذلك أن القراءة سنة متبعة، فمتى صحت، ونقلت نقلاً صحيحًا، وجب قبولها، ولا عبرة بكونها جاءت على غير ما هو مشهور في لغة العرب، فالقواعد التي اصطلح عليها علماء العربية لا ينبغي أن تكون هي الحكم في القراءة، بل العكس هو الصحيح.
وإذا كان الهمز ليس من لغة الفصحاء، كما قال الهجري، فإن قبائل الأزد عامة تميل إلى التخلص من الهمزة أنى وقعت، في أول الكلام أو في وسطه أو في آخره. روى أبو زيد عن أهل المدينة - ومعظم أهلها من الأزد - أنهم لا ينبرون. ولما حج المهدي، وقدّم الكسائي يصلي بالمدينة فهمز، فأنكر أهل المدينة عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن؟.
وروي عن الأنصار في قول العرب: "رجل وائل: رجل آيل".
كما روي عنهم أيضًا أنهم يقولون: بدينا في معنى بدأنا. قال شاعرهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
باسم الإله وبه بدينا
ولو عبدنا غيره شقينا
وأرجأت الأمر وأرجيته لغتان، عزيت الأخيرة إلى الأزد، ووصفت بأنها لغة جيدة. وبها قرأ نافع وأهل المدينة قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (2) بغير همز.
__________
(1) سورة البقرة 34.
(2) سورة الأعراف 111، والشعراء 36. وينظر. السبعة 287، والحجة لأبي علي، 4/58، وعلل القراءات 1/224، واللسان (رجو) 14/311.(45/221)
ومن هذا ما روي عن خزاعة أنهم يقولون: (لحم مُهَرّد) بدل (مُهَرّأ) تخلصوا من الهمزة بإبدالها دالاً.
ومن الظواهر الصوتية التي عزيت إلى الأزد أيضًا ظاهرة الاستنطاء، وهي عبارة عن جعل العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء، ومثلوا لها بالفعل (أنطى) بدلاً من (أعطى) . ومن شواهدها: ما روته أم سلمة - رضي الله عنها – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {إنّا أنْطَيناكَ الكَوْثر} (1) .وقرأ بها الحسن البصري وطلحة بن مصرف وابن محيصن والزعفراني. كما قرأ ابن مسعود والأعمش: {وأنطاهم تقواهم} في قوله تعالى: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (2)
2- المستوى الصرفي:
حكى الفراء "أن من العرب - وهم قليل - من يقول في المتكبِّر: متكبَّر، كأنهم بنوه على يتكبَّر. وهو من لغة الأنصار، وليس مما يبنى عليه. قال الفراء: وحدثت أن بعض العرب يكسر الميم في هذا النوع إذا أدغم، فيقول: هم المِطَّوِّعة والمِسَّمِع للمستمع، وهم من الأنصار، وهو من المرفوض".
والبُخَل والبَخَل بفتحتين، لغتان، الأخيرة لغة الأنصار، وقرئ بها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} (3) .
وروى الهجريّ عن ابن عَلْكَم: إن ثمالة وأهل السّراة كلهم يقولون: التِّرِحَّاب والتِّحِبَّاس والتِّفِرَّاق، يجئ هذا في التَّفَعُّل والتَّفْعِيل. يشاركهم في ذلك فَهْم وعدوان، وخَثْعَم ونَهْد وفصحاء مَذْحِج. قلت: ولا يزال هذا الاستعمال مسموعًا إلى اليوم في سراة غامد وزهران وبني عُمَر.
__________
(1) سورة الكوثر1.وينظر: المعجم الكبير للطبراني23/365 (862) ، وشواذ القرآن182، والكشاف4/806.
(2) سورة محمد 17.
(3) سورة النساء 37، والحديد 24. وينظر: السبعة 233، وتفسير القرطبي 17/ 259، وعون المعبود 11/5.(45/222)
وفُعَّال من صيغ المبالغة التي تواتر عزوها إلى أزد شنوءة، وبها قرئ قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) قال العكبريّ: "وهي لغة جيدة للمبالغة".
والأزد ينسبون إلى سَلِيمة (سَلِيمي) ، وغيرهم يقول: سَلَمي، وهو القياس.
والقلب المكاني هو حلول أحد الصوتين المتجاورين محل الآخر، ومن أمثلته في لغات الأزد قولهم: (الصّلت) في اللصت. ذكره أبو عمرو الشيباني، والصّغاني.
وأما ما جاء عنهم في الأفعال فقد قرئ قوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} (2) بكسر الدال، على لغة أزد السراة، يقولون: دِمت تَدام، مثل خِفْت تخاف. وهو القياس. وتميم تقول: دِمت بكسر الدال تَدُوم، وهو شاذ.
وحضَرت الصلاة بالفتح، وحضِرت بالكسر، لغتان، والأخيرة لغة أهل المدينة، عزاها إليهم الخليل وقال: وكلهم يقولون في المضارع: تحضُر، بضم عين الفعل، أي على القياس.
ومن الظواهر التي جاء لها شواهد في أشعار الأزد وكلامهم حذف بعض أصوات الكلمة، فراراً من كراهة توالي الأمثال، أو إيثاراً للسهولة والسرعة في النطق، فالأول مثل قول الشنفرى الأزدي:
وظَلْتُ لفتيانٍ معي أتّقيهم
بهنّ قليلاً ساعةً ثم خيّبوا
ومثله قول حاجز بن عوف الأزدي:
سألتُ فلم تكلّمني الرُّسُومُ
فظَلْتُ كأنّني فيها سَقِيمُ
ومثله أيضاً قول يعلى الأزدي:
فظَلْتُ لدى البيتِ الحرام أشيمُهُ
ومِطْواي من شوقٍ لَهْ أرِقَانِ
حذفوا إحدى اللامين عند إسناد الفعل إلى تاء الفاعل، والأصل (ظَلَلْتُ) ، وقد نزل القرآن الكريم بهذه اللغة، مثل قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} (3) وقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (4) .
__________
(1) سورة ص5. وينظر: تفسير القرطبي15/ 99،والبحر المحيط9/138،والدر المصون9/358 وفتح القدير 4/420.
(2) سورة آل عمران 75.
(3) سورة طه 97.
(4) سورة الواقعة 65.(45/223)
ومن الثاني ماروي عن الشنفرى بعد أن أُسر، وقال له رجل من بني سلامان من الأزد: "أأطرفُكَ؟ ثم رماه فقتله. فقال الشّنفرى: كاك كنا نفعل بكم. يريد كذاك كنا نفعل بكم".
ومثل ذلك قوله في لامية العرب:
فإن يكُ من جِنٍّ لأبرَحُ طارقًا
وإن يكُ إنسًا ما كها الأنس تفعلُ
قال مؤرج السدوسي: "أراد ما كهذا تفعل الإنس".
وهذه الظاهرة تذكرنا بقُطْعة طيئ المشهورة، وهي عبارة عن قطع اللفظ قبل تمامه، كقولهم: يا أبا الحكا، وهم يريدون يا أبا الحكم.
3- المستوى النحوي:
المشهور في العربية الفصحى إفراد الفعل مع الفاعل سواء كان مفردًا أو مثنى أو جمعًا، فيقال: قام زيد، وقام الزيدان، وقام الزيدون، إلا في لغة أزد شنوءة فإنهم يطابقون بين الفعل وفاعله، فيلحقون علامة تثنية للفاعل المثنى، وعلامة جمع للفاعل المجموع، ورويت كذلك عن طيئ وبني الحارث بن كعب، وكلهم قحطانيون من اليمن. والنحويون يسمونها: "أكلوني البراغيث" وسماها ابن مالك لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" (1) .
قال السُّهيليّ: "ألفيت في كتب الحديث المروية الصحاح، ما يدل على كثرة هذه اللغة وجودتها". وقال الشهاب الخفاجيّ: "وقد وقع منها في الآيات والأحاديث، وكلام الفصحاء ما لا يحصى".
__________
(1) حديث شريف، أخرجه من رواية أبي هريرة الدوسي البخاري (530 - 1/203) ، (6992 - 6/2702) ، (7048 - 6/2721) ومسلم (632 - 1/43) ، وأحمد في المسند (8105 - 2/312) ، ومالك في الموطأ (411 - 1/170) .(45/224)
ومن شواهدها في القرآن الكريم قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} (1) . وقوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} (2) وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (3) .
ومن الحديث ما تقدم.
ومن الشعر قول أمية بن أبي الصلت:
يلومونني في اشتراء النّخيـ
ـيلِ أهلي فكلُّهم ألومُ
وقول مجنون ليلى:
ولو أحدقوا بي الإنسُ والجنُّ كلّهم
لكي يمنعوني أن أجيكِ لجيتُ
وقول الآخر:
نصروكَ قومي فاعتززتَ بنصرهم
لو أنهم خذلوك كنتَ ذليلا
ومن الجدير بالذكر أن ظاهرة مطابقة الفعل لفاعله ظاهرة مطردة في اللغات السامية أخوات العربية، وهي العبرية والآرامية والحبشية والأكادية، وقد تخلصت العربية الفصحى منها رويدا رويدا، وبقيت بعض أمثلتها حية في لغة أزد شنوءة وطيئ وبني الحارث بن كعب.
ولا تزال هذه اللغة تسمع - إلى اليوم - في مناطق كثيرة من السّراة، فتسمعهم يقولون: "خرجوا الجماعة من المسجد"، و"نجحوا أولادك"فيلحقون واوًا علامة للجمع، وهذا شأنهم أبدًا، لا ينطقون الفعل مفردًا إذا كان الفاعل جمعًا.
ويتعدى الفعل (زَوّجَ) بنفسه عند جمهور العرب، فيقولون: تزوجت امرأة، إلا في لغة أزد شنوءة، فإنهم يعدونه بالباء فيقولون: تزوجت بامرأة. عزاها إليهم الفراء، واستشهد عليها بقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة 71. وينظر: مغني اللبيب 479.
(2) سورة مريم 87. وينظر: الكشاف 3/43، ومغني اللبيب 480، والدر المصون 7/ 643.
(3) سورة الأنبياء 3. وينظر: مغني اللبيب 479.
(4) سورة الدخان 20.(45/225)
ومن الظواهر التي يمكن إلحاقها بما نحن فيه ما حكاه الفراء أيضًا من أن (الزوج) يقع على الذكر والأنثى، قال: "وهذا قول أهل الحجاز، قال الله عز وجل: {أمْسِكْ عَليكَ زَوجَكَ} (1) وأهل نجد يقولون: زوجة، وهو أكثر من زوج، والأول أفصح عند العلماء". وفي (الحجة) لأبي علي عن الكسائي عن القاسم بن معن أنه سمع من أزد شنوءة (زوجة) بالتاء. ويناقض هذه الرواية ما أورده ابن فارس رواية عن الكسائي عن القاسم بن معن أيضًا أن (زوج) في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (2) لغة لأزد شنوءة.ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين بأن أزد شنوءة جمعوا في كلامهم بين اللغتين، فسمعها القاسم بن معن من بعضهم مؤنثة بالتاء، ومن آخرين بدون تاء.
ويقال فيما زاد على العشرة من ألفاظ العدد إذا صيغ على (فاعل) : حادي عشر، وحادية عشرة، والأصل: واحد عشر، وواحدة عشرة. وحكى الكسائي أنه سمع هذا الأصل من الأزد. قال أبو حيان: "وهذا هو القياس، إذ فعله وَحَدَ يَحِدُ، وأما حادي فمقلوب من واحد، جُعلت فاؤه مكان لامه، فانقلبت ياء لكسرة ما قبلها، وجُعلت عينه مكان فائه".
4- المستوى الدلالي:
إذا كانت لغات الأزد قد أمدت العربية بمادة وفيرة على المستوى الصوتي والصرفي والنحوي، فقد أمدتها كذلك بمعين متدفق من الألفاظ ذات الدلالات المختلفة عن نظائرها في لغات العرب، وتعد المادة الدلالية في لغات الأزد كبيرة إذا ما قيست بغيرها من اللغات العربية الأخرى، فلا يكاد يخلو مصدر من مصادر التراث العربي من إشارة أو أكثر إلى إحدى الدلالات اللغوية المعزوة إليهم.
وفيما يلي أمثلة مختارة لعدد من الألفاظ الدلالية المعزوة إلى الأزد أو إلى أحد بطونهم، مع بيان معناها في لغات الأزد، ومعناها في العربية المشتركة، وستكون متنوعة بحيث تنتظم الظواهر الدلالية المختلفة من ترادف وتضاد ومشترك لفظي:
اللفظ
__________
(1) سورة الأحزاب 37.
(2) سورة البقرة 35.(45/226)
معناه في لغات الأزد
معناه في العربية المشتركة
آلَ ((1))
نجا
رجع
الأجِيل ((2))
الشَّرَبة، وهو الطين يجمع حول النخلة، كالحوض وتسقى فيه
الماء المستنقع في الحوض
الأُرْعُوّة ((3))
نِير الفدّان يحترث بها، وهي الخشبة المعترضة على عنقي الثورين المقترنين
- ((4))
الأكّار ((5))
الخبير، وهو من يزرع على النصف أو الثلث
الحرّاث
الأُمّ ((6))
رأس القوم وولي أمرهم
الأمّ المعروفة
الأُمَّة ((7))
السنين. وفُسِّر به قوله تعالى: {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} ((8))
الشرعة والدين، والقرن من الناس
البَعْل ((9))
الرَّب. وفُسِّر به قوله تعالى {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} ((10))
الزوج
البَوَار ((11))
الفساد والهلاك. وفُسِّر به قوله تعالى: {وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} ((12))
الكساد
الجَعْب ((13))
البَعْر نفسه
الكثيبة من البَعْر
الخَزُومة ((14))
البقرة
البقرة، وقيل: هي المسنة القصيرة من البقر
__________
(1) التهذيب 15/441، واللسان 11/32، 39 (أول) .
(2) الجمهرة 2/1044، واللسان 11/ 12 (أجل) .
(3) الغريب المصنف 1/459، التهذيب 3/164، واللسان 14/ 327 (رعى) .
(4) ما وضع أمامه شرطة، فهو مما أخذته العربية المشتركة بمعناه من لغات الأزد.
(5) مجالس ثعلب 1/76. وينظر: اللسان (أكر) 4/ 26، (خبر) 4/228.
(6) شعر الشنفرى الأزدي 97، وشرح ديوان المفضليات 196، والجمهرة 1/60.
(7) لغات القبائل 131، والإتقان 1/422.
(8) سورة هود 8.
(9) لغات القبائل 237، والإتقان 1/418، والدر المصون 8/466، واللسان (بعل) 11/58.
(10) سورة الصافات 125.
(11) لغات القبائل 152، 210، وإعراب القرآن للنحاس 3/189، والبحر المحيط 8/92، والإتقان 1/419.
(12) سورة الفرقان 18.
(13) الجمهرة 1/268. وينظر: القاموس (جعب) 87.
(14) الجمهرة 1/596. وينظر: اللسان (خزم) 12/176.(45/227)
الخَمْر ((1))
العنب. وفُسِّر به قوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} ((2))
ما أسكر من عصير العنب أو غيره
التَّخَوّف ((3))
التَّنقص. وفُسِّر به قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} ((4))
الخوف من الشيء
الرِّزْق ((5))
الشكر. وفُسِّر به قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ((6))
عطاء الله
الرُّكَب ((7))
الضرب بالرُّكْبة، وكنيتها في لغتهم (أم كيسان)
جمع الرُّكْبة المعروفة
الرَّمْد ((8))
الكبير
الهلاك
الزَّفْن ((9))
عسيب من عُسب النخل يضم بعضه إلى بعض، ويتخذ منه ظُلَّة تقي الحَرَّ
الرّقص واللعب
الزَّقُّوم ((10))
شجرة ذَفِرة مُرّة، لها ورق قبيح جداً
طعام فيه تمر وزبد
أصَاب ((11))
أراد. وفُسِّر به قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} ((12))
لم يخطئ
المعَاذِير ((13))
السُّتور. وفُسِّر به قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ((14))
الحُجَج
__________
(1) لغات القبائل 146، والبرهان في علوم القرآن 2/279، والدر المصون 6/ 496، والإتقان في علوم القرآن 1/418. وينظر: اللسان (خمر) 4/255.
(2) سورة يوسف 36.
(3) تفسير القرطبي 10/ 73.
(4) سورة النحل 47.
(5) تفسير الطبري27/207،والقرطبي17/148،وابن كثير4/299،والدر المصون1/96، 10/228، والجمهرة 2/707، والمجمل 1/374، والمقاييس 2/388 (رزق) .
(6) سورة الواقعة 82.
(7) غريب الحديث للخطابي 3/105، والمجموع المغيث1/ 795، والفائق 2/83، والنهاية2/ 257.
(8) شعر الشنفرى الأزدي (شرح مؤرج السدوسي) 56. وينظر: اللسان (رمد) 3/185.
(9) الجمهرة 2/821، والتهذيب 13/224، واللسان (زفن) 13/197، (سعن) 13/209.
(10) اللسان (زقم) 12/268، 269.
(11) لغات القبائل 242، والإتقان 1/424.
(12) سورة ص 36.
(13) الجمهرة 2/692. وينظر: الصاحبي 58، والإتقان 417، والتهذيب 2/312، واللسان 4/553 (عذر) .
(14) سورة الواقعة 15.(45/228)
العَسَق ((1))
العُرْجُون القديم
اللّزْق والملازمة
المُعْصِر ((2))
المرأة التي ولدت أو تعنّست
المرأة التي دنت من الحيض
العَضْل ((3))
الحبس والمنع. وفُسِّر به قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
-
العَوَان ((4))
النّخلة الطويلة
المرأة المسنة غير الهرمة
المُدْية ((5))
السِّكين
-
الفُرْهود ((6))
ولد الأسد
الممتلئ الجسم
التَّفَكه ((7))
التَّندم
التَّعجب
فَدَّكَ القطن ((8))
نفشه
-
الفُرْعُل ((9))
الضَّبُع
ولد الضَّبُع
الفُوْم ((10))
السُّنْبُل
الزَّرْع أو الحنطة
القَوْس ((11))
الذِّراع
القوس المعروفة
اللِّين ((12))
النّخل
الدّقل من النّخل
المِطْو ((13))
الصّديق
عِذْق النّخلة، وسَبَل الذّرة
الخاتمة
__________
(1) العين 1/130، والمحكم 1/85 (عسق) .
(2) الفرق لقطرب 95، والأضداد للأنباري 216.
(3) لغات القبائل60، الإتقان 1/422.
(4) الجمهرة 2/955، واللسان 13/300 (عون) .
(5) مسند أحمد (8263) 2/322، والمعجم الأوسط (2771) 3/155، والأوائل لابن أبي عاصم 1/73، والنهاية 2/386، وتفسير القرطبي 11/207.
(6) رسالة الغفران382، ووفيات الأعيان 1/488، والجمهرة 2/1146، 1198، والبارع 221، واللسان 3/335 (فرهد) .
(7) المنجد، لكراع 152.
(8) الجمهرة /672، والصحاح 4/1602 (فدك) .
(9) غريب الحديث لأبي عبيد 4/200.
(10) مجاز القرآن 1/41، والجمهرة 2/972، واللسان 12/460 (فوم) .
(11) تفسير القرطبي 17/61.
(12) اللغات في القرآن 275، والاتقان 1/424، والجمهرة 2/ 674.
(13) شروح سقط الزند 1/40، والجمهرة 2/927، واللسان 15/ 286- 287 (مطى) . وشاهده في هذه المصادر قول يعلى الأزدي:
فظلت لدى البيت الحرام أخيلُهُ ومِطْواي من شَوْقٍ له أَرِقَانِ(45/229)
الأزد ومكانتهم في العربية، هو عنوان هذا البحث الذي سلكت في كتابته منهجًا وصفيًا تاريخيًا، فاقتضى هذا المنهج تقسيم البحث إلى فصلين، عرفت في الفصل الأول بنسب الأزد، وقبائلهم، وتحدثت فيه عن تاريخ نزوحهم من اليمن إثر حادثة سيل العرم أو قبلها بقليل، ثم أشرت إلى مواطنهم الجديدة داخل الجزيرة العربية، وخارجها.
وأشرت إلى تقسيم بعض العلماء للأزد إلى أربع مجموعات كبيرة، تضم جميع بطون الأزد، وهم: أزد السراة، وأزد شنوءة، وأزد غسّان، وأزد عمان. ونبهت إلى أن أزد السّراة هم جميع بطون الأزد التي استوطنت جبال السراة، وليس كما ذهب بعض المعاصرين - خطأ - إلى أن أزد السّراة هم جميع بطون الأزد التي رحلت إلى عمان.
ثم تحدثت عن ديانتهم في الجاهلية، فذكرت أنهم كانوا على بقية من دين إبراهيم - عليه السلام - فكانوا يحجون ويعتمرون ويهدون البُدن، ولكنهم - مع ذلك - كانوا مشركين يعبدون الأصنام كغيرهم من قبائل العرب.
ثم وقفت على جوانب مهمة من تاريخهم المشرق، فذكرت أنهم كانوا أول القبائل العربية إيمانًا بالرسالة المحمدية، وأول من آوى الرسول صلى الله عليه وسلم ونصره.
ثم تحدت عن إسهامات بني الأزد في الثقافة العربية والإسلامية، فذكرت عددًا من علمائهم الذين كان لهم فضل السبق والريادة في كثير من العلوم.
ولم أغفل دورهم في إثراء الثقافة الأدبية، فذكرت عددًا من شعرائهم المشاهير في الجاهلية والإسلام، وأبنت عن القيمة الأدبية العالية التي حظيت بها قصائد بعض شعرائهم، كقصيدة الشنفرى، المعروفة بـ (لامية العرب) .
وكي لا يكون حديثي عن مكانة الأزد وفضلهم خلوًا من الدليل، فقد سقت عددًا من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء تدل في مجملها على فضلهم وما اتصفوا به من خصال حميدة، كالصدق والأمانة والشجاعة والإخلاص.(45/230)
أما الفصل الثاني فقد تحدثت فيه عن مكانة الأزد في العربية، فعمدت أولاً إلى ذكر شواهد من كلام العلماء، تذكر أنهم من أفصح العرب، بل نقلت كلامًا للخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء والمبرد أجمعوا فيه على أن أزد السّراة هم أفصح العرب قاطبة.
وذكرت أن فصاحتهم تلك بقيت إلى أزمنة قريبة غضة نقية من شوائب اللحن، ونقلت - تصديقًا لذلك - شواهد حية من كلام علماء شافهوا أولئك القوم في عصور مختلفة تلت عصور الاحتجاج حتى عصرنا الحاضر.
ثم أشرت إلى ما أصاب لغتهم - في الوقت الراهن - من هجنة اللحن البغيض، وذكرت أسباب ذلك، وانتهيت إلى أنها لا تزال من أقرب اللغات إلى الفصحى في أرجاء الجزيرة العربية.
ثم أشرت إلى منهج اللغويين في إغفال الأخذ عن أزد عمان وأزد غسّان وقبائل عربية أخرى، بدعوى اختلاطهم بأمم غير عربية، ثم أبنت عن قصور ذلك المنهج، إذ إن لغات تلك القبائل قد ورد لها شواهد وأمثلة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، واستشهد بها عدد من أئمة العربية، كابن مالك - رحمه الله.
ثم أتبعت حديثي عن فصاحة الأزد بضرب أمثلة من لغاتهم تشمل المستويات اللغوية (الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية) كافة.
وقد نقلت الأمثلة من مصادر شتى، أبنت من خلالها عن أهمية لغات الأزد ودورها في إثراء العربية بجميع مستوياتها المذكورة، وعن أهمية دراستها دراسة مستوعبة متأنية، إذ إنها لم تحظ بعناية الباحثين في الدراسات اللغوية.
وقد اتضح من خلال تلك الأمثلة أن لغات الأزد وبخاصة أزد السراة، ومنهم أزد شنوءة، هي من أكثر لغات العرب شيوعًا في المصادر العربية، ذلك أنهم كانوا من أفصح العرب بشهادة أئمة اللغة.
كما اتضح أن أكثر ما تناوله اللغويون والمفسرون وغيرهم من لغات الأزد كان ينصب على الدلالة اللغوية، حيث ذكروا في تفسير معاني كثير من الألفاظ بأنه جاء على لغة من لغات الأزد.(45/231)
وتبين من خلال تلك الأمثلة أن كثيرًا من الظواهر اللهجية في لغات الأزد قد جاءت ممثلة في كتاب الله الكريم وقراءاته، إذ تعد القراءات أهم مصدر موثوق في تقعيد العربية وتأصيلها والكشف عن لهجاتها.
وقد ربطت عند كثير من الأمثلة بين الظواهر اللغوية القديمة في لغات الأزد، والظواهر المماثلة لها اليوم في لهجات أهل السّراة وغيرهم، وبينت صلتها الوثيقة بلغات أسلافهم، حيث اتضح أنها لا تزال تحتفظ بظواهر لهجية كثيرة تماثل أو تخالف ما عزي إلى الأزد قديمًا، ولذلك فإني أرى ضرورة جمع هذه اللهجات من أفواه أهلها، ودراستها قبل انقراضها وزوالها، لأنها تعين على فهم مسائل هامة في دراسة لغات الأزد قديمًا، بل ولغات القبائل العربية الأخرى في أصواتها وصرفها ونحوها ودلالتها، كما أنها تعين على تأصيل الدرس اللغوي عامة، وفهم التطور اللغوي للعربية.
وبعد، فإني آمل أن تكون هذه الدراسة قد وفَّتْ الأزد شيئًا من حقهم، ولعلها تكون حافزًا ومنطلقًا لدراسة لغاتهم دراسة واسعة مستفيضة تقوم على التحليل والتعليل والتفسير.
والحمد لله الذي تتم بنعمه الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(45/232)
تابع لأزد ومكانتهم في العربية
فهرس المصادر والمراجع
1- إتحاف فضلاء البشر، للبنّا، ت- شعبان محمد إسماعيل، عالم الكتب، بيروت، ط.1407هـ.
2- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، ت – مصطفى ديب البغا دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط.الأولى، 1407هـ.
3- أديان العرب في الجاهلية، لنعمان الجارم، مطبعة السعادة،مصر، ط. الأولى، 1341 هـ.
4- أخبار مكة، للأزرقي، ت- رشدي الصالح، مطابع دار الثقافة، مكة، ط. الخامسة، 1408هـ.
5- ارتشاف الضرب، لأبي حيان، ت- رجب عثمان محمد، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط.الأولى، 1418هـ.
6- الأزمنة وتلبية الجاهلية، لقطرب، ت- جميل حنا حداد، مكتبة المنار، الأردن، ط.الأولى، 1405هـ.
7- الإشباع ظاهرة حضارية، لأحمد سعيد قشاش، جريدة المدينة (ملحق التراث) العدد السادس والثلاثون، 3 رجب 1417هـ.
8- الاشتقاق، لابن دريد، ت- عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1378هـ.
9 - الأشموني = منهج السالك إلى ألفية ابن مالك.
10- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، دار الكتاب العربي، بيروت.
11- إصلاح المنطق، لابن السكيت، ت- أحمد شاكر، وعبد السلام هارون، دار المعارف، ط.الرابعة، 1987هـ.
12- الأصنام، لابن الكلبي، ت- أحمد زكي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1342هـ.
13- الأصول (الأصول في النحو) لابن السراج، ت- عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، ط.الأولى، 1405هـ.
14- الأضداد، لابن الأنباري، ت- محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1407هـ.
15- أعجب العجب في شرح لامية العرب، للزمخشري، ت- محمد حوّر، مطبعة سعد الدين، دمشق، ط.الأولى،1408هـ.
16- إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس، ت- زهير غازي زاهد، عالم الكتب، ومكتبة النهضة العربية، ط.الثانية، 1405هـ.
17- إعراب القراءات الشواذ، للعكبري، ت- محمد السيد أحمد، عالم الكتب، بيروت، ط.الأولى، 1417هـ.(45/233)
18 - إعراب لامية الشنفرى، للعكبري، ت- محمد أديب عبد الواحد، المكتب الإسلامي، بيروت، ط.الأولى، 1404هـ.
19- الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، جمال للطباعة والنشر، بيروت.
20- الأفعال، للسرقسطي، ت – حسين محمد شرف، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1395هـ.
21- الاقتراح في علم أصول النحو للسيوطي، ت- أحمد قاسم، 1366هـ.
22- الإكليل، للهمداني، ت- محمد علي الأكوع، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط.الثالثة، 1407هـ.
23- الأمالي، لأبي علي القالي، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، 1926، نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
24- الأنباه على قبائل الرواة، لابن عبد البر (ضمن مجموعة الرسائل الكمالية) مكتبة المعارف، الطائف، 1980م.
25- أهل السراة في القرون الإسلامية الوسيطة، لعبد الله أبي داهش (بدون معلومات) .
26- الأوائل لابن أبي عاصم، ت- محمد ناصر العجمي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت.
27- الأوائل لأبي هلال العسكري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، 1407هـ.
28- الإيناس في علم الأنساب، للوزير المغربي، ت- حمد الجاسر، دار اليمامة للبحث والترجمة النشر، الرياض.
29- البارع في اللغة، لأبي علي القالي، ت- هاشم الطعان، مكتبة النهضة، بغداد، ط.الأولى، 1975م.
30- البحر المحيط، لأبي حيان، ت- صدقي محمد جميل، المكتبة التجارية، مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1412هـ.
31- بحوث ومقالات في اللغة، لرمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط.الثانية، 1408هـ.
32- البداية والنهاية، لابن كثير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.الخامسة، 1409هـ.
33- البرهان في علوم القرآن، للزركشي، ت- محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، 1391هـ.
34- بغية الآمال في معرفة النطق بجميع مستقبلات الأفعال، لأبي جعفر اللبلي، ت- سليمان بن إبراهيم العايد، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1411هـ.(45/234)
35- تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، دار الفكر، بيروت.
36- تاريخ الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.الأولى، 1407هـ.
37- تاريخ العرب قبل الإسلام = المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.
38- تاريخ الموصل، لأبي زكريا الأزدي، ت- محمد علي حبيبة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1387هـ.
39- التبيان في إعراب القرآن، للعكبري، ت- محمد علي البجاوي، عيسي البابي الحلبي، القاهرة.
40- التبيان، لعلي بن محمد بن سدران الزهراني، مطابع الشاطئ الحديثة، الدمام، ط.الأولى، 1415هـ.
41- تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، لابن مكي الصقلي، ت- عبد العزيز مطر، دار المعارف، 1981هـ.
42- تذكرة أولي النهى والعرفان، لإبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن، مؤسسة النور للطباعة، الرياض.
43- تذكرة الألباب في أصول الأنساب، لأبي جعفر البتّي (منشور في مجلة العرب، س 15،محرم صفر1401هـ) .
44- تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، للصفدي، ت- السيد الشرقاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط. الأولى، 1407هـ.
45- التصريح بمضمون التوضيح، لخالد الأزهري، ت- عبد الفتاح بحيري، الزهراء للأعلام العربي، ط. الأولى، 1418هـ.
46 - التعريف في الأنساب، لمحمد بن أحمد الأشعري، ت- سعد عبد المقصود ظلام، نادي أبها الأدبي، 1409هـ.
47 - التعليقات والنوادر، لأبي علي الهجري، تحقيق وترتيب حمد الجاسر، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، ط. الأولى، 1413هـ.
48- تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) ،دار الفكر، بيروت،1401هـ.
49- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
50- تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، 1408هـ.
51- تهذيب اللغة، للأزهري، ت- جماعة من العلماء، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، القاهرة، 1384هـ.(45/235)
52- تهذيب الألفاظ، لابن السكيت، هذبه التبريزي، ت - الأب لويس شيخو اليسوعي، المطبعة الكالوثيكية، بيروت، 1895م.
53- التيجان في ملوك حمير، لابن هشام، رواية عن وهب بن منبه، مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء.
54- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، للثعالبي، ت- محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1985م.
55- الجامع الكبير (جمع الجوامع) للسيوطي، مخطوط منشور على هيئته الأصلية، نشر الهئية المصرية العامة للكتاب.
56- جمهرة أنساب العرب، لابن حزم، ت – عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، ط. الخامسة، 1982هـ.
57- جمهرة اللغة، لابن دريد، ت - رمزي منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط0 الأولى، 1987 م.
58- جمهرة النسب، لابن الكلبي، ت - ناجي حسن، عالم الكتب، مكتبة النهضة، بيروت، ط. الأولى، 1407هـ.
59- الجنى الداني في حروف المعاني، للمرادي، ت – فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط0 الثانية، 1403هـ.
60- الجيم، لأبي عمرو الشيباني، ت - إبراهيم الأبياري، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1394هـ.
61- الحجة، لأبي علي الفارسي، ت- بدر الدين قهوجي، وبشير جويجاتي، دار المأمون للتراث، دمشق، ط. الأولى، 1404هـ.
62- حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني، مطبعة السعادة، مصر، ط. الأولى، 1394هـ.
63- خزانة الأدب، للبغدادي، ت – عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط. الثالثة، 1409هـ.
64- الخصائص، لابن جني، ت – محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت.
65- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، ت – أحمد بن محمد الخراط، دار القلم، دمشق، ط0 الأولى، 1406هـ.
66- دراسات في أنساب قبائل اليمن، لأحمد شرف الدين، مطابع الرياض، الرياض، ط. الثانية، 1981هـ.
67- ديوان أمية بن أبي الصلت، ت- عبد الحفيظ السطلي، دمشق، ط- الثانية، 1977م.(45/236)
68- ديوان حسان بن ثابت، ت- وليد عرفات، دار صادر، بيروت.
69- ديوان الشنفرى= شعر الشنفرى الأزدي.
70- ديوان عبد الله بن رواحة، ت – وليد قصاب، دار الضياء للنشر والتوزيع، عمان، ط. الثانية، 1408هـ.
71- ديوان كثير عزة، ت- إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1971م.
72- ديوان مجنون ليلى، ت- عبد الستار فراج، مكتبة مصر، القاهرة، 1979هـ.
73- رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار) ت- طلال حرب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، 1407هـ.
73- رحلة ابن جبير، دار صادر، بيروت، 1384هـ.
74- رسالة الغفران، للمعري، ت- عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط. الثامنة، 1990م.
75- الروض المعطار في خير الأقطار، للحميري، ت- إحسان عباس، دار ناصر للثقافة، بيروت، ط. الثانية، 1980م.
76- زهر الآداب، للحصيري، ت- زكي مبارك، دار الجيل، ط. الرابعة.
77- سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، للسويدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.
78- السبعة، لابن مجاهد، ت- شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط. الثالثة، 1988م.
79- سلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني، مكتبة دار المعارف، الرياض، ط. الأولى، 1408هـ.
80- سنن الترمذي (الجامع الصحيح) ت- أحمد شاكر ورفاقه، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط. الثانية، 1398هـ.
81- سنن ابن ماجه، ت – محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.
82- سير أعلام النبلاء، ت - جماعة من العلماء، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. السابعة، 1410هـ.
83- السيرة النبوية، لابن هشام، ت - مصطفى السقا ورفيقيه، مؤسسة علوم القرآن.
84- شرح أشعار الهذليين، لأبي سعيد السكري، ت - عبد الستار أحمد فراج، مكتبة دار العروبة، القاهرة.
85- شرح التسهيل، لابن مالك، ت - عبد الرحمن السيد، ومحمد بدوي المختون، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط. الأولى، 1410هـ.(45/237)
86- شرح فصيح ثعلب للزمخشري، ت- إبراهيم الغامدي، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط. الأولى، 1417هـ.
87- شرح درة الغواص، للخفاجي، مطبعة الجوائب، القسطنطنية، ط. الأولى، 1299هـ.
88- شرح ديوان المفضليات، لأبي محمد القاسم بن محمد الأنباري، ت -يعقوب لايل، مطبعة الأباء اليسوعيين، بيروت، 1920م.
89- شرح الكافية الشافية، للرضي، ت - يوسف حسن عمر، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي، 1398هـ.
90- شرح المفصل، لابن يعيش، عالم الكتب، بيروت.
91- شرح مقامات الحريري، للشريشي، ت- محمد أبو الفضل إبراهيم، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، 1389هـ.
92- شروح سقط الزند، ت- جماعة من العلماء، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، 1364هـ، نشر الدار القومية للطباعة والنشر.
93- شعر الشنفرى الأزدي، شرح مؤرج السدوسي، ت- علي ناصر غالب، مطبوعات مجلة العرب، الرياض، ط. الأولى، 1419هـ.
94- شواذ القرآن = مختصر في شواذ القرآن.
95- الشوارد في اللغة، للصغاني، ت- عدنان عبد الرحمن الدوري، مطبعة المجمع العلمي العراقي،1403هـ.
96- شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح، لابن مالك، ت- محمد فؤاد عبد الباقي، عالم الكتب، بيروت، ط. الثالثة، 1403هـ.
97- الصاحبي في فقه اللغة، لابن فارس، ت- مصطفى الشويمي، بدران للطباعة والنشر، بيروت، 1382هـ.
98- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، للقلقشندي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1340هـ.
99- الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) للجوهري، ت- أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط. الثالثة، 1404هـ.
100- صحيح البخاري، ت - مصطفى ديب البغا، دار بن كثير، بيروت، ط. الثانية، 1407هـ.
101- صحيح مسلم، ت - محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، 1403هـ.
102- صفة جزيرة العرب، للهمداني، ت- محمد بن علي الأكوع، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989م.(45/238)
103- ضرائر الشعر، لابن عصفور، ت - السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس، بيروت، ط. الثانية، 1402هـ.
104- طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب، لابن رسول، ت – ك. و. ستر. ستين، منشورات المدينة، بيروت، ط. الثانية، 1406هـ.
105- عجالة المبتدئ وفضالة المنتهي في النسب، للحازمي، ت- محمد زينهم، وعائشة التهامي، ومديحة الشرقاوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998م.
106- العقد الفريد، لابن عبد ربه، ت- أحمد أمين، ورفيقيه، دار الكتاب العربي، 1406هـ.
107- علل القراءات، لأبي منصور الأزهري، ت- نوال بنت إبراهيم الحلوة، ط. الأولى، 1412هـ.
108- العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لابن رشيق القيرواني، دار المعرفة، بيروت، ط. الأولى، 1408هـ.
109- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للآبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الثانية، 1415هـ.
110- العين، للخليل بن أحمد، ت- مهدي المخزومي، إبراهيم السامرائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط. الأولى، 1408هـ.
111- عيون الأخبار، لابن قتيبة، دار الكتاب العربي، بيروت.
112- غريب الحديث، لأبي عبيد، نسخة مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، نشر دار الكتاب العربي، بيروت.
113- غريب الحديث، للخطابي، ت- عبد الكريم العزباوي، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1402هـ.
114- الغريب المصنف، لأبي عبيد، ت- محمد المختار العبيدي، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، ودار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، ط. الثانية، 1416هـ.
115- الغريبين، لأبي عبيد أحمد الهروي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1406هـ.
116- الفائق في غريب الحديث، للزمخشري، ت- محمد أبو الفضل إبراهيم، ومحمد البجاوي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط. الثانية.
117- الفاضل في اللغة والأدب، للمبرد، ت - عبد العزيز الميمني، دار الكتب، القاهرة، 1956م.
118- فتح القدير، للشوكاني، دار المعرفة، بيروت.(45/239)
119- فتوح البلدان، للبلاذري، ت - عبد الله أنيس الطباع، عمر أنيس الطباع، مؤسسة المعارف، بيروت، 1407هـ.
120- فتوح مصر وأخبارها، لابن عبد الحكم، مطبعة بريل، ليدن،1920م.
121- الفرق لقطرب، ت - خليل إبراهيم العطية، مكتبة الثقافة الدينية، ط. الأولى، القاهرة، 1987م.
122- الفصوص، لصاعد البغدادي، ت - عبد الوهاب التازي سعود، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب،1413 - 1416هـ.
123- في سراة غامد وزهران، لحمد الجاسر، منشورات دار اليمامة لبحث والترجمة والنشر، الرياض، ط. الثانية، 1397هـ.
124- القاموس المحيط، للفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. الثانية، 1407هـ.
125- قبائل إقليم عسير في الجاهلية والإسلام، لعمر غرامة العمروي، ط. الأولى، منشورات نادي أبها الأدبي، 1411هـ.
126- الكافية في شرح الشافية، للساكناني، ت- عبد الله بن محمد مبارك العتيبي، رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة،1417-1418هـ.
127- الكامل في اللغة والأدب، للمبرد، ت - محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. الأولى، 1406هـ.
128- الكتاب، لسيبويه، ت- عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط. الثالثة، 1408هـ.
129- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، دار الريان للتراث، القاهرة، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الثالثة، 1407هـ.
130- اللباب، للعكبري، ت - عبد الإله نبهان، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط. الأولى، 1416هـ.
131- لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت.
132- لغات القبائل الواردة في القرآن، لأبي عبيد، رواية عن ابن عباس، ت- عبد الحميد السيد، مطبوعات جامعة الكويت، 1985م.
133- اللهجات العربية في التراث، لأحمد علم الدين الجندي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1399هـ.
134- اللهجات العربية في القراءات القرآنية، لعبده الراجحي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995م.(45/240)
135- مجالس ثعلب، ت - عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، ط. الخامسة، 1987م.
136- مجمع الأمثال، للميداني، ت- محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت، ط. الثانية، 1407هـ.
137- مجمل اللغة، لابن فارس، ت - زهير عبد المحسن، سلطان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. الثانية، 1406هـ.
138- المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث، لأبي موسى الأصفهاني، ت- عبد الكريم العزباوي، مركز إحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، ط. الأولى، 1408هـ.
139- المحبر، لابن حبيب، ت - إيلزة ليختن، نسخة مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، 1361هـ، منشورات دار الأفاق الجديدة، بيروت.
140- المحتسب في تبيين وجوه القراءات الشاذة والإيضاح عنها، لابن جني، ت - علي النجدي ناصف ورفيقيه، دار سزكن للطباعة والنشر، 1406هـ.
141- المحرر الوجيز، لابن عطية، ت - عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، 1414هـ.
142- المحكم، لابن سيده، ت - جماعة من العلماء، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط. الأولى، 1377هـ.
143- مختصر في شواذ القرآن، لابن خالويه، نشره برجستراسر، مطبعة الرحمانية، القاهرة، 1934هـ.
144- المخصص، لابن سيده، دار الفكر، بيروت، 1398هـ.
145- المذكر والمؤنث، لأبي حاتم السجستاني، ت- عزة حسن، دار الشرق العربي، بيروت.
146- المذكر والمؤنث، للفراء، ت- رمضان عبد التواب، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1975م.
147- مروج الذهب، للمسعودي، ت- يوسف أسعد داغر، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
148- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، للسيوطي، ت – محمد جاد المولى ورفيقيه، المكتبة العصرية، بيروت، 1406هـ.
149- المساعد على تسهيل الفوائد، لابن عقيل، ت- محمد كامل بركات، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1400هـ.
150- مسند الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر.(45/241)
151- المشوف المعلم في ترتيب إصلاح المنطق، للعكبري، ت- ياسين محمد السواسي، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، 1403هـ.
152- مصابيح المغاني في حروف المعاني، للموزعي، ت - عائض بن نافع العمري، دار المنار، القاهرة، ط. الأولى، 1414هـ.
153- المعارف، لابن قتيبة، ت - ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة، ط. الرابعة، 1981هـ.
154- معاني القرآن للأخفش، ت - فائز فارس، الكويت، ط. الثانية،1401هـ.
155- معاني القرآن، للفراء، ت - محمد علي النجار ورفيقيه، عالم الكتب، بيروت، ط. الثالثة، 1403هـ.
156- معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، ت - عبد الجليل شلبي، عالم الكتب، بيروت، ط. الأولى، 1408هـ.
157- المعجم الأوسط، للطبراني، ت - طارق بن عوض، عبد المحسن إبراهيم، دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ.
158- معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، 1404هـ.
159- المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية (منطقة عسير) لعلي إبراهيم ناصر الحربي، أبها، 1417هـ.
160- معجم الشعراء، للمرزباني، ت - كرنكو، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الثانية، 1402هـ.
161- المعجم الكبير للطبراني، ت - حمدي السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ط. الثانية، 1404هـ.
162- معجم قبائل العرب، لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. الخامسة، 1405هـ.
163- معجم ما استعجم،للبكري، ت- مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت.
164- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام، ت- مازن المبارك، ومحمد علي، دار الفكر، بيروت، ط. الخامسة، 1979م.
165- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، دار العلم للملايين، بيروت، ط. الأولى، 1971هـ.
166- المفضليات، للمفضل الضبي، ت- أحمد شاكر، وعبد السلام هارون، بيروت، ط. السادسة.
167- مقاييس اللغة، لابن فارس، ت- عبد السلام هارون، دار الفكر، 1399هـ.
168- المنجد في اللغة، لكراع النمل، عالم الكتب، القاهرة، ط. الثانية، 1988م.(45/242)
169- منهج السالك إلى ألفية ابن مالك، للأشموني، دار إحياء الكتب العربية، البابي الحلبي.
170- المنهل ج2، مجلد 30، السنة 35، صفر 389هـ.
171- الموطأ، لمالك، ت- محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
172- نسب عدنان وقحطان، للمبرد، (ضمن مجموعة الرسائل الكمالية) مكتبة المعارف، الطائف، 1980م.
173- النسب، لأبي عبيد، ت- مريم محمد، دار الفكر، بيروت، ط. الأولى، 1410هـ.
174- نسب معد واليمن الكبير، لهشام الكلبي، ت- ناجي حسن، عالم الكتب، ومكتبة النهضة العربية، بيروت، ط. الأولى، 1408هـ.
175- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، دار الكتب العلمية، بيروت.
176- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، ت- طاهر أحمد الزاوي، ومحمود الطناحي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
177- نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، للقلقشندي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، 1405هـ.
178- همع الهوامع، للسيوطي، ت- أحمد شرف الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، 1418هـ.
179- الوسائل إلى معرفة الأوائل، للسيوطي، ت- أحمد عبد القادر، دار الوفاء، المنصورة، مكتبة دار ابن قتيبة، الكويت، ط. الأولى، 1410هـ.
180- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، ت- إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1397هـ.
181- A STUDY OF THE ARABIC DIALECTS OF THE BELAD GHAMID AND ZAHRAN. BY. ABDULLAH NADWI A THESIS PRESENTED TO THE UNIVERSITY OF LEEDS. FOR DEGREE
OF DOCTOR OF FHILOSOPHY. MAY 1968(45/243)
التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية
إعداد:
د / خالد بن حامد الحازمي
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
المقدّمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فيعتبر الإبداع من الجوانب التربوية المهمة التي تستحق العناية، بالبحث والدراسة والتطبيق، وذلك لما يترتب على الإبداع من التطور العلمي، والتقني والمهني والثقافي والاقتصادي، وفي جميع المجالات.
ومن ناحية أخرى فإن الأمة تحتاج إلى قوة تتقوى بها على حماية معتقداتها، ونشر الحق، وتمكين أصحابها من الأخذ بزمام القيادة والمبادرة، وهذا يتطلب أن تكون الأمة قوية في اقتصادها وتجارتها وصناعتها وزراعتها وطبها وإدارتها، وهذا لا يمكن إلا بتربية الإنسان في جميع جوانبه العقدية والتعبدية والخلقية والجسمية والإبداعية.
وبالرغم من أهمية الإبداع إلا أن له خطورة إذا سار في ظل منهج منحرف، فيحرف المبدعين إلى وجهة غير صحيحة، قد تكون مدمرة للمجتمع، كالإبداع في بعض المجالات التقنية التي تمخض عنها بعض الوسائل المدمرة.
وهذا يؤكد أهمية الاهتمام بالتوجيه الإبداعي نحو الصلاح، كما يؤكد أهمية العناية بعقل الإنسان والمحافظة عليه، فكلما كان العقل مصانا من الانحراف موجهاً توجيهاً صحيحاً، ازداد قوة ونشاطاً، وإدراكاً وسلامة. وكلما انحرف عن جادة الطريق، تاه وعدل عن الحق، وسخر الإنتاج الإنساني إلى ما يضره، ويضر أفراد المجتمع.
والتربية الإسلامية اهتمت بجانب الإبداع، وحمَّلت الإنسان مسئولية الأعمال التي يقوم بها، كما اهتمت بجانب العقل الذي يعتبر أحد الضروريات الخمس التي حافظت عليها الشريعة الإسلامية.(45/244)
ولما أن الإبداع الصحيح يعتمد على العقل السليم فلابد من تناول موضوع التربية العقلية التي تمثل فكر الإنسان وما يحمله من مفاهيم صحيحة أو مغلوطة.
وتبرز أهمية هذا الموضوع من أهمية الإبداع، وأهمية حفظ العقل وتنميته، وإبعاده عن الزيغ والضلال، لأن هناك من أفرط في هذا الجانب، وهناك من فرط في الاستفادة منه. والتربية الإسلامية لا تغالي فيه ولا تجافيه، بل ترده في مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه.
فالبعض أفرط، فقدمه على الشرع، فحصل الزلل والخلل والضلال، والبعض زهد فيه ولم يهتم به، واعتبر الحديث فيه وعنه من منهج أهل البدع والكلام، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن العلوم "منها ما يُعلم إلا بالأدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يعرف أن أجلّ الأدلّة العقلية وأكملها وأفضلها مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن من الناس من يذهل عن هذا، فمنهم من يقدح في الدلائل العقلية مطلقا، لأنه قد صار في ذهنه أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه من أحدثه من المتكلمين، ومنهم من يعرض عن تدبر القرآن وطلب الدلائل اليقينية العقلية منه، لأنه قد صار في ذهنه أن القرآن إنما يدل بطريق الخبر فقط، فلا بد أن يعلم بالعقل قبل ذلك ثبوت النبوة وصدق الخبر، حتى يستدل بعد ذلك بخبر من ثبت بالعقل صدقة". وصحيح المنقول لا يخالف صريح المعقول، فالعقل السليم لا يتعارض مع الشرع أبداً، وإنما التعارض يأتي من الزيغ والهوى، ومن الغذاء المعرفي بمناهج المتكلمين والمتفلسفين.
وأما أولو الألباب فهم الذين إذا تأملوا في ملكوت الله ازدادوا إيمانا، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران: آية رقم 190.(45/245)
وقد خاطب القرآن أولي الألباب لتأكد ما فطر عليه الإنسان من الإيمان بالربوبية قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (1) .
فإذا كان من المستحيل أن يخلق الإنسان نفسه، ومن المستحيل أن يُخلق من غير خالق، فلم يبق إلا الاعتراف والركون إلى الفطرة السليمة، من أن هناك خالقاً خلق الإنسان والسموات والأرض وقدّر فيها أقواتها.
وهذا استدلال وتوجيه ومخاطبة لعقل الإنسان، وهو ما يسمى عند الأصوليين بالسبر والتقسيم، وعندما سمع هذه السورة جُبير بن مطعم قبل إسلامه تأثر بها، وكانت دعوة مؤثرة قوية حملته على الإسراع إلى الإسلام، حيث قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير للإسلام".
قال الخطابي: كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه.
فالاهتمام بحفظ العقل والعناية به أمر هام، وليس هناك ما يمنع من ذلك، بل العناية به آكد، لأن العقل السليم يتأثر بالنقل الصحيح، ولذلك لا بد من المحافظة عليه من المؤثرات الفاسدة.
__________
(1) سورة الطور: آية رقم 35-37.(45/246)
والتربية الإبداعية هي التي تهتم بحفظ العقل من الزيغ والافتتان باللهو والهوى، كما تجنبه ما يهدم العقل من علوم فلسفية وكلامية. ومن جانب آخر تتطلع التربية الإسلامية إلى تنمية الجانب الإبداعي بما يجعل الفرد يُحسن تدبير أموره، ويبدع في مهنته ويرقى بها، حتى يكون أكثر إنتاجاً وأدق عملاً في أقصر وقت وبأقل تكلفة وجهد، وهذا يتطلب عناية بجانب الابتكار، وهو ما سوف يبينه هذا البحث من خلال عناية التربية الإسلامية بالتربية الإبداعية، وحفظ العقل.
المبحث الأول
الإبداع في منظور التربية الإسلامية
مفهوم الإبداع:
يعرف الإبداع في اللغة بعدة دلالات لغوية:
بدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتداعاً: أنشأه وبدأه.
والبديع: الشيء الذي يكون أولاً.
والمبتدع: الذي يأتي أمراً على شبه لم يكن ابتدأه إياه. وفلان بدع في هذا الأمر أي أول، لم يسبقه أحد.
والبديع: المحدث العجيب. وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال.
ومن تلك المعاني اللغوية يتضح أن الإبداع هو الاختراع والابتكار على وجه لم يسبق إليه أحد.
وقد ذكر المهتمون بالدراسات التربوية مفاهيم متقاربة لمعنى الإبداع فهي"تنشئة الناشئين وإعدادهم على نحو يستطيعون في مجال تخصصاتهم الإيجاد والابتكار والإتقان والتحسين".
ويعرفه آخر بأن الإبداع: عملية إنتاج شيء جديد سواء كان اختراعاً أو فكرة، ويجب أن يكون أصيلا وحديثا.
ومجالات الإبداع ليست محصورة في الجوانب التقنية فقط، بل إنها قد تكون في الجوانب الإدارية، والجوانب الاقتصادية، أو الجوانب المهنية، أو في مجال البحث العلمي، أو في حل المشكلات والمعضلات العامة والخاصة.
التربية الإسلامية والإبداع:(45/247)
لقد اهتمت التربية الإسلامية بقضية الإبداع اهتماماً كبيراً، وفي مجالات عديدة، بما يحقق للإسلام والمسلمين والبشرية النفع والتقدم، كما أنها ضبطت عملية الإبداع بأن وجهتها توجيهاً خيراً، بعيداً عن الإفساد والدمار، ونظراً لكثرة مجالات الإبداع وتنوعها بما لا يسع المقام لذكرها، فهذه بعض النماذج الإبداعية في عدد من المجالات العامة
1 - الإبداع العلمي:
لقد جاء الإسلام والناس في جاهلية جهلاء، في عباداتهم واعتقاداتهم وأخلاقهم، وفي علومهم ومعارفهم، حتى إن عدد الذين يقرؤون ويكتبون في قريش هم سبعة عشر رجلا، منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنهم.
وجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدد يكتبون، منهم: سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فكان يكتب العربية والعبرية - رضي الله عنهم.
وبعد ما جاء الإسلام تفتقت تلك العقول وأبدعت في تفوقها، وتواصل هذا الإبداع في الأمة، فتولدت علوم ومعارف، ما كان لأحد قبلهم بها معرفة، ومن ذلك: علم أصول الفقه، الذي أول من صنف فيه الإمام الشافعي، وأول من صنف في الفقه الإمام مالك بن أنس، وأول من صنف في غريب القرآن الكريم أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأول من عمل العَرُوض هو الخليل بن أحمد، وأول من وضع الإعراب أبو الأسود الدؤلي، وأول من صنف في صنعة الشعر عبد الله بن المعتز.(45/248)
ولقد برع المسلمون في العلوم التجريبية، وأسسوا قواعدها ونواتها، ففي مجال الصيدلة: هم أول من اخترع الكحول، والمستحلبات، والخلاصات العطرية، واستخدم الرازي لأول مرة الزئبق في تركيب المراهم، وهم أول من غلف حبات الأدوية المرة بغلاف من السكر، ليتمكن المريض من استساغة الدواء، وهم أول من غلف الأدوية المعمولة على شكل حبوب، كما برعوا وابتكروا تحضير وضع وتركيب الضمادات والمساحيق واللزوق، وقد وقفوا على صنع مراهم تجف مع الوقت، كشماعات أو غطاء للجروح الحديثة، ومن أشهر من برع في علم الأدوية عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم بن واقد، المتوفى سنة 467هـ1074م.
وفي علم التشريح تم اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الدموية الرئوية) وكذلك الدورة الشريانية من قبل ابن النفيس، واكتشفوا عدد الأغشية القلبية، ووظيفتها، واتجاه فتحاتها لمرور الدم، وبرعوا في تشريح العيون وجراحتها، واكتشفوا أن العضلات المحركة للمقل ست عضلات، وبينوا أن العين آلة للبصر وليست باصرة.
وفي علم الرياضيات هم أول من أسس (اللوغارتمات) فلقد ولد ونشأ وترعرع علم اللوغارتمات في البلاد الإسلامية، الذي يرجع في تكوينه لجهود سلسلة من الابتكارات على يد عدد من علماء الرياضيات، مثل: سنان بن الفتح الحراني، وابن يونس الصدفي المصري، وأبي الحسن على النسوي، وابن حمزة المغربي.
فهذه الشواهد تعطي دلالات عميقة بأن الإسلام فتق عن تلك العقول الصامتة لتبدع في جميع المجالات العلمية، بعد أن كانت لا تحسن القراءة والكتابة، مما يؤكد عمق التربية الإسلامية واستيعابها لكل ما يخدم الإنسان والبشرية جمعا، وأنها نور يحرك الأفئدة نحو العطاء، مما يؤكد أن الدور التربوي يقع اليوم على المؤسسات التربوية لتغرس ذلك في الأجيال، بما يشعرها بماضيها المضئ، وعلى أكتافهم يرتقي البحث العلمي في ميادينه المختلفة.
2- الإبداع في التخطيط الحربي:(45/249)
إن الإبداع التخطيطي الحربي لا يقل أهمية عن قوة العتاد، بل ربما يفوق قوة الترسانة الحربية من حيث التأثير في مسار المعركة. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يهمل هذا الجانب، بل كان يأخذ بما تتفتق عنه عقول المبدعين من الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك أنه في معركة بدر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى ماء من بدر، ونزل به، فقال الحُبَاب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فَغُوِّرت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.
ويلاحظ في هذه المشورة الإبداعية، عناية الصحابة بالحكم الشرعي وتقديمه على العقل، حيث قال حُباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله تعالى، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فَيُفْهَم من ذلك، إن كان الأمر وحياً فالعقل تابع له، وليس للرأي مكان، وأما إن كان الأمر جهداً عقلياً تخطيطياً فعندي في الأمر رأي.
ومن اللطائف التي يمكن استنتاجها، أنه لم يبين رأيه إلا بعد أن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم القول الفصل، بأن الأمر ليس وحياً، بل رأياً، وهكذا نريد أن تكون التربية العقلية الإبداعية تهتم بالجانب التفكيري العقلي، ولكن تجعله يستظل ويسير تحت مظلة الشرع الحنيف، لا في مقدمته.(45/250)
وأيضا يتجلى الإبداع التخطيطي الحربي في مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب (الخندق) فكان حفر الخندق عملاً إبداعياً لم تعرفه العرب من قبل، فكان ذلك أحد الأسباب في صد عساكر المشركين، بتوفيق الله تعالى ونصره.
فهذه الشواهد تؤكد حقيقة مؤداها أن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي لذوي العقول المبدعة حقها من النظر والتشجيع البناء، ومن ثم الاستفادة مما يتولد عن أولئك من أفكار تخطيطية تسهم في أسباب النصر، بما يؤكد أن التربية الإسلامية تعطي في مضامينها التربوية معطيات تحقق للبيئات التربوية قواعد وأسساً منهجية عملية للمناهج الدراسية.
كما أن مجال العرض والحوار التربوي يخرج ويكشف عن تلك المواهب، ويبرز مكنونها الإبداعي، وما الأنشطة الصفية وغير الصفية إلا وسيلة تربوية لتحقيق ذلك.
ومن هنا فإن المنهاج الدراسي وطرائق التدريس ينبغي أن تنطلق من مثل هذه الأساليب النبوية التربوية العظيمة.
3- الإبداع المهني:
إن الإبداع المهني لا يعتمد على الخبرة والمهارة اليدوية فقط، بل لا بد من وجود عامل الذكاء، والتفكير والتطلع إلى التحسين والإصلاح والتطوير.
والتربية الإسلامية لا تعارض ذلك بل تحفز العقول على الابتكار والإبداع في المجال العملي والمهني ومن الشواهد على ذلك:(45/251)
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام قد شق عليّ، فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا، كما رأيت يُصنع بالشام؟ فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب، أعملُ الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره أن يعمله، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها، ثم عمل منها درجتين ومقعداً فظهر الإبداع المشوري من تميم الداري بصنع منبر، ثم ظهر الإبداع المهني من غلام العباس بن عبد المطلب، حيث كان أعملُ الناس، فأخذ صلى الله عليه وسلم من كل شخص ما يُحسن ويُجيد فيه من مشورة وصنعة، وفي هذا تشجيع منه صلى الله عليه وسلم، وتأييد للأعمال الإبداعية المفيدة.
وهذا يرسم للمؤسسات التعليمية قواعد تربوية في المجال المهني، ويؤكد لها أهمية العناية بالدروس المهنية النافعة التي تستثمر العقول، وتزيل حواجز الخجل من الأعمال والصنائع التي يعرض ويعزف عنها كثير ممن لم يرتق في السلم التعليمي.
فبعض ممن لم يستطع مواصلة دراسته يأنف من العمل في الصنائع المهنية التي ربما لو عمل فيها لكان مبدعاً، يشار إليه بالتفوق الذي ربما لا يحققه في السلم التعليمي. وقد أشار ابن قيم الجوزية إلى أهمية مراعاة استعدادات الصبي لما هو مهيأ له، فيذكر أنه مما ينبغي أن يعتمد حال الصبي، وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً، فهذه من علامات قبول العلم، وإن رآه بخلاف ذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعداً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، وهذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه.(45/252)
ومن هنا لابد للمنهج التعليمي أن يراعي ويحقق الميول لدى الدارسين بأهمية الأعمال المهنية، من خلال دراسة السيرة النبوية، وسير الأنبياء عليهم السلام، وكذلك الصحابة، وعلماء الأمة، فقد "كان داود زرادا، وكان آدم حراثا، وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا". وكان الإمام أبو حنيفة يتجر في الخز، وكان ماهراً فيه. وكان الإمام أحمد بن حنبل يعمل التكك ويبيعها، ويتقوت بها.
فمهمة المؤسسات التعليمية أن تغرس ذلك في أفراد الأمة ليبدع الإنسان فيما هيّء له.
4- الإبداع الشعري:
لقد اهتمت التربية الإسلامية بعملية الإبداع الشعري، ووجهة القرائح الشعرية التوجيه الصحيح الذي يحقق حُسن الاستفادة منها، ومن ذلك توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، إلى تسليط قرائحهم الإبداعية الشعرية على المشركين، قال ابن سيرين: انتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب يعارضانهم، مثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر، ويذكرون مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر، وبعبادة مالا يسمع ولا ينفع.
وهذا يؤكد تفاوت الناس فيما يحسنون ويبدعون، ومنهج التربية الإسلامية يراعي هذه الفوارق، ويشجع أصحابها ليتفوقوا فيما هيئوا له، فالشاعر والكاتب والصحفي المبدع إذا أُحسن توجيهه تفوق وخدم الأمة، وسخر بيانه في توجيه الناس للخير، من خلال الكلمة الجميلة والعبارة اللطيفة، والأسلوب الجذاب المؤثر، فكم من كلمة جمعت شتاتا، وقصيدة أثرت في قلوب، وكم من قلم ضمد جراحا، وكم من بيان ألف بين قلوب، وأثر هذا لا يكون إلا من صاحب البيان المبدع.(45/253)
ولذلك فإن المنهاج الدراسي الجيد هو الذي يعتني بكل الجوانب التربوية، ويوجهها بحسب قدراتها وإمكاناتها، لأن أغلب الناس إذا أخفق في جوانب نبغ وأبدع في جانب أو جوانب أخرى إن وجد التوجيه والرعاية التربوية الصحيحة.
حدود الإبداع
إن الإبداع هو الاختراع والابتكار، كما تم بيانه سابقاً، ولكن للإبداع شروطاً وحدوداً في التربية الإسلامية، بأن لا يتعارض مع المنهج الإسلامي، لا في كلياته ولا في جزئياته.
وثمة أمر مهمّ لا يجوز الابتداع فيه بأي حال من الأحوال، وبأي دعوة أو ادعاء، وهو الابتداع في الدين، لأن الله تعالى أكمل هذا الدين بنص كلام رب العالمين في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس فيه فهو رد" (2) .وقال صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة" (3) .
فالإحداث في الدين بزيادة أو تعديل أو نقصان ابتداعاً مخالفاً للكتاب والسنة، وإجماع الأمة، كما أن تقديم الرأي على الشرع إفساد وهلكة، قال ابن قيم الجوزية: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم إنما ينشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه".
فهكذا تحدد التربية الإسلامية الإطار الإبداعي، بحيث تجعله يسير في مسار صحيح، بعيداً عن التخبط في متاهات طرق أهل الضلال والبدع.
وأما الإبداع في المجالات الأخرى فهو أمر مطلوب، بل متحتم على المؤسسات التربوية أن توليه جُلَّ اهتمامها، من جانبين:
1- الجانب النوعي:
__________
(1) سورة المائدة: آية رقم 3.
(2) أبو داود 5/12.
(3) مسلم 2/592.(45/254)
والمقصود بالجانب النوعي: التوسع في قاعدة العلوم المعرفية في الطب والهندسة والحاسبات والصيدلة والفيزياء، ونحو ذلك، بما يحقق للأمة قوى بشرية مبدعة في تخصصاتها، وفق نظرة شمولية، ذات تطلعات مستقبلية، وبما لا يجعلها تركز على ما تحتاجه اليوم غافلة عن حاجاتها ليوم غدها.
فالدراسات المسحية تشير إلى أن مدخلات التعليم منصبة على الدراسات النظرية، دون التخصصات الأخرى، فقد بلغت نسبة التخصصات النظرية عام 1985م (75%) في حين أنها بلغت (25%) فقط في التخصصات الأخرى. كما أظهرت الإحصائيات لسنوات مختارة (1400، 1405، 1410،1415هـ) أن متوسط نسبة خريجي التعليم العالي من الدراسات النظرية بلغت (79,9%) . أي أن (20,1%) في التخصصات المعملية التجريبية.
فهذه الحدود الكمية قد تجعل عجزاً يواجه الأمة حالياً ومستقبلاً، وتقلل من نسبة الإبداع المعرفي في الجوانب الأخرى، لأن مقتضى التجربة والحكمة يؤكد أنه ليس كل من التحق بتخصص سيبدع فيه، كما أن قلة الملتحقين سيؤدي إلى قلة المبدعين، لذلك لا بد أن تعي المؤسسات التربوية الحدود الكمية وأثرها على النسبة النوعية للإبداع في كل تخصص أو فن.
2- الجانب الخُلُقي:
يعتبر الجانب الخُلُقي أسّاً وركيزة لا غنى عنهما في الجانب الإبداعي، حتى تأخذ بأيدي المتفوقين فيما يتفتق عن أذهانهم وخبراتهم نحو الخير والبناء والإصلاح، لأن واقع الإبداع يشير إلى أن المتفوقين الذين فقدوا الجانب الأخلاقي، كانوا دماراً على المجتمعات بما أنتجوا من ابتكارات، فمخترع القنبلة الذرية رجل مبدع لا شك في ذلك، ولكن فقدان الجانب الأخلاقي جعله يسخر ذهنه في ابتكار ما يدمر به البشرية. وما نتج عن الهندسة الوراثية من التوصل لما يسمى بالاستنساخ البشري ما هو إلا نتيجة جنوح إبداعي غير أخلاقي.(45/255)
ويشير إلى هذه المخاطر أحد المتخصصين في الدراسات الكيميائية: بأن طلب الحقيقة غير المرتبط بالالتزامات الشرعية يمكن أن يؤدي إلى هلاك البشرية، فهناك ميادين متزايدة في العلوم توضح صحة هذا الكلام، وميدان هندسة الوراثة واحد من هذه الميادين، فالقدرة على معالجة الجنس البشري بحيث يكون نسله ذرية من العمال أو الجنود العباقرة له عواقب مخيفة، والقدرة على استخدام الطاقة الذرية للتخريب اتضحت معالمها في (هيروشيما، ونجازاكي) والأبحاث في ميادين غازات الأعصاب والميكروبات المميتة قد تطورت الآن إلى مبيدات للبشرية، وقد استخدم الكثير منها في (فيتنام) .
ويظهر الآن ميدان من ميادين الكيمياء الانفعالية التي قد تؤدي في النهاية إلى السيطرة على الإرادة البشرية، بواسطة مركبات كيميائية مختلفة. والعلماء الذين يطورون مثل هذه يلعبون دوراً حاسماً في تسخير إبداعهم نحو تدمير البشرية.
والشعر نوع من الإبداع الأدبي لأنه ابتكار صياغات لفظية تحمل صوراً بلاغية مؤثرة، فإذا جاءت من مبدعٍ لا أخلاقي أثار بكلماته وصوره الخيالية ومحسناته البديعية المستمع أو القارئ إلى ما تدعو إليه القصيدة من انحراف عقدي، أو فكري، أو جنسي، أو غير ذلك.
لذا فإنه يتعين تحصين الإبداع في حدود ما ينفع البشرية، وفي ظل الضوابط الشرعية، وهذا ما يحتم على الجهات التعليمية إيلاء هذا الجانب غاية اهتمامها التربوي، وإلا أنتجت من لا يقيم وزناً لمعايير الإبداع وحدوده.(45/256)
والتربية الإسلامية هي التي تكفل لأتباعها أن يسخروا إبداعهم وفق الضوابط الخُلُقية الشرعية، لأنها أولت ذلك عناية كبيرة، بما يربي في المسلم النظر إلى أبعاد إنتاجه الإبداعي، في سلبياته وإيجابياته، لأنه محاسب ومجزي على ذلك، فإن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (1) . وفي أدوات التعلم والمسؤولية عنها قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (2) . وقال صلى الله عليه وسلم في ثمرة عمل الإنسان: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أُجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (3) .
قال الإمام النووي: وفيه الحث على الابتداء بالخيرات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات.
معوقات الإبداع:
المقصود بمعوقات الإبداع، تلك العقبات التي تمنع الإنسان وتثبطه عن تطوير وتحسين مجال تخصصه والتفوق فيه.
والمعوقات الإبداعية كثيرة جدا، ولكن من أبرزها ما يلي:
1 - قلة العلم أو عدم صحته:
إن قلة العلم، أو عدم صحته تشكل أكبر عائق يعيق الإنسان عن الإبداع والتفوق والتطوير، لأن قلة العلم تدلل على علو الجهل البسيط، الذي هو:"انتفاء إدراك الشيء". وعدم الإدراك للمعلومة يشكل العائق الأكبر للإبداع والتطوير، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وشتان ما بين العالم والجاهل، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} (4) .
__________
(1) سورة الزلزلة: آية رقم 7-8.
(2) سورة الإسراء: آية رقم 36.
(3) مسلم 2/705 برقم 69-1017.
(4) سورة الزمر: آية رقم 9.(45/257)
وأما إدراك المعلومة على غير وجهها الصحيح، فهو شر من الجهل البسيط، لأن صاحبه لديه جهل مركب، وهو: "اعتقاد جازم غير مطابق للواقع". فصاحب هذا النوع ينتفي منه الإبداع، لأنه أدرك المعلومة على غير حقيقتها، فكيف يولد منها حقيقة علمية؟ ولذلك فإن "التعلم من أهم وسائل نمو الخصائص العقلية، وبلوغ النضج العقلي، وصقل وتزكية القدرات، والملكات والمواهب والميول والهوايات، وبدونه يظل عقل الإنسان قاصراً، معطلاً، غير قادر على العطاء والإنتاج" والناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك.
2 - الاعتماد على الآخرين:
ويكون هذا الاعتماد في الإنتاج، وإيجاد الحلول، وفي التنظيم، والتخطيط وإعداد البرامج، سواء كان في مجال التربية والتعليم أو في مجال الإدارة، أو في البحث العلمي، أو في الصناعة، أو التجارة، أو في أي مجال آخر من المجالات.
والمنهج الإسلامي يربي في أتباعه أن يوطنوا لأنفسهم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤا فلا تظلموا" (1) .
وهذا يتطلب من المرء المسلم أن يكون ذا بصيرة، غير مقلد للناس في الجهل والسلوك الذي لا يحقق نفعا. وليس معنى هذا أن ينأى الفرد بنفسه عن الآخرين، ولكن لا يكن فرداً اتكالياً على غيره، ينتظر منهم أن يقدموا له الحلول والإنتاج، بل أن يكون عضواً فاعلاً إيجابياً، يجتهد ويعمل، ويفكر ويسترشد بمن هم أكثر منه علماً وتجربة.
3 - الاكتفاء بالمتاح مع إمكانية إيجاد الأفضل:
__________
(1) الترمذي 4/4/320 برقم 2007، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقال الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير وزياداته، ص 905.(45/258)
مما يعيق عملية الإبداع الاكتفاء بالأشياء المتاحة فقط، دون البحث والتنقيب عن الأفضل، إذا كانت الفرصة متوفرة لإيجاد البديل الأحسن.
مثال ذلك أن يكتفي طالب العلم بقول معين في مسألة من المسائل، دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن الدليل وصحته، وخلوه من المعارض، والقول الأرجح في المسألة.
وقد يكتفي الباحث بما توصل إليه الآخرون في مجال الطب أو الصيدلة مثلاً، فلا يكلف نفسه البحث عن الأحسن، وتطوير المتاح. ولو توقف الناس على ما ألفوه مما يسوغ البحث فيه، لما وصل العالم إلى ما وصل إليه من تقدم في كثير من المجالات. والمسلم أولى بالسبق والقيادة والريادة، لأن أمته أمة رائدة.
4 - عدم الإتقان:
مما يعوق الإبداع أن يكتفي الإنسان بالحد الأدنى من المستوى الإنتاجي دون الوصول إلى أعلى درجات الإتقان والإبداع التي يستطيع أن يصل إليها، في حين أن الإسلام حث الإنسان على إتقان العمل.
والتربية الإسلامية تدعو إلى الأفضل والأحسن في كل ما فيه نفع الفرد أو المجتمع، فالإنسان مأجور – بإذن الله تعالى - على جهده المعرفي في سائر العلوم النافعة، يقول الشيخ ابن سعدي:"فعلوم الكون التي تسمى العلوم العصرية، وأعمالها، وأنواع المخترعات النافعة للناس في أمور دينهم ودنياهم، داخلة في ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يحبه الله ورسوله".
فالجهد العلمي في البحث عن الأفضل في الأمور التي تحتاجها الأمة، وينتفع بها الناس، يثاب صاحبها على ذلك إذا أخلص النية لله تعالى.
فالتربية الإسلامية تشجع على بذل الجهد المعرفي المبدع المفيد البناء.
5 - الانشغال بملذات الدنيا:(45/259)
إن الانشغال بملذات الدنيا ومطالب الجسد، وشهوات النفس، يكون موبقاً بين الإنسان والإبداع، ويغلق آفاق المبدعين ويوصدها، ويجعلها محجورة بين أقواس الشهوات، لا يفكر في الإنتاج المثمر فضلاً عن الإبداع في ذلك، لأن انشغال النفس بالملذات يجعلها كلما أصابت لذة، تاقت لما بعدها، فينتهي العمر، ولم يحز المرء على كل رغباته الدنيوية، إضافة إلى أن الترف يقود إلى حب الاسترخاء والتمادي فيه، والبعد عن الجدية في البحث والمطالعة والمدارسة، قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه: "إياكم والتنعم، وزي العجم، وتمعددوا، واخشوشنوا".
لذلك ينبغي البعد عن ترف الحضارة، فإنه يؤنث الطباع، ويرخي الأعصاب، ويقيدك بخيط الأوهام، فيصل المجدون لغايتهم، والمشغول بزيفها لم يبرح مكانه.
وليس المقصود هجر الطيبات، ولكن الاسترسال في الملذات، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (1) .
6 - عدم التشجيع:
إن التشجيع له دور كبير في ابراز أصحاب المواهب، كما أن عدم التشجيع يثبط الهمم، خاصة إذا صاحب ذلك التهوين من قدر الإنسان "والإسلام شجع الأفراد للاستفادة من إمكاناتهم وقدراتهم العملية في بناء الحضارة وعمارة الأرض على أساس من التعاون على البر والتقوى، ونبذ الحسد والتباغض" الذي قد يكون أحد أسباب عدم التشجيع.
وقد يرجع أسباب عدم التشجيع إلى يأس المعلمين والأسرة من أن يلحقوا بركاب التقدم التقني أو الزراعي أو التجاري أو الصحي أو التعليمي أو غير ذلك من الجوانب التي تأخرت فيها الأمة، وقد يكون سبب عدم التشجيع الجهل بعدم أهميته في كشف المواهب.
والدراسات التربوية تثبت أهمية التشجيع في صقل المواهب، وخطورة قهر الأفراد على اختيارات لا يرضونها"لأن الإنسان لا يركز انتباهه أو يعمل فكره، ويضاعف جهده إلا فيما يميل إليه، ويشعر بانجذاب شديد إلى ممارسته.
__________
(1) سورة القصص: آية رقم 77.(45/260)
ومنهج التربية الإسلامية يقوم على التشجيع للخير، والتحذير من الشر والباطل، وآيات الترغيب والترهيب كثيرة في القرآن الكريم، وفي نصوص السنة النبوية، التي ترغب في الخير وتحذر من الشر والفساد وإضاعة الأوقات فيما لا فائدة فيه، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه" (1) .
ولما أن الإنسان مفطور على حب الخير لنفسه، وكره الشر والشقاء، فإنه يندفع في استجابة للمؤثرات الترغيبية والترهيبية، بشكل قوي، حيث إن الترغيب والترهيب أمران يقومان على الخوف والرجاء.
7 - عدم رعاية الموهوبين:
إن التشجيع هو حث الأفراد على بذل أقصى الجهد فيما يقومون به من أنشطة، ولا يختص ذلك بشخص دون آخر. وأما رعاية الموهوبين، فهي بذل رعاية خاصة بمن تميزوا بين زملائهم، وتهيئة الجو العلمي الذي يساعدهم على تنمية طاقاتهم الإبداعية في مجال تخصصاتهم.
وأما عدم العناية بالموهوبين ورعايتهم فإنه يؤدي إلى وأد طاقاتهم، وربما أدى إلى نزوحهم إلى المجتمعات الغربية، وهو ما يسمى بهجرة العقول البشرية، فقد قرر أحد البحوث أن عدد الأطباء في العاصمة الأمريكية من إحدى الجنسيات العربية يفوق عدد زملائهم في ذلك القطر العربي. وفي المجالات العلمية النادرة هناك 950 عالماً من أحد المجتمعات العربية يعز الحصول عليهم لدولة واحدة على مدى عشر سنوات، يعيشون في الخارج.
فعدم التشجيع والعناية بأصحاب المواهب قد يؤدي إلى هجرة المبدعين عن الأوطان الإسلامية.
ومنهج التربية الإسلامية يؤكد أهمية إسدال الخير إلى الناس والعناية بشئونهم، فكيف إذا كان إسدال الخير إلى فئة يتوخى منها الخير للأمة، والإسهام في رفع مكانتها وشأنها؟
__________
(1) الترمذي 4/529 برقم 2417.(45/261)
فلا شك أن ذلك أدعى في إسدال الخير إليهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم" (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" (2) .
ورعاية الموهوبين تكون بالتشجيع والمكافأة، وبالرعاية الخاصة، وتوفير سبل التعلم المتقدمة، وتوفير المعامل، والكتب والأدوات العلمية، والمدرسين الأكفاء، وكفايتهم مؤنة المعيشة، وما يحتاجونه من أمور الحياة، إضافة إلى التوجيه التربوي البناء، والبناء الخُلُقي والديني، فهو الذي يضبط سلوكهم ويوجه نبوغهم إلى الخير والصلاح.
فوائد التربية الإبداعية:
إن للتربية الإبداعية أهمية كبيرة في مسيرة التفوق العلمي والصناعي والصحي والاقتصادي، وغير ذلك من المجالات، التي من أبرز فوائدها على وجه العموم ما يلي:
1- الابتكار:
يعتبر الابتكار من أبرز ثمار التربية الإبداعية، لما فيه من الاختراع غير المسبوق، الذي يتولد عنه تقدماً في المجال الذي كان الابتكار في دائرته، سواء كان في الطب أو الصيدلة، أو في الهندسة، أو في الأنظمة، أو في أي مجال نافع آخر.
والابتكار لا يأتي في أغلب الأحوال وأظهرها إلا من أولئك الذين تلقوا تربية نموذجية متفوقة، أو أُتيحت لهم الفرصة للتعلم والتفكير، سيما إذا كان ذلك في إطار توجيه تربوي متألق فاعل.
لذلك فإن الدراسات النفسية تقرر أن الأطفال أفضل ما يتعلمون عندما يُعْطَون الفرصة للتعلم بطرائق تتناسب مع قابليتهم وحوافزهم، وبالتالي فإنه حين يغير المعلمون من طرقهم في التعليم إلى طرق ذات معنى يتوافق مع قابلية الطلاب، فإنما يحققون فيهم التربية الإبداعية المتألقة.
فيتحقق للأمة الفئة المبدعة المبتكرة في جميع الفنون، بما يخدم جميع المجالات التي تحقق لها قدراً من القوة والرفعة والسبق التربوي.
2- التطوير:
__________
(1) صحيح الجامع الصغير، الألباني 1/97، برقم 176-69.
(2) مسلم 4/1726 برقم 61-2199.(45/262)
التطوير هو: إدخال التحسين على الأشياء، بما يحقق فيها الانتفاع الأمثل.
وهذا التطوير من سمات التربية الإبداعية التي تحقق في أفرادها الميل إلى التطوير والتحسين والبحث عن ذلك مع عدم الوقوف عند المألوف والمعتاد، سيما في المجالات التي يخضع التقدم فيها لتطوير أدواتها، وإجراءاتها، وليس ذلك التطور محصوراً في الآليات الصناعية والكيميائية والفيزيائية والهندسية كما هو اعتقاد كثير من الناس، بل إن مجالات التطور أرحب من ذلك، فهي في الإدارة، وفي اللوائح والأنظمة، وفي طرق وأساليب البحث العلمي، وأدواته، ومنهجيته، وغير ذلك.
والنزعة التطويرية هي من ثمار التربية، إذا أحسنت المؤسسات التربوية استخدام الأساليب التدريسية والمعرفية التي تحقق ذلك.
3- ترتيب الأولويات:
يعد ترتيب الأولويات حسب أهميتها، وحسب قوة تأثيرها، وحسب الحاجة إليها من الدلائل والإشارات الإبداعية عند الفرد، أو عند المجموعة، فالشخص الذي يُحسن ترتيب مفردات أقواله عند التحدث حسب تدرجها المنطقي، أو المؤثر، يعتبر شخصية مبدعة في عرض الآراء، فالتربية الإبداعية هي التي تُكَوِّنُ من الأفراد شخصيات تُحسن ترتيب الأشياء أو القضايا حسب الأولويات، حتى ينتج عن ذلك قوة التأثير وحسن الاستثمار للمتاح، وتوفير الوقت والجهد والتكلفة.
لأن المرء يلمح الكثير من الناس في شؤون الإدارة، أو حتى في المذاكرة والدراسة من يرتب قضاياه المتعلقة بذلك ترتيباً لا يشعر فيه بحسن تحديد الأوائل والأواخر والأواسط، وهذا نتيجة التربية التي لم تولد عند المتربي الاهتمام بالتصنيف التصاعدي حسب الأهمية، وحسب الارتباط، مما قد يولد عند الفرد التشتت الذهني، وعدم الاكتراث بحسن التدبير.(45/263)
ولذلك فإن من جملة التعامل مع الحقائق ترتيب الأولويات في القضايا التي تحتاج إلى معالجة، وهذا الترتيب لا ينبع إلا من إدراك عميق لطبيعة القضايا والظرف العام الذي تجري فيه المعالجة ففي مجال الدعوة التي تحتاج إلى فقه ترتيب الأولويات إذا فقدها الشخص، قد لا ينجح في التأثير على المدعوين.
ومنهج التربية الإسلامية مبني على ترتيب الأولويات، كما قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – في نزول القرآن الكريم: " … إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً…".
وقد سُئل صلى الله عليه وسلم: "أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده" (1) . وسأله رجل: "أي الإسلام خير؟ قال: أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (2) . فتأمل الترتيب حسب حاجة الأشخاص.
فترتيب الأولويات باب واسع، وللتربية أثر فاعل في تحقيقه لدى المتربي، من خلال الأساليب التعليمية المتنوعة التي إذا أُحسن استخدامها أفرزت النتائج المرجوة.
4- حسن الاختيار:
اختيار الفاضل على المفضول في زمن أو مكان تكتنفه عوامل من الغموض أو التشابه، أو مغبة أمر غير ظاهرة، دليل حذق الفرد ونباهته وعلو إبداعه الاختياري للأشياء.
__________
(1) المرجع السابق 1/21 برقم 11.
(2) المرجع السابق 1/21 برقم 12.(45/264)
وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على الكثير من معاملاتنا وتعاملنا مع الأحداث، وفي قراراتنا المتتالية، فكم من الطلاب يتخرجون من المرحلة الثانوية، ويقتدون ببعضهم في الالتحاق بالدراسات الجامعية، ثم يكتشف كثير منهم بعد مضي سنتين أو أكثر أنه أساء الاختيار لمجاراة الأتباع والخلان. وهنا يأتي عمق التربية المدرسية في توليد وتحقيق الإبداع في حسن الاختيار، الذي يحفظ وقت وجهد الإنسان من الضياع والتبديد.
ومنهج التربية الإسلامية يحث أتباعه على حسن الاختيار، وتَحَمُّل تَبِعَات إساءة الاختيار، قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) . وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (2) .
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحث على اختيار الخير للنفس: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" (3) . ويقول صلى الله عليه وسلم في جانب اختيار الزوجة، بعد بيان مجالات الاختيار: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (4) .
5 - تحقيق المنهج العلمي:
تحقق التربية الإبداعية في المنهج الإسلامي البعد عن الأهواء، مع الاعتماد على الأدلة وتقريرها، مما يبعد المرء المسلم عن الانجراف وراء التيارات، وبريق المزيفات، من الأعمال والأقوال والمنتجات، فيحفظ ذلك عليه وقته وماله وجهده، ومن جانب آخر يربي فيه المنهجية العلمية.
__________
(1) التكوير: آية رقم 28-29.
(2) سورة الشمس: آية رقم 9-10.
(3) مسلم 4/2052 برقم 34-2664.
(4) البخاري 4/360، برقم 509، ومسلم 2/1086، برقم 56-1466 واللفظ له.(45/265)
والنصوص الشرعية التي تأمر باتباع البراهين والأدلة كثيرة جداً، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (1) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2) . وقال تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) .
وقد جاء لنبي الله سليمان عليه السلام الهدهد يخبره بأخبار بلقيس، ملكة سبأ، ولكن نبي الله سليمان عليه السلام لم يقتنع حتى يتأكد من ذلك ببرهان مبين، فقال: كما جاء في القرآن الكريم: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (4) .
فالتأكد والاعتماد على الدليل والبرهان الصادق من منهج التربية الإسلامية، ولذلك ظهر المنهج الاستدلالي عند المسلمين، الذي يسار فيه من مبدأ إلى قضايا تنتج عنه بالضرورة دون الصيرورة إلى تجربة.
ولذلك اعتمد المسلمون منهج القياس، بمد سلطان النص بعد إدراك علة الحكم المستفادة منه، ليشمل بحكمه كل ما توفرت فيه علة النص الأصلي، وظروف تطبيقه كما ظهر عندهم المنهج التجريبي، ومنهج علم الرجال، للتثبت من نقولاتهم ورواياتهم، مما جعل المسلمين منفردين بدراسة الرجال، فأبدعوا ابتكاراً وتطبيقاً وتقعيداً بشروط وضعوها للرواة، فظهر عندهم علم مصطلح الحديث،"وهو علم وضع لحفظ الحديث النبوي من الخلط والدس والافتراء عليه، وهو منقسم إلى رواية ودراية، وكل منهما ينقسم إلى عشرات الأقسام".
6 - الاستنارة بالشرع والسير في هديه:
__________
(1) سورة النساء: آية رقم 174.
(2) سورة المؤمنون: آية رقم 117.
(3) سورة البقرة: آية رقم 111.
(4) سورة النمل: آية رقم 27.(45/266)
مما يُعَرِّجُ بالإبداع إلى التدمير والخسران المبين عدم وجود المرجعية الشرعية للجهد البشري، أو تجاهل لتلك المرجعية، والسير خارج محيط دائرتها، مما يجعل المبدع ينحو بفكره واختراعه وابتكاره منحى تنزلق به الأقدام، وتكثر فيه الويلات، ولا أدل على ذلك من الاختراعات المعاصرة التي عمل أصحابها في بعد عن المرجعية الشرعية، فخرجوا بمخترعات كانت دماراً وهلاكاً على البشرية، كالقنبلة البيولوجية والذرية والنووية، والهندسة الوراثية، وغير ذلك من الابتكارات المنكرة.
في حين نجد أن المنهج الإسلامي يحث المرء على أن يعمل جهده، وفق الدلالات والتوجيهات الشرعية التي تربي في المسلم بذل الجهد لفعل الخير، ودفع الشر، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (1) . وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} (2) . وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (3) .
فهذه الآيات وأمثالها تربي في المسلم استشعار مسؤولية الأعمال والأقوال، مما يُنَشِّئ فيه الاستهداء والاستنارة بالشرع الحنيف، والسير في هديه، خشية المسؤولية التي يُحاسب عليها ممن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
7- البعد عن التقليد غير البصير:
التقليد على ضربين: تقليد على بصيرة وهدى، من معرفة التابع للمتبوع، ومعرفة منهجه ودليله، فيسلك سلوكه، ويتبع منهجه، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) .
__________
(1) سورة الزلزلة: آية رقم 7-8.
(2) سورة المزمل: آية رقم 20.
(3) سورة المدثر: آية رقم 38.
(4) سورة يوسف: آية رقم 108.(45/267)
وتقليد على ضلال وجهل، دون معرفة من التابع للمتبوع، وصحة منهجه، فهذا التقليد مرفوض باطل لأنه لا يأتي إلا بالشر، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤا فلا تظلموا" (1) .
ومنهج التربية الإسلامية يربي أتباعه على البعد عن التقليد الأعمى الذي يئد الإبداع، ويزج بالإنسان في مهاوي الجهل والضلال، بل يربي فيهم الوعي في مسلكهم وسلوكهم وأقوالهم وأفعالهم وعباداتهم، وفي كل شؤونهم.
فإذا وعت المؤسسات التربوية هذه الخاصية وربت المتربين على ذلك غرست فيهم هذه الجوانب التي تعتبر ثمرة وفائدة إبداعية تربوية.
ومن خلال بيان تلك الفقرات يتضح عناية الإسلام بمنهجية الإبداع التربوي، الذي يحقق تلك الفوائد التي تنعكس على نتاج الأعمال الإبداعية، فتحقق فيها فوائد عظيمة تعود بالنفع المبين على الفرد والمجتمع، بل والبشرية أجمع. وهذا ما تفقده وتفتقر إليه التربيات الأخرى.
المبحث الثاني
العقل في منظور التربية الإسلامية
يعتبر العقل في الإنسان المحور الذي من خلاله تلج المناهج التربوية والأساليب التربوية إليه، لتفتق أذهان التلاميذ نحو الإبداع المعرفي، وبقدر معرفة الجهات التربوية للعقل وأهميته توليه اهتمامها وعنايتها، ولذلك جاء هذا المبحث ليلقي الضوء على هذا الجانب في النقاط التالية:
مفهوم العقل:
العقل: هو "القوة المتهيئة لقبول العلم" وأصل العقل الإمساك والاستمساك، كعقل البعير بالعقال وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك.
والعقل من حيث الاستفادة منه نوعان:
1- عقل إدراك:
وهو العقل الذي عند كل أحد ما لم يكن مسلوباً بجنون، أو قاصراً لصغر السن، وهو الذي يميز به الناس بين الأشياء في الكثرة والقلة والأعداد، والأحجام، ونحو ذلك. وهذا عند المسلم والكافر وليس له علاقة بالديانة.
__________
(1) الترمذي 4/320 برقم 2007.(45/268)
2- عقل رشد:
وهو الذي يعلم به صاحبه فيعمل، وهو العقل الصحيح الذي يقبل الحق إذا علمه، ويبعد عن الشر إذا عرفه، فالذي يعلم الحق ولا يعمل به ليس لديه عقل رشد، وإنما لديه عقل إدراك، حيث أدرك به العلم، ولم يسترشد بذلك ويرشد، قال ابن تيمية رحمه الله: فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به، والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) . وأيضا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (2) . وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (3) .
فهؤلاء الكفار لديهم عقل إدراك الذي هو مناط التكليف، ولكنهم فقدوا عقل الرشد بسبب عدم اتباعهم الحق بعد أن تبين لهم.
مكان العقل:
__________
(1) سورة الملك: آية رقم 10.
(2) سورة الحج: آية رقم 46.
(3) سورة الأعراف: آية رقم 179.(45/269)
وأما مكان العقل من البدن، فهل هو متعلق بالدماغ، أم متعلق بالقلب؟ فإننا نجد أن الدلائل القرآنية والأحاديث النبوية تدل على أن مكانه القلب، قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (1) فجعل عقل الشيء وتدبره في القلب، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (2) . قال المفسرون: أي عقل، وعبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (3) .
وخُص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وسائر الأعضاء حجبة له، توصل إليه من الأخبار ما لم يكن يأخذه بنفسه، فالعين والأُذن وحاسة الشم، وحاسة اللمس، توصل إليه ما لا يدركه إلا بها، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه.
__________
(1) سورة الحج: آية رقم 46.
(2) سورة ق: آية رقم 37.
(3) البخاري 1/34 برقم 52.(45/270)
وقال الخطيب البغدادي: "وأما العقل فهو ضرب من العلوم الضرورية، محله القلب". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه غريزة، والحكمة فطنة، وقيل إنه ضرب من العلوم الضرورية، وكلاهما صحيح، فإن العقل في القلب مثل البصر في العين وقيل لابن عباس - رضي الله عنهما - بماذا نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول. فدل ذلك على أهمية القلب وعلى أنه هو الذي يعقل به الإنسان، وهذا إذا ما أُريد بالقلب المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقاً، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة، فإذا أُريد بالقلب هذا، فالعقل متعلق بدماغه أيضاً، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ.
والعقل يُراد به العلم والعمل كما مر معنا، وأصلهما من الإرادة، والإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريداً إلا بعد تصور المراد، فلا بد أن يكون القلب متصوراً، ويكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة للدماغ، وكلا القولين له وجهة صحيحة.
ومن ذلك يمكن القول بأن هناك ارتباطاً بين الدماغ والقلب في إدراك الأشياء وعقلها، فالدماغ يُدرك الأشياء بالحواس، أو بالتفكير فيها، ثم يعقلها القلب فيرفضها أو يقبلها، فترجع للدماغ مرة أخرى محملة بالقرار من القلب، ويرسل الإشارة اللازمة بسلوك معين، أو بقرار معين، بحسب ما جاء من القلب، ولذلك فإن الإنسان إذا فكر كثيراً فإنه يشعر بالألم أو التعب في دماغه الواقع في الرأس، وإذا ضرب على رأسه اختل تفكيره وإدراكه، فإذاً هناك ارتباط قوي بين القلب والدماغ، وأن مكان العقل هو القلب، والدماغ وسيط. والله تعالى أعلم.
العقل الفطري والمكتسب:(45/271)
أساس العقل أنه فطري مطبوع في الإنسان، وهو العقل الذي يعقل ويدرك به، ويعقل به العلم، وبالعلم والدربة يحصل العقل المكتسب، فالعقل الغريزي وسيلة لحصول العقل المكتسب، ولا يمكن أن يكتسب الإنسان عقلاً وهو فاقد العقل الغريزي، قال عبد الله بن المعتز: "العقل كشجرة، أصلها غريزة، وفرعها تجربة، وثمرتها حمد العاقبة، والاختيار يدل على العقل، كما يدل توريق الشجرة على حسنها، وما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل إن لم يصدها الهوى".
أفرأيت الرجل الذي لا يتقن حرفة معينة، فإنه لا يستطيع أن يبدع فيها ويفكر في أحسن الطرق لأدائها، ولكن بعد أن يتعلمها ويتمرسها، قد يبدع فيها، فما حصل له من خبرة ومن كشف أحسن الطرق لأدائها هو ما يسمى بالعقل المكتسب، أي هو نتيجة تنمية القوى العقلية الغريزية.
فالعقل عقلان: عقل غريزيّ وهو أب العلم ومربيه وثمرته، وعقل مكتسب مستفاد، وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته، فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واستقام له أمره، وأقبلت عليه جيوش السعادة من كل جانب، وإذا فقد أحدهما فالحيوان البهيم أحسن حالاً منه، وإذا انفرد انتقص الرجل بنقصان أحدهما.
وأما آفة فقدهما، أن صاحب العقل الغريزي الذي لا علم ولا تجربة عنده آفته التي يؤتى منها الإحجام، وترك انتهاز الفرصة، لأن عقله يعقله عن انتهاز الفرصة لعدم علمه بها.
وأما صاحب العقل المكتسب فيؤتى من الإقدام بما ليس عند سابقه، فإن علمه بالفرص وطرقها، يلقيه على المبادرة إليها، وعقله الغريزي لا يطيق رده عنها، فإذا رُزق العقل الغريزي عقلا إيمانيا مستفادا من مشكاة النبوة لا عقلاً معيشياً نفاقياً، فإن صاحبه يكون على نقيض أهل العقول المعيشية النفاقية الذين يرون العقل أن يُرضوا الناس على طبقاتهم ويستجلبوا مودتهم على حساب الدين.
علاقة الإبداع بالعقل:(45/272)
إن العلاقة بين الإبداع والعقل مترابطة جداً، فالعقل هو الجهاز الذي يفكر به الإنسان، والتفكير هو محور الإبداع، لذلك فإن العلاقة بينهما قوية، كما أن مجالات الإبداع تتنوع بحسب القدرات العقلية المتعددة مثل: "القدرة على الإدراك، والقدرة على التذكر، والقدرة على التخيل، والقدرة على الاستنباط والاستنتاج، والقدرة على التحليل، والقدرة على التركيب، والقدرة على الاستقراء، والقدرة اللغوية، والقدرة العددية أو الحسابية، والقدرة العملية، ونحوها".
ولذلك نلاحظ أن البعض لديه القدرة على الحفظ، لكنه ضعيف مثلا في جانب التحليل، والبعض لديه مهارة وقدرة في الجوانب الحسابية، لكنه ضعيف في جانب آخر، والبعض قد وفقه الله تعالى بأن جمع له قدرات متعددة.
ولما أن العقل غريزي ومكتسب، فإن محور عمل التربية يتركز على تنمية العقل المكتسب، من خلال المناهج الدراسية، وأساليب طرق التدريس التي تحرك عقل المتعلم نحو التفكير الجيد البناء، وأن لا يكون أداة للاستماع فقط، فإذا نجحت التربية في هذا استطاعت أن تسهم في تنمية الجوانب الإبداعية لدى المتعلمين.
أهمية العقل:
إن العقل نعمة عظيمة من الله تعالى، وله أهمية كبيرة في حياة الإنسان وذلك لاعتبارات عديدة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- أن العقل مناط التكليف في الإسلام كما جاء في الحديث من قول علي لعمر رضي الله عنهما: "أما علمت أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ". فكونه مناط التكليف يدل على أهميته إذ يترتب على وجوده المسئولية والمساءلة من الله تعالى.
2- أن العقل أحد الضروريات الخمس التي حافظ عليها الشرع، "فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة، صيانة لعقولها".(45/273)
3- أنه وسيلة الإدراك والتعلم والتفكير، حيث إن "القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف، وينكر به المنكر". فمن ضعف نقده ووهن تمييزه، وقل تفكيره، استسهل السهل لسهولته وإن كان فيه هلكته، واستثقل الثقيل لثقله على نفسه وإن كان فيه فوزه ونجاته في حياته ومعاده.
4- أن سلوك الإنسان وتصرفاته نتيجة أفكاره، وتصوراته، وإدراكه، لأن أصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن التفكير مبدأ الإرادة والطلب في الزهد، والترك والحب والبغض، وأنفع الفكر، الفكر في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها.
وخير وسيلة لتصحيح الفكر والتصورات التزود بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتدبرهما.
5- أن العقل أحد أسس الإبداع، فمن ضعف عقله ووهن تفكيره، قل إدراكه وضاقت تصوراته، فقل إبداعه، ومن نمّا فكره وقوي إدراكه، اتسعت تصوراته فكثر إبداعه، وزاد ونما.
6- أن العقل يُفرق به بين الإنسان والحيوان، حيث إن الحيوان لا يعقل ولا يدرك، وقد شبه الله تعالى من لا يفقه ويتبصر، ويستخدم حواسه وعقله في إدراك الحق كالأنعام، بل أضل من ذلك، لأن الأنعام معذورة لعدم توفر العقل الذي هو وسيلة الإدراك، ولم تكلف، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (1) .
النظرة البشرية للعقل:
__________
(1) سورة الأعراف: آية رقم 179.(45/274)
لقد تشعب الناس إلى طوائف من حيث نظرتهم لمكانة العقل وأهميته، وبناء على ذلك جاءت تصرفاتهم واهتماماتهم بحسب نوعية وجودة الغذاء المعرفي، وترتب على ذلك أن ظهرت تربيات متنوعة بحسب تباين المفاهيم، ويمكن بيان تلك الأقسام على النحو التالي:
1 - نوع من الناس ألّه العقل التابع لهواه، وجعله هو المرجع الرئيس والحاكم على الأشياء، والقائد والمشرع، والموجه والمنظم لحياة الإنسان، وعطله عن معرفة الحق وإدراكه، فهؤلاء يعيشون لشهواتهم، وهؤلاء هم أهل الكفر بجميع أصنافه، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} (1) . وقال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} (2) .
قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدموه على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه.
وهذا النوع من الناس هم الذين الَّهوا العقل، وجعلوه حاكماً على قضاياهم وأعمالهم ونتاجهم.
وهذا النوع من الناس ورثوا هذا المنهج الضال عن إبليس لعنه الله، فهو أول من عارض أوامر الله تعالى بالعقل وقدمه عليه، فإن الله تعالى عندما أمره بالسجود لآدم، عارض أمر ربه بقياس عقلي مركب من مقدمتين.
__________
(1) سورة المائدة: آية رقم 70.
(2) سورة المائدة: آية رقم (70) .(45/275)
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا َّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (1) . وهاتان المقدمتان هما:
1- إحداهما قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} وتقدير ذلك أنا الفاضل فكيف أسجد للمفضول.
2- والثانية: معلومة من أساس التفاضل التي اعتمد عليها على حد زعمه، وهي المادة التي خُلِق منها، فمن خلق من نار فهو أفضل، فكيف يسجد لمن خُلُق من طين.
فهما قياسان متداخلان، وباطلان أيضاً، من عدة وجوه، كما وضح ذلك ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى:
- أنه قياس في مقابلة النص، والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياساً باطلا.
- أنه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} وهذا كذب، ومستنده في ذلك باطل، إذ لا يلزم من تفضيل مادة على مادة، تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى.
فالعبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خير وأفضل عند الله ممن ليس مثلهم من قريش وبني هاشم، وأن صالحي البشر أفضل من الملائكة، وإن كانت مادتهم نورا، ومادة البشر تراباً، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.
أن التراب أفضل من النار لعدة اعتبارات، منها:
- أن طبع النار الطيش والخفة، والأرض الثقل والرزانة.
- أن طبع النار العلو والإفساد، وطبع الأرض الخشوع والإخبات، والله لا يحب المفسدين، ويحب المخبتين.
- أن الأرض مادة الحيوان والنبات والأقوات، والنار بخلافه، فهي حارقة لذلك.
- أن الأرض تعطيك من البركة أضعاف ما تودعه من الحب والنوى، والنار تحرقه. والمعتزلة، والمدارس العقلانية تقدم العقل على النقل، فضلت وأضلت.
__________
(1) سورة الأعراف: آية رقم 11-12.(45/276)
2 - وصنف عطل العقل، فلا يتدبرون ولا يتفكرون، وإنما حياتهم حياة بهيمية، لا يتدبرون آيات الله المبثوثة في الكون وفي أنفسهم ولا يتفكرون في مآلهم ونهاية حياتهم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (2) .
3 - وأمة من الناس قدمت الشرع على العقل، وأصبح الشرع بمثابة ضوء الشمس للعين، وتحقق عندهم لصحة عقولهم وصفاء منهجهم عدم تعارض العقل السليم والنقل الصحيح. وهؤلاء هم أهل الحق، وهم أهل السنة والجماعة، عرفوا قدر الشرع وأهميته، وحاجة الناس إليه فاتبعوه، وعرفوا أهمية العقل فلم يعطلوه.
وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه.
المبحث الثالث
جوانب التربية العقلية والإبداعية
وسائل حفظ وتربية العقل:
أن هناك مفسدات مادية وثقافية تواجه الإنسان وتفتك بعقله وتحرفه عن الصواب، مما يؤكد حاجة الإنسان لما يحفظ عقله من الزيغ والضلال، وينميه، حتى ينتج ويبدع، وهذا يتطلب بيان ما يأتي:
1 - وسائل حفظ العقل.
2 - وسائل تربية العقل.
3 - المفسدات العقلية
أولاً: وسائل حفظ العقل:
__________
(1) سورة الحج: آية رقم 46.
(2) سورة الأعراف: آية رقم 179.(45/277)
إن هناك حاجة ماسة لحفظ العقل البشري من وسائل الهلاك والدمار التي تواجهه من خلال وسائل مختلفة، وفي جوانب متعددة، تهوي به في الاتكالية على جهود الآخرين، أو تعطله عن مهامه بإشغاله فيما يضره ولا ينفعه، كوسائل اللهو المكثفة، والمخدرات المتنوعة، والبث المباشر الذي تسلل للبيوت، فانشغل الإنسان بالباطل عن الحق، وبالضار عن النافع، وبالمفضول عن الفاضل، مما يجعل المهام الملقاة على كاهل التربية ضخمة المسؤولية، من خلال المسجد والمدرسة والمنزل، والهيئات التربوية الأخرى.
وإزاء هذه التحديات التي في صراع مع منابع التربية يتأكد أهمية الوقوف على وسائل حفظ هذا العقل ليؤدي مهامه المطلوبة منه، فضلاً عن الإبداع المأمول، ويمكن إيضاح ذلك في النقاط التالية.
1- الأخذ بكل ما تضمنه القرآن الكريم والسنة النبوية، دون قيد أوشرط، والإيمان بهما والعمل بمقتضاهما، دون الرجوع إلى أي منهج آخر للاحتكام إليه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) . وهذا أمر قطعي لابد من الإيمان والعمل به، ويقتضي هذا عدم تقديم العقل على الشرع، لأن العقل محدود، ناقص، وقد أثبت الله تعالى كمال الشرع وحاكميته عليه، ولا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل، لأنه خلاف المعقول والمنقول، بل ضد القضية، وهو الموافق للأدلة، فلا معدل عنه.
وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا رأوا رأياً ووجدوا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك عدلوا عن رأيهم ورجعوا للسنة.
والتربية القائمة على هذا المبدأ تغرس في أفرادها الانقياد للشريعة الإسلامية، والإذعان لتوجيهاتها، مما ينمي في الفرد جوانب إبداعية من أبرزها:
- الدقة في التعامل مع نتائج الحضارات وفق النصوص الشرعية.
- صحة الفهم لمقاصد الشريعة التي تجعل المبدع يسخر إنتاجه لخدمة البشرية وصلاحها، لا لدمارها وإفسادها.
__________
(1) سورة الحشر: آية رقم 7.(45/278)
- سلامة المعلومات وصحتها من عدم تعارضها مع ما قررته الشريعة.
- بذل الوسع في التحقق من صحة الاستنباطات والاستنتاجات.
- صدق التحليل والتفسير للظواهر والوقائع والحوادث الكونية والتاريخية في منأى عن الهوى والنزعات الشخصية.
2 - أن لا يكون العمل إلا بدليل شرعي فيما يخص الأعمال العقدية والتعبدية، والمعاملات، ولا يكون توجه الإنسان واجتهاده في حياته وأعماله العامة والخاصة إلا وفق المنهج الإسلامي.
وهذا يجسد عند المسلم أهمية البحث العلمي وفق قواعده المعتبرة، مما ينعكس على إنتاجه الذي يرقى به إلى الدقة.
3 - محاربة البدع والشبه، عن محيط المجتمع الإسلامي، وتوعية الأمة بالعلم الصحيح، حتى لا ترتكس في بؤرة الجهل الذي يحجبها عن العمل الصحيح. فما انحطاط كثير من المجتمعات الإسلامية إلا لكثرة البدع والشبه، وتفشي الجهل الذي حط بظلامه وركابه بينهم.
4 - محاربة المسكرات والمخدرات بجميع أنواعها، واختلاف مسمياتها، لأنها حجاب فولاذي عن العمل والتفوق.
5 - أن يعرف الإنسان محدودية عقله، وأن لعقله حدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها، قال الشاطبي رحمه الله "إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبلاً إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان، وما يكون ومالا يكون إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله تعالى لا تتناهى، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهي لا يساوي مالا يتناهى".
وهذه الحقيقة قاعدة تربوية عظيمة الأثر، إذ تؤكد أن الإنسان وإن كان مبدعاً في جانب، فلا يعني تفوقه في كل الجوانب، وإذا كان قاصراً في جانب، فقد يكون مبدعاً في جانب آخر، لو بحث عنه لتفوق فيه، وهذا ما يجهله كثير من الناس، حيث يُرَاد من الكل أن يتفوقوا في جانب معين، أو جوانب محددة، فمن أخفق فيها حُكِم عليه بالغباء.(45/279)
6- احتضان وتنمية المواهب والقدرات العلمية في جميع المجالات سواء ما يتعلق بأمور التقنية الحديثة، أو التخصصات العلمية، في الطب والهندسة، أو سواها من التخصصات التي تحتاج إليها الأمة الإسلامية. لأن عدم احتضانها وتنميتها وتوجيهها قد يؤول بها إلى الانحراف، نتيجة غياب التوجيه، وما انحراف كثير من الدراسات عن جادة الطريق إلا لسوء توجيه الدارسين.
ثانياً: وسائل التربية الإبداعية والعقلية:
إذا تم الحفاظ على العقل، فثمة أمر آخر، وهو القيام بتنميته ليكون مثمراً مبدعاً، وهذه الوسائل قد تشتمل على ما يساعد على حفظه أيضاً، وذلك لصعوبة الفصل بينها فصلاً دقيقاً، ويمكن عرض ذلك فيما يلي:
1- تدبر آيات الله القرآنية:
إن تدبر آيات الله القرآنية عبادة وفقه وتنمية للعقل على الخير، كما أن في ذلك حفظاً لعقل الإنسان من طرق الهلاك والضلال، وقد أمر الله تعالى بتدبر القرآن الكريم، فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1) .
فإن المعرضين عن كتاب الله تعالى، لو تدبروا القرآن الكريم لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية ومن يمتلئ قلبه بالإيمان والإيقان ويعرف طريق الخير، وطريق الشر، يتوجه للخير، وفعل الخير على أحسن وجه.
وفي تدبر آيات الله القرآنية تفتيح للعقول، وهداية وتوفيق وعون لها نحو التفوق. والمرء بأمس الحاجة إلى توفيق الله وعونه ليحقق مبتغاه في علمه ومهنته وإدارته، وفي جميع شؤونه.
2 - تدبر آيات الله الكونية:
__________
(1) سورة محمد: آية رقم 24.(45/280)
إن الإنسان يستطيع أن يشاهد ويلاحظ ما تستطيع حواسه أن تدركه من آيات الله الكونية المبثوثة في الكون، كالجبال والسهول والأودية والأشجار والنجوم، وغيرها من آيات الله الكونية، وهي آيات عظيمة تدل على عظمة الخالق تبارك وتعالى، فتربي الإنسان على صحة التوجه وسعة النظر، وكلما تأمل المؤمن في مخلوقات الله تعالى ازداد إيمانه واتسعت آفاقه وتفكيره، وقد بين تبارك وتعالى أن آياته تدل على الحق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (1) .
فليتأمل الإنسان مثلاً: الحكمة البديعة في تيسيره سبحانه وتعالى على عباده ما هم أحوج إليه، فكل ما كانوا أحوج إليه كان أكثر وأوسع، وكلما استغنوا عنه كان أقل، وإذا توسطت الحاجة توسط وجودها، فاعتبر هذا بالأصول الأربعة: التراب والماء والهواء والنار، وتأمل سعة ما خُلِقَ منها وكثرته، فتأمل سعة الهواء وعمومه ووجوده بكل مكان، ولولا كثرته وسعته وامتداده في أقطار العالم لاختنق العالم من الدخان والبخار المتصاعد، وتأمل حكمة ربك في أن سخر لها الرياح، فإذا تصاعد أحاله سحاباً أو ضباباً، فذهب عن العالم شره، فسل الجاحد من الذي دبر هذا التدبير؟ وهل يقدر العالم لو اجتمعوا أن يحيلوا ذلك سحاباً ويذهبوه عن الناس؟ ولو شاء الله تعالى لحبس الرياح فاختنق من على وجه الأرض.
فهذا التدبر إذا وسعته المناهج الدراسية أحدثت عند المتربي بُعْد النظر، وسعة الأفق، وحُسن الاستنتاج والاستنباط، وسلامة التحليل والتفسير، وربط الأسباب بالمسببات، وبخالق الأسباب ومدبر الأحوال.
3 - تدبر العواقب:
__________
(1) سورة فصلت، آية رقم 53.(45/281)
مما يساعد الإنسان على نمو الجانب التفكيري وحسن الإبداع تعقل الأمور وتدبر عواقب ما يريد أن يقدم عليه، فينظر ما هي عواقبه ونتائجه عليه في دار معاده ومعاشه، وهل هي لذة وقتية يتبعها ألم دائم وحسرة قد لا تنقطع، أو ضد ذلك؟
فمثلاً: من طبيعة "الفضائل أنها مستحسنة مستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستخفة" فمن ضعف تفكيره ووهن تميزه وقل نقده استسهل السهل لسهولته وإن كان فيه هلكته، واستثقل الثقيل لثقله على نفسه وإن كان فيه فوزه ونجاته.
كما أن في تدبر العواقب تدريباً للذهن على القياس، وربط نتائج الصور المتشابهة، واستنتاج القواعد من الحوادث المتماثلة، وفي هذا تدريب للعقل على التفكير والإبداع.
4- حسن النقد والتمييز:
إن من أهداف التربية تهذيب الإرادة، وتنمية التفكير ليميز الغث من السمين، والحسن من القبيح، واختيار الفضائل وتجنب الرذائل حتى لا يكون عبد شهوته من جهة، وإمعة من جهة أخرى، ويغتر بكل قول، ويجذبه كل ناعق، وقد جاء في الحديث أن يوطن الإنسان لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا" (1) .
وتصرفات الإنسان هي وليدة أفكاره "وأصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض، وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها".
لذلك على المربين أن يشجعوا الأبناء على ممارسة التقويم الذاتي بأنفسهم، حتى تكون لديهم قدرة الاعتماد على النفس واختيار الأفضل والأحسن في ضوء المنهج الإسلامي.
وهذا يربي فيهم سلامة التفكير، وحُسن المنطق، والقدرة على الاستفادة من الأوقات.
__________
(1) الترمذي 4/320 برقم 2007، وقال: حديث حسن غريب، وقال الألباني: حديث ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، برقم 6271-113 ص 905.(45/282)
5- تدبر الماضي التاريخي:
إن التاريخ حصيلة تجارب الأمم، وعبرة يعتبر بها الإنسان، ويستفيد منها، وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية استشراف التاريخ، والتعرف على السنن الطبيعية والاجتماعية، والإفادة من ذلك في الاعتبار، وبناء الحضارة، والمحافظة عليها من السقوط.
ولكن كشف هذه السنن المطردة لا يمكن أن يتم إلا بالاستقراء التاريخي، ودراسة أحوال الأمم الماضية، والوقوف على عوامل تقدمها، وأسباب سقوطها.
والآيات القرآنية التي تحث على الاعتبار كثيرة ومن ذلك حثه سبحانه وتعالى على الاعتبار من عاقبة الأمم التي كذبت الرسل، وكانوا أصحاب أموال وقوة وعمران، فلما بغوا جاءهم العذاب فلم تنفعهم قوتهم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (1) .
وأما أسلوب عرض الوقائع والأحداث التاريخية دون استجلاء العبر والسنن الإلهية في التمكين والنصر وفي الهزيمة، فلا يزيد شيئاً في الجانب التفكيري، وفي تقوية الجانب الإيماني، وفي الاعتبار والاستفادة، ولذلك فإن الدراسات التاريخية تحتاج إلى هذا النوع البناء من استجلاء العبر، وربط السنن الكونية بالسنن الشرعية الواردة في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
إضافة إلى إبراز مظاهر الحضارة الإسلامية وعمقها، وما أنتجته وأسهمت به في تقدم الأمم، لأن في ذلك باعثاً للهمم نحو التطلع لتحقيق المجد التليد، والاقتداء بِسِيَرِ الأولين في الجد والاجتهاد.
6- أن تكون التفسيرات للأحداث في ضوء الشرع:
__________
(1) سورة فاطر: آية رقم 44.(45/283)
إن تفسير الحوادث الكونية والتاريخية والاجتماعية في معزل عن الشرع يُحدث تصدعاً في البنية المعرفية عند الإنسان، ويتبعها نظرة معملية لذلك، فيفقد بها المتربي المعرفة الشرعية، وربط الأسباب بمسبباتها، وربط ذلك كله بإرادة الله وحكمته وكمال تدبيره سبحانه وتعالى، فينعكس ذلك على الجانب الاعتقادي.
وبالتالي يحجم تفكيره عن الإبداع وسبر غور الأحداث، خاصة في المجال التاريخي والاجتماعي.
ومثال ذلك "السنن الاجتماعية التي أوضحها الله تعالى في القرآن الكريم، أن فشو الظلم وغياب العدل من الأسباب الموجبة لهلاك الأمم، وسقوط الحضارات". قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} (1) .
فإذا دُرس سقوط الأمم من خلال العثرات الاقتصادية التي وقعت فيها، وأودت بهلاكها، أو بالهزائم العسكرية وحدها، دون النظر إلى الأسباب الشرعية التي كانت أساساً للأسباب المادية كانت تلك الدراسة التاريخية مادية، لا تبني في صاحبها ولا في القارئ بُعد النظر الذي هو شعلة الإبداع المعرفي.
7- عدم الاتكالية:
إن الاتكال على الآخرين في كل شيء، والاعتماد عليهم في التنظيم والتخطيط وإيجاد الحلول والبدائل، يجعل عقل الإنسان عقيماً، بعيداً عن التفكير البناء، ويعيق نشاط الذهن الذي يثمر الإبداع الجيد الصحيح.
وعدم الاتكالية إحدى خطوات البحث العلمي الواعي، وهذا الأمر ليس مطلقاً، لأن الآخرين إما نقطة نبدأ منها للبناء، أو للهدم، أو نستعين بها، ولكن الخطأ في الاتكال الكلي دون أن يبذل الإنسان ما في وسعه. ولذلك اشْتُرِط للعمل الإبداعي أن يتحقق فيه أحد الشروط التالية:
- أن يكون النتاج الفكري جديداً، وذا قيمة.
- أن يتضمن تغييراً للأفكار السابقة، إذا كانت خاطئة.
- أن يكون النتاج الفكري عميقاً، أو فيه إثارة شديدة.
- أن تكون صياغة المشكلة مزيلة للغموض.
__________
(1) سورة الأنبياء آية رقم 11.(45/284)
وهذه الشروط تؤكد أهمية الابتكار في الإبداع.
8- تعلم العلم:
إن العلم لقاح العقول، ينميها ويربيها وينير فيها روح الإبداع والبحث العلمي الواعي الرشيد، وأنفع العلوم في لقاح العقول وأكملها علم الشريعة، ثم العلوم التي يحتاجها الإنسان في بناء أمته ومجتمعه، كالاقتصاد والعلوم الزراعية والصناعية والتجارية والإدارية والطبية، وغيرها من العلوم النافعة، فكلما ازداد الإنسان معرفة في مهنته ازداد إبداعاً وتألقاً في ميدان تخصصه، إذا واكب ذلك رغبة وتطلعاً للأحسن والأكمل.
ومن الأمور المعينة على الإبداع في مجال العلم والتعلم ما يلي:
أ- الاستقراء:
وهي الطريقة التي ينقل بها المعلم ذهن المتعلم من المعلوم إلى المجهول، ومن المحسوس إلى المعنوي، ومن الملموس إلى غير الملموس، وذلك بتدرجهم في الانتقال من الجزء إلى الكل، حتى يستطيع المتعلم أن يصل من الحقائق الجزئية إلى التعميم، أي بتمكين المتعلم باستقرائه للحقائق الجزئية إلى استنباط المبدأ العام، أو القاعدة الكلية.
ب- الطريقة الكلية:
وهي عكس الطريقة السابقة، حيث ينتقل بذهن المتلقي من القاعدة إلى جزئياتها الأصلية، ومن الكل إلى الجزء، مثل دراسة تعريف معين عن طريق تفتيت مركباته وعناصره الأصلية.
وفي هذه الطريقة يعرض المعلم على المتعلم الحادثة التاريخية - مثلاً - على نحو كلي شمولي، ثم يوضحها ويفسر أجزاءها، وتفصيلاتها بالدليل والبرهان، أو بتحليل الحوادث، أو بضرب الأمثلة.
ج- القياس:
هو تسوية فرع بأصل في الحكم لوجود علة جامعة بينها "وهو أحد الأدلة التي تثبت بها الأحكام الشرعية" في الفقه الإسلامي.(45/285)
والقياس لا ينحصر في الأدلة والأحكام الشرعية بل في كثير من فنون العلم والمهارات. وسواء كان في مجال الفقه أو في مجال الأمور العامة، فإنه وسيلة للإبداع، وحاجة يحتاج إليها الإنسان، فإن تربية المتعلمين على هذا الجانب، يقوي لديهم ربط وقياس الأمور المتشابهة بعضها ببعض، إذا وجدت العلة الجامعة بين الفرع والأصل، أو بين المقيس والمقاس عليه.
د- الحفظ:
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام عملية الحفظ والاستذكار، حيث تجعل العلم في متناول الحافظ، يسير معه أين ما حل وارتحل، بعكس الذي يعتمد على الكتب فقط، فإنه يصبح أسيراً لها، لا يفكر إلا بوجودها.
والحقيقة إن هذا لا يعني التقليل من أهمية الكتاب، وإنما القصد أن يتمكن الإنسان بمحفوظه، وأن يتحرر من قيود ارتباطه بالكتاب في كثير من المواقف الطارئة، والمواقف التي لا يتوفر فيها الكتاب.
وفي الحفظ تدريب الذاكرة على ذلك مع سرعة الاسترجاع، وهذا في حد ذاته إبداع، يُعين المرء على التحليل والاستنتاج والقياس، والاستقراء دون ارتباط مباشر بالكتاب. قال أبو هلال العسكري "وإذا كان ما جمعته من العلم قليلاً وكان حفظاً كثرت المنفعة به، وإذا كان كثيراً غير محفوظ قلت منفعته".
وأما من زعم من الناس أن الحفظ ليس له قيمة ولا أثر على الإبداع، وأنه يجعل من الإنسان كتاباً ناطقاً، فإنها دعوة باطلة غير صحيحة، ودليل ذلك أن السلف كانوا يهتمون بالحفظ اهتماماً بليغاً حتى برز منهم مبرزون في الحفظ، فكان لهم قدم علم وفقه، مثل: الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسعيد ابن المسيب وسليمان بن داود الطيالسي وأبي داود وسفيان الثوري وغيرهم.
وقد بين السلف أهمية الحفظ في كسب العلم، حيث تطالع ذلك في مصنفاتهم مثل كتاب الحث على الحفظ لابن الجوزي.
كما أنه لا بد أن يلازم الحفظ الفهم السليم الذي يولد الوعي وحُسن الإدراك عند المتلقي، ويرتقي بدرجة حفظه إلى ما يقود للإبداع المعرفي.(45/286)
9- الحوار والمناقشة:
إن للأسلوب الحواري في تصحيح المعلومات الخاطئة، والتصورات الباطلة أثراً كبيراً في تقبل صحيح المعلومات والتصورات، وإزالة الملابسات، والمتعلقات الذهنية الخاطئة، لأن فيه قرع الحجة بالحجة، وتفتيح الذهن، وفك ما غلق واستصعب من الفهم والإدراك.
وقد اشتمل القرآن الكريم على آيات كثيرات مبنية على الحوار، وكذا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأما أسلوب فرض المعلومات والآراء والأفكار على الآخرين فقد يقبلونها ولكن على غير رضى واقتناع، إما رهبة من عاقبة رد ذلك أو هيبة لذي السن والجاه، ولكن هذا الأسلوب يقتل الإبداع، ويميت حسن التفكير.
10- ضرب الأمثال:
إن ضرب الأمثال وتعقلها يثير الجانب الذهني عند الإنسان بتوسعة أفقه، لأن في ضرب الأمثال تقريب المعنى للأذهان وتدريباً على حُسن القياس، وقد اشتمل القرآن الكريم والسنة النبوية على الكثير من الأمثال ألتي جاءت مؤثرة لقوة بيانها ووضوحها وترابط الممثل به والممثل عليه، ومثال ذلك:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (1) .
ومثال ذلك من السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة" (2) .
__________
(1) سورة الحج: آية رقم 73.
(2) البخاري 3/463، برقم 5534، ومسلم 4/2026، برقم 146-2628.(45/287)
فتلك بعض الوسائل التربوية التي تساعد على حفظ العقل من الزيغ والضلال، وتعمل على تربيته وزيادة مقدرته في الفهم وحسن الإنتاج والإبداع، وهذا الأمر لا تكفي فيه الجهود الفردية، بل يتطلب الأمر أن تكثف جهود البيئات التربوية: كالمدرسة والأسرة وكافة الجهات التربوية الأخرى لبناء الإنسان المسلم بناء صحيحاً، يحقق أهداف التربية الإسلامية، المتمثل في تحقيق العبودية لله تعالى، وعمارة الكون بما يرضي الله تبارك وتعالى.
ثالثاً: المفسدات العقلية:
إن صاحب العقل السليم يستطيع أن يستفيد من هذه النعمة الكريمة الكبيرة التي تميزه عن سائر الكائنات الحية، لكن بعض الناس اجتالتهم مفسدات العقل، فعطلت عقولهم، وغيرت وجهتهم الحسنة إلى وجهة سيئة، فانعكس ذلك على سلوكهم وتصرفاتهم، ويمكن إيضاح تلك المفسدات المهلكات فيما يلي:
1- مفسدات فكرية:
وهي أن يتصور الإنسان الأمور الغيبية من غير منهج الله تعالى، وأن يتلقى الأوامر والنواهي المتعلقة بتوجيه الجانب العقدي والتعبدي، ونشاطه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي من غير منهج الله تعالى.
ومما يفسد العقل فكراً وتصوراً، إثارة الشبه بين الناس، وإشغالهم، وافتتانهم بها، وكذا الترويج للشعوذة والكهانة، والنظريات الباطلة في التربية والسياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق، ونشر اللهو عن طريق وسائل متعددة: كالكتاب والمجلة والصحيفة والمسرح والقصص والسينما والرائي والمذياع، وغير ذلك من الوسائل ذات التأثير الفاعل.
وهذه المفسدات العقلية تنحو بفكر الإنسان منحى يبعده عن مساره الصحيح الذي يحقق فيه الجدية المعرفية أو المهنية التي هي روح الإبداع.
2- مفسدات حسية:(45/288)
وهي تلك المفسدات المادية كالخمور والمخدرات والمسكرات بجميع أنواعها، وقد حرمها الإسلام بنصوص شرعية كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (1) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة" (2) .
وهذه المفسدات تقوم بتعطيل العقل عن دوره، وحجبه عن مصالحه، وتعتيم الأمور عليه، حتى لا يدرك الخير من الشر، وبالتالي ينحرف بتصرفاته عن مواصفات الرجل العاقل المتزن الذي يقيم الأمور ويعالجها بحكمة وروية.
ومن أهم ما تحجبه عنه معرفة الحق وإدراكه والأخذ به، فتبعده عن طاعة الله تعالى التي خُلِقَ الإنسان من أجل تحقيقها.
كما تبعده عن التفكير في منافعه الدنيوية، والتوجه بجهده العقلي والبدني نحو تنمية قدراته ومواهبه نحو الإبداع والتفوق في المجال الذي يعمل فيه، سواء كان في الإدارة، أو الصناعة، أو الزراعة، أو الهندسة، أو نحو ذلك.
3 - المعاصي والهوى:
ومما يفسد العقل الانغماس في المعاصي، واتباع الهوى، فينشغل بذلك عن معرفة مصالحه في دار معاشه ومعاده. وقد حذر الله تعالى من اتباع من اتبع هواه وذلك لفساده وفساد منهجه، فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (3) .
والذي يحول بين القلب وبين الحق في غالب الأحوال اشتغال القلب بغير الحق من مفاتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس، فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها مع ذلك أن ترى الهلال.
أو هو يميل إليه فيصده عن اتباع الحق، فيكون كالعين التي فيها غذى لا يمكنها رؤية الأشياء.
__________
(1) سورة المائة: آية 90.
(2) مسلم 3/1587، برقم 73-2003.
(3) سورة الكهف: آية رقم 28.(45/289)
ثم الهوى قد يعترض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه، وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه.
وفي الجوانب العامة من مطالب الحياة، قد يفتن الهوى صاحبه، فلا يفكر في مصالحه ليبدع فيها، وإنما ينصب تفكيره في حسد الآخرين، والتطلع إلى ما عندهم، فينشغل بغيره عن ما ينفعه في دار معاشه ومعاده.
الخاتمة
مما سبق يتضح أهمية الإبداع في التقدم والتطور في كثير من المجالات، وقد اهتمت التربية الإسلامية بالجانب الإبداعي، مع توجيهه التوجيه الصحيح، وتحديد إطاره الذي يسير فيه.
ولما أن هناك علاقة بين الإبداع والجانب العقلي الذي هو مناط التكليف، وهو القوة التي يدرك بها الإنسان الأمور، وهو عامل أساسي في الجانب الإبداعي، فقد اهتمت التربية الإسلامية بهذا الجانب اهتماماً كبيراً، حفظاً وتنمية، وحذرته ومنعته من كل ما يحجبه عن معرفة الحق، أو يعيقه ويعطله عن دوره، بل جعلت حفظه أحد الضروريات الخمس التي لا يستغني عنها الإنسان.
كما أنها حددت للعقل مساره الصحيح، والحدود التي لا ينبغي له أن يتجاوزها، وجعلت الشرع نبراسه ونوره، وهو يسير خلفه وفي ضوئه، ويستنير بتوجيهاته.
وهي بذلك تقدم أصولاً تربوية عميقة الفائدة، لمن يسبر غورها، ففاقت جميع التربيات، وأصبح الإنسان مفتقراً إليها غاية الافتقار، ولا سعادة له في دار الدنيا والآخرة إلا بها.
هذا وأحمد الله تعالى على فضله وتوفيقه وامتنانه، واستغفره من أخطائي وتقصيري، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس المراجع
- القرآن الكريم.
- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم: أسد الغابة (د. م) : الشعب،1970م.
- الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد: المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد كيلاني، بيروت: دار المعرفة (د. ت) .
- أكرم ضياء العمري، الإسلام والوعي الحضاري، ط1، جدة: دار المنارة، 1407هـ - 1987م.(45/290)
- البخاري، محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، شرح وتحقيق محب الدين الخطيب، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر ومراجعة قصي محب الدين الخطيب، ط1، القاهرة: المطبعة السلفية، 1400هـ.
- بكر بن عبد الله أبو زيد، حلية طالب العلم، ط2، الرياض: دار الراية، 1409هـ- 1988م.
- البلاذري، أبو العباس أحمد بن يحي، فتوح البلدان، تحقيق عبد الله أنيس، وعمر أنيس الطباع، بيروت: مؤسسة المعارف 1407هـ- 1987م.
- الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة: الجامع الصحيح، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكة المكرمة: دار الباز (د. ت) .
- ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل، تحقيق محمد رشاد سالم، الرياض: مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،1401هـ- 1981م.
- ابن تيمية: الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن محمد العاصمي النجدي وساعده ابنه محمد، (د. م) ، (د. ت) 1398هـ.
- ابن تيمية، الاستقامة، تحقيق محمد رشاد سالم، القاهرة: مكتبة ابن تيمية، (د. ت) .
- ابن الجوزي: الحث على حفظ العلم، بيروت: دار الكتب العلمية،1405هـ- 1985م.
- ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق عبد العزيز بن باز، تبويب محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار المعرفة (د. ت) .
- ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ط2، بيروت: دار الكتب العلمية، 1405هـ- 1985م.
- حكمة نجيب عبد الرحمن، دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، ط4، الموصل: وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، (د. ت) .
- حلمي المليجي، علم النفس المعاصر، ط2، بيروت: دار النهضة العربية، 1972م.
- الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه، ط2، بيروت: دار الكتب العلمية، 1400هـ - 1980م.
- أبو داود، سليمان بن الأشعث الأزدي: سنن أبي داود، إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد، ط1،بيروت: دار الحديث، 1388هـ- 1969م.(45/291)
- الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط6، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ- 1986م.
- السعدي، عبد الرحمن بن ناصر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، جدة: دار المدني،1408هـ- 1988م.
- السعدي، عبد الرحمن بن ناصر، القواعد والأصول الجامعة، ط1، (د. م) دار الوطن للنشر، 1413هـ.
- ابن سعد، الطبقات الكبرى، بيروت: دار صادر، 1405هـ- 1985م.
- الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم اللخمي: الموافقات في أصول الأحكام، (د. م) دار الفكر،1341هـ.
- الشاطبي، أبي إسحاق إبراهيم اللخمي، الاعتصام، مكة المكرمة، المكتبة الفيصلية، (د. ت) .
- شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان، تحقيق خليل الميس، بيروت: دار الكتب العلمية، 1403هـ- 1983م.
- عباس محجوب، الفكر التربوي الإسلامي، ط1، عجمان: مؤسسة علوم القرآن، 1408هـ- 1987م.
- عبد الحميد الصيد الزنتاني: أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ليبيا، تونس: الدار العربية للكتاب،1984م.
- ابن عثيمين، محمد بن صالح: الأصول من علم الأصول، ط2، الرياض: دار طيبة للنشر،1409هـ- 1988م.
- عبد الرزاق إبراهيم، التعليم الجامعي وظاهرة البطالة بين خريجي الجامعات، المجلة العربية للتعليم العالي، العدد الأول، شعبان 1416هالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
- عبد الله أحمد قادري، الإسلام وضروريات الحياة، ط1، جدة: دار المجتمع، 1406هـ- 1986م.
- عبد الكريم بكار، فصول في التفكير الموضوعي، ط2، دمشق، بيروت، دار القلم، دار الشامية، 1419م.
- علي سعيد الهزاع القرني، التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام، الأمانة لعامة للاحتفال، الرياض7-11 شوال1420هـ.(45/292)
- عطاء الرحمن، التربية العلمية في الدول الإسلامية، سلسلة التعليم الإسلامي، العلوم الطبيعية والاجتماعية، إعداد إسماعيل راجي الفاروقي، وعبد الله عمر نصيف، ترجمة عبد الحميد الخريبي، جدة: عكاظ، ط1، 1404هـ- 1984م.
- فاخر عاقل، الإبداع وتربيته، بيروت: دار العلم للملايين، 1983م.
- الفتوحي، تقي الدين أبي الفداء محمد شهاب الدين: شرح الكوكب المنير، تحقيق محمد حامد الفقي، القاهرة: مطبعة السنة الحمدية، 1372هـ- 1953م.
- ابن قيم الجوزية: إغاثة اللهفان، تحقيق محمد سعيد كيلاني، بيروت: النور الإسلامية (د. ت) .
- ابن قيم الجوزية: الفوائد، تحقيق عبد السلام شاهين، بيروت: دار الكتب العلمية، 1408هـ- 1988م.
- ابن قيم الجوزية: مفتاح دار السعادة، بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت) .
- ابن قيم الجوزية، الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، تحقيق أحمد عطية الغامدي، وعليّ ناصر فقيهي، المدينة المنورة: الجامعة الإسلامية، 1407هـ.
- ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين، مراجعة طه عبد الرؤف سعد، بيروت: دار الجيل، (د. ت) .
- ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل: تفسير القرآن العظيم، ط2، بيروت: دار المعرفة،1407هـ- 1987م.
- محمد عطية الأبراشي، روح التربية والتعليم، ط4، (د. م) دار احياء الكتب العربية، 1369هـ- 1950م.
- محمد قطب، رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، ط1، الرياض: دار الوطن، 1411هـ- 1991م.
- مقداد يالجن: جوانب التربية الإسلامية، بيروت: مؤسسة دار الريحاني، 1406هـ - 1986م.
- مسلم، ابو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة: دار الحديث (د. ت) .
- ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم: لسان العرب، بيروت: دار صادر (د. ت) .
- عبد الرحمن النحلاوي، أصول التربية الإسلامية، ط1، دمشق: دار الفكر، 1399هـ.(45/293)
- النووي، محي الدين أبو زكريا يحي بن شرف، صحيح مسلم بشرح النووي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1407هـ- 1987م.
- ابن هشام، أبو محمد عبد الملك محمد بن هشام بن أيوب الحميري: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، بيروت: دار القلم (د. ت) .
- أبو هلال العسكري: الحث على طلب العلم، تحقيق مروان قباني، بيروت: المكتب الإسلامي،1406هـ - 1986م.
- أبو هلال العسكري، الأوائل، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1407هـ- 1987م.(45/294)
العدد 117
فهرس المحتويات
1- كتاب الاعتقاد لأبي الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى الحنبلي: د. محمد بن عبد الرحمن الخميس
2- الحوقلة مفهومها ودلالتها العقدية: أد. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
3- طرق التخريج بحسب الراوي الأعلى
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
... تابع (4)
د. دخيل بن صالح اللحيدان
4- كتاب السير من التهذيب للإمام البغوي
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
... تابع (4)
... تابع (5)
... تابع (6)
د. راوية بنت أحمد الظهار
5- من الهدي النبوي في تربية البنات: د. محمد بن يوسف عفيفي
6- الإبدال في لغات الأزد دراسة صوتية في ضوء علم اللغة والحديث
... تابع (1)
د. أحمد بن سعيد قشاش
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(45/295)
كتاب الاعتقاد لأبي الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى الحنبلي
تحقيق وتعليق:
د. محمد بن عبد الرحمن الخميس
الأستاذ المشارك في كلية أصول الدين بالرياض
مقدمة المحقق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمرإن: 102] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70، 71] .
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(45/296)
وبعد؛ فهذه رسالة نفيسة للإمام أبي الحسين محمد بن محمد بن حسين الفراء الحنبلي البغدادي، ابن القاضي أبي يعلى، صاحب كتاب طبقات الحنابلة. وهي وإن كانت صغيرة الحجم، فهي غزيرة الفائدة، وتكشف عن كون الإمام المصنف على عقيدة السلف الصالح، كما تبين مدى جهاده وذبه عن هذه العقيدة، فقد عهده الناس فقيهاً مؤرخاً من خلال كتابه طبقات الحنابلة وهو في كتابه هذا يبين عقيدة السلف في الإيمان، والتوحيد، والصفات، والقدر، والبعث والصراط، والنبوة، وحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، وغيرها، كما يبين فيه الواجب فعله تجاه المبتدعة المخالفين لعقيدة السلف.
(أ) - أسباب تحقيق الكتاب:
· أنَّ المصنف من العلماء الحنابلة الذين تمسكوا بعقيدة الإمام أحمد في الأصول، كما هم على مذهبه في الفروع.
· بيان المؤلف في هذا الكتاب لعقيدته، عقيدة السلف، مما يدل على إحاطة المؤلف بمذهب أهل السنة العقدي، ومعرفته بأقاويل الفرق المبتدعة.
· أن الكتاب لم يطبع من قبل.
(ب) - خطة البحث:
رأيت من المناسب تقسيم البحث في هذا الموضوع إلى قسمين:
القسم الأول: في التعريف بالمؤلف وبالكتاب:
ويشتمل هذا القسم على مبحثين:
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف:
ـ اسمه ونسبه وكنيته ومولده.
ـ نشأته العلمية.
ـ ثناء العلماء عليه.
ـ أشهر مصنفاته.
ـ أشهر شيوخه.
ـ أشهر تلاميذه.
ـ وفاته.
المبحث الثاني: التعريف بالكتاب ووصف المخطوطة:
أولاً: التعريف بالكتاب:
ـ اسم الكتاب.
ـ موضوع الكتاب.
ـ سبب تأليف الكتاب.
ـ توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف.
ثانيا: وصف المخطوطة:
القسم الثاني: تحقيق الكتاب.
(ج) عملي في الكتاب:
لقد اجتهدت حسب الوسع والطاقة في خدمة هذا الكتاب، وإخراجه بهذه الصورة، ويتلخص عملي في التحقيق في الخطوات التالية:
1 ـ الاعتماد في تحقيق الكتاب على أصل محفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق الشام، تحت رقم (4546) ، وهي نسخة وحيدة.(45/297)
2 ـ عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها في القرآن بين معقوفين بعد كل آية.
3 ـ عزو الأحاديث إلى مصادرها الحديثية، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما، أما إذا كان في غير الصحيحين فاجتهد في العزو إلى أكثر من مصدر.
4 ـ التعليق والشرح لما يحتاج إليه في بعض المواضع التي تحتاج في نظري إلى تعليق، وفصلت بين الأصل وتعليقاتي عليه بوضع الأصل في أعلى الصفحة والتعليق في أسفلها.
5 ـ وضع عناوين جانبية توضح المقصود من كل فقرة.
6 ـ وضع فهارس عامة للكتاب، وهي:
أـ فهرس المصادر والمراجع.
ب ـ فهرس الموضوعات.
وأخيراً فإني بذلت الجهد في تحقيق هذا الكتاب وإخراجه، فإن وفّقت إلى ذلك وأصبت فهو من عند الله وله المنّة، وإن كان غير ذلك فأستغفر الله، وعذري أني استفرغت في البحث وسعي، وأسال الله تعالى القبول، إنه تعالى نعم المولى ونعم النصير، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول
التعريف بالمؤلف وبالكتاب
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
أ - اسمه ونسبه وكنيته ومولده:
هو أبو الحسين محمد بن محمد بن حسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء الحنبلي، البغدادي، المشهور بالقاضي أبي الحسين، ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
ب - نشأته العلمية:
نشأ القاضي أبو الحسين في بيئة علمية صالحة، حيث نشأ تحت رعاية والده العلامة محمد بن الحسين المشهور بالقاضي أبي يعلى، وهو شيخ الحنابلة وأمامهم في عصره، حيث عني بتعليم ابنه وتهذيبه منذ نعومة أظافره، وكان أول ما يتلقاه طلاب العلم في ذلك الوقت حفظ القرآن، ثم بعد ذلك يوجهون عنايتهم لدراسة الحديث النبوي وسائر العلوم الشرعية الأخرى. فأخذ على مشايخ بغداد في مختلف العلوم الشرعية، حتى فاق أقرانه.
ج - ثناء العلماء عليه:
قال عنه الذهبي: (الإمام العلاّمة الفقيه القاضي أبو الحسين محمد بن القاضي الكبير أبي يعلى) .(45/298)
وقال عنه الذهبي في موضع آخر: (كان مفتياً مناظراً عارفاً بالمذهب ودقائقه، صلباً في السنة، كثير الحط على الأشاعرة) .
وقال عنه ابن رجب: (برع في الفقه وأفتى وناظر، وكان عارفاً بالمذهب متشدداً في السنة)
وقال عنه السلفي: (وكان كثيرا ما يتكلم في الأشاعرة، ويسمعهم، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله تصانيف في مذهبه، وكان دينا ثقة ثبتاً، سمعنا منه)
د - أشهر مصنفاته:
1 ـ طبقات الحنابلة، وهو مطبوع.
2 ـ الرد على زائغي الاعتقاد في منعهم من سماع الآيات.
3 ـ شرف الاتباع وسرف الابتداع.
4 ـ المقنع في النيات.
5 ـ المفتاح في الفقه.
6 ـ المسائل التي حلف عليها أحمد.
7 ـ إيضاح الأدلة في الرد على الفرقة الضالة المضلة.
8 ـ المجموع في الفروع.
9 ـ المفردات في أصول الفقه.
10 ـ تنزيه معاوية بن أبي سفيان.
11 ـ رؤوس المسائل.
12 ـ التمام لكتاب الروايتين والوجهين.
13 ـ المفردات في الفقه.
هـ - أشهر شيوخه:
1 ـ والده: القاضي أبو يعلى.
2 ـ عبد الخالق بن عيسى الهاشمي العباسي المعروف بالشريف.
3 ـ عبد الصمد بن مأمون.
4 ـ أبو بكر الخطيب.
5 ـ أبو بكر الخياط.
6 ـ أبو المظفر هناد النسفي.
و أشهر تلاميذه:
1 ـ عبد المغيث بن زهير الحربي.
2 ـ الجنيد بن يعقوب الجيلي.
3ـ عبد الغني بن الحافظ أبي العلاء الهمداني.
4 ـ أبو نجيح محمود بن أبي المرجا الأصبهاني.
5 ـ علي بن المرحب البطائحي.
6 ـ محمد بن غنيمة بن القاق.
ز - وفاته:
توفي القاضي أبو الحسين سنة526 هـ مقتولاً في بيته، فرحمه الله وغفر له.
المبحث الثاني: التعريف بالكتاب ووصف المخطوطة
أولا - التعريف بالكتاب:
أ - اسم الكتاب:
دوِّن على غلاف النسخة الخطية (الاعتقاد) ، وهكذا ورد في السماعات المرفقة مع المخطوطة، ولم أقف على خلافه.
ب - موضوع الكتاب:
يتضح من اسم الكتاب (الاعتقاد) أي اعتقاد المؤلف، وما يدين به ربه في مسائل الإيمان والتوحيد. فالكتاب يشتمل على المسائل الآتية:(45/299)
1 ـ الإيمان بالله وتوحيده.
2 ـ الإسلام والإيمان.
3 ـ صفة الكلام، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق.
4 ـ الصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسنة: كالعلم، والحياة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، واليمين، والنزول، والضحك، والمجيء، والساق، وغير ذلك من الصفات.
5 ـ بيان أن من شبه الله بخلقه فقد كفر.
6 ـ منهج أهل السنة في الأسماء والصفات.
7 ـ الإيمان بالقدر.
8 ـ الإيمان بعذاب القبر.
9 ـ الإيمان بالبعث والصراط.
10 ـ الإيمان بالميزان.
11 ـ الحوض والشفاعة.
12 ـ الحساب والجنة والنار.
13 ـ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
14 ـ إعجاز القرآن الكريم.
15 ـ الإسراء والمعراج.
16 ـ حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه.
17 ـ المفاضلة بين الصحابة.
18 ـ هجر أهل البدع.
19 ـ خاتمة المؤلف.
ج - سبب تأليف الكتاب:
بين المؤلف رحمه الله تعالى سبب تأليفه للكتاب، فقال: "أما بعد! أعاذنا الله وإياك من التكلف لما لا يحسن والادعاء لما لا نتقن وجنبنا وإياك البدع والكذب فإنهما شرّ ما احتقب، وأخبث ما اكتسب. فإنك سألت عن مذهبي وعقدي، وما أدين به لربي عزّ وجل لتتبعه؛ فتفوز به من البدع والأهواء المضلة، وتستوجب من الله عزَّ وجل المنازل العلية فأجبتك إلى ما سألت عنه، مؤملاً من الله جزيل الثواب، وراهباً إليه من سوء العذاب ومعتمداً عليه في القول بالتأييد للصواب "أ. هـ.
من خلال ما سبق اتضح لنا أن سبب تأليفه للكتاب أن المؤلف سُئِل عن عقيدته ومذهبه؛ فأجاب السائل بكتابة عقيدته في هذه الرسالة.
د - توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:
تتحقق نسبة الكتاب إلى مؤلفه بما يلي:
1 ـ ما كتب على غلاف المخطوط من اسم الكتاب مع نسبته إلى مؤلفه.
2 ـ ما يوجد بآخره من السماعات الآتية بحروفها:(45/300)
أ - سمعه جميعه من الشيخ الفقيه أبي سعيد بن الأعرابي، بقراءة الشيخ العالم الفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن تيمية الحراني (.....) الشيخ الفقيه أبو الفتح نصر الله بن عبد العزيز بن صالح بن عبدوس الحراني، وأبو محمد طلحة بن مظفر بن حاتم (......) علي بن مكي بن علي الباجسرالي، وعبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي وهذا خطه وذلك يوم الأحد السابع عشر من ذي الحجة في سنة ثلاث وستين وخمسمائة للهجرة (563هـ) والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليماً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ب - سمع جميع هذا الجزء وهو اعتقاد القاضي أبي الحسين بن الفراء على الشيخ الأجل أبي سعيد عبد الجبار بن يحيى بن هلال بن الأعرابي بقراءة الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عمر بن الحسين بن خلف القطيعي، صاحب هذه النسخة عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، وذلك في ثالث عشر من شوال سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، الحمد لله وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً.
هذا صحيح، وكتب عبد الجبار بن يحيى بن هلال بن الأعرابي في التاريخ المقدم ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ج - سمع جميع الاعتقاد وهو تأليف أبي الحسن محمد بن الفراء من لفظ شيخنا وسيدنا الإمام الأوحد العالم شمس الدين عز الإسلام أبي الفتح نصر الله ابن عبد العزيز بن صالح بن عبدوس نحو سماعه فيه من أبي سعيد بن الأعرابي الشيخ الأجل الفقيه أبو الخير سلامة بن صدقة بن الصولة، وولده صدقة وأبو طاهر إبراهيم بن شداد بن طفيل الشيزري، وكاتب الأسامي عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصقال معارضاً بنسخة للشيخ المسموع منه، وذلك يوم الأربعاء حادي وعشرين من ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسمائة للهجرة بمدرسة مسجد العمران حرسها الله تعالى.(45/301)
سمعته من أبي محمد أحمد بن محمد بن أبي نصر الخرساني وعبد الحق بن أحمد سعد، وكتبه عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد المقدسي في ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمسمائة بنابلس وصلى الله على محمد وآله وسلم.
د- سمع جميع هذا الجزء على شيخنا الإمام العالم شيخ الإسلام بهاء الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي رضي الله عنه الجماعة الشيخ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن التركي، ومحمد بن كامل السلمي، وعز الدين أبو حفص عمر بن محمد بن الحاجب منصور الأمين، وأبو بكر بن عبد الخالق بن أبي بكر المؤذن، وأبو بكر محمد بن الحافظ أبي طاهر إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي بقراءة عبد الرحمن بن عمر بن بردان بن سحابة الحراني، وهذا خطه، في شوال سنة أربع عشرة وستمائة للهجرة بجامع دمشق ولله الحمد والمنة، وصلواته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قرأه عليّ سالم بن أبي الضوين البعلبكي وعبد الرحمن بن يوسف بن محمد البعلبكيون في رجب سنة أربع وعشرين وستمائة، وكتبه عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد المقدسي فسمعه محمود بن أبي الحسن مفرح وعبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي سعد.
قرأه أبو الحسن بن عبد الكريم بن محمود القاسم بن سهل وعبد الرحمن بن يوسف بن محمد ويوسف بن نصر بن سالم وكتبه عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد في رجب سنة أربع وعشرين وستمائة ببعلبك وصلى الله عليه وآله وسلم
هـ – وجاء على غلاف الكتاب ما يلي:
أخبرنا به جماعة وسمعوها إجازة عن ابن المحب (…..) خطه فوق، وكتب يوسف بن عبد الهادي.
وأخبرنا به عدة ( ... ) عن أحمد بن أبي طالب وعدة، عن عائشة بنت عبد الهادي عنه، وكتب يوسف بن عبد الهادي.(45/302)
سمع بعضه من لفظي ولدي أبو (.....) عبد الله، وأخوه بدر الدين حسين، وابن بلبل بنت عبد الله ولدي علي. وصح ذلك يوم الأربعاء حادي عشر من شهر جمادى الآخر سنة سبع وتسعين وثمانمائة (....) (1) وكتب يوسف بن عبد الهادي.
ثانياً: وصف المخطوطة:
اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسخة فريدة محفوظة بالمكتبة الظاهرية في دمشق تحت رقم (4546) ، وتقع في خمس عشرة صفحة معدل كل صفحة سبع عشرة سطراً، وبها بعض الكلمات المطموسة، وخطها واضح ومقروء في غالب أحوالها.
الناسخ وتاريخ النسخ:
جاء في آخر النسخة ما نصه: فرغ من نسخه لنفسه عبد الرحمن بن إبراهيم أحمد المقدسي في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وخمسمائة (563هـ) والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً وعلى آله الطاهرين.
القسم الثاني
كتاب الاعتقاد
كتاب الاعتقاد
رب يسر، أخبرنا الشيخ الأجل أبو سعيد عبد الجبار بن يحيى بن علي بن هلال الأعرابي قراءة عليه وأنا أسمع، وذلك في يوم الجمعة ثالث عشر من شوال سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة للهجرة (573هـ) قثنا القاضي الأجل أبو الحسين محمد بن محمد بن الفرّاء قال:
خطبة المؤلف:
الحمد لله حتى يرضى، ولا إله إلاّ الله العلي الأعلى، والحمد لله أهل الحمد ومولاه ومنتهى الحمد ومبتداه، والحمد لله الذي أخرجنا بعد العدم إلى الوجود في خير الأمم، واختار لنا دليلاً إليه من خلقه أكرمهم عليه، ومن رسله أشرفهم لديه، وجعله أول السابقين منزلة، وأحسن النبيين رسالة، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، صلاة تخصهم وتعمهم أجمعين.
(سبب تأليف الكتاب) :
__________
(1) لمات غير واضحة في المخطوط.(45/303)
أما بعد، أعاذنا الله وإياك من التكلف لما لا نحسن، والادعاء لما لا نتقن، وجنبنا وإياك البدع والكذب، فإنهما شرّ ما احتقب، وأخبث ما اكتسب، فإنك سألت عن مذهبي وعقدي، وما أدين به لربي عز وجل، لتتبعه فتفوز به من البدع والأهواء المضلة، وتستوجب من الله عز وجل المنازل العلية، فأجبتك إلى ما سألت عنه، مؤملاً من الله جزيل الثواب، وراهباً إليه من سوء العذاب، ومعتمداً عليه في القول بالتأييد للصواب.
الإيمان بالله وتوحيده:
فأول ما نبدأ بذكره من ذلك ذكر ما افترض الله تعالى على عباده، وبعث به رسوله صلى الله عليه، وأنزل فيه كتابه، وهو الإيمان بالله عز وجل، ومعناه التصديق بما قال به، وأمر به، وافترضه، ونهى عنه من كل ما جاءت به الرسل من عنده، ونزلت فيه الكتب، وبذلك أرسل المرسلين، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مَن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
حقيقة الإيمان:
والتصديق بذلك: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، يزيده كثرة العمل والقول بالإحسان، وينقصه العصيان، ويستثنى في الإيمان، ولا يكون الاستثناء شكاً إنما هي سنة ماضية عند العلماء. فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله أو مؤمن (أرجو) ، ويقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
الإسلام والإيمان:
والإيمان والإسلام اسمان لمعنيين، فالإسلام في الشرع عبارة عن الشهادتين مع التصديق بالقلب؛ والإيمان عبارة عن جميع الطاعات.
القرآن كلام الله غير مخلوق:(45/304)
والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق، كيف قرئ، وكيف كتب، وحيث يُتلى في أي موضع كان، والكتابة هي المكتوب، والقراءة هي المقروء، والتلاوة هي المتلو، وكلام الله قديم غير مخلوق على كل الحالات وفي كل الجهات فهو كلام الله غير مخلوق ولا محدث ولا مفعول، ولا جسم، ولا جوهر، ولا عرض. بل هو صفة من صفات ذاته. وهو شيء يخالف جميع الحوادث.
صفة الكلام:
لم يزل ولا يزال متكلماً. (ولا يجوز مفارقته بالعدم لذاته) .وأنه يُسْمَع تارة من الله عز وجل، وتارة من التالي فالذي يسمعه من الله سبحانه من يتولى خطابه بنفسه لا واسطة ولا ترجمان: كنبينا محمد عليه السلام ليلة المعراج لما كلمه. وموسى على جبل الطور. فكذلك سبيل من يتولى خطابه بنفسه من ملائكته، ومن عدا ذلك فإنما يسمع كلام الله القديم على الحقيقة من التالي. وهو حرف مفهوم، وصوت مسموع.
الصفات الثابتة لله تعالى:
ثم الإيمان بأنَّ الله جل ذكره واحد لا يشبهه شيء. ولا نشبه صفاته، ولا نكيفه، ولا يُكيف صفاته وهم، وأن ما وقع في الوهم فالله وراء ذلك.
وأنه حي بحياة. عالم بعلم. قادر بقدرة. سميع بسمع. بصير ببصر. متكلم بكلام. مريد بإرادة. آمر بأمر. ناهي بنهي. ونقرّ بأنه خلق آدم بيده لقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] . وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] . وأن له يميناً بقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 6] وإن له وجها بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن: 27] وأن له قدماً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يضع الرب فيها قدمه" يعني: جهنم. رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو عيسى الترمذي وغيرهم.(45/305)
وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا بقول رسول الله صلى الله عليه: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر" وهذا لفظ البخاري. وقد روى حديث النزول أحمد ومالك والبخاري ومسلم وأبو عيسى الترمذي وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني وأئمة المسلمين. وأنه يضحك إلى عبده المؤمن بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل. ثم يتوب الله على القاتل، فيقاتل في سبيل الله، فيستشهد" (1) البخاري وغيره ونقر بأن لله نفساً لا كالنفوس بقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] . وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] . وروى البخاري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي (بي) ، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " (2) بأن الله على العرش استوى كذلك نطق به القرآن في سبع سور: في الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، وتنزيل السجدة، والحديد.
ونقر "بأن الرحمن خلق آدم على صورته " رواه أحمد بن حنبل وابن خزيمة وغيرهما.
وروي: "على صورة الرحمن ".
__________
(1) : مسند أبى هريرة (16/211) ح (10313) والبخاري: كتاب التهجد: باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (1/356) ح (1145) ، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل (1/521) ح (758) ، والترمذي: كتاب الدعوات:باب 79 (5/492) ح (498) وأبو داود: كتاب الصلاة: باب أي الليل أفضل (2/76) ح (1315) . وأخرجه مالك في الموطأ (1/214) وابن خزيمة في التوحيد (127) ، والدارقطني في النزول (ص 102) .
(2) اري: كتاب الجهاد والسير: باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل (2/33) ح (2826) ، ومسلم: كتاب الإمارة: باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة (3/1504) ح (1890) .(45/306)
رواه الدارقطني وأبو بكر النجاد وأبو عبد الله بن بطة وغيرهم.
ونقرّ بأن لله إصبعاً روى عبد الله قال "جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إذا كان يوم القيامة جعل الله السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن. ثم يقول: أنا الملك. أنا الملك "قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه تعجباً مما قال، وتصديقاً له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] (1) هبة الله الطبري والبخاري ومسلم وأبو عيسى الترمذي، ولفظه: أخبرني المبارك بن عبد الجبار الصيرفي في حلقة والدي رحمه الله بجامع المنصور بإسناده عن عبد الله قال: "جاء يهودي إلى النبي صلى الله وسلم فقال: يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك. قال فضحك رسول الله صلى الله عليه حتى بدت نواجذه وقال {وَمَا قَدَرُوا الله حَق قَدْرِهِ} . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وفي لفظ آخر قال: "فضحك النبي صلى الله عليه تعجبا وتصديقاً ".
وروى البخاري في صحيحه بإسناده في تفسير سورة (ن) عن أبي سعيد قال سمعت النبي صلى الله عليه يقول: "يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً ".
__________
(1) لله بن مسعود: الإمام الحبر، فقيه الأمة، أبو عبد الرحمن الهذلي المكي المهاجري، البدري حليف بني زهرة، كان من السابقين الأولين. مات بالمدينة ودفن بالبقيع سنة 32هـ عاش ثلاثاً وستين سنة. انظر السير (1/461-500) .(45/307)
وروى البخاري بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه: "الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ". وروى البخاري بإسناده عن عبد الله قال: "ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه فقال: "إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور. وأشار بيده إلى عينه. وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية ".
تشبيه الله بخلقه كفر:
فإن اعتقد معتقد في هذه الصفات ونظائرها مما وردت به الآثار الصحيحة التشبيه في الجسم والنوع والشكل والطول- فهو كافر.
تعطيل الصفات مذهب الجهمية:
وإن تأولها على مقتضى اللغة وعلى المجاز فهو جهمي.
منهج أهل السنة في الأسماء والصفات:
وإن أمرها كما جاءت، من غير تأويل، ولا تفسير، ولا تجسيم، ولا تشبيه، كما فعلت الصحابة والتابعون فهو الواجب عليه.
(الإيمان بالقدر) :
ويجب الإيمان بالقدر: خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره من الله، قضى قضاءه على عباده، وقدر قدره – عليهم لا أحد يعدو منهم مشيئة الله عزّ وجل - ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل من ربنا عز وجل فأراد الطاعة، وشاءها، ورضيها، وأحبها، وأمر بها. ولم يأمر بالمعصية، ولا أحبها ولا رضيها، بل قضى بها، وقدّرها، وشاءها، وأرادها. والمقتول يموت بأجله.
الإيمان بعذاب القبر:(45/308)
ثم الإيمان بعذاب القبر، وبمنكر ونكير، قال الله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه: 124] قال أصحاب التفسير: عذاب القبر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كيف بك وملكا القبر فتانان أسودان أزرقان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف يطئان في أشعارهما ويحفران بأنيابهما بيدهما مرزبة لو ضرب بها (الثقلين) لماتوا "قال عمر رضي الله عنه على أي حالة أنا يومئذ قال: "على حالتك اليوم" قال: إذن أكفيكهما يا رسول الله. وروى البخاري بإسناده عن [أم خالد قالت] : "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عذاب القبر" وقال النبي صلى الله عليه:"لو نجا أحد من ضمة القبر (أو ضغطة القبر) لنجا سعد بن معاذ". ثم من بعد ذلك الإيمان بالصيحة للنشور، بصوت إسرافيل للقيام من القبور، فتلزم القلب أنك ميت ومضغوط في القبر، ومساءل في قبرك ومبعوث من بعد الموت فريضة لازمة. من أنكر ذلك فهو كافر.
الإيمان بالبعث والصراط:
ثم الإيمان بالبعث والصراط. وشعار المؤمنين يومئذٍ: سلّم سلّم. والصراط جاء في الحديث "أنه أحدّ من السيف وأدق من الشعر".
الإيمان بالميزان:
ثم الإيمان بالموازين، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:43] .
وقال عبد الله بن مسعود: "يؤتى بالناس إلى الميزان فيتجادلون عنده أشد الجدال" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه".
الحوض:
ثم الإيمان بالحوض والشفاعة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لي حوضاً ما بين أيلة وعدن – يريد أن قدره ما بين أيلة وعدن – أباريقه عدد نجوم السماء " وقال أنس بن مالك "من كذّب بالحوض لم يشرب منه".
الحساب:
ثم الإيمان بالمساءلة. إن الله تعالى (جَلَّ) ذِكْرُه يَسْأل العباد عن كل قليل وكثير في المواقف وعن كل ما اجترموا.
الجنة والنار:(45/309)
ثم الإيمان بأن الله خلق الجنة والنار قبل إن يخلق الخلق. ونعيم الجنة لا يزول أبداً والحور العين لا يمتن. وعذاب النار فدائم بدوامها، وأهلها فيها مخلدون خالدون، من خرج من الدنيا غير معتقد للتوحيد (ولا متمسك بالسنة) .
(الشفاعة) :
فأما المسيئون الموحدون فإنهم يخرجون منها بالشفاعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وأطفال المشركين في النار.
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
ثم الإيمان بأن محمداً نبينا صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين ورسول رب العالمين، بعثه إلينا، وإلى الخلق أجمعين، وهو سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، فآدم ومن دونه تحت لوائه الشاهد لكل نبي، والشاهد على كل أمة، أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء بالإيمان، والبشارة به، ووصفهِ، وتبيانهِ في كتبهم مع ما اختصه الله به من قبل النبوة وبعدها من الآيات المعجزات الباهرات.
(خصائص القرآن) :(45/310)
من ذلك كتابه المهيمن على كل كتاب، والمخبر عنها، والشاهد لها، والمصدق بها، لا يشبه الشعر، ولا الرسائل، البائن على كل كلام، بزغ الأسماع والأفهام، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي عجزت الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، كتاب جمع فيه النظم، والإعجاز، والبسط والإيجاز، والفصاحة، والبلاغة، والتحذير، والزجر، والأمر، بكل طاعة، وتكرمة وأدب، والنهي عن كل منكر، وسرف ومعصية، وفعل قبيح مذموم، والتعبد بكل فعل شريف مذكور من طهارة، وصلاة، وصيام،وزكاة، وحج وجهاد وصلة الأرحام، والبذل والعطاء، والصدق والوفاء، والخوف والرجاء، وما يكثر تعداده مما لا يحصى، مع محاجته صلى الله عليه وسلم لقومه حين قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] فأجابهم: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس:15] من ربي.
ثم قال لهم: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس:16] يعني أربعين سنة - إني يتيم فقير، لا أكتب، ولا أختلف إلى معلم، ولا ساحر، ولا كاهن، ولا شاعر، أفلا تدبرون ذلك، وتعلمون أن هذه الآية لا يقدر عليها إلا الله.(45/311)
قال: فإن لم تفعلوا فيما مضى، ولن يفعلوا، فيما يستقبلون. فجعل هذه الآية في القرآن في حياته، وبعد وفاته، لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، أو سورة منه على نظمه وتأليفه وصدقه، وصحة معانيه وكبر فوائده وعلومه، ومع عجز الخليقة عن إدارك فهمه وبلوغ نهاية علمه وإخباره صلى الله عليه وسلم في زمن زبر الأولين والآخرين. بقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} [الروم: 1-4] ، وبقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] . فأخبر بذلك قبل كونه.
وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] .
الإسراء والمعراج:
وله صلى الله عليه الآية العظمى التي ظهرت له في الأرض والسماء، التي لم يشركه فيها بشر، ولم يبلغ الذي بلغه أحد من النُذُر، التي إذا تدبرها ذو فهم وعقل وبصيرة علم أن الله قد جمع له فيها شرف المنازل والرتب، ما فضله بها على الأولين والآخرين، وهو أنه ركب البراق، وأتى بيت المقدس من ليلته، ثم عرج به إلى السموات، فسلم على الملائكة والأنبياء، وصلى بهم، ودخل الجنة، ورأى النار، وافترض عليه في تلك الليلة الصلوات ورأى ربه، وأدناه، وقربه، وكلمه، وشرّفه، وشاهد الكرامات والدلالات، حتى دنا من ربه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى. وأن الله وضع يده بين كتفيه فوجد بردها بين ثدييه فعلم علم الأولين والآخرين وقال عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] . وهي رؤيا يقظة لا منام. ثم رجع في ليلته بجسده إلى مكة وأخبر في كتابه أنه يعطيه في الآخرة من الفضل والشرف أكثر مما أعطاه في الدنيا بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5](45/312)
وبما له في الآخرة (المقام المحمود) الذي لا يدانيه فيه أحد من الأولين والآخرين. فنقلت من تاريخ ابن أبي خيثمة أبي بكر أحمد في أخبار المكيين بإسناده عن مجاهد في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] قال: "يجلسه على العرش ".
وروى أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة بإسنادهما عن مجاهد في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] .
قال "يقعده على العرش"وكذلك روى عبد الله بن أحمد بإسناده عن مجاهد. وقد روى إسحاق بن راهويه عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] قال يجلسه معه على العرش وقال ابن عمير: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وسئل عن حديث مجاهد: "يُقعد محمداً على العرش ". فقال: قد تلقته العلماء بالقبول، نسلم هذا الخبر كما جاء".
وقال ابن الحارث: "نعم يقعد محمدا على العرش"وقال عبد الله بن أحمد: "وأنا منكر على كل من رد هذا الحديث". وعن ابن عباس في قوله: {مَقَاماً مَحْمُوداً} قال: "يقعده على العرش ". روى هذه الأخبار شيخنا أبو بكر المروزي وصنف في ذلك كتابا كبيراً. ورواه والدي- رحمه الله – عنه فيما أجازه لنا بإسناده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء79) قال: "يجلسه معه على السرير". وبإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال:"وعدني ربي القعود على العرش".
وبإسناده عن ابن عمر، قال لي عمر بن الخطاب رحمة الله عليه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عما يوعده ربه جل اسمه، فقال:"وعدني المقام المحمود وهو: القعود على العرش" (1) وله الحوض الموعود في اليوم الموعود.
__________
(1) خرجه القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات (2/477) رقم (442) .(45/313)
تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم:
وتوعد من رفع صوته على نبيه بذهاب عمله وبطلانه، فقال عز وجل: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] وأدبهم في محاورة نبيه صلى الله عليه وسلم وخطابه، فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور 63] لا تقولوا: يا أحمد،يا محمد، يا أبا القاسم، أي قولوا: يا رسول الله، ويا نبي الله، كما قال عز وجل: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:9] فأمرهم بتعظيمه صلى الله عليه وسلم. كما عظمه وشرفه في خطابه على سائر أنبيائه، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] . وخاطب الأنبياء بأسمائهم: {يَا آدم} {يَا نُوح} ، {يا إبراهيم} ، {يا موسى} ، {يا عيسى} .وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
فأقام أمره ونهيه مقام القرآن ونهيه، وجمع له بين صفتين من صفاته، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . ولم يُقسم لأحد بالرسالة إلا له، فقال: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:1-4] . وقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] .(45/314)
وقال في حق إبراهيم: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87] . فأجابه إلى ذلك. وابتدأ به نبينا صلى الله عليه وسلم من غير سؤال فقال: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] وقال موسى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] . فأجابه الله إلى ذلك فقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] . وقال لنبينا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] وغفر ذنبه مع ستره وغفر ذنب غيره مع ظهوره. فقال:: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ} [طه: 121- 122] وقال في داود: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص:24-25] وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} إلى قوله {ثُمَّ أنابَ} [ص:34] وقال: {وذا النّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغاضِباً} إلى قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 87، 88] وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} [الفتح: 2] ولم يذكر ذلك الذنب. وقال: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2-3] ولم يذكر الوزر.
الاعتقاد في الصحابة:(45/315)
ثم الإيمان بأن خير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظمهم منزلة بعد النبيين والمرسلين وأحقهم بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، ثم بعده على هذا الترتيب أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم على هذا النعت والصفة أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونشهد للعشرة بالجنة وهم أصحاب (.....) النبي وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن جراح ثم الترحم على جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أولهم وآخرهم وذكر محاسنهم. ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين.
(هجر أهل البدع) :
ويجب هجران أهل البدع والضلال كالمشبهة والمجسمة والأشعرية
والمعتزلة والرافضة والمرجئة والقدرية والجهمية والخوارج والسالمية والكراميّة وبقية الفرق المذمومة.
خاتمة المؤلف:
فهذا اعتقادي وما أدين به لربي، وهو الذي مضى عليه والدي رحمه الله، والحمد لله وصلى على محمد وعلى آله أجمعين.
صورة اللوحة الأولى من المخطوطة
صورة اللوحة الأخيرة من المخطوطة
فهرس المراجع
1 ـ إبطال التأويلات في آيات الصفات: للقاضي أبى يعلى، ط دار إيلاف، الكويت.
2 ـ الأسماء والصفات: للبيهقي. ت: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، ط الأولى،1413هـ (1993م) ، وطبعة دار الفكر.
3 ـ أصول الدين: للبغدادي، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
4 ـ بيان تلبيس الجهمية: لابن تيمية، ت: عبد الرحمن اليحيى، رسالة دكتوراه في جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية.
5 ـ البداية والنهاية: لابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت.
6 ـ تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة، ط دار الكتب العلمية.
7 ـ تاريخ الأمم والملوك: لأبى جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت.(45/316)
8 ـ التبصير في أصول الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين: للإمام أبى المظفر الإسفراييني، ط عالم الكتب، بيروت.
9 ـ تفسير الطبري: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، الطبعة الأولى 1412هـ – 1992م، دار الكتب العلمية، بيروت.
10 ـ تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، طبعة دار الفكر، بيروت، لبنان.
11 ـ تقريب التهذيب: لابن حجر، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
12 ـ تيسير الكريم المنان: السعدي ط عالم الكتب.
13 ـ التوحيد: لابن خزيمة، ط دار الرشد وكذا طبعة دار الكتب العلمية.
14 ـ جامع العلوم والحكم: ابن رجب. ط المؤسسة السعدية.
15 ـ الخطط: للمقريزي المسمى المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ط دار صادر، بيروت.
16 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، مطبعة الأنوار المحمدية.
17 ـ ذيل طبقات الحنابلة: لابن رجب. ط دار المعرفة، بيروت.
18 ـ زاد المسير: لابن الجوزي، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
19 ـ سير أعلام النبلاء: للذهبي. مؤسسة الرسالة، ط الأولى، 1417 هـ (1996م) .
20 ـ السنة: لابن أبى عاصم مع ظلال الجنة للألباني. المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1413هـ (1993م) .
21 ـ السنن: لابن ماجة أيى عبد الله محمد بن يزيد القزويني،تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العليمة، بيروت.
22 ـ السنن: لأبي داود مع كتاب معالم السنن للخطابي، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1388هـ- 1969م، تعليق: عزت عبيد الدعاس وعادل السيد.
23 ـ السنن: للترمذي: أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق أحمد شاكر، المكتبة الإسلامية.
24 ـ شذرات الذهب: لابن العماد. ت: محمد الأرناؤوط، دار ابن كثير، ط الأولى، 1406هـ (1986م) وكذا طبعة دار المسيرة بيروت.
25 ـ شرح صحيح مسلم: النووي. المطبعة المصرية، القاهرة.
26 ـ شرح العقيدة الطحاوية. ابن أبى العز. ط دار البيإن، وط المكتب الإسلامي.(45/317)
27 ـ الشريعة: للآجري، ط دار الوطن.
28 ـ صحيح البخاري: ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية ط الأولى، 1400 هـ.
29 ـ صحيح مسلم: ترقيم: محمد فؤاد الباقي، دار الكتب العليمة، ط 143هـ (1992م) وكذا طبعة دار إحياء التراث.
30 ـ العبر: للذهبي، ط بيروت.
31 ـ الفرق بين الفرق: للبغدادي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد: ط محمد علي صبيح وأولاده، مصر.
32 ـ الفصل في الملل والنحل: لأبى محمد بن حزم، ط دار المعرفة، بيروت.
33 ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام: لابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط مؤسسة الرسالة، بيروت.
34 ـ مسند الأمام أحمد: ترقيم: محمد عبد الإسلام عبد الشافي، دار الكتب العليمة، بيروت، الطبعة الأولى، 1413 هـ – 1993م.
35 ـ مسند الإمام أحمد: لأحمد بن محمد بن حنبل، ت: أحمد شاكر وترقيمه، دار المعارف بمصر، 1392 هـ – 1972م.
36 ـ المعجم الكبير: لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، مطبعة الزهراء الحديثة.
37 ـ المعجم الفلسفي: مجمع اللغة العربية، مصر، المطابع الأميرية.
38 ـ مقالات الإسلاميين: للأشعري، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط مكتبة النهضة العربية.
39 ـ الملل والنحل: للشهر ستاني، تعليق: محمد سيد كيلاني، ط دار المعرفة، بيروت وطبعة دار المعرفة، بيروت.
40 ـ الموسوعة العربية الميسرة: ط بيروت.(45/318)
تابع لكتاب السير من التهذيب للإمام البغوي
فصل
قال الله تعالى: {يَا أيُهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الَّرسُولَ وَأُوِلى الأَمرِ مِنكُمْ} (1) الآية.
وقال ابن عباس: "نزلت في عبد الله بن حذافة إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. وروي عن سليمان بن بريدة عن أبيه. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرّ أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً.
يكره الغزو بغير إذن الإمام أو الأمير من قبله، لأن الإمام والأمير أعرف بأمر الغزو ومصالحه من غيره.
فلو غزا قوم دون إذنه جاز، لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس وذلك جائز في الجهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمرو ابن أمية الضمري ورجلاً من الأنصار سرية وحدها. وبعث عبد الله ابن أنيس سرية وحده.
وإذا بعث الإمام سرية يؤمر عليهم أميراً ويأمرهم بطاعته ويوصيه في حقهم روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص (2) الأمير فقد عصاني " (3) .
وعلى الإمام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يلوُنَكُم مِنَ الكُفَارِ} (4) .
ولأنهم أهدى إلى عورات المسلمين، والمؤنة في قتالهم أخف فإن كان الخوف من الأبعد أكثر بدأ بقتالهم ويوادع من يليه حتى يأمن شرهم في الغيبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم وادع يهود المدينة وغزا قريشاً.
__________
(1) سورة النساء آية (59) .
(2) في أ: (ومن يعصى) .
(3) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب يقاتل من وراء الإمام ويتقي به 4/60، صحيح مسلم: كتاب الامارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية 3/1466.
(4) سورة التوبة آية (123) .(45/319)
ولا يجوز استئجار المسلم على الغزو لأنه إذا حضر الوقعة يفترض عليه الجهاد، ولا يجوز أخذ الأجرة على أداء الفرض.
كما لا يجوز استئجار الصرورة على الحج لأن الحج فرض عليه. وإذا أخذ الأجرة عليه رده.
أما إذا جهز غازياً بأن أعطاه مركوبه وسلاحه أو الإمام دفع من بيت المال فحسن.
روي عن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا " (1) . وما يأخذه المرتزقة من مال الفيء فهو حقهم ليس بأجرة: ويجوز للإمام استئجار الذمي للجهاد.
ولا يجوز ذلك لغير الإمام بغير إذنه، وتكون أجرته من خُمس الخمس سهم المصالح.
وهل يجوز استئجار العبد المسلم على الغزو للإمام أو لغيره فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه لا يفترض عليه بحضور الوقعة.
والثاني: لا يجوز لأنه قد يفترض عليه في الجملة عند استيلاء الكفار على بلاد الإسلام.
ولو أكره الإمام جماعة من المسلمين على الغزو، فإن تعين عليهم لجهاد فلا أجرة لهم، وإن لم يتعين عليهم فعلى الإمام أجرتهم من حين أخرجهم إلى حضور الوقعة، ولا يجب لما بعده أجرة (2) .
ولو أكره جماعة من أهل الذمة عليه أجرتهم من حين أخرجهم إلى حضور الوقعة إلى يوم خلاهم ولا تجب أجرة الرجوع.
ولو أكره جماعة من العبيد عليه أجرتهم من يوم أخرجهم إلى أن يعودوا إلى الموالي؛ لأن منفعة العبد تضمن باليد.
ويجوز للإمام أن يأذن للمشرك في الغزو إذا رآه حسن الرأي في المسلمين وأن يستعين بهم على قتال المشركين إذا كان بالمسلمين قوة إذا انضم بعضهم إلى بعض قاومهم المسلمون.
__________
(1) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير 4/32، صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير 3/1507.
(2) حكى هذا القول النووي عن البغوي. انظر: روضة الطالبين 10/241.(45/320)
فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بيهود بني قينقاع بعد بدر (1) ، وشهد معه صفوان حرب حنين وهو مشرك.
فإن لم يعرف منه حسن الرأي لا يستعين به.
روت عائشة - رضى الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين قال: "تؤمن بالله ورسوله" قال: لا، قال: " فارجع فلن أستعين بمشرك" (2) .
ويمنع الإمام من الخروج من كان من أهل النفاق ومن يخذل الجيش ويرجف بهم ويكاتب الكفار ويتجسس لهم.
قال الله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (3) إلى أن قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّازَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلكُمْ يبغُونَكُمُ الْفِتَنَة} (4) . ويجوز أن يأذن للنساء في الخروج.
روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه فيسقين الماء ويداوين الجرحى.
وقالت أم عطية غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى.
ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لأن فيهم معونة. ولا يأذن لمجنون؛ لأنه يعرضه للهلاك من غير منفعة، ويتعاهد الخيل عند الخروج حتى لا يخرج إلا فرساً قوياً صالحاً للقتال.
ويأخذ البيعة على الجيش أن لا يفروا.
__________
(1) قال ابن حجر: "رواه أبو داود في المراسيل، والترمذي عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه وأسهم لهم، والزهري مراسيله ضعيفة، ورواه الشافعي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس". قال البيهقي: "لم أجده إلا من طريق الحسن ابن عماره وهو ضعيف". انظر: المراسيل 157، السنن الكبرى: كتاب السير - باب ماجاء في الاستعانة بالمشركين 9/37، تلخيص الحبير 4/100.
(2) انظر: صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر 3/1449.
(3) سورة التوبة آية 43.
(4) سورة التوبة آية 47.(45/321)
لما روي عن جابر قال: "كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه تحت الشجرة على أن لا نفر".
وينبغي أن يبعث الطلائع ومن يتجسس (1) أخبار الكفار.
لما روي عن جابر قال: قال رسول الله يوم الخندق من يأتيني بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، فقال: إن لكل نبي حواريّ (2) ، وحواريّي الزبير (3) .
ويستحب أن يخرج يوم الخميس.
لما روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك وقال: "قلّما كان رسول الله يخرج في سفر إلا يوم الخميس. وقال وقلّما يقدم من سفر إلا ضحى وكان يبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين.
وروي عن صخر الغامدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار.
ويستحب أن يعقد الرايات، ويجعل تحت كل راية طائفة، ويجعل لكل قوم شعاراً حتى لايقتل بعضهم بعضاً في البيات.
__________
(1) التجسس بالجيم: طلب الأخبار والبحث عنها، وكذلك تحسس الخبر بالحاء وفرق قوم بينهما. انظر: النظم المستعذب 2/231.
(2) حواري: قيل: معناه أنه مخصص من أصحابي، ومفضل من الخبز الحواري وهو أفضل الخبز وأرفعه، وحواريو عيسى هم المفضلون عنده وخاصته. انظر النظم المستعذب 2/231.
(3) رواه البخاري ومسلم. انظر: صحيح البخاري: فضائل أصحاب النبي باب مناقب الزبير 5/27، صحيح مسلم: كتاب فضائل طلحة والزبير 4/1879.(45/322)
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بيتكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون" (1) (2) .
وعن سمرة بن جندب قال: كان شعار المهاجرين عبد الله وشعار الأنصار عبد الرحمن.
__________
(1) قال الخطابي: "بلغني عن ابن كيسان النحوي أنه سال أبا العباس أحمد بن يحيي عنه فقال: معناه الخبر، ولو كان بمعنى الدعاء لكان مجزوماً أي لا ينصروا، وإنما هو إخبار كأنه قال: والله لا ينصرون. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: حم اسم من أسماء الله جل جلاله، فكأنه حلف بالله أنهم لا ينصرون". وقال ابن الأثير قيل معناه: "اللهم لا ينصرون، ويريد به الخبر لا الدعاء لأنه لو كان دعاء لقال لا ينصروا مجزوماً فكأنه قال: والله لا ينصرون. وقيل: إن السور التي أولها حم سور لها شأن، فنبه أن ذكرها لشرف منزلتها مما يستظهر به على استنزال النصر من الله، وقوله لا ينصرون: كلام مستأنف، كأنه حين قال: قولوا حم قيل: ماذا يكون إذا قلنا؟ قال: لا ينصرون". انظر: معالم السنن 2/258، النهاية 1/446.
(2) رواه الحاكم عن البراء، ورواه - أيضاً - من حديث المهلب بن أبي صفرة وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين إلا أن فيه إرسالاً، فإنّ الرجل الذي لم يسمه المهلب بن أبي صفرة البراء بن عازب ورواه أحمد وأبو داود". انظر: مسند أحمد 4/65، 5/377، سنن أبي داود: كتاب الجهاد - باب في الرجل ينادي بالشعار 3/33، سنن الترمذي: أبواب الجهاد - باب ما جاء في الشعار 3/115، المستدرك - كتاب الجهاد - دعاء الغازي عند بيتوته 1/107.(45/323)
وقال سلمة بن الأكوع (1) : غزونا مع أبي بكر - رضي الله عنه - زمن النبي صلى الله عليه وسلم (2) فبيتناهم نقتلهم فكان شعارنا تلك الليلة أمت أمت.
ويستحب أن يدخل دار الحرب بتعبية الحرب ليكون أحوط وأبلغ فيإرهاب العدو.
روي عن ابن عباس في قصة الفتح قال: أسلم أبو سفيان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "احبس أبا سفيان على الوادي حتى تمر به جنود الله" فحبسه ومرت القبائل على راياتها حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا ترى منهم إلا الحدق من الحديد.
وعن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيده على البياذقة وبطن الوادي (3) .
وإذا كان العدو ممن لم تبلغهم الدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم إلى الإسلام لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل بلوغ الخبر إليهم. قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِبِين حَتَّى نَبْعثَ رَسُولاً} (4) .
__________
(1) سلمة بن عمرو بن الأكوع أبو عامر، واسم الأكوع سنان بن عبد الله، وهو من أهل بيعة الرضوان، كان من أشد الناس بأساً، وأشجعهم قلباً، وأقواهم راجلاً. أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات قرد سهم الراجل والفارس معاً، توفي سنة 74 هـ. انظر: البداية والنهاية 9/6، جمهرة أنساب العرب 240، سير أعلام النبلاء 3/326، مشاهير علماء الأمصار 20، المعرفة والتاريخ 1/336، الوافي بالوفيات 15/321.
(2) زمن النبي صلى الله عليه وسلم) ساقطة من د.
(3) انظر: صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب فتح مكة 3/1407.
(4) سورة الإسراء آية (15) .(45/324)
وإن بلغتهم الدعوة فالمستحب أن يعرض عليهم الإسلام. لما روي عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لعلي: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم" (1) (2) .
ولو قاتلهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام جاز لأنهم علموه.
روي عن نافع قال: أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون (3) .
ثم إن كان من الكفار الذين لا يجوز إقرارهم بالجزية قاتلهم حتى يسلموا لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (4) .
وإن كانوا ممن يجوز إقرارهم بالجزية قاتلهم حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالَيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {حَتّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يدِِ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (5) .
__________
(1) حمر النعم: أي كرائمها وهو مثل في كل نفيس. انظر – ح م ر- المصباح المنير 151.
(2) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة 4/58، صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل على 4/1872.
(3) رواه مسلم وأبو داود. انظر: صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير- باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة 3/356، سنن أبي داود- كتاب الجهاد -باب في دعاء المشركين 3/42.
(4) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم 1/12، صحيح مسلم: كتاب الايمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1/53.
(5) سورة التوبة آية (29) .(45/325)
وروي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية قال: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" (1) ، ويستحب أن يستنصر بالضعفاء.
لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" (2) .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين ويستحب أن يدعو عند لقاء العدو.
__________
(1) رواه مسلم، والدارمي وأبو داود، وابن ماجه والبيهقي، وابن الجارود. انظر: صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير - باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث وتوصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها 3/1357، سنن الدارمي - كتاب السير- باب في الدعوة إلى الإسلام قبل القتال 2/216، سنن أبي داود: كتاب الجهاد - باب في دعاء المشركين 2/37،سنن ابن ماجة: كتاب الجهاد - باب وصية الإمام 2/953، السنن الكبرى، كتاب الجزية - باب من يؤخذ منه الجزية من أهل الكتاب9/184، المنتقى 347.
(2) انظر: صحيح البخاري: كتاب السير والجهاد - باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب 4/44.(45/326)
لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب على المشركين فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" (1) وفي رواية: "وانصرنا عليهم" (2) .
وروي عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم" (3) والله أعلم.
__________
(1) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب الدعاء على المشركين 4/152، صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير-باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو 3/1363.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود. انظر: صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب كاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس 3/62، صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير - باب كراهة تمني لقاء العدو 3/1363، سنن أبي داود - كتاب الجهاد، باب كراهة تمني لقاء العدو 3/42.
(3) رواه احمد، وأبو داود، والحديث صحيح حيث ذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود. انظر: مسند أحمد 4/414، سنن أبي داود: كتاب الصلاة -باب مايقول إذا خاف قوما 2/89’صحيح سنن أبي داود 1/421.(45/327)
تابع لكتاب السير من التهذيب للإمام البغوي
باب جامع السير
قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ اَلمؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِانّ لَهُمُ الَجّنةَ} (1) الآية.
وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك" (2) .
قال الله تعالى: {وَفَضَّلَ اللهُ المجُاهِدينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْراً عَظِيماً} (3) .
وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" (4) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" (5) .
وينبغي أن تكون نيته في الجهاد إعلاء كلمة الله وإظهار دينه.
__________
(1) سورة التوبة آية (111) .
(2) رواه البخاري، ومسلم، ومالك، والنسائي. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير- باب من يخرج في سبيل الله 422، صحيح مسلم: كتاب الإمارة - باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله 31496، الموطأ: كتاب الجهاد - باب الشهداء في سبيل الله 2461، سنن النسائي كتاب الجهاد - باب من كلم في سبيل الله 628.
(3) سورة النساء آية (95) .
(4) انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير- باب درجات المجاهدين 419.
(5) رواه مسلم، وأحمد. انظر: صحيح مسلم: كتاب الإمارة - باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى 31498، مسند أحمد 2424.(45/328)
روي عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (1) ويجب أن يصبر على القتال.
لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاَثْبِتُوا واذْكُرُوا اللَهَ كَثِيرًا لَعَلّكُم تُفْلِحُونَ} (2) (3) إلى قوله: {واصْبِروا إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِريِنَ} (4) .
والصبر سبب للنصر، والظفر والأجر، قال الله تعالى: {فَإِنَ يَكُنْ مِنْكُم مِائَةُُ صَابِرةُُ يَغْلبُوا مِائَتَين} (5) .
وروي عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس قال: "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " (6) .
ويجب أن يقاتل المشركين حتى يسلموا ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية فإن لم يفعلوا حل قتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم، وتغنم أموالهم.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم، والنسائي. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير- باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 424، صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله 31512، سنن النسائي: كتاب الجهاد - من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 623.
(2) لعلكم تفلحون) ساقطة من أ.
(3) سورة الأنفال آية (45) .
(4) سورة الأنفال آية (46) .
(5) سورة الأنقال آية (66) .
(6) رواه البخاري ومسلم. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس 462، وباب لا تمنوا لقاء العدو 477، صحيح مسلم: - كتاب الجهاد والسير - باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء 31362.(45/329)
ولا يجوز قتل نسائهم وصبيانهم إذا لم يقاتلوا.
لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان.
فمن وقع في الأسر من نسائهم وصبيانهم صار رقيقاً وكان حكمه حكم سائر أموال الغنيمة خمسه لأهل الخمس وأربعة أخماسه للغانمين، وكذلك حكم عبيدهم إذا وقعوا في الأسر.
أما الرجال الأحرار العاقلون البالغون إذا وقعوا في الأسر فالإمام فيهم بالخيار بين أن يقتلهم صبراً، وبين أن يمن عليهم فيخلي سبيلهم وبين أن يفاديهم ويكون مال الفدية في الغنيمة وبين أن يسترقهم فيقسمهم كسائر أموال الغنيمة ويختار منها ما هو أنفع للمسلمين.
وهل يحل قتل شيوخهم الذين لا قتال منهم نظر إن كان شيخاً له رأي في الحرب جاز قتله.
قتل دريد بن الصمة يوم حنين وهو ابن خمس ومائة سنة وكان شيخاً لا يستطيع الجلوس فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر قتله وإن لم يكن له رأي هل يجوز قتله؟ فيه قولان.
وكذلك العسفاء الذين لا يقاتلون والرهبان وأصحاب الصوامع والعميان والزمنى الذين لا يرجى زوال زمانتهم هل يجوز قتلهم؟ فيه قولان:
أحدهما: وهو اختيار المزني رحمه الله: لا يتركون ويقتلون؛ لأنه كافر حر مكلف كالشبان.
والثاني: وبه قال أبو حنيفة رحمه الله: "لا يقتلون لأنهم لا يقاتلون كالنساء والصبيان".
روي أن أبا بكر بعث جيشاً إلى الشام فنهاهم عن قتل الشيوخ وأصحاب الصوامع.
ومن قال بالأول أجاب بأنه إنما نهي عن قتلهم؛ ليشتغلوا بالأهم وهم المقاتلة. كما أنه نهى عن قطع الأشجار المثمرة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير (1) .
ولكن نهي عنه؛ ليشتغلوا بالأهم ولأنه كان يرجو إبقاء نفعها للمسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان وعدهم فتح الشام.
__________
(1) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب حرق الدور والنخيل 476، صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير - باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها 31365.(45/330)
فإن قلنا: يقتلون جاز استرقاقهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأموالهم وإن قلنا لا يقتلون لا يجوز استرقاقهم وسبي نسائهم وأولادهم واغتنام أموالهم.
وقيل: في سبي زوجاتهم وجهان كسبي زوجة المسلم إذا كانت حربية.
وإذا ترهبت المرأة هل يجوز استرقاقها؟ فيه قولان بناء على قتل الرجل الراهب. ويتوقى في القتال قتل قريبه الكافر.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كف أبا حذيفة بن عتبة يوم بدر عن قتل أبيه (1) وكف أبا بكر يوم أحد عن قتل ابنه عبد الرحمن (2) .
فلو سمع أباه أو قريبه يذكر الله أو رسوله بسوء لم يكره أن يقتله (3) .
فإن أبا عبيده بن الجراح قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (4) كان يسبك فلم ينكر عليه.
فصل
قال الله تعالى: {يَا أيُهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيْتُمُ الّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُولّوهم الأَدْبَارَ} (5) الآية.
__________
(1) رواه الحاكم. انظر: المستدرك: كتاب معرفة الصحابة – ذكر مناقب أبي حذيفة 323.
انظر: الأعلام 4200.
(2) عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق شقيق عائشة، حضر بدراً مع المشركين ثم أسلم وهاجر قبل الفتح، كان من الرماة المذكورين والشجعان توفي سنة 53هـ. انظر: تهذيب التهذيب 6146، سير أعلام النبلاء 2471، شذرات الذهب 159، طبقات خليفة 18، المعارف 174، المعرفة والتاريخ 1285، العبر 141.
(3) في د، أ: (لم يكره وله أن يقتله) .
(4) صلى الله عليه وسلم) ساقطة من د، ظ.
(5) سورة الأنفال آية (15) .(45/331)
إذا التقى الصفان وكان بمقابلة كل مسلم مشركان فأقل لا يجوز لأحد من المسلمين أن يولي ظهره فراراً، فمن فعل فقد باء بغضب من الله إلا أن يولي متحرفاً لقتال: وهو أن يكمن في موضع واحد ليكر عليهم، أو كان القتال في مضيق فيولي دبره ليتبعه العدو إلى موضع واسع فيسهل عليه القتال، أو متحيزاً إلى فئة: وهو أن يذهب إلى طائفة من المسلمين قليلة أو كثيرة قريبة أو بعيدة (1) ليستنجده فلا يأثم إذا كان قصده هذا.
وكان في ابتداء الإسلام إذا كان في مقابلة كل مسلم عشرة ما كان يجوز الفرار كما قال الله تعالى: {إِن يَكُن مِنّكُمْ عِشْرُونَ صَابِرونَ يَغِلبُوا مِائَتَيْن} (2) .
ثم خفف الله تعالى فأوجب على كل مسلم مصابرة اثنين (3) .
فقال: {الآنَ خَفّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإن يَكُن مِنْكُم مِائَةٌ صَابِرةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْن} (4) .
وقال ابن عباس: " من فرّ من ثلاثة فلم يفر، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ " (5) .
وإن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا لهم هلكوا وجهان:
أحدهما: لهم أن يولوا ظهورهم لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأيْديكُمْ إِلَى الّتْهلُكةِ} (6) .
والثاني: وهو الصحيح ليس لهم أن يولوا، لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (7) ؛ ولأن المجاهد إنما يجاهد لِيَقْتُلَ وَيُقْتَلَ.
__________
(1) في التحيز إلى طائفة بعيدة فيه وجهان أصحهما الجواز. انظر: روضة الطالبين 10247، مغني المحتاج 4225.
(2) سورة الأنفال آية (65) .
(3) انظر: النكت والعيون 289، زاد المسير 3378.
(4) سورة الأنفال آية (66) .
(5) رواه البيهقى عن ابن عباس بلفظ: "إن فر رجل من اثنين فقد فر وإن فر من ثلاثة لم يفر". انظر: السنن الكبرى: كتاب السير - باب تحريم الفرار من الزحف وصبر الواحد مع الاثنين 976.
(6) سورة البقرة آية (195) .
(7) سورة الأنفال آية (45) .(45/332)
فأما إذا كان بمقابلة كل مسلم أكثر من مشركين فيجوز أن يولي ظهره فراراً (1) .
روي أن خالد بن الوليد ردّ الجيش من حرب مؤتة لكثرة العدو، فقال: الناس هم الفرارون فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل هم الكرارون.
ثم إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا، وإن غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمهم أن ينصرفوا لقوله تعالى: {وَلا تُلّقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلى الَتّهلُكَةِ} (2) .
والثاني: يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة.
وإن كان بمقابلة كل مسلم أقل من مشركين ولكنه مريض أولم يكن له سلاح فله أن يولي ظهره، وكذلك لو مات فرسه، ولا يمكنه أن يقاتل راجلاً له أن يرجع لأنه لا يجوز أن يستسلم للقتل.
ولو لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب فإن طلباه ولم يطلبهما فله أن يولي عنهما، لأنه غير متأهب للقتال وإن طلبهما ولم يطلباه فيه وجهان:
أحدهما: له أن يولي لأن فرض الجهاد في الجماعة.
والثاني لا يجوز أن يولي؛ لأنه مجاهد كما لو كان مع الجماعة، وإن كان الكفار في حصن جاز للإمام نصب المنجنيق عليهم، ويجوز أن يفعل أينما كانوا ما يعممهم بالهلاك من التحريق والتغريق. وإن كان فيهم نساؤهم وذراريهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم شن الغارة على بني المصطلق وأمر بالبيات (3) والتحريق ونصب المنجنيق على أهل الطائف.
__________
(1) انظر: منهاج الطالبين 126.
(2) سورة البقرة آية (195) .
(3) قال ابن حجر: حديث أنه أمر بالبيات، هذا الأمر لا أعرفه وإنما اتفقا في الصحيحين على حديث الصعب بن جثامة.. قال البيهقي هذا ما ورد في إباحة التبييت. انظر: تلخيص الحبير 4104، سيأتي تخريج حديث الصعب بن جثامة ص 70.(45/333)
روي عن الصعب بن جثامة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: " وهم منهم " (1) .
وإن كان فيهم مسلمون مستأمنون أو أسارى فهل يجوز أن يفعل لهم ما يعممهم بالهلاك من التحريق والتغريق ونصب المنجنيق؟ نظر:
إن كان في حالة التحام القتال أو الخوف على المسلمين أن يظفر بهم الكفار يجوز، لأن حفظ المجاهدين أولى من حفظ من بأيديهم وإن لم يكن ذلك، أو كانوا في حصن فهل يجوز أن يفعل بهم ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز حتى لا يؤدي إلى تعطيل الجهاد كما لو كان فيهم نساؤهم وذراريهم.
والثاني: لا يجوز لأنه لا ضرورة إليه بخلاف الذراري والنساء فإنهم منهم.
وإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم. فإن كان في حال التحام القتال جاز الرمي ويتوقى الأطفال والنساء ما أمكنه، لأنا لو تركنا رميهم بمثل ذلك لتعطل أمر الجهاد وإن كان في غير حال الحرب ففيه قولان:
أحدهما: يجوز الرمي حتى لا يتعطل الجهاد ويتوقى الأطفال والنساء.
والثاني: لا يجوز الرمي، لأنه يؤدي إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير ضرورة.
وإن تترسوا بمسلم نظر:
إن لم يكن في حال التحام القتال لا يجوز أن يضربه، فإن ضربه وقتله فهو كما لو قتل رجلاً في دار الحرب إن علمه مسلماً عليه القود، وإن ظنه كافراً فلا قود عليه وتجب الكفارة، وفي الدية قولان. فإن كان في حال التحام القتال والاضطرار إلى الرمي بالخوف على نفسه وهو يعلم أنه مسلم فيرمي الكافر ويتوقى المسلم، فإن توصل إلى إصابة الكافر من غير أن يصيب المسلم فأصاب المسلم وجب عليه القود.
__________
(1) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد - باب أهل الدار يبيتون 474، صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير - باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد 31364.(45/334)
وإن لم يتوصل إلى ضرب الكافر إلا بضرب المسلم لا يجوز ضربه، فإن ضربه قيل في وجوب القود قولان؛ كالمكره، وقيل: يجب قولاً واحداً، لأنه ليس ههنا من نحيل الحكم عليه غيره.
ولو قصد الكافر فأصاب المسلم فهو خطأ فلا قود عليه وعليه الدية والكفارة. وإن لم يعلم أنه مسلم فإن قصده فلا قود، وعليه الكفارة وفي الدية قولان.
وإن قصد الكافر فأصابه فلا دية، وتجب الكفارة، وإن تترسوا بذمي أو مستأمن أو عبد لا يجوز الضرب كما ذكرنا.
فإن ضرب وقتله فكل موضع أوجبنا في المسلم القود أو الدية فيجب في الذمي والمستأمن الدية، وفي العبد القيمة وإلا فالكفارة (1) .
ولو تترس الكافر بترس مسلم أو ركب فرسه فرمى إليه واحد من المسلمين فأتلفه.
فإن كان في غير حال التحام القتال يجب عليه الضمان، وإن كان في حال التحام القتال، فإن أمكنه أن لا يصيب الترس والفرس فأصابه ضمن، وإن لم يمكنه إلا به فإن جعلناه كالمكره لم يضمن؛ لأن المكره في المال يكون طريقاً في الضمان، وههنا لا ضمان على الحربي حتى يجعل
المسلم طريقاً.
وإن جعلناه مختاراً ضمن.
وإن قاتلونا على خيلهم ولم نجد سبيلاً إلى قتلهم إلا بعقرها جاز عقرها؛ لأنها أداة لهم على قتالنا.
لما روي أن حنظلة ابن الراهب عقر بأبي سفيان فرسه فسقط عنه فجلس على صدره ليذبحه فجاء ابن شعوب فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة.
ولو غنم المسلمون أموال المشركين وتولوا فتبعهم الكفار وأدركوهم فخاف المسلمون أن يغلبوا عليهم فيأخذوا الأموال، أو كانت الأموال للمسلمين فخافوا أن يأخذوها نظر:
إن لم يكن المال حيواناً جاز للمسلمين إتلافها وتحريقها حتى لا يتقوى بها الكفار على المسلمين.
__________
(1) أنظر: كتاب السير من الحاوي 924، البيان 8ل10ب، المهذب 2235.(45/335)
وإن كان المال حيواناً لم يكن لهم عقره إلا أن يكون مأكولاً فيذبحوه للأكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله (1) .
وعند أبي حنيفة يجوز عقره.
فإن دعت إليه الضرورة بأن كان المال خيلاً والكفار لا خيل لهم وخافوا أن يأخذها الكفار ويقاتلوهم عليها جاز لهم قتلها، ولو أدركونا وفي أيدينا نساؤهم وصبيانهم، لا يجوز قتلهم وإن خفنا أن يستردوهم.
وإن احتاج المسلمون إلى تخريب ديار الكفار وقطع أشجارهم ليظفروا بهم جاز لهم أن يفعلوا ذلك؛ لما روي عن ابن عمر أن رسول الله قطع نخل بني النضير وحرق.
وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُم مِن لِِيْنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللهِ} وهل لهم أن يفعلوا ذلك لغير حاجة؟ نظر:
إن لم يغلب على ظن المسلمين أنهم يملكوها جاز.
وإن غلب على الظن أنهم يملكوها فالأولى أن لا يفعلوا.
وهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، لأن أبا بكر رضي الله عنه نهى عن ذلك. ولأنها تصير غنيمة للمسلمين فلا يجوز إتلافها.
والثاني: يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
__________
(1) قال ابن حجر: "حديث أن النبي نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكله، لم أجده لكن في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث رجلاً إلى الشام وفيه "ولا تعقرن شاة ولا بقرة إلا لمأكله.."انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2120 الموطأ: كتاب الجهاد - النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو 2448.(45/336)
تابع لكتاب السير من التهذيب للإمام البغوي
فصل
في الأمان
روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ".
يجوز عقد الأمان للكفار وهو قسمان خاص وعام.
فالأمان العام هو أن يعقد الإمام لأهل الشرك بأسرهم في جميع الأقاليم فلا يجوز ذلك إلا للإمام الأعظم إذا رأى المصلحة فيه، ولو بعث الإمام خليفة على إقليم مثل خراسان والشام ونحو ذلك فيجوز له عقد الأمان لمن يليه من الكفار من أهل ذلك الإقليم وأهل تلك الناحية دون جميعهم وكذلك عقد الذمة.
والأمان الخاص هو أن يؤمن شخصاً أو شخصين أو عشرة فيصح ذلك من كل مسلم مكلف رجلاً كان أو امرأة حراً أو عبدا سواء كان العبد مأذوناً في القتال أو لم يكن.
روي عن أم هاني قالت: أجرت رجلين من أحمائي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أمنا من أمنت".
وقال أبو حنيفة: "إن كان العبد مأذوناً في القتال يصح أمانه وإلا فلا.
والحديث حجة عليه حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم" ولا يصح أمان الصبي والمجنون، لأنه لا حكم لقولهما وإن كان الصبي مراهقاً.
ولا يصح أمان الكافر؛ لأنه متهم فيه إذ ليس من أهل النظر للمسلمين.
ولو أمن عبد مسلم وسيده كافر يجوز. ويجوز أمان المحجور عليه بالسلفة.
وإن كان المسلم أسيراً في أيدي الكفار هل يصح أمانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح لأنه مسلم مكلف.
والثاني: وهو الأصح لا يصح أمانه في حق المسلمين.
وبه قال أبو حنيفة، لأنه مقهور في أيديهم فلا يكون أمانه على النظر للمسلمين.
ولأن قضية الأمان أن يكون المؤمن آمناً والأسير في أيدي الكفار لا يكون آمناً.
فعلى هذا هل يكون ذلك أماناً بينه وبينهم حتى لا يجوز له أن يخونهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: بلى كما لو دخل عليهم تاجراً مستأمناً.(45/337)
والثاني: لا، لأنه لم يصر آمناً منهم بالتخلية، فإذا لم يأمن هو منهم لم يكونوا آمنين منه بخلاف التاجر.
وكذلك لو دخل مسلم دار الحرب مستأمناً فأمن واحداً منهم لا يصح أمانه في حق كافة المسلمين ويكون أماناً بينه وبينهم حتى لا يجوز أن يغتالهم لأنه في أمان منهم.
ولو أسر الإمام قوماً فأمن واحد من المسلمين أسيرا منهم لا يصح أمانه لأنه يبطل ما ثبت للإمام منهم من الخيار بين المن والاسترقاق والفداء فإن قال كنت أمّنته قبل الأسر لا يقبل قوله لأنه لا يملك الأمان في هذه الحالة فلا يقبل إقراره.
ويصح الأمان بالقول وهو أن يقول أمّنتك أو أجرتك أو أنت آمن، أو مجار، أو لا بأس أو لا خوف عليك، أو لا تخف.
قال أنس لعمر رضي الله عنهما في قصة هرمزان: "ليس لك إلى قتله سبيل"قلت له: "تكلم لا بأس، فأمسك عمر".
وقال ابن مسعود: "إن الله تعالى يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجمياً فقال: مترس فقد أمنه".
ويجوز بالإشارة، قال عمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته".
ويجوز الأمان بالكتابة والرسالة سواء كان الرسول مسلماً أو كافراً، حراً أو عبداً.
روي عن فضيل بن زيد الرقاشي قال: "جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً كنت منهم فحضرنا قرية من قرى رامهرمز فكتب عبد منا أماناً في صحيفة وشدّها مع سهم ورمى به إلى اليهودية فخرجوا بأمانه إلى عمر فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم".
ولو دخل رجل مشرك إلينا بأمان صبي أو مجنون. فإن عرف بأن أمانه لا يصح حل قتله واسترقاقه. وإن قال ظننته عاقلاً بالغاً، أو علمته صبياً، وظننت أن أمان الصبي جائز يقبل قوله، ولا يحل قتله ولا استرقاقه ويبلغ المأمن. وكذلك لو أشار إليه مسلم بالنزول، فقال المسلم لم أرد به لأمان قبل قوله إذا قال الكافر ظننت أنه أمان يقبل منه ويبلغ المأمن.(45/338)
فإذا أمن مسلم كافراً يشترط علم المؤمن وقبوله. وقبوله أن يقول قبلت أو يسكت إذا بلغه الخبر. وإن كان في حال القتال يترك القتال، وإن رد لا يصح أمانه فإن ثابت بن قيس بن الشماس أمّن الزبير بن باطا يوم قريظة فلم يقبله فقتله.
وإن قبل الأمان فهو من جهة المسلم لا يجوزله نبذه إلا بعذر وهو جائز من جهة الكافر متى شاء نبذه. وإذا جاء واحد من دار الكفر رسولاً إلى الإمام فهو في أمان لا يجوز قتله.
روي عن نعيم بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلين جاءا من عند مسيلمة: "أما والله لولا أن الرسول لا يقتل لضربت أعناقكما".
ولو أمن رجل امرأة كافرة حتى لا تسترق هل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز لأن الاسترقاق في حقهن كالقتل في حق الرجال.
والثاني: لا يجوز لأن فيه إبطال حق المسلمين.
وهذا بناء على ما لو صالح الإمام أهل حصن على مال أو على الجزية وليس فيه إلا النساء والصبيان هل يجوز أم لا فعلى قولين.
فصل
لو أن علجاً كافراً دل الإمام على قلعة على أنه إن فتحها يعطيه جارية سماها فعقد الإمام معه هذا العقد، أو ابتدأ الإمام فقال للعلج إن دللتني على حصن كذا فلك منه جارية سمّى أو لم يسمّ يجوز، وإن كانت الجارية مجهولة غير مقدور عليها؛ لأنه يتسامح في المعاملة مع الكفار بما لا يتسامح مع غيرهم.
وكذلك لو قال للعلج دلني على الحصن ولك ثلث ما فيه جاز. وإنما يجوز هذا العقد إذا كان البدل المشروط له مما يدله عليه.
فإن شرط له من عند نفسه شيئاً لا يجوز مع الجهالة مثل أن يقول أدلك على حصن كذا على أن تعطيني جارية من عندك، أو قال الإمام إن دللتني فلك ثلث مالي لا يجوز.
فإن شرط له شيئاً معلوماً فقال: إن دللتني فلك مائة دينار يجوز ويعطيه من بيت المال. وإن كان الدال مسلماً فقال أدلك على أن تعطيني جارية منها أو ثلث ما فيها هل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز كما لو كان الدال كافراً.(45/339)
والثاني: لا يجوز، لأن هذا عقد فيه أنواع من الغرر، فلا يجوز مثله مع المسلمين،:إنما يجوز مع الكفار كعقد الذمة.
ولأنه يفترض على المسلم الدلالة فلا يجوز له أخذ العوض عليه كما لا يجوز استئجار المسلم على الجهاد.
فإذا عقد هذا العقد مع العلج فإن لم يفتح الحصن لا شيء للعلج؛ لأن تقديره من دلني على الحصن وفتحته فله منه جارية؛ لأنه لا يقدر على تسليمها إلا بالفتح.
فإن فتح الحصن ولم يجد فيه تلك الجارية فلا شيء للعلج، لأن المشروط له معدوم وإن وجدها دفعها إلى العلج ولا حق فيها للغانمين ولا لأهل الخمس لأنه استحقها بسبب قبل الفتح، فإن وجدها وقد أسلمت نظر:
إن أسلمت قبل الظفر لا تسلم إليه لأن إسلامها يمنع استرقاقها ويعطى قيمتها من بيت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاءه منهم فمنعه الله من رد النساء، وأمر برد مهورهن. وإن أسلمت بعد الظفر عليها فهي رقيقة نظر:
إن كان قد أسلم العلج أو كان الدال مسلماً وجوزنا هذا العقد مع المسلم تسلم الجارية إليه.
وإن لم يسلم العلج: إن قلنا يجوز للكافر أن يشتري العبد المسلم تسلم إليه ويجبر على إزالة الملك عنها.
وإن قلنا لا يجوز للكافر شراء العبد المسلم لا يدفع الجارية إليه ويعطى قيمتها من بيت المال.
وإن أسلم العلج بعد ذلك لا يستحق؛ لأنه أسلم بعد ما انتقل حقه إلى القيمة.
وإن ماتت الجارية نظر، إن ماتت بعد الظفر أعطي العلج قيمتها.
وإن ماتت قبل الظفر فيه قولان:
أحدهما: يعطى إليه قيمتها كما لو كانت قد أسلمت.
والثاني: لا يعطي لأنه لم يقدر عليها كما لو لم يكن فيه جارية. هذا إذا فتح الحصن عنوة فأما إذا صالح الإمام أهل الحصن نظر:
إن كانت هذه الجارية خارجة عن الأمان مثل إن صالحهم على أن يكون صاحب الحصن وأهله في أمان والباقون سبي وهذه الجارية ليست من أهل صاحب الحصن سلمت إلى العلج.(45/340)
وإن كانت هذه الجارية من أهل صاحب الحصن يقال للعلج أترضى بجارية أخرى من الحصن أو بقيمة الجارية، فإن رضي أعطي وإن لم يرض يقال لصاحب الحصن أترضى بقيمة الجارية، فإن رضي أعطي من بيت المال وأمضى الصلح وسلمت الجارية إلى العلج. وإن لم يرض يقال لصاحب الحصن أعطيناك ما صالحنا عليه غيرك من قبل فإن لم تسلمها ننبذ إليك عهدك فارجع إلى الحصن وأغلق الباب فإذا رجع وفتحنا الحصن تسلم الجارية إلى العلج كما سبق وإن لم يحصل الفتح هل تجب القيمة للعلج فيه قولان:
أحدهما: بلى لأن الإمام قد ظفر بها.
والثاني: وهو الأصح لا يجب لأن الاستيلاء لم يتم كما لو لم يفتح أصلاً.
يخرج من هذه المسألة أنه يجوز تبديل المؤمن: فإنا عرضنا على صاحب الحصن أن يعوضه عن الجارية. وأنه يجوز عقد الأمان لمجهولي العدد معلومي الحال: فإذا صالحنا صاحب الحصن على أن يكون أهله في أمان وإن لم نعرف عددهم. وكذلك يجوز لمعلومي العدد مجهولي الحال مثل أن يصالح أهل الحصن على أن يكون مائة نفر منهم في أمان ثم يعينهم صاحب الحصن فإن عد مائة ولم يعد نفسه جاز قتله.
فصل
من ارتكب من المسلمين في دار الحرب جريمة موجبة للحد يجب عليه الحد وعند أبي حنيفة لا يجب.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه في موضع يؤخر إقامته حتى يرجع إلى دار الإسلام، وقال في موضع يقام في دار الحرب ولا يؤخر.
وليس على قولين بل على حالين حيث قال لا يؤخر أراد به إذا لم يخف فتنة المحدود وارتداده أو اجتراء الكفار على المسلمين. وحيث قال يؤخر أراد إذا خاف شيئاً من ذلك.
ويجري الربا في دار الحرب في المعاملة بين المسلمين أو بين المسلم والحربي سواء كان المسلم انتقل إليها من دار الإسلام أو أسلم ولم يهاجر.
وعند أبي حنيفة لا يجري الربا في دار الحرب بين المسلم والحربي ولا بين مسلمين لم يهاجرا أو لم يهاجر أحدهما وأبو يوسف معنا.(45/341)
وقال محمد بن الحسن لا يجري بين المسلم والحربي ويجري بين مسلمين وإن لما يهاجرا.
قلنا أحكام الله جل جلاله على العباد لا تختلف باختلاف الدار كالأوامر ولو أسلم حربي فقبل أن هاجر إلى دار الإسلام قتله مسلم يجب عليه القود. وعند أبي حنيفة لا يجب فنقيس على المهاجر.
وقد ذكرنا حكم الغنيمة وما صار إلينا من أموال الكفار وحكم من خان فيها أو سرق شيئاً منها أو وطيء جارية منها في كتاب قسم الفيء بعون الله وحسن توفيقه.
باب المبارزة
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه بارز يوم الخندق عمرو ابن عبدود.
وروي أنه خرج يوم بدر من صف الكفار عتبه بن ربيعة وشيبة ابن ربيعة والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فتية من الأنصار عوف ومعوّذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله ابن رواحة فقالوا من أنتم قالوا رهط من الأنصار قالوا مالنا بكم حاجة، ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب بالخروج إليهم فخرجوا وقتلوهم.
تجوز المبارزة في الحرب لمن كان شجاعاً، وكذلك الإعلام وهو أن يتعمم بعمامة سوداء، أو يتعصب بعصابة حمراء، أو يُعلم فرسه سواء فعل بإذن الإمام أو دون إذنه فإن ابني عفراء وعبد الله بن رواحة خرجوا يوم بدر بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم وأعلم حمزة يوم بدر. وعند أبي حنيفة لا يجوز البراز إلا بإذن الإمام.
وإذا خرج مشرك ودعا إلى المبارزة فالمستحب أن يبرز إليه مسلم؛ لأنه إذا لم يبرز تضعف قلوب المؤمنين ويجترئ الكفار عليهم وهل يجوز للضعيف أن يبارز فيه وجهان:
أحدهما: يجوز لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز كما يجوز للضعيف أن يجاهد.
والثاني: لا يجوز لأن المقصود من المبارزة إظهار القوة وذلك لا يحصل من الضعيف.
فإن بارز مسلم مشركاً نظر:(45/342)
إن لم يكن بينهما شرط جاز لكل واحد من المسلمين أن يرمي المشرك لأنه حربي لا أمان له.
وإن شرطا أن لا يعينهما غيرهما لا يجوز لإحدى الطائفتين أن يعين مبارزه ماداما يتقاتلان.
فإن أثخن الكافر المسلم وأراد قتله على المسلمين استنقاذ المسلم ولهم قتل الكافر؛ لأن الشرط أن لا يعينه حال القتال وقد ارتفع القتال وكذلك لو قتل المسلم وولى أوترك قتاله فهرب أو هرب المسلم منه جاز قتله.
لأن الأمان قد ارتفع بترك القتال إلا أن يكون الشرط أنه آمن إلى أن يرجع إلى الصف فلا يتعرض له ما لم يصل إلى الصف فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله أو ترك قتال المسلم وقصد صف المسلمين جاز قتله، لأنه نقض الأمان.
ولو خرج المشركون لإعانة صاحبهم كان حقاً على المسلمين أن يعينوا صاحبهم، ثم نظر:
إن استعان المشرك المبارز بأصحابه أو بدأ المشركون بمعاونته فلم يمنعهم فقد نقض الأمان فللمسلمين قتل المبارز والأعوان جميعاً.
وإن لم يستعن بهم وكان يمنعهم فلم يقبلوا منه قتلوا الأعوان دون المبارز لأن المبارز على أمانه.
فصل
إذا أسر الكفار مسلماً ثم أطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم في النفس والمال جميعاً لأنهم لا أمان لهم.
وإن أطلقوه على أنه في أمان منهم ولم يستأمنوه فالمذهب أنهم في أمانه لا يجوز أن يغتالهم لأنهم لما أمنوه، كانوا هم في أمان منه، وقال ابن أبي هريرة لا أمان لهم وله أن يغتالهم لأنهم لم يستأمنوه.
ولو قالوا له لا نطلقك حتى تحلف أن لا تخرج إلى دار الإسلام فحلف وأطلقوه فمهما أمكنه الخروج يجب عليه أن يخرج ولا كفارة عليه؛ لأن يمينه كان يمين مكره ولا ينعقد كما لو أخذ اللصوص رجلاً وقالوا لا نتركك حتى تحلف أن لا تخبر بمكاننا أحداً فحلف فتركوه فأخبر بمكانهم لا كفارة عليه.(45/343)
وإن كان حلف بالطلاق لا يقع إلا أنه إذا خرج إلى دار السلام لا يجوز أن يغتالهم بنفس ولا مال لأنهم أمنوه وكانوا في أمان منه إلا أن يجعلوا الأمان له دون أنفسهم فله أن يغتالهم. ولو كان لمسلم عين مال في أيديهم فله أخذها لترد إلى المالك سواء شرطوا لهم في أمان منه أو لم يشرطوا ثم هل تكون تلك العين مضمونة عليه؟
من أصحابنا من قال فيه قولان كما لو أخذ المغصوب من الغاصب ليرد إلى المالك.
وقال الشيخ القفال رحمه الله: " لا يضمن ههنا؛ لأنه لم يكن مضموناً على الحربي فلا ضمان على من أخذ منه بخلاف المغصوب فإنه مضمون على الغاصب فيجب الضمان على من أخذ منه.
ولو حلف ابتداء من غير تحليفهم أنه لا يخرج إلى دار الإسلام نظر. إن كان مطلقاً يلزمه أن يخرج وعليه الكفارة لأنه حلف مختاراً" وإن كان محبوساً حلف أنه إن أطلق لا يخرج، فإذا خرج هل تلزمه الكفارة فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأنه يمين إكراه فلا تلزمه الكفارة.
والثاني: تلزمه الكفارة لأنه حلف مبتدئاً فكان مختاراً.
ولو أطلقوه على أنه إذا خرج إلى دار الإسلام عاد إليهم فإذا أتي إلى دار الإسلام لا يجوز أن يعود إليهم ولا يدعه الإمام أن يعود إليهم، لا كفارة عليه للإكراه.
وقال الزهري والأوزاعي يجب أن يعود حتى لا يصير ذلك ذريعة لحبس الأسارى.
ولو شرطوا عليه أن يعود أو يبعث إليهم مالاً لا يجوز أن يعود ولا يجب أن يبعث المال ويستحب أن يبعث المال.
وعند الزهري والأوزعي يجب أن يعود أو يبعث المال.
ولو اشترى الأسير/ من الكفار شيئا بأضعاف ثمنه أو بمثل ثمنه أو باعوا منه فرساً ليركبه ويأتي به دار الإسلام /نظر.
إن اشتراه طوعاً لزمه جميع الثمن.
فإذا دخل دار الإسلام إن شاء ردّ وإن شاء أجاز وأعطى الثمن.
وقيل يصح ويلزمه الثمن قولاً واحداً لأنه معاملة مع أهل الشرك فيجوز فيها مالا يجوز في معاملة المسلمين.(45/344)
وفداء الأسير جائز فلو قال أسير أطلقني على كذا ففعل، وقال الكافر افتد نفسك على هذا المال ففعل لزم، لأنه غير مكره فلو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك ولك عليّ ألف فأطلقه يجب عليه الألف كما لو قال أعتق أم ولدك على ألف ففعل يجب الألف ومن فدى أسيراً بمال من غير مسألة الأسير لا يرجع على الأسير بشيء ولو قال الأسير أفدني بكذا بشرط أن يرجع عليه بفدىِ.
وإن لم يشترط الرجوع هل يرجع؟ فيه وجهان: أصحهما يرجع. ولو فدى الأسير نفسه بمال ثم استولى عليه المسلمون هل يرد إلى الأسير؟ فيه وجهان: أحدهما: يرد لأنه كان مقهوراً في أدائه كما لو غصبوا من مسلم شيئاً ثم استولى عليه المسلمون يجب رده.
الأمان: ضد الخوف، وأريد به هنا ترك القتال والقتل مع الكفار، وهو من مكايد الحرب ومصالحه. انظر: - أمن - لسان العرب 13/21، مغني المحتاج 4/236.
(رضي الله عنه) ساقطة من د، ظ.
(أنه) ساقطة من د.
رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني. انظر: سنن أبي داود: كتاب الجهاد - باب في السرية ترد على أهل العسكر 3/80، سنن النسائي: كتاب القسامة - سقوط القود من المسلم للكافر 8/23، إرواء الغليل 7/265.
انظر: روضة الطالبين 10/278.
خراسان: بلاد واسعة أول حدودها مما يلي العراق أذَورْد قصبة جوُين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان وغزنة وسجستان وليس ذلك منها. انظر: مراصد الاطلاع 1/455.
الأمان الخاص: هو أن يؤمن من الكفار آحاداً لا يتعطل بهم جهاد ناحيتهم كالواحد والعشرة إلى المائة وأهل قافلة، ولا يجوز أمان ناحية وبلدة. قال العمراني: يجوز أن يؤمن واحد أهل قلعة. وقال النووي: ولا شك أن القرية الصغيرة في معناها. وعن الماسرجسي: أنه لا يجوز أمان واحد لأهل قرية وإن قل عدد من فيها والأول أصح. انظر: كتاب السير من الحاوي 947، البيان ل8/11ب، روضة الطالبين 10/278، كفاية النبيه الورقة 10 من كتاب السير.
في د: (حراً كان أو عبداً) .(45/345)
انظر: حلية العلماء 7/652، الوجيز 2/194،الغاية القصوى 2/953.
أم هاني بنت أبي طالب، بنت عم النبي أخت، علي وجعفر، اسمها فاختة، وقيل هند، وقيل غير ذلك، أسلمت يوم الفتح وعاشت إلى بعد سنة خمسين. انظر: أسد الغابة 6/404، الاستيعاب 4/479، الإصابة 4/479، سير أعلام النبلاء 2/311.
في ظ: (قال) .
قال ابن حجر: الرجلان هما الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة. انظر: تلخيص الحبير 4/118.
رواه أبو داود والترمذي، وابن الجارود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. انظر: سنن أبي داود: كتاب الجهاد- باب في أمان المرأة 3/84، سنن الترمذي: أبواب السير - باب ما جاء في أمان المرأة والعبد 3/70، المنتقى 352.
هذ اقول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد يصح أمان العبد سواء كان مأذونا له أم لا.
انظر: بدائع الصنائع 7/106، رؤوس المسائل 243.
قال العمراني: "وقال الخراسانيون هل يصح عقد الأمان من المراهق فيه وجهان: أحدهما لا يصح. والثاني: يصح، لأنه عقد شرعي فصح من المراهق كالصلاة". انظر: البيان 8/ل12.
انظر: شرح المحلي على المنهاج 4/226، شرح منهج الطلاب 4/264.
انظر: روضة الطالبين 10/279.
انظر: الوجيز 2/194، روضة الطالبين 10/279، الأنوار 2/554.
إن كان المسلم أسيراً في أيدي الكفار فأكره على عقد الأمان فعقده لم يصح كما لو أكره على سائر العقود، وإن لم يكره ففيه وجهان. وقال القفال: "لا يتصور الأمان من الأسير، لأن الأمان يقتضي أن يكون المؤمن آمناً وهذا الأسير غير آمن في أيديهم فصار عقده للأمان يقترن به ما يصادمه فلم يصح". وقال الماوردي: "عندي أنه يعتبر أمانه بحال من أمنه فإن كان في أمان من المشرك صح أمانه لذاك المشرك، وإن لم يكن في أمان منه لم يصح أمانه". انظر: كتاب السير من الحاوي 955، البيان 8/ل 12.
انظر: بدائع الصنائع 7/107.
(ذلك) ساقطة من ظ.(45/346)
إن أسر الكفار مسلماً وأطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم في النفس والمال لأنهم كفار لا أمان لهم. وإن أطلقوه على أنه في أمان ولم يستأمنوه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول علي بن أبي هريرة إنه لا أمان لهم لأنهم لم يستأمنوه. والثاني: وهو ظاهر المذهب أنهم في أمانه لأنهم جعلوه في أمان فوجب أن يكونوا منه في أمان. انظر: المهذب 2/244، حلية العلماء 7/652.
في ظ: (لأنه يصير) .
في ظ: (الإمام) .
انظر: روضة الطالبين 10/279، المهذب 2/236.
أبو حفص عمر بن الخطاب، أسلم سنة ست من النبوة، وقيل سنة خمس كان رضي الله عنه من قديمي الإسلام والهجرة، وممن صلى إلى القبلتين، شهد المشاهد كلها، طعن سنة 23هـ على يد أبي لؤلؤة المجوسي. انظر: الاستيعاب 2/450، الإصابة 2/511، أسد الغابة 3/642، البداية والنهاية 7/133، تذكرة الحفاظ 1/5، تهذيب التهذيب 7/438،الرياض المستطابة 147، صفة الصفوة 1/268.
(رضي الله عنهما) ساقطة من د.
اسم لبعض أكابر الفرس وهو دهقانهم الأصغر، أسره أبو موسى الأشعري وبعثه إلى عمر وأراد عمر قتله لكونه أسيراً فقال له أنس قد أمّنته بقولك لا بأس عليك فتركه عمر ثم أسلم الهرمزان. أنظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/135.
انظر: مسند الشافعي 317،السنن الكبرى: كتاب السير - باب كيف الأمان 9/96.
أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب، من كبار الصحابة، كان خادم رسول الله الأمين، وصاحب سره، وهو أول من جهر بقراءة القرآن بمكة، توفي بالمدينة سنة 32هـ وقيل في وفاته غير هذا. انظر: الإصابة 2/360، تذكرة الحفاظ 1/13، تهذيب الأسماء واللغات 1/188، حلية الأولياء 1/124، الرياض المستطابة 185، صفة الصفوة 1/395.
(إن) ساقطة من د.
(تعالى) ساقطة من د.(45/347)
قال ابن حجر: لم أره عن ابن مسعود وإنما هو عن عمر، كذا ذكره البخاري تعليقاً والبيهقي موصولاً من حديث أبي وائل ورواه مالك في الموطأ بلاغاً عن عمر. انظر: صحيح البخاري - باب قالوا صبأنا 4/122 موطأ مالك: كتاب الجهاد - باب ما جاء في الوفاء بالأمان 2/449، السنن الكبرى: كتاب السير - باب كيف الأمان 9/69، تلخيص الحبير 4/121.
قال الماوردي: "الإشارة ضربان: مفهومة وغير مفهومة. فإن كانت غير مفهومة لم يصح بها الأمان لا صريحا ولا كناية، وإن كانت مفهومة انعقد بها الأمان إن أراده المشير ولا ينعقد بها إن لم يرده، لكن يجب أن يرد بها إلى مأمنه وتكون كتابة يرجع إلى قوله فيما أراد". انظر: كتاب السير من الحاوي 958.
في د (وقال) .
(رضي الله عنه) ساقطة من د.
رواه سعيد بن منصور في سننه. أنظر: السنن لسعيد بن منصور - باب الإشارة إلى المشركين والوفاء بالعهد ق2، 3/270.
في د (يزيد) .
فضيل بن زيد وقيل يزيد الرقاشي أبو حسان، روى عن عمر بن الخطاب، وعبد الله ابن مغفل، روى عنه عامر الأحول، قال يحي بن معين هو صدوق بصري ثقة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/51، تاريخ ابن معين 2/476، التاريخ الكبير 7/119.
(رضي الله عنه) ساقطة من د.
في د (فيهم) .
رامهرمز: ومعنى رام بالفارسية المراد والمقصود، وهرمز أحد الأكاسرة فكأن هذه الفظة مركبة معناها: مقصود هرمز أو مراد هرمز، وهي مدينة مشهورة بنواحي خوزستان. انظر: معجم البلدان 3/17.
في د: (فكتب عبد منا صحيفة أمانا) .
في د: (في) .
في ظ: (رمي) .
في ظ: (فكتب) .
رواه البيهقي بسند صحيح. انظر: السنن الكبرى: كتاب السير - باب أمان العبد 9/94، تلخيص الحبير 4/121.
(رجل) ساقطة من ظ.
في ظ: (أن) .
انظر: كتاب السير من الحاوي 954، المهذب 2/236، روضة الطالبين 10/280.
(وكذلك لو أشار إليه مسلم بالنزول فقال المسلم لم أرد به الأمان قبل قوله فإن قال الكافر ظننت أنه أمان يقبل منه ويبلغ المأمن) ساقطة من ظ.(45/348)
انظر: المهذب 2/236.
في ظ: (وإذا) .
انظر: مغني المحتاج 4/237، شرح روض الطالب 4/203.
في د: (ترك) .
في ظ: (ثابت بن قيس الشماس) . ثابت بن قيس بن شماس أبو محمد، وقيل أبو عبد الرحمن، خطيب الأنصار لم يشهد بدراً، شهد أُحداً وبيعة الرضوان، قتل يوم اليمامة. انظر: الاستيعاب 1/193، الإصابة 1/197، تهذيب الكمال 4/368، تهذيب التهذيب 2/12، خلاصة تذهيب التهذيب 1/150، سير أعلام النبلاء 1/308.
الزبير بفتح الزاي وكسر الباء جد ضرير بن عبد الرحمن المذكور في الموطأ في كتاب النكاح. انظر: الروض الأنف 3/284.
كانت غزوة بني قريظة في السنة الخامسة للهجرة. انظر: تتمة المختصر 1/187.
في د: (يقبل) .
انظر: السنن الكبرى: كتاب السير - باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم 9/66.
انظر: روضة الطالبين 10/21.
(فهو) ساقطة من د.
انظر: روضة الطالبين 10/280، شرح روض الطالب 4/204.
نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي صحابي، من ذوي العقل الراجح، قدم على رسول الله سراً أيام الخندق واجتماع الأحزاب فأسلم، وكتم إسلامه، وعاد إلى الأحزاب المجتمعة لقتال المسلمين فألقى الفتنة بين قبائل قريظة وغطفان وقريش، مات في خلافة عثمان، وقيل قتل يوم الجمل قبل قدوم علي إلى البصرة. انظر: أسد الغابة 4/572، الإصابة 3/539،الاستيعاب 3/528، الأعلام 8/41.
مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، أبو نمامه، ادعى النبوة، ولد ونشأ في اليمامة قتل في معركة اليمامة قتله وحشي بن حرب وقيل غيره. انظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/95، الأعلام 7/226. رواه أبو داود وأحمد والحديث صحيح حيث ذكره الألباني في صحيح أبي داود.
انظر: سنن أبي داود: كتاب الجهاد - باب في الرسل 3/84، مسند أحمد 3/487، صحيح سنن أبي داود2/174.
في ظ: (لا يجوز) .
العلج: الرجل الشديد الغليظ، ويقال للرجل القوي الضخم من الكفار علج. انظر: - علج - لسان العرب 2/326.
في د: (فعقد معه الإمام) .
(للعلج) ساقطة من د.(45/349)
(وإن كانت) مكررة في ظ.
قال النووي: ولو شرط العلج أو الإمام جارية مبهمة جاز على الصحيح. انظر: روضة الطالبين 10/285.
(البدل) ساقطة من ظ.
في ظ: (مما يدل له عليه) .
في ظ: (ذلك أولك) .
في د: (منها وثلث) .
قال النووي: أصحهما عند الإمام لا يجوز انظر: الوجيز 2/ 195، روضة الطالبين 10/285.
في د: (لأنه يفرض المسلم على الدلالة) .
في د: (لا شيء عليه للعلج) .
قال الشيرازي: وإن قال من دلني على القلعة الفلانية فله منها جارية فدله عليها ولم تفتح لم يستحق شيئا وقيل يرضخ له وليس بشيء. قال ابن الرفعة: ومحل الخلاف إذا أطلق العقد أما إذا شرط له منها جارية إذا فتحت فلم يفتح لم يستحق شيئاً قطعاً. انظر: التنبيه 143، كفاية النبيه الورقة 19 من كتاب السير.
في أ، ظ: (منها) .
في ظ، أ (فيها) .
في ظ: (به) .
قال النووي: وعن ابن سريج أن فيه قولاً أنها تسلم إلى العلج لأنه استحقها قبل الإسلام والمذهب الأول. انظر: روضة الطالبين 10/288.
وقيل يعطى أجرة مثل وهو الأصح عند الإمام، وإعطاء القيمة هو الأصح الذي عليه الجمهور. انظر: مغني المحتاج 4/241.
في د: (جاء) .
انظر: صحيح البخاري: باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة 3/247.
انظر: روضة الطالبين 10/288، مغني المحتاج 4/241.
في ظ: (تسلم) .
في ظ: (فإن) .
انظر: كتاب السير من الحاوي 976.
انظر: روضة الطالبين 10/286، نهاية المحتاج 8/79،كفاية النبيه الورقة 19 من كتاب السير.
(إليه) ساقطة من د.
في د: (لا يقدر) .
(لم) ساقطة من أ.
في ظ، أ (فيها) .
انظر: كتاب السير من الحاوي 979، روضة الطالبين 10/288.
(من) ساقطة من ظ.
(سلمت إلى العلج، وإن كانت هذه الجارية من أهل صاحب الحصن) ساقطة من أ.
(أعطي وإن لم يرض يقال لصاحب الحصن أترضى بقيمة الجارية فإن رضي) ساقطة من ظ.
في د: (نبذ) .
في د: (فإذا رجع فإذا فتح تسلم الجارية) وفي أ: (فإذا رجع ثم فتحنا) .
(كما سبق وإن لم يحصل الفتح) ساقطة من د.(45/350)
قال الماوردي: "وإن لم نفتح القلعة وعدنا عنها فلا شيء للدليل ويستحب أن لو رضخ له من سهم المصالح وإن لم يجب". انظر: كتاب السير من الحاوي 980.
(أنه) ساقطة من أ.
في د: (فإن عدهما به) .
انظر: حاشية القليوبي 4/227.
في ظ: (اربكت)
انظر: المهذب 2/242، حلية العلماء 7/671.
انظر: الهداية 2/102.
في أ: (وبين) .
انظر: حلية العلماء 4/192.
في أ: (لم يهاجروا) .
يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، أبو يوسف من أولاد أبي دجانة الأنصاري الصحابي، صاحب أبي حنيفة وتلميذه، فقيه، مجتهد، أصولي، حافظ، ملم بالتفسير والمغازي وأيام العرب، ولي القضاء ببغداد أيام المهدي، والهادي، والرشيد، من مؤلفاته: الآثار، الأماني، النوادر، الخراج المبسط، ولد سنة 113هـ، توفي سنة 182هـ.
انظر: أخبار القضاة 3/254، أخبار أبي حنيفة للصيمري 90، إعجام الأعلام 59، البداية والنهاية 10/180، تذكرة الحفاظ 1/292، تاريخ جرجان 487، تاريخ بغداد 4/242، الجواهر المضية 3/611، طبقات الشيرازي 141، طبقات ابن سعد 7/330، الفهرست 286، العبر 1/219، الفوائد البهية 225، الكواكب النيرات 227، المعارف 18، النجوم الزاهرة 2/107.
انظر: المبسوط 14/56، رؤوس المسائل 282، البناية 6/570، تبيين الحقائق 4/97.
في أ: (قال) .
محمد بن الحسن بن فرقد أبو عبد الله الشيباني طلب الحديث، وسمع مالكاً والأوزاعي والثوري، وصحب أبا حنيفة، وأخذ الفقه عنه، وكان أعلم الناس بكتاب الله ماهراً في العربية والنحو والحساب. من كتبه: المبسوط، الجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الكبير، والسير الصغير والزيادات، توفي سنة 187هـ، ويقال 189هـ. انظر: اخبار أبي حنيفة للصيمري 120، الأنساب 7/433، الجواهر المضية 3/122، الفوائد البهية 163، اللباب 2/219، الوافي بالوفيات 2/332.
انظر: البناية 6/570، تبين الحقائق 4/97.
في د، ظ: (فلا تختلف) .
في د: (فلو) .
انظر: حلية العلماء 7/661.
انظر: الهداية 2/155.(45/351)
في أ: (أو سرق منها شيئاً) .
(وحسن توفيقه) ساقطة من أ.
المبارزة: أصل البروز الظهور في البراز وهو المكان الفضاء الواسع وهو ههنا ظهور المتحاربين بين الصفين لايستتران بغيرهما من أهل الحرب. انظر: النظم المستعذب 2/238.
في ظ: (عليه السلام) .
عمرو بن عبدود العامري، من بني لؤي من قريش، فارس قريش وشجاعها في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، عاش إلى أن كانت وقعة الخندق فحضرها وقد تجاوز الثمانين فقتله علي بن أبي طالب. انظر: الأعلام 5/81.
رواه الحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد. انظر: المستدرك: كتاب المغازي 3/32.
عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أبو الوليد، كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهلية، كان موصوفاً بالرأي والحلم والفضل، توسط للصلح في حرب الفجار وقد رضي الفريقان بحكمه، أدرك الإسلام ولم يسلم وشهد بدراً وقتل فيها، وقتله عبيده بن الحارث بن عبد المطلب. انظر: المحبر 160، المعارف 72، 157، الأعلام 4/200.
شيبة بن ربيعة بن عبد شمس من زعماء قريش في الجاهلية، كان معادياً للرسول صلى الله عليه وسلم، وحضر بدراً مع المشركين وقتل فيها قتله حمزة بن عبد المطلب. انظر: المحبر 160، 162، المعارف 72، 156، الأعلام 3/181.
الوليد بن عتبة بن ربيعة، قتل يوم بدر، قتله علي بن أبي طالب. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/625، 709.
عوف بن الحارث بن رفاعة بن عفراء، شهد العقبة وبدراً واستشهد. انظر: أسد الغابة 4/12، الاستيعاب 3/159، تاريخ خليفة 61، سيرة ابن اسحاق 309، طبقات ابن سعد 3/492، طبقات خليفة 90.
معوذ بن الحارث بن رفاعة بن عفراء، وهو والد الربيع بنت معوذ، شهد العقبة مع السبعين، وهو الذي قيل: إنه ضرب أبا جهل هو وأخوه عوف حتى أثخناه وعطف هو عليهما فقتلهما. انظر: أسد الغابة 4/464، الإصابة 3/430، تاريخ خليفة 61، سيرة ابن إسحاق 309،سير أعلام النبلاء 2/359، طبقات ابن سعد 3/492، طبقات خليفة 90، المعارف 597.(45/352)
عبد الله بن رواحه بن ثعلبة بن امريء القيس بن ثعلبة، شهد بدراً والعقبة، كان شاعر رسول صلى الله عليه وسلم أحد الأمراء في غزوة مؤتة وبها قتل. انظر: أسد الغابة 3/130، تهذيب الأسماء واللغات 1/265، تهذيب التهذيب 5/212، تهذيب ابن عساكر 7/390، حلية الأولياء 1/118، سير أعلام النبلاء 1/230، كنز العمال 13/449، مجمع الزوائد 9/316.
عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف أبو الحارث، من أبطال قريش في الجاهلية والإسلام ولد بمكة، وأسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، شهد بدراً وقتل فيها. انظر: أسد الغابة 3/449، الاصابة 2/442، المحبر 116، الأعلام 4/198.
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي سيد الشهداء عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، أسلم في السنة الثانية من البعثة، قتله وحشي يوم أحد. انظر: أسد الغابة 1/528، الاستيعاب 1/270، الإصابة 1/353، تهذيب الأسماء واللغات 1/168، الجرح والتعديل 3/212، سير أعلام النبلاء 1/171، شذرات الذهب 1/10، العقد الثمين 4/227، مجمع الزوائد 9/266.
قال ابن حجر: رواه أبو داود من حديث علي، وهو عند البخاري مختصرا، واتفقوا عليه من حديث قيس بن عباد عن أبي ذر. انظر: صحيح البخاري: كتاب التفسير - تفسير سورة الحج 6/123، صحيح مسلم: كتاب التفسير - باب في قوله هذان خصمان اختصموا في ربهم 4/2323، سنن أبي داود: كتاب الجهاد - باب في المبارزة 3/52، تلخيص الحبير 4/105.
والمستحب أن لا يبارز إلا بإذن الإمام فإن بارز من غير إذنه جاز وقيل لا يجوز والصحيح أنه لا يجوز. انظر: حلية العلماء 7/657، المهذب 2/238،البيان الورقة 16 من كتاب السير.
لم أجده فيما توفر لدي من مراجع.
في ظ: (يستحب) .
انظر: البيان الورقة 15 من كتاب السير، المهذب 2/238.
والصحيح أنه يجوز، وقال العمراني جاز وكره. أنظر: البيان الورقة 16 من كتاب السير، المهذب 2/238.
(وذلك) ساقطة من أ.(45/353)
انظر: كتاب السير من الحاوي 1142، المهذب 2/238، التنبيه 143، البيان الورقة 16من كتاب السير، روضة الطالبين 10/284، كفاية النبيه الورقة 13 من كتاب السير.
في د: (وإن شرط) .
في ي: (فإذا عن) .
(وأراد) مكررة في د.
في أ: (ولأن) .
في ظ، أ (حالة) .
(القتال) ساقطة من ظ.
في أ: (لو قتل المسلم الكافر) .
في د: (انقطع) .
في أ: (بصف) .
في د، أ: (فلو) .
في د: (بالمبارزة) ، في أ: (المبارزة) .
في د: (فإن) .
في أ: (المبارزة) .
انظر: نهاية المحتاج 8/78، مغني المحتاج 4/239، شرح روض الطالب 4/205.
(هم) ساقطة من د، ظ.
أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة، أحد أئمة الشافعية من أصحاب الوجوه، درس على أبي العباس بن سريج ثم على أبي إسحاق المروزي، صنف التعليق الكبير على مختصر المزني، وعلق عليه الشرح أبو علي الطبري، قال الأسنوي وله تعليق آخر في مجلد ضخم وهما قليلا الوجود، توفي سنة 345 هـ وقيل سنة 346هـ. انظر: تاريخ بغداد 7/298،طبقات ابن قاضي شهبة 1/99، طبقات الشيرازي 121، طبقات الأسنوي 2/518 طبقات ابن هداية الله 2/72، طبقات العبادي 77، النجوم الزاهرة 3/316، الأعلام 2/188، الفتح المبين 1/193.
(له) ساقطة م د.
انظر: المهذب 2/244، البيان 8/ الورقة 25 من كتاب السير، روضة الطالبين 282، كتاب السير من الحاوي 1203.
في أ: (ولو قال لا نطلقك) .
في أ: (فأطلقوه) .
في د: (فمهما أمكن) .
انظر: المهذب 2/244، روضة الطالبين 10/212.
في أ: (فلا) .
في د: (وتركوه) .
في ط: (فكانوا) .
(له) ساقطة من د، ظ.
في ظ: (أو لم يشترطوا) .
في د: (وهل) .
انظر: روضة الطالبين 10/283، مغني المحتاج 4/24.
في د: (قال) .(45/354)
أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي الخراساني، سمي بالقفال لأنه كان يعمل الأقفال، كان وحيد زمانه فقهاً وحفظا وورعا وزهدا، صاحب طريقة الخراسانيين في الفقه من أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني، والقاضي حسين توفي سنة 417هـ. انظر: البداية والنهاية 12/21، سير أعلام النبلاء 17/405، طبقات الأسنوي 2/298 طبقات ابن هداية الله 134، طبقات العبادي 105.
(رحمه الله) ساقطة من د، أ.
انظر: كتاب السير من الحاوي 1201.
في أ: (وإذا) .
(الكفارة) ساقطة من د.
انظر: كتاب السير من الحاوي 1201، المهذب 2/244، البيان 8/ الورقة 26 من كتاب السير حلية العلماء 7/673.
في ظ، أ (أحدهما: أنه يمين إكراه فلا تلزمه الكفارة) .
(إلى دار الإسلام) ساقطة من د.
انظر: مختصر المزني 275، كتاب السير من الحاوي 1204، المهذب2/244.
محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، كان من أحفظ أهل زمانه وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار فقيها فاضلا من تابعي أهل المدينة، ولد سنة 50هـ توفي سنة 124، وقيل 123هـ وقيل 125هـ. انظر: البداية والنهاية 9/340، تذكرة الحفاظ 1/108، تاريخ ابن شاهين 276، تقريب التهذيب2/207، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 90، الجرح والتعديل8/71، حلية الأولياء 3/360، سير أعلام النبلاء 5/326، شذرات الذهب 1/62، طبقات الشيرازي 48، طبقات الحفاظ 49، طبقات القراء 2/262، المعرفة والتاريخ 1/62، المعارف 227، معجم الشعراء للمرزباني 413، النجوم الزاهرة 1/294، وفيات الأعيان 4/77.
انظر: كتاب السير من الحاوي 1204.(45/355)
أبو عمر عبد الرحمن بن عمرو بن محمد وقيل يحمد الأوزاعي، الدمشقي شيخ الإسلام وعالم أهل الشام، كان ثقة مأمونا فاضلا خيراً، كثير الحديث والعلم والفقه، وكان عابداً زاهداً ورعاً، ولد سنة 88هـ وقيل سنة 93 هـ توفي في سنة 157هـ وقال ابن المديني توفي سنة 151هـ. انظر: البداية والنهاية 10/115، تهذيب التهذيب 6/238، تذكرة الحفاظ 1/178، طبقات الحفاظ 85، علل الحديث لابن المديني 34، ميزان الاعتدال 2/580، مشاهير علماء الأمصار180، المعرفة والتاريخ 2/39، العبر 1/174، وفيات الأعيان 3/127.
انظر: كتاب السير من الحاوي 1204، البيان 8/ الورقة 26 من كتاب السير.
في د: (ويبعث) .
قال العمراني: "وإن أطلقوه على أن ينفذ إليهم من دار الإسلام مالاً اتفقوا عليه فإن لم ينفذه إليهم عاد إليهم، فهل يلزمه إيفاد المال إليهم اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق لا يلزمه لأنه ضمان مال بغير حق إلا أن المستحب أن ينفذه إليهم ليكون ذلك طريقاً إلى إطلاق الأسرى وقال الشيخ أبو حامد أكثر أصحابنا يلزمه إيفاد المال إليهم لأن فيه مصلحة لأنه إذا لم ينفذه إليهم لم يثقوا بقول الأسارى في ذلك ولم يطلقوهم". انظر: البيان 8/الورقة 26 من كتاب السير.
في أ: (ويبعث) .
انظر: المراجع المتقدمة عن الزهري والأوزاعي الصفحة السابقة.
في ظ: (فلو) .
(به) ساقطة من د، أ.
في د، أ: (اشترى) .
انظر: كتاب السير من الحاوي 1209، مغني المحتاج 4/240.
في أ: (ولو) .
(ففعل لزم، لأنه غير مكره، فلو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك ولك علىّ ألف فأطلقه يجب عليه الألف، كما لو قال أعتق أم ولدك على ألف ففعل) ساقطة من ظ.
(عليه) ساقطة من أ.
في ظ: (بشرط أن يرجع ففدى يرجع عليه) .
في د: (لم يشرط) .(45/356)
تابع لكتاب السير من التهذيب للإمام البغوي
فصل
إذا حاصر الإمام قلعة فترك أهلها على حكم حاكم جاز؛ لأن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الملك " (1) .
ويجب أن يكون الحاكم حراً مسلماً ذكرا عاقلا بالغاً عدلاً عالماً (2) ؛ لأنه ولاية كولاية القضاء.
ويجوز أن يكون أعمى لأن ما يوجب الحكم بينهم مشهور يدرك بالسماع كالشهادة فيما طريقه الاستفاضة تصح من الأعمى ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأي فيهم ولكن يجوز حكمه لأنه عدل في الدين.
وإن نزلوا على حكم حاكم يختاره الإمام جاز؛ لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه، وإن نزلوا على حكم حاكم يختارونه لم يجز إلا أن يشترط أن يكون على الصفات التي ذكرناها.
وإن نزلوا على حكم اثنين جاز؛ لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فجاز أن يجعل إلى اثنين كالتحكيم في اختيار الإمام، وإن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه ردوا إلى القلعة.
وكذلك لو نزلوا على حكم حاكم فمات، أو على حكم اثنين فمات أحدهما، ردوا إلى القلعة ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل أو الاسترقاق أو المن أو الفداء (3) .
وإن حكم بعقد الذمة، وأخذ الجزية ففيه وجهان:
__________
(1) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب إذا نزل العدو على حكم رجل 4/81، صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير - باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم 3/1389.
(2) قال النووي: "وأطلقوا أنه يشترط كونه عالماً وربما قالوا فقيهاً وربما قالوا مجتهداً"، قال الإمام: "ولا أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي ولعلهم أرادوا التهدي إلى طلب الصلاح وما فيه النظر للمسلمين". نظر روضة الطالبين 10/291.
(3) قال النووي: "وحكى الروياني وجهاً أنه لا يجوز الحكم بالمن على جميعهم واستغربه". انظر: روضة الطالبين 10/292.(45/357)
أحدهما: يجوز لأنهم نزلوا على حكمه.
والثاني: لا يجوز لأنه عقد معاوضة فلا يجوز من غير رضاهم.
وإن حكم الحاكم أن من أسلم منهم استرق ومن أقام على الكفر قتل جاز، ثم إن أراد الإمام أن يسترق من حكم بقتله لم يجز لأنه لم ينزل على هذا الشرط، وإن حكم عليهم بالقتل ثم رأي الإمام أن يمن عليهم جاز؛ لأن سعد بن معاذ حكم بقتل رجال بني قريظة.
وسأل ثابت بن قيس الأنصاري أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي. فوهبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
وإن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضا الغانمين لأنهم صاروا مالاً لهم.
وإن حكم بما لا يوافق الشرع مثل أن يحكم بقتل الصبيان والنسوان لم ينفذ لو استنزلهم على أن ما يقضي الله فيكم يقدمه لم يجز لأنهم لا يعرفون حكم الله عز وجل.
روي عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" (2) والله أعلم (3) .
باب فتح السواد
سواد العراق فتحت في زمن عمر عنوة، وصارت أراضيها للغانمين فاستطاب عمر رضى الله عنه أنفسهم بمال عوضهم عنها، وضرب عليها خراجاً معلوماً ولولا أن الغانمين ملكوها لم يكن عمر رضي الله عنه يعوضهم عنها.
وعند أبي حنيفة: يتخير الإمام في العقار المغنوم بين أن يقفها كما فعل عمر بسواد العراق، وبين أن يترك إلى الكفار كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعقار مكة، وبين أن يقسمها بين الغانمين كالمنقول.
وعندنا يقسم العقار كالمنقول (4) .
ومكة فتحت صلحاً، وفي سرد قصة الفتح بيان أنها مفتوحة صلحاً.
__________
(1) انظر: السنن الكبرى: كتاب السير - باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم 9/66.
(2) انظر: صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير - باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 3/1358.
(3) والقصة تقدمت في ص.
(4) انظر: كتاب السير من الحاوي 4/1167.(45/358)
وسواد العراق قسمها عمر بين الغانمين ثم عوضهم عنها باستطابة أنفسهم قال جرير بن عبد الله البجلي كانت بجيلة ربع الناس، فقسم لهم عمر ربع السواد فاستغلوا ثلاث سنين، قال جرير: "فقدمت على عمر، فقال عمر: لولا أني قاسم مسئوول لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوا على الناس ففعلوا، وإنما فعل عمر ذلك خوفاً من أن يشتغل الناس بالزراعة والحرث فيختل أمر الجهاد".
قال جرير: "فعاضني عمر من حقي نيفاً وثمانين ديناراً ومعي امرأة يقال لها أم كرز فقالت: شهد أبي القادسية، وأثبت سهمه ولا أسلمه حتى تملأ كفي دنانير وفمي لآلئ، وتركبني ناقة حمراء، ففعل عمر، فتركت حقها.
وحد سواد العراق من عبّادان إلى الموصل طولاً، ومن القادسية إلى حلوان عرضاً".
قال الساجي: "هو اثنان وثلاثون ألف ألف جريب". وقال أبو عبيد: "ستة وثلاثون ألف ألف جريب".
ولا يدخل فيه البصرة وإن كانت داخلة في حد السواد؛ لأنها كانت أرضاً سبخة أحياها عثمان بن أبي العاص وعتبة بن غزوان بعد الفتح.
واختلف أصحابنا فيما فعل عمر بأراضي السواد:
قال ابن سريج: "باعها من أهلها وما يؤخذ من الخراج ثمن منجم يؤدون كل سنة شيئاً بدليل أن من زمن عمر إلى زماننا تباع تلك الأراضي وتبتاع من غير إنكار أحد".
فعلى هذا لا يجوز أن يزاد على ما وضع عمر ولا ينقص.
وقال الأكثرون وقفها عمر على المسلمين والخراج المضروب عليها أجرة منجمة يؤدونها كل سنة نص عليه في سير الواقدي.
فيجوز أن يزاد عليها وينقص عنها. فإن قلنا إنه كان بيعاً فيجوز لأهلها بيعها ورهنها.
وإن قلنا كان وقفا لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا رهنها وإنما تنقل من يد إلى يد وعلى الوجهين يجوز إجارتها.
فإن قيل إذا جعلتموه بيعاً كيف يجوز البيع بثمن إلى آجال غير معلومة قلنا قد يجوز للإمام أن يفعل في أموال الكفار مالا يجوز في أموال المسلمين لما يرى فيه من المصلحة.(45/359)
فإن قلنا إنه وقف فهل يدخل المنازل في الوقف فيه وجهان:
أحدهما: يدخل جميعها في الوقف.
والثاني: لا يدخل فيه إلا المزارع، لأن دخولها في الوقف يؤدي إلى خرابها فأما الثمار التي فيها فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها فيه وجهان:
أحدهما: لا بل يأخذها الإمام فيبيعها ويصرفها في المصالح.
والثاني: يجوز لأن الحاجة تدعو إليه كما في المساقاة.
وما يؤخذ من هذه الأراضي فلمصالح المسلمين يجوز صرفها إلى أهل الفيء والصدقات والفقراء والأغنياء على ما يراه الإمام من الأهم فالأهم.
وروى الشعبي في قدر الخراج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف فجعل على كل جريب شعير درهمين، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب القصب والشجر ستة دراهم، وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب النخل عشرة دراهم، وعلى جريب الزيتون اثني عشر درهما.
وروى أبو مجلز أن عثمان بن حنيف فرض على جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية.
ولو أراد الإمام أن يقف أرضاً من الغنيمة اليوم بطيبة أنفس الغانمين أو بمال يرضيهم به كما فعل عمر رضي الله عنه يجوز، ومن لم يطب به نفساً فهو أحق بماله.
أما ما فتحت من أراضيهم صلحاً ففيه مسألتان:
أحدهما: أن يصالحهم على أن تكون الأراضي للكفار وهم يؤدون عن كل جريب في كل سنة كذا فهذا جائز (1) ، والمضروب عليهم جزية بشرط أن يكون المضروب عليهم قدراً يبلغ في حق كل حالم ديناراً فأكثر (2) ولا يؤخذ من أراضي الصبيان والنسوان والمجانين لأنه لا جزية عليهم.
وهل يجب أن يؤدوا ذلك عن الموات؟ نظر:
إن كانوا يمنعوننا عنه يجب، وإن كانوا لا يمنعوننا عنه فلا يجب ومن أحياه يملكه.
ولو أنهم أحيوا منه شيئاً بعد الصلح لا يجب عليهم أن يؤدوا منه إلا أن يشترط عليهم أن يؤدوا عما يحيوا فيجب. وإذا أسلموا يسقط عنهم ذلك بالإسلام.
__________
(1) انظر: كتاب السير من الحاوي 1191.
(2) أقل الجزية دينار لكل سنة. انظر: روضة الطالبين 10/312.(45/360)
ويجوز لهم بيع تلك الأراضي ورهنها لأنها ملكهم.
ولو اشترى مسلم أرضاً من تلك الأراضي فلا خراج عليه ومصرف ذلك المال مصرف الفيء لا حق فيه لأهل الصدقات.
المسألة الثانية: أن يصالحهم على أن تكون الأراضي للمسلمين وهم يسكنونها ويؤدون كل سنة عن كل جريب كذا فهذا جائز ويكون إجارة والمال المضروب عليهم أجرة الأرض، ويجب عليهم مع تلك الأجرة الجزية وتجوز تلك الأجرة، قلت أو كثرت، ولا يشترط أن يبلغ في حق كل حالم ديناراً، ويؤخذ من أراضي الصبيان والنسوان والمجانين ويؤخذ من الموات إن كانوا يمنعوننا عنه وإلا فلا. ولا تسقط تلك الأجرة عنهم بإسلامهم (1) ، وإذا وكلوا مسلماً بإعطائه يجوز.
وفي الصورة الأولى هو كالتوكيل بإعطاء الجزية، ومصرفه أيضاً مصرف الفيء ولا يجوز لهم بيعها ولا رهنها لأنهم لا يملكونها.
ولو استأجر مسلم أرضاً من هذه الأراضي يجوز في الصورتين جميعاً لأن الرقبة إن كانت لهم فيجوز لهم إجارتها وإن كانت للمسلمين فهم مكترون ويجوز6 الاكتراء7 من المكتري. والله أعلم 8.
__________
(1) انظر: كتاب السير من الحاوي 1191.(45/361)
تابع لكتاب السير من التهذيب للإمام البغوي
فهرس المراجع
-القرآن الكريم
كتب التفسير
1- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) :
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، الطبعة الثالثة، شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1388هـ - 1968م.
2- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني:
السيد محمود الألوسي، (الطبعة بدون) ، دار إحياء التراث العربي، (التاريخ بدون) .
3- زاد المسير في علم التفسير:
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق 1404هـ - 1984م.
4- النكت والعيون:
أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق: خضر محمد خضر، الطبعة الأولى، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بدولة الكويت، 1402هـ - 1982م
كتب القراءات وعلوم القرآن
1- أسباب النزول:
علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، (الطبعة بدون) ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1400هـ - 1980م.
2- التفسير والمفسرون:
د. محمد حسين الذهبي، الطبعة الثانية، 1396هـ -1976م.
كتب السنة
1- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل:
محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق 1399هـ - 1979م.
2- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير:
أحمد بن علي العسقلاني، عني بتصحيحه والتعليق عليه السيد عبد الله هاشم اليماني، (الطبعة بدون) ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1384هـ -1964م.
3- تهذيب ابن القيم:
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية.
تحقيق: أحمد محمد شاكر، محمد حامد الفقي، (الطبعة بدون) دار المعرفة للطباعة، والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
4- جامع الأصول في أحاديث الرسول:
مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، (الطبعة بدون) ، مكتبة الحلواني، مطبعة الملاح، مكتبة دار البيان، 1391هـ - 1971م.(45/362)
5- الدراية في تخريج أحاديث الهداية:
أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، صححه وعلق عليه: السيد عبد الله هاشم اليماني، (الطبعة بدون) ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
6- دلائل النبوة:
أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، وثق أصوله وخرّج أحاديثه د. عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، 1405هـ - 1985م.
7- سبل السلام شرح بلوغ المرام:
محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني، صححه وعلق عليه: محمد عبد العزيز الخولي، (الطبعة بدون) مكتبة عاطف، القاهرة، (التاريخ بدون) .
8- السنن الكبرى:
أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، حيدر آباد الدكن،1347هـ.
9- سنن أبي داود:
أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، (الطبعة بدون) دار إحياء السنة النبوية، (التاريخ بدون) .
10- سنن الترمذي وهو الجامع الصحيح:
أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق: عبد الله عبد اللطيف، الطبعة الثالثة، دار الفكر، 1398هـ - 1987م.
11- سنن الدارمي:
عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، (الطبعة بدون) ، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، (التاريخ بدون) .
12- السنن:
سعيد بن منصور الخراساني، حققه وعلق عليه: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى، الدار السلفية، بمباي، الهند، 1403هـ - 1982م.
13- سنن النسائي:
أحمد بن شعيب النسائي، (الطبعة بدون) ،دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون)
14- صحيح البخاري:
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، (الطبعة بدون) ، دار مطابع الشعب، (التاريخ بدون) .
15- صحيح سنن أبي داود:
محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، 1419هـ - 1998م.
16- صحيح سنن ابن ماجه:(45/363)
محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، مكتب التربية العربي لدول الخليج 1408هـ - 1988م.
17- صحيح مسلم:
أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (الطبعة بدون) دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
18- علل الحديث ومعرفة الرجال:
علي بن عبد الله المديني، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، دار الوعيى، حلب، 1400هـ - 1980م.
19- فتح الباري شرح صحيح البخاري:
أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، (التاريخ بدون) .
20- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال:
علاء الدين علي المتقي ابن حسام الدين الهندي، ضبطه وفسر غريبه: بكري حياني، صححه ووضع فهارسه، صفوة السقا، (الطبعة بدون) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1399هـ - 1979م.
21- مختصر سنن أبي داود:
أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، محمد حامد الفقي، (الطبعة بدون) دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان (التاريخ بدون) .
22- المراسيل:
أبو داود سليمان بن أشعث السجستاني، راجعه وفهرس أحاديثه د. يوسف المرعشلي، مطبوع مع سلسلة الذهب، الطبعة الأولى، دار المعرفة بيروت، لبنان، 1406هـ - 1986م.
23- المستدرك على الصحيحين:
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون)
24- مسند الإمام أحمد:
أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت، 1398هـ - 1987م.
25- مشكاة المصابيح:
محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، المكتب الاسلامي، بيروت، لبنان، دمشق، 1407هـ - 1985م.
26- مصابيح السنة:(45/364)
أبو محمد الحسين بن مسعود محمد الفراء البغوي، تحقيق: د. يوسف المرعشلي، محمد سليم جمال حمدي الذهبي، الطعبة الأولى، دار المعرفة، بيروت، لبنان، توزيع دار الباز، مكة المكرمة 1407هـ - 1987م.
27- معالم السنن:
أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، الطبعة الثانية، المكتبة العلمية، بيروت لبنان 1401هـ - 1981م.
28- المعجم الكبير:
أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، دار النشر، (التاريخ بدون) .
29- المنتقى من السنن المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أبو محمد عبد الله بن على بن الجارود، (الطبعة بدون) ، مطبعة الفجالة الجديدة، القاهرة، 1382هـ - 1963م.
30- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:
على بن سلطان بن محمد القاري، (الطبعة بدون) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
31- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان:
نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: محمد عبد الرزاق حمزة، (الطبعة بدون) ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان (التاريخ بدون)
32- الموطأ:
مالك بن أنس، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، (الطبعة بدون) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1406هـ-1985م.
33- هامش مختصر سنن أبي داود:
مطبوع مع معالم السنن، الطبعة الثانية، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان 1401هـ - 1981م.
كتب الفقه
(الفقه الحنفي)
1- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع:
أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، الطبعة الثانية دار الكتاب العربي، بيروت لبنان 1402هـ - 1982م.
2- البناية في شرح الهداية:
أبو محمد محمود بن أحمد العيني، تصحيح المولوي محمد عمر الشهير بناصر الاسلام الرامفوري الطبعة الأولى، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1400هـ - 1980م.
3- حاشية رد المحتار على الدار المختار شرح تنوير الأبصار:(45/365)
محمد أمين الشهير بابن عابدين، الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت، لبنان 1386هـ - 1966م.
4- الدر المنتقى في شرح الملتقى:
محمد بن على بن محمد الحصكفي، مطبوع بهامش مجمع الأنهر، (الطبعة بدون) دار إحياء التراث العربي، (التاريخ بدون)
5- الكتاب:
أبو الحسين أحمد بن محمد القدوري، مطبوع مع اللباب، (الطبعة بدون) المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون)
6- رؤوس المسائل:
جارالله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، الطبعة الأولى دار الشائر الإسلامية، بيروت، لبنان، 1407هـ - 1987م.
7- شرح أحمد شلبي على تبيين الحقائق:
أحمد شلبي، مطبوع مع تبيين الحقائق، الطبعة الأولى، المطبعة الكبرى الأميرية، ببولاق، مصر، 1313هـ.
8- شرح فتح القدير:
كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي، المعروف بابن الهمام الحنفي، الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1387هـ - 1977م.
9- الهداية شرح بداية المبتدي:
أبو الحسن على بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشواني، المرغينائي، الطبعة الأخيرة، المكتبة الإسلامية، (التاريخ بدون) .
الفقه الشافعي
أ- الكتب المخطوطة
1- بحر المذهب:
عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم (369) فقه شافعي.
2- البيان في فروع الشافعية:
أبو الخير يحي بن سالم المعروف بالعمراني، مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم (25) فقه شافعي.
3- كفاية النبيه في شرح التنبيه:
أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة، مخطوط مصور في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.
ب- الكتب المطبوعة
1- الإقناع في الفقه الشافعي:
أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، حققه وعلق عليه: خضر محمد خضر، الطبعة الأولى، دار العروبة للنشر والتوزيع، الكويت 1402هـ - 1982م
2- الأم:(45/366)
الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أشرف على طبعه وباشر تصحيحه، محمد زهري النجار، الطبعة الثانية، دار المعرفة اللطباعة والنشر، بيروت، لبنان 1393هـ - 1973م.
3- الأنوار لأعمال الأبرار:
يوسف الأردبيلي، الطبعة الأخيرة، مؤسسة الحبي، وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة، 1389هـ - 1969م.
4- تحفة المحتاج بشرح المنهاج:
أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي، مطبوع بهامش حواشي الشرواني وابن قاسم، (الطبعة بدون) ، دار صادر، بيروت، (التاريخ بدون) .
5- التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي:
أبو إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف الشيرازي، الطبعة الأخيرة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1370هـ - 1951م.
6- حاشية الشرواني على تحفة المحتاج:
عبد الحميد الشرواني، مطبوعة مع حاشية ابن قاسم، (الطبعة بدون) ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
7- حاشية القليوبي على شرح المحلي:
شهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي، مطبوعة مع حاشية عميرة (الطبعة بدون) ،دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
8- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء:
أبوبكر محمد بن أحمد الشاشي القفال، حققه وعلق عليه: د. ياسين أحمد إبراهيم درادكة، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، دار الأرقم عمان، 1400هـ - 1980م.
9- روضة الطالبين:
أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، (الطبعة بدون) ، المكتب الإسلامي، بيروت دمشق (التاريخ بدون) .
10- شرح روض الطالبين:
أبو يحيى زكريا الأنصاري، (الطبعة بدون) ، المكتبة الإسلامية، (التاريخ بدون) .
11- ... شرح المحلي على المنهاج:
جلال الدين محمد بن أحمد المحلي، مطبوع بهامش حاشيتي القليوبي وعميرة، (الطبعة بدون) ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
12- شرح منهج الطلاب:
زكريا الأنصاري، مطبوع مع حاشية البجيرمي، (الطبعة بدون) المكتبة الإسلامية، (الطبعة بدون) .(45/367)
13- الغاية القصوى في دراية الفتوى:
عبد الله بن عمر البيضاوي، دراسة وتحقيق وتعليق: د. علي محي الدين علي القرة داغي (الطبعة بدون) ، دار الإصلاح للطبع والنشر والتوزيع، السعودية الدمام، (التاريخ بدون)
14- فتح الجواد بشرح الإرشاد:
أحمد بن حجر الهيثمي، الطبعة الثانية، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، 1391هـ - 1971م.
15- فتح المنان:
محمد بن على بن محسن الشافعي، الطبعة الأولى، مؤسسة الكتب الثقافية ومكتبة الجيل الجديد، الجمهورية اليمنية، صنعاء، 1409هـ - 1988م.
16- فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب:
أبو يحيى زكريا الأنصاري، (الطبعة بدون) ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
17- كتاب السير من الحاوي:
أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردي تحقيق: محمد بن دريد المسعودي، رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة أم القرى 1403هـ - 1983م.
18- كفاية الأخيار في غاية الاختصار:
أبو بكر محمد الحسيني الحصني، (الطبعة بدون) ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
19- مختصر المزني:
أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، مطبوع مع الأم، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1393هـ - 1983م.
20- المسائل الفقهية التي انفرد بها الشافعي:
الحافظ ابن كثير، تحقيق د. إبراهيم صندقجي، الطبعة الأولى، مكتبة دار العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1406هـ - 1986م.
21- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج:
محمد الخطيب الشربيني، (الطبعة بدون) ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون)
22- منهاج الطالبين وعمدة المفتين:
أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، (الطبعة بدون) ، دار إحياء الكتب العربية، مصر، 1380هـ - 1960م.
23- المهذب في فقه الإمام الشافعي:(45/368)
أبو إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف الفيروزآبادي، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، توزيع دار الباز، مكة المكرمة 1379هـ - 1959م.
24- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج:
أبو العباس أحمد بن حمزة ابن شهاب الدين الرملي، (الطبعة بدون) ، المكتبة الإسلامية، لصاحبها الحاج ورياض الشيخ، (التاريخ بدون) .
25- الوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي:
محمد بن محمد بن محمد الغزالي، (الطبعة بدون) ، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، لبنان، 1399هـ-1979م.
كتب أصول الفقه
1- التمهيد في أصول الفقه:
محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الكلوذاني، دراسة وتحقيق: محمد ابن علي إبراهيم، الطبعة الأولى، مركز البحوث العلمي، مكة المكرمة، 1406هـ - 1985م.
2- جمع الجوامع:
تاج الدين عبد الوهاب ابن السبكي، مطبوع مع حاشية البناني، (الطبعة بدون) دار الفكر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
3- شرح الكوكب المنير:
أبو البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي المعروف بابن النجار، الطبعة الأولى، مركز البحث العلمي، مكة المكرمة.
4- الفروق:
شهاب الدين القرافي، (الطبعة بدون) ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
كتب اللغة
1- تصحيح التنبيه:
أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، مطبوع بهامش التنبيه، الطبعة الأخيرة، شركة مكتبة مصطفى البابي، الحلبي، مصر، 1370هـ -1951م.
2- حلية الفقهاء:
أبو الحسين أحمد بن فارس، بن زكريا الرازي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى، الشركة المتحدة للتوزيع، بيروت، 1403هـ - 1983م.
3- الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي:
يوسف بن حسن بن عبد الهادي الحنبلي المعروف بابن المبرد، تحقيق: د. رضوان مختار بن غربية، الطبعة الأولى، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، 1411هـ - 1991م.
4- لسان العرب:
أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، (الطبعة بدون) ، دار صادر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .(45/369)
5- مختار الصحاح:
محمد بن أبي بكر الرازي، (الطبعة بدون) ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1401هـ - 1981م.
6- المصباح المنير:
أحمد بن علي المقري الفيومي، صححه: مصطفى السقا، (الطبعة بدون) ، دار الفكر، بيروت، لبنان (التاريخ بدون) .
7- معجم لغة الفقهاء:
د. محمد رواس قلعجي، د. حامد صادق قنيبي، الطبعة الأولى، دار النفائس، بيروت، 1405هـ - 1985م.
8- النظم المستعذب في شرح غريب المهذب:
محمد بن أحمد بن بطال الركبي، مطبوع مع كتاب المهذب، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، 1397هـ - 1959م.
9- النهاية في غريب الحديث والأثر:
أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير، تحقيق: محمود محمد الطناحي، طاهر أحمد الزاوي، الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1399هـ - 1979م.
كتب التراجم والطبقات والسير والتاريخ
1- أخبار أبي حنيفة وأصحابه:
أبو عبد الله حسين بن على الصيمري، الطبعة الثانية دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1976م.
2- أخبار القضاة:
محمد بن خلف بن حيان المعروف بوكيع، (الطبعة بدون) ، عالم الكتب، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
3- الاستيعاب:
ابن عبد البر القرطبي، مطبوع مع الإصابة، (الطبعة بدون) ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
4- أسد الغابة في معرفة الصحابة:
أبو الحسن علي بن محمد الجزري (الطبعة بدون) ،دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون)
5- الإصابة في تمييز الصحابة:
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (الطبعة بدون) ، دار الكتاب العربي، بيروت، (التاريخ بدون) .
6- إعجام الأعلام:
محمود مصطفى، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان 1403هـ - 1983م
7- الأعلام:
خير الدين الزركلي، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1980م
8- الإكمال:(45/370)
الأمير الحافظ ابن ماكولا، تحقيق، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (الطبعة بدون) ، نشرة محمد أمين دمج، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
9- الأنساب:
أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، الطبعة الثانية، نشره محمد أمين دمج، بيروت، لبنان، 1400هـ - 1980م.
10- الأنوار في شمائل النبي المختار:
محي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: الشيخ إبراهيم اليعقوبي، الطبعة الأولى، دار الضياء للطباعة والنشر، بيروت، 1409هـ.
11- البداية والنهاية:
الحافظ ابن كثير، الطبعة الثالثة، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان، 1979م
12- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة:
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية دار الفكر، بيروت - لبنان 1399هـ -1979م.
13- التاريخ:
يحيى بن معين، تحقيق: د. أحمد محمد نور سيف، الطبعة الأولى، مركز البحث العلمي، مكة المكرمة، 1399هـ - 1979م.
14- تاريخ الأدب العربي:
كارل بروكلمان، الطبعة الثانية، دار المعارف، مصر، القاهرة.
15- تاريخ أسماء الثقات:
أبو حفص عمر أحمد بن عثمان المعروف بابن شاهين، حققه وعلق عليه: د. عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان 1406هـ - 1986م.
16- تاريخ الإسلام:
شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1407هـ - 1987م.
17- تاريخ الإسلام - المغازي:
شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق د. عمر عبد السلام التدمري، الطبعة الثانية، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1410هـ - 1990م.
18- تاريخ الأمم والملوك:
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار سويدان، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
19- تاريخ الثقات:(45/371)
أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1405هـ - 1984م.
20- تاريخ جرحان:
السهمي، الطبعة الثالثة، عالم الكتب، بيروت، لبنان، 1401هـ - 1981م.
21- التاريخ الكبير:
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، (الطبعة بدون) ، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، 1406هـ - 1986م.
22- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه:
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، (الطبعة بدون) ، المكتبة العلمية، بيروت - لبنان، (التاريخ بدون)
23- التبيين في أنساب القرشيين:
24- تتمة المختصر في أخبار البشر:
زين الدين عمر بن الوردي، تحقيق: أحمد رفعت البدراوي، الطبعة الأولى، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1389هـ - 1970م.
25- تجريد أسماء الصحابة:
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، (الطبعة بدون) ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
26- التجبير في المعجم الكبير:
أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني، تحقيق: منيره ناجي سالم، (الطبعة بدون) ، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1395هـ
27- تذكرة الحفاظ:
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الرابعة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1388هـ - 1968م.
28- تقريب التهذيب:
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1395هـ - 1975م.
29- التقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد:
أبو بكر محمد بن عبد الغني الشهير بابن نقطة، (الطبعة بدون) ، دار الحديث للطباعة والنشر، بيروت، لبنان 147هـ - 1986م.
30- تهذيب الأسماء واللغات:
أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، (الطبعة بدون) ،دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
31- تهذيب تاريخ دمشق:(45/372)
علي بن الحسين بن هبة الله المعروف بابن عساكر، هذبه ورتبه: عبد القادر بدران، الطبعة الثانية، دار المسيرة، بيروت 1399هـ - 1979م.
32- تهذيب التهذيب:
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن، 1325.
33- تهذيب الكمال في أسماء الرجال:
أبو الحجاج يوسف المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1403هـ - 1983م.
34- الجرح والتعديل:
عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1371هـ - 1952م.
35- الجمع بين رجال الصحيحين:
أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي، المعروف بابن القيراني، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1405هـ.
36- جمهرة أنساب العرب:
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1403هـ - 1983م.
37- الجواهر المضية في طبقات الحنفية:
أبو محمد عبد القادر بن محمد القرشي، تحقيق: د. عبد الفتاح محمد الحلو، (الطبعة بدون) ، دار العلوم، الرياض، 1398هـ - 1978م.
38- حلية الأولياء:
أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني (الطبعة بدون) ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، (التاريخ بدون) .
39- خزانة الأدب:
عبد القادر البغدادي، تحقيق: عبد السلام هارون، (الطبعة بدون) ، مكتبة الخانجي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، القاهرة، 1397هـ - 1977م.
40- خلاصة تهذيب التهذيب:
صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي، تحقيق: محمود عبد الوهاب فايد، (الطبعة بدون) ، مكتبة القاهرة، القاهرة، (التاريخ بدون) .
41- الديباج المذهب:
إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري، (الطبعة بدون) دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ن (التاريخ بدون) .
42- الرسالة المستطرفة:(45/373)
محمد بن جعفر الكتاني، (الطبعة بدون) ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة ... (التاريخ بدون) .
43- الروض الأنف:
أبو عبد الله الحثعمي السهيلي، علق عليه وضبطه: طه عبد الرؤوف سعد، (الطبعة بدون) ،دار الفكر، (التاريخ بدون) .
44- الروض المعطار في خبر الأقطار:
محمد بن عبد المنعم الحميري، تحقيق: د. إحسان عباس، الطبعة الثانية، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان 1984م
45- الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة:
يحيى بن أبي بكر العامري اليمني، الطبعة الأولىبيروت، لبنان، 1974م.
46- سمط اللآلي في شرح أمالي القالي:
أبو عبيد البكري الأونبي، تحقيق: عبد العزيز الميمني، الطبعة الثانية، دار الحديث للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1404هـ،1984م.
47- سير أعلام البنلاء:
شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: جماعة من العلماء الطبعة الأولى، مؤسسة، بيروت، لبنان، 1405هـ -1984م.
48- السير والمغازي:
محمد بن إسحاق الطلبي، تحقيق: د. سهيل زكار، الطبعة الأولى دار الفكر، بيوت لبنان، 1398هـ - 1978م.
49- السيرة النبوية:
ابن هشام، قدم لها وعلق عليها: طه عبد الرؤوف سعد، (الطبعة بدون) مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، القاهرة، 1391م.
50- شذرات الذهب في أخبار من ذهب:
أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، (الطبعة بدون) ، دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
51- صفة الصفوة:
جمال الدين أبن الجوزي، حققه وعلق عليه: محمود فاخوري، خرج أحاديثه: د. محمد ابن رواس قلعجي، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1399هـ - 1979م.
52- الطبقات:
أبو عمرو خليفة بن خياط شباب العصفري، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، الطبقة الثانية، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، 1402هـ -1982م.
53- طبقات الحفاظ:(45/374)
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، 1403هـ - 1983م.
54- الطبقات السنية في تراجم الحنفية:
تقي الدين بن عبد القادر التميمي الداري، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، (الطبعة بدون) ، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1390هـ - 1970م.
55- طبقات الشافعية:
أبو بكر بن أحمد بن محمد ابن قاضي شهبة، صححه وعلق عليه: د. عبد العليم خان، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1388هـ -1978م.
56- طبقات الشافعية:
جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي، تحقيق: عبد الله الجبوري، (الطبعة بدون) ، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض 1401هـ -1981م.
57- طبقات الشافعية:
أبو بكر هداية الله الحسيني، حققه وعلق عليه: عادل نويهض، الطبقة الثانية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1979م.
58- طبقات الشافعية:
أبو عاصم محمد بن أحمد العبادي، (الطبعة بدون) ، ليدن، 1964م.
59- طبقات الشافعية الكبرى:
تاج الدين بن تقي الدين السبكي، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، (التاريخ بدون) .
60- طبقات الفقهاء:
أبو إسحاق الشيرازي، تصحيح ومراجعة: خليل الميس، (الطبعة بدون) ، دار القلم، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
61- الطبقات الكبرى:
محمد بن سعد (الطبعة بدون) ، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1398هـ - 1978م.
62- طبقات المفسرين:
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1403هـ-1983م.
63- طبقات المفسرين:
محمد بن علي بن أحمد الداودي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، توزيع دار الباز.
64- العبر في خبر من غبر:(45/375)
الحافظ الذهبي، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، 1405هـ - 1985م.
65- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين:
محمد بن أحمد الحسيني الفاسي المكي، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406هـ - 1986م.
66- غاية النهاية في طبقات القراء:
شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن الجزري، عني بنشره ج. برجستراسر، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1400هـ - 1980م.
67- الفتح المبين في طبقات الأصوليين:
عبد الله مصطفى المراغي، الطبعة الثانية، نشرة، محمد أمين دمج، بيروت، لبنان 1394هـ - 1974م.
68- الفهرست:
ابن النديم، (الطبعة بدون) ،دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
69- الفوائد البهية في تراجم الحنفية:
أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، صححه وعلق عليه: محمد بدر الدين أبوفراس النعسائي، (الطبعة بدون) ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان (التاريخ بدون) .
70- فوات الوفيات:
محمد بن شاكر الكتبي، تحقيق: د. إحسان عباس، الطبعة بدون، دار الثقافة، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
71- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة:
أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1403هـ - 1983م.
72- الكامل في التاريخ:
أبو الحسن علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري، (الطبعة بدون) ، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1398هـ - 1978م.
73- كشف الظنون:
حاجي خليفة، (الطبعة بدون) دار الفكر، بيروت لبنان، 1402هـ - 1982م.
74- الكواكب النيرات:
أبو البركات محمد بن أحمد المعروف بابن الكيال، تحقيق: عبد القيوم عبد رب النبي، الطبعة الأولى، مركز البحث العلمي، بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1401هـ - 1981م.
75- اللباب في تهذيب الأنساب:(45/376)
عز الدين ابن الأثير الجزري، (الطبعة بدون) ،دار صادر، بيروت، 1400 ... هـ - 1980م.
76- المحبر:
أبو جعفر محمد بن حبيب، (الطبعة بدون) ، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (التاريخ بدون) .
77- مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان:
عبد الله بن أسعد على اليافعي، تحقيق: عبد الله الجبوري، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ - 1984م.
78- المزهر في علوم اللغة وأنواعها:
جلال الدين السيوطي، شرحه وضبطه: محمد أحمد جاد المولى، محمد أبو الفضل إبراهيم علي محمد البجاوي، (الطبعة بدون) دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، مصر، القاهرة، (التاريخ بدون) .
79- مشاهير علماء الأمصار:
محمد بن حبان البستي، عني بتصحيحه: م فلايشمهر، (الطبعة بدون) ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
80- المعارف:
أبو محمد عبد الله بن مسلم، تحقيق: د. ثروت عكاشة، الطبعة الرابعة، دار المعارف القاهرة، (التاريخ بدون) .
81- معجم الشعراء:
أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1402هـ - 1982م.
82- معجم المؤلفين:
عمر رضا كحالة، (الطبعة بدون) ، مكتبة المثنى، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، (التاريخ بدون) .
83- معرفة القراء الكبار:
شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: بشار عواد معروف، عيب، الأرناؤوط، صالح مهدي عباس، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1404هـ - 1984م.
84- المعرفة والتاريخ:
أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، (الطبعة بدون) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، (التاريخ بدون) .
85- مفتاح السعادة ومصباح السيادة:
أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبري زادة، الطبعة الثانية، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، 1397هـ - 1977م.
86- مناقب عمر بن الخطاب:(45/377)
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، تحقيق: د. زينب إبراهيم القاروط، (الطبعة بدون) ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، (التاريخ بدون) .
87- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم:
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، الطبعة الأولى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1358هـ.
88- منهاج اليقين في شرح أدب الدنيا والدين:
أويس وفابن محمد بن أحمد الأرزنجاني، (الطبعة بدون) ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، توزيع الباز، مكة المكرمة، 1400هـ - 1980م.
89- ميزان الاعتدال في نقد الرجال:
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، (الطبعة بدون) ، دار المعروفة، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
90- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة:
أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، (الطبعة بدون) ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، (التاريخ بدون) .
91- نزهة الألباء في طبقات الأدباء:
أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، تحقيق: د. إبراهيم السامرائي، الطبعة الثالثة، مكتبة المنار، الأردن، 1405هـ -1985م.
92- هدية العارفين في اسماء المؤلفين وآثار المصنفين في كشف الظنون:
إسماعيل باشا، (الطبعة بدون) ، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1402هـ - 1989م.
93- الوافي بالوفيات:
صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، اعتناء: هلموت ريتر، (الطبعة بدون) ، رانز ستاينر يفسبادن، 1381هـ -1962م.
94- وفيات الأعيان وأنباء الزمان:
أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، تحقيق: د. إحسان عباس، (الطبعة بدون) ،دار صادر، بيروت، 1398هـ - 1987م.
كتب معاجم البلدان
1- مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع:(45/378)
صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، تحقيق وتعليق: علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1373هـ - 1954م.
2- معجم البلدان:
ياقوت الحموي، (الطبعة بدون) ،دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان 1399هـ - 1979م.
3- معجم ما استعجم:
عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي، تحقيق: مصطفى السقا، الطبعة الأولى، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1364هـ -1945م.
كتب مختلفة
4- الإيضاح والتبيان في معرفة الكيال والميزان:
أبو العباس نجم الدين بن الرفعة، حققه وقدم له: د. محمد إسماعيل الخاروف، (الطبعة بدون) ، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1400هـ - 1980م.
5- دائرة المعارف الإسلامية:
يصدرها باللغة العربية: أحمد الششتاوي، إبراهيم زكي خورشيد، عبد الحميد يونس، (الطبعة بدون) ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، (التاريخ بدون) .
6- المقادير في الفقه الإسلامي في ضوء التسميات العصرية:
د. فكري أحمد عكاز، الطبعة الأولى، (دار النشر بدون) ، 1403هـ - 1983م.(45/379)
من الهدي النبوي في تربية البنات
إعداد:
د. محمد بن يوسف عفيفي
الأستاذ المساعد في كلية الدعوة بالجامعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد الأسوة الحسنة وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد:
كانت ولا تزال قضية تربية البنات تشكل حيزاً فكرياً واجتماعياً، فقد كانت البنت في الجاهلية مثار قلق وإزعاج للأبوين، وكم كانت تظلم في سبيلها الأم متهمة بأنها السبب في إنجاب البنات.
والحديث عن تربية البنات حديث متجدد لا ينتهي؛ لأن البنت بحكم فطرتها وطبيعتها تحتاج إلى رعاية خاصة إعداداً للدور الكبير الذي ينتظرها في الحياة: أن تكون زوجة صالحة وأماً ناجحة في المستقبل، وخير النساء من تعتني بزوجها وأولادها، فقد ورد في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة –رضي الله عنه– قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" [1] .
وفي هذا يقول محمد نور سويد: "للمرأة دورٌ تاريخي في حياة المجتمعات فقد تنتج ولداً مصلحاً للمجتمع يقود الأمة إلى الخير والقوة" [2] .
ولكن كيف نربي بناتنا ونعدهن لهذه المهمة الكبرى؟ الجواب بلا شك أنه باتباع هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في تربية بناته -رضي الله عنهن-.
وفي هذا البحث سوف يتناول الباحث الحديث عن جوانب من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في تربيته لبناته –رضي الله عنهن- لعل القارئ يجد فيه الفائدة والعون على تربية بناته.
وقد تضمن البحث الموضوعات التالية:
أولاً: (التعريف بالبحث) ويشتمل على ما يلي:
1- هدف البحث.
2- أهمية البحث.
3- سبب اختيار البحث.
4- حدود البحث.
5- منهج البحث.
6- مصطلحات البحث.
ثانياً: الدراسات السابقة.
ثالثاً: الإطار النظري.
رابعاً: تربية النبي –صلى الله عليه وسلم- لبناته في مرحلة الطفولة.(45/380)
خامساً: رعاية النبي –صلى الله عليه وسلم- لبناته في مرحلة الصبا.
سادساً: تزويج النبي –صلى الله عليه وسلم- لبناته.
سابعاً: رعاية النبي –صلى الله عليه وسلم- لبناته بعد الزواج.
ـ نتائج البحث.
ـ التوصيات.
ـ المراجع.
أولاً – التعريف بالبحث:
1- هدف البحث:
يهدف البحث إلى التعريف بجوانب من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في تربية البنات من خلال تتبع منهجه –صلى الله عليه وسلم- في تربية بناته -رضي الله عنهن-
2- أهمية البحث:
سوف يعين البحث –إن شاء الله– الآباء والأمهات على تربية بناتهم وفقاً للهدي النبويّ، والوالدان في حاجة دائمة إلى ما يعينهم ويرشدهم في تربية أبنائهم وبناتهم.
وهناك الكثير الذي كُتب عن تربية الأولاد سواء المؤلف منه، أو المترجم ولكننا بحاجة ماسَّة إلى القراءة، والتدبر في سيرة النبي –صلى الله عليه وسلم- والاستفادة منها واتباع ما جاء فيها في جميع شؤوننا حتى لا نتخبط وتفترق بنا السبل.
3- سبب اختيار البحث:
كثيراً ما يعترض الآباء والأمهات بعض المشاكل في تربية الأبناء فيقف الوالدان أحياناً موقف الحائر بحثاً عن أنجح الأساليب التربوية التي تعينهم على تخطي هذه المشكلة، والحل قريب منهم جداً إنه في اتباع هدى النبي –صلى الله عليه وسلم- في التربية بل في كافة الأمور.
وقد اختار الباحث الكتابة عن تربية البنات؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان أباً لبنات، رباهن طيلة حياته، وعاش معهن لحظة لحظة في جميع مراحل حياتهن من الولادة إلى الوفاة فكل أولاده توفى قبله إلا فاطمة –رضي الله عنها- فإنها تأخرت بعده بستة أشهر [3] .
4-حدود البحث:
سوف يتناول البحث الحديث عن جوانب من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في تربيته لبناته منذ مولدهن إلى وفاتهن على النحو التالي:
ـ جوانب من رعايته –صلى الله عليه وسلم- لبناته في مرحلة الطفولة.
ـ جوانب من رعايته –صلى الله عليه وسلم- لبناته في مرحلة الصبا.(45/381)
ـ جوانب من هديه –صلى الله عليه وسلم- في تزويج بناته.
ـ جوانب من هديه –صلى الله عليه وسلم- في رعايته لبناته بعد الزواج.
5- منهج البحث:
سوف يتبع الباحث المنهج التاريخي في التعرف على جوانب من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في تربيته لبناته –رضي الله عنهن- ومحاولة استنباط الفوائد التربوية مما كتب عن سيرة بنات النبي –صلى الله عليه وسلم- والتعليق عليها، وبيان تطبيقاتها التربوية.
6- مصطلحات البحث:
الهَدِيُّ: الطريقة يقال ما أحسن هَدِيَّةَ فلان وهَدْيَهُ أي طريقته [4] .
تربية: كلمة مشتقة من (الرب) الراء والباء المضعفة وتعني رَبَّاه وأحسَنَ القيام عليه جاء في لسان العرب رَبَّ ولَدَه والصَّبِيَّ يَرِبَّه بمعنى رَبَّاه وأحسَنَ القيام عليه حتى يفارق الطفُّوُلِيةَ سواء كان ابنه أو لم يكن، والصَّبي مَرْبُوبٌ ورَبِيبٌ [5]
ويقصد بالتربية في هذا البحث طرق الرعاية والتنشئة من الطفولة حتى الكبر.
مرحلة الطفولة: هي مرحلة من مراحل عمر الإنسان تبدأ من سن سنتين حتى قرب سن البلوغ وقسمها بعض علماء التربية إلى أقسام هي [6] :
الطفولة المبكرة من 2-6 سنوات.
الطفولة المتوسطة من 6-9سنوات.
الطفولة المتأخرة من 9-12 سنة.
وفي هذا البحث يقصد بها المرحلة من العمر من الولادة إلى قبيل التكليف وتحمل المسؤولية.
مرحلة الصبا: وهي المرحلة من العمر التي تعقب مرحلة الطفولة وتعرف عند علماء التربية بالمراهقة "التي تعني التدرج نحو النضج البدني، والجنسي والعقلي، والانفعالي، والاجتماعي" [7]
ثانياً: الدراسات السابقة:(45/382)
معظم الأبحاث التي كُتبت في تربية الأولاد تحدثت عن تربية الولد والبنت على حد سواء، ولم ينفرد بالحديث عن تربية البنات إلاَّ القليل جداً ولابأس في ذلك لأن البنت والولد أمانة لدى الوالدين وسوف يسألان عنهما يوم القيامة؛ لذا أوجب عليهما الإسلام الاهتمام بذريتهما ذكوراً وإناثاً وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-: "ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلقه، فإنه ينشأ عما عوّده المربي في صغره من حر وغضب ولجاج وعجلة وخفة مع هواه، وطيش وحدة وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولابد يوماً ما، ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها" [8] .
وفيما يلي يستعرض الباحث بعض الدراسات السابقة التي استفاد منها ويبين كيف تلتقي هذه الدراسات ببحثه:
1ـ بحث بعنوان: (البنت المسلمة بين الواقع والتشريع) [9] .
يرى الباحث أن الحديث عن المرأة لا ينتهي وأن هناك من يثيره من فترة إلى أخرى، وأن النظرة لهذا الموضوع متعددة الاتجاهات:
الاتجاه الأول: ينظر إلى موضوع المرأة نظرة شرعية وفقاً لما جاء في الكتاب والسنة فهو يحكم الوحي الإلهي ويعتبر ما خالفه فساداً وخسراناً مبيناً للبشرية الرجل والمرأة على حد السواء.
الاتجاه الثاني: يحكم في المرأة العادة ويعتبر اتباع هذه العادات والتقاليد الموروثة ولاء للسابقين.
الاتجاه الثالث: هو الاتجاه الذي انبهر بالحضارة المادية في كل شيىء فأصبحت المرأة تعيش فيه حياة غربية.(45/383)
وعالج الباحث موضوع المرأة بالحديث عن البنت بذكر بعض المسلمات عنها وهي: أن البنت إنسان كالذكر في إنسانيتها وأن الشرع جاء ليخاطب الذكر والأنثى على حد السواء، وأن احترامها كإنسان يوجب علينا العناية بها في مراحل الطفولة والصبا عناية شاملة لجميع الجوانب الجسمية، والخلقية، والفكرية.
ثم بيَّن الباحث حال المرأة قبل الإسلام كيف أنها سلبت جميع حقوقها بل وصل الحال بالعرب قبل الإسلام بدفنها حية خشية العار، ولما جاء الإسلام غير النظرة إلى المرأة وحفظ لها حقوقها في: الإرث قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [10] .
ومنحها حق الموافقة على الزوج الذي سوف ترتبط به، ووضع الإسلام الولاية بيد وليها بدون تعسف أو تسلط فمهمة الولي مساعدتها على حسن الاختيار وليس له الحق في قسرها على الزواج بمن لا ترضى أن تقترن به، بل تستأذن قبل الزواج حتى تقام أسرتها على أساس سليم قوي.
وفرض عليها الإسلام الحجاب وأمرها بالعفة والستر. وبيّن حال بعض النساء من ترك للحجاب والقبول بما ارتضاه الغرب للمرأة من أن تكون أداة للإغراء ووسيلة لتسويق السلع.
ويري الباحث أن السبيل الوحيد إلى صيانة البنت وحفظها: هو التمسك بالدين وتطبيقه في جميع جوانب الحياة.
وهذه الدراسة تتفق مع الدراسة الحالية في بيان أهمية التمسك بدين الله، وتربية البنات وفقاً لما أراد الله عز وجل، وجاء به نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم-، وأن تُمنح البنت جميع حقوقها التي كفلها لها الإسلام.
2ـ بحث بعنوان: (دور الأم في تربية الطفل المسلم) [11] .(45/384)
بدأت الباحثة الحديث عن حال المرأة في العصور السابقة للإسلام وكيف أنها كانت: عند الهنود لا شيىء يذكر وأن أحقر الأشياء أفضل منها، وفي شريعة حمورابي كانت المرأة تعد من الماشية، وعند اليونانيين أعلن أرسطو أنه ليس لديها استعداداً عقلياً يُعتز به، وفي اليهودية المحرفة اعتبرت المرأة في أيام الحيض نجسة تحبس في البيت، وبالغ رجال الكنيسة في إهدار شأنها والحط من قيمتها وحملوها مسئولية خراب المجتمعات وانتشار الفواحش والمنكرات، وفي الجاهلية العربية اعتبرت المرأة من سقط المتاع الذي يورث وكانت تدفن حية؛ خشية العار ثم بينت الباحثة مكانة المرأة التي خصها بها الإسلام.
وفي الفصل الرابع من هذه الرسالة تحدثت الباحثة عن طريقة الأم في تربية الطفل المسلم، وأن مسئولية التربية في مرحلة الطفولة المبكرة تقع على الأم فهي المسؤولة عن نظافته النظافة التي تريح أعصابه وتوفر له الاستقرار النفسي، وأنها قدوة متحركة في أرجاء البيت فهي بسلوكها وحسن خلقها تجعل أطفالها ينشئون على خصال الخير كالصدق والأمانة فعليها تقع مسئولية عظيمة في ذلك، إذ أن علاقتها تزداد قوة وتنمو يوماً بعد يوم مع طفلها الذي يعتبرها الشخص الوحيد في حياته الذي يتعامل معه لا سيما في سنواته الأولى.
وهذه الدراسة تتفق مع الدراسة الحالية في التأكيد على أن الإسلام حفظ للمرأة حقوقها، وأن دور الأم في التربية دور هام وبالذات في مرحلة الطفولة المبكرة، وأنها قدوة لأولادها فلابد أن تكون قدوة حسنة.
3 ـ دراسة بعنوان: (مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة) [12](45/385)
هذه الرسالة نافعة تضمنت الكثير من مبادئ التربية الإسلامية، في المبحث الخامس منها تكلم الباحث عن دور الأم في التربية وأن لها وظيفة هامة في التربية بالنسبة للطفل الصغير خاصة، وأن بناءها الجسمي والنفسي مهيأ لتحمل أعباء التربية والحضانة والاعتناء بالطفل، فلا يستطيع الرجل أن يسد مكان الأم ودورها في التربية، لأن دورها لا يقتصر فقط على العناية بمأكله، ومشربه، وملبسه بل أن دورها الأكبر والأعظم هو ذلك الحب المتدفق من قلبها على الولد، وذلك الحنان الذي يشعر الولد فيه بالأمن والسعادة فينمو بدنه وعقله ونفسه نمواً متكاملاً.
وهذا ما أكدته الدراسة الحالية من أن بنات النبي –صلى الله عليه وسلم- حظين بحب وعطف ورعاية أمهن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد-رضي الله عنها- فنشئن نشأة متميزة؛ نظراً لما اتصفت به أمهن خديجة من حكمة ورجاحة عقل.
4 ـ مقالات في تربية البنات:
أ – مكانة البنات [13] .
بيّن الكاتب كيف كان حال البنت قبل الإسلام وأنها كانت تعتبر نوعاً من البلاء الذي يستحق التخلص منه فكانوا يقولون: "دفن البنات من المكرمات"، ثم تحدث عما كانت تلقاه المرأة من سوء المعاملة بسبب إنجاب البنات فقد تهجر ويُغضب عليها لا لشييء إلاّ لأنها أنجبت بنتاً فقد حدث أن أبا حمزة الضبي هجر زوجته لأنها ولدت بنتاً ثم مر ذات يوم على بيتها فسمعها تنشد لبنتها وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا
تا الله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
ونحن كا لأرض لزارعينا
وقد تغيرت هذه النظرة في الإسلام فحثَّ على حسن رعاية البنت وتربيتها ووعد من يحسن إليها بالخير الكثير والثواب الجزيل من الله –كما ورد في مقدمة البحث-
وأجمل الكاتب التعاليم الإسلامية في تربية البنات فيما يلي:
1- أن يحسن الإنسان تربية البنت وتأديبها وتعليمها.
2- أن ينفق عليها ويؤدي إليها حقوقها.(45/386)
3- أن لا يفضل عليها أحداً من البنين.
4- أن يلاحظ رقتها فلا يخشن معها في المعاملة.
5- أن يحسن اختيار الزوج لها حتى يسعدها.
6- أن لا يرغمها على التزوج بمن تكرهه.
7- أن يوّدها ويصلها بعد الزواج.
وهذا المقال يؤيد ما توصل إليه الباحث من أنه يجب الإحسان إلى البنت بحسن التربية والرعاية، واختيار الزوج الكفء لها، وأن لا يُرغمها وليها على الزواج بمن تكره وأن يوّدها والدها بعد الزواج.
ب- مقال بعنوان: (كيف نربي بناتنا على الحجاب؟) [14] :
يهدف هذا المقال إلى وضع أسلوب عملي يجعل البنت ترتدي الحجاب عن رغبة طمعاً في طاعة الله عز وجل وثواب الآخرة وليس لبسه لعادة اجتماعية فقط.
ويري الكاتب أن الأسلوب الأمثل في تربية البنت على الحجاب هو تعويدها منذ الصغر (قبل البلوغ) على لبسه قياساً على أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بأمر الأولاد بالصلاة وهم أبناء سبع سنين؛ لأن الطفولة المتأخرة من سن (7-11) سنة تسمى مرحلة الطفولة الهادئة فيها يتقبل الطفل من والديه. أما عندما يدخلون مرحلة البلوغ والمراهقة فإنهم يبحثون عن مثل أعلى خارج البيت ويجدونه غالباً في مجموعة الرفاق في المدرسة.
ثم تكلم عن وسائل غرس فضيلة الحجاب وهي:
1- أن تُلقن البنت منذ سن الرابعة أو الخامسة حب الله عز وجل وحب رسوله –صلى الله عليه وسلم-، ووجوب طاعة الله وطاعة رسوله –صلى الله عليه وسلم- رغبةً في الأجر والثواب. وكذلك حب الوالدين ووجوب طاعتهما طمعاً في ثواب الله فقط وجنته، ولقص القصص عليهن أثر ممتاز في غرس هذه القيم في نفوسهن.
2- أن يُعوّد الوالدين الأطفال على ستر العورة منذ الرابعة من العمر.
3- أن تؤمر الطفلة منذ الخامسة من عمرها على تغطية شعرها كلما خرجت من البيت كي تعتاد على ذلك.
4- أن ترغب البنت في الحجاب منذ السادسة ثم تؤمر بالحجاب الكامل في السابعة.(45/387)
5- أن تُعوّد الطفلة منذ السابعة كذلك على عدم الاختلاط بالذكور من غير محارمها، وأفضل وسيلة لذلك كله القدوة الحسنة من أمها وأختها الكبرى، وتمنع من الاختلاط مع أقاربها الذكور كأبناء الخالة وأبناء العم وغيرهم.
6- أن تلقن البنت منذ السابعة من عمرها آيات الحجاب، وكذلك الأحاديث الشريفة الواردة في الحجاب ويبين لها مضار التبرج والاختلاط.
وأكد في نهاية المقال على أهمية التربية الإسلامية للبنت لأنها الخطوة الأساسية في بناء المجتمع السليم.
ويلتقي هذا المقال مع البحث الحالي في أهمية أن تكون الأم، والأخت الكبرى قدوة للبنت. فقد كانت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها– قدوة لبناتها، وكانت ابنتها الكبرى زينب –رضي الله عنها– قدوة لأخواتها. وما يؤكده الكاتب في نهاية مقاله هو ما يؤكده الباحث في هذا البحث من أن التربية الإسلامية للبنت هي الخطوة الأساسية في بناء المجتمع السليم، وأن هذه التربية تبدأ من الصغر حتى تعتاد عليها البنت.
ثالثاً - الإطار النظري للبحث:
أجمع المؤرخون أن للنبي –صلى الله عليه وسلم- أربع بنات كلهن أدركن الإسلام، وهاجرن هن: (فاطمة عليها السلام: ولدت قبل النبوة بخمس سنين، وزينب تزوجها العاص بن الربيع -رضي الله عنه-، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان –رضي الله عنه- تزوج أم كلثوم بعد رقية) [15] .
وفي هذا يقول الشاعر:
أولادهُ القاسمُ وهوَ يكنى
بهِ وعبد الله هدىُ الأبنا
والطاهرُ الطيب فاسمُ الثاني
وقيلَ بلْ سواهُ أخوانِ
ماتوا صغاراً لم يرواْ نبوَّة
وزينبُ فاطمةُ رقية
وأمُّ كلثومَ وكلهمْ ولدْ
خديجةٍ وبعدهمْ لهُ ولدْ
آخراً إبراهيمُ من سرية
وتلكمُ ماريةُ القبطية
وكلهمْ قدْ ماتَ في حياته
إلاّ البتولَ فإلى وفاتهِ [16](45/388)
والحكمة من أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أباً للبنات –الله أعلم بها- ويرجعها البعض لأسباب منها: أن البنت في عُرف العرب قبل الإسلام عار يستحق الدفن حياً قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [17] .
جاء في تفسير هذه الآية: بأن الكظيم هو الكئيب من الهم، ويمسكه على هون: أي يبقى البنت مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ويفضل أولاده الذكور عليها [18] .
فشاء الله أن يكون النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أباً لبنات ليكون القدوة للمؤمنين فيما ينبغي للبنت من حقوق ومكانة لائقة أقرها لها الدين الإسلامي الحنيف.
فأبوة الرسول –صلى الله عليه وسلم- لبناته حدثاً جديداً في حياة المرأة، وفي هذا قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –: "والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم" [19] .
ومنها أيضاً -والله أعلم- (حتى يكون النبي –صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن تهمة الاستنصار بالولد، والاعتماد عليه) [20] كما هي عادة العرب في ذلك الوقت. بل أن ما جاء به من دين نُشر في الأرض لأنه هو الحق ولا حق سواه، والحق دائماً أظهر وأقوى.(45/389)
وقد كان العربي في الجاهلية يترقب الأولاد للوقوف إلى جانبه ومساندته، والدفاع عن الحوزة وحماية البيضة، أما البنت فكان التخوف من عارها يحملهم على كراهتها [21] حتى بعث الله نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- بالدين الإسلامي خاتم الأديان الذي ارتضاه الله عزَّ وجل لعباده قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [22] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [23]
فحفظ الإسلام للبنت حقوقها وأنزلها المنزلة اللائقة بها ووعد من يرعاها ويحسن إليها بالأجر الجزيل وجعل حسن تربيتها ورعايتها والنفقة عليها سبب من الأسباب الموصلة إلى رضوان الله وجنته، جاء في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من عال جارتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه" [24] .
يلاحظ في هذا الحديث أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ضم أصابعه، ولم يفرق بينهما كناية عن شدة قرب من عال جارتين من الرسول –صلى الله عليه وسلم- في الجنة. وفي الحديث الآخر عن عائشة –رضي الله عنها– قالت: "دخلت علىّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي –صلى الله عليه وسلم- علينا، فأخبرته فقال: "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار" [25]
أي حجاباً ووقاية من النار.
أيُّ فضل أعظم من هذا الفضل؟
وأيُّ أجر أعظم من هذا الأجر؟.(45/390)
وعلى الرغم من هذا الأجر العظيم الوارد في فضل تربية البنات والإحسان إليهن إلاَّ أن هناك من الناس من لا يُسر لمولد البنت –والعياذ بالله- فيظهر الهمَّ والحزن! وما هذا إلا جهل واعتراض على قدر الله، والبعض يفرط ويقصر في تربية وتوجيه بناته ولم يرعهن الرعاية المطلوبة منه.
ولو أن الإنسان تفقه في دين الله ووقف عند حدوده واقتفى أثر الرسول –صلى الله عليه وسلم- في كل أمر من أمور حياته لعاش مطمئناً مرتاح البال قرير العين، ولعرف كيف يعبد ربه، وكيف يتعامل مع إخوانه، وأهله، وزوجته، وكيف يربي أولاده فالحمد لله أنه ما من خير إلاَّ ودلنا ديننا الإسلامي الحنيف عليه وما من شر إلاَّ وحذرنا منه.
رابعاً: تربية النبي –صلى الله عليه وسلم- لبناته في مرحلة الطفولة:
من هديه –صلى الله عليه وسلم- في تربية بناته في مرحلة الطفولة أنه كان يُسَّر ويفرح لمولد بناته رضي الله عنهن فقد سُرَّ واستبشر –صلى الله عليه وسلم - لمولد ابنته فاطمة رضي الله عنها وقال لما بشر بها: "ريحانة أشمها ورزقها على الله" [26]
وتوسم فيها البركة واليمن، فسماها فاطمة، ولقبها بِ (الزهراء) وكانت تكنى أم أبيها [27] .
وفي هذا درس عظيم من دروس السيرة النبوية بأن من رزق البنات وإن كثر عددهن عليه أن يظهر الفرح والسرور ويشكر الله سبحانه وتعالى على ما وهبه من الذرية، وأن يعزم على حسن تربيتها، وتأديبها، وعلى تزويجها بالكفء "التقي" صاحب الدين حتى يظفر بالأجر الجزيل من الله. ففاطمة –رضي الله عنها– كانت البنت الرابعة للنبي–صلى الله عليه وسلم-، وهي أصغر ذريتة –صلى الله عليه وسلم-[28] .(45/391)
وفي مرحلة الطفولة يلزم على الأبوين الاهتمام بالطفل وتوفير كافة الاحتياجات الخاصة بهذه المرحلة، الحاجات الجسمية والنفسية؛ وبالذات الأم فعليها تقع المسؤولية الكبرى في رعاية أولادها في مرحلة الطفولة فهم أكثر ما يكونون التصاقاً بها وقد حرصت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها– على تربية ورعاية أولادها منذ ولادتهم (وكانت إذا ولدت ولداً دفعته إلى من يرضعه) [29] في البادية حتى ينشئوا على الفصاحة والشجاعة كما كانت عادة قريش. لا كما يفعله بعض الأمهات في زماننا من دفع أولادهم إلى الخادمات والمربيات الأمر الذي قد يحصل معه خلل في عقيدة الطفل وسلوكه.
وفي هذه المرحلة –مرحلة الطفولة- يجب على الأبوين أن يلقنا البنت مبادئ الإسلام، والعقيدة الصحيحة، وتلاوة القرآن الكريم، والصلاة، والتعوّد على لبس الحجاب حتى تنشأ البنت على ذلك منذ نعومة أظفارها.
خامساً: رعاية النبي –صلى الله عليه وسلم- لبناته في مرحلة الصبا:
وإذا كبرت البنت قليلاً وجب على والديها أن يعلماها حقوق الله سبحانه وتعالى، وحقوق الوالدين، وحقوق الآخرين وحسن الخلق وحسن التصرف في شتى الأمور، وعلى المحافظة على لبس الحجاب والتستر والبعد عن أعين الرجال [30] حتى تنشأ البنت على التربية الإسلامية الصحيحة تعرف ما يجب لها وما يجب عليها.
مع الأخذ في عين الاعتبار إعدادها لما هو منتظر منها من دور هام في الحياة بأن تكون زوجةً صالحة، وأماً حانية تربي أولادها وتعدهم لأن يكونوا صالحين مصلحين؛ "لأن للمرأة المسلمة أثراً كبيراً في حياة كل مسلم، فهي المدرسة الأولى في بناء المجتمع الصالح، وخاصة إذا كانت هذه المرأة تسير على هدى من كتاب الله في كل شيىء" [31] .(45/392)
وإذا قربت البنت من سن البلوغ (التكليف) يجب أن تدرب على أن تكون زوجة، وأماً وهذه هي سنة الله في خلقه وعلى الأم تقع مسؤولية ذلك، فقد بادرت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها– بتمرين ابنتها الكبرى زينب –رضي الله عنها– عندما كبرت على المشاركة في أعمال البيت والتدريب على الأمومة فكانت (زينب) لشقيقتها الصغرى فاطمة أماً صغيرة ترعى شؤونها وتمضى فراغها في ملاعبتها [32] .
ولقد صدق القائل: "إن الفتاة المتعلمة المهذبة فخر لأهلها وعون لبعلها، وكمال لبنيها، أهلها بها يفتخرون، وأولادها بها يسعدون، ومن ذا الذي لا يسرّ فؤاده بابنته الأديبة التي تدبر الأمور المعاشية بالمعرفة، وتدير الحركة المنزلية بالحكمة، ويجد في مجالستها أنيساً عاقلاً وسميراً كاملاً" [33] .
سادساً – تزويج النبي –صلى الله عليه وسلم- لبناته:
الزواج سنة من سنن الله في خلقه، وأمر مرغوب فيه حثَّ إليه ديننا الحنيف ودعى إليه قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [34] وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [35] .(45/393)
والزواج من سنة الرسول –صلى الله عليه وسلم- جاء في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم-، يسألون عن عبادة النبي –صلى الله عليه وسلم- فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: "وأين نحن من النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، قال أحدهم: "أما أنا فإني أُصلي الليل أبداً"، وقال آخر: "أنا أصوم الدهر ولا أفطر"، وقال آخر: "أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً"، فجاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" [36]
وامتثالاً لأمر الله عز وجل وأمر رسوله –صلى الله عليه وسلم- يجب على الأب أن يزوج بناته ولا يعضلهن ويمنعهن من الزواج لأي سبب من الأسباب فواجب الأب أن يزوج ابنته وأن يختار لها الكفء من الرجال والكفء معروف هو صاحب الدين والخلق قال النبي –صلى الله عليه وسلم– "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" [37] .
وقد زوج النبي –صلى الله عليه وسلم- جميع بناته من خيرة الرجال: فزوج زينب –رضي الله عنها- من أبي العاص بن الربيع القرشي -رضي الله عنه- وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد وأبو العاص كان من رجال مكة المعدودين مالاً، وأمانة، وتجارة [38] .
وقد أثنى النبي –صلى الله عليه وسلم- على أبي العاص بن الربيع في مصاهرته خيراً وقال: "حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي" وكان قد وعد النبي أن يرجع إلى مكة، بعد وقعة بدر، فيبعث إليه بزينب ابنته، فوفى بوعده، وفارقها مع شدة حبه لها [39] .(45/394)
ومما يدل على شهامته وصدقه قصة إسلامه -رضي الله عنه- فقد كان في تجارة لقريش إلى الشام وفي طريق عودته إلى مكة المكرمة لقيته سرية فأخذوا ما معه، وجاء تحت الليل إلى زوجته زينب – وقد كانت في المدينة وفرق بينهما الإسلام فهو لم يدخل في الإسلام بعد – فاستجار بها فأجارته وخرجت والنبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بالناس الفجر فقالت: "أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع" فلما سلم الرسول –صلى الله عليه وسلم- أقبل على الناس فقال: "أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت؟ " قالوا:"نعم" قال: "أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيىء حتى سمعت ما سمعتم وأنه يجير على المسلمين أدناهم" ثم انصرف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فدخل على ابنته زينب فقال: "أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له" قال: وبعث –صلى الله عليه وسلم- فحثهم على رد ما كان معه فردوه بأسره لا يفقد منه شيئاً فأخذه أبو العاص فرجع به إلى مكة فأعطى كل إنسان ما كان له ثم قال: "يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ " قالوا: "لا فقد وجدناك وفياً". قال: "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني عن الإسلام عنده إلاَّ تخوف أن يظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت" [40] .
وقد زوجه النبي –صلى الله عليه وسلم- من ابنته زينب عندما طلبت منه أمها خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها- أن يزوجها له فوافق النبي –صلى الله عليه وسلم- على طلبها [41] ؛ لما يعرف من رجاحة عقلها وثقتها بابن أختها فكانت تعده بمنزلة ولدها.
وهنا درس نبوي كريم في تزويج البنات هو أنه لا مانع من أخذ رأي والدة البنت والتشاور معها ففي ذلك إكراماً لها واعترافاً بحقها.(45/395)
وزوَّج النبي –صلى الله عليه وسلم- رقية من عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الخليفة الراشد الزاهد الجواد السخي الحيي، وكان من أبرز أخلاقه وأشدها تمكناً من نفسه خلق الحياء، الذي تأصل في كيانه؛ لذا فقد أشاد الرسول –صلى الله عليه وسلم- بهذا الحياء الواسع العميم فقال: "إن عثمان رجلٌ حييّ" [42] ، وقال – صلى الله عليه وسلم -: "ألاَّ أستحي من رجل تستحي منه الملائكة" [43] .
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم - يحبه كثيراً فلما توفيت رقية –رضي الله عنها– زوجه النبي –صلى الله عليه وسلم- بأختها أم كلثوم ولما ماتت أم كلثوم قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "لو كان عندي ثالثة لزوجتها عثمان"، وفي رواية أخرى "لو كن عشراً لزوجتهن عثمان" [44] .
وزوَّج فاطمة –رضي الله عنها– من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابن عمه –صلى الله عليه وسلم- وكان أول ذكر من الناس آمن برسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان قد تربى في حجر الرسول –صلى الله عليه وسلم- قبل الإسلام ولم يزل علي مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-حتى بعثه الله نبياً [45] .
يقول ابن كثير رحمه الله: "كان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لعمه العباس، وكان من أيسر بني هاشم: "يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق حتى نخفف عنه من عياله"، فأخذ رسول الله– صلى الله عليه وسلم - علياً فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله حتى بعثه الله نبياً فاتبعه علي وآمن به وصدقه" [46]
والبنت أمانة في بيت والديها ولابد أن تنتقل إلى بيت زوجها يوماً ما، وقد أوجب لها ديننا الإسلامي الحنيف حق الاستئذان في الزواج فلا يحل لوليها أن يعقد لها على رجل تكرهه قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولاتنكح البكر حتى تستأذن".قالوا: "يا رسول الله، وكيف إذنها؟ " قال: "أن تسكت" [47] .(45/396)