وقد جمعت مادة هذا البحث من كتب السنة من مضانها مع تخريجها والحكم عليها بناءً على قواعد المحدثين، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أكتفي بالعزو إلى من أخرجه من أصحاب الكتب الستة دون غيرهم فإن لم يكن في الصحيحين أو أحدهما فإني أجتهد في تخريجه من دواوين السنة الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم وكتب الزوائد وغيرها.
- أرتب الأحاديث في كل مبحث على حسب درجتها الصحيحة فالحسنة فالضعيفة مالم يكن له شاهد من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة فإني أجعله عقبه للعلاقة بينهما.
- إذا صح الحديث من أحد طرقه فإني لا ألتزم الحكم على جميع طرق الحديث اكتفاءً بصحته.
- أنقل أقوال أهل العلم في الحكم على الحديث إن وجدت.
-إذا كان ضعف الحديث ظاهراً فإني لا أستطرد في الكلام عليه.
-أترجم للرواة الذين تدعو الحاجة إلى الترجمة لهم -كمن يدور عليه الحكم على الحديث- من كتاب الكاشف للحافظ الذهبي والتقريب للحافظ ابن حجر مالم أخالفهما بناءً على كلام حفاظ آخرين فإني أبين ذلك.
- إذا لم يكن الراوي من رجال التقريب والكاشف فإني أترجم له من كتب الجرح والتعديل الأخرى.
- أبين الغريب الذي يحتاج إلى بيان من كتب الغريب واللغة.
- عمل الفهارس العلمية.
- فهرس المصادر والمراجع.
- فهرس المواضيع.
هذا وقد بذلت جهدي في إخراج هذا البحث فما كان فيه من صواب فمن توفيق الله عز وجل وما كان فيه من خطأ فأسأل الله العفو والتوفيق للصواب إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في القراءة في صلاة الفجر
[1] الحديث الأول:
عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر مابين الستين إلى المائة آية".
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي المنهال عن أبي برزة به.
[2] الحديث الثاني:(43/82)
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي"قال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ ب {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} " (1) .
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن محمد بن عبد الرحمن والنسائي عن أبي الأسود وابن ماجه عن محمد بن عبد الرحمن كلاهما عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة به.
وفي لفظ للبخاري من طريق هشام عن عروة عن أم سلمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون، ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت".
فبين هشام في هذه الرواية عن عروة أن الصلاة كانت صلاة الصبح.
وفي رواية لابن خزيمة أنها صلاة العشاء من طريق ابن وهب عن مالك وابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن زينب عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: " ... فسمعته يقرأ في العشاء الآخرة وهو يصلي بالناس {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} ".
لكن بين الحافظ ابن حجر أن هذه الرواية شاذة لما ذكر رواية البخاري التي ليس فيها ذكر الصبح فقال: لكن تبين ذلك -أي أن الصلاة صلاة الصبح- من رواية أخرى أوردها بعد ستة أبواب من طريق يحي بن أبي زكريا الغساني عن هشام بن عروة عن أبيه ولفظه فقال: "إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي ... ".
وهكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية حسان بن إبراهيم عن هشام.
__________
(1) الطور آية (1) .(43/83)
وأما ما أخرجه ابن خزيمة من طريق ابن وهب عن مالك وابن لهيعة جميعاً عن أبي الأسود في هذا الحديث قال فيه: "قالت وهو يقرأ في العشاء الآخرة"فشاذ وأظن سياقه لفظ ابن لهيعة لأن ابن وهب رواه في الموطأ عن مالك فلم يعين الصلاة كما رواه أصحاب مالك كلهم أخرجه الدارقطني في الموطأت له من طرق كثيرة عن مالك، منها رواية ابن وهب المذكورة، وإذا تقرر ذلك فابن لهيعة لا يحتج به إذا أنفرد فكيف إذا خالف. وعرف بهذا اندفاع الإعتراض الذي حكاه ابن التين عن بعض المالكية حيث أنكر أن تكون الصلاة المذكورة صلاة الصبح فقال: "ليس في الحديث بيانها، والأولى أن تحمل على النافلة لأن الطواف يمتنع إذا كان الإمام في صلاة الفريضة"انتهى. وهو رد للحديث الصحيح بغير حجة ا-هـ.
[3] الحديث الثالث:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحياناً وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين وكان يطول في الأولى وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية".
أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه به.
وعند أبي داود في موضع وابن ماجه عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة وأبي سلمة عن أبي قتادة به.
زاد أبو داود وعبد الرزاق وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي كلهم عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: "فظننا أنه يريد بذلك أن يتدارك الناس الركعة الأولى"وسنده صحيح.
ولفظ ابن خزيمة "فكنا نرى أنه بفعل ذلك ليتأدى الناس".
[4] الحديث الرابع:
عن قطبة بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ:(43/84)
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (1) حتى قرأ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} (2) قال: فجعلت أرددها ولا أدري ما قال".
أخرجه مسلم عن أبي عوانة وابن عيينة وشعبة، والترمذي عن مسعر وسفيان، والنسائي عن شعبة، وابن ماجه عن شريك وسفيان بن عيينة كلهم عن زياد بن عِلاَقة عن قطبة بن مالك به.
وفي لفظ لمسلم: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} ".
وفي لفظ لمسلم أيضاً: "فقرأ في أول ركعة {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} وربما قال: (ق) ".
وفي لفظ للنسائي: "فقرأ في إحدى الركعتين {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} قال شعبة: فلقيته في السوق في الزحام فقال: (ق) ".
[5] الحديث الخامس:
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وكانت صلاته بعد تخفيفاً".
وفي لفظ عن سماك قال: "سألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ "فقال: "كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء قال: وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ} ونحوها".
أخرجه مسلم عن زائدة باللفظ الأول وعن زهير باللفظ الثاني كلاهما عن سماك ابن حرب عن جابر به.
وخالفهما إسرائيل فرواه عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة فذكر الواقعة ولفظه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور".
أخرجه أحمد واللفظ له، وعبد الرزاق، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني، والحاكم. وصححه الحافظ ابن حجر.
وتابعه سفيان الثوري عن سماك بذكر الواقعة.
أخرجه البيهقي.
__________
(1) ق، آية (1) .
(2) ق، آية (10) .(43/85)
قال البيهقي عقب ذكر رواية زهير وزائدة: "ورواه الثوري وإسرائيل عن سماك وقالا في الحديث: "بالواقعة ونحوها من السور".
وأخرجه الطبراني عن إسرائيل عن سماك بذكر "ق"كرواية زهير وزائدة وظاهر سنده أنه حسن.
وفيه اختلاف آخر فقد أخرجه الطبراني عن علي بن سعيد الرازي قال: حدثنا عبد الله بن عمران الأصبهاني قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة وأيوب بن جابر عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بـ "ياسين".
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وفي هذا نظر فإن شيخ الطبراني وعبد الله بن عمران وأيوب ليسوا من رجال الصحيح ثم إن هذا الطريق يخشى فيه من علي بن سعيد شيخ الطبراني فإنه حدث بأحاديث لم يتابع عليها كما قاله الدارقطني ولعل هذا منها كيف وقد خالف غيره فإن الحديث بذكر (ق) أو الواقعة لا ياسين.
قال الطبراني عقب هذا الحديث: "لم يرو هذا الحديث عن سماك إلا شعبة وأيوب بن جابر ولا رواه عنهما إلا أبو داود تفرد به عبد الله بن عمران".
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكره لهذا الطريق بذكر (يس) : "هكذا وقع في هذه الرواية وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة بهذا السند بلفظ:
"كان يقرأ في الظهر بسبح وفي الصبح أطول من ذلك".
فلعل بعض الرواة حمل حديث أيوب بن جابر على حديث شعبة وأيوب ابن جابر ضعيف".أ. هـ
ورواه أبو عوانة عن سماك عن رجل من أهل المدينة أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقرأ في صلاة الفجر {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
أخرجه أحمد عن يونس عن أبي عوانة به.
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وأبو عوانة خالف غيره في ذكر الجمع بين السورتين "ق"و "يس".
[6] الحديث السادس:(43/86)
عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: "صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى (محمد بن عباد يشك أو اختلفوا عليه) أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة، فركع"وعبد الله بن السائب حاضر ذلك.
أخرجه مسلم واللفظ له عن حجاج بن محمد وعبد الرزاق، وأبو داود عن عبد الرزاق وأبو عاصم كلهم عن ابن جريج قال: "سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي عن عبد الله بن السائب به".
وأخرجه النسائي من طريق خالد قال حدثنا ابن جريج قال: أخبرني محمد بن عباد حديثاً رفعه إلى أبي سفيان عن عبد الله بن السائب بنحوه.
وأخرجه ابن ماجه من طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب بنحوه.
قال مسلم: وفي حديث عبد الرزاق: فحذف فركع وفي حديثه وعبد الله ابن عمرو ولم يقل ابن العاص.
وهكذا أيضاً عند أبي داود ليس فيه ابن العاص.
قال النووي: "قال الحفاظ: قوله ابن العاص غلط والصواب حذفه ليس هذا عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي بل هو عبد الله بن عمرو الحجازي كذا ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وخلائق من الحفاظ المتقدمين والمتأخرين" ا-هـ.
وقال الحافظ: "وقوله ابن عمرو بن العاص وهم من بعض أصحاب ابن جريج وقد رويناه في مصنف عبد الرزاق فقال: عبد الله بن عمرو القارئ وهو الصواب" ا-هـ.
وأخرج البخاري هذا الحديث تعليقاً فقال: "ويُذكر عن عبد الله بن السائب ... "فذكره.
قال الحافظ: "واختلف في إسناده على ابن جريج فقال ابن عيينة: عنه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب، أخرجه ابن ماجه.
وقال: أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة بن سفيان -أو سفيان بن أبي سلمة- وكأن البخاري علقه بصيغة "يذكر"لهذا الاختلاف مع أن إسناده مما تقوم به الحجة". ا-هـ
[7] الحديث السابع:(43/87)
عن عمرو بن حريث رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (1) .
أخرجه مسلم واللفظ له والنسائي عن الوليد بن سريع وأبو داود وابن ماجه عن أصبغ مولى عمرو بن حريث كلاهما عن عمرو بن حريث به مرفوعاً.
ولفظ أبي داود وابن ماجه {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} .
ولفظ النسائي {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} .
[8] الحديث الثامن:
عن معاذ بن عبد الله الجهني أن رجلاً من جهينة أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْض} (2) في الركعتين كلتيهما فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمداً.
أخرجه أبو داود والبيهقي.
من طريق عمرو بن الحارث عن ابن أبي هلال عن معاذ بن عبد الله الجهني به بإسناد حسن.
وقال النووي: "رواه أبو داود بإسناد صحيح".
وقال الحافظ ابن حجر: "ورواته موثقون".
[9] الحديث التاسع:
عن شبيب أبي روح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى صلاة الصبح فقرأ الروم فالتبس عليه فلما صلى قال: "ما بال أقوامٍ يصلون معنا لا يحسنون الطهور فإنما يلبس علينا القرآن أولئك".
أخرجه النسائي عن سفيان، وأحمد عن شعبة وزائدة وسفيان، وعبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي عاصم والبزار، والطبراني، وأبو نعيم عن شعبة كلهم عن عبد الملك بن عمير عن شبيب به، إلا عند ابن أبي عاصم والبزار والطبراني وأبي نعيم سمى الصحابي بالأعز.
قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات".
وسند هذا الحديث حسن فإن مداره على عبد الملك بن عمير وقد اختلف فيه، فضعفه الإمام أحمد جداً وقال: "مضطرب الحديث جداً مع قلة روايته ما أرى له خمس مائة حديث وقد غلط في كثير منها".
وقال ابن معين: "مخلط".
__________
(1) التكوير، آية (17) .
(2) الزلزلة، آية (1) .(43/88)
وقال أبو حاتم: "ليس بحافظ هو صالح تغير حفظه قبل موته".
وقال ابن معين: "ثقة إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين".
وقال ابن نمير: "كان ثقة ثبتاً في الحديث".
وقال العجلي: "صالح الحديث". وقال مرة: "ثقة".
وقال النسائي: "ليس به بأس".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كان سفيان الثوري يعجب من حفظ عبد الملك".
وقال الحافظ ابن حجر: "ثقة فصيح عالم تغير حفظه وربما دلس".
وقال أيضاً: "أحتج به الجماعة وأخرج له الشيخان من رواية القدماء عنه في الاحتجاج، ومن رواية بعض المتأخرين عنه في المتابعات وإنما عيب عليه أنه تغير حفظه لكبر سنه لأنه عاش مائة وثلاث سنين ولم يذكره ابن عدي في الكامل ولا ابن حبان".
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً: "هذا حديث حسن أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة بهذا السند لكن لم يسم الصحابي قال عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أحمد أيضاً والنسائي من رواية سفيان الثوري عن عبد الملك كذلك.
وشبيب ثقة عده بعضهم في الصحابة غلطاً وسائر رجاله من رجال الصحيح وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما قرأ في الصبح من غير المفصل".أ. هـ.
وأخرج أحمد هذا الحديث من طريق شريك عن عبد الملك بن عمير عن أبي روح الكلاعي قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وفي سنده شريك وخالف غيره فلم يذكر الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل جعله عن أبي روح مرفوعاً.
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد "في الفجر يوم الجمعة"لكن معمراً خالف غيره أيضاً فلم يذكر شبيباً ولا صاحب الحديث.
تنبيه:
ذكر ابن أبي عاصم هذا الحديث في ترجمة الأغر غير منسوب وقال: "لا أدري المزني أو جهني أو غيره".
وذكره الطبراني ضمن حديث الأغر المزني.
وذكره أبو نعيم غير منسوب عقب ترجمة الأغر المزني وقال: "ذكره بعض الناس وزعم أنه غير الأول وهما واحد".
وسماه البزار: "الأغر المزني".(43/89)
قال الحافظ: "ولكن أدخل الطبراني حديثه هذا في أحاديث الأغر المزني وتبعه أبو نعيم وممن غاير بينهما البغوي فأورد حديثه عن زياد ابن يحيى عن مؤمل بسنده وقال فيه: عن الأغر رجل من بني غفار ورواه البزار في مسنده عن زياد بن يحيى بهذا الإسناد فوقع عنده عن الأغر المزني وهو خطأ والله أعلم".أ. هـ
[10] الحديث العاشر:
عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "ما رأيت رجلاً أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان لإمام كان بالمدينة قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين ويخفف العصر ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل ويقرأ في الغداة بطوال المفصل".
أخرجه النسائي عن عبد الله بن الحارث، وابن ماجه مختصراً، وأحمد واللفظ له، وابن خزيمة عن أبي بكر الحنفي، والطحاوي مختصراً عن زيد بن الحباب والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، وابن حبان، والبيهقي عن أبي بكر الحنفي كلهم عن الضحاك بن عثمان قال: حدثني بكير بن عبد الله الأشج قال: حدثنا سليمان بن يسار به.
وحسنه النووي وهو كما قال فإن مداره على الضحاك ابن عثمان تكلم فيه ووثقه غير واحد وحديثه حسن.
قال أبو زرعة: "ليس بقوي"، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به وهو صدوق"، وقال يعقوب بن شيبة: "صدوق في حديثه ضعف".
ووثقه أحمد وابن معين وأبو داود وابن بكير وغيرهم.
وقال الذهبي في المغني: "لينه ابن القطان وقال في كتابه من تكلم فيه وهو موثق: صدوق".
وصحح الحديث ابن رجب، وابن عبد الهادي، والحافظ ابن حجر وقال: "هذا حديث صحيح من حديث أبي هريرة والمرفوع منه تشبيه أبي هريرة صلاة الأمير المذكور بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وماعدا ذلك موقوف إن كان الأمير المذكور صحابياً أو مقطوع إن لم يكن".(43/90)
وقال أيضاً: "فلم يصب من اختصره فإن أبا هريرة لم يتلفظ بقوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بقصار المفصل إنما تلفظ بالتشبيه وهو لا يستلزم المساواة في جميع صفات الصلاة والله أعلم".
وزاد أحمد والبيهقي في هذا الحديث.
قال الضحاك: وحدثني من سمع أنس بن مالك يقول: "ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز"قال الضحاك: "فصليت خلف عمر بن عبد العزيز وكان يصنع مثل ما قال سليمان بن يسار".
لكن هذا الطريق فيه رجل مبهم.
قال الحافظ: "وأما حديث أنس ففي سنده مبهم يمنع من الحكم بصحته والمرفوع منه أيضاً التشبيه وما عداه مقطوع".
وقال ابن رجب عقب رواية أحمد: "وخرج ابن سعد وغيره حديث أنس عن ابن أبي فديك عن الضحاك قال: حدثني يحيى بن سعيد أو شريك بن أبي نمر لا يدري أيهما حدثه عن أنس فذكر الحديث.
والفتى هو عمر بن عبد العزيز كذا قال ابن أبي فديك عن الضحاك بالشك.
ورواه الواقدي عن الضحاك عن شريك من غير شك فهذا حديث صحيح عن أبي هريرة وأنس ... " أ. هـ
[11] الحديث الحادي عشر:
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين قال عقبة:
"فأمّنا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر". أخرجه النسائي، وابن أبي شيبة، وأبو يعلي،وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم، والبيهقي كلهم من طريق سفيان عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن أبيه عن عقبة بن عامر به ورجال إسناده ثقات غير معاوية وحديثه حسن بالجملة.
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد تفرد به أبو أسامة عن الثوري وأبو أسامة ثقة معتمد".
لكن هذا الطريق اختلف فيه على معاوية بن صالح فرواه عنه سفيان عن عبد الرحمن ابن جبير عن أبيه عن عقبة به كما سلف.(43/91)
ورواه ابن وهب وعبد الرحمن بن مهدي وزيد بن الحباب عنه عن العلاء بن الحارث عن القاسم بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر بنحوه مرفوعاً وزادوا أن ذلك كان في السفر.
أخرجه أبو داود، والنسائي عن ابن وهب، وأحمد عن ابن مهدي، وابن خزيمة عن ابن مهدي وزيد بن الحباب، والحاكم عن ابن مهدي، والبيهقي عن ابن وهب كلهم عن العلاء بن الحارث به.
قال البيهقي: "كذا قال العلاء بن كثير". وقال ابن وهب: "عن معاوية عن العلاء ابن الحارث وهو أصح".أ. هـ.
ورواه عبد الرحمن بن مهدي عنه عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن عقبة بنحوه.
أخرجه النسائي عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي به. ورواية ابن وهب وعبد الرحمن بن مهدي ومن تابعهما أرجح.
وهذا الحديث له طرق أخرى غير طريق معاوية بن صالح وهي:
الأول: من طريق الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم أبي عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال: "بينا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال: "ألا تركب يا عقبة" فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ألا تركب يا عقبة"فأشفقت أن يكون معصية فنزل وركبت هنيهة ونزلت وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس" فأقرأني {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فأقيمت الصلاة فتقدم فقرأ بهما ثم مر بي فقال: "كيف رأيت يا عقبة بن عامر إقرأ بهما كلما نمت وقمت".
أخرجه النسائي، وأحمد، وأبو يعلي وابن خزيمة.
ورجال إسناده ثقات والوليد بن مسلم صرح بالتحديث عن شيخه عند من خرجه وعن شيخ شيخه عند ابن خزيمة وتابعه ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم عن عقبة بنحوه لكنه مختصر.
أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة.(43/92)
الطريق الثاني: من طريق محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن عقبة بن عامر بنحو وفيه قال: "وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة"لم يذكر أنها الفجر وذكر أنه في السفر.
أخرجه أبو داود والبيهقي وفيه عنعنة ابن إسحاق.
الطريق الثالث: من طريق هشام بن الغاز عن سليمان بن موسى عن عقبة بن عامر الجهني قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما طلع الفجر أذن وأقام ثم أقامني عن يمينه فقرأ بالمعوذتين فلما انصرف قال: "كيف رأيت؟ " قلت: "قد رأيت يا رسول الله"قال: "فاقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت".
أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن هشام به.
قال البخاري: "سليمان لم يدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وبالجملة فهذا الحديث بمجموع هذه الطرق يتقوى وأصله في مسلم بذكر فضل المعوذتين دون ذكر القراءة بهما في الصلاة من طريق قيس بن أبي حازم عن عقبة مرفوعاً.
[12] الحديث الثاني عشر:
عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفلق: جهنم".
أخرجه أبو يعلى من طريق مغلس الخراساني عن أيوب بن يزيد عن أبي رزين عن عمرو بن عبسة به وسنده ضعيف.
[13] الحديث الثالث عشر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قدمت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فوجدت رجلاً من بني غفار يؤم الناس في صلاة فقرأ في الركعة الأولى سورة مريم وفي الثانية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أحسبه قال: في صلاة الفجر".
أخرجه البزار من طريق عثمان بن أبي سليمان عن عراك بن مالك عن أبي هريرة به وسنده صحيح.
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".(43/93)
تابع لأحاديث القراءة في صلاة الفجر جمعا ودراسة
[14] الحديث الرابع عشر:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات".
أخرجه النسائي، وأحمد، وأبو يعلي، وابن خزيمة، وابن حبان والطبراني، والبيهقي من طرق عن ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به.
وسنده حسن فإن مداره على الحارث هذا وحديثه في مرتبة الحسن والله أعلم.
زاد أبو يعلي عن يزيد بن هارون، وابن حبان عن يزيد بن هارون وشبابة كلاهما عن ابن أبي ذئب به "في صلاة الفجر"وسنده حسن وهذه زيادة ثقة والزيادة من الثقة مقبولة.
وأخرجه الطيالسي من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري أو غيره عن سالم-شك أبو داود- عن ابن عمر به وزاد "في الصبح".
وهذه متابعة للحارث بن عبد الرحمن إلا إن كان الغير هو الحارث ابن عبد الرحمن فيعود هذا الطريق إلى الطريق الأول.
[15] الحديث الخامس عشر:
عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: "ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} إلا من وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بها في الصبح".
هذا الحديث مروي من طريقين عن أم هشام بنت حارثة.
الأول: من طريق عبد الرحمن بن أبي الرجّال عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن أم هشام به.
أخرجه النسائي وأحمد.
لكن هذا الطريق مداره على عبد الرحمن بن أبي الرجّال وهو مع ما قيل فيه من كلام وأنه يخطئ فقد خالفه يحيى بن أيوب وسليمان بن بلال روياه عن يحيى بن سعيد عن عمره عن أخت لعمرة بنت عبد الرحمن قالت: "أخذنا {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة"فلم يذكرا الصبح.
أخرجه مسلم وأبو داود وقال عقب طريق سليمان بن بلال: "كذا رواه يحيى بن أيوب وابن أبي الرجال عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان".(43/94)
وهذا يفهم منه أن رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال مثل رواية سليمان بن بلال ويحيى بن أيوب والله أعلم.
الطريق الثاني: من طريق عبد الله بن نمير عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن أم هشام بنت حارثة قالت: "حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم (ق) في صلاة الصبح".
أخرجه الطبراني.
وهذا الطريق معلول من أوجه:
الأول: أن هذا الطريق أختلف فيه على ابن إسحاق في سنده ومتنه.
أما المتن فرواه عبد الله بن نمير عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن أم هشام بنت حارثة فذكر صلاة الصبح.
ورواه عبد الله بن نمير وإبراهيم بن سعد وجرير عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن أم هشام بنت الحارث فذكرت الجمعة.
وعبد الله بن نمير وافق رواية إبراهيم وجرير في ذكر الجمعة.
أخرجه مسلم عن إبراهيم بن سعد وابن أبي شيبة وابن سعد عن عبد الله ابن نمير وأبو يعلي عن جرير بن عبد الحميد كلهم عن ابن إسحاق به وصرح ابن إسحاق بالتحديث كما عند مسلم.
ورواه الأوزاعي عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن أم هشام بذكر الجمعة وهذه متابعة لعبد الله بن أبي بكر، أخرجها الطبراني.
أما الاختلاف في السند فعبد الله بن نمير يرويه عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن سعد بن زراره عن أم هشام.
ورواه ابن نمير وإبراهيم بن سعد وجرير عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن أم هشام فهؤلاء الثلاثة عن ابن إسحاق قالوا يحيى بن عبد الله وابن نمير عن ابن إسحاق قال عبد الرحمن بن سعد بن زرارة.
الثاني: أن هذا الطريق فيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس.
أما الطريق الأخرى التي فيها ذكر الجمعة صرح فيها ابن إسحاق بالتحديث كما عند مسلم.(43/95)
الثالث: أن هذا الطريق فيه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة لم أجد له ترجمة.
الرابع: أن الطبراني ساق هذا الطريق مرة ثانية عقبه ولم يذكر الصبح بل ذكر الجمعة.
والحاصل أن في ثبوت هذا الحديث نظرًا وأن الأظهر أنه يقرأ بها في خطبة الجمعة ومما يؤيد هذا أنه ورد من طريقين آخرين عن أم هشام بذكر الجمعة ولم يذكر فيها الصبح وهما:
الطريق الأول عن عبد الله بن محمد بن معن عن أم هشام.
أخرجه مسلم وأبو داود.
والطريق الثاني عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة.
أخرجه النسائي، وأحمد، والطبراني.
[16] الحديث السادس عشر:
عن أبي برزة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح بـ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} ".
أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن أبي برزة به.
ورجال إسناده ثقات لكني لم أر أحداً ذكر أن أبا إسحاق يروي عن أبي برزة مع أنه أدركه. وقال الحافظ أبو بكر البرديجي: سمع أبو إسحاق من الصحابة من البراء وزيد ابن أرقم وأبي جحيفة وسليمان بن صرد والنعمان بن بشير على خلاف فيهما وعمرو بن شرحبيل وروى عن جابر بن سمرة ولا يصح سماعه منه وقد رأى علي بن أبي طالب ومعاوية وعبد الله بن عمر وجالس رافع بن خديج.
فلم يذكر أنه سمع من أبي برزة والله أعلم.
[17] الحديث السابع عشر:
عن رفاعة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقرأ في الصبح بدون عشرين آية ولا يقرأ في العشاء بدون عشر آيات".
أخرجه الطبراني قال: حدثنا المقدام بن داود ثنا أسد بن موسى عن ابن لهيعة ثنا عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن خلاد بن السائب عن رفاعة به وسنده ضعيف لضعف المقدام ابن داود وابن لهيعة.
وأعله الهيثمي بابن لهيعة فقط فقال: "وفيه ابن لهيعة واختلف في الاحتجاج به".(43/96)
وذكره ابن رجب وعزاه لأبي الشيخ الأصبهاني وقال: "غريب"لكنه قال: "وروى ابن لهيعة عن ابن أبي جعفر عن خالد بن السائب عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره".
لكن هذا الإسناد الظاهر أنه تصحف خلاد إلى خالد ورفاعة إلى أبي قتادة والله أعلم.
[18] الحديث الثامن عشر:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في سفر صلاة الفجر فقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقال: "قرأت بكم ثلث القرآن وربعه".
أخرجه عبد بن حميد من طريق مندل بن علي عن جعفر بن أبي جعفر الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر به وسنده ضعيف لضعف مندل وجعفر ابن أبي جعفر.
قال الحافظ ابن حجر: "ورجاله ثقات إلا مندل بن علي ففيه ضعف وكأنه وهم في قوله بهم فإن الثابت أنه كان يقرأ بهما في ركعتي الفجر".
وأخرجه ابن عدي من طريق غسان بن الربيع عن جعفر بن ميسره به.
في سنده جعفر وأبوه كما تقدم.
وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: "وفيه جعفر بن أبي جعفر وقد أجمعوا على ضعفه".
[19] الحديث التاسع عشر:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الفجر فقرأ بهم بأقصر سورتين من القرآن أو أوجز قال: فلما قضى الصلاة قال له أبو سعيد الخدري أو معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا رسول الله رأيتك صليت صلاة ما رأيتك صليت مثلها قط قال صلى الله عليه وسلم: "أو ما سمعت بكاء الصبي خلفي في صف النساء أردت أن أفرغ له أمه".
أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد كلهم من طريق أبي هارون عن أبي سعيد به.
وسنده ضعيف جداً لضعف أبي هارون العبدي.
قال الحافظ ابن حجر: "هذا حديث غريب أخرجه أبو نعيم الفضل ابن دكين شيخ البخاري في كتاب الصلاة له هكذا".
[20] الحديث العشرون:
عن أبي أيوب رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك} ".(43/97)
أخرجه الحارث من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي أيوب به.
وفي سنده الواقدي وهو متروك كما قاله غير واحد.
[21] الحديث الحادي والعشرون:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ في الصبح بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ".
أخرجه الحارث من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس به.
وفي سنده الواقدي وهو متروك كما قاله غير واحد.
وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام".
المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في القراءة في صلاة الفجر يوم الجمعة.
[22] الحديث الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر: {الم تَنْزِيلُ} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِِنْسَان} ".
أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه كلهم من طريق سعد ابن إبراهيم عن الأعرج عن أبي هريرة به.
وفي لفظ لمسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة بـ {الم تَنْزِيل} في الركعة الأولى وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} "
[23] الحديث الثاني:
عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة سورة {الم تَنْزِيل} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين".
أخرجه مسلم واللفظ له، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه كلهم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس به إلا القراءة في الجمعة فلمسلم وأبي داود فقط.
[24] الحديث الثالث:(43/98)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: {الم تَنْزِيلُ} و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} ".
أخرجه ابن ماجه عن عمرو بن أبي قيس، والبزار عن عمران ابن عيينة، والطبراني عن مسعر بن كدام كلهم عن أبي فروة عن أبي الأحوص عن ابن مسعود به.
وأخرجه الطبراني من طريق أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص به وزاد "يديم ذلك".
قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
وقال الحافظ بعد ذكر رواية الطبراني هذه: "وأصله في ابن ماجه بدون هذه الزيادة ورجاله ثقات لكن صوب أبو حاتم إرساله".
وقال الهيثمي: "رجاله موثقون".
لكن هذا الطريق طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود صوب أبو حاتم والدارقطني إرساله.
قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حديث رواه عمرو بن قيس وأبو مالك النخعي فقالا عن أبي فروة الهمداني عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قال أبي وهما في الحديث رواه الخلق فكلهم قالوا عن أبي فروة عن أبي الأحوص قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مرسل".
وقال الدارقطني لما سئل عنه: "يرويه أبو فروة مسلم بن سالم الجهني عن أبي الأحوص واختلف عنه فرواه عمران بن عيينة وعبد الله بن الأجلح ومسعر وسليمان التيمي وعمرو بن أبي قيس وحمزة الزيات ومحمد بن جابر عن أبي فروة عن أبي الأحوص عن عبد الله متصلاً".
وكذلك قال حجاج بن نصير عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي فروة وقال شعبة: "فلقيت أبا فروة فحدثني به".
وخالفه أصحاب شعبة: غندر ومعاذ وابن مهدي وغيرهم فرووه عن شعبة عن أبي فروة عن أبي الأحوص مرسلا.
وكذلك رواه الثوري وزهير وزائدة عن أبي فروة عن أبي الأحوص مرسلا.
وكذلك قال ابن عيينة سفيان مرسلاً وقيل عنه متصلاً.
ورواه حماد بن شعيب عن أبي فروة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ووهم فيه والصحيح مرسل.(43/99)
قيل سمعت حديث حجاج بن نصير عن ابن مخلد فإنه كان يرويه عن حماد بن الحسن بن عنبسة عنه؟ قال: "حدثناه ابن صاعد عن حماد ابن الحسن".
قلت: "أليس قال: عبد الرحمن بن مهدي في حديثه عن شعبة وسفيان ليس بالجهني" قال: "لا أعرفه".
وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص واختلف عنه فرواه محمد بن عبيد الله العرزمي عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله.
ورواه عمرو بن قيس الملائي وميسره بن حبيب النهدي وشريك عن أبي إسحاق عن أبي فروة عن أبي الأحوص مرسلا.
ورواه شعبة عن أبي إسحاق عن أبي فروة عن أبي الأحوص عن عبد الله قاله حجاج ابن نصير عنه وقد تقدم ذكره.
وقال حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقال شريك: "عن أبي الأحوص عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وحديث سعيد بن جبير محفوظ وحديث أبي الأحوص القول فيه قول من أرسله". أ. هـ
وكلام أبي حاتم والدارقطني هذا إنما هو في طريق أبي الأحوص لكن الحديث له طرق أخرى عن ابن مسعود وهي:
الأول: من طريق سليمان بن يُسَير عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعاً.
أخرجه البزار وسنده ضعيف لضعف سليمان هذا.
الثاني: من طريق الحسين بن واقد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود مرفوعاً.
أخرجه البزار عن علي بن الحسن بن شقيق والبيهقي عن علي بن الحسين بن واقد كلاهما عن الحسين بن واقد به وسنده لا بأس به.
الثالث: من طريق عبد الملك بن الوليد بن معدان عن عاصم عن زر وأبي وائل عن عبد الله مرفوعاً.
أخرجه البزار وسنده ضعيف لضعف عبد الملك بن الوليد.
والحاصل أن الحديث بهذه الطرق مع الطريق المرسلة السابقة يتقوى ويشهد له حديث أبي هريرة في الصحيحين وابن عباس عند مسلم وغيرهما كما تقدم قبل هذا الحديث والله أعلم.
[25] الحديث الرابع:(43/100)
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة في الركعة الأولى بـ {الم تَنْزِيلُ} السجدة وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِِنْسَان} ".
أخرجه الطبراني، والخطيب.
من طريق حفص بن سليمان الغاضري عن منصور بن حيان عن أبي هياج الأسدي عن علي بن ربيعة الوالبي عن علي ابن أبي طالب به.
قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه حفص ابن سليمان الغاضري وهو متروك لم يوثقه غير أحمد بن حنبل في رواية وضعفه في روايتين وضعفه خلق".
قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن علي إلا بهذا الإسناد تفرد به محمد بن بكار".
وأخرجه الطبراني من طريق ليث بن أبي سليم عن عمرو ابن مرة عن الحارث عن علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الصبح بتنزيل السجدة".
وقال: "لم يروه عن عمرو بن مرة إلا ليث ولا عن ليث إلا معتمر تفرد به عمرو بن علي ولم يرو عمرو بن مرة عن الحارث إلا هذا الحديث".
وقال الهيثمي: "وفيه الحارث الأعور وهو ضعيف".
وقال الحافظ ابن حجر لما ذكر هذه الرواية: "لكن إسناده ضعيف".
[26] الحديث الخامس:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم تَنْزِيلُ} و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِِنْسَان} » .أخرجه ابن ماجه.
من طريق الحارث بن نبهان عن عاصم بن بهدلة عن مصعب ابن سعد عن أبيه به وسنده ضعيف لضعف الحارث هذا.
قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف الحارث بن نبهان متفق على ضعفه".
المبحث الثالث: أحاديث القراءة في الصلاة غير مقيدة في الفجر ولا غيرها(43/101)
تابع لأحاديث القراءة في صلاة الفجر جمعا ودراسة
[27] الحديث الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "في كل صلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير".
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
من طرق عن عطاء أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول به موقوفاً.
وأخرجه مسلم من طريق أبي أسامة عن حبيب بن الشهيد قال سمعت عطاء يحدث عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة إلا بقراءة" قال أبو هريرة: فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم وما أخفاه أخفيناه لكم".
فجعل أوله مرفوع لكن اعترض على ذلك الدارقطني ورجح وقفه فقال: "وهذا لم يرفع أوله إلا أبو أسامه وخالفه يحيى بن القطان وسعيد بن أبي عروبة وأبو عبيدة الحداد وغيرهم رووه عن حبيب بن الشهيد عن عطاء عن أبي هريرة "في كل صلاة قراءة فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم"جعلوا أول الحديث من قول أبي هريرة وهو الصواب وكذلك رواه قتادة وأيوب وحبيب المعلم وابن جريج".
وقال ابن رجب: "وذكر الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما أن رفعه وهم وإنما هو موقوف.
وقد رفعه أيضاً ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة إلا بقراءة" قال أبو هريرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيجهر ويخافت فجهرنا فيما جهر وخافتنا فيما خافت".
أخرجه الحارث بن أبي أسامة وابن أبي ليلى سيىء الحفظ جداً ورفعه وهم والله أعلم".ا. هـ
وقال الحافظ ابن حجر: "هكذا أورده مسلم من رواية أبي أسامة عنه وقد أنكره الدارقطني على مسلم وقال: إن المحفوظ عن أبي أسامة وقفه كما رواه أصحاب ابن جريج وكذا رواه أحمد عن يحيى القطان وأبي عبيدة الحداد كلاهما عن حبيب المذكور موقوفاً.(43/102)
وأخرجه أبو عوانة من طريق يحيى بن أبي الحجاج عن ابن جريج كرواية الجماعة لكن زاد في آخره وسمعته يقول: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وظاهر سياقه أن ضمير "سمعته"للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعاً بخلاف رواية الجماعة نعم قوله: "وما أسمعنا وما أخفى عنا"يشعر بأن جميع ما ذكره متلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون للجميع حكم الرفع".أ. هـ
[28] الحديث الثاني:
عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً في سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيىء يصنع ذلك". قال فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه".
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طريق عمرة بنت عبد الرحمن وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة به.
[29] الحديث الثالث:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء فكان كلما أفتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة فقرأ بها أفتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها ثم يقرأ بسورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا: "إنك تقرأ بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى". قال: "ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت وإن كرهتم تركتكم وكانوا يرونه أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره"، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: "يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة؟ " فقال: "يا رسول الله إني أحبها". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حبها أدخلك الجنة".(43/103)
أخرجه البخاري تعليقاً، والترمذي واللفظ له، وأبو يعلي، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي من طرق عن عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله بن عمر عن ثابت البناني عن أنس به.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه من حديث عبيد الله ابن عمر عن ثابت".أ. هـ
وهذا الطريق معلول من وجهين هما:
الأول: أنه من رواية الدراوردي عن عبيد الله بن عمر، قال الإمام أحمد: "ما حدث عن عبيد الله بن عمر فهو عن عبد الله بن عمر".
وقال النسائي فيه: "ليس به بأس وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر".
وقال الدارقطني: "غريب من حديث عبيد الله عن ثابت تفرد به عبد العزيز الدراوردي عنه".
وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عبيد الله إلا عبد العزيز".أ. هـ
وعبيد الله لم ينفرد به فقد تابعه المبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس أن رجلاً قال: "يا رسول الله إني أحب هذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " فقال: "إن حبك إياها يدخلك الجنة" مختصراً.
أخرجه الترمذي، وأحمد، والدارمي، وابن حبان، والبغوي من طرق عن المبارك بن فضالة به ومبارك يدلس ويسوى وقد صرح بالتحديث عن شيخه فقط كما عند الدارمي.
الثاني: الإرسال قال الحافظ ابن حجر: "ذكر الدارقطني في العلل أن حماد بن سلمة خالف عبيد الله في إسناده فرواه عن ثابت عن حبيب ابن سبيعة مرسلاً وقال: وهو أشبه بالصواب وإنما رجحه لأن حماد بن سلمة مقدم في حديث ثابت لكن عبيد الله بن عمر حافظ حجة وقد وافقه مبارك بن فضالة في إسناده فيحتمل أن يكون لثابت فيه شيخان".
وقال ابن رجب: "وإنما لم يخرجه البخاري هاهنا مسنداً لأن حماد ابن سلمة رواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة عن الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم".
قال الدارقطني: هو أشبه بالصواب وحماد بن سلمة ذكر كثير من الحفاظ أنه أثبت الناس في حديث ثابت وأعرفهم به".(43/104)
والحارث هذا اختلف هل هو صحابي أم لا؟ فقال أبو حاتم الرازي: "له صحبة" وقال الدارقطني: "حديثه مرسل".
والحاصل أن إعلال هذا الحديث بالإرسال قوي ومما يؤيد هذا أن الطريق الموصولة من رواية الدراوردي عن عبيد الله فيها الكلام السابق والمتابع له فضالة وهو يدلس ويسوى لكن الحديث يشهد له حديث عائشة الذي قبله في الصحيحين كما أشار إلى ذلك ابن رجب والله أعلم
[30] الحديث الرابع:
عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال هذّاً كهذ الشعر لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في كل ركعة".
أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي عن شعبة عن عمرو بن مرة، والترمذي عن شعبة عن الأعمش كلاهما عن أبي وائل به.
وفي لفظ في الصحيحين من طريق واصل الأحدب عن أبي وائل عن ابن مسعود ... "أنا قد سمعنا القراءة وإنى لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم".
وفي لفظ للبخاري من طريق الأعمش عن شقيق قال: قال عبد الله:
"قد علمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين في كل ركعة فقام عبد الله ودخل معه علقمة وخرج علقمة فسألناه فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن الحواميم {حم} الدخان و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ".
وأخرج مسلم نحوه وفي لفظ له "اثنتين في ركعة عشرين سورة في عشر ركعات".
وأخرجه أبو داود عن علقمة والأسود، والنسائي عن مسروق، وأحمد عن نهيك بن سنان السلمي وزر، والطحاوي عن نهيك بن سنان وعلقمة والأسود، والطبراني عن نهيك بن سنان ومسروق وعلقمة والأسود كلهم عن ابن مسعود بنحوه.(43/105)
وزاد أبو داود من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود عن ابن مسعود (النجم والرحمن) في ركعة و (اقتربت والحاقة) في ركعة و (الطور والذاريات) في ركعة و (وإذا وقعت ونون) في ركعة و (سأل سائل والنازعات) في ركعة و (ويل للمطففين وعبس) في ركعة و (المدثر والمزمل) في ركعة و (هل أتى ولا أقسم بيوم القيامة) في ركعة و (عم يتساءلون والمرسلات) في ركعة و (الدخان وإذا الشمس كورت) في ركعة".
قال أبو داود: "هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله.
ورجال إسناده ثقات لكن هذه الزيادة من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق وقد ذكر ابن الكيال أن إسرائيل روى عن أبي إسحاق بعد اختلاطه".
وقال الإمام أحمد: "إسرائيل عن أبي إسحاق فيه لين سمع منه بآخره".
وأخرجه ابن خزيمة من طريق أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن شقيق قال جاء نهيك بن سنان إلى عبد الله فذكر الحديث وفي آخره "وإني أعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن سورتين في ركعة ثم أخذ بيد علقمة فدخل ثم خرج فعدهن علينا".
قال الأعمش: "وهي عشرون سورة على تأليف عبد الله ثم سردها".
ثم قال عَقِبَة نا أبو موسى نا الأعمش وحدثنا يوسف بن موسى وسلم بن جنادة قالا: حدثنا أبو معاوية نا الأعمش فذكر الحديث بطوله إلى قوله فدخل علقمة فسأله ثم خرج إلينا فقال: "عشرون سورة من أول المفصل في تأليف عبد الله لم يزيدوا على هذا".
وأبو خالد الأحمر تفرد بذكر سردها من بين أصحاب الأعمش وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه.
وقال البزار: "اتفق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظاً وأنه روى عن الأعمش أحاديث لم يتابع عليها".
وقال ابن عدي: "إنما أتى من سوء حفظه فيغلط ويخطئ وهو في الأصل كما قال ابن معين صدوق وليس بحجة".
وأخرجه الطبراني من طريق محمد بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن شقيق بن سلمة عن عبد الله وسردها لكن قال الحافظ: "قدّم وأخر في بعض وحذف بعضها ومحمد ضعيف".(43/106)
وقال ابن رجب: "وهذه الرواية تخالف ما تقدم وتلك الرواية أصح ومحمد بن سلمة بن كهيل تكلم فيه وتابعه عليه أخوه يحيى وهو أضعف منه".
[31] الحديث الخامس:
عن أنس رضي الله عنه قال: "ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام كانت صلاته متقاربة وكانت صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر بن الخطاب مد في صلاة الفجر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى تقول: قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم".
أخرجه مسلم من طريق حماد عن ثابت عن أنس به.
وأخرجه أحمد، وأبو يعلي مختصراً بذكر موطن الشاهد منه فقط من طريق حميد عن أنس مرفوعاً.
وفي لفظ لأحمد "كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة وصلاة أبي بكر وسط وبسط عمر في قراءة صلاة الغداة".
من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن حميد عن أنس به.
[32] الحديث السادس:
عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحة قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها".
أخرجه مسلم، والنسائي، والترمذي من طريق ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن حفصة به.
[33] الحديث السابع:
عن عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ "فقالت: "لا إلا أن يجئ من مغيبه"قلت: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بين السورتين؟ "قالت: "من المفصل".
أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد ولفظه "يقرن السور" والبيهقي من طريق الجريري عن عبد الله بن شقيق به، وسنده صحيح.
وأخرج مسلم من هذا الطريق طرفه الأول.(43/107)
وأخرجه أبو داود، وأحمد، وابن أبي شيبة، وابن خزيمة من طرق عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن شقيق قال: "قلت لعائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع السور في ركعة؟ "قالت: "المفصل".
ولفظ أبي داود "أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة في ركعة؟ "قالت: "المفصل". ورجال إسناده ثقات وهذه متابعة لسعيد الجريري.
[34] الحديث الثامن:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "ما من سورة من المفصل صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها في الصلاة كلها".
أخرجه الطبراني من طريق إسماعيل بن عياش عن صالح ابن كيسان عن نافع عن ابن عمر به.
وسنده ضعيف لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن صالح بن كيسان وهو مدني وهو ضعيف في غير أهل بلده كما قاله غير واحد.
قال يحيى بن معين: "إسماعيل بن عياش ثقة فيما روى عن الشاميين وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم".
وقال أيضاً: "إذا حدث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم وإذا حدث عن الحجازيين والعراقيين خلِّط ما شئت".
وقال المروزي: "سألته -يعني الإمام أحمد- عن إسماعيل بن عياش فحسن روايته عن الشاميين وقال هو فيهم أحسن حالاً مما روى عن المدنيين وغيرهم".
وقال علي بن المديني: كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام فأما ما روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف".
وقال البخاري: "إذا حدث عن أهل بلده فصحيح وإذا حدث عن غير أهل بلده ففيه نظر".
وقال أيضاً: "ما روى عن الشاميين فهو أصح".
وقال الهيثمي: "رواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين وهي ضعيفة".
[35] الحديث التاسع:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقرأ السجدة في المكتوبة".
أخرجه أحمد من طريق جابر عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عمر به.
وسنده ضعيف لضعف جابر الجعفي.(43/108)
قال الهيثمي: "رواه أحمد وفيه جابر الجعفي وفيه كلام وقد وثقه شعبة والثوري".
[36] الحديث العاشر:
عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "آخر كلام كلمني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استعملني على الطائف قال: "خفف الصلاة على الناس" حتى وقت لي اقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَق} وأشباهها من القرآن".
أخرجه أحمد وابن أبي شيبة واللفظ له، والطبراني من طريق عبد الله بن خثيم عن داود بن أبي عاصم الثقفي عن عثمان بن أبي العاص به لكن عند أحمد القراءة بالعلق بدل الأعلى.
ورجال إسناده ثقات غير عبد الله بن عثمان بن خثيم وثقه غير واحد وتكلم فيه آخرون.
وقال ابن عدي: "هو عزيز الحديث وأحاديثه حسان مما يجب أن يكتب".
وهذا الحديث رواه سعيد بن المسيب وموسى بن طلحة ومطرف بن عبد الله والنعمان بن سالم الثقفي وداود بن أبي عاصم والمغيرة بن شعبة وعبد الله وعبد ربه ابنا الحكم ابن سفيان وغيرهم عن عثمان بن أبي العاص ولم يذكروا التوقيت والله أعلم.
قال البوصيري: "رواه مسلم في صحيحه من طريق سعيد ابن المسيب عن عثمان بن أبي العاص به بدون قوله: حتى وقت لي إلى آخره".أ. هـ
ومما يشكل على التوقيت في هذا الحديث الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرها من تطويل النبي صلى الله عليه وسلم القراءة في صلاة الفجر وغيرها بأكثر من هذا كما تقدم والله أعلم.
[37] الحديث الحادي عشر:
عن جابر رضي الله عنه قال: "سنة القراءة في الصلاة: أن يقرأ في الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بأم القرآن".
أخرجه الطبراني من طريق عثمان بن الضحاك عن أبيه عن عبيد الله بن مقسم عن جابر به وسنده ضعيف.
قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن جابر إلا بهذا الإسناد تفرد به عبيد الله بن مقسم".
وقال الهيثمي: "وفيه شيخ الطبراني وشيخ شيخه لم أجد من ذكرهما".أ. هـ
وفيه أيضاً عثمان بن الضحاك كما تقدم.
[38] الحديث الثاني عشر:(43/109)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: "ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة".
أخرجه أبو داود والبيهقي من طريق وهب بن جرير حدثنا أبي قال: "سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن عمرو بن شعيب به".
وفيه ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه.
ذكره الحافظ في المرتبة الرابعة من المدلسين وقال: "صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما".
[39] الحديث الثالث عشر:
عن ابن سابط "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة نحواً من ستين آية فسمع بكاء صبي قال: فقرأ في الثانية بثلاث آيات".
أخرجه ابن أبي شيبة واللفظ له وعبد الرزاق، وأبو داود كلاهم من طريق سفيان عن أبي السوداء النهدي عن ابن سابط به ورجال إسناده ثقات لكنه مرسل.
قال الحافظ: "وهذا مرسل".
ولفظ أبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فقرأ ستين آية فسمع صوت صبي فركع ثم قام فقرأ آيتين ثم ركع".
والحديث في الصحيحين من طريق قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه".
وفي لفظ لمسلم من طريق ثابت البناني عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة".
مسألة:
أكثر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في صلاة الفجر القراءة بطوال المفصل لكن يرد على هذا الأحاديث الواردة في القراءة في الفجر بأوساط المفصل وقصاره كحديث عمرو بن حريث القراءة بالتكوير وحديث رجل من جهينة القراءة بالزلزلة وحديث عقبة بن عامر وعمرو بن عبسة القراءة بالمعوذتين، وحديث ابن عمر القراءة بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} والصمد وغيرها.(43/110)
لكن يمكن أن يجاب عن ذلك من وجهين:
الأول: أن التخفيف لعارض من سفر أو بكاء صبي أو غير ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما تخفيف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند بكاء الصبي فلا يعارض ما ثبت عنه من صفة صلاته بل قد قال في الحديث نفسه "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز" (1) فهذا تخفيف لعارض وهو من السنة كما يخفف في صلاة السفر وصلاة الخوف.
وكل ما ثبت عنه من التخفيف فهو لعارض كما ثبت عنه أنه قرأ في السفر في العشاء بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (2) وكذلك قراءته في الصبح بالمعوذتين فإنه كان في السفر ولذلك رفع الله الجناح عن الأمة في قصر الصلاة في السفر والخوف.
والقصر قصران: قصر أركان وقصر عدد فإن اجتمع السفر والخوف اجتمع القصران وإن انفرد السفر وحده شرع قصر العدد وإن انفرد الخوف وحده شرع قصر الأركان وبهذا يعلم سر تقييد القصر المطلق في القرآن بالخوف والسفر فإن القصر المطلق الذي يتناول القصريين إنما يشرع عند الخوف والسفر فإن انفرد أحدهما بقى مطلق القصر إما في العدد وإما في القدر".أ. هـ
وقال ابن رجب: "وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على تقصير القراءة في السفر وقال أصحابنا: لا يكره تخفيف القراءة في الصبح وغيرها في السفر دون الحضر".
وقال إبراهيم النخعي: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأون في السفر بالسور القصار.
خرجه ابن أبي شيبة". أ. هـ
ومما يؤيد هذا الوجه وأن هذا ليس منه صلى الله عليه وسلم دائما ما في حديث الرجل من جهينة من قراء النبي صلى الله عليه وسلم بالزلزلة في الركعتين كلتيهما.
__________
(1) انظر: حديث رقم (39) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (1/266رقم733) كتاب صفة الصلاة، باب الجهر في العشاء. ومسلم في صحيحه (1/339 رقم 464) كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء.(43/111)
قال الراوي: فلا أدري أنسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمداً، فلو كان شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف دائماً ما حصل هذا الاستفهام.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز ففي غالب أحواله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطوال المفصل لكنه قرأ بقصار المفصل ليبين للأمة جواز ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: "ولو قدر أنه صلى الله عليه وسلم خفف الصلاة لا لعذر كان في ذلك بيان الجواز وأن الاقتصار على ذلك لعذر ونحوه يكفي في أداء الواجب فأما أن يكون هو السنة وغيره مكروه مع أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أغلب أوقاته فحاشى وكلا ولهذا رواته عنه أكثر من رواة التخفيف والذين رووا التخفيف رووه أيضاً فلا نضرب سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض بل يستعمل كل منها في موضعه وتخفيفه إما لبيان الجواز وتطويله لبيان الأفضل.
وقد يكون تخفيفه لبيان الأفضل إذا عرض ما يقتضي التخفيف فيكون التخفيف في موضعه أفضل والتطويل في موضعه أفضل ففي الحالين ما خرج عن الأفضل وهذا اللائق بحاله صلى الله عليه وسلم وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته وهو اللائق بمن اقتدى به وائتم به صلى الله عليه وسلم".أ. هـ
فإن قيل فما الجواب عن الأحاديث التي فيها الأمر بتخفيف الصلاة مطلقاً يجاب عن ذلك بما ذكره ابن القيم رحمه: "من أنه يرجع في التخفيف المأمور بة إلى فعله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي وراءه الضعيف والكبير وذو الحاجة وقد أمرنا بالتخفيف لأجلهم فالذي كان يفعله هو التخفيف إذ من المحال أن يأمر بأمر ويعلله بعلة ثم يفعل خلافه مع وجود تلك العلة إلا أن يكون منسوخاً.(43/112)
وفي صحيح مسلم عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طول صلاة الرجل وقصر خطبتة مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان سحراً" فجعل طول الصلاة علامة على فقه الرجل وأمر بإطالتها وهذا الأمر إما أن يكون عاماً في جميع الصلوات وإما أن يكون المراد به صلاة الجمعة فإن كان عاماً فظاهر وإن كان خاصاً بالجمعة مع كون الجمع فيها يكون عظيماً وفيه الضعيف والكبير وذو الحاجة وتفعل في شدة الحر ويتقدمها خطبتان ومع هذا فقد أمر بإطالتها فما الظن بالفجر ونحوها التي تفعل في وقت البرد والراحة مع قلة الجمع ... "أ. هـ.
وقال أيضاً: "إن الإيجاز هو الذي كان يفعله وعليه داوم حتى قبضه الله إليه فلا يجوز غير هذا البتة".
وقال ابن القيم أيضاً: "وأما ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر (بقاف والقرآن المجيد) وكانت صلاته بعد تخفيفاً.
فالمراد به -والله أعلم- أن صلاته كانت بعد الفجر تخفيفاً يعني أنه كان يطيل قراءة الفجر ويخفف قراءة بقية الصلوات لوجهين:
أحدهما: أن مسلماً روى في صحيحه عن سماك بن حرب قال: "سألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء قال: وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر (بقاف والقرآن المجيد) ونحوها"فجمع بين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخفيف وأنه كان يقرأ في الفجر بقاف.
الثاني: أن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي مازال يصليها ولم يذكر أحد أنه نقص في آخر أمره من الصلاة وقد أخبرت أم الفضل عن قراءته في المغرب بالمرسلات في آخر الأمر وأجمع الفقهاء أن السنة في صلاة الفجر أن يقرأ بطوال المفصل.
وأما قوله: "ولا يصلي صلاة هؤلاء"فيحتمل أمرين:
أحدهما: لم يكن بحذف كحذفهم بل يتم الصلاة.(43/113)
والثاني: أنه لم يكن يطيل القراءة إطالتهم.
وفي مسند أحمد وسنن النسائي عن عبد الله بن عمر قال: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرنا بالتخفيف وإن كان ليؤمنا بالصافات"وهذا يدل على أن الذي أمر به هو الذي فعله فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يصلوا مثل صلاته ولهذا صلى على المنبر، وقال: "إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي" (1) .
وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (2) وذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا ويسمى خفيفاً بالنسبة إلى ما هو أطول منه وطويلاً بالنسبة إلى ما هو أخف منه فلا يمكن تحديد التخفيف المأمور به في الصلاة باللغة ولا بالعرف لأنه ليس له عادة في العرف كالقبض والحرز والإحياء والاصطياد حتى يرجع فيه إليه بل هو من العبادات التي يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع كما يرجع إليه في أصلها ولو جاز الرجوع فيه إلى العرف لاختلفت الصلاة الشرعية اختلافاً متبايناً لا ينضبط ولكان لكل أهل عصر ومصر بل لأهل الدرب والسكة وكل محل لكل طائفة غرض وعرف وإرادة في مقدار الصلاة يخالف عرف غيرهم وهذا يفضي إلى تغيير الشريعة وجعل السنة تابعة لأهواء الناس فلا يرجع في التخفيف المأمور به إلا إلى فعله صلى الله عليه وسلم ... ".أ. هـ
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/310،311رقم875) كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر. ومسلم في صحيحه (1/386-387 رقم 544) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (1/226 رقم 605) كتاب الآذان، باب الآذان للمسافر إذا كانوا جماعة ...(43/114)
وقال أيضاً: "وأما إن قدِّر نفور كثير ممن لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى وكثير من الباطوليه الذين يعتادون النقر كصلاة المنافقين وليس لهم في الصلاة ذوق ولا لهم فيها راحة بل يصليها أحدهم استراحة منها لا بها فهؤلاء لا عبرة بنفورهم فإن أحدهم يقف بين يدي المخلوق معظم اليوم ويسعى في خدمته أعظم السعي فلا يشكو طول ذلك ولا يتبرم به فإذا وقف بين يدي ربه في خدمته جزءً يسيراً من الزمان، وهو أقل القليل بالنسبة إلى وقوفه في خدمة المخلوق استثقل ذلك الوقوف واستطال وشكى منه وكأنه واقف على الجمر يتلوى ويتقلى ومن كانت هذه كراهته لخدمة ربه والوقوف بين يديه فالله تعالى أكره لهذه الخدمة منه والله المستعان". أ. هـ
الخاتمة
الحمد لله الذي وفق وأعان على إتمام هذا البحث المتواضع وقد ظهر لي من خلاله الأمور التالية:
-أن عدد الأحاديث الواردة في القراءة في صلاة الفجر (26) حديثاً الثابت منها (16) حديثاً.
-أن عدد الأحاديث الواردة في القراءة في الصلاة غير مقيد بالفجر (13) حديثاً الثابت منها سبعة أحاديث.
-أن غالب الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في الفجر بطوال المفصل وأما ما ورد من قراءته بقصار المفصل فمحمول على أن فعله لعارض أو لبيان الجواز والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(43/115)
تابع لأحاديث القراءة في صلاة الفجر جمعا ودراسة
فهرس المصادر والمراجع
- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: للإمام أحمد بن أبي بكر البوصيري، تحقيق عادل سعد والسيد محمد بن إسماعيل، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1419هـ.
- أحوال الرجال: لأبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، تحقيق صبحي السامرائي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1405هـ.
- أطراف الغرائب والأفراد: للإمام الدارقطني تصنيف الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، تحقيق محمود محمد حسن نصار والسيد يوسف، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1419هـ.
- أطراف مسند الإمام أحمد بن حنبل: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق د/ زهير ناصر الناصر، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ.
- الإلتزامات والتتبع: للإمام أبي الحسن الدارقطني، تحقيق الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، دار الباز للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية1405هـ.
- الآحاد والمثاني: للإمام ابن أبي عاصم، تحقيق د/ باسم الجوابره، دار الراية، الطبعة الأولى 1411هـ.
- الإستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى: لابن عبد البر تحقيق د/ عبد الله بن مرحول السوالمة، دار ابن تيمية، الطبعة الأولى 1405هـ.
- الإصابة في تمييز الصحابة: للحافظ ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت 1398هـ.
- بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث: لنور الدين الهيثمي، تحقيق د/ حسن أحمد الباكري، الجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1413هـ.
- بلغة القاصي والداني في تراجم شيوخ الطبراني: للشيخ حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله، مكتبة الغرباء الأثرية، الطبعة الأولى 1415هـ.
- بلوغ المرام من أدلة الأحكام: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الفكر.
- بين الإمامين مسلم والدارقطني: للشيخ ربيع بن هادي المدخلي، الجامعة السلفية بالهند، الطبعة الأولى 1405هـ.(43/116)
- تاريخ بغداد: للحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن معين في تجريح الرواة وتعديلهم: تحقيق د/ أحمد محمد نور سيف، دار المأمون للتراث، بيروت.
- التاريخ الكبير: للإمام البخاري، توزيع دار الباز، مكة المكرمة.
- تاريخ يحيى بن معين: تحقيق أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، في جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399هـ.
- المراسيل تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل: لولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي، مخطوط.
- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: تحقيق د/ إكرام الله إمداد الحق، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ.
- تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عوامة، دار الرشد، سوريا، الطبعة الأولى 1406هـ.
- تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس: لابن حجر العسقلاني، تحقيق د/ عبد الغني البنداري ومحمد عبد العزيز، دار الكتب ... العلمية، بيروت، الطبعة الأولى ... 1405هـ.
- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الله هاشم اليماني، دار المعرفة، لبنان.
- تهذيب التهذيب: للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى 1327هـ.
- تهذيب السنن: لشمس الدين ابن القيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية، مصر.
- تهذيب الكمال: للحافظ جمال الدين المزي، تحقيق د/ بشار عواد مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى.
- الثقات: لأبي حاتم بن حبان البستي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الطبعة الأولى 1399هـ.
- جامع الأصول في أحاديث الرسول: للإمام المبارك بن محمد بن الأثير الجزري تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.(43/117)
- الجرح والتعديل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، دائرة المعارف العثمانية، الهند، الطبعة الأولى 1372هـ.
- خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام: محي الدين النووي، تحقيق حسين إسماعيل الجمل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1416هـ.
- زاد المعاد في هدي خير العباد: للإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1405هـ.
- سؤالات البرقاني: للدارقطني، تحقيق د/ عبد الرحيم القسقري، كتب خانة جميل، لاهور، باكستان، الطبعة الأولى 1404هـ.
- سؤالات حمزة السهمي: للدارقطني في الجرح والتعديل، تحقيق موفق ابن عبد الله بن عبد القادر، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى 1404هـ.
- السنن -المجتبي-: للحافظ أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ.
- السنن: لأبي داود السجستاني الأزدي، تحقيق عزه عبيد الدعاس، دار الحديث، سوريا، الطبعة الأولى 1388هـ.
- السنن: لأبي عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية 1396هـ.
- السنن: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية، بيروت.
- السنن: للحافظ علي بن عمر الدارقطني، تصحيح عبد الله هاشم اليماني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
- السنن الكبري: للإمام النسائي، تحقيق د/ عبد الغافر البنداري، وسيد كردي حسن، ... دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ.
- السنن الكبرى: للبيهقي، دار الفكر.
- سير أعلام النبلاء: للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق جماعة من المحققين، إشراف شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1403هـ.
- شرح السنة: للبغوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403هـ.
- شرح مسلم: للإمام النووي، دار الفكر.(43/118)
- شرح مشكل الآثار: لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1415هـ.
- شرح معاني الآثار: لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق محمد زهير النجار، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ.
- صحيح البخاري -الجامع الصحيح المسند-: للإمام البخاري، تحقيق د/ مصطفى البغا، دار ابن كثير واليمامة، دمشق، بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ.
- صحيح ابن حبان -الإحسان ترتيب الأمير علاء الدين-: للإمام أبي حاتم بن حبان البستي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1408هـ.
- صحيح ابن خزيمة: لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق د/ محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1390هـ.
- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
- الصلاة وحكم تاركها: للإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق تيسير زعيتر، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1405هـ.
- الضعفاء: لأبي زرعة الرازي، مطبوع ضمن كتاب أبي زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية للدكتور سعدي الهاشمي، الجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1402هـ.
- علل الترمذي الكبير: ترتيب أبي طالب القيسي، تحقيق حمزة ديب مصطفى، مكتبة الأقصى، الطبعة الأولى 1406هـ.
- علل الحديث: للإمام أبي محمد عبد الرحمن الرازي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
- العلل الواردة في الأحاديث النبوية: لأبي الحسن الدارقطني، تحقيق د/ محفوظ الرحمن بن زين الله السلفي، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1406هـ.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري: للحافظ زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي، تحقيق جماعة من المحققين، نشر مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، الطبعة ... الأولى 1417هـ.
- عمل اليوم والليلة: للإمام النسائي، تحقيق د/فاروق حمادة، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى 1401هـ.(43/119)
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
- القراءة خلف الإمام: للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1405هـ.
- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: للإمام شمس الدين الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
- الكامل في ضعفاء الرجال: للإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
- كشف الأستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة: للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1404هـ.
- الكنى والأسماء: للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق د/ عبد الرحيم القشقري، الجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1404هـ.
- الكنى والأسماء: لأبي بشر محمد بن أحمد الدولابي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ.
- الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الثقات: لأبي البركات محمد بن أحمد ابن الكمال، تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي، دار المأمون للتراث، بيروت، دمشق، الطبعة الأولى 1402هـ.
- لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الثانية1390هـ.
- مجمع البحرين بزوائد المعجمين: للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1413هـ.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة، الثالثة 1402هـ.
- المجموع شرح المهذب: للإمام النووي، دار الفكر.(43/120)
- المحرر في الحديث: للحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي لمقدسي، دراسة وتحقيق يوسف المرعشلي، ومحمد سليم سماره، وجمال الذهبي، دار لمعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
- المحلي: للإمام أبي محمد بن حزم الأندلسي، تحقيق د/ عبد الغفار البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت.
- المراسيل: للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1408هـ.
- المراسيل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، تحقيق شكر الله بن نعمة الله القوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1402هـ.
- المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم، دار الكتب العلمية.
- المسند: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة.
- مسند البزار -البحر الزخار-: للإمام أبي بكر البزار، تحقيق د/ محفوظ الرحمن، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، ومكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة ... الأولى.
- مسند أبي داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود، دار المعرفة، بيروت.
- مسند أبي عوانة: يعقوب بن إسحاق، دار المعرفة، بيروت.
- مسند أبي يعلي الموصلي أحمد بن علي التميمي: تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ.
- مصباح الزجاجة إلى زوائد ابن ماجه: للشهاب أحمد بن أبي بكر البوصيري، تحقيق موسى محمد علي ود/ عزت عطية، دار الكتب الحديثة، مصر.
- المصنف في الأحاديث والآثار: للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، الهند، الطبعة الثانية 1399هـ.
- المصنف: للحافظ عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ.
- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق غنيم عباس، وياسر إبراهيم، دار الوطن، الطبعة الأولى 1418هـ.(43/121)
- المعجم الأوسط: للطبراني، تحقيق د/ محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1405هـ.
- المعجم الكبير: لأبي القاسم الطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مطبعة الأمة، بغداد، ومطابع الزهراء الحديثة، الطبعة الأولى والثانية.
- المعجم الصغير: للطبراني، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1388هـ.
- معرفة الثقات: للإمام الحافظ أبي الحسن العجلي، ترتيب الهيثمي والسبكي، تحقيق عبد العليم البسنوي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1405هـ.
- معرفة الصحابة: لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق عادل يوسف العزازي، دار الوطن، الطبعة الأولى، 1419هـ.
- المغني في الضعفاء: للإمام الذهبي، تحقيق د/ نور الدين عتر.
- المقتنى في سرد الكنى: للإمام شمس الدين الذهبي، تحقيق محمد صالح عبد العزيز المراد، الجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1408هـ.
- موطأ الإمام مالك بن أنس: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية.
- المنتخب: للحافظ عبد بن حميد، تحقيق مصطفى العدوي، مكتبة ابن حجر، الطبعة الأولى 1408هـ.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للإمام الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
- نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق حميدي عبد المجيد السلفي، مكتبة المثنى، بغداد، الطبعة الأولى.
- النهاية في غريب الحديث: للإمام مجد الدين المبارك بن محمد بن الأثير، تحقيق طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، دار الفكر، بيروت.
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار: للعلامة الشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
- هدي الساري مقدمة فتح الباري: لابن حجر العسقلاني، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تصحيح محب الدين الخطيب، نشر الرئاسة العامة لإدارت البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، السعودية، الرياض.(43/122)
تلوين الخطاب لابن كمال باشا
دراسة وتحقيق
إعداد
د. عبد الخالق بن مساعد الزهراني
الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية
المقدمة
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على صفوة خلق الله سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه: أما بعد:
فإن الله قد هيّأ للغة العربية رجالاً، سبروا أغوارها العميقة، وفهموا أسرارها، واستخرجوا دررها، وتنافسوا في خدمتها، فملأت مؤلفاتهم الصحائف، وانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، وبين الحين والآخر نجد مؤلّفاً قشيباً، نفض عنه غبار النسيان، فبدأ بهيّ الطلعة، وليد اللحظة، تتطلع إليه الأنظار، وتهفو إليه الأفئدة، ومع هذا الدأب في إخراج كنوز التراث، والجهد المتواصل في تحقيقها، فما زالت المكتبات تخبّئ في زواياها نفائس، تضنّ بها على محبيها، والمتعطشين إلى ورود حياضها، على الرغم من سعيهم الحثيث إليها، وتنقيبهم الدؤوب عنها في كلّ مكان.
و"تلوين الخطاب"من نفائس المخطوطات، رسالة صغيرة الحجم، جليلة القدر، عثرت على مصورتين منها في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهي للعالم المشهور ابن كمال باشا رحمه الله تعالى.
وقد أغراني عنوانها، فهو عنوان جذاب، ينبئ عن اختيار أديب بارع، وعالم متمكن، وحين قلّبت صفحاتها، وجدتها رسالة قيّمة، حقيقة بأن يبذل فيها الجهد والوقت، وقد عثرت على مصوّرتين لها، فشرعت في نسخها، ومقابلة نُسختيها، وحين استعصى عليّ اختيار إحدى النسختين أصلاً عمدت إلى اختيار ما أراه صواباً منهما، وما ترجّح لديّ من خلال قرائن السياق، وأثبت في الهامش ما يخالفه.(43/123)
وإذا تبيّن لي أنّ في النسختين خطأ ظاهراً، فإنَّني أجعل ما أراه صواباً في المتن وأضعه بين معكوفتين، وأذكر في الهامش ما هو موجود فيهما، وإن كان ما أظنَّه خطأ منقولاً عن أحد المصادر، فإني أستعين بهذا المصدر في التصويب، فأجعل الصواب في المتن، وأذكر في الهامش ما يخالفه.
وقد خدمت النصّ؛ فخرّجت الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيه، فبينت سورها وأرقامها، وخرّجت الأبيات الشعريّة وعزوتها إلى أصحابها، وذكرت مصادرها في الهامش.
وتتتبعت الأقوال التي أوردها المؤلف، فعزوتها إلى أصحابها، ووثّقتها من مؤلفاتهم، سوى نقلين لم أجدهما في المصادر التي أشار المؤلف إلى أنه نقلهما عنها، ونبّهت على ذلك في موضعه من الرسالة.
كما أنه نقل عن الكشف مرتين، والكشف لا يزال مخطوطاً، وقد بحثت عنه في المدينة فلم أجده، وسألت بعض المهتمين بكتب التفسير فلم أجد له خبراً لديهم، ولذا فقد اكتفيت بالتوثيق من حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي لأن الشهاب ينقل عن الكشف كثيراً في حاشيته هذه.
وجعلت مدخلاً قبل الرِّسالة، تحدثت فيه عن المؤلف؛ مولده، ونشأته، وطلبه للعلم، ومؤلفاته، وأعماله، ووفاته.
واتضح لي جهده وكفاحه في سبيل تحصيله العلم، حتى أصبح عالماً لا يجارى، يتبوأ أعلى المناصب العلمية في عصره، ويخلّف ثروة كبيرة من المؤلفات في كثير من الفنون.
وتحدثت - أيضاً - عن الرِّسالة؛ فبيّنت عنوانها ووثّقت نسبتها إلى مؤلفها، وعرضت محتواها، وبيّنت قيمتها العلميّة، فذكرت ما فيها من مزايا وحسنات، والمآخذ التي ظهرت لي.(43/124)
ثم قدّمت وصفاً للنسخ المخطوطة التي اعتمدت عليها في التحقيق وأوردت نماذج منها. ولا يخفى ما في تحقيق المخطوطات من مشقة وعناء، ولا يقدّر ذلك حقّ قدره إلا من مارسه، ورأي الجهد الذي يتكبّده الباحث في سبيل إقامة عبارة أو تصحيح كلمة، أو تخريج بيت، أو توثيق نقل ... وغير ذلك مما يعترض الباحث من عقبات يقف أمامها الساعات الطّوال حتى ييسّر الله له تجاوزها.
وكل جهد مهما عظم في عين صاحبه، يكون يسيراً وينقلب متعةً حين تتحقّق الفائدة المرجوّة من ورائه، وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله لبنة بنّاءة في خدمة اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، وأن يجعلنا جنداً مخلصين في سبيل إعلائها والمحافظة عليها، إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
التعريف بالمؤلف (1)
اسمه ونسبه:
هو: أحمد بن سليمان بن كما باشا، الملقب شمس الدين.
اشتهر بابن كمال باشا. تركي الأصل، مستعرب.
حياته:
__________
(1) انظر في ترجمته: - الشقائق النعمانية طاشكبري زادة 226-227 دار الكتاب العربي - بيروت 1975م.
- الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للشيخ نجم الدين الغزّي 2/107-108 تحقيق د. جبرائيل سليمان جبّور. منشورات دار الآفاق الحديثة - بيروت ط (2) 1979م.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي 8/238-239 دار الفكر د. ت.
- تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان 3/252-253. دار الهلال د. ت.
- الأعلام - خير الدين الزركلي 1/133، دار العلم للملايين (ط 6) 1984م.
- معجم المؤلفين عمر رضا كحالة 1/238 دار إحياء التراث العربي - بيروت.(43/125)
كانت لأسرته مكانة عالية إضافة إلى ما عرفت به من علم وفضل فقد كان جدّه من أمراء الدولة العثمانية، ولذا فقد نشأ ابن كمال في بيت جاهٍ وسلطان، وهذا يجعل حياته مرفّهة ومنعمّة، ولكنه التحق بالجيش وهو شاب، فكان لهذا أثر في تكوين شخصيته، من حرصٍ على الوقت، وجدٍّ، وتحمّلٍ للشدائد، والصبر على الصعوبات.
وأراد الله له الخير والذّكر الحسن، فرأى منظراً صرفه عمّا هو فيه من عملٍ إلى طلب العلم، وقد وصف ذلك المنظر، فذكر أنه كان مسافراً مع السلطان بايزيد خان ووزيره إبراهيم باشا، ثم صادف أن كان في حضرة الوزير أمير ليس في الأمراء أعظم مكانةً منه؛ لا يتصدّر عليه أحد من الأمراء، وبينما ابن كمال في هذا الموقف العسكري، الذي يقف فيه كل إنسان عند حدود رتبته، ولا يتطلّع إلى أعلى منها؛ إذا هو يشاهد رجلاً رثّ اللباس؛ لا تدلّ هيئته على علوّ منزلة، يخطو خطوات واثقة، فيتصدّر المجلس، ويتبوأ مكاناً أعلى من الأمير، فتدخل الدهشة والحيرة نفس ابن كمال، ويتساءل: لماذا لم يمنعه أحد؟! ولماذا رضي الأمير بهذا الأمر؟! وهمس إلى بعض رفقائه: من هذا الذي تصدّر على مثل هذا الأمير؟!.
فأخبره: إن هذا عالم، يقال له: المولى لطفي.
ولكن ابن كمال لم يقتنع بهذا الجواب، فهو لا يزال يزن الأمور بميزان مادّيّ بحتٍ، ولذا فقد سأل رفيقه أيضاً: كم وظيفته؟ أي ما مقدار ما يتقاضاه من الأجر؟ فأجابه رفيقه: ثلاثون درهماً. ويدهش دهشة كبيرةً، لهذه المكانة التي أتيحت لهذا الرجل؛ إذ كيف يقدّم على الأمير ووظيفته بهذا المقدار الضّئيل؟
ولكن رفيقه بيّن له حقيقة الأمر، فقال:
العلماء معظّمون لعلمهم، فإنه لو تأخّر لم يرض بذلك الأمير ولا الوزير.(43/126)
وكان له في هذا القول تفكير وتأمّل، دفع به إلى طلب العلم، فهو يريد علوّ المنزلة، ولا يمكن أن يصل إلى منزلة الأمير، ولكنه لو طلب العلم، فأصبح عالماً، فإنّه سيصل إلى منزلة أعلى، ولهذا فقد قرّر أن يكون تلميذاً؛ وكانت هذه بداية انطلاقه نحو تحصيل العلوم المتنوّعة، وبذل في سبيلها أقصى جهده، ووجّه كلّ طاقاته، فحصل له خير كثير، وجمع فنوناً عديدةً، برع فيها كلها وقد وصفه صاحب الشقائق النعمانية وصفاً رائعاً حين قال: "كان رحمه الله تعالى من العلماء الذين صرفوا جميع أوقاتهم إلى العلم، وكان يشتغل به ليلاً ونهاراً، ويكتب جميع ما لاح بباله.. وقد فتر الليل والنهار ولم يفتَّر قلمه".
وأثمر هذا الجهد عن مكانة عالية، وعلم متدفّق، جعلت ابن كمال باشا يتولّى التدريس في عدد من المدارس، حتى وصل إلى أرقاها؛ فدرّس في مدرسة علي بك بمدينة أدرنة، ثم بمدرسة أسكوب، ثم درّس بإحدى المدارس الثمان، ثم بمدرسة السلطان بايزيد بأدرنة.
وتولّى بعد ذلك القضاء بأدرنة. ثم قضاء العسكر الأناضولي. وانتهى به المطاف ليستقرّ في الإفتاء بالقسطنطينية إلى أن توفي سنة 940هـ رحمه الله تعالى.
مؤلفاته:(43/127)
كان ابن كمال باشا باحثاً موسوعياًّ، خاض غمار التأليف في فنون شتّى، ولو تصفّحنا عناوين مؤلفاته التي ذكرت في المصادر لوجدناه عالماً فذاًّ محيطاً بكثير من العلوم، فقد صنّف في: التفسير، والفقه، والفرائض، والأصول، وعلم الكلام، والبلاغة، واللغة، ولم يقف عند التأليف بالعربيّة، ولكنه ألّف بالفارسيّة والتركيّة، كما كان بارعاً في النظم والإنشاء أيضاً، فهو رجل موهوب، وقد وهب نفسه للعلم، فأثمر جهده عن حصيلة متميّزة، وليس من اليسير حصر مؤلفاته، خاصة أنه كان يعمد إلى اختيار الموضوعات الدقيقة، فيصنف فيها، ولذا كثرت رسائله، فقال عنه صاحب الشقائق "وصنّف رسائل كثيرة في المباحث المهمّة الغامضة، وكان عدد رسائله قريباً من مائة". وشبّهه د/ناصر الرشيد في كثرة تأليفه "بالسيوطي وابن الجوزي وابن حزم وابن تيمية ممن اشتهر في تاريخ الإسلام بكثرة التأليف".
وسأشير هنا إلى ما وقفت عليه من مؤلفاته:
1- أسرار النحو. وقد حققه د. أحمد حسن حامد.
2- إصلاح الإيضاح، أو إيضاح الإصلاح في الفقه وهو شرح لمتن للمؤلف.
3- تاريخ آل عثمان.
4- تجريد التجريد في علم الكلام.
5- تغيير التنقيح في الأصول وهو شرح لمتن للمؤلف.
6- تفسير القرآن العزيز.
وقد حقق الباحث يونس عبد الحي ما سورتي الفاتحة والبقرة منه في رسالة علمية لنيل درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وذكر أن هذا التفسير من أول سورة الفاتحة إلى نهاية سورة الصافات.
7- حواشٍ على التلويح.
8- حواشٍ على التهافت للمولى خواجة زاده.
9- حواشٍ على شرح المفتاح للسيد الشريف.
10- حواشٍ على الكشاف.
11- رجوع الشيخ إلى صباه.
12- شرح بعض الهداية.
13- شرح مشكاة المصابيح.
14- شرح مفتاح العلوم للسكاكي.
15- طبقات الفقهاء.
16- طبقات المجتهدين.
17- كتاب في الفرائض وهو شرح لمتن للمؤلف.
18- محيط اللغة.
19- المهمات في فروع الفقه الحنفي.(43/128)
وله عدد من الرسائل طبع منها مجموعة تضم ستاً وثلاثين رسالة، ومنها مجموعة مخطوطة تضم ثماناً وعشرين رسالة في الخزانة التيمورية، ومجموعة خطيّة أخرى في أربع وعشرين رسالة فيها أيضاً.
ومن الرسائل التي نشرت - فيما وقفت عليه:
1- رسالة في تحقيق معنى كاد.
2- رسالة في تحقيق التغليب.
3- رسالة أن التوسع شائع.
4- رسالة في تحقيق المشاكلة.
5- رسالة في رفع ما يتعلق بالضمائر من الأوهام.
6- رسالة في الفرق بين "من"التبعيضية و"من"التبيينية.
7- رسالة في بيان ما إذا كان صاحب علم المعاني يشارك اللغوي في البحث عن مفردات الألفاظ.
8- رسالة في تحقيق تعريب الكلمة الأعجمية.
9- التنبيه على غلط الجاهل والنّبية.
10- رسالة في الكلمات المعرّبة.
11- رسالة في بيان الأسلوب الحكيم.
12- المزايا والخواص في الأسلوب البلاغي.
13- تحقيق معنى النظم والصياغة.
وهذا ما استطعت أن أصل إليه، وهناك من الباحثين من ذكر أن عدد رسائله تفوق ما ذكره صاحبا الشقائق والكواكب السائرة فقد ذكرا أن رسائله قريبة من مائة رسالة، بينما أشار د. محمد حسين: أبو الفتوح إلى أن لابن كمال باشا "عدة رسائل في اللغة، قيل إنها تزيد على ثلاثمائة رسالة في اللغة".
وهذا تراث ضخم أسأل الله أن يدلّ الباحثين على مواطنه كي يخرجوه إلى اللغة العربية ليفيدوا منه، وينهلوا من معينه.
التعريف بالرِّسالة:
عنوانها - توثيق نسبتها إلى المؤلف - بيان محتواها - قيمتها العلميّة - المآخذ عليها
عنوانها:
لم أجد صعوبة في تحديد عنوان الرِّسالة، لأنّ المؤلّف نصّ عليه في مقدمّته، فقال: "وبعد فهذه رسالة مرتّبة في بيان تلوين الخطاب، وتفصيل شعبه....".
ووجدت في إحدى النسخ التي اعتمدتها عنواناً بارزاً هو: "رسالة تلوين الخطاب".(43/129)
وذكر هذا العنوان - أيضاً - الباحث يونس عبد الحي ما، فقال: "رسالة في الالتفات، وتسمّى برسالة في تلوين الخطاب" (1) .
وإن كان قد وهم في جعلها في الالتفات، لأن المؤلّف نصّ على أنها في تلوين الخطاب، والالتفات إحدى شعبه.
توثيق نسبتها إلى المؤلف:
رسائل ابن كمال باشا كثيرة ومتنوّعة، ولذا كان المترجمون له يذكرون أنّ له رسائل كثيرةٌ وقد تربو على الثلاثمائة عند بعضهم.
وأمام هذا العدد الهائل من الرسائل أحجم الباحثون عن تتبُّعها وبيان عناوينها وفنونها، واكتفوا بذكر ما اطلعوا عليه منها فقط، حتّى هيّأ الله باحثاً جادّاً، تتبّع مصنّفات ابن كمال جميعها، وفصّل فيها، فذكر عناوينها وموضوعاتها، وهو الباحث: يونس عبد الحي ما، وقد أورد مصنفات المؤلف
باللغة العربية في (44) صفحة وهذا جهد يُشكر عليه، وتتبّع دقيق يحمد له.
وكان ممّا أورده من هذه المصنّفات، الرِّسالة التي نحن بصددها، وقد أسماها:
- رسالة في الالتفات، وتسمّى برسالة في تلوين الخطاب.
ومن عرف أسلوب ابن كمال باشا، أو قرأ بعض رسائله، فإنه لن يجد مشكلة في معرفة ما هو له، أو ليس له من الرسائل، فمما يميّز رسائله، أنه درج على نمط معين في التعريف بموضوعها، إذ يقول بعد التحميد: "فهذه رسالة رتبناها"، أو "فهذه رسالة مرتبة في.."
وانظر ما قاله في الرسائل الآتية:
- وبعد فهذه رسالة مرتّبة في وضع كاد وتوضيح طريق استعماله.
- وبعد فهذه رسالة رتّبناها في تحقيق المشاكلة وتفصيل ما يتعلق بها.. .
- وبعد فهذه رسالة رتبناها في رفع ما يتعلق بالضمائر من الأوهام.. .
- وبعد فهذه رسالة رتّبناها في تحقيق معنى النظم والصياغة.. .
وهنا نجد أنّ هذه الرسالة تسير وفق ما ألفناه من قبل في الرسائل السابقة فقد جاء فيها:
- وبعد فهذه رسالة مرتّبة في تلوين الخطاب وتفصيل شعبه....
__________
(1) تحقيق ودراسة سورتي الفاتحة والبقرة من تفسير ابن كمال باشا: 93.(43/130)
وممّا يوثّق نسبة الرِّسالة إلى صاحبها، أننا نجد علماء يكثر دورانهم في
رسائله، ينقل عنهم، أو يناقشهم ويعترض عليهم، وهؤلاء هم:
1- الزمخشري، ويشير إليه كثيراً بقوله: صاحب الكشاف.
2- صاحب الكشف.
3- البيضاوي.
4- الشريف الفاضل.
5- الفاضل التفتازاني.
6- صدر الأفاضل في ضرام السقط.
وهؤلاء هم الذين تردّد ذكرهم كثيراً في هذه الرسالة، ويبدو أنَّ المؤلّف قد ألفهم واعتاد مناقشتهم أو النقل عنهم في كثير من رسائله.
محتوى الرسالة:
في هذه الرسالة يبحث ابن كمال باشا تلوين الخطاب، فيبيّن أهميته وعناية العرب به أكثر من عنايتهم بقرى الأضياف، وما ذاك إلا لأنَّه قرىً للأرواح، ولذا فقد أولوه عنايتهم.
ثم ذكر أن تلوين الخطاب يكون بأحد هذه الأمور:
1- العدول عن الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، وقد مثّل له بقوله
تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } (1) والشاهد من هذه الآيات في قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بعد قوله {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} .
2- صرف الخطاب عن مخاطب إلى مخاطب. ومثّل له بقول جرير:
ثِقِيْ بِاللهِ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ
وَمِنْ عِنْدِ الْخَلَيْفَةِ بِالنَّجَاحِ
أَغِثْنِيْ يَا فِدَاكَ أَبِيْ وَأُمِّي
بِسَيْبٍ مِنْكَ إِنَّك ذُو ارْتِياحِ
__________
(1) سورة الأنعام: 106- 108.(43/131)
فهو يرى أن الشاعر انتقل من خطاب زوجته إلى خطاب الخليفة، وبناءً على ذلك فليس فيه التفات عنده، وإنما هو من قبيل تلوين الخطاب، لأن من شرط الالتفات أن يكون المخاطب في الحالين واحداً، وقد بيّنت أنّ في هذين البيتين التفاتاً خلاف ما ذهب إليه المؤلف. وسواء كان فيهما التفات أو لم يكن كما قرّر ذلك المؤلف، فهما داخلان تحت تلوين الخطاب.
3- العدول عن صيغة من الصيغ الثلاث وهي: صيغة التكلم، وصيغة الخطاب، وصيغة الغيبة، إلى الأخرى منها.
وهذا النوع لم يمثّل له.
4- الالتفات: وذكر أنه: تغيير أسلوب الكلام بنقله من إحدى الصيغ الثلاث المذكورة سابقاً إلى الأخرى؛ بشرط أن يكون الكلام بعد النقل مع من كان قبله.
والفرق بين هذا وما قبله، أنّ هذا خاصّ فيما إذا كان المخاطب قبل النقل وبعده واحداً، بينما الذي قبله عامّ لا يشترط فيه استمرار الكلام بعد النقل مع من كان قبله.
وقد أسهب في هذا النوع، واستغرق منه معظم صفحات الرسالة، ولا غرابة في ذلك فالالتفات مما اعتنى ببحثه البلاغيون.
5- تغيير الأسلوب دون النقل.
وهذا أيضاً لم يمثّل له، وأرى أنه باب واسع، يشمل كثيراً من الأمور التي يكون فيها تغيير للأسلوب عن مقتضى ظاهر المقام، ويمكن حينئذٍ أن يدخل فيه ما أورده ابن الأثير في الالتفات مثل: الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، والإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي.(43/132)
وحين نمعن النظر في تلوين الخطاب لدى ابن كمال باشا، نجده يحاول استقصاء الأساليب التي تلفت الانتباه، حين تتغيّر من حال إلى حال، وتخرج عن مقتضى الظاهر، فيجعلها داخلة في فروعه، وذلك لأنه رأى أن علماء البلاغة لا يعدّونها من الالتفات بعد أن تحدّد مفهومه، ووضعت له الشروط التي تخرج كثيراً من الأساليب الخارجة عن مقتضى الظاهر، وخاصة عند متأخري علماء البلاغة حيث ذكروا أن الالتفات هو: "التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها" وإن كان السّكاكي أكثر تسامحاً منهم: فلا يشترط
تحقّق التعبير أوّلاً، بل يكتفي بأن يكون التعبير قد عدل عمّا يتطلبه مقتضى الظاهر إلى خلافه.
وكان الالتفات عند السابقين من علماء البيان مصطلحاً عائماً يدخل فيه ما ليس منه، وهذا ما وجد لدى ابن قتيبة، وابن المعتز، وقدامة بن جعفر، وأبي هلال العسكري، وابن رشيق، وغيرهم فالالتفات لديهم غير محدّد، بل أدخل فيه بعضهم التذييل والاعتراض والاستدراك، وكذلك نجد التوسّع فيه عند ابن الأثير من بعد، حيث جعل منه التعبير بالأمر عن المضارع أو الماضي، والتعبير بالمضارع عن الماضي، وبالماضي عن المضارع.
وحين وجد ابن كمال الانفتاح لدى بعض البلاغيين في مفهوم الالتفات، والانغلاق والتضييق لدى بعضهم الآخر، اختار تلوين الخطاب فجمع فيه بين رؤية السابقين واللاحقين، وحافظ على مصطلح الالتفات محدّداً دقيقاً وجعله نوعاً من أنواع تلوين الخطاب.
قيمة الرسالة العلمية
تأتي أهميّة الرسالة من كونها تتناول موضوعاً، لم أجد من أفرد له بحثاً مستقلاً، وهو تلوين الخطاب، ولم أقف على مؤلفٍ - فيما اطلعت عليه - يتحدث عنه، أو يشير إليه سوى عند الشهاب الخفاجي، فقد وردت إشارة خاطفة إليه، ولذا فقد خلت منه المعاجم الأدبية والنقدية الحديثة التي تهتمّ برصد المصطلحات الواردة في القديم والحديث.(43/133)
ومع هذه الأهميّة، فإنّ للمؤلف وقفاتٍ رائعة، ومناقشات لمن سبقه من العلماء تدلّ على سعة علمه، ودِقَّته، وتفصح عن مكانة الرسالة العلمية، ومن ذلك:
1- اعتراضه على الزمخشري في استنباط النكتة البلاغية من الالتفات في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (1) . حيث قال: "ولذلك صرّح الإمام البيضاوي على وفق إشارة صاحب الكشاف بوجود الالتفات في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فإن العدول فيه عن مقتضى ظاهر الكلام، حيث كان سباقه، وهو قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} على صيغة الغيبة، لا عن مقتضى ظاهر المقام، لأن مقتضاه الخطاب في الموضعين، ونكتة العدول عن مقتضى الظاهر بحسب المقام، التعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، والتلطيف في تأديبه بالعدول عن الخطاب في مقام العتاب، والإباء عن المواجهة بما فيه الكراهة".
وعقَّب على هذا بقوله: "وأمَّا ما قيل: في الإخبار عمّا فرط منه ثم الإقبال عليه، دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ، وإلزام الحجة -فوهم لا ينبغي أن يذهب إليه فهم". وهذا القول الذي أشار إليه بقوله: "وأما ما قيل"ورد عند الزمخشري في الكشاف.
2- اعتراضه على اشتراط "أن يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر" في الالتفات ويرى أنه "لا حاجة إلى ذكره، واعتباره شرطاً زائداً على ما ذكرنا، لأن أسلوب الكلام لا يتغيّر إلا إذا كان كذلك، بناءً على أن المراد من مقتضى الظاهر هنا، ظاهر الكلام لا مقتضى ظاهر المقام".
وهذا الذي ذكره وجيه، إذ إن الالتفات في الأصل لا يكون إلا إذا كان التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر، فكأنّ اشتراطه لا داعي له، فهو متحقّق، ومن الأولى تركه.
__________
(1) سورة عبس: 1-3.(43/134)
3- وقد انتقد الزمخشري في عدم تفصيله لأنواع الالتفات، وأعجب بما أورده السكاكي في هذا الأمر، فقال: "وقد أفصح عن هذا صاحب المفتاح بقوله: بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحدٍ منها إلى الآخر، ويسمّى هذا النقل التفاتاً عند علماء المعاني، وإن قصر عنه بيان صاحب الكشاف بقوله: هذا يسمّى الالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، حيث اقتصر على ذكر أنواعه الثلاثة".
وهذا التقصير واضح من الزمخشري، فإن كلامه يوهم أن أنواع الالتفات ثلاثة فقط، بينما هي ستة، وهي ظاهرة في قول السكّاكي.
وفي موضع آخر وجدناه يقدّم الزمخشري على السكاكي في توضيح الالتفات في أبيات امرئ القيس: تطاول ليلك بالإثمد ...
فقال: "وقال صاحب المفتاح: فالتفت - يعني امرأ القيس - في الأبيات الثلاثة، أراد أنه التفت في كل بيت، وكلام صاحب الكشاف في هذا المعنى أظهر، حيث قال: التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات، فإنه نصّ في الثلاث وظاهر في التوزيع".
وهذا مما يدلّ على إنصافه، وميله مع الحق، وتتبّعه للأمانة العلميّة في نقده واستحسانه.
4- وانتقد السكّاكي، لأنه لم يأت بمثالٍ على الالتفات من التكلم إلى الغيبة، واستدرك عليه بمثالٍ من القرآن الكريم، ورأى أن المثال وإن لم يكن موجوداً في الشعر الجاهلي، فإنه موجود فيما هو أفضل منه وأتمّ، وعلى هذا فلا عذر للسكّاكي في عدم التمثيل له، يقول: «ومثال النوع المذكور من الشعر لم يوجد في أشعار الجاهلية، ولذلك لم يورد صاحب المفتاح مثالاً له، إلا أنه لم يصب في ذلك؛ لأن وجود مثاله في التنزيل كان كافياً، فلا وجه لاقتصاره على إيراد المثال للأقسام الخمسة".
ومثال هذا النوع الذي ذكره، هو قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1) .
__________
(1) سورة الكوثر آية (1-2) .(43/135)
ومما يدلّ على اهتمامه بالاستشهاد بالقرآن وعنايته به، استدراكه أيضاً على التفتازاني حين نفى وجود التعبير عن الغائب أو المخاطب بلفظ الجمع المتكلم، وذلك في قوله: "وقد كثر في الواحد من المتكلم لفظ الجمع تعظيماً له، لعدّهم المعظّم كالجماعة، ولم يجيء ذلك للغائب والمخاطب في الكلام القديم، وإنما هو استعمال المولّدين ... ".
حيث قال المؤلف بعد إيراده هذا القول -: "وفيه نظر؛ لأنه قد جاء ذلك للغائب والمخاطب أيضاً في الكلام القديم" ومثّل للغائب بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) فقد نقل عن البيضاوي في تفسير هذه الآية: "أي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله لتعظيم أمره، والإشعار بأن قضاءه قضاء الله تعالى، وجمع الضمير الثاني للتعظيم".
ومثّل للمخاطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا..} (2) في قراءة من جمع لفظ (راعونا) ونقل ذلك عن الزمخشري فقال: "وأما الثاني فقد قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {لا تقُولُوا راعِنَا} وقرأ ابن مسعود (راعونا) على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع للتوقير".
5- وانتقد التفتازاني في شرحه للتلخيص حين قال: "لأنا نعلم من إطلاقاتهم واعتباراتهم، أن الالتفات هو انتقال الكلام من أسلوب من التكلم والخطاب والغيبة، إلى أسلوب آخر غير ما يترقبه المخاطب؛ ليفيد تطرئةً لنشاطه، وإيقاظاً في إصغائه".
فقال: "ولما عرفت أن فائدة التطرئة والإيقاظ مدارها على نقل الكلام من أسلوب إلى آخر مطلقاً، فقد وقفت على ما في كلام الفاضل التفتازاني.... من الخلل، حيث اعتبر في ترتّب الفائدة المذكورة قيداً في الأسلوب المنقول إليه، لا دخل له فيه".
__________
(1) سورة الأحزاب آية: 36.
(2) سورة البقرة آية: 104.(43/136)
فالمؤلف يرى أن التفتازاني أخطأ هنا، لأنه جعل هذه الفوائد محصورة في الالتفات، بينما هي في الواقع أعم، فهي صالحة لكل انتقال دون تقييد؛ ولذا فقد ذكر التفتازاني التكلم والخطاب والغيبة، والانتقال إلى أسلوب آخر غير ما يترقبه السامع، يعني لديه: الانتقال من صيغة إلى أخرى من هذه الصيغ، وابن كمال لا يريد هذا التقييد في الأسلوب المنقول إليه، لأنّ الفائدة تشمل ما قيّد بهذا القيد الذي ذكره التفتازاني وما لم يقيّد.
ويلحق بهذا انتقاده السكّاكي ومن تابعه لذكرهم "السامع"حين ذكروا فوائد الالتفات، وكان الأولى أن يذكروا "المخاطب"حتى ينصرف الذهن إلى الالتفات خاصة، فأمّا ذكرهم «السامع» فإنّه لا يفهم منه اقتصار الفوائد على الالتفات فقط، بل يكون الأمر عاماًّ فيه وفي غيره من الأساليب التي يكون فيها انتقال من حالٍ إلى حال.
ورأيه هذا صائب؛ خاصة إذا استحضرنا شرط الالتفات: وهو أن يكون المخاطب بالكلام في الحالين واحداً وقد اختار المؤلف هذا الشرط، ونقله عن صدر الأفاضل.
يقول في ذلك: "واعلم أنّ مدار تلك الفوائد على تلوين الخطاب مطلقاً، سواء كان المخاطب بالكلام في الحالين واحداً، فيوجد شرط الالتفات، أو لا يكون واحداً، فلا يكون من باب الالتفات فحق من يريد ترتّبها على الالتفات خاصة؛ أن يذكر المخاطب بدل السامع، فصاحب المفتاح ومن حذا حذوه من الذين ذكروا السامع، عند تقريرهم الفوائد المذكورة، مرتبة على الالتفات المشروط بالشرط المزبور، لم يكونوا على بصيرة".
6- وتعقّب السيد الشريف في مسألة نحوية، حين شرح السيد الشريف قول السكّاكي - بعد إيراد أمثلة الالتفات – "وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم".(43/137)
فقد قال المؤلف: "قوله: أكثر من أن يضبطها القلم، مما أخطأ فيه الشارح الفاضل، حيث زعم أن المذكور (من) التفضيلية" وردّ عليه مبيّناً خطأه فقال: «ومبنى ما ذكره أوّلاً وآخراً، الغفول عن أصل في هذا الباب، ذكره الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وصاحب المغرّب، وغيرهما، وهو: أنّ أفعل التفضيل إذا وقع خبراً تحذف عنه أداة التفضيل قياساً، ومنه: الله أكبر وقول الشاعر:
دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
فكلمة (من) في أمثال ما ذكر متعلقة بما يتضمنه اسم التفضيل".
7- وانتقد السيد الشريف في فهم قول السكّاكي: "قد يختص مواقعه بلطائف" أي مواقع الالتفات، حيث فهم السيد الشريف أن (قد) هنا معناها التقليل، ولذا ردّ عليه المؤلف هذا الفهم، داعماً ردّه بالشواهد، فقال: "لفظة (قد) تستعار للتكثير، كما في قوله تعالى: {قدْ نرَى تقلُّبَ وجْهِكِ في السِّماءِ} (1) وقول الشاعر:
قَدْ أَتْرُكُ مُصْفَراًّ أَنَامِلُهُ
كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ
والشارح الفاضل لغفوله عن استعارة (قد) للتكثير في أمثال هذا المقام، قال في شرحه: ولفظة (قد) إشارة إلى أن الفائدة العامة كافية لحسن الالتفات في مواقعها كلها، لكن ربّما اشتمل بعضها على فائدة أخرى، فيزداد حسنه فيه".
ولعلّ هذه الأمثلة توضّح أهميّة هذه الرسالة، وتفصح عن قيمتها العلميّة، وتلقي الضوء على منزلة المؤلف العلميّة، وأمانته ودقّته.
المآخذ على الرسالة:
__________
(1) سورة البقرة آية 144.(43/138)
الرّسالة في مجملها عمل جادّ، وجهد مثمر من عالمٍ متمكن، وقد مرّ معنا مزايا كثيرة لها، من خلال تلك الأمثلة التي عرضت جهد المؤلف، ومناقشاته، ولكن البشر مهما بلغوا في درجات الترقي والتجويد، فإنه لابد لهم من كبوة تنبئ عن بشريّتهم، وعدم عصمتهم من الخطأ والزّلل، ومن رحمة الله أن جعل أجراً على ذلك الخطأ من العالم إذا اجتهد قدر طاعته وتحرّى الحق والعدل، وأرجو أن يكون ابن كمال باشا ممّن ينال الأجر والمثوبة من الله فيما اجتهد فيه، وحسبت أن فيه تقصيراً أو خطأ، ومن ذلك:
1- عدم تعريفه تلوين الخطاب، فالرسالة تحمل هذا العنوان، ومع ذلك فهو لا يحدّده تحديداً دقيقاً، كما صنع في الالتفات، ولعلّ السبب في ذلك، أن تلوين الخطاب باب واسع، يشمل أنواعاً كثيرة من الأساليب، ومع ذلك لم يتناوله العلماء من قبل، أمّا الالتفات فقد وجد السبيل فيه ممهّداً، ولذا فقد أطال في تناوله، وناقش ما وجد من آراء قيلت فيه.
2- ومما يؤخذ عليه: أنه لم يمثِّل لبعض أنواع تلوين الخطاب فقد ذكر أنه يقع في خمسة أضرب، ومثّل لثلاثةٍ منها فقط وأهمل ضربين.
3- أنه كان يأتي ببعض الأمثلة غير تامّة، فلا يتبيّن القارئ موضع الشاهد، ومن الأمثلة على ذلك، إيراده لقوله تعالى {ثمَّ توليتُم إلا قليلاً مِنْكُم} شاهداً على عدم وجود الالتفات، فقال: "فلا التفات في قوله تعالى: {ثمَّ توليتُم إلا قليلاً مِنْكُم} لأن الكلام قبله مع أسلاف المخاطبين به، نعم هو على طرزه وطريقته..".(43/139)
وإيراده لهذا المثال لا يبيّن موطن الالتفات أو عدمه، بل لابدّ من إيراد الآية تامّة، وعند ذلك يتضح ما قاله فيوافقه القارئ أو يخالفه فيما ذهب إليه، والآية تامّة هي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (1) .
4- وقد وهم المؤلف حين تابع التفتازاني، فألحق بالالتفات أمرين فقال: "وقد يطلق الالتفات على معنيين آخرين؛ أحدهما: أن تذكر معنى فتتوهم أن السامع اختلجه شيءٌ فتلتفت إلى ما يزيل اختلاجه، ثم ترجع إلى مقصودك كقول ابن ميّادة:
فلا صَرْمُهُ يبدو وفي اليأس راحةٌ
ولا وصلُهُ يصفو لنا فنكارمُه
فإنه لمّا قال: (فلا صرمه يبدو) واستشعر أن يقول السامع: وما نصنع به؟ فأجاب بقوله: (وفي اليأس راحة) ثم عاد إلى المقصود.
والثاني: تعقيب الكلام بجملة مستأنفة متلاقية له في المعنى، على طريق المثل أو الدعاء، أو نحوهما، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (2) وقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (3) .... وفي قول جرير:
مَتَى كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ
سُقِيْتِ الْغَيْثَ أَيَّتُهَا الخِيَامُ
أَتَنْسَى يَوْمَ تَصْقُلُ عَارِضَيْها
بِفَرْعِ بشامةٍ سُقِيَ البَشَامُ
وهذا الذي ذكره يكاد يكون مطابقاً لما ذكره التفتازاني في المطوّل.
__________
(1) سورة البقرة آية (83) .
(2) سورة المائدة آية: 64.
(3) سورة التوبة آية: 127.(43/140)
وأمّا وهمه هنا، فإن هذه الأمثلة التي أوردها ليست من الالتفات، ولا ينطبق عليها شرطه الذي حدّده في الرسالة، وإن كان قد ورد بيت ابن ميّادة وبيت جرير الثاني عند العلماء القدامى، وجعلوهما من الالتفات، فإن المؤلف جاء متأخراً فكان الأجدر به ألا يخلط بين المصطلحات، خاصة أنه سار على نهج السكّاكي ومن تابعه في الالتفات بعد أن تحدّد مفهومه، وأولئك الأقدمون لهم عذرهم، إذ لم تكن المصطلحات قد حدّدت، ولكن المؤلف لا يعذر في هذا، وقد قال د/نزيه عبد الحميد بعد أن أورد بيت جرير الثاني:
"ومن المعروف أن المتأخرين من البلاغيين جعلوا هذا النوع من التذييل، وهو نوع من الإطناب، وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها للتوكيد، وهو الصواب" كما قال بعد أن أورد بيت ابن ميّادة «وهذا من الاعتراض، يذكره قدامة في الالتفات ... والاعتراض نوع من أنواع الإطناب أيضاً، مثله في ذلك مثل التذييل، وعرفه البلاغيون ب: أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كلامين متصلين معنى؛ بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب، لنكتة".
ولا أدري كيف غاب عن المؤلف هذا الأمر، مع سعة اطّلاعه، وغزارة علمه، وتدقيقه في المسائل؟.
5- تخطئته للسابقين مع إمكان قبول ما قالوه:
ومن ذلك أنه لم يقرّ بصحة نسبة تحديد الالتفات إلى الجمهور، كما قرّره الخطيب، وأوضحه التفتازاني، فقد قال الخطيب: "والمشهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة، بعد التعبير بآخر منها" وقال التفتازاني في شرحه: "هذا هو المشهور عند الجمهور".
فردّ المؤلف هذا وقال: "لا يقال المشهور في تفسير الالتفات ما هو المذكور في التلخيص وعليه الجمهور على ما نصّ عليه الفاضل التفتازاني في شرحه، وما ذكرته تفسير محدث له، قلت: بل ما ذكرته على وفق إشارة صاحب المفتاح ... ويوافقه ما في الكشاف، وكفى بنا ذانك الشيخان قدوة".(43/141)
فظهر أنه يتابع الزمخشري والسكّاكي في رأيهما في الالتفات، وأنه لا يشترط فيه تحقّق التعبير بصيغةٍ ما أوّلاً، ثم الانتقال إلى التعبير عنها بصيغة أخرى، بل يكتفي بالعدول عن صيغة يقتضيها أسلوب الكلام إلى أخرى على خلافها.
وهذا اختياره الذي لا ينكره أحد عليه، فله ذلك، ولكن لا ينبغي أن ينفي صحة ما نسبه التفتازاني إلى جمهور البلاغيين في قوله "وبما قررناه تبيّن أن الجمهور لا يرتضي تحديد الالتفات بما ذكر في التلخيص، وأنّ ما ذكر في شرحه من نستبه إليهم فرية ما فيها مرية".
فإن التفتازاني لم ينفرد بذلك، وإنما هو أحد من نسبه إلى الجمهور، فمخالفة المؤلف لهم لا يستدعي إنكار نسبة القول إليهم.
إلا إذا كان يرى أنَّ رأي الجمهور قد انتقض بمخالفة الزمخشري والسكاكي لهم، فيكون لاعتراضه وجه.
ومن ذلك - أيضاً - اعتراضه على السيد الشريف في جعله مثل:
أنا الذي سمّتني أمي حيدرة، وأنت الذي أخلفتني، ونحن قوم فعلنا، وأنتم قدم تجهلون - من باب الالتفات، حيث يرى أنه لم يتحقق النّقل فيها، ولو تحقّق لكانت منه.
مع أنّنا نجد أن كلام السيد الشريف مقبول، خاصة وأنه لم يجزم بكونها من الالتفات؛ وإنما قال: "لا يبعد أن يجعل مثل: أنا الذي سمّتني أمّي حيدرة.... الخ من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب".
فيمكن توجيه كلامه، بأن هذا احتمال جائز، وهو وارد لأن فيه عدولاً عن صيغة إلى أخرى. فالصيغة التي هي على الظاهر: أن يقول: أنا الذي سمته أمه حيدرة ... الخ لأن الاسم الموصول اسم ظاهر، والاسم الظاهر بمنزلة الغائب، فكان مجرى الظاهر أن يأتي بغائب بعده، ولكنه عدل عنه إلى التكلم.
ومذهب السكّاكي يقبل مثل هذه الأمثلة التي أوردها السيد الشريف.
وهنا نجد تذبذباً في تطبيق المؤلف، لأنه ذكر أنه يرتضي رأي السكّاكي في تفسير الالتفات سابقاً، ثم يشترط تحقق النقل هنا من صيغة إلى أخرى كما هو رأي الجمهور.(43/142)
وهذا التناقض ظاهر إذا نظرنا في قوله: "ومن هنا وما تقدم بيانه تبيّن أن كلاًّ من تغيير الأسلوب والنّقل عن صيغة إلى أخرى، أعم من الآخر من وجه، ولذلك جمعنا بينهما في تفسير الالتفات".
فهو إذن يجمع رأيي السكاّكي والجمهور، ويأخذ بهما جميعاً في الالتفات، فكان من الواجب عليه ألاّ يعترض على السيد الشريف في تلك الأمثلة التي أوردها، وأن يقبل ما قاله فيها، وذلك بناءً على أخذه برأي السكّاكي في الالتفات.
هذه بعض المآخذ التي تبّدت لي من خلال هذه الرِّسالة، وأسأل الله أن يعفو عني وعن المؤلف، وأن يتجاوز عن تقصيرنا، وأن يكتب لنا أجر المجتهد. إنه غفورٌ رحيم.(43/143)
تابع لتلوين الخطاب لابن كمال باشا
وصف النسخ ونماذج منها:
عثرت على مصوّرتين لتلوين الخطاب، وهما:
المصوّرة الأولى: عدد أوراقها (7.5) سبع ورقات ونصف، في الورقة صفحتان، وفي الصفحة الواحدة (25) خمسة وعشرون سطراً، وفي السطر الواحد (13) ثلاث عشرة كلمة تقريباً.
وكتبت بخط فارسي، وفي بعض صفحاتها تعليقات يسيرة.
ولا يعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها.
ويوجد منها صورة فلمية، بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (7313) فيلم وهي مصورة عن المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة.
وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف (م) .
المصوّرة الثانية: عدد أوراقها (14) أربع عشرة ورقة. في كل ورقة صفحتان.
وفي الصفحة الواحدة (19) تسعة عشر سطراً. وفي السطر الواحد: (10) عشر كلمات تقريباً.
وكتبت بخط فارسي، وفي بعض صفحاتها تعليقات يسيرة جداً، أقلّ من التعليقات التي وردت على النسخة الأولى.
ولا يعرف ناسخها، ولا تاريخ نسخها.
ويوجد منها صورة فلمية بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (2440) فيلم وهي مصورة عن دار الكتب المصرية.
ورمزت لهذه النسخة بالحرف: (د) .
P329
P330
P331
P332
P333
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبياناً، وجعل الخطاب ألواناً، والصلاة على محمد أولى من نطق بالصواب، وفصل الخطاب، وعلى آله وصحبه خير آل وأصحاب، وبعد: فهذه رسالة مرتبة في بيان تلوين الخطاب، وتفصيل شعبه التي منها الالتفات الذي هو أسلوب متكاثر الفوائد، متناثر الفرائد.
والمراد من الخطاب هنا: توجيه الكلام نحو السامع.
اعلم أنهم يحسنون قرى الأشباح، فيخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم كذلك يحسنون قرى الأرواح، فيخالفون فيه أيضاً بين أسلوب وأسلوب وإيرادٍ وإيراد، بل اعتناؤهم بهذا القرى أكثر، واهتمامهم فيه أوفر.(43/144)
ومرجع التلوين المذكور إلى تغيير الأسلوب، وذلك قد يكون بالعدول عن الخطاب الخاصّ إلى الخطاب العام، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ} (1) فإنَّ الخطاب فيما قبله وهو قوله تعالى: {واتَّبِع مَا أُوْحِيَ إليْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) الآية كان خاصاًّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلّ النكتة فيه التجنب عن مواجهته عليه الصلاة والسلام وحده بالنهي عن خلاف ما هو عليه من الأخلاق الكريمة، إذ لم يكن عليه الصلاة والسلام فحّاشاً ولا سبَّاباً، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَليٍّ وَلاَ نَصِيْرٍ} (3) .
وخصوص الخطاب قد يكون صورة لا معنى، فإنّ الخطاب في قوله
تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} وإن كان خاصاً بحسب الصيغة، لكنه عامّ معنى، فإن المخاطب به كلّ واحد ممن يقدر على الاستدلال من المصنوع على الصانع.
وقد يكون بصرف الخطاب عن مخاطب إلى مخاطب، كما في قول جرير:
ثِقِيْ بِاللهِ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ
وَمِنْ عِنْدِ الخَلِيْفَةِ بِالنَّجَاحِ
أَغِثْنِيْ يَا فِدَاكَ أَبِيْ وَأُمِّيْ
بِسَيْبٍ مِنْكَ إِنَّك ذُو ارْتِيَاحِ
فإن [المخاطب] بالبيت الأوّل امرأته، وبالبيت الثاني الخليفة (4)
__________
(1) من سورة الأنعام الآية: (108) .
(2) من سورة الأنعام الاية: (106) .
(3) من سورة البقرة الآية (107) وفي م: "وما لكم من دون من ولي ... ".
(4) انظر: شروح سقط الزند 5/1902، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب الناشر الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة 1383هـ 1964م فإن صدر الأفاضل يرى هذا الرأي.
وقد أورد التفتازاني رأي صدر الأفاضل في عدم وجود الالتفات في هذين البيتين، ثم عقّب ذلك بقوله "فهذا أخصّ من تفسير الجمهور"المطوّل: 133 فكأنّه يرى أنّ هذا زيادة وتشدّد في شرط الالتفات لم يذكره الجمهور ولذا قال التفتازاني: "فقول أبي العلا:
هل تزجرنّكم رسالة مرسل
أم ليس ينفع أولاك ألوك
فيه التفات عند الجمهور من الخطاب في (يزجرنكم) إلى الغيبة في (أولاك) بمعنى أولئك، وهو قال إنه إضراب عن خطاب بني كنانة إلى الإخبار عنهم ... » المطول 133 -134
وهذا الرأي تابعه المؤلف هنا في هذين البيتين، وأرى أنه وهم فالالتفات ظاهر في هذين البيتين لأنه قال في البيت الأول (من عند الخليفة) والاسم الظاهر بمنزلة الغيبة، ثم قال: (أغثني) فخاطبه، فهنا التفات من الغيبة إلى الخطاب، وإن كان الشاعر وجه الخطاب في البيت الأول إلى زوجته. فهذا لا يلغي الالتفات، لأن الخطاب موجّه في الحقيقة إلى الخليفة وليس إلى الزوجة. وإنّما هو يعرض أمام الخليفة ما قاله لزوجته وفي هذا تصوير لمدى الحاجة والعوز التي يحياها الشاعر هو وأهل بيته.(43/145)
، وليس هذا
من قبيل الالتفات، كما سبق إلى بعض الأوهام؛ لأنّ من شرطه أن يكون الخطاب في الحالين لواحد، فلا يوجد فيه صرف الخطاب حقيقة وإن وجد ظاهراً، بسبب العدول عن صيغة إلى أخرى، صرّح بذلك صدر الأفاضل حيث قال في شرح سقط الزّند: «قوله: (سقيت الغيث) بمعزل عن الالتفات، لأن قوله:
مَتَىكَانَ (1) الخِيَامُ بِذِيْ طُلُوحٍ (2)
كلام مع غير الخيام، لأنه سؤال عن الخيام " وقال في موضع آخر منه، "كان يرى أنه من قبيل الالتفات، وليس منه، وذلك أنّ من شرط الالتفات أن يكون المخاطب في الحالين واحداً".
وقد يكون بالعدول عن صيغة من الصيغ الثلاث، وهي: صيغة التكلم وصيغة الخطاب، وصيغة الغيبة، إلى الأخرى منها.
__________
(1) في (د) : كا.
(2) هذا صدر البيت وعجزه: سقيت الغيث أيتها الخيام، وهو لجرير في ديوانه بشرح محمد إسماعيل الصاوي: 512، وهذا البيت أورده ابن الناظم من شواهد الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر ص33، من المصباح. وكذلك جعله العلوي اليمني من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. انظر الطراز 2/140.
وأورده ابن حجة الحموي في خزانته (74) شاهداً على انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة.(43/146)
ومنه الالتفات، فإنه تغيير لأسلوب الكلام بنقله من إحدى الصيغ المذكورة إلى الأخرى، بشرط أن يكون الكلام بعد النقل مع من كان قبله، على ما تقدم بيانه. فلا التفات في قوله تعالى: {ثُمَّ تولَّيْتُمْ إلاّ قَلِيْلاً مِنْكُمْ} (1) لأن الكلام قبله مع أسلاف المخاطبين به، نعم هو على طرزه وطريقته، ولذلك قال صاحب الكشاف: " {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على طريقة الالتفات" فإن قلت: هلاّ يجدي نفعاً اعتبار التغلب الذي ذكره البيضاوي حيث قال في تفسيره: "ولعلّ الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب"؟ قلت:
لا، لأنّ اعتباره لا يحقق الشرط المذكور، لأنّ الكلام قبل النّقل مع البعض، وبعده مع الكل حينئذٍ، والكلّ غير البعض.
وقد نبّه على هذا صاحب الكشف، حيث قال في شرح القول المذكور لصاحب الكشاف: "وهو كذلك سواء حمل على تغليب الموجودين في عصره عليه الصلاة والسلام، أو لا" وكلام صاحب المفتاح خلو عن اعتبار هذا الشرط في الالتفات، والشارح الفاضل لم يتعرض له في شرحه.
وأمّا الشرط الآخر المذكور في كتب القوم، وهو أن يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر، واعتباره كيلا يدخل في حدّ الالتفات أشياء ليست منه، منها: أنا زيد وأنت عمرو، ونحن رجال وأنتم رجال، وأنت الذي فعل كذا، و:
نَحْنُ اللَّذُوْنَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا
ونحو ذلك ممّا عبّر عن معنى واحد، تارة بضمير المتكلم أو المخاطب، وتارة بالاسم المظهر أو ضمير الغائب.
__________
(1) من سورة البقرة آية: (83) والآية بتمامها {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} .(43/147)
ومنها: يا زيد قم. ويا رجلاً له بصر خذ بيدي، لأن الاسم المظهر طريق غيبته فلا حاجة إلى ذكره، واعتباره شرطاً زائداً على ما ذكرنا، لأن أسلوب الكلام لا يتغيّر إلاّ إذا كان كذلك، بناءً على أن المراد من مقتضى الظّاهر هنا مقتضى ظاهر الكلام، لا مقتضى ظاهر المقام، ولذلك صرّح الإمام البيضاوي على وفق إشارة صاحب الكشاف، بوجود الالتفات في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (1) فإنَّ العدول فيه عن مقتضى ظاهر الكلام، حيث كان سباقه، وهو قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} (2) على صيغة الغيبة، لا عن مقتضى ظاهر المقام، لأن مقتضاه الخطاب في الموضعين، ونكتة العدول عن مقتضى الظاهر بحسب المقام، التعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، والتلطيف في تأديبه بالعدول عن الخطاب في مقام العتاب، والإباء عن المواجهة بما فيه الكراهة.
وأمّا ما قيل: "في الإخبار عمّا فرط منه، ثم الإقبال عليه دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ، وإلزام الحجة" فوهم، لا ينبغي أن يذهب إليه فهم.
ومن تأمل في طريق عتابه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في مواضع العتاب - كقوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (3) فإنْ فيه ما لا يخفى من لطف الكناية عن خطئه عليه الصلاة والسلام في الإذن تعظيماً لشأنه - لا يخطر بباله مثل ذلك الوهم، وإنّما قلنا على ما ذكرنا، إذ لابدّ من اعتباره شرطاً زائداً على ما ذكروا في تفسير الالتفات.
__________
(1) آية (3) من سورة عبس. انظر أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/540) فقد صرح البيضاوي بوجود الالفتات في هذه الآية وذلك لمجيئها بعد قوله تعالى {عبَسَ وَتَوَلّى} وهو واضح.
(2) آية (1-2) من سورة عبس.
(3) من آية (43) من سورة التوبة.(43/148)
قال صاحب التلخيص: والمشهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها. وقال الفاضل التفتازاني - في شرحه، "بشرط أن يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر" وفي المفتاح:
"ويسمّى هذا النقل التفاتاً عند علماء علم المعاني".
وقال الفاضل الشريف في شرحه: "ثم إن الالتفات من إحدى الطرق الثلاثة إلى آخر منها إنما يسمّى التفاتاً إذا كان على خلاف مقتضى الظاهر، كما يشعر به لفظ النقل، وإيراده في الإخراج لا على مقتضاه، وما ذكر من فائدته العامة" ويردّ عليه أن النقل الذي أشير إليه، هو النقل من صيغة إلى أخرى، وهذا ظاهر عن التأمّل في سياق الكلام المنقول، فلا إشعار فيه بما ذكر، وتعليله على ما نقل عنه في الحاشية "بأن الجاري على مقتضى الظاهر لا يقال فيه: نقل " مردود أيضاً، لأنه [إن] أريد: أنه لا يقال فيه نقل على الإطلاق، فمسلّم ولكن لا يجدي نفعاً، لأن الواقع ههنا النقل المقرون بالإشارة الصارفة عن المتبادر عند الإطلاق فلا صحة له كما لا يخفى، ثم إن قوله: "يتحقق الإشعار في إيراد الالتفات في الإخراج لا على مقتضى الظاهر بما ذكر" مبناه عدم الفرق بين ظاهر المقام وظاهر الكلام؛ فإنّ صاحب المفتاح قد أورد الالتفات في الإخراج على خلاف الظاهر بحسب اقتضاء أسلوب الكلام، وقد نبّهت فيما تقدّم على هذا وعلى الفرق بين الإخراجين. فإن قلت: قد أثبت صاحب المفتاح في أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىقول امرئ القيس:
تَطَاوَلَ لَيلُكَ بِالأَثْمُدِ(43/149)
التفاتاً، وهذا بناءً على أنّ كلاً من المتكلم والخطاب والغيبة، إذا كان مقتضى الظاهر فعدل عنه (1) إلى الآخر فهو التفات عنده، قلت: نعم، أثبت فيه التفاتاً على خلاف ما عليه الجمهور، ومع ذلك لم ينكر ثبوت الالتفات إذا نقل الكلام عن أسلوب هو خلاف مقتضى المقام، إلى أسلوب هو مقتضاه ولذلك أثبت التفاتاً آخر في قوله: "وذلك من نبأ جاءني". فظهر أن المعتبر في الالتفات عنده -أيضاَ- الإخراج على خلاف الظاهر بحسب أسلوب الكلام، لا بحسب اقتضاء المقام، كما هو السابق إلى الفهم من النبأ المذكور آنفاً، إلاّ أنّه اكتفى بالعدول عن الأسلوب المتوقع، وقال: يتحقق الشرط المذكور بذلك، والجمهور على أنه لابد من العدول عن أسلوب محقّق.
فإن قلت أليس مقتضى المقام ينتظم مقتضى الكلام؟ فما هو على خلاف مقتضى أسلوبه يكون على خلاف مقتضى المقام أيضاً، قلت: كذلك إلاّ أن مقتضى الظاهر في مصطلح أهل هذا الفن ما يقتضيه ظاهر المقام قبل الشروع في الكلام، ومن خلافه خلاف ذلك فلا ينتضمان ما يحدث بعد الشروع فيه، باختيار أسلوب من الحال، وإنّما لم يعتبروا الحادث بعد الشروع فيه، لأنّه قد يكون مخالفاً للقديم، كما إذا كان المقام مقام الخطاب، وشرع في الكلام على أسلوب الغيبة، وقد مرّ مثاله من التنزيل، فلو اعتبر في مثل ذلك الحادث بعد الشروع يلزم أن يكون الكلام على مقتضى الظاهر من وجه وعلى خلافه من وجه، ولا وجه لترجيح الحادث على القديم، وإسقاطه على حيّز الاعتبار بالكليّة؛ إذ يلزم حينئذٍ أن لا يتحقق مقتضى المقام من جهة الكلام قبل الشروع بل عنده أيضاً، ما لم يتقرر أسلوبه، ولا مجال لأن يقال: أنهم اعتبروا القديم قبل حدوث (2) المعارض، وأسقطوا [ما] بعده، إذ لا مستند لهذا التفصيل من جهة السلف، كما لا يخفى على من تتبّع وأنصف، وبالتجنب عن التعسف اتّصف.
__________
(1) في (د) : عند.
(2) في د: فيه حدوث المعارض وأسقطوه بعده.(43/150)
ثمّ إنّ ما زعمه من الإشعار فيما ذكره من الفائدة العامة للالتفات بكونه على مقتضى الظاهر -مردود أيضاً؛ لأن مدار تلك الفائدة على العدول من أسلوب إلى آخر سواء كان العدول عنه على مقتضى الظاهر أو لا، على ما تقف على ذلك بإذن الله تعالى.
لا يُقال: المشهور في تفسير الالتفات ما هو المذكور في التلخيص، وعليه الجمهور على ما نصّ عليه الفاضل التفتازاني في شرحه، وما ذكرته تفسير محدث له، قلت: بل ما ذكرته على وفق إشارة صاحب المفتاح حيث قال: «والعرب يستكثرون منه، ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرئة لنشاطه، وأملأ باستدرار إصغائه» ويوافقه ما في الكشّاف، وكفى بنا ذانك الشيخان قدوةً، وقد وقفت فيما سبق على أن ما ذكر في التلخيص لا يطّرد إلا باعتبار شرط من الخارج، وذلك خارج عن قانون الحدّ، وما ذكرنا سالم عن المحذور المذكور، وذلك لأن الاختلاف في الأسلوب أخصّ من الاختلاف في التعبير؛ فإنّ الثاني يتحقّق في نحو قوله تعالى: {يا أَيُّها الَّذِيْن آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاة} (1) دون الأوّل؛ لأن حق الضمير العائد إلى الموصول أن يكون غائباً، فلا يتغيّر به الأسلوب وإن تغيّر التعبير حتى احتيج إلى اعتبار قيد زايد للاحتراز عن مثله.
وبما قررناه تبيّن أن الجمهور لا يرتضي تحديد الالتفات بما ذكر في التلخيص، وأن ما ذكر في شرحه من نسبته إليهم فرية ما فيها مرية.
ومما يظنّ أنّه من قبيل الالتفات وليس منه قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
__________
(1) آية (6) من سورة المائدة.(43/151)
تَجْهَلُونَ} (1) أما وجه الظنّ فهو أن الاسم الظاهر غائب فلما عدل عنه إلى الخطاب في تجهلون تحقق الالتفات، وأمّا أنه ليس منه فلأنّ في عبارة القوم [جهتا غيبة] وخطاب؛ وذلك لأنّها اسم ظاهر غائب وقد حمل على {أَنْتُمْ} فصار عبارة عن المخاطب، ثم إنّه وصف {تَجْهَلُوْنَ} اعتباراً لجانب خطابه المستفاد من حمله على {أَنْتُمْ} (2) وترجيحاً له على جانب غيبته الثابت في نفسه؛ لأن الخطاب أشرف وأدل وجانب المعنى أقوى وأكمل، فهو بالحقيقة اعتبار لجانب المعنى، وتغليب له على جهة اللفظ، فإنّ الغيبة في لفظ (القوم) ومعناه الخطاب، وبهذا القدر من الاعتبار لا يتغير الأسلوب، ولا يتحقق النقل من طريق إلى آخر، وعلى هذا القياس قول علي رضي الله عنه: "أنا الَّذي سمّتْنِي أمِّي حَيْدَرَة".
قال المرزوقي في شرح قول الحماسة:
[وَإِنَّا] لَقَوْمٌ مَا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً
إِذا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُوْلُ
"كان الوجه أن يقول: ما يرون القتل سبَّةً؛ حتى يرجع الضمير من صفة القوم إليه ولا تَعْرى منه، لكنّه لما علم أن المراد بالقوم هم قال: ما نرى، وقد جاء في الصلة مثل هذا وهو فيه أفظع، قال:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّيْ حَيْدَرَهْ
أَكِيْلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
والوجه سمّته حتى لا تعرى الصلة من ضمير الموصول، قال أبو عثمان
المازني: لولا صحة مورده وتكرره لرددته» والشريف الفاضل لغفوله عمّا قررناه قال في شرحه للمفتاح: «لا يبعد أن يجعل مثل: أنا الذي سمّتني أُمِّي حيدرة، وأنت الذي أخلفتني، ونحن قوم فعلنا، وأنتم قوم تجهلون - من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب".
__________
(1) آية: 55 من سورة النمل. وورد في النسختين (وأنتم) وهو خطأ.
(2) ساقط من (د) .(43/152)
وممّا يشبه الالتفات وليس منه: ما في قوله تعالى: {فَإنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (1) من تغيُّر الأسلوب والعدول عن مقتضى ظاهر الكلام؛ وذلك أن موجب طرد الكلام على أسلوب ما سبق من قوله تعالى: {قُلْ أَطِيْعُوا الله وَأَطِيْعُوا الرَّسُوْلَ} (2) وسوقه على مقتضى الظاهر هو أن يقال: فإن تولّوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليك ما حمّلت، وإنّما قلنا إنّه ليس منه؛ لعدم النقل عن أحد الطرق الثلاثة إلى الآخر منها؛ فإن المتحقق في قوله تعالى: {قُلْ أَطِيْعُوا اللهَ} تنزيلهم منزلة الغائبين، لا سوق الكلام معهم على طريق الغائبة، والفرق واضح وإن خفي على صاحب الكشف حيث قال: "هو التفات حقيقي؛ لأنّه جعلهم غُيّباً، حيث أمر الرسول [صلى الله عليه وسلم] بخطابهم في قوله {قُلْ أَطِيْعُوا اللهَ} ثم خاطبهم بقوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} (3) . وقد نبّه صاحب الكشاف على ما ذكرنا من عدم الالتفات حقيقة فيما ذكر لفقد شرط النقل حيث قال: "صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات" يعني أن مقتضى الظاهر نظم الكلام على الغيبة، ولما صرف عنها كان على طريقة الالتفات وإن لم يكن منه لعدم تحقّق النّقل عن الغيبة، حيث لم يوجب سوق الكلام على صيغتها، ففي إقحام عبارة الطريقة وذكر الصرف دون النّقل تنبيه على ما ذكرنا، فافهم.
__________
(1) آية 54 من سورة النور.
(2) آية (54) من سورة النور: والآية تامة: {قُلْ أَطِيْعُوا الله وأَطِيْعُوا الرَّسُول فإن توَلَّوا فَإِنَّما عليه ما حُمِّل وعلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وإنْ تطيعُوه تهتدوا وما على الرَّسُول إلا البلاغُ المُبِيْن} .
(3) انظر حاشية الشهاب الخفاجي 6/396 فقد ذكر هذا الرأي ثم عقب عليه بقوله: "وقيل إنه من تلوين الخطاب إذ عدل عن خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى خطابهم بالذات فليس مندرجاً تحت القول".(43/153)
ومن ههنا وما تقدم بيانه تبيّن أنّ كلاً من تغيير الأسلوب والنّقل عن صيغة إلى أخرى - أعمّ من الآخر من وجهٍ؛ ولذلك جمعنا بينهما في تفسير الالتفات، وظهر لك شعبة أخرى لتلوين الخطاب، وهي: ما يوجد فيه تغيير الأسلوب دون النّقل.
فاعلم أن أنواع الالتفات بحسب النّقل من كل واحدة من الصيغ الثلاث إلى إحدى الأخريين ستّة، وقد أفصح عن هذا صاحب المفتاح بقوله: "بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها إلى الآخر، ويسمّى هذا النقل التفاتاً عند علماء علم المعاني " وإن قصر عنه بيان صاحب الكشاف بقوله: "هذا يسمّى الالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم" حيث اقتصر على ذكر أنواعه الثلاثة، وقوله: "في علم البيان"لا ينافي قول صاحب المفتاح "عند علماء المعاني"لأنه أراد بالبيان علم البلاغة الشامل للمعاني والبيان، وإنما كان الالتفات من علم المعاني لأن ما يترتب عليه من الفوائد من جملة خواصّ التراكيب التي يبحث عنها في العلم المذكور.
وأمّا ما قيل: "يُبحث عنه في علمي البلاغة والبديع، أمّا في المعاني فباعتبار كونه على خلاف مقتضى الظاهر، وأمّا في البيان فباعتبار أنَّه إيراد لمعنى واحد في طرق مختلفة في الدلالة عليه جلاء، [وخفاء] (1) وبهذين الاعتبارين يفيد الكلام حسناً ذاتياً للبلاغة، وأمّا في البديع فمن حيث إنّ فيه جمعاً بين صورٍ متقابلة في معنى واحد فكان من محسّناته المعنوية " - ففيه نظر؛ أمّا أوّلاً: فلأن مجرد كونه على خلاف مقتضى الظاهر لا يكفي في دخوله في علم المعاني، وهذا ظاهر عند من له أدنى تأمل في حدّ العلم المذكور.
__________
(1) هذه الزيادة من حاشية السيد الشريف على الكشاف.(43/154)
وأمّا ثانياً: فلأن اعتبار أنّه إيراد لمعنى واحد في طرق مختلفة في الدلالة عليه جلاء [وخفاء] ، غير كافٍ في دخوله في علم البيان؛ بل لابدّ معه أن يكون ذلك الاختلاف بحسب الدلالة العقلية، وهو مفقود في الالتفات، ولذلك لم يورده صاحب المفتاح في البيان واقتصر على إيراده في المعاني والبديع.
وعدّه خلاف مقتضى الظاهر من الكناية لا يجدي نفعاً في كونه من البيان؛ لأنه ليس منها حقيقة؛ كيف وهي من أقسام اللفظ، والخلاف المذكور ليس من جنس اللفظ، وكذا إخراج الكلام عليه ليس منه، وإنّما عدّه من الكناية لما بينهما من المشابهة، والشريف الفاضل لغفوله عن هذا قال في شرح المفتاح في حاشيته "وكونه من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر المندرج تحت الكناية؛ لا يوجب كونه من مباحث البيان كسائر الجزئيات المندرجة تحت (1) قواعده؛ لأن الأحكام الجزئية المندرجة تحت قواعد علم [البيان] فروعٌ وثمراتٌ لمسائله، إذ ليست مبحوثاً عنها بخصوصيّاتها".
ثم إن موجب تعليله بقوله: "لأن الأحكام"الخ. على تقدير تمامه هو إيجاب ما ذكر من الاندراج عدم كونه من مباحث البيان لا عدم إيجاب كونه منها، وإنّما قلنا: "على تقدير تمامه"لأنه محل نظر، فتدبّر.
__________
(1) في (د) : في.(43/155)
وهذا الكلام قد وقع في البيان استطراداً، فلنعد إلى ما كنّا فيه من تفصيل أنواع الالتفات الحاصلة من ضرب الثلاث في الاثنين، فنقول: أحدها: الالتفات من التكلم إلى الخطاب: ومثاله من التنزيل {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} (1) وذلك أن المراد بقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ} المخاطبون، والمعنى: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم فالمعبّر عنه في الجميع هو المخاطبون، ولمّا عبّر عنهم بصيغة التكلم كان مقتضى الظاهر أن لا يغيّر أسلوب الكلام، بل يجري اللاحق على سنن السابق، ويقال: وإليه أرجع، فلمّا عدل عنه إلى ما ذكر تحقق الالتفات.
ومن الشعر:
تَذَكَّرْتَ والذِّكْرَى تَهِيْجُكَ زَيْنَبَا
وَأَصْبَحَ باقِي وَصْلِها قَدْ تَقضَّبا
إن قُرئ (تذكرتَ) بالفتح كما هو الرواية، فالالتفات فيه على رأي صاحب المفتاح؛ حيث كان الظاهر ضمّها على التكلم (2) فعدل عنه إلى الخطاب، وإن قُرِئ بالضمّ فالالتفات في (يهيجك) وهذا باتفاق.
وثانيها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة: ومثاله من التنزيل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ} (3) كان الظاهر أن يقال: فصلّ لنا. قال الفاضل التفتازاني في شرح التلخيص: "وقد كثر في الواحد من المتكلم لفظ الجمع تعظيماً له لعدّهم المعظّم كالجماعة، ولم يجيء ذلك للغائب والمخاطب في الكلام القديم، وإنّما هو استعمال المولّدين كقوله:
بِأَيِّ نَوَاحِي الأَرْضِ أَبْغِي وِصَالَكُمْ
وَأَنْتُمْ مُلُوْكٌ مَا لِمَقْصَدِكُمْ نَحْوُ
__________
(1) الآية (22) من سورة يس والآية من شواهد المصباح في المعاني والبيان والبديع لابن الناظم: 31، والتلخيص (87) والإيضاح (158) .
(2) في (م) : المتكلم.
(3) الآية (1-2) من سورة الكوثر، والآية من شواهد: المصباح (33) والتلخيص (17) والإيضاح (158) وشروح التلخيص (1/468) .(43/156)
تعظيماً للمخاطب وتواضعاً من المتكلم وفيه نظر؛ لأنّه قد جاء ذلك للغائب والمخاطب أيضاً في الكلام القديم، أمّا الأول: فقد قال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {و (1) مَا كَانَ لِمُوْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ ورَسُوْلُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) "أي قضى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وذكر الله لتعظيم أمره، والإشعار بأنّ قضاءَه قضاءُ الله، تعالى وجمع الضمير الثاني للتعظيم".
وأمّا الثاني فقد قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {لا تَقُوْلُوا (3) رَاعِنَا (4) } : "وقرأ ابن مسعود: (راعونا) على أنهم كانوا [يخاطبونه] بلفظ الجمع للتوقير" والفاضل المذكور اعترف بما أنكره ههنا - في بحثه: أن الأمر للوجوب من التلويح.
ومثال النوع المذكور من الشعر لم يوجد في أشعار الجاهلية، ولذلك لم يورد صاحب المفتاح مثالاً له إلاّ أنَّه لم يصب في ذلك، لأن وجود مثاله في التنزيل كان كافياً، فلا وجه لاقتصاره على إيراد المثال للأقسام الخمسة.
وثالثها: الالتفات من الخطاب إلى التكلم، ومثاله لم يوجد في التنزيل، وأمّا مثاله من الشعر فقوله:
طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الحِسَانِ طَرُوبُ
بُعيْدَ الشَّبابِ عَصْرَ حانَ مَشِيْبُ
يُكَلِّفُنِي لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها
وَعَادتْ عَوَادٍ بَيْنَناَ وخُطُوبُ
التفت من الخطاب في (طحابك) إلى التكلم؛ حيث لم يقل يكلّفك، وفاعل يكلفني ضميرُ القلب، وليلى مفعوله الثاني، والمعنى: يكلفني ذلك القلب ليلى ويطالبني بوصلها.
__________
(1) ساقط من (د) .
(2) آية (36) من سروة الأحزاب.
(3) في (م) : ولا تقولوا.
(4) سورة البقرة من الآية (104) .(43/157)
ورابعها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة؛ ومثاله من التنزيل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (1) كان الظاهر أن يقال: وجرين بكم.
ومن الشعر قوله:
إنْ تَسْأَلوا الحقَّ نُعطِ الحقَّ سائِلَهُ
والدِّرْعُ مُحْقَبَةٌ والسَّيْفُ مَقْرُوبُ
التفت في (سائله) من الخطاب إلى الغيبة.
وخامسها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب؛ ومثاله من التنزيل: {مالكِ يومِ الدِّيْن. إيَّاكَ نَعْبُدُ (2) } كان الظاهر أن يقول: إيّاه نعبد.
ومن الشعر:
طَرَقَ الخَياَلُ ولا كَلَيْلَةِ مُدْلجِ
سَدِكاً بِأَرْحُلِنَا وَلَمْ يَتَعَرَّجِ
أنَّى اهْتَدَيْتِ وَكُنْتِ [غير] رجِيْلَةٍ (3)
والقومُ قَدْ قَطَعُوا متان السَّجْسَجِ (4)
التفت في البيت الثاني من الغيبة إلى الخطاب، حيث قال: (اهتديت) وكان الظاهر أن يقول: اهتدى.
وسادسها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم، ومثاله من التنزيل: {والله الَّذِيْ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} (5) كان الظاهر أن يقال: فساقه.
ومن الشعر قوله:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالأثْمُدِ
ونَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
__________
(1) الآية (22) من سورة يونس والآية من شواهد المصباح (34) والتلخيص (88) والإيضاح (1/158) .
(2) آية (4-5) من سورة الفاتحة والآية من شواهد المفتاح: 201، والمصباح: 34، والإيضاح 1/158، والتلخيص (88) وشروحه: 1/469، 471.
(3) في (م) : صله وفي (د) رحيلة. وما أثبتّه من ديوان الشاعر. والرجيلة: القوّية على المشي.
(4) في (د) : السجع وفي (م) بسميج، والبيتان للحارث بن حلزة اليشكري، الشاعر الجاهلي،
وهما في ديوانه جمع وتحقيق د. إميل بديع يعقوب ص 42. وهما من شواهد المفتاح: 200، والبيت الثاني فيه:
أنى اهتديت لنا وكنت رحيلة
والقوم قد قطعوا متان السجيج
وورد أيضاً في المصباح: (33) والشطر الأول من البيت الثاني يوافق ما في المفتاح.
(5) الآية (9) من سورة فاطر.(43/158)
وبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ
كَلَيْلةِ ذِيْ العَائِر الأرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبإٍ جاءَنِيْ
وخُبِّرْتُه عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ
التفت في (جاءني) (1) من الغيبة إلى التكلم، وكان الظاهر أن يقول: جاءه. وقال صاحب المفتاح: "فالتفت - يعني امرأ القيس - في الأبيات [الثلاثة] " أراد أنه التفت في كل بيت. وكلام صاحب الكشاف في هذا المعنى أظهر؛ حيث قال: "التفت [امرؤ] القيس ثلاث التفاتات في [ثلاثة] أبيات" فإنه نصّ في الثلاث وظاهر في التوزيع؛ أمّا في الأول: فمن التكلم إلى الخطاب؛ إذا القياس: (تطاول ليلى) .
وأمّا في الثاني: فمن الخطاب إلى الغيبة؛ حيث قال: (وبات) والقياس: (وبتَّ) على الخطاب.
وأمّا في الثالث: فقد مرّ بيانه.
وهذا القول من صاحب الكشاف صريح في أنَّ سَبْقَ طريق آخر تحقيقاً ليس بشرطٍ في الالتفات. فالمخالفة للجهمور في هذا الخصوص ليست من خصائص صاحب المفتاح، بل هو مقلّد فيها لصاحب الكشّاف، فحقُّ ذلك المذهب أن يُنسب إليه لا إلى صاحب المفتاح؛ لأن القول حقُّه أن ينسب إلى من سبق به.
لا يقال: إن في لفظ (ذلك) التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب؛ فيكون في تلك الأبيات ثلاثة التفاتات على مذهب الجمهور أيضاً، فلا ضرورة إلى حمل قول صاحب الكشاف على خلاف ما عليه الجمهور، لأنّا نقول: الالتفات فيما ذكر غير متعين، إذ يجوز أن يكون الكاف خطاباً لغيره لا لنفسه؛ على أن قول صاحب الكشاف على ما نبهت فيما تقدم - صريحٌ في توزيع الالتفاتات على الأبيات الثلاثة، وعلى ما ذكر لا يصح ذلك.
__________
(1) في (م) : جاء.(43/159)
تابع لتلوين الخطاب لابن كمال باشا
اعلم أنه قد دار في ألسنة أرباب البلاغة أن [امرأ] القيس التفت ثلاث مرات في [ثلاثة] أبيات، واستغربوا ذلك غاية الاستغراب وزعموا أنه ثمرة الغراب، وقد وقع في كلامه تعالى التفاتان في مقدار نصف مصراع البيت؛ وذلك أغرب، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوْا إِلى اللهِ} (1) فإنَّ في {رُدُّوا} التفاتاً من الخطاب إلى الغيبة، وفي قوله: {إِلى اللهِ} (2) التفاتاً (3) من التكلم إلى الغيبة؛ لأن سياقه قوله تعالى: {حَتَّى (4) إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُوْنَ} (5) .
وقوله تعالى: {بَارَكْنَا حَوْلَه لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (6)
__________
(1) الآية 62 من سورة الأنعام.
(2) في (م) إلى أنه.
(3) ساقط من (م) .
(4) ساقط من (م) .
(5) الآية 61 من سورة الأنعام وسياق الآيتين - حتى يتضح الالتفات - هو {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ، ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} .
(6) من الآية (1) من سورة الإسراء، والآية بتمامها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وهذه القراءة (ليريه وردت عن الحسن. انظر في ذلك:
- الكشاف: 2/437.
- البحر المحيط: 7/10.
- الدرّ المصون 7/307.
وقد بيّن صاحب الدرٍّ المصون الالتفات فقال: "وقرأ الحسن (ليريه) بالياء من تحت، أي الله تعالى، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعة التفاتات، وذلك أنّه التفت أوّلاً من الغيبة في قوله {أسرى بعبده} إلى التكلم في قوله {باركنا} ثم التفت ثانياً من التكلم في {باركنا} إلى الغيبة في {ليريه} على هذه القراءة، ثم التفت من هذه الغيبة إلى التكلم في {آياتنا} ، ثم التفت رابعاً من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله: {إنّه هو} على الصحيح في الضمير أنه لله..".(43/160)
على قراءة {لِيُرِيَه} (1) بياء الغيبة، فإن فيه التفاتاً من التكلم إلى الغيبة ثم من الغيبة إلى التكلم.
ومن ههنا تبيّن فساد ما قيل: شرط الالتفات أن يكون التعبيران في [كلامين] .
والفوائد العامّة لأنواع الالتفات هي: حسن التطرئة (2) لأسلوب الكلام، تنشيطاً للسامع، فإن الطبع قد يملّ من أسلوب معين، فإذا خرج عنه الكلام [تتجدّد] له الرغبة إلى الإصغاء ولطف الإيقاظ للسامع، وذلك أن الكلام إذا جرى على سنن واحدٍ ربّما يذهل لكونه جرياً على العادة المعهودة، فيفوته المقصود، وزيادة التقرير للمعنى في ذهن السامع، وذلك أن الكلام اللاحق إذا صرف عن أسلوب السابق تستغربه النّفس فتتنبه له، وتنبعث للنظر فيه وتدبّره، فيشتد وقعه فيها، وقال الفاضل التفتازاني في شرحه للمفتاح: "الفائدة العامة في مطلق الالتفات وجهان يرجع أحدهما إلى المتكلم، وهو قصد التفنّن في الكلام والتصرف فيه بوجوه مختلفة من غير اعتبار لجانب السامع.
وثانيهما (3) : إلى السامع، وهو حسن تنشيطه ولطف إيقاظه".
ويردّ عليه أن القصد المذكور لا يصلح فائدة للالتفات. وكان الشريف الفاضل تنبّه لذلك فعدل عنه إلى قوله: "وهي التصرف والافتنان في وجوه الكلام، وإظهار القدرة من التمكن فيها".
__________
(1) في (د) : يريه.
(2) في (د) النظرئة.
(3) في (د) والثاني.(43/161)
ويتّجه عليه أيضاً أنه: إن أريد مطلق التصرف والافتنان حسناً كان أو قبحاً؛ فلا وجه لعدّه القدرة عليه فضيلة، وإن أريد التصرف والافتنان على وجه يتضمّن الخاصية والمزية فترجع الفائدة إلى تلك الخاصية، فينقلب خاصّة فتدبّر. ولا يذهب عليك أن الفوائد المذكورة إنما تترتب على الالتفات إذا كان فيه انتقال عن أسلوب إلى آخر تحقيقاً لا تقديراً، وما قيل في توجيه قول صاحب المفتاح: بالتعميم للانتقال التقديري - مع تصريحه لعموم تلك الفوائد من الالتفات إذا ورد على السامع خلاف ما يترقبه من الأسلوب الظاهر، كان له مزيد نشاطٍ، ووفور رغبة في الإصغاء إلى الكلام - تعسُّف ظاهر. فإن المذكور في الفوائد: تطرية النشاط، لا تقويته، ولا شبهة في أن التطرئة لا [تتصور] في ابتداء المخاطبة.
واعلم أن مدار تلك الفوائد على تلوين الخطاب مطلقاً، سواء كان المخاطب بالكلام في الحالين واحداً؛ فيوجد شرط الالتفات، أو لا يكون واحداً؛ فلا يكون من باب الالتفات، فحق من يريد ترتبها على الالتفات خاصّة، أن يذكر المخاطب بدل السامع، فصاحب المفتاح ومن حذا حذوه من الذين ذكروا السامع عند تقريرهم الفوائد المذكورة مرتبة على الالتفات المشروط بالشرط المزبور (1) لم يكونوا على بصيرة.
__________
(1) في (د) المرلور. وفي (م) المزلور.(43/162)
ولما عرفت أن فائدة التطرئة (1) والإيقاظ مدارها على نقل الكلام من أسلوب إلى آخر مطلقاً، فقد وقفت [على] ما في كلام الفاضل التفتازاني؛ حيث قال في شرح التلخيص: "لأنا نعلم قطعاً من إطلاقاتهم واعتباراتهم أن الالتفات هو انتقال الكلام من أسلوب من التكلم والخطاب والغيبة إلى أسلوب آخر غير ما يترقبه المخاطب، ليفيد تطرئة لنشاطه، وإيقاظاً في إصغائه" من الخلل؛ حيث اعتبر في ترتّب الفائدة المذكورة قيداً في الأسلوب المنقول إليه لا دخل له فيه، ثم إنّه لم يصب في قوله: هو انتقال الكلام، لأنه نقل الكلام على ما اختاره صاحب المفتاح.
والتعبير عن معنى واحد بطريقين، على ما هو المشهور، والانتقال المذكور أثره لا نفسه، وما عدّ من المحسنات البديعيّة إنّما هو أثره.
__________
(1) في (د) النظرية.(43/163)
واعلم أن المراد من المعنى المشترك بين الطريقين المذكورين في التعريف المشهور للالتفات؛ إنّما هو المعنى الثاني لذينك الطريقين، لا معنى الكلام؛ لأنّه متعدد قطعاً، وإنَّما قيّدنا المعنى بالثاني؛ لأن معناهما (1) الأول -أيضاً- متعدد، فإن الكلام إذا نقل عن طريق الخطاب إلى طريق الغيبة مثلاً؛ يكون المعنى الأول للطريق المنقول عنه (الخطاب) ، وللطريق المنقول إليه (الغيبة) ، وهما معنيان مختلفان إنما الاتحاد فيما هو المقصود بهما، فإنّ الَّذي عبّر عنه بطريق الغيبة هو الَّذي قصد بطريق الخطاب، فمرجع ما ذكر إلى اعتبار الشرط الَّذي ذكره صدر الأفاضل، ومن ههنا تَبَيّن أنّ الحاجة إلى اعتبار الشرط المذكور على تقدير تفسير الالتفات بنقل الكلام عن أسلوب إلى آخر، وتغيير أسلوب الكلام بنقله عن صيغة إلى أخرى، وأمّا إذا فُسِّر بالتعبير عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها، فلا حاجة إليه، بل لا وجه له؛ إذ حينئذٍ يلزم اعتبار مدلول الشيء شرطاً زائداً عليه، وكأن الفاضل التفتازاني (2) غافل عن دلالة التعبير المذكور على الشرط المزبور (3) ، حيث قال في شرحه للتلخيص - بعد التفصيل المشبع في الالتفات على التفسير المذكور -: "وذكر صدر الأفاضل في ضرام السقط "أن من شرط الالتفات أن يكون المخاطب بالكلام في الحالين واحداً"، فإن الظاهر منه اعتبار الشرط المزبور على التفسير المشهور أيضاً.
قال صاحب المفتاح - بعد الإكثار في إيراد الأمثلة للالتفات – "وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم، وهذا النوع قد يختص مواقعه بلطائف معانٍ قلّما تتضح إلاّ لأفراد بلغائهم، أو للحذّاق المهرة في هذا الفن، والعلماء النّحارير".
__________
(1) في (د) : معناها.
(2) في (د) : لا تفتازاني.
(3) في (م) : المربور.(43/164)
قوله: "أكثر من أن يضبطها القلم"مما أخطأ فيه الشارح الفاضل حيث زعم أن المذكور (من) التفضيلية، فقال: "يرد عليه أنّ ما بعد (من) لا يصلح أن يكون مفضّلاً عليه، إذ ليس مشاركاً لما قبلها في أصل الفعل؛ أعني الكثرة ونظيره قولهم: أكثر من أن يحصى، [وقولهم] : الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ما لم يروا عنده آثار إحسان، وهو كثير في كلام المولّدين فقيل: كلمة (من) متعلقة بفعل يتضمّنه اسم التفضيل؛ أي: متباعدة في الكثرة من ضبط القلم، ومن الإحصاء، ومتباعدون في الكياسية من مدح الرجل الخالي عن الإحسان، وردّ بأنّ (من) إذالم تكن تفضيليّة [فقد] استعمل أفعل التفضيل بدون الأشياء الثلاثة، ولاشك أن التفضيل مراد، فالمعنى أكثر مما يمكن أن يضبط بالقلم، ومما يمكن أن يحصى، وأكيس [ممّن] يتأتى منه أن يمدح الخالي عن الإحسان، إلا أنه سومح في العبارة اعتماداً على ظهور المراد". إلى هنا كلامه.
ومبنى ما ذكره أولاً وآخراً الغفول عن أصلٍ في هذا الباب، ذكره الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وصاحب المغرِّب، وغيرهما، وهو: أن أفعل التفضيل إذا وقع خبراً تحذف عنه أداة التفضيل قياساً، ومنه: الله أكبر، وقول الشاعر:
دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ (1)
فكلمة (من) في أمثال ما ذكر متعلقة بما يتضمنه اسم التفضيل، وقوله (قد يختص مواقعه بلطائف) (2) لفظة (قد) فيه تستعار للتكثير، كما في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السِّمَاء} (3) وقول الشاعرِ:
قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرّاً أنامِلُهُ
كأنَّ أثوابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصادِ (4)
__________
(1) هذا عجز بيت للفرزدق وتمامه:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
ديوان الفرزدق بشرح مجيد طراد 209.
(2) سقط من (م) : مواقعه بلطائف.
(3) الآية 144 من سورة البقرة.
(4) ومعنى مجّت: صبغت. والفرصاد: التوت، والحمرة.(43/165)
والشارح الفاضل لغفوله عن استعارة (قد) للتكثير في أمثال هذا المقام، قال في شرحه: "ولفظة (قد) إشارة إلى أن الفائدة العامة كافية لحسن الالتفات في مواقعه كلها، لكن ربما اشتمل بعضها على فائدة أخرى، فيزداد حسنه فيه" ثم إن معنى التبعيض لا يتحمله الكلام المذكور، لأن فحواه الإخبار عن أن مواقع الالتفات لا ينفك عن لطائف أخر على معنى أنّ كلاً منها يلزمه لطيفة مخصوصة زيادة على الفائدة العامة، كما هو مقتضى مقابلة الجمع بالجمع، فالباء داخلة على المقصور لا على المقصور عليه، كما في تحصّك بالعبادة، واختصّ [بها] (1) ، إذ لا صحة للإخبار عن أن لطائف أخر
لا تنفك عن مواقع الالتفات.
ومن اللطائف المخصوصة ما ذكره صاحب المفتاح، وصاحب الكشاف، في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . وله وجه آخر، ذكره الفاضل التفتازاني في شرح التلخيص وهو أنَّ "ذكر لوازم الشيء وخواصه، يوجب ازدياد وضوحه، وتميزه، والعلم به، فلما ذكر الله تعالى توجه النفس إلى الذات الحقيق بالعبادة، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام ازداد ذلك، وقد وصف أوّلاً بأنه المدبّر للعالم، وثانياً بأنه المنعم بأنواع النعم الدنيوية والأخروية، لينتظم لهم أمر المعاش، ويستعدوا لأمر المعاد.
وثالثاً: بأنه المالك لعالم الغيب، وإليه معاد العباد، فانصرفت النفس بالكلية إليه لتناهي وضوحه، وتميّزه بسبب هذه الصفات، فخوطب تنبيهاً على أنّ من هذه صفاته، يجب أن يكون معلوم التحقق عند العبد متميزاً عن سائر الذوات، حاضراً في قلبه، بحيث يراه ويشاهده حال العبادة، وفيه تعظيم لأمر العبادة وإنها ينبغي أن تكون عن قلب حاضر، كأنه يشاهد ربّه ويراه، ولا يلتفت إلى ما سواه" إلى هنا كلامه وبعبارته.
__________
(1) في النسختين: بوا. وهو خطأ ظاهر.(43/166)
ولا يذهب عليك أنه لم يصبْ في إطلاق المدبّر على الله تعالى، أمّا على أصل من قال: إن أسماء الله توقيفية (1) فظاهر، وأمّا على أصل المخالف فيه، فلأنه شرط فيه أن لا يكون موهماً لما لا يليق بشأنه تعالى، وفي المدبّر ذلك الإيهام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وقد فسّر الفاضل التفتازاني في شرح التلخيص القول المذكور على وفق ما ذكرناه، حيث قال: "أي قد يكون لكل التفات سوى هذا الوجه العام لطيفة، ووجه مختص به بحسب مناسبة المقام" إلا أنّه يتجه عليه أن يقال: لم لا يجوز أن يكون ما يترتب على التفات (2) ، بحسب مناسبة المقام من الوجه الخاص، مترتباً على التفات آخر في مثل ذلك المقام، ولا دليل على انفراد كل فرد، بل كل نوع منه بوجه خاص، لا يشاركه فيه غيره، ولاستقراء القاصر لا يجدي نفعاً.
وقد يطلق الالتفات على معنيين آخرين؛ أحدهما: أن تذكر معنى،
[فتتوهم] أنّ السامع اختلجه (3) شيء، فتلتفت إلى ما يزيل اختلاجه، ثم ترجع إلى مقصودك، كقول ابن ميادة:
فَلا صَرْمُهُ يَبْدو وفي الْيأْسِ راحةٌ
ولا وَصْلُهُ يَصْفو لنا فَنُكَارِمُهْ (4)
فإنَّه لما قال: (فلا صرمه يبدو) واستشعر أن يقول السامع: وما نصنع به؟
فأجاب بقوله: (وفي اليأس راحة) ، ثم عاد إلى المقصود.
__________
(1) في (د) : توفيقية.
(2) في (م) الالتفات.
(3) في (م) : اختلمه.
(4) في (م) : فيكارمه. والبيت في شعر ابن ميادة: 225، جمع وتحقيق د. حنّا جميل حداد من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1402هـ.(43/167)
والثاني: تعقيب الكلام بجملة مستأنفة متلاقية له في المعنى، على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتْ (1) اليَهُوْدُ يَدُ اللهِ مَغْلُوْلَةَ غُلَّتْ أَيْدِيْهِمْ} (2) وقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوْا صَرَفَ الله قُلُوبَهُمْ} (3) وفي كلامهم: قصم الفقر ظهري، والفقر قاصمات الظهر، وفي قول جرير:
مَتَى كان الخِيَامَ بِذِي طلُوْحٍ
سُقِيْتِ الغَيْثَ أَيَّتُها الخِيامُ
[أَتَنْسَى] يَوْمَ تَصْقُل عارِضَيْهَا
بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقِيَ الْبَشَامُ
تمت بعونه تعالى وكرمه.
__________
(1) في (م) : قالت: بإسقاط الواو.
(2) من الآية 64 من سورة المائدة.
(3) من الآية 127 من سورة التوبة.(43/168)
تابع لتلوين الخطاب لابن كمال باشا
فهرس المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
كتاب الاختيارين. صنعة الأخفش تحقيق: فخر الدين قباوة. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1404هـ.
أسلوب الالتفات، دراسة تاريخية فنية، د. نزيه عبد الحميد، مطبعة دار البيان، بمصر ط1، 1403هـ.
الأصمعيات، اختيار الأصمعي. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون. دار المعارف. ط7.
الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط6، 1984م.
إنباه الرواة على أنباه النحاة. للقفطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1406هـ.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي، مطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر ط2، 1388هـ.
الإيضاح في علوم البلاغة. للخطيب القزويني شرح وتعليق د/محمد عبد المنعم خفاجي دار الكتاب اللبناني - بيروت ط5، 1400هـ.
البحر المحيطفي التفسير، لأبي حيان الأندلس. المكتبة التجارية، مكة المكرمة.
بدائع الفوائد. لابن قيم الجوزية. مطبعة الفجالة الجديدة، ط2، 1392هـ.
البديع لابن المعتز. شرحه وعلق عليه: د. محمد عبد المنعم خفاجي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
بغية الوعاة للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الفكر، ط2، 1399هـ.
تاريخ آداب اللغة العربية. جرجي زيدان. دار الهلال، د. ت.
تأويل مشكل القرآن. لابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر. دار الكتب العلمية، بيروت. ط3، 1401هـ.
تحقيق ودراسة سورتي الفاتحة والبقرة من تفسير ابن كمال باشا. إعداد: يونس عبد الحي ما. رسالة ماجستير، بالجامعة الإسلامية.
تلخيص المفتاح. للخطيب القزويني. مطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر. الطبعة الأخيرة.
تيسير البيضاوي، تعليقات وشروح على أنوار التنزيل من أسرار التأويل للبيضاوي. تأليف: محمد أبو الحسن. دار الأنصار. مصر، ط4.(43/169)
ثلاث رسائل في اللغة. لابن كمال باشا، تحقيق: د. محمد حسين أبو الفتوح. مكتبة الحياة، بيروت. ط1، 1993م.
ثمار القلوب في المضاف والمنسوب. للثعالبي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف. القاهرة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. دار الكتب العلمية بيروت. ط1، 1408هـ.
حاشية الشهاب المسماة بعناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي. للشهاب الخفاجي نسخة لا يوجد عليها معلومات عن الطبع.
خزانة الأدب وغاية الأرب، لابن حجة الحموي، طبعة قديمة، لا يوجد عليها معلومات عن الطبع.
خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب. للبغدادي. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي، القاهرة.
الدرّ المصون في علوم الكتاب والمكنون. للسَّمين الحلبي، تحقيق: د. أحمد الخراط. دار القلم، دمشق، ط1، 1406هـ.
ديوان امرئ القيس. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف. ط4.
ديوان الحارث بن حلّزة. جمع وتحقيق: د. إميل بديع يعقوب. دار الكتاب العربي، بيروت. ط1، 1411هـ.
ديوان عبيد بن الأبرص. شرح أشرف أحمد عدرة. دار الكتاب العربي، بيروت. ط1، 1414هـ.
رسائل ابن كمال باشا اللغوية. تحقيق: د. ناصر الرشيد، النادي الأدبي. الرياض. 1401هـ.
رسالتان في المعرَّب لابن كمال والمنشي. تحقيق: د. سليمان إبراهيم العائد. جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب. لابن العماد الحنبلي. دار الفكر، د. ت.
شرح أسماء الله الحسنى للرازي، قدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد. مكتبة الكليات الأزهرية. القاهرة، 1396هـ.
شرح التلخيص المعروف بمختصر المعاني. للتفتازاني. مطبوع بهامش التلخيص.
شرح ديوان جرير. لمحمد إسماعيل الصاوي. الشركة اللبنانية. بيروت.
شرح ديوان الحماسة. للمرزوقي. نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون. مطبعة لجنة التأليف والنشر، القاهرة. ط2، 1387هـ.(43/170)
شرح ديوان علقمة الفحل للأعلم الشنتمري. تقديم: د. حنّا نصر الحتي. دار الكتاب العربي. بيروت، ط1، 1414هـ.
شرح القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي، السيد الشريف. مخطوط بمكتبة عارف حكمت، تحت رقم 86/416 بلاغة.
شروح التلخيص. دار الكتب العلمية، بيروت.
شروح سقطالزند. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، الدار القومية للطباعة والنشر. القاهرة. 1383هـ.
شعر ابن ميَّادة، جمع وتحقيق: د. حنا جميل حداد. من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. 1402هـ.
الشعر والشعراء لابن قتيبة، طبعة محققة ومفهرسة، دار الثقافة، بيروت 1964م.
الشقائق النعمانية. طاشكبري زادة. دار الكتاب العربي. بيروت، 1975م.
كتاب الصناعتين. لأبي هلال العسكري. تحقيق: علي محمد البجاوي. ومحمد أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية. القاهرة، ط1، 1371هـ.
طبقات الشعراء. لابن المعتز، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج. دار المعارف ط4.
طبقات فحول الشعراء. لابن سلام. قرأه وشرحه محمود شاكر. مطبعة المدني. القاهرة.
الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز. العلوي اليمني. دار الكتب العلمية. بيروت.
العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق. تحقيق: د. محمد قرقزان. دار المعرفة، بيروت، ط1، 1408هـ.
فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب. للطيبي. تحقيق: صالح عبد الرحمن الفائز، رسالة دكتوراة، بالجامعة الإسلامية.
الكتاب: كتاب سيبويه. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي بالقاهرة. ط2، 1403هـ.
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. للزمخشري، حقق الرواية محمد الصادق قمحاوي مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، للشيخ نجم الدين الغزي، تحقيق: د. جبرائيل سليمان جبُّور. منشورات دار الآفاق الحديثة، بيروت، ط2، 1979م.
لسان العرب. لابن منطور. دار صادر. بيروت.(43/171)
المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. لابن الأثير، تحقيق: د. أحمد الحوفي. ود. بدوي طبانة. دار نهضة مصر. القاهرة. ط2.
مجلة الجامعة الإسلامية. العددان. 71، 72، 1406هـ.
مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الخامس عشر، شعبان، 1416هـ.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي. دار العربية بيروت. ط1، 1399هـ.
مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع لابن خالويه. مكتبة المتنبي، القاهرة.
المطوّل على التلخيص للتفتازاني. مطبعة أحمد كامل، 1330هـ
معاهد التنصيص على شواهد التلخيص. عبد الرحيم العباسي. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. عالم الكتب. بيروت.
المعجم الأدبي. جبّور عبد النور. دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1984م.
معجم البلاغة العربية د/بدوي طبانة. دار العلوم للطباعة والنشر - الرياض 1402هـ.
المعجم المفصل في الأدب. د. محمد التونجي. دار الكتب العلمية. بيروت ط1، 1413هـ.
معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
معجم النقد العربي القديم. د. أحمد مطلوب. دار الشؤون الثقافية العامة بغداد. ط1، 1989م.
المغرّب في ترتيب المعرَّب. للمطرزي، دار الكتاب العربي. بيروت.
مفتاح العلوم. للسكاكي. ضبطه وكتب هوامشه، نعيم زرزور. دار الكتب العلمية. بيروت.
المفضليات. اختيار المفضل الضبّي. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون. دار المعارف. ط7.
نقد الشعر. لقدامة بن جعفر. تحقيق: كمال مصطفى. مكتبة الخانجي. القاهرة. ط3، 1398هـ.
النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري. دار الكتاب العربي. بيروت. ط2، 1387هـ.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. لابن خلّكان. تحقيق: إحسان عباس. دار الفكر. بيروت.(43/172)
المنهل المؤهول بالبناء للمجهول
لأبي الخير محمد بن ظهيرة
تحقيق ودراسة
إعداد
د. عبد الرزاق بن فرج الصاعدي
الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية
المُقَدِّمَةُ
أحمدك اللهم حمد معترف بجليل نعمتك، وأذكرك وأشكرك ولا أكفرك، وأثنى عليك الخير كلّه، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلّم على أشرف أنبيائك، وصفوتك من خلقك، سِيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد؛ فهذا كتاب ((المنهل المأهول بالبناء للمجهول)) لخير الدين أبي الخير محمد بن أبي السعود بن ظهيرة القرشي المكّيّ الشافعيّ، من علماء القرن التّاسع الهجريّ، وأدرك القرن العاشر. وهو مصنف فيما لم يُسَمَّ فاعله من الأفعال، مِمّا اصطُلِحَ عليه بـ ((الأفعال المبنية للمجهول)) أو ((المبنية لغير الفاعل)) .
والأصل في الفعل أن يأتي مبنياً للمعلوم؛ لأنّ الغالب في الأفعال أن يكون لها فاعل معلوم، ولا يستغني الفعل عن فاعله إلا إذا غُيِّرَتْ صيغته وبني للمجهول، فيحذف فاعله، ويسند الفعل للمفعول أو غيره، كالمصدر أو الظرف أو المجرور.
والأفعال في العربية - في هذا - على نوعين:
نوع يجوز فيه الوجهان، البناء للمعلوم والبناء للمجهول، بحسب مراد المتكلم، ووفق القياس المعروف في بناء الأفعال لغير الفاعل، وهذا النوع يؤخذ بالقياس، وهو الكثير الغالب، ويعنى به النّحاة.
ونوع جاء ملازماً للمجهول، وهو ضربان:
ضرب لا يستعمل إلا على تلك الصيغة، كعُنِيْتُ بحاجَتِكَ، ونُفِسَتِ المَرأةُ.
وضربٌ تغلب في استعماله صيغة المبني للمجهول، وقد يستعمل بصيغة ما سُمِّيَ فاعله (المبني للمعلوم) كزُهِيتَ علينا؛ أي: تكبّرت؛ ورد فيه: زَهَا يَزْهُو زَهْواً.
وقد عُنِيَ علماء اللغة بالأفعال المبنية للمعلوم، وصنّفوا فيها تصانيف باسم ((الأفعال)) ومن أبرزهم: ابن القُوطيّة (ت367هـ) وابن طريف (نحو 400هـ) والسرقسطيّ (بعد 400هـ) وابن القطّاع (ت 515هـ) .(43/173)
أمّا الأفعال المبنية للمجهول بضربَيْها المتقدّمين فلا نعلم كتاباً مستقلاً فيها قبل كتابنا هذا ((المنهل المأهول)) الذي فتح الطريق لمن جاء بعده بالتأليف فيها، فظهر في القرن الحادي عشر كتاب حافل في هذا النوع من الأفعال، وهو كتاب ((إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل)) لمحمّد عليّ بن عَلان الصّدّيقيّ المتوفّى سنة (1057هـ) اعتمد فيه المؤلف على كتاب ((المنهل المأهول)) وجعله أساساً لما جاء في كتابه من مادة، وذكر ذلك في مقدمته.
وظهرت في زماننا بعض الدراسات العلمية أو المصنفات المعجمية في هذا النوع من الأفعال، ومن أبرزها:
1- ((الأفعال الملازمة للمجهول بين النحويين واللغويين)) وهو بحث صغير للدكتور مصطفى النّمّاس.
2- المبني للمجهول في الدرس اللغوي والتطبيق في القرآن الكريم)) للدكتور محمود سليمان ياقوت، وهي دراسة نشرت سنة (1989م) .
3- ((قاموس الأفعال المبنية للمجهول)) لأسماء أبو بكر محمد، وهي مادة معجمية مرتبة على حروف المعجم مستخرجة مما في ((المنهل المأهول)) و ((إتحاف الفاضل)) .
وتكمن أهمية كتابنا هذا ((المنهل المأهول)) في سبقه التاريخي في التأليف في هذا النوع من الأفعال، وطرافة موضوعه، ولهذا فهو جدير بأن يأخذ حقّه من النشر والعناية ليسدّ فراغاً في المكتبة اللغوية.
وقد يَسَّرَ الله لي العمل فيه بعد أن توفرت على ثلاث نسخ خطية له، وسرت في عملي في دراسته وتحقيقه على الخطة التالية:
القسم الأول: الدراسة
الفصل الأول: المُصنِّف:
المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده ووفاته.
المبحث الثاني: شيوخه وتلامذته.
المبحث الثالث: آثاره العلمية وشعره.
الفصل الثاني: كتاب المنهل المأهول
المبحث الأول: تحقيق اسم الكتاب وتوثيق نسبته.
المبحث الثاني: موضوع الكتاب ومادته ومنهجه.
المبحث الثالث: مصادره وشواهده.
القسم الثاني: التحقيق
أولاً: وصف النسخ.
ثانياً: منهج التحقيق.
النص المحقق:
الفهارس.(43/174)
وفي ختام هذه الكلمة أرجو من الله العليّ القدير أن يجزل المثوبة لمؤلّف هذا الكتاب ولدارسه ومحققه، وأن يجعله من العلم النافع الجاري أجره إلى يوم القيامة، وأرجو ممن ينظر فيه أن يتلطّف بإصلاح ما طغا به القلم، وزاغ عنه البصر، وقصّر عنه الفهم، فالإنسان محل النقص والنسيان، ومن الله العون والتوفيق وعليه التكلان.
القسم الأول: الدراسة
الفصل الأول: المُصَنِّف
المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده ووفاته:
مصنف كتاب المنهل المأهول هو: خير الدين أبو الخير محمد بن أبي السعود ابن ظهيره.
واسمه - كما أورده السخاوي-: محمد بن محمد بن محمد بن محمد خير الدين أبو الخير بن الجمال أبي السعود بن أبي البركات بن أبي السعود القرشي الشافعي ابن ظهيرة.
واسم جَدِّة الثّاني (والد جَدِّه) كما أورده الفاسي والنجم ابن فهد: أبو السعود محمد بن حسين بن علي بن أحمد بن عطية بن ظهيرة (ت802هـ) .
وبالجمع بين الاسمين يكون اسم مؤلف هذه الرسالة بالكامل بعد تجريد آبائه من الكنى والألقاب: محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن علي بن أحمد ابن عطية بن ظهيرة المخزوميّ القرشيّ المكّيّ.
ولقبه: خير الدين، وهذا هو المشهور قال السخاوي: "أو قطب الدين" وكنيته: أبو الخير، واشتهر بابن أبي السعود.
وحَدَّد السخاوي تاريخ مولده ومكانه بقوله: "ولد حين خسوف القمر من ليلة الثلاثاء رابع عشر شعبان سنة ستٍّ وأربعين وثمانمائة بمكة".(43/175)
وينحدر خير الدين ابن ظهيرة من أسرة علم عريقة وفيرة، اشتهر كثير من أفرادها في مكة المكرمة بالشرف والرياسة والعلم، في أجيال متتابعة، طيلة ستة قرون، منذ القرن السابع الهجري، حتى القرن الثاني عشر، وَلِيَتْ خلالها قضاء مكة منذ القرن الثامن الهجري، وقد اضطهدهم المماليك في آخر أيامهم، ثم عاد إليهم القضاء مع دخول العثمانيين الحجاز، ثم ضعف شأنهم في القرن الحادي عشر، وقد عُرِفت هذه الأسرة بـ ((آل ظهيرة)) أو ((أبناء ظهيرة)) وينتهي نسبهم إلى بني مخزوم من قبيلة قريش.
ولما كثر أبناء هذه الأسرة، وبرزوا في العلم والقضاء، واشتهروا ألف فيهم النجم عمر بن فهد القرشي (ت 885هـ) كتاباً سماه ((المشارق المنيرة في ذكر بني ظهيرة)) ذكره الشوكاني،والبغدادي، ولعلّه هو الكتاب الذي ذكره عبد الله مرداد في ((المختصر)) في ترجمة محمد بن يحيى بن ظهيرة بقوله: "وأخبرني من أثق به - أيضاً - بأنه اطلع على رسالة البدور المنيرة في ذكر بني ظهيرة".
وهذا يدلّ على أن الكتاب كان موجوداً في القرن الماضي (الرابع عشر) وقد بحثت عنه في بعض الخزائن المكّيّة وسألت أهل الاختصاص فلم أجد له أثراً. ولم يقف عليه صاحب ((التاريخ والمؤرخون بمكة)) .
ومن أبرز العلماء والقضاة في هذه الأسرة المكية الشهيرة:
1- محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر بن ظهيرة (مجد الدين) (ت 677هـ) .
2- محمد بن حسين بن علي بن أحمد بن عطية بن ظهيرة (جمال الدين أبو السعود) (ت802هـ) وهو الجد الثاني للمؤلف (أبو جَدِّه) كما تقدم.
3- محمد بن عبد الله بن ظهيرة (جمال الدين أبو حامد) (ت 817هـ) .
4- محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن ظهيرة (نجم الدين أبو المعالي) (ت 846هـ) .
5- محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن ظيهرة (جلال الدين أبو السعادات) (ت 861هـ) .
6- محمد بن إبراهيم بن علي بن ظهيرة (جمال الدين أبو السعود) (ت 907هـ) .(43/176)
7- علي بن جار الله بن محمد بن أبي اليمن بن أبي بكر بن أبي البركات محمد بن أبي السعود بن ظهيرة (ت 1010هـ) .
وولد ابن ظهيرة مؤلف هذا الكتاب بمكة - كما أشرت سابقاً - وبها نشأ، وحفظ القرآن، وصلّى به في المسجد الحرام، وحفظ الأربعين النوويّة، ولازم خاله في العربية، والجوجري في الفقه بمكة وبالقاهرة، وأذن له بالإقراء وغيره، وحلّق لإقراء العربية وغيرها، وتدرج حتى تولى القضاء - كما يفهم من عبارة ابن عَلان الصّدّيقيّ.
وأثنى السّخاويّ على رجاحة عقله ووصفه بقوله: "وهو منجمع مذكور بسكون وعقل مع حسن خط وخبرة بالشروط ... وبالجملة فهو فاضل ساكن".
ولم تذكر المصادر التي بين أيدينا تاريخ وفاة ابن ظهيرة، ولكن يفهم من كلام السخاويّ المتوفّى سنة (902هـ) أن ابن ظهيرة كان معاصراً له، وكان حياً في مطلع القرن العاشر، أمّا العزّ بن فهد فإنه ذكره ودعا له بالرَّحمة وهذا يدلّ على أنه توفيّ قبل سنة (922هـ) وهي السنة التي توفي فيها العز بن فهد، وبهذا يمكن القول: إن خير الدين أبا الخير بن أبي السعود محمد بن ظهيرة مؤلف هذا الكتاب توفيّ في أوائل القرن العاشر بين سنتي 902هـ و922هـ.
المبحث الثاني: شيوخه وتلامذته:
أولاً: شيوخه:
أخذ خير الدين أبو الخير بن ظهيرة عن عدد من علماء عصره، وأهم شيوخه الذين وقفت عليهم.
1- سارة ابنة ابن جماعة (ت 855هـ) .
وهي سارة ابنة عمر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، وتعرف بابنة ابن جماعة.
ذكر السخاوي أنها أجازت لخير الدين بن ظهيرة.
2- أبو جعفر بن الضّياء الحلبيّ (ت 857هـ) .
وهو محمد بن أحمد بن عمر بن محمد بن عثمان بن عبيد الله الحلبي، الشهير بأبي جعفر بن أبي الضياء الحلبي.
ذكر السخاوي أنه أجاز لابن ظهيرة.
3- الشّهاب أحمد بن عليّ المحلّيّ (ت 858هـ) .
وهو أحمد بن عليّ بن محمد بن موسى الشّهاب المحلّيّ ثمّ المدني.
ذكر السّخاويّ أنّ ابن ظهيرة سمع منه.(43/177)
4- أبو الحسن الإبّيّ (ت 859هـ) .
وهو علي بن إبراهيم بن راشد أبو الحسن الإبّي (بكسر الهمزة وتشديد الباء) ، سمع منه ابن ظهيرة.
5- أبو الفتح المراغي (ت 859هـ) .
وهو شرف الدين أبو الفتح محمد بن أبي بكر بن الحسن المراغي.
ذكر صاحب ((الضوء اللامع)) أن ابن ظهيرة سمع منه.
6- الزين الأميوطيّ (ت 867هـ) .
وهو عبد الرحيم بن إبراهيم الأميوطي، سمع منه ابن ظهيرة.
7- إمام الكامليّة (ت 876هـ) .
وهو محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن يوسف الشهير بـ ((إمام الكاملية)) ، سمع منه ابن ظهيرة.
8- عبد القادر المحيّويّ المالكيّ (ت 880هـ)
وهو عبد القادر بن أبي القاسم بن أبي العباس أحمد بن عبد المعطي المحيوي المالكي، وهو خال ابن ظهيره، وإمام العربية في زمانه، يقول السخاوي: "وقد صار شيخ بَلَدِهِ في مذهبه والعربية غير مدفوع فيهما" ومن أهم مؤلفاته في العربية شرح التسهيل، لم يتمه.
تلمذ عليه ابن ظهيرة في العربية، ولازمه حتى تميز فيها كما يقول السخاوي.
9- شمس الدين الجوجريّ (ت 889هـ) .
وهو شمس الدين محمد بن عبد المنعم الجوجريّ.
لازمه ابن ظهيرة، وأخذ عنه الفقه بمكة والقاهرة.
10- شمس الدين السخاوي (ت 905هـ) .
وهو محمد بن عبد الرحمن السخاوي (شمس الدين) المؤرخ المشهور ذكر أن ابن ظهيرة تردد عليه بمكة مع خاله عبد القادر المحيّويّ، ثم تردد عليه منفرداً بالقاهرة، ويبدو أنه أخذ عنه.
11- ابن الفرات (؟)
وهو محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن الفرات أبو الحسن، شيخ العز ابن فهد، لم أقف على سنة وفاته.
ذكر السخاوي أنه أجاز لابن ظهيرة.
ثانياً: تلامذته:
لم تسعفنا المصادر التي بين أيدينا في التعرف على تلامذة خير الدين بن ظهيرة، وأشار السخاوي إلى واحد منهم في قوله: "قرأ عليه حفيد الأهدل سنن ابن ماجه".(43/178)
والحفيد هذا هو: حسين بن صديق بن حسن بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن أبي بكر حفيد الشيخ البدر الحسيني الأهدل اليماني الشافعي. ولد سنة (850هـ) وتوفي بعد سنة (905هـ) .
المبحث الثالث: آثاره العلميّة وشعره:
أولاً: آثاره العلميّة:
لابن ظهيرة مؤلّفات في اللغة والنحو وبعض العلوم، وصفها ابن عَلان الصّدّيقيّ بأنّها ((مفيدة)) وأشار إلى أنّ له تحقيقات عديدة، وقد فقد كثير منها، ومما عرفناه من مؤلفات ابن ظهيرة:
1- رشف الشرابات السنية من مزج ألفاظ الأجرومية:
وهو شرح لكتاب الأجرومية في النحو، ذكره السّخاويّ.
2- شرح الإيجاز للنووي:
وهو كتاب في المناسك، وصل فيه ابن ظهيرة إلى نحو النصف.
3- شرح التسهيل لابن مالك:
أكمل فيه شرح خاله عبد القادر المحيوي، من باب التصغير إلى آخر الكتاب.
4- شرح لاميّة الأفعال لابن مالك:
وهو في التصريف، وصل فيه ابن ظهيرة إلى نحو النصف كما يقول السّخاويّ.
5- المنهل المأهول بالبناء للمجهول:
وهو هذا الكتاب، وسيأتي الكلام عليه مفصلاً.
ثانياً: شعره:
لابن ظهيرة شعر أشارت إليه بعض المصادر فأوردت نتفاً منه كـ ((الضوء اللامع)) و ((غاية المرام)) .
ويغلب على شعره سمة النظم، كعادة العلماء في أكثر أشعارهم. ومن نظمه مما أورده السخاوي قوله معاتباً:
ماذا الجَفَا يا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ أَضْرَمْتِ نَارَ الهَجْرِ في أَحْشَائي
وأَنا الّذي أَخْلَصْتُ فيك مَحَبَّتِي ووَقَفْتُ مُخْتَاراً عليك ولائي
وقوله يمدح مكان الشريف محمد بن بركات بن حسن بن عجلان بن رميثة ابن أبي نمي، المسمّى بأمّ شُمَيْلَة سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة:
بأُمِّ شُمَيْلَةٍ حَسُنَ المَقيلُ وطَابَ لَنَا بها الظِّلُّ الظَّلِيلُ
وهَبَّ نَسِيمُها الأَسْنَى صَحيحاً وعهدِي بالنَّسِيم هُوَ العَلِيلُ
لقد كَمُلَتْ مَحَاسِنُها فأَثنى لِسَانُ الحالِ في المَعْنَى يَقُولُ(43/179)
أَهَلْ لريَاقَتي وصَفَاءِ مَائي ونُضْرَةِ خُضْرَتِي يُبْغَى بَدِيلُ
وهَلْ لمُعَمِّري بَيْنَ البرايا شَبيهٌ أو بَديلٌ أو مَثيلُ
مَلِيكٌ قد سَمَا قُنَنَ المعالي وذَلَّ لِعِزِّهِ الصعبُ المهولُ
هو البطلُ الهِزَبْرُ أبو قِناعٍ محمدٌ الأبيُّ المُسْتَطِيلُ
وقال يهنئ الشريف محمد بن بركات بالنصر والسلامة في وقعة سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة بقصيدة طويلة مطلعها:
في صاَدِقِ الخُبْرِ ما يُغْنِي عن الخَبَر وفي اقتناصِ الصَّياصي غايَةُ الوَطَرِ
ومنها:
مَلْكٌ له في رَحِيبِ الفَضْلِ بَادِرَةٌ وفي حُروبِ الأعادي أيُّ مُصْطَبَرِ
قَرْمٌ هِزَبْرٌ إذا ما شِمْتَ طَلْعَتَهُ رأيتَ عجّاجَ بَحْرٍ غير مُحْتَكرِ
إن جَالَ في صَهَواتِ الخيلِ يومَ وغىً تراهمُ يُلصِقُونَ الأرضَ بالطُّرَر
ومنها:
دَعُوا السَّيوفَ لأَهْلِيها ودونَكُمُ حَرثَ النّهوبِ وجَعْلَ الحبِّ في الحفرِ
وسَلِّمُوا الخيلَ واعَتْاضُوا بها حُمُرا فكم نَرَى حُمُرا منكم على حُمُرِ
أَمَا عَلِمْتُم ولا أَخْلاقَ عِندَكُمُ أنّ الزُّجَاجَةَ لا تَقْوَى على الحَجَرِ
الفصل الثاني
كتاب المنهل المأهول
المبحث الأول: تحقيق اسم الكتاب وتوثيق نسبته:
ورد اسم الكتاب على طُرَّة نسخة الأصل التي اعتمدناها، وهي نسخة دار الكتب المصرية، وورد - أيضاً - في مقدمة الكتاب في النسخ الثلاث المعتمدة في التحقيق، وذلك في قوله: "وسميته المنهل المأهول بالبناء للمجهول".
وذكره البغدادي، ولم يذكر اسم مؤلفه أما المصدر الرئيس الذي ترجم لابن ظهيرة، وهو ((الضوء اللامع)) فلم يذكر هذا الكتاب فيما ذكره من مؤلفات ابن ظهيرة، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أنّ ابن ظهيرة توفّي بعد السخاوي صاحب ((الضوء اللامع)) فلعله ألفه في أواخر حياته في مطلع القرن العاشر.(43/180)
والكتاب منسوب إلى مؤلفه خير الدين ابن ظهيرة على طُرّة نسخة دار الكتب، أيضاً، ويؤكد هذه النسبة ما جاء في مقدمة ((إتحاف الفاضل)) لمحمد علي بن عَلان الصّدّيقيّ (1057هـ) في قوله: " ... فإنّ الكتاب المسمّى بالمنهل المأهول في الفعل المبني للمجهول جمع الأوحد الفاضل الأمجد العالم العامل الشيخ الإمام الحبر الهمام ذي التّآليف المفيدة والتحقيقات العديدة القاضي خير الدين أبي الخير ابن أبي السعود بن ظهيرة القرشي المخزومي المكي الشافعي تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوح جنته مؤلفٌ فريد في بابه، مفيد لقاصدي معناه وطلابه ... ".
وقد اعتمد عليه ابن عَلان وجعله أصلا لكتابه، وأضاف إليه زيادات من بعض كتب الأفعال، وتبين لي من خلال تحقيق ((المنهل المأهول)) التطابق التام بين نصوصه وما يقابلها في ((إتحاف الفاضل)) بما لا يدع مجالاً للشك في أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو الكتاب الذي ذكره ابن عَلان، واعتمد عليه، وعزاه لخير الدين ابن ظهيرة.
وابن علان هذا قريب عهد بالمؤلف، وهو من علماء اللغة المدققين في زمانه.
المبحث الثاني: موضوع الكتاب ومادته ومنهجه:
قد يحذف فاعل الفعل فينوب عنه المفعول أو المصدر أو الظرف أو الجار والمجرور بعد بناء الفعل للمجهول، وذلك بتغير صيغته على النحو الذي فصله النحاة، وملخصه:
يبنى الماضي الصحيح للمجهول بضم أوله وكسر ما قبل آخره، سواء كان ثلاثياً مجرداً نحو ((ضُرِبَ)) أو مزيداً فيه نحو ((أُكرم)) أو رباعياً مجرداً نحو ((بُعثر)) أو مزيداً فيه نحو ((تدحرج)) .
وإن كان مبدوءاً بتاء زائدة ضمّ أوّله وثانيه (أي التاء وما بعدها) نحو ((تُعُلِّم)) وإن كان مبدوءاً بهمزة وصل ضُمّ أوله وثالثه، نحو ((انطُلق)) و ((اجتُمع)) و ((اسْتُخرج)) .
أمّا الأجوف فحكم ما لم تعلّ عينه حكم الصحيح في البناء للمجهول، أما ما أعلّت عينه - وهو الكثير - ففيه ثلاث لغات:(43/181)
1-كسر الفاء فتسلم الياء وتقلب الواو ياء نحو ((قِيلَ)) و ((بِيعَ)) وهي أفصح اللغات الثلاث، والأصل: قُوِلَ وبُيِعَ.
2- الإشمام، وهو أن تنحو بكسرة فاء الفعل نحو الضمة، فتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلاً؛ إذ هي تابعة لحركة ما قبلها.
3- إخلاص ضمة الفاء فتسلم الواو وتقلب الياء واواً نحو: قُول وبُوع، وعليه قول الراجز:
لَيْتَ وهَلْ يَنْفَعُ شَيئاً لَيْت لَيْتَ شَبَاباً بُوعَ فاشْتَرَيت
أمّا الثلاثيّ المضعّف الصحيح فأوجب جمهور العلماء ضم فائه، نحو: عُدّ ورُدّ، وأجاز الكوفيون الكسر، نحو: رِدّ.
وتنقسم الأفعال بالنظر إلى بنائها للمجهول ثلاثة أقسام:
قسم اتفق النحاة على أنه لا يجوز بناؤه للمجهول، وهو كل فعل لا يتصرف، نحو: نِعْمَ وبِئْسَ، وعَسَى، وليس، وحبّذا، وفعل التعجب.
وقسم فيه خلاف، وهو كان وأخواتها.
وقسم اتفق النحويون على جواز بنائه للمفعول، وهو ما بقي من الأفعال المتصرفة، وهو الكثير الغالب.
وثَمّة أفعال جاءت عن العرب ملازمة للبناء للمجهول، كقولهم: عُنِيت بحاجتك ونُفِست المرأة، ونُتِجت، ودُهِشَ، وأُولِعَ، أو غلب عليها البناء للمجهول فقد تستعمل بصيغة ما سمّي فاعله (المبنى للمعلوم) مثل: زُهِيتَ علينا، حكي فيه: زها يزهو.
و ((المنهل المأهول)) - كتابنا هذا - يحوي بين دفتيه ما جمعه مؤلفه ابن ظهيرة من هذا النوع من الأفعال الملازمة للبناء للمجهول أو الذي غلب عليه الاستعمال مبنياً للمجهول، وفي هذا يقول المؤلف في مقدمته: "فإن للعرب ألفاظاً نطقوا بها بالبناء للمجهول، وإن كانت بمعنى الفاعل لا المفعول، فتارة لا يُعَبِّرون عن معنى تلك الألفاظ إلابهذا البناء المذكور، وتارة يعبرون عنه بهذا البناء وبغيره، ويكون أحدهما المشهور".(43/182)
فأراد المؤلف أن يجمع ما توفّر عليه من هذه الأفعال التي لم تجمع في كتاب مستقلّ بها قبله، وهو في ذلك يقول: "ولم أعلم أحداً تصدّى لجمع هذه الألفاظ من السّلف والخلف، ولا أفرد لها مؤلّفاً يَعْتَمِدُ عليه من وقف".
وأتى على قدر وافر من هذه الأفعال الملازمة للبناء تجاوز عددها المائتين فقد بلغ أربعة ومائتي فعل مبني للمجهول (204) عدا المكرر، وهي مادة زاخرة إذا قيست بما في ((الفصيح)) لثعلب الذي احتوى على ستة وثلاثين فعلاً، ومنظومة الدَّميري التي احتوت على ثلاثة وأربعين فعلاً، ولهذا يعدّ كتاب ((المنهل المأهول)) أغنى كتاب بالأفعال المبنية للمجهول في زمانه، فضلاً عن كونه أول كتاب يؤلف في بابه، وظلّ على تفوّقه حتى منتصف القرن الحادي عشر تقريباً حين ألف محمد بن عَلان الصّدّيقيّ (1057هـ) كتابه ((إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل)) فأفاد من المنهل المأهول، وجعله أصلاً لكتابه.
وقد اختار ابن ظهيرة لعرض مادته منهجاً معجمياً، وهو المنهج المعجمي الهجائي الألف بائي القائم على ترتيب الألفاظ بحسب أصولها بالنظر إليها من أولها، وجعل لكل حرف باباً ليُيَسِّرَ مراجعة الكتاب، وليأمن بعض التصحيف، وفي ذلك يقول: "ورتّبت ذلك على حروف المعجم؛ ليسهل الكشف عليها، لمن خفي عليه ضبطها أو استعجم، معتبراً في الترتيب أول الكلمة والأصول من أحرفها لا ما هي به مُتَمَّمة".
وبتأمّل مواد الكتاب يمكن الخروج بالملحوظات المختلفة التالية:
أ- لم يخل حرف من الحروف من مادةٍ لغوية، فجاءت أبواب الكتاب بعدد حروف المعجم، وأوسع الأبواب هو باب الميم وفيه عشرون فعلاً، وأقلها بابا الباء والظاء، وفي كل منهما فعل واحد، ويليهما باب الياء، وفيه فعلان.(43/183)
ب- جميع الأفعال التي أوردها ابن ظهيرة هي من الثلاثي الأصول، وأكثرها مجردة من الزوائد، وبعضها مزيد بحرف، كالهمزة نحو (أُهدر) أو التضعيف نحو (بُيِّغَ) أو مزيد بحرفين، كالهمزة وتاء الافتعال، نحو (امتُقِعَ) أو الهمزة ونون الانفعال، نحو (انقُطِعَ) أو التاء والتضعيف، نحو (تُودّع) أو مزيد بثلاثة أحرف، كالهمزة والسين والتاء، نحو (اسْتُهْتِرَ) .
ج- الكثير في الأفعال هو ما جاء ملازماً للمجهول، والقليل ما سمع بالوجهين البناء للمجهول والبناء للمعلوم، كما في (بُهِتَ) و (دُجِمَ) و (ذُئِبَ) .
د- كثر البناء للمجهول في الأفعال الدالة على الأمراض، ويظهر ذلك بوضوح في: (رُمِعَ) و (رُهِصَ) و (زُكِمَ) و (سُعِفَ) و (سِيدَ) و (صُدِرَ) و (صُعِفَ) و (صُفِر) و (طُحِل) و (طُرِف) و (طُشَّ) و (طُمِرَ) و (ظُفِرَ) و (عُرِنَ) و (عُرِيَ) و (عُشِيَ) و (عُضِبَ) و (غُمِي) و (فُلِحَ) و (كُبِدَ) و (كُمِنَ) و (لُبِطَ) و (مُغِسَ) .
هـ - كثر البناء للمجهول في الأفعال الدالة على الألوان، كما في (احتُمِلَ) و (سُفّ) و (أُسْقِع) و (شُحِبَ) و (الْتُمِعَ) و (التُمِيَ) و (امْتُقِعَ) و (انتُسِفَ) و (انتُشِفَ) و (انتُقِعَ) و (اهْتُقِعَ) و (اهْتُمِعَ) .
و جاءت بعض الأفعال المبنية للمجهول دالة على الأمطار والرياح، كما في (جُنِبَ) و (رُبِعوا) و (صِيف) و (ضُبِطَ) و (ضُرِبت) و (طُشّت) و (طُلّ) وكُسِعَ) .
ز- بروز شخصية المؤلف العلمية في كتابه، فهو ينقل بوعي ودقّة، ويبدي رأيه في كثير مما يورده، ضبطاً أو تفسيراً، ونحو ذلك، كقوله في مادة (فلج) تعقيباً على ما في المنظومة: "ولم أر له أصلاً، ولعل معناه: انشق الأمر به، فلم يملكه، أو لعله غير الأمن بالأمر، وكأنّ: فُلِجَ الأمر به؛ أي: بالفالج المفهوم من فلج".
ومثل هذا كثير في كتابه.
المبحث الثالث: مصادره وشواهده
أولاً: مصادره:
استقى ابن ظهيرة مادته من المظان اللغوية المختلفة وغيرها، وعوّل على خمسة منها وعنها نقل جُلّ مادته، وهي:(43/184)
1- ((رموز الكنوز)) :
وهي أرجوزة طويلة في الفقه اشتملت على "فروع غريبة وفوائد حسنة" لكمال الدين محمد بن موسى الدَّمِيريّ (ت 808هـ) صاحب كتاب ((حياة الحيوان)) .
ونظم الدميري في هذه الأرجوزة بعض الأفعال المبنية للمجهول بلغت ثلاثة وأربعين فعلاً في أربعة عشر بيتاً أوردها في باب الحيض.
وقد جعل ابن ظهيرة هذه الأفعال الواردة في المنظومة أساساً لكتابه هذا لما سئل شرحها وضبطها، وأضاف إليها أمثالها من مصادر لغوية مختلفة. وأشار إلى ذلك في مقدمة كتابه وذكر أنها أساس كتابه، وأنه فرقها في كتابه، وميزها في نسخته الأصلية بوضع حرف الدال أمامها بالقلم الأحمر، ولكن النساخ أهملوا ذلك فيما وصل إلينا من نسخ.
وفيما يلي أبيات المنظومة نقلاً عن ابن عَلان الذي أوردها في ذيل كتابه ((إتحاف الفاضل)) وهي:
خَاتِمَةٌ: يُقَالُ هِندٌ نُفِسَتْ وطُلِّقَتْ عَلَى البِنَاءِ اقْتُبِسَتْ
كَنُتِجَتْ وهُزِلَتْ وعُقِرَتْ وحُلِبَتْ ورُهِصَتْ وسُهِرَتْ
وعُقِمَتْ هِندٌ وزَيدٌ شُغِلا وطُلَّ منه دَمُهُ أي قُتِلا
وسُقِطَ المَذْكُورُ في يَدَيْهِ وشُدِهَ الفُؤَادُ أي عَلَيْهِ
ووُضِعَ التَّاجِرُ أي قد خَسِرا ومِثْلُهُ وُكِسَ بَيْعاً وشِرا
ووُقِصَ الرَّاكِبُ مِثْلُ نُحِيا ووُقِرَ الخَبْرُ بِصَدْرِ زُهِيا
دِيْرَ به دِيرَ عليه نُخِيا لُقِيَ في بنائه كزُكِما
غُمَّ الهِلالُ وَالمَرِيضُ أُغْمِيَا وأُوْلِعَ العَاشِقُ ثُمَّ غُشِيا
وامْتُقِعَ اللَّونُ به وانْقُطِعَا وفُلِجَ الأَمْرُ به وقُطِعَا
وبُرَّ حَجُّهُ وزيدٌ بُطِنا وطُلِّقَ النِّسَاءُ جاءَ بالبِنا
وكُسِعَ السِّقا وزيدٌ دُكّا مُرِضَ واضْطُرَّ برفع يحكى
وضُرِبَتْ مَعَ الصَّقِيعِ الأرضُ ومُهِرَ اللّحمُ وطُلَّ الحَرَضُ
ووُقِرَتْ أُذْنُهُ أي أُصِمَّت وأُعْرِبَ الجُرْحُ تعاظم الشدة
ومِثْلُ ذِي البِنْيَةِ في كَلامِهِم يَكْثُرُ إذ يُجْمَعُ في عِظامِهِم
2- ((الفصيح)) :(43/185)
لأبي العباس أحمد بن يحيى الشهير بـ ((ثعلب)) (ت 291هـ) أشار ابن ظهيرة في مقدمته إلى أنه اطّلع عليه وأفاد مما فيه، ويظهر ذلك بوضوح في الكتاب، مع نصٍّ على اسم ((الفصيح)) في بعض المواضع.
وقد ختم المؤلف كتابه بخاتمة وجيزة اقتبسها من كتاب ((الفصيح)) .
3- ((الصّحاح)) :
للجوهري (ت 393هـ) وجعله المصنف أحد المعاجم الثلاثة التي رجع إليها وأخذ عنها بعض مواده، ونص على ذلك في مقدمته.
4- ((ضياء الحلوم)) :
لعليّ بن نشوان بن سعيد الحميريّ (ت 620هـ) اختصر فيه كتاب والده المسمّى ((شمس العلوم)) وهو أحد المعاجم الثلاثة التي نص ابن ظهيرة في مقدمته على اعتماده عليها، وقد رجع إليه في كثير من المواد.
5- ((القاموس المحيط)) :
لمجد الدين الفيروز آبادي (ت 817هـ) وعليه معتمد ابن ظهيرة في هذا الكتاب، مما ليس في المنظومة أو الفصيح، وقد أشار إليه في مقدمته، وأكثر من النقل عنه في موادّه، كما يظهر من خلال التحقيق، حتى كان له الغلبة في مصادره.
هذه أهمّ مصادر ابن ظهيرة، وقد رجع - في ندرة - إلى ((الجمهرة)) لابن دريد، و ((التهذيب)) للنووي، أما كتب الأفعال فلم أجد دليلاً على رجوعه إليها، ولعلها لم تكن متاحة له.
ثانياً: شواهده:
استشهد ابن ظهيره في كتابه بالقرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العربي، ولم تكن شواهده في الجملة كثيرة، وبخاصة من القرآن والحديث، إذ لم تتجاوز الآيات التي استدل بها اثنتين في مادتي (نزف) و (هرع) والحديث أقل من ذلك، فهو شاهد واحد ذكره في مادة (تودّع) .
أما شواهد الشعر فكانت أكثر حظاً في كتابه هذا، إذ أورد طائفة منها لشعراء مختلفين، كالأعشى، وطرفة بن العبد، وأكثم بن صيفي، وأبي شبل الأعرابي، وابن أحمر، ولبيد، ودعبل، كما في مواد: (ألق) و (حصي) و (ربع) و (طلّ) و (فظع) و (كسئ) و (كسع) و (هزل) .
القسم الثاني
التحقيق
أولاً: وصف النسخ:
اعتمدت في تحقيق نصّ هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطّيّة:(43/186)
الأولى: مصورة عن نسخة الحميدية في مكتبة السليمانية بإستانبول، وهي ضمن مجموع تحت رقم (1387) ويقع في (226) لوحة وفي آخره ثلاث رسائل على الترتيب:
1- ((المنهل المأهول بالبناء للمجهول)) لابن ظهيرة.
2- ((تلذّذ المحبّ بلذّاته فيمن لُقِّبَ بشيء متّصل بذاته)) للشيبي (ت837هـ) .
3- ((راحة المُعَنَّى في محاسن الكلام المُثَنَّى)) للشيبي - أيضاً.
ولم يتح لي الاطلاع على ما جاء قبل هذه الرسائل في هذا المجموع.
ويقع كتاب ((المنهل المأهول)) في عشر لوحات من اللوحة 212 إلى 221 أي في عشرين صفحة في كل صفحة عشرون أو واحد وعشرون سطراً، ومتوسط ما في كل سطر إحدى عشرة كلمة.
وهو مكتوب بخط نسخي واضح، وكتبت الأفعال المبنية للمجهول فيه بمداد مغاير للمداد الذي كتب به الكتاب.
والنسخة الخطية سليمة من الخرم، وبها بعض السقط استُدركَ بعضه في الحواشي، وهي منسوخة في القرن العاشر أو الحادي عشر، غير أن ناسخها ليس دقيقاً، فهو كثير الخطأ والتصحيف والتحريف، كما يظهر من هوامش التحقيق الآتية، وهي لا تصلح لأن تكون أصلاً عند موازنتها بغيرها من النسخ الآتية.
وقد رمزت لهذه النسخة بحرف ((ح)) .
الثانية: مصورة عن نسخة مكتبة عارف حكمت في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة، وهي ضمن مجموع تحت رقم (36/410لغة) يشتمل على أربعة كتب في اللغة، وهي على الترتيب التالي:
1- ((جامع التعريب بالطريق القريب)) لمصطفى المدنيّ (ت1100هـ) .
2- ((المنهل المأهول)) لابن ظهيره (هو كتابنا هذا) .
3- تَلَذُّذ المحبّ بلذاته فيمن لقب بشيء مُتّصل بذاته)) للشيبي.
4- ((راحة المُعَنَّى في محاسن الكلام المُثَنَّى)) للشيبي.
ويقع ((المنهل المأهول)) في هذه النّسخة في ستّ عشرة لوحة، من اللّوحة (188هـ) إلى (204هـ) أي في اثنتين وثلاثين صفحة، في كلّ منها تسعة عشر سطراً، وفي كلّ سطر تسع كلمات تقريباً.(43/187)
والنسخة مكتوبة بالخط الفارسي الواضح، وكتبت الأفعال المبنية للمجهول فيها بالمداد الأحمر، وكذلك الأبواب، وهي سليمة من الخرم أو الطمس، وبها بعض السقط، ولم أتمكن من معرفة ناسخها، وإن كنت أرجّح أنّها متأخّرة الزمان بعض الشيء، لنوع الورق والمداد الذي كتبت به؛ ولأنّ مؤلف الكتاب الأوّل من المجموع هو مصطفى المدنيّ المتوفّى سنة (1100هـ) .
وهذه النسخة كسابقتها، مليئة بالتحريفات والتصحيفات، تدلّ على جهل ناسخها باللّغة، وهي منقولة من النّسخة السابقة (نسخة الحميدية) أو أنّهما منقولتان من أصل واحد، والاحتمال الأول أرجح لما يلي:
1- التطابق بين النسختين في كل ما تحرّف أو تصحّف في النسخة الأولى (الحميدية) في حين تزيد هذه النسخة (عارف حكمت) على سابقتها ببعض التّحريفات والتّصحيفات الخاصّة بناسخها، والّتي لم تكن في نسخة الحميدية، وهي النسخة التي ينقل عنها الناسخ فيما نقدر.
2- ثمة سقط وقع في هذا الكتاب في النسختين، وتَبَيّنَ بعد المقابلة أنّ كل سقط يقع في مجموع نسخة الحميدية يكون - أيضاً - في مجموع نسخة عارف حكمت، وانفرد الأخير بمواضع ليست في مجموع النسخة الأولى، وهي خاصة بناسخ هذا المجموع (مجموع عارف حكمت) .
وقد رمزت لهذه النسخة بحرف ((ع)) .
الثالثة: مصورة عن نسخة دار الكتب المصرية، تحت رقم (521 لغة) وتقع في أربع عشرة لوحة، أي في ثمان وعشرين صفحة، في كل صفحة ثلاثة وعشرون سطراً، ومتوسط ما في كل سطر إحدى عشرة كلمة، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، والأبواب والأفعال المبنية للمجهول فيها مكتوبة بالمداد الأحمر.
وهذه النسخة سليمة خالية من الخرم أو السقط أو الطمس أو اضطراب الأوراق، فرغ منها ناسخها قاسم الكيكيّ بن عبد الرّحمن الكيكيّ الدّمياطيّ في ليلة الخميس الموافق للحادي والعشرين من شهر محرم من سنة (1298هـ) .(43/188)
وجاء على طرة هذه النسخة عنوانها وبعض التمليكات، وفي هامشها بعض التعليقات، وفيها أثر للتصحيح والمراجعة، ويبدو أنّها منقولة من أصل قديم ضبطت روايته وصحّحت قراءته، ويظهر أنّ ناسخها قاسم الكيكي على حظ وافر من العلم بالعربية، لندرة تصحيفاته أو تحريفاته، ولتحريه الدّقّة والصّواب في بعض تعليقاته وتصويباته في هوامش النسخة، ولرجوعه إلى مصادر المصنف.
وهذه النسخة هي الوحيدة بين النسخ التي ذُكِرَ فيها اسم المؤلّف فقد جاء على طُرَّتها ما نصّه: "هذا كتاب المنهل المأهول بالبناء للمجهول، تأليف الإمام العلامة الشيخ الأستاذ خير الدين أبي الخير محمد بن ظهيرة القرشي المكّيّ الشّافعيّ تغمّده الله برحمته آمين..".
وقد جعلتُ هذه النسخة أصلاً في التحقيق؛ لاكتمالها وسلامتها من السقط، وخلوها من التصحيف، أو التحريف إلا في القليل النادر، بخلاف النسختين السابقتين اللتين شاع فيهما التصحيف والتحريف بصورة شوهت كثيراً من نصوصهما، وأبعدتها عن معانيها، كما سيأتي في هوامش التحقيق.
وفوق ذلك كلّه فإنّ هذه النسخة تحمل اسم مؤلفها على طرتها، واسم ناسخها في ذيلها.
وقد رمزت لها بعبارة ((الأصل))
وفيما يلي صور للنسخ الثلاث:
P418
P419
P420
P421
P422
P423
P424
صفحة العنوان من نسخة ((الأصل))
الصفحة الأولى من اللوحة الثانية من نسخة ((الأصل))
الصفحة الأخيرة من اللوحة الأخيرة من نسخة ((الأصل))
الصفحة الأولى من اللوحة الأولى من نسخة ((ح))
الصفحة الأخيرة من اللوحة الأخيرة من نسخة ((ح))
الصفحة الأولى من اللوحة الأولى من نسخة ((ع))
الصفحة الأخيرة من اللوحة الأخيرة من نسخة ((ع))
ثانياً: منهج التحقيق:
يتلخّص منهج التحقيق الذي سرت عليه في هذا الكتاب فيما يلي:(43/189)
أ - نَسْخ النّصّ من الأصل - وهي نسخة دار الكتب المصرية - كما تقدم - ورسمه بما هو متعارف عليه في عصرنا من قواعد الإملاء، وضبطه ضبطاً كاملاً، وتنظيم المادة، ووضع دوالّ القراءة المعروفة؛ لإظهار معاني النّصّ وتوضيح دلالاته.
ب- مقابلة النّصّ بما في النسختين ((ح)) و ((ع)) وإثبات الفروق بين النسخ في الهوامش، والتنبيه على ما وقع في النسخ من تحريفات وتصحيفات، وإثبات الصواب في المتن، ما لم يثبت لدى أن ذلك من المصنّف، ووضع ما زيد على النّصّ من النسختين، أو مما لا بد منه - وهو نادر - بين معقوفين تمييزاً له، مع التنبيه عليه في الحواشي. وأنبه على أنني التزمت استخدام الفاصلة بين رمزي النسختين، فأقول مثلا: "في ح، ع ... "ولا أقول: "في ح وع ... "خوفاً من لبس الواو بالحرفين.
ج- الاستئناس بما جاء في كتاب ((إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل)) لابن عَلان؛ لاشتماله على نصوص ((المنهل المأهول)) .
د- إثبات أرقام اللوحات الخاصّة لمصورة النسخة المعتمدة أصلاً، مع الرمز للصفحة اليمنى من المصورة بـ (أ) ولليسرى بـ (ب) والرقم لأسفل الصفحة.
هـ - توثيق ما جاء في النّصّ بعرض مادته على مصادرها الأصليّة، ككتب الأفعال، ومعاجم اللغة، وربطه بها، بالإحالة عليها في الهوامش، لتتم الفائدة وتسهل المراجعة.
و عزو الآيات إلى السور، وتخريج الأحاديث من كتب الحديث.
ز- تخريج الشواهد الشعرية من مظانها، كالدواوين، والمجاميع الشعرية، وكتب اللغة والمعاجم، ونسبة الأبيات التي لم ينسبها المصنف إلى أصحابها.
ح- التعريف - باقتضاب - بمن يحتاج إلى تعريف من الأعلام الورادة في النص، وترك المشاهير منهم.
ط- التعليق المقتضب على ما يحتاج إلى تعليق من المسائل التصريفية أو اللغوية.(43/190)
تابع للمنهل المؤهول بالبناء للمجهول
هَذا كِتَابُ المَنْهَلِ المَأْهُولِ بالبِنَاءِ للمَجْهُولِ
تأليف الإمام العلامة الشيخ الأستاذ خير الدين أبي الخير محمد بن ظهيرة القرشي المكي الشافعي
تغمده الله برحمته آمين ونفعنا به والمسلمين وصلى الله على سيدنا محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ ذِي الفَضْلِ المَبْذُول، والعِلْمِ العَظيمِ الَّذِي لا يُحْصَرُ بمَعْقُولٍ ولا مَنْقُول، والقُدْرَةِ الجَلِيلَةِ الشَّامِلَةِ للمَوضُوعِ والمَحْمُول، والمَعْرِفَةِ المُحِيطَةِ بالمَعْلُومِ لِغَيرِهِ والمَجْهُول، أَحْمَدُهُ حَمْداً يَتَضَاعَفُ وَيَطُول، وأَشْكُرُهُ شُكْراً يَبْلُغُ المَأْمُول، وأَشْهَدُ أَن لا إَلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، المُنّزَّهُ عَنِ الحُدُوثِ والحُلُول، الدَّائِمِ البَاقِي فَلا يَحُولُ ولا يَزُول، وأَشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الصَّادِقَ فيما يُخْبِرُ ويَقُول، المُعَلِّمَ الخَيرِ فَمِن بَرَكَتِهِ مَعْرِفَةُ المَبْنِي للفَاعِلِ والمَبْني للمَفْعُول، صَلَّى الله وسَلَّم عَلَيه، وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِه البُدُور، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ أُفُول، صَلاةً وسَلاماً أَنْجُو بِهِما في اليَوْمِ المَهُول.(43/191)
وبَعْدُ؛ فَإِنَّ لِلْعَرَبِ أَلْفَاظاً نَطَقُوا بها بالبِنَاءِ للمَجْهُول، وإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الفَاعِلِ لا المَفْعُول، فَتَارةً لا يُعَبِّرُونَ عَن مَعْنى تِلْكَ الأَلْفَاظِ إِلا بهذا [البِنَاءِ] المَذْكُورِ، وتَارةً يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بَهَذَا البِنَاء وبِغَيْرِهِ، ويَكُونُ أَحَدُهُمَا هُو المَشْهُور، ولم أَعْلَمْ أَحَداً تَصَدَّى لَجَمْعِ هَذِهِ الأَلْفَاظِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَف، ولا أَفْرَدَ لَهَا مُؤَلَّفاً يَعَتَمِدُ عَلَيْهِ مَنْ وَقَف، غَيرَ أَنَّ فِي ((فَصِيحِ)) ثَعْلَبٍ في بَابِ فُعِلَ بِضَمِّ الفَاءِ نَحْواً مِنْ أَرْبَعِينَ لَفْظاً لم يَتَعَرَّضْ فِيها لِضَبْطِ عِيْنِ الكَلِمَةِ؛ وَإِن أَفَادَ ذَلِكَ لِخَطَأٍ، وكَثيرٌ مِمَّن يَتَلَفَّظُ بِشَيءٍ مِنْهَا لا يَنْطِقُ بِهِ عَلَى البِنْيَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا العَرَبُ، بَلْ يَحِيدُ عَنْها.
فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ يَخْبِطُونَ فِيها خَبْطَ عَشْوَى، ولا يَهْتَدُونَ إِلَى النُّطْقِ بِهَا عَلَى الصَّوَابِ فِي النَّجْوَى، وكَانَ العَلامَةُ الكَمَالُ الدَّمِيريُّ - تَغَمَّدَه اللهُ بِرَحْمَتِهِ - ذَكَرَ أَلْفَاظاً مِنها في بَابِ الحَيضِ مِن منظُومَتِهِ، لكِنَّهُ لم يَضْبِطْها؛ فَصَحَّفَها النُّسَّاخُ؛ حَتَّى خَرَجَتْ عَن مَعْنَاهَا، وخَفِيَ عَلَى المُطَالِعِ فيها مَبْنَاها.(43/192)
وَسَأَلَنِي بَعْضُ العُلَمَاءِ الأَفَاضِلِ مِمَّن يَعِزُّ عَلَيَّ [2أ] أَنْ أَشْرَحَ تِلْكَ الأَلْفَاظَ بما تَحَرَّرَ لَدَيَّ؛ تَصَدَّيْتُ لِشَرْحِها وضَبْطِهَا بالحَرْفِ، وأَضَفْتُ إِلَيْهَا نَحْو ثَلاثَةِ أَمْثَالِها مِمَّا أو رَدَتْهُ العَرَبُ عَلى ذَلِكَ الوَصْفِ، وجَعَلْتُ عَلامَةً عَلَى الأَلْفَاظِ المَنْظُومةِ دَالاً مَكْتُوبَةً بالأَحْمَرِ لِتَصِيرَ مَعْلُومَةً، وأُنَبِّهُ عَلَى مَا لَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى أَصْلٍ، إِمَّا باعتِبارِ تَحْرِيفِهِ،أو تَصْحِيفِهِ، أو عَدَمِ وُجُودِهِ في نَقْلٍ، مُقَدِّماً المَشْهُورَ مِنَ الأَبْنِيَةِ، مِمَّا جَاءَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ بِنَاءٍ وَاحِدٍ. وقَدْ أُنَبِّهُ عَلَى ضَعْفِ بَعْضِها بِحَسَبِ الوَارِدِ، مُعْتَمِداً في نَقْلِ ذَلِكَ عَلى ما في ((القاموس)) و ((الضِّياء)) و ((الصِّحاح)) سَائلاً مِنَ الله الهِدَايَةَ إلى الصَّوَابِ والفَلاحِ.
ورَتَّبْتُ ذَلِكَ عَلَى حُرُوفِ المُعْجَمِ، لِيَسْهُلَ الكَشْفُ عَلَيها لِمَنْ خَفِيَ عَلَيهِ ضَبْطُها أو اسْتَعْجَمَ، مُعْتَبِراً في التَّرْتِيبِ أولَ الكَلِمَةِ وَالأُصُولَ مِن أَحْرُفِها، لاما هِيَ به مُتَمَّمَةٌ؛ فَصَارَ - بِحَمْد اللهِ تَعَالى - تَأْلِيفاً يُعْتَمَدُ عَلَيهِ في هَذا المَعْنَى ويُرْجَعُ إِلَيهِ عِنْدَ الاخْتِلافِ في شَيءٍ مِنها أَشْكَلَ مِنْهُ المَبْنَى، حَاوِياً لَما في ((الفَصيحِ)) والمَنْظُومَةِ، مُوَضِّحاً لِمَعَاني ذَلِكَ بَحَيثُ صَارَ رَتْبَتُهُ مَفْهُومة، وسَمَّيتُهُ: المَنْهَلَ المَأْهُولَ بِالبِنَاء للمَجْهُول، واللهُ المَسْئُولُ أَنْ يُجْزِلَ عَلَيهِ الثَّوَابَ ويُنِيلَ بِهِ جَنَّةَ المَآبِ، بِجَاهِ سَيِّدِ الأَنَامِ، عَلَيهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلام.
باَبُ الهَمْزةِ(43/193)
(أُجِرَ) في أو لادِهِ - بالجيم والرَّاء؛ كعُنِيَ - أَيْ: مَاتُوا؛ فَصَارُوا أَجْرَهُ، وأُجِرَتْ يَدُهُ: جُبِرَتْ عَلَى غَيْرِ بُرْءٍ، وآجَرَتِ المَرْأَةُ: أَبَاحَتْ نَفْسَهَا بأَجْرٍ.
(أُرِضَ) - بالرَّاءِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ - كعُنِيَ إِذَا أَصَابَهُ زُكَامٌ أو خَبَلٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ والجِنِّ،أو دَاءٌ يُحَرِّكُ مِنْهُ رَأْسَهُ وجَسَدَهُ بِلا عَمْدٍ،أو الخَشَبَةُ أَكَلَتْهَا الأَرَضَةُ - بالتَّحْرِيكِ - الدُّوَيبَّةُ المَعْرُوفَةُ.
(أُزِيَ) الظِّلُّ - بالزَّايِ والمُثَنَّاةِ التَّحتِيَّةِ - كعُنِيَ: قَلَصَ [2ب] كأَزِيَ، كسَمِعَ.
(أَطِمَ) الرَّجُلُ والبَعِيرُ، وأُطِمَ عَلَيهِ، وائتُطِمَ - بالطَّاءِ المُهْمَلَةِ والمِيمِ في الثَّلاثِ؛ كفَرِحَ وعُنِيَ في الأُولَى - أَطْماً بالفَتْحِ؛ والبِنَاءِ للمَفْعُولِ فَقَطْ في الأَخِيرَتَينِ: أَصَابَهُ الإِطَامُ - كغُرَابٍ وكِتَابٍ - وهو حَصَرُ البَوْلِ والَبَعَرِ من دَاءٍ.
(أُفِكَ) الرَّجُلُ - بالفَاءِ والكَافِ - كعُنِيَ: ضَعُفَ عَقْلُهُ، والمَكَانُ لم يُصِبْهُ مَطَرٌ، ولَيْسَ به نَبَاتٌ، وهِيَ بهاءٍ - أَفْكاً، بالفَتْحِ.
(أُفِنَ) الطَّعَامُ - بالفَاءِ والنُّونِ - كعُنِيَ؛ يُؤْفَنُ أَفْناً، فهو مَأْفُونٌ؛ وهو الَّذي يُعْجِبُكَ، ولا خَيرَ فِيهِ.
(أُلِقَ) الرَّجُلُ - باللامِ والقَافِ - كعُنِيَ أَصَابَهُ الجُنُونُ. قَالَ في
((الصِّحَاحِ)) فِي فَصْلِ الهَمْزَةِ مِن بَابِ القَافِ: والأَوْلَقُ: الجُنُونُ؛ وهو (فَوْعَل) ؛ لأَنَّهُ يُقَالُ للمَجْنُونِ مُؤَوْلَقٌ عَلَى (مُفَوعَلَ) وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الأَوْلَقَ (أَفْعَلَ) لأَنَّهُ يُقَالُ أُلِقَ الرَّجُلُ فهو مَأْلُوقٌ عَلَى (مَفْعُول) .
وقَالَ في فَصْلِ الوَاو مِنَ البَابِ المَذْكُورِ: والأَوْلَقُ شِبْهُ الجُنُونِ، ومِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:(43/194)
لَعَمْرُكَ بي من حُبِّ أَسْماءَ أولَقُ
وقَالَ الأَعْشَى يَصِفُ ناقَتَهُ:
وتُصْبِحُ عن غِبِّ السُّرَى وكَأَنَّمَا
أَلَمَّ بِها مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أولَقُ
وهو (أَفْعَلُ) لأَنَّهُم قَالُوا: أُلِقَ الرَّجُلُ فهو مَألُوقٌ، عَلى (مَفْعُول) ويُقَالُ - أيضاً: مُؤَوْلقٌ، مِثل مُعَوْلَقٍ؛ فإنْ جَعَلْتَهُ مِن هَذا فَهُو (فَوْعَل) .
وقَالَ في ((القَامُوسِ)) في فَصْلِ الهَمَزَةِ مِنَ البَابِ المَذْكُورِ إِنَّهُ الجُنُونُ، وَوَزَنَ الفِعْلَ بما ذَكَرْنَا، وفي فَصْلِ الوَاو مِنَ البَابِ المَذْكُورِ: والأَوْلَقُ: الجُنُونُ أو شِبْهُهُ؛ أُلِقَ؛ كعُنِيَ، فَهو مَأْلُوقٌ ومُؤَولَقٌ.
(أُكِمَتِ) الأَرْضُ بالكَافِ والميم [كعُنِيَ] أُكِلَ جَمِيعُ مَا فِيها.
(أُمِهَتِ) الغَنَمُ - بالمِيمِ والهاءِ - كعُنِيَ أَصَابَهَا الأَمِيهَةُ؛ كسَفِينَةٍ،
وهو جُدَريُّ الغَنَمِ؛ أمْهاً وأمِيهَة؛ فهي أمِيهَة ومَأْموهَةٌ ومُؤَمَّهَةٌ، وأَمِهَ [3أ] الرَّجُلُ، فهو مَأْمُوهٌ: لَيْسَ مَعَهُ عَقْلُهُ.
(أُهِلَ) المَكَانُ - بالهاء واللامِ - كعُنِيَ: إِذَا كَانَ فِيه أَهْلٌ؛ فهو [آهِلٌ و] مَأْهُولٌ.
بَابُ البَاءِ المُوَحَّدَةِ
(بُدِئَ) - بالدَّالِ المُهْمَلَةِ والهَمْزَةِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ الجُدَرِيُّ أو الحَصْبَةُ.
(بُرَّ) حَجُّهُ - بِفَتْحِ المُوَحَّدَةِ وضَمِّهَا وبالرَّاءِ المُشَدَّدَةِ - أيْ: خَلَصَ مِنَ الإِثْمِ فَهُو مَبْرُورٌ.
(بُطِنَ) الرَّجُلُ - بالطَّاءِ المُهْمَلَةِ والنُّونِ - كعُنِيَ اشْتَكَى بَطْنَهُ.
(بُقِعَ) - بالقَافِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: رُمِيَ بِكَلامٍ قَبِيح.(43/195)
(بُيِّغَ) به - بالمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ والغَيْنِ المُعْجَمَةِ - مَجْهُولاً؛ قال المَجْدُ: البَيْغُ: ثَوَرَانُ الدَّمِ وبَاغَ يَبِيغُ: هَلَكَ، وبَيَّغْتُ بِهِ: انقَطَعْتُ بِهِ، وبُيِّغَ به - مَجْهُولاً - وتَبَيَّغَ عَلَيهِ الأَمْرُ: اخْتَلَطَ، والدَّمُ: هَاجَ وغَلَبَ، و اللَّبَنُ: كَثُرَ.
(بُلِيَتِ) النَّاقَةُ باللامِ والمثَنَّاةِ التَّحتِيَّةِ؛ كَعُنِيَ: إِذا مَاتَ رَبُّها، فتُشَدُّ عَنْدَ قَبْرِهِ حَتَّى تَمُوتَ، كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ويَقُولُونَ: صَاحِبُها يُحْشَرُ عَلَيها.
(بُهِتَ) الرَّجُلُ - بالهاءِ والمُثَنَّاةِ الفَوقِيَةِ؛ كَعَلِمَ ونَصَرَ وكَرُمَ وزُهِيَ: إِذَا أُخِذَ بَغْتَةً أو انقَطَعَأو تَحَيَّرَ؛ فهو مَبْهُوتٌ لا بَاهِتٌ ولا بَهِيتٌ.
بَابُ التَّاءِ المُثَنَّاةِ
[لَمْ أَرَ فِيهِ شَيئاً، وَذَكَرَ في المنظُومَةِ ما صُورَتِهِ] :
... ... ... تُخِمَا
... ... ... ... (1)
بالمُثَنَّاةِ والخَاءِ المُعْجمَةِ والمِيمِ، وهوإن كَانَ منَ التُّخْمَةِ أَصْلُهُ الوَاوُ؛ لأنَّ التُّخْمَةَ أَصْلها وُخْمَةٌ ولكن لَمْ أَرَ مَن ذَكَرَه بالبِنَاءِ للمَجْهُولِ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُصَحَّفاً، وقد نَظَرْتُ فِي جَمِيعِ تَصَاحِيفِهِ فَلَم أَرَ فِيها شَيئاً بالبِنَاءِ للمَجْهُولِ؛ فَليُحَرَّرْ، واللهُ الفَتَّاحُ.
بابُ الثَّاءِ المُثَلَّثَةِ
(ثُئِطَ) الرَّجُلُ - بالهَمْزَةِ والطَّاءِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ الثُؤَاطُ - كَغُرابٍ - وهو الزُّكَامُ.
__________
(1) تمام البيت:
دِيرَ به دِيرَ عليه تُخما
لُقِيَ في بنائه كزكما(43/196)
(ثُغِرَ) فَمُهُ، كعُنِيَ، وأُثْغِرَ - مَضْمُوم الهَمْزَةِ بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ والرَّاءِ فِيهِما: دُقَّ وسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ أو رَوَاضِعُهُ؛ فَهُو مَثْغُورٌ، أو أَلْقَى ثَغْرَهُ ونَبَتَ [3ب] : [ضِدٌّ] (1)
(ثُطِعَ) الرَّجُلُ - بالطَّاءِ والعَيْنِ المُهْمَلَتَينِ؛ كعُنِيَ أَصَابَهُ الثُّطَاعُ - كغُرابٍ - وهو الزُّكَامُ.
(ثُلِجَ) فُؤَادُ الرَّجُلِ - باللامِ والجِيمِ - فهو مَثْلُوجٌ، إذا كانَ بَلِيداً وثُلِجَ
[بالزِّنَةِ والضَّبطِ - أَتَاهُ ثَلَجٌ] إذا سُرَّ بِهِ.
(ثُوِيَ) الرَّجُلُ بالوَاو و [الياءِ] (2) المثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ؛ كعُنِيَ: قُبِرَ.
(ثِيبَ) الرَّجُلُ - بالمُثَنَّاةِ التَحْتِيَّةِ والمُوَحَّدَةِ - يَعْنِي أَصَابَه كَسَلٌ وفَتْرَةٌ كفَتْرَةِ النُّعَاسِ، ثَأَباً فَهُو مَثْؤوبٌ.
بابُ الجِيمِ
(جُدِرَ) الشَّخْصُ - بالدَّالِ المُهْمَلَةِ والرَّاءِ - كعُنِيَ، ويُشَدَّدُ: أَصَابَهُ الجُدَرِيّ - بِضَمِّ الجِيمِ وفَتْحِها - وهو قُرُوحٌ في البَدَنِ تَنَفَّطُ وتَقَيَّحُ.
(جُشِرَ) بالشَّخْصِ - بالشِّينِ المُعْجَمَةِ والرَّاءِ - كفَرِحَ وعُنِيَ: حَصَلَ لَهُ خُشُونَةٌ في الصَّدْرِ وغِلَظٌ في الصُّوتِ، فَهُو أَجْشَرُ، وهي جَشْرَاء.
(جُلِدَ) بالرَّجُلِ؛ كَعُنِيَ - باللام والدَّال المُهْمَلَةِ - سَقَطَ.
(جُنِبَ) الرَّجُلُ - بالنُّونِ والمُوَحَّدَةِ - كعُنِيَ: شَكَى جَنْبَهُ، أو أَصَابَتْهُ رِيحُ الجَنُوبِ؛ وهي الَّتِي تُخَالِفُ الشَّمَالَ، مَهَبُّها مِنْ مَطْلَعِ سُهَيلٍ إِلَى مَطْلَعِ الثُّرَيّا، والشَّمَال - بالفَتْحِ ويُكْسَرُ - مَهَبُّها مِن قِبَلِ الحِجْرِ - بِكَسْرِ الحاءِ - أو ما اسْتَقْبَلَكَ عَنْ يَمِينِكَ وأَنْتَ مُسْتَقْبِلٌ.
__________
(1) زيادة من ح، ع. وينظر: القاموس (ثغر) 458، والتاج (ثغر) 3/76. ولم أقف عليه فيما تحت يدي من كتب الأضداد.
(2) زيادة من ح، ع.(43/197)
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَهَبَّهَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَبَنَاتِ نَعْشٍ أو مِن مَطْلَع الشَّمْسِ إلى مَسْقِطِ النِّسْرِ الطَّائِرِ وَيَكُونُ اسْماً وصِفَةً، ولا تَكَادُ تَهِبُّ لَيلاً.
(جُنَّ) الرَّجُلُ واسْتَجَنَّ - بالنُّونِ المُشَدَّدَةِ فِيهِمَا - أَصَابَهُ الجُنُونُ؛ فَهُو مَجْنُونٌ.
(جُهِضَ) - بالهاءِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ - الرَّجُلُ: أُعْجِلَ، والنَّاقَةُ أَلْقَتْ وَلَدَهَا، فَهِيَ مُجْهِض [4أ] .
بَابُ الحَاءِ المُهْمَلَةِ
(حُبِنَ) - بالمُوَحَّدَةِ والنُّونِ - كعُنِيَ وفَرِحَ: إِذا أَصَابَهُ دَاءٌ في البَطْنِ يَعْظُمُ مِنه، ويَرِمُ، حَبْناً ويُحَرَّكُ – وهو أَحْبَنُ، وهِيَ حَبْنَاءُ.
(حُرِصَ) المَرْعَى؛ كعُنِيَ - بالرَّاءِ والصَّادِ المُهْمَلَةِ لَم يُتْرَكْ فيه شَيءٌ. وفي المَنْظُومَةِ: مُرِضَ؛ فَلَعَلَّهُم صَحّفُوا الحَاءَ بالمِيم والصَّادَ المُهْمَلَةَ بالمُعْجَمَةِ؛ فإنَّهُ لَيْسَ في مَرِضَ غَيرُ البِنَاءِ للفَاعِلِ؛ كفَرِحَ، وسَنَذْكُرُهُ في بَابِ المِيمِ - إِن شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(حُسِفَ) الرَّجُلُ - بالسِّين المُهْمَلَةِ والفَاءِ - كعُنِيَ: رُذِلَ وأُسْقِطَ.
(حُصِيَ) الرَّجُلُ - بالصَّادِ المُهْمَلَةِ والمُثَنَّاهِ التَّحتِيَّةِ - كعُنِيَ: إِذَا أَصَابَتْهُ الحَصَاةُ وهِيَ اشْتِدَادُ البَوْلِ في المَثَانَةِ حَتَّى يَصِيرَ كالحَصَاةِ.
وحُصِيَ العَقْلُ كالأَوَّلِ ضَبْطاً وزِنَةً: إِذا وَفَرَ، وتُفَسَّرُ الحَصَاةُ بالعَقْلِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وأَنَّ لِسَانَ المَرْءِ ما لم تكُن لَهُ
حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ
أي: عَقْلٌ.
(حُطِرَ) الرَّجُلُ - بالطَّاءِ المُهْمَلَةِ والرَّاءِ - كعُنِيَ: جُلِدَ بِهِ إِلى الأَرْضِ؛ أَيْ: سَقَطَ؛ كما تَقَدَّمَ.(43/198)
(حُفِرَتِ) الأَسْنَانُ - بالفَاءِ والرَّاءِ - كعُنِيَ وضَرَبَ وسَمِعَ: أَصَابَها الحَفَرُ - بالتَّحْرِيك والسُّكُونِ - وهو سُلاقٌ في أُصُولِ الأَسْنَانِ أو صُفْرَةٌ تَعْلُوها. ولم يَذْكُرْ صَاحِبُ ((الصِّحَاحِ)) في فِعْلِه سِوَى اللُّغَتَينِ الأَخِيرَتِينِ، وذَكَرَ أَنَّ ثانِيَتَهُمَا أَرْدَؤُهما.
(حَقِيَ) الرَّجُلُ - بالقَافِ والمُثَنَّاةِ التحتية - كعُنِيَ: أَصَابَهُ وَجَعٌ في بَطْنِهِ من أَكْلِ اللَّحْمِ؛ كالحِقَاءِ - بالكَسْرِ - فهو مَحْقَو ومَحْقِيٌّ.
وحُقِيَ - كعُنِيَ - حَقاً؛ إذا شكى حَقْوَهُ فهو مَحْقِيٌّ، وتحقَّى: [شَكَا حَقْوَهُ] ، والحَقْوُ: الكَشْحُ، والإِزارُ، والأَوَّلُ المُرَادُ هَنا.
(حُلِيَتِ) المَرْأَةُ باللامِ والمَثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ؛ نَقَلَهَا الكَمَالُ الدَّميرِيُّ في المَجْهُولِ وقَالَ فِي ((القَامُوسِ)) حَلِيَتِ المَرْأَةُ - كرَضِيَ - حَلْياً فهي حَالٍ وحَالِيَةٌ: استفادت حَلْياً، أو لَبِسَتْهُ؛ كتَحَلَّتْ، أو صَارَتْ ذَاتَ حَلْيٍ. وكَذَلِكَ ضَبَطَهُ [4ب] صَاحِبا ((الصِّحَاح)) و ((الضِّياء)) ولَم يَذْكُرَا فِيه أنَّهُ يُبْنَى للمَجْهُول.
(حُلِبَتْ) نَاقَتُكَ وشَاتُكَ تَحْلِبُ لَبَناً كثيراً، ذَكَرُه في ((الفَصِيحِ)) ، وهو باللامِ والمُوَحَّدَةِ، ولَعَلَّهُ هُو المَذْكُورُ فِي المَنظُومَةِ ونَقَلهُ مِنَ ((الفَصِيحِ)) بِقَرِينَةِ ذِكْرِ ((رُهِصَتْ)) عَقِبَهُ، فإِنَّها كَذَلِكَ ذُكِرَتْ فِي ((الفَصِيحِ)) .
(احْتُمِلَ) بالمِيم واللامِ - غَضِبَ وامْتُقِعَ؛ أي: تَغَيَّرَ.
بَابُ الخَاءِ المَعْجَمَةِ
(خُرِفْنَا) عَلَى ما لم يُسَمَّ فَاعِلُهُ؛ أيْ: أَصَابَنَا مَطَرُ الخَرِيفِ ذَكَرَهُ فِي ((الصِّحَاحِ)) . وقَالَ في ((القَامُوسِ)) : وخُرِفْنَا مَجْهُولاً: أَصَابَنَا ذَلِكَ المَطَرُ، يَعْنِي مَطَر الخَرِيفِ.(43/199)
(خُسِعَ) عَنِ الرُّجُلِ كَذا - بالسِّينِ والعَيْنِ المُهْمَلَتَينِ - كَعُنِيَ: نُفِيَ.
(خُلِعَ) الرَّجُلُ باللامِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ؛ كَعُنِيَ: التَوَى عُرْقُوبُهُ.
(خُمِلَ) بالمِيم واللامِ؛ كعُنِيَ - الإنْسَانُ أو الحَيَوانُ: أَصَابَهُ الخُمَالُ كَغُرَابٍ، وهو دَاءٌ في مَفَاصِلِ الإِنْسَانِ، وقَوَائِمِ الحَيَوانِ.
بَابُ الدَّالِ المُهْمَلَةِ
(دُبِرَ) القَوْمُ بالمُوَحَّدَةِ والرَّاءِ، كعُنِيَ أَصَابَتْهُم رِيحُ الدَّبُورِ، وهِيَ ريحٌ تُقَابِلُ الصَّبَا وأَدْبَرُوا: دَخَلُوا فِيها - وسَيَأْتِي في بَابِ الصَّادِ المُهْمَلَةِ ذِكْرُ الصَّبَا وبَيَانُ مَهَبِّها وتَعْلَمُ مِنهُ مَهَبَّ الدَّبُورِ.
(دُجِمَ) الإِنْسَانُ بالجِيمِ والمِيمِ كَسَمِعَ وعُنِيَ: حَزِنَ.
(دُخِلَ) بالخَاءِ المُعْجَمَةِ واللامِ كفَرِحَ وعُنِيَ أَصَابَهُ دَخَلٌ في جِسْمِهِ، وهو الفَسَادُ فيه. وكعُنِيَ فَقَطْ أَصَابَهُ هُزَالٌ، أو دَخَلٌ في عَقْلِهِ، وهو الفَسَادُ فِيهِ.
(دُكِعَ) الفَرَسُ أو الجَمَلُ بالكَافِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ كعُنِيَ: أَصَابَهُ الدُّكَاعُ، كَغُرَابٍ، وهو دَاءٌ يُصِيبُ الخَيْلَ والإِبِلَ، فهو مَدْكُوعٌ [5أ] .
(دُكَّ) الإِنْسَانُ - بالكَافِ المُشَدَّدَةِ - أَصَابَهُ مَرَضٌ دَكَّهُ أو حُمَّى دَكَّتْهُ، فَهُو مَدْكُوكٌ.
(دَهِشَ) بالهَاءِ والشِّينِ المُعْجَمَةِ كفَرِحَ - فَهُو دَهِشٌ. وكعُنِيَ فَهُو مَدْهُوشٌ تَحَيَّرَ، أو ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنْ ذَهَلٍ أو وَلَهٍ.
(دِيرَ) بِهِ، ودِيرَ عَلَيْهِ بالمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ والرَّاءِ فِيهِمَا: أَصَابَهُ الدُّوَارُ - بالضَّمِّ والفَتْح - وهو شَبِيهُ الدَّوَرَانِ يَأْخُذُ في الرَّأْسِ.
أُدِيرَ به؛ ذَكَرَ في ((الفَصِيحِ)) أَنَّهُ لُغَةٌ ثانِيةٌ في دِيِرَ به.
بَابُ الذَّالِ المُعْجَمَةِ(43/200)
(ذُئِبَ) الإِنْسَانُ بالهَمْزِ والمُوَحَّدَةِ، كأَذْأَبَ، وفَرِحَ، وكَرُمَ وعُنِيَ: فَزِعَ.
(ذُعِرَ) بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ والرَّاءِ كَعُنِيَ: حَصَلَ لَهُ ذُعْرٌ - بالضَّمِّ - وهو الخَوْفُ؛ فَهُو مَذْعُور. وأَمَّا التَّخْوِيفُ فَهُو الذَعَرُ - بالفَتْح - والفِعْلُ كجَعَلَ، والذَعَرُ بالتَّحْرِيكِ: الدَّهَشُ.
بَابُ الرَّاءِ
(رُبِعَ) فُلانٌ - بالمُوَحَّدَةِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: جَاءَتْهُ الحُمَّى رِبْعاً - بالكَسْرِ. وأُرْبِعَ - بالضَّمِّ - فهو مَرْبُوعٌ ومُرْبَع؛ وهي أَنْ تَأْخُذَ يَوْماً وتَدَعَ يَومَينِ، ثُمَّ تَجِيءَ في اليَوْمِ الرَّابِعِ.
(رُبِعُوا) بالضَّمِّ: مُطِرُوا بالرَّبِيعِ. ومنه رُبِعَتِ الأَرْضُ. والرَّبِيعُ عِنْدَ العَرَبِ رَبِيعَانِ: رَبِيعُ الشُّهُورِ ورَبِيعُ الأَزْمِنَةِ؛ فَرَبِيعُ الشُّهُورِ: شَهْرَانِ بَعْدَ صَفَر لا يُقَالُ فِيه إلا شَهْرُ رَبِيعِ الأّوَّلِ وشَهْرُ رَبِيعِ الآخِرِ.
وأَمَّا رَبِيعُ الأَزْمِنَةِ فَرَبِيعَانِ: الرَّبيعُ الأَوَّل، وهو الفَصْلُ الَّذِي يَأتي فيه الكَمْأَةُ والنَّوْرُ؛ ورَبِيعُ الكَلأ، والرَّبيعُ الثَّانِي، وهو الفَصْلُ الَّذِي تُدْرَكُ فِيه الثِّمارُ.
وفِي النَّاسِ مَن يُسَمِّيهِ: رَبيعُ الأَوَّل. قال في ((الصِّحاح)) : سَمِعْتُ أَبا الغَوْثِ يَقُولُ: العَرَبُ تَجْعَلُ السَّنَةَ سَتَّةَ أَزْمِنَةٍ: شَهْرَانِ مِنها الرَّبيعُ الأوَّل، وشَهْرَانِ صَيْفٌ، وشَهْرَانِ قَيْظٌ، وشَهْرَانِ الرَّبيعُ الثَّاني [5ب] وشَهْرَانِ خَرِيفٌ، وشَهْرَانِ شِتَاءٌ وَأَنَشَدَ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيفِيُّونْ
أَفْلَحَ من كَانَ لَهُ رِبْعِيُّونْ
فَجَعَلَ الصَّيْفَ بَعْدَ الرَّبِيعِ الأَوَّلِ.
ومن ذَلِكَ قَوْلُهُم: رُبِعْنَا - بالبِنَاءِ للمَفْعُولِ - أَي: أَصَابَنَا مَطَرُ الرَّبِيعِ.(43/201)
(رُجِدَ) بالجِيم والدَّالِ المُهْمَلَةِ؛ كعُنِيَ، رَجْدا، بالفَتْحِ، ورُجِّدَ تَرْجِيداً: ارْتَعَشَ. وأُرْجِدَ - بالبِنَاءِ للمَجْهُولِ: أُرْعِدَ.
(رُجِيَ) عَلَى فُلانٍ بالجِيمِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ كعُنِيَ: أُرْتِجَ عَلَيهِ.
(رَحُمَتِ) المَرْأَةُ - بالحَاءِ المُهْمَلَةِ والمِيمِ، كَكَرُمَ وفَرِحَ وعُنِيَ - رَحْماً
ورَحَامَة ويُحَرَّكُ: اشْتَكَتْ رَحِمَهَا بَعْدَ الوِلادَةِ، فَتَمُوتُ مِنْهُ، أو أَخَذَهَا دَاءٌ في رَحِمِها، فَلا تَقْبَلُ اللِّقَاحَ، أو أن تَلِدَ فلا تُسْقِطَ سَلاهَا.
(رُدِعَ) فَلانٌ - بالدَّالِ والعَيْنِ المُهْمَلَتَينِ - كعُنِيَ: تَغَيَّرَ لَوْنُهُ.
(رُعِفَ) بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ والفَاءِ؛ كنَصَرَ ومَنَعَ وكَرُمَ وعُنِيَ وسَمِعَ: خَرَجَ مِن أَنْفِهِ الدَّمُ.
(رُكِضَتِ) الدَّابَّةُ - بالكَافِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ: أُجْرِيَتْ.
(رُمِعَ) فُلانٌ - بالمِيمِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ الرُّمَاعُ كغُرَابٍ؛ وهو وَجَعٌ يَعْتَرِضُ في ظَهْرِ السَّاقِي حَتَّى يَمْنَعَهُ مِنَ السَّقْيِ.
(رُهِصَ) الفَرَسُ - بالهَاءِ والصَّادِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ فهو رَهِيصٌ ومَرْهُوصٌ: أَصَابَتْهُ الرَّهْصَةُ، وهي وَقْرَةٌ تُصِيبُ باطِنَ حَافِرِهِ. وأَرْهَصَهُ اللهُ. قَالَ الكِسَائيُّ: يُقَالُ مِنْهُ: رَهِصَتِ الدَّابَّةُ - بالكَسْرِ - رَهَصاً وأَرْهَصَهَا اللهُ مِثلُ: أو قَرَهَا اللهُ. قَالَ في ((الصِّحَاح)) ولم يَقُلْ: رُهِصَتْ - يَعْنِي بِضَمِّ الرَّاءِ وكَسْرِ الهاءِ - فهي مَرْهُوصَةٌ ورَهِيصَةٌ. وقَالَهُ غَيْرُهُ.
وفَسَّرَ الرَّهْصَةَ بأَنْ يَدْمَى باطِنُ حَافِر الدَّابَّةِ من حَجَرٍ تَطَؤُهُ، مثل الوَقْرَةِ.(43/202)
(رِيحَ) بالمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ والهَاء المُهْمَلَةِ: قَالَ في ((الصِّحَاحِ)) رِيحَ [6أ] الغَدِيرُ عَلَى مَا لَم يُسَمَّ فَاعِلُهُ، إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ؛ فهومَرُوحٌ.
وقَالَ: الغَدِيرُ القِطْعَةُ مِنَ المَاءِ يُغَادِرُهَا السَّيْلُ وهو فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ؛ لأَنَّهُ يَغدِرُ بِأَهْلِهِ عِندَ شِدَّةِ الحَاجَةِ إِلَيهِ.
وهو بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ والدَّالِ المُهْمَلَةِ والرَّاءِ وجَمْعُهُ غُدْرَانٌ وغُدُرٌ.
بَابُ الزَّاي
(زُئِمَ) بالهَمْزِ والمِيم، كفَرِحَ وعُنِيَ فَهُوزَئِمٌ: اشْتَدَّ ذُعْرُهُ.
(زُحِرَ) فُلانٌ - بالحاءِ المُهْمَلَةِ والرَّاءِ- كعُنِيَ: بَخِلَ، فهو مَزْحُورٌ. وزُحَرُ كزُفَرَ، والزَحْرَان كسَكْرَان: البَخِيلُ.
(زُعِقَ) - بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ والقَافِ - كعُنِيَ: خَافَ باللَّيلِ ونَشِطَ، فهو زَعِقٌ؛ كَكَتِفٍ.
(زُكِمَ) - بالكافِ والميمِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ الزُّكَامُ - بالضَّمِّ - والزُّكْمَةُ، وذَلِكَ تَحَلُّبُ فُضُولٍ رَطْبَةٍ مِن بَاطِنِ الدِّمَاغِ المُقَدَّمِ إلى المَنْخِرَينِ وزَكَمَهُ وأَزْكَمَهُ، فهو مَزْكُومٌ.
(زُهِيَ) الرَّجُلُ - بالهاءِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - كعُنِيَ، وكدَعَا قَلِيلَةٌ: إذا تَكَبَّرَ وتَاهَ وافْتَخَرَ.
وفِي ((الصِّحَاحِ)) : زُهِيَ الرَّجُلُ فهو مَزْهُوٌّ، أَيْ: تَكَبَّرَ.
وللعَرَبِ أَحْرُفٌ لا يَتَكَلَّمُون بِها [إلا] على سَبِيلِ المَفْعُولِ، وإن كانت بِمَعْنَى الفَاعِلِ، مِثلُ قَولِهِم: زُهِيَ الرَّجُلُ، وعُنِيَ بالأَمْرِ، ونُتِجَتِ الشَّاةُ والنَّاقَةُ وأَشْبَاهُهَا.
ثُمَّ قَالَ: وفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى حَكَاهَا ابنُ دُرَيدٍ: زُهِيَ يَزْهُو زَهْواً، أَيْ: تَكَبَّرَ.
بَابُ السِّينِ المُهْمَلَةِ
(سُبِطَ) - بالمُوَحَّدَةِ والطَّاءِ المُهْمَلَةِ – كعُنِيَ: حُمَّ.(43/203)
(سُبِهَ) بالمُوَحَّدَةِ والهَاءِ - كعُنِيَ، سَبْهاً: ذَهَبَ عَقْلُهُ.
(سُدِعَ) - بالدَّالِ والعَيْنِ المُهْمَلَتَينِ - كعُنِيَ، سَدْعَةً شَدِيدَةً [6ب] : نُكِبَ نَكْبَةً شَدِيدَةً.
(سُعِدَ) - بالعَيْنِ والدَّالِ المُهْمَلَتَينِ - كَعَلِمَ وعُنِيَ: حَصَلَت لَهُ السَّعَادَةُ: فَهُو مَسْعُودٌ.
(سُعِفَ) فُلانٌ - بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ والفَاءِ - كعُنِيَ: أَصَابَتْهُ السَّعَفَةُ - بالتَّحْرِيْكِ- وهي قُرُوحٌ تَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ ووَجْهِهِ، فَهُو مَسْعُوفٌ.
(أُسِفّ) وَجْهُهُ بالفَاءِ المُشَدَّدَةِ وضَمِّ الهَمْزَةِ: تَغَيَّرَ.
(سُقِطَ) في يَدِهَ كعُنِيَ، وأُسْقِطَ في يَدِهِ - مَضْمُومُ الهَمْزَةِ، بالقَافِ والطَّاءِ المُهْمَلَةِ فِيهما: زَلَّ وأَخْطَأَ، ونَدِمَ وتَحَيَّرَ.
(أُسْقِعَ) لَوْنُهُ - مَضْمُومُ الهَمْزَةِ، بالقَافِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ إذا تَغَيَّرَ.
(سُلِسَ) - باللامِ والسِّينِ المُهْمَلَةِ – كعُنِيَ: ذَهَبَ عَقْلُهُ. والسُّلاسُ - بالضَّمِّ ذَهَابُ العَقْلِ، والمَسْلُوسُ: المَجْنُونُ.
(سُدِبَ) ذَكَرَهُ في المَنْظُومَةِ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بالسِّينِ المُهْمَلَةِ، وأَنْ يَكُونَ بالمُعْجَمَةِ. ولم يَذْكُرْ كُلٌّ من ((القَامُوس)) و ((الصِّحاح)) و ((الضِّياء)) في البابَينِ هذا اللَّفظ بالبِنَاءِ للمَجْهُولِ؛ فَلَعَلَّه تَصْحِيفٌ.
(سِيدَ) الإنْسَانُ والجَمَلُ والكَبْشُ – بالمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ والدَّالِ المُهْمَلَةِ كَعُنِيَ - أَصَابَهُ السُّؤَادُ كغُرَابٍ، وهو دَاءٌ يَأْخُذُ الإنْسَانَ والإِبِلَ والغَنَمَ مِن شُرْبِ المَاءِ المِلح؛ فهو مَسْؤُودٌ.
بَابُ الشِّينِ المُعْجَمَةِ(43/204)
(شَئِزَ) المَكَانُ - بالهَمْزِ والزَّاي؛ كفَرِحَ - شَأَزاً وشُؤوزاً؛ فهو شَئِزٌ وشَأْزٌ: غَلُظَ وارْتَفَعَ واشْتَدَّ. والرَّجُلُ: قَلِقَ وذُعِرَ؛ كَشُئِزَ؛ كعُنِيَ؛ فهو مَشْؤُوزٌ ومَشُوز وأَشْأَزَهُ غَيْرُهُ.
(شُحِبَ) لَوْنُهُ - بالحَاء المُهْمَلَةِ والمُوَحَّدَةِ كَمَنَعَ ونَصَرَ وكَرُمَ وعُنِيَ - شُحُوباً وشُحُوبَةً: تَغَيَّرَ من هُزَالٍ أو جُوْعٍ [7أ] .
(شُخِصَ) به - بالخَاءِ المُعْجَمَةِ والصَّادِ المُهْمَلَةِ - كَعُنِيَ: أَتَاهُ أَمْرٌ أَقْلَقَهُ وأَزْعَجَهُ.
(شُدِهَ) الفُؤَادُ والقَلْبُ - بالدَّالِ المُهْمَلَةِ والهَاءِ - كعُنِيَ: دُهِشَ وشُغِلَ وحُيِّرَ فاشْتُدِهَ. وقَوْلُهُ في المَنْظُومَةِ:
... ... ... ...
... ... ... أَيْ عَلَيهِ
يَعْنِي: شُدِهَ فُؤادُ الشَخْصِ عَلَيْهِ فَلا تَصَرُّفَ له به لشُغْلِهِ بِما وَرَدَ عَلَيهِ، والاسْمُ كغُرَابٍ.
(شُفِهَ) الطَّعَامُ - بالفَاءِ والهاء كعُنِيَ - كَثُرَ آكِلُوهُ.
(شُغِلَ) به - بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ واللامِ - كَعُنِيَ ويُقَالُ منه: ما أَشْغَلَهُ (أُشْهِدَ) - مَضْمُومُ الهَمْزَةِ بالهاءِ والدَّالِ المُهْمَلَةِ - مَجْهُولاً: قُتِلَ في سَبِيلِ اللهِ، كاسْتُشْهِدَ، فهو مُشْهَدٌ.
(شُهِرَ) بالهَاءِ والرَّاءِ - في النَّاسِ: إذا عُلِمَ وظَهَرَ.(43/205)
تابع دراسات في الباقيات الصالحات
المطلب الثاني: مدلولُ ومعنى كلمة لا إله إلاّ الله
إنَّ كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي هي خير الذِّكر وأفضله وأكمله لا تكون مقبولة عند الله بمجرّد التلفّظ بها باللسان فقط، دون قيامٍ من العبدِ بحقيقة مدلولها، ودون تطبيق لأساس مقصودها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله، مع الاعتقاد الجازم لما تضمّنته من ذلك والعمل به، فبذلك يكون العبد مسلماً حقاً، وبذلك يكون من أهل لا إله إلا الله.
وقد تضمّنت هذه الكلمة العظيمة أنَّ ما سوى الله ليس بإله، وأنَّ إلهية ما سواه أبطلُ الباطلِ، وإثباتَها أظلمُ الظلم، ومنتهى الضلال، قال الله - تعالى -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِن مَن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعُآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُوا بِعِبِادِتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} ، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وقال تعالى: {وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَالِمُونَ} ، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولا ريب أنَّ صرف العبادة لغير الله ظلم؛ لأنَّه وضع لها في غير موضعها، بل إنَّه أظلم الظلم وأخطره.(43/206)
إنَّ لِـ لاَ إله إلا الله - هذه الكلمة العظيمة - مدلولاً لا بدّ من فهمه، ومعنىً لا بدّ من ضبطه، إذ غيرُ نافع بإجماع أهل العلم النطقُ بها من غير فهم لمعناها، ولا عمل بما تقتضيه، كما قال الله - سبحانه -: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، ومعنى الآية كما قال أهل التفسير؛ أي: إلا من شهد بلا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم، إذ إنَّ الشهادة تقتضي العلم بالمشهود به، فلو كانت عن جهل لم تكن شهادة، وتقتضي الصدق، وتقتضي العمل بذلك، وبهذا يتبيّن أنَّه لا بدّ في هذه الكلمة من العلم بها مع العمل والصدق، فبالعلم ينجو العبد من طريقة النصارى الذين يعملون بلا علم، وبالعمل ينجو من طريق اليهود الذين يعلمون ولا يعملون، وبالصدق ينجو من طريقة المنافقين الذين يُظهرون ما لا يُبطنون، ويكون بذلك من أهل صراط الله المستقيم، من الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
والحاصل أنَّ لا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وعمل به، أما من قالها وعمل بها ظاهراً من غير اعتقاد فهو المنافق، وأما من قالها وعمل بضدّها وخلافها من الشرك فهو الكافر، وكذلك من قالها وارتدّ عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها فإنَّها لا تنفعه ولو قالها ألف مرّة، وكذلك من قالها وهو يصرف أنواعاً من العبادة لغير الله كالدعاء، والذبح، والنذر، والاستغاثة، والتوكل، والإنابة، والرجاء، والخوف والمحبة، ونحو ذلك.. ... فمن صرفَ مما لا يصلحُ إلا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك بالله العظيم ولو نطق بلا إله إلا الله؛ إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص الذي هو معنى ومدلول هذه الكلمة العظيمة.(43/207)
فإنَّ لا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، والإله في اللغة هو المعبود، ولا إله إلا الله: أي لا معبود حق إلا الله كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) فتبيّن بذلك أنَّ معنى الإله هو المعبود، وأنَّ لا إله إلا الله معناها إخلاص العبادة لله وحده واجتناب عبادة الطاغوت، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: "قولوا لا إله إلا الله" قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (2) وقال قومُ هودٍ لنبيّهم لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (3) قالوا ذلك وهو إنَّما دعاهم إلى لا إله إلا الله؛ لأنَّهم فهموا أنَّ المراد بها نفي الألوهية عن كلِّ ما سوى الله وإثباتُها لله وحده لا شريك له، ف لا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كلِّ ما سوى الله - تعالى -، فكلُّ ما سوى الله من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم فليس بإله، وليس له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية لله وحده، بمعنى أنَّ العبد لا يأْلَهُ غيرَه، أي: لا يقصده بشيء من التألّه، وهو تعلّق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك.
__________
(1) سورة الأنبياء، الآية: (25) .
(2) سورة النحل، الآية: (36) .
(3) سورة ص، الآية: (5) .(43/208)
وقد جاء في القرآن الكريم نصوصٌ كثيرةٌ تُبيّنُ معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وتوضح المراد بها، ومن ذلك قول الله - تعالى -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (3) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (4) وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى العَزِيزِ الغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (5) والآيات في هذا المعنى
__________
(1) ورة البقرة، الآية: (163) .
(2) ورة البينة، الآية: (5) .
(3) ورة الزخرف، الآية: (26 - 28) .
(4) ورة يس، الآية: (22 - 24) .
(5) ورة الزمر، الآية: (11 - 14) .(43/209)
كثيرةٌ جدًّا، وهي تُبيِّن أنَّ معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد، وإفرادُ الله وحده بالعبادة، فهذا هو الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، أما قول الإنسان لا إله إلا الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، بل لربما جعل لغير الله حظاً ونصيباً من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادات فإنَّ هذا لا يكفي العبدَ لأن يكون من أهل لا إله إلا الله، ولا ينجيه يوم القيامة من عذاب الله.
فليست لا إله إلا الله اسماً لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، أو لفظاً لا مضمون له، كما قد يظنّه بعض الظانين، الذين يعتقدون أنَّ غاية التحقيق في ذلك هو النطق بهذه الكلمة من غير اعتقاد في القلب بشيء من المعاني، أو التلفظ بها من غير إقامة لشيء من الأصول والمباني، وهذا قطعاً ليس هو شأن هذه الكلمة العظيمة، بل هي اسم لمعنى عظيم، وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني، وحاصله كما تقدّم البراءةُ من عبادة كلِّ ما سوى الله، والإقبال على الله وحده خضوعاً وتذلّلاً، وطمعاً ورغباً، وإنابةً وتوكّلاً، ودعاءً وطلباً، فصاحب لا إله إلا الله لا يَسأل إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكّل إلا على الله، ولا يرجو غير الله، ولا يذبح إلا لله، ولا يصرف شيئاً من العبادة لغير الله، ويكفر بجميع ما يُعبد من دون الله، ويبرأ إلى الله من ذلك.
المطلب الثالث: شروط لا إله إلاّ الله
إنَّ من المعلوم لدى كلِّ مسلمٍ أنَّ كلَّ طاعةٍ يتقرّب بها العبد إلى الله لا تُقبل منه إلا إذا أتى بشروطها، فالصلاة لا تُقبل إلا بشروطها المعلومة، والحج لا يُقبل إلا بشروطه، وجميع العبادات كذلك لا تُقبل إلاّ بشروطها المعلومة من الكتاب والسنة، وهكذا الشأن في لا إله إلا الله لا تُقبل إلا إذا قام العبد بشروطها المعلومة في الكتاب والسنة.(43/210)
وقد أشار سلفُنا الصالح - رحمهم الله - إلى أهميّة العناية بشروط لا إله إلا الله ووجوب الالتزام بها، وأنَّها لا تُقبل إلا بذلك، ومن ذلك ما جاء عن الحسن البصري - رحمه الله -: أنَّه قيل له: إنَّ ناساً يقولون: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة". فقال: "من قال لا إله إلا الله فأدّى حقّها وفرضَها دخل الجنة".
وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: "ما أعددتَّ لهذا اليوم؟ "قال: "شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة". فقال الحسن: "نِعمَ العُدّة، لكن لـ لا إله إلا الله شروطاً فإياك وقذف المحصنات".
وقال وهب بن منبه لمن سأله: "أليس مفتاح الجَنَّة لا إله إلا الله؟ "قال: "بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلا لم يُفتح. يشير بالأسنان إلى شروط لا إله إلا الله".
ثم إنَّه باستقراء أهل العلم لنصوص الكتاب والسنة تبيّن أنَّ لا إله إلا الله لا تُقبل إلا بسبعة شروط وهي:
1 - العلم بمعناها نفياً وإثباتاً المنافي للجهل.
2 - اليقين المنافي للشك والريب.
3 - الإخلاص المنافي للشرك والرياء.
4 - الصدق المنافي للكذب.
5 - المحبّة المنافية للبغض والكره.
6 - الانقياد المنافي للترك.
7 - القبول المنافي للردّ.
وقد جمع بعضُ أهل العلم هذه الشروط السبعة في بيتٍ واحدٍ فقال:
علمٌ يقينٌ وإخلاصٌ وصدقُك معْ
محبّةٍ وانقيادٍ والقَبولُ لها
ولنقِف وقفةً مختصرةً مع هذه الشروط لبيان المراد بكلِّ واحدٍ منها، مع ذِكر بعض أدلّتها من الكتاب والسنة.
أما الشرط الأول: وهو العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً المنافي للجهل، وذلك بأن يعلم من قالها أنَّها تنفي جميع أنواع العبادة عن كلِّ ما سوى الله، وتُثبت ذلك لله وحده، كما في قوله سبحانه وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نعبدُك ولا نعبد غيرَك، ونستيعن بك ولا نستعين بسواك.(43/211)
قال الله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} ، وقال تعالى: {إِلاّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال المفسِّرون: إلا من شهد ب لا إله إلا الله، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: معنى ما شهدوا به في قلوبهم وألسنتهم.
وثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنَّه لا إله إلا الله دخل الجنة"، فاشترط عليه الصلاة والسلام العلمَ.
أما الشرط الثاني: فهو اليقين المنافي للشك والريب، أي: أن يكون قائلها موقناً بها يقيناً جازماً لا شك فيه ولا ريب، واليقين هو تمام العلم وكماله، قال الله - تعالى - في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، ومعنى قوله: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي: أيقنوا ولم يشكّوا.
وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غيرُ شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة".
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - أيضاً - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشِّره بالجنة"، فاشترط اليقين.(43/212)
والشرط الثالث: هو الإخلاص المنافي للشرك والرياء، وذلك إنَّما يكون بتصفية العمل وتنقيته من جميع الشوائب الظاهرة والخفيّة، وذلك بإخلاص النية في جميع العبادات لله وحده، قال تعالى: {أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ} ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أسعدُ الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" (2) فاشترط الإخلاص.
والشرط الرابع: هو الصدق المنافي للكذب، وذلك بأن يقولَ العبدُ هذه الكلمة صادقاً من قلبه، والصدق هو أن يواطئ القلبُ اللسانَ، ولذا قال الله - تعالى - في ذمِّ المنافقين: {إِذَا جَآءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، فوصفهم سبحانه بالكذب؛ لأنَّ ما قالوه بألسنتهم لم يكن موجوداً في قلوبهم، وقال سبحانه وتعالى: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (3) وثبت في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله صادقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار" (4) فاشترط الصدق.
__________
(1) سورة الزمر، الآية: (3) .
(2) سورة البينة، الآية: (5) .
(3) سورة المنافقون، الآية: (1) .
(4) سورة العنكبوت، الآية: (1 - 3) .(43/213)
الشرط الخامس: المحبَّة المنافية للبغض والكره، وذلك بأن يحب قائلُها اللهَ ورسولَه ودينَ الإسلام والمسلمين القائمين بأوامر الله الواقفين عند حدوده، وأن يُبغض من خالف لا إله إلا الله وأتى بما يُناقضها من شرك وكفر، وممّا يدل على اشتراط المحبة في الإيمان قول الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ للهِ} ، وفي الحديث: "أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" (1)
والشرط السادس: القبول المنافي للردّ، فلا بدّ من قبول هذه الكلمة قبولاً حقاً بالقلب واللسان، وقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم أنباء من سبق ممّن أنجاهم لقبولهم لا إله إلا الله، وانتقامه وإهلاكه لمن ردّها ولم يقبلها، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقاًّ عَلَيْنَا نُنجِ المُؤْمِنِينَ} ، وقال سبحانه في شأن لمشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (2)
الشرط السابع: الانقياد المنافي للترك؛ إذ لا بد لقائل لا إله إلا الله أن ينقاد لشرع الله، ويُذعنَ لحكمه، ويسلمَ وجهه إلى الله؛ إذ بذلك يكون متمسكاً ب لا إله إلا الله، ولذا يقول تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى} ، أي: فقد استمسك ب لا إله إلا الله، فاشترط سبحانه الانقياد لشرع الله، وذلك بإسلام الوجه له سبحانه.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: (165) .
(2) ورة يونس، الآية: (103) .(43/214)
فهذه هي شروط لا إله إلا الله، وليس المرادُ منها عدَّ ألفاظها وحفظَها فقط، فكم من عاميٍّ اجتمعت فيه والتزمها ولو قيل له: اعددها لم يُحسن ذلك، وكم من حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها، فالمطلوب إذاً العلم والعمل معاً ليكون المرء بذلك من أهل لا إله إلا الله صدقاً، ومن أهل كلمة التوحيد حقاً، والموفَّق لذلك والمعين هو الله وحده.
المطلب الرابع: نواقض شهادة أن لا إله إلاّ الله
لقد مرّ معنا شروطُ كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي لا بد من توفّرها في العبد لتكون مقبولةً منه عند الله، وهي شروطٌ عظيمةُ الشأن، جليلةُ القدر يجب على كلِّ مسلم أن يُعنى بها عنايةً كبيرةً، ويهتمّ بها اهتماماً بالغاً، وإنَّ مما ينبغي أن يهتم به المسلم في هذا الباب العظيم معرفةَ نواقض هذه الكلمة ليكون منها على حذر، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - قد بيّن في كتابه سبيل المؤمنين المحقّقين لهذه الكلمة مفصّلة، وبيّن سبيل المجرمين المخالفين لها مفصّلة، وبيّن سبحانه عاقبة هؤلاء وعاقبة هؤلاء، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلا - سبحانه - الأمرين في كتابِه وكشفَهما وأوضحَهما وبيّنَهما غايةَ البيانِ، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} ، وقال سبحانه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِّعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسآءَتْ مَصِيراً} (1) ومن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبِن له طريقهم أوشك أن يقع في بعض ما هم فيه من الباطل، ولذا قال أمير المؤمنين عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه: "إنَّما تُنقض عرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
__________
(1) ورة الأنعام، الآية: (55) .(43/215)
ولهذا جاءت النصوص الكثيرةُ في الكتاب والسنة المحذرةُ من أسباب الرِّدة وسائر أنواع الشرك والكفر المناقضة لكلمة التوحيد لا إله إلا الله، وقد ذكر العلماء رحمهم الله في باب حكم المرتدّ من كتب الفقه: أنَّ المسلم قد يرتدُّ عن دينه بأنواعٍ كثيرةٍ من النواقض إذا وقع فيها، أو في أيِّ شيء منها ارتَدَّ عن الدِّين وانتقل من الملّة، ولم ينفعه مجرّد التلفّظ ب لا إله إلا الله؛ إذ إنَّ هذه الكلمة العظيمة التي هي خير الذِّكر وأفضله لا تكون نافعة لقائلها إلا إذا أتى بشروطها واجتنب كلَّ أمرٍ يُناقضها.
وما من ريب أنَّ في معرفة المسلم لهذه النواقض فائدةً عظيمةً في دينه، إذا عرفها معرفة يقصد من ورائها السلامة من هذه الشرور، والنجاة من تلك الآفات، ولهذا فإنَّ من عَرَفَ الشركَ والكفرَ والباطلَ وطرقَه وأبغضها وحذرها وحذّر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش إيمانه، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لتلك الأمور ونفرةً عنها كان له في معرفته هذه من الفوائد والمنافع ما لا يعلمه إلا الله، والله - سبحانه - يُحبُّ أن تُعرف سبيلُ الحق لتُحب وتُسلك، ويحب أن تُعرف سبيل الباطل لتُجتنب وتُبغض؛ إذ إنَّ المسلم كما أنَّه مطالب بمعرفة سبيل الخير ليطبّقها، فهو كذلك مطالب بمعرفة سبل الشر ليحذرها، ولهذا ثبت في الصحيحين عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - أنَّه قال: كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. ولهذا - أيضاً - قيل:
عرفت الشرَّ لا للشرِّ ولكن لتوقِّيه
ومن لم يعرف الشرَّ من الناس يقع فيه(43/216)
وإذ كان الأمر بهذه الحال وعلى هذا القدر من الأهمية فإنَّ الواجب على كلِّ مسلم أن يعرف الأمور التي تناقض كلمة التوحيد لا إله إلا الله ليكون منها على حذر، وهي كما تقدّم تنتقض بأمورٍ كثيرةٍ، إلا أنَّ أشدَّ هذه النواقض خطرًا وأكثرها وقوعاً عشرةُ نواقض ذكرها غيرُ واحد من أهل العلم - رحمهم الله -، وفيما يلي ذكرٌ لها على سبيل الإيجاز، ليحذرها المسلم وليحذِّر منها غيره من المسلمين رجاءَ السلامة والعافية منها.
أما الأول: فهو الشرك في عبادة الله، قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشآءُ} ، وقال - تعالى -: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (1) ومن ذلك دعاءُ الأموات والاستغاثةُ بهم، والنذرُ والذبحُ لهم، ونحو ذلك.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكّل عليهم فقد كفر إجماعاً، قال الله - تعالى -: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ َيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
الثالث: من لم يُكفِّر المشركين أو شَكَّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كَفَر.
الرابع: من اعتقد أنَّ هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكملُ من هديه، أو أنَّ حكم غيره أحسنُ من حكمه، فهو كافرٌ؛ كالذين يفضِّلون حكم الطاغوت على حكمه سبحانه وتعالى.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
__________
(1) سورة النساء، الآية: (48) .(43/217)
السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
السابع: السحرُ، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله - تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} .
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله -تعالى_: {وَمَن يتولهم مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
التاسع: من اعتقد أنَّ بعض الناس يَسَعُه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} .
العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلّمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} .
فهذه عشرة أمورٍ من نواقض كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فمن وقع في شيء منها - والعياذ بالله انتقض توحيده، وانهدم إيمانه، ولم ينتفع بقوله: لا إله إلا الله. وقد نصّ أهل العلم على أنَّه لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد، والخائف إلا المكره، وجميع هذه النواقض هي من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، ونسأله - سبحانه - أن يُوفِّقنا جميعا لما يرضيه، وأن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم، إنَّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ.
المبحث الثالث:
في التسبيح فضله ومكانته ومدلوله
المطلب الأول: فضل التسبيح(43/218)
إنَّ التسبيح له شأن عظيم ومكانة رفيعة؛ إذ هو أحد الكلمات الأربع التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها خيرُ الكلام وأحبُّه إلى الله، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وقد مرّ معنا جملة طيّبة من أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم في تفضيل هؤلاء الكلمات، وبيان ما لهنّ من منزلةٍ عاليةٍ ومكانةٍ رفيعةٍ.
وكلمة: سبحان الله، التي هي إحدى هؤلاء الكلمات لها شأن عظيم، فهي من أجلِّ الأذكار المقربة إلى الله، ومن أفضل العبادات الموصلة إليه، وقد جاء في بيان فضلها وشرفها وعِظم قدرها نصوصٌ كثيرة في الكتاب والسنة، بل إنَّ ما ورد في ذلك لا يُمكن حصرُه لكثرته وتعدّده، وقد ورد ذكر التسبيح في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرة، بصِيغ مختلفة وأساليب متنوِّعة، فورد تارة بلفظ الأمر كما في قوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وتارة بلفظ الماضي كما في قوله تعالى: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (1) وتارة بلفظ المضارع كما في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (2) وتارة بلفظ المصدر كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (3)
__________
(1) ورة الأحزاب، الآية: (41 - 42) .
(2) ورة الحشر، الآية: (1) .
(3) ورة الجمعة، الآية: (1) .(43/219)
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التسبيح في مُفتتح ثَماني سُوَر من القرآن الكريم، فقال تعالى في أول سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، وقال تعالى في أول سورة النحل: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) وقال تعالى في أوّل سورة الحديد: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (2) وقال تعالى في أوّل سورة الحشر: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (3) وقال تعالى في أول سورة الصف: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (4) وقال تعالى في أول سورة الجمعة: {يُسَبِّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (5) وقال تعالى في أول سورة التغابن: {يُسَبِّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6) وقال تعالى في أول سورة الأعلى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى} (7)
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: (1) .
(2) سورة النحل، الآية: (1 - 2) .
(3) سورة الحديد، الآية: (1) .
(4) سورة الحشر، الآية: (1) .
(5) سورة الصف، الآية: (1) .
(6) سورة الجمعة، الآية: (1) .
(7) سورة التغابن، الآية: (1) .(43/220)
قال بعض أهل العلم: والتسبيح ورد في القرآن على نحو من ثلاثين وجهاً، ستةٍ منها للملائكة، وتسعةٍ لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأربعةٍ لغيره من الأنبياء، وثلاثةٍ للحيوانات والجمادات، وثلاثةٍ للمؤمنين خاصة، وستةٍ لجميع الموجودات.
أما التي للملائكة فمنها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، الآية، وقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} ، وقوله: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} (1)
وقوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} .
وأما التي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم فمنها قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} ، وقوله: {وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} (2) وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (3)
__________
(1) سورة فصّلت، الآية: (38) .
(2) سورة الحجر، الآية: (98 - 99) .
(3) سورة الإنسان، الآية: (26) .(43/221)
وأما التي للأنبياء فقول الله - تعالى - لزكريا عليه السلام: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} ، وقوله - تعالى - عن زكريا عليه السلام في وصيّته لقومه بالمحافظة على التسبيح: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِياًّ} (1) وقوله - تعالى - عن يونس عليه السلام في إنجائه من ظلمات البحر وبطن الحوت لملازمته للتسبيح: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (2)
وأما التي للمؤمنين فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (3) وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ} (4) الآية.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: (41) .
(2) سورة مريم، الآية: (11) .
(3) سورة الأحزاب، الآية: (41، 42) .
(4) سورة السجدة، الآية: (15) .(43/222)
وأما التي في الحيوانات والجمادات فمنها قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} ، وقوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرِاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} (1) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (2)
وأما التي لعموم المخلوقات فمنها قوله تعالى: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3)
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: (44) .
(2) سورة ص، الآية: (18،19) .
(3) سورة الحشر، الآية: (1) .(43/223)
وقد ذكر الله - تعالى - لفظة {سُبْحَانَ} في القرآن في خمسة وعشرين موضعاً، في ضمن كلِّ واحد منها إثباتُ صفة من صفات المدح، أو نفيُ صفة من صفات الذم، منها قوله تعالى: {سُبْحاَنَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (1) وقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِياًّ وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (3) وقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (4) وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} (5)
فهذه النصوص القرآنية الكريمة وما جاء في معناها في كتاب الله تدل أوضح دلالة على جلالة قدر التسبيح، وعظيم شأنه من الدين، وأنَّه من أجَلِّ الأذكار المشروعة، ومن أنفع العبادات المقربة إلى الله عز وجل.
وقد دلّت السنة النبوية - أيضاً - على فضل التسبيح وعظيم مكانته عند الله من وجوه كثيرة، بل إنَّ السنةَ مليئةٌ بالنصوص الدّالة على عظيم شأن التسبيح، وشريف قدره، وجزيل ثواب أهله، وبيان ما أعدّ الله لهم من أجورٍ كريمةٍ، وأفضالٍ عظيمةٍ، وعطايا جمَّةٍ. وقد تضمّنت تلك النصوص الدلالةَ على ذلك من وجوهٍ كثيرةٍ:
__________
(1) سورة البقرة، الآية: (116) .
(2) سورة الصافات، الآية: (180 - 182) .
(3) سورة الطور، الآية: (43) .
(4) سورة الروم، الآية: (17،18) .
(5) سورة الزخرف، الآية: (82) .(43/224)
ومن ذلك أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ التسبيح أفضل الكلام وأحبُّه إلى الله، وقد سبق أنْ مرَّ معنا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر".
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذرٍّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أيُّ الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته أو لِعباده: سبحان الله وبحمده".
وفي لفظ آخر للحديث أنَّ أبا ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخبرُك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلتُ: يا رسول الله أخبرني بأحبِّ الكلام إلى الله. قال: إنَّ أحبَّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده". فدلّ هذا الحديث على عظيم مكانة هذه الكلمة عند الله عز وجل.
ومِن فضائل التسبيح ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت عنه ذنوبُه ولو كثُرت. ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مِثلَ زَبَدِ البحر".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ من قالها في الصّباح مائة مرّة وفي المساء مائة مرّة، لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ مَن قال مثل ذلك وزاد عليه. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قال حين يُصبحُ وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ أَحدٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه".(43/225)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ من قالها في يومٍ مائة مرّة كُتبت له ألفُ حسنةٍ أو حُطَّت عنه ألفُ خطيئةٍ، والحسنةُ بِعشر أمثالها. روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيَعجزُ أحدُكم أن يكسب كلَّ يومٍ ألفَ حسنةٍ؟ فسأله سائلٌ من جلسائِه: كيف يكسب أحدُنا ألفَ حسنة؟ قال: يسبِّح مائة تسبيحة فيُكتبُ له ألفُ حسنةٍ أو يُحطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ".
ومما ورد في فضل التسبيح إخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ثِقل التسبيح في الميزان يوم القيامة مع خفّة ويسر العمل به في الدنيا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن، خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "كلمتان" هي خبرٌ مقَدَّمٌ مُبتَدَؤُه "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"، قال بعض أهل العلم: "والنكتة في تقديم الخبر تشويقُ السّامع إلى المبتدأ، وكلَّما طال الكلام في وصف الخبر حسُن تقديمه؛ لأنَّ كثرةَ الأوصاف الجميلة تزيد السّامع شوقاً". وقد وُصفت الكلمتان في الحديث بثلاثة أوصاف جميلةٍ عظيمةٍ، وهي: أنَّهما حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان.
وقد خُصَّ لفظ الرحمن بالذِّكر هنا؛ لأنَّ المقصود من الحديث بيانُ سعة رحمة الله - تعالى - على عباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل، والأجر العظيم، فما أيسرَ النطق بهاتين الكلمتين على اللسان، وما أعظم أجر ذلك وثوابه عند الكريم الرحمن، وقد وُصفت الكلمتان في الحديث بالخفّة والثقل، الخفّةِ على اللسان والثقلِ في الميزان، لبيان قلّة العمل وكثرة الثواب. فما أوسعَ فضلَ الله! وما أعظمَ عطاءَه!(43/226)
ومن فضائل هذه الكلمة العظيمة، ما رواه الترمذي، وابن حبّان، والحاكم، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرست له نخلةٌ في الجنَّةِ"، وله شاهدان:
أحدهما: من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - موقوفاً، خرّجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه.
والآخر: من حديث معاذ بن سهل مرفوعاً، خرّجه الإمام أحمد في مسنده.
ومن فضائل هذه الكلمة ما رواه الطبراني، والحاكم، من حديث نافع بن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قال سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكرٍ كانت كالطّابع يطبع عليه، ومَن قالها في مجلس لغوٍ كانت كفَّارة له".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وصحّحه العلاّمة الألبانيُّ.
وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَن جلس في مجلس فكثُر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاّ غُفر له ما كان في مجلسه ذلك".
فهذه جملةٌ من الأحاديث الواردة في التسبيح والدّالة على عظيم فضله وثوابه عند الله، وفي أكثر هذه الأحاديث قُرن مع التسبيح حمدُ الله - تعالى -؛ وذلك لأنَّ التسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب، والتحميدُ فيه إثباتُ المحامد كلّها لله عز وجل، والإثبات أكملُ مِنَ السّلب، ولهذا لم يَرِد التسبيحُ مجرّداً، لكن ورد مقروناً بما يدلّ على إثبات الكمال، فتارةً يُقرنُ بالحمد كما في هذه النصوص، وتارةً يُقرنُ باسم من الأسماء الدّالة على العظمة والجلال، كقول: سبحان الله العظيم، وقول: سبحان ربّي الأعلى، ونحو ذلك.(43/227)
والتنزيه لا يكون مدحاً إلاّ إذا تضمّن معنىً ثبوتيًّا، ولهذا عندما نزَّه الله - تبارك وتعالى - نفسه عمّا لا يليق به ممّا وصفه به أعداء الرُّسل سلَّم على المرسلين الذين يثبتون لله صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه اللاّئق به، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وفي هذه الآية - أيضاً - حمد الله نفسه بعد أن نزّهها؛ وذلك لأنَّ الحمدَ فيه إثباتُ كمال الصفات، والتسبيحَ فيه تنزيه الله عن النّقائص والعيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح وإثبات الكمال بالحمد، وهذا المعنى يرِد في القرآن والسنّة كثيراً، فالتسبيحُ والحمدُ أصلان عظيمان وأساسان متينان يقوم عليهما المنهجُ الحقُّ في توحيد الأسماء والصفات، وبالله وحده التوفيق.
المطلب الثاني: تسبيحُ جميع الكائنات لله
إنَّ الله - تعالى - لكمال عظمته، ولتمام ملكه وعزَّته، تسبِّحُ له جميعُ الكائنات، من سماء، وأرض، وجبال، وأشجار، وشمس، وقمر، وحيوان، وطيرٍ، وإنْ مِن شيءٍ إلاّ يُسبِّح بحمده.(43/228)
يقول الله - تعالى -: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} ، ويقول تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالَ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرُ} (1) ويقول تعالى: {وسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (2) وقال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرِاقِ} (3) فهذه النصوص العظيمة تدلُّ دلالة ظاهرة أنَّ جميعَ الكائنات تسبِّح اللهَ عز وجل، فالحيوانات تسبِّح لله، والنباتات تسبِّح لله، والجمادات تسبِّح لله، وإنْ مِن شيءٍ خلقه الله إلاّ يسبِّح بحمد الله عز وجل، وإنْ كُنّا لا نفقه تسبيحه، وهو تسبيحٌ حقيقيٌّ يصدر من هذه الكائنات بلسان المقال، وليس بلسان الحال كما يدّعيه بعضهم، واللهُ - جلَّ وعلا - يجعل لهذه الكائنات إدراكات تسبِّح بها يعلمها هو - جلَّ وعلا - ونحن لا نعلمها، كما قال سبحانه: {وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (4)
__________
(1) ورة الإسراء، الآية: (44) .
(2) ورة سبأ، الآية (10) .
(3) ورة الأنبياء، الآية: (79) .
(4) ورة ص، الآية: (18) .(43/229)
قال الإمام أبو منصور الأزهريُّ - رحمه الله - في كتابه تهذيبُ اللغة: "وممّا يدلُّك على أنَّ تسبيح هذه المخلوقات تسبيحٌ تُعُبِّدت به، قول الله جلّ وعزّ للجبال: {يَاجِبَالَ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر} ، ومعنى أوِّبي أي: سبِّحي مع داود النّهار كلّه إلى الليل، ولا يجوز أن يكون معنى أمر الله جلّ وعزّ للجبال بالتأويب إلاّ تعبُّداً لها، وكذلك قوله جلّ وعزّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ والجِبَالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (1) فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها، وكذلك قوله: {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} (2) وقد علم الله هبوطها من خشيته، ولم يعرّفنا ذلك، فنحن نؤمن بما أعلمنا ولا ندّعي بما لم نكلّف بأفهامنا، مِن عِلْمِ فِعلِها كيفيّةً نحدّها" اهـ. كلامه - رحمه الله -، وهو كلام عظيم وتقرير حسن.
وقال النووي - رحمه الله - بعد أن أشار إلى ما قيل في المراد بالتسبيح، قال: "والصحيح أنَّه يسبِّح حقيقة، ويجعل الله - تعالى - فيه تمييزاً بحسبه".
وهذا القول هو القول الحق في هذه المسألة بلا ريب، فالله - تبارك وتعالى - هو الذي بيده أزمّةُ الأمور، وهو القادرُ على كلِّ شيء، وهو - سبحانه - الذي أنطق كلَّ شيء، لا يتعاظمه أمر، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء، إنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
__________
(1) ورة سبأ، الآية: (10) .
(2) ورة الحج، الآية: (18) .(43/230)
وأمّا قولُ من قال: إنَّ هذا التسبيح ليس حقيقياً وإنَّما هو تسبيح بلسان الحال فقط فهو قول مجانبٌ للحقيقةِ، بعيدٌ عن الصواب، ولا يعضُدُه دليل، بل الأدلّةٌ صريحةٌ على عدم صحّتِه.
وليس هذا الأمر بأعجب من تسبيح الحصا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسبيحُ الطعام وهو يُؤكل، وقد كان يسمع ذلك الصحابةُ رضي الله عنهم.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنّا نعدُّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فقلَّ الماءُ، فقال: اطلبوا فضلةً من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماءٌ قليل، فأدخل يدَه في الإناء ثم قال: حيَّ على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل".
فلله ما أعظمها من آيةٍ تدلّ على كمال المرسِل سبحانه، وصدق المرسَل - صلوات الله وسلامه عليه -.
وروى الطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في دلائل النبوة عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إنّي لشاهدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة وفي يده حصى فسبَّحن في يده، وفينا أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، فسمع تسبيحهنّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فسبّحن مع أبي بكر، سمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعَهنَّ إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى عمر فسبَّحن في يده، وسمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثم دفعهنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفّان فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنّ إلينا فلم يسبِّحن مع أحد منّا".(43/231)
ولا شكّ أنَّ تسبيح الحصى الصغار والطعام أعجبُ وأبلغُ من تسبيح الجبال، ولذا فإنَّ المعجزة لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك أبلغُ من المعجزة لنبيِّ الله داود عليه السلام في تسبيح الجبال معه.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وأمّا تسبيح الطّير مع داود عليه السلام فتسبيح الجبال الصمّ أعجبُ مِن ذلك، وقد تقدّم في الحديث أنّ الحصا سبّح في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حامد: وهذا حديثٌ معروفٌ مشهورٌ، وكانت الأحجارُ والأشجارُ والمدرُ تسلِّم عليه صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: "لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل"يعني بيد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكلّمه ذراعُ الشّاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السُّمِّ، وشهدت بنبُوَّته الحيواناتُ الإنسيّة والوحشيّة، والجمادات - أيضاً - كما تقدّم بسط ذلك كلِّه، ولا شكّ أنَّ صدور التسبيح من الحصا الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها أعجبُ مِن صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنَّها وما شاكلها تردّد صدى الأصوات العالية غالباً كما قال عبد الله بن الزبير كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزَرُود، ولكن من غير تسبيح، فإنَّ ذلك من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب" اهـ. كلامه - رحمه الله -.
والشّاهد مِن ذلك كلِّه هو أنَّ هذه الكائنات تسبِّح الله - تعالى - تسبيحاً حقيقاً لا يفقهه النّاس ولا يسمعونه، وقد يشاء الله فيُسمِع بعض ذلك من يشاء مِن عباده كما في النصوص المتقدّمة.(43/232)
ولا ريب أنَّ في هذا أَعظمَ عبرةٍ وأجلَّ عِظةٍ للنّاس إذ تدبّروا في حال هذه الجبال وهي الحجارة الصلبة والصخور الصّمّاء كيف أنَّها تسبِّح بحمد ربِّها وتخشع له وتسجد وتشفق وتهبط من خشيته، وكيف أنّها خافت من ربِّها وفاطرها وخالقها على شدّتها وعِظم خلقها من الأمانة إذ عرَضَها عليها وأشفقت من حملها.
قال ابن القيِّم - رحمه الله - وهو يتحدّثُ عن هذا الباب العظيم: "فسبحان من اختصَّ برحمته من شاء مِن الجبال والرِّجال ... هذا وإنَّها لَتعلمُ أنَّ لها موعداً ويوماً تنسف فيها نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمه، فهي مشفقةٌ من هول ذلك الموعد، منتظرةٌ له ... فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقّتُها وخشيتُها وتدكدكها من جلال ربِّها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرُها وباريها أنَّه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدّعت من خشية الله. فيا عجباً من مضغة لحمٍ أقسى مِن هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويُذكرُ الرّبُّ فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب ... ".
فنسأل الله جلّت قدرته وتبارك اسمه أن يحييَ قلوبَنا بالإيمان، وأن يعمُرَها بذكر الكريم الرحمن، وأن يعيذنا من الرّجيم الشيطان، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
المطلب الثالث: معنى التسبيح
لا ريب أنَّ التسبيح يُعدُّ من الأصول المهمّة والأُسُس المتينة التي ينبني عليها المُعتَقَد فيما يتعلّق بمعرفة الربّ - تبارك وتعالى - وأسمائه وصفاته، إذ إنَّ المُعتَقَدَ في الأسماء والصفات يقوم على أصلين عظيمين وأساسين متينين هما الإثبات للصفات بلا تمثيل، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات بلا تعطيل.(43/233)
والتسبيح هو التنزيه، فأصل هذه الكلمة من السَّبح وهو البُعد، قال الأزهري في تهذيب اللغة: "ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه، وكذلك تسبيحه تبعيده، من قولك: سبحتُ في الأرض إذا أبعدتَ فيها، ومنه قوله جلّ وعزّ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، وكذلك قوله: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} (1) .
فالتسبيح هو إبعادُ صفات النقص من أن تُضافَ إلى الله، وتنزيهُ الربِّ سبحانه عن السوء وعمَّا لا يليقُ به، "وأصلُ التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك".
وقد ورد هذا المعنى في تفسير التسبيح في حديث يُرفع إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنَّ في إسناده كلاماً، فقد روى الحاكمُ في المستدرك عن عبد الرحمن ابن حمّاد، ثنا حفص ابن سليمان، ثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله، فقال: "هو تنزيه الله عن كلِّ سوءٍ". قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقّبه الذهبي في تلخيصه للمستدرك بقوله: "بل لم يصح فإن طلحة منكر الحديث، قاله البخاري، وحفصٌ واهي الحديث، وعبد الرحمن، قال أبو حاتم: منكر".
ورُويَ الحديثُ من وجه آخر مرسلاً.
وورد في هذا المعنى آثارٌ عديدةٌ عن السلف - رحمهم الله -، روى جملةً منها الطبريُّ في تفسيره والطبرانيُّ في كتابه الدعاء في باب: تفسير سبحان الله، وغيرهما من أهل العلم، منها:
ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "سبحان الله: تنزيه الله - عزَّ وجلَّ - عن كُلِّ سُوءٍ".
وعن عبد الله بن بريدة أنَّ رجلاً سأل علياًّ رضي الله عنه عن سبحان الله فقال: "تعظيم جلال الله".
وجاء عن مجاهد أنه قال: "التسبيح انكفاف الله من كلِّ سوءٍ". قال ابن الأثير في النهاية: "أي: تنزيهه وتقديسه".
__________
(1) سورة: يس، الآية: (40) .(43/234)
وعن ميمون بن مهران قال: "سبحان الله اسم يُعظَّمُ الله به، ويحاشى به من السوء".
وعن أبي عبيدة معمر بن المثنّى قال: "سبحان الله: تنزيه الله وتبرئته".
وعن محمد بن عائشة قال: "تقول العرب إذا أنكرت الشيء وأعظمته سبحان الله، فكأنّه تنزيه الله عز وجل عن كلِّ سوء، لا ينبغي أن يوصف بغير صفته".
والآثار في هذا المعنى عن السلف كثيرة.
ونقل الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن غير واحد من أئمّة اللغة تفسير التسبيح بالمعنى السابق وقال: "وجِماعُ معناه بُعدُه - تبارك وتعالى - عن أن يكون له مثلٌ أو شريكٌ أو ضِدٌّ أو نِدٌّ".
وبهذه النقول المتقدِّمة يتبيَّنُ معنى التسبيح والمراد به، وأنَّه تنزيه الله عز وجل عن كلِّ نقص وعيبٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والأمر بتسبيحه يقتضي تنزيهه عن كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، وإثباتَ المحامد التي يُحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده". اهـ كلامه - رحمه الله -.
وبه يتبيّن أنَّ تسبيحَ الله إنَّما يكون بتبرئة الله وتنزيهه عن كلِّ سوء وعيبٍ، مع إثبات المحامد وصفات الكمال له سبحانه، على وجهٍ يليقُ به، أمَّا ما يفعله المعطِّلةُ من أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم من تعطيل للصفات وعدم إثبات لها وجحدٍ لحقائقها ومعانيها بحجة أنَّهم يسبِّحون الله وينزِّهونه، فهو في الحقيقة ليس من التسبيح في شيء، بل هو إنكارٌ وجحودٌ، وضلالٌ وبهتانٌ، ولذا يقول ابن هشام النحوي في كتابه مغني اللبيب: "ألا ترى أنَّ تسبيحَ المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات".
ويقول ابن رجب رحمه الله في معنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: "سبِّحه بما حمد به نفسه؛ إذ ليس كلُّ تسبيحٍ بمحمود، كما أنَّ تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات".(43/235)
وقوله - رحمه الله -: "إذ ليس كلُّ تسبيح بمحمود"كلامٌ في غاية الأهميَّة والدقَّة؛ إذ إنَّ تسبيح الله بإنكار صفاته وجحدها وعدم إثباتها أمرٌ لا يُحمد عليه فاعله، بل يُذمُّ غايةَ الذمِّ، ولا يكون بذلك من المسبِّحين بحمد الله، بل يكون من المعطّلين المنكرين الجاحدين، من الذين نزّه الله نفسه عن قولهم ووصفهم بقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . فسبّح الله نفسه عمّا وصفه به المخالفون للرسل، وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه في الله من النقص والعيب.
إنَّ تسبيحَ الله وتنزيهَه وتقديسَه وتعظيمَه يجب أن يكون وفق الضوابط الشرعيّة، وعلى ضوء الأدلّة النقليّة، ولا يجوز بحال أن يُبنى ذلك على الأهواء المجرّدة، أو الظنون الفاسدة، أو الأقيسة العقليّة الكاسدة كما هو الشأن عند أرباب البدع المعطّلين لصفات الربّ - سبحانه -، ومن كان يعتمد في باب التعظيم على هواه بغير هدى من الله، فإنَّه يزِلُّ في هذا الباب ويقع في أنواع من الباطل وصنوف من الضلال. جاء عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله وقد ذُكر عنده أنَّ الجهميّة ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا أنَّه قال: "قد هلك قوم من وجه التعظيم فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتاباً أو يرسل رسولاً ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ} ثم قال: هل هلكت المجوس إلاّ من جِهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أنْ نعبُدَه، ولكن نعبدُ من هو أقربُ إليه منّا، فعبدوا الشمس وسجدوا لها، فأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} (1) .
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: (91) .(43/236)
وفي كلامه هذا - رحمه الله - إشارة إلى أنّ التعظيم والتنزيهَ إنْ لم يكن على هديِ الكتاب والسنة فإنّه يكون غاية التعطيل، ومنتهى الجحود والعياذ بالله، ومن يتأمّل حالَ الطوائف الضالّة والفرق المنحرفة التي سلكت في التنزيه والتعظيم هذا الطريق يجد أنهم لم يستفيدوا من ذلك سوى التنقّص لربّ العالمين وجحد صفات كماله ونعوت جلاله، حتى آل الأمر ببعضهم في التنزيه إلى الاعتقاد بأنّه ليس فوق العرش إله يُعبد ولا ربٌّ يُصلى له ويُسجدُ تعالى الله عمّا يقولون، وسبحان الله عمّا يصفون.
إنّ التسبيحَ طاعةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ جليلةٌ، والله - تبارك وتعالى - يحبُّ المسبّحين، والواجب على عبد الله المؤمن أن يكون في تسبيحه لربّه على هديٍ مستقيمٍ، فيُسبّح الله وينزّهه عن كلِّ ما لا يليقُ به من النقائص والعيوب ويُثبتُ له مع ذلك نعوتَ جلاله وصفات كماله، ولا يتجاوزُ في ذلك كلِّه كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم لا يُتجاوَزُ القرآن والحديث". ومن كان على ذلك فهو على هدي قويمٍ، وعلى صراطٍ مستقيمٍ.(43/237)
تابع للمنهل المؤهول بالبناء للمجهول
بَابُ الصَّاد المُهْمَلَةِ
(صُبِيَ) القَوْمُ - بالبَاءِ المُوَحَّدَةِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - كعُنِيَ: أَصَابَتْهُمْ ريحُ الصَّبَا. وأَصْبَوا: دَخَلُوا فيها.ومَهَبُّهَا من مَطْلَعِ الثُّرَيَّا إِلَى بَنَاتِ نَعْشٍ.
(صُدِرَ) فُلانٌ - بالدَّالِ المُهْمَلَةِ والرَّاءِ - كعُنِيَ: شَكَا صَدْرَهُ.
(صُعِفَ) بالعَيْنِ المُهْمَلَة والفاء - كعُنِيَ؛ فهو مَصْعُوفٌ: أَصَابَتْهُ الصَّعْفَةُ؛ وهي الرِّعْدَةُ من فَزَعٍ أو بَرْدٍ أو غَيرِهِ.
(صُفِرَ) - بالفَاءِ والرَّاءِ - كعُنِيَ أَصَابَهُ الصُّفَارُ كغُرَابٍ؛ وهو كما في ((القاموس)) : المَاءُ الأَصْفَرُ يَجْتَمِعُ في البَطْنِ.
(صِفْنا) قالَ في ((الصِّحَاحِ)) أي: أَصَابَنا مَطَرُ الصَّيفِ؛ وهو (فُعِلْنَا) عَلَى ما لم يُسَمَّ فَاعِلُهُ، مِثل خُرِفْنَا ورُبِعْنَا، وصِيفَتِ الأَرْضُ فَهِيَ مَصِيفَة ومَصْيُوفة، إذا أَصَابَهَا مَطَرُ الصَّيْفِ.
وفي ((القَامُوسِ)) : وصِيفَتِ [7ب] الأَرْضُ، كعُنِيَ.
بابُ الضَّادِ المُعْجَمَةِ
(ضُبِطَتِ) - الأَرْضُ بالمُوَحَّدَةِ والطَّاءِ المُهْمَلَةِ - مجهولاً مُطِرَتْ.
(ضُرِبَتِ) الأَرْضُ - بالرَّاءِ والمُوَحَّدَةِ - كعُنِيَ: أَصَابَهَا الضَّرِيبُ؛ وهو الصَّقِيعُ، كأَسِيرٍ - بالصَّادِ المُهْمَلَةِ والقَافِ - وهو كما قَالَ في ((الضِّياء)) : البَرَدُ المُحْرِقُ للنَّبَاتِ. وقَالَ في ((الصِّحَاحِ)) : والصَّقِيعُ: الَّذِي يَسْقُطُ من السَّمَاء باللَّيلِ، شَبِيه بالثَّلْجِ، وقد صُقِعَتِ الأَرْضُ فهي مَصْقُوعَةٌ.
وقَالَ في الضَّادِ المُعْجَمَةِ من بَابِ المُوَحَّدَةِ: الضَّرِيبُ: الصَّقِيعُ، يُقَالَ منه: ضُرِبَتِ الأَرْضُ، كما تَقُولُ طُلَّتْ، من الطَّلِّ.
فالصَّقِيعُ كالضَّريبِ - بالضَّادِ المُعْجَمَةِ - وَزْناً ومَعْنىً.(43/238)
وقَدْ أَبْدَلَ النُّسَّاخُ في المَنْظُومَةِ الصَّادَ المُهْمَلَةَ من ((الصَقِيع)) بالسِّينِ المُهْمَلَةِ، قَالَ فِيها:
وَضُرِبَتْ مِنَ الصَّقِيعِ الأَرْضُ
...... ... ...
فَصَارَ بَعْدَ الإِبْدَالِ ((السَّقِيع)) فَصُحِّفَتِ السِّين المُهْمَلَةُ بالشِّين المُعْجَمَةِ والقَافِ بالفاءِ، فَصَارت: ((الشَّفيع)) فَبَعُدَ عَنِ المَعْنَى. والصَّواب مَا ذَكَرْنَا.
(اضْطُرَّ) إلى كذا - بالطَّاء المُهْمَلَة والرَّاءِ - مَجْهولاً: أُلْجِئ إِلَيهِ.
بَابُ الطَّاءِ المُهْمَلَةِ
(طُحِلَ) فُلانٌ - بِالحَاءِ المُهْمَلَةِ واللامِ - كعُنِيَ طَحْلاً: شَكا مِن طِحَالِهِ. وأَمَّا عِظَمُ الطِّحَالِ فَيُقَالُ فيهِ: طَحِلَ؛ كفَرِحَ فهو طَحِلٌ، وكذا يُقَالُ في المَاءِ إذَا فَسَدَ وأَنْتَنَ مِنْ حَمَأٍ.
(طُرِفَتِ) العَيْنُ - بالرَّاءِ والفَاءِ - كعُنِيَ؛ فهي مَطْرُوفَةٌ: أَصَابَهَا شَيءٌ فَدَمَعَتْ والاِسْمُ الطُّرْفَةُ - بالضَّمِّ. والعَامَّةُ تَقُولُهُ بالفَتْحِ.
(طُرِقَ) العَقْلُ - بالرَّاءِ والقَافِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ ضَعْفٌ.
(طُشَّ) فُلانٌ - بالشِّينِ المُعْجَمَةِ المُشَدَّدَةِ - مجهولاً - أَصَابَهُ [8أ] الطُّشَاشُ - بفتح الطَّاءِ وضَمِّها - وهو دَاءٌ يُشْبِهُ الزُّكَامَ.
(طُشَّتِ) الأَرْضُ - بالشِّين [المُعْجَمَةِ] المُشّدَّدَةِ - مجهولاً؛ إذا أَصَابَهَا الطَّشِيشُ؛ وهو المَطَرُ الضَّعِيفُ.
(طُلِسَ) بِفُلانٍ في السِّجْنِ - باللامِ والسَّينِ المُهْمَلةِ -[كعُنِيَ] :رُمِيَ به فيه.
(طُلِّقَ) السَّليمُ - باللام المُشَدَّدَةِ والقَافِ مَجْهُولاً - تَطْلِيقاً: رَجَعَتْ إِليه نَفْسُهُ وسَكَنَ وَجَعُهُ.(43/239)
وفي ((الضِّيَاء)) : وطُلِّق الرَّجُلُ - يَعْنِي بِتَشْدِيدِ اللامِ - إذا لُدِغَ فَسَكَنَ وَجَعُهُ بَعْدَ العِدَادِ وقَالَ في بَابِ العَينِ والدَّالِ في (فِعال) بكَسْرِ الفَاء: العِدَادُ: اهْتِيَاج كُلِّ وَجَعٍ يَأْتِي لَوَقْتٍ كَحُمَّى الرِّبْعِ ونَحْوِهَا. يُقَالُ: إنَّ اللَّسْعَةَ تَأْتِي لِعِدَادٍ؛ أي: الوَقْت الَّذي تَلْسَعُ فيه.
وفي المَنْظُومَةِ:
... ...... ...
وطُلِّقَ النِّسَاءُ جَاءَ بالبِنَا
ولَعَلَّهُ غَيَّر السَّلِيمَ بالنِّسَاءِ. واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(طُلِقَتِ) المَرْأَةُ في المَخَاضِ - باللامِ والقافِ كعُنِيَ - طَلْقاً: أَصَابَهَا وَجَعُ الوِلاَدَةِ. وأَمَّا إذا أُرِيدَ الطَّلاقُ فَيُقَالُ: طَلَقَتْ - كنَصَرَ و [كَرُمَ]- من زَوْجِها طَلاقاً: فهي طَالِقٌ.
(طُلَّ) دَمُ فُلانٍ وأُطِلَّ - باللامِ المُشَدَّدَةِ فيهما مَجْهُولاً - أَيْ: أُهْدِرَ فَلايُطَالَبُ به، قَالَ الشَّاعِرُ:
دِمَاؤُهُم لَيْسَ لَهَا طَالِبٌ
مَطْلُولَةٌ مِثْلُ دَمِ العُذْرَه
قَالَ أَبُو زَيدٍ: ولا يُقَالُ: طَلَّ دَمُهُ، يَعْنِي بِفَتْحِ الطَّاء. قَالَ في ((الصِّحَاحِ)) وأَبُو عُبَيدَةَ والكِسَائِيّ يَقُولانِهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِيهِ ثَلاثُ لُغَاتٍ: طَلَّ وطُلَّ وهي بفتح الطَّاءِ وضَمِّهَا، وأُطِلّ - بزِيَادَةِ هَمَزَةٍ مَضْمُومَةٍ، والطَّاءُ مَكْسُورَةٌ.
وفي المَنْظُوَمَةِ:
... ...... ...
... ... وطُلَّ الحَرْضُ
ومَعْنَاهُ - واللهُ اَعْلَمُ: هُدِرَ العَاشِقُ؛ لأَنَّ الحَرِضَ كَكَتِفٍ هُوَ الَّذِي أَدَّى به العِشْقُ والحَرِضُ - بالحَاءِ المُهْمَلَةِ - والرَّاءِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ. وهو في النَّظْمِ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ بالسُّكُونِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ [8ب] وَضَمِّهَا:
.... .... .... ....
وطُلَّ مِنْهُ دَمُهُ أَيْ: قُتِلا(43/240)
وهو يُوْهِمُ أَنَّ طُلَّ مَعْنَاهُ: قُتِلَ مُطْلَقاً، وإِنَّما مَعْنَاهُ: قُتِلَ هَدَراً ولَعَلَّهُ تَرَكَهُ لضِيقِ النَّظْمِ مَعَ اشْتِهَارِهِ عِنْدَهُ.
(طُلَّتِ) الأَرْضُ - باللامِ المُشَدَّدَةِ - مَجْهُولاً: إذا أَصَابَهَا الطَلُّ؛ وهو أَضْعَفُ المَطَرِ يُقَالُ: رَحُبَتْ عَلَيكَ الأَرْضُ، وطُلَّتْ - بِضَمِّ الطَّاءِ - يَعْنِي بِه الأَرْضَ. ويُقَالُ بِفَتْحِ الطَّاءِ، أَيْ: طَلَّتْ (1) عَلَيكَ السَّمَاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
ومَطْرُوفَةِ العَيْنَينِ خَفَّاقَةِ الحَشَا
مُنَعَّمَةٍ كالرّيمِ طَابَتْ وطُلَّتِ
أَي: مُطِرَت: دَعَا عَلَيهَا بذلك. والمَطْرُوفَةُ العَيْنَينِ الَّتِي تَهِيجُ إِلى الرِّجَالِ.
(طُمِرَ) فُلانٌ في ضِرْسِهِ بالمِيمِ والرَّاءِ كعُنِيَ: هَاجَ وَجَعُهُ عَلَيهِ.
(طُمِلَ) الشَّيءُ - بالمِيمِ واللاّمِ - كعُنِيَ وفَرِحَ: لُطِخَ بدُهْنٍ أو دَمِ أوقَارٍ أو شِبْهِهِ.
بَابُ الظَّاءِ المُعْجَمَةِ
(ظُفِرَ) فُلانٌ في عَينِهِ - بالفَاءِ والرَّاءِ - كعُنِيَ: إذا أَصَابَتْهُ ظَفَرَةٌ، وهي جُلَيدَةٌ تُغَشِّي العَيْنَ، فهو مَظْفُورٌ. وقَدْ ظَفِرَتِ العَيْنُ، كَفَرِحَ، فهي ظَفِرَةٌ.
بَابُ العَيْنِ المُهْمَلَةِ
(عُرِبَ) الجُرْحُ؛ مَجْهُولاً بالرَّاءِ والمُوَحَّدَةِ؛ ذَكَرَهُ فِي المَنْظُومَةِ. قَالَ في ((القَامُوسِ)) : عَرِبَ الجُرْحُ كفَرِحَ: بَقِيَ أَثَرُهُ بَعْدَ البُرْءِ.
ولم يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فيُنْظَرْ ما مَعْنَى الَّذي في المَنْظُومَةِ، ولَعَلَّهُ ما ذَكَرَ؛ إِذِ الأَثَرُ لا يَبْقَى بَعْدَ البُرْءِ غَالِباً إلا إِذَا حَصَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ. واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(عُرِقَ) الرَّجُلُ - بالرَّاءِ والقَافِ - كعُنِيَ - عَرَقاً: صَارَ قَلِيلَ اللَّحْمِ.
__________
(1) ينظر: الأفعال للسرقسطي 3/249.(43/241)
(عُرِنَ) الرَّجُلُ بالرَّاءِ والنُّونِ، كعُنِيَ: شَكَا أَنْفَهُ.
(عُرِيَ) فُلانٌ - بالرَّاءِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - كعُنِيَ: أَصَابَتْهُ العَرْوَاءُ، وهي قِرَّةُ الحُمَّى ومَسُّها في أَوَّلِ رِعْدَتِها.
وَعُرِيَ إِلى الشَّيءِ - بالرَّاءِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ أَيْضاً - كعُنِيَ: بَاعَهُ ثُمَّ اسْتَوْحَشَ إِليه [9أ] .
(عُقِرَت) المَرْأَةُ - بالقَافِ والرَّاءِ - كعُنِيَ: عُقِمَتْ. وقَالَ في ((الفَصِيحِ)) : "عَقُرَتْ - بِفَتْحِ العَينِ- يَعْنِي المُهْمَلَةَ - وضَمِّ القَافِ"فَيَكُونُ فيه لُغَةٌ ثَانِيَةٌ
(اعْتُقِلَ) لِسَانُهُ - بالقَافِ واللامِ مَجْهُولاً - لم يَقْدِرْ عَلَى الكَلامِ.
(عُقِمَتِ) المَرْأَةُ بالقَافِ والمِيمِ، كفَرِحَ ونَصَرَ، وكَرُمَ وعُنِيَ، عَقَماً [وعَقْماً، ويُضَمُّ] أَصَابَها العُقْمُ بالضَّمِّ - وهو هَزْمَةٌ تَقَعُ في الرَّحِمِ فَلا تَقْبَلُ الوَلَدَ. والهَزْمَةُ بِفَتْحِ الهَاءِ، والزَّايِ - النُّقْرَةُ أو الحُفْرَةُ أو العُقْمُ: انسِدَادٌ.
قَالَ الكِسَائيّ: رَحِمٌ مَعْقُومَةٌ: مَسْدُودَةٌ لا تَلِدُ.
وقَالَ في ((الفَصِيحِ)) وقَدْ عُقِمَتِ المَرْأَةُ إذا لم تَحْمِلْ؛ فهي عَقِيمٌ.
(عُكِمَ) فُلانٌ - بالكَافِ والمِيم - كعُنِيَ: صُرِفَ عن زِيَارَتِهِ.
(عُلِقَ) فُلانٌ - باللامِ والقَافِ - نَشِبَ العَلَقُ بحَلْقِهِ فهو مَعْلُوقٌ.
(عُنِيَ) فُلانٌ بكَذَا - بالنُّونِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَ العَيْنِ مَكْسُورَ النُّونِ- عِنَايَةً. وكرَضِيَ قَليلٌ: اهْتَمَّ به، فَهُوَ بِهِ عَنٍ.
وقَالَ في ((الفَصيح)) عُنِيْتُ بِحَاجتِكَ - بضَمِّ أَوَّلِهِ - أُعْنَى بها فَأَنَا بها مَعْنيٌّ.
بَابُ الغَيْنِ المُعْجَمَةِ
(غُبِنَ) فُلانٌ في البَيْعِ والرَّأْيِ - بالمُوَحَّدَةِ والنُّونِ - كعُنِيَ: خُدِعَ فهو مَغْبُونٌ، والاسْمُ الغَبِينَةُ.(43/242)
(أُغْرِبَ) الفَرَسُ - بالرَّاءِ والمُوَحَّدَةِ - مَجْهُولاً: إذا فَشَتْ غُرَّتُهُ حَتَّى تَأْخُذَ العَيْنَينِ، فَتَبْيَضُّ الأَشْفَارُ.
وأُغْرِبَ الرَّجُلُ - أَيْضاً - إذا اشْتَدَّ وَجَعُهُ؛ عَنِ الأَصْمَعِيّ.
(غُرِيَ) الرَّجُلُ بكذا؛ كرَضِيَ وعُنِيَ، وأُغْرِيَ به مَجْهُولاً - بالرَّاءِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فيهما - أُوْلِعَ به.
(غُسِلَ) الفَرَسُ - بالسِّينِ المُهْمَلَةِ والَّلامِ -كعُنِيَ واغْتُسِلَ مَجْهُولاً: عَرِقَ.
(غُشِيَ) عَلَى المَرِيضِ - بالشِّينِ المُعْجَمَةِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ [9ب] كعُنِيَ: غُمِيَ عَلَيهِ، غَشْياً وغَشَياناً؛ فهو مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ والاسْمُ الغَشْيَةُ.
(غُضِبَ) - بالضَّادِ المُعْجَمَةِ والمُوَحَّدَةِ - كسَمِعَ وعُنِيَ: إذا أَصَابَهُ الغِضَابُ بِكَسْرِ الغَيْنِ المُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا؛ وهو القَذَى في العَيْنِ.
(غُلَّ) فُلانٌ – باللامِ المُشَدَّدَةِ – مَجْهُولاً: أَصَابَهُ الغَلَلُ بالتَّحْرِيكِ؛ وهو العَطَشُ أو شِدَّتُهُ، أو حَرَارَةُ الجَوْفِ؛ فهو غَلِيلٌ ومَغْلُولٌ ومُغْتَلٌّ، ويُقَالُ: ما لَهُ؟ أُلَّ وغُلَّ مَجْهُولَينِ: دُعَاءٌ عَلَيْهِ.
(غُمَّ) الهِلالُ بالمِيمِ المُشَدَّدَةِ مَجْهُولاً فَهُو مَغْمُومٌ: حَالَ دُونَهُ غَيْمٌ رَقِيقٌ وغُمَّ عَلَى فُلانٍ الخَبَرُ - بالمِيمِ المُشَدَّدَةِ أَيْضاً - مَجْهُولاً: اسْتَعْجَمَ عَلَيهِ.
(غُمِيَ) عَلَى المَرِيضِ، وأُغْمِيَ عَلَيهِ - بالمِيمِ والمثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مَجْهُولَيْنِ: غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ.
بَابُ الفَاءِ
(فُسِلَ) فُلانٌ - بالسِّينِ المُهْمَلَةِ واللامِ - كَكَرُمَ وعَلِمَ وعُنِيَ - فَسَالَةً وفُسُولَةً: صَارَ فَسْلاً؛ أَيْ: لا مُرُوءَةَ لَهُ.
(فُصِخَ) بالصَّادِ المُهْمَلَةِ والخَاءِ المُعْجَمَةِ، كعُنِيَ غُبِنَ في البَيْعِ.(43/243)
(فُصِمَ) البَيْتُ - بالصَّادِ المُهْمَلَةِ والمِيمِ - كعُنِيَ: انْهَدَمَ.
(أُفْظِعَ) فُلانٌ - بالظَّاءِ المُعْجَمَةِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - مَجْهُولاً: نَزَلَ به أَمْرٌ عَظِيمٌ، ومِنهُ قَوْلُ لَبِيْد:
وهُمُ السُّعاةُ إذا العَشِيرةُ أُفْظِعَتْ ... وهُمُ فَوَارِسُهَا وهُمْ حُكَّامُهَا
(فُلِجَ) [فُلانٌ] (1) - بالفَاءِ والجِيمِ - كعُنِيَ؛ فهو مَفْلُوجٌ: أَصَابَهُ الفَالِجُ؛ وهو استِرْخَاءُ أَحَدِ شِقَّي البَدَنِ؛ لانصِبَابِ خِلْطٍ بَلْغَمِيٍّ تَنْسَدُّ مِنْهُ مَسَالِكُ الرُّوْحِ. وقِيل الفَالجُ رِيحٌ.
وقَالَ ابنُ دُرَيدٍ: قِيلَ فيه: مَفْلُوجٌ؛ لأَنَّهُ ذَهَبَ نِصْفُهُ ومنه قِيلَ لِشِقَّةِ البَيْتِ: فَلِيجَةٌ.
وفي المَنْظُومَةِ:
............
وفُلِجَ الأَمْرُ به..... [10 أ] [1أ]
ولَمْ أَرَ لَهُ أَصْلاً. ولَعَلَّ مَعْنَاهُ: انْشَقَّ الأَمْرُ بِهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ، أو لَعَلَّهُ غَيَّرَ الأَمْنَ بالأَمْرِ، وكَأَنَّ فُلِجَ الأَمْرُ به؛ أَيْ: بالفَالِجِ المَفْهُومِ مِن فُلِجَ.
بَابُ القَافِ
(قُبِضَ) فُلانٌ - بالمُوَحَّدَةِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ - كعُنِيَ: مَاتَ.
(اقتُتِلَ) فُلانٌ - بالمُثَنَّاتَينِ الفَوْقِيَّتَينِ واللامِ - مَجْهُولاً: إذَا قَتَلَهُ العِشْقُ أو الجِنُّ.
قَالَ في ((الصِّحَاحِ)) : حَكَاهُ الفَرَّاءُ عَنِ الكِسَائِيّ، ولا يُقَالُ في هَذين إلا اقتُتِلَ.
(قُجِزَ) فُلانٌ - بالجِيمِ والزَّايِ - كعُنِيَ: رُدَّ.
(قُحِلَ) فُلانٌ - بالحَاءِ المُهْمَلَةِ واللامِ - كعَلِمَ وعُنِيَ، قُحُولاً: يَبِسَ جِلْدُهُ عَلى عَظْمِهِ.
__________
(1) ما بين المعقوفين زيادة من ح، ع.(43/244)
(قُطِعَ) بفُلانٍ وانْقُطِعَ به - بالطَّاء والعَيْنِ المُهْمَلَتَينِ فِيهما - مَجْهُولَين؛ فهو مُنْقَطَعٌ بِهِ: إِذَا عَجَزَ عَن سَفَرِهِ من نَفَقَةٍ ذَهَبَتْ أو رَاحِلَةٍ مَاتَتْ، أو أَتَاهُ أَمْرٌ لا يَقْدِرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ مِنْهُ.
(قُطِعَ) فُلانُ - بالطَّاءِ والعَيْنِ - المُهْمَلَتَينِ، كعُنِيَ فَهُوَ مَقْطُوعٌ: أَصَابَهُ القُطْعُ بَضَمِّ القَافِ، وهو البُهْرُ، وانقِطَاعُ النَّفَس ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُو المَرَادُ في المَنْظُومَةِ لا الأَوَّل بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَقْدِيرِ الجَارِّ والمَجْرُورِ بَعْدَهُ في النَّظْمِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بما تَقَدَّمَ.
(قُلِعَ) الأَمِيرُ - باللامِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ فَهْوَ مَقْلُوعٌ، أَيْ: مَعْزُولٌ.
(أُقْهِرَ) [فُلانٌ] وقُهِرَ - بالهاءِ والرَّاءِ فيهما - مَجْهُولَينِ: أُذِلَّ وغُلِبَ؛ فهو مَقْهُورٌ.
وقُهِرَ اللَّحْمُ - بالهَاءِ والرَّاءِ - كعُنِيَ: إذَا أَخَذَهُ النَّارُ وسَالَ مَاؤهُ، وهذا مما صُحِّفَ في المَنْظُومَةِ الكَمَالِية.
بَابُ الكَافِ
(كُبِدَ) فُلانٌ - بالمُوَحَّدَةِ والدَّالِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: شَكَى كَبِدَهُ مَنَ [10ب] الوَجَعِ الَّذِي بها والكَبِدُ كَكَتِفٍ الجَوْفُ بِكَمَالِهُ، أو وَسَطُ الشَّيءِ أو مُعْظَمُهُ.
(كُسِئَ) القَوْمُ - بالسِّينِ المُهْمَلَةِ والهَمْزِ - مَجْهُولاً: اتُّبِعُوا وطُرِدُوا. قَالَ الشَّاعِرُ:
كُسِئَ الشِّتَاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ
أَيْ: طُرِدَ وتُبِعَ، وذَلِكَ [مِثْل كُسِعَ] يَكْسَعُ بالعَيْنِ وسَيَأْتي قَرِيباً.
(كُسِعَ) الشِّتَاءُ - بالسِّينِ والعَيْنِ المُهْمَلَتَينِ - مَجْهُولاً: طُرِدَ وقَالَ الشَّاعِرُ:
كُسِعَ الشِّتَاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ(43/245)
أَيْ: طُرِدَ وأُتْبِعَ ولم يَذْكُرْ في ((القَامُوسِ)) كُسِئَ وكُسِعَ مَجْهُولَين، وإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا بالبِنَاءِ للفَاعِلِ، وجَعَلَ مَعْنَاهُما ضَرَبَ، وضَبَطَهُمَا في ((الصِّحاح)) بالقَلَمِ مَبْنِيينِ للمَجْهُولِ في البَيتِ وفَسَّرَهُمَا بما ذَكَرْنَاهُ.
وفي المَنْظُومَةِ:
وكُسِعَ السِّقَا.... .... ....
.... .... ....
بالسِّينِ المُهْمَلَةِ والقَافِ، والظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وإَنَّمَا هُوَ الشِّتَاءُ - بالشِّين المُعْجَمَةِ والمُثَنَّاةِ الفَوْقِيَّةِ- كما هو مَضْبُوطٌ في البَيْتِ بالقَلَمِ من نُسْخَةٍ مُحَرَّرَةٍ فِي مَادَّتِي (كسأ) و (كسع) ونَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُما وَاحدٌ.
والسَّبْعَةُ المَذْكُورَةُ هِي أَيَّامُ العَجُوزِ، قَالَ في ((الصِّحَاحِ)) في مَادَّةِ (عجز) : وأَيَّامُ العَجُوزِ عِنْدَ العَرَبِ خَمْسَةٌ: صِنٌّ وصِنَّبْرٌ، ووَبْر، ومُطْفِئُ الجَمْرِ، ومُكْفِىءُ الظُعُنِ. قَالَ ابن كُنَاسَة: هِي في نَوْءِ الصَّرْفَةِ. قَالَ أَبُو الغَيثِ: هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ وأَنْشَدَنِي لابْنِ أَحْمَرَ:
كُسِعَ الشِّتَاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْر
أَيامَ شَهْلَتِنا مِنَ الشَّهْرِ
فَإذا انقَضَتْ أَيَّامُهَا ومَضَتْ
صِنٌّ وصِنَّبرٌ مع الوَبْرِ
وبآمرٍ وأخيه مؤتمرٍ
ومُعَلّلٍ وبمطفِىءِ الجَمْرِ
ذَهَبَ الشِّتَاء موَلِّياً عَجِلاً
وأَتَتْكَ وَاقِدَةٌ مَنَ النَجْر
(كُلِبَ) - باللامِ المُوَحَّدَةِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ الكَلاب كسَحَابٍ؛ وهو ذَهَابُ العَقْلِ مِنَ الكَلَبِ.
(كُظِمَ) - بالظَّاءِ المُعْجَمَةِ والمِيمِ - قَالَ في ((القَامُوسِ)) : كعُنِيَ، كُظُوماً: سَكَتَ، وقَوْمٌ كُظَّمٌ، كرُكَّعٍ: سَاكِتُون. [11م] .
(كُمِنَ) - بالمِيمِ والنُّونِ - كَسَمِعَ وعُنِيَ: أَصَابَتْهُ كُمْنَةٌ بِضَمِّ الكَافِ؛ وهي ظُلْمَةُ البَصَرِ، أو جَرَبٌ وحُمْرَةٌ فيه.
بَابُ الَّلامِ(43/246)
(لُدَّ) الرَّجُلُ بالدَّالِ المُهْمَلَة المُشَدَّدَةِ مَجْهُولاً؛ فهو مَلْدُودٌ، جُعِلَ له اللَّدُودُ كَصَبُورٍ؛ وهو ما يُصَبُّ من الأَدْويَةِ في أَحَدِ شِقَّي الفَمِ وكَلامُ صَاحِبِ ((القَامُوسِ)) يَقْتَضِي أَنَّه لَيْسَ مِمَّا بُنِيَ للمَجْهُولِ.
(لُبِجَ) بفُلانٍ - بالمُوَحَّدَةِ والجِيمِ - كعُنِيَ: صُرِعَ.
(لُبِطَ) فلان -[بالمُوَحَّدَة] والطَّاءِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ أَصَابَتْهُ اللَّبِيطَةُ، وهي الزُّكَامُ؛ فهو مَلْبُوطٌ، ولُبِطَ به بالزِّنَةِ والضَّبْطِ: سَقَطَ وصُرِعَ.
(لُحِفَ) مِن مَالِهِ فُلانٌ - بالحَاءِ المُهْمَلة واللامِ - كعُنِيَ، لُحْفَةً: ذَهَبَ مِنه شَيءٌ.
(لُحِمَ) فُلانٌ - بالحَاءِ المُهْمَلَةِ والمِيمِ - كعُنِيَ: قُتِلَ، فَهُوَ لَحِيمٌ، كَقَتِيلٍ زِنَةً ومَعْنىً.
(لُقِيَ) فُلانٌ - بالقَافِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - كعُنِيَ فَهُوَ مَلْقُوٌّ: أَصَابَتْهُ اللَّقْوَةُ، بِفَتْحِ اللامِ المُشَدَّدَة، بَعْدَها قَافٌ سَاكِنَةٌ، وهي دَاءٌ في الوَجْهِ.
(الْتُمِعَ) اللَّونُ - بالمِيمِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - مَجْهُولاً: ذَهَبَ وتَغَيَّرَ.
(الْتُمِيَ) اللَّونُ - بالمِيم والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - مَجْهُولاً: التُمِعَ؛ فهو بِمَعْنَاهُ وزِنَتِهِ.
بَابُ المِيمِ
(مُخِضَتِ) المَرْأَةُ - بِالخَاءِ والضَّادِ المُعْجَمَتَينِ - كَسَمِعَ ومَنَعَ وعُنِيَ: أَخَذَها الطَّلْقُ.
(مُرِرْتُ) به - بالرَّاءِ المُكرَّرة مَجْهُولاً -أُمَرُّ مَرّاً ومِرَّةً: غَلَبَتْ عَلَيَّ المِرَّةُ؛ وهي بكَسْرِ المِيمِ: مِزَاجٌ من أَمْزِجَةِ البَدَنِ.(43/247)
(مُرِضَ) - بالرَّاءِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ - ذَكَرَهُ في المَنْظُومَةِ مِنَ المَجْهُولِ، ولم يَحْكِ فيه الثَّلاثَةُ غَيْرَ البِنَاءِ للفَاعِلِ وفُسِّرَ المَرَضُ في ((القَامُوسِ)) بإِظْلامِ الطَّبِيعَةِ وفي ((الصِّحَاحِ)) بالسُّقْم، وفي ((الضِّياءِ)) بالعِلَّةِ في البَدَنِ، ولعلَّهُ مصحف ((حُرِصَ)) كما تَقَدَّم في بَابِ الحَاءِ، واللهُ تَعَالى أَعْلَمُ.
(مُصِرَ) الفَرَسُ - بالصَّادِ المُهْمَلَةِ والرَّاءِ - كعُنِيَ: استُخْرِجَ جَرْيُهُ.
(مُغِسَ) فُلانٌ - بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ والسِّينِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ وفَرِحَ: أَصَابَهُ
المَغْصُ؛ وهو وَجَعٌ في البَطْنِ، وهو لُغَةٌ في الصَّادِ.
(مُغِصَ) فُلانٌ - بالغَينِ المُعْجَمَةِ والصَّادِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ [10ب] المَغْصُ، ويُحَرَّك. قَالَ في ((القَامُوسِ)) وَهِمَ الجَوْهَرِيُّ فيه، وهو مَمْغَوصٌ.
(مُقِع) فلان بكذا - بالقاف والعين المهْمَلةِ - كعُنِيَ: رُمِيَ بِهِ.
(امتُقِعُ) اللَّون - بالقَافِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - مجْهُولاً: تغَيّر من حزنٍ أو فَزَعٍ.
(مُنِيَ) فلانٌ بِكَذَا - بالنُونِ والمُثناه الَتحْتِيّة - كعُنِيَ ابتلي به.
(مُنِيَ) فُلانٌ لكذا - بالنُّونِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - كعُنِيَ: وُفِّقَ له.(43/248)
تابع للمنهل المؤهول بالبناء للمجهول
بَابُ النُّونِ
(نُئِجَ) القَوْمُ - بالهَمْزِ والجِيمِ - كعُنِيَ: أَصَابَتْهُم الرِّيْحُ الّتي لها نَئِيجٌ؛ أَيْ: مَرٌّ سَرِيعٌ بِصَوْتٍ.
(نُتِجَتِ) النَّاقَةُ - بالمُثَنَّاةِ الفَوْقِيَّةِ والجِيمِ - كعُنِيَ، نِتَاجاً: حَانَ نِتَاجُها. وقَالَ يَعْقُوبُ: اسْتَبَانَ حَمْلُها.
(نُجِدَ) فُلانٌ - بالجِيمِ والدَّال المُهْمَلَةِ - كَعُنِيَ: أَصَابَهُ النَجَدُ، وهو الكَرْبُ والغَمُّ.
(نُحِضَ) فُلانٌ - بالحَاءِ المُهْمَلَةِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ - كَعُنِيَ: قَلَّ لَحْمُهُ. وانتُحِضَ - مَجْهُولاً - بِمَعْنَاهُ وضَبْطِهِ.
(نُخِشَ) فُلانٌ بالخاءِ والشِّينِ المُعْجَمَتَينِ - كمَنَعَ وعُنِيَ؛ فهو مَنْخُوشٌ، وهي مَنْخُوشَةٌ: هُزِلَ.
(نُخِيَ) فُلانٌ - بالخَاءِ المُعْجَمَةِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - كعُنِيَ ونَصَرَ: افْتَخَرَ وتَكَبَّرَ.
(نُزِحَ) فلان - بالزَّاي والحَاءِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: بَعُدَ عَنْ دِيَارِهِ غَيبَةً بِعِيدةً.
(نُزِفَ) فُلانٌ - بالزَّاي والفَاء - كعُنِيَ: ذَهَبَ عَقْلُهُ أو سَكِرَ، ومِنهُ قَولُهُ تَعَالَى {ولا يُنْزَفُونَ} (1)
__________
(1) سورة الواقعة: الآية 19. وهي قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم {يُنزِفون} بالبناء للمعلوم من الفعل: أنزف. ينظر: السبعة 547، والنشر 2/357، والتيسير 186، والبحر المحيط 7/360، والجامع لأحكام القرآن 15/79، والدرّ المصون 9/305.
وقال مكي في الكشف 2/224: "وحجة من كسر أنه جعله من: أنزف ينزِف، إذا سكر والمعنى: ولاهم عن الخمر يسكرون، فتزول عقولهم، أي: تبعد عقولهم، كما تفعل خمر الدنيا ... وحجة من فتح الزاي ... أنه جعله من: نزف إذا سكر، وردّه إلى ما لم يسمّ فاعله، لغة مشهورة فيه، وإن كان لا يتعدّى في الأصل، ولم يستعمل: نَزَفَ إذا سكر، إنّما استُعمل بالضمّ.... والمعنى ولاهم عن خمر الجنة يسكرون ... ويجوز أن يكون من: أنزف، ردّه إلى ما لم يسم فاعله".(43/249)
أي: ولا يَسْكَرُون.
ونُزِفَ دَمُهُ، بالزِّنَةِ والضَّبْطِ: سَالَ حَتَّى يَفْرُطَ.
ونُزِفَتِ البِئْرُ بالزِّنَةِ والضَّبْطِ: نُزِحَتْ وأُنزِفَتْ بالضَّبْطِ مَجْهُولاً بمَعْنَاه، وأَنْزَفَهَا رَبُّهَا ونَزَفَها ونَزَفَتْ هِيَ، يَتَعَدَّى ولا يَتَعَدَّى.
(نُسِئَتِ) المَرْأَةُ - بالسِّينِ المُهْمَلَةِ والهَمْزِ - نَسْئاً، كعُنِيَ: تَأَخَّرَ حَيْضُهَا [12أ] عَن وَقْتِهِ فَرُجِيَ أَنَّهَا حُبْلَى، وهي نَسْءٌ لا نَسِيءٌ.
قَالَ المَجْدُ: وَهِمَ فيه الجَوْهَرِيّ.
(انتُسِفَ) اللَّونُ - بالسِّينِ المُهْمَلَةِ والفَاءِ - مَجْهُولاً: تَغَيَّرَ.
(نُشِعَ) بكذا - بالشِّين المُعْجَمَةِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - فهو مَنْشُوعٌ: أُوْلِعَ به.
(نُشِغَ) الصَّبِيُّ- بالشِّينِ والغَيْنِ المُعْجَمَتَينِ - كعُنِيَ: أُوجِرَ.
ونُشِغَ فُلانٌ - بالشِّينِ - مِثْلُهُ زِنَةً وضَبْطاً: أُوْلِعَ به، فَهُوَ مَنْشُوغٌ به.
(انتُشِفَ) اللَّونُ - بالشِّينِ [المُعْجَمَة] والفَاءِ - مَجْهُولاً: تَغَيَّرَ.
(نُطِعَ) اللَّونُ - بالطَّاءِ والعَينِ المُهْمَلَتَينِ - كعُنِيَ: تَغَيَّرَ.
(نُفِسَتِ) المَرْأَةُ - بالفَاءِ والسّين المُهْمَلَةِ - كسَمِعَ وعُنِيَ: وَلَدَتْ، أو حَاضَتْ، والفَتْحُ به أَكْثَرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ في ((التَّهْذِيبِ)) : ضَمُّ النُّونِ في الوِلادَةِ أَكْثَرُ مِن فَتْحِهَا، وفي الحَيضِ بالعَكْسِ. وفي ((شَرْحِ مُسْلِمٍ)) نَحْوُهُ.
وقَالَ الهَرَوِيُّ: إِنَّهُ في الوِلادَةِ بالفَتْحِ لا غَيرُ. وأَصْلُ ذَلِكَ مِنَ النَّفْسِ، وهو الدَّمُ.(43/250)
[قُلْتُ] : وكَلامُ صَاحِبِ: ((القَامُوسِ)) يَحْتَمِلُ أَنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ((والكَسْرُ فِيه أَكْثَرُ)) رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ نُفِسَتْ مُطْلَقاً، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعاً إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو حَاضَتْ؛ فيكون ذَكَرَ بَعْضَ ما في ((التَّهْذِيبِ)) (1) .
نُفِسْتُ عَلَيكَ: بالسِّينِ بالزِّنَةِ والضَّبْطِ -[أَنْفُسُ] (2) نَفَاسَةً، ذَكَرَهُ في ((الفَصِيحِ)) ، ولَمْ يَذْكُرْ مَعْنَاه. وقَالَ في ((القَامُوسِ)) : "نَفِسَ به كفَرِحَ: ضَنَّ، و عَلَيْهِ بِخَيرٍ: حَسَدَ، و عَلَيْهِ الشَّيءَ نَفَاسَةً: لم يَرَهُ أَهْلاً لَهُ"فَيَكُونَ فِيه لُغَتَانِ: نُفِسَ كعُنِيَ وفَرِحَ. واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(انْتُقِعَ) اللّونُ - بالقَافِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - مَجْهُولاً: تَغَيَّرَ. وفي ((الصِّحَاحِ)) : "انْتُقِعَ لَوْنُهُ؛ فهو مُنْتَقَعٌ: لُغَةٌ في امْتُقِعَ" وقال: امتُقِعَ لَوْنُهُ: إذا تَغَيَّرَ من حُزنٍ أو فَزَعٍ قال: وكَذَلِكَ: انْتُقِعَ. والمِيْمُ أَجْوَدُ.
(استُنقِعَ) اللَّونُ - بالقَافِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - مَجْهُولاً: تَغَيَّرَ، وَهُوَ مِن بَابِ الاسْتِفْعَالِ [12ب] .
واستُنْقِعَ الشَّيءُ في المَاءِ - بالزِّنَةِ والضَّبْطِ - نُقِعَ.
(نُكِبَ) الرَّجُلُ - بالكَافِ والمُوَحَّدَةِ - كعُنِيَ فهو مَنكُوبٌ: إِذَا أَصَابَتْهُ نَكْبَةٌ.
(نُهِمَ) الرَّجُلُ - بالهَاءِ والمِيمِ - كفَرِحَ وعُنِيَ: اتَّصَفَ بالنَّهَامَةِ كَسَحَابَةٍ، وهي إِفْرَاطُ الشَّهوةِ في الطَّعَامِ، وأن لا تَمْتَلِئَ عَيْنُ الآكِلِ ولا يَشْبَعَ؛ فَهُوَ نَهِمٌ ونَهِيم ومَنهُومٌ.
بابُ الهَاءِ
(هُبِشَ) الكَلْبُ - بالمُوَحَّدَةِ والشِّينِ المُعْجَمَةِ - كعُنِيَ؛ أَي: حُرِّشَ فاحتَرَشَ.
__________
(1) يعني تهذيب الأسماء واللغات للنووي (القسم الثاني) 2/170.
(2) زيادة من: ح، ع.(43/251)
(اسْتُهْتِرَ) بِكَذا - بِأَلِفٍ وسِينٍ مُهْمَلَةٍ فمُثَنّاتَينِ فَوْقِيَّتَينِ بَيْنَهُمَا هَاءٌ فَرَاءٌ آخِرَه - قَالَ في ((القَامُوسِ)) : عَلَى مَا لَم يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وذَكَرَ أَنَّ المُسْتَهْتَرَ - بالفتح - بالشَّيءِ: هو المُولَعُ به، لا يُبالي بما قيل فيه وشُتِمَ له، والَّذي كَثُرَتْ أَبَاطِيلُهُ.
(هُدِمَ) فُلانٌ - بالدَّالِ المُهْمَلَةِ والمِيمِ - كعُنِيَ: أَخَذَهُ الهُدامُ كغُرَابٍ؛ وهو الدُّوَارُ من رُكُوبِ البَحْرِ.
(أُهْدِرَ) دَمُه، فَهُو مُهْدَرٌ.
(هُرِعَ) الرَّجُلُ - بالرَّاءِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - قَالَ في ((القَامُوسِ)) مَجْهُولاً؛ فهو مُهْرَعٌ: يُرْعَدُ مِن غَضَبٍ أو ضَعْفٍ أو خَوْفٍ.
وقَالَ في ((الضِّياءِ)) : أُهْرِعَ الرَّجُلُ إذا ارْتَعَدَ رَوعاً أو غَضَباً. والإِهْرَاعُ: شِدَّةُ الشَّوْقِ. قَالَ اللهُ تَعَالى: {يُهْرَعُونَ إِلَيهِ} (1) قِيل: لا يَكُونُ الإِهْرَاعُ إلا إِسْرَاعاً مَعً رِعْدَةٍ.
وفي ((الصِّحاح)) وأُهْرِعَ الرَّجُلُ عَلَى ما لم يُسَمَّ فاعِلُهُ؛ فهو مُهْرَعٌ، إذا كَانَ يُرْعَدُ من غَضَبٍ أو حُمَّى أو فَزَعٍ.
(هُزِلَ) فلان - بالزاي واللام - كعُنِيَ هُزَالاً، وكنَصَرَ هَزْلاً: أصابه الهُزال كغُراب؛ وهو نَقِيضُ السِّمَنِ، ومنه قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَقَد هُزِلَتْ حَتَّى بَدَى من هُزَالها كُلاها وحَتَّى سَامَهَا كلُّ مُفْلِسِ [13أ]
(اهْتُقِعَ) اللَّونُ - بالقَافِ والعَيْنِ والمُهْمَلَةِ - مَجْهُولاً، عَلَى اُفتُعِلَ: تَغَيَّرَ.
(أُهِلَّ) الهِلالُ واسْتُهِلَّ - باللام المُشَدَّدَةِ فيهما - مَجْهُولَين: ظَهَرَ. ويُقَالُ: اسْتَهَلَّ وأَهَلَّ بالبِنَاءِ للفَاعِلِ.
(اهْتُمِعَ) اللَّون - بالمِيم والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - عَلَى (افْتُعِلَ) مَجْهُولاً: تَغَيَّرَ.
بَابُ الوَاوِ
__________
(1) سورة هود: الآية 78.(43/252)
(وَبِئَتِ) الأَرْضُ - بالمُوَحَّدَةِ والهَمْزَةِ - كفَرِحَ، تَيبَأُ وتَوْبَأُ وَبَأً، وككَرُمَ، وَباءً ووَباءةً وأَبَاءً وأَبَاءَةً، وكَعُنِيَ وَبَاءً. وأَوْبَأَتْ،:وهي وَبِئَةٌ ووَبِيئَةٌ ومُوبِئَةٌ: كَثِيرَتُهُ.
(وُثِئَتْ) يَدُهُ فهي موثُوءَةٌ. قَالَهُ في ((الفَصِيحِ)) وهو بالثَّاءِ المُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ، ولم يَذْكُرْ مَعْنَاهُ، وهو إذا حَصَلَ فيها تَخَدُّرٌ بوَجَعٍ من رَضَّةٍ أو وَقْعَةٍ [أو غَيْر ذَلِكَ] (1)
(تُوُدِّع) كعُنِيَ - من فُلانٍ بالدَّالِ والعَيْنِ المُهْمَلتَينِ على (تُفُعِّلَ) - مَجْهُولاً أي: سُلِّمَ عَلَيهِ. وقَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ: "إذا رَأَيْتُ أُمَّتِي تَهَابُ (2) الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَه: إِنَّكَ (3) ظَالِمٌ فقد تُوَدِّعَ مِنْهُم" (4) أَيْ: اسْتُرِيحَ مِنهُم وخُذِلُوا، وخُلِّيَ بَيْنَهُم وبَيْنَ المَعَاصِي، أو تُحُفِّظَ منهم، وتُوُقِّيَ كما يُتَوَقَّى من شِرَارِ النَّاسِ.
(وُزِرَ) فُلانٌ - بالزَّاي والرّاء - كعُنِيَ: رُمِيَ بوِزْرٍ.
(وُضِعَ) الرَّجُلُ في تِجَارَتِهِ وأُوْضِعَ بالضَّادِ المُعْجَمَةِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ فيهما مَجْهُولَينِ، أَيْ: خَسِرَ.
__________
(1) ما بين المعقوفين زيادة من ح، ع.
(2) في ح، ع: ((أهابوا)) وهو تحريف، وينظر: القاموس (ودع) 995، وإتحاف الفاضل 26.
(3) قوله: ((إنك)) ساقط من ح، ع.
(4) رواه أحمد في المسند 2/163، 189، 190، والبيهقي في شعب الإيمان 6/80 (ح7546) ، والحاكم في المستدرك 4/96، وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 3/1267، 1276، 6/2135، والهيثمي في مجمع البحرين 7/240 (ح4384) وابن الجوزي في غريب الحديث 2/459، والسيوطي في الجامع الكبير 1/59، وفي الجامع الصغير 1/44، والألباني في ضعيف الجامع الصغير 1/44.(43/253)
(وُقِرَ) السَّمْعُ - بالقَافِ والرَّاءِ - كعُنِيَ: أَصَابَهُ الوَقْرُ؛ وهو ثِقَلٌ في الأُذُنِ، أو ذَهَابُ السَّمْعِ كُلِّهِ، ويُقَالُ فيه - أَيْضاً - وَقَرَ كوَعَدَ ووَجِلَ، ومَصْدَرُهُ وَقْراً بالفَتْحِ، والقِيَاسُ بالتَّحْرِيكِ.
وَأَمَّا قوله في المنظومة:
... ... ......
ووُقِرَ الخَبْرُ بَصَدْرٍ
مَعْنَاهُ: حَصَلَ في الخَبَرِ الكَائِنِ في الصَّدْرِ ثِقَلٌ، وهي صِفَةُ مَدْحِ. واللهُ أَعْلَمُ [13ب] .
(وُقِصَ) عُنُقُ فُلانٍ - بالقَافِ والصَّادِ المُهْمَلَةِ - كُسِرَ؛ فهو مَوْقُوصٌ، وَقَصَتْ به راحِلَتُهُ تَقِصُهُ و الفَرَسُ الآكَامَ دَقَّتْهَا.
ووَقَصَ عُنُقَهُ، كَوَعَدَ: كَسَرَها؛ فَوَقَصَتْ؛ لازِمٌ مُتَعَدٍّ. هَذا كلامُ ((القَامُوسِ)) غَيرَ مُرَتَّبٍ.
وقال في ((الصّحاح)) : [الأَصْمَعِيّ] : وَقَصْتُ عُنُقَهُ [أَقِصُها] وَقْصاً، أَيْ: كَسَرْتُهَا، ولا تكونُ وَقَصَتِ العُنُقُ نَفْسها.
ثُمَّ قَالَ: وُقِصَ الرَّجُلُ فهو مَوْقُوصٌ. ويُقَالُ - أَيْضاً: وَقَصَتْ بِهِ راحِلتُه، وهو كقَولك خُذِ الخِطَامَ، وخُذْ بالخِطَام.
والفَرَسُ يَقِصُ الإِكَامَ؛ أي: يَدُقُّها.
وقَالَ في ((الفَصيحِ)) : وُقِصَ الرَّجُلُ إذا سَقَطَ عن دَابَّتِهِ فانْدَقَّتْ عُنُقُهُ، فهو مَوْقُوصٌ.
وقَوْلُهُ في النَّظْمِ:
ووُقِصَ الرَّاكِبُ ... ...
... ... ... ...
مَعْنَاهُ: انكَسَرَتْ عُنُقُهُ لوُقُوعِهِ عن راحِلَتِهِ، وقَوْلُهُ ((مثل نُخِي)) أَيْ: في الوَزْنِ لافي المَعْنَى، فَقَد سَبَقَ مَعْنَى نُخِيَ في بَابِ النُّونِ.
(وُقِعَ) في يَدِهِ - بالقَافِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ - كعُنِيَ: سُقِطَ.
(وُكِسَ) الرُّجُلُ في تِجَارَتِهِ وبَيْعِهِ وشِرَائِهِ، وأُوكِسَ - بالكَافِ والسِّين المُهْمَلَةِ فيهما مَجْهُولَينِ - فوَكَسَ، كوَعَدَ، مَعْنَاهُ: نَقَصَ.
وقَولُهُ في المَنْظُومَةِ:
... ... ... ...(43/254)
ومِثْلَهُ وَكِسَ ... ... ...
أَيْ: هو مِثْلُ: وُضِعَ، في المَعْنَى - إِذ هو قَرِيبٌ - وفي الزِّنةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وأَوْكَسَ مَالُهُ: ذَهَبَ، لازِمٌ مُتَعَدٍّ.
(أُولِعَ) الرَّجُلُ بكذا - باللامِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ مَجْهُولاً - أُغْرِيَ به أو أُشْغِلَ.
بَابُ المُثَنَّاةِ التحتِيَّةِ
(يُدِيَ) فُلانٌ بالدَّالِ المُهْمَلَةِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ - كعُنِيَ ورَضِيَ، وهَذِهِ ضَعِيفَةٌ: أُولِيَ بِراً.
(يُمِنَ) فُلانٌ - بالميمِ والنُّونِ - كعَلِمَ وعُنِيَ وجَعَلَ وكَرُمَ: حَصَلَ لَهُ اليُمْنُ -بالضَّمِّ - وهو البَرَكَةُ، كالمَيْمَنَةِ، فهو مَيْمُونٌ، وأَيْمَنُ، ويَامَنٌ، ويَمينٌ.
خَاتِمَةٌ
قَالَ في ((الفَصِيحِ)) إذا أَمَرْتَ من هذا البَابِ [14أ] كُلِّه كَانَ كُلُّهُ باللامِ، كَقَولِكَ: لِتُعْنَ بحاجَتِي، ولْتُوْضَعْ في تِجَارَتِكَ، ولْتُزْهَ عَلَينَا يا رَجُلُ، ونَحْوَ ذَلِكَ، فَقِسْ عَلَى هَذا إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
هَذَا آخِرُ ما تَيَسَّرَ جَمْعُهُ مِنَ الأَفْعَالِ المَسْمُوعَةِ بِالبِنَاءِ للمَجْهُول، واللهُ المَسْؤُولُ في النَّفْعِ بِذَلِكَ وأَنْ يُنِيلَنَا في الدَّارَينِ أَعْظَمَ سُول والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين، وصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتِمِ النَّبِيِّين، وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين وحَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيم.(43/255)
تَمَّتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ المَبَارَكَةُ السَّاعَة الرَّابِعَةَ مِن لَيْلَةِ الخَمِيسِ المُبَارَكِ المُوَافِق الحادي والعِشرين [من] مُحَرَّم الحرام افتتاح عام 1298هـ عَلَى يَدِ كاتِبِها الفَقِير الحَقِيرِ المُعْتَرِفِ بالذَّنبِ والتَّقْصِيرِ قَاسِم الكيكيّ بن عَبدِ الرّحمن الكيكي غَفَرَ له اللهُ ولِوَالِدَيه ولِوَالِدي والِدَيهِ، ولمن أَحَبَّهُ ولمن يُحِبُّهُ، ولجَمِيعِ المُسْلِمِينِ آمين. وصلّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمّد، وعَلَى آلِهِ وصحبهِ وسلّم. آمين والحمدُ لله ربّ العالمين.
فهرس المصادر والمراجع
1- الإبدال، لأبي الطيب اللغوي، ت/عز الدين التنوخي، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق 1379هـ.
2- الإبدال والمعاقبة والنظائر، للزجاجي، ت/عز الدين التنوخي، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق 1381هـ.
3- إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير العاقل، لابن علان، ت/يسري عبد الغني عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ (وجميع إحالاتي غير المقيدة هي على هذه الطبعة)
4- إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير العاقل، لابن علان،مكتبة القدسي والبدير، دمشق 1384هـ.
5- إتحاف الورى بأخبار أم القرى، للنجم بن فهد، ت/ فهيم شلتوت، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة 1403هـ.
6- أدب الكاتب، لابن قتيبة، ت/ محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ.
7- ارتشاف الضرب، لأبي حيان، ت/ الدكتور مصطفى النماس، مطبعة النسر الذهبي، القاهرة.
8- الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
9- أساس البلاغة، للزمخشري، ت/ عبد الرحيم محمود، دار المعرفة بيروت 1402هـ.
10- أسرار العربية، لأبي البركات الأنباري، ت/ محمد بهجة البيطار، مطبوعات المجمع العلمي، دمشق1377هـ.
11- إسفار الفصيح، لأبي سهل الهروي، ت/ الدكتور أحمد سعيد قشاش، رسالة دكتوراه، الجامعة الإسلامية 1416هـ.(43/256)
12- الاشتقاق، لابن دريد، ت/ عبد السلام هارون، الخانجي، القاهرة 1378هـ.
13- إصلاح المنطق، لابن السكيت، ت/ أحمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة 1949م. (الطبعة الثانية) .
14- الأصول في النحو، لابن السراج، ت/ الدكتور عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1405هـ.
15- إعراب الحماسة، لابن جنى، مخطوط، مكتبة أحمد الثالث 2369.
16- الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، الدار التونسية للنشر والتوزيع، 1983م.
17- الأفعال، لابن القطاع، عالم الكتاب، بيروت 1403هـ.
18- الأفعال، لابن القوطية، ت/علي فوده، الخانجي، القاهرة، 1993م (الطبعة الثانية) .
19- الأفعال للسرقسطي، ت/ الدكتور حسين محمد شرف، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1395هـ.
20- الأفعال الملازمة للمجهول بين النحويين واللغويين، للدكتور مصطفى النماس، بحث نشر في مجلة كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر 1978م.
21- الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، للبطليوسي، ت/ مصطفى السقا، القاهرة 1983م.
22- أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، للشرتوني، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1992م (الطبعة الثانية) .
23- الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت/ عبد المجيد قطامش، مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1400هـ.
24- أمثال العرب، للضّبّي، ت/ الدكتور رمضان عبد التواب، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق.
25- إنباه الرواة على أنباه النحاة، للقفطي، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، القاهرة 1406هـ.
26- الأنواء في مواسم العرب، لابن قتيبة، حيدر أباد، الدكن 1375هـ.
27- أوضح المسالك، لابن هشام، ت/ محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت 1394هـ (الطبعة السادسة) .
28- الإيضاح في شرح المفصل، لابن الحاجب، ت/ موسى بن بنّاي العليلي، وزارة الأوقاف، بغداد 1982م.
29- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، للبغدادي، دار الفكر، بيروت 1402هـ.(43/257)
30- البحر المحيط، لأبي حيان، دار الفكر، بيروت 1403هـ (الطبعة الثانية) .
31- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للشوكاني، دار المعرفة، بيروت.
32- تاج العروس، للزبيدي، المطبعة الخيرية، القاهرة 1306هـ.
33- التاريخ والمؤرخون بمكة، لمحمد الحبيب الهيلة، مؤسسة الفرقان، مكة 1994م.
34- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، القاهرة 1931م.
35- تصحيح الفصيح، لابن درستويه، ت/ الدكتور عبد الله الجبوري، مطبعة الإرشاد، بغداد 1395هـ.
36- التصريح بمضمون التوضيح، للشيخ خالد الأزهري، دار الفكر، بيروت.
37- التكملة والذيل والصلة، للصغاني، ت/ عبد العليم الطحاوي وآخرين، مطبعة دار الكتب، القاهرة 1970م.
38- التلويح في شرح الفصيح، لأبي سهل الهروي، ت/ محمد عبد المنعم خفاجى، مكتبة التوحيد، القاهرة، 1368هـ.
39- التنبيه والإيضاح، لابن بري، ت/ مصطفى حجازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980م.
40- تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، دار الكتب العلمية، بيروت.
41- تهذيب الخواص من درة الغواص، لابن منظور، نسخة خطية مصورة في مركز البحث العلمي، بجامعة أم القرى في مكة، تحت رقم 489لغة.
42- تهذيب اللغة، للأزهري، ت/ عبد السلام هارون وآخرين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، القاهرة 1384هـ.
43- التيسير في القراءات العشر، لأبي عمرو الداني، دار الكتاب العربي، بيروت 1404هـ.
44- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، للثعالبي، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة 1384هـ.
45- الجامع الصغير، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت 1410هـ.
46- الجامع الكبير، للسيوطي، مخطوط منشور على هيئته الأصلية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، عن أصله في مكتبة محمد علي برقم (95) .
47- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب المصرية، القاهرة 1372هـ.
48- الجمل في النحو، للزجاجي، ت/ الدكتور علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة، بيروت 1404هـ.(43/258)
49- الجمهرة، لابن دريد، ت/ الدكتور رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت 1987م.
50- جمهرة الأمثال، للعسكري، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، المؤسسة العربية الحديثة 1407هـ.
51- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، للسيوطي، ت/محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1967م.
52- الحسن والإحسان فيما خلا عنه اللسان، لعبد الله بن عمر البارودي، عالم الكتب، بيروت 1407هـ.
53- حواشي ابن بري على درة الغواص، نسخة مصوّرة بجامعة أم القرى، تحت رقم 277 لغة.
54- الحيوان، للجاحظ، ت/ عبد السلام هارون.
55- خزانة الأدب، للبغدادي، ت/ عبد السلام هارون، الخانجي، القاهرة 1409هـ (الطبعة الثالثة) .
56- الخطط المقريزية، للمقريزي، دار صادر، بيروت.
57- الدار اللقيط في أغلاط القاموس المحيط، لداود زاده، نسخة خطية مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم (3991 فلم)
58- الدار المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، ت/ الدكتور أحمد الخراط، دار القلم، دمشق 1406هـ.
59- الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة، لحمزة الأصفهاني، ت/ عبد المجيد قطامش، دار المعارف، القاهرة.
60- ديوان ابن أحمر، ت/ حسين عطوان، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق.
61- ديوان امرىء القيس، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، 1984م (الطبعة الرابعة) .
62- ديوان دعبل الخزاعي، ت/ الدكتور محمد يوسف نجم، دار الثقافة، بيروت 1409هـ.
63- ديوان رؤبة بن العجاج، ت/ وليم بن الورد البروسي، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1400هـ.
64- ديوان طرفة بن العبد، ت/ الدكتور رحاب خضر عكاوي، دار الفكر العربي.
65- ديوان لبيد بن ربيعة، ت/ الدكتور حسن نصر الحِتّي، دار الكتاب العربي، بيروت1414هـ.
66- الريح، لابن خالويه، الدكتور حسين محمد شرف، مكتبة الحلبي، المدينة المنورة 1404هـ.
67- السبعة في القراءات، لابن مجاهد، ت/ الدكتور شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة 1988م.(43/259)
68- سنن أبي داود، ت/ محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.
69- سنن الترمذي (الجامع الصحيح) ت/ أحمد محمد شاكر وآخرين، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1398هـ.
70- سنن الدارمي، ت/ محمد أحمد دهمان، دار إحياء السنة النبوية، بيروت.
71- شرح أبيات إصلاح المنطق، لابن السيرافي، ت/ ياسين محمد السّوّاس، مركز جمعه الماجد، دبي1412هـ.
72- شرح أدب الكاتب، للجواليقي، قدم له مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت.
73- شرح درة الغواص، للخفاجي، مطبعة الجوائب 1299هـ.
74- شرح الشافية، للرضي، ت/ محمد نور الحسن وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ.
75- شرح شواهد المغني، للسيوطي، ت/ أحمد ظافر كوجان، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت.
76- شرح الفصيح للجبان، ت/ عبد الجبار قزاز، المكتبة العلمية، لاهور 1406هـ.
77- شرح الفصيح لابن هشام اللخمي، ت/ مهدي عبيد جاسم، وزارة الثقافة والإعلام العراقية، بغداد 1409هـ.
78- شرح القصائد السبع الطوال، لابن الأنباري، ت/ عبد السلام هارون، دار المعارف القاهرة 1963م.
79- شرح القصائد العشر، للتبريزي، ت/ عبد السلام الحوفي، دار الكتب العلمية، بيروت 1405هـ.
80- شرح القصائد المشهورات الموسومة بالمعلقات، لابن النحاس، دار الباز، مكة المكرمة 1405هـ.
81- شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها، لأحمد بن الأمين الشنقيطي، دار القلم، بيروت.
82- شرح المفصل لابن يعيش، عالم الكتب، بيروت.
83- شعب الإيمان، للبيهقي، ت/ محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت 1410هـ.
84- شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان بن سعيد الحميري، عالم الكتب، بيروت.
85- الصحاح، للجوهري، ت/ أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت.
86- ضعيف الجامع الصغير وزيادته للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت 1410 (الطبعة الثالثة) .
87- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي، دار مكتبة الحياة، بيروت.(43/260)
88- ضياء الحلوم في اختصار شمس العلوم، لعلي بن نشوان الحميري، نسخة خطية في مكتبة عارف حكمت تحت رقم (71/410) .
89- العباب (حرف الفاء) للصغاني، ت/ محمد حسن آل ياسين، دار الرشيد، بغداد، 1981م.
90- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، للفاسي، ت/ فؤاد سيد، القاهرة 1381هـ.
91- العقد الفريد، لابن عبد ربه، ت/ أحمد أمين وآخرين، دار الكتاب العربي 1406هـ.
92- العلاقات الحجازية المصرية زمن سلاطين المماليك، لعلي بن حسين السليمان، الشركة المتحدة للنشر والتوزيع، القاهرة 1393هـ.
93- العين، للخليل بن أحمد، ت/ الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة الأعلمي، بيروت 1408هـ.
94- غاية المرام بأخبار البلد الحرام، لعز الدين ابن فهد، ت/ فهيم شلتوت، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة 1406هـ.
95- غريب الحديث لابن الجوزي، ت/ عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت 1405هـ.
96- الغريبين، للهروي، نسخة فلمية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة تحت رقم 4303.
97- فائت الفصيح، لأبي عمر الزاهد، ت/ الدكتور محمد عبد القادر أحمد، القاهرة 1406هـ.
98- الفاخر، للمفضل بن سلمة، ت/ عبد العليم الطحاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1380هـ.
99- فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، لأبي عبيد البكري، ت/ الدكتور إحسان عباس، وعبد المجيد قطامش، مؤسسة الرسالة، بيروت 1403هـ.
100- الفصيح لثعلب، ت/ عاطف مدكور، دار المعارف، القاهرة 1984م.
101- فعلت وأفعلت، للزجاج، ت/ ماجد الذهبي، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق 1404هـ.
102- قاموس الأفعال المبنية للمجهول، لأسماء أبو بكر محمد، دار الجيل، بيروت، ومكتبة التراث الإسلامي، القاهرة.
103- القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1407هـ.
104- القلب والإبدال، لابن السكيت (ضمن مجموع الكنز اللغوي) نشره أوغست هفنر، بيروت 1903م.(43/261)
105- الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، دار الفكر، بيروت 1405هـ.
106- الكشاف، للزمخشري، دار الريان للتراث، القاهرة، ودار الكتاب العربي، بيروت 1407هـ.
107- الكشف عن وجوه القراءات السبع، لمكي بن أبي طالب، ت/ محيي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، بيروت 1407هـ.
108- لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت.
109- المبني للمجهول في الدرس اللغوي والتطبيق في القرآن الكريم، للدكتور محمد سليمان ياقوت، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية.
110- مجاز القرآن، لأبي عبيدة، ت/ الدكتور فؤاد سزكين، الخانجي، القاهرة.
111- مجمع الأمثال، للميداني، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت 1407هـ.
112- مجمع البحرين، للهيثمي، ت/ عبد القدوس نذير، مكتبة الرشد، الرياض 1413هـ.
113- مجمل اللغة، لابن فارس، ت/ الدكتور زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة بيروت 1406هـ.
114- المحرر الوجيز، لابن عطيه، المجلس العلمي، فاس، 1395هـ.
115- المحكم، لابن سيده، ت/ جماعة من العلماء، القاهرة 1377هـ.
116- المحيط في اللغة لابن عباد، ت/ محمد حسن آل ياسين، عالم الكتب بيروت 1414هـ.
117- مختار الصحاح، للرازي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
118- المختصر من كتاب نشر النور والزهر، لعبد الله مرداد، اختصار وترتيب محمد سعيد العامودي، وأحمد علي، مطبوعات نادي الطائف الأدبي.
119- المخصص، لابن سيده، بعناية محمد محمود التركزي الشنقيطي، ومعاونة عبد الغني محمود، مطبعة بولاق، القاهرة 1321هـ.
120- مراتب النحويين، لأبي الطيب اللغوي، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1955م.
121- المزهر في علوم اللغة العربية وأنواعها، ت/ محمد جاد المولى وعلي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت.
122- المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، دار المعرفة بيروت.
123- المستقصى في أمثال العربية، للزمخشري، دار الكتب العلمية، بيروت 1397هـ.(43/262)
124- مسند الإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، بيروت 1398هـ.
125- المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم، للعكبري، ت/ ياسين محمد السواس، مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى، 1403هـ.
126- المصباح المنير، للفيومي، ت/ عبد العظيم الشناوي، المكتبة العلمية، بيروت.
127- معاني القرآن، للفراء، ت/ محمد علي النجار، وأحمد يوسف، عالم الكتب، بيروت 1403هـ.
128- معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، ت/ الدكتور عبد الجليل شلبي، عالم الكتب، بيروت 1408هـ.
129- المعاني الكبير، لابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت 1405هـ.
130- المعجم الوسيط، للدكتور إبراهيم أنيس ورفاقه، دار الفكر، بيروت.
131- مقاييس اللغة، لابن فارس، ت/ عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية، قم، إيران.
132- موائد الفضل والكرم الجامعة لتراجم أهل الحرم، لعبد الستار الدهلوي، مخطوط في مكتبة الحرم المكي، تحت رقم (115تراجم) في مكتبة الدهلوي.
133- نزهة الطرف في علم الصرف، للميداني، دار الأوقاف الجديدة، بيروت 1401هـ.
134- نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر، ليوسف بن الحسن الصنعاني، دار الكتب المصرية 13849/ح.
135- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، أشرف على طبعه على محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت.
136- النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، ت/طاهر الزاوي والدكتور محمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت 1403هـ.
137- نوادر أبى زيد، ت/ الدكتور محمد عبد القادر أحمد، دار الشروق، بيروت 1401هـ.
138- نوادر أبي مسحل الأعرابي، ت/ عزة حسن، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق1961م.
139- الوشاح وتثقيف الرماح في رد توهيم المجد الصحاح، لأبي زيد التادلي، نسخة فلمية، محفوظة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم 6422.
140- وفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم، لابن مالك، ت/ بدر الدين محمد شفيع النيبالي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة 1409هـ.(43/263)
تابع دراسات في الباقيات الصالحات
المبحث الرابع: في الحمد، فضله وأنواعه ودلالته
المطلب الأول: فضلُ الحمدِ والأدلَّةُ عليه
تناولتُ فيما سبق بيان فضلِ كلمة التوحيد لا إله إلا الله وفضلِ التسبيح، وهما إحدى الكلمات الأربع التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّها أحبّ الكلام إلى الله، وتناولتُ فيها جملة من الأمور المهمّة المتعلّقة بهاتين الكلمتين العظيمتين، وأبدأ الحديث هنا عن الحمد (حمد الله - تبارك وتعالى-) ، فإنّ له شأناً عظيماً وفضلاً كبيراً، وثوابُه عند الله عظيمٌ، ومنزلته عنده عالية.
فقد افتتح - سبحانه - كتابه القرآن الكريم بالحمد فقال: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وافتتح بعض السور فيه بالحمد، فقال في أول الأنعام: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، وقال في أوَّلِ الكهف: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} ، وقال في أول سبأ: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} ، وقال في أول فاطر: {الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ ورُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .(43/264)
وافتتح خلقَه بالحمد فقال: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ} ، واختتمه بالحمد فقال بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وَتَرَى المَلآئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وقال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (1)
فالحمد له - سبحانه - أوَّله وآخره، وله الحمد في الأولى والآخرة أي: في جميع ما خلق وما هو خالق، كما قال - سبحانه -: {وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقال - سبحانه -: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} ، فهو سبحانه المحمود في ذلك كلِّه كما يقول المصلي: "اللهمّ ربّنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئتَ من شيء بعد".
__________
(1) سورة: الزمر، الآية: (75) .(43/265)
فهذه النصوصُ دالّةٌ على شُمولِ حمده - سبحانه - لخلقِه وأمرِه، فهو سبحانه حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحمد نفسه على ربوبيته للعالَمين، وحمد نفسه على تفرّده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أحد من خلقه لحاجته إليه، كما في قوله تعالى: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، وحمد نفسه على علوّه وكبريائه كما قال - سبحانه -: {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، وحمد نفسه في الأولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده في العالم العلوي والسفلي، ونبّه على هذا كلّه في كتابه في آيات عديدة تدل على تنوّع حمده - سبحانه -، وتعدّد أسباب حمده، وقد جمعها الله في مواطن من كتابه، وفرّقها في مواطن أخرى ليتعرّف إليه عباده، وليعرفوا كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبّب إليهم بذلك، ويحبّهم إذا عرفوه وأحبّوه وحمدوه.
وقد ورد الحمد في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعاً، جُمع في بعضها أسباب الحمد، وفي بعضها ذُكرت أسبابه مفصّلةً، فمن الآيات التي جُمع فيها أسباب الحمد قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وقوله: {لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} ، وقوله: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} .(43/266)
ومن الآيات التي ذُكر فيها أسباب الحمد مفصّلة قوله تعالى: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ} ، ففيها حمده على نعمة دخول الجَنّة. وقوله - تعالى -: {فَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجّاَنَا مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، ففيها حمده على النصر على الأعداء والسلامة من شرّهم. وقوله - تعالى -: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، ففيها حمده على نعمة التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. وقوله - تعالى -: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} ، ففيها حمده - سبحانه- على هبة الولد. وقوله - تعالى -: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجاً} ، ففيها حمده - سبحانه - على نعمة إنزال القرآن الكريم قيّماً لا عِوج فيه {لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} . وقوله - تعالى -: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ففيها حمده - سبحانه - لكماله وجلاله، وتنزّهه عن النقائص والعيوب، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالله - تبارك وتعالى - هو الحميد المجيد.(43/267)
و ((الحميد)) اسم من أسماء الله الحسنى العظيمة، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في أكثر من خمسة عشر موضعاً، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} ، وقوله - تعالى -: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله - تعالى -: {للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} (1) وقوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} (2) وقوله - تعالى -: {فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً} (3) فهو - تبارك وتعالى - الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو - تبارك وتعالى - المستحق لكل حمد ومحبة وثناء لما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال.
__________
(1) ورة: البقرة، الآية: (267) .
(2) ورة: لقمان، الآية: (26) .
(3) ورة: الشورى، الآية: (28) .(43/268)
وكما أنّ القرآن الكريم قد دلّ على فضل الحمد وعِظم شأنه بأنواع كثيرة من الأدلة، فكذلك السنة مليئةٌ بذكر الأدلة على فضل الحمد وعِظم شأنه، وما يترتّب عليه من الفوائد والثمار والفضائل في الدنيا والآخرة، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وهذه مفخرةٌ عظيمةٌ ومكانةٌ رفيعةٌ حظيَ بها - صلوات الله وسلامه عليه -، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من نبيٍّ يومئذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أول شافعٍ، وأوّل مشفّعٍ ولا فخر". فلمّا كان - صلوات الله وسلامه عليه - أحمدَ الخلائق لله، وأكملَهم قياماً بحمده أُعطي لواءَ الحمد، ليأوي إلى لوائه الحامدون لله من الأولين والآخرين، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث: "وما من نبيٍّ يومئ-ذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي"، وهو لواءٌ حقيقيٌّ يحمله النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بيده ينضوي تحته وينضمّ إليه جميعُ الحمّادين من الأولين والآخرين، وأقربُ الخلق إلى لوائه أكثرُهم حمداً لله وذِكراً له وقياماً بأمره، وأمّتُه صلى الله عليه وسلم هي خيرُ الأمم، وهم الحمّادون الذين يحمدون الله على السرّاء والضرّاء، وقد رُوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّلُ من يُدعى إلى الجنّة الحمّادون، الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء"، رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك، لكن في إسناده ضعف، وقد رواه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح موقوفاً على سعيد ابن جُبير - رحمه الله -.(43/269)
وجاء في أثر يُروى عن كعب قال: "نجده مكتوباً محمّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فظٌّ ولا غليظٌ، ولا صخّابٌ بالأسواق، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة، ولكنه يعفو ويغفر، وأمّتُه الحمّادون يكبِّرون الله عز وجل على كلِّ ن-جدٍ، ويحمدونه في كلِّ منزلة ... "، رواه الدارمي في مقدّمة سننه.
وفي الجَنّة بيتٌ يُقال له بيتُ الحمد، خُصَّ للذين يحمدون الله في السرّاء والضراء ويصبرون على مُرِّ القضاء، روى الترمذي بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولَدُ العبد قال الله - تعالى - لملائكته: قبضتُم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدَك واسترجع. فيقول الله - تعالى -: ابنوا لعبدي بيتاً في الجَنّة وسمُّوه بيتَ الحمد". فهذا حَمِدَ الله على الضرّاء فنال بحمده هذه الرتبة العلية، ولكن كيف يبلغ العبدُ هذه المنزلة، وكيف يصل إلى هذه الدرجة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والحمد على الضرّاء يوجبه مشهدان:
أحدهما: علم العبد بأنّ الله - سبحانه - مستوجبٌ ذلك، مستحقٌّ له بنفسه، فإنّه أحسنَ كلَّ شيء خلقه، وأتقن كلَّ شيء، وهو العليم الحكيم، الخبير الرحيم.
والثاني: علمُه بأنّ اختيارَ الله لعبدِه المؤم-ن خيرٌ من اختياره لنفسه، كما روى مسلمٌ في صحيحه وغيرُه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلاّ كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاءُ شكرَ فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيراً له"، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ كلَّ قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السرّاء فهو خير له". اهـ.(43/270)
فإذا عَلم ذلك العبدُ وتيقّنه أقبل على حمد الله في أحواله كلِّها في سرّائه وضرّائه، وفي شدّته ورخائه، ثم هو في حال شدّته لا ينسى فضلَ الله عليه وعطاءَه ونعمتَه.
جاء رجلٌ إلى يونس بن عبيد - رحمه الله - يشكو ضيقَ حاله، فقال له يونس: "أيسُرُّك ببصرك هذا مائةَ ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألفِ؟ قال: لا، قال: فبرجليك مائةُ ألفِ؟ قال: لا. قال: فذكّره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة".
وجاء عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنَّه قال: "إنّ رجلاً بُسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه، فجعل يحمدُ الله ويثني عليه حتى لم يكن له فراشٌ إلاّ بارِيَّةٌ، قال: فجعل يحمدُ الله ويثني عليه، وبُسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب الباريّة: أرأيتك أنت على ما تحمد الله؟ قال: أحمده على ما لو أُعطيت به ما أُعطي الخلق لم أعطِهم إيّاه. قال: وما ذاك؟ قال: أرأيتك بصرك، أرأيتك لسانك، أرأيتك يديك، أرأيتك رجليك".
وثبت في فضل الحمد ما رواه الترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذِكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله"، فجعل - صلوات الله وسلامه عليه - حمدَ الله أفضلَ الدعاءِ، مع أنَّ الحمد إنّما هو ثناءٌ على المحمود مع حبِّه، ولهذا سُئل ابن عيينة - رحمه الله - عن هذا الحديث فقيل له: كأنّ الحمد لله دعاء؟ فقال: "أما سمعتَ قولَ أمية بن أبي الصلت لعبد الله ابن جدعان يرجو نائلة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حباؤك إن شيمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يوما
كفاه من تعرضه الثناءُ
كريم لا يغيره صباحٌ
عن الخلق الجميلِ ولا مساءُ
فهذا مخلوقٌ اكتفى من مخلوقٍ بالثناء عليه، فكيف بالخالق سبحانه".
ويؤيّد هذا المعنى قولُ الله - تعالى -: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، فجعل الحمدَ دعاء.(43/271)
قال ابن القيّم - رحمه الله -: "الدعاء يُراد به دعاءُ المسألة ودعاء العبادة، والمُثنِي على ربّه بحمده وآلائه داعٍ له بالاعتبارين، فإنَّه طالبٌ منه، طالبٌ له، فهو الداعي حقيقة، قال تعالى: {هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ".
وممّا ورد في فضل الحمد وعِظم ثوابه عند الله ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعريِّ رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطَهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصَّبرُ ضِياءٌ، والقرآن حجّةٌ لك أو عليك، كلُّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتقُها أو موبقُها".
فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن عظيم فضل الحمد وعظيم ثوابه، وأنَّه يملأ الميزان، وقد قيل: إنَّ المراد بِملئه الميزان أي: لو كان الحمد جسماً لملأ الميزان، وليس بسديد، بل إنَّ الله عز وجل يمثّل أعمال بني آدم وأقوالهم صُوَراً يوم القيامة وتوزن حقيقةً، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".(43/272)
فالحمد شأنُه عظيمٌ، وثوابُه جزيلٌ، ويترتّب عليه من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلاّ الله، وأهله هم الحَرِيُّون يوم القيامة بأعلى المقامات وأرفع الرُّتب وأعلى المنازل، فإنّ الله عز وجل يحبُّ المحامدَ، ويحبُّ من عبده أن يُثنيَ عليه، ويرضى عن عبده أن يأكلَ الأكْلةَ فيحمده عليها، ويشربَ الشربَةَ فيحمده عليها، وهو - تبارك وتعالى - المانُّ عليهم بالنعمة والمتفضِّل عليهم بالحمد، فهو يبذل نعمه لعباده، ويطلبُ منهم الثناءَ بها وذكرها والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحبُّ ذلك من عباده حيث كان صلاحُ العبد وفلاحُه وكمالُه فيه، فلله الحمد على نعمائه، وله الشكر على وافر فضله وجزيل عطائه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
المطلب الثاني: المواطن التي يتأكّد فيها الحمد
لقد مرّ معنا بيانُ فضل الحمد وعظيم ثوابه من خلال النصوص الواردة في ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تدل على أنّ الحمد من أفضل الطاعات وأجلِّ القُربات التي يتقرّب بها العبدُ إلى الله - تعالى -.
والحمدُ مطلوبٌ من المسلم في كلِّ وقت وحين؛ إذ إنَّ العبد في كلِّ أوقاته متقلِّبٌ في نعمة الله، وهو - سبحانه - خالقُ الخلق ورازقهم، وأسبغ عليهم نعمَه ظاهرة وباطنة، دينية ودنيوية، ودفع عنهم النِّقم والمكاره، فليس بالعبادٍ من نعمة إلاّ وهو مولّيها، ولا يدفع الشرَّ عنهم سواه، فهو سبحانه يستحقّ منهم الحمد والثناء في كلِّ وقتٍ وحين، كما أنّه سبحانه يستحقُّ الحمدَ لكمال صفاته، ولِما له من الأسماء الحسنى والنعوت العظيمة التي لا تنبغي إلاّ له، فكلُّ اسم من أسمائه، وكلُّ صفةٍ من صفاته يستحقُّ عليها أكملَ الحمد والثناءِ، فكيف بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة.(43/273)
وكما أنَّ الحمدَ مطلوبٌ من المسلم في كلِّ وقتٍ، إلاَّ أنَّ هناك أوقاتاً معيّنةً وأحوالاً مخصوصةً تمرُّ بالعبد يكون فيها الحمدُ أكثرَ تأكيداً.
ومن هذه الأوقات والأحوال حمدُ الله في الخطبة وفي استفتاح الأمور، وفي الصلاة، وعقِب الطعام والشراب واللباس، وعند العطاس، ونحو ذلك من المواطن التي ورد في السنة تخصيصها بتأكّد الحمد فيها، ولعلّ من الحسن أن نقف مع بعض النصوص المشتملة على ذكر الأوقات والمواطن التي يتأكّد فيها الحمدُ ممّا وردت به سنّة النبي صلى الله عليه وسلم.(43/274)
- فمن هذه المواطن حمد الله عند الفراغ من الطعام والشرب، قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلةَ فيحمدُه عليها ويشربَ الشربةَ فيحمدُه عليها"، وروى الترمذي بإسناد حسن عن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكلَ طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ منِّي ولا قوّةٍ، غفر له ما تقدّم من ذنبه" (1) وروى البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمدُ لله حمداً كثيراً طيّباً مُباركاً فيه، غير مَكْفِيٍّ، ولا مُوَدَّعٍ، ولا مستغنى عنه ربّنا" (2) وروى النسائي في السنن الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن جُبير: أنّه حدّثه رجل خَدمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثماني سنين أنّه كان يسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قَرَّب إليه طعاماً يقول: "بسم الله"، وإذا فرغ من طعامه قال: "اللهمَّ أطعمتَ وسقيتَ وأغنيتَ وأقْنيتَ وهدَيتَ وأحييتَ، فلك الحمد على ما أعطيتَ" (3)
__________
(1) صحيح مسلم (رقم:2734) .
(2) سنن الترمذي (رقم:3458) ، وحسّنه العلاّمة الألباني في الإرواء (7/48) .
(3) صحيح البخاري (رقم:5459) .(43/275)
- ومِن مواطن الحمد حمدُ الله في الصلاة، ولا سيّما عند الرفع من الركوع، ففي صحيح مسلم عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه قال: "سمع الله لمن حمده، ربّنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرض، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعد"، وفيه - أيضاً - عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهمَّ ربَّنا لك الحمد، ملءَ السموات وملءَ الأرض، وملءَ ما شئتَ من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبد، اللهمَّ لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطِيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدّ"، وروى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزُّرَقيِّ رضي الله عنه قال: كنَّا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسَه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده"، قال رجلٌ وراءه: ربّنا لك الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه، فلمّا انصرف قال: "مَن المتكلِّم؟ " قال: أنا، قال: "قد رأيتُ بضعةً وثلاثين مَلَكاً يبتدرونها أيّهم يكتبها أوّل"، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهمَّ لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمدُ أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحقُّ، ووعدُك حقٌّ، ولقاؤُك حقٌّ، والجنّةُ حقٌّ، والنار حقٌّ، والنبيّون حق ... "، إلى آخر الحديث. وروى مسلمٌ في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجلٌ: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن القائل كذا وكذا؟ " فقال رجل من القوم: أنا قلتُها يا رسول الله. قال: "عجبتُ لها فُتحت لها أبواب السماء"، قال ابن عمر: فما تركتها منذ سمعت رسول الله(43/276)
يقولهنَّ.
- ومن المواطن التي يتأكّد فيها الحمد حمدُ الله في ابتداء الخُطب والدروس، وفي ابتداء الكتب المصنّفة ونحوِ ذلك، روى أهل السنن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خُطبةَ الحاجة: "الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلّ فلا هادي له"، ويُستحبّ البدء به في تعليم الناس وفي الخطب سواءً كانت خطبةَ نكاح أو خطبةَ جمعة أو غيرهما.
كما يُستحبُّ الحمد عند حصول نعمة أو اندفاع مكروه، سواءً حصل ذلك للحامِد نفسه أو لقريبه أو لصاحبه أو للمسلمين، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُتي ليلة أُسريَ به بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال له جبريل عليه السلام: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذتَ الخمر غَوَت أمَّتُك"، وفي سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استجدَّ ثوباً سمّاه باسمه عِمامة أو قميصاً أو رداء ثم يقول: "اللهمّ لك الحمد أنتَ كسوتنيه أسألك خيرَه وخيرَ ما صُنع له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنع له".
- ويتأكّد الحمدُ إذا عطس العبدُ، والعطاس نعمة عظيمة من نعم الله على عباده؛ إذ به يزول المحتقن في الأنف، والذي قد يكون في بقائه أذى أو ضررٌ على العبد، ولهذا يتأكّد على العبد حمدُ الله على هذه النعمة، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عطس أحدكم فليقُل: الحمد لله، وليَقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلحُ بالَكم".(43/277)
ويُستحب للمسلم أن يحمد الله إذا رأى مبتلىً بعاهةٍ أو نحوها، ففي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن رأى مبتلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلاك به وفضّلني على كثير ممّن خلق تفضيلاً لم يصبه ذلك البلاءُ".
كما ينبغي للمسلم أن يكون حامداً لله في سرّائه وضرّائه، وفي شدّته ورخائه، وفي سائر شؤونه، وروى ابن ماجه في سننه، والحاكم في مستدركه عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبّه قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات"، وإذا رأى ما يكره قال: "الحمد لله على كلِّ حال".
المطلب الثالث: في بيان موجبات الحمد، وأنواعه
لا ريب أنَّ الحمدَ كلَّه لله ربِّ العالمين، فإنّه سبحانه المحمود على كلِّ شيء، وهو المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه، والحمدُ أوسعُ الصفات وأعمُّ المدائح وأعظم الثناء، والطرقُ إلى العلم به في غاية الكثرة؛ لأنَّ جميعَ أسمائه - تبارك وتعالى - حمدٌ، وصفاته حمدٌ، وأفعاله حمدٌ، وأحكامه حمدٌ، وعدله حمدٌ، وانتقامه من أعدائه حمدٌ، وفضله وإحسانه إلى أوليائه حمدٌ، والخلق والأمر إنّما قام بحمده ووُجد بحمده وظهر بحمده، وكان الغاية منه هي حمده، فحمدُه سبحانه سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله، فحمده روح كلِّ شيء، وقيامُ كلّ شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره أمرٌ مشهودٌ بالأبصار والبصائر.
وقد نبّه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأنْ حَمِدَ نفسَه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحمد نفسه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرّده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك إلى غير ذلك من أنواع ما حمد اللهُ به نفسه في كتابه.(43/278)
ولهذا فإنَّ من الطرق العظيمة الدالة على شمول معنى الحمد وتناوله لجميع الأشياء معرفةَ العبد لأسماء الربِّ - تبارك وتعالى - وصفاته، وإقرارَه بأنَّ للعالَم إلهاً حيًّا جامعاً لكلِّ صفة كمال، واسمٍ حسنٍ وثناء جميل وفعل كريم، وأنّه سبحانه له القدرة التامَّةُ والمشيئةُ النافذة والعلم المحيط، والسمعُ الذي وسع الأصوات، والبصرُ الذي أحاط بجميع المبصرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات، والملكُ الكامل الذي لا يخرج عنه ذرّة من الذرّات، والغنى التامُّ المطلق من جميع الجهات، والحكمة البالغة المشهودة آثارها في الكائنات، والعزّة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات، والكلمات التامّات النافذات التي لا يجاوزهنّ بَرٌّ ولا فاجر من جميع البريّات، واحدٌ لا شريك له في ربوبيّته ولا في إلهيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرّة من ذرّات ملكه، وهو - سبحانه - قيّوم السموات والأرضين إله الأولين والآخرين، ولا يزال - سبحانه - موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، منزَّهاً عن أضدادها من النقائص والعيوب، فهو الحيّ القيوم الذي لكمال حياته وقيّوميّته لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، مالكُ السموات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكلِّ شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقطُ ورقةٌ إلاَّ بعلمه، ولا تتحرّك ذرّةٌ إلاّ بإذنه، يعلم دبيبَ الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليه الملك، ويعلم ما سيكونُ منها حيث لا يطلع عليه القلب، البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرّة الصغيرة وأعضاءَها ولحمَها ودمَها ومخَّها وعروقَها، ويرى دبيبَها على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع، كما يرى ما فوق السموات السبع، السميعُ الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه، وسع سمعُه الأصوات فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه(43/279)
عليه، ولا يُشغلُه منها سمع عن سمع، ولا تغلطُه المسائل، ولا يبرمُه كثرة السائلين، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "الحمد لله الذي وسع سمعُه الأصوات، لقد جاءت المجادِلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني ليخفى عليّ بعضُ كلامها، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ واللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} "، القديرُ الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، ويجعل المؤمنَ مؤمناً والكافرَ كافراً، والبرَّ برًّا والفاجرَ فاجراً، ولكمال قدرته - سبحانه - لا يحيط أحدٌ بشيء من علمه إلاّ بما شاء أن يُعلمه إيّاه، ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيّامٍ وما مسَّه من لغوب، ولا يُعجزه أحدٌ من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إذنه إليه، ولكمال عظمته وعلوّه وسِعَ كرسيُّه السموات والأرض، ولم تسعه أرضُه ولا سمواتُه، ولم تُحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كلِّ شيء، وهو بكلِّ شيء محيط، يقول الله - تعالى - في أوّل سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقاًّ إِنَّهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ(43/280)
وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(43/281)
وهو - سبحانه - يحبُّ رسُلَه ويُحبُّ عبادَه المؤمنينَ وهم يحبُّونه ويحمدونه، بل لا شيء أحبُّ إليهم منه، ولا أشوقَ إليهم من لقاءه، ولا أقرَّ لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه، وهو - سبحانه - له الحكمة البالغة في خلقه وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلُّ نقمةٍ منه عدلٌ، وهو - سبحانه - أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرحُ بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلِكة بعد فقدها واليأس منها. وهو - سبحانه - رحيمٌ بعباده لم يُكلِّفهم إلاَّ وُسعهم وهو دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم بخلاف وسعهم فإنَّه ما يسعونه ويسهل عليهم ويفضل قدرهم عنه، ولا يعاقب - سبحانه - أحداً بغير فعله، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعل ما لا قدرة له على تركه، وهو - سبحانه - حكيمٌ كريمٌ جوادٌ ماجدٌ محسنٌ وَدودٌ صَبورٌ شَكورٌ، يُطاعُ فيَشكرُ، ويُعصى فيَغفِر، لا أحد أصبر على أذى سمعه منه، ولا أحد أحبُّ إليه المدح منه، ولا أحد أحبُّ إليه العذر منه، ولا أحد أحبُّ إليه الإحسان منه، فهو محسن يحبُّ المحسنين، شَكور يحبُّ الشاكرين، جميلٌ يحب الجمال، طيِّبٌ يحبُّ كلَّ طيِّب، عليم يحب العلماءَ من عباده، كريمٌ يحبُّ الكرماء، قويٌّ والمؤمن القويُّ أحبُّ إليه من المؤمن الضعيف، برٌّ يحبُّ الأبرار، عدلٌ يحبُّ أهل العدل، حييٌّ سِتِّيرٌ يحبُّ أهل الحياء والستر. وهو - سبحانه - يحبُّ أسماءَه وصفاته ويحبُّ المتعبِّدين له بها، ويحبُّ من يسأله ويمدحه بها، ويحبُّ من يعرفها ويعقلها ويثني عليه بها، ويحمده ويمدحه بها كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أحبُّ إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه، ولا أحد أغيرُ من الله من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله من أجل ذلك(43/282)
أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين" (1)
وبهذا يُعلم أنَّ من كان له نصيب من معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العليا الواردة في كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم عَلِمَ تَمام العلم أنَّ اللهَ لا يكون له من ذلك إلاَّ ما يوجب الحمد والثناء، فالحمد موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة، ولا يُخْبَرُ عنه - سبحانه - إلاَّ بالحمد، ولا يُثنى عليه إلاَّ بأحسن الثناء، كما لا يسمّى إلاَّ بأحسن الأسماء، فكلُّ صفة عليَا واسم حسن وثناء جميل، وكلُّ حمدٍ ومدحٍ وتسبيحٍ وتنزيهٍ وتقديسٍ وإجلالٍ وإكرامٍ فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمِّها وأدومِها. فسبحان الله وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه. فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا الكريمُ ويرضى.
وبهذا - أيضاً - يتبيَّن أنَّ حمد الله نوعان: حمدٌ على إحسانه إلى عباده وهو من الشكر، وحمدٌ لما يستحقُّه هو بنفسه من صفات كماله ونعوت جلاله سبحانه، وقد كان أكثر الحديث فيما سبق عن حمد الله على أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة، وأنَّ عِلم العبد بها علماً صحيحاً هو من أعظم موجبات قيامه بحمد الله على أحسن وجه وأتمِّ حالٍ.
__________
(1) صحيح مسلم (رقم:2760) .(43/283)
وأمَّا حمد الله على نعمه وآلائه، وهو النوع الثاني من أنواع الحمد، فقد ورد في شأنه نصوصٌ كثيرةٌ، يقول الله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاَنَّى تُأْفَكُونَ} ، ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِيِ الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} ، ويقول تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} (1) ويقول تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} (2) فنِعمُ الله على عباده كثيرةٌ ومتنوّعةٌ، وكلُّ نعمة منها موجبة لحمد المُنعِم سبحانه، وكما أنَّ أسباب الحمد وموجباته متنوِّعةٌ متعدِّدةٌ، فكذلك الحمدُ تنوَّع بتنوّعها وكثُرَ بكثرتها، وقد فصَّل ابن القيّم - رحمه الله - الحديث عن هذا النوع في كتابه ((طريق الهجرتين)) ، وذكر - رحمه الله - أنَّ هذا النوع من الحمد حمد النِّعم والآلاء مشهودٌ للخليقة برِّها وفاجرِها، مؤمنِها وكافرِها من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبرّه ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرّين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق، بل ابتداءً منه بمجرّد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المِحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهداية خاصّته وعباده إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم
__________
(1) سورة: لقمان، الآية: (20) .
(2) سورة: النحل، الآية: (53) .(43/284)
الإيمان وأيدهم بروح منه، وسمّاهم المسلمين مِن قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبّب إليهم بنعمه مع غناه، وتبغضّهم إليه بالمعاصي وفقرهم إليه، ومع هذا كلِّه فاتّخذ لهم داراً، وأعدّ لهم فيها من كلِّ ما تشتهيه الأنفسُ وتلَذُّ الأعين، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النَّعيم والحَبرة والسرور والبهجة ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرّسل يدعونهم إليها، ثم يسَّر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه المدّةِ القصيرة جدًّا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم، وضَمِن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً، وإن أساءوا واستغفروا أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جَنَوه من السيّئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات وذكّرهم بآلائه، وتعرَّف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحساناً، لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عمّا نهاهم عنه حمايةً وصيانةً لهم لا بُخلاً منه عليهم، وخاطبهم بألطف خطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال، وصرّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسع لهم طرقَ العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرّفهم الأسباب التي تدنيهم مِن رضاه، وتبعدهم عن غضبه، ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسمّيهم بأحسن أسمائهم، كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ} (1) {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} (2) {قُلْ لِعِبَادِي} (3) {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِي} (4) فيخاطبهم بخطاب الوِداد والمحبّة والتلطّف، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
__________
(1) سورة: إبراهيم، الآية: (34) .
(2) سورة: النور، الآية: (31) .
(3) سورة: الزمر، الآية: (53) .
(4) سورة: إبراهيم، الآية: (31) .(43/285)
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} (2) {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (3) وأكثرُ القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودّد والتحنّن واللطف والنصيحة البالغة.
يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} ، قال ابن القيّم - رحمه الله -: "فتحت هذا الخطاب: إني عاديت إبليس وطردتُه من سمائي وباعدته من قربي؛ إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريّته من دوني وهم أعداؤكم، فليتأمّل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب وشدّة لصوقه بالقلوب والتباسه بالأرواح.
ثم إنَّه - سبحانه - قد أعلمَ عباده بأنَّه لا يرضى لهم إلاّ أكرمَ الوسائلِ
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: (186) .
(2) سورة: البقرة، الآيات: (21، 22) .
(3) سورة: لقمان، الآية: (33) .(43/286)
وأفضلَ المنازلِ، وأجَلَّ العلوم والمعارفِ، قال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمُ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ، وقال: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً} ، وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (1) وقال - تعالى -: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} (2)
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: (3) .
(2) سورة: البقرة، الآية: (185) .(43/287)
ثم هو - سبحانه - لم يخلق عبادَه لحاجة منه إليهم، ولا ليتكثَّر بهم من قلّةٍ، ولا ليتعزَّز بهم من ذِلَّة، بل كما قال - سبحانه -: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينِ} ، وقال - سبحانه - عقِب أمره لعباده بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنَيٌّ حَمِيدٌ} ، فهو - سبحانه - غنيٌّ عما ينفقون أن ينالَه منه شيء، حميد مستحقٌّ المحامد كلّها، فإنفاق العباد لا يسدُّ منه حاجة ولا يوجب له حمداً، بل هو الغنيُّ بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُ العباد نفعه عائدٌ لهم وإحسانهم عائدٌ إليهم، كما قال - سبحانه -: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (1) وقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (2) وقال: {مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (3) .
هذا ومن أراد مطالعة أصول النِّعم وما توجبه من حمد الله وذكرِه وشكره وحسن عبادتِه فَليُدِمْ سرح الذِّكر في رياض القرآن الكريم، وليتأمّل ما عدّد الله فيه من نعمه وتعرّف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: (267) .
(2) سورة: الإسراء، الآية: (7) .
(3) سورة: الروم، الآية: (44) .(43/288)
وينبغي أن يُعلم هنا أنَّ الحمد نفسه هو أفضل نعم الله على عباده، وهو أجل من نعم الله التي أنعم بها على العبد من رزقه وعافيته وصحته والتوسعةِ عليه في دنياه ونحوِ ذلك، ويشهد لهذا ما رواه ابنُ ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد بنعمة فقال: "الحمد لله إلا كان ما أعطى أفضل ممّا أخذ".
وروي هذا - أيضاً - عن الحسن البصري موقوفاً عليه، رواه ابن أبي الدنيا في كتابه الشكر، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره أنّ بعض عمال عمر بن عبد العزيز كتب إليه: إني بأرضٍ قد كثرت فيها النعم، حتى لقد أشفقتُ على أهلها من ضعف الشكر، فكتب إليه عمر: "إنِّي قد كنت أراك أعلم بالله ممّا أنت، إنَّ الله لم ينعم على عبده نعمة، فحمد الله عليها إلا كان حمدُه أفضلَ من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال الله - تعالى - {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ} ، وقال الله {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَى إِذَا جَآؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} ، وأيُّ نِعمة أفضل من دخول الجنة".(43/289)
فهذا فيه أوضحُ دلالةٍ على أنَّ حمدَ الله على النِّعمة أفضلُ منَ النِّعمة نفسها، وقد استشكل هذا بعضُ أهل العلم وقال: لا يكون فعلُ العبد أفضلَ من فعل الربِّ عز وجل، أورد هذا الاستشكال ابنُ رجب في كتابه ((جامع العلوم والحكم)) وأجاب عنه جواباً وافياً مسدَّداً فقال - رحمه الله -: "المرادُ بالنِّعمِ النِّعمُ الدنيويةُ، كالعافية والرزق والصحة ودفع المكروه ونحوِ ذلك، والحمدُ هو من النعم الدينية، وكلاهما نعمةٌ من الله، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده، فإنَّ النِّعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكرُ كانت بليَّة، كما قال أبو حازم: كلُّ نعمة لا تقرِّب من الله فهي بلية. فإذا وفَّق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر كانت هذه النعمة خيراً من تلك النعم وأحبَّ إلى الله عز وجل منها، فإنَّ الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من أموالهم، فهم يبذلونها طلباً للثناء، والله عز وجل أكرمُ الأكرمين وأجودُ الأجودين، فهو يبذل نعمه لعباده، ويطلب منهم الثناء بها وذكرها والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غيرُ محتاجٍ إلى شكرهم، لكنَّه يُحبُّ ذلك من عباده، حيث كان صلاحُ العبد وفلاحُه وكمالُه فيه، ومن فضله أنَّه نسب الحمدَ والشكرَ إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أنَّه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ثمَّ استقرض منهم بعضَه ومَدَحَهم بإعطائه، والكلُّ ملكه، ومن فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك".اهـ كلامه - رحمه الله -.(43/290)
وبه يتبين معنى الحديث المتقدم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان ما أعطى أكثر مما أخذ"فالعبد أعطى الحمد، وحمده نفسه نعمة من الله عليه، ولولا توفيقُ الله وإعانتُه لما قام بحمده، فنعمة الله على عبده بتوفيقه للحمد أفضل من نعمة الله عليه بالصحة والعافية والمال ونحو ذلك، والكلُّ نعمة الله، قال ابن القيم - رحمه الله -: "فنعمة الشكر أجَلُّ من نعمة المال والجاه والولد والزوجة ونحوها". اهـ.
ولهذا فإنَّ حمد الله عز وجل وشكره على نعمه هو بحَدِّ ذاته نعمةٌ عظيمةٌ تستوجب حمداً آخر وشكراً متجدداً.
روى ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر عن بكر بن عبد الله قال: "ما قال عبد قط الحمد لله إلا وجبت عليه نعمة بقوله: الحمد لله فما جزاء تلك النعمة؟ جزاؤها أن يقول الحمد لله فجاءت أخرى، ولا تنفد نعم الله عز وجل".
ولذا قال الإمام الشافعي - رحمه الله - في حمد الله: "الحمد لله الذي لا تؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها".
أي: إنَّ العبد إذا حمد الله فهذه نعمة أخرى حادثة تستوجب حمداً آخر.
قال ابن أبي الدنيا: أنشدني محمود الورّاق:
إذا كان شُكري نعمةَ الله نعمةً
عَلَيَّ له في مثلِها يجبُ الشُّكرُ
فكيف وقوعُ الشكرِ إلاَّ بفضله
وإن طالت الأيامُ واتَّصَلَ العُمْرُ
إذا مسَّ بالسرَّاء عَمّ سرورُها
وإذا مسَّ بالضرَّاء أعقَبها الأجْرُ
وما منهما إلاَّ فيه مِنّةٌ
تَضِيقُ بهَا الأَوْهامُ والبِرُّ والبحرُ
وقال آخر في المعنى نفسه:
لو كلُّ جارحةٍ مِنِّي لها لغةٌ
تُثني عليكَ بما أوْلَيْتَ من حَسَنِ
لكان ما زاد شكري إذ شكرتُ به
إليك أبلغَ في الإحسانِ والمِنَنِ(43/291)
فاللَّهمَّ لك الحمد شكراً، ولك المن فضلاً، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، لك الحمد بكلِّ نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، لك الحمد على ذلك حمداً كثيراً، اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد ربَّنا إذا رضيت.(43/292)
تابع دراسات في الباقيات الصالحات
المطلب الرابع: أفضلُ صِيَغِ الحمد وأكملُها
تقدّم بيانُ فضل الحمد وعظم ثوابه عند الله، والإشارةُ إلى بعض صِيَغه الواردة في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كقول: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وقول: "الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى"، ونحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم مما حمد به الربُّ نفسه، وما ورد في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مما حمد به الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه، وهي صيغٌ عظيمةٌ مشتملةٌ على أحسن الحمد وأكمله وأوفاه، وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ أفضل صيغ الحمد "الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده"، واحتجّ بما ورد عن أبي نصر التمّار أنَّه قال: قال آدم عليه السلام: يا رب شغلتَني بكسب يديّ فعلّمني شيئاً من مجامع الحمد والتسبيح، فأوحى الله إليه يا آدمُ إذا أصبحت فقل ثلاثاً وإذا أمسيت فقل ثلاثاً: "الحمدلله ربِّ العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، فذلك مجامع الحمد".
وقد رُفع ذلك للإمام المحقق ابن قيِّم الجوزية – رحمه الله - فأنكره على قائله غايةَ الإنكار وبيَّن - رحمه الله - أنَّ ذلك لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الصحاح أو السنن أو المسانيد ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وبَسَط القول - رحمه الله - في ذلك في رسالة مفردة.
قال - رحمه الله -: "هذا الحديث ليس في الصحيحين ولا في أحدهما ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وإنَّما يُروى عن أبي نصر التمّار عن آدم أبي البشر، لا يَدري كم بين أبي نصر وآدم إلا الله - تعالى -، وذكر الحديث المتقدّم، ثم قال: فهذا لو رواه أبو نصر التمّار عن سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم لما قبلت روايته لانقطاع الحديث فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بروايته له عن آدم.(43/293)
وقد ظنَّ طائفة من الناس أنَّ هذا الحمد بهذا اللفظ أكمل حمدٍ حُمِد اللهُ به وأفضله وأجمعه لأنواع الحمد، وبنوا على هذا مسألة فقهيّة فقالوا: لو حلف إنسانٌ ليحمدنَّ اللهَ بمجامع الحمد وأجلِّ المحامد فطريقه في برِّ يمينه أن يقول: "الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده"قالوا: ومعنى يوافي نعمه أي: يلاقيها فتحصل النعم معه، ويكافئ - مهموز - أي: يساوي مزيد نعمه، والمعنى: أنَّه يقوم بشكر ما زاد من النعم والإحسان".
قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "والمعروف من الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به رسوله صلى الله عليه وسلم وسادات العارفين بحمده من أمته ليس فيه هذا اللفظ ألبتة، وأورد بعض صيغ الحمد الواردة في القرآن ثم قال: فهذا حمدُه لنفسه الذي أنزله في كتابه وعلَّمه لعباده، وأخبر عن أهل جنَّته به، وهو آكد من كلِّ حمدٍ وأفضلُ وأكملُ، كيف يبرُّ الحالف في يمينه بالعدول إلى لفظ لم يحمد به نفسه، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سادات العارفين من أمته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حمد الله في الأوقات التي يتأكّد فيها الحمد لم يكن يذكر هذا الحمدَ ألبتة كما في حمد الخطبة، والحمد الذي تستفتح به الأمور، وكما في تشهّد الحاجة، وكما في الحمد عقب الطعام والشراب واللباس والخروج من الخلاء، والحمد عند رؤية ما يسرّه وما لا يسرّه ... ".
ثم ساق - رحمه الله - جملةً كبيرةً مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من صيغ الحمد مما يقال في مثل هذه الأوقات، ثم قال: "فهذا جُملُ مواقع الحمد في كلام الله ورسوله وأصحابه والملائكة قد جُلِّيتْ عليك عرائسها وجُلِبَتْ إليك نفائسها، فلو كان الحديث المسؤول عنه أفضلَها وأكملَها وأجمعَها كما ظنّه الظانّ لكان واسطة عقدها في النظام، وأكثرِها استعمالاً في حمد ذي الجلال والإكرام". اهـ.(43/294)
وبهذا التحقيق الذي ذكره - رحمه الله - يتبيّن ضعف هذه الصيغة في الحمد من جهة الرواية، وأنها لو كانت صحيحةً ومشتملةً على أكمل الصيغ لما عدل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما آثر غيرها عليها، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبّ الجوامع من الدعاء، ويدَعُ ما سوى ذلك"، رواه أبو داود وغيرُه.
وسبق أن مرّ معنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الدعاء الحمدلله"، وبهذا يُعلم أنَّ هذه الصيغة في الحمد لو كانت أكملَ لما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنَّه - أيضاً - لا يمكن للعبد أن يحمد الله حمداً يوافي نعمة واحدة من نعم الله، فضلاً عن موافاته جميع نعم الله، ولا يمكن أن يكون فعلُ العبد وحمدُه له مكافئاً للمزيد، قال ابن القيّم - رحمه الله -: "فهذا من أمحل المحال، فإنّ العبد لو أقْدَرَه الله على عبادة الثَّقلين لم يقم بشكر أدنى نعمة عليه.... فمن الذي يقوم بشكر ربِّه الذي يستحقه - سبحانه - فضلاً عن أن يكافئه".
وقال - رحمه الله -: " ... ولكن يحمل على وجه يصح، وهو أنَّ الذي يستحقه الله - سبحانه - من الحمد حمداً يكون موافياً لنعمه ومكافئاً لمزيده وإن لم يَقدِر العبدُ أن يأتي به".
وأحسنُ من هذا وأكملُ ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أبي أمامة الباهلي أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه غير مكفيٍّ، ولا مودَّع، ولا مستغنى عنه ربّنا"، فلو كانت تلك الصيغة وهي قوله: "حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده"أكمل وأفضل من هذه لما عدل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه لا يختار إلاّ الأفضل والأكمل.(43/295)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في معنى هذا الحديث: "المخلوق إذا أنعم عليك بنعمة أمكنك أن تكافئه، ونعمُهُ لا تدوم عليك، بل لا بدّ أن يودِّعك ويقطعها عنك، ويمكنك أن تستغني عنه، والله عز وجل لا يمكن أن تكافئه على نعمه، وإذا أنعم عليك أدام نعمَه، فإنّه هو أغنى وأقنى، ولا يُستغنى عنه طرفة عين". اهـ.
وفيه بيانٌ لعظم دلالات الأدعية المأثورة والأذكار الثابتة وعمق معانيها وسلامتها من الخطأ الذي قد يعتري ما سواها، وبهذا تكون السلامةُ وتحصيل الكامل.
فالحمد لله بمحامده التي حمد بها نفسه، وحمده بها الذين اصطفى من خلقه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى.
المطلب الخامس: تعريفُ الحمد، وبيان الفرق بينه وبين الشكر
الحمد في اللغة نقيض الذمِّ، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "الحاء والميم والدال كلمةٌ واحدة وأصلٌ واحد يدل على خلاف الذمّ، يُقال: حمدتُ فلاناً أحمده، ورجلٌ محمودٌ ومحمدٌ إذا كثرت خصالُه المحمودة غير المذمومة. ولهذا الذي ذكرناه سُمِّيَ نبيّنا محمداً صلى الله عليه وسلم". اهـ.
وقال الليث: أحمدت الرجل وجدته محموداً، وكذلك قال غيرُه: يُقال أتينا فلاناً فأحمدناه وأذممناه أي: وجدناه محموداً أو مذموماً.
وقوله - تعالى -: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فيه تنبيه على أنّه - صلوات الله وسلامه عليه - محمود في أخلاقه وأفعاله ليس فيه ما يُذمّ، وكذلك قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} فمحمّدٌ ههنا وإن كان اسماً له عَلَماً عليه ففيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بوافر معناه، وأما سواه فقد يُسمَّى بذلك ويكون له حظ من الوصف الذي دلّ عليه هذا الاسم وقد لا يكون، أما الرسول الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - فهو محمّدٌ اسماً ووصفاً.(43/296)
فالحمد هو الثناء بالفضيلة وهو أخصُّ من المدح وأعمُّ من الشكر، فإنَّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ومما يكون منه وفيه بالتسخير، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمد يكون في الثاني دون الأول، أي: أنَّ الإنسان يُحمد على بذل المال والشجاعة والعلم ونحو ذلك مما يكون منه باختياره، ولا يُحمد على صباحة الوجه وطول القامة وحسن الخِلقة ونحو ذلك مما ليس له فيه اختيار.
والشكر لا يُقال إلاَّ في مقابلة نعمة، فكلُّ شكر حمد، وليس كلُّ حمدٍ شكراً، وكلُّ حمد مدح، وليس كلُّ مدح حمداً.
قال ابن القيّم - رحمه الله -: "الفرق بين الحمد والمدح أن يُقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخباراً مجرّداً من حبٍّ وإرادة أو مقروناً بحبّه وإرادته، فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد، فالحمد إخبارٌ عن محاسن الممدوح مع حبِّه وإجلاله وتعظيمه". اهـ.
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن الحمد والشكر ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد أو معنيان؟ وعلى أيّ شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟(43/297)
فأجاب - رحمه الله - بقوله: "الحمد يتضمّن المدحَ والثناءَ على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلاّ على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمِن هذا الوجه الحمد أعمّ من الشكر؛ لأنّه يكون على المحاسن والإحسان، فإنّ الله يُحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ، وقال: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} (1) وقال: {الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَآءُ} (2) وأما الشكر فإنّه لا يكون إلاّ على الإنعام، فهو أخصُّ من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل:
أفادتكم النَّعماءُ مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجّبا
ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} ، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعمّ من جهة أنواعه، والحمد أعمّ من جهة أسبابه، ومن هذا الحديثُ: "الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره"، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها" ". اهـ كلامه - رحمه الله -.
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: (1) .
(2) سورة: سبأ، الآية: (1) .(43/298)
وبه يتبيّن أن بين الحمد والشكر عموماً وخصوصاً من وجه، فيجتمعان فيما إذا كان باللسان في مقابلة نعمة، فهذا يُسمَّى حمداً ويُسمَّى شكراً، وينفرد الحمد فيما إذا أثنى العبد على ربّه بذكر أسمائه الحسنى ونعوته العظيمة فهذا يُسمَّى حمداً، ولا يُسمَّى شكراً، وينفرد الشكر فيما إذا استعمل العبد نعمة الله في طاعة الله فهذا يُسمى شكراً ولا يُسمَّى حمداً.
إنَّ حمدَ الله هو الثناءُ على الله بذكر صفاته العظيمة ونعمِه العميمة مع حبّه وتعظيمه وإجلاله، وهو مختصٌّ به - سبحانه - لا يكون إلاّ له، فالحمد كلّه لله رب العالمين؛ "ولذلك قال - سبحانه -: {الحَمْدُ للهِ} بلام الجنس المفيدة للاستغراق، فالحمد كلُّه له إمّا ملكاً وإما استحقاقاً، فحمده لنفسه استحقاق، وحمد العباد له وحمدُ بعضهم لبعض ملكٌ له ... فالقائل إذا قال: الحمد لله تضمّن كلامه الخبر عن كلِّ ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيطٍ متضمّنٍ لكلّ فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدَّرة، وذلك يستلزم إثبات كلِّ كمال يُحمد عليه الربُّ تعالى؛ ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد".
وإذا قيل: الحمد كلّه لله، فإنَّ هذا له معنيان:
أحدهما: أنّه محمودٌ على كلِّ شيء، وهو ما يُحمد به رسله وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده - تبارك وتعالى -، بل هو المحمود بالقصد الأول وبالذات، وما نالوه من الحمد فإنّما نالوه بحمده، فهو المحمود أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
والمعنى الثاني: أن يُقال: لك الحمد كلّه؛ أي: التامّ الكامل هذا مختصٌّ بالله ليس لغيره فيه شركه.
قال ابن القيّم - رحمه الله - بعد أن ذكر هذين المعنيين: "والتحقيق أنَّ له الحمد بالمعنيين جميعاً، فله عمومُ الحمد وكمالُه، وهذا من خصائصه - سبحانه -، فهو المحمود على كلِّ حال، وعلى كلِّ شيء أكمل حمد وأعظمه".(43/299)
فالحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله بمجامع حمده كلِّها ما علمنا منها وما لم نعلم.
المبحث الخامس:
في التكبير، فضله ومعناه
المطلب الأول: فضل التكبير ومكانته من الدِّين
إنَّ التكبير شأنُه عظيم وثوابُه عند الله جزيل وقد تكاثرت النصوص في الحث عليه والترغيب فيه وذكر ثوابه.
يقول الله - تعالى -: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، وقال - تعالى - في شأن الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) وقال - تعالى - في شأن الحج وما يكون فيه من نُسك يَتقرَّب فيه العبدُ إلى الله: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} (2) وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3)
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: (111) .
(2) سورة: البقرة، الآية: (185) .
(3) سورة: الحج، الآية: (37) .(43/300)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو بصدد بيان تفضيل التكبير وعظم شأنه: "ولهذا كان شعائرُ الصلاة والأذان والأعياد والأمكان العالية هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول الله أكبر، الله أعظم؛ ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقد إلا بلفظ التكبير، فلو قال: الله أعظم لم تنعقد به الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم". وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف وداود وغيرهم، ولو أتى بغير ذلك من الأذكار مثل: سبحان الله، والحمد لله لَم تنعقد به الصلاة.
ولأنَّ التكبيرَ مختصٌّ بالذكر في حال الارتفاع كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض كما في السنن عن جابر بن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك"........". اهـ.(43/301)
ثم إنَّ التكبيرَ مصاحِبٌ للمسلم في عبادات عديدة وطاعات متنوعة فالمسلم يكبر الله عند ما يكمل عدَّة الصيام، ويكبر في الحج كما سبق الإشارة إلى دليل ذلك من القرآن الكريم، وأما الصلاة فإنَّ للتكبير فيها شأناً عظيماً ومكانة عالية، ففي النداء إليها يشرع التكبير وعند الإقامة لها، وتحريمها هو التكبير، بل إنَّ تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة، ثم هو يصاحب المسلم في كلِّ خفض ورفع من صلاة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبّر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثمَّ يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلِّها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس".(43/302)
وبهذا فالتكبير يتكرر مع المسلم في صلاته مرات كثيرة، فالصلاة الرباعية فيها اثنتان وعشرون تكبيرة، والثنائية فيها إحدى عشرة تكبيرة، وكلُّ ركعة فيها خمسُ تكبيرات، وعلى هذا فالمسلم يكبر الله في اليوم والليلة في الصلوات الخمس المكتوبة فقط أربعاً وتسعين تكبيرة، فكيف إذا كان محافظاً مع ذلك على الرواتب والنوافل، وكيف إذا كان محافظاً على الأذكار التي تكون أدبار الصلوات وفيها التكبير ثلاثٌ وثلاثون مرة، فالمسلم إذا كان محافظاً على الصلوات الخمس مع السنن الرواتب وعددُها ثنتا عشرة ركعة مع الشفع والوتر ثلاث ركعات ومحافظاً على التكبير المسنون أدبار الصلوات ثلاثا وثلاثين مرة فإنَّ عدد تكبيره لله في يومه وليلته يكون ثلاثمائة واثنتين وأربعين تكبيرة، ولا ريب أنَّ هذا فيه دلالة على فضيلة التكبير حيث جعل الله للصلاة منه هذا النصيب الوافر، فإذا ضُمَّ إلى ذلك التكبيرُ في الأذان للصلاة والإقامة لها ممّن يؤذِن أو يُحافظ على إجابة المؤذِن، زاد بذلك عدد تكبيره في يومه وليلته، فإنَّ عدد ما يكون فيهما من تكبيرات في اليوم والليلة خمسون تكبيرة، فإنَّ عدد التكبير بذلك يزيد.
ثم إنَّ المسلم إذا كان محافظاً على التكبير المطلق غير المقيد بوقت فإن عدد تكبيره لله في أيامه ولياليه لا يحصيه إلا الله - سبحانه -.(43/303)
والتكبير ركنٌ من أركان الصلاة، فتحريمها لا يكون إلاّ به، وهذا يُشعِر ولا ريب بمكانة التكبير من الصلاة، وأنّ الصلاة إنما هي تفاصيل للتكبير الذي هو تحريمها، يقول ابن القيّم - رحمه الله -: " ... لا أحسن من كون التكبير تحريماً لها، فتحريمها تكبير الربّ تعالى الجامع لإثبات كلِّ كمال له، وتنزيهه عن كلِّ نقص وعيبٍ، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله، فالتكبير يتضمّن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيآتها، فالصلاة من أوّلها إلى آخرها تفصيل لمضمون ((الله أكبر)) ، وأيّ تحريم أحس-ن من هذا التحريم المتضمّن للإخلاص والتوحيد! ". اهـ.
وبهذا يتبيّن مكانةُ التكبير وجلالةُ قدره وعِظمُ شأنه من الدين، فليس التكبيرُ كلمةً لا معنى لها، أو لفظةً لا مضمون لها، بل هي كلمةٌ، عظيمٌ شأنها، رفيعٌ قدرها تتضمّن المعاني الجليلةَ والمدلولاتِ العميقةَ والمقاصد السامية الرفيعة.
قال ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} : "يقول وعظِّم ربَّك يا محمد بما أمرك أن تعظِّمه به من قول وفعل، وأطِعه فيما أمرك ونهاك لنفسه استحقاق، وحمد العباد له" (1)
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسير الآية نفسها: "أي: عظِّمه تعظيماً شديداً، ويظهر تعظيم الله في شدّة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه والمسارعة إلى كلِّ ما يرضيه".
وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ الدِّينَ كلَّه يُعدُّ تفصيلاً لكلمة ((الله أكبر)) فالمسلم يقوم بالطاعات جميعها والعبادات كلّها تكبيراً لله وتعظيماً لشأنه وقياماً بحقِّه سبحانه، وهذا ممّا يبيّن عظمةَ هذه الكلمة وجلالةَ قدرها، ولهذا يروى عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال: "قول العبد: الله أكبر، خيرٌ من الدنيا وما فيها"، فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
المطلب الثاني: في معنى التكبير وبيان مدلوله
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: (111) .(43/304)
التكبير هو تعظيم الربّ - تبارك وتعالى - وإجلاله، واعتقاد أنّه لا شيء أكبرُ ولا أعظمُ منه، فيصغر دون جلاله كلُّ كبير، فهو الذي خضعت له الرقاب وذلَّت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كلَّ شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوّه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره المخلوقات.
قال الإمام الأزهري في كتابه تهذيب اللغة: "وقول المصلي: الله أكبر، وكذلك قول المؤذِّن، فيه قولان:
أحدهما: أنّ معناه الله كبير، كقول الله جلّ وعزّ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} ، أي: هو هيّنٌ عليه، ومثله قول مَعنِ بن أوس: لعمرك ما أدري وإني لأوجلُ. معناه: وإني لوجلٌ.
والقول الآخر: أنّ فيه ضميراً، المعنى: الله أكبرُ كبيرٍ، وكذلك الله الأعزّ، أي: أعزُّ عزيزٍ، قال الفرزدق:
إنّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا
بيتاً دعائمُه أَعَزُّ وأطولُ
معناه: أعز عزيز، وأطول طويل". اهـ
والصواب من هذين القولين اللذين ذكرهما - رحمه الله - هو الثاني، بمعنى أن يكون اللهُ عند العبد أكبرَ من كلِّ شيء، أي: لا أكبرَ ولا أعظمَ منه، أما الأول فهو غيرُ صحيحٍ وليس هو معنى الله أكبر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التكبير يُراد به أن يكون (الله) عند العبد أكبر من كلِّ شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم لعديِّ بن حاتم: "يا عديّ ما يُفرُّك؟ أيُفرُّك أن يُقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إله إلاّ الله؟ يا عديّ ما يفرُّك. أيُفرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ "، وهذا يُبطل قولَ من جعل أكبر بمعنى كبير". اهـ.
وحديث عديٍّ هذا رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم بإسناد جيّد.
وبه يتبيّن أن معنى الله أكبر أي: من كلِّ شيء، فلا شيء أكبرُ ولا أعظمُ منه، ولهذا يُقال إنَّ أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال هي: الله أكبر، أي: صِفْهُ بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء، قال الشاعر:(43/305)
رأيتُ الله أكبر كلِّ شيء
محاولةً وأكثرهم جنوداً
والتكبير معناه كما تقدّم التعظيم، لكن ينبغي أن يُعلم أنّ التعظيم ليس مرادفاً في المعنى للتكبير، فالكبرياء أكمل من العظمة؛ لأنّه يتضمّنها ويزيد عليها في المعنى، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وفي قوله ((الله أكبر)) إثبات عظمته، فإنّ الكبرياء تتضمّن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل، ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: ((الله أكبر)) فإنّ ذلك أكمل من قول الله أعظم، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "يقول الله - تعالى -: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذّبته"، فجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء، ومعلوم أنّ الرداء أشرف، فلمّا كان التكبيرُ أبلغَ من التعظيم صرّح بلفظه، وتضمّن ذلك التعظيم". اهـ.
وها هنا أمرٌ ينبغي التنبّه له وعدم إغفاله، وهو أن المسلم إذا اعتقد وآمن بأنّ الله سبحانه وتعالى أكبر من كلِّ شيء، وأنّ كلَّ شيء مهما كبر يصغر عند كبرياء الله وعظمته، علمَ من خلال ذلك علم اليقين أن كبرياءَ الربِّ وعظمتَه وجلالَه وجمالَه وسائرَ أوصافه ونعوته أمرٌ لا يمكن أن تحيط به العقول أو تتصوّره الأفهام أو تدركه الأبصار والأفكار، فالله أعظم وأعظم من ذلك، بل إنّ العقولَ والأفهامَ عاجزةٌ عن أن تدركَ كثيراً من مخلوقات الرب - تبارك وتعالى -، فكيف بالرب - سبحانه -.
ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسيِّ خمسمائة عام، وبين الكرسيِّ والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
وروي عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلاّ كدراهم سبعة أُلقيت في ترس".(43/306)
وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".
وليتأمّل المسلم في عظم السماء بالنسبة إلى الأرض، وعظم الكرسيِّ بالنسبة إلى السماء، وعِظم العرش بالنسبة إلى الكرسيِّ، فإنّ العقولَ عاجزةٌ عن أن تدرك كمال هذه الأشياء أو أن تحيط بكُنْهِها وكيفيتها وهي مخلوقة، فكيف بالأمر إذاً في الخالق - سبحانه -، فهو أكبر وأجلُّ من أن تعرف العقولُ كُنْهَ صفاته أو تدرك الأفهامُ كبرياءَه وعظمتَه، ولهذا جاءت السنةُ بالنهي عن التفكّر في الله؛ لأنّ الأفكار والعقول لا تدرك كنه صفاته، فالله أكبر من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله عز وجل".
والتفكّرُ المأمور به هنا كما يبيّن ابن القيّم - رحمه الله - هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة، وهذا يتضح بالمثال، فالمسلم إذا أحضر في قلبه كبر هذه المخلوقات من سموات وأرض وكرسي وعرش ونحو ذلك، ثم أحضر في قلبه عجزه عن إدراك هذه الأشياء والإحاطة بها حصل له بذلك معرفة ثالثة وهي عظمة وكبرياء خالق هذه الأشياء وعجز العقول عن أن تدرك صفاته أو تحيط بنعوته - سبحانه -، يقول - سبحانه -: {وقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، فالله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الخاتمة
في بيان التلازم بين الكلمات الأربع(43/307)
الحمد لله أولاً وآخراً، والشكر له ظاهراً وباطناً على نعمه العديدة وآلائه الكثيرة، ومنها إتمام هذا البحث الذي تحدثتُ فيه عن الكلمات الأربع ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر)) وما ورد في فضلهنَّ إجمالاً وتفصيلاً، وما يتعلّق كذلك بمعانيهنَّ ومدلولهنّ، ولعلَّ من الحسن في ختام الحديث عن هؤلاء الكلمات أن أشير إلى ما بينهنَّ من ترابط وتلازم، وقد علمنا من خلال ما تقدّم أنَّ هؤلاء الكلمات هنَّ أفضل الكلام بعد القرآن الكريم وهنَّ من القرآن الكريم، وتقدّم معنا - أيضاً - الإشارة إلى جملة كبيرة من النصوص الدالة على عظم شأن ذكر الله - تعالى - بهؤلاء الكلمات الأربع وما يترتّب على ذلك من أجور كثيرة وفضائل وفيرة وخير مستمر في الدنيا والآخرة، ولا شك أنَّ هذا فيه أوضح إشارة على قوة الارتباط بين هذه الكلمات الأربع وشدة الصلة بينهنَّ.(43/308)
وهؤلاء الكلمات كما أوضح أهل العلم "شطران، فالتسبيح قرين التحميد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي ذر: "أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده"، وفي القرآن يقول الله - تعالى -: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} (1) وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (2) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، يتأوّل القرآن، هكذا في الصحاح عن عائشة - رضي الله عنها-، فجعل قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك" تأويل {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، وقد قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} ، وقال: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (3) والآثار في اقترانهما كثيرة.
__________
(1) صحيح مسلم (رقم:2731) .
(2) سورة البقرة، الآية (30) .
(3) سورة غافر، الآية (55) .(43/309)
وأمَّا التهليلُ فهو قرينُ التكبيرِ كما في كلمات الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاَّ الله أشهد أنَّ محمداً رسول الله، ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلاَّ الله، فهو مشتملٌ على التكبير والتشهد [في] أوله وآخره، وهو ذكر لله تعالى، وفي وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة والفلاح، فالصلاة هي العمل، والفلاح هو ثواب العمل، لكن جعل التكبير شفعاً والتشهد وتراً، فمع كلِّ تكبيرتين شهادة، وجعل أوله مضاعفاً على آخره، ففي أول الأذان يكبر أربعاً، ويتشهّد مرّتين، والشهادتان جميعاً باسم الشهادة، وفي آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذي لم يقترن به لفظ الشهادة.
... وكما جمع بين التكبير والتهليل في الأذان جمع بينهما في تكبير الإشراف، فكان على الصفا والمروة، وإذا علا شرفاً في غزوة أو حجة أو عمرة يكبر ثلاثاً ويقول: "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلاَّ الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده" يفعل ذلك ثلاثاً، وهذا في الصحاح، وكذلك على الدابة كبّر ثلاثاً وهلّل ثلاثاً فجمع بين التكبير والتهليل، وكذلك حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي فيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عدي ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: لا إله إلاَّ الله، فهل تعلم من إله إلاَّ الله؟ يا عدي ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر فهل من شيء أكبر من الله" فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين التهليل والتكبير" ".(43/310)
ثم إنَّ أفضل هؤلاء الكلمات هو التهليل لاشتماله على التوحيد الذي هو أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ثمن الجنة، ولا يصلح إسلام أحد إلاَّ به ومن كان آخر كلامه لا إله إلاَّ الله دخل الجنة، ومنزلة التحميد والتسبيح منه منزلة الفرع من الأصل، فالتهليل أصل وما سواه فرع له وتابع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلاَّ الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". فجعل - صلوات الله وسلامه عليه - التهليل أعلا وأرفع شعب الإيمان، وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله أفمن الحسنات لا إله إلاَّ الله؟ قال: هي أفضل الحسنات" (1) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداًّ، وقد تقدّم معنا جملة كبيرة منها.
ولا يعارض هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده"؛ إذ لا يلزم منه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن يكون أفضل مطلقاً بدليل أنَّ قراءة القرآن أفضل من الذكر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها في الركوع والسجود وقال: "إني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الربّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يستجاب لكم" (2)
__________
(1) صحيح البخاري (رقم:9) ، وصحيح مسلم (رقم:35) .
(2) صحيح مسلم (رقم:2731) .(43/311)
وها هنا أصل عظيم نبّه عليه شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو أنَّ الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة لم يجب أن يكون أفضل في كل حال ولا لكل أحد، بل المفضول في موضعه الذي شرع فيه أفضل من الفاضل المطلق، كما أنَّ التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن ومن التهليل والتكبير، والتشهد في آخر الصلاة والدعاء بعده أفضل من قراءة القرآن، فالتفضيل مختلف باختلاف الأحوال فقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أيُّ الكلام أفضل؟ فقال: "سبحان الله وبحمده"، هذا خرج على سؤال سائل، فربما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال السائل حالاً مخصوصة.
وعلى كلٍّ فالتفضيل مختلف باختلاف الأحوال، وإن كان التهليل أفضل مطلقاً والأحوال ثلاثة: حال يستحب فيها الإسرار ويكره فيها الجهر لأنَّها حال انخفاض كالركوع والسجود، فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير، وكذلك في بطون الأودية، وحال يستحب فيه الجهر والإعلان كالإشراف والأذان فهنا التهليل والتكبير أفضل من التسبيح، وحال يشرع فيه الأمران.
نسأل الله الكريم أن يوفقنا وجميع المسلمين لكل خير يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
الآداب: للبيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الأولى (1406هـ) .
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لابن بَلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة (1414هـ) .
الأسماء والصفات: للبيهقي، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي جدة، الأولى (1413هـ) .
أضواء البيان: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، عالم الكتب، بيروت.
البداية والنهاية: للحافظ ابن كثير، مكتبة المعارفة، بيروت، الثانية (1397هـ) .
بدائع الفوائد: لابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت.
بصائر ذوي التمييز: للفيروزأبادي، تحقيق: علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت.(43/312)
تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، ط دار الشعب، القاهرة.
تهذيب اللغة: لأبي منصور الأزهري، تحقيق: عبد السلام هارون، دار القومية العربية، القاهرة (1384هـ) .
تيسير العزيز الحميد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، بيروت (1397هـ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الفكر (1405هـ) .
جامع العلوم والحكم: لابن رجب، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الثانية (1412هـ) .
جامع العلوم والحكم: لابن رجب، دار المعرفة بيروت.
الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1408هـ) .
جزء في تفسير الباقيات الصالحات: للعلائي، تحقيق: بدر الزمان محمد شفيع النيبالي، مكتبة الإيمان، الأولى (1407هـ) .
الحجة في بيان المحجة: للحافظ التميمي، دار الراية الرياض، الأولى (1411هـ) .
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، لبنان.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية: مطابع المكتب الإسلامي، بيروت.
الدعاء للطبراني: تحقيق: د. محمد سعيد البخاري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الأولى (1407هـ) .
دقائق التفسير: لابن تيمية، تحقيق: د. محمد السيد الجليذ، مؤسسة علوم القرآن، دمشق بيروت.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: للبيهقي، تعليق: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1405هـ) .
دلائل النبوة: لأبي القاسم التيمي، تحقيق: مساعد بن سليمان الراشد الحميد، دار العاصمة، (1412هـ) .
الرد على الجهمية: للدارمي، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، الأولى (1405هـ) .
سلسلة الأحاديث الصحيحة: للشيخ الألباني، مكتبة المعارف الرياض.
السنة: لابن أبي عاصم، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت ط2 (1405هـ) .(43/313)
السنن الكبرى: للنسائي، تحقيق: د - عبد الغفّار البنداري، وسيد كسروي، دار الكتب العلمية (بيروت) ، (1411هـ) .
السنن: لأبي داود، تحقيق: عزت عبيد الدعاس، دار الحديث (حمص - سورية) .
السنن: لابن ماجه، تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية (بيروت) .
السنن: للترمذي، دار الكتب العلمية (بيروت) (1408هـ) .
السنن: للدراقطني، عالم الكتب، بيروت لبنان.
السنن: للدرامي، تحقيق: فواز زمرلي، وخالد السبع، دار الريان، الأولى (1407هـ) .
السنن: للنسائي، ط دار الريان.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لللالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر، الرايض.
شرح صحيح مسلم: للنووي، دار الفكر، بيروت لبنان.
الشكر: لابن أبي الدنيا، تحقيق: بدر البدر.
صحيح البخاري: درا الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1412هـ) .
صحيح الجامع الصغير: للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، الثانية، (1406هـ) .
صحيح سنن أبي داود: للألباني، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط دار الحديث.
الصلاة: لابن القيم، المطبعة السلفية، القاهرة، الخامسة (1399هـ) .
طريق الهجرتين: لابن القيم، المطبعة السلفية، القاهرة، الثالثة (1400هـ) .
عدة الصابرين: لابن القيم، تحقيق: محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، الرابعة (1410هـ) .
العظمة: لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: رضاء الله بن محمد المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، الأولى (1408هـ) .
فتح الباري شرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر، دار المعرفة بيروت.
فضل التهليل وثوابه الجزيل: لابن البنا، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، دار العاصمة، الرياض، الأولى (1409هـ) .
الفوائد: لابن القيم، تحقيق: بشر محمد عيون، نشر مكتبة البيان، الأولى (1407هـ) .
القاموس المحيط: للفيروزأبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت الثانية (1407هـ) .(43/314)
كشف الأستار عن زوائد البزار: للهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة.
كلمة الإخلاص: لابن رجب، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الخامسة (1399هـ) .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي، دار الكتاب، بيروت (1407هـ) .
مجموع الفتاوى: لابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف الرباط.
مختصر العلو للعلي الغفار: للذهبي، اختصار: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى (1401هـ) .
المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية.
المسند: للإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي (بيروت) ، (1405هـ) .
المسند: للطيالسي، دار المعرفة، بيروت، ومكتبة المعارف بالرياض
المصنف: لعبد الرزاق، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان.
المصنّف: لابن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت، دار التاج، بيروت لبنان.
معارج القبول: للشيخ حافظ الحكمي، المطبعة السلفية.
المعجم الأوسط: للطبراني، تحقيق: طارق بن معوض، وعبد المحسن بن إبراهيم، دار الحرمين، القاهرة.
المعجم الكبير للطبراني: تحقيق: حمدي السلفي، دار إحياء التراث العربي، الثانية.
معجم مقاييس اللغة: لابن فارس، دار الكتب العلمية، إيران.
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لابن هشام، دار الفكر بيروت.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: لابن القيم، تحقيق: محمود حسن ربيع، مكتبة الأزهر، القاهرة، الثانية (1358هـ) .
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: لابن القيم، تحقيق: علي بن حسن ابن عبد الحميد، دار ابن عفان، الخبر، الأولى (1416هـ) .
مطالع السعد بكشف مواقع الحمد: لابن القيم، تحقيق: فهد العسكر، دار ابن خزيمة، الرياض، الأولى (1414هـ) .(43/315)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
إعداد
د. محمد بن خليفة بن علي التميمي
الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران 102] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء 1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 70-71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فهذا بحث لطيف، وسِفر منيف، يحوي في ثناياه الحديث عن مسألة وقع فيها النزاع بين أهل العلم، وتشعبت بسبب ذلك أقوالهم، منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذه المسألة تعلقها بمسائل العقيدة لصلتها بمسألة رؤية الله عز وجل من جهة، ولتعلقها كذلك بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، تلك هي مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل.(43/316)
ومعلوم أن التأصيل لمسائل الدين جميعها في منهج أهل السنة ينطلق من نصوص الكتاب والسنة، وفهم السلف الصالح، ومن هذا المنطلق أحببت بحث المسألة، وتأصيلها وفق هذا المنهج مع جمع شتات أقوال العلماء وبيان الراجح منها.
ويمكن حصر الكلام في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ثلاثة جوانب:
1- رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج.
2- إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم. لربه في المنام.
3- مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا. عيانا.
فمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل ليلة المعراج من المسائل التي وقع الكلام فيها مبكرا في عهد الصحابة.
وقبل البدء في إيضاح هذه المسائل لابد من الإشارة إلى أن الأمة أجمعت على أن الله عز وجل لا يراه أحد في الدنيا بعينه.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في التحذير من فتنة المسيح الدجال أنه قال: "تعلَّموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت" وفي لفظ الترمذي "تعلمون" (1) .
والخلاف إنما وقع في حصول الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليلة المعراج، وأكثر علماء أهل السنة يثبتون ذلك، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأكثر علماء أهل السنة يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج".
على الرغم من أن الخلاف في هذه المسألة لا يعد من الأمور التي توجب الخروج عن عقيدة السلف، والأمر كما قال عنه الإمام الذهبي: "ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول الله ورسوله أعلم، بل نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة ... ".
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 18/261 كتاب الفتن باب ذكر ابن صياد رقم 7283.
والترمذي في سننه 4/440-441، كتاب الفتن -باب ما جاء في علامة الدجال- حديث رقم 2235.
والإمام أحمد في المسند 5/433.(43/317)
ولعل من أسباب عدم تعنيف المخالف في ذلك ما يلي:
1 - ليس في المسألة نص قاطع يجب الأخذ به.
2 - وقوع التنازع في المسألة بين الصحابة.
3 - أن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها قال ابن أبي العز: "وإن كانت رؤية الرب تعالى أعظم وأعلى، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة".
وبناءً على ما حوته المسألة من تفريعات فقد قسمت البحث وفق الخطة التالية إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أقوال الصحابة في هذه المسألة.
المطلب الثاني: أقوال التابعين وتابعي التابعين.
المطلب الثالث: أقوال العلماء في المسألة.
المطلب الرابع: وقفات في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج.
المبحث الثاني: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأحاديث الواردة في المسألة.
المطلب الثاني: القول في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام.
المطلب الثالث: أقوال أهل العلم في الرؤية المنامية عمومًا.
المبحث الثالث: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا عيانًا.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: قول أهل السنة في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عيانًا في الدنيا.
المطلب الثاني: الأحاديث الموضوعة في المسألة.
المبحث الرابع: رؤية البشر لربهم في الحياة الدنيا.
الخاتمة.
وبعد فهذا جهد المقل فلعلي أسهمت في خدمة هذه المسألة، ويسرت على إخواني الباحثين من طلاب العلم جمع ما تفرق من أقوال أهل العلم فيها، ومستند كل قول والقائل به، فأرجو أن أكون قد وفقت في توضيح جوانب هذه المسائل، وحسن عرضها، وبيان الصواب فيها، والله أسأل أن ينفعني وإخواني المسلمين بما كتبت، وأن يجعله عملاً صالحًا، ولوجهه خالصًا، وأن لا يجعل لأحد فيه شركًا.
المبحث الأول: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج:(43/318)
هذه المسألة هي التي وقع الكلام فيها مبكرًا بين الصحابة، ومن أهل العلم من يرى أنه لا خلاف بين أقوالهم في المسألة وأنها متوافقة، وإنما مرجع الخلاف إلى فهم بعض المتأخرين لأقوالهم وطريقة توجيهها، وبعضهم الآخر يرى أن هناك خلافاً بين الصحابة في المسألة، وأن أقوالهم متباينة فيها، وبنى على هذا الفهم أمورًا وأحكامًا، ومن أجل ذلك أحببت أن أعرض أقوال الصحابة بشكل مستقل، ومن ثم أعرض لأقوال التابعين وتابعيهم، وبعد ذلك أعرض أقوال العلماء وما وجّه به كل فريق قوله في المسألة، فهذا المنهج هو الأسلم لكي يفهم القارئ أقوال السلف مستقلة عن طريقة توجيه كل طائفة لها، ومن ثم سيسهل بعد تصورها مستقلة معرفة توجيه كل صاحب قول لتلك الآثار، ومستنده في فهمه لها، وأي الأقوال أولى بالصواب.
المطلب الأول: أقوال الصحابة في هذه المسألة
القول الأول: من أثبت الرؤية مطلقا:
1 - قول ابن عباس رضي الله عنهما:
أ - عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم".
ب - عن ابن عباس في قوله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (1) .قال: "رأى ربه فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى".
ج - عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "رأى محمدٌ ربَّه". قلت: أليس الله يقول {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام 103] ، قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقال: أُرِيَه مرتين".
__________
(1) الآيتان (13-14) من سورة النجم.(43/319)
د - عن عبد الله بن عمر أنه بَعَثَ إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- يسأله: هل رأى محمدٌ صلى الله عليه وسلم ربَّه؟ فبعث إليه: "أن نعم قد رآه"، فرد رسوله إليه وقال: كيف رآه؟ فقال: "رآه على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء، دونه فراش من ذهب".
2 - قول أنس بن مالك رضي الله عنه
عن قتادة أن أنسًا - رضي الله عنه - قال: "رأى محمدٌ ربَّه".
3 - قول أبي هريرة رضي الله عنه
قال داود بن حصين: سأل مروان أبا هريرة رضي الله عنه: هل رأى
محمدٌ صلى الله عليه وسلم ربَّه عز وجل؟ فقال: "نعم، قد رآه".
القول الثاني: من قيدها بالرؤية القلبية:
وقد روي في ذلك حديث مرفوع لكنه ضعيف؛ لإرساله وهو ما رواه محمد بن كعب القرظي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيته بفؤادي، ولم أره بعيني".
1 - قول ابن عباس رضي الله عنهما:
أ - عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13] قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه".
ب - وعن أبي العالية عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين".
2 - قول أبي ذر رضي الله عنه
أ - عن إبراهيم التيمي أن أبا ذر - رضي الله عنه - قال: "رآه بقلبه ولم تره عيناه". وفي رواية: "رآه بقلبه".
ب - وأخرج النسائي عن أبي ذر قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه بقلبه ولم يره ببصره".
القول الثالث: من نفى الرؤية مطلقا.
1 - قول عائشة رضي الله عنها(43/320)
عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة -رضي الله عنها- فقالت: "يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين: أنظريني ولا تعجليني: ألم يقل الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: أنا أول هذه الأمة، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. فقالت: ألم تسمع أن الله يقول {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103] . أو لم تسمع أن الله يقول {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى 51] .....".
2 - قول ابن مسعود رضي الله عنه
عن زر بن عبد الله بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13] ، قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، له ستمائة جناح".
3 - قول أبي هريرة رضي الله عنه
عن عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: "رأى جبريل".
4 - قول أبي ذر رضي الله عنه(43/321)
عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، قال: عما كنت تسأله؟ قال: إذن لسألته هل رأى ربه؟ فقال: قد سألته أنا، قلت: فما قال؟ قال: "نور أنى أراه"، وفي رواية "رأيت نوراً" (1)
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 3/15 كتاب الإيمان باب في قوله صلى الله عليه وسلم: "نور أنى أراه" وفي قوله: "رأيت نورا" والترمذي 5/396 كتاب التفسير باب ومن سورة النجم رقم 3282. وقد أخرج الإمام أحمد في المسند 5/147 من طريق عفان عن همام عن قتادة بلفظ "قد رأيته نور أنى أراه" وأخرجه أيضا عبد الله بن أحمد في السنة 1/289-290رقم 556 وأبو بكر النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 52 رقم 65 من طريق عفان عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة بلفظ "قد رأيته" فقط. ونقل أبو عوانة 1/146-147 عقبه عن عثمان بن أبي شيبة أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "ما زلت منكرا لحديث يزيد بن إبراهيم حتى حدثنا عفان عن همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر ... "ونقل هذا الكلام كذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره 7/453 عن الخلال فقال: "وقد حكى الخلال في علله عن الإمام أحمد قد سئل عن هذا الحديث فقال: ما زلت منكرا له، وما أدري ما وجهه". وقال ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "نور أنى أراه" معناه كان ثَمّ نور، وحال دون رؤيته نور فأنى أراه؟ قال: ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح "هل رأيت ربك؟ فقال: "رأيت نورًا". وقد أعظل أمر هذا الحديث على كثير من الناس، حتى صحفه بعضهم فقال: "نوراني أراه"على أنها ياء النسب، والكلمة كلمة واحدة، وهذا خطأ لفظًا ومعنى، وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم اعتقدوا أن الرسول رأى ربه، وكان قوله "أنى أراه" كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه، وكل هذا عدول عن موجب الدليل"مجموع الفتاوى 6/507، اجتماع الجيوش الإسلامية ص 47 - 48(43/322)
التعليق على الأقوال السابقة:
الذي يلاحظ من الآثار السالفة الذكر أنها خلت من النص على رؤية العين فهي: إما أثبتت الرؤية مطلقًا، أو قيدتها بالرؤية القلبية أو نفتها مطلقًا.
ولذلك علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا بقوله: "ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه ".
وقال أيضًا: "وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك: فقال: "نور أنى أراه"".
وكذا جزم ابن كثير بأنه لم يصح أن أحدًا من الصحابة قال بالرؤية البصرية حيث قال: "وما روي في ذلك من إثبات الرؤية بالبصر فلا يصح من ذلك لا مرفوعًا، بل ولا موقوفًا، والله أعلم".
وقال أيضًا: "وفي رواية عنه - يعني ابن عباس - أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم".
ويجب الإشارة هنا إلى أنه يجب التفريق بين قضيتين، قضية الرؤية والكلام عليها، وقضية الآيات التي استدل بها ابن عباس على إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، بينما استدلت بها عائشة وغيرها على أنها تتعلق برؤية جبريل.
قال ابن القيم: "وأما قول ابن عباس أنه رآه بفؤاده مرتين فإن كان استناده إلى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ثم قال {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} والظاهر أنه مستنده فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خلق عليها ".
وعلى العموم فإن الكلام على تفسير الآيات ليس هذا مجاله وسيأتي الحديث عنه.(43/323)
تابع لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
المطلب الثاني: أقوال التابعين وتابعي التابعين
لو نظرنا في أقوال التابعين وتابعي التابعين لوجدناها لم تخرج عن أقوال الصحابة السابق ذكرها إلا أنه لم يرد عن أحد منهم نفي الرؤية مطلقًا اللهم إلا من توقف في المسألة وإليك أقوالهم:
القول الأول: من أثبت الرؤية مطلقا
1 - قول كعب الأحبار:
عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: قال لي كعب: "إن الله عز وجل قسَّم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فكلَّمه موسى مرتين ورآه محمد مرتين".
2 - قول عكرمة (106 هـ)
أ - عن عيسى بن عبيد وسالم مولى معاوية قالا: "سمعنا عكرمة، وسئل: هل رأى محمد ربه؟. قال: "نعم، قد رأى ربَّه".
ب - عن عباد بن منصور قال: سألت عكرمة عن قوله {مَا كَ ذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11] ، قال: "أتريد أن أقول لك: قد رآه. نعم قد رآه، ثم قد رآه، ثم قد رآه، حتى ينقطع النفس".
3 - قول الحسن البصري (110هـ)
وعن المبارك بن فضالة قال: "كان الحسن يحلف ثلاثة لقد رأى محمد ربه".
4 - قول الزهري (125 هـ)
الإمام الزهري ممن نسب إليه القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج كما ذكر ذلك ابن حجر.
5 - قول معمر (154 هـ)
روى ابن خزيمة في التوحيد أن عبد الرزاق قال بعد أن روى حديث مسروق مع عائشة: "فذكرت هذا الحديث لمعمر، فقال: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس".
6 - قول إبراهيم بن طهمان (168 هـ)
قال حفص بن عبد الله سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: "والله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه".
القول الثاني: من قيدها بالرؤية القلبية
1 - قول كعب الأحبار(43/324)
عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: "اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نزعم أو نقول إن محمدًا رأى ربه مرتين. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال ثم قال (أي كعب) : إن الله قسَّم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهم وسلم فرآه محمد بقلبه وكلمه موسى".
2 - قول مجاهد بن جبر (104 هـ)
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم 16] قال: "كان أغصان السدرة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد، فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه ورأى ربه".
3 - قول أبي العالية رفيع بن مهران (93 هـ)
عن أبي العالية في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، قال: "محمدٌ رآه بفؤاده ولم يره بعينه".
4 - قول أبي صالح مولى أم هانئ (بعد المائة)
عن أبي صالح في قوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، قال: "رآه مرتين بفؤاده".
5 - قول الربيع بن أنس (140 هـ)
عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس في قوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} : "فلم يكذبه" {مَا رَأَى} قال: "رأى ربَّه"وفي رواية قال: "رأى محمدٌ ربَّه بفؤاده".
القول الثالث: من رجح التوقف في المسألة
6 - قول سعيد بن جبير (95 هـ)
عن سعيد بن جبير قال: "لا أقول رآه ولا لم يره".
المطلب الثالث: أقوال العلماء في المسألة.
بعد استعراض أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم نعرض لأقوال من بعدهم في المسألة وهي خمسة أقوال:
القول الأول: من أثبت الرؤية مطلقا.
وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول ابن خزيمة، والآجري، والألوسي.
1 - قول الإمام أحمد (241هـ)
حكى أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين اختلاف الروايات عن الإمام أحمد في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه على ثلاث روايات أحدها أنه رآه مطلقا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: "رآه بفؤاده"".(43/325)
وقال ابن كثير: "وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما".
2 - قول ابن خزيمة (311هـ)
الإمام ابن خزيمة نصر في كتابه التوحيد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة
المعراج، وأطال في سرد الحجج على ذلك.
ولكن ابن كثير - رحمه الله - نسب إليه بأنه يقول بالرؤية البصرية كما سيأتي ذكر قوله.
3 - قول الإمام الآجري (360 هـ)
بوب الإمام الآجري في كتابه الشريعة باباً بعنوان "باب ذكر ما خصَّ الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤية لربه عز وجل".
ثم ساق مجموعة من الأحاديث والأثار التي تدل على أنه ينصر القول بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه -عز وجل- ليلة المعراج.
4 - قول الألوسي
قال الألوسي في تفسيره: "وأنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم ربَّه سبحانه وبدنوه على الوجه اللائق".
ونسبه إلى معظم الصوفية فقال: "ومعظم الصوفية على هذا، فيقولون بدنو الله - عز وجل - من النبي صلى الله عليه وسلم، ودنوه - سبحانه - على الوجه اللائق، وكذا يقولون بالرؤية كذلك".
القول الثاني: من قيد الرؤية بالعين
نسب القول بتقييد الرؤية بالعين إلى بعض العلماء، ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين، وفي نسبة ذلك إلى بعضهم نظر، وممن نسب لهم القول بذلك: ابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن البصري، وعكرمة، ورواية عن الإمام أحمد، وابن خزيمة، وابن جرير، وأبو الحسن الأشعري وعامة أتباعه، وأبو عبد الله بن حامد وأبو بكر النجاد والقاضي أبو يعلى، وعبد القادر الجيلاني، وجماعة من المتأخرين.
فقد نسب البغوي هذا القول إلى ابن عباس فقال في تفسيره: "وعن ابن عباس أنه قال رأى ربه بعينه".
وقد سبق الرد على ذلك عند عرض أقوال الصحابة، وأن هذا التقييد بالعين لم يثبت عن ابن عباس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين".(43/326)
وقال البغوي أيضًا:"وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة".
وبالنسبة لما نسبه البغوي إلى أنس وعكرمة من تقييد الرؤية بالعين فإن الروايات السابق ذكرها عنهما جاءت مطلقة، وكذا ما أوردناه عن الحسن البصري فإن الرواية جاءت مطلقة، وقد سبق كذلك الإشارة إلى ما ورد في تفسير البغوي عن الحسن البصري أنه قال: "رآه بعينه"ولكن البغوي لم يسندها فلا يعدل عن الرواية التي سبق إيرادها عن الحسن من إطلاق الرؤية وعدم تقييدها بالعين، والله أعلم.
قال ابن كثير: "وقول البغوي في تفسيره: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة، فيه نظر والله أعلم".
وقال ابن كثير: "ورأى، أي: النبي صلى الله عليه وسلم ربه -عز وجل- ببصره على قول بعضهم، وهو اختيار الإمام أبي بكر بن خزيمة من أهل الحديث، وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين".
وقال أيضًا: "وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين، واختاره ابن جرير، وبالغ فيه، وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين، وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه".
وحمل القاضي أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين وفي إبطال
التأويلات الرواية التي عن الإمام أحمد بأنها نص على الرؤية بالعين، فقال في كتاب الروايتين: "فظاهر هذا أنه أثبت رؤيا عين"وقال في إبطال التأويلات: "والرواية الأولى أصح، وأنه رآه في تلك الليلة بعينيه".
وقد اعترض شيخ الإسلام على هذا التوجيه من القاضي فقال: "وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: "رآه بفؤاده"، ولم يقل أحد: أنه سمع أحمد يقول رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق، ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين.(43/327)
وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك: فقال: "نور أنى آراه"".
وقال فيما نقله عنه تلميذه ابن القيم: "قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا ولا قوله رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى" ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ثم أخبرهم عن رؤية ربه -تبارك وتعالى- تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وقال: نعم رآه حقا فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد، ولكن لم يقل أحمد -رحمه الله تعالى- إنه رآه بعيني رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال: مرة رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك".(43/328)
وكذلك اعترض ابن القيم على توجيه القاضي أبي يعلى -أيضا- فقال: "وقد جعلها القاضي مختلفة، وجعل المسألة على ثلاث روايات، ثم احتج للرواية الأولى بحديث أم الطفيل، وحديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي ولا دلالة فيهما، لأنها رؤية منام فقط، واحتج لها بما لا يرضى أحمد أن يحتج به، وهو حديث لا يصح عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا: "لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى؟ " (1) وذكر الحديث وهذا غلط قطعًا فإنما القصة كانت بالمدينة، كما قال معاذ بن جبل: "احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح حتى كدنا نترآى عين الشمس، ثم خرج وصلى بنا ثم قال: "رأيت ربي البارحة في أحسن صورة فقال: يا محمد: فيما يختصم الملأ الأعلى؟ " وذكر الحديث فهذا كان بالمدينة والإسراء بمكة وليس عن الإمام أحمد، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم نص أنه رآه بعينه يقظة، وإنما حمل القاضي كلام أحمد ما لا يحتمله، واحتج لما فهم منه بما لا يدل عليه، وكلام أحمد يصدق بعضه بعضا، والمسألة رواية واحدة عنه فإنه لم يقل بعينه، وإنما قال: رآه. واتبع في ذلك قول ابن عباس: رأى محمد ربه. ولفظ الحديث "رأيت ربي" وهو مطلق وقد جاء بيانه في الحديث الآخر.
__________
(1) سيأتي تخريجه.(43/329)
ولكن في رد الإمام أحمد قول عائشة ومعارضته بقول النبي صلى الله عليه وسلم إشعار بأنه أثبت الرؤية التي أنكرتها عائشة، وهي لم تنكر رؤية المنام، ولم تقل من زعم أن محمدًا رأى ربه في المنام فقد أعظم على الله الفرية، وهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون الإمام أحمد أنكر قول من أطلق نفي الرؤية؛ إذ هو مخالفة للحديث وإما أن يكون رواية عنه بإثبات الرؤية، وقد صرح بأنه رآه رؤيا حلم بقلبه، وهذا تقييد منه للرؤية، وأطلق عنه بأنه رآه، وأنكر قول من نفى مطلق الرؤية، واستحسن قول من قال رآه ولا يقول بعينه ولا بقلبه. وهذه النصوص عنه متفقة لا مختلفة وكيف يقول أحمد: "بعيني رأسه يقظة"ولم يجد ذلك في حديث قط، فأحمد إنما اتبع ألفاظ الحديث كما جاءت، وإنكاره قول من قال: لم يره أصلا لا يدل على إثبات رؤية اليقظة بعينه والله أعلم)) .
قول الأشعري (324هـ) وعامة أتباعه:
ممن نسب هذا القول إلى أبي الحسن الأشعري وأكثر أتباعه القاضي عياض، والقرطبي في تفسيره، والنووي وابن كثير وابن حجر.
قال القاضي عياض: "وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري -رضي الله عنه- وجماعة من أصحابه: أنه رأى الله -تعالى- ببصره وعيني رأسه، وقال: كلُّ آية أوتيها نبيٌّ من الأنبياء -عليهم السلام- فقد أوتي مثلها نبيُّنا، وخُصَّ من بينهم بتفضيل الرُّؤية".
وهذا ما ذكره شارح جوهرة التوحيد -وهو من الأشاعرة- في شرحه فقال: "والراجح عند أكثر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى بعيني رأسه وهما في محلهما، خلافا لمن قال: حولا إلى قلبه لحديث ابن عباس وغيره".
قول أبي بكر النجاد أحمد بن سليمان (348 هـ)(43/330)
حكى القاضي أبو علي بن أبي موسى عن أبي بكر النجاد قال: "رآى محمد ربه إحدى عشرة مرة، منها بالسنة تسع مرات في ليلة المعراج، حين كان يتردد بين موسى وبين الله -عز وجل- يسأل أن يخفف عن أمته الصلاة فنقص خمسة وأربعين صلاة في تسع مقامات ومرتين بالكتاب" (1) .
قول أبي عبد الله الحسن بن حامد (403 هـ)
نقل أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين أن اختيار شيخه أبي عبد الله ابن حامد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء بعينه.
وقال القاضي أبو يعلى -بعد أن أورد الرواية الأولى عن الإمام أحمد- بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعينه، وجعلها هي الصحيحة قال: "وهذه الرواية اختيار أبي بكر النجاد".
قول القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء (458 هـ)
رجح القول بالرؤية البصرية فقال -في معرض ذكره للروايات الواردة عن الإمام أحمد-: "والرواية الأولى أصح، وأنه رآه في تلك الليلة بعينه".
وقال: "وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة؛ لأن قول ابن عباس يطابق قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته في تلك الليلة؛ ولأنه مثبت والمثبت مقدم على النافي، ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلا عن توقيف؛ إذ لا مجال للقياس في ذلك".
قول عبد القادر الجيلاني (471 هـ)
وهذا القول قال به أيضًا - عبد القادر - الجيلاني في كتابه الغنية، حيث قال: "ونؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه - عز وجل - ليلة الإسراء بعيني رأسه لا بفؤاده ولا في المنام".
قول النووي (676 هـ)
__________
(1) إبطال التأويلات 1/114(43/331)
قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه على صحيح مسلم: "فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه ثم عائشة -رضي الله عنها- لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات".
قول الحافظ مغلطاي (762 هـ)
قال رحمه الله: "والصحيح أن الإسراء كان يقظة بجسده، وأنه مرات متعددة، وأنه رأى ربه - عز وجل - بعيني رأسه صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلم".
قول السيوطي (911 هـ)
قال السيوطي في الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج: "الراجح عند أكثر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره، وإثبات هذا لا يكون إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تعتمد عائشة في نفي الرؤية على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات".
قول القسطلاني (923 هـ)
قال رحمه الله: " ... ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سموات ورأى ربه بعيني رأسه وأوحى إليه ما أوحى".
قول محمد بن أحمد الصاوي (1241 هـ)
قال في حاشيته على تفسير الجلالين: "...... واختلف في تلك الرؤية، فقيل: رآه بعينه حقيقة، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين منهم ابن عباس، وأنس ابن مالك، والحسن، وغيرهم، ... وقيل: لم يره بعينه وهو قول عائشة رضي الله عنها، والصحيح الأول؛ لأن المثبت مقدم على النافي؛ أو لأن عائشة لم يبلغها حديث الرؤية لكونها كانت حديثة السن ".
القول الثالث: من قيدها بالرؤية القلبية
قول الإمام أحمد (241هـ)(43/332)
ذكر أبو يعلى في الروايتين والوجهين أن للإمام أحمد رواية أخرى أثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه كما جاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: "رآه بفؤاده"".
قول القرطبي المفسر. (671 هـ)
قال في تفسير قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} : "أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وذلك أن الله – تعالى - جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية".
قول أبي المظفر السمعاني (489هـ)
قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره: "وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال رأى محمد ربه بفؤاده فإن قال قائل: المؤمنون يرونه بفؤادهم، وليس ذلك إلا العلم به فما معنى تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم؟.
والجواب أنهم قالوا: إن الله – تعالى - خلق رؤية لفؤاده فرأى بفؤاده مثل ما يرى الإنسان بعينه".
قول شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ)
قال - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: "وأما الرؤية، فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"وعائشة أنكرت الرؤية. فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد. والألفاظ الثابثة عن ابن عباس هي مطلقة، أو مقيدة بالفؤاد، تارة يقول: "رأى محمد ربه"، وتارة يقول: "رآه محمد"، ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح أنه رآه بعينه ... وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى آراه"".(43/333)
وقد قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء 1] ، ولو كان قد أراه نفسه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.
وكذلك قوله {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم 12] ، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم 18] ، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.
وفي الصحيحين عن ابن عباس: في قوله {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء 60] ، قال: "هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به"، وهذه رؤيا الآيات لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه، وليس في شئ من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه".
قال ابن القيم رحمه الله: "قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: وليس قول ابن عباس: إنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى" ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه - تبارك وتعالى - تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وقال: نعم رآه حقا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد، ولكن لم يقل أحمد - رحمه الله تعالى -: إنه رآه بعيني رأسه يقظة. ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال: مرة رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه. وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك.(43/334)
وأما قول ابن عباس: أنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله - تعالى - {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ثم قال {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} والظاهر أنه مستنده فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خلق عليها، وقول ابن عباس هو مستند الإمام أحمد في قوله رآه بفؤاده والله أعلم".
قول ابن كثير (704 هـ)
قال ابن كثير بعد ذكر الروايات عن ابن عباس أنه رآه بفؤاده مرتين:
".... وقد خالفه ابن مسعود، وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شئ عن الصحابة -رضي الله عنهم- وقول البغوي في تفسيره: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسن وعكرمة، فيه نظر والله أعلم".
وقال رحمه الله في البداية والنهاية:
"واختلفوا في الرؤية فقال بعضهم: رآه بفؤاده مرتين، قاله ابن عباس
وطائفة، وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد. وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل - رضي الله عنهما -. وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين، واختاره ابن جرير وبالغ فيه، وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين. وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه. وقالت طائفة: لم يقع ذلك لحديث أبي ذر ... وقالوا: لم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية ... والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم".(43/335)
وقال - رحمه الله - في الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: "ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه - عز وجل - ببصره على قول بعضهم، وهو اختيار الإمام أبي بكر بن خزيمة من أهل الحديث، وتبعه على ذلك جماعة من المتأخرين. وروى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه رآه بفؤاده مرتين، وأنكرت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - رؤية البصر، وروى مسلم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله رأيت ربك فقال: "نور أنى أراه" وإلى هذا مال جماعة من الأئمة قديما وحديثا اعتمادًا على هذا الحديث، واتباعًا لقول عائشة -رضي الله عنها - قالوا: هذا مشهور عنها، ولم يعرف لها مخالف من الصحابة إلا ما روي عن ابن عباس أنه رآه بفؤاده، ونحن نقول به، وما روي في ذلك من إثبات الرؤية بالبصر فلا يصح شيء من ذلك لا مرفوعا بل ولا موقوفا والله أعلم".
قول ابن أبي العز (792 هـ)
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: "واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صلى الله عليه وسلم".
وقال في موضع آخر: " ... وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربَّه - عز وجل - بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه. وقوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11] ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين على صورته التي خلق عليها".
قول ابن حجر (852 هـ)(43/336)
قال رحمه الله: "جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة فيجب حمل مطلقها على مقيدها ... وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه، كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة خلقها في العين".
قول السفاريني (1118هـ)
قال -رحمه الله- في لوامع الأنوار:
" ... وإذاعلم ما حررناه فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة - رضي الله عنهم - بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب كما قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري" (1) .
قول محمد الأمين الشنقيطي (1393 هـ)
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - ممن يرجح الرؤية القلبية فقد قال رحمه الله: "التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين رأسه، وما جاء عن بعض السلف من أنه رآه، فالمراد به الرؤية بالقلب، كما في صحيح مسلم أنه رآه بفؤاده مرتين، لا بعين الرأس".
القول الرابع: من قال رآه مرة بفؤاده ومرة بعينه.
وبه قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني، وأنور شاه الكشميري.
1 - قول أبي القاسم الأضبهاني (535 هـ)
قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة: "ومن مذهب أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وكان رؤيا يقظة لا رؤيا منام.
وروي عن أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال: رآه بعين رأسه، وروي عنه أنه رآه بعين قلبه، والصحيح أنه رآه بعين رأسه، وعين قلبه.
__________
(1) لوامع الأنوار البهية 2/254-255.وقد بحث مسألة الرؤية من 2/250 إلى 2/256.(43/337)
قيل في التفسير {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} رآه في المرة الأولى بعيني قلبه، وفي المرة الأخرى بعيني رأسه".
2 - قول أنور شاه الكشميري
قال أنور شاه الكشميري - فيما نقله عنه صاحب فتح الملهم -:
"إن الراجح في آية النجم أن الرؤية في قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أن الرؤية هنا للفؤاد، والرؤية في قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أن الرؤية هنا بالعين.
وقال: وعن ابن عباس أنه كان يقول أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده، رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، خلا جهور بن منصور الكوفي وجهور بن منصور ذكره ابن حبان في الثقات كذا في الزوائد".
القول الخامس: من نفى الرؤية مطلقا
وقال بهذا القول: الدارمي، وابن عطية، وأبو حيان.
قول الإمام الدارمي (280 هـ)
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - في رده على بشر الريسي -:"ويلك، إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبت إليه لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر: إنه لم ير ربه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تروا ربكم حتى تموتوا" وقالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية"وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يعنون أبصار أهل الدنيا، وإنما هذه الرؤية كانت في المنام، وفي المنام يمكن رؤية الله على كل حال، وفي كل صورة".
قول ابن عطية (546 هـ)
ذهب ابن عطية في تفسيره إلى ترجيح مذهب عائشة - رضي الله عنها - ومن معها في أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربَّه، ونسبه إلى الجمهور.
قول أبي حيان الأندلسي (756 هـ)
كما ذهب أبو حيان إلى ترجيح مذهب عائشة ومن معها.
القول السادس: من توقف في المسألة.
قول القاضي عياض (544 هـ)
قال القاضي عياض: "ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز أن يكون.(43/338)
قال القاضي أبو الفضل: الحق الذي لاامتراء فيه أن رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلاً، وليس في العقل ما يحيلها".
وقال أيضا: "وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضا، ولا نص، إذ المعول فيه على آية النجم والتنازع فيهما مأثور والاحتمال لهما ممكن ولا أثر قاطع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وحديث ابن عباس خبر عن اعتقاده لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجب العلم باعتقاد مضمنه.
ومثله حديث أبي ذر في تفسير الآية، وحديث معاذ محتمل للتأويل، وهو مضطرب الإسناد والمتن.
وحديث أبي ذر الآخر محتمل مشكل فروي: "نور أنى أراه" وحكى بعض شيوخنا أنه روي: "نَورَاني أراه".
وفي حديثه الآخر: سألته فقال: "رأيت نورا" وليس ممكن الاحتجاج بواحد منها على صحة الرؤية فإن كان الصحيح رأيت نورا فهو قد أخبر أنه لم ير الله، وإنما رأى نورا منعه وحجبه عن رؤية الله.
وإلى هذا يرجع قوله: "نور أنى أراه" أي كيف أراه مع حجاب النور المغشي للبصر، وهذا مثل ما في الحديث الآخر: "حجابه النور" وفي الحديث الآخر: "لم أره بعيني ولكن رأيته بقلبي مرتين" وتلا {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} والله قادر على خلق الإدراك الذي في البصر في القلب، أو كيف شاء لا إله غيره.
فإن ورد حديث نص بين في الباب وجب المصير إليه، إذ لا استحالة فيه، ولا مانع قطعي يرده والله الموفق".
قول أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي (656هـ)
قال رحمه الله: "وذهبت طائفة من المشايخ إلى الوقف، وقالوا: ليس عليه قاطع نفيًا ولا إثباتًا، ولكنه جائز عقلاً وهذا هو الصحيح".(43/339)
وقال في موضع آخر: " ... ثم هل وقعت رؤية الله -تعالى- لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أو لم تقع؟ ليس في ذلك دليل قاطع، وغاية ما للمستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسك بظواهر متعارضة معرّضة للتأويل، والمسألة ليست من باب العمليات فيكتفى فيها بالظنون، وإنما هي من باب المعتقدات ولا مدخل للظنون فيها".
قول الذهبي (748 هـ)
قال رحمه الله: "والذي دلَّ عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها، فنقف عن هذه المسألة، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإثبات ذلك أو نفيه صعب، والوقوف سبيل السلامة والله أعلم، ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول الله ورسوله أعلم، بل نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة؛ إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة.. ".
ولكن ورد في كتابه العرش ما يناقض ذلك حيث صرح بإثبات الرؤية فقال: "وأكثر الصحابة على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه....قلت: لأنه رآه في عالم البقاء حين خرج من عالم الفناء، وارتقى فوق السموات السبع فهذا الحديث أيضًا دال على أنه - سبحانه وتعالى - فوق السموات وفوق جميع المخلوقات، ولولا ذلك لكان معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى فوق السماء السابعة إلى السدرة المنتهى، ودنو الجبار منه، وتدليه - سبحانه وتعالى - بلا كيف حتى كان من النبي صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، وأنه رآه تلك الليلة، وأن جبريل علا به حتى أتى به إلى الله تعالى".(43/340)
تابع لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
المطلب الرابع: وقفات في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج.
بعد استعرض الأقوال الواردة في المسألة يمكن استخلاص الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: بالنظر إلى الآيات القرآنية التي استدل بها كل فريق فإنها لا تدل دلالة صريحة على إثبات الرؤية ولاعلى نفيها.
فنفاة الرؤية استدلوا بقوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} وقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فعائشة - رضي الله عنها - استدلت بهاتين الآيتين فقالت: "من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، والله يقول {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} والله يقول {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ". وقد أجاب ابن عباس على الاستدلال بقوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لما سئل عنها بقوله: "ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره".
قال ابن خزيمة: "لم تحك عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خبرها أنه لم ير ربه عز وجل، وإنما تلت قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً….} تدبر الآيتين ووفق لإدراك الصواب علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق من قال: أن محمدًا رأى ربه الرمي بالفرية على الله كيف بأن يقول "قد أعظم الفرية على الله؟ "".
لأن قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} قد يحتمل معنين على مذهب من يثبت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل، قد يحتمل بأن يكون معنى قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} على ما قال ترجمان القرآن لمولاه عكرمة: ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء.(43/341)
والمعنى الثاني، أي: لا تدركه الأبصار أبصار الناس لأن الأعم والأظهر من لغة العرب أن الأبصار إنما يقع على أبصار جماعة، لا أحسب عربيا يجيء من طريق اللغة يقول لبصر امرئ واحد أبصار، وإنما يقال لبصر امرئ واحد بصر، ولا سمعنا عربيا يقول لعين امرئ واحد بصرين فكيف أبصار.
ولو قلنا: إن الأبصار ترى ربنا في الدنيا لكنا قد قلنا الباطل والبهتان، فأما من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه دون سائر الخلق فلم يقل: إن الأبصار قد رأت ربها في الدنيا فكيف يكون يا ذوي الحجى من يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه دون سائر الخلق مثبتا أن الأبصار قد رأت ربها فتفهموا يا ذوي الحجى هذه النكتة تعلموا أن ابن عباس -رضي الله عنهما- وأبو ذر وأنس بن مالك ومن وافقهم لم يعظموا الفرية على الله، ولا خالفوا حرفا من كتاب الله في هذه المسألة.
فأما ذكرها {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ …..} فلم يقل أبو ذر وابن عباس - رضي الله عنهما - وأنس بن مالك ولا واحد منهم ولا أحد ممن يثبت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل أن الله كلمه في ذلك الوقت الذي كان يرى ربه فيه، فيلزم أن يقال: قد خالفتم هذه الآية. ومن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه لم يخالف قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ ….} وإنما يكون مخالفا لهذه الآية من يقول رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه فكلمه الله في ذلك الوقت".
وأما الآيات التي استدل بها على إثبات الرؤية فهي:
قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم 11-14] .
وقوله تعالى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم 18] .(43/342)
فهذه الآيات كما ذكر أهل العلم لاتدل دلالة صريحة على إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه وإليك أقوالهم:
قال الإمام ابن خزيمة عن الاستدلال بقوله تعالى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} : "وليس هذا التأويل الذي تأولوه لهذه الآية بالبيِّن، وفيه نظر؛ لأن الله إنما أخبر في هذه الآية أنه رأى من أيات ربه الكبرى. ولم يُعلم الله في هذه الآية أنه رأى ربه - جل وعلا - وآيات ربنا ليس هو ربنا - جل وعلا - فتفهموا لا تغالطوا في تأويل هذه الآية".
قال القاضي عياض: "وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول: إنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضًا ولا نص، إذ المعول على آية النجم والتنازع فيهما مأثور والاحتمال لهما ممكن".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك".
وقال أيضًا: "وقد قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء 1] ، ولو كان قد أراه نفسه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.
وكذلك قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم 12] ، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم 18] ، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.
وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء 60] ، قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وهذه رؤيا الآيات لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه، وليس في شئ من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه".(43/343)
وقال ابن القيم "وأما قول ابن عباس أنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ثم قال {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خلق عليها ".
وقال أيضًا: "والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل، وأما قول ابن عباس: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"فالظاهر أن مستنده هذه الآية، وقد تبين أن المرئي فيها جبريل فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس".
وقال شارح الطحاوية: "وقوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11] ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين على صورته التي خلق عليها".
وقال ابن كثير: "وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو جبريل - عليه السلام - هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريبًا إن شاء الله.
وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"، فجعل هذه إحداهم ا. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس في حديث الإسراء "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى"، ولهذا تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صح فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} ، فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض".
الوقفة الثانية: وبالنسبة للسنة ليس هناك دليل صريح قاطع -أيضًا- لأحد الفريقين.
قال ابن خزيمة: "لم تحك عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها أنه لم ير ربه عز وجل".(43/344)
قال القاضي عياض: "ولا أثر قاطع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم ترو عائشة - رضي الله عنها - في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا سألته عن ذلك. ولا نُقل في ذلك عن الصديق - رضي الله عنه -، كما يروونه ناس من الجهال: "أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نعم، وقال لعائشة: لا" فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء".
قال النووي: "ثم عائشة - رضي الله عنها - لم تنف الرؤية بحديث عن رسول صلى الله عليه وسلم ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات".
وقال السيوطي: "ولم تعتمد عائشة في نفي الرؤية على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات".
ومع كون الأدلة من السنة لا تنص على نفي الرؤية مطلقًا إلا أنها تنفي الرؤية البصرية.
قال ابن أبي العز: "لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بعين رأسه، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية، وهو ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه" وفي رواية "رأيت نوراً"، وقد روى مسلم – أيضًا - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - وفي رواية - النار، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"، فيكون - والله أعلم - معنى قوله لأبي ذر: "رأيت نوراً" أنه رأى الحجاب، أي: فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته، فهذا صريح في نفي الرؤية والله أعلم.
وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك".
الوقفة الثالثة: إن قول ابن عباس لا يمكن أن يقال من قبيل الاجتهاد.(43/345)
قال ابن خزيمة: "..فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه وبيقين يعلم كل عالم أن هذا من الجنس الذي لا يدرك بالعقول والأراء والجنان والظنون، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى، ولا أظن أحدا من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه برأي وظن، لا ولا أبو ذر، لا ولا أنس بن مالك، نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه المسألة: "ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس"نقول عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة كذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم له أن يرزق الحكمة والعلم وهذا المعنى من الدعاء وهو المسمى بترجمان القرآن، ومن كان الفاروق - رضي الله عنه - يسأله عن بعض معاني القرآن فيقبل منه".
قال القاضي أبو يعلى: "وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة.... ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلا عن توقيف؛ إذ لا مجال للقياس في ذلك".
وقال النووي: "وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه".
وقال السيوطي: "وإثبات هذا لا يكون إلا بالسماع".
الوقفة الرابعة: المثبت مقدم على النافي.
مع عدم وجود النص القاطع من الكتاب أو السنة، ومع ثبوت الرواية عن ابن عباس وأن ذلك لا يمكن اعتباره من باب الاجتهاد منه، فإن بعض من رجح قول ابن عباس احتج لقوله: بأن ابن عباس مثبت، وعائشة تنفي، والقاعدة تقول في مثل هذا الحال: قول المثبت مقدم على قول النافي وممن احتج بذلك:(43/346)
ابن خزيمة حيث قال: "وقال أبو ذر وابن عباس - رضي الله عنهما - قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وقد أعلمت في مواضع في كتبنا أن النفي لا يوجب علما، والإثبات هو الذي يوجب العلم".
وقال القاضي أبو يعلى: "وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة ... لأنه مثبت والمثبت مقدم على النافي".
وقال البيجوري في شرحه على جوهرة التوحيد: "وقد نفت السيدة عائشة - رضي الله عنها - وقوعها له صلى الله عليه وسلم لكن قدم عليها ابن عباس؛ لأنه مثبت والقاعدة: أن المثبت مقدم على النافي".
قال الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: " ... واختلف في تلك الرؤية، فقيل رآه بعينه حقيقة، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين منهم ابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن، وغيرهم ... وقيل: لم يره بعينه، وهو قول عائشة رضي الله عنها، والصحيح الأول، لأن المثبت مقدم على النافي".
الوقفة الخامسة: الجمع مقدم في حال التعارض.
في حال وجود الخلاف فإن الجمع أولى من الترجيح في حال التعارض إذا كان ممكنًا، وهذا ما دعى بعض العلماء إلى حمل نفي عائشة على الرؤية البصرية، وإثبات ابن عباس على الرؤية القلبية، وبهذا يزول التعارض بين القولين. وممن أخذ بهذا الجمع شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن أبي العز، وابن كثير، وابن حجر، والسفاريني، والشنقيطي وغيرهم، وقد تقدم ذكر أقوالهم.
الوقفة السادسة: المقصود بالرؤية القلبية.
وضح القائلون بالرؤية القلبية المقصود بذلك، ومن أقوالهم في معنى الرؤية القلبية:
ما قاله القرطبي - صاحب التفسير - في تفسير قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} : "أي: لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وذلك أن - الله تعالى - جعل بصره في فؤاده حتى رأى - ربه تعالى - وجعل الله تلك رؤية".(43/347)
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله في المفهم: "وقول ابن عباس: أنه عليه السلام رآه بفؤاده مرتين. الفؤاد القلب ولا يريد بالرؤية – هنا - العلم، فإنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بالله على الدوام، وإنما أراد أن الرؤية التي تخلق في العين خلقت للنبي صلى الله عليه وسلم في القلب، وهذا على ما يقوله أئمتنا: إن الرؤية لا يشترط لها محل مخصوص عقلاً، بل يجوز أن يخلق في أي محل كان، وإنما العادة جارية بخلقها في العين".
وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره: "وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده، فإن قال قائل: المؤمنون يرونه بفؤادهم، وليس ذلك إلا العلم به فما معنى تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب أنهم قالوا: إن الله - تعالى - خلق رؤية لفؤاده فرأى بفؤاده مثل ما يرى الإنسان بعينه".
وقال ابن حجر رحمه الله: "ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه، كما يخلق الرؤية بالعين لغيره والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ولو جرت العادة خلقها في العين".(43/348)
تابع لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
المبحث الثاني: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام
المطلب الأول: الأحاديث الواردة في المسألة.
الاعتماد في هذه المسألة على بعض الأحاديث من بينها:
1- الحديث الأول.
عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: "احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة في صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا فثوّب بالصلاة، وصلى وتجوّز في صلاته فلما سلم قال: "كما أنتم على مصافكم، ثم أقبل إلينا فقال: إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت (1) فإذا أنا بربي - عز وجل - في أحسن صورة. فقال: يا محمد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ (2) . قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حق فادرسوها وتعلموها".
هذا الحديث جاء عن جمع من الصحابة -رضي الله عنهم- من عدة طرق إليك تفصيلها:
الأول: عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - مرفوعا..
__________
(1) استثقلت، أي: نمت.
(2) المراد بهم الملائكة.(43/349)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/243. والترمذي في السنن 5/368 كتاب التفسير باب ومن سورة (ص) رقم 3235 وقال: "هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح".وابن خزيمة في التوحيد 2/540 رقم 320 وقال عن هذه الرواية: أنها "أشبه بالصواب". والحاكم في المستدرك 1/521. والطبراني في المعجم الكبير 20/109. والدارقطني في الرؤية ص 167 رقم 253 وص 170 رقم 259. وأورد هذا الحديث بمختلف طرقه في كتابه العلل (6/54-57 رقم 973) وتكلم عليها بكلام طويل ثم حكم عليها في نهاية كلامه بقوله: "ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة". والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات 1/125. وابن عدي في الكامل 6/2344. والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 55-56 رقم 74-75.
وحديث معاذ هذا صححه الإمام أحمد كما في الكامل لابن عدي 6/2344 وتهذيب التهذيب6/205.
الثاني: عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي مرفوعا.
أخرجه الدارمي في السنن 2/126 كتاب الرؤية باب في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الرب تعالى في النوم. وابن خزيمة في التوحيد 2/534 رقم 318. وابن أبي عاصم في السنة 1/169 رقم 388 وفي 1/204 رقم 467-468 وقال الألباني: "حديث صحيح". والآجري في الشريعة 3/1549-1551 رقم 1041. والحاكم في المستدرك 1/520 وصححه ووافقه الذهبي. واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/514 رقم 901-902 مختصرا. والدراقطني في الرؤية ص 170 رقم 260. والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 57 رقم 77 وص 58 رقم 80-81. والبغوي في تفسيره 7/101 وفي شرح السنة 4/35-36 رقم 924. وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/17. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/176-177 وقال رجاله ثقات.
وانظر الكلام حول أسانيد هذا الطريق في الميزان 2/571 والإصابة 2/405 وتهذيب التهذيب 6/204.
الثالث: عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا.(43/350)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/378.وعبد الله بن أحمد في السنة 2/489 رقم 1121. وابن خزيمة في التوحيد 2/537.
الرابع: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا.
أخرجه الترمذي في السنن 5/366 كتاب التفسير باب من سورة (ص) رقم 3234 وقال: "حسن غريب من هذا الوجه". وابن خزيمة في التوحيد 2/538 رقم 319. وابن أبي عاصم في السنة 1/204 رقم 469 وقال الألباني: "حديث صحيح". والآجري في الشريعة 3/1547-1549رقم 1039-1040. والدارقطني في الرؤية ص 175-176 رقم 268-269. كلهم من طريق أيوب عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس مرفوعا مطولا.
وجاء من طريق أيوب عن أبي قلابة، عن ابن عباس مرفوعا دون ذكر خالد بن اللجلاج.
أخرجه أحمد في المسند 1/368 وقال الشيخ أحمد شاكر - في تعليقه على المسند - 5/162: "إسناده صحيح". والترمذي في السنن 5/366 كتاب التفسير باب من سورة (ص) رقم 3233. وابن خزيمة في التوحيد 2/540 رقم 320. والدراقطني في الرؤية ص 176 رقم 271-273. وأبو بكر النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 56 رقم 76. وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/21.
وقال الترمذي بعد الحديث: "وقد ذكروا بين أبي قلابة وبين ابن عباس في هذا الحديث رجلا، وقد رواه قتادة عن أبي قلابة، عن خالد بن اللجلاج، عن ابن عباس".
الخامس: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(43/351)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد 2/543. وابن أبي عاصم في السنة 1/204 رقم 470 وقال الألباني: "حديث صحيح بما تقدم له من الشواهد". والدارقطني في الرؤية ص 181 رقم 284-287. والبزار كما في كشف الأستار 3/13-14 رقم 2128. والبغوي في شرح السنة 4/38-39 رقم 925. وأبو بكر النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 60 رقم 83. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/177-178 وقال: "رواه البزار من طريق أبي يحيى عن أبي أسماء الرحبي، وأبو يحيى لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات" وكذا قال الألباني في تخريج السنة 1/205: "أنه لا يعرف أبا يحي". وعرفه ابن خزيمة كما في التوحيد 2/543 فقال: "هو عندي سليمان أو سليم ابن عامر". وجزم بذلك البغوي في شرح السنة 4/39 فقال: "هو سليم بن عامر الخبارائي تابعي سمع أبا أمامة". وهو ثقة. انظر التقريب ص 404.
وفيه أبو يزيد الشامي لا يعرف بجرح ولا تعديل "التوحيد 2/544 وشرح السنة 4/39"وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 9/459 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
السادس: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعا.
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/170 رقم 379 وفي 1/203 رقم 466 وقال الألباني: "حديث صحيح". والطبراني في الكبير 8/349 رقم 8117. والدارقطني في الرؤية ص 178-180 رقم 277-280. وأبو بكر النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 58 رقم 78. وأورده السيوطي في الدر المنثور 5/597 ونسبه إلى ابن مردويه. وقال الهيثمي في المجمع 7/179: "رواه الطبراني، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجاله ثقات". قال الحافظ في التقريب ص 817-818 عن ليث: "صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك".
السابع: عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - مرفوعا.
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/203 رقم 465 وقال الألباني: "إسناده حسن". وأورده السيوطي في الدر المنثور 5/597 ونسبه إلى الطبراني في السنة وابن مردويه.(43/352)
الثامن: عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا.
أخرجه الدارقطني في الرؤية ص 180 رقم 283. والبزار كما في كشف الأستار 3/14-15 رقم 2129. وقال الهيثمي في المجمع 7/178: "رواه البزار وفيه سعيد بن سنان وهو ضعيف، وقد وثقه بعضهم، ولم يلتفت إليه في ذلك".
وانظر ترجمته في تهذيب الكمال 10/495 وقال عنه الحافظ في التقريب ص 381: "متروك".
التاسع: عن أبي رافع - رضي الله عنه - مرفوعا.
أخرجه الطبراني في الكبير 1/317 رقم 938. وقال الهيثمي في المجمع 1/237: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الله بن إبراهيم بن الحسين عن أبيه لم أر من ترجمهما". وأورده المتقي الهندي في كنز العمال 1/227 رقم 1151.
العاشر: عن أبي هريرة مرفوعا.
أخرجه الدارقطني في الرؤية ص 182 رقم 288. والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 59 رقم 82. واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد3/520 رقم 919. وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/20. وأورده السيوطي في الدر المنثور 5/597 ونسبه إلى الطبراني في السنة وابن مردويه.
وفيه عبد الله بن أبي حميد قال عنه الحافظ في التقريب ص 637: "متروك الحديث".
الحادي عشر: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعا.
أخرجه الدارقطني في الرؤية ص 178 رقم 276 وص 189 رقم 315. وابن حبان في المجروحين 3/135. وأبو بكر النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق ص 58 رقم 79. وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/20.والسيوطي في الدر المنثور 5/597 ونسبه إلى الطبراني في السنة والشيرازي في الألقاب. وابن حجر في الإصابة 2/406 ونسبه إلى الطبراني في السنة.
وفيه يوسف بن عطية قال عنه الحافظ في التقريب ص 1094: "متروك".
الثاني عشر: عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - مرفوعا.
أخرجه الدارقطني في الرؤية ص 180 رقم.
الثالث عشر: عن أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - مرفوعا.(43/353)
أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 8/151-152. وبإسناده ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/16 من طريقين. وأورده السيوطي في الدر المنثور 5/598 ونسبه إلى الطبراني في السنة والخطيب.
وقد ورد في بعض ألفاظ حديث أبي عبيدة زيادة قوله صلى الله عليه وسلم: "لما كانت ليلة أسري بي ... إلخ"كما أوردها السيوطي في الدر إلا أن هذه الزيادة لم ترد في رواية الخطيب للحديث وعنه ابن الجوزي.
وقد جزم الإمام ابن القيم بأنها خطأ فقال رحمه الله: "وهو حديث لا يصح عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا: "لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى؟ " وذكر الحديث ثم قال: "وهذا غلط قطعا فإنما القصة كانت بالمدينة، كما قال معاذ بن جبل: "احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح حتى كدنا نترآى عين الشمس، ثم خرج وصلى بنا ثم قال: "رأيت ربي البارحة في أحسن صورة فقال: يا محمد: فيما يختصم الملأ الأعلى؟ "وذكر الحديث فهذا كان بالمدينة والإسراء بمكة".التبيان في أقسام القرآن ص260-261.
الرابع عشر: عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - مرفوعا.
أورده السيوطي في الدر المنثور 5/598 ونسبه إلى ابن مردويه. وفي اللفظ الذي أورده السيوطي الزيادة نفسها التي في حديث أبي عبيدة وقد سبق الكلام عليها والله أعلم.
وللحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - رسالة في شرح هذا الحديث تحت عنوان (اختيار الأولى شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) طبعت بتحقيق حسين الجمل في مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان ط1-1407هـ.
وهناك اختلاف في بعض ألفاظ الحديث، وذلك في مختلف الروايات التي جاءت من طرق أخرى عن أربعة عشر صحابيا، كما هو مبين في تخريج الحديث، إلا أني لم أتعرض لاختلاف ألفاظه؛ لأن جميع من رووه اتفقوا على الجملة الأولى وهي قوله صلى الله عليه وسلم "رأيت ربي في أحسن صورة" وهي موطن الشاهد في هذه المسألة.(43/354)
وقد وردت أحاديث أخرى فيها إثبات الرؤية المنامية، لكن في تصحيحها وتضعيفها نزاع كبير بين أهل العلم وهي:
2- الحديث الثاني:
عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي عز وجل".
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند 1/285،290. وعبد الله بن أحمد في السنة 2/484 رقم 1117، وفي2/503 رقم1167. وابن أبي عاصم في السنة 1/188 رقم 433، وفي 1/191-192 رقم 440. والآجري في الشريعة 3/1542 رقم 1033. واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/512-513 رقم 897. والذهبي في السير 10/113-114. وأورده الهيثمي في المجمع /78 وقال: "رجاله رجال الصحيح". وقال ابن كثير في تفسيره 7/425: "إسناده على شرط الصحيح لكنه مختصر من حديث الرؤية". وقال الألباني في تخريج السنة 1/188: "حديث صحيح مختصر من حديث الرؤية". وقال: "أخرجه – أيضا - الضياء في المختارة 66/79/1"ثم قال: "وروى الضياء في المختارة عن أبي زرعة الرازي: "حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في الرؤية صحيح ولا ينكره إلا معتزلي".
وجاء من طرق أخرى بلفظ آخر أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات 2/363-364 رقم 938، والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات 1/133-136، 143، والخطيب في تاريخ بغداد 11/214، وابن عدي في الكامل 2/677، وأبو بكر بن أبي داود والطبراني في السنة كما في اللالئ المصنوعة 1/29، وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/22-23، وأورده المتقي الهندي في كنز العمال 1/228 رقم 1152.
كلهم من طرق عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا لكن بلفظ: "رأيت ربي - عز وجل - جعدا أمرد عليه حلة خضراء"أو نحو ذلك.
قال ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/23: "هذا الحديث لا يثبت وطرقه كلها على حماد بن سلمة قال ابن عدي: قد قيل: أن ابن أبي العوجاء كان ربيب حماد فكان يدس في كتبه هذه الأحاديث".(43/355)
وقد ذكر هذه الحكاية ابن عدي في الكامل لكن من طريق محمد بن شجاع الثلجي وابن الثلجي هذا له ترجمة مظلمة انظرها في ميزان الاعتدال 3/577-579، وابن عدي نفسه قال في الكامل: "إنه كان يضع الحديث في التشبيه وينسبها إلى أصحاب الحديث يثلبهم بذلك". وانظر التنكيل 1/243-244.
وقال الذهبي في السير 10/113-114: "وهو خبر منكر نسأل الله السلامة في الدين، فلا هو على شرط البخاري، ولا مسلم ورواته، وإن كانوا غير متهمين فما هم بمعصومين من الخطأ والنسيان فأول الخبر قال "رأيت ربي" وما قيده بالنوم وبعض من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج يحتج بظاهر الحديث".
ونقل السيوطي في اللالئ المصنوعة 1/31 عن ابن أبي داود قوله بعد الحديث: "فهذا من أنكر ما أتى به حماد بن سلمة، وهذه الرؤية رؤية منام إن صحت".
فإن كان الحمل في هذا الحديث على حماد بن سلمة فقد قال ابن عدي في الكامل: "إن الأحاديث التي رويت عن حماد بن سلمة في الرؤية قد رواها غير حماد بن سلمة".
وقد رد الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في التنكيل 1/244 على الكوثري الذي زعم أن حماد بن سلمة روى أحاديث طامات من بينها هذا فقال: "والجواب: أن لهذا الحديث طرقا معروفة في بعضها ما يشعر بأنها رؤيا منام، وفي بعضها ما يصرح بذلك، فإن كان كذلك اندفع الاستنكار، وإلا فلأهل العلم في تلك الأحاديث كلام معروف".
وقد أطال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات في الكلام على طرق
الحديث وذكر من صححه من أهل العلم وبخاصة كلام الإمام أحمد بما ملخصه أن الحديث صحيح والله أعلم انظر: إبطال التأويلات 1/139-145.
3- الحديث الثالث:
عن عمارة بن عامر، عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب - رضي الله عنهما - قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه - عز وجل - في المنام في صورة شاب موفر في خضر على فراش من ذهب، في رجليه نعلان من ذهب".(43/356)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/205 رقم 471. والطبراني في المعجم الكبير 25/143 رقم 346. والبيهقي في الأسماء والصفات 2/367-369 رقم 942. والدارقطني في الرؤية ص 190 رقم 316. والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات 1/141. والخطيب في تاريخ بغداد 13/311. وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/15 وفي الموضوعات 1/181 من طريق الخطيب. والهيثمي في مجمع الزوائد 7/179. والسيوطي في اللالئ المصنوعة 1/30. وابن عراق في تنزيه الشريعة 1/145. والشوكاني في الفوائد المجموعة ص 447-448. والمتقي الهندي في كنز العمال 1/228 رقم 1153.
وقال ابن حبان في الثقات 5/245: "عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ربي" حديثا منكرا لم يسمع عمارة من أم الطفيل وإنما ذكرته لكي لا يغتر الناظر فيه، فيحتج به من حديث أهل مصر".
وقال البخاري في التاريخ الكبير 6/3111: "لا يعرف سماع عمارة من أم الطفيل" وقال في التاريخ الأوسط 1/435 "ولايعرف عمارة ولا سماعه من أم الطفيل".
وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع وقال: "أما نعيم فقد وثقه قوم، وقال ابن عدي: كان يضع الحديث، وكان يحيى بن معين يهجنه في رواية حديث أم الطفيل، وكان يقول ما كان ينبغي به أن يحدث بمثل هذا الحديث"وانظر: تاريخ بغداد 13/311.
ثم قال: "وأما مروان فقال أبو عبد الرحمن النسائي: ومن مروان حتى يصدق على الله عز وجل. قال مهنا: سألت أحمد عن هذا الحديث، فحوّل وجهه عني، وقال: هذا حديث منكر، هذا رجل مجهول: يعني مروان"اهـ. انظر إبطال التأويلات 1/140.ثم قال: "ولا يعرف – أيضا - عمارة".
وتبعه في ذلك الشوكاني كما في الفوائد المجموعة ص 447، 448 وقال: "موضوع، وفي إسناده وضاع وكذاب ومجهول".(43/357)
لكن تعقبه المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي - رحمه الله - بقوله: "يريد بالأول نعيم بن حماد بناء على قول ابن الجوزي، قال ابن عدي: يضع الحديث. وهذا وهم قبيح من ابن الجوزي، وإنما حكى ابن عدي، عن الدولابي، عن بعضهم لا يدرى من هو ورده ابن عدي، وحمل على الدولابي". راجع ترجمة نعيم في تهذيب التهذيب ومقدمة الفتح.
ويريد بالكذاب مروان بن عثمان بناء على ما روى عن النسائي أنه قال: ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله، وهذا لا يعطي أنه كذاب، وعدم التصديق لا يستلزم التكذيب، فإنه يحتمل التوقف، ويحتمل قوله على أنه أخطأ.
ويدل على هذا أن النسائي أخرج لمروان هذا في سننه.
ويريد بالمجهول عمارة بن عامر بن حزم، ويقال: عمارة بن عمير، وذكره البخاري في الضعفاء، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر هذا الحديث وقال: منكر لم يسمعه عمارة من أم الطفيل، وله شواهد ذكرها في اللآلئ، وحاصله رؤيا المنام تجيء - غالبا - على وجه التمثيل المفتقر إلى التأويل، والله أعلم.
وقال الألباني في تخريج السنة 1/205 رقم 471: "حديث صحيح بما قبله وإسناده ضعيف مظلم".
المطلب الثاني: القول في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام.
أثبت العلماء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم المنامية لربه - عز وجل -، واعتمدوا في ذلك على الأحاديث الواردة بهذا الشأن، والتي تقدم ذكرها في المطلب الأول، وهذه الرؤيا ليست محل خلاف، وقد وقعت بالمدينة النبوية، وهناك فرق بينها وبين الرؤية التي وقعت ليلة الإسراء بمكة، والتي دار الخلاف عليها حسب ما تقدم ذكره في المبحث الأول، وهذه الرؤيا التي وقعت في المنام داخلة في عموم أن رؤيا الأنبياء وحي.(43/358)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد صح عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى" ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه - تبارك وتعالى - تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وقال: نعم رآه حقا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد".
وقال أيضًا: "وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: "رأيت ربي في صورة كذا وكذا"، يروى من طريق ابن عباس، ومن طريق أم الطفيل، وغيرهما وفيه "أنه وضع يده بين كتفيَّ حتى وجدت برد أنامله على صدري"، هذا الحديث لم يكن ليلة المعراج، فإن هذا الحديث كان بالمدينة. وفي الحديث: أن النبي نام عن صلاة الصبح، ثم خرج إليهم، وقال: "رأيت كذا وكذا"وهو من رواية من لم يصل خلفه إلا بالمدينة كأم الطفيل وغيرها، والمعراج إنما كان من مكة باتفاق أهل العلم، وبنص القرآن والسنة المتواترة، كما قال الله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء 1] .
فعلم أن هذا الحديث كان رؤيا منام بالمدينة، كما جاء مفسرًا في كثير من طرقه أنه كان رؤيا منام، مع أن رؤيا الأنبياء وحي، لم يكن رؤيا يقظة ليلة المعراج".
المطلب الثالث: أقوال أهل العلم في الرؤية المنامية عمومًا
ذكر غير واحد من أهل العلم أن رؤية الله في المنام جائزة، وهذه الرؤية شأنها شأن سائر الرؤى المنامية تعبر، فإن النائم لا يرى الله حقيقة، فرؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير، وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق، وإليك بعض أقوال العلماء في هذه المسألة.
قال الإمام الدارمي: "وفي المنام يمكن رؤية الله على كل حال، وفي كل صورة".(43/359)
قال الإمام البغوي: "رؤية الله في المنام جائزة، قال معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني نعست فرأيت ربي"وتكون رؤيته - جلّت قدرته - ظهور العدل، والفرج، والخصب، والخير لأهل ذلك الموضع، فإن رآه فوعد له جنة أو مغفرة، أو نجاة من النار، فقوله حق ووعده صدق. وإن رآه ينظر إليه، فهو رحمته، وإن رآه معرضا عنه فهو تحذير من الذنوب، لقوله سبحانه وتعالى {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران 77] وإن أعطاه شيئا من متاع الدنيا فأخذه فهو بلاء ومحن، وأسقام تصيب بدنه، يعظم بها أجره، لا يزال يضطرب فيها حتى يؤديه إلى الرحمة، وحسن العاقبة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحا لم ير إلا صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه، نقص رأى ما يشبه إيمانه ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة ولها تعبير وتأويل، لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق".
وقال - رحمه الله - في بيان تلبيس الجهمية: "فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه. فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام، فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلاً، ولكن لابد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة، ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس.
قال بعض المشايخ: "إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجاباً بينه وبين الله. وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظن عاقلاً ينكر ذلك، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه، إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره، وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين.(43/360)
وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام، ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام، فيكونون قد جعلوا هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام، فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل، مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم، وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى، وإنما ذلك بحسب حال الرائي، وصحة إيمانه وفساده، واستقامة حاله وانحرافه، وقول من يقول: ما خطر بالبال أو دار في الخيال فالله بخلافه ونحو ذلك [بياض بمقدار أربع كلمات] إذا حمل على مثل هذا كان محملاً صحيحًا، فلا نعتقد ما يتخيله الإنسان في منامه أويقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان، ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف مايتخيله ويتصوره في منامه ويقظته، وإن كان ما رآه مناسبًا ومشابهًا لها، فالله -تعالى- أجل وأعظم".
المبحث الثالث: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا عيانًا.
المطلب الأول: قول أهل السنة في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عيانًا في الدنيا.
ينبغي - هنا - التفريق، وعدم الخلط بين مسألتين، المسألة الأولى: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وهذه هي التي حصل الكلام فيها بين أهل السنة، وقد تقدم بسط ذلك في المبحث الأول؛ والمسألة الثانية: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا عيانًا وهذه لم يختلف فيها قول أهل السنة، فهم مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا عياناً، وأن ما ذكر من أحاديث في هذه المسألة فهو في عداد الموضوعات التي لا يصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(43/361)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد اتفق المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه في الأرض، وأن الله ينزل له إلى الأرض، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم قط حديث فيه أن الله نزل له إلى الأرض، بل الأحاديث الصحيحة: "أن الله يدنو عشية عرفة" وفي رواية "إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفرله؟ " ".
المطلب الثاني: الأحاديث الموضوعة في المسألة.
علم في المطلب السابق أنه لم يصح حديث في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا عياناً، وقد ذكر العلماء أن ما يروى في هذا الشأن فهو كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له أصل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكل حديث فيه "أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض"، فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين ولا رواه أحد منهم.
وقال أيضًا: "وبالجملة أن كل حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه في الأرض، وفيه أنه نزل له إلى الأرض، وفيه أن رياض الجنة خطوات الحق، وفيه أنه وطئ على صخرة بيت المقدس، كل هذا كذب باطل باتفاق علماء المسلمين، من أهل الحديث وغيرهم".
ومن الأحاديث الموضوعة في هذا الشأن ما يلي:
1- الحديث الأول.
عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - مرفوعا: "رأيت ربي عز وجل على جمل أحمر عليه إزاران وهو يقول: قد سمحت قد غفرت إلا المظالم، فإذا كان ليلة المزدلفة، ثم يصعد إلى السماء، وينصرف الناس إلى منى".
أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/180) وقال عنه: "هذا حديث لا يشك أحد في أنه موضوع، محال".
والسيوطي في اللآلي المصنوعة 1/27.
وابن عراق في تنزيه الشريعة 1/139 رقم 17 وقال: "أخرجه الأهوازي في الصفات من حديث أسماء فقبح الله واضعه".
2- الحديث الثاني.(43/362)
عن أبي رزين العقيلي - رضي الله عنه - مرفوعا: "رأيت ربي بمنى يوم النفر، على جمل أورق عليه جبة صوف أمام الناس".
أورده الذهبي في ميزان الاعتدال 1/513 وفي السير 18/16-17.
والقاضي الفتني في تذكرة الموضوعات ص 12-13.
والقاري في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 102.
واتفقوا على أنه موضوع باطل، وأن المتهم به هو أبوعلي الأهوازي، كما قال ابن عساكر.
المبحث الرابع: رؤية البشر لربهم في الحياة الدنيا.
لعل من المناسب بعد ذكر ما يتعلق بمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وما يتصل بها من مسائل، الإشارة إلى مسألة رؤية البشر لربهم في الحياة الدنيا، وذلك لما بين المسألتين من ترابط من جهة وجود نوع علاقة بين المسألتين، باعتبار أن من زعم جواز حصول الرؤية للبشر استند في زعمه على ما ذكر من أحاديث مكذوبة في وقوع الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، ومعلوم أن بضاعة المتصوفة الذين جوزوا حصول ذلك لأوليائهم هي الأحاديث المكذوبة من مثل ما تقدم ذكره في المطلب الثاني من المبحث الثالث، وعلى هذا الاعتبار بنى أولئك المتصوفة مزاعمهم، بأن ذلك يجوز حصوله لمن وصل إلى مرحلة معينة في الولاية التي قد يعتبرها البعض منهم فوق منزلة النبوة، وبهذه النظرة ما المانع أن يحصل مثل ذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما من قال بامتناع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا عياناً، فلا شك أنه يقول بامتناعها على غيره من باب أولى، فإذا كانت الرؤية لم تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم -مع ما له من مكانة وشرف ومنزلة عظيمة عند الله - فكيف تحصل لمن هو دونه في المنزلة والمكانة، على أن مستند من نفى رؤية البشر لله في الدنيا هو نص السنة، كما سيأتي ذكره.
ومسألة رؤية البشر لله عمومًا يتنازعها ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: من نفى الرؤية بإطلاق فلم يثبتها في الدنيا، ولا في الآخرة على حد سواء، بل نفى حتى الرؤيا المنامية.(43/363)
وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة المعطلة الذين ليس عندهم فوق العرش إلا العدم المحض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام، ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام فيكونون قد جعلوا هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام، فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم".
وقال أيضًا: "وإنما يكذب بها أو يحرفها - أي: أحاديث الرؤية في الآخرة - الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم، من الذين يكذبون بصفات الله تعالى، وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة.
ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية، بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل".
الطائفة الثانية: من يثبت الرؤية بإطلاق فيزعم أن الله يرى في الدنيا عياناً، كما يرى في الآخرة عياناً. وهذا يقول به بعض المتصوفة من الاتحادية والحلولية.
فأما الاتحادية أهل وحدة الوجود فهم الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام، وفي ذلك يقول ابن عربي:
ألا كل قول في الوجود كلامه
سواء علينا نثره ونظامه
يعم به أسماع كل مكون
فمنه إليه بدؤه وختامه(43/364)
فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات 24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص 28] وبين القول الذي يسمعه موسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه 14] ، بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون، يصرحون بأن أقوالهم هي قوله".
وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والعفيف التلمساني.
وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوى الآخر، ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي:
فيعبدني وأعبده
ويحمدني وأحمده
ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد؛ إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد والكمال فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون: لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم – أيضا - وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضي".
وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام، والإثبات العام، فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.(43/365)
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون: يرى هو في الأشياء، وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
عين ما ترى ذات لا ترى
وذات لا ترى عين ما ترى
وهم مضطربون؛ لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقًا بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود.
وفي هذا يقول ابن عربي:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً
وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسددًا
وكنت إمامًا في المعارف سيدًا
فمن قال بالإشفاع كان مشركًا
ومن قال بالإفراد كان موحدًا
فإياك والتشبيه إن كنت ثانيًا
وإياك والتنزيه إن كنت مفردًا
فما أنت هو بل أنت هو وتراه
في عين الأمور مسرحا ومقيدًا (1)
وأما الفرق بين الاتحاد والحلول، فإن الاتحاد كاتحاد الماء باللبن، وأما الحلول فكحلول الماء في الإناء.
والقسمة بين الحلولية والاتحادية رباعية، فإن كل واحد من الحلول والاتحاد: إما معين في شخص، وإما مطلق.
قال شيخ الإسلام: "وذلك أن القسمة رباعية؛ لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فإما أن يقول بحلوله فيه، أو اتحاده به، وعلى التقدرين: فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق كالمسيح، أو يجعله عاما لجميع الخلق، فهذه أربعة أقسام:
__________
(1) بغية المرتاد (ص473)(43/366)
الأول: هو الحلول الخاص: وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول: إن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به، كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى؛ بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان في زمن المأمون؛ وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون: إنه حلَّ بعلي بن أبي طالب، وأئمة أهل بيته، وغالية النُسَّاك الذين يقولون بالحلول في الأولياء، ومن يعتقدون فيه الولاية أو في بعضهم، كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء.
والثاني: هو الاتحاد الخاص: وهو قول يعقوبية النصارى، وهم أخبث قولاً، وهم السودان والقبط، يقولون: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا
كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.
والثالث: هو الحلول العام: وهو قول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، ويتمسكون بمتشابه من القرآن كقوله {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام 3] وقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد 4] والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة، وأهل المعرفة وعلماء الحديث.
الرابع: الاتحاد العام: وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين:
من جهة أن أولئك قالوا: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون: مازال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره.(43/367)
والثاني من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظَّموه كالمسيح، وهؤلاء جعلوا ذلك ساريا في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ، وإذا كان الله - تعالى - قد قال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآية، فكيف بمن قال: إن الله هو الكفار، والمنافقون، والصبيان، والمجانين، والأنجاس، والأنتان، وكل شيء؟! ".
وأما عن الحلولية، فقد قال الأشعري: "وفي الأمة قوم ينتحلون النسك، يزعمون أنه جائز على الله - تعالى - الحلول في الأجسام، وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعله، ربنا.
ومنهم من يقول: إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن.
ومنهم من يجوِّز على الله - تعالى - المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا، وجوّزوا مع ذلك على الله - تعالى الله عن قولهم - أن نلمسه.
ومنهم من يزعم أن الله - سبحانه - ذو أعضاء وجوارح وأبعاض: لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح - تعالى ربنا عن قولهم علوا كبيرا.
وكان في الصوفية رجل يُعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه، ويغتم ويحزن إذا عَصَوْهُ.
وفي النسَّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم - من الزنا وغيره - مباحات لهم. وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم أن يروا الله، ويأكلوا من ثمار الجنة، ويعانقوا الحور العين في الدنيا، ويحاربوا الشياطين، ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين".(43/368)
وعلق شيخ الإسلام على كلام الأشعري بعد أن أورده في منهاج السنة بقوله: "قلت: هذه المقالات التي حكاها الأشعري - وذكروا أعظم منها - موجودة في الناس قبل هذا الزمان. وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة، ويقول: إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده، أو صفات معبوده، أو مظاهر جماله، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد. ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال، لما في ذلك من اللذة له، فيتخذ إلهه هواه، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف. ومنهم من يقول: إنه يرى الله مطلقًا ولا يعيِّن الصورة الجميلة، بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة. ومنهم من يقول: إن المواضع المخضرَّة خطا عليها، وإنما اخضرت من وطئه عليها، وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها. وأما القول بالإباحة وحل المحرمات - أو بعضها - للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية، وغير الإسماعيلية، وكثير من الفلاسفة، ولهذا يُضرب بهم المثل فيقال: فلان يستحل دمي، كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع، وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.
ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة، وهي - وأشنع منها - موجودة في الشيعة.
وكثير من النسَّاك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم، وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله - تعالى - وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر، حتى يظن أن ذلك شيء يراه بعينه الظاهرة، وإنما هو موجود في قلبه.(43/369)
ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضًا بذلك، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه، وإنما هو موجود في نفسه، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله. فهذه الأمور تقع كثيرًا في زماننا وقبله، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج.
وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان، ويرى نورًا أو عرشا أو نورًا على
العرش، ويقول: أنا ربك. ومنهم من يقول: أنا نبيك، وهذا قد وقع لغير واحد. ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك، ويكون المخاطب له جنيًّا، كما قد وقع لغير واحد. لكن بسط الكلام على ما يُرى ويُسمع وما هو في النفس والخارج، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع.
وكثير من الجهَّال أهل الحال وغيرهم يقولون: إنهم يرون الله عيانًا في الدنيا، وأنه يخطو خطوات".
وقال ابن القيم: "ومن ظنَّ من القوم أن كشف العين ظهور الذات المقدسة لعيانه حقيقة فقد غلط أقبح الغلط. وأحسن أحواله: أن يكون صادقًا ملبوسًا عليه. فإن هذا لم يقع في الدنيا لبشر قط، وقد منع منه كليم الرحمن صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف السلف والخلف: هل حصل هذا لسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه؟ فالأكثرون على أنه لم ير الله سبحانه، وحكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعًا من الصحابة. فمن ادعى كشف العيان البصري عن الحقيقة الإلهية فقد وهم وأخطأ، وإن قال: إنما هو كشف العيان القلبي، بحيث يصير الرب سبحانه كأنه مرئي للعبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أن تعبد الله كأنك تراه" فهذا حق، وهو قوة يقين، ومزيد علم فقط.(43/370)
نعم، قد يظهر له نور عظيم، فيتوهم أن ذلك نور الحقيقة الإلهية، وأنها قد تجلت له، وذلك غلط أيضاً، فإن نور الرب – تعالى – لا يقوم له شيء، ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ وتدكدك، وقال ابن عباس في قوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} قال: "ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى به لم يقم له شيء".
وهذا النور الذي يظهر للصادق: هو نور الإيمان الذي أخبر الله عنه في قوله {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} قال أبي بن كعب: "مثل نوره في قلب المؤمن" فهذا نور يضاف إلى الرب، ويقال هو نور الله كما أضافه الله - سبحانه - إلى نفسه، والمراد: نور الإيمان الذي جعله الله له خلقًا وتكوينًا كما قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فهذا النور إذا تمكن من القلب، وأشرق فيه: فاض على الجوارح. فيرى أثره في الوجه والعين، ويظهر في القول والعمل. وقد يقوى حتى يشاهده صاحبه عياناً؛ وذلك لاستيلاء أحكام القلب عليه، وغيبة أحكام النفس.
والعين شديدة الارتباط بالقلب تظهر ما فيه، فتقوى مادة النور في القلب ويغيب صاحبه بما في قلبه عن أحكام حسه. بل وعن أحكام العلم فينتقل من أحكام العلم إلى أحكام العيان.
وسر المسألة: أن أحكام الطبيعة والنفس شيء، وأحكام القلب شيء، وأحكام الروح شيء، وأنوار العبادات شيء، وأنوار استيلاء معاني الصفات والأسماء على القلب شيء، وأنوار الذات المقدسة شيء وراء ذلك كله.
فهذا الباب يغلط فيه رجلان، أحدهما: غليظ الحجاب، كثيف الطبع والآخر: قليل العلم، يلتبس ما في ذهنه بما في الخارج، ونور المعاملات بنور رب الأرض والسموات {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ".(43/371)
وقال أيضًا: "والرب - تبارك وتعالى - وراء ذلك كله، منزه مقدس عن اطلاع البشر على ذاته، أو أنوار ذاته، أو صفاته، أو أنوار صفاته. وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد، كما يقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما".
وقال أيضًا: "فإن نور الجلال في القلب ليس هو نور ذي الجلال في الخارج. فإن ذلك لا تقوم له السموات والأرض؛ ولو ظهر للوجود لتدكدك، لكنه شاهد دال على ذلك، كما أن المثل الأعلى شاهد دال على الذات. والحق وراء ذلك كله، منزه عن حلول واتحاد، وممازجة لخلقه؛ وإنما تلك رقائق وشواهد تقوم بقلب العارف، تدل على قرب الألطاف منه في عالم الغيب حيث يراها، وإذا فني فإنما يفنى بحال نفسه لا بالله ولا فيه، وإذا بقي فإنما يبقى بحاله هو ووصفه، لا ببقاء ربه وصفاته، ولا يبقى بالله إلا الله، ومع ذلك فالوصول حق يجد الواصل آثار تجلي الصفات في قلبه، وآثار تجلي الحق في قلبه. ويوقف القلب فوق الأكوان كلها بين يدي الرب - تعالى - وهو على عرشه، ومن يكاشف بآثار الجلال والإكرام فيجد العرش والكرسي تحت مشهد قلبه حكما، وليس الذي يجده تحت قلبه حقيقة العرش والكرسي بل شاهد ومثال علمي يدل على قرب قلبه من ربه، وقرب ربه من قلبه، وبين الذوقين تفاوت فإذا قرب الرب - تعالى - من قلب عبده بقيت الأكوان كلها تحت مشهد قلبه، وحينئذ يطلع في أفقه شمس التوحيد فينقشع بها ضباب وجوده ويضمحل ويتلاشى، وذاته وحقيقته موجودة بائنة عن ربه، وربه بائن عنه، فحينئذ يغيب العبد عن نفسه ويفنى، وفي الحقيقة هو باق غير فان، ولكنه ليس في سره غير الله قد فني فيه عن كل ما سواه.
نعم، قد يتفق له في هذه الحالة أن لا يجد شيئا غير الله؛ فذلك لاستغراق قلبه في مشهوده وموجوده، ولو كان ذلك في نفس الأمر لكان العبد في هذه الحال خلقا بارئا مصورا أزليا أبديا.(43/372)
فعليك بهذا الفرقان، واحذر فريقين هما أعدى عدو لهذا الشأن فريق الجهمية المعطلة التي ليس عندها فوق العرش إلا العدم المحض، فشَمُّ رائحة هذا المقام من أبعد الأمكنة حرام عليها، وفريق أهل الاتحاد القائلين بوحدة الوجود وأن العبد ينتهي في هذا السفر إلى أن يشهد وجوده هو عين وجود الحق جل جلاله، وعيشك بجهلك خير من معرفة هاتين الطائفتين، وانقطاعك مع الشهوات خير من أن تكون معهما والله المستعان وعليه التكلان".
الطائفة الثالثة: من نفى الرؤية العيانية في الدنيا، وأثبتها في الآخرة وذلك في عرصات يوم القيامة، وفي الجنة.
وهذا قول أهل السنة والجماعة.
قال الإمام البربهاري: "ومن زعم أنه يرى ربه في دار الدنيا؛ فهو كافر بالله عز وجل".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك كل من ادعى أنه رأى ربه بعينه قبل الموت فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة، لأنهم اتفقوا جميعًا على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت. وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما ذكر الدجال قال: "واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت".
كذلك روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر، يحذر أمته فتنة الدجال، بين لهم أن أحدًا منهم لن يرى ربه حتى يموت، فلا يظن أحد أن هذا الدجال الذي رآه هو ربه.
ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله ويقين القلوب ومشاهدتها وتجليتها هو على مراتب كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل - عليه السلام - عن الإحسان قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة – أيضاً - من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم. وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا.(43/373)
وربما غلب أحدهم ما يشهده قلبه وتجمعه حواسه فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام.
فهكذا من العباد من يحصل له مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشعور بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غلط في ذلك، وكل من قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين أنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان.
نعم، رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضًا للناس في عرصات القيامة، كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحوًا ليس دونه سحاب" (1) ".
" ... وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم من الذين يكذبون بصفات الله - تعالى - وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة.
ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية، بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل.
وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال كما تقدم، فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص، إما بعض الصالحين، أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى بن مريم.
بل هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، ويقول للناس أنا ربكم.
__________
(1) حديث متواتر.(43/374)
فهذا - أي الدجال - ادعى الربوبية وأتى بشبهات فتن بها الخلق، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت" (1) ، فذكر لهم علامتان ظاهرتين يعرفهما جميع الناس، لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن من الناس من يضل فيُجَوِّز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر، كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك، وهؤلاء قد يسمون (الحلولية) و (الاتحادية) ".
فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدميًا إما شخصًا، أو صبيًا، أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمهم. يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفارًا، إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم، بل الذين قالوا أنه اتخذ ولدًا حتى قال {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أن أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم 88-93] ، فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليًا - رضي الله عنه -، أو غيره من أهل البيت هو الله.
__________
(1) سبق تخريجه في بداية البحث.(43/375)
وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي - رضي الله عنه - بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كنده، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثًا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة - رضي الله عنهم - على قتلهم، لكن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء".
الخاتمة
بعد هذا العرض لمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، ولبعض المسائل المتعلقة بها أعرض أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث فأقول:
أولاً: بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج فإن الأدلة التي استعرضانها في المبحث الخاص بهذه المسألة ليست قاطعة، وغالبها مبني على الاجتهاد مما يصعب مهمة الترجيح بينها، لكن الذي تطمئن إليه النفس هو ترجيح مذهب من جمع بين أقوال الصحابة ومن بعدهم من نفي وقوع الرؤية البصرية، وأن الرؤية التي أثبتها بعضهم إنما المراد بها الرؤية القلبية، وهو مذهب جماعة من المحققين على رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وابن كثير وابن حجر - رحمهم الله جميعا - وغيرهم.
ثانياً: أما بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام فإن هذه المسألة متفق على وقوعها له صلى الله عليه وسلم وجواز وقوعها لغيره من البشر، ولم يقع نزاع في ذلك بين أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: أما الرؤية العيانية في الدنيا فقد اتفق أهل السنة والجماعة على عدم وقوعها لأحد لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره، وأن كل الأحاديث التي تروى في هذه المسألة فهي موضوعة لا يصح منها شيء.
وكل ما يدعيه الصوفية خاصة، ومن نحا نحوهم من رؤيتهم الله -تبارك وتعالى- عيانًا في هذه الدنيا فإنه كذب محض ولا أساس له من الصحة. فإن هذا مما وقع الاتفاق على عدم وقوعه لأحد كما سبق.(43/376)
وفي الختام فهذا جهدي أقدمه لإخواني القراء، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمني وأستغفر الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(43/377)
تابع لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
قائمة المصادر والمراجع
الأسماء والصفات، أحمد بن حسين البيهقي، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي للتوزيع، جدة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1413هـ/1993م.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مطبعة المدني، مصر.
أعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، مصر، 1388هـ.
الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، سوريا، ط1، 1401هـ/1981م.
إبطال التأويلات لأخبار الصفات، أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء، تحقيق محمد بن حمد الحمود، مكتبة دار الإمام الذهبي، الكويت، ط1، 1401هـ.
اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر، تحقيق د/ عواد عبد الله المعتق، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط2، 1415هـ/1995.
الإشارة إلى سيرة المصطفى، الحافظ مغلطاي، تحقيق محمد نظام الدين الفتيح، دار القلم، دمشق سوريا، الدار الشامية بيروت لبنان، ط1، 1416هـ، 1996م.
الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن القيم، مكتبة المعارف، الرياض.
الإيمان، محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده، تحقيق د/علي بن محمد ناصر الفقيهي، من مطبوعات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
اختيار الأولى شرح حديث اختصام الملأ الأعلى - ابن رجب الحنبلي - تحقيق حسين الجمل، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان ط1، 1407هـ.
البحر المحيط، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، تحقيق مجموعة من الباحثين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط1، 1413هـ، 1993م.(43/378)
البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان، ط4، 1401هـ.
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (نقض تأسيس الجهمية) ، شيخ الإسلام بن تيمية أحمد بن عبد الحليم، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1391هـ.
التاريخ الأوسط، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق محمد بن إبراهيم اللحيدان، دار الصميعي، الرياض، ط1، 1418هـ، 1998م.
التاريخ الكبير، عبد الله بن إسماعيل البخاري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، 1407هـ.
تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
تاريخ دمشق، علي بن الحسن بن عساكر، تحقيق: محب الدين العمروي، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1415هـ.
التبيان في أقسام القرآن، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية.
تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، أبو الحجاج يوسف المزي، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة، بمباي الهند، ط2، 1403هـ، 1983م.
تحفة المريد بشرح جوهرة التوحيد، إبراهيم اللقاني، دار الكتب العلمية، لبنان.
التدوين في أخبار قزوين، عبد الكريم الرافعي، تحقيق عزيز الله العطاردي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1408هـ، 1987م.
تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ، 1997م.
تفسير القرآن، إسحاق بن إبراهيم البستي، تحقيق عثمان معلم محمود شيخ علي، رسالة دكتوره بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
تفسير الحسن البصري، جمع د/ شير علي شاه، الجامعة العربية، كراتشي باكستان، ط1، 1413هـ، 193م.
تفسير القرآن، أبو المظفر السمعاني، تحقيق ياسر بن إبراهيم وغنيم غنيم، دار الوطن، الرياض، ط1، 1418هـ، 1997م.
التفسير الكبير، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط3.(43/379)
تفسير النسائي، جمع صبري عبد الخالق الشافعي وآخر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت لبنان، ط1، 1410هـ، 1990م.
تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
تقريب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: أبو الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، ط1، 1416هـ.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن عبد البر، تحقيق: عبد الله بن الصديق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، ط2، 1399هـ/1979م.
تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، أبو الحسن علي بن محمد بن عراق، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1401هـ.
التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، 1403هـ، 1983م.
تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، ط1، 1325.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أبو الحجاج يوسف المزي، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط5، 1415هـ/1994م.
التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق: عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1408هـ.
التوحيد ومعرفة أسماء الله وصفاته على الاتفاق والتفرق، ابن مندة، تحقيق: د/علي بن محمد بن ناصر فقيهي، الجامعة الإسلامية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية.
الثقات، محمد بن حبان البستي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمود محمد شاكر، شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط3.
الجامع الصحيح، محمد بن إسماعيل البخاري، دار السلام، الرياض، ط1، 1417 هـ، 1997م.(43/380)
الجامع الصحيح، محمد بن إسماعيل البخاري، طبعة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية.
حاشية الصاوي على تفسير الجلالين، أحمد الصاوي المالكي، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان.
الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني، تحقيق: محمد بن ربيع بن هادي المدخلي، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1، 1411هـ/1990م.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د/ محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العرببة السعودية.
الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، جلال الدين السيوطي، تحقيق أبو إسحاق الحويني، دار ابن عفان، الخبر، ط1، 1416هـ، 1996م.
ذيل طبقات الحنابلة، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، طبع بذيل طبقات الحنابلة.
الرؤية، علي بن عمر الدارقطني، تحقيق: مبروك إسماعيل مبروك، مكتبة القرآن، القاهرة، مصر.
الرد على الجهمية، عثمان بن سعيد الدارمي، ضمن مجموعة عقائد السلف، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر.
الرد على المريسي، عثمان بن سعيد الدارمي، ضمن مجموعة عقائد السلف، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر.
الرد على من يقول القرآن مخلوق، أحمد بن النجاد، تحقيق: رضا الله محمد إدريس، مكتبة الصحابة، الكويت، 1400هـ.
الروايتين والوجهين (مسائل من أصول الديانات، أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء، تحقيق سعود الخلف، دار البخاري، المدينة النبوية.
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبي الفضل شهاب الدين محمود البغدادي الآلوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
زاد المعاد في هدى خير العباد، ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط14، 1407هـ.(43/381)
سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي، تحقيق عادل عبد الموجود وآخر، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط1، 1414هـ.
السنة، أبو بكر عمرو بن أبي عاصم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1400هـ.
السنة، أحمد بن محمد بن هارون الخلال، تحقيق: د/عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1، 1410هـ.
السنة، عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق: د/محمد بن سعيد القحطاني، دار ابن القيم، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1، 1406هـ.
السنن (مع شرح السيوطي، وحاشية السندي) ، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
السنن، أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، تعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، نشر وتوزيع محمد علي السيد، حمص، ط1، 1388هـ.
السنن، أبو عبد الله، محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
السنن، أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
السنن، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بت عثمان الذهبي، تحقيق: مجموعة من العلماء، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2، 1402هـ.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي، تحقيق: د/أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1.
شرح السنة، حسين بن مسعود بن محمد البغوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1394هـ.
شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، تحقيق:(43/382)
الشريعة، محمد بن الحسين الآجري، تحقيق: د/ عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1، 1418هـ/1997م.
الشفا بمعرفة حقوق المصطفى، القاضي عياض، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، 1404هـ، 1984م.
صحيح ابن حبان، ترتيب ابن بلبان علاء الدين الفارسي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
صحيح مسلم بشرح النووي، مسلم بن الحجاج القشيري، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط2، 1399هـ.
ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بريوت، لبنان، ط1، 1400هـ.
العرش، محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، تحقيق محمد بن خليفة التميمي، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1418هـ، 1998م.
العلل، علي بن عمر الدارقطني، نحقيق محفوظ الرحمن السلفي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1406هـ، 1986م.
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، دار العلوم الأثرية، فيصل أباد، باكستان، ط2، 1401هـ.
الغنية لطالبي طريق الحق، عبد القادر الجيلاني، شركة البابي الحلبي، القاهرة، مصر، ط3، 1375هـ.
فتح الباري، محمد بن علي بن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، القاهرة، مصر.
فتح الملهم، بشير أحمد الديوبندي، مكتبة الحجاز، كراتشي باكستان.
الفتوحات الإلهية، سليمان بن عمر العجيلي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر.
الفصول في اختصار سيرة الرسول، إسماعيل بن كثير، مطبعة العلوم، ط1، 1357هـ.
الفوائد المجموعة من الأحاديث الموضوعة، محمد بن علي الشوكاني، نحقيق عبد الرحمن المعلمي، مطبعة السنة المحمدية، 1397هـ.
الكامل في ضعفاء الرجال، أبو أحمد، عبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1404هـ.(43/383)
الكتاب اللطيف لشرح مذاهب أهل السنة، عمر بن أحمد بن شاهين، تحقيق: عبد الله بن محمد البصيري، مكتبة الغرباء، المدينة النبوية، ط1، 1416هـ.
كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة، علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط1، 1399هـ.
كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي بن لامتقى بن حسام الدين الهندي، مؤسسة الرسالة، 1399هـ.
اللآلئي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط3، 1401هـ.
لسان الميزان، علي بن حجر العسقلاني، مصورة عن طبعة دائرة المعارف بالهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط2، 1390هـ.
لوامع الأنوار البهية، محمد بن أحمد الفارييني، مطبعة المدني.
المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، أبو حاتم، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي، تحقيق: محمد إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب، سوريا، ط1، 1396هـ.
مجمع البحرين في زوائد المعجمين، نور الدين الهيثمي، تحقيق عبد القدوس محمد نذير، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1413هـ، 1992م.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1402هـ.
مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، دار العربية، بيروت، لبنان.
المحرر الوجيز، عبد الحق بن غالب بن عطية، تحقيق المجلس العلمي بفاس، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، 1395هـ، 1975م.
مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1972م.
المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة، عبد اله بن سلمان الأحمدي، دار طيبة، الرياض، ط2، 1416هـ.(43/384)
المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1398هـ.
المسند (البحر الزخار) ، البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، لبنان، ط1، 1409هـ.
المسند، الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار صادر، بيروت، لبنان.
مصنف عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ.
معالم التنزيل، الحسن بن مسعود البغوي، مطابع المنار، ط1.
المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله وعبد المحسن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، مصر، 1416هـ.
المعجم الكبير، أبو القاسم، سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الدار العربية، بغداد، العراق، ط1.
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، تحقيق مجموعة من الباحثين، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، دمشق سوريا، ط1، 1417هـ، 1996م.
مقالات الإسلاميين، أبو الحسن، علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق: محمد محيى الدين، مكتبة النهضة، مصر، 1389هـ.
منهاج السنة، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، أحمد بن محمد القسطلاني، تحقيق صالح أحمد الشامي، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان، ط1، 1412هـ، 1991م.
الموضوعات، عبد الرحمن بن محمد بن الجوزي، تحقيق نور الدين بويا جيلار، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1418هـ، 1997م.
ميزان الاعتدال، محمد بن أحمد عثمان الذهبي، تحقيق: علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت، لبنان.(43/385)
العدد 114
فهرس المحتويات
1- الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز
... تابع (1)
الدكتور/ محمد بن سيدي محمد محمد الأمين
2- زيادات القَطِيعي على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله: الدكتور / دخيل بن صالح اللحيدان
3- سد الذرائع في مسائل العقيدة على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة
... تابع (1)
الدكتور/ عبد الله شاكر محمد الجنيدى
4- المُدَارَاةُ وأثرها في العلاقات العامة بين الناس: د. مُحَمَّدِ بنِ سَعْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَن آل سعود
5- أبو تُراب اللّغويّ وكتابه "الاعتقاب"
... تابع (1)
... تابع (2)
عبد الرّزّاق بن فرّاج الصّاعديّ
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(43/386)
الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز
تأليف
الدكتور/ محمد بن سيدي محمد محمد الأمين
الأستاذ المشارك بكلية القرآن الكريم
والأخذ بالتجويد حتم لازم *** من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الإله أنزلا *** وهكذا منه إلينا وصلا
وهو أيضاً حلية التلاوة *** وزينة الأداء والقراءة
محمد بن محمد بن محمد الجزري
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب مرتلاً، ووعد من قرأه على كل حرف منه عشر حسنات إحساناً منه وتفضلاً.
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أفصح من نطق بالضاد، من تلا كتاب ربه فتفطرت لسماعه قلوب العباد.
وعلى آله وصحبه الذين عرفوا لحروفه الحق والمستحق فهمسوا التاء وجهروا بالجيم ففازوا برضوان من الله والله ذو فضل عظيم فضبطوا حروفه وهيئاته، وصانوه عن اللحن الذميم وبعد:
فإني متناول بالبحث والدرس إن شاء الله تعالى جانباً من جوانب الكتاب العزيز تناقلته الأمة جيلاً بعد جيل حتى وصل إليناً محاطاً بالرعاية والإتقان معلوم القواعد بالتحديد مقرب الموارد بالتمهيد إنه «الأخذ بالتجويد»
لقد كان الأئمة وسلفنا الصالح لا يفرقون بين القرآن وتجويده لأنهم يعلمون علم اليقين أن القرآن نزل مرتلاً مجوداً من العزيز الحكيم، فبه قرءوا القرآن وأقرءوه ومن تلقى عنهم به ألزموه.
فلما ضعفت الهمم وتباعد الناس عن أخذ كتاب ربهم من أفواه الشيوخ الضابطين ظهر دعاة الفصل بين القرآن وتجويده.
ونادى فريق بتجريد القرآن من رسمه وضبطه، بل إن واقع الأمة اليوم منذر بتركه وهجره.
وأمام هذه التحديات والتعديات التي أثارت البلبلة في أذهان أهل العلم بله الناشئة.
كان لا بدّ من وقفة يُجْلى فيها الحق وتُبْرأ فيها الذمة، ويعود فيها أهل القرآن إلى تجويد كتاب ربهم بعزيمة وهمة.(43/387)
وهذا ما سأحاول الوصول إليه من خلال كتابة هذا البحث بعد القراءة الطويلة في هذا الموضوع وجمع مادته من كتب شتى. ويمتاز هذا البحث عن نظائره بما سيلحظه القارئ من حضورٍ لأئمة الإقراء أصحاب الأسانيد العالية، فمن كتبهم أستمد مادتي، وبأقوالهم أقوّي حُجّتي، وعلى الله أولاً وآخراً اعتمادي وعُدّتي.
فيا رب أنت الله حسبي وعدتي
عليك اعتمادي ضارعاً متوكلا [1]
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [2]
واقتضى العمل في هذا البحث أن تأتي خطته على ما يأتي:
مقدمة وستة مباحث وخاتمة.
المقدمة: وفيها لمحة عن اهتمام السلف بالتجويد والسبب الباعث على تأليف هذا البحث.
المبحث الأول: تعريف التجويد لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: نشأة التجويد.
المبحث الثالث: عناية الأمة بالأخذ بالتجويد.
المبحث الرابع: كيف يتلقى القرآن.
المبحث الخامس: حكم الأخذ بالتجويد.
المبحث السادس: اللحن في القراءة.
الخاتمة.
المبحث الأول: تعريف التجويد لغة واصطلاحاً
تعريفه لغة:
يقال: جاد الشيء جُودة أي صار جيداً، وأجدت الشيء فجاد، والتجويد مثله [3] .
فالتجويد: مصدر من جوّد تجويداً إذا أتى بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الجور في النطق بها.
ومعناه انتهاء الغاية في إتقانه وبلوغ النهاية في تحسينه، ولهذا يقال جوّد فلان في كذا إذا فعل ذلك جيداً، والاسم منه الجودة ضد الرداءة. [4]
ويقال لقارئ القرآن الكريم المحسّن تلاوته (مجوِّد) بكسر الواو إذا أتى بالقراءة مجوَّدة الألفاظ، بريئة من الجور والتحريف حال النطق بها [5] .
وفي الاصطلاح:
هو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته وكمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف.
وهو حلية التلاوة وزينة القراءة. [6](43/388)
ويقول الهذلي [7] في كامله: فأما تجويد الحروف فمعرفة ألفاظها وقراءتها، وأصولها وفروعها وحدودها وحقوقها وقطعها ووصلها، ومدّها وحدرها وتحقيقها وترسيلها وترتيلها، ومذاهب القراء فيها، وهو حلية التلاوة وزينة القراءة. [8]
وعَرَّفه المتأخرون فقالوا: هو إخراج كل حرف من مخرجه وإعطاؤه حقه ومستحقه من الصفات. [9]
المبحث الثاني: نشأة التجويد
نشأ التجويد على وجه التحديد منذ الوهلة الأولى التي نزل فيها القرآن الكريم على قلب سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علم عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . [10]
هذه الآيات قرأها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتلة، فحفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الكيفية التي تلقاها بها وأداها كما سمعها.
يشهد لذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلاً) . [11]
فقوله: يرتله ترتيلاً هذا اللفظ يحتمل كل ما يرد فيه من معان فيحتمل نزوله على مكث وتمهل، ويحتمل بيان حروفه وحركاته، وإعطاء كل حرف منه حقه ومستحقه.
ولقائل أن يقول: إذا كان القرآن نزل بادئ ذي بدء مرتلاً مجوداً وقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنزل فما معنى أمر الله لرسوله بالترتيل في آية المزمل {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [12] وهي متأخرة النزول عن آيات سورة العلق السابقة.
ويجاب عن ذلك بأن الخطاب وإن كان له صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد أمته فهم مطالبون بترتيل وتجويد ما نزل إليهم من ربهم.(43/389)
ولذلك نظائر كثيرة في كتاب الله من توجيه الخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، من ذلك قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [13] . فمعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يجعل مع الله إلاهاً آخر ولا يقعد مذموماً مخذولاً.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [14] ، ومعلوم أن والديه صلى الله عليه وسلم قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم [15] . ومثل ذلك كثير.
فآية المزمل إنما تفيد التأكيد والالتزام بتلك الكيفية التي نزل عليها القرآن وبيان أنها أفضل مراتب القراءة وحض الأمة على الأخذ بها.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول لهذه الأمة تلاوة كتاب ربهم وقراءته امتثالاً لأمر ربه حيث قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [16] .
وتواتر ذلك في السنة: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" [17] .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم نتعلم من العشر الذي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه" [18] .
وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمرني أن أعرض القرآن عليك. فقال: أسمّاني لك ربك. قال: نعم. فقال أبي: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما تجمعون" [19] .(43/390)
قال أبو عبيد القاسم بن سلام [20] : معنى هذا الحديث عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك العرضِ على أبي أن يتعلم منه القراءة ويتثبت فيها وليكون عرض القرآن سنة، وليس هذا على أن يستذكر النبي صلى الله عليه وسلم منه شيئاً بذلك العرض [21] .
قال السخاوي [22] : كان القراء في الأمر الأول يقرأ المعلم على المتعلم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتلو كتاب الله عز وجل على الناس كما أمره الله عز وجل [23] . فعلمهم صلى الله عليه وسلم القرآن مرتلاً مجوداً كما نزل.
ويؤكد هذه الصلة الوثيقة بين القرآن والتجويد قول ابن الجزري [24] :
لأنه به الإله أنزلا
وهكذا منه إلينا وصلا [25]
فالضمير في لأنه عائد إلى القرآن وفي به يعود على التجويد أي أن الله أنزل القرآن بالتجويد وهذا ما يجب أن يفهمه كل من تدبر وعقل النصوص واستنبط منها ما يليق بكمال الله وجلاله في ذاته وأسمائه وصفاته فله الكمال المطلق سبحانه.
فالقرآن أكمل الكتب نزل بأكمل الهيئات على أفضل الرسل لخير أمة أخرجت للناس ثم نقله الصحابة كما علّموا فلم يغيروا ولم يبدّلوا وتناقلته الأمة بعدهم جيلاً بعد جيل على تلك الكيفية التي نزل بها فغاصوا في معانيه وحافظوا على مبانيه وعملوا بما فيه فكان الأخذ بالتجويد سمة القراء المتقنين، ومنهج الأئمة المسندين، ومضماراً للمتنافسين.
قال الداني [26] : وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق فمنهم من يعلم ذلك قياساً وتميزاً وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمه سماعاً وتقليداً وهو الغبي الفهيه، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعاً ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها وللرواية نقلها وتعلمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [27] .
ظل التجويد يتلقى مع القرآن من أفواه الشيوخ الضابطين فالمخل بالتجويد مخل بالقراءة مهما كان حفظه للحروف.(43/391)
أورد الداني بسنده عن أبي هاشم الرفاعي [28] عن سليم [29] عن حمزة [30] قال: إن الرجل يقرأ القرآن فما يلحن حرفاً أو قال ما يخطئ حرفاً وما هو من القرآن في شيء.
قال الداني معقباً على هذه الرواية: يريد أنه لا يقيم قراءته على حدّها، ولا يؤدي ألفاظه على حقها، ولا يوفّي الحروف صيغتها، ولا ينزلها منازلها من التلخيص والتبيين والإشباع والتمكين، ولا يميز بين سين وصاد، ولا ظاء ولا ضاد، ولا يفرق بين مشدد ومخفف ومدغم ومظهر، ومفخم ومرقق، ومفتوح وممال، وممدود ومقصور، ومهموز وغير مهموز، وغير ذلك من غامض القراءة، وخفاء التلاوة الذي لا يعلمه إلا المهرة من المقرئين، ولا يميزه إلا الحذّاق من المتصدرين الذين تلقوا ذلك أداءً وأخذوه مشافهة، وضبطوه وقيدوه، وميزوا جليّه وأدركوا خفيّه وهم قليل من الناس [31] .
وربما قرأ الرجل فأعجب بنفسه وأعجب الحاضرون بقراءته ولكن أئمة التجويد والقراءة بحكم خبرتهم وثاقب نظرتهم يردون عليه ما قرأ ولا يعتبرونه شيئاً لإخلاله بقواعد التجويد من حيث لا يشعر.
أورد الداني بسنده عن هشام بن بكير [32] وكان هو وأبوه من القراء قال كنت عند عاصم [33] ورجل يقرأ عليه قال فما أنكرت من قراءته شيئاً قال فلما فرغ قال له عاصم والله ما قرأت حرفاً.
قال الداني معقباً على هذه الرواية: يريد أنك لم تقم القراءة على حدها ولم توف الحروف حقها، ولا احتذيت منهاج الأئمة من القراء، ولا سلكت طريق أهل العلم بالأداء، وهذا وما قدمناه دال على توكيد علم التجويد والأخذ بالتحقيق والله ولي التوفيق [34] .
قلت: نعم إن للقراء فطنة ودراية عجيبة في استكشاف اللحن مهما دق وخفي فآذانهم أدق من موازين الذهب. وملاحظاتهم تنبيك بالعجب.(43/392)
ولقد أدركت من شيوخ الإقراء من هذا حاله. فقد تلقيت في سن الطلب بالسنة الرابعة بكلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية على نخبة من أساتذة القراءات ومنهم شيخنا وشيخ مشايخنا الشيخ عبد الفتاح القاضي [35] رحمه الله تعالى تلقينا عليه القراءات الثلاث بمضمّن متن الدرة في القراءات الثلاث المتممة للعشر لابن الجزري فكان أحدنا يقرأ كالمقيد يقوم ويسقط من كثرة إشاراته لنا بالوقوع في اللحن رغم ما كان يتمتع به البعض من جودة في القراءة وصوت حسن نطرب لسماعه.
ولكنها ملكة وهبهم الله إياها لكثرة ممارستهم وفضل من الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
مما تقدم نلحظ منهج أئمة الإقراء في أخذهم بالتجويد كل من رام القراءة عليهم وأنهم لا يصدرونه متى أخل بشيء من قواعده بل ولا يعدونه قارئاً.
فما كل من يتلو الكتاب يقيمه
وما كل من في الناس يقرئهم مقري [36]
فلما بدأت عصور التدوين كان لعلم التجويد منها حظ ونصيب فأفردت مباحثه وقواعده بالتأليف وضمَّن بعض القراء كتبهم بعض أبوابه ومسائله فمنهم المقل ومنهم المكثر.
ولعل أول من أفرده بالتصنيف أبو مزاحم موسى بن عبيد الله الخاقاني البغدادي المتوفى سنة 325هـ [37] في قصيدته الخاقانية الرائعة والتي من أبياتها:
أيا قارئ القرآن أحسن أداءه
يضاعف لك الله الجزيل من الأجر
فما كل من يتلو الكتاب يقيمه
وما كل من في الناس يقرئهم مقري
وإن لنا أخذ القراءة سنة
عن الأولين المقرئين ذوي الستر [38]
2- ثم علي بن جعفر بن سعيد أبو الحسن السعيدي الرازي الحذاء المتوفى في حدود سنة 410هـ في كتابه: التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي [39] .
3- مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة (437هـ) وكتابه: الرعاية لتجود القراءة وتحقيق لفظ التلاوة. [40](43/393)
4- أبو عمرو الداني المتوفى سنة 444هـ وكتابه: التحديد في الإتقان والتجويد [41] . وذكر في مقدمته سبب تأليفه بأنه راجع إلى ما رآه من إهمال القراء والمقرئين في عصره تجويد التلاوة وتحقيق القراءة وتركهم استعمال ما ندب الله إليه وحث نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته عليه من تلاوة التنزيل بالترسل والترتيل [42] .
5- أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي المتوفى سنة 539هـ وكتابه: نهاية الإتقان في تجويد تلاوة القرآن. [43]
6- علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي المتوفى سنة (643هـ) وكتابه: عمدة المفيد وعدة المجيد في معرفة التجويد. [44]
7- نجم الدين محمد بن قيصر بن عبد الله البغدادي المارديني المتوفى سنة (721هـ) وكتابه: الدر النضيد في معرفة التجويد. [45]
8- تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري المتوفى سنة (732هـ) وكتابه: عقود الجمان في تجويد القرآن. [46]
9- شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري المتوفى سنة (833هـ) خاتمة المحققين ورافع لواء القراء والمجودين وكتابه: التمهيد في علم التجويد. [47]
وذكر في مقدمته أن سبب تأليفه: أنه لما رأى الناشئة من قراء زمانه وكثيراً من منتهيهم قد غفلوا عن تجويد ألفاظهم، وأهملوا تصفيتها من كدره، وتخليصها من درنه، رأيت الحاجة داعية إلى تأليف مختصر ابتكر فيه مقالاً يهز عطف الفاتر، ويضمن غرض الماهر، ويسعف أمل الراغب، ويؤنس وسادة العالم. [48]
ثم أتبع ذلك بنظم المقدمة الجزرية [49] ضمنها كثيراً من مباحث علم التجويد وقد كتب لهذه المقدمة القبول بين طلاب العلم وتناولها العلماء بالشرح والتعليق حتى ربت شروحها على الحصر الدقيق.
10- برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي المتوفى سنة (885هـ) وكتابه: القول المعتبر في أصول التجويد لكتاب ربنا المجيد [50] .(43/394)
11- زين الدين أبو الفتح جعفر بن إبراهيم السنهوري المتوفى سنة (894هـ) وكتابه: الجامع المفيد في صناعة التجويد [51] .
12- أحمد بن نصر الميداني المقرئ المتوفى سنة (923هـ) وكتابه: قواعد التجويد [52] .
وغير هؤلاء كثير يطول حصرهم وما ذكرته فيه الكفاية، إذ ليس الغرض الحصر والاستقصاء بل العلم والدراية.
المبحث الثالث: عناية الأمة بالأخذ بالتجويد
قدمت في المبحث السابق أن القرآن نزل مرتلاً مجوداً وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاه كذلك وبلّغ أمته ما نزل عليه بحروفه وهيئاته. بقي أن نعرف ما المراد بالترتيل المأمور به في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
الرتل: حسن تناسق الشيء.
وثغر رتَل ورتِل حسن التنضيد مستو النبات.
وقيل المفلج وقيل بين أسنانه فروج لا يركب بعضه على بعض.
ورتّل الكلام: أحسن تأليفه وأبانه وتمهل فيه.
والترتيل في القراءة: الترسل فيها والتبيين من غير بغي.
قال علي رضي الله عنه حينما سئل عن معنى الترتيل: (هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف) [53] .
قال أبو العباس: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين والتمكين أراد في قراءة القرآن.
وقال مجاهد: الترتيل الترسل.
قال: ورتله ترتيلا بعضه على إثر بعض.
قال أبو منصور: ذهب به إلى قولهم ثغر رتل إذا كان حسن التنضيد.
وقال ابن عباس في معنى الآية: قال: بينه تبييناً.
قال أبو إسحاق: والتبيين بأن يجعل في القراءة وإنما يتم التبيين بأن يبين جميع الحروف ويوفيها حقها من الإشباع.
وقال الضحاك: انبذه حرفاً حرفاً.
وقال الفراء: اقرأه على هينتك ترسلاً [54] .
وقال الراغب: الرتل اتساق الشيء وانتظامه على استقامة يقال رجل رتَل الأسنان، والترتيل إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة [55] .
وقال الخازن في تفسيره: وقيل الترتيل هو التوقف والترسل والتمهل والإفهام وتبيين القراءة حرفاً حرفاً إثره في إثر بعض بالمد والإشباع والتحقيق [56] .(43/395)
وقال القرطبي في تفسيره: الترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل وهو المشبه بنَوْرِ الأقحوان وهو المطلوب في قراءة القرآن [57] .
وقال الزمخشري في الكشاف: ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنَوْرِ الأقحوان وأن لا يهذّه هذّاً ولا يسرده سرداً [58] .
وقال الشيرازي [59] في كتابه الموضح: الترتيل هو من قولهم ثغر رتَل إذا كان مفلجاً وذلك إذا انفرج ما بين الأسنان على استواء فيها، وترتل في مسيره إذا تتابعت خطاه من غير سرعة، فكذلك الترتيل هو التأني في القراءة مع تفصيل الكلم بعضها من بعض جامع لشرائط التجويد والتقويم [60] .
وقال ابن الجزري: وقال علماؤنا: أي تلبث في قراءته وافصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فتدخل بعض الحروف في بعض [61] .
بعد هذا العرض تبين لنا معنى الترتيل المأمور به، وأنه تبيين القراءة وإتباع بعضها بعضاً على تأن وتؤدة مع تجويد اللفظ وحسن تأديته وتقويمه وإخراجه من مخرجه، فهو الأصل ولذلك نوه الله بشأنه حينما أكد الفعل بالمصدر تعظيما لشأنه وترغيباً في ثوابه، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [62] ، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [63] .
وعلى هذا جاءت قراءته صلى الله عليه وسلم.
كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدّاً، ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم. [64](43/396)
قال الداني مبيناً وجه الاستدلال من هذا الحديث على وجوب الأخذ بالتجويد: وهذا حديث مخرّج من الصحيح، وهو أصل في تحقيق القراءة، وتجويد الألفاظ، وإخراج الحروف من مواضعها، والنطق بها على مراتبها، وإيفائها صيغتها، وكل حق هو لها، من تلخيص وتبيين ومدّ وتمكين وإطباق وتفش وصفير وغنة وتكرير واستطالة وغير ذلك، على مقدار الصيغة وطبع الخلقة، من غير زيادة ولا نقصان [65] .
رحم الله الداني ما أوسع علمه، وأجزل لفظه، وأحكم عبارته كيف لا وهو حصن حصين وسند في القراءة متين.
فقد رأيت من تخبط في فهم هذا الحديث فلم يعرف المراد بالمد فيه فقال: القراء لا يثبتون مداً في هذه المواضع الثلاثة ...
ومن قائل: إذا كان أداء القرآن – تجويده – متلقى بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أين دليله النصي؟
وهل مقدار الحركة منضبط أو هو مختلف باختلاف سرعة القارئ وبطئه ... الخ
ولست هنا في مقام تتبع الأخطاء والهفوات بل هي وقفة تأمل وإنعام نظر فقد كفانا صاحب المنجد [66] في هذه المسائل شر الانقسام.
وأقول لهؤلاء جميعاً لابد من مراجعة علماء القراءات وما دونوه قديماً وحديثاً فما أشكل عليكم حله وصعب عليكم فهمه فإن لديهم الدواء النافع والبيان الساطع، والحكم القاطع، وكل علم يسأل عنه أهله.
ومن ذلك ما روي عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في سبحته قاعداً قط حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعداً، ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» [67] .
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفاً حرفاً. [68]
قال ابن القيم: وكانت قراءته ترتيلاً لا هذّا ولا عجلة بل قراءة مفسرة حرفاً حرفاً، وكان يقطع قراءته آية آية وكان يمد عند حروف المد فيمد الرحمن ويمد الرحيم. [69](43/397)
أقول: لقد تلقت الأمة القرآن الكريم بحروفه وقراءته وكيفية النطق بتلك الحروف والهيئات والصيغ التي جاءت بها على أنها سنة متبعة يجب الحفاظ عليها والالتزام بها وتعليمها كما جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه واتباع هديه في ذلك.
أورد ابن مجاهد بأسانيده جملة من الأحاديث والآثار الدالة على وجوب الاتباع في نقل القراءة وترك الابتداع.
من ذلك ما رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «قال لنا علي بن أبي طالب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كلما علمتم» [70] .
وأورد بسنده عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: القراءة سنة [71] . وفي رواية أخرى عن خارجة قال: القراءة سنة فاقرءوا كما تجدونه [72] .
وبسنده عن عروة بن الزبير قال: إنما القراءة سنة من السنن فاقرءوه كما علمتموه [73] . وفي رواية: فاقرءوه كما أقرئتموه [74] .
وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرئ رجلاً فقرأ الرجل {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [75] مرسلة فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وكيف أقرأكها؟ قال: أقرأنيها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [76] فمدها.
فابن مسعود وهو مَن علمنا إتقانا وضبطا وحسن أداء، مَنْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: "من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" [77] .
أنكر رضي الله عنه على هذا الرجل أن يقرأ كلمة (الفقراء) من غير مد ولم يرخص له في ذلك [78] مع أن فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة ومعناها ولكن لما كانت القراءة سنة متبعة وكيفياتها كذلك لم يقبل ابن مسعود من هذا الرجل أن يقرأ بغير ما قرأ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون غاشا له موافقا له على ما لم يقرأ به.(43/398)
ويؤكد ابن مسعود رضي الله عنه الحض على الأخذ بالتجويد وأنه زينة التلاوة فيقول فيما رواه عنه الضحاك قال: قال عبد الله بن مسعود: جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي والله يحب أن يعرب به [79] .
وعن زر بن حبيش رحمه الله تعالى قال: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود (طه) ولم يكسر –أي لم يمل- فقال عبد الله بن مسعود (طه) وكسر ثم قال: والله هكذا علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم [80] .
وجاء رجل إلى الإمام نافع [81] ليقرأ عليه بالحدر [82] فوجهه نافع إلى ما هو أنفع له من الحدر وهو بيان الكيفية التي يجب أن يقرأ بها كتاب الله عز وجل والمنهج القويم الذي سلكه الصحابة والتابعون في الأخذ والأداء.
أورد الداني بسنده قال: جاء رجل إلى نافع فقال: تأخذ على الحدر، فقال نافع ما الحدر؟ ما أعرفها أسمعنا قال فقرأ الرجل فقال نافع: الحدر، أو قال حدرنا، أن لا نسقط الإعراب، ولا ننفي الحروف، ولا نخفف مشددا، ولا نشدد مخففا، ولا نقصر ممدودا، ولا نمد مقصورا، قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل جزل، لا نمضغ ولا نلوك، ننبر ولا نبتهر، نسهل ولا نشدد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها، ولا نلتفت إلى أقاويل الشعراء وأصحاب اللغات، أصاغر عن أكابر مليّ عن وفيّ، ديننا دين العجائز، وقراءتنا قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل فيه بالرأي، ثم تلا نافع [83] : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [84] .
قال الداني معقبا على هذه الرواية: «وهذا كلام من أيّد ووفّق ونُصر وفُهّم وجُعل إماماً عالماً وعلماً يُقْتفى أثره ويُتّبع سننه» .(43/399)
وهذه الطريقة التي وصفها وبينها وأوضحها وعرّف أن الصحابة رضوان الله عليهم احتذوها هي التي يجب على قراء القرآن أن يمتثلوها في التحقيق، ويسلكوها في التجويد وينبذوا ما سواها مما هو مخالف لها وخارج عنها وعلى ذلك وجدنا الأئمة من القراء والأكابر من أهل الأداء. [85]
نعم لقد عمل أئمة الإقراء الذين خصهم الله بحمل كتابه وشرفهم بالذب عن حياضه في كل عصر ومصر بهذه العبارات النيرة والتوجيهات الخيرة الصادرة من إمام دار الهجرة ورأس القراء السبعة الإمام نافع فجاءت مؤلفاتهم وأقوالهم شارحة وموضحة لذلك المنهج القويم والمسلك السليم ولا يشذ عنهم إلا من لا يعتد بقوله، فهم الحفظة الناقلون، والقراء المجودون.
ولعلي في هذه العجالة أن أقتبس بعض الشواهد على ما ذكرت من حضهم على الأخذ بالتجويد قولاً وعملاً، وعلى أي صفة كانت القراءة ترتيلاً أو تحقيقاً أو حدراً.
قال مكي [86] رحمه الله تعالى في باب صفة من يجب أن يقرأ عليه وينقل عنه:
يجب على طالب القرآن أن يتخير لقراءته ونقله وضبطه أهل الديانة والصيانة والفهم في علوم القرآن والنفاذ في علم العربية والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم.
فإذا اجتمع للمقرئ صحة الدين والسلامة في النقل والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علوم العربية والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن كملت حالته ووجبت إمامته، وقد وصف من تقدمنا من العلماء المقرئين القراء فقال: القراء يتفاضلون في علم التجويد فمنهم من يعلمه رواية وقياساً وتمييزاً فذلك الحاذق الفطن، ومنهم من يعرفه سماعاً وتقليداً فذلك الوهن الضعيف لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف والتصحيف إذا لم يبن على أصل ولا نقل عن فهم. [87](43/400)
وقال في موضع آخر بعد فراغه من أبواب التجويد والفصول التي أوضح فيها القواعد اللازمة لذلك: والمقرئ إلى جميع ما ذكرناه في كتابنا هذا أحوج من القارئ لأنه إذا علِمَه علَّمه، وإذا لم يعلَمْه لم يعلّمه فاستوى في الجهل بالصواب في ذلك القارئ والمقرئ ويضل القارئ بضلال المقرئ فلا فضل لأحدهما على الآخر. [88]
وقال الداني مبيناً الطريقة التي ينبغي للقارئ أن يسلكها حال القراءة قال: ينبغي للقارئ أن يأخذ نفسه بتفقد الحروف التي لا يوصل إلى حقيقة اللفظ بها إلا بالرياضة الشديدة والتلاوة الكثيرة مع العلم بحقائقها والمعرفة بمنازلها فيعطي كل حرف منها حقه من المد إن كان ممدودا ومن التمكين إن كان مُمكّنا ومن الهمز إن كان مهموزا ومن الإدغام إن كان مدغما، ومن الإظهار إن كان مظهرا ومن الإخفاء إن كان مخفيا، ومن الحركة إن كان محركا ومن السكون إن كان مسكنا.
ومتى لم يفعل ذلك القارئ ولم يستعمل اللفظ به كذلك صار عند علماء هذه الصناعة لاحناً. [89]
ويوجه الهذلي قارئ كتاب الله إلى الأخذ بأسباب التجويد مبينا له القواعد التي يجب عليه الاهتمام بها حتى يصير قارئا مصدرا ومتى أخل بشيء من تلك التوجيهات لم يجز له أن يقرئ أحداً من الناس.
قال رحمه الله: والأصل أن يتفقد الإنسان لفظه ويعتبر النظم والترتيل والتحقيق والحدر.
والترتيل: القراءة بتفكر.
والتحقيق إعطاء الحروف حقوقها من غير زيادة ولا نقصان ولا تكلف، وإتعاب نفس برفع صوت، ولا مبالغة في النفس فينقطع.
ولا يخلط آية رحمة بعذاب إذا لم يكن موضع الوقف.(43/401)
والحدر: أن يقرأ بغير تفكر في المعاني ولا يمضغ، ولا يزيد ولا ينقص، وليكن صوته على وتيرة واحدة، ويجتهد في مخارج الحروف وذلك بعد أن يعرف مخارجها على اختلاف أقاويل العرب، ويعلم مجهورها من مهموسها وزائدها من أصليها، ومبدلها مما لا يثبت فيه البدل، ومطبقها من المنخفض منها، ونطعيها من لثويها، وذلقيها من أسليها، وحلقيها من حنكيها، وأشباه ذلك مما فيه طول فمن لم يعلم مثل هذا ولم يفهمه لم يجز له أن يقرئ أحداً من الناس ولا يأخذ على أحد حرفا، ويحرم عليه ذلك في هذه الصناعة. [90]
وقال الشهرزوري [91] في المصباح الزاهر: إن من لم يعط الحرف حقه من الصفات اللازمة والعارضة، ويخرجه من مخرجه المحدد له فقد صرفه عن مبناه وحاد به عن معناه.
قال: اعلم أن التجويد حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، ورد الحرف من حروف المعجم إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه ولفظ النطق به؛ لأنه متى ما تغير عما ذكرته لك من وصفه زال عن وضعه ورصفه. [92]
ويقول الشيرازي إن حسن الأداء فرض واجب على من رام قراءة شيء من كتاب الله سواء رتل، أو حقق أو حدر.
قال: وأما الحدر فهو تسهيل القراءة وهو يراد للتحفظ والاستكثار من الدرس، وهو أيضا يرتضى إذا لم يفارق التجويد وذلك بأن تعطى الحروف حقوقها من مخارجها ومسالكها ويوفر عليها حظوظها من حركاتها وسكناتها من غير زيادة مجاوزة للحد، ولا نقصان مؤد للقدح، فإن حسن الأداء فرض في القراءة، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حق تلاوته صيانة للقرآن من أن يجد التغيير واللحن إليه سبيلا. [93]
ويوضح ابن أم قاسم المرادي [94] أن الأخذ بالتجويد هو منهج القراء جميعا لا خلاف بينهم في ذلك، والقارئ مطالب به في كل الأحوال.(43/402)
قال: اعلم وفقنا الله وإياك أن التجويد هو إعطاء كل حرف حقه من مخرجه وصفته، والقراء مجمعون على التزام التجويد في جميع أحوال القراءة من ترتيل وحدر وتوسط، وربما توهم قوم أن التجويد إنما يكون مع الترتيل لاعتقادهم أن التجويد إنما هو الإفراط في المد وإشباع الحركات ونحو ذلك مما لا يتأتى مع الحدر وليس كما توهموه وإنما حقيقة تجويد القرآن ما قدمته لك، وذلك متأت مع الحدر كما يتأتى مع الترتيل، ولا يُنكر أن الأخذ بالترتيل أتم مدا وتحريكا وإسكانا من الأخذ بالحدر، ولكن لابد في جميع ذلك من إقامة مخارج الحروف وصفاتها. [95]
ثم نقل عن الأهوازي قوله: وأما الحدر فإنه القراءة السهلة السمحة العذبة الألفاظ التي لا تخرج القارئ عن طباع العرب وعما تكلمت به الفصحاء بعد أن يأتي بالرواية عن الإمام من أئمة القراءة على ما نقل عنه من المد والهمز والقطع والوصل والتشديد والتخفيف والإمالة والتفخيم والاختلاس والإشباع فإن خالف شيئا من ذلك كان مخطئا. [96]
ثم يأتي خاتمة المحققين من فاق أقرانه وساوى بعض المتقدمين في الأسانيد المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله رب العالمين فيعلن وجوب الأخذ بالتجويد وإثم التارك له تهاوناً استناداً إلى أقوال الأئمة وسلف هذه الأمة من القراء الذي عليهم مدار أسانيد القراءات وإليهم يعزى اختلاف الطرق والروايات فالقول الفصل قولهم والخارق لإجماعهم لا يضرهم.
فقال في المقدمة [97] :
والأخذ بالتجويد حتم لازم
من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الإله أنزلا
وهكذا منه إلينا وصلا
ثم بين ذلك أوضح بيان في النشر فقال:
ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا يجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها، والناس في ذلك بين محسن مأجور ومسيء آثم، أو معذور.(43/403)
فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناء بنفسه واستبدادا برأيه وحدسه واتكالا على ما ألف من حفظه، واستكبارا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب وغاش بلا مرية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم" [98] .
أما من كان لا يطاوعه لسانه أو كان لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها [99] .
أقول: لم يكن ابن الجزري بدعا من الناس فيما صرح به من وجوب الأخذ بالتجويد لكتاب الله وتأثيم المتهاون بتطبيق قواعده الموافقة للغة العرب لمن استطاع إليها سبيلا فقد سبقه إلى ذلك علماء القراءات العالمون بحقائقها ودقائقها وقد تقدم عن الداني ومكي والهذلي والشهرزوري والشيرازي ما يفيد ذلك فأئمة الإقراء كلهم مجمعون على وجوب الأخذ به.
قال الداني مبيناً أن الأخذ بالتجويد من ألزم الأشياء للقارئ وأنه منهج السلف:
من ألزم الأشياء للقراءوكل حرف من حروف الذكرفحقه التفكيك والتمكينفاستعمل التجويد عند لفظكافعن قريب بالجزيل تجزىقد جاء في الماهر بالقرآنما فيه مقنع لمن تدبرههذا مقال الصادق المصدوقوليسلكوا فيه طريق من مضى.
تجويد لفظ الحرف في الأداءمما جرى قبل ولم يجروحكمه التحقيق والتبيينبكل حرف من كلام ربكاوبنعيم الخلد سوف تحظىمن الشفاء ومن البيانبأنه مع الكرام السفرهفليرغب القراء في التحقيقمن الأئمة مصابيح الدجى [100]
المبحث الرابع: كيف يتلقى القرآن
مما تقدم تبين لنا أن أخذ القراءة سنة متبعة يجب على الآخذ أن يتلقاها من أفواه الشيوخ الضابطين ويؤديها كما أديت إليه سنة الله في حفظه لهذا الكتاب العظيم وصونا له عن التحريف واللحن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [101](43/404)
فهذا سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل بالقرآن ويعارضه به في كل رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه القرآن مرتين. [102]
ولا شك أن تلك المعارضة لم تكن قاصرة على الحفظ فقط بل كانت شاملة له وللكيفية التي تتلى بها حروف القرآن وتؤدى بها على أكمل وجه وأحسنه.
قال الكرماني: وفائدة درس جبريل تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم تجويد لفظه وتصحيح الحروف من مخارجها وليكون سنة في حق الأمة لتجويد التلامذة على الشيوخ في قراءاتهم [103] .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم تأكيداً لقاعدة أخذ القرآن مشافهة قرأ على أبيّ بن كعب كما في الحديث المتقدم ليعلمه طريقة التلاوة وترتيلها وعلى أي صفة تكون قراءة القرآن ليكون ذلك سنة في الإقراء والتعليم ولتكون المشافهة هي الوسيلة لنقل كتاب رب العالمين لما فيها من الضبط والإتقان لا غيرها من الوسائل.
قال الداني مبينا الحكمة من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي: في هذا الحديث أيضا أصل كبير في وجوب معرفة تجويد الألفاظ وكيفية النطق بالحروف على هيئتها وصيغتها وأن ذلك لازم لكل قراء القرآن أن يطلبوه ويتعلموه
وواجب على جميع المتصدرين أن يأخذوه ويعلموه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به واتباعا له على ما أكده بفعله ليكون سنة يتبعها القراء ويقتدي بها العلماء. [104]
وبالمشافهة تلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعرضوا عليه وسمعوا منه.
فهذا ابن مسعود يقول: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة. [105]
وبالمشافهة تلقى التابعون عن الصحابة وهكذا تناقلت الأمة القرآن وأخذته بالمشافهة جيلا بعد جيل حتى وصل إلينا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ونبه ابن الجزري إلى أن من أراد أن يحكم القراءة والتجويد ويتلو كتاب ربه كما نزل فعليه بترويض اللسان وتعويده النطق الصحيح المتلقى من فم المحسن المتقن.(43/405)
قال: ولا أعلم سببا لبلوغ نهاية الإتقان والتجويد ووصول غاية التصحيح والتسديد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن. [106]
وينظم ذلك المعنى في المقدمة فيقول:
وليس بينه وبين تركه
إلا رياضة امرئ بفكه [107]
فمن أراد قراءة شيء من كتاب الله سواء كان ذلك المقروء للحفظ أو لمجرد القراءة وجب عليه تصحيح ذلك القدر المقروء.
ولا يتأتى تصحيحه إلا بعرضه وأخذه من أفواه الشيوخ الضابطين، ومتى استنكف عن ذلك استكبارا واعتدادا بالنفس فقد وقع في الخطأ لا محالة ومن هنا لحقه الإثم الذي ذكره العلماء:
من لم يجود القرآن آثم
فإن لرسم المصحف قواعده وضوابطه، ولكل حرف منه مخرجه وصفاته، ولكل لفظ منه كيفيته وأداءه.
وقد قيل في حال من يأخذ العلم عن الشيوخ ومن لم يأخذه عنهم:
من يأخذ العلم عن شيخه مشافهة
يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكن آخذاً للعلم من صُحف
فعلمه عند أهل العلم كالعدم [108]
وقيل: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي. [109]
وإن تعجب فعجب قول البعض إن القرآن نزل بلغة العرب والعربي يستطيع قراءته بطبعه فلا يحتاج إلى من يعلمه كيفية النطق به.
وهذا القول لا يصدر إلا ممن خانه فهمه، ولم يكن عن أهل الذكر آخذا علمه فإن أصاب فعلى غير هدى، وإن أخطأ فهو به أجدى {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [110] .
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح من نطق بالضاد قد تلقى القرآن من جبريل عرضا وسماعا وأمر بالإنصات والإصغاء التام حتى يفرغ جبريل من القراءة ثم يقرأ هو بعد ذلك حسب ما سمع وتلقى كما في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [111](43/406)
وقال تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [112]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}
قال: فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إن علينا أن تقرأه.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه. [113]
ويستفاد من هذه الآيات ما يأتي:
أولا: حفظ النص القرآني وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي في صدرك فتحفظ نصه.
ثانياً: القراءة وكيفيتها وصفة أدائها وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَقُرْآنَهُ} أي وعلينا تعليمك قراءته، فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة وليس علماً.
ثالثاً: معرفة ما في القرآن من العلم والعمل وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي علينا تعليمك حلاله وحرامه كما علمناك قراءته. [114]
وأحاديث مدارسة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل رمضان واعتبار الصحابة القراءة سنة متبعة يجب العمل بها والمصير إليها مما تقدم بيانه كل ذلك يستفاد منه أن الأخذ والتلقي والعرض والسماع أمور لابد منها لطالب القرآن مهما بلغت منزلته وعلا كعبه أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده والتابعين لهم بإحسان.
روى الداني بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا يقرأ في سورة يوسف (ليسجننه عتى حين) فقال له عمر: من أقرأكها؟ قال أقرأنيها ابن مسعود.(43/407)
فكتب عمر إلى ابن مسعود رضي الله عنه: سلام عليك أما بعد فإن الله أنزل هذا القرآن فجعله قرآناً عربياً مبيناً، وأنزله بلغة هذا الحي من قريش، فإذا جاءك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام. [115]
قال الداني معقباً على هذه الرواية: وهذا الخبر أصل كبير ومعناه تعليم عمر عبد الله رضي الله عنهما – رياضة الألسنة، وأمره إياه أن يأخذ من يقرئه بالتفرقة بين الحروف المتشابهة في اللفظ المتقاربة في المخرج، حتى يؤدى القرآن على ما أنزل عليه من القراءات واللغات دون ما يجوز من ذلك من كلام العرب ولغاتها إذا كان مخالفا لما أنزل عليه من الأحرف، ألا ترى أن الفرق بين العين والحاء بحَّة الحاء، ولولا هي لكانت عيناً.
وإنما كانت ذات بحة لهمسها وجهر العين، فميز عمر رضي الله عنه الفرق بينها، وأمر عبد الله رضي الله عنه بتتبع ذلك على القارئين وتلخيص بيانه للتالين فيلزم سائر القراء وجميع أهل الأداء استعمال ذلك وتفقده حتى يلفظ بالحروف على هيئتها وينطق بها على مراتبها. [116]
ومن تتبع كلام الأئمة في المحاذير التي تعرض لكل حرف من حروف الهجاء وسلامة النطق به حال القراءة واجتماعه مع غيره علم علم اليقين أن الطريق ليس سالكا لكل من رامه ولو كان من أرباب الفصاحة والبلاغة بل لابد فيه من القائد الخبير ورياضة باللسان تذلل العسير.
قال في النشر: أول ما يجب على مريد إتقان قراءة القرآن تصحيح إخراج كل حرف من مخرجه المختص به تصحيحا يمتاز به عن مقاربه، وتوفية كل حرف صفته المعروفة به توفية تخرجه عن مجانسه، يعمل لسانه وفمه بالرياضة في ذلك إعمالا يصير ذلك له طبعا وسليقة.
فكل حرف شارك غيره في مخرج فإنه لا يمتاز عن مشاركه إلا بالصفات، وكل حرف شارك غيره في صفاته فإنه لا يمتاز عنه إلا بالمخرج.
كالهمزة والهاء: اشتركا مخرجا وانفتاحا واستفالا وانفردت الهمزة بالجهر والشدة.(43/408)
والعين والحاء: اشتركا مخرجا واستفالا وانفتاحا وانفردت الحاء بالهمس والرخاوة الخالصة.
والغين والخاء: اشتركا مخرجا ورخاوة واستعلاء وانفتاحا وانفردت الغين بالجهر.
والجيم والشين والياء اشتركت مخرجا وانفتاحا واستفالا، وانفردت الجيم بالشدة واشتركت مع الياء في الجهر، وانفردت الشين بالهمس، والتفشي، واشتركت مع الياء في الرخاوة.
والضاد والظاء: اشتركا صفة وجهراً ورخاوة واستعلاء وإطباقاً، وافترقا مخرجاً، وانفردت الضاد بالاستطالة.
والطاء والدال والتاء: اشتركت مخرجاً وشدة، وانفردت الطاء بالإطباق والاستعلاء، واشتركت مع الدال في الجهر، وانفردت التاء بالهمس واشتركت مع الدال في الانفتاح والاستفال.
والظاء والذال والثاء: اشتركت مخرجاً ورخاوة وانفردت الظاء بالاستعلاء والإطباق واشتركت مع الذال في الجهر، وانفردت التاء بالهمس واشتركت مع الذال استفالا وانفتاحا.
والصاد والزاي والسين: اشتركت مخرجاً ورخاوة وصفيرا وانفردت الصاد بالإطباق والاستعلاء واشتركت مع السين في الهمس، وانفردت الزاي بالجهر، واشتركت مع السين في الانفتاح والاستفال.
قال: فإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف على حدته موف حقه فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب؛ لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد وذلك ظاهر فكم ممن يحسن الحروف مفردة ولا يحسنها مركبة بحسب ما يجاورها من مجانس ومقارب، وقوي وضعيف، ومفخم ومرقق، فيجذب القوي الضعيف، ويغلب المفخم المرقق فيصعب على اللسان النطق بذلك على حقه إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب.
فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان والتدريب. [117]
وتوضيحا لما ذكر ابن الجزري نورد بعض الأمثلة ليُعلم أن قراءة القرآن تحتاج إلى دربة ورياضة على أهل الخبرة والدراية.
فالهمز مثلا له أحكامه التي يجب مراعاتها سواء كان مبدوءاً به أو موقوفا عليه.(43/409)
قال في النشر: الهمزة إذا ابتدأ بها القارئ من كلمة فليلفظ بها سلسة في النطق سهلة في الذوق، وليتحفظ من تغليظ النطق بها نحو: (الحمد) (الذين) (أءنذرتهم) ولا سيما إذا أتى بعدها ألف نحو (آتى) و (آيات) و (آمّين)
فإن جاء حرف مغلظ كان التحفظ آكد نحو: (الله) (اللهم) أو مفخم نحو (الطلاق) (اصطفى) و (أصلح)
فإن كان حرفا مجانسها أو مقاربها كان التحفظ بسهولتها أشد وبترقيقها أوكد نحو: (اهدنا) (أعوذ) (أعطى) (أحطت) (أحق) فكثير من الناس ينطق بها في ذلك كالمتهوع. [118]
قال مكي: ويجب على القارئ إذا وقف على الهمزة وهي متطرفة بالسكون أن يطلب اللفظ بها وإظهارها في وقفه لأنها لما بعد مخرجها وضعفت وأتت في آخر الكلمة وذهبت حركتها للوقف وضعفت بالسكون صعب إظهارها في الوقف وخيف عليها النقص فلابدّ من إظهارها عند الوقف والتكلف لذلك نحو (أسوأ) و (يستهزئ) فإن كان قبلها ساكن من حروف المد واللين صعب اللفظ بها في الوقف أشد مما قبله فيجب أن تظهرها بالوقف وتتطلب باللفظ نحو الوقف على (السراء) و (الضراء) و (سوء) و (شيء) و (يضيء) و (شاء) و (جاء) و (يشاء) فإن كنت تروم الحركة كان ذلك أسهل قليلا من وقوفك بالسكون.
وإن كان الساكن قبل الهمزة غير حرف مد ولين فهو أصعب في طلب الهمزة في الوقف إذا كنت لا تروم الحركة نحو قوله تعالى: (دفء) و (ملء) و (سَوء)
فاعرف هذا كله وتحفظ منه في وقفك وإن لم تتحفظ من إظهار الهمزة في هذا في وقفك كنت حاذفا حرفا ولاحنا في ذلك. [119]
ومن ذلك (التاء) يتحفظ بما فيها من الشدة لئلا تصير رخوة وربما جعلت سينا لاسيما إذا كانت ساكنة نحو (فتنة) و (فترة) وليكن التحفظ بها آكد إذا تكررت نحو: (تتوفاهم) و (تتلوا)
وكذا كل ما تكرر من مثلين نحو (ثالث ثلاثة) و (حاججتم) و (لا أبرح حتى) ونحو ذلك.(43/410)
قال في الرعاية: فبيان هذا الحرف المكرر لازم لأن في اللفظ به صعوبة لأنه بمنزلة الماشي يرفع رجله مرتين أو ثلاث مرات ويردها في كل مرة إلى الموضع الذي رفعها منه.
وقد مثله بعض العلماء بمشي المقيد فالتحفظ ببيانه لازم للقارئ ومعرفته لذلك زيادة في فهمه وعلمه بحقيقة لفظه. [120]
قال ابن الجزري: وإذا سبقت الطاء التاء لخصت صوت الطاء مع الإتيان بصوت الإطباق ثم تأتي بالتاء مرققة على أصلها وهذا قليل في زماننا ولا يقدر عليه إلا الماهر المجود. [121]
ومن ذلك (السين) إذا جاورت حرفاً من حروف الإطباق سواء كانت ساكنة أو متحركة وجب بيانها في رفق وتؤدة وإلا صارت صادا بسبب المجاورة لأن مخرجهما واحد ولولا التسفل والانفتاح اللذان في السين لكانت صادا، ولولا الاستعلاء والإطباق اللذان في الصاد لكانت سيناً.
وينبغي أن يبين صفيرها أكثر من الصاد لأن الصاد بين الإطباق نحو (بسطة) و (مسطورا) و (تسطع) و (أقسط) فتلفظ بها في حالي سكونها وتحريكها برفق ورقة.
وإذا سكنت وأتى بعده جيم أو تاء فبينها نحو (مستقيم) و (مسجد) ونحو ذلك.
ولولا تبيينها لالتبست بالزاي للمجاورة.
واحذر أن تحركها عند بيانك صفيرها. [122]
ومن ذلك الضاد فإنه حرف عسير على اللسان والناس يتفاضلون في النطق به
قال ابن الجزري: فمنهم من يجعله (ظاء) مطلقا، لأنه يشارك الظاء في صفاتها كلها ويزيد عليها بالاستطالة، فلولا الاستطالة واختلاف المخرجين لكانت ظاء.
وإبدالها ظاء لا يجوز في كلام الله تعالى لمخالفته المعنى الذي أراد الله تعالى إذ لو قلنا (الضالين) بالظاء كان معناه الدائمين وهذا خلاف مراد الله تعالى وهو مبطل للصلاة، لأن الضلال بالضاد هو ضد الهدى كقوله {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} {وَلا الضَّالِّينَ} ونحوه وبالظاء هو الدوام كقوله {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً}(43/411)
ومنهم من لا يوصلها إلى مخرجها بل يخرجها من دونه ممزوجة بالطاء المهملة لا يقدرون على غير ذلك ومنهم من يخرجها لاماً مفخمة.
وإذا أتى بعد الضاد حرف إطباق وجب التحفظ بلفظ الضاد لئلا يسبق اللسان إلى ما هو أخف عليه وهو الإدغام كقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ}
وإذا سكنت الضاد وأتى بعدها حرف من حروف المعجم فلا بدّ من المحافظة على بيانها وإلا بادر اللسان إلى ما هو أخف منها نحو: (أفضتم) و (خضتم) و (واخفض جناحك) و (قيضنا) و (فرضنا) ونحو ذلك. [123]
وهكذا تناول العلماء كل حرف من حروف الهجاء مبينين خصائصه ومميزاته وكيفية النطق به وما يجب له
سواء كان مبدوء به أو موقوفا عليه وسواء كان مفردا أو اقترن بغيره ولو تتبعنا ذلك لخرجنا عن الاختصار
وإنما ذكر العلماء ذلك وبينوه أوضح بيان لما رأوا من وقوع الطلاب في الخطأ واللحن فيه
قال مكي في الرعاية بعد بيانه للمباحث والأبواب التي عقدها لأحكام التجويد:
كل ما ذكرته لك من هذه الحروف وما نذكره لم أزل أجد الطلبة تزل بهم ألسنتهم إلى ما نبهت عليه وتميل بهم طباعهم إلى الخطأ فيما حذرت منه فبكثرة تتبعي لألفاظ الطلبة بالمشرق والمغرب وقفت على ما حذرت منه، ووصيت به من هذه الألفاظ كلها وأنت تجد ذلك من نفسك وطبعك. [124]
فإذا كان هذا حال الطلاب في تلك القرون المتقدمة فماذا عسى أن نقوله عمن طغت عليه العجمة وفشي فيه اللحن وغلب عليه اعوجاج اللسان من أهل زماننا هل يُتْرك يقرأ بحسب طبعه ولهجته وما سهل على لسانه؟
ولقد رد العلماء هذه المقولة ووصفوا قائلها بالنقص والجهالة.
قال مكي رحمه الله تعالى: وليس قول المقرئ والقارئ أنا أقرأ بطبعي وأجد الصواب بعادتي في القراءة لهذه الحروف من غير أن أعرف شيئاً مما ذكرته بحجة بل ذلك نقص ظاهر فيهما.(43/412)
لأن من كانت هذه حجته يصيب ولا يدري، ويخطئ ولا يدري؛ إذ علمه واعتماده على طبعه وعادة لسانه، يمضي معه أينما مضى به من اللفظ، ويذهب معه أين ما ذهب، ولا يبنى على أصل ولا يقرأ على علم ولا يقرئ عن فهم فما أقربه من أن يذهب عنه طبعه، أو تتغير عليه عادته وتستحيل عليه طريقته؛ إذ هو بمنزلة من يمشي في ظلام في طريق مشتبه فالخطأ والزلل منه قريب.
والآخر بمنزلة من يمشي على طريق واضح معه ضياء لأنه يبني على أصل، وينقل عن فهم، ويلفظ عن فرع مستقيم وعلة واضحة فالخطأ منه بعيد.
فلا يرضى امرؤ لنفسه في كتاب الله جل ذكره وتجويد ألفاظه إلا بأعلى الأمور وأسلمها من الخطأ والزلل [125] .
وإلى وجوب عرض القرآن وأخذه عن أهل الضبط والإتقان نبه الداني في منظومته المنبهة فقال:
واعلم بأن العرض للقرآن
على الإمام الفاضل الديّان
من سنة النبي والصحابة
ذوي المحل وذوي القرابة
والتابعون بعد لم يعدوه
بل من وكيد الأمر قد عدّوه
إذ كان قد صح عن الرسول
بأنه قرا على جبريل
وقد قرا بالوحي إذ أتاه
على أبيّ ثم قد أقراه
فأي شيء بعد هذا يتبع
وهل يردُّ الحق إلا مبتدع
أو جاهل لقوله لا ينظر
إذ هو في الورى كمن لا يبصر [126]
---
[1] حرز الأماني للشاطبي: 8
[2] سورة الممتحنة آية: 4
[3] لسان العرب لابن منظور 3/135 مادة: جود
[4] التحديد لحقيقة الإتقان والتجويد للداني: 70، التمهيد في علم التجويد لابن الجزري: 59، النشر: 1/212
[5] هداية القاري: 1/45
[6] التحديد للداني:70، التمهيد:59، النشر:1/212، المصباح الزاهر: 4/1468
[7] يوسف بن علي بن جبارة بن محمد بن عقيل أبو يوسف بن علي القاسم الهذلي، ولد في حدود التسعين وثلاثمائة.(43/413)
قال ابن الجزري عنه: لا أعلم أحداً في هذه الأمة رحل في القراءات رحلته ولا لقي من لقي من الشيوخ، قال في كتابه الكامل: فجملة من لقيت في هذا العلم ثلاثمائة وخمسة وستون شيخاً من آخر المغرب إلى باب فرغانة يميناً وشمالاً وجبلاً وبحراً، ولو علمت أحداً تقدم علي في هذه الطبقة في جيع بلاد الإسلام لقصدته، من أبرز شيوخه: أحمد بن محمد بن علان، أحمد بن نفيس، الحسن بن علي بن إبراهيم المالكي، قرأ عليه: أبو العز القلانسي، وإسماعيل بن الأخشيد. توفي سنة (465هـ) .
غاية النهاية: 2/397، العبر في خبر من عبر الذهبي: 2/320
[8] الكامل للهذلي لوحة: 19/ب
[9] نهاية القول المفيد محمد مكي نصر: 12، فتح المجيد لحمد بن خلف الحسيني الشهير بالحداد: 3، هداية القارئ: 1/45
وحق الحرف من الصفات أي الصفات اللازمة الثابتة التي لا تنفك عنه بحال كالجهر، والشدة، والاستعلاء، والإطباق، والقلقلة.
والمستحق: أي من الصفات العارضة التي تعرض له في بعض الأحوال وتنفك عنه في البعض الآخر لسبب من الأسباب كالترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام والمد والقصر وغير ذلك.
هداية القارئ: 1/45
[10] سورة العلق الآيات: 1-5
[11] المستدرك للحاكم وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي: 2/223
[12] سورة المزمل آية: 4
[13] سورة الإسراء آية: 22
[14] سورة الإسراء آية: 23
[15] أضواء البيان: 3/494
[16] سورة المائدة آية: 67
[17] مسلم: 1/204
[18] المستدرك: 1/577
[19] فتح الباري: 7/126، مسلم: 6/85، المسند: 3/130، 137
[20] أبو عبيد القاسم بن سلام الخراساني الأنصاري أحد الأعلام المجتهدين أخذ القراءة عرضا وسماعا عن علي بن حمزة الكسائي، وإسماعيل بن جعفر وسليم بن عيسى. روى القراءة عنه أحمد بن إبراهيم وراق خلف، وأحمد بن يوسف التغلبي وله اختيار في القراءة وافق عليه العربية والأثر. توفي سنة (244هـ)(43/414)
غاية النهاية: 2/17، الطبقات الكبرى لابن سعد: 7/355، تاريخ بغداد: 12/403، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 6/509
[21] فضائل القرآن لأبي عبيد: 359
[22] أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد علم الدين السخاوي شيخ مشايخ الإقراء بدمشق قرأ على أبي القاسم الشاطبي، وعلى أبي اليمن الكندي، وأبي الفضل محمد بن يوسف. قرأ عليه أبو الفتح محمد بن علي الأنصاري وأبو شامة، والقاضي عبد السلام الزواوي وغيرهم. أقرأ الناس نيفاً وأربعين سنة بجامع دمشق. توقي سنة (643هـ) .
غاية النهاية: 1/568، سير أعلام النبلاء الذهبي: 23/122، طبقات الشافعية للسبكي: 8/297، وفيات الأعيان ابن خلكان: 3/340
[23] جمال القراء: 2/446
[24] شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن الجزري، إمام المقرئين وخاتمة الحفاظ المحققين، قرأ على أبي محمد عبد الوهاب ابن السلار، وعلى أبي المعالي محمد بن أحمد بن اللبان، وقرأ على أبي بكر عبد الله بن الجندي وغيرهم، وقرأ عليه الكثيرون منهم ابنه أبو بكر أحمد والمحب محمد بن أحمد بن الهائم، ومحمد بن علي بن نفيس وغيرهم. توفي سنة (833هـ) .
غاية النهاية: 2/247، إنباء الغمر بأبناء العمر للحافظ ابن حجر: 8/245، الضوء اللامع، للسخاوي: 9/255، البدر الطالع للشوكاني: 2/257.
[25] المقدمة الجزرية: 8
[26] عثمان بن سعيد بن عثمان أبو عمرو الداني القرطبي المعروف بابن الصيرفي، أستاذ الأستاذين وشيخ مشايخ المقرئين أخذ القراءة عن خلف بن إبراهيم بن خاقان، وطاهر بن عبد المنعم بن غلبون، وأبي الفتح فارس بن أحمد وغيرهم. قرأ عليه: أبو داود سليمان بن نجاح، ومحمد بن عيسى المغامي، ومحمد بن يحيى بن مزاحم وغيرهم. توفي سنة (444هـ) .
غاية النهاية: 1/503، تذكرة الحفاظ للذهبي: 3/1120، الصلة لابن بشكوال: 2/592، جذوة المقتبس للحميدي: 2/483
[27] التحديد للداني: 69، والفهيه: العييّ، اللسان: 13/525.(43/415)
[28] محمد بن يزيد بن رفاعة بن سماعة أبو هاشم الرفاعي، أخذ القراءة عرضا عن سليم سمع قراءة الأعشى على أبي بكر وروى عن الكسائي، روى القراءة عنه موسى بن إسحاق القاضي، وعلي بن الحسن القطيعي توفي سنة (248هـ)
غاية النهاية: 2/280، تاريخ بغداد: 3/375
[29] سليم بن عيسى بن سليم أبو عيسى، عرض على حمزة وهو أخص أصحابه وأضبطهم وهو الذي خلفه في القيام بالقراءة، قرأ عليه حفص بن عمر الدوري وخلف بن هشام. توفي سنة (188هـ)
غاية النهاية: 1/318، الثقات لابن حبان: 8/295
[30] حمزة بن حبيب بن عمارة أبو عمارة الكوفي أحد القراء السبعة ولد سنة (80هـ) أدرك الصحابة بالسن، أخذ القراءة عرضاً عن سليمان الأعمش، وحمران بن أعين، روى القراءة عنه إبراهيم بن أدهم والحسن بن عطية، وخلاد بن خالد. توفي سنة (156هـ) غاية النهاية: 1/261
[31] التحديد للداني: 84
[32] لم أعثر له على ترجمة.
[33] عاصم بن بهدلة بن أبي النجود أبو بكر الأسدي شيخ الإقراء بالكوفة. أحد القراء السبعة اختلف في سنة وفاته فقيل (127هـ) وقيل (128هـ) ، قرأ على أنس بن مالك، وأخذ القراءة عرضاً على زر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، روى القراءة عنه أبان بن تغلب، وحفص بن سليمان، وحماد بن سلمة.
غاية النهاية: 1/346، مشاهير علماء الأمصار: 165
[34] التحديد: 85
[35] الشيخ العلامة عبد الفتاح بن عبد الغني بن محمد القاضي، ولد في مدينة دمنهور سنة (1320هـ) . حفظ القرآن على الشيخ علي عيادة وتلقى القراءات العشر على الشيخ همام قطب، والشيخ حسن الصبحي وغيرهما. رحل إلى المدينة سنة (1394هـ) وعين رئيساً لقسم القراءات منذ إنشائه وكانت له جهوده الطيبة المباركة في تطوير كلية القرآن الكريم وتلقي عنه الكثير، وكنت ممن تلقى عنه بالكلية القراءات الثلاث، وكتابه الفرائد الحسان في عد الآي، من نظمه. توفي رحمه الله تعالى سنة (1403هـ) .(43/416)
ترجم له الشيخ المرصفي في كتابه هداية القارئ: 2/658، والدكتور عبد العزيز القارئ في مجلة كلية القرآن الكريم العدد الأول: 297
[36] من قصيدة الخاقاني: انظر: قصيدتان في تجويد القرآن: 18
[37] غاية النهاية: 2/321
[38] قصيدتان في تجويد القرآن: 18
[39] غاية النهاية: 1/529 وهو مخطوط
[40] مطبوع
[41] مطبوع
[42] التحديد: 98
[43] مخطوط
[44] مطبوع
[45] مخطوط وهو نظم
[46] مخطوط
[47] مطبوع
[48] التمهيد: 52
[49] مطبوع
[50] مخطوط
[51] مخطوط
[52] مخطوط
[53] الكامل للهذلي: لوحة: 19/ب، النشر: 1/209
[54] لسان العرب: 11/265 مادة (ر ت ل) ، معاني القرآن للزجاج: 5/239، معاني القرآن للفراء: 3/197، جامع البيان عن تأويل القرآن للطبري: 29/126
[55] المفردات للراغب: 187
[56] لباب التأويل في معاني التنزيل: 4/321
[57] الجامع لأحكام القرآن: 1/17
[58] الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري: 4/175
[59] هو الإمام نصر بن علي بن محمد أبو عبد الله الشيرازي الفارسي المعروف بابن أبي مريم قرأ على محمود بن حمزة بن نصر. قال عنه ابن الجزري: إمام كبير المحل. توفي بعد سنة (565هـ) .
غاية النهاية: 2/337، انباه الرواة على أبناء النحاة للقفطي: 3/344
[60] الموضح في وجوه القراءات للشيرازي: 1/154
[61] التمهيد لابن الجزري: 61
[62] سورة المزمل آية: 4
[63] سورة الفرقان آية: 32
[64] فتح الباري شرح صحيح البخاري: 9/91
[65] التحديد للداني: 80
[66] منجد المقرئين لابن الجزري: الباب السادس، الفصل الثاني: في أن القراءات العشر متواترة فرشاً وأصولاً حال اجتماعهم وافتراقهم: 57
[67] موطأ الإمام مالك. ما جاء في صلاة القاعد: 98، سنن الدرامي: 1/262
[68] الترمذي: 4/254، سنن أبي داود: 2/73، المصنف لابن أبي شيبة: 10/552
[69] زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/482
[70] كتاب السبعة لابن مجاهد: 47
[71] كتاب السبعة لابن مجاهد: 49(43/417)
[72] كتاب السبعة لابن مجاهد: 50
[73] كتاب السبعة لابن مجاهد: 52
[74] كتاب السبعة لابن مجاهد: 52
[75] سورة التوبة آية: 60
[76] الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي: 4/221، النشر: 1/315
[77] المسند بتحقيق أحمد شاكر: 1/230، 270
[78] قال ابن الجزري مبينا أن قصر المتصل لم يصح عن أحد من القراء: وقد تتبعته فلم أجده في قراءة صحيحة ولا شاذة بل رأيت النص بمده.
النشر: 1/315
[79] النشر: 1/210
[80] جمال القراء: 2/498، النشر: 2/31
[81] نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو رويم، ويقال أبو نعيم مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب قرأ على سبعين من التابعين وهو أحد القراء السبعة توفي سنة 169هـ
غاية النهاية: 2/230، التيسير لأبي عمرو الداني: 4، السبعة لابن مجاهد: 53
[82] يأتي تعريفه ص: 40، 42، 43.
[83] التحديد للداني: 93
[84] سورة الإسراء آية: 88
[85] التحديد للداني: 94
[86] مكي بن أبي طالب أبو محمد القيسي القيرواني الأندلسي إمام علامة محقق أستاذ القراء والمجودين. قرأ القراءات على أبي الطيب عبد المنعم بن غلبون، وسمع من أبي بكر محمد بن علي الأذفوي، قرأ عليه يحيى بن إبراهيم البياز وموسى بن سليمان اللخمي، ومحمد بن محمد بن أصبغ وغيرهم. توفي سنة (437هـ) .
غاية النهاية: 2/309، معرفة القراء الكبار للحافظ الذهبي: 2/316
[87] الرعاية: 89
[88] الرعاية: 153
[89] التحديد للداني: لوحة: 98/أ
[90] الكامل للهذلي: لوحة: 24/ب، 31/أ
[91] المبارك بن الحسن بن أحمد أبو الكرم الشهرزوري إمام كبير، ثقة محقق، قرأ على أحمد بن الحسن بن خيرون، وأحمد بن على الهاشمي، وأحمد بن على بن سوار، وغيرهم. قرأ عليه هبة الله بن يحيى الشيرازي، وعبد الوهاب بن سكينة وغيرهما، وكتابه المصباح من أحسن ما ألف في القراءات. توفي رحمه الله تعالى سنة (550هـ) .
غاية النهاية: 2/38.
[92] المصباح الزاهر: 4/1469.(43/418)
[93] الموضح في وجوه القراءات للشيرازي: 1/156
[94] الحسن بن قاسم بن عبد الله بن علي المرادي المالكي المشهور بابن أم قاسم نسبة إلى جدته أم أبيه. قرأ القراءات على مجد الدين إسماعيل، وأخذ عن أبي حيان. توفي سنة (749هـ)
غاية النهاية: 1/227، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ بن حجر: 2/116
[95] المفيد في شرح عمدة المجيد، الحسن بن قاسم المرادي: 38
[96] المفيد في شرح عمدة المجيد، الحسن بن قاسم المرادي: 39
[97] المقدمة الجزرية ضمن كتاب: مجموعة في فن التجويد: 9
[98] صحيح مسلم بشرح النووي: 2/37
[99] النشر: 1/210
[100] الأرجوزة المنبهة: للداني: 297
[101] سورة الحجر آية: 9
[102] فتح الباري: 1/30
[103] لطائف الإشارات للقسطلاني: 209
[104] التحديد للداني: 81
[105] فتح الباري: 9/64
[106] النشر: 1/213
[107] المقدمة الجزرية: 8
[108] القول السديد: 7
[109] شرح ما يقع فيه التصحيف للعسكري: 10
[110] سورة الملك آية: 22
[111] سورة القيامة آية: 16، 17، 18
[112] سورة طه آية: 114
[113] فتح الباري: 1/29
[114] سنن القراء د. عبد العزيز قاري: 244
[115] التحديد: 82، المحتسب:1/343، الكشاف:2/317، والعرب تبدل أحد هذين الحرفين من صاحبه لتقاربهما في المخرج.
[116] التحديد: 83
[117] النشر: 1/214، 215
[118] النشر: 1/216
[119] الرعاية: 151
[120] الرعاية: 205، النشر: 1/217
[121] التمهيد: 121
[122] التمهيد: 137
[123] التمهيد: 140-142
[124] الرعاية: 170
[125] الرعاية: 153
[126] الأرجوزة المنبهة: للداني: 166(43/419)
تابع الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز
المبحث الخامس
حكم الأخذ بالتجويد:
بعد النظر في النصوص الواردة عن الأئمة في مسألة حكم الأخذ بالتجويد وما تقدم من بيان اعتناء سلف هذه الأمة به.
تحرر عندي أنّ تعلّم علم التجويد فرض كفاية.
وأن العمل بأحكامه حال القراءة فرض عين سواء كان ذلك في الصلاة أو خارج الصلاة وسواء كان المقروء يسيراً أو كثيراً وذلك لما يأتي:
أولاً:
أن الأمة قد أجمعت على تلقي القرآن وعرضه منذ نزوله جيلاً بعد جيل بهذه الكيفية التي عرفت بالتجويد لا خلاف بينهم في ذلك، إذ القراءة عندهم سنة متبعة.
وقد كنت عزمت على عقد مبحث أذكر فيه أدلة المعارضين للقول بالوجوب ومناقشتها فلم أجد دليلاً من إمام معتبر يقول بغير الوجوب فصرفت عنه النظر.
وما ذكره بعض المعاصرين من أنه دليل معارض للقول بالوجوب كقصة اختلاف هشام بن حكيم وعمر بن الخطاب في القراءة ونحو ذلك، تتبعته فألفيته بعيداً كل البعد عن تقرير أحكام التلاوة وأدائها التي هي صلب الموضوع ولبه، بل هو راجع إلى اختلاف القراءات والحكمة من تعدد الحروف النازلة.
ثانياً:
أن قراءة القرآن وتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القرآن المسندين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة.
قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} (1) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ حرفاً من كتاب لله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (ألم) حرف ولكن (ألف) حرف و (لام) حرف و (ميم) حرف" (2) .
وكل عبادة يجب أن تؤدى كاملة غير منقوصة ليحصل لصاحبها الثواب كاملاً.
__________
(1) سورة المزّمل آية 20.
(2) الترمذي: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن: 5/33، حديث رقم (2910) وابن الضريس في فضائل القرآن: 46. وفي جامع الأصول: 8/498.(43/420)
وبقدر ما نقص منها مع قدرته على التمام نقص من أجره وثوابه وبقدر تفريطه لحقه الإثم والعقاب.
وإلى ما ذكرت أشار ابن الجرزي بقوله: ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها، والناس في ذلك بين محسن مأجور ومسيء آثم، أو معذور.
فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناءً بنفسه واستبداداً برأيه وحدسه، واتكالاً على ما ألف من حفظه، واستكباراً عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه، فإنه مقصر بلا شك وآثم بلا ريب وغاش بلا مرية فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
أما من كان لا يطاوعه لسانه أو كان لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها (1) .
ثالثاً:
ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" (2) .
والماهر بالشيء الحاذق العارف به.
ولا يكون ماهراً بالقرآن عارفاً به من أخلّ بشيء من معانيه ومبانيه.
__________
(1) النشر: 1/210، 211.
(2) فتح الباري: 8/691، ومسلم في صلاة المسافرين رقم 6/84.(43/421)
فمن لم يعط الحروف حقها من المدّ إن كانت ممدودة، ومن التمكين إن كانت مُمكّنة، ومن الهمز إن كانت مهموزة، ومن الإدغام إن كانت مدغمة، ومن الإظهار إن كانت مظهرة، ومن الإخفاء إن كانت مخفية، ومن الحركة إن كانت محركة، ومن السكون إن كانت مسكّنة … إلخ، مع قدرته على ذلك، لم يكن ماهراً بالقرآن، وأما من كان لا يطاوعه لسانه مع اجتهاده وحرصه على الوصول إلى مرتبة الماهر فإن الله أعدله من الأجر على قدر اجتهاده إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فمن رام مصاحبة السفرة الكرام البررة وجب عليه أن يقيم حروفه ويحرص على أدائها سالمة من الخطأ والزلل كما يقيم حدوده.
رابعاً:
ما ورد من النهي عن الهذرمة وهي الإسراع بالقراءة إلى الحد الذي لا يمكّن القارئ من ضبط أحكام القراءة، ولا يمكّن السامع من التدبر، ومثلها الهذّ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا تنثروه نثر الدقل (1) ، ولا تهذّوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة (2) .
وعن أبي وائل قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: قرأت المفصل البارحة فقال: ((هذّا كهذّ الشعر، إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القُرناء التي كان يقرأ بهنّ النبي صلى الله عليه وسلم: ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم)) (3) .
ولذلك ورد النهي عن ختم القرآن في أقل من سبع وفي رواية أقل من ثلاث كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
فإذا نهي عن الهذرمة والهذّ وجب الأخذ بضدهما وهو تبيين الحروف وإخراجها من مخارجها وإعطائها حقها على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة الناقلين لها بالأسانيد المتصلة سواء كان ذلك في ترتيل، أو تدوير، أو حدر.
فذو الحذق معط للحروف حقوقها
__________
(1) الدقل هو رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثوراً. اللسان: 11/246
(2) تفسير البغوي: 4/407.
(3) فتح الباري: 9/88.(43/422)
(إذا رتل القرآن أو كان ذا حدر) (1)
خامساً:
أن القول بعدم وجوب الأخذ بهذه الأحكام من إظهار وإدغام وإخفاء ومد وترقيق وإمالة ونحو ذلك.
فيه قدح صريح لصدر هذه الأمة من القراء الناقلين إلينا كتاب ربنا بحروفه وقراءاته ورواياته وطرقه بهذه الكيفيات والهيئات التي تلقوها وأقرءوا بها ودونوها في كتبهم حتى وصلت إلينا عن طريقهم بالأسانيد المتصلة.
فهل يقول ذو بصيرة أنهم أنشأوها واخترعوها من أنفسهم وأوجبوها على الناس وتناقلها الناس عنهم في كل عصر ومصر.
ولم يخالفهم أحد أو يأخذ على أيديهم لاستحداثهم في كتاب الله ما ليس منه، والله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والإجماع قائم على أن من زاد في القرآن حركةً أو حرفاً أو نقص من تلقاء نفسه مصراً على ذلك يكفر.
كما أن الإجماع قائم على أن النقص في كيفية القرآن وهيئته كالنقص في ذاته ومادته.
فترك المد والغنة والتفخيم والترقيق، كترك حروفه وكلماته. فإذا كان الجواب قطعاً بالنفي وأنهم برءاء من الاختراع والابتداع بل منهجهم الإتباع، فلا يقرأ أحدهم إلا بما أقرئ، وجب اتباعهم، قال محمد بن صالح: سمعت رجلاً يقول لأبي عمرو (2) كيف تقرأ:
{لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} (3) .
__________
(1) من قصيدة الخاقاني: أنظر قصيدتان في التجويد: 19.
(2) زبان بن العلاء أبو عمرو البصري، أحد القراء السبعة ولد سنة (68هـ) وقيل سنة (70هـ)
قرأ على الحسن البصري، وحميد بن قيس الأعرج، وعلى أبي العالية.
توفي سنة (154هـ) وقيل غير ذلك.
غاية النهاية: 1/292، تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر: 12/178، طبقات خليفة بن خياط: 227
(3) سورة الفجر آية 25-26.(43/423)
قال: (لا يعذب) بالكسر، فقال له الرجل كيف وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا يعذب) بالفتح، فقال له أبو عمرو: لو سمعت الرجل الذي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ما أخذته عنه وتدري ما ذاك لأني أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة.
قلت وقراءة الفتح أيضاً قراءة متواترة.
قرأها من السبعة الإمام الكسائي، ومن العشرة يعقوب الحضرمي (1) وإنما أنكرها أبو عمرو لأنها لم تبلغه على وجه التواتر، لأن الخبر قد يتواتر عند قوم دون قوم (2) .
وقال ابن مجاهد أخبرنا الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرئ به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا (3) .
ويبين الشهرزوري في كتابه المصباح أن أحكام التجويد من إظهار وإدغام وإقلاب وإخفاء وإمالة وتفخيم وتحقيق همز وتخفيفه كل ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وما من قارئ من قراء الأمصار: الحجاز والشام والعراق إلا وقد ورد عنهم الإدغام والإظهار والهمز والتليين والحدر والتحقيق والإمالة والتفخيم، وليس لأحد أن يعيب على قارئ ممن قرأ بهذه الأوصاف بل كل واحد من هذه الأوصاف نقله الخلف عن السلف جيلاً بعد جيل وقبيلاً بعد قبيل من لدن رسول الله (إلى زماننا هذا، ووقع على جواز ذلك الاتفاق في كل عصر ومصر إماماً بعد إمام وقدوة بعد قدوة إلى زماننا هذا. (4)
قلت: لازال الإجماع والاتفاق قائماً على ما ذكر عن الأئمة قراء الأمصار من تلك الأحكام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالتارك للقراءة بها قارئ للقرآن بغير لغة العرب التي نزل عليها.
__________
(1) النشر 2/400
(2) جمال القراءة للسخاوي: 1/235، منجد المقرئين: 68.
(3) السبعة لابن مجاهد: 48.
(4) صباح الزاهر: 3/929.(43/424)
وفي موضع آخر من كتابه بين أن أخذهم لقواعد التجويد ليس بدعاً من أنفسهم وإنما هو النقل والرواية عن الأئمة الماضين والسلف الصالحين، فقد أوضحوا في كتبهم وبينوا في مصنفاتهم التجويد في القراءة والتحقيق في التلاوة، ولم يتركوا لغيرهم في ذلك مسلكاً وليس لنا فيما نورده من ذلك إلا التقريب والترتيب.. والله الموفق. (1)
فعلينا أن نسلك مسلك أئمتنا ونقتفي أثرهم فهم الأمناء الناقلون والحفظة المسندون.
قرءوا القرآن فأدوه أحسن أداء، وكان حسن الأداء سبيلهم لحسن الاستماع، وكان حسن الاستماع سبيلاً لحسن التدبر، وحسن التدبر سبيلاً لحسن الانتفاع.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
المبحث السادس
اللحن في القراءة:
يأتي اللحن لمعان كثيرة، والذي يعنينا منه في هذا المبحث هو ما كان بمعنى الخطأ والميل عن الصواب في القراءة.
قال في اللسان: اللحْن واللحَن واللحانة واللحانية: ترك الصواب في القراءة والنشيد ونحو ذلك.
ورجل لاحِن ولحّان ولحّانة ولُحنة يخطئ.
وفي المحكم: كثير اللحن، ولحّنة: نسبة إلى اللحن (2) .
قال ابن الجزري في التمهيد: واللحن الخطأ ومخالفة الصواب.
وبه سمي الذي يأتي بالقراءة على ضد الإعراب لحّاناً، وسمي فعله اللحن، لأنه كالمائل في كلامه عن جهة الصواب والعادل عن قصد الاستقامة (3) .
واللحن في جميع صوره وأشكاله منهي عنه مستبشع في القراءة.
كما روى الحاكم في مستدركه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قرأ فلحن قال صلى الله عليه وسلم "أرشدوا أخاكم" (4) .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحذر القراء منه.
__________
(1) صباح الزاهر: 4/1468.
(2) اللسان: 13/379، مادة ل ح ن.
(3) التمهيد: 76.
(4) المستدرك 2/ 439، وقال الحاكم: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.(43/425)
فعن سليمان بن يسار: انتهى عمر إلى قوم يقرئ بعضهم بعضاً فلما رأوا عمر سكتوا فقال: ما كنتم تراجعون، فقلنا: كنا نقرئ بعضنا بعضاً، فقال: أقرءوا ولا تلحنوا (1) .
وكان أبو جعفر (2) القارئ يقول: من فقه الرجل عرفانه اللحن (3) .
ينقسم اللحن إلى قسمين:
لحن جلي: أي ظاهر.
وخفي: أي مستتر. (4)
ولكل واحد منهما حدّ يخصه، وحقيقة بها يمتاز عن صاحبه.
القسم الأول: اللحن الجلي:
وهو خلل يطرأ على الألفاظ فيخل بعرف القراءة سواء أخل بالمعنى أم لم يخل، وهذا النوع من اللحن قد يكون في بنية الكلمة وحروفها التي تتركب منها، بأن يبدل القارئ منها حرفاً بآخر، فيبدل الضاد ظاء، والذال زاياً، والثاء سيناً، والغين خاءً، ونحو ذلك.
وقد يكون في حركات الكلمة سواءً كان ذلك في أولها أو في وسطها، أم في آخرها.
فيجعل الفتحة كسرة، أو الضمة فتحة، أو إحدى هذه الحركات سكوناً، أو نحو ذلك، سواء ترتب على هذا الخطأ تغير في المعنى كضم التاء أو كسرها من نحو: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ونحو: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء:77] .
أو فتحها أو كسرها من نحو: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} [المائدة:117] .
أم لم يترتب عليه تغير في المعنى كضم الهاء من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] و {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] .
وهذا النوع من اللحن حرام شرعاً باتفاق المسلمين، معاقب عليه فاعله إن تعمده.
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة: 10/459، شعب الإيمان: 5/242، إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري: 1/19.
(2) يزيد بن القعقاع الإمام أبو جعفر المخزومي المدني، أحد القراء العشرة، عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة.
روى عنه نافع بن أبي نعيم، وسليمان بن مسلم بن جماز، توفي سنة (130 هـ) ، غاية النهاية: 2/382.
(3) المصنف لابن أبي شيبة: 10/459
(4) السبعة لابن مجاهد: 49، التحديد للداني: 118.(43/426)
فإن فعله ناسياً أو جاهلاً فهو معفو عنه إن شاء الله تعالى.
وسمي هذا النوع جلياً لجلائه وظهوره وعدم خفائه على أحد سواء كان من القراء أم من غيرهم.
قال الداني: اعلموا أن كل حرف من حروف القرآن يجب أن يمكّن لفظه ويوفّى حقه من المنزلة التي هو مخصوص بها على ما حددناه وما نحدده ولا يبخس شيئاً من ذلك فيتحول عن صورته ويزول عن صيغته وذلك عند علمائنا في الكراهة والقبح كلحن الإعراب الذي يتغير فيه الحركات وينقلب به المعاني (1) .
القسم الثاني: اللحن الخفي:
وهو خلل يطرأ على الألفاظ فيخل بالعرف دون المعنى وهو نوعان:
الأول: مثاله ترك الإدغام في موضعه، وكذلك الإظهار، والإقلاب، والإخفاء، وترقيق المفخم وعكسه، وتخفيف المشدد كذلك.
وقصر الممدود، ومد المقصور، والوقف بالحركة كاملة في غير الوقف بالروم، إلى غير ذلك من الأخطاء التي تتنافى والقواعد التي دوّنها علماء القراءة وضبطها أئمة الأداء.
الثاني: وهو لا يعرفه إلا مهرة القراء وحذّاقهم ومثاله: تكرير الراءات، وتطنين النونات، وتغليظ اللامات، في غير محله، وترقيقها كذلك، ونقص الغنة أو الزيادة على مقدارها، والزيادة على مقدار المد أو النقص عنه، إلى غير ذلك مما يخل باللفظ ويذهب برونقه وحسن طلاوته.
وسمي مخفياً لاختصاص معرفته بعلماء القراءة دون غيرهم، وقد اختلف العلماء في هذا القسم الثاني من اللحن الخفي هل هو ملحق بالقسم الأول في الاتفاق على حرمته أم أن الأمر فيه دون ذلك.
فممن قال بحرمته وأنه لا فرق بينه وبين القسم الأول البركوي (2)
__________
(1) التحديد للداني 118
(2) محمد بن بيرعلي البركوي الرومي الحنفي تقي الدين، واعظ نحوي مفسر محدث، توفي سنة (981هـ)
معجم المؤلفين، رضا كحالة 9/123، كشف الظنون، حاجي خليفة 1/736.(43/427)
في شرحه على الدر اليتيم قال: تحرم هذه التغييرات جميعها لأنها وإن كانت لا تخل بالمعنى تخل باللفظ، وتؤدي إلى فساد رونقه وذهاب حسنه وطلاوته (1) .
وناصر الدين الطبلاوي (2) يرى أن هذه القواعد من الواجب الشرعي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
وذلك في نص سؤال وجه إليه فأجاب عليه بما يفيد ذلك (3) .
ويرى ملا علي القاري (4) في شرحه على المقدمة الجزرية أن هذا القسم الثاني لا يصل في الحرمة إلى ما عليه القسم الأول فيقول: ولا شك أن هذا النوع مما ليس بفرض عين يترتب عليه العقاب الشديد وإنما فيه خوف العتاب والتهديد (5) .
والذي أميل إليه في هذه المسألة أن هذه الكيفيات والهيئات التي يقرأ بها كتاب الله عز وجل من إظهار وإدغام وإخفاء وهمس للحروف وجهر لها ونحو ذلك، كل ذلك متلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظه الصحابة ونقلوه إلى من بعدهم إلى أن وصل إلينا متواتراً بالأسانيد المتصلة مما بينته سابقاً.
فإذا كانت هذه الكيفيات متواترة كان العمل بها والمحافظة على مراعاتها أمراً واجباً شرعاً تحرم مخالفتها ويأثم المتهاون بأدائها.
__________
(1) نهاية القول المفيد: 29.
(2) محمد بن سالم الطبلاوي ناصر الدين، من علماء الشافعية، عاش نحو مائة سنة، توفي سنة (966هـ)
الأعلام، خير الدين الزركلي: 7/4
(3) نهاية القول المفيد: 29- 31.
(4) علي بن محمد سلطان، وقيل: علي بن سلطان الهروي المعروف بالقاري، فقيه حنفي، له كتب كثيرة في القراءات، توفي سنة (1014هـ)
الأعلام، الزركلي: 5/166
(5) المنح الفكرية في شرح الجزرية: 19.(43/428)
ولقد سبق قول الداني في أنه ينبغي للقارئ أن يأخذ نفسه بتفقد الحروف التي لا يوصل إلى حقيقة اللفظ بها إلا بالرياضة الشديدة والتلاوة الكثيرة مع العلم بحقائقها والمعرفة بمنازلها فيعطي كل حرف منها حقه من المد إن كان ممدوداً ومن التمكين إن كان ممكناً، ومن الهمز إن كان مهموزاً، ومن الإدغام إن كان مدغماً، ومن الإظهار إن كان مظهراً، ومن الإخفاء إن كان مخفياً، ومن الحركة إن كان محركاً، ومن السكون إن كان مسكناً.
ومتى لم يفعل ذلك القارئ ولم يستعمل اللفظ به كذلك صار عند علماء هذه الصناعة لاحناً (1) .
والمدار في كل هذا على من كان يستطيع أن يأتي بهذه الكيفيات المتواترة ولكنه استنكف عن ذلك استكباراً وعناداً.
أما من كان لا يطاوعه لسانه أو كان لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
فأول علم الذكر إتقان حفظه
ومعرفة باللحن من فيك إذا يجري
فكن عارفاً باللحن كيما تزيله
وما للذي لا يعرف اللحن من عذرِ
وأما النوع الثاني من اللحن الخفي وهو ما لا يعرفه إلا مهرة القراء وحذّاقهم.
بأن ينقص القارئ الغنة عن المقدار المقرر لها وهو حركتان فيأتي بها حركتين إلا ربعاً مثلاً، أو أقل من الربع.
أو يزيدها على المقدار فيجعلها حركتين وربعاً أو أدنى من الربع، أو يجعل المد اللازم خمس حركات ونصف حركة أو ثلاثة أرباع حركة، أو يجعله ست حركات وربع حركة أو نصف حركة، فينقصه عن المقدار المقرر له، أو يزيده عليه.
ومثل ذلك يقال في باقي المد من: المتصل، والمنفصل، والعارض للسكون.
وبأن يفاوت بين المدود المتصلة والمنفصلة مثلاً، فيقرأ بعضها بخمس حركات مثلاً، وينقص بعضها عن هذا المقدار ولو قليلاً، أو يزيد بعضها عليه ولو قليلاً.
وبأن يقف على بعض الكلمات بالروم، ثم يقف على نظائرها بالسكون المحض أو الإشمام.
__________
(1) التحديد للداني: لوحة: 98/ أ(43/429)
وبأن يبالغ في تفخيم الحروف المفخمة، فيزيد عن الحد المطلوب، وبأن يبالغ في ترقيق الألف المسبوق بحرف استفال حتى يظن أنها ممالة، وبأن يبالغ في تحقيق الهمز المسبوق بحرف مد حتى يتوهم أنه مشدد.
إلى غير ذلك من الأمور التي لا يتنبه لها إلا المهرة العارفون بالتجويد الماهرون به علماً وعملاً الآخذون من أفواه الشيوخ الضابطين فإن هذا وإن كان من اللحن إلا أنه لا يخل بالقراءة الصحيحة ولا يقدح في ضبط التلاوة وحسنها.
وإنما يخل بكمال الضبط ونهاية الحسن والبلوغ بالقراءة إلى أسمى مراتب الإحسان والإتقان.
وعلى هذا لا يكون ارتكاب مثل هذه الأمور الدقيقة جداً محرماً ولا مكروهاً ممن وقع فيه من غير تعمد.
بل يكون خلاف الأولى والأفضل والأكمل، والله الموفق.
وإذا لحن المصلي في الفاتحة فإنه أخل بركن من أركان الصلاة، وعليه فإنه تفسد صلاته.
سواء كان ذلك اللحن مغيراً للمعنى أو للمبنى، وهذا على أرجح قولي أهل العلم.
قال النووي: ولو قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] بالظاء بطلت صلاته، على أرجح الوجهين إلا أن يعجز عن الضاد بعد التعلم فيعذر (1) .
قال في النشر: واختلفوا في صلاة من يبدل حرفاً بغيره، سواءً تجانسا أم تقاربا، وأصح القولين عدم الصحة كمن قرأ {الْحَمْدُ} بالعين، و {الدِّينِ} بالتاء أو {الْمَغْضُوبِ} بالخاء أو الظاء.
على أنه في كل ذلك يعتبر الجهد الذي يبذله المكلف في تصحيح قراءته، فإن كان مع اجتهاده وحرصه على التصحيح غلبه لسانه ولم يقو على اجتناب اللحن فلا حرج عليه، لأن التكليف مقيد بالاستطاعة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فبعد استفراغ الوسع في تصحيح القراءة إن وقع المصلي في اللحن فصلاته تجزئه، كصلاة الألثغ، والأعجمي الشديد العجمة، والشيخ الفاني الذي لا يستطيع أن يقوّم لسانه ونحوهم من طوائف الأمة الذين لا يقدرون على تحاشي اللحن (2) .
__________
(1) الأذكار للنووي: 46.
(2) سنن القراء: 128.(43/430)
وأما إمامة اللحان ويسميه الفقهاء (أُمِّيّاً) .
وهو الذي لا يحسن قراءة مالا تصح الصلاة إلا به من القرآن فلا خلاف في كراهة إمامته، ولا ينبغي له أن يؤم الناس والصحيح من أقوال أهل العلم بطلان الاقتداء به، وفساد الصلاة خلفه.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والأصح من مذهبي الشافعي وقال به أبو ثور، وابن المنذر، واختاره المزني.
وهو مذهب عطاء، وقتادة من التابعين (1) .
وقيل: تفسد صلاة القارئ خلف الأمّي، وتصح صلاة من كان مثله.
قال في النشر: ولهذا أجمع من نعلمه من العلماء على أنه لا تصح صلاة قارئ خلف أُمّي وهو من لا يحسن القراءة (2) .
وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذا البحث، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين … آمين.
الخاتمة
إنه لجدير بكل مسلم يجل كتاب ربه ويعظمه أن يصونه عن اللحن والتحريف، ويكون لسانه رطباً به في كل وقت وحين، وفق الكيفية التي أمر الله أن يتلى بها وحض عليها رسوله صلى الله عليه وسلم، وتناقلتها الأمة جيلاً بعد جيل حتى وصلت إلينا محاطة بالرعاية، متصلة بالأسانيد.
فمتى ما قرئ القرآن مجوداً مصححاً كما أنزل تلذذت الأسماع بتلاوته، وخشعت القلوب عند قراءته ولو لم يكن القارئ من أصحاب المقامات والتطريب، ومتى اختلت موازين الحروف لم يقم النغم والتطريب مقامها، بل لا يحسن الصوت حقيقة مع الإخلال بشيء من قواعد التجويد والتلاوة.
فحسن الصوت شيء زائد عن أحكام التلاوة وقواعدها وهبة من الله لمن شاء من خلقه وهو حسن بشروطه وليس هذا محل بحثه.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 3/32.
المجموع شرح المهذب: 4/269.
(2) النشر: 1/211. المغني لابن قدامة: 3/29.(43/431)
ولئن وقف أبناء اللغة العربية البررة مع لغتهم وتعاهدوها ورعوها حق رعايتها مما لم تعهده لغة أخرى في روايتها وترتيب قواعدها واستقصاء أصولها وإحصاء مفرداتها واستيعاب الشواهد عليها وضبط كلماتها وموازينها وبيان الفروق اللغوية بين مترادفاتها، وتحقيق المعرب من الدخيل محتسبين الأجر في ذلك لأنها لغة القرآن.
فحري بأهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته والمصطفون من خلقه أن يذودوا عن حمى القرآن وأن لا يتركوه لعبث العابثين وتأويل الجاهلين فكما هم مطالبون بالحفاظ على حروفه وحدوده هم مطالبون بالحفاظ على معانيه ومبانيه والكيفية التي تؤدى بها تلك الحروف لأنها أكمل الكيفيات وأتم الهيئات وبتطبيقها تنال أعلى الدرجات في الحياة وبعد الممات.
وإنه من فضل الله على هذه البلاد المملكة العربية السعودية أنه لا زال ولاة الأمر فيها قائمين بالحفاظ على كتاب الله وتجويده في كل المناسبات الخاصة منها والعامة.
ففي مجال المسابقة المحلية التي يرعاها سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز في كل عام يشترط في كل فرع من فروعها الخمسة التلاوة والتجويد.
ومثل ذلك في المسابقة الدولية التي تنظمها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف كل عام بمكة المكرمة على مستوى العالم يشترط في كل فرع من فروعها الخمسة التلاوة والتجويد.
فما يثار بين الفينة والفينة من التقليل بأهمية التجويد لا محل له في دولة القرآن وبين أهل القرآن.
{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر والمراجع
1. القرآن الكريم – مصحف المدينة النبوية – طباعة مجمع الملك فهد.
2. أخلاق حملة القرآن الكريم.
أبو بكر أحمد بن الحسين الآجري المتوفى سنة (360هـ)
تحقيق الدكتور / عبد العزيز القاري، مكتبة الدار، ط1، 1408هـ
3. الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار.(43/432)
محيي الدين / يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة (676هـ) .
دار المعرفة بيروت.
4. الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواه.
أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المتوفى سنة (444هـ) .
تحقيق: محمد مجقان الجزائري، نشر: دار المغني - الرياض - ط1- 1420هـ.
5. الأعلام.
خير الدين الزركلي، المتوفى سنة (1397هـ) ط3.
6. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.
للشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة (1393هـ) .
طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية – الرياض.
7. أنباء الغمر بأبناء العمر.
لأبي الفضل / أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852هـ) .
مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الدكن، الهند.
8. إنباه الرواة على أنباه النحاة.
لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي المتوفى سنة (624هـ) .
تحقيق محمد أبو الفصل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1 – 1406هـ
9. إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله.
أبو بكر الأنباري: محمد بن القاسم المتوفى سنة (328هـ) ط المجمع العلمي بدمشق.
10. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع.
محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة (1250هـ) .
نشر دار الكتاب الإسلامي القاهرة.
11. تاريخ بغداد.
أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة (463هـ) .
نشر دار الكتاب العربي بيروت.
12. التحديد في الإتقان والتجويد.
أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المتوفى سنة (444هـ)
دراسة وتحقيق الدكتور / غانم قدوري ط1، (1407هـ) .
ونسخة أخرى خطية بمكتبة الجامعة الإسلامية رقمها 7431/1.
13. تذكرة الحفاظ.
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان، الحافظ الذهبي المتوفى سنة (748هـ)
تحقيق أبو هاجر محمد، دار الكتب العلمية بيروت ط1 – 1405هـ
14. التمهيد في علم التجويد.
أبو الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري المتوفى سنة (833هـ)
تحقيق غانم قدوري، مؤسسة الرسالة ط4 – 1418هـ
15. تهذيب التهذيب.(43/433)
الحافظ بن حجر العسقلاني، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الدكن، الهند.
16. التيسير في القراءات السبع.
أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، عني بتصحيحه – اوتوبرتزل-.
نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1404هـ.
17. الثقات.
أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي المتوفى سنة (354هـ)
ط مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الدكن، الهند – سنة 1393هـ
18. جامع الأصول في أحاديث الرسول (.
أبو السعادات، المبارك بن محمد بن الأثير الجزري المتوفى سنة (606هـ)
تحقيق عبد القادر الأرنؤوط سنة 1389هـ.
19. جامع البيان عن تأويل القرآن.
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310هـ)
مطبعة الحلبي ط3، 1388هـ.
20. الجامع لأحكام القرآن.
أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة (671هـ)
طبع دار إحياء التراث بيروت.
21. جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس.
أبو عبد الله محمد بن أبي نصر بن حميد المتوفى سنة (488هـ)
تحقيق إبراهيم الأبياري، نشر دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني ط2 – 1410هـ.
22. جمال القراء وكمال الإقراء.
علي بن محمد السخاوي المتوفى سنة (643هـ)
تحقيق الدكتور / علي حسين البواب، مطبعة المدني القاهرة، ط 1، 1408هـ
23. حرز الأماني ووجه التهاني.
القاسم بن فيرة الشاطبي المتوفى سنة (590هـ)
تصحيح محمد تميم الزعبي، دار المطبوعات الحديثة، ط1 – 1409هـ
24. الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة (911هـ)
نشر دار الفكر بيروت، ط1 – 1403هـ.
25. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة.
الحافظ بن حجر العسقلاني، تحقيق محمد سيد جاد الحق، مطبعة المدني ط2 – 1385هـ.
26. الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة.
لأبي محمد، مكي بن أبي طالب القيسي، المتوفى سنة (437هـ)
تحقيق الدكتور/ أحمد حسن فرحات، دار عمار، الأردن، ط2، 1404هـ.(43/434)
27. زاد المعاد في هدي خير العباد.
محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، المتوفى سنة (751هـ)
تحقيق شعيب الأرنؤوط، عبد القادر الأرنؤوط.
مؤسسة الرسالة، ط2 – 1405هـ.
28. السبعة في القراءات.
أحمد بن موسى بن مجاهد، المتوفى سنة (324هـ)
تحقيق الدكتور / شوقي ضيف، دار المعارف مصر، ط2.
29. سنن أبي داود.
لأبي سليمان بن الأشعث، المتوفى سنة (275هـ)
مراجعة محمد محيي الدين، دار الكتب العلمية بيروت
30. سنن الترمذي.
محمد بن عيسى الترمذي، المتوفى سنة (279هـ)
مطبعة الحلبي، مصر
31. سنن الدارمي.
محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، المتوفى سنة (255هـ)
تحقيق عبد الله هاشم يماني. الناشر: حديث آكادمى باكستان – 1404هـ.
32. سنن القراء ومناهج المجودين.
الدكتور / عبد العزيز عبد الفتاح القاري، نشر مكتبة الدار ط1، 1414هـ.
33. سير أعلام النبلاء.
الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.
تحقيق الدكتور / بشار عواد، ود / محيي هلال مؤسسة الرسالة، ط1 – 1405هـ.
34. شعب الإيمان.
للبيهقي أحمد بن الحسين، المتوفى سنة (458هـ)
طبع الدار السلفية، بمباي، الهند.
35. شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف.
الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكرى المتوفى سنة (382هـ)
تحقيق عبد العزيز أحمد، مطبعة الحلبي ط1 – 1383هـ.
36. صحيح مسلم بشرح النووي.
مسلم بن الحجاج القشيري المتوفى سنة (261هـ)
المطبعة المصرية.
37. الصلة.
خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال، المتوفى سنة (578هـ)
تحقيق إبراهيم الأبياري، نشر دار الكتاب المصري، ودار الكتاب اللبناني ط2 –1410هـ.
38. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع.
محمد بن عبد الرحمن السخاوي، المتوفى سنة (902هـ)
نشر دار مكتبة الحياة بيروت.
39. الطبقات الكبرى.
محمد بن سعد بن منيع البصري، المتوفى سنة (230هـ)
دار صادر بيروت.
40. الطبقات.
لأبي عمرو خليفة بن خياط العصفري، المتوفى سنة (240هـ)(43/435)
تحقيق د/ أكرم ضياء العمري، دار طيبة للتوزيع والنشر، ط2 – 1402هـ.
41. العبر في خبر من غبر.
محمد بن أحمد بن عثمان الحافظ الذهبي، تحقيق أبو هاجر محمد، دار الكتب العلمية بيروت، ط1 – 1405هـ.
42. غاية النهاية في طبقات القراء.
أبو الخير محمد بن الجرزي، عني بنشره. ج براجستراسر، دار الكتب العلمية بيروت، ط2 – 1400هـ.
43. فتح الباري شرح صحيح البخاري.
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، نشر المكتبة السلفية.
44. فتح المجيد في علم التجويد.
محمد بن علي بن خلف الحسيني الشهير بالحداد، مطبعة البابي الحلبي، ط2.
45. فضائل القرآن.
لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، المتوفى سنة (224هـ)
تحقيق مروان عطية، محسن خرابة، وفاء تقي الدين طبع دار ابن كثير، دمشق، ط1 – 1415هـ.
46. فضائل القرآن.
لأبي عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس، المتوفى سنة (294هـ)
تحقيق غزوة بدير، دار الفكر بيروت، ط1 – 1408هـ.
47. قصيدة الخاقاني.
موسى بن عبيد الله بن يحي الخاقاني، المتوفى سنة (325هـ)
ضمن: قصيدتان في تجويد القرآن، تحقيق د. عبد العزيز القاري، ط1 – 1402هـ.
48. القول السديد في بيان حكم التجويد.
محمد بن علي بن خلف الحسيني الشهير بالحداد، مطبعة الحلبي.
49. الكامل في التاريخ.
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الأثير الجزري، المتوفى سنة (630هـ)
دار الكتب العلمية بيروت، ط1 – 1407هـ.
50. الكامل في القراءات الخمسين.
يوسف بن علي بن جبارة الهذلي، المتوفى سنة (465هـ)
مخطوط عن مكتبة الأزهرية.
51. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل.
جار الله محمود بن عمر الزمخشري، المتوفى سنة (538هـ)
مطبعة دار المعرفة بيروت.
52. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون.
مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة، المتوفى سنة (1067هـ)
دار الكتب العلمية بيروت.
53. لباب التأويل في معاني التنزيل.
على بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن(43/436)
المتوفى سنة (641هـ) توزيع المكتبة الشعبية بيروت.
54. لسان العرب.
لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، المتوفى سنة (711هـ)
نشر دار صادر بيروت.
55. لطائف الإشارات لفنون القراءات.
أحمد بن محمد القسطلاني، المتوفى سنة (923هـ)
تحقيق الشيخ / عامر السيد عثمان، عبد الصبور شاهين
نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة، ط1 – 1392هـ.
56. مجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية.
مطبعة الجامعة الإسلامية، سنة 1403هـ.
57. المجموع شرح المهذب.
يحيى بن شرف النووي
تحقيق محمد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد، جدة
58. المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها.
أبو الفتح عثمان بن جني، المتوفى سنة (392هـ)
... ... تحقيق: علي النجدي، والدكتور عبد الحليم النجار، والدكتور عبد الفتاح شلبي - مطبعة إحياء التراث - القاهرة - ط 1، 1389هـ
59. المستدرك على الصحيحين.
لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، المتوفى سنة (405هـ)
مطبعة دار الكتاب العربي بيروت.
60. المسند.
للإمام أحمد بن حنبل، المتوفى سنة (241هـ)
شرح أحمد شاكر، دار المعارف بمصر، ط4 – 1373هـ.
61. مشاهير علماء الأمصار.
... محمد بن حبان البستي، تصحيح. م. فلايشهمر.
... دار الكتب العلمية بيروت.
62. المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر.
... لأبي الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري، المتوفى سنة (550هـ)
... رسالة دكتوراه/ إبراهيم الدوسري.
63. المصنف في الأحاديث والآثار.
عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، المتوفى سنة (235هـ)
تحقيق مختار أحمد الندوي، الدار السلفية، الهند – 1402هـ.
64. معاني القرآن وإعرابه.
... لأبي إسحاق إبراهيم بن السرى الزجاج، المتوفى سنة (311هـ)
... شرح وتحقيق د./ عبد الجليل شلبي، عالم الكتب بيروت، ط1 – 1408هـ
65. معاني القرآن.
لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء، المتوفى سنة (207هـ)
عالم الكتب بيروت، ط3 – 1403هـ.(43/437)
66. معجم المؤلفين.
عمر رضا كحالة المتوفى سنة (1408هـ) ، نشر مكتبة المثنى، ودار إحياء التراث، بيروت.
67. معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار.
للحافظ أبي عبد الله الذهبي، تحقيق محمد سيد جاد الحق
مطبعة دار التأليف القاهرة ط1.
68. المغني.
موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي
المتوفى سنة (620هـ)
تحقيق الدكتور / عبد الله بن عبد المحسن التركي، والدكتور / عبد الفتاح محمد الحلو، ط1 – 1406هـ.
69. المفردات في غريب القرآن.
لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المتوفى سنة (502هـ)
تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة بيروت.
70. المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم والتجويد.
الحسن بن قاسم المعروف بابن أم قاسم المرادي، المتوفى سنة (749هـ)
تحقيق الدكتور / علي حسين البواب، نشر مكتبة المنار، الأردن، سنة 1407هـ
71. المقدمة الجزرية.
محمد بن محمد الجزري، ضمن مجموع أمهات متون، نشر دار المطبوعات الحديثة جدة.
72. منجد المقرئين ومرشد الطالبين.
للحافظ بن الجرزي، دار الكتب العلمية بيروت.
73. المنح الفكرية شرح المقدمة الجرزية.
ملا علي بن سلطان محمد القاري، المتوفى سنة (1014هـ)
مطبعة الحلبي سنة 1367هـ.
74. الموضح في وجوه القراءات وعللها.
نصر بن على بن محمد الشيرازي الفارسي، المتوفى بعد سنة (565هـ)
تحقيق الدكتور / عمر حمدان الكبيسي، ط1 – 1414هـ.
75. موطأ الإمام مالك.
رواية يحيى بن يحيى الليثي، المتوفى سنة (234هـ)
إعداد أحمد راتب عرموش، مطبعة دار النفائس بيروت. ط7 – 1404هـ.
76. النشر في القراءات العشر.
للحافظ أبي الخير محمد بن الجرزي. تصحيح الشيخ علي محمد الضباع
مطبعة مصطفى محمد البابي، القاهرة.
77. نهاية القول المفيد في علم التجويد.
الشيخ محمد مكي نصر، تصحيح الضباع، مطبعة الحلبي سنة 1349هـ.
78. هداية القاري إلى تجويد كلام الباري.(43/438)
عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي، المتوفى سنة (1409هـ) ط1-1402هـ
79. وفيات الأعيان وأبناء أبناء الزمان.
لأبي العباس أحمد بن محمد بن خلكان، المتوفى سنة (681هـ)
تحقيق إحسان عباس، دار صادر بيروت.(43/439)
زيادات القَطِيعي
على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله
دراسةً وتخريجاً
تأليف
الدكتور / دخيل بن صالح اللحيدان
الأستاذ المساعد في قسم السنة وعلومها
كلية أصول الدين بالرياض
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
1420هـ
إنَّ الحمدَ للهِ نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
إن الله تعالى حفظ لهذه الأمة القرآن الكريم الذي تناقلته الأجيال بالتواتر، وحفظ لها سنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسر لها صحابته الكرام رضوان الله عليهم، فحفظوها وفهموها وعملوا بها، وسار على نهجهم من أتى بعدهم، وذبّوا عنها تحريف المتأولين، وشبهات المبطلين، وغلط الواهمين.
وقيض الله تعالى للسنة من الأئمة النقاد الذين بينوا أحوال الرواة، وميزوا الصحيح من الضعيف حتى يكون المستدل بها على بصيرة في استخراج الأحكام الشرعية منها، ومعرفة الحلال من الحرام، والخاص من العام، والناسخ من المنسوخ ونحو ذلك.
وقد عُني العلماء بتدوين الحديث في المسانيد والسنن والجوامع والمصنفات، والمعاجم والمشيخات والأجزاء الحديثية وغيرها من مصادر السنة التي نقلت بالأسانيد المتصلة، وضُبطت ألفاظها بالعرض والمقابلة وإثبات السماع تأكيداً على حفظها من الزيادة والنقصان، مع تواتر العزو إليها في كتب أهل العلم بما لا يجعل للشك فيها مجالاً.
ومن أبرز ما عُني به أهل الحديث، زيادات الرواة عن شيوخهم، حيث قد يضيف تلميذ المؤلف أو من دونه بعض مروياته عن شيوخه بحيث تتميز بهم عن مرويات المؤلف.(43/440)
وكانت هذه الزيادات واضحة عند متقدمي أهل الحديث لمعرفتهم بالشيوخ والطبقات، ولمّا ضَعُفت الهمم فيمن أتى بعدهم أحتيج إلى معرفتها ودراستها والتنبيه إليها، وإفرادها بالتأليف، وقد جاء هذا البحث في دراسة زيادات واحد من هؤلاء الرواة، وهو: الإمام القَطِيعي، ليسهم في تعريف زيادات الرواة، واستنباط أنواعها، ومعرفة درجتها، وضوابطها، وكان ذلك من أسباب اختيار هذا الموضوع، إضافة إلى تأكيد ما يلي:
1- منزلة فن زيادات رواة الكتب، وهو مما يستدرك على من ألف في مصطلح الحديث.
2- الحاجة إلى معرفة أصحاب الزيادات ومروياتهم، ولا سيما أنهم – وإن كانوا ثقاتاً في أنفسهم- إلا أنهم ليسوا من النقاد الجهابذة الذين ينتقون مروياتهم، بل شأن أكثرهم العناية بأداء ما سمعوا -سواء أكان صحيحاً أم ضعيفاً- بل قد تكون أكثر زيادات بعضهم موضوعة كالقطِيعي، حيث إنهم يرون براءة الذمة بالإسناد، والعهدة على من رووا عنه من شيوخهم.
3- أثر هذا الفن في تمييز زيادات رواة الكتب من مرويات مؤلفيها، ولا سيما من كان معروفاً بالانتقاء حيث يؤدي خفاؤها إلى الوهم في نسبة الزيادات - مع ضعفها- إليهم، وقد وهم العلامة الهيثمي – مع جلالة قدره – فعزى حديثاً إلى مسند الإمام أحمد، وهو من زيادات القَطِيعي عليه، ومن هو دون الهيثمي من باب أولى، ويؤدي هذا إلى عدم الدقة في بيان مكانة المصادر، كما قد ينسب أهل الأهواء الحديث الموضوع من هذه الزيادات إلى الأئمة أنفسهم فتحصل الشبهة لمن لا علم له بها، وقد دحض شيخ الإسلام ابن تيمية شبهاتهم في عدة مواضع من كتبه، ومنه قوله: "ليس هذا الحديث في مسند أحمد، ولا رواه أحمد لا في المسند ولا في الفضائل ... وإنما هو من زيادات القَطِيعي التي فيها من الكذب الموضوع ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع " (1) .
__________
(1) منهاج السنة 4/75(43/441)
4- تباين أراء أهل العلم في زيادات القَطِيعي على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، فمنهم النافي ومنهم المثبت ومنهم من يرى قلتها، ومنهم من يرى كثرتها، مما يدعو إلى تحرير القول فيها، وبيان الصواب بالاستقراء والدراسة التفصيلية المبينة لعددها، ومواضعها، وما يدل على أنها من زيادات القَطِيعي، مع الحكم عليها.
ومن الجدير بالذكر أن هذا البحث يعتبر – فيما يُعلم- أول دراسة مفردة بزيادات القَطِيعي على المسند، وهو يتكون بعد المقدمة السابقة من:
من فصلين، وخاتمة، وفهارس، وبيانها على النحو التالي:
الفصل الأول: الدراسة، وفيه:
... المبحث الأول: التعريف بعبد الله بن أحمد.
... المبحث الثاني: التعريف بالقَطِيعي.
... المبحث الثالث: التعريف بمسند الإمام أحمد.
... المبحث الرابع: التعريف بزيادات الرواة.
... المبحث الخامس: التعريف بزيادات القَطيعي.
الفصل الثاني: تخريج زيادات القَطِيعي.
الخاتمة: وتشتمل على أهم نتائج البحث.
الفهارس، وفيها:
1- فهرس المصادر والمراجع.
2- فهرس الموضوعات.
هذا وسميت هذا البحث: "زيادات القَطِيعي على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، دراسة وتخريجاً "، وأسأل الله تعالى أن ينفع به ويغفر لي ولوالدي ولذوي أرحامي ولجميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
كتبه
دخيل بن صالح اللحيدان
أستاذ مساعد في قسم السنة وعلومها
الرياض: 7/3/1420هـ
الفصل الأول: الدراسة.
وهو في خمس مباحث:
المبحث الأول: التعريف بعبد الله بن أحمد.
المبحث الثاني: التعريف بالقَطِيعي.
المبحث الثالث: التعريف بمسند الإمام أحمد.
المبحث الرابع: التعريف بزيادات الرواة.
المبحث الخامس: التعريف بزيادات القَطيعي.
المبحث الأول: التعريف بعبد الله بن الإمام أحمد:
أولاً: اسمه ونسبه ونسبته وتأريخ ولادته:
فهو: عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني البغدادي أبو عبد الرحمن.
ولد سنة: 213هـ.(43/442)
ثانياً: شيوخه: تلقى عبد الله بن الإمام أحمد عن شيوخ كثيرين، وفي مقدمتهم: والده – ت 241هـ – ويحيى بن عَبْدَوَيْه – وهو أكبر شيخ له – ت 231هـ –، وأحمد بن جَنَاب المِصِّيصي – ت 230هـ-، وأحمد بن محمد بن أيوب – ت 228هـ-، وإبراهيم بن الحجاج السامي – ت231هـ، ويحيى بن معين إمام الجرح والتعديل – ت 233هـ -، وخليفة بن خياط صاحب التأريخ والطبقات – ت 240هـ – وغيرهم، قال الحافظ أبو بكر: محمد بن عبد الغني ابن نقطة – ت 629هـ - عنه: "حدث عن جماعة يزيدون على الأربعمائة جمعنا أسماءهم في كتاب مفرد " (1) .
ثالثاً: تلاميذه، ومنهم: أحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن – ت 303هـ –، وموسى ابن هارون الحمال – ت 294هـ -، وعبد الرحمن بن أبي حاتم – ت 327هـ -، وأحمد بن جعفر القطِيعي – ت368هـ-، وغيرهم.
رابعاً: مكانته العلمية: عبد الله بن الإمام أحمد: حافظ ثقة، ومحدث كبير، قال عنه الإمام أحمد: "إن ابني قد وعى علماً كثيراً "، وقال عنه أيضاً: "إن ابني محظوظ من علم الحديث لا يكاد يذاكرني إلا بما لا أحفظ"، وقال أبو بكر: أحمد بن علي الخطيب البغدادي – ت463هـ-عنه: "كان ثقة ثبتاً فهماً " (2) وقال تلميذه أبو الحسين: أحمد بن محمد البغدادي الشهير بابن المُنادى – ت 336هـ - عنه: "ما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك ".
__________
(1) التقييد لمعرفة الرواة 2/45
(2) تاريخ بغداد 9/376(43/443)
خامساً: مسموعاته من والده: سمع عبد الله بن الإمام أحمد من والده غالب مروياته، وفي ذلك يقول تلميذه ابن المُنادى: "لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه منه؛ لأنه سمع المسند وهو ثلاثون ألفاً، والتفسير وهو مائة ألف وعشرون ألفاً، سمع منها ثمانين ألفاً، والباقي وجادة، وسمع الناسخ والمنسوخ، والتأريخ، وحديث شعبة، والمقدم والمؤخر في كتاب الله تعالى، وجوابات القرآن، والمناسك الكبير والصغير، وغير ذلك من التصانيف " (1) .
وقال عبد الله: "كل شيء أقول: قال أبي، قد سمعته مرتين أو ثلاثة، وأقله مرة " (2) .
وقال الطبراني: "حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قال: قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة، وقبور أهل البدعة من الزهاد حفرة، فساق أهل السنة: أولياء الله، وزهاد أهل البدعة أعداء الله " (3) .
سادساً: وفاته: كانت وفاة عبد الله بن الإمام أحمد في شهر جمادى الآخرة، سنة 290هـ، وله سبع وسبعون سنة كعمر أبيه، ودفن في مقابر باب التِّبْن في بغداد، رحمة الله عليه.
المبحث الثاني: التعريف بالقَطِيعي:
أولاً: اسمه ونسبه ونسبته وكنيته:
هو: أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شعيب البغدادي القَطِيعي أبو بكر، واشتهر "بالقَطِيعي"و "بأبي بكر ابن مالك"، وربما نسبه بعضهم إلى جده فقال: أحمد بن شبيب، وحمدان لقب جده، واسمه: أحمد، قاله ابن الجوزي – ت 597هـ-.
والقَطيعي: بفتح القاف، وكسر الطاء وسكون الياء المنقوطة من تحتها باثنتين وفي آخرها العين المهملة، قاله الأمير ابن ماكولا – ت475هـ – والسمعاني – ت562هـ-، وهي نسبة إلى: قطيعة الدقيق مَحَلّة في أعلى غربي بغداد، سكنها فنسب إليها.
ثانياً: ولادته ونشأته:
__________
(1) العلل 4699
(3) طبقات الحنابلة 1/188، وطبقات علماء الحديث، لابن عبد الهادي الصالحي 2/379(43/444)
ولد القَطِيعي سنة 274هـ، قال أبو طالب: محمد بن الحسين بن أحمد بن بُكير – ت 436هـ -: " سمعت أبا بكر بن مالك يذكر أن مولده في يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وسبعين ومائتين، وقال: كانت والدتي بنت أخي ابن عبد الله الجصاص، وكان عبد الله بن أحمد بن حنبل يجيئنا فنقرأ عليه ما نريده، وكان يُقعدني في حجره حتى يقال له: يؤلمك فيقول: إني أحبه " (1) .
وهو صاحب رحلة، قال عنه الذهبي – ت748هـ: "رحل وكَتَب وخرَّج " (2) ، وقال عنه ابن الجزري – ت833هـ-: "ارتحل إلى البصرة والموصل وواسط وكتب وجمع، مع الصدق والدّين والخير والسنة " (3) .
ثالثاً: شيوخه:
__________
(1) تاريخ بغداد 4/73
(2) سير أعلام النبلاء 16/210
(3) المصعد الأحمد 42(43/445)
أخذ القَطِيعِي العلم عن عدد من المحدثين والحفاظ، مثل الحافظ أبي إسحاق: إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحربي البغدادي – ت 285هـ- صاحب الإمام أحمد وكتاب غريب الحديث، والحافظ المسند أبي مسلم: إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز البصري الكَجِّ – ت 292هـ- صاحب كتاب السنن، والإمام الحافظ أبي العباس: أحمد بن علي بن مسلم البغدادي الأبَّار – ت 290هـ- صاحب التأريخ، والمقرئ الثقة أبي الحسن: إدريس بن عبد الكريم البغدادي الحداد – ت 292هـ-، والحافظ أبي يعقوب: إسحاق بن الحسن بن ميمون البغدادي الحربي من رواة الموطأ عن القَعْنَبي – ت 284هـ، والحافظ أبي علي: بشر بن موسى بن صالح الأسدي البغدادي – ت 288هـ – (1) ، والإمام الحافظ أبي بكر: جعفر بن محمد بن الحسن الفِرْيابي صاحب كتاب أحكام العيدين، ودلائل النبوة وغيرهما – ت 301هـ-، والحافظ أبي عبد الرحمن: عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني المروزي ثم البغدادي – ت 290هـ-، والمسند أبي شعيب: عبد الله بن الحسن بن أحمد الحراني – ت 295هـ-، والمسند الثقة أبي خليفة: الفضل بن الحباب بن محمد الجُمَحي – ت306هـ-، وأبي العباس: محمد بن يونس بن موسى الكُدَيمي القرشي البصري – ت 286هـ-، والإمام الحافظ الفقيه القاضي المقرئ أبي بكر: موسى بن إسحاق بن موسى الخطمي الأنصاري - ت297هـ – (2) .
رابعاً: تلاميذه:
__________
(1) ستأتي ترجمته في ص: 40
(2) الجرح والتعديل 8/135، طبقات الشافعية، للسبكي 2/345، وطبقات القراء، لابن الجزري 2/317(43/446)
لقد كانت للقَطِيعي منزلة جليلة في عصره، ومما يدل على ذلك: عناية أئمة الحديث في وقته بالأخذ عنه، والسماع منه مثل: الحافظ أبي نُعيم: أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني صاحب الحلية – ت 430هـ-، والمسند المعمر أبي الحسن: بُشْرى بن مَسِيس الفاتِني الرومي -ت 431هـ-، والإمام العلامة الفقيه أبي علي: الحسن بن شهاب بن الحسن العُكْبري – ت 428هـ-، والمحدث المسند أبي علي: الحسن بن علي بن محمد التميمي البغدادي المعروف بابن المُذْهب – ت 444هـ-، والإمام المحدث الثقة أبي محمد: الحسن بن علي بن محمد بن الحسن الشيرازي ثم البغدادي الجوهري المُقَنَّعي – ت 454هـ- سمع من القَطِيعي سنة ثلاث وستين وثلاث مئة قاله الذهبي، والحافظ أبي محمد: الحسن بن أبي طالب: محمد بن الحسن بن علي البغدادي الخلال – ت 439هـ-، والحافظ الناقد أبي علي: خلف بن محمد بن علي الواسطي صاحب كتاب: "أطراف الصحيحين" – المتوفى بُعيد الأربع مئة بيسير-، والحافظ الواعظ أبي القاسم: عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران الأموي البغدادي صاحب الأمالي – ت 430هـ-، والمسند المقرئ أبي القاسم: عُبيد الله بن أحمد بن عثمان الأزهري البغدادي الصيرفي المعروف بابن السَّوَادي - ت 430هـ-، والواعظ المحدث أبي الفتح: عُبيد الله بن أبي حفص: عمر بن عثمان ابن شاهين البغدادي – ت 440هـ-، والحافظ الناقد الجهبذ أبي الحسن: علي بن عمر بن أحمد الدارقطني البغدادي صاحب كتاب: "السنن والعلل" – ت385هـ-، والفقيه الثقة أبي طالب: عمر بن إبراهيم بن سعيد الزهري الوقاصي – ت 434هـ-، والإمام الحافظ أبي الحسن: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رَزْق البغدادي البزاز المعروف بابن رَزْقويه – ت412هـ-، والإمام الحافظ المحقق أبي الفتح: محمد بن أحمد بن محمد بن فارس ابن أبي الفوارس البغدادي – ت 412هـ -، والمسند الصدوق أبي طالب: محمد بن الحسين بن أحمد بن بُكير – ت436هـ-،(43/447)
والفقيه المحدث القاضي أبي عمر: محمد بن الحسين بن محمد البَسْطامي – ت 408هـ-، والحافظ أبي عبد الله: محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم النيسابوري – ت405هـ- صاحب كتاب المستدرك على الصحيحين، والمحدث الواعظ أبي طاهر: محمد بن علي بن محمد البغدادي المشهور بابن العَلاَّف – ت 442هـ- (1) ، والمحدث أبي بكر: محمد بن المؤمل بن الصقر الوراق المعروف بغلام الأبهري – ت 434هـ-.
وآخر من حدث عنه: أبو محمد: الحسن بن علي بن محمد الشيرازي الجوهري المُقَنَّعي، قال الذهبي عنه: "خاتمة أصحابه " (2) ، وقال أيضاً: "كان آخر من روى في الدنيا عنه بالسماع والإذن " (3) ، وذكر أن سماعه منه كان سنة 368هـ (4) .
خامساً: مكانته العلمية:
كان القَطِيعي محدثاً مكثراً من أسند أهل زمانه، قال عنه تلميذه الدارقطني: "ثقة زاهد قديم سمعت أنه مجاب الدعوة " (5) ، وقال تلميذه أبو عبد الله الحاكم: "ثقة مأمون " (6) ، وقال تلميذه ابن المُذْهِب: "المحدث العالم المفيد الثقة " (7) ، وقال عنه تلميذه أبو بكر: أحمد بن محمد بن غالب البَرْقاني -ت425هـ- "ثقة " (8) ، وقال عنه الخطيب البغدادي،والأمير ابن ماكولا، والسمعاني، وابن كثير، وابن الجزري: "كثير الحديث "، وزاد الأخيران: "ثقة ".
__________
(1) تاريخ بغداد 3/103
(2) سير أعلام النبلاء 16/211.
(3) سير أعلام النبلاء 18/68
(4) المصدر نفسه.
(5) سؤالات السلمي له 14
(6) كما في تاريخ بغداد 4/74
(7) كما في المصعد الأحمد، لابن الجزري 29
(8) تاريخ بغداد 4/73(43/448)
وقد تُكلم فيه بسبب نسخه بعض كتبه من غيرها بعد غرق كتبه قال تلميذه محمد بن أحمد بن أبي الفوارس: "له في بعض المسند أصول فيها نظر، ذُكر أنه كتبها بعد الغرق " (1) ، وقال تلميذه أبو بكر البَرْقاني: "كان شيخاً صالحاً غرقت قطعة من كتبه فنسخها من كتاب ذكروا أنه لم يكن سماعه فيه، فغمزوه لأجل ذلك، وإلا فهو ثقة " (2) ، وقال أيضاً: "كنت شديد التنقير عن حال ابن مالك حتى ثبت عندي أنه صدوق لا يُشَك في سماعه، وإنما كان فيه بله فلما غرقت القَطِيعة بالماء الأسود غرق كل شيء من كتبه، فنسخ بدل ما غرق من كتاب لم يكن فيه سماعه، ولما اجتمعت مع الحاكم بن عبد الله بن البيع بنيسابور، ذكرت ابن مالك ولينته فأنكر علي، وقال: ذاك شيخي وحسن حاله أو كما قال " (3) .
وهذا الجرح محل تأمل؛ لأن الثقة لا يُقدم على ذلك إلا إذا كانت هذه الكتب معارضة على كتبه، قال ابن الجوزي: "مثل هذا لا يطعن به عليه؛ لأنه يجوز أن تكون تلك الكتب قد قُرئت عليه، وعورض بها أصله " (4) ، وقال ابن كثير: "هذا ليس بشيء؛ لأنها قد تكون معارضة على كتبه التي غرقت " (5) ، ويؤكد ذلك ما تقدم من توثيق الأئمة له، ثم إنهم على شدة تحريهم لم يمتنعوا من الرواية عنه بسبب ذلك، ولا سيما أن فيهم الحافظ الناقد الدارقطني، ولهذا يقول الخطيب البغدادي: "لم نر أحداً امتنع من الرواية عنه، ولا ترك الاحتجاج به " (6) ، ويقول ابن الجوزي: "قد روى عنه الأئمة: الدارقطني وابن شاهين والبَرْقاني، وأبو نُعيم والحاكم، ولم يُمْتَنع من الرواية عنه، ولا تُرِك الاحتجاج به " (7) ، ويقول ابن كثير: "لم يمتنع أحد من الرواية عنه ولا التفتوا إلى ما طعن عليه بعضهم وتكلم فيه " (8) .
__________
(1) تاريخ بغداد 4/74
(2) المصدر السابق.
(3) تاريخ بغداد 4/74
(4) المنتظم 14/260
(5) البداية والنهاية 11/293
(6) تاريخ بغداد 4/73
(7) المنتظم 14/261
(8) البداية والنهاية 11/293(43/449)
وتُكلم فيه أيضاً بسبب اختلاطه، قال أحمد بن أحمد القَصْري: "قال لي ابن اللبان الفَرَضي: لا تذهبوا إلى القَطِيعي، قد ضعف واختل، وقد منعت ابني من السماع منه " (1) ، ويروي عن أبي الحسن: محمد بن العباس بن أحمد بن الفرات البغدادي -ت 384هـ – أنه قال: "خلط في آخر عمره، وكف بعده وخرف، حتى كان لا يعرف شيئاً مما يُقرأ عليه"، وقال أبو عمرو ابن الصلاح: "اختل في آخر عمره وخَرِف حتى لا يعرف شيئاً مما يُقرأ عليه " (2) ، ويرى الإمام الذهبي أن تغير هـ كان قليلاً، وتعقب ابن الصلاح على كلامه السابق فقال: "هذا القول غلو وإسراف، وقد كان أبو بكر أسند أهل زمانه " (3) ، وكلام الذهبي محل تأمل؛ لأن ابن الصلاح مؤيد بمن سبق، وبذلك أجاب ابن حجر، وذكر أن سماع ابن المُذْهِب منه كان قبل اختلاطه.
والذي يترجح أنه: ثقة مسند مكثر زاهد تغير بأخرة.
هذا ما يتعلق بحاله، أما عن مروياته فالذي يظهر أنه لم يكن من الأئمة النقاد الذين يعنون بالانتقاء، ويعرفون أحوال الرواة (4) ، ولعله ممن يرى براءة الذمة بمجرد الإسناد، وقد اشتهر ذلك أيضاً عن فريق من متقدمي أهل الحديث؛ لأنهم يرون أن من أسند أحال إلى مَلِئِ، قال الحافظ ابن حجر: "أكثر المحدثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلمَّ جرَّا إذا ساقوا الحديث بإسناده، اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته " (5) ، ويقول الذهبي عنه: "لم يكن القَطِيعي من فرسان الحديث، ولا مجوداً بل أدى ما تحمله إن سَلِم من أوهام في بعض الأسانيد والمتون " (6) .
سادساً: آثاره ومؤلفاته:
__________
(1) كما في تاريخ بغداد 4/74، وسير أعلام النبلاء 16/212
(2) علوم الحديث 397
(3) كما في الميزان للذهبي 1/87
(4) سيأتي (في ص: 20، 23) أن للقَطِيعي زيادته كثيرة على فضائل الصحابة للإمام أحمد، أكثرها موضوعة، وزياداته على مسند الإمام أحمد – على قلتها- واهية الأسانيد.
(5) لسان الميزان 3/90.
(6) سير أعلام النبلاء 13/524(43/450)
يُعتبر القَطِيعي من مكثري الرواية ولا سيما عن عبد الله بن الإمام أحمد – كما تقدم-، وقد سمع من عبد الله بن الإمام أحمد: المسند، وذكر ابن نقطة أنه فاته على عبد الله بن أحمد خمسة أوراق من مسند عبد الله بن مسعود، فرواها عنه بالإجازة، وهي من أوله.
وسمع منه أيضاً: الزهد، والفضائل، والتأريخ، والمسائل وغير ذلك، قاله الخطيب البغدادي.
ومن مروياته أيضاً كتاب: "النهي عن اللقب " لشيخه أبي إسحاق: إبراهيم الحربي،وحديث أبي عاصم: الضحاك بن مَخْلد النبيل لأبي مسلم: إبراهيم بن عبد الله الكَجِّي.
وأما مؤلفاته فمنها:
أ - الفوائد المنتقاة والأفراد والغرائب الحسان، وتسمى أيضاً القطيعات الخمسة (1) ، وخامسها هو جزء الألف دينار (2) .
ب - أمالي ذكرها الحافظ ابن حجر (3) ، والكتاني.
سابعاً: وفاته:
توفي القَطِيعي في ذي الحجة سنة 368هـ ببغداد، ودفن في مقابر باب حرب قريباً من قبر الإمام أحمد (4) ، رحمة الله عليهما.
المبحث الثالث: التعريف بمسند الإمام أحمد:
المسند، هو: الكتاب الذي روى مؤلفه فيه أحاديث كل صحابي على حدة، قال الخطيب البغدادي: "منهم من يختار تخريجها على المسند، وضم أحاديث كل واحد من الصحابة بعضها إلى بعض " (5) .
وقد بدأت عناية أهل العلم بتأليف المسانيد في أوائل عصر تدوين السنة في أواخر القرن الثاني الهجري، وكانت بداية تأليف الإمام أحمد لمسنده بعد عودته من رحلته إلى الإمام عبد الرزاق الصنعاني في اليمن -ت211هـ- قاله ابنه عبد الله.
__________
(1) كما في المعجم المفهرس، للحافظ ابن حجر 1/452، 2/46، 231، والمجمع المؤسس له أيضاً 1/452، والرسالة المستطرفة 93.
(2) المعجم المفهرس 230/990، وهو مطبوع بتحقيق: بدر البدر.
(3) المصدر السابق 340/1454
(4) انظر: تاريخ بغداد 4/74، والمنتظم، لابن الجوزي 14/261، وشذرات الذهب 3/65
(5) الجامع لأخلاق الراوي 2/284(43/451)
ويشتمل المسند على ثمانية عشر مسنداً قاله أبو المحاسن: محمد بن علي الحسيني – ت 765هـ-، وابن حجر (1) ، وقد ذكر محمد بن جابر الوادي آشي – ت 749هـ- أنها ستة عشر، وهو محمول على أنه أضاف بعضها إلى بعض قاله ابن حجر (2) .
وهذا العدد إنما هو للمسانيد الرئيسة بحيث يندرج تحت بعضها عدد من المسانيد التفصيلية كمسند: "بني هاشم " و"الأنصار"، وأما عدد مسانيده تفصيلاً فهو: (1056) مسنداً، بحسب ما أورده الحافظ أبو القاسم: علي بن الحسين بن هبة الله بن عساكر - ت 579هـ-، في كتابه "ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد حنبل في المسند " (3) .
وعدد أحاديثه ثلاثون ألفاً قاله ابن المُنادى، وهذا باطراح المكرر وزيادات ابنه عبد الله؛ لأنه معها يصل إلى أربعين ألفاً، قال ابن عساكر: "يبلغ عدد أحاديثه ثلاثين ألفاً سوى المعاد وغير ما ألحق به ابنه عبد الله من عالي الإسناد " (4) ، وقال الحسيني: "وجملة أحاديثه أربعون ألفاً بالمكرر مما رواه عنه ابنه الحافظ أبو عبد الرحمن: عبد الله، وفيه من زياداته " (5) .
__________
(1) المجمع المؤسس 2/32
(2) المجمع المؤسس 2/32
(3) 171
(4) ترتيب أسماء الصحابة 30
(5) التذكرة 1/3(43/452)
وقد توفي الإمام أحمد قبل إتمام تنقيحه، وهذا ما يفسر وجود التكرار والتداخل في مسانيده الرئيسة، فقد قال ابن عساكر: "خُلط فيه بين أحاديث الشاميين والمدنيين ... بل قد امتزج في بعضه أحاديث الرجال بأحاديث النسوان ... وكثر فيه تكرار الحديث المعاد المروي بعينه بالمتن والإسناد … ولست أظن ذلك إن شاء الله وقع من جهة أبي عبد الله رحمه الله، فإن محله في هذا العلم أوفى، ومثل هذا على مثله لا يخفى، وقد نراه توفي قبل تهذيبه ... وترتيبه " (1) ، وقال ابن الجوزي: "مات قبل تنقيحه وتهذيبه " (2) ، وقال ابن حجر: "لم يرتب مسانيد المقلين، فرتبها ولده عبد الله فوقع منه إغفال كبير من جعل المدني في الشامي ونحو ذلك " (3) .
__________
(1) ترتيب أسماء الصحابة 33
(2) المصعد الأحمد 30
(3) المعجم المفهرس 129/476(43/453)
والمعروف في المسانيد أنها تُعنى بجمع مرويات الصحابي دون النظر إلى الثبوت وعدمه، ولهذا فهي في المرتبة التالية للمصنفات على الأبواب قاله أبو عمرو: عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح -ت 643هـ – (1) ، وغيره، ويحمل كلامه على الأصل؛ لأن الإمام أحمد انتقى أحاديث مسنده، فقد قال: "عملت هذا الكتاب إماماً إذا اختلف الناس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رُجع إليه " (2) ، وقال ابن عمه أبو علي: حنبل بن إسحاق الشيباني – توفي قبل 273هـ-: "جمعنا عمي لي ولصالح ولعبد الله، وقرأ علينا المسند، وما سمعه منه – يعني تاماً- غيرنا، وقال لنا: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن كان فيه، وإلا فليس بحجة " (3) ، ويحمل كلام الإمام على اعتبار المؤلفات إلى زمنه، حيث إن تصنيف الإمام البخاري والإمام مسلم للصحيحين بعده، ويحمل أيضاً على أنه يريد أصول الأحاديث في الغالب، فقد قال الذهبي: "هذا القول على غالب الأمر، وإلا فلنا أحاديث قوية في الصحيحين والسنن والأجزاء ما هي في المسند " (4) ، وقال ابن الجزري: "يريد أصول الأحاديث وهو صحيح، فإنه ما من حديث غالباً إلا وله أصل في هذا المسند ".
__________
(1) علوم الحديث 38
(2) خصائص المسند 22
(3) المصدر نفسه 21.
(4) المصعد الأحمد 31(43/454)
ومما يدل على أنه انتخبه أيضاً تصريح ابنه عبد الله في عدة مواضع من المسند بأنه أعرض عن إخراج حديث فيه لضعفه، ومنه قول عبد الله عند حديث رواه عن أبيه: "هذا الحديث لم يخرجه أبي في مسنده من أجل ناصح؛ لأنه ضعيف في الحديث، وأملاه علي في النوادر " (1) ، وكان الإمام أحمد يضرب على أحاديث أخرجها في المسند حيث تبين له ضعفها، ومنها حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "ما شبع آل محمد من خبز مأدوم حتى مضى لوجهه "، قال عبد الله: "كان أبي قد ضرب على هذا الحديث في كتابه؛ لأنه لم يرض الرجل الذي حدث عنه يزيد " (2) .
وقد نبه عدد من الأئمة إلى انتقاء المسند، يقول أبو موسى المديني: "هذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، أُنتقي من حديث كثير، ومسموعات وافرة، فجعله إماماً ومعتمداً، وعند التنازع ملجأ ومستنداً " (3) ، ويقول الذهبي: "فإنه محتو على أكثر الحديث النبوي، وقلَّ أن يثبت حديث إلا وهو فيه ... وقلَّ أن تجد فيه خبراً ساقطاً " (4) ، ويقول الحافظ ابن حجر: "لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن رجالاً من غيره، وهذا يدل على أنه انتخبه " (5) .
وقال الإمام أحمد: "لم أذكر فيه ما أجمع الناس على تركه " (6) ،وهذا شرط أبي داود قاله أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الزركشي – ت 794هـ -، وقال أيضاً: "أخبرني شيخنا أبوالعباس ابن تيمية أنه اعتبر مسند أحمد فوجد أكثره على شرط أبي داود " (7) .
__________
(1) المسند 5/96
(2) خصائص المسند لأبي موسى المديني 26، وذكر نماذج أخرى.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصعد الأحمد 34
(5) النكت على كتاب ابن الصلاح 1/447
(6) النكت على كتاب ابن الصلاح للزركشي 1/356
(7) النكت على كتاب ابن الصلاح للزركشي 1/356(43/455)
والذي يظهر أن المسند أجود من سنن أبي داود، فقد قال شيخ الإسلام أبو العباس: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الدمشقي – ت 728هـ-: "نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن كأبي داود والترمذي، مثل: مشيخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجود من شرط أبي داود في سننه " (1) .
ومن الجدير بالذكر أن ما تقدم لا يلزم منه عدم وجود الأحاديث الضعيفة بل والقليل من الأحاديث الموضوعة، فقد قال ابنه عبد الله: "أخرج فيه أحاديث معلولة بعضها ذكر عللها، وسائرها في كتاب العلل لئلا يخرج في الصحيح " (2) ، وقد ذكر عدد من العلماء أحاديث موضوعة فيه، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: "ليس كل حديث رواه أحمد ... في مسنده، يقول إنه صحيح، بل أحاديث مسنده هي التي رواها الناس عمن هو معروف عند الناس بالنقل ولم يظهر كذبه، وقد يكون في بعضها علة تدل على أنه ضعيف بل باطل لكن غالبها وجمهورها أحاديث جيدة يُحتج بها، وهي أجود من أحاديث سنن أبي داود " (3) ، ويقول أبو الفداء: إسماعيل ابن عمر بن كثير الدمشقي – ت 774هـ -: "فيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة، كأحاديث فضائل مرو، وشهداء عسقلان " (4) ، ويقول الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي – ت 806هـ-: "أما وجود الضعيف فيه فهو محقق، بل فيه أحاديث موضوعة وقد جمعتها في جزء، وقد ضعف الإمام أحمد نفسه أحاديث فيه "، ويقول الزركشي: "في المسند أحاديث سئل عنها فضعفها وأنكرها"، ويقول ابن حجر: "الحق أن أحاديثه غالبها جياد، والضعاف منها إنما يوردها للمتابعات، وفيه القليل من الضعاف والغرائب والأفراد، أخرجها ثم صار يضرب عليها شيئاً فشيئاً، وبقى منها بعده بقية " (5) .
__________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 95
(2) الفهرسة لابن خير 140
(3) منهاج السنة 4/61
(4) اختصار علوم الحديث 1/117
(5) تعجيل المنفعة 1/240(43/456)
والتحقيق أن الأحاديث الموضوعة على ضربين:
أحدهما: ما استدل على وضعها بكذب أحد رواتها، وهذه لم يخرجها الإمام أحمد في مسنده.
الآخر: ما استدل على وضعها وبطلانها بدليل منفصل، وهو الذي يندرج تحته ما ذكر في المسند من الأحاديث الموضوعة، بل يوجد من ذلك في كتب السنن وغيرها، والحجة في هذا التفصيل قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "تنازع الحافظ أبو العلاء الهمداني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: هل في المسند حديث موضوع، فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج وبَيَّن أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة، ولا منافاة بين القولين فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل ... والغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء، وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع: المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب " (1) ،وقال في موضع آخر: "من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب ... توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه، بخلاف من يتعمد الكذب، فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء " 2.
المبحث الرابع: التعريف بزيادات الرواة.
المطلب الأول: معناها:
المقصود بالزيادات هنا: إضافة راوي الكتاب فيه ما ليس منه من مروياته أو مرويات مؤلفه في كتاب آخر، مع تمييزه لها، وتكون من تلميذ مؤلف الكتاب الراوي له، وتكون ممن دونه.
__________
(1) 2 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 94.(43/457)
وباب زيادات الرواة مما يستدرك على المصنفين في علوم الحديث، وينبني على الجهل به خلط كبير، وله أمثلة متعددة من صنيع رواة المصادر الحديثية المسندة، وهي تختلف عن زيادات الرواة لكتاب واحد، بعضهم على بعض، وعن فن زوائد المصادر الحديثية بعضها على بعض (1) .
المطلب الثاني: أنواعها.
المتأمل في زيادات رواة المصادر الحديثية يلحظ أنها على أنواع، منها:
النوع الأول: مرويات لهم عن شيوخ آخرين غير مؤلفي هذه المصادر، وتتبين عند النظر في طرف الإسناد الأدنى، لمن كان له معرفة بطبقات الرواة والشيوخ، وهي الغالب في زياداتهم، ومنها:
1- زيادات الحافظ أبي الحسن: علي بن إبراهيم بن سلمة القزويني القطان – ت 345هـ-، في سنن ابن ماجه – ت 275هـ-، وهو الراوي عنه السنن.
وهي قليلة، ومنها: قوله: "حدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي، ثنا علي بن الجعد، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، مثل حديث علي رضي الله عنه "، يعني حديث: "إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا به الذي هو أَهْناه وأَهداه وأتقاه ".
وقد أفردها بالتأليف الدكتور الأستاذ مسفر بن غرم الله الدميني في كتاب سماه: "زيادات أبي الحسن القطان على سنن ابن ماجه " (2) .
2 – زيادات الحافظ أبي علي: محمد بن الحسن ابن الصواف – ت 359هـ- في مسند الإمام الحميدي – ت 219هـ-، وهو الذي يروي المسند عن بشر بن موسى الأسدي عن الإمام الحميدي.
__________
(1) قد ألف فيها العلماء كتباً مشهورة كمجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي – ت 807هـ -، وإتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري – ت 840هـ-، والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر – ت 852هـ- وغيرها، وألف في أصوله الدكتور: خلدون الأحدب كتاباً سماه: "علم زوائد الحديث" - وهو مطبوع في دار القلم في دمشق، الطبعة الأولى 1413هـ - وذكر فيه تعريفه وثمرته والمصنفات فيه.
(2) وهو مطبوع في الرياض سنة 1412هـ.(43/458)
وهي قليلة ومنها: قوله: "ثنا إبراهيم بن عبد الله البصري، ثنا إبراهيم بن بشار الرمادي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: أخبرني من سمع علي بن أبي طالب على منبر الكوفة، فذكر معناه " (1) ، يعني حديث خطبة علي لفاطمة رضي الله عنهما.
3 – زيادات الحافظ أبي بشر: يونس بن حبيب بن عبد القاهر الأصبهاني في مسند أبي داود الطيالسي – ت 204هـ-، وهو الراوي عنه المسند.
ومنها قوله: "حدثت عن إعرابي قال عن شعبة قال عبد الله: إنما عَلِقها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله " (2) .
4 – زيادات أبي عبد الرحمن: عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب: فضائل الصحابة لأبيه.
وهي كثيرة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "له كتاب مشهور في فضائل الصحابة روى فيه أحاديث لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف لكونها لا تصلح أن تروى في المسند لكونها مراسيل أو ضعافاً بغير الإرسال ثم إن هذا الكتاب زاد فيه عبد الله زيادات " (3) .
ومنها قول عبد الله: "قثنا أبو عمران: محمد بن جعفر الوركاني، قال أنا أبو الأحوص، عن عَبْثر أبي زُبيد، عن محمد بن خالد، عن عطاء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فمن سبهم فعليه لعنة الله " (4) .
5 – زيادات لأبي بكر: أحمد بن جعفر بن حمدان القَطِيعي على فضائل الصحابة للإمام أحمد برواية ابنه عبد الله.
__________
(1) مسند الحميدي 1/23 عقب حديث: 38
(2) عقب حديث: 364
(3) منهاج السنة 4/106.
(4) فضائل الصحابة 1/54/11(43/459)
وهي كثيرة ومشتملة على أحاديث موضوعة، حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثم إن القطيعي الذي رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شيوخه زيادات وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة " (1) ، ويقول أيضاً: "كتاب الفضائل فَيَروي فيه ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً فإنه لم يقصد أن لا يروي في ذلك إلا ما ثبت عنده، ثم زاد ابن أحمد زيادات، وزاد أبوبكر القطيعي زيادات، وفي زيادات القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة فظن ذلك الجاهل أن تلك من رواية أحمد وأنه رواها في المسند " (2) .
ومنها: باب في آخر فضائل علي رضي الله عنه، حيث يقول: "ومن فضائل علي رضي الله عنه من حديث أبي بكر بن مالك عن شيوخه غير عبد الله " ثم قال: "حدثنا هيثم بن خلف، قثنا محمد بن أبي عمر الدوري، قثنا شاذان، قثنا جعفر بن زياد، عن مطر عن أنس يعني ابن مالك قال، قلنا لسلمان: سل النبي صلى الله عليه وسلم من وَصيّه، فقال له سلمان: يا رسول الله من وصيك؟ قال:"يا سلمان من كان وصي موسى؟ قال: يوشع بن نون، قال: "فإن وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعودي: علي بن أبي طالب " (3) .
6 – زيادات عبد الله بن الإمام أحمد في مسند والده.
وهي كثيرة يقول الذهبي: "له زيادات كثيرة في مسند والده"، وهي على عدة صور منها:
أ - مرويات للإمام أحمد في غير المسند، قام عبد الله بنقلها إلى المسند مع التنبيه إليها، وهذا النوع قليل جداً، ومنه قوله: "حدثني أبي -أملاه علينا في النوادر- قال: كتب إليَّ أبو توبة: الربيع بن نافع، قال حدثنا الهيثم بن حميد، عن زيد بن واقد، عن سليمان بن موسى، عن كثير بن مُرة، عن تميم الداري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بمائة آية في ليلة كُتب له قنوت ليلة" (4) .
__________
(1) منهاج السنة 4/106
(2) المصدر نفسه.
(3) فضائل الصحابة 2/615/1052
(4) المسند 4/103/17083(43/460)
ب – طرق لأحاديث رواها والده أشبه بالمستخرج، مثل قول الإمام أحمد: "حدثني علي بن عبد الله، حدثنا معتمر بن سليمان.... " الحديث، وقال عبد الله بعده: "وحدثني يحيى بن معين، قال حدثنا معتمر بن سليمان ... " (1) الحديث، وأحياناً يرويه عن شيخ والده مثل قول الإمام أحمد: "حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال: حدثنا جعفر بن عون ... " الحديث، قال عبد الله بعده: "وسمعته أنا من عبد الله ابن أبي شيبة بالكوفة " (2) .
جـ – أحاديث من رواية غير الصحابي الذي روى حديثه والده.
ومنها: ما أخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت" (3) ،وروى ابنه عبد الله في موضع آخر حديث أبي كعب رضي الله عنه وفيه: " ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وأخبرته بالذي قال أُبي، فقال: "صدق أبي" (4) .
د – أحاديث شارك فيها والده وزاد فيها بعض الألفاظ والصحابي واحد، ومنها: ما أخرج الإمام أحمد من رواية ربيعة ابنة عياض قالت: "سمعت جدي عُبيدة بن عمرو الكلابي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاسبغ الوضوء، قال: وكانت ربيعة إذا توضأت اسبغت الوضوء " (5) ، ورواه عبد الله من طريق آخر وزاد: "حتى ترفع الخمار فتمسح على رأسها " (6) .
هـ – أحاديث تامة رواها عبد الله عن شيوخه.
ومنها: حديث قُطْبة بن قتادة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر إذا غربت الشمس " (7) .
7 – زيادات القَطِيعي على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله – السابقة-، وهي قليلة.
__________
(1) 4/192/17879
(2) 4/140/17384
(3) 3/481/16046
(4) 5/143/21606
(5) 3/481/16046
(6) 4/79/16841
(7) 4/78/16838(43/461)
النوع الثاني: مرويات لمؤلفي المصادر أنفسهم، غير أنها مأخوذة من كتب أخرى لهم، وهذا النوع قليل، وسبق بيان أن لعبد الله بن الإمام أحمد في المسند زيادات من هذا القبيل.
المبحث الخامس: التعريف بزيادات القَطِيعي.
اُختلف في وجود زيادات للقَطِيعي على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، فأثبتها الساعاتي حيث يقول: "أحاديث المسند تنقسم إلى ستة أقسام.... وقسم رواه الحافظ أبو بكر القَطِيعي، عن غير عبد الله وأبيه – رحمهم الله تعالى-، وهو أقل الجميع " (1) .
وذكر عبد الحي اللكنوي أنها زيادات كثيرة، ونسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: "قال ابن تيمية في منهاج السنة: ... ثم زاد ابنه عبد الله على مسند أحمد زيادات، وزاد أبو بكر القَطِيعي زيادات، وفي زيادات القَطِيعي أحاديث كثيرة موضوعة "، وصنيع عبد الحي اللكنوي محل تأمل؛ لأن كلام شيخ الإسلام في وصف زوائد القَطِيعي على فضائل الصحابة للإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، وتقدم بيانه (2) .
وقد تعقب العلامة الألباني من يرى كثرتها، إلا أنه نفى وجودها مطلقاً فقال: "ليس له زيادات في المسند خلافاً لما اشتهر "، ونفيه لها مطلقاً محل تأمل، ولعله ظنها من زيادات عبد الله بن الإمام أحمد، ولا سيما أن الموجود منها في المطبوع من مسند الإمام أحمد موضع واحد، قد يخفى على المستقرئ للمسند.
والحاصل أن للقَطِيعي زيادات على المسند بيدَ أنها قليلة جداً، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر: "فيه شيء يسير من زيادات أبي بكر القَطِيعي الراوي عن عبد الله " (3) ، وبيّنها في عدة مواضع من كتابه: "إطراف المُسْنِد المُعتلي بأطراف المسند الحنبلي " (4) ، وكتابه: "إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة " (5) ، وقد وقفت على أربعة أحاديث منها، رواها عن شيوخه المعروف بالرواية عنهم.
__________
(1) الفتح الرباني 1/21
(2) ص: 20
(3) المعجم المفهرس 129
(4) منها: 1/270/155
(5) منها: 1/393/289(43/462)
وقد حصل وهم للعلامة الهيثمي فعزى أحدها إلى الإمام أحمد في مسنده، وسبب هذا الوهم عناية الهيثمي في كتابه: "مجمع الزوائد " بمتن الحديث وصحابيه، ولهذا ذهل في هذا الموضع عن طرف إسناده الأدنى، ومن ذا يسلم.
ويتبين من خلال دراسة هذه الزيادات أن إسناد الحديث الأول واه، فشيخ القَطِيعي فيه رموه بالكذب.
وكذا إسناد الحديث الثاني حيث إن فيه راوياً رموه بالكذب، مع أن في إسناده اضطراب، والحديث الثالث صحيح، وأما الرابع فالذي يظهر أن القَطِيعي أخطأ في متنه فقلب المعنى (1) .
والخلاصة: أن أسانيد أكثرها واهية مع قلتها، والقَطِيعي ليس من الأئمة النقاد الذين لهم الخبرة بأحوال الرواة والأسانيد، وهو مثل المؤلفين في الفضائل والمغازي وغيرهم ممن يعنون بمجرد نقل الأخبار وأداء ما سمعوا، وفيهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفة " (2) .
الفصل الثاني:
تخريج زيادات القَطِيعي. الحديث الأول:
قال القَطِيعي: "حدثنا أبو شعيب: عبد الله بن الحسن بن أحمد الحراني، ثنا أبو جعفر النُفيلي، ثنا كثير بن مروان، عن إبراهيم بن أبي عَبلَة الشامي، عن أنس رضي الله عنه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني المدينة- فلم يكن في أصحابه أَشْمط غير أبي بكر، وكان يُغَلِّفُها بالحِناء والكَتَم ".
وذكر ابن حجر أنه من زيادات القَطِيعي.
1- دراسة الإسناد:
* أبو شعيب، هو: الأموي البغدادي المؤدب.
سمع من أبيه، وجده، وأحمد بن عبد الملك الحراني، وأبي جعفر النُفيلي، وكان سماعه منه سنة ثماني عشرة ومائتين قاله أبو علي بن الصواف.
وروى عنه المحاملي، ومحمد بن مخلد، وإسماعيل بن علي الخطبي، وغيرهم، ورواية القطيعي عنه مشهورة (3) .
__________
(1) انظر، ص: 40
(2) منهاج السنة 4/84
(3) انظر: أحاديثه عنه في جزء الألف دينار من ح 101حتى ح 106(43/463)
قال عنه صالح بن محمد – جزرة-، والدارقطني، ومسلمة: " ثقة "، وزاد الدارقطني: " مأمون ".
وقال موسى بن هارون: "صدوق ... السماع من أبي شعيب الحراني يفضل على السماع من غيره؛ فإنه المحدث بن المحدث بن المحدث ".
وذكر نصر الصائغ أنه كان يأخذ الأجرة على التحديث، ولا يقدح هذا في ضبط الراوي.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "كتب عنه أصحابنا، يخطئ ويهم "، وهذا جرح مفسر فيقدم؛ ولهذا فإن الذهبي قال عنه: "صدوق ".
والخلاصة أنه: صدوق، ومات سنة 295 قاله أبو علي بن الصواف، وصححه الخطيب البغدادي، ومولده سنة 206هـ.
* وأبو جعفر النُفيلي، هو: عبد الله بن محمد بن علي بن نُفيل القضاعي الحراني.
روى عن: الإمام مالك، وزهير بن معاوية، وعبد الله بن مبارك، وغيرهم.
وروى عنه: أبو داود، والنسائي، وأبو زرعة، ويحيى بن معين، وغيرهم.
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: ثقة حافظ، وثقه وأثنى عليه الإمام أحمد، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، وابن حبان، وغيرهم، وأخرج له البخاري، وأصحاب السنن، ومات سنة 234هـ (1) .
* وكثير بن مروان بن محمد بن سُويد الفِهْري المقدسي أبو محمد.
روى عن: إبراهيم بن أبي عَبْلة، وعبد الله بن يزيد الدمشقي، والحسن بن عرفة، وغيرهم.
وروى عنه: محمد بن الصباح، وأبو جعفر النُفيلي، وابنه محمد بن كثير، وغيرهم.
__________
(1) انظر: الجرح والتعديل 5/159، وسؤالات أبي داود للإمام أحمد 318، وسؤالات الآجري لأبي داود 140، 1789، 1792، والثقات لابن حبان 8/356، وتهذيب الكمال 16/3545، وتهذيب التهذيب 6/15، والتقريب 3594.(43/464)
قال ابن معين: " ضعيف "، وقال أيضاً: " شامي ليس بشيء، كذاب كان ببغداد يحدث بالمنكرات " (1) ، وقال أيضاً: " رأيته وكان كذاباً " (3) ، وقال محمود بن غيلان: " أسقطه أحمد وابن معين وأبو خيثمة " (2) ، وقال الآجري: "سألت أبا داود عن كثير بن مروان، قال: شامي، بلغني عن يحيى أنه ضعفه " (3) ، وقال يعقوب بن سفيان: "شامي ليس حديثه شيء " (4) ، وقال النسائي: "ليس بشيء " (5) ، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به " (6) ، وذكره العقيلي والدارقطني، وابن شاهين، وابن الجوزي في الضعفاء، وقال ابن حبان في المجروحين: "منكر الحديث جداً لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا وجه التعجب " (7) .
والذي يظهر أنه: كذاب يحدث بالمنكرات؛ لما تقدم من كلام الإمام ابن معين، حيث رآه وسبر مروياته وتبين له كذبه.
* وإبراهيم بن أبي عَبْلة الشامي، واسم أبي عَبْلَة: شِمْر بن يقظان بن عبد الله الفلسطيني الرملي.
روى عن: واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وأم الدرداء رضي الله عنها، وغيرهما.
وروى عنه: مالك، والليث، وابن المبارك، وغيرهم.
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: ثقة، وثقه ابن معين، ودُحيم، والنسائي، ويعقوب بن سفيان، وأبو حاتم، والدارقطني، وغيرهم، وأخرج له البخاري، ومسلم، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، ومات سنة 152هـ.
2 – الحكم عليه: مما سبق يتبين أنه إسناد واهٍ، وسيأتي أنه معل بالنكارة، وأما متنه فثبت من طرق أخرى.
3 – تخريجه وبيان اختلاف الرواة فيه على وجهين:
الوجه الأول: من رواه عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة، عن أنس بن مالكرضي الله عنه، وهو:
* كثير بن مروان في هذه الرواية التي أخرجها القَطِيعي.
__________
(1) تاريخ بغداد 12/481
(2) لسان الميزان 4/571، وتعجيل المنفعة 2/147
(3) سؤالاته 1631
(4) المعرفة والتاريخ 2/450
(5) تعجيل المنفعة 2/147
(6) الجرح والتعديل 7/157
(7) 2/225(43/465)
الوجه الثاني: من رواه عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة، عن عُقبة بن وَسَّاج، عن أنس رضي الله عنه، وهما:
أ – محمد بن حِمْير:
أخرجه البخاري، وابن سعد، وأبو نُعيم من طريق محمد، عن إبراهيم به بنحوه.
ب – وأبو عُبيد المَذْحجي مولى سليمان بن عبد الملك:
علّقه البخاري بالجزم ووصله الإسماعيلي، وابن حبان من طريق الأوزاعي عنه به بنحوه وبلفظ: "فكان أسنَّ أصحابه " وزيادة في آخره.
* النظر في أحوال الرواة *
* كثير بن مروان، تقدم عند دراسة الإسناد.
* ومحمد بن حِمْير، هو: السَّليحي الحمصي.
روى عن: إبراهيم بن أبي عَبْلَة، ومحمد بن زياد، والأوزاعي، والثوري، وغيرهم.
وروى عنه: سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ونُعيم بن حماد، وهشام بن عبد الملك، وغيرهم.
قال ابن معين، ودُحيم: "ثقة "، وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له البخاري، وأبوداود في المراسيل، والنسائي، وابن ماجه.
وقال الإمام أحمد: "ما علمت إلا خيراً " (1) ، وقال ابن معين، والنسائي، والدارقطني: "لا بأس به ".
وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به" (2) ، وقال يعقوب بن سفيان: "ليس بالقوي" (3) ، ولهذا أورده ابن الجوزي في الضعفاء والكذابين، وقال الذهبي: "له غرائب وأفراد" (4) .
وأبو حاتم متشدد، ويعقوب قد خالفه الجمهور، وتفسير الذهبي لا يحطه إلى مرتبة الضعيف، ولهذا فإن ابن حجر قال عنه "صدوق " (5) .
والخلاصة أنه: لا بأس به، وله غرائب وأفراد.
* وأبو عُبيد المَذْحجي مولى سليمان بن عبد الملك، قيل اسمه حَي أو حُيَي.
روى عن: أنس، وعمر بن عبد العزيز، وعقبة بن وَسَّاج، وغيرهم.
وروى عنه: الأوزاعي، ومالك، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم.
__________
(1) العلل لعبد الله 4129
(2) الجرح والتعديل 7/1315
(3) المعرفة والتاريخ 2/309
(4) الميزان 3/532
(5) التقريب 5837(43/466)
وبالداسة لحاله يتبين أنه: ثقة، وثقه أحمد، وأبوزرعة، ويعقوب بن سفيان، وعلي المديني، وغيرهم، وأخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم، وأبوداود، والنسائي، ومات سنة بعد المئة (1) .
* النظر في اختلاف الرواة *
مما سبق يتبين أن رواية كثير: منكرة لمخالفته رواية الثقات، وقال ابن حجرعن روايتهم: " وهو الصواب " (2) .
4 – الحكم العام على الحديث:
مما تقدم يتبين أن متن الحديث قد صح من طرق أخرى.
5 – شرح غريبه:
* قوله: "أَشْمَط "،الشَمْط: الشيب قاله ابن الأثير، والمقصود بيان أنه أكبرهم سناً، وقد جاء في رواية البخار ي المتقدمة بلفظ: "أسنّ "، وهذا يدل أيضاً على أن البقية كانوا شباباً.
* وقوله: "الكَتَم " هو: بفتح الكاف والمثناة الخفيفة: ورق يخضب به، ينبت في الصخور فيتدلى خيطاناً لطافاً.
الحديث الثاني:
قال القَطِيعي: "حدثنا محمد بن يونس، ثنا محمد بن خالد بن عَثْمة، ثنا إبراهيم بن سعد، عن عبد الله بن عامر، عن محمد، عن رجل من أهل البصرة، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس من البر الصيام في السفر".
وذكر ابن حجر أنه من زيادات القَطِيعي، وعزاه الهيثمي للإمام أحمد، وهو وهم منه؛ لأن محمد بن يونس من شيوخ القَطِيعي كما سيأتي.
1 – دراسة الإسناد:
* شيخ القَطِيعي، هو: محمد بن يونس بن موسى بن سليمان الكُدَيْمي القرشي السامي -بالمهملة- البصري أبو العباس.
روى عن: روح بن عبادة، وأبي داود الطيالسي، وسعيد بن عامر، وغيرهم.
وروى عنه: ابن أبي الدنيا، والمحاملي، والقَطِيعي، وغيرهم.
__________
(1) انظر: العلل لعبد الله 1851، والجرح والتعديل 3/275، والمعرفة والتاريخ 2/472، وتهذيب الكمال 34/7471، وتهذيب التهذيب 12/176، والتقريب 8227
(2) إطراف المُسْنِد المُعتلي 1/270/155(43/467)
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: كذاب يضع الحديث، فقد كذبه محمد بن هارون، وأبو داود، وعبد الله بن الإمام أحمد، والحافظ القاسم بن زكريا المُطَرِّز (1) ، وابن حبان، وابن عدي.
وقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي وعرض عليه شيء من حديثه فقال: ليس هذا حديث أهل الصدق " (2) ، وقال ابن عدي: "كان ابن صاعد وعبد الله بن محمد لا يمتنعان من الرواية عن كل ضعيف ... إلا عن الكُدَيمي فإنهما كانا لا يرويان عنه لكثرة مناكيره، ولو ذكرت كلما أنكر عليه وإدعائه ووضعه لطال ذلك " (3) ، وقال أبو أحمد الحاكم: "ذاهب الحديث، تركه ابن صاعد وابن عقدة، وسمع منه ابن خزيمة ولم يحدث عنه، وقد حفظ فيه سوء القول عن غير واحد من أئمة الحديث "، وقال الدارقطني: "يتهم بوضع الحديث " (4) ، وقال الذهبي: "هالك " (5) ، وقال أيضاً: "أحد المتروكين " (6) ، وقال حين أورد بعض مناكيره: "ومن افترى هذا على أبي نُعيم!؟ " (1) ، قال ابن حجر: "يعني أنه من أكذب الناس " (7) .
فإن قيل: إن الإمام أحمد أثنى عليه حيث يقول: "كان حسن المعرفة، حسن الحديث ما وجد عليه إلا صحبته سليمان الشاذكوني " (8) ، فيجاب عليه بأنه لم يتبين حاله إلا بعد وفاة الإمام أحمد حيث كانت في سنة 241هـ، وتوفي الكُدِيمي سنة 286هـ، ولهذا يقول الدارقطني: "ما أحسن القول فيه إلا من لم يخبر حاله " (9) .
هذا وقال ابن حجر في التقريب: "ضعيف " (10) ، وحكمه محل تأمل، وتقدم ما يخالفه، وابن حجر نفسه قال عنه في هدي الساري – مقدمة فتح الباري-: "واهي " (11) .
__________
(1) الضعفاء والمتروكين للدارقطني 487
(2) الجرح والتعديل 8/122
(3) الكامل 6/2294
(4) سؤالات السهمي 74
(5) المغني 2/646
(6) الميزان 4/74
(7) تهذيب التهذيب 9/478
(8) كما في تاريخ بغداد 3/439
(9) كما في تهذيب التهذيب 9/478
(10) 6419
(11) 460(43/468)
* ومحمد بن خالد بن عَثْمة، هو: الحنفي البصري، وعَثْمة: أمه، قاله أبو داود (1) ، وابن أبي حاتم (2) .
روى عن: إبراهيم بن إسماعيل، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وغيرهم.
وروى عنه: بُنْدار، وعلي المديني، والكُدَيمي، وغيرهم.
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: لا بأس به، فقد قال عنه الإمام أحمد: "ما أرى بحديثه بأس "، وقال أبو زرعة: "لا بأس به " (3) ، وقال أبو حاتم: "صالح الحديث "، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "ربما أخطأ " (4) ، وأخرج له أصحاب السنن (5) .
* وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري المدني ثم البغدادي أبو إسحاق.
روى عن: أبيه، والزهري، وشعبة، وغيرهم.
وروى عنه: الليث، وأبو داود الطيالسي، وابناه يعقوب وسعد، وغيرهم.
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: ثقة حجة، وثقه الإمام أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والعجلي وغيرهم، وأثنى عليه ابن معين أيضاً، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، ومات سنة 185هـ (6) .
* وعبد الله بن عامر، هو: الأسلمي المدني أبو عامر.
روى عن: أبي الزناد، ومحمد بن المنكدر، وسُهيل بن أبي صالح، وغيرهم.
وروى عنه: يزيد بن حبيب، والأوزاعي، وسليمان بن بلال، وغيرهم.
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: ضعيف يقلب الأسانيد والمتون ويرفع المراسيل والموقوف، وضعفه: ابن سعد، وابن معين، وأحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، وأبو أحمد الحاكم، وزاد ابن معين: "ليس بشيء "، وزاد أبو حاتم: "ليس بمتروك "، وأخرج له ابن ماجه.
__________
(1) سؤالات الآجري 1327
(2) الجرح والتعديل 7/243
(3) الجرح والتعديل 7/243
(4) 9/55/67
(5) انظر: تهذيب الكمال 25/5179، وتهذيب التهذيب 9/125، والتقريب 5847
(6) انظر: تاريخ الدارمي 7، وطبقات ابن سعد 7/322، والعلل لعبد الله بن الإمام أحمد 282، 2475، 3422، والجرح والتعديل 2/101، وترتيب ثقات العجلي 23، وتاريخ بغداد 6/81، وتهذيب التهذيب 1/105، والتقريب 177(43/469)
وقال الإمام البخاري: "يتكلمون في حفظه "، وقال أيضاً: "ذاهب الحديث "، وقال ابن حبان في المجروحين: "يقلب الأسانيد والمتون، ويرفع المراسيل والموقوف "، وقال ابن عدي "لا يتابع في بعض هذه الأخبار ... وهو ممن يكتب حديثه "، وقال ابن حجر: "ضعيف " (1) .
* ومحمد: كذا قال عبد الله بن عامر هنا، وسيأتي أنه قال مرة أخرى: "عن رجل يقال له محمد، عن أبي بَرْزة ... "، وقال أيضاً: "عن محمد بن آل أبي بَرْزة، عن أبي بَرْزة " وهذا كله اضطراب منه، وقد أورد الإمام البخاري محمد هذا في باب أفناء الناس من المحمدين (2) ، وهم غير المنسوبين، وقال: "لم يصح حديثه ".
والخلاصة أنه: مجهول العين.
* ورجل من أهل البصرة: تقدم في السابق ما يدل على أنه محمد، ولم يضبط عبد الله بن عامر هذا الإسناد.
* وأبو بَرْزة، هو: نَضْلة بن عبيد الأسلمي الصحابي رضي الله عنه.
__________
(1) انظر: التاريخ الكبير 5/156، والأوسط 2/138، وطبقات ابن سعد – القسم المتمم- 410/345، والضعفاء والمتروكين للنسائي 61، والعلل لعبد الله بن الإمام أحمد 5642، والجرح والتعديل 5/123، والمجروحين لابن حبان 2/6، والضعفاء والمتروكين للدارقطني 14، والكامل لابن عدي 4/1470،وتهذيب الكمال 4/175، وتهذيب التهذيب 5/241، والتقريب 3406
... تنبيه: رمز له في الميزان (2/448/4394) برمز: ابن ماجه والترمذي، والذي يظهر أن ذكر الترمذي، وهم، بدليل ما في المغني (1/434/3236) ، والكاشف (2/100/2826) ، حيث ذكر رمز ابن ماجه وحده، وهو الذي يوافق ما في تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب وكذا التقريب، سواء بتحقيق محمد عوامة 3406، أم بتحقيق أبي الأشبال صغير أحمد 3428، أم بتحقيق وتحرير بشار عواد، وشعيب الأرنؤوط 3406، وقد ذكروا جميعاً أنهم اعتمدوا نسخة بخط ابن حجر.
(2) التاريخ الكبير 1/269(43/470)
2 – الحكم عليه: مما سبق يتبين أنه إسناد واهٍ، وتقدم أن البخاري ذكر عدم صحته، وقال الدارقطني في العلل: "غير ثابت " (1) ، وحكمهما على هذا الإسناد، وأما متنه فصح من حديث جابر رضي الله عنه كما سيأتي.
3 – تخريجه وبيان اختلاف رواية عبد الله بن عامر له على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: رواه عن: محمد، عن رجل من أهل البصرة، عن أبي بَرْزة رضي الله عنه.
وهي رواية القَطِيعي هنا عن الكُدَيمي، عن محمد بن خالد بن عَثْمة، عن إبراهيم بن سعد، عن عبد الله به.
الوجه الثاني: رواه عن: رجل يقال له محمد، عن أبي بَرْزة رضي الله عنه.
أخرجه الإمام البخاري في التأريخ الكبير، وأعرض عن أدائه بصيغة التحديث حيث قال: "قال لي: محمد بن أبي سمينة حدثنا محمد بن عَثْمة، عن إبراهيم بن سعد، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن رجل يقال له محمد، عن أبي بَرْزة " (2) الحديث، والذي يظهر أن الإمام صنع ذلك لوهن هذا الإسناد ولهذا قال بعده: "ولم يصح حديثه ".
وأخرجه البزار عن محمد بن معمر، عن محمد بن خالد، عن إبراهيم بن سعد، عن عبد الله بن عامر، عن محمد بن آل أبي بَرْزة، عن أبي بَرْزة رضي الله عنه (2) .
الوجه الثالث: رواه عن: خاله عبد الرحمن بن حَرْمَلة، عن محمد بن المنكدر، عن أبي بَرْزة الأسلمي رضي الله عنه.
أخرجه الطبراني عن محمد بن عبد الله الحضرمي، عن معمر بن بكار السعدي، عن إبراهيم بن سعد، عن عبد الله بن عامر به، وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حَرْمَلة إلا عبد الله بن عامر، ولا عن عبد الله بن عامر إلا إبراهيم بن سعد تفرد به: معمر بن بكار، ولا يُروى عن أبي بَرْزة إلا بهذا الإسناد " (3) ، ويَرِد على الطبراني ما تقدم.
* النظر في الاختلاف السابق *
__________
(1) 3/308
(2) البحر الزخار 9/302/3858
(3) المعجم الأوسط 5/373/5597(43/471)
مما سبق يتبين أن عبد الله بن عامر اضطرب في إسناده اضطراباً شديداً، كما أنه قلب إسناده إذ الحديث مشهور برواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه كما سيأتي، وابن عامر معروف بالضعف وقلب الأسانيد كما تقدم، ويؤكد ذلك أن المحفوظ عن عبد الرحمن بن حَرْملة في هذا الباب مرسل سعيد المُسيِّب بلفظ آخر، وهو ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن حَرْمَلة، عن ابن المُسيِّب قال: "كنت عنده فأتاه قوم من أهل الجزيرة فقالوا: يا أبا محمد إنا نسافر في المحامل وإنا نُكفى، أفنصوم؟ قال: لا، قالوا: إنا نقوى على ذلك، قال (1) : رسول الله كان أقوى وخيراً منكم، قال: خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة، ولم يصوموا " (1) ، وبذلك يتبين أنه قلب الأسانيد والمتون.
هذا ولا يتابعه على روايته عن محمد بن المنكدر إلا من هو أدنى منه، حيث أخرج البخاري في تأريخه، وابن عدي من طريق خالد العبد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً "خياركم من قصر الصلاة في السفر، وأفطر ".
* وخالد العَبْد، هو: ابن عبد الله البصري.
روى عن: الحسن البصري، وابن المنكدر.
وروى عنه: سَلْم بن قتيبة، وإسرائيل، وغيرهما.
__________
(1) المصنف 2/566/4480(43/472)
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: كذاب قدري، رماه عمرو بن علي بالوضع، وروى البخاري بإسناده إلى عبد الصمد بن عبد الوارث أنه قال: "سمعت خالداً العبد هو ضعيف يقول: قال: الحسن صليت خلف ثمانية وعشرين بدرياً كلهم يقنت بعد الركوع، فقلت: من حدثك؟ قال: حدثنا ميمون المَرَائي، فلقيت ميموناً فسألته، فقال: قال الحسن مثله، قلت من حدثك؟! قال: خالد العَبْد " (1) ، قال البخاري: "ما أعلم لميمون إلا حديثين "، وهذه الحكاية دليل على أن خالداً كان يكذب، وروى البخاري أيضاً بإسناده إلى سَلْم بن قتيبة أنه قال: "أتيت خالداً العبد، فإذا معه درج فيه: حدثنا الحسن، حدثنا الحسن، فانفلت الدرج من يده، فإذا في أوله هشام بن حسان قد محاه، قلت ما هذا؟ قال: هذا كتبت أنا هشام بن حسان عن الحسن، قلت: تكون مع هشام، وتكتب فيه هشام؟! قال: ما أعرفني بك ألست خرجت مع إبراهيم " (2) ، قال البخاري: "إبراهيم هذا كان إنساناً علوياً خرج " (3) (4) ، وصنيع خالد السابق يدل على أنه كان يسرق الأسانيد ويغيرها، وقد أورد البخاري في ترجمة حديث "خياركم " – حديث الباب-، وقال بعده: "منكر الحديث " (5) ، وكذبه الدارقطني، وقال في الضعفاء والمتروكين: "متروك " (6) وقال ابن حبان في المجروحين: "كان يسرق الحديث، ويحدث من كتب الناس من غير سماع " (7) ، وقال ابن عدي: "قدري ... ليس له من الحديث إلا مقدار عشرة وأقل ... وأحاديثه ... مناكير " (8) ، وقال الذهبي: "قدري واه تركوه ".
__________
(1) التاريخ الكبير 3/165، والأوسط 2/98، 99
(2) المصدر نفسه.
(3) التاريخ الكبير 3/165، والأوسط 2/98، 99
(4) إبراهيم هو: ابن عبد الله بن الحسن العلوي، خرج على بني عباس، والمقصود أن خالداً أراد تخويف سَلْم بأنه إن أظهر حاله وشى به، انظر تعليقات العلامة المعلمي على التاريخ الكبير 3/166
(5) في التاريخ الكبير 3/165
(6) 198/198
(7) 1/280
(8) الكامل 3/895(43/473)
وقد أورد الدارقطني في العلل رواية عبد الله بن عامر، عن عبد الرحمن بن حَرْملة، عن ابن المنكدر، عن أبي بَرْزة، ورواية خالد العَبْد، عن ابن المنكدر، عن جابر، وقال: "كلاهما غير ثابت" (1) ، يعني بهذا الإسناد.
4 – الحكم العام: متن الحديث قد صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه حيث أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم من طريق شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أسعد، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر به بمثله وقصة في متنه.
الحديث الثالث:
قال القَطِيعي: "حدثنا الفضل بن الحُبَاب، حدثنا القَعْنَبي، حدثنا شعبة، حدثنا منصور، عن رِبْعي، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (2) .
وذكر ابن حجر أنه من زوائد القَطِيعي (3) .
1 – دراسة الإسناد:
* شيخ القَطِيعي، هو: الفضل بن الحُبَاب بن محمد بن شُعيب بن عبد الرحمن الجُمَحي البصري، والحُبَاب لقب أبيه، واسمه: عمرو، قاله ابن حبان (4) .
روى عن: القَعْنَبي، وأبي الوليد الطيالسي، ومُسَدَّد، وعلي المديني، وغيرهم.
وروى عنه: أبو عَوانة، وابن حبان في صحيحيهما، والطبراني، والإسماعيلي، وغيرهم.
__________
(1) 6/308/1158
(2) المسند 5/273/22702
(3) إطراف المُسْنِد المُعتلي 7/78/8823، وإتحاف المهرة 11/268
(4) 9/8(43/474)
ذكره ابن حبان في الثقات (3) ، وقال مسلمة بن القاسم: "كان ثقة مشهوراً كثير الحديث"، وقال الخليلي: "احترقت كتبه، منهم من وثقه، ومنهم من تكلم فيه، وهو إلى التوثيق أقرب، والمتأخرون أخرجوه في الصحيح " (1) ، وقال ابن حجر: "روى عنه ابن عبد البر في الاستذكار من طريقه حديثاً منكراً جداً ما أدري مَنِ الآفة فيه ... ((2)) فلعل ابن الأحمر سمعه منه (3) بعد احتراق كتبه"، وذكر الدارقطني في الغرائب له حديثاً وقال: "تفرد به أبو خليفة "، وقال ابن حجر: "أخطأ في سنده ".
ولم يصرح الخليلي باختلاطه بعد احتراق كتبه، وما ذكره ابن حجر – مع أنه احتمال- لا يفيد الاختلاط، بل هو عند التأمل دليل على الضبط؛ لأن من كان مكثراً واحترقت كتبه، ولم يخطئ إلا في حديثين، فهو بالإتقان والثقة والحفظ أولى، وقد أغرب عدد من الحفاظ المتقنين المكثرين في أحاديث مع جلالتهم وتوفر كتبهم، ولم يحطهم ذلك عن مرتبتهم، ولهذا فإن الذهبي قال عنه: "مسند عصره بالبصرة ... كان ثقة عالماً ما علمت فيه ليناً"، وقال أيضاً: "ولد سنة ست ومئتين، وعُني بهذا الشأن وهو مراهق، فسمع سنة عشرين ومئتين، ولقي الأعلام، وكتب علماً جماً ... وكان ثقة صادقاً مأموناً " (4) .
__________
(1) الإرشاد في معرفة علماء الحديث 2/526/233
(2) ذكر له حديثاً من رواية محمد بن معاوية ابن الأحمر عنه.
(3) يعني من أبي خليفة: الفضل بن الحُباب
(4) سير أعلام النبلاء 14/7(43/475)
والذي يظهر أنهم تكلموا فيه من أجل مسألة الوقف في القرآن، حيث قال مسلمة بن القاسم: "كان يقول بالوقف وهو الذي نُقم عليه " (1) ، وذكر السهمي أنه لما حضرته الوفاة قال: "قد جعلت كل من تكلم فيَّ في حِل إلا من قال إني أُقف في القرآن، أقول: القرآن كلام الله غير مخلوق"، وقال أبو علي النَّيْسَابُوري الحافظ: "دخلت أنا وأبو عَوَانة البصرة، فقيل: إن أبا خليفة قد هُجر، ويُدَّعى عليه أنه قال: القرآن مخلوق، فقال لي أبو عَوَانة: يا بني لا بد أن ندخل عليه، قال: فقال له أبو عَوَانة: ما تقول في القرآن؟ فاحمر وجهه وسكت، ثم قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق، فهو كافر، وأنا تائب إلى الله من كل ذنب إلا الكذب، فإني لم أكذب قط استغفر الله، قال: فقام أبو علي فقبل رأسه، ثم قام أبو عوَانة إلى أبي خليفة فقبل كتفه " (2) .
والخلاصة أنه: ثقة احترقت كتبه فربما أغرب، ومات سنة 305هـ.
* والْقَعْنَبي، هو: عبد الله بن مَسلمة بن قَعْنَب الحارثي المدني البصري أبو عبد الرحمن.
روى عن: مالك، وشعبة، والليث، وغيرهم.
وروى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
وثقه: العجلي وابن قانع، وأثنى عليه: مالك، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وابن المديني، وغيرهم، وأخرج له الجماعة إلا ابن ماجه (3) .
__________
(1) لسان الميزان 4/513
(2) سير أعلام النبلاء 14/10
(3) انظر: طبقات ابن سعد 3/291، وسؤالات الدقاق لابن معين 373، وترتيب ثقات العجلي 756، وتهذيب التهذيب 6/29(43/476)
وقال ابن حجر: "ثقة عابد "، وكلامه محل تأمل فمرتبته أعلى من ذلك، فقد قال ابن معين: "ثقة مأمون لا يسأل عنه، لو ضاع كتابه ثم أخذه ممن سمع معه في المثل، كان حائزاً، هو رجل صدق " (1) ،وقال أبو حاتم – على تشدده-: "ثقة حجة " (2) ، وقال أبو زرعة: "ما كتبت أجل في عيني منه " (3) ، وذكر يعقوب بن سفيان أنه ثقة ثم قال: "حجة" (4) ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان من المتقنين في الحديث " (5) ، ولهذا قال عنه الذهبي: "أحد الأعلام " (6) ، وقال أيضاً: "الإمام الثبت القدوة شيخ الإسلام " (7) .
والخلاصة أنه: ثقة حجة عابد، ومات سنة 221هـ.
* وشعبة هو: ابن الحجاج العَتَكي مولاهم الواسطي ثم البصري أبو بِسطام، الثقة الحافظ المتقن أمير المؤمنين في الحديث (8) .
* ومنصور، هو: ابن المعتمر بن عبد الله السلمي الكوفي أبو عَتَّاب.
روى عن: زيد بن وهب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري ورِبْعي بن حِراش، وغيرهم.
روى عنه: الأعمش، وسليمان التيمي، والثوري، وشعبة، وغيرهم.
وهو: ثقة ثبت، وثقه وأثنى عليه: الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والعجلي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وغيرهم، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، ومات سنة132هـ (9) .
__________
(1) معرفة الرجال لابن محرز 1/445
(2) الجرح والتعديل 5/181
(3) الموضع السابق.
(4) المعرفة والتاريخ1/347
(5) 8/353
(6) الكاشف 2/131
(7) سير أعلام النبلاء 10/257
(8) انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 9/93، الجرح والتعديل 1/126، 4/1609، والثقات 6/446، وتهذيب الكمال 2/581، وتهذيب التهذيب 4/338، والتقريب 2790
(9) انظر: طبقات ابن سعد 5/500، وتاريخ الدوري 4112، وسؤالات ابن محرز 645، والجرح والتعديل 8/778، والعلل لعبد الله بن الإمام أحمد 666، وترتيب ثقات العجلي 570، والثقات 7/473، وتهذيب الكمال 3/1376، والكاشف 1/302، وتهذيب التهذيب 10/277، والتقريب 6908(43/477)
* ورِبْعِي، هو: ابن حِراش – بكسر الحاء المهملة، وآخره معجمة- العبسي الكوفي أبو مريم.
روى عن: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وأبي مسعود، رضوان الله عليهم، وغيرهم.
وروى عنه: الشعبي، ومنصور بن المعتمر، وأبو مالك الأشجعي، وغيرهم.
وهو: ثقة عابد مخضرم، وثقه ابن سعد والعجلي، وغيرهما، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، ومات سنة 100هـ على خلاف (1) .
* وأبو مسعود، هو: عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه.
2 – الحكم عليه: مما سبق يتبين أنه إسناد صحيح، ولم يسمع الْقَعْنَبي من شعبة إلا هذا الحديث كما سيأتي في التخريج.
3 – لطائفه: إسناده كله عراقيون، وأبو مسعود نزل الكوفة قاله ابن سعد.
4 – تخريجه:
أخرجه ابن حبان عن أبي خليفة: الفضل بن الحُبَاب (2) .
وأبو داود، كلاهما عن: القَعْنَبي.
والبخاري عن آدم بن أبي إياس.
والطيالسي، وأحمد عن محمد بن جعفر، وروح بن عبادة (3) ، كلهم – القَعْنَبي، وآدم والطيالسي، ومحمد، وروح- عن شعبة.
وأخرجه أحمد عن سفيان الثوري (4) .
والبخاري من طريق زُهير بن معاوية، ثلاثتهم – شعبة، والثوري، وزُهير- عن منصور به بمثله، ورواية آدم عند البخاري بدون قوله: "الأولى ".
وسئل أبو داود: "أعند القَعْنَبي عن شعبة غير هذا الحديث؟ قال: لا " (5) ، وقال ابن حبان "ما سمع القَعْنَبي من شعبة إلا هذا الحديث " (6) .
5 – شرح قوله: "فاصنع ما شِئت ":
ذكر أهل العلم في معناها أقوال منها:
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد 6/127، والجرح والتعديل 3/2307، وترتيب ثقات العجلي 418، وتاريخ بغداد 8/433، والثقات 4/240، وتهذيب الكمال 1/401، والكاشف 3/177، وتهذيب التهذيب 3/205، والتقريب 1879
(2) كما في الإحسان 2/371/607
(3) 4/121
(4) 4/121
(5) في (40 كتاب الأدب، 6 باب في الحياء، 4797) .
(6) في الموضع السابق من الإحسان.(43/478)
أ – أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، وإلى هذا ذهب أبو العباس: أحمد بن يحيى ثعلب، والمعنى: إذا لم يكن حياء، فاعمل ما شئت فإن الله يجازيك عليه، ولهذا نظائره ومنه قول تعالى: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) ، وقوله: {فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} (2) (3)
ب – أنه بمعنى الخبر وإن كان لفظه لفظ الأمر، وإلى هذا ذهب أبو عبيد: القاسم بن سلام، والمعنى: من لم يستح صَنَعَ ما يشاء وانهمك في كل فاحشة ومنكر.
الحديث الرابع:
قال القَطِيعي: "حدثنا بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي، ثنا الفضل بن دُكَيْن، ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشَّعْبي، عن مسروق، قال: قالت عائشة: فتلت القلائد لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ".
وذكر ابن حجر أنه من زيادات القَطِيعي (4) .
1 – دراسة الإسناد:
* شيخ القَطِيعي، هو: أبو علي البغدادي.
روى عن: حفص بن عمر، والحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم.
روى عنه: إسماعيل الصَّفَّار، وأبو علي بن الصواف، والطبراني، والقَطِيعي، وغيرهم.
وهو: ثقة نبيل، وثقه الدارقطني، والخطيب البغدادي، والذهبي، وغيرهم، ومات سنة 288هـ (5) .
* والفضل بن دُكَين بن حماد التيمي مولاهم الأحول أبو نُعيم المُلاَئي الكوفي مشهور بكنيته، ودُكَين لقب أبيه، واسمه: عمرو، روى عن: الأعمش، والثوري، ومالك، وغيرهم.
__________
(1) فصلت، آية: 40
(2) الزمر، آية: 15
(3) انظر: معالم السنن للخطابي 4/109
(4) إطراف المُسْنِد المعتلي 9/229/12111، وبحثت عنه فلم أظفر به في المطبوع من مسند الإمام، وعدد من النسخ الخطية – المذكورة في ص 26-، وكذا لم يظفر به محقق: "إطراف المسند المُعتلي".
(5) انظر: سؤالات السلمي للدارقطني 74، والجرح والتعديل 2/367، وتاريخ بغداد 7/86، وطبقات علماء الحديث للصالحي 2/310/604، وتذكرة الحفاظ 2/611، وسير أعلام النبلاء 13/352(43/479)
روى عنه: البخاري، ومحمد بن عبد الله بن نُمير، وابن أبي شيبة، وغيرهم.
وهو: ثقة ثبت، وثقه وأثنى عليه: ابن سعد، وابن معين، وابن المديني، وأحمد، والعجلي، وأبو حاتم، وغيرهم، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، وذكر ابن المديني، وابن معين أن أوثق أصحاب الثوري: يحيى القطان، وابن مهدي، ووكيع، وابن المبارك، وأبو نُعيم-يعني: الفضل بن دُكَين-، ومات سنة 219هـ (1) .
* وزكريا بن أبي زائدة، هو: الهمداني الوادعي الكوفي أبو يحيى.
روى عن: أبي إسحاق السَّبيعي، وعامر الشعبي، وسماك بن حرب، وغيرهم.
روى عنه: الثوري، وشعبة، وابن المبارك، ويحيى القطان، وأبو نُعيم، وغيرهم.
وبالدراسة لحاله يتبين أنه: ثقة، وثقه: ابن سعد، والعجلي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، والبزار، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، وكان يدلس، قاله أبو حاتم، وقال أبو زرعة: " كان يدلس كثيراً عن الشعبي "، وجعله ابن حجر في المرتبة الثانية، ومات سنة 148هـ (2) .
* وعامر الشَّعْبي، هو: ابن شراحيل الكوفي أبو عمرو.
روى عن: علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وغيرهم رضوان الله عليهم.
روى عنه: أبو إسحاق السَّبِيعي، والأعمش، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم.
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد 6/400، ومعرفة الرجال لابن محرز 1/504، وسؤالات ابن هانئ للإمام أحمد 2164، والجرح والتعديل 7/61، وترتيب ثقات العجلي 1351، والثقات 7/319، وتهذيب الكمال 2/1096، وتهذيب التهذيب 8/243، والتقريب 5401
(2) انظر: طبقات ابن سعد 6/355، والعلل لعبد الله ابن الإمام أحمد 690، وسؤالات الآجُرِّي لأبي داود 545، والمعرفة والتاريخ 2/656، 3/109، وترتيب ثقات العجلي 460، والجرح والتعديل 3/594، والثقات 6/334، وتهذيب التهذيب 3/584، والتقريب 2022، وفتح الباري 1/126، 309، وتعريف أهل التقديس لابن حجر 47/62(43/480)
وهو: ثقة ثبت فقيه فاضل، وثقه وأثنى عليه: سفيان بن عيينة، والحسن البصري، وابن معين، وأبو زرعة، والعجلي، وغيرهم، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، ومات بعد 100هـ (1) .
* ومسروق، هو: ابن الأجدع بن مالك الهمْداني الوادعي الكوفي أبو عائشة.
روى عن: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ، وعائشة رضوان الله عليهم، وغيرهم.
وروى عنه: الشعبي، وإبراهيم النخعي، ومكحول، وغيرهم.
وهو: ثقة فقيه عابد مخضرم، وثقه ابن سعد، وابن معين، والعجلي، وغيرهم، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، ومات سنة 62هـ (2) .
2 – الحكم عليه: متن هذا الحديث معلول إذ قوله: "وهو محرم " يخالف المحفوظ من أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً حينذاك، والذي يظهر أن الوهم من القَطِيعي نفسه.
3 – تخريجه، وبيان وهم القَطِيعي فيه:
قال القَطِيعي في روايته لهذا الحديث: "وهو محرم " فخالف بذلك رواية الحفاظ له بهذا الإسناد وبغيره من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حلالاً ولم يكن محرماً.
والقَطِيعي نفسه قد رواه على الصواب في جزء الألف دينار بهذا الإسناد حيث قال: "حدثنا بشر قال: حدثنا أبو نُعيم، قال: حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي عن مسروق، عن عائشة قالت: فَتَلْت لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القلائد قبل أن يُحرم " (3) .
وأخرجه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد.
والبخاري عن أبي نُعيم (4) .
__________
(1) انظر: الجرح والتعديل 4/124، وترتيب ثقات العجلي 751، وسؤالات الآجري لأبي داود 68، والثقات 5/185، وتهذيب الكمال 2/642، وتهذيب التهذيب 5/57، والتقريب 3092
(2) انظر: طبقات ابن سعد 6/76، وتاريخ الدارمي 748، والجرح والتعديل 8/396، وترتيب ثقات العجلي 1561، والثقات 5/456، وتاريخ بغداد 13/232، وتهذيب الكمال 3/1320، وتهذيب التهذيب 10/100، والتقريب 6601
(3) 99/159
(4) في (25 كتاب الحج، 110 باب تقليد الغنم، 1704) .(43/481)
ومسلم عن ابن نمير (1) ، ثلاثتهم عن زكريا بن أبي زائدة، وصرح بالسماع عند الإمام أحمد.
وأخرجه أحمد، والدارمي، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والطحاوي، من طريق إسماعيل بن أبي خالد.
وأخرجه أحمد، ومسلم، وأبو يعلى، والطحاوي من طريق داود بن أبي هند، ثلاثتهم – زكريا، وإسماعيل وداود – عن عامر الشَّعْبي به.
وأخرجه مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن خزيمة من طريق عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه الحميدي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة من طريق الأسود، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه الحميدي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من طريق عروة، عن عائشة رضي الله عنها.
وروايات حديث عائشة رضي الله عنها كثيرة، وكلها تنص على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حلالاً ولم يحرم.
4 – شرح غريبه:
* قولها: "فَتَلْتُ "، الفَتْل: لَيُّ وبرْم شعبتي الحبل وهو الجَدْل قال الليث: "الفتل: لي الشيء كليك الحبل " (2) ، وقال صاحب القاموس: "أَبْرَم الحبل: جعله طاقَيْن ثم فتله " (3) ، وقال أيضاً: "جدله يجدله: احكم فَتْلَه " (4) .
__________
(1) في (7 كتاب الحج، 64 باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم، 1321) .
(2) كما في تهذيب اللغة مادة: فتل 14/289
(3) مادة: برم: 1394
(4) مادة: جدل: 1260(43/482)
* وقولها: "القلائد "، هي: الحبال من الصوف التي تُعلق في عنق الهدي ليعرف أنه هدي، قال أبو عبد الله: محمد بن أبي نصر الحميدي – ت488هـ-: "قلائد الهدي: ما يُعلّق في عنقه ليُعلم أنه هدي " (1) ، وقال القاضي عياض – ت544هـ-: "تقليد الهدي وقلائد الهدي هو: أن يعلق في عنقه نعل أو جلدة أو شبه ذلك علامة له " (2) ، وهي هنا من الصوف بدليل ما جاء في رواية القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: "فَتَلْتُ قلائدها من عِهْن كان عندي " (3) ، والعِهْن: الصوف، قال الحميدي: "العِهْن: الصوف الملون، الواحدة عِهْنَة، وهي القطعة من العِهْن " (4) .
الخاتمة
تظهر من خلال هذه الدراسة عدة نتائج يتم إجمال أهمها فيما يلي:
1. حاجة أبواب علم مصطلح الحديث إلى الإكمال، وذلك بأن يضاف إليها ما يتعلق بمعرفة زيادات رواة الكتب على مؤلفيها، وتعد زيادات القَطِيعي على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله مثالاً لها.
2. إن غاية أكثر هؤلاء الرواة – أصحاب الزيادات- أداء ما سمعوا ونقل الأحاديث دون تمييز بين الثابت وغيره؛ لأنهم ليسوا من الأئمة النقاد الذين يعنون بانتقاء مروياتهم، ويعرفون أحوال الرواة.
3. إن للقَطِيعي زيادات قليلة على مسند الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، بلغت أربعة أحاديث.
4. إنه روى أكثرها بأسانيد واهية، ويروي عن شيوخ له اتهموا بالكذب، وفيها من الرواة كذلك.
__________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين 503
(2) مشارق الأنوار 2/184
(3) أخرجه البخاري في (25 كتاب الحج، 111 باب القلائد من العِهْن، 1705) ، ومسلم في (7كتاب الحج، 64 باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم، 1321) وغيرها.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين 505(43/483)
5. إن تقدم وفاة المعدِّل على وفاة الراوي، من أسباب خفاء حاله على المعدِّل عند تعارض الجرح والتعديل في الراوي، وسبق أن الإمام أحمد حسن حال: محمد بن يونس الكُدَيمي مع أن جمهور الأئمة على خلافه، وهو محمول على أن الإمام أحمد وثقه بناء على ما علمه من حاله قبل وفاته، إذ توفي قبله بخمس وأربعين سنة، وهي المدة التي تبين فيها حاله لغالب الأئمة الذين رموه بالكذب.
6. الأصل اتصال رواية الثقة الذي لم يوصف بالتدليس عمن عاصره بحيث يمكن سماعه منه، أو سمع منه إلا إذا نص أحد الأئمة النقاد على أن هذا الراوي لم يسمع من شيخه إلا أحاديث معدودة، مثل الْقَعْنَبي، فقد نص أبو داود وغيره على أنه لم يسمع من شيخه شعبة إلا حديثاً واحداً (1) .
7. ضرورة التنبيه عند دراسة كتب الرواية إلى ما هو أصيل من صنيع صاحب الكتاب، وإلى ما هو زيادات عليه، حتى يَصْدُق الحكم على تلك الكتب، وتُعرف مناهج أصحابها وشروطهم، ونحو ذلك.
المراجع
القرآن الكريم.
إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، لأحمد بن أبي بكر البوصيري، تحقيق: عادل السعد، نشر: مكتبة الرشد في الرياض، الطبعة الأولى 1419هـ.
إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: د. زهير الناصر، نشر: الجامعة الإسلامية في المدينة، الطبعة الأولى 1415هـ.
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لعلي بن بلبان الفارسي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، نشر: مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
الإرشاد في معرفة علماء الحديث، لأبي يعلى: الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني، تحقيق: د. محمد سعيد عمر، نشر: مكتبة الرشد في الرياض، الطبعة الأولى 1409هـ.
__________
(1) انظر: ص: 38 من هذا البحث.(43/484)
الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، للحافظ أبي عمر: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، تحقيق: الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، نشر: مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ.
إطراف المُسْنِد المُعْتَلي بأطراف المُسْنَد الحنبلي، للحافظ ابن حجر، تحقيق: د. زهير ابن ناصر الناصر، نشر: دار ابن كثير في دمشق، الطبعة الأولى 1414هـ.
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، لأبي سليمان: حمد بن محمد الخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعد آل سعود، الطبعة الأولى 1409هـ.
الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، لابن ماكولا، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، نشر: محمد أمين، في بيروت.
الأنساب، للسمعاني، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، نشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية في الهند، الطبعة الأولى 1383هـ.
اختصار علوم الحديث، لأبي الفداء: إسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي – مع الباعث الحثيث، لأحمد شاكر -، نشر: دار العاصمة في الرياض، الطبعة الأولى 1415هـ.
البحر الزخار المعروف بمسند أبي بكر: أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، نشر: مكتبة العلوم والحكم في المدينة، الطبعة الأولى 1414هـ.
البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير، تحقيق: د. أحمد أبو ملحم، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
برنامج محمد بن جابر الوادي آشي، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، نشر: مركز البحوث العلمي في مكة المكرمة، طبعة 1401هـ.
تأريخ أسماء الضعفاء والمتروكين، لأبي جعفر: عمر بن أحمد بن شاهين، تحقيق: د. عبد الرحيم القشقري، الطبعة الأولى 1409هـ.
التأريخ الأوسط، لأبي عبد الله: محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد بن إبراهيم اللحيدان، نشر: دار الصميعي في الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ.(43/485)
التأريخ الكبير، لأبي عبد الله: محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، نشر: دار الكتب العلمي في بيروت.
تأريخ بغداد، لأبي بكر: أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت.
تأريخ عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين، تحقيق: د. أحمد محمد نور سيف، نشر: دار المأمون للتراث في دمشق.
التأريخ، ليحيى بن معين، رواية الدوري، تحقيق: د. أحمد محمد نور سيف، نشر: مركز البحث العلمي في جامعة الملك عبد العزيز في مكة، الطبعة الأولى 1399هـ.
تجريد أسانيد الكتب المشهورة، انظر: المعجم المفهرس.
التدوين في أخبار قزوين، لعبد الكريم بن محمد الرافعي القزويني، تحقيق: عزيز الله العطاردي، نشر: المطبعة العزيزية في الهند، 1404هـ.
تذكرة الحفاظ، لأبي عبد الله: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، نشر: دار الفكر العربي.
التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة، للحسيني، تحقيق: د. رفعت فوزي، نشر: مكتبة الخانجي في القاهرة، الطبعة الأولى 1418هـ.
ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد بن حنبل في مسنده، للحافظ أبي القاسم: علي بن الحسين ابن عساكر، تحقيق: د. عامر صبري، نشر: دار البشائر الإسلامية في بيروت، الطبعة الأولى 1409هـ.
ترتيب تأريخ ثقات أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: د. إكرام الله امداد، نشر: دار البشائر الإسلامية في بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ.
تغليق التعليق على صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: سعيد عبد الرحمن القزقي، نشر: المكتب الإسلامي في الأردن، الطبعة الأولى 1405هـ.(43/486)
تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، لأبي عبد الله: محمد بن أبي نصر الحميدي، تحقيق: د. زُبيدة محمد سعيد، نشر: مكتبة السنة في القاهرة، الطبعة الأولى 1415هـ.
تقريب التهذيب، لابن حجر، تحقيق: محمد عوامة، نشر: دار الرشيد في حلب، الطبعة الأولى 1406هـ.
التقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد، لأبي بكر: محمد بن عبد الغني ابن نفطة، طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية في الهند، الطبعة الأولى 1404هـ.
التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، لعبد الرحمن بن الحسين العراقي، نشر: دار الحديث في بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني، نشر: دار الفكر في بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ.
تهذيب اللغة، لأبي منصور: محمد بن أحمد الأزهري، نشر: دار القومية العربية في مصر، طبعة 1384هـ، الطبعة الأولى 1404هـ.
تهذيب الكمال، لأبي الحجاج: يوسف المزي، تحقيق: د. بشار عواد، نشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418هـ.
الثقات، للحافظ ابن حبان، نشر: مكتبة مدينة العلم في مكة، الطبعة الأولى 1399هـ.
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، لأبي الفرج: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، نشر: مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ.
الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل، لأبي عيسى: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، نشر: دار السلام في الرياض، بإشراف معالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – مع موسوعة الكتب الستة-.
الجامع المسند الصحيح المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، لأبي عبد الله: محمد بن إسماعيل البخاري، نشر: بيت الأفكار الدولية في الرياض، طبعة 1419هـ.(43/487)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، لأبي بكر: أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: محمود الطحان، نشر: مكتبة المعارف في الرياض، طبعة 1403هـ.
الجرح والتعديل، لأبي محمد: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1372هـ.
جزء الألف دينار وهو الخامس من الفوائد المنتقاة والأفراد الغرائب الحسان، لأبي بكر: أحمد بن جعفر بن حمدان القَطِيعي، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، نشر: دار النفائس في الكويت، الطبعة الأولى 1414هـ.
حلية الأولياء، لأبي نعيم: أحمد بن عبد الله الأصبهاني، نشر: دار الكتاب العربي في بيروت، الطبعة الثالثة 1400هـ.
خصائص المسند، لأبي موسى: محمد بن عمر المديني، تحقيق: أحمد محمد شاكر، نشر: دار المعارف في مصر 1377هـ، في مقدمة مسند الإمام أحمد.
ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم: أحمد بن عبد الله الأصبهاني، نشر: الدار العلمية في الهند، الطبعة الثانية 1405هـ.
الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، لمحمد بن جعفر الكتاني، نشر: دار البشائر الإسلامية في بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ.
زوائد عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسند، للدكتور عامر حسن صبري، نشر: دار البشائر الإسلامية في بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ.
سؤالات أبي إسحاق: إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، ليحيى بن معين، تحقيق: أحمد بن محمد نور سيف، نشر مكتبة الدار في المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1408هـ.
سؤالات أبي بكر: أحمد بن محمد البرقاني، للدارقطني، تحقيق: د. عبد الرحيم القشقري، نشر: خانة جميلي في باكستان، الطبعة الأولى 1404هـ.
سؤالات أبي عبد الرحمن: محمد بن الحسين بن محمد السَلمي، للدارقطني في الجرح والتعديل، تحقيق: سليمان آتش، نشر: دار العلوم في الرياض 1408هـ.(43/488)
سؤالات أبي عُبيد الآجري، لأبي داود السجستاني، تحقيق: د. عبد العليم بن عبد العظيم، نشر: دار الاستقامة في مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1418هـ.
سؤالات حمزة بن يوسف السهمي، للدارقطني، تحقيق: موفق عبد الله بن عبد القادر، نشر: مكتبة المعارف في الرياض، الطبعة الأولى 1404هـ.
سنن أبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، نشر: دار السلام في الرياض، بإشراف معالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – مع موسوعة الكتب الستة-.
سنن أبي عبد الله: محمد بن يزيد ابن ماجه، نشر دار السلام في الرياض بإشراف معالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – مع موسوعة الكتب الستة-.
سنن النسائي الصغرى، لأبي عبد الرحمن: أحمد بن شعيب النسائي، نشر: دار السلام في الرياض، بإشراف معالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – مع موسوعة الكتب الستة-.
سير أعلام النبلاء، لأبي عبد الله: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، نشر: مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، نشر: دار الآفاق في بيروت.
شرح معاني الآثار، لأبي جعفر: أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، تحقيق: محمد زهري النجار، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ.
صحيح أبي بكر: محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، نشر: المكتب الإسلامي في بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ.
صحيح البخاري، انظر: الجامع الصحيح المختصر.
صحيح الترغيب والترهيب، لمحمد بن ناصر الدين الألباني، نشر: المكتب الإسلامي في بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ.
صحيح مسلم، انظر: المسند الصحيح المختصر.
الضعفاء الكبير، لأبي جعفر: أحمد بن عمرو العقيلي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ.(43/489)
الضعفاء والمتروكين، لأبي الحسن: علي بن عمر الدارقطني، تحقيق: موفق عبد الله بن عبد القادر، نشر: مكتبة المعارف في الرياض، الطبعة الأولى 1404هـ.
الضعفاء والمتروكين، لأبي الفرج: عبد الرحمن بن علي الجوزي، تحقيق: عبد الله القاضي، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ.
طبقات الحنابلة، للقاضي أبي الحسن محمد بن أبي يعلي، نشر: دار المعرفة في بيروت.
طبقات علماء الحديث، لابن الهادي، تحقيق: أكرم البوشي، نشر: دار إحياء الكتب العربية في مصر.
الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد، نشر: دار بيروت، في بيروت 1400هـ.
العلل الواردة في الحديث النبوي، للدارقطني، تحقيق: د. محفوظ الرحمن السلفي، نشر: دار طيبة في الرياض، الطبعة الأولى 1405هـ.
العلل ومعرفة الرجال، لأبي عبد الله: أحمد بن حنبل الشيباني، رواية ابنه عبد الله، تحقيق: وصي الله عباس، نشر: المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1408هـ.
علم زوائد الحديث، للدكتور خلدون الأحدب، نشر: دار القلم في دمشق، الطبعة الأولى 1413هـ.
علوم الحديث، لأبي عمرو: عثمان بن عبد الرحمن الشَّهْرَزوري ابن الصلاح، تحقيق: نور الدين عتر، نشر: دار الفكر في دمشق، 1406هـ.
غريب الحديث، للإمام الحربي، تحقيق: د. سليمان العايد، نشر: دار المدني في جدة، الطبعة الأولى 1405هـ.
فتح الباري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب، نشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.
الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، للعلامة: أحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، نشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية.
فضائل الصحابة، للإمام أحمد، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، نشر: مركز البحث العلمي في مكة، الطبعة الأولى 1403هـ.
فهرسة، لأبي بكر: محمد بن خير الأموي الأشبيلي، نشر: مطبعة قومش في سرقطة، 1893هـ.(43/490)
الفوائد المنتقاة والأفراد، انظر: جزء الألف دينار.
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، نشر: دار البيان في دمشق، الطبعة الأولى 1405هـ.
القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، نشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1406هـ.
الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، لأبي عبد الله: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: عزت علي عيد عطية، نشر دار الكتب الحديثة في القاهرة، الطبعة الأولى 1392.
الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد: عبد الله بن عدي الجرجاني، نشر: دار الفكر في بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ.
لسان العرب، لأبي الفضل: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، نشر: دار صادر في بيروت.
لسان الميزان، لابن حجر، نشر: دار الفكر في بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، لأبي حاتم: محمد بن حبان البستي، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، نشر: دار الوعي في حلب.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، نشر: دار الكتاب العربي في بيروت، الطبعة الثانية 1402هـ.
المجمع المُؤسس للمعجم المفهرس، للحافظ ابن حجر، تحقيق: د. يوسف المرعشلي، نشر: دار المعرفة في بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ.
مسائل عبد الله بن الإمام أحمد: انظر: العلل ومعرفة الرجال.
المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل، لأبي الحسين: مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي في بيروت.
مسند أبي بكر: عبد الله بن الزبير الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، نشر: عالم الكتب في بيروت.
مسند أبي داود الطيالسي – سليمان بن داود-، نشر دار المعرفة في بيروت.
مسند أبي محمد: عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، تحقيق: عبد الله هاشم، نشر: حديث أكاديمي في باكستان 1404هـ.(43/491)
مسند أبي يعلى الموصلي – أحمد بن علي المثنى-، تحقيق: حسين سليم أسد، نشر: دار المأمون للتراث في دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ.
مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، نشر: دار صادر في بيروت.
مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض اليحصبي، نشر: المكتبة العتيقة في تونس.
المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد، لابن الجزري، المطبوع في أول مسند الإمام أحمد، تحقيق: أحمد شاكر، نشر: دار المعارف في مصر 1377هـ.
مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، نشر: المكتب الإسلامي في بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ.
المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: أيمن أبويماني، وأشرف صلاح علي، نشر: مؤسسة قرطبة 1418هـ.
معالم السنن – شرح سنن أبي داود –، لأبي سليمان: حمد بن محمد الخطابي، نشر: المكتبة العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1401هـ.
المعجم المفهرس أو تجريد أسانيد الكتب المشهورة والأجزاء المنثورة –، لأبي الفضل: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد شكور، نشر: مؤسسة الرسالة في بيروت الطبعة الأولى 1418هـ.
معرفة الرجال، ليحيى بن معين، رواية أحمد بن محمد بن مُحْرِز، تحقيق: محمد كامل القصار، نشر: مجمع اللغة العربية في دمشق 1405هـ.
المعرفة والتأريخ، لأبي يوسف: يعقوب بن سفيان البسوي، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، نشر مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ.
المغني في الضعفاء، لأبي عبد الله: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: د. نور الدين عتر.
المنتظم في تأريخ الأمم والملوك، لأبي الفرج: عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق: نعيم زرزور، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت.
منهاج السنة في نقض كلام الشيعة والقدرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، نشر: مكتبة الرياض الحديثة في الرياض.(43/492)
موطأ الإمام مالك بن أنس، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال لأبي عبد الله: محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: علي البجاوي، نشر: دار المعرفة في بيروت.
النكت على كتاب ابن الصلاح، لأبي الفضل: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: مسعود عبد الحميد السعدني، نشر: دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ.
النكت على مقدمة ابن الصلاح، للزركشي، تحقيق: زين العابدين بن محمد، نشر دار أضواء السلف في الرياض، الطبعة الأولى 1419هـ.
النهاية في غريب الحديث، لأبي السعادات ابن الأثير، تحقيق: طاهر الزاوي، نشر: المكتبة العلمية في بيروت.(43/493)
سد الذرائع في مسائل العقيدة
على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة
تأليف
الدكتور/ عبد الله شاكر محمد الجنيدى
رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين
بالقنفذة - السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى0
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله0
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3)
أما بعد:
__________
(1) آل عمران / آية: 102.
(2) النساء / آية: 1.
(3) الأحزاب / آية: 70، 71.(43/494)
فلعل من نافلة القول ومكرور الكلام أن يقال: إن التوحيد وإفراد الله بجميع أنواع العبادة أساس دعوة الأنبياء والمرسلين فما من نبي بُعث في قومه إلا أمرهم به ودعاهم إليه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) ، وهو مفتتح دعوة الأنبياء والمرسلين، فكل منهم قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، والمتتبع لكتاب الله الكريم يجد هذا واضحاً فيه غاية الوضوح، كما أنه كان من أعظم ما اعتنى به نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم حيث مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يركز ويكرر ويؤكد الدعوة إلى هذا التوحيد، ثم بعد هجرته كان ينافح ويدافع ويزيل العقبات التي تعترض طريقه حتى يُبَلَّغ ما أوحى الله به ويدخل الناس بهذا التوحيد إلى الدين الذي ارتضاه الله لهم، ووضع القواعد اللازمة لصيانته، وقضى على كل وسيلة مفضية إلى الإخلال به، وسدَّ كل ذريعة يمكن أن تؤدى إلى شائبة فيه – كما سيتضح من خلال هذا البحث – إن شاء الله تعالى – وهذا من كمال الشريعة ومقاصدها الحميدة0
__________
(1) الأنبياء / آية: 25.(43/495)
يقول العلامة ابن القيم – رحمه الله -: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهى مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرَّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء" 0
ولأهمية هذا الموضوع وتجليته، وعدم وجود كتاب يجمع شتات ما تفرق من أقوال لعلماء السلف فيه0 استعنت الله عز وجل في الكتابة حوله سائلا العلى الأعلى أن ينفع به0
وقد تضمن البحث بعد هذه المقدمة والتمهيد خمسة فصول وخاتمة، وبيان ذلك فيما يلي:
- المقدمة: وقد بينت فيها أهمية دراسة هذا الموضوع والكتابة حوله0
- التمهيد: وقد بينت فيه مفهوم الذريعة، والأدلة على وجوب سدها من القرآن والسنة وأقوال بعض الأئمة0
- الفصل الأول: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأكبر0
وتحته ثلاثة مباحث:
1- المبحث الأول: تعريف الشرك الأكبر وبيان خطورته0
2- المبحث الثاني: بعض الآيات والأمثلة المتعلقة بسد الذرائع إلى الشرك الأكبر0
3- المبحث الثالث: بعض أحاديث سد الذرائع المتعلقة بالشرك الأكبر0
- الفصل الثاني: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأصغر0
وتحته مبحثان:
1- المبحث الأول: سد الذرائع في الألفاظ0
2- المبحث الثاني: سد الذرائع في الأعمال0
- الفصل الثالث: سد الذرائع في توحيد المعرفة والإثبات0
وتحته مبحثان:
1- المبحث الأول: سد الذرائع في مضاهاة أفعال الله تعالى0(43/496)
2- المبحث الثاني: سد الذرائع في توحيد الأسماء والصفات0
- الفصل الرابع: سد الذرائع المتعلق بالنبوة والرسالة0
وتحته أربعة مباحث:
1- المبحث الأول: تأييد الأنبياء بمعجزات لا تحصل لغيرهم0
2- المبحث الثاني: النهى عن المفاضلة بين الأنبياء0
3- المبحث الثالث: إرسال المرسلين بلسان أقوامهم ليعقلوا خطابهم0
4- المبحث الرابع: نهى المؤمنين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "راعنا"0
- الفصل الخامس: سد الذرائع المتعلق بالإمامة والخروج على الحاكم0
وتحته مبحثان:
1- المبحث الأول: وجوب تنصيب إمام واحد والاجتماع عليه0
2- المبحث الثاني: ترك الخروج على الحاكم وطاعته في غير معصية الله0
الخاتمة:
هذا وقد جعلته بين التطويل الممل والتقصير المخل، مع رغبة في العودة إليه عند فسحة من الوقت0
وأسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يثيبني عليه خيرا يوم الدين، وأن يغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين0
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين0
كتبه
أبو محمد
د/ عبد الله شاكر محمد الجنيدي
في مساء يوم السبت الرابع من شهر ربيع الثاني
عام 1420 هـ0
الموافق 17/7/1999م 0
التمهيد: ويشتمل على ما يلي:
1- تعريف الذريعة ومفهوم سد الذرائع0
2- الأدلة على وجوب سد الذرائع0
أولاً: تعريف الذريعة:
الذريعة: هي الوسيلة والسبب إلى الشيء، وأصلها عند العرب: الناقة التي يستتر بها رامي الصيد حتى يصل إلى صيده (1)
قال ابن تيمية: "والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم" 0
وقال الشاطبي: "حقيقة الذريعة: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة" 0
__________
(1) لسان العرب جـ8/96، والقاموس المحيط جـ3 /24.(43/497)
والذرائع بذلك تختلف عن الحيل، فسد الذرائع مطلوب، والحيل محرمة لا تجوز، لأن حقيقتها: تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة (1)
قال ابن تيمية:"واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق، والمحتال يريد أن يتوسل إليه" 0
وقال ابن القيم: "وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه" 0
ثانياً: الأدلة على وجوب سد الذرائع:
دل القرآن والسنة والإجماع على وجوب سد الذرائع وإليكم بعض ما جاء من ذلك0
أولاً: أدلة القرآن الكريم:
1- قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2)
ووجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى نهى المؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهى سب المشركين لله عز وجل، فكان النهى سدَّا لهذه الذريعة، وهذا دليل على المنع من الجائز إذا كان يؤدى إلى محرم0
قال القرطبي:"في هذه الآية ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع" 0
ونقل القاسمي عن بعض العلماء قوله في الآية:"إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله، أو رسوله، أو القرآن لم يجز أن يُسَبُّوا ولا دينهم، قال: وهى أصل في قاعدة سد الذرائع" 0
وقال الشيخ/ عبد الرحمن السعدي:"وفى هذه الآية الكريمة دليل للقاعدة الشرعية، وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة إذا كانت تفضي إلى الشر" 0
__________
(1) المرجع السابق جـ3 /201.
(2) الأنعام / آية: 108.(43/498)
2- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
ووجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى نهى المؤمنين عن كلمة "راعنا"، ومعناها عندهم راعنا سمعك، أي: اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه ونراجعك فيه، وهذا معنى صحيح، ولكن الله نهاهم عنها سدا للذريعة، لأن اليهود كانوا يقولونها لاوين بها ألسنتهم، لتوافق كلمة شتم عندهم، أو نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرعونة0
وسيأتي كلام على هذه الآية – إن شاء الله تعالى – في الفصل الخامس من هذا البحث0
ثانياً: الأدلة من السنة النبوية:
1- عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" (2)
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرجل لاعنا لأبويه إذا كان سببا في ذلك، وإن لم يقصده 0
قال النووى – رحمه الله – في شرحه للحديث:"فيه دليل على أن من تسبب في شيئ جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء، وإنما جعل هذا عقوقاً لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيا ليس بالهين، وفيه قطع الذرائع، فيؤخذ منه النهى عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر، والسلاح ممن يقطع الطريق ونحو ذلك0 والله أعلم" 0
__________
(1) البقرة / آية: 104.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب 4 جـ10 /403،ومسلم كتاب الإيمان باب 38 ط/92 وأبو داود في كتاب الأدب باب 129 جـ5 /352.(43/499)
وقال ابن حجر:"قال ابن بطال: هذا الحديث أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في هذا الحديث: قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1)
2- قال عبد الله بن أبى بن سلول في غزوة بنى المصطلق:"أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" (2)
ووجه الدلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، أنه كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة لتنفير الناس عنه وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه0
يقول ابن تيمية في ذلك:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام" 0
ثالثاً: الإجماع:
أجمع الصحابة على بعض المسائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوب سد الذرائع، وقد اعتبرها أهل العلم أدلة على سد الذرائع واحتجوا بها، كما عمل بها كثير من الأئمة، وإليكم بعض الأدلة0
1- إن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت، حيث يتهم بقصد حرمانها من الميراث بلا تردد، وإن لم يقصد الحرمان، لأن الطلاق ذريعة وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف (3)
__________
(1) فتح البارى شرح صحيح البخاري جـ10 /404.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير جـ8 /648، ومسلم في كتاب البر باب 16 جـ4 /1998.
(3) انظر مجموعة الفتاوى الكبرى لابن تيمية جـ4 /143.(43/500)
وقد رجح ابن قدامة توريثها فقال:"وإن كان الطلاق في المرض المخوف، ثم مات من مرضه ذلك في عدتها ورثته، ولم يرثها إن ماتت، وروى عن عتبة بن عبد الله بن الزبير لا ترث مبتوته، ولنا: أن عثمان – رضي الله عنه – ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرضه فبتها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا" 0
2- إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – وعامة الفقهاء على قتل الجماعة بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، قال ابن قدامة:"ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدى إلى إسقاط حكمة الردع والزجر" 0
وقد تتابع كثير من العلماء على اعتبار سد الذرائع، وحكَّمها الإمام مالك في أكثر أبواب الفقه، كما ذكر الشاطبي (1) ، وقال بعد أن ذكر خلافا بين الإمامين مالك والشافعي:"فقد ظهر أن قاعدة سد الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة" 0
وقال ابن بدران:"سد الذرائع هو مذهب مالك وأصحابنا" 0 يعنى الحنابلة0
وقد قال بها ابن تيمية، وذكر لها ثلاثين شاهدا من الشريعة يدل عليها (2) ، وتوسع ابن القيم فذكر تسعة وتسعين دليلا عليها، وختم كلامه بقوله:"ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة، وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهى، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهى نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه0 والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين" 0
الفصل الأول: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأكبر
المبحث الأول: تعريف الشرك الأكبر وبيان خطورته
__________
(1) الموافقات جـ4 /198.
(2) مجموعة الفتاوى الكبرى جـ3 /138 – 145.(44/1)
الشرك الأكبر: هو أن يجعل العبد لله شريكاً وندا في ربوبيته وإلهيته، وأغلب شرك المشركين وقع في توحيد الإلهية كدعاء غير الله، أو صرف أي لون من ألوان العبادة لغير الله كالذبح والنذر والخوف والرجاء والمحبة وما إلى ذلك0
والشرك بالله أعظم ذنب عصى الله به، فهو أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وما هلكت الأمم الغابرة وأعدت لهم النيران في الآخرة إلا بالشرك، وما أرسل الله الأنبياء والمرسلين وأنزل عليهم الكتب بالحق المبين إلا للتحذير منه وبيان قبحه وشؤمه، ودعوة الناس إلى ضده ألا وهو تحقيق التوحيد لله رب العالمين0
والشرك خطره عظيم وضرره على العبد كبير، وذلك للأسباب التالية:
1- لأنه تشبيه للمخلوق العاجز الضعيف بالواحد الأحد المتفرد بالجلال والكمال، ومن أشرك مع الله أحدا فقد شبهه به، وهذا أعظم الظلم كما في الصحيحين (1) 0 من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال النووى: "الند: الضد والشبه، وفلان ند فلان ونديده ونديدته أي: مثله.. أما أحكام هذا الحديث: ففيه أن أكبر المعاصي الشرك، وهذا ظاهر لا خفاء فيه" 0
2- أن الله لا يغفر لمشرك مات على الشرك دون توبة0 قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2)
3- أن الله حرم الجنة على كل مشرك 0 قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في مواضع منها كتاب التفسير باب 3 جـ8 /163، وكتاب التوحيد باب 46 جـ13/503، ومسلم كتاب الإيمان0 باب كون الشرك أقبح الذنوب جـ1 /90.
(2) النساء / آية: 48،117.
(3) المائدة / آية: 72.(44/2)
4- أن الشرك يحبط جميع الأعمال التي يعملها العبد، وتصير هباءً منثوراً في يوم الدين 0قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (1)
المبحث الثاني: بعض الآيات والأمثلة المتعلقة بسد الذرائع إلى الشرك الأكبر0
بعد الوقوف على خطورة الشرك الأكبر ومفاسده وأضراره أتعرض لذكر نماذج يسيرة من القرآن والسنة جاء بها الشرع الحكيم لقطع علائق الشرك كله وما يؤدى إليه، حتى يتبين لنا كيف أن الإسلام سدَّ الذرائع المؤدية إلى الشرك، وأحكم الحديث في هذا الباب أيما إحكام ليحذر العباد من الشرك ومن الوسائل المفضية إلى حصوله ووقوعه، فمن ذلك:
1- الآيات الدالة على عبودية عيسى – عليه السلام – وأنه بشر رسول مخلوق، ليس بإله، أو فيه جزء من الإله، أو أنه ابن الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا-، وذلك سدَّا لذريعة الشرك، واتخاذه إلها من دون الله أو مع الله، ودفعا لأي شبهة ترد على الطريقة التي خلق بها 0 قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2)
__________
(1) الزمر / آية: 65، 66.
(2) آل عمران / آية: 59.(44/3)
قال ابن تيمية:"فأعنى بقوله {مَثَلَ عِيسَى} إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة، لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشرى على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، وهذا كله يبين به أن المسيح عبدُ ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم" 0
وقال ابن كثير:"يقول تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب {كَمَثَلِ آدَمَ} فإنه الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقاً من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريقة الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا، ولكن الرب عز وجل أراد أن يظهر قدرته حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق البرية من ذكر وأنثى" 0
ويقرر ربنا في آيات أخرى بشرية عيسى وأمه – عليهما السلام- وأنهما من جنس البشر، ويسلكان في الطبيعة البشرية ما يسلكه غيرهم0 قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1)
__________
(1) المائدة / آية: 79.(44/4)
يعنى أن عيسى رسول من رسل الله تعالى الذين أرسلوا لهداية البشرية ودعوتها إلى توحيد الله وعبادته، وأمه صديقة من فضليات النساء، وحقيقتهما مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما بدليل أنهما كان يأكلان الطعام، وكل من يأكل الطعام فهو مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويمد حياته، إلى جانب أن أكل الطعام يستلزم الحاجة إلى دفع الفضلات، وعليه فلا يمكن أن يكون ربا خالقا، ولا ينبغي أن يكون ربا معبودا0
قال الشوكاني في تفسيره للآية: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ، أي: هو مقصور على الرسالة لا يجاوزها كما زعمتم، وجملة {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} صفة لرسول، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلها، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها، فإن الله أحيا العصا في يد موسى، وخلق آدم من غير أب، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلها، فإن كان كما تزعمون إلها لذلك، فمن قبله من الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة، وأنتم لا تقولون بذلك 0 قوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} عطف على المسيح، أي: وما أمه إلا صديقة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء0 قوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر: أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب، بل هو عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون ربا" 0(44/5)
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره:"أي: هذا غاتيه ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر، ولا من التشريع إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية، {وَأُمُّهُ} مريم {صِدِّيقَةٌ} أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء، فإذا كان عيسى – عليه السلام – من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيئا تخذهما النصارى إلهين مع الله؟، وقوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغنى الحميد" 0
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (1) وأن مريم ولدت إلها، ولذلك رد الله عليهم هذا البهتان وعليه فكيف يدَّعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم كما أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه (2)
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (3)
__________
(1) المائدة /آية:72.
(2) انظر الدين الخالص لصديق حسن خان جـ1 /25.
(3) المائدة /آية:116، 117(44/6)
قال القاسمي في تفسيره:"لا ذكر تعالى أنه يعدد نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة إشعاراً بعبوديته، فإن كل واحد من تلك النعم المعدودة عليه، تدل على أنه عبد وليس بإله ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره – عليه السلام – على رؤوس الأشهاد بالعبودية، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل إكذابا لهم في افترائهم عليه، وتثبيتا للحجة على قومه، فهذا سر سؤاله تعالى له، مع علمه بأنه لم يقل ذلك، وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومن تأثر بهم على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم" 0
ومثل ذلك ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (1)
قال ابن كثير في تفسيره:"ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده: أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربهم وربه وأمرهم بعبادته فقال: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي: قويم0 من اتبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضل وغوى" 0
وعن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد لله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" (2)
2- الآيات الدالة على عبودية النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) مريم الآيات من 30 – 36.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب 47 جـ6 /474، ومسلم كتاب الإيمان جـ1 /58،59، وأحمد في مسنده جـ5 /313،314.(44/7)
جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل وترشد إلى حقيقة هامة ألا وهى أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر، ولكنه فضل عليهم بالنبوة والرسالة التي توجب محبته وطاعته والانقياد لأمره صلى الله عليه وسلم، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو والإطراء في شخصه، وذلك سدَّا لذريعة اتخاذه شريكا مع الله، أو صرف أي لون من ألوان العبادة له صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) 0 ولهذا كانت العبودية هي أشرف مقام للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خاطبه ربه بها في أشرف المناسبات وأعظم المقامات قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (2) ، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (3) 0 وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (4) ، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (5)
وإذا كان رسول رب العالمين الذي هو أكمل الخلق وأقربهم إلى الله عز وجل لا يملك ضرا ولا رشدا بنص كتاب الله الكريم فغيره من سائر الخلق ممن هم دونه صلى الله عليه وسلم من باب أولى وأحرى، بل إنه صلى الله عليه وسلم ما سبق غيره إلا بكمال عبوديته لربه0
__________
(1) الأعراف / آية: 188.
(2) الإسراء / آية: 1.
(3) الكهف / آية: 1.
(4) الفرقان / آية: 1.
(5) الجن / الآيات من 19 – 21.(44/8)
قال ابن القيم: "أكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" (1) ، وكان يدعو:"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (2) ، يعلم صلى الله عليه وسلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئاً، وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء، وهو يتلو قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (3) ، فضرورته صلى الله عليه وسلم إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده..، ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم جاها وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه ….، وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته، مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (4) 0وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (5) 0 وفى حديث الشفاعة:"أن المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (6) ، فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له" 0 وللعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – كلام جميل على هذا الموضوع يحسن إيراد شيئا منه هنا لتتم الفائدة0 قال وهو يفسر أوائل سورة الحجرات: "مسألتان: الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي صلى
__________
(1) أخرجه أبوداود في كتاب الأدب باب 11 جـ5 /326، وأحمد في مسنده جـ5 /42.
(2) أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات جـ9 /504، ومسند أحمد جـ3 /257،والسنة لابن ابى عاصم جـ1 /101، والآجرى في الشريعة /317.
(3) الإسراء / آية: 74.
(4) الإسراء / آية:1.
(5) الجن / آية: 19.
(6) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب 19 جـ13/ 392، ومسلم كتاب الإيمان باب 84 جـ1 /180، 181.(44/9)
الله عليه وسلم المشعر بالغض منه، أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به، أو الاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله، وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (1)
المسألة الثانية: وهى من أهم المسائل، اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم ليضع كل شيئ في موضعه على ضوء ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة0
__________
(1) التوبة / آية:65، 66.(44/10)
وإذا عرفت ذلك فاعلم: أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله، فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده، لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا، وقد بين جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى … قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) ، ثم بين من خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله من خصائص ربوبيه الله، ولذا قال تعالى بعدها {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يقدر على خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق به، والجواب "لا"لأنه لا إله إلا الله وحده" 0
3- الآيات الدالة على أن دعاء غير الله واللجوء إليه شرك0
__________
(1) النمل / آية: 59، 60.(44/11)
جاء آيات كثيرة في القرآن الكريم تبين أن الدعاء والاستعاذة والاستغاثة لا تكون إلا بالله وحده لا شريك له، وأن الآلهة الباطلة التي عبدت من دونه لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرا، فكيف يرجو العبد منها شيئا لا تملكه، وذلك سدَّا لذريعة التعلق بها، أو اعتقاد نفع فيها، ويسلك القرآن الكريم في ذلك مسلكا عظيما يضيق المقام عن استقصائه، ولكن تكفى الإشارة إلى بعض من ذلك (1)
__________
(1) باختصار وتصرف من كتاب دعوة التوحيد للدكتور /محمد خليل هراس ص 35 - 40.(44/12)
أ - بيان عجز هذه الآلهة المزعومة وإبراز فقرها وضعفها كقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (1) 0 وكقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2) 0 فقد بينت هذه الآيات بيانا شافيا قاطعا للعذر أن غير الله لا يدعى لأنه إلى جانب أنه لا ينفع ولا يضر لم يخلق شيئا بالاستقلال، كما لم يخلق شيئا بالشركة، وليس عند المشركين أي دليل على ما يفعلون ثم بينت الآيات ضلال من يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، بل نصَّت على أن المدعو غافل عن دعاء الداعي مما يبين عجزه وضعفه وشدة احتياجه إلى خالقه وربه، وقد ذكر القاسمي – رحمه الله – في الآيات الأخيرة لطيفة جميلة نقلها عن من يعرف بالناصر وإليك نصها:"لطيفة: قال الناصر: في قوله {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المُغيَّا عندها لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية، لأنهم في يوم القيامة أيضا لا يستجيبون لهم، فالوجه – والله أعلم – أنها من الغايات المشعرة
__________
(1) الإسراء آية: 56 – 57.
(2) الأحقاف الآيات من 4 – 6.(44/13)
بأن ما بعدها، وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كال شيئ وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة، لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة والكفر بعبادتهم إياهم، فهو من وادي ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (1)
ومثل هذه الآيات ما جاء في قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2)
فقد أخبر الله فيها عن حال المدعويين من دونه من الملائكة والأنبياء وغيرهم بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو، وهى الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته، فكيف إذا عدمت بالكلية؟ 0
__________
(1) محاسن التأويل جـ15 /5338، 5339، والآيتين من سورة الزخرف 29،30.
(2) فاطر / آية: 13، 14.(44/14)
ب - التشنيع بحال العابدين لهذه الآلهة الباطلة ورميهم بالضلال والسفه وعدم التعقل والتفكر، حيث رضوا لأنفسهم أن يعبدوا من لا يستحق العبادة ممن لا يملك لهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا ولا يسمع ولا يبصر، ولا يملك من أمر نفسه شيئا، وذلك لأن الإله يجب أن يكون متصفا بصفات الجلال والكمال منزها عن صفات العجز والنقص والحدوث والاحتياج، لأن كل ذلك مناف للإلهية 0 قال تعالى على لسان إبراهيم – عليه السلام – في خطابه لقومه: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (1) 0 وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} (2)
جـ- تصوير ما سيكون وسيقع يوم القيامة بين العابدين والمعبودين، وبين الأتباع
والمتبوعين من التبرؤ والمعاداة وتنصل المعبودين من جناية هؤلاء العابدين، وإنكارهم أن يكون لهم يد في إضلالهم وشركهم، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (3)
__________
(1) الأنبياء / آية: 67.
(2) الرعد / آية: 14.
(3) يونس الآيات من 28 – 30.(44/15)
يقول ابن كثير في هذه الآيات:"وفى هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغنى عنهم شيئا، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) ، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (3)
والمشركون أنواع وأقسام كثيرون قد ذكرهم الله في كتابه، وبين أحوالهم وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد" 0
المبحث الثالث: بعض أحاديث سد الذرائع المتعلقة بالشرك الأكبر0
__________
(1) النحل / آية:36.
(2) الأنبياء / آية: 25.
(3) الزخرف / آية: 45.(44/16)
بعث رسول الهدى صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص على رجوع العباد إلى ربهم وعبادتهم له وحده، وكان توحيد العبادة على رأس المهمات التي ركز عليها صلى الله عليه وسلم، بل هو لُبَّ دعوته ودعوة إخوانه من الأنبياء والمرسلين، ولذلك لا نجد عجبا حينما نجد كتب السنة قد امتلأت بكثير من الأحاديث التي حذر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك، واحتاط صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر احتياطا عظيما بالغا، فسد الذرائع وأغلق أي باب يؤدى إلى الشرك، وأكَّد وكرر ونهى وحذر في مواقف مختلفة متعددة، حتى وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت0
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك، إذ هذا تحقيق قولنا "لا إله إلا الله"، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والرجاء والخوف" 0
وهذه نبذة يسيرة مما قاله صلى الله عليه وسلم في ذلك0
1- نهى عن الغلو فيه حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى عبادته من دون الله، أو مع الله0
فعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله" (1) والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه (2) ، ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تقع أمته فيه، وتفعل كما فعلت النصارى بعيسى بن مريم0
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب 48 جـ6 / 478، والدرامي في كتاب الرقائق جـ2 /320، وأحمد في مسنده جـ1/23، 24، 47، 55.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر جـ3/123.(44/17)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في شرحه للحديث:"أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى – عليه السلام- فادَّعوا فيه الإلهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله فصفوني بذلك كما وصفني ربى فقولوا عبد الله ورسوله … " 0
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغلو بصفة عامة أهلك الأمم السابقة، وكان سببا في القضاء عليها، ومن هنا حذر أمته منه حتى لا تهلك كهلاكهم، فعن ابن عباس – رضي الله عنه – قال:"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداه جمع (1) هلَّم القط لي، فلقطت له حصيات من حصى الخذف (2) ، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" (3)
... ولمسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا (4) 0 والمتنطعون: هم المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (5)
وكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التعليم والإبلاغ، وتحذيرا من الوقوع فيه لخطره وضرره على العقيدة وحماية لجناب التوحيد0
قال ابن القيم:"فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا، وهى الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل: هو بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها0
قال الشاعر:
__________
(1) يعنى مزدلفة0
(2) أي حصى صغارا. انظر لسان العرب جـ9 / 61.
(3) أخرجه أحمد في مسنده جـ1/215، 347، والنسائي في كتاب مناسك الحج جـ5 /218، وابن ماجة كتاب المناسك باب 63 جـ2/1008، وابن أبى عاصم في السنة جـ1/46، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(4) صحيح مسلم كتاب العلم باب 4 جـ4 / 2055.
(5) شرح النووي على مسلم جـ16 / 220.(44/18)
كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت
بها الحوادث حتى أصبحت طرفا 0
وقد كان الغلو هو سبب عبادة الأصنام وحدوث الشرك في الأرض كما جاء في البخارى عن ابن عباس – رضي الله عنه- في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (1) قال: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ (2) العلم عبدت" 0
... فهؤلاء كما جاء في الحديث غلوا في هؤلاء الصالحين لماَّ صوروا صورهم ونصبوها في مجالسهم، وكان الدافع لهم إلى ذلك – في زعمهم- أن ينشطوا ويجتهدوا في الطاعة والعبادة ويسلكوا سبيلهم ولكن آل الأمر بعد طول الأمد وغلبة الجهل ووسوسة الشيطان إلى عبادتهم من دون الله عز وجل، وقد ساق ابن جرير الطبري بإسناده إلى محمد بن قيس أنه قال:"كانوا قوما صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال:"إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم" 0
... قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:"فصارت هذه الأصنام بهذا التصوير على صور الصالحين سُلَّما إلى عبادتها، وكل ما عبد من دون الله من قبر، أو مشهد، أو صنم، أوطاغوت فالأصل في عبادته هو الغلو كما لا يخفى على ذوى البصائر" 0
... وقال الشيخ حافظ الحكمي بعد ذكره لحديث ابن عباس:"فلو جاءهم اللعين وأمرهم من أول مرة بعبادتهم لم يقبلوا ولم يطيعوه، بل أمر الأولين بنصب الصور لتكون ذريعة للصلاة عندها ممن بعدهم، ثم تكون عبادة الله عندها ذريعة إلى عبادتها ممن يخلفهم" 0
__________
(1) نوح / آية: 23.
(2) يعنى تحول وتغير ونسى بسبب ذهاب العلماء0(44/19)
.. وقال الشيخ صديق حسن خان:"ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته" 0
2- بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستغاثة بالله وحده0
الاستغاثة: هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة0يقال: استغاثني فلان فأغثته، ولا تجوز بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله0 قال تعالى مبينا استغاثة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام بربهم وحده: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (1)
وعن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – قال:"لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه:"اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، فمازال يهتف بربه، مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} ، فأمده الله بالملائكة" 0
__________
(1) الأنفال / آية: 9.(44/20)
.. وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: قال أبو بكر: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل" (1)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بعد ذكره للحديث:"فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بمن دونه0 كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته، حماية لجناب التوحيد وسدا لذرائع الشرك وأدبا وتواضعا لربه وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته"0
... وقال في قرة العيون: "وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم من ذلك المنافق فيكون نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغاثة به حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك كنظائره مما للمستغاث به قدرة عليه مما كان يستعمل لغة وشرعا مخافة أن يقع من أمته استغاثة بمن لا يضر ولا ينفع" 0قلت: ويظهر بذلك أن الاستغاثة نوعان:
أ-استغاثة لا يقدر عليها إلا الله ولا تطلب إلا منه وحده، وطلبها من غيره شرك، وهى التي تقدم الحديث عنها0
__________
(1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد جـ10 / 159: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث0 قلت: ابن لهيعة ضعيف مختلط إلا في رواية العبادلة عنه، وهذه ليست منها، وقد ذكر بعض العلماء هذا الحديث في كتبهم كابن تيمية وغيره وسقته هناك كشاهد على موضوع سد الذرائع التي أنا بصدد الحديث عنها0(44/21)
ب-استغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه ويتمكن من فعله والقيام به، فهذه ليست شركا، وذلك كاستغاثة الغريق مثلا بمن ينقذه ومنه استغاثة الاسرائيلي بموسى – عليه السلام – كما جاء في قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (1)
3- النهى عن اتخاذ القبور مساجد وعبادة الله عندها0
قبل بيان ما ورد في الشرع من ذلك أرى من الضروري أن أبين أولاً صفة القبور الشرعية، حتى يتبين لنا المخالفات التي وقع فيها من اتخذوا القبور مساجد، ونفهم أيضا أهمية التحذيرات المتكررة من النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه الشديد عن اتخاذ القبور مساجد0
... قال ابن فارس في مادة "قبر":"القاف والباء والراء أصل صحيح يدل على غموض في شيئ وتطامن، ومن ذلك القبر قبر الميت، ويقال في اللغة: أطمأنت الأرض وتطأمنت: انخفضت (2)
... وهذا يحدد مفهوم كلمة "قبر"في اللغة، وهو ما كان من المواضع منخفضا غير شارع ولا بارز0
... وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في سنته صفة القبور، وما يجب أن تكون عليه، ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما- قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه" 0
وعن أبى الهياج الأسدي قال: قال لي على بن أبى طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 0
... وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى، وكلها تدل على تحريم البناء على القبور أو الكتابة عليها وتجصيصها، وإيقاد السرج عليها 0
... والآن إلى ذكر بعض الأحاديث الواردة في النهى عن اتخاذ القبور مساجد والصلاة عندها، وبيان ما في ذلك من سد لذرائع الشرك0
__________
(1) القصص / آية: 15.
(2) انظر معجم مقاييس اللغة ج5/47ولسان العرب جـ13 / 268.(44/22)
1-عن عائشة وعبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قالا: لما نزل (1) برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق صلى الله عليه وسلم يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتنم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا 0
قال القرطبي في معنى الحديث:"وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام"، وقال أيضاً:"ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يمكنوا أحدا من استقبال قبره (2)
... وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها، كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده، لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه، والدعاء به، والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله، والفعل إذا كان يفضى إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضى إلى الشرك" 0
__________
(1) نُزل ونزل، والمعنى: لما نزل ملك الموت، أو حضرت المنية، والوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2) فتح المجيد /239.(44/23)
.. وقال في موطن آخر:"إنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا، وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة" 0
2-وفى الصحيحين وغيرهما (1) أن أم حبيبة وأم سلمة – رضي الله عنهما – ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال صلى الله عليه وسلم:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"0
قال ابن حجر:"وإنما فعل ذلك أوائلهم ليتأسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك (2)
... وقال ابن القيم بعد ذكره لهذا الحديث وغيره من الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد:"إن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر، فإذا نهى عن ذلك، أي عن الصلاة بعد هذين الوقتين سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد مما هو محادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم " 0
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب 48 جـ1/523، وباب 54 جـ1/531، وكتاب الجنائز باب 70 جـ3 / 208، وكتاب مناقب الأنصار باب 37 جـ7 / 187،188، ومسلم في كتاب المساجد باب 3 جـ1 / 375، والنسائي في كتاب المساجد جـ2 /33.
(2) فتح الباري جـ1/525.(44/24)
3- وعن جندب بن عبد الله البجلي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ ابراهيم خليلاً، ولو كنت متخذا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا0 ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد0 ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" (1)
... قال النووي:"قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية ….." 0
... وقال ابن القيم:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا، وعن شد الرحال إليها، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها، وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سدَّا للذريعة" 0
... وقد ذكر الصنعاني بعد سياقه لبعض الأحاديث المبينة لصفات القبور الشرعية:"وهذه الأخبار المعبر فيها باللعن والتشبيه بقوله:"لا تجعلوا قبري وثنا يعبد من دون الله"، تفيذ التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص، ووضع الصندوق المزخرف، ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه، والتمسح بجدار القبر، وأن ذلك قد يفضى مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان، فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكمة المعتبرة في شرع الأحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد سواء كانت بأنفسها أو باعتبار ما تفضي إليه" 0
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحة كتاب المساجد باب 3 جـ1 / 377، 378.(44/25)
4-وعن ثابت بن الضحاك – رضي الله عنه – قال:"نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالو: لا 0 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" (1)
الفصل الثاني: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأصغر0
الشرك الأصغر: هو النوع الثاني من أنواع الشرك بعد الأكبر، وهو لا يخرج من الملة، ولكنه قد يحبط العمل الذي يصاحبه أو ينقص ثوابه (2) ، وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته منه، كما جاء في حديث محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء 0 يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ "، والمراد بالرياء في هذا الحديث هو يسيره، لا النفاق الاعتقادي الأكبر المخرج من الملة، وذلك أن الرياء قد يطلق ويراد به النفاق الأكبر كما جاء في قوله تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (3)
__________
(1) 1 بوانة: هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر. انظر معجم البلدان جـ 1/505
أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأيمان والتذور باب 23 جـ9 / 140.وقال الشيخ الألبانى0 صحيح0 انظر صحيح سند أبى داود جـ2 /637.
(2) انظر معارج القبول جـ1 / 450.
(3) البقرة / آية: 264.(44/26)
.. قال ابن كثير في تفسيره:"أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدحة الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال: {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (1)
... وطريقة التفريق بين الرياء الذي هو النفاق الأكبر، وبين الرياء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركاً أصغر حديث:"إنما الأعمال بالنيات ….." (2) ، فالنية هي التي تفرق بينهما، وقد وضح ذلك وفصله الشيخ حافظ الحكمي فقال:" …… فإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل والدار الآخرة فذلك النفاق الأكبر …، وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة، ولكن دخل عليها الرياء في تزيينه وتحسينه فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر وفسره بالرياء العملى …… " 0
... ولخطورة هذا النوع من الشرك أيضاً، ولخفائه أحياناً، وصيانة لجانب التوحيد، فقد سدَّ الشارع كل الوسائل المفضية إلى الوقوع فيه، وسأبين ذلك من خلال المبحثين التاليين:
المبحث الأول: سد الذرائع في الألفاظ
لقد تهاون كثير من الناس في هذه المسألة، وأصبحوا يطلقون كلمات توقعهم في هذا اللون من الشرك، ولكثرة وقوعه وانتشاره بدأت الحديث عنه في هذا الفصل، ومن أمثلة سد الذرائع في هذا الباب ما يلي:
__________
(1) تفسير ابن كثير جـ1 / 470.
(2) أخرجه البخاري في مواطن منها كتاب بدء الوحي باب 1 جـ1 / 9، ومسلم في كتاب الإمارة باب 45 جـ3 / 1515.(44/27)
أ- النهى عن الحلف بغير الله: لما كان الحلف بال شيئ يقتضى تعظيمه، والعظمة في الحقيقة لله وحده، نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله كما في حديث عمر – رضي الله عنه – قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" (1)
... وعن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (2) 0 قال الترمذي بعد سياقه:"هذا حديث حسن (3) ، وتفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله:"فقد كفر أو أشرك"، على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبى وأبى، فقال:"ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، وحديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله0
... وهذا مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرياء شرك"، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا} الآية 0 قال: لا يرائي" 0
... قال ابن حجر:"والتعبير بقوله:"فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك" 0
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان باب 4 جـ11/ 530، ومسلم كتاب الأيمان باب 1 جـ3 /1266، ومالك في الموطأ جامع الأيمان جـ3 /67 من شرح الزرقانى0
(2) أخرجه الترمذي في أبواب النذور باب 8 جـ5 / 135 من تحفة الأحوذى0
(3) قال الشيخ الألباني بعد ذكره لكلام الترمذي هذا، بل هو صحيح0 انظر السلسلة الصحيحة جـ5 /70.(44/28)
.. قال أبو جعفر الطحاوي:"لم يرد به الشرك الذي يخرج من الإسلام حتى يكون به صاحبه خارجاً عن الإسلام، ولكنه أراد أنه لا ينبغي أن يحلف بغير الله تعالى، لأن من حلف بغير الله تعالى فقد جعل ما حلف به محلوفا به، كما جعل الله تعالى محلوفا به، وبذلك جعل من حلف به أو ما حلف به شريكا فيما يحلف به، وذلك أعظم، فجعله شركا بذلك شركا غير الشرك الذي يكون به كافرا بالله تعالى خارجا عن الإسلام"0
... قال الشيخ الألباني بعد نقله لهذا الكلام:"يعنى – والله أعلم – أنه شرك لفظي وليس شركا اعتقاديا، والأول تحريمه من باب سد الذرائع، والآخر محرم لذاته، وهو كلام وجيه متين" 0
ب-النهى عن قول:"ما شاء الله وشئت"0
قال البخاري في صحيحة:"باب لا يقول ما شاء الله وشئت" 0
... وعن حذيفة بن اليمان أن رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون0 تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أما والله، إن كنت لأعرفها لكم، قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" (1)
... قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي:"المشيئة إرادة الله قال الله سبحانه وتعالى:"وما تشاؤون إلا أن يشاء الله"، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء، فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما شاء الله ثم شئت"، ولا يقال:"ما شاء الله وشئت" 0
... وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما شاء الله وشئت"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أجعلتني والله عدلا، بل ما شاء الله وحده" (2)
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه كتاب الكفارات باب 13 جـ1 م 685، والدارمي في سننه كتاب الاستئذان جـ2/295، وأحمد في مسنده جـ5 /393، 394.
(2) مسند أحمد جـ1 /214،224،283،347.(44/29)
.. قال ابن القيم:"إنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، وذم الخطيب الذي قال:"من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى"، سدا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسما لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له:"ما شاء الله وشئت"أجعلتني لله ندا؟ فحسم مادة الشرك، وسد الذريعة إليه في اللفظ، كما سدها في الفعل والقصد، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها" 0
... وقال الشيخ الألباني بعد ذكره لبعض الأحاديث في هذا الموضوع:"قلت: وفى هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره: ما شاء الله وشئت يعتبر شركا في نظر الشارع، وهو من شرك الألفاظ، لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى، وسببه القرن بين المشيئتين، ومثل ذلك قول بعض العامة وأشباههم ممن يدعى العلم مالي غير الله وأنت، وتوكلنا على الله وعليك، ومثله قول بعض المحاضرين: باسم الله والوطن، أو باسم الله والشعب، ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي يجب الانتهاء عنها والتوبة منها، أدبا مع الله تبارك وتعالى" 0
جـ- النهي عن قول: عبدي وأمتي0
... عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة – رضي الله عنه – يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يقل أحدكم: أطعم ربك وضئ ربك، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي وغلامي" (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العتق باب 17 جـ5 /177، ومسلم في كتاب الألفاظ باب 3 جـ4/1765، وأبو داود في سننه كتاب الأدب باب 83 جـ5/256، وأحمد في مسنده جـ2 /316، 423، 463.(44/30)
.. قال البغوي:"قيل: إنما منع من أن يقول: ربى أو اسق ربك، لأن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد، فكره له المضاهاة بالاسم، لئلا يدخل في معنى الشرك، والعبد والحُر، فيه بمنزلة واحدة، فأما ما لا تعبُّد عليه من سائر الحيوان والجماد فلا يمنع منه، كقولك: رب الدار، ورب الدابة والثوب، ولم يمنع العبد أن يقول: سيدي ومولاي، لأن مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده، والسياسة له وحسن التدبير لأمره، ولذلك سمى الزوج سيدا0 قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (1) …..، ومنع السيد من أن يقول: عبدي، لأن هذا الاسم من باب المضاف ومقتضاه العبودية له، وصاحبه عَبْدُ لله، مُتَّعَبَّدُ بأمره ونهيه، فإدخاله مملوكه تحت هذا الاسم يوهم التشريك … " 0
... وقال النووي في شرحه للحديث:"يكره للسيد أن يقول لمملوكه عبدي وأمتي، بل يقول "غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي، لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيما بما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك فقال:"كلكم عبيد الله، فنهى عن التطاول في اللفظ" 0
... وقال ابن القيم:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، ولكن يقول: فتاي وفتاتي، ونهى أن يقول لغلامه: وضئ ربك، أطعم ربك سدا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى، وإن كان الرب ههنا هو المالك كرب الدار، ورب الإبل، فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد حماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك" 0
__________
(1) يوسف / آية: 25.(44/31)
.. وقال عبد الرحمن بن حسن:"هذه الألفاظ المنهي عنها، وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقا للتوحيد، وسدا لذرائع الشرك لما فيها من التشريك في اللفظ، لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم فينهى عنه لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى …، فالنهى عنه حسما لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقا للتوحيد، وبعدا عن الشرك حتى في اللفظ، وهذا من أحسن مقاصد الشريعة لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ، وهو قوله:"سيدي ومولاي" وكذا قوله:"ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"، لأن العبيد عبيد الله والإماء إماء الله0 قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (1) ، ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيما لله تعالى وأدبا وبعدا عن الشرك وتحقيقا للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا:"فتاي وفتاتي وغلامي"، وهنا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه نفع لهم، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين، فلا خير إلا دلهم عليه، خصوصا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه خصوصا ما يقرب من الشرك لفظا وإن لم يقصد0 وبالله التوفيق" 0
المبحث الثاني: سد الذرائع في الأعمال
... كما نهى الشارع عن الشرك في الألفاظ وسَدَّ كل الوسائل المؤدية إليه، نهى أيضا وحذر من الوسائل المفضية إلى الشرك في الأعمال، ويظهر ذلك في الصور التالية:
أ - النهى عن التمائم:
__________
(1) مريم / آية: 93.(44/32)
التمائم: جمع تميمة، وهى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطلها الإسلام (1)
وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الرقى والتمائم والتولة شرك" (2)
... وقد اختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن الكريم، فأباحها البعض كالرقى الشرعية، ومنعها آخرون سدا لذريعة الوقوع في الشرك، ومن هؤلاء ابن مسعود وابن عباس وغيرهم0
... قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد:"التمائم شيئ يعلق على الأولاد عن العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود رضي الله عنه – "0
... قال شارحه:"هذا هو الصحيح- أي النهى عن تعليق التمائم من القرآن – لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل:
الأول: عموم النهى ولا مخصص للعموم0
الثاني: سد الذريعة فإنه يفضى إلى تعليق ما ليس كذلك0
الثالث:"أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المعَلِّق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك" 0
... وقال الشيخ حافظ الحكمي:
وفى التمائم المعلقات
إن تك آيات بينات
فالاختلاف واقع بين السلف
فبعضهم أجازها والبعض كف
... ثم ذكر بعض أسماء المانعين والمبيحين وعقب بقوله:"ولا شك أن منع ذلك سد لذريعة الاعتقاد والمحظور، لاسيما في زماننا هذا، فإنه إذا كرهه أكثر الصحابة والتابعين في تلك العصور الشريفة المقدسة، والإيمان في قلوبهم أكبر من الجبال، فلأن يكره في وقتنا هذا – وقت الفتن والمحن- أولى وأجدر بذلك " 0
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر جـ1/197، وانظر شرح السنة جـ12 /158.
(2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطب باب 17 جـ10 /367، وابن ماجة كتاب الطب باب 39 جـ2 /1167 وأحمد في مسنده جـ1 /381.(44/33)
.. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:"واختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن أومن الدعوات المباحة0 هل هي محرمة أم لا؟ والصواب تحريمها لوجهين:
أحدهما: عموم الأحاديث المذكورة، فإنها تعم التمائم من القرآن وغير القرآن0
والوجه الثاني: سد ذريعة الشرك، فإنها إذا أبيحت التمائم من القرآن اختلطت بالتمائم الأخرى واشتبه الأمر، وانفتح باب الشرك بتعليق التمائم كلها، ومعلوم أن سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي من أعظم القواعد الشرعية0 والله ولى التوفيق" 0
... وعليه فتعليق التمائم ينهى عنه بإطلاق سدا للذريعة في ذلك التي منها تعليق ما ليس من القرآن، وتعظيما لكلمات الله وآياته من امتهانها أثناء قضاء الحاجة وغير ذلك، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه البدع وانتشر أهل الخرافة والدجل والمشعوذين وغلب الجهل على كثيرين0
... قال الشيخ الألباني بعد ذكره لتعريف التميمة:"ولا تزال هذه الضلالة فاشية بين البدو والفلاحين وبعض المدنيين، ومثلها الخرزات التي يضعها بعض السائقين أمامهم في السيارة- يعلقونها على المرآة وبعضهم يعلق نعلا في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها، وغيرهم يعلقون نعل فرس في واجهة الدار أو الدكان فكل ذلك لدفع العين زعموا، وغير ذلك مما عم وطم بسبب الجهل بالتوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها والقضاء عليها" 0
ب - النهى عن انحناء الرجل للرجل أو القيام له0
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال:"قال رجل يا رسول الله: الرجل منا يلقى أخاه، أو صديقه، أينحني له؟ قال: لا، قال: فيلتزمه ويقبله 0 قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه، قال: نعم" 0(44/34)
قال ابن القيم:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن ينحني للرجل إذا لقيه كما يفعل كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا علم له بالسنة بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغة في خلاف السنة جهلا، حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه، ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات، فهؤلاء أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها، وطائفة ثالثة قيامها، يقوم عليهم الناس وهم قعود كما يقومون في الصلاة، فتقاسمت الفرق الثلاث أجزاء الصلاة، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن انحناء الرجل لأخيه سداً لذريعة الشرك، كما نهى عن السجود لغير الله (1)
تنبيه: جاء في حديث أنس السابق نهى عن الالتزام وهو المعانقة، وقد وردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقول أنس – رضي الله عنه -:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا" 0
... وعانق عبد الله بن أنيس جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – لما رحل إليه من المدينة إلى الشام ليسأله عن حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم (2)
__________
(1) إعلام الموقعين جـ3/166، 167.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد باب المعانقة جـ2/458، وعلقه في صحيحه في كتاب العلم باب 19، وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، وأحمد في مسنده جـ3 / 198.(44/35)
وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، ودفعوا التعارض الظاهر بينها، ومنهم الإمام البغوي، وفى ذلك يقول:"قال حميد بن زنجوية: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المعانقة والتقبيل، وجاء أنه عانق جعفر بن أبى طالب وقبله عند قدومه من أرض الحبشة، ولكل وجه عندنا، فأما المكروه من المعانقة والتقبيل، فما كان على وجه الملق والتعظيم وفى الحضر، فأما المأذون فيه، فعند التوديع وعند القدوم من السفر وطول العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله ومن قبَّل فلا يقبل الفم، ولكن اليد والرأس والجبهة" 0
وقال الشيخ الألباني عقب ذكره لبعض أحاديث النهى وأحاديث الإباحة: "فيمكن أن يقال: إن المعانقة في السفر مستثنى من النهى لفعل الصحابة ذلك" 0
وكما نهى صلى الله عليه وسلم عن الانحناء سدَّا للذريعة، كره أن يقوم الناس له، كما ذكر وعيداً شديدا لمن يحب أن يتمثل الناس له قياما0
... فعن أنس – رضي الله عنه- قال:"ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه، لما يعلمون من كراهيته لذلك" 0
... وعن أبى مجلز قال:"خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه، فقال:اجلسا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار"0 قال الترمذي:"وفى الباب عن أبى أمامه، وهذا حديث حسن" 0(44/36)
ولا يتعارض النهى عن القيام هنا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لماَّ قدم سعد بن معاذ إلى بنى قريظة ليحكم فيهم: " قوموا إلى سيدكم" (1) للفرق بين الحالين، وقد وضح ذلك ابن يتمية – رحمه الله- وفصله تفصيلا دقيقا فقال:"لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه صلى الله عليه وسلم كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ:قوموا إلى سيدكم، وكان قد قدم ليحكم في بنى قريظة …..، وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه، أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار"، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئة إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال:قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد" 0
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان باب 26 جـ11/29 0(44/37)
.. كما جمع بين الأحاديث ابن القيم جمعا حسنا، وذكر أن الأحاديث التي ورد فيها القيام كان لعارض، وأنه كان قياما إلى الرجل للقائه، لا قياما له، ثم قال:"فالمذموم: القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم:فلا بأس به، وبهذا تجتمع الأحاديث" قلت: هذا جمع جيد وحسن بين النصوص الثابتة، وعليه فينهى القيام للشخص للتعظيم مهما كانت منزلته سدَّا لذريعة الوقوع في الشرك، بعد الغلو فيه، أو مجاوزة الحد في حبه وتعظيمه وما إلى ذلك كما هو واقع من بعض أتباع الطرق لمشايخهم، وأما القيام لعارض كالقيام للقادم من سفر، أو لغائب على سبيل البر والإكرام فلا بأس به0
... وقد نقل أبو عبد الله بن الحاج عن أبى الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه:
الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه0
الثاني: مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة0
الثالث: جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة0
الرابع: مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها.
... وقال التوريشتى في شرح المصابيح:معنى "قوموا إلى سيدكم"، أى إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم" 0
... وقال الألباني في حديث أبى مِجلَز:"دلنا هذا الحديث على أمرين:
الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له، وهو صريح الدلالة، بحيث أنه لا يحتاج إلى بيان0(44/38)
والآخر: كراهة القيام من الجالسين للداخل، ولو كان لا يحب القيام، وذلك من باب التعاون على الخير، وعدم فتح باب الشر، وهذا معنى دقيق دلنا عليه راوى الحديث معاوية – رضي الله عنه -، وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له، واحتج عليه بالحديث، وذلك من فقهه في الدين، وعلمه بقواعد الشريعة التي منها سد الذرائع" 0
... ومن هذا الباب ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار أن اجلسوا، فلما انصرف قال:إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا" 0
... قال ابن القيم:"إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المأمومين أن يصلوا قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا، وقد تواتر عنه ذلك، ولم يجئ عنه ما ينسخه، وما ذاك إلا سدا لذريعة مشابهة الكفار، حيث يقومون على ملوكهم وهو قعود" 0
قلت: تأمل أيها المسلم حرص الإسلام ورسول رب العالمين وسلف الأمة الصالحين على مخالفة الكفار والمشركين، ونهى الشريعة الغراء على المباح خوفا من الوقوع في الحرام، كل ذلك صيانة وحماية للعقيدة، وتحقيقا للتوحيد0
... فما بالنا اليوم نجد جرأة كبيرة، حتى من بعض المنتسبين إلى العلم في التساهل في هذا الباب، ويا ليت الأمر – مع خطورته- اقتصر على الجائز المؤدى إلى الحرام، بل وقعوا صراحة فيما نهى عنه الشارع الحكيم، وسقطوا في أعمال الجاهلين0 فإنا لله وإنا إليه راجعون0(44/39)
تابع لسد الذرائع في مسائل العقيدة على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة
الفصل الثالث: سد الذرائع في توحيد المعرفة والإثبات
... توحيد المعرفة والإثبات أحد نوعي التوحيد، وهو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الجلال والكمال لله عز وجل، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، فلا رب سوى خالق الأرض والسماء، كما أنه لا يشبهه أحد من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته وأفعاله، تعالى سبحانه وتقدس عن الشبيه والنظير0
... يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين، والغني عن الغير من خصائص رب العالمين، كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين، وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا، ولا ربا مطلقا ونحو ذلك، لأن ذلك يقتضي الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده" 0
... وقد سدَّ الشارع الذرائع التي يمكن أن تؤدي إلى وقوع محظور في هذا النوع من التوحيد، وبيان ذلك في مبحثين كما يلي:
المبحث الأول: سد الذرائع في مضاهاة أفعال الله تعالى:
أفعال الله كثيرة، وهي مبينة أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه ورازقه، وهو الذي يحييه ويميته ويدبر أمره، وهو أمر تشهد له الفطرة، ويذعن له العقل، وقد ذكر ربنا ذلك في آيات كثيرة من كتابه، كما نفى أن يكون لأحد معه شريك في الخلق والتكوين فقال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (1)
... ويظهر احتياط الشرع لهذا النوع من التوحيد بذكر الأمثلة الآتية:
1- النهي عن تصوير ذوات الأرواح:
__________
(1) المؤمنون / آية: 91.(44/40)
نهي الإسلام عن تصوير ذوات الأرواح سدَّا لذريعة المضاهاة في أفعال الله تعالى، وهي هنا الخلق، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" (1)
قال النووي بعد ذكره لبعض الأحاديث الناهية عن التصوير:"وهذه الأحاديث صريحة في تحريم تصوير الحيوان وأنه غليظ التحريم، وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه، فلا تحرم صنعته ولا التكسب به وسواء الشجر المثمر وغيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهدا فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه، وقال القاضي: لم يقله أحد غير مجاهد، واحتج مجاهد بقوله تعالى:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم:"ويقال لهم أحيوا ما خلقتم"، أي اجعلوه حيوانا ذا روح كما ضاهيتم.. " 0
... وقال الشيخ/ عبد الرحمن بن حسن بعد ذكره للحديث السابق:"وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة وهي المضاهاة بخلق الله، لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة" 0
... وقال الشيخ/ صديق حسن خان:"قال بعض أهل العلم في معنى هذا الحديث: يعني أن المصورين يدعون الإلهية في هذه السترة، لكونهم يريدون أن يصنعوا أشياء مثل ما صنعه الخالق القدير، فهم مسيئوا الأدب بالله عز وجل، ودعواهم هذه كذب صريح وحجة داحضة" 0
2- النهي عن قول: "مطرنا بنوء كذا"
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب 90 جـ10 / 385، وكتاب التوحيد باب 56 جـ 13 / 528، ومسلم في كتاب اللباس باب 26 جـ3 / 1671.(44/41)
عن زيد بن خالد الجهني أنه قال:"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب" 0
قال الشافعي:"من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا، فذلك كفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ولا يمطر ولا يصنع شيئا، وأما من قال مطرنا بنوء كذا، على معنى: مطرنا بوقت كذا، فإنما ذلك كقوله: مطرنا في شهر كذا، ولا يكون هذا كفرا، وغيره من الكلام أحب إلى منه" 0
... قال ابن حجر عقب نقله لكلام الشافعي السابق:"يعني حسما للمادة وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث" 0
... وقال الشيخ سليمان بن عبد الله معلقا على كلام الشافعي:"إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك، وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك، وغيره من الكلام أحسن منه، أما كونه يجوز إطلاق ذلك أولا يجوز، فالصحيح أنه لا يجوز، وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنزل للمطر، فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ، كقوله: لولا فلان لم يكن كذا … " 0(44/42)
.. وقال النووي:"وأما معنى الحديث، فاختلف العلماء في كفر من قال: مطرنا بنوء كذا على قولين: أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتقدا أن الكواكب فاعل مدبر منشيء للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم، ومن اعتقد هذا فلاشك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء والشافعي منهم، وهو ظاهر الحديث، قال: وعلى هذا لو قال: مطرنا بنوء كذا معتقدا أنه من الله تعالى وبرحمته، وأن النوء ميقات له وعلامة اعتبارا بالعبادة، فكأنه قال: مطرنا في وقت كذا، فهذا لا يكفر، والأظهر كراهيته، لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها" 0
... قلت: الأولى النهي مطلقا عن قول هذه الكلمة سدا للذريعة، وقد بين ذلك ووضحه الشيخ سليمان فقال: "الاستسقاء بالنجوم نوعان: أحدهما أن يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر، إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وليس هذا معنى الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا لا يزال في أمته، ومن اعتقد أن النجم ينزل المطر فهو كافر0(44/43)
الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنزل له، لكن معني أن الله تعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم، فحكى ابن مفلح خلافا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته، وصرح أصحاب الشافعي بجوازه والصحيح أنه محرم، لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه وأبطله، وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجودا في هذه الأمة إلى اليوم، وأيضاً فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد، وسدًّا لذريعة الشرك ولو بالعبارات الموهمة التي لا يقصدها صاحبها" 0
المبحث الثاني: سد الذرائع في توحيد الأسماء والصفات0
من المعلوم المقرر عند أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلي التي لا يشاركه فيها غيره، وهم يثبتون كل ما جاء في كتاب الله، وما صح به الخبر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه وتمثيل، أو تعطيل وتأويل0
ولأهمية السلامة في جانب الاعتقاد – ومنه الأسماء الحسنى- وبما أن أسماء الله وصفاته تحمل معنى العظمة والجلال التي لا يشارك فيها الخالق المخلوق، فقد احتاط الشارع لهذا الجانب، وسد كل طريق يؤدى إلى الخلط فيه، وهذه بعض الأمثلة:
1- إثبات علم الغيب لله وحده ونفيه عن الأنبياء والمرسلين فضلا عن غيرهم0
من الصفات الثابتة الدالة على كمال العلم وسعة القدرة والعظمة انفراد الله عز وجل بعلم الغيب، فلا يشاركه فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب0 قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1)
__________
(1) النحل / آية: 65.(44/44)
ولما كان الأنبياء والمرسلون يخبرون عن الله أمره، ويعلمون الناس شرعه بإعلام الله لهم، ومن ذلك أمور تتصل بعالم الغيب كما قال تعالى:"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا0 إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا0 ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا"، فقد نفى الله عنهم علم الغيب ونص على بشريتهم وبين منزلتهم، وقرر ذلك في كتابه أكثر من موطن سدا لذريعة نسبة علم الغيب إليهم، ويظهر ذلك واضحا في سياق الآية السابقة، ويظهر أيضا في قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1)
__________
(1) الأعراف / آية: 188.(44/45)
قال ابن كثير:"أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع به على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} الآية، وقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ، قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد: لو كنت أعلم متي أموت لعملت صالحا، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقال مثله ابن جريج وفيه نظر، لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملا أثبته، فجميع عمله كان على منوال واحد، كأنه ينظر إلى الله عز وجل في جميع أحواله، اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك والله أعلم، والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي من المال، وقال عبد الرحمن بن زين بن أسلم: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ْ} قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيه، ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير أي نذير من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} (1)
__________
(1) تفسير ابن كثير جـ2 / 526، 527.(44/46)
.. وللشيخ محمد رشيد رضا كلام جميل في هذه الآية بين فيه أن الناس قد افتتنوا بمن اصطفاهم الله من الأنبياء والمرسلين وغلوا فيهم، فكان هذا السياق الكريم بهذه الصورة ردا عليهم، كما بينت حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بشر لا يرفع إلى مرتبة الألوهية كما تجب طاعته، لأنه رسول رب العالمين، وفى ذلك يقول:"أي قل أيها الرسول للناس فيما تبلغه من أمر دينهم إنني لا أملك لنفسي -أي ولا لغيري بالأولى – جلب نفع مّا في وقت مَّا، ولا دفع ضرر مَّا في وقت مَّا … كما أنه لا يملك شيئا من علم الغيب الذي هو شأن الخالق دون المخلوق كما يأتي بيانه في تفسير الجملة التالية، والاستثناء على هذا منفصل عما قبله مؤكد لعمومه، أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كان، فهو كقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} ، وهذا الوجه المختار عندنا، لأن الناس قد فتنوا منذ قوم نوح بمن اصطفاهم الله ووفقهم لطاعته وولايته من الأنبياء ومن دون الأنبياء من الصالحين، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} ، والجملة استدلال على نفى علم النبي صلى الله عليه وسلم الغيب كأنه يقول: لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب- وأقربه ما يقع في مستقبل أيامي في الدنيا – لاستكثرت من الخير كالمال وأعمال البر …، وفيه وجه آخر: أنه مستأنف غير معطوف على ما قبله، ومعناه: وما مسني الجنون كما زعم الجاهلون، فيكون حاصل معنى الآية: نفى رفعه إلى رتبة الألوهية الذي افتتن بمثله الغلاة، أو نفى وضعه في أدنى مرتبة البشرية الذي زعمته الغواة العتاة وبيان حقيقة أمره … " 0(44/47)
.. وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في الآية:"هذا ارتقاء في التبرؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم، وزيادة من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها، والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استيفائها الاهتمام بمضمونها، كي تتوجه الأسماع إليها، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} ، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} ، للاهتمام باستقلال المقول، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة، إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك … " 0
2- إثبات صفة العلم ومعية الله لخلقه مع استوائه على عرشه0
ذكر ربنا سبحانه وتعالى في كتابه استواءه على عرشه في أكثر من موضع، وهو استواء يليق بجلال الله وكماله، ومعناه عند السلف علو الله خلقه، وذكر البخاري عن أبى العاليه: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد: استوى: علا على العرش 0
ودفعا لما يمكن فهمه من علو الله على خلقه أن الله بعيد من عباده، فلا يعلم ما هم عليه نصَّ سبحانه في كثير من آيات الاستواء على علمه بخلقه، وبتدبير أمر مملكته، وإحاطته بما هم عليه، كما ذكر معيته لهم مع استوائه على عرشه، حتى لا يفهم أحد أن الله حال في مخلوقاته0
وأكتفى هنا بذكر آخر آية في القرآن الكريم أثبتت علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، مع إثبات صفتي العلم والمعية معا، ثم أتبعها بأقوال بعض أهل العلم في معناها0(44/48)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1)
قال الطبري في معنى الآية:"يقول تعالى ذكره مخبرا عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه0 يعلم ما يلج في الأرض من خلقه، يعنى بقوله يلج: يدخل، وما يخرج منها منهم، وما ينزل من السماء إلى الأرض من شيء قط، وما يعرج فيها فيصعد إليها من الأرض، وهو معكم أينما كنتم، يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس0 أينما كنتم يعلمكم ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع، والله بما تعملون بصير … " 0
وقال ابن تيمية عن فهم السلف وتفسيرهم لمعنى المعية والقرب:" …. وأما القسم الرابع، فهم سلف الأمة وأئمتها، أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله من غير تحريف للكلم، أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضا قريب مجيب ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل" (2) 0 فهو سبحانه مع المسافر في سفره ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم.." (3)
__________
(1) الحديد / آية: 4.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج باب 75 جـ2 / 978، وأبو داود في سننه كتاب الجهاد باب 79 جـ3 / 74 وغيرهما0
(3) مجموع الفتاوى جـ5/ 231، ولمزيد من التفصيل يراجع ص 494 – 513 من الجزء المذكور0(44/49)
ومعية الله لخلقه تنقسم إلى قسمين: معية خاصة، وهى الواردة في مثل قول الله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وفى قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (1) ، وهذه المعية تقتضى النصر والتأييد والحفظ والإعانة، وهى للمؤمنين، ومعية عامة تتعلق بالناس جميعا، وهى الواردة في مثل قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) ، وهذه المعية تقتضى علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم 0
... وقد ذكر القاسمي عن ابن قدامة المقدسي أنه قال:"إن ابن عباس والضحاك ومالك وسفيان وكثيرا من العلماء قالوا في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أي علمه، ثم قد ثبت بكتاب الله والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة محفوفة بها دلالة على إرادة العلم منها، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ، ثم قال في آخرها: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فبدأها بالعلم وختمها به، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما علموا يوم القيامة ويجازيهم عليه، وهذه قرائن كلها دلالة على إرادة العلم." 0
__________
(1) التوبة / آية: 40.
(2) المجادلة / آية: 7.(44/50)
وقال عبد الرحمن السعدي: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، وهذه المعية، معية العلم والاطلاع، ولهذا توعد ووعد بالمجازاة بالأعمال بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، أي: هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال، وما صدرت عنه تلك الأعمال" 0
... وقال الشيخ محمد بن عثيمين بعد كلام له عن آية سورة الحديد:"فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم، واستوائه على عرشه، لا أنه سبحانه مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض، وإلا لكان آخر الآية مناقضا لأولها الدال على علوه واستوائه على عرشه" 0
الفصل الرابع: سد الذرائع المتعلق بالنبوة والرسالة0
المبحث الأول: تأييد الأنبياء بمعجزات لا تحصل لغيرهم0
... اختص الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله بآيات، بينات وبراهين ساطعات تدل على صدقهم وتوجب اتباعهم ويطلق عليها المعجزات، وإن كان الدليل على صدق الأنبياء لا ينحصر في المعجزات، إلا أنها من الأدلة الصحيحة على ثبوت النبوة، وما أجرى على يد الأنبياء من المعجزات لا يقع لغيرهم بحال وذلك سدَّا لذريعة تكذيبهم، والاختلاف عليهم والكفر بما أرسلوه به، وحتى يتميزوا عن الكاذبين0
... يقول ابن تيمية:"ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يعارضها من ليس بنبي، فكل ما عارضها صادرا ممن ليس من جنس الأنبياء فليس من آياتهم، ولهذا طلب فرعون أن يعارض ما جاء به موسى لما ادَّعى أنه ساحر، فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى، فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة، وأمرهم موسى أن يأتوا أولا بخوارقهم، فلما أتت وابتلعتها العصا التي صارت حية، علم السحرة أن هذا ليس من جنس مقدورهم فآمنوا إيمانا جازما" 0(44/51)
.. ويقول أيضا:"وخوارق الأنبياء لا يمكن غيرهم أن يعارضها ولا يمكن أحدا إبطالها، لا من جنسهم ولا من غير جنسهم، فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضا، فلا يتصور أن نبيا يبطل معجزة آخر وإن أتى بنظيرها فإنه يصدقه، ومعجزة كل منهما آية له وللآخر أيضا، كما أن معجزات أتباعهم آيات لهم بخلاف خوارق السحرة، فإنها تدل على أن صاحبها ساحر، يؤثر آثارا غريبة مما هو فساد في العالم، ويسر بما يفعله من الشرك والكذب والظلم، ويستعين على ذلك بالشياطين، فمقصوده الظلم والفساد، والنبي مقصوده العدل والصلح، وهذا يستعين بالشياطين، وهذا بالملائكة وهذا يأمر بالتوحيد لله وعبادته وحده لا شريك له، وهذا إنما يستعين بالشرك وعبادة غير الله، وهذا يعظم إبليس وجنوده وهذا يذم إبليس وجنوده" 0
... والقرآن الكريم هو أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، وأهم دليل على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد تحدى الله به الإنس والجن مجتمعين على أن يأتوا بمثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا0
... يقول البيهقي:"فأما "العلم"الذي اقترن بدعوته ولم يزل يتزايد أيام حياته، ودام في أمته بعد وفاته، فهو القرآن العظيم، المعجز المبين، وحبل الله المتين، الذي هو كما وصفه به من أنزله فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1)
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقى جـ1 / 10، والآيات من سورة فصلت 41، 42.(44/52)
.. ومع تأييد الله لنبيه بالآيات المختلفة إلا أنه لم يجب المشركين إلى ما طلبوه من آيات لم يرد الله أن تكون لهم، وذلك سدا لذريعة التكذيب بها، فيهلكم الله، كما هي سنته في ذلك قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (1)
... قال ابن جرير في تفسيره:"يقول تعالى ذكره: وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك إلا أن من كان قبلهم من الأمم المكذبة سألوا ذلك مثل سؤالهم، فلما أتاهم ما سألوا كذبوا رسلهم فلم يصدقوا مع مجيء الآيات فعوجلوا، فلم نرسل إلى قومك بالآيات، لأنا لو أرسلنا بها إليهم فكذبوا بها سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلها"، ثم ساق روايات كثيرة في سبب نزول هذه الآية منها ما ذكره ابن عباس – رضي الله عنه- قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحى عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم، قال: بل نستأني بهم، فأنزل الله الآية.." (2)
المبحث الثاني: النهى عن المفاضلة بين الأنبياء سدا لذريعة الانتقاص من أحدهم0
__________
(1) الإسراء / آية: 59.
(2) جامع البيان في تفسير القرآن جـ15/ 74.(44/53)
.. دل القرآن الكريم على أن الله فضل بعض النبيين على بعض كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، ومع هذا وردت أحاديث صحيحة تنهى عن تفضيل بعض النبيين على بعض كما جاء في حديث أبى هريرة – رضي الله عنه – قال:"بينما يهودي يعرض سلعته أعطى بها شيئا كرهه، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه، وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدا، فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: لم لطمت وجهه؟ فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رؤى في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدرى أحوسب بصعقته يوم الطور، أم بعث قبلي"
... وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما ينبغي لعبد أن يقول: "إني خير من يونس بن متى0 ونسبه إلى أبيه" 0
... وهذه الأحاديث لا تعارض آية التفضيل المذكورة آنفا، وينبغي أن يحمل النهى الوارد فيها عن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية، سدا لذريعة الانتقاص من المفضول0
... قال النووي: قال العلماء: هذه الأحاديث تحتمل وجهين
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال:"أنا سيد ولد آدم.." (1)
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة باب 14جـ5 /254 وابن ماجة في كتاب الزهد باب 37 جـ2 /1440.
(2) شرح النووي على مسلم جـ15 / 132.(44/54)
.. وقد ذكر القرطبي أقوالاً كثيرة لأهل العلم في هذه المسألة منها:"إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال، وذلك يؤدى إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة" 0
... وقال ابن حجر: قال العلماء:"إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا0 إن كان قاله بعد أن أعلم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال، وقيل: خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة" 0
... وقال شارح الطحاوية بعد أن ذكر حديث أبى هريرة السابق:"فكيف يجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، فالجواب: أن هذا كان له سبب …،لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموما، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموما، فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} (1) ، وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (2) ، فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على الانتقاص بالمفضول" 0
__________
(1) الإسراء / آية: 55.
(2) البقرة / آية: 253.(44/55)
.. وقد جاء في أبحاث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي:" ….. ومن هذا القبيل تفضيل بعض الأنبياء على بعض، هو نفسه جائز، فقد فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، ولكنه يمنع حينما يجر إلى الفتنة والعصبية ….، وقد تخاصم مسلم ويهودي في العهد النبوي، ولطم المسلم وجه اليهودي، لأنه أقسم بالذي اصطفى موسى على العالمين وأقسم المسلم بالذي اصطفى محمدا على العالمين …، فلما بلغت الخصومة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم غضب حتى عرف الغضب في وجهه، وقال:"لا تخيروني على موسى"، ثم أثنى عليه بما هو أهله، ونهاهم أن يفضلوا بين أنبياء الله سدا لذريعة الفتن، وحرصا على وقارهم – صلوات الله وسلامه عليهم- …، وإذا كانت الدول تشدد في سد الذرائع، وترى ذلك ركنا من أركان السياسة والأمن والنظام والمعاملات الدنيوية، فإنه في العقائد أخلق وفى مقام النبوة أوجب وأحق" 0
المبحث الثالث: إرسال المرسلين بلسان أقوامهم ليعقلوا خطابهم0
... أرسل الله أنبياءه ورسله باللسان الذي يتكلم به المرسل إليهم، حتى يعرفوا خطابه ومراده منه، ولئلا يتعللوا بعدم الفهم له، فكان الإرسال بهذه الطريقة سدا لذريعة تكذيبهم بحجة عدم الفهم عنهم0 قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)
... واختص الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإرساله إلى الناس كافة من العرب والعجم، كما هو مرسل إلى الجن أيضا، ولا حجة لغير العرب في ذلك، لأن الله قيض لدينه من ينشره إلى غير العرب بلسانهم وأقيمت الحجة عليهم بذلك0
__________
(1) إبراهيم / آية: 4.(44/56)
.. قال القرطبي: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} أي قبلك يا محمد {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، أي بلغتهم، ليبينوا لهم أمر دينهم …، ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (1)
... وقال ابن تميمة:"وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة: أحدهما: أن يقال: والتوراه إنما أنزلت باللسان العبري وحده..، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد، بلسان الذي أنزلت عليه، ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا، وسائر الأنبياء إنما يخاطبون الناس بلسان قومهم الذي يعرفونه أولا، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم، إما أن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه" 0
... وقال ابن كثير:"هذا من لطفه تعالى بخلقه: أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد: عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لم يبعث الله نبيا إلا بلغة قومه"..، وقد كانت هذه سنة الله في خلقه: أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم، فاختص كل نبى بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم، واختص محمد بن عبد الله رسول الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس … " 0
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن جـ5 / 3569.(44/57)
.. وقال القاسمي في تفسيره:"فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعا، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة … قلت: لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهمه، كما ترى الحال وتشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم" 0
... وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي … " وذكر منها:"وبعثت إلى كل أحمر وأسود.."0
... قال النووي في شرحه:"قيل المراد بالأحمر البيض من العجم وغيرهم، وقيل المراد بالأسود السودان، وبالأحمر من عداهم من العرب وغيرهم، قيل الأحمر الإنس، والأسود الجن، والجميع صحيح فقد بعث إلى جميعهم" 0
المبحث الرابع: نهى المؤمنين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "راعنا"0(44/58)
.. كان المؤمنون يقولون كلمة "راعنا"للنبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها معنى صحيحا وهو: راعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه، ونراجعك فيه القول لنفهمه عنك، ولكن اليهود كانوا يقولونها ويقصدون بها الحط من مقام النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يقولون:"راعنا"، من المراعاة، وهى تقتضى المشاركة في الرعاية، أيس: ارعنا نرعك، وفى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر، أو أنهم كانوا يميلون ألسنتهم في نطق هذه الكلمة لتؤدى معنى آخر مشتقا من الرعونة فنهاهم الله عز وجل أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة سدَّا لذريعة الانتقاص من قدره صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أفضلها0
... قال ابن تيمية:"إنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا"مع قصدهم الصالح لئلا يتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا" 0
... وقال ابن كثير:"نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالتهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص – عليهم لعائن الله -، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا 0 يقولون: راعنا، يورون بالرعونة، كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} ، وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون:"السام عليكم"والسام هو: الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ "وعليكم" وأنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا" 0(44/59)
.. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي:"كان المسلمون يقولون حين خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم عند تعلمهم أمر الدين: "راعنا"، أي: ارع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسد، فانتهزوا الفرصة فصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، سدا لهذا الباب، ففيه النهى عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم" 0
الفصل الخامس: سد الذرائع المتعلق بالإمامة والخروج على الحاكم0
المبحث الأول: وجوب تنصيب إمام واحد والاجتماع عليه0
من المعلوم أن الإمامة شرعت لحفظ الدين وسياسة الدنيا به ومن هنا دعا الإسلام إلى وجود إمام واحد تجتمع عليه القلوب، وتكون به الجماعة، وتعدد الأئمة مدعاة للتفرق والاختلاف، لما يمكن أن يقع بينهم من تناحر وشقاق، لذا كان من شريعة الإسلام الدعوة إلى إمام واحد سدَّا لذريعة التفرق والاختلاف، وها هي بعض الأدلة على ذلك من القرآن والسنة:
أولاً: أدلة القرآن الكريم0
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 0
في هاتين الآيتين الكريمتين يأمر الله جماعة المؤمنين بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاجتماع على كلمته وعدم مخالفته، حتى لا يحدث نزاع بينهم فيقع ما حذرت منه الآيتان0(44/60)
.. يقول الشيخ رشيد رضا في شرحه للآية الثانية:"أطيعوا الله في هذه الأوامر المرشدة إلى أسباب الفلاح في القتال وفى غيرها، وأطيعوا رسوله فيما يأمر به وينهى عنه من شؤون القتال وغيرها من حيث أنه المبين لكلام الله الذي أنزل إليه على ما يريده تعالى منه، والمنفذ له بالقول والعمل والحكم، ومنه ولاية القيادة العامة في القتال، فطاعة القائد العام هي جماع النظام الذي هو ركن من أركان الظفر … " 0
... وقال القاسمي في تفسيره بعد شرحه للآية:"تنبيه: قال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَ أي: لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد، بل ليتفق رأيكم، قال: ولقائل أن يقول: استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبر أمرهم ويقطع اختلافهم، فإنه بلزوم طاعته ينقطع الاختلاف وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا، وقال: "اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي" 0
ثانياً: أدلة السنة النبوية:
1- عن أبى هريرة – رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدى، وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا فما تأمرنا0 قال: فوا ببيعة الأول فالأول0 أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" (1)
2- عن أبى سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب 50 جـ6 / 495، ومسلم في كتاب الإمارة باب 10 جت3/ 1471.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة باب 15 جـ3 / 1480.(44/61)
قال النووي في شرح الحديث الأول:"ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثانية باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه طلبها …، واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد: قال أصحابنا لا يجوز عقدها لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، قال: فإن بعد ما بين الإمامين وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال 0 قال: وهو خارج من القواطع وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصول وأراد به إمام الحرمين وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ولظواهر إطلاق الأحاديث0 والله أعلم" 0
وقال ابن حجر:"فوا" فعل أمر من الوفاء، والمعنى: أنه إذا بويع لخليفة بعد خليفة، فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة" 0
وقال ابن تيمية:"إنه صلى الله عليه وسلم سنَّ الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفى الجمعة والعيدين والاستسقاء وفى صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية، لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضى إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهى من الأفعال، وزجر عن ذرائع الفرقة وهى من الأفعال أيضاً" 0(44/62)
وقال ابن القيم:"إن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفى الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف، مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن، وذلك سدا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع، وطلبا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة، لئلا تختلف القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر 0
المبحث الثاني: ترك الخروج على الحاكم وطاعته في غير معصية الله0
... يرى أهل السنة والجماعة عدم الخروج على الحاكم المسلم الظالم الجائر، ما لم يصل ظلمه وجوره إلى الكفر البواح، وذلك سدا لمفسدة الخروج عليه، وما يترتب عليه من إراقة للدماء، وانتشار الفوضى في البلاد وبين العباد والأدلة على ذلك من السنة ما يلي:
1- حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" 0
2- عن عوف بن مالك الأشجعي – رضي الله عنه- قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا: يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك، قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة" 0
وقد وردت أحاديث كثيرة حول هذا المعنى وهى تفيد: ترك الخروج على الأئمة، ووجوب الطاعة في المعروف، وعدم طاعته في المعصية مع كراهة ما يأتي منها0وقد ذهب إلى القول والعمل بهذه الأحاديث أهل السنة والجماعة 0(44/63)
قال النووي في شرحه لحديث عبادة السابق ذكره:"ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته.. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه" 0
وقال ابن تيمية:"وقد استفاض وتقرر في غير هذا الموضع – ما قد أمر به صلى الله عليه وسلم - من طاعة الأمراء في غير معصية الله ومناصحتهم والصبر عليهم في حكمهم وقسمهم، والغزو معهم والصلاة خلفهم ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلا هم، فإنه من باب التعاون على البر والتقوى، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك مما هو من باب التعاون على الإثم والعدوان..، ولا يزال المنكر بما هو أنكر منه، بحيث يخرج عليهم بالسلاح، وتقام الفتن كما هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة، وكما دلت عليه النصوص النبوية في ذلك من الفساد الذي يربى على فساد ما يكون من ظلمهم، بل يطاع الله فيهم وفى غيرهم، ويفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه" 0
وقال الحافظ ابن حجر:"وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء" 0
... وقال ابن القيم:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة- وإن ظلموا أو جاروا- ما أقاموا الصلاة، سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن" 0(44/64)
وقال عبد الرحمن بن يحيى المعلمي:"وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر، خرج الناس على عثمان يرون أنهم يريدون الحق، ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق فكانت ثمرة ذلك بعد اللتيا واللتي أن انقطعت خلافة النبوة، وتأسست دولة بنى أمية، ثم اضطر الحسين بن على إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرة.." (1)
... وهكذا سرد المعلمي مفاسد الخروج الكبيرة في فترة من فترات الإسلام العظيمة، مبينا ثمرات هذا الخروج وآثاره على الأمة الإسلامية لهذا جاء الشرع الحكيم بسد الباب، ووضع أئمة أهل السنة ضوابط جليلة لمنع إراقة الدماء وحفاظا على المسلمين من التمزق والضياع 0
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
وبعد …،
فلقد انتهت بذلك صفحات هذا البحث بفصوله الخمسة التي بينت فيها ومن خلالها بعد المقدمة والتمهيد احتياط الشرع الحكيم للدين الحق القويم الذي جاء من عند الله عز وجل0
وقد ظهر من خلال هذه الدراسة أهمية علم التوحيد، وأهمية الحفاظ عليه، وسد كل منفذ يؤدى إلى خدشه، أو التهاون في أمره، لكونه أساس الدين وقاعدته التي يقوم عليها0
وعلى هذا أقول: يجب على دعاة التوحيد والسنة الاهتمام الكبير بالتوحيد، ودراسته دراسة علمية قوية لتقديمه صافيا نقيا إلى البشرية، وذلك لترتفع راية التوحيد عالية خفاقة فوق كل مظاهر الشرك والوثنية، وتطهر البلاد ويخضع العباد لله الحي القيوم سبحانه وتعالى، وحتى ينتشر الأمن والسلام والرخاء، فبالتوحيد يتحقق للعبد ما يريد بمشيئة من له الخلق والأمر وحده0
وعلى المسلمين جميعا الاعتصام بحبل الله، والسير على منهاج النبوة، ولا نخشى قلة السالكين، لأن العاقبة للمتقين0
والحمد لله رب العالمين
دكتور
عبد الله شاكر
__________
(1) التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل جـ1 / 99.(44/65)
ثبت المصادر والمراجع
1) أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة لللالكائي تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان ط / 1 الناشر دار طيبة بالرياض.
2) أضواء البيان في إيضاح القران للشيخ محمد الأمين الشنقيطي عالم الكتب / دار طيبة بالرياض بيروت.
3) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان للإمام ابن قيم الجوزيه. بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي. الناشر مكتبة عاطف بجوار إدارة الأزهر.
4) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزيه بتحقيق د / محمد محيي الدين عبد الحميد. ط / 1 / 1374هـ مطبعة السعادة بمصر.
5) الأم للامام محمد بن إدريس الشافعي مع مختصر المزني ط / 2 1403 هـ دار الفكر بيروت لبنان.
6) تفسير القران الكريم الشهير بتفسير المنار لمحمد رشيد رضا ط 3 / 1367 هـ دار المنار بمصر.
7) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي بتحقيق محمد زهدي النجار مطابع الدجوي بالقاهرة.
8) تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير بتحقيق عبد العزيز غنيم وجماعة طبعة الشعب القاهرة بدون تاريخ.
9) تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل للإمام محمد جمال الدين القاسمي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي مطبعة عيسى الحلبي.
10) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب ط/3ـ المكتب الإسلامي.
11) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
12) التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني ومحمد عبد الرزاق حمزة ـ الناشر / دار الكتب السلفية بالقاهرة.
13) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي طبعة دار الشعب بالقاهرة.
14) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية مطابع المجد التجارية بدون تاريخ.(44/66)
15) جامع البيان في تفسير القرآن للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ـ مصور عن الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق عام 1329هـ ـ القاهرة.
16) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاَ من جوامع الكلم لابن رجب بتحقيق محمد عبد الرزاق الرعود ط/1/ 1411هـ دار الفرقان للطبع والنشر بالأردن.
17) حكم تمثيل الصحابة لهيئة كبار العلماء باللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء طبعة دار أم القرى بالقاهرة بإشراف إدارة الدعوة والإعلام بالمركز العام لجماعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة.
18) دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس.ط/2/ 1407هـ مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.
19) الدين الخالص للسيد محمد صديق حسن بتحقيق محمد زهدي النجار مكتبة دار التراث بالقاهرة.
20) دلائل النبوة للبيهقي تحقيق د. عبد المعطي قلعجي ط/1/1408هـ الناشر دار الريان للتراث.
21) سنن أبي داود للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ومعه معالم السنن للخطابي بتعليق عزت الدعاس وعادل السيد.ط/1/1394هـ دار الحديث بسوريا.
22) سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي بتصحيح عبد الرحمن عثمان. ط/3/1407هـ مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.
23) سنن الدارمي للإمام أبي محمد بن عبد الرحمن الدارمي ـ طبع بعناية محمد أحمد دهمان ونشرته دار إحياء السنة النبوية بدون تاريخ.
24) سنن النسائي المجتبى للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي ومعه زهر الربى على المجتبى ـ ط/1 ـ 1383هـ مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة.
25) سلسلة الأحاديث الصحيحة لمحمد ناصر الدين الألباني المجلد الخامس طـ /1 /1412هـ مكتبة المعارف ـ الرياض.
26) سنن ابن ماجة للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ الناشر المكتبة العلمية بدون تاريخ.
27) سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني المجلد الأول ـ ط/ 4/ 1405هـ المكتب الإسلامي.(44/67)
28) سبل السلام شرح بلوغ المرام لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني بتحقيق إبراهيم عصر ـ الناشر دار الحديث بالقاهرة بدون تاريخ.
29) الشريعة للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري بتحقيق محمد حامد الفقي ـ الناشر أنصار السنة بلاهور ـ باكستان.
30) شرح النووي على صحيح مسلم ـ المطبعة المصرية ومكتبتها ـ بدون تاريخ.
31) شرح السنة للبغوي بتحقيق شعيب الأرناؤوط ـ ط/ 1/1400هـ المكتب الإسلامي.
32) شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني ـ ط/4/ 1391هـ المكتب الإسلامي.
33) صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مع شرحه فتح الباري ـ الناشر مكتبة الرياض الحديثة ـ بدون تاريخ.
34) صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ الناشر رئاسة البحوث العلمية والإفتاء بالرياض.
35) صحيح سنن الترمذي للألباني ـ ط/1/1408هـ المكتب الإسلامي ببيروت ـ الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج.
36) صحيح سنن أبي داود للألباني ـ ط/1/1409هـ الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج.
37) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية المطبعة السلفية بالقاهرة عام 1376هـ.
38) عون المعبود شرح سنن أبي داود لمحمد شمس الحق العظيم آبادي ـ ط/3/1407هـ مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.
39) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن على الشوكاني ط/2/1383هـ مطبعة الحلبي بالقاهرة.
40) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي ومراجعة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
41) فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد لأبي عبد الله البخاري ـ تأليف فضل الله الجيلاني ـ مطبعة المدني بالقاهرة عام 1402هـ(44/68)
42) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى للشيخ محمد الصالح العثيمين ـ ط/3/1409هـ مركز شؤون الدعوة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
43) كتاب السنة للحافظ أبي بكر عمر بن أبي عاصم الضحاك ومعه ظلال الجنة للألباني ـ ط/1/1400هـ ـ المكتب الإسلامي.
44) لسان العرب للإمام أبي الفضل جمال الدين ابن منظور ـ الناشر دار صادر ببيروت.
45) مسند الإمام أحمد بن حنبل ـ الناشر المكتب الإسلامي.
46) المستدرك على الصحيحين للإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري بإشراف د. يوسف المرعشلي ـ الناشر دار المعرفة ببيروت.
47) المغني لابن قدامة بتحقيق الشيخ محمد رشيد رضا ـ الناشر مطبعة الرياض الحديثة ـ بدون تاريخ.
48) معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بتحقيق عبد السلام هارون. طبعة دار الجيل ببيروت ـ بدون تاريخ.
49) معجم البلدان لأبي عبد الله ياقوت الحموي طبعة دار صادر ببيروت عام 1404هـ.
50) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ـ من مطبوعات الرئاسة العامة للإفتاء بالرياض.
51) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ـ الناشر مكتبة القدسي بالقاهرة ـ بدون تاريخ.
52) مجموع فتاوى ابن تيمية ـ جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد وابنه ـ مطابع دار العربية ببيروت.
53) مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ إعداد وتقديم أ. د.عبد الله بن محمد الطيار والشيخ أحمد بن عبد العزيز ـ ط/1/1416هـ ـ دار الوطن بالرياض.
54) مجموعة فتاوى ابن تيمية الكبرى ـ طبعة المطبعة الفنية ـ بدون تاريخ ـ الناشر دار المنار بالقاهرة.
55) الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي بتحقيق الشيخ عبد الله دراز ـ طبع المطبعة الرحمانية بمصر ـ بدون تاريخ.(44/69)
56) الموسوعة الفقهية اصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت/ ط/4/1414هـ 57) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي ـ المكتبة العلمية ببيروت ـ بدون تاريخ.
58) النبوات لابن تيمية ـ الناشر دار الفتح بالقاهرة ـ بدون تاريخ.(44/70)
المُدَارَاةُ
وأثرها في العلاقات العامة بين الناس
(دِرَاسَةٌ شَرْعِيةٌ اجتماعيةٌ)
بقلم
د. مُحَمَّدِ بنِ سَعْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَن آل سعود
المقدمة
الحمد لله القائل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [164/ الأنعام] .
وأُصلّي وأُسلِّم على من اصطفاه ربّه وأرضاه، القائل: " كلام ابن آدم كلّه عليه لا له إلاّ ذكر الله عزَّ وجلَّ، أو أمر بمعروفٍ أو نهي عن منكر " (1) ، وعلى آله وصحبه، وأمّته الذين اتّبعوا هداه.
أما بعد:
فللمسلم الفرد دور خاص في حياة المسلمين جماعة، ولهم فيه تأثير فيما يأتي أو يدع. ودوره يَبْرز أو يختفي حسب قدراته، واستعداداته للمشاركة، من خلال فرص الحياة الكثيرة، ومعرفة استغلالها من قِبَلِهِ.
وأردت - والله المستعان - من خلال بحث موضوع (المُداراة وأثرها في العلاقة بين النّاس) أن أشارك غيري دراسة أنجع السبل لإيجاد علاقات اجتماعية ناجحة وفق المعنى الشرعي في مجتمع يدين في شتى نواحي الحياة لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف.
وأُبيِّن بعض ما ورد عن هذا السلوك الأساسي - الَّذي يربط جميع أفراد المجتمع بعضه ببعض - في القرآن والسنّة، وما انعكس بعد ذلك من تأثير عنهما على حياة الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.
__________
(1) أَخرَجه التِّرمذيّ في الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، وقال: ((هذا حديث حسن غريب)) ، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب كفُّ اللسان في الفتنة.(44/71)
ثمَّ ما طرأ بعد ذلك على هذا السلوك من توسّع في المفهوم لدى المتأخرين الَّذِين بدأت تميل كفّة ميزان حياتهم إلى الأمور المادية، بعالمها، ومعالمها، مما دفع بعضهم إلى التّخلّي - متعمّدًا، أو مضطرًا - عن بعض الأخلاق الحميدة الَّتِي تميّز الفرد المسلم عن غيره، كالصدق، والوفاء، والمروءة، ليصبح قاب قوسين أو أدنى من السيء من القول أو الفعل الَّذي من أخطره، وأشنعه خصلتا: النفاق، والكذب. اللتان توديان بصاحبيهما يوم القيامة إلى الدرك الأسفل من النار.
وقد قسَّمت بحثي هذا إلى أربعة مباحث بعد المقدّمة والتمهيد.
في الأَوَّل تعريف عام (للمداراة) في معناها اللّغوي، والاصطلاحي.
وفي الثَّاني استعرضت بشيء من الإيجاز ما ورد في كتاب الله العزيز عن (المداراة) ومدلولاتها وفق ما اخترت من آيات كريمات. وحاولت أن أُبرز دور (المداراة) في دعوة الرسل بوصفها منهجًا قائمًا بذاته يحتاجه الدعاة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وفي الثَّالث أوردت نماذج مختلفة ممَّا ورد في السُّنَّة المطهرة من أحاديث تدعّم ما أردت بيانه من تأثير (المداراة) على سلوك الداعية، وإيجابية ذلك في نتائج دعوته.
وذكرت من مواقف بعض الصَّحابة، والتابعين رضي الله عنهم ما يندرج في مفهوم العام (المداراة) .
وأمّا المبحث الرابع فأردت أن استبين واقع المجتمع المعاصر الذي اعتبرته امتداداً طبيعياً للمجتمعات فيها يخصّ معاملة الأفراد بعضهم بعضاً وما استجدَّ فيه من مفاهيم واسعة (للمداراة) فرضتها عوامل معيشية مختلفة على كثير من أفراده، يجنح معظمها إلى الخروج عن المفهوم الإسلامي الصحيح. وما انعكس بعد ذلك من نتائج سلبية على المجتمع المسلم المعاصر.(44/72)
وفي الخاتمة حاولت أن استعرض أهم نقاط البحث الإيجابية مثل أسلوب الصالحين في الدعوة إلى الله، والسلبية كخفّة الوازع الديني عند البعض، وتفشي الرشوة، وتعميم الوساطة، واعتبار المحسوبية، وتقرير الحلول المناسبة الَّتي من أهمّها تحقيق معنى الإحسان: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " (1) .
فإِنَّ ذلك صِمام أَمانٍ للإنسان من الوقوع في كثير من المعاصي والآثام. ومن الله استمدّ العون والتوفيق.
وفي التمهيد قبل ذلك ذكرت نقاطًا من أهمها حاجة الإنسان للإنسان لقضاء حاجاته، وتحقيق أهدافه، وما يجب أن يكون بينهما من صدق ووفاء واحترام لتسلك العلاقة بينهما مسلكًا صحيحًا وفق ما نصّ عليه الشارع الحكيم عند تبادل المصالح.
ومنها تقوى الله في السرّ والعلن حتَّى لا يطغى الشَّر على الخير، والرضا بما قسمه الله دون التطلع إلى ما بأيدي النّاس.
ومنها العمل التطبيقي لما جاء في القرآن من آيات باهرات تدلّ المسلم إلى أنجع الطرق، وأقربها تحقيقًا من نفسه للخروج من اليأس إلى الأمل، فإِنَّ القلوب كلما كانت مطمئنة بالإيمان استطاع أصحابها العيش بسلام وأمان.
ومنها أن التفاوت في السلوك والأخلاق بين المسلمين سببه اختلاف درجات فهمهم لقواعد دينهم. وقبل ذلك صلاح النيّة، أو فسادها في القول أو العمل.
ومنها أن العلم الشرعي السليم من آفة البِدع والضّلال يُكْسِي صاحبه كلما ازداد منه، درعًا واقيًا يرد عنه كيد الشيطان. ويبصِّره الصراط المستقيم.
ومنها أن القدوة الحسنة، والنشأة القويمة، والتربية السليمة للإنسان تجعل منه عنصرًا صالحًا طيّبًا ينتفع منه الجميع.
__________
(1) أَخرَجه البخاريّ في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم.(44/73)
ومنها ارتباط مصالح النّاس بعضها ببعض، فلا يستطيع إنسان الاكتفاء ذاتيًا في متطلبات معيشته دون الاستعانة بغيره. والناس على درجات متفاوتة من الذكاء، ممّا يجعلهم يتفاوتون في الجمع والتحصيل، ولا يتّفقون في القدْر والنوع. وغير ذلك من النقاط الَّتي احتواها هذا البحث الَّذي يصبُّ في قالب العلاقات العامة، والقدرات الإنسانية الاجتماعية وفق توجيه إسلامي حكيم، والله أعلم وهو المستعان.
التمهيد
الحمد لله الَّذي هدى الإنسان النَّجدين: إمّا شاكرًا، وإمّا كفورًا. وركّب فيه من الحواس ما مكّنه من الاتصال بغيره من المخلوقات، والتّفريق بينها في المعاملة.
وربطه ببني جنسه بمجموعة كبيرة من الأخلاق، والسلوك، والمبادئ الَّتِي تنظّم نوع العلاقة بين الطرفين. وتجعل كلّ طرف يتوقّف عند حدود محدّدة، تحفظ عليهم كرامتهم، وتصون إنسانيتهم، وتحفظ لهم حقوقهم، ومكتسباتهم.
وللمعاملة بين الإنسان والإنسان قواعد ثابتة من التقدير، والاحترام المتبادل، والخوف المشترك على الذات. فكما تدين تدان.
والله جعل النّاس سواسية، أكرمهم عنده أتقاهم يوم القيامة. وفي الحياة الدنيا يتميّز بعضهم عن بعض بما تُستجمع به التقوى، من يقين بالمعبود، وإخلاص في العبادة، وأداء للحقوق، ما كان منها لله، وما كان منها للعباد.
والعمل بأشكاله المتعددة، المختلفة نوع من المعاملة بين النّاس، تَحسُن، أو تسوء تبعًا لأخلاقهم.
فينزع المحسن إلى الإحسان، وينزع المسيء إلى الإساءة. وكلا الطرفين يظن جلب الأفضل لنفسه.
وفي العيش في مجتمع واحد يحتاج الإنسان لتحقيق أهدافه إلى وسائط، ووسائل مختلفة، فيبذل من فكره، وجَهده الكثير، الكثير.(44/74)
فمنهم من لا يتورّع عن اتخاذ الوسائل أيًّا كان نوعها، ونتائجها لتحقيق غاياته، حتى ولو أَضرَّ بغيره من أفراد مجتمعه. ومنهم من يقف عند حدود الله، حتى ولو خسر تحقيق غايته. وحاجة الإنسان لغيره لا ينفكّ يطلبها ما دبَّ على الأرض. ويطلبها غيره منه، في أكثر أحواله، وحينه.
ولمّا كان الإنسان منّا يعتريه الضّعف، ويظهر منه التقصير، فإنّه يلجأ - حينئذٍ - إلى الاحتيال على واقعه، محاولاً الخروج بما يظنّه خيرًا بأساليب، وأفاعيل شتى.
وإذا ضعف أمام حاجة نفسه، وشهواتها، ورغباتها، استهوته الشياطين حيران بين مُضي وإحجام.
ولا تنفك النّفس - الأمّارة بالسوء - تلح في الطلب حَتَّى يستحوذ على الإنسان شعور بالعجز عن مقاومتها، والحدُّ من تفلّتها، وغلوائها، فيقع في المحذور، ويتزعزع حينئذٍ كيانه الأخلاقي، ويساق إلى أغوار ساحقة، بغيضة من الدونية في تفكيره، وتحليله للأمور.
ومتى استطاع الإنسان سبيلاً إلى خلق التوازن بين متطلبات نفسه، وما يحكم الخلْق من ضوابط، ونواميس كونية، وشرائع سماوية، استطاع أن يحدَّ كثيرًا من سرعة انزلاقه فيما يخالف أمور الدين، والأخلاق. وقد أنزل الله إلى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم شريعة سمحة، توافق طبائعهم الفطرية والمكتسبة في مجتمع إسلامي قائم على الحقّ المبين. فإن أخذ بها المسلم، وجعلها طوقًا في عنقه، كسب، وأكسب غيره الخير منه.
فعندما تضيق عليه السبل يعمل بقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح / 5 - 6] .
وعندما يستبطيء النتائج يعمل بقوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل / 126] .
وإذا خاف على نفسه من ظالم، أو حاقد، أو حسود عمل بقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة / 137] .(44/75)
وإن خاف فقرًا على نفسه أو عياله، ذكر قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة / 28] .
وقوله تعالى: {. . . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق / 2 - 3] .
وإن شعر من الشيطان عليه هيمنة، وزيَّن له سوء عمله، عمل بقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصِّلت / 36] . لأنّه كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل / 99 - 100] .
وإن رأى الإنسان من نفسه عُجْبًا، وتعاليًا على النّاس، واستخفافًا بحقوقهم، واحتقارًا لشئونهم تذكّر قول الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء / 38] .
وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص / 83] .(44/76)
وإن همَّ بفعل معصية، وسعى لتحقيقها تذكّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الإحسان: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " (1) .
وقول الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء / 108] .
هذه البصائر العظيمة، ومثلها كثير في القرآن والسنّة أعلامُ خيرٍ مضيئة، لا يضل من استنار بنورها، وعمل بمقتضاها.
والسؤال: كيف يتفاوت المسلمون في سلوكهم، وأخلاقهم وهم أمّة رسول واحد، وينهلون من معين كتاب واحد؟!! .
والجواب:
(1) أن التفاوت بينهم مردّه إلى فقههم في الدين ومعرفة الدليل، وإخلاص النيّة في القول والعمل لله وحده. قال ابن القيّم: ((يتفاوتون في معرفة النصوص، والاطلاع عليها، كما يتفاوتون أَيضًا في فهمها، فمنهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرّد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه، وإشارته، وتنبيهه. ومنهم من يضم إلى النص نصًّا آخر متعلّقًا به فيفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك النص بمفرده.
وهذا مشروط بفهم يؤتيه الله عبده)) (2) .
(2) وما يزال الإنسان يتعلّم، ويرقى في العلم حَتَّى يصبح علمه خيرًا له، إن جاء وفق ما شرع الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أو وبالاً عليه إن كان اتباعًا لهوى، أو اقتداء بمبتدع.
__________
(1) أَخرَجه البخاريّ في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الإِسلام والإحسان.ومسلم في كتاب الإيمان، باب الإِسلام والإيمان والإحسان، كلاهما عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه.
(2) أعلام الموقعين (1/268) .(44/77)
(3) ووعي الإنسان، وإدراكه، وحسن تقبّله للعلم مما يعطي الله عباده، أو يمنعه، بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن أبي سفيان يرفعه: " مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي " (1) .
فالأمانة الَّتِي تحمّلها الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ للجميع بما أوحى الله إليه، بلا تمييز بينهم، ولا تقصير في حقِّ أحدهم، ولا تخصيص لأحد دون آخر. فقسمته في البشارة، والنذارة، بين النّاس، قسمة عدل، وإنصاف، وفيها تجرّد مطلق عن هوى، أو عصبية، ثمَّ الله يعطي فهم هذه الشريعة، بمفرداتها، ومجموعها، لمن يشاء من عباده، وأراد له الخير، ويمنعه عمّن يشاء بعدله، وحكمته.
(4) ويتأثّر الإنسان بما حوله، وبمن حوله في سلوكه، وأخلاقه منذ مراحل تكوين شخصيته المبكّرة، مما يشكّل في مجموعه - غالبًا - محور شخصية هذا المخلوق في مستقبل أيام حياته. ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ " (2) .
قال الخطابي: إنّ كلّ مولود من البشر إنما يولد في أوّل مبدأ الخلق، وأصل الجبلَّة على الفطرة السليمة، والطبع المتهيء لقبول الدِّين. فلو تُرك عليها، وخُلِّي وسوْمَها لاستمر على لزومها، ولم ينتقل عنها إلى غيرها.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا، ومسلم في الزكاة، باب النهي عن المسألة، كلاهما عن معاوية بن أبي سفيان.
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلى عليه، ومسلم في كتاب القدر (22، 23، 24) ، باب معنى كلّ مولد يولد على الفطرة. . كلاهما عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه.(44/78)
وذلك أنّ هذا الدين بادٍ حسنه في العقول، ويُسْره في النفوس.
وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره، ويؤثره عليه لآفة من آفات النشوء، والتقليد.
ولما سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره، ولم يختر عليه سواه.
ثمَّ تمثل بأولاد اليهود، والنصارى في اتِّباعهم لآبائهم، والميل إلى أديانهم، فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة، وعن المحجة المستقيمة (1) .
(5) غير أن للعقل في الإنسان دورًا بالغ الأهميّة في هدايته، عند اكتمال نضجه، وتحرّره من القيود غير الشرعية، والأوهام في العادات والتقاليد الموروثة، ويبقى على أصل خِلقته من السلامة من الآفات.
فمن النّاس من ينشأ كافرًا ثمَّ يهتدي بعقله - بعد إرادة الله - إلى الإيمان الحق، متدبّرًا لآيات الله في الكون، وفي نفسه.
فيتحوّل من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة.
والأمر نفسه يظهر في الأخلاق، والسلوك، فينشأ الإنسان على نمط منهما سيئاً ثم يهتدي بعد أن تزول عن عينيه غشاوة الضلال.
(6) وإذا تكلّف إنسان سلوكاً معيّناً لتحقيق غايته، تكلّف نمطاً غريباً، وشاقا من التعقّل والتفكير، لا يلبث أن يتلعثم صاحبه عند المواجهة، ويجنح إلى الإصاح عن حقيقة نواياه فتظهر للعيان، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد / 30] .
فالَّذين تخلّفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرّعوا بعورة بيوتهم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا.وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا} [الأحزاب / 12 - 14] .
__________
(1) انظر كتابه أعلام الحديث (1/716) .(44/79)
والَّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك مدّعين الخوف على أنفسهم من الافتتان ببنات الروم، كشف الله زيف دعواهم بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة / 49] .
فالنفاق سلوك شاذ عن قاعدة البراءة للإنسان السوي. وإنما يكتسبه - بعضهم - لمرض في قلبه، وضعف في إرادته، وتخلخل في إيمانه.
ويَعْتَبِرُ أنّ ذلك السلوك منه نوع من حسن التّصرّف، والتَّعْمية على الآخرين لتحقيق الغاية. فيصبح له أسلوب حياة.
وصدق الله القائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف / 2 - 3] .
فمخالفة القول العمل، خلق مذموم، يفقد صاحبه احترام الآخرين. . .
والمعاملات، والمبادلات بين إنسان، وإنسان تقوم على حاجتهما الفطرية إلى إشباع رغباتهما، وتتحقق بتعاونهما معًا في قضائها.
وهوى النّفس، والشعور بالتميز عن الآخرين، والأَثرة تظهر في سلوك بعض النّاس عند تعاملهم. وهي أمور قد تجرُّ إلى صراع بين الطرفين، وانتحال الأسباب باللجوء إلى أنواع من الحيل، والالتواء في الأساليب.
ومن حكمة الباري عز وجل أن جعل كثيرًا من المصالح الدنيوية مرتبطًا بعضها ببعض، ومكمّلاً بعضها بعضًا، فلا يمكن لإنسان تحقيق مصلحة ذاتية من كثير من الأشياء إلاّ بمساعدة غيره. ولا يستطيع إنسان الاكتفاء ذاتيًا في جميع حاجاته في الحياة دون الاستعانة بغيره، سواء كان بطريق مباشر، أو غير مباشر.
وجعل الله النّاس على درجات متفاوتة، ومختلفة من الذكاء، والفطنة، فهم يتفاوتون أيضًا في الجمع والتحصيل، ولا يتّفقون في القدْر والنوع.(44/80)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَاءَاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام / 165] .
والضعيف يتودد إلى القوي لتحقيق منافعه الذاتية، والقوي يبذل من ماله، وسطوته ما يؤمن حصوله على حاجته، فينشأ من هذا الصراع في هذا المجال وغيره من مجالات الحياة المعيشية المختلفة، تَفَتُّق الأذهان عن البحث في شتى الطرق، والوسائل المؤدية إلى تأمين ما يحتاجه النّاس من تحقيق مصالحهم فيما بينهم. وهم في ذلك - يختلفون في الأسلوب، والنهج، ونوع الإرادة، ودرجة الصبر، وقوّة اليقين، وقدرة التحمّل. وعلى سبيل المثال:
أ - الإنسان كلما قَصَرَ حاجات نفسِه المعيشية على الضروري منها، عاش بعيدًا عن المهاترات الَّتِي تزري به، وحفِظ لقدْره، ولكرامته علوّ المكانة، ووفّر على نفسه الجهد والمشقّة في اللجوء إلى أكثر أساليب (المداراة) ، وقلَّل من فتن الدنيا عليه، وزخرفها، وزينتها.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ " (1) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الألباني في صحيح سنن التِّرمذيّ (2/266) : حسن.(44/81)
ب - وأمّا الَّذي لا يتورّع عن اتخاذ أي وسيلة لتحقيق غاياته فإِنَّه يُكَيِّف أفعاله وفق مصالحه الذاتية، وتكون علاقاته مع الآخرين محكومة بالمصالح الخاصة به، فهو في سعي دائب، وشغف وتعلّق بظاهر الحياة وزخرفها، ولسان حاله يقول: إذا مت ظمآن فلا نزل القطر.
وأمّا الَّذي يُداري، ويُتدارى منه، يأخذ بحق، ويعطي بعدل، يرغب في الزيادة، ويخاف من المشتبهات فيها، يملك من الإرادة ما يجعله يسيطر على رغبات نفسه - غالبًا عِند تجاوزها حدود الله.
فهو يحرص على المباحات عند التفتيش عن الوسائل، ويتتبع الرخص عند الدفاع عن نفسه، وإقناعه لها.
فشهوة حبّ التملك تغالبه عند استرساله في تصور الأمور، وتحليلها.
فالأوّل يغلب عليه الزهد، والقناعة، الَّلذان ملأا جوانح نفسه بالرضا بما قسم الله له.
والثاني غلبه هواه، وطوَّعته نفسه، وسيَّره الشيطان.
فالهوى أعمى بصيرته، والنفس أطغته، والشيطان زيّن له عمله فرآه حسنًا. فنفسه سوّلَت له فعل تحقيق شهواتها، ففعل، حَتَّى إذا ذُكِّر، أو تذكّر سوء العاقبة، علم أنّ الله غفور رحيم. وأطنب في التسويف، وتشدَّق بقوله: ليس إنسانًا معصومًا، ثمَّ تغلبه نفسه على ما تعوّد منها.
ثمَّ هو ينقم على كلّ من يفضله بمالٍ، أو جاه، أو عيال، فلا ينسب التقصير إلى نفسه، بل إلى سوء طالع، وشحّ الفرص في الحياة.
وما أن تلوح له فرصة منها حَتَّى يبادر إلى اقتناصها غير مبال بالنتائج، فالحلال ما وقع في يده، والحرام ما استعصى عليه.
وأما الثالث فهو الأنموذج الأقرب للإصلاح، والصلاح، خيره قريب، وخوفه شديد من سوء العاقبة، وتردده بين الصحيح والأصح جعله يميّز بين ما هو حرام وما هو حلال وما بينهما من مشتبهات الأمور.
وإذا ما غلبته نفسه - أحيانًا - على فعل المتشابه من الأقوال، والأفعال، يسترجع، ويندم.(44/82)
وفي مجتمع يعجُّ بالمفارقات الطبقية، والاعتبارات الذاتية للألقاب، والسمات الشخصية، والمكانة الاجتماعية، والأصول العرقية، يكون مجتمعًا قابلاً لشتى الأفكار، والمناحي، والاتجاهات.
فمن كل نوع تجد أنموذجًا، وأفرادًا، ولكل شرب تجد صادرًا وواردًا، وخاصة ما يتعلّق بجانب (المداراة) سلوكًا يُتَوصَّل به إلى تحقيق الغاية.
وفي هذا البحث أحاول الوصول - إن شاء الله - إلى شيء من معرفة بعض ما يتعلّق (بالمداراة) بالاستعانة بما ورد في القرآن من آيات، وفي السنّة من أحاديث، وآثار الصحابة، والتابعين. ففي مجموع ذلك ما ينير الطريق للباحث، ويكشف زيوف ما جدّ على مسألة (المداراة) عند المتأخرين الّذين {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة / 102] .
و (المداراة) سلوك لا يمكن أن يسلم منه إنسان سوي، فربما كان أمرًا يجري منه مجرى الغرائز فيه الَّتِي لا تنتهي عن الطلب حَتَّى تنال إرواءها.
هذا على اعتبار أن حاجات الإنسان ومتطلباته في الحياة الدنيا لا تنتهي، وإن كانت تقلّ وتكثر بين إنسان وآخر وفقًا لدرجة التحمّل، والصبر لديه، وتقييمه لفرص الحياة.
فالوقوف على سلبيات، وإيجابيات (المداراة) يُسَهِّل الانتفاع بما هو صالح، وطرح ما هو فاسد منها، أو الحدّ من الفاسد بترويض النّفس على القناعة بالقليل الصالح عن الكثير الفاسد الَّذي يضر بالدين، والأخلاق والمروءة.
وقد قيل: من ابتغى الخير اتقى الشر.
وقال الباري جلّ وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء / 36] .
وأسأل الله السداد.
المبحث الأول
المعنى اللغوي والاصطلاحي للمداراة وبعض مرادفاتها
أولاً: المعنى اللغوي:(44/83)
قال الأزهري: قال أبو زيد في كتاب ((الهمز)) :
(درأْتَ) الرجل (مُدارأة) إذا اتّقيتَهُ.
وقال أبو عبيد: (المدارأة) هاهنا مهموزة، من (درأْت) وهي: المشاغبة، والمخالفة على صاحبك. ومنه قول الله عز وجل: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} ، يعني اختلافهم في القتيل.
ومن ذلك قول الشعبي في المختلِعة: ((إذا كان (الدُّرْءُ) من قِبلها فلا بأس أن يأخذ منها)) .
يعني (بالدرء) : النشوز، والاعوجاج، والاختلاف. وكلّ من دفعتَه عنك فقد (درأْتَه) .
وقال ابن السّكيِّت: (درأْته) عني (أدْرؤه) (درْأ) : إذا دفعته. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " (1) .
يقال: (درأت) فلانًا أي: دفعته. و (داريته) أي: لايَنْتُه.
و (درأته) : (داريته) ودافعته، ولاينته (2) ا.هـ.
قال في اللسان:
و (المداراة) في حسن الخلق، والمعاشرة مع النّاس يكون مهموزًا (مدارأة) ، وغير مهموز (مداراة) .
فمن هَمَزَه كان معناه: الاتقاء لشرّه.
ومن لم يهمزه جعله من (دريْت) الظبي أي: احتلت له، وختلته حَتَّى أصيده.
و (داريته) من (دريت) أي: ختلت.
قال الجوهري: و (مداراة) النّاس: المداجاة، والملاينة.
ومنه الحديث: " رأس العقل - بعد الإيمان بالله - مداراة النّاس " (3) .
__________
(1) رواه أبو حنيفة عن ابن عبّاس في (مسنده) مرفوعًا، ص186. وضعّفه الألباني. انظر: (إرواء الغليل) ، حديث رقم (2316) ، تلخيص الحبير (4/56) .
(2) تهذيب اللغة: (14/156) .
(3) أَخرَجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه، كتاب الأدب، باب ما جاء في اصطناع المعروف عن هُشيم عن عليّ بن زيد عن سعيد بن المسيب. قال يحيى بن معين: لم يسمع هُشيم من عليّ بن زيد حديث (رأس العقل) . انظر تاريخه (2/622) ، قال البيهقي في شعب الإيمان (6/343) رقم (8446) : وصْلُه مُنْكَر، وإِنّما يُروى منقطعًا.(44/84)
أي: ملاينتهم، وحسن صحبتهم، واحتمالُهم لئلا ينفروا عنك.
و (داريت) الرجل: لاينته، ورفقْتُ به (1) .
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال ابن حجر: قال ابن بطّال:
المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي: خفض الجناح للنّاس ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الأُلفة.
وظنّ بعضهم أن المداراة هي: المداهنة، فغلِط.
لأنّ المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرَّمة.
والفرق أنّ المداهنة من الدِهان، وهو الَّذي يظهر على الشيء، ويستر باطنه.
وفسَّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه.
والمداراة هي: الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يُظهِر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول، والفعل ولاسيما إذا احتِيج إلى تألفه، ونحو ذلك (2) .
وقال الجرجاني:
المداهنة هي أن ترى منكرًا وتقدر على دفعه ولم تدفعه حفظًا لجانب مرتكبه، أو جانب غيره، أو لقلّة مبالاة في الدين (3) .
قال ابن حبان تعليقًا على حديث ((مداراة النّاس صدقة)) (4) : (المداراة) الَّتِي تكون صدقة للمداري هي تخلُّق الإنسان الأشياء المستحسنة مع من يُدفع إلى عشرته مالم يَشُبْها بمعصية الله.
__________
(1) اللسان، مادة: درأ.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري: (10/528) .
(3) التعريفات: (ص235) .
(4) رواه ابن حِبَّان في صحيحه: 2/216، حديث رقم (471) ، والطبراني (في الأوسط) برقم (466) ، وأَبو نُعيم في (الحلية) : 8/246، وابن السني (في عمل اليوم والليلة) برقم (325) . قال الشَّيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على الإحسان في تقريب صحيح ابن حِبَّان: إسناده ضعيف. المسيب بن واضح: صدوق يخطيء كثيرًا، فإذا قيل له لم يقبل، قاله أبو حاتم. وانظر الكامل لابن عدي (6/2383 ـ 2385) ، كشف الخفاء (2/200) .(44/85)
والمداهنة هي: استعمال المرء الخصال الَّتِي تُستحسن منه في العِشرة، وقد يشوبها ما يكره الله جلّ وعلا.
وقال ابن القيّم: ((الفرق بين المداراة والمداهنة: أن المداراة التلطّف بالإنسان لتستخرج منه الحقَّ أو تردّه عن الباطل، والمداهنة: التّلطّف به لتقرَّه على باطله وتتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق)) (1) .
وقال أبو هلال العسكري:
الفرق بين (اللطف) و (المداراة) أن (المداراة) ضرب من الاحتيال، والختْل، من قولك: (دريت) الصيد إذا ختلته.
وإنما يقال: (داريت) الرجل إذا توصّلت إلى المطلوب من جهته بالحيلة، والختل.
قال: وفلان لطيف الحيلة إذا كان يتوصَّل إلى بغيته بالرفق، والسهولة. ويكون اللطف حُسن العشرة، والمداخلة في الأمور بسهولة (2) .
المبحث الثَّاني ما ورد في القرآن الكريم عن المداراة ومدلولاتها
القرآن الكريم كتاب هداية {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة / 16] .
وهو كلام الله ووحيه إلى نبيّه المصطفى - محمَّد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم، الَّذي ختم به النبوة، وقفّى به الرسل {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى / 52] .
وجاء القرآن الكريم في مضمونه شاملاً لما أراد الله بيانه لخلقه من أوامر ونواهٍ، وواجبات وحقوق {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام / 38] .
__________
(1) انظر كتاب ((الروح)) ص (281) .
(2) الفروق، لأبي هلال العسكري ص (241) .(44/86)
وهو {كِتَابٌ أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود / 1] .
فهاتان الصفتان العظيمتان: الشمول، والتفصيل أكْسَبَتا معجزة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الخالدة قوّة الحجّة، وسلامة المنطق، ورسوخ القاعدة، وإيجابية المفهوم، واستمرارية التطبيق، وصلاح النظام، وعدم الخشية من التبديل أو التحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر / 9] .
فلا يجد العاقل السوي عند سماعه أو تلاوته إلاّ أن يُذعن ويستجيب.
ومن أعرض، وناوأ، فلمرض في قلبه، أو لجهله فحوى الخطاب، أو فيه شيء من المكابرة قد تَسَوَّرَ بصره فأعمى بصيرته.
وقصّ فيه من القَصص أحسنه عن الأمم السابقة في العصور الغابرة، ليتفكّر، ويتذكّر، ويعتبر إنسان العصر بمن مضى، وباد، وانقرض، من الأمم، والدول، أكابر، وأصاغر، حَتَّى لا يغترّ أحد بقوّته، أو جبروته، أو سلطانه.
وللقرآن أساليب مختلفة باختلاف المناسبات، والوقائع، فهناك ما يتطلّب الجدل بالتي هي أحسن لتأليف القلوب، وما يصاحب ذلك من آيات باهرات، تُبْهت الفاسق، وتكسر طوق المعاند، والمكابر، وتزيد المؤمن إيمانًا راسخًا.
كقوله تعالى في وصف موقف إبراهيم الخليل عليه السلام مع النمرود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة / 258] .
فالقوة بالمنطق غلبت القوّة بالجدل المتفرع عن الباطل.
ويظهر ضعف موقف الماديين عند الجدال بالحجّة على شكل زمجرة، وزعيق، ووعد، ووعيد.(44/87)
وللباطل جولات يظهر الحقّ بعدها سيفًا يبتر علائقه. وعند مجادلة الجبابرة من أهل الظلم، والبغي في ظلمهم، وبغيهم، وجبروتهم، تظهر الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن عند المؤمنين بوحدانية الله، وتظهر سِمة التعالي، والتطاول، والمكابرة عند الكافرين. ذلك لأنّ كلّ فريق ينطلق من قاعدته الَّتِي بنى عليها معتقده. فالمؤمن الراسخ الإيمان ذو قناعة تامة، واطمئنان قلبي لما سيؤول إليه أمره. والكافر فقد الحجّة السليمة فلجأ إلى القوّة، والأساس السليم يقوى على حمل صَرْحٍ سَليم. وما كان على جرفٍ هارٍ فإنّه ينهار.
والأنبياء والرسل من أكثر عباد الله المؤمنين حرصًا على هداية النّاس، ودعوتهم جميعًا إلى توحيد الله في العبادة. وتحذيرهم من كيد عدوهم الأوّل إبليس اللعين وزمرته.
وقد غلب على أسلوب دعوتهم طابع الصبر، واللِّين. فهذا نوح عليه السلام يمكث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عامًا يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، ويحذّرهم سوء العاقبة إن هم أعرضوا، ويعدهم بالثواب الجزيل إن هم أقبلوا.
فالتحذير، والتذكير، والإغراء، من أساليب الإمالة للقلوب السليمة إلى الأخذ بأسباب النجاة. من غير عنف، أو إكراه.
وإبراهيم عليه السلام كان من أكثر المناوئين له أبوه وقومه عند دعوته لهم إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئًا، وقد لاقى في ذلك عنتًا شديدًا، وحرجًا بليغًا لوقوف أبيه مع المشركين ضدّ دعوته، حَتَّى قال له أبوه يومًا: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْءَالِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم / 46] .
فاستوحش إبراهيم عليه السلام من موقف أبيه آزر، ولكنه أبقى على شيء من البرِّ له عندما {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم / 7] .(44/88)
غير أنّ هذا الموقف اللين لم يغير شيئًا من موقف أبيه واستمر في عدائه لدعوته.
عندها خشي عليه السلام أن ينقلب موقفه من أبيه وقومه من مفهوم المداراة إلى مفهوم المداهنة.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة / 114] .
تبيّن له من جهة الوحي أنّ أباه لن يؤمن، وأنّه يموت كافرًا.
فانقطع رجاؤه عنه، فقطع استغفاره له.
وهكذا يجب أن يكون موقف الداعية المؤمن من المناوئين لدعوته، صبرًا على الأذى، ولينًا في الخطاب، ووضوحًا في البيان، والتذكير، والوعد، والوعيد. حَتَّى إذا سُدَّت المنافذ في وجهه، واستحكم الهوى على عقل عدوه، وأظهر مقاومة شرسة، تركه وما أراد، فقد أعذر إلى الله، وبرئت ذمّته، وأقام الحجّة على عدوّه.
ولإبراهيم الخليل عليه السلام في دعوته إلى الله موقف آخر مع عدو من أعداء دعوته الَّذي سنَّ لنفسه قانونًا يقضي بوجوب إحاطته بكل امرأة توصف بالحسن والجمال تدخل أرض مملكته ليستأثر بها لنفسه.
وجاءه خبر (سارة) زوج إبراهيم عليه السلام، وكانت أجمل نساء الأرض. قيل له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلاّ لك. فأدرك الخليل عليه السلام أنّ الجبّار سيستدعيها إليه بالقهر، والجبروت، ولا طاقة له بردِّه، ومنعه عمّا أراد، فاتّفق مع زوجه أن تقول إذا سألوها عن صِلة القرابة بينهما أَنَّها أخته - وأراد بذلك أخوّة الإيمان - وفي ذلك تمويه على الكافر حَتَّى لا يقدم على قتله إذا عَلم أنّه زوجها، ليتخلّص منه، ويأمن شرَّ غيرته، ولكن ربّما حرص - الجبار - على استرضائه بوصفه أخًا لسارة طمعًا في زواجه منها عن طريق طلبها منه، ثمَّ يرجو مدافعته عنها.(44/89)
وقيل: إنّ إبراهيم عليه السلام أراد دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفّهما، وذلك أنّ اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة، لكن إن علم أنّ لها زوجًا في الحياة حملته الغيرة على قتله وإعدامه، أو حبسه وإضراره، بخلاف ما إذا علم أنّ لها أخًا فإن الغيرة حينئذٍ تكون من قبل الأخ خاصة لا من قِبل الملك فلا يبالي به (1) .
وصلة إبراهيم عليه السلام بربّه وثيقة، ومتينة، فأدرك عليه السلام أن لله في ذلك الأمر حكمة، وأنّ الله لن يمكّن عدوّه من وليّه، وأنّ العاقبة للمتّقين، وهو الحفيظ العليم.
وكان من قصّتهما أنّ الله أخزى الكافر، وأبطل كيده، وكبته، وحمى عرض نبيّه، وأخدمها الكافر (هاجر) أم إسماعيل عليه السلام (2) .
فطريق إبراهيم عليه السلام في التعامل مع الكافر الجبّار أخذ جانب المسايرة، والملاينة طريقًا لمداراة الجاهل، السفيه، الأحمق.
وإبراهيم عليه السلام كان غيورًا، حَتَّى قيل: بأنّه صنع تابوتًا لزوجه سارة يضعها فيه كلّما تنقّل بها ليُخْفِيها عن أعين النّاس!! .
فلو أبدى أدنى مقاومة لتصدى له الجبّار بجبروته، وجبابرته وقضى عليه، وعلى دعوته، ولكنّ الله سلَّم.
وما فعله إبراهيم عليه السلام حيال فعل الجبّار الغاشم جاء معناه في قول الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران / 28] .
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (6/393) .
(2) انظر صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) .
وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل.(44/90)
فقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} معناه: إلاّ أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه، أو تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم (1) .
وموقف يوسف عليه السلام مع إخوته الذين اتّهموه بالسرقة واتهموا شقيقه في قولهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف / 77] . كان موقفًا حكيمًا، يتّسم صاحبه ببعد النظر وقوّة الإرادة من التحكم في النّفس ورغباتها، عند أصعب ساعات الإثارة والطغيان.
فهو أمام تهمة خطيرة، مخلّة بالشرف، ومخالفة للمروءة، ومن أقرب النّاس إليه، وكان يستطيع أن ينتقم لنفسه منهم، وأن يوقع بهم أشدّ العقوبة لمكانته الاجتماعية المتميّزة عند ملك مصر.
وقبل ذلك ما فعلوا به من إلقائه في الجبِّ، وحرمانه من أبويه، وتصييره رقيقًا.
فقد سنحت الفرصة، وقد أصبح وزيرًا للملك، وبيده خزائن الأرض، وجاءه إخوته مع من جاء من الفقراء المعْوزين يطلبونه رزقًا بعد أن مسَّهم وأهلهم الضرُّ. ولكنه كان نبيًّا كريمًا، حكيمًا {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف / 77] .
فقد كان عليه السلام واثقًا من ربّه، ومتحصّنًا بإيمانه، فلو أخذته العزة بالإثم لأمر من يفتك بهم، أو أن يطردهم شرّ طردة، وكان محقًا.
ولكنه أدرك عليه السلام بأنّ فقدهم سيزيد من ألم أبيه وحزنه، وأساه.
وأَدركَ أَيضًا أنّ للشيطان دورًا فيما وقع بينه وبين إخوته، فلا ينبغي أن يكون عونًا له على ما أراد.
فكظم غيظه، وعفا عنهم، بعد أن عرّفهم بخطئهم، وأَبَرَّ بوالديه، وجمع شمل أسرته.
وما كان ذلك ليتحقق لولا مشيئة الله، ثمَّ الصَّبر والملاينة، وشيء من الحيلة، والحنكة، والختل.
__________
(1) انظر في هذا المعنى تفسير الطبري للآية (28) من سورة آل عمران.(44/91)
فقد كان عليه السلام لطيف الحيلة فتوصل إلى بغيته بالرفق، والسهولة.
وموسى بني إسرائيل عليه السلام في دعوته فرعون وقومه إلى الإيمان بالله وحده، لاقى تعنتًا شديدًا من كافر عنيد، حكمه نافذ في قومه، بل نصّب نفسه ربًّا عليهم، وفرض عليهم عبادته {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص / 38] . وكفر بمعجزات موسى إليه، لم يعتبر بواحدة منها، بل زادته إصرارًا، وتعنتًا، وطغيانًا.
شأنه خطير، وشرّه مستطير، فهذا النوع من البشر عنيد، مكابر، ذو نفوذ، وسلطان واسِعَيْن، لا يتردد، ولا يتورّع عن فعل كلّ ما يمكِّنه من عدوه بكل الوسائل، والطرق.
وقد واجه من يدعوه إلى دعوة تناقض كلّ مبادئه، وتُسفِّه كلّ أمانيه، وأحلامه، فأخذ يتخبّط في أقواله، وأفعاله {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف / 51 - 54] .
إنّ طاغيةً هذا شأنه لن يكون سبيل دعوته إلى ما يخالف معتقده أمرًا سهلاً لبشر لولا عناية، ومشيئة الله. فانتدب الله إليه موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه / 42 - 44] .(44/92)
وخطّ لهما أسلوب دعوته، قال تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات / 15 - 19] .
قال النسفي:
بدأ مخاطبته بالاستفهام الَّذي معناه العرض.
كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟
وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة من عتوِّه (1) .
ولقد بذل موسى وأخوه هارون - عليهما السلام - وسْعَيْهما في دعوة فرعون وقومه المشركين إلى الإيمان بالله وحده، ولكن ذلك الجهد المضني، وعدم التواني في الدعوة منهما لم يجديا نفعًا مع طاغية أعمى الهوى، والشيطان، وشهوة النفس بصره، وبصيرته.
فتدخلت القدرة الإلهية في التخلّص منه بإغراقه في اليمّ {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَءَامَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِيءَامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْءَايَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس / 90 - 92] .
فالمداراة بالملاينة من موسى وأخيه هارون - عليهما السلام - لفرعون وقومه المشركين هي من باب إقامة الحجّة عليهم {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَءَايَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه / 134] .
__________
(1) ... انظر تفسير النسفي: 4/330.(44/93)
وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء / 165] .
فكان فرعون مدارئًا، وموسى عليه السلام مداريًا. وكان موسى عليه السلام والمؤمنون معه محكومين، وفرعون كان حاكمًا، فاقتضت الحكمة أن يراعي المحكوم الحاكم المستبد اتقاء سطوته، وجبروته للإبقاء على الداعي، ودعوته لاستمرارهما مع الآخرين، بلا إفراط ولا تفريط، وإنما مداراة، وحنكة حَتَّى إذا أقام عليهم الحجة تركهم، وشأنهم يواجهون مصيرهم المحتوم، وقد برأت ذمّة الداعية إن شاء الله.
ومحمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بذل في دعوته إلى توحيد الله جهده، وطاقته بأساليب، وطرق مختلفة يظهر عليها طابع الحكمة، والرويَّة، والشفقة، والإحسان، والصبر الجميل، والموعظة بالتي هي أحسن.
فهو رسول الله إلى الثقلين، بخلاف من سبقه من الرسل والأنبياء، فقد كان كلّ نبي يبعث في قومه خاصة.
مما جعل مهمته صلى الله عليه وسلم من أشقّ المهام، وأصعبها. إلاّ أنّ الله عز وجل أمدّه بعونه، وتوفيقه، وعصمه من الخطأ، أو الزلل، ورسم له طريق الدعوة فيما أنزل عليه من قرآن، تكفَّل بحفظه عز وجل عن الزيادة، والنقصان، فكان معجزته الخالدة، فيه البيان، والإرشاد لطريق الدعوة والهداية.
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران / 159] .(44/94)
ففي هذه الآية الكريمة أبرز صفات الداعية وأهمّها: أن يكون الداعية ليِّن الجانب مع القساة، والمتعنّتين، ممن تسوقهم قلّة درايتهم إلى استخدام ألفاظ نابية في مخاطبتهم إياه.
أو ممن تدفعهم العصبية إلى طلب أمر من الأمور من باب التّعنّت.
وأن يكون الداعية رقيق القلب يحسن معرفة الجوانب الإنسانية عند مخاطبيه، فيراعي الفروق الفردية بينهم في الوعي والإدراك، ومعرفة عواقب الأمور. فلو كان ممن يأخذ هذا بجريرة هذا، ويحكم على هذا في صورة هذا لوقع في قلوبهم شيء من الكراهية له، ولربما تردد الضعيف في إيصال مظلمته إليه خشية إغضابه، وحنقه عليه، فتضيع بذلك حقوقٌ لمستحقيها، وتتفتح دروبٌ من الشرّ لمنتحليها.
وأن يعفو عمن أساء، ويستغفر له إن كان ما وقع منه جهلاً، أو قصورًا في التفكير.
فإنّ مثل هذه الأفعال الحسنة وغيرها مما يقرّب المدعو إلى الداعية. ثمَّ يصل أمر الداعية إلى ذروته في الفاعلية عندما يُشعر المدعوين بقدْرهم، وقيمتهم الفكرية حين يشاورهم في الأمور الَّتِي لها مساس بدينهم، ودنياهم.
حينئذٍ يترسخ الولاء من التابع للمتبوع، ويستشعر الجميع أهميّة الرأي، والمشورة، فيتوحد بذلك المصير، ويصبح مشتركًا.
وفي توجيه آخر ينهى الله نبيه محمّدًا صلى الله عليه وسلم من التعرض لآلهة المناوئين لدعوته، والمجاهرين بتكذيبه {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام / 108] .
فطالما أنهم لا يميزون بين الحق والباطل فيما يقولون ويفعلون، ويخضعون لأهوائهم، وشهواتهم في تحديد رغباتهم، فعليكم أن تمسكوا عن ذكر آلهتهم بما يكرهون، حَتَّى لا يدفعهم ذلك عصبية وجهلاً إلى سبّ الله جلّ وعلا عدوانًا وظلمًا.(44/95)
قال ابن العربي:
هذا يدل على أنّ للمحقِّ أن يكفّ عن حقّ جائز يكون له إذا أدّى ذلك إلى ضرر يكون في الدين (1) .
ويشبه ذلك حضور مجالس السفهاء، والتعقيب على تصرفاتهم، والتشنيع عليهم، ووعدهم، ووعيدهم بما جاء في الشريعة من أحكام على مثل أفعالهم.
فإن أحد السفهاء قد يفلت لسانه بكلمات تنال من المشرِّع، أو تنقص من قدر الإسلام أو المسلمين، وربما تعرّض الداعية نفسه إلى السخرية، والأذى المادي، والمعنوي. فالكف عن التنديد بصنيعهم مباشرة بالقول أو الفعل نوع من المداراة، والمسايرة اللتين تمتصان الكثير من غلوائهم، حَتَّى إذا عادت إليهم عقولهم بالتفكير المجرد في عواقب الأمور، استطاع حينئذٍ الموجهون توجيههم الوجهة الصحيحة.
ومحاولة توجيه النصيحة للفرد بعيدًا عن سماع الآخرين ومعرفتهم. فالنصيحة في الجماعة نوع من التوبيخ يأبى كثير من النّاس سماعه.
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل/125] .
فقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال الزمخشري: بالطريقة الَّتِي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق، واللين من غير فظاظة، ولا تعنيف (2) .
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت / 33 - 35] .
__________
(1) أحكام القرآن (2/744) .
(2) الكشاف (2/349) .(44/96)
في هذه الآيات توجيه حميد، ومنهج دعوة قويم.
فإن الداعي لا يخلو من مناوئين لدعوته. وأولئك المناوئون يكون لهم أنصار مؤيِّدون لهم قد غفلوا عن معرفة حقائق الأمور، وملابساتها. فهم يأتمرون بأوامر زعمائهم، ويقضون بقضائهم. فإن أخذ الداعية بكل سيئة تصدر عنهم، وأراد مقابلة السيئة بالسيئة أكفهرَّ وجه دعوته، وزين الشيطان حينئذٍ للطرفين وسائل الانتقام، والفتك بالآخر.
فيتضخم بذلك مجال الشرِّ، ويتّسع، ويضيق بالمقابل مجال الخير حَتَّى الاختناق.
ومحصّل هذا: خوف، وتشرد، وقتل، وفرقة.
ومنهج الإسلام، ومبادئه السامية: الإصلاح، والوئام، وإخراج النّاس من الظلمات إلى النور. وتحقيق ذلك يتطلب الصبر والأناة، والموعظة الحسنة، والصفح عن المسيء بجهالة. ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حَتَّى إذا اجتمع الصفح والإحسان، وبذل الاستطاعة فيه، كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، وهذه قضية قوله تعالى: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} والمداراة محثوث عليها ما لم تُؤد إلى ثلم دينٍ وإزراء بمروءة.
والحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة الَّتِي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة الَّتِي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثال ذلك:
رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه. والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك.
مثل: أن يذمّك فتمدحه، ويقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه. فإنّك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك.
وعن ابن عباس {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة.(44/97)
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل / 9] . خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يجانب الَّذِين ناوءوا دعوته من مشركي مكة وغيرها بقلبه، وهواه، ويخالفهم مع حسن المخالقة، والمداراة، والإغضاء، وترك المكافأة.
وفي توجيه عام للنّاس يقول الله تعالى في حقّ الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء / 23 - 24] .
فالإنسان في نموه يمر خلال حياته بمراحل مختلفة، تبدأ بالضعف، وتنتهي بالضعف. ففي المرحلة الأولى يتولى رعايته أبواه أو أحدهما. وفي المرحلة الأخيرة يتولى رعايته أبناؤه.
غير أن مرحلة الضعف الأولى يعقبها قوة وعنفوان.
ومرحلة الضعف الثانية تتطور إلى ضعف، وضعف شديد يفقد معه الإنسان الكثير من نشاطه، وحيويته فيكون فيها محتاجًا لمن يساعده على قضاء كثير من شئونه في الحياة، فيبرز حينئذ دور الأبناء فيكون منهم البِرّ بوالديهما الَّذي يتمثل في طاعتهما في غير معصية الله، ورعايتهما، والصبر على ذلك. هنا يمكن للمداراة أن يكون لها دورٌ محوريٌّ في تلك العلاقة الظاهر في المجاملة، والأثرة، والتنازل، والملاينة، والرفق، والملاطفة، وحسن العشرة، والمداخلة في الأمور بسهولة، وبالرضى، والقبول من الفاعل.(44/98)
ومن لم يوفق إلى فعل ذلك مع أبويه أو أحدهما فهو من المحرومين الأشقياء. كما بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا، أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ " (1) .
وهكذا يمضي الشارع الحكيم في بيانه الرائع، المحكَم آخذًا بأيدي المؤمنين إلى ما فيه صلاحهم في الدارين.
المبحث الثالث
ما ورد في السنّة، وآثار الصحابة والتابعين عن المداراة وكيف فهموها؟!
(1) فيما يتعلّق بالاستقرار العائلي الَّذي ينشده كلّ عاقل وسويّ تبرز جوانب كثيرة من (المداراة) في حياة الرعيل الأَوَّل من سلفنا الصالح، تشكل في مجموعها منهجًا قويمًا للمهتدين. قالت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ ، إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ.
قَالَ: " لا، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا " (2) .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب البرّ، باب رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنّة، عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه (ح/2551) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب لم تُحرم ما أحلَّ الله لك؟
وصحيح مسلم، كتاب الطلاق، (20) .(44/99)
وهناك رواية أخرى للحدث تقول بأنه صلى الله عليه وسلم حرّم على نفسه جاريته مارية إرضاءً لحفصة عندما اختلى بها في ليلتها وفي غرفتها (1) .
هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم كان اجتهادًا منه، حَتَّى أن ربّه جلّ وعلا عاتبه في ذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم / 1] .
والرسول صلى الله عليه وسلم من منطلق بشريته، وإنسانيته السوية يقع له مع أهل بيته من الخلافات، والمنازعات ما يمكن أن يقع بين أي ربّ أسرة مع أسرته.
وربما نغّص عليه ذلك النزاع، وأغضبه، ودفعه إلى اعتزال نسائه كلهن مدّة شهر من الزمان (2) .
ولكنّه في كلّ الأحوال يبقى ذلك الإنسان الكريم، ذا الخلق العظيم. فلا يظلم، ولا يجور، ولا يقول إلا الحق.
وكان صلى الله عليه وسلم يحرص على إرضاء أزواجه وفق مفهوم ما شُرِع لهن على أزواجهن من حقوق، يأتي في مقدمتها حسن المعاشرة. بالتلطف إليهن، والعدل والمساواة بينهن، وتجنب ما يكدر عليهن صفو حياتهن.
وذلك ليشرِّع للنّاس ما يتَّبعونه من آداب، وأخلاق فيما بينهم. فتحريمه العسل كان لإرضاء من أثّر في نفسها تأخره عند جارتها وقتًا أطول مما يمكثه عند الأخريات. وحلْفه عليها ألاّ تخبر أحدًا كان مراعاة لشعور زوجاته الأخريات اللاتي لم يطَّلعن على الخبر أساسًا.
__________
(1) أخرجها النَّسائِي في كتاب عِشرة النساء، باب الغَيرة عن أنس. قال الألباني في صحيح سنن النَّسائِي: (3/831) ، رقم (3695) : صحيح الإسناد، وانظر تفسير البغوي (8/162) .
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة (66) . . وكتاب النكاح، باب رقم (83) .
وصحيح مسلم، كتاب الصيام، رقم: (23، 24) .(44/100)
فإذا نظرنا إلى نوع الفعل الَّذي وقع منه صلى الله عليه وسلم وجدناه فعلاً لا تدخله شبهة التحريم، ولا حَتَّى الكراهة، فدلّ على أنه كان تنازلاً منه عن شهوة نفس في لذّة طعام يفضّله، وآثر عليه مرضاة أزواجه، ووئام أسرته.
ثمَّ إن قول الرجل: هذا حرامٌ عليَّ. لا يُحرم شيئًا، ويكون يمينًا توجب الكفّارة عند بعضهم. وهذا يؤيده قول الله تعالى بعد ذلك: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم / 2] .
وهذا النوع من المداراة يقع من الحكيم من النّاس، عند معاملته من هم دونه في المسئولية والقدرة على تحمّل أعباء الحياة، كالزوجات، والأبناء.
(2) وعن العلاقة بين الرَّجل والمرأة وخاصة الزوجان، نجد من السنّة النبوية ما يرشد، ويُعين على تفهم طبيعتها، ويحقّق لها قدرًا كبيرًا من الوئام.
ذلك أنّ نوعًا من المداراة يجب أن يتسلّح به أحد الطرفين مع الآخر.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ " (1) .
قال ابن حجر:
وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب. وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وإن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن. . . مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه. فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلاّ بالصبر عليها (2) .
(3) وفي بعض المواطن قد يضطر المسلم فيها إلى إخفاء الحقيقة من باب (المداراة) ، بمجاوزة الصدق طلبًا للسلامة، ودفعًا للضرر عن نفسه، أو أُمَّتِهُ، أو الابقاء على وئام أسرته.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح، باب المداراة مع النساء.
ومسلم، في الرضاع، رقم (63، 65) .
(2) فتح الباري (9/254) .(44/101)
وقد يُعدُّ ذلك كذبًا، ولكن الشارع رخص فيه على سبيل التورية والتعريض في ثلاثة مواطن:
الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين النّاس (1) ، وبيان ذلك كما يلي:
أ - القائد في الحرب يوهم سامعه أنه ينوي التوجه إلى الشمال بينما يتّجه إلى الجنوب، حَتَّى يربك عدوه، ويضيِّع عليه فرصة الاستعداد للمواجهة، فيفاجأ بالهجوم، فتضعف عنده الروح المعنوية، فيمنى بالهزيمة، وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خَدْعة (2) . قيل: معناها: الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرّة، وإلاّ فقاتل.
وقيل: معناها: الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر (3) .
قال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقًا بالمسلمين لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالاً (4) .
ب - والأسير من المسلمين عند الأعداء سيستنطقونه بطرق شتى: أخبار قومه، وعددهم، وعدّتهم، وخططهم، وتوجهاتهم. فإن ذهب يخبرهم بالحقيقة هلك، وأهلك قومه، بل عليه مداراتهم بالختل، والحيلة، وقلب الحقائق، وإن تعرض للأذى تحمّل ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب البر، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، حديث (101) ، وصحيح البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الَّذي يصلح بين النّاس.
(2) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب الحرب خدعة.
(3) فتح الباري لابن حجر (6/158) .
(4) شرحه لسنن الترمذي، كتاب البر (26) .(44/102)
ج- والمرأة الَّتِي لا ترضى إلا بالزيادة، ولا تقنع بما عندها والتي يتقنعها الشك في تصرفات زوجها وتعصف بها الغيرة ينعكس ذلك على تصرفاتها في بيتها مع زوجها، وعيالها: ضجر، وانفعال يؤديان في الغالب إلى تقصير في الواجبات الزوجية، فتنشأ بسبب ذلك الخلافات، وتتكدر النفوس. مما يهدد دعائم الأسرة بالانهيار، والفُرقة.
فدور الرجل في مثل هذه الحالة وغيرها يتمثل في مداراتها، واستمالتها بالحديث الَّلين، والوعود الواسعة، واللطف معها، والإحسان إليها، حَتَّى إذا سكنت نفسها، واطمأنت عادت إلى إحسانها له، مبتهجة، راضية، ووجد هو في قربها السكينة، والمودة.
وجاء في الحديث: " أَلا إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّكَ إِنْ أردت إِقَامَةَ الضِّلْعِ كسرْتها. فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا " (1) . وكسرها طلاقها.
فوصف المرأة بالضِلع بجامع الاعوجاج فيهما. ففي الضِلع حقيقة، وفي المرأة مجاز. ووصف للضِلع في خِلْقَتِه، ووصف للمرأة في خُلُقِها.
قال ابن العربي: والغالب من النساء قلّة الرضى، والصبر، فهن يَنْشُزْنَ على الرجال كثيرًا، ويكفرن العشير، فلذلك سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتزعات أنفسهن من النكاح منافقات (2)
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الطلاق، باب في مداراة النساء (5/275) ، والترمذي في الطلاق، باب ما جاء في مداراة النساء، والحاكم في المستدرك (4/174) ، وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذَّهبيّ. كلّهم عن سمرة بن جندب.
وفي المعنى انظر: صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب المداراة مع النساء.
ومسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء.
(2) عارضة الأحوذي (3/135) ، طبعة 1415 هـ.
والحديث أَخرَجه النَّسائِي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع عن أبي هُرَيْرة يرفعه: " المنتزعات، والمختلعات هنَّ المنافقات "، قال الألباني في صحيح سنن النَّسائِي (2/730 ـ 731) : صحيح.
وانظر مسند الإمام أَحمد (2/414) .(44/103)
د - الإصلاح بين النّاس نوع من التعاون على البر والتقوى بين المسلمين، فإذا نزغ الشيطان بين مسلمَيْن، وأدى ذلك إلى نزاع بينهما، وخصومة تجر إلى هجر، وقطيعة، ثمَّ سعى طرف ثالث بينهما بالصلح، واختلق لذلك كلامًا حسنًا على لسان أحدهما يقوله في الآخر، يثني عليه، ويتمنى زوال أسباب الخلاف بينهما.
فإنّ من شأن ذلك أن يزيل ما علق في نفس كلّ منهما نحو الآخر من كراهية، ويجعله يعيد النظر في موقفه من الآخر، فإذا التقيا تعاتبا، وإذا تعاتبا تصافيا. وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، ويَقُولُ خَيْرًا، وَيَنْمِي خَيْرًا " (1) .
(4) وفي مشهد آخر يستحوذ على اهتمام المسلم في علاقته مع الآخرين، وما يجب عليه من حقّ الضيافة والتكريم، وفق شريعته السمحة، تبرز بعض صور (المداراة) من مجاملة، ولين جانب، واستمالة للقلوب لكسب ودّها.
قالت عائشة - رضي الله عنها - إنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: " بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ".
فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ، وَانْبَسَطْتَ له؟!!
__________
(1) رواه البخاري في الصلح، باب ليس الكاذب الَّذي يصلح بين النّاس، ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، كلاهما عن أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْطٍ أخت عثمان بن عفان لأمه.(44/104)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فاحشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فحشه " (1) ،
قال ابن حجر: وهو عند الحارث بن أبي أسامة من حديث صفوان بن عسّال نحو حديث عائشة، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّه منافق أداريه عن نفاقه، وأخشى أن يُفسد عليَّ غيره " (2) .
أوضحت رواية ابن عسّال المعنى الَّذي من أجله قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال للرجل، ثمَّ الَّذي فعله معه بعد رؤيته من تطلق وجهه، وانبساطٍ له.
فقد عَلِم عن طريق الوحي حقيقته، وكان يعلم صلى الله عليه وسلم أنّ له أتباعًا يطيعونه ويُصْغُون لحديثه.
فلو أغلظ له النبي صلى الله عليه وسلم، أو صدَّه عن لقائه، لأوغر صدور أتباعه عليه، وحملهم على العصيان والكفر. ودور الرسول صلى الله عليه وسلم يرتكز على دعوة النّاس بالتي هي أحسن. وقد قال الله في حقّه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران / 159] .
فالحديث - كما قال ابن حجر - أَصل في المداراة (3) .
وهو كذلك، فالداعية عليه أن يتحلى بأنواع الصبر، ويداري في دعوته أصناف النّاس، بلطيف الكلام، وحسن التصرف.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحّشًا. ومسلم في البر، باب مداراة من يتقى فحشه.
(2) فتح الباري: (10/529) .
وانظر: بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للهيثمي. كتاب الأدب، باب في مداراة النّاس، حديث (800) (2/792) .
(3) فتح الباري: (10/454) .(44/105)
قال الخطابي: يجمع هذا الحديث عِلْمًا، وأدبًا، وليس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور الَّتِي يَسِمُهم بها، ويضيفها إليهم من المكروه غِيبةً وإثمًا، كما يكون ذلك من بعضهم في بعض. بل الواجب عليه أن يبيِّن ذلك، ويفصح به، ويعرِّف النّاس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة، والشفقة على الأمّة. ولكنَّه لِمَا جُبِلَ عليه من الكرم، وأُعْطِيَهُ من حسن الخلق، أظهر له من البشاشة ولم يَجْبَهَهُ بالمكروه، لتقتدي به أمّته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شرِّه، وغائلته (1) .
وقال القاضي عياض:
وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألُّفِ له ولأمثاله على الإسلام (2) .
(5) وفي إطار المصلحة العامة يستشعر المخلصون شعورًا قويًا بالمسئولية تجاه أمّتهم، وما يعنيها من الإخلاص والأمانة. يدفعهم إلى ذلك إيمان بالله واليوم الآخر. فيساير أحدهم عدوّه - وهو منه على حذر - ليحقق لأمّته ما يحفظ عليها أمْنها، وسلامتها، وكرامتها، دون المساس بأصل المعتقد وجوهره. ظهر شيء من هذا في وثيقة صلح الحديبية الَّتِي كُتبت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي مكّة، حين رفض مندوبهم سهيل بن عمرو أن يُكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وطلب أن يكتب بدلها باسمك اللهم، ووافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على ما طلب.
واعترض سهيل على الكاتب قوله: ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله قائلاً: والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت. ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فوافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على طلبه.
وطلب سهيل أن يُنَصَّ في الوثيقة على ما يلي:
__________
(1) أعلام الحديث (3/2179 ـ 2180) .
(2) فتح الباري لابن حجر (10/454) .(44/106)
لا يأتيك منّا رجل - وإن كان على دينك - إلاّ رددته إلينا. فوافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على طلبه (1) .
قال الخطابي:
في ذلك باب من العلم فيما يجب من استعمال الرفق في الأمور، ومداراة النّاس فيما لا يلحق دين المسلم به ضرر، ولا يبطل معه لله سبحانه حقّ.
وذلك أن معنى: باسمك اللهم، هو معنى: باسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان فيها زيادة ثناء.
وكذلك المعنى في تركه أن يكتب: محمد رسول الله واقتصاره على أن يكتب: محمد بن عبد الله.
لأنّ انتسابه إلى أبيه عبد الله لا ينفي نبوته، ولا يسقط رسالته.
وفي إجابته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى أن يرد إلى الكفار من جاءه منهم مسلمًا، دليل على جواز أن يقرَّ الإمام - فيما يصالح عليه العدو - ببعض ما فيه الضَّيم على أهل الدين، إذا كان يرجو لذلك فيما يستقبله عاقبة حميدة، سيما إذا وافق ذلك زمان ضعف المسلمين عن مقاومة الكفار، وخوفهم الغلبة منهم (2) .
(6) وإِذا تَعرَّض المؤمن إلى ما يهدد وجوده على الأرض بسبب معتقده، ووقع في قبضة عدوّه الَّذي ساومه بين الكفر أو الاستئصال - وهو قادر - فإِنَّ (المداراة) من المؤمن لمثل هذا الطاغية، في مثل هذا الموقف لا تطعن في صحّة إيمانه. . . ذكر أبو عبيدة بن محمّد بن عمَّار بن ياسر قال:
أخذ المشركون عمّار بن ياسر، فلم يَدَعُوه حَتَّى سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذَكَرَ آلهتهم بخير، ثمَّ تركوه.
فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما وراءك؟ " قال: شَرٌّ يا رسول الله، والله ما تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير.
قال: " فكيف تجد قلبك؟ ".
قال: أجده مطمئنًا بالإيمان.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان فلان بن فلان. وصحيح مسلم، كتاب الجهاد، رقم (93) .
(2) معالم السنن (3/203) ، وأعلام الحديث (2/1336 ـ 1341) .(44/107)
قال: " فإن عادوا فعُدْ " (1) .
وشروط الإكراه أربعة:
1 - أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزًا عن الدفع ولو بالفرار.
2 - أن يغلب على ظنّه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
3 - أن يكون ما هدّده به فوريًا.
4 - أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره، كمن أكره على الزنا فأولج، وأمكنه أن ينزع ويقول: أنزلت، فيتمادى حَتَّى ينزل.
ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور ويُسْتَثْنَى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حقّ (2) .
ولعل ذلك يندرج تحت قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران / 28] .
قال النسفي:
لا يوالي المسلم الكافر. والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان.
{إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} إلاّ أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه، أي: إلاّ أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك، ومالك فحينئذٍ يجوز لك إظهار الموالاة، وإبطان المعاداة (3) .
وروى الطبري عن ابن عبّاس قوله:
نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفّار أو يتّخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلاّ أن يكون الكفّار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين (4) .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/357) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذَّهبيّ. وانظر تفسير الطبري (14/122) ، وتفسير القرطبي (10/180) .
(2) فتح الباري لابن حجر (12/311) .
(3) انظر تفسيره (1/152 ـ 153) فقد رواه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس.
(4) انظر تفسيره (بتحقيق محمود وأحمد شاكر) ، ج6، ص313.(44/108)
(7) وفيما يتعلّق ببعض أمور العبادة الَّتِي دارى الشارع فيها أحوال أصحابها لتأليف قلوبهم، ما رواه أبو سعيد الخدري قال:
جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ، وَيُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْتُ، وَلا يُصَلِّي صَلاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
وَصَفْوَانُ عِنْدَهُ. فَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَتْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهَا يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ، فَإِنَّهَا تَقْرَأُ بِسُورَتَيْنِ، وَقَدْ نَهَيْتُهَا.
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كَانَتْ سُورَةً وَاحِدَةً لَكَفَتِ النَّاسَ ".
وَأَمَّا قَوْلُهَا يُفَطِّرُنِي، فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ فَتَصُومُ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلا أَصْبِرُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ: " لا تَصُومُ امْرَأَةٌ إِلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ".
وَأَمَّا قَوْلُهَا إِنِّي لا أُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ قَدْ عُرِفَ لَنَا ذَاكَ، لا نَكَادُ نَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم: " فَإِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ " (1) .
معروف أنّ لكلّ صلاة وقتين: وقتًا تبدأ فيه لا تصح قبله. ووقتًا تنتهي فيه لا تجوز بعده إلاّ بعذر، وتكون قضاءً.
__________
(1) رواه أبو داود في سننه، كتاب الصيام، باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/466) ، رقم (2147) .(44/109)
فالذي ينام عن صلاة الفجر حَتَّى تطلع الشمس قد فاته وقتها الأصلي، فإن كان فعله هذا بدون تفريط منه، وأمرًا طارئًا، وله عذر، كفَّر عن فعلته بأدئها حين يستيقظ مباشرة. لقوله صلى الله عليه وسلم: " إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرَى " (1) .
وحجّة صفوان في تأخيره لصلاة الفجر حَتَّى تطلع الشمس أنها عادة اعتادها هو وقومه، مما يدل على أن أمر تأخير صلاة الفجر قد تكرّر منه وربما ظنّ وأهل بيته أَنَّهم مرغمون بحكم العادة على فعل ذلك.
يقول الخطابي:
وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا استيقظت فَصَلِّ " ثمَّ تَرْكُه التعنيف له في ذلك، أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده، ومن لطف نبيّه، ورفقه بأمّته.
ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى مَلَكَة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه. وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يُغمى عليه، فعُذر فيه، ولم يُؤَنب عليه.
ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه، ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم حَتَّى تطلع الشمس دون أن يكون ذلك منه في عامة الأوقات. فإنّه قد يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد يُصلح هذا القدر من شأنه، ولا يراعي مثل هذا من حاله.
ولا يجوز أن يُظن به الامتناع من الصلاة في وقتها. ذلك مع زوال العذر بوقوع التنبيه، والإيقاظ ممن يحضره، ويشاهده (2) .
__________
(1) أَخرَجه مسلم في كتاب المساجد ـ باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها عن أنس بن مالك، حديث رقم (316) .
(2) معالم السنن (2/828) .(44/110)
وإذا نظرنا إلى المسألة من منظور المداراة فإنّا نصنّفها في دائرة الملاينة، والرفق، والمسايرة من العالم للمتعلّم. لإعادة النظر فيما يأتي به المتعلّم من أمور في العبادة تخالف قواعدها، جهلاً من الفاعل أو تقصيرًا. وحرصًا من العالم على تعليمه إياها ونصحه بالتي هي أحسن، متدرجًا معه من صغار المسائل إلى كبارها حتَّى لا ينفر.
وهذا الموقف يشبه - مع الفارق - الَّذي اعتاد على فعل محرّم كشرب الخمر مثلاً. فليس من حسن التوجيه الطلب منه الكفّ عن ذلك في التوِّ واللَّحظة، ولكن بالتدرج، والمتابعة، والنصيحة، والتذكير بعواقب الأمور.
ونجد بحمد الله في كتاب الله العزيز ما يؤكد صحّة هذا النهج في الإصلاح والتربية.
قال عمر: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ آية الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} آية / 219، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. فَنَزَلَتِ الآية الَّتِي فِي النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} آية / 43.
فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ ينادي: لا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ. فقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنَ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ هذه الآية: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . .} [المائدة / 90] ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فلمّا بلغ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال عمر: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا.
فعادة شرب الخمر كانت متأصلة في مجتمع مكة وغيره بين العرب حينذاك، وعنوان كرم، ودليل إكرام بينهم.(44/111)
وللخمر تأثير على عقل الإنسان، يفقده التمييز بين الأمور، ويدفعه للخلط فيما يأتي من أفعال، وأقوال لها مساس بالمروءة.
وأمور العبادة الَّتِي نادى بها الإسلام بعد ذلك لا تصحّ من أحد إلاّ وفق قواعد محددة، بأركان، وشروط، وواجبات، تنضبط بانضباط فاعلها، إذا كان سويًا، عاقلاً، مدركًا.
والعقل في ذلك كلّه هو المحور الأساسي الَّذي تدور عليه قابلية التكاليف الشرعية، وهو مناطها.
فإذا كان متوقّدًا، يقظًا استطاع التفريق بين الحلال والحرام، أو انقاد - برضى وقبول - لمن يرشده إلى ذلك، ومن الآفات الَّتِي لها تأثير سلبي مباشر على العقل البشري: الخمر. أو كلّ ما خامر العقل، وستره.
فكيف عالج الشارع الحكيم أمر استئصال عادة شرب الخمر بين المسلمين؟
لقد اتّبع أسلوب التدرج في ذلك، فبدأ بتذكيرهم بأن إثمها أكبر من نفعها.
ثمَّ وصفها بأنها رجس من عمل الشيطان.
وأخيرًا قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة / 91] .
قال الفاروق بعد سماعها: انتهينا، انتهينا. وقد قال قبل: ((اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا)) (1) .
__________
(1) انظر سنن الترمذي، كتاب التفسير. وسنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر. والنسائي في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر. صححه الألباني في صحيح سنن النَّسائِي (3/1126) ، حديث رقم (5113) . والحاكم في المستدرك (2/278) وصححه.(44/112)
وفي موقف آخر من مواقف الشارع الحكيم ما يوافق أسلوب الدعوة بالتي هي أحسن، بالرفق، واللين، مع المؤلفة قلوبهم، مارواه النسائي وغيره عن حكيم بن حزام قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أَخِرَّ إلاَّ قائمًا)) (1) .
قيل: معناه: أن لا يكون سجوده في الصلاة إلاّ خرورًا من قيامه. أي: لا يركع؟!! .
والركوع في الصلاة من أركانها!؟ .
وسقوط شيء من الأركان في الصلاة يبطلها!؟ .
والصلاة الباطلة لا تجزيء صاحبها!!؟ .
إنّ معالجة الداعية الحكيم أمر المؤلفة قلوبهم تغلب عليه الدراية، وبعد النظر، والصبر، والروية.
فإنّ الإيمان بعد الكفر مباشرة لا يسلم صاحبه من التردد بين المضي والإحجام، والشك واليقين.
والكافر مادي الأفكار، يأخذ بحساب الربح والخسارة عند كل ما يخصه من أمور الحياة، فيقدم هذا، ويؤخر هذا، فإذا ما وعد بما لم يره من ثواب أو عقاب في عالم الغيب - إن هو أحسن أو أساء - أخذ الأمر مأخذ الاحتمال، فهو بين المتطلع إلى الفوز والنجاح، والنادم على ضياع فرصة اللذات، والشهوات.
ولكن يبقى عامل الخوف في نفسه من المجهول. ويرى ما يتقلّب فيه الإنسان من صحّة وعافية، ثمَّ ما يعقب ذلك من موت، وفناء، حقيقة لا مراء فيها.
فالخوف غريزة في المخلوق تدفعه أو تمنعه من فعل ما يريد أو التصرف حيال ما يشعر خطره على نفسه أو ماله أو أهله.
فمن استطاع من الدعاة أن يستغل آثار هذه الغريزة عند المسيء أو المنحرف، أو الضّال. ويوقظ في أنفسهم الشعور بخطورة أفعالهم، ومغبَّة أعمالهم، ثمَّ يبيِّن لهم محاسن الدين، وما وعد به أتباعه المهتدين. فإنّ النجاح حليفه إن شاء الله.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب كيف يخر للسجود، صحح إسناده الألباني. (صحيح سنن النسائي (1/234) .
وأحمد في مسنده (3/402) ، وأبو داود الطيالسي في مسنده رقم (1360) .(44/113)
فالذي اشترط عند بيعته ألاَّ يخرَّ إلاّ قائمًا، علم الرسول صلى الله عليه وسلم من لسان حاله أنه بعد أن يدخل في الإسلام، ويتعلّم من أمور الدين ما يفتح الله به عليه فسيعلم أن الركوع ركن في الصلاة، وأن تركه متعمدًا أو ناسيًا يبطلها، وأن الصلاة الباطلة لا تفيد صاحبها، وهي عامود الدين.
وهذا الموقف يشبه موقف وفد ثقيف عندما اشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سيصَّدقون، ويجاهدون إذا أسلموا " (1) .
وقد يجد الداعية نفسه أمام موقف يرتكب فيه أحدهم معصية، لا يقدر على دفعها في حينها لتعطل لغة الحوار بين الطرفين، فالآثم في حالة من اللاوعي لا تجعله يدرك حقيقة ما يقول، ولا يقدر أن يميّز بين إنسان وآخر في المعاملة. لتأثر عقله بما تعاطاه من مسكر أو مخدر.
والداعية في حالة أدرك معها حقيقة صاحبه، فتراجع في نفسه عن صياغة ألفاظ النصيحة، أو التنديد بما يراه، فترك المكان، تجنبًا لأي نوع من المهاترات أو المناوشات ليحفظ قدره، وهيبته، ويتجنب الحماقة في الفعل أو القول.
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده عن جابر (3/341) ، وفي سنده ابن لهيعة، اخْتَلَطَ بعد احتراقِ كتبه. وللحديث شاهد أَخرَجه أبو داود في كتاب الخراج، باب ما جاء في خبر الطائف. قال: حدّثنا الحسن بن الصباح، حدّثنا إِسماعيل بن عبد الكريم، حدّثني إِبراهيم بن عقيل عن أبيه عن وهب قال: سألت جابرًا. . .
قال الألباني: إِسناد صحيح، رجاله كلّهم ثقات (السلسلة الصحيحة) : (1888) .(44/114)
كَانَتْ لِي شَارِفٌ (1) مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ. فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعَدْتُ رَجُلاً صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي.
فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنَ الأَقْتَابِ (2) ، وَالْغَرَائِرِ (3) ، وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَيَّ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ. أقبلت فَإِذَا أنا بشَارِفَيَّ قَدِ أُجِبَّتْ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا. فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ، وقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟
فَقَالُوا: فَعَلَه حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَهُوَ فِي الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ (4) مِنَ الأَنْصَارِ. غنّت قينة فقالت في غنائها:
أَلا يا حَمزُ للشُرُفِ النِّواء (5)
وهُنَّ مُعَقَّلاتٍ بالفِنَاء
ضَعِ السِّكِّينَ في الّلبَّاتِ منها
فضرِّجْهُنَّ حمزةُ بالدِّماءِ
وأَطْعِم مِن شَرائِحِهَا كَبابًا
مُلَهْوَجَةً على وَهَجِ الصِّلاءِ
فأَنتَ أبا عُمارة المرَجَّى
لِكَشْفِ الضُّرِّ عَنَّا والبَلاءِ (6)
فوثب إلى السيف فاجْتَبَّ أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما.
__________
(1) الناقة المسنة.
(2) جمع قَتَب، وهو رحل صغير على قدر السَّنام.
(3) الغرائر واحدها غِرارة: التي للتِّبْن.
(4) الشَّرْب) بالفتح جمع (شارب) [الصحاح] .
(5) النواء) السمان.
(6) الشعر لعبد الله بن السائب المخزومي. [انظر فتح الباري لابن حجر (6/200) .(44/115)
قال عليّ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.
قال: فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الَّذي أتيت له، فقال: " مَا لَكَ؟! ".
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ. عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجتبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ.
فَدَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، فَاتَّبَعْتُ أثره أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي هو فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَ، فأُذن له، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ.
فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ. فَإِذَا حَمْزَةُ ثَمِل مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ.
فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِيه، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وهَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدُ أبي؟!!
فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، فخرج، وَخَرَجْنَا. وذلك قبل تحريم الخمر (1) .
(القهقرى) المشي إلى الخلف.
قال ابن حجر:
وكأنّه فعل ذلك خشية أن يزداد عبث حمزة في حال سكره، فينتقل من القول إلى الفعل، فأراد أن يكون ما يقع من حمزة بمرأى منه ليدفعه إن وقع منه شيء (2) .
وقال الخطابي:
إنّ هذا إنما كان من حمزة قبل تحريم الخمر.
__________
(1) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب فرض الخمس. ومسلم في الأشربة، باب تحريم الخمر.
(2) فتح الباري (6/201) .(44/116)
لأنّ حمزة قُتل يوم أُحُدٍ، وكان تحريم الخمر بعد غزوة أُحُد، فكان معذورًا في قوله، غير مؤاخذ به. وكان الحرج عنه زائلاً إذ كان سببه الَّذي دعاه إليه مباحًا، كالنائم، والمغْمَى عليه، يجري على لسانه الطلاق، والقذف، فلا يُؤاخذ بهما (1) .
وهكذا فإنّ العاقل لا ينبغي له أن يخاطب السكران في حال سكره، ولا أن يقيم عليه الحد - إن كان ممن يملك ذلك - إلاّ بعد أن يفيق من سكره، حَتَّى يكون وقع الجَلْد عليه محسوسًا عنده، ورادعًا له بعد ذلك.
وفي حياة المسلم من المواقف ما يستدعي المسايرة، والمجاملة وإن كان فيه ما ينغص عليه، ويظنه ظاهريًا خسارة لا ربحًا، ولكن الإيمان القوي بحكمة المشرِّع وسلامة التشريع، يدفع صاحبه إلى الامتثال، ويسوغ له أمر الطاعة.
قال جابر بن عَتيك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سَيَأْتِيكُمْ رُكَيْبٌ مُبْغَضُونَ، فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ، وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا. وَأَرْضُوهُمْ، فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ، وَلْيَدْعُوا لَكُمْ " (2) .
قال الخطابي:
(رُكيب) تصغير (ركب) وهو جمع (راكب) .
وإنما عنى به السعاة إذا أقبلوا يطلبون صدقات الأموال.
فجعلهم مُبغضين لأنّ الغالب في نفوس أرباب الأموال بغضهم، والتكرّه لهم، لما جُبلت عليه القلوب من حبّ المال، وشدّة حلاوته في الصدر، إلاّ من عصمه الله ممن أَخلص النيّة، واحتسب فيها الأجر، والمثوبة (3) . فقد وجَّه إلى مداراتهم، والتلطف إليهم لقيامهم بما أوجب الله من حقّ للفقير على الغني.
__________
(1) معالم السنن (3/390) .
(2) أخرجه أبو داود في سننه من كتاب الزكاة، باب رضا المصدَّق. قال الألباني في ضعيف سنن أبي داود (حديث رقم345) : ضعيف.
(3) معالم السنن (2/245) .(44/117)
ويُشبه هذا قول أحد الصحابة وهو أبو الدرداء: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ (1) .
و (التكشير) ظهور الأسنان عند الضحك.
فهل يُعدّ هذا نفاقًا؟
فقد ترد الشبهة فيه، ولكنه لا يصدق على من مثل أبي الدرداء رضي الله عنه، ومن يشبهه من المؤمنين.
فهو إذًا من المداراة وهي خفض الجناح، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ في القول والرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، والإنكار عليه بلطيف القول، والفعل، ولاسيما إذا اُحتِيج إلى تألُّفه.
روت عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنّ الله أمرني بمداراة النّاس كما أمرني بإقامة الفرائض " (2) .
وقد قيل: إنّ من ابتغاء الخير اتقاء الشَرِّ (3) .
فإذا أراد الخير لنفسه جانب فعل الشرور، واتقى الأشرار.
المبحث الرابع
المداراة وأثرها في المجتمع
إن من أهمّ ما يميّز المجتمعات بعضها عن بعض هو الوجود الحقيقي لروح التعاون بين أفرادها، بحيث يكون عمل الفرد لصالح المجموع، كما أَنَّه على الجماعة أن تحتضن الفرد. والعمل معًا في إطار المصلحة العامة، واحترام الأنظمة الَّتي توجّه دفّة الأمور فيها الوجهة السليمة الصحيحة، ويزداد احترام الفرد للأنظمة كلما كان مصدرها موثوقًا محترمًا، وليس من بين بنودها ما يخالف أو يعارض، أو ينفي أمورًا فطرية.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب مداراة النّاس (تعليقًا) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/266) . وابن أبي الدنيا في مداراة النّاس (ص36) .
(2) أخرجه الديلمي في مسنده بسند ضعيف عن عائشة، (انظر فردوس الأخبار: (1/212) . قال الألباني في السلسة الضعيفة، حديث رقم (810) : ضعيف جدًّا.
(3) انظر: كتاب مداراة النّاس، لابن أبي الدنيا، ص36 [تحقيق محمد خير رمضان يوسف] .(44/118)
وقد أنار الله للمجتمعات المسلمة سبل هدايتها، وشرع لها من النظام ما يوافق الفطرة، فالأخذ به هو أَخذ لما يوافق تكوين الإنسان حقيقة، وأي انتقاص في هذا الميزان التعادلي ينتهي بالفرد إلى أن يكون متمرّدًا ضدّ أنظمة مجتمعه، أو في صراع معه.
ولا يوجد في المجتمعات مجتمع صغير أو كبير لا يمارس أفراده بشكل أو بآخر أسلوب (المداراة) فيما بينهم بنسب متفاوتة. ذلك لأن العلاقات الاجتماعية، والعلاقات العامة بصورها المختلفة، والمتباينة ذات طابع أخلاقي يمارسه الإنسان مع أخيه على أساس من التعاون، وبفيضٍ من المشاعر، والأحاسيس، والعواطف الَّتِي يحمل منها الشيء الكثير، مما يترك أثرًا محسوسًا على نتائج أفعالهما قوّة وضعفًا، شدّة ولينًا.
وما أَودع الله في البَشَر من اختِلاف، وتفاوتٍ، وتَباينٍ في الفَهْم، والوَعي، والإدراك سهَّل على المتميزِ منهم مداراة من هو دونه، وعلى الأَدْنى مداراة من هو فوقه، لتسهيل سبل العيش بينهما، كما قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف / 32] . وهذا يظهر جليًا في مجال الرحمة، والشفقة، والتقدير، والاحترام، وتبادل المصالح.
والنَّاس للنَّاسِ مِن بَدْوٍ وحاضِرةٍ
بَعضهم لبعضٍ وإن لم يَشْعُروا خَدَمُ (1)
__________
(1) للشاعر أبي العلاء المعري. انظر كتابه: لزوم ما لا يلزم (ص2/289) .(44/119)
فالبذل بين المسلمين له سِمة التسامح بينهم، لأنّ الباذل بمحبّةٍ، وطواعيةٍ يرجو الجزاء من خالقه، وقد اجْتَثَّ الإيمانُ من نفسه طابع الأنانية، وشَهوة الاستئثار. يقول تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر / 9] .
فبذلهما جاء على قدر ما أَفرغ الإيمان في قلبيهما من محبّةٍ، والتنكر للذات منهما ارتكز على إقرارهما بالله وملائكتِه وكتبهِ ورسله واليوم الآخر. قال تعالى في الحديث القدسي: " وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ " (1) .
وكلّما تَوسّع الإنسان في رغباته، وشهواته احتاج إلى مزيد من السُّبل والوسائل لتحقيقها.
وتلك السُّبل والوَسائل لا تتأتى إلاَّ بقَدْرٍ كبير من الجَهد، والمشقة، والبذلِ، مادِيًا، ومَعنويًا.
وهنا يخْتلِف النَّاسُ في سَعيهم إليها بَيْنَ مُنْتَقٍ مُتَأَنٍ، وبَيْنَ حاطِبِ لَيْلٍ شَرِهٍ.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ بسنده عن معاذ بن جبل. كتاب الشَّعْر. باب ما جاء في المتحابين في الله.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/169) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذَّهبيّ، وقال الحاكم: وقد جمع أبو إدريس بإسناد صحيح بين معاذ وعبادة بن الصامت في هذا المتن.(44/120)
فمن كان هَدفُه تَحقيق ما أَراد دُون النَّظَر إلى عَواقِب الأُمور - وكان ذلك مِنه قُصُورًا في التَّفكير، وتقلِيلاً مِن شَأْنِ المروءَات - سَلَّم لنَفْسه الأَخْذَ بالأَسْباب مِن مُختَلفِ مَصادِرها. وأَوجد لها نظريًا مِن المسوِّغات ما يَزيد في تطاولها عَليه، مِما يُشجعها على سَوْقهِ نَحو عَاقبَةٍ وَخِيمَةٍ.
هذا النوع من النَّاس يَتَفتَّق ذِهنه - في الغالب - على نَوعٍ من الحِيَل الكثيرة، المشْتَمِلة في جُمْلتِها على أساليبَ مُخْتلِفة من الخِداعِ، والغِشِّ، والكذب. فَهو لا يَتَورَّعُ بل يَتَسَرَّعُ الأُمور، ويَسْتَثْقِل الانتِظار حِين الوقوفِ في صُفوفِ المنتظرينَ. ويتطلّع بفضولٍ شديدٍ إلى الكَسب السَّريع في وقتٍ سريعٍ، لا يَهمه أن يتخَطَّى من سَبَقه من ذَوي الحاجَاتِ، ولا يَروعُه أَن يَرى مَظْلومًا، حافِيًا، كادِحًا، قد سَبقَه في طلب إِنْجازِ حاجَتِه واقِفًا في الصَّفِ أَمام مَسْئولٍ قليلِ المُروءَة، والشَّهامة، والخَشْية، قدَّم عَليه هَذا المتسَرع الَّذي جَاء مِن الصُّفوفِ الخَلفية، أَو رُبما لَم يَقف في الصَّفِ أَصْلاً، بل جَاءَ حامِلاً تَوصيةً مِن وَجيهٍ، أَو صَاحِب نُفُوذٍ وهو ما تعارَف النّاسُ بتَسْمِيتِه: الواسِطة أو الوَسيط.
فما هِي حُدود ذلك؟ وما هي ضَوابطُه؟
وهَل تَنْدَرج الوَسَاطة في مَفْهوم الشَّفَاعَة العام؟ وهَل هي مِن المُدارَاةِ في شَيءٍ؟
يَقُول اللُّغَوِيُّون (1) :
تَوسَّط فُلانٌ: أَخَذَ الوَسَط بَيْنَ الجيِّدِ، والرَّديء.
والواسِطَةُ: ما يُتَوصَّلُ بهِ إلى الشَّيء.
والوَسَطُ: المُعْتَدِل مِن كُلّ شَيء.
والوَسِيطُ: المتَوسط بين المتَخَاصِمَيْنِ.
وشَفَع لفُلانٍ: كَانَ شَفِيعًا لَهُ.
وشَفَع إلى فُلانٍ: تَوسَّلَ إليه بوَسِيلَةٍ.
وشَفَع في الأَمْرِ: كانَ شَفِيعًا فيهِ.
__________
(1) المعجم الوسيط وغيره. مادتي: وسط. وشفع.(44/121)
وشَفَّعَ فُلانًا في كَذا: قَبِلَ شَفَاعَتَه فيهِ.
ويُقَال: هُو مُشَفِّعٌ: يَقْبَل الشَّفاعَة.
وهُو مُشَفَّعٌ: مَقْبُولُ الشَّفاعَةِ.
يُقَالُ: تَشَفَّعَ لفُلانٍ وإلى فُلانٍ في الأَمْر.
وتَشَفَّعَ بهِ إليه: تَوسَّل بهِ إِليْهِ.
فعندما يكونُ لإِنسانٍ حاجةٌ، إِتْمَام قَضَائِها يتَطلب المرورَ بمراحِل تنظيميَّة، مُترابِط بَعْضُها بِبَعْضٍ. وتَحتَاجُ كُلُّ مَرْحَلَةٍ إلى نَوعٍ مِن الاخْتِصَاص يَقُومُ به مَسْئولٌ مُستقل في دَائرةٍ ذاتِ أَقسام، وشُعَب. يُديرها مجتمعةً مُديرٌ واحدٌ.
يتقدمُ صاحِب الحاجَة بطلبهِ إلى الإدارة المعْنية باسم مُديرها، الَّذي يُحيلُها بدوْره إلى القِسم المختص ليُراجع مَسئوله صِيغَةَ الطَّلب.
فإذا وَجَدَه مُسْتَوْفيًا لشُروط وأَنظِمة إدارتهِ صَدَّق عليه وأَعَادَه إلى مَصْدره ليأْخُذ بَعْد ذلك دَورةً أُخرى مَع مُخْتَصٍ آخَر، في قِسْمٍ آخَر.
أما إذا كان شَيءٌ مِن الشُّروطِ غَير تَامٍ، أَو غَيْر مُطابقٍ للأَنظِمة المرْعيَّةِ، طُولِبَ صاحِبُه باستكمالِه، أَو تَعْديله.
هَذه الإجْراءات وغَيرها - مما يُسمى (بالروتين) - مُجتَمِعة أَو مُتفَرِقة تَسْتَغرق وقتًا، وتتطلب جَهدًا. فَمن كان على بيِّنَةٍ من أَمْرِه ثَابَر، وانْتَظَر، وصَبَر، لعِلمِه أَنَّ تَجاوزَه لِغَيرِه في تَحقيقِ غَايتِه نَوعٌ من التَّعَدي.
فَلكَي يَضْمَن صيانَة حُقُوقهِ عند الآخرين، فَعَلَيه أَن يَصون حُقوق الآَخرين عنده.
وأَما مُعْظم ما يَجري في وقْتِنا الحاضِر فيدخُل في مَفْهُوم الغَايةُ تُسَوِّغ الوَسَيلة، وهُو لَيْس مِن المُدارَاة في شَيء. بَل هُو مَفْهُومٌ خَطِيرٌ، ومَرتَعٌ خِصْبٌ للأَنَانية الدَّائِريَّة الَّتِي تُحيط بأَهلِها.
فَمن كان كذلك فَهُو لا يَتَحمل الانتِظار.(44/122)
فتَجِدهُ كالَّذي يتخبَّطه الشَّيطان مِن المسِّ، لا يَهْدأ ولا يَسْتَقِر. هَمُّه أَن يَحْصُل على بُغْيَتِهِ بما يُحَقِّقُ مَصلحته الذَّاتية، ويُرضي غُرورَه. وذلك في الغَالِب يَكونُ عَلى حِساب المصْلَحة العامَّة.
فالَّذي يُوافق أَن يكون وَسيطًا، أَو شافِعًا لمثْل هذا الإنسان إِنَّما يَقْبلُ في الحَقيقَة أن يكون شَريكًا لَه ومُسَاعِدًا في إِضاعَة كَثير من الحقُوقِ المُستحقَّة للآخَرين.
((وكُل أَمْرٍ لا يكُونُ مُوافقًا للحَقِّ فَهُو فَاحِشَة)) (1) .
والفَاحِشَةُ: القَبيحُ الشَّنِيع مِن قَوْلٍ أَو فِعْل.
قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النِّساء / 85] .
قال صاحب المنَار:
إِنَّ العُلماء مُتَّفِقُونَ على أَنّ شَفَاعة النّاسِ بَعْضُهم لِبَعْضٍ تَدْخُل في عُموم الآية. وأَنّها قِسْمَانِ: حَسَنَة، وسَيِّئَة.
فالحَسَنَة أَن يَشْفَع الشَّافِع لإِزَالَة ضَرَرٍ، ورَفْع مَظلَمةٍ مِن مَظْلُومٍ، أَو جَرِّ مَنْفَعة إلى مُسْتَحِقٍ ليس في جَرِّها إِليه ضَرَرٌ ولا ضِرَارٌ.
والسَّيئة أن يَشْفَعَ في إِسْقَاطِ حدٍّ، أَو هَضْم حَقٍّ، أو إِعْطائِه لِغَير مُسْتَحِقٍ، أو مُحاباةٍ في عَمَلٍ.
والضَّابِط العَام أَنَّ الشَّفَاعة الحَسنة هِي ما كانَت فِيما اسْتَحْسَنه الشَّرعُ، والسَّيئة فيما كَرِهَه أَو حَرَّمَه.
والحاكِم العَادل لا تَنْفع الشَّفَاعة عِنْده إِلاَّ بإِعْلامه ما لَم يَكُن يَعْلم مِن مَظْلَمةِ المشْفُوعِ لَهُ، أَو اسْتِحقَاقِه لما يُطْلَبُ لَهُ.
__________
(1) فقه اللغة للثعالبي: (31) .(44/123)
ولا يَقْبل الشّفاعة لأَجْل إِرْضاء الشَّافِعِ فيما يُخالِف الحَقّ والعَدْل، ويُنَافي المصْلَحة العَامة. ومَا الذِّئابُ الضَّارِية بأَفتك في الغَنَم مِن فَتْكِ الشَّفاعات في إِفساد الحُكومَات، والدُّول.
فإنَّ الحُكومة الَّتِي تُرَوَّجُ فِيها الشَّفاعات يَعْتَمد التَّابِعون لَها على الشَّفاعَة في كُل ما يَطْلبون منها - لا على الحَقِّ والعَدْلِ - فَتَضيعُ فيها الحُقوق، ويَحِلُّ الظُّلْم مَحِل العَدل. ويَسْري ذَلك من الدَّولَة إلى الأُمَّة فيكونُ الفَسَاد عامًا، ويَعْتَقِد الجماهيرُ أَنَّه لا سَبيلَ إلى قَضَاء مَصْلَحة في الحُكومَة إلاَّ بالشَّفَاعَةِ أَو الرَّشْوَةِ (1) . ا.هـ.
وقال الزَّمَخْشَري: الشَّفَاعَةُ الحَسَنَةُ هي الَّتِي رُوعي بِها حَق مُسْلِم ودُفِعَ بِها عَنْه شَرٌّ، أَو جُلِبَ إِليه خير.
وابْتَغى بها وَجْه الله، ولم تُؤْخَذ عَليها رَشْوة. وكانت في أَمْرٍ جائزٍ، لا في حَدٍّ مِن حُدود الله ولا في حَقٍّ من الحقُوق.
والسيئة بخلاف ذلك (2) .
وجَاء في الحَديث قَولُه صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ. وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ.
وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ (3) حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ " (4) .
__________
(1) تفسير المنار (5/309) .
(2) الكشاف (1/543) .
(3) عصارة أهل النار. والرّدْغَة: بسكون الدال وفتحها: طين وَوَحل كثير (النهاية: 2/215) .
(4) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب فيمن يُعين على خصومةٍ عن عبد الله بن عمر. صحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/686) .(44/124)
وروى أَبو موسى الأشعري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ على جُلَسَائِه فَقَالَ: " اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ " (1) .
قال ابن حَجر: في الحَديثِ الحَضُّ على الخَير بالفِعْل وبالتَّسبب إِليه بِكُل وَجْهٍ.
والشَّفَاعَة إلى الكَبير في كَشْف كُرْبَةٍ، ومَعُونَةِ ضَعِيفٍ إِذْ لَيْس كُل أَحدٍ يَقْدر عَلى الوُصُولِ إلى الرئيسِ ولا التَّمكُن مِنه لِيَلِج عَليه، أَو يُوَضِّح لَه مُراده لِيعْرِف حَالَه عَلى وَجْهِهِ (2) .
والمتَشَفِّعُ يَكُون لَه - غَالبًا - عند المُشَفِّع مِن الاعتبارات ما يُسَهِّل عَلَيه وِسَاطَته. مِنها ما يكونُ أَدَبِيًا، كالاحْتِرامِ، والتَّقْدير فَيَسْتَحي أَن لا يُحَقِّق لَه رَغبة لِكِبَر سِنٍّ، أَو مَكانَةٍ اجتماعيةٍ، أَو قرابةٍ.
ومِنْها ما يكونُ مُقَايَضَة، إِنْجَاز عَمل بإنجاز عمل.
ومِنْها ما يكونُ وِقَاية من أَذَىً يُمكِن أَن يُلْحِقَه المتشفِّع بالمشفِّع.
ومِنْها ما يكونُ تَزَلُّفًا من المشفِّع ليتَقَرَّبَ إلى المتشفع.
وأَحْسنه ما كانَ لِوَجْه اللهِ لِعاجزٍ، مُستَحِقٍ، مُنْقَطع، يَسْتَحي.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا، ومسلم في البر والصلة رقم (145) .
(2) انظر فتح الباري: (10/451) .(44/125)
وأَسوؤها ما يُلحِق الضَّرر بالآخرين، ويُميت في نفس الضَّعيف كل أَملٍ في الحُصولِ على حَقِّه، فيُصبح المجتمع بذلك مُجتمعًا طَبَقيًا تنخرهُ المحْسوبيَّة، ويرتَع الظالم فيه مُنْتَصِرًا، مُفَاخِرًا، رافعًا عَقِيرتَه، ويُصبح اليَأْس، والخوفُ من المجهول وعَدم الثِّقَة عِنْدَ المسْتَضَعَفِين عَوامِل قَوية تَدفع بِهم إلى (المداراة) في طَريقٍ خَاطِيءٍ من النِّفاقِ، والكَذِب، والازْدِرَاء. فيَفْقِد الفَردُ مِنْهم حِسَّه المعْنَوي، وشعُوره بالكرامَة. فيخْسَر نَفسه، ويَخْسره المجتمع.
وما المقايضَةُ، والمُسَاومةُ بَيْن صاحِب الحاجةِ، وبَيْن من يَقْضيها لَه إلاَّ نوعٌ مِن الأّذَى، وأَكْلِ أَموالِ النّاسِ بغيرِ وجْهِ حَقٍّ، وقد نَصَّ الله تعالى على تحريم ذلك بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة / 188] .
أي: لا تُعْطُوها الحكَّام على سَبيل الرِّشَوة ليُغيروا الحكْمَ لكُم (1) .
ولعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الراشِي، والمرْتَشِي (2) ، والرائش بَيْنَهما.
فالراشي: المُعطي. والمُرتشِي: الآخِذُ. والرائِش: الواسِطة بينهما.
قال الخطابي: إِنَّما تلحَقْهما العُقوبة مَعًا إِذا اسْتَويا في القَصْد والإِرادَة، فَرَشَا المُعْطي لينَال بهِ باطِلاً، ويَتَوصَّل به إلى ظُلْم.
__________
(1) شرح السنّة للبغوي: (5/330) .
(2) أخرجه الترمذي في الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم عن عبد الله بن عمرو. وقال: حديث حسن صحيح.(44/126)
قال: والآخِذُ إِنَّما يَسْتَحِق الوعيد إِذا كان ما يأْخُذه إِما على حَقٍّ يَلزمه أَداؤه فلا يَفْعَل ذلك حَتَّى يُرْشَي. أو عَمَلُ باطلٍ يَجب عليه تركُه فلا يَتْركُه حَتَّى يُصانِع ويُرْشَى (1) .
ويُنْسَب إلى الملكِ عَبدالعزيز بنِ عبد الرحمن - يَرْحمُه الله - قوله: لم يُفسِد المُلك إلاَّ المُلوك وأَحفَادهم، وخُدَّامهم، والعُلماء المحابُون، وأَعوانهم.
ومَتى اتَّفق الأُمراء، والعُلماءُ على المداهَنَةِ، فالأَمير يَمْنَح المِنَح، والعُلَماءُ يُدَلِّسُونَ، ضاعَت حُقوق النّاس. وفَقَدنَا والعِياذُ بالله الآخِرة والأُولى (2) .
ونوعٌ آخرُ مِنَ المُعَامَلَةِ بَيْنَ النَّاسِ يَلْتَبِس على الكثير الوقوفُ على حَقِيقَتهِ، ومعرفة نوعه إن كان من (المداراة) ؟
ذلك هُو (التَّقِيَّة) . قال في الوسِيط:
(التَّقِيَّة) : الخَشْيَة، والخَوْف.
و (التَّقِيَّة) عِند بَعض الفِرق الإِسلامية: إِخْفَاء الحَقِّ، ومُصَانَعَة النَّاسِ في غَيْرِ دَوْلَتِهِم. ا.هـ فهُما قد يَجْتَمعان عِند الخَشْية والخَوف على النَّفس مِن الهَلاكِ على قاعِدَة: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل / 106] . ولكنَّهما حَتْمًا يفْتَرِقان عِند مُصَانَعَة النَّاسِ بإِخفاءِ الحَقّ، فهذَا بِمَعنى النِّفاق، والتَّزَلف للوصُول إلى تَحْقيق غَاية مادية تُلحِق في الغالب ضَررًا بدينهِ، ومُعْتقدِه.
جاءَ في الحديث الصَّحيح: " إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ " (3) .
__________
(1) انظر معالم السنن، كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة (4/9) .
(2) انظر كتاب صور من حياة عبد العزيز، ص 133، لابنه الأمير طلال.
(3) أخرجه البخاري في الأدب، باب ما قيل في ذي الوجهين، ومسلم في البر والصلة، باب ذم ذي الوجهين. كلاهما عن أبي هريرة.(44/127)
فَهو مَع الجميع بِما يُرضي الجميع. تُسيِّره رغباتُه، وشهواتُه. لا يكْتَرِث كَثيرًا لما يَفْقِد مِن مَاءِ وَجْهه مِن الحَياءِ. وغَايتُه الحصُول على ما يُريد حَتَّى ولو أَخْزاه ما أَراد.
وهَذا لَيْس مِن (المداراة) المرْضِيَّةِ في شيء. إنما هو خليطٌ مِن الكَذِبِ، والنِّفاقِ، والتَّزلُّف والرِّياء، يأْباهُ كلُّ ذِي مُروءَةٍ.
وهو دِعامَةٌ قَويّةٌ لعناصِر الشرِّ في المجتمع، يرتكز عليها الفَساد النَاشيء عَن تقْسيم المجتَمع إلى طبقاتٍ متفاوتةٍ، يَسودها مَنْطق:
البَقاءُ للأَقوى، والحَسْرة للضَّعِيفِ.!!
والمحْسُوبية أَن تحسِب لغيرِك حِسابًا فيما تأْتي بهِ من عَمَلٍ ينتُج عَنْه الخَشْية عِنْدك عَلى مَصَالِحك الخاصَّة عِنده أَو عِند غَيْره مِن أَن تَتَعَطَّل، ممّا يَدْفعُك إلى مُدارَأَتِهِ.
أو أن تَتَطلَّع إلى تبادُل المنافِع بيْنكُما فيما يخْدِم مَصْلَحَتَيْكُما. مما يَدفَعك إلى التَّنازُل عَن بعضِ مُقومات السُّلوك القويم.
وهذا يكونُ - في الغالب - مِن الَّذِين يقْفِزون على الأَنْظِمة، والشَّرائِع. ويتَّخِذُون سَبيل الحِيلَةِ، والمراوغَةِ والخَديعَة، والكَذِب سَبيلاً لتحقيق مآرِبهم، ومكاسِبهم غير المشْروعَة (1) .
__________
(1) جاء في ((معجم العلوم الاجتماعية)) عن المحسوبية أنها: محاباة الأقارب باعطائهم مناصب غير معدّين لها، أو بمنحهم ميزات مادية ومعنوية لا يستحقونها، وذلك لزيادة دخولهم أو هيبتهم أو سلطانهم داخل أجهزة الدولة المختلفة، وكلّ هذا على حساب الصالح العام. .
وفي المحسوبية، بوجه عام، قضاء على مبدأ تكافؤ الفرص، ومبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، ولها نتائج اجتماعية خطيرة، فهي تدفع الأفراد إلى أن يفقدوا الثقة في الجد والكفاية واتقان العمل، ما دام في وسع المرء أن يصل عن طريق آخر من قرابة أو مصاهرة ا.هـ. ص (523) .(44/128)
ومن هُنا يَبْرز دَور الوَسيط، ويُصْبح للوَسَاطة سُوقٌ رائِجَةٌ تعْمل على بَسْط النُّفوذِ من قِبَل فِئَةٍ مِن النَّاسِ على الفِئات الأُخرى. وتُرسِّخُ في أَذهان العَامَّة أَهميَّة الوَسَاطة باعتبارِها المحرك الأَقوى، ورُبما الأَسَاسي لكُلِّ مَسألة يُرادُ إِنْجازها.
والَّذِين أَوْكَل إليهم وَليُّ الأَمْر تَسْهيل أُمور النَّاس، وقضاءَ حَوائِجهم في إِطار المصْلَحة العامة، وخَصَّصَ لهم مِن الرِّزْق ما يَكْفي حاجتَهم، وحاجَة مَن يَعُولون، يجب عَليهم الإِخلاص في العَمل.
جَاء في الحديثِ: " مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ " (1) .
والغُلول: الخِيانَة.
وقَد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال / 27] .
فَمن ضَيَّع شَيئًا ممَّا أَمر الله، أَو رَكِب شيئًا ممَّا نَهاه الله عنْه فلَيْس بِعَدْلٍ لأَنَّه لزِمَه اسْم الخِيانَة.
وفي مثل هَذِه الحالات يبْرز دَور المسئول الأَوّل في حُسْنِ الاخْتِيار للعَامِلين مَعَهُ. ومِن ثَمَّ مُتَابعة أَعمالِهم ومُحاسَبتِهم عَليها.
وعَليه أَن يُطبِّق مَفهوم، ومَدلول القَول المشْهور: الرجُل المناسِب في المكانِ المنَاسِب.
قال صلى الله عليه وسلم لأَعرابي سَألَه عن مَوعد قيام السَّاعة: " إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ". قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الإمارة، باب في أرزاق العمال عن بريدة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/568) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه، عن أبي هريرة.(44/129)
وإذا ما اجتَهد وَليُّ الأَمْرِ عِند اختيارِ عُمَّالِه بانتقاءِ الصَّالح مِنهم ثمَّ تَبيَّن أن مِن بَيْنهم من لا يَصْلح للعَمل - بأن ظَهرت مِنه خِيانَة - فلا يَتردَّد في عَزْله ومُعاقبتِه وحِسَابِه ليكونَ عِبْرة لِغيره. وما ترْكُ المذْنِب بلا عِقابٍ ولا حِسابٍ إلاَّ نوعٌ مِن الاسْتِفْزازِ للمخْلِصين، وتثْبيطًا لهِمَمِهم.
وعليه تَفقّد أَحوالهم، ومُراقبه أَعمالهم، لا يَسْقط ذلك عنه بدعوى الثِّقة فِيهم، ولا بالانشِغَال عَنْهم.
فإن هُو عَلِم بالتَّقصير فجَامَل أَو تَجمَّل، أَو تغابا، فتلك مُصيبة. وإن كان جاهِلاً بهِ فالمُصيبة أَعظم. لأَنَّه المسئول الأوّل عَن كلِّ مَظْلمة أَو خَطأ يَقَع مِنهم عَلى الرَّعيّةِ.
كان عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه يتفقَّدُ بَعض أَحياء المدينة إِذْ مَرَّ بعجوزٍ وحولَها صِبية يَبْكون وهي تَقول: اللهُ بيْنَنا وبَيْن عُمر.
فاسْتوقفه ذلك وسألها: وما يُدْري عُمر بِكُم؟! ردَّت عَليه - وهي لا تَعْرِفه -: يَتَولَّى أَمرنا ثُمَّ يَغْفُل عَنَّا.؟!
فأمدَّها بزادٍ وقَام عليه حَتَّى نَضج، فأكل الصِّبية وناموا. فالتَفَتَتْ إِليه العجوز وقالت: إنك أَولى بالأَمْر مِن عُمر (1) .
الشاهد في ذلك قَولها: يَتَولى أَمرنا ثمَّ يغفل عنَّا! .
وإقرار عُمر لَها بعَدمِ تعْنِيفِها، تَصْويبٌ لرأَيها. مِمَّا يؤكِّد مَسئولية الوالي على كلِّ ما يَجْري في وِلايتهِ.
وفي بَعْض الأَقطار - غَير المسْلِمة - إذا جُرِّمَ موظف في وزارة فإنَّ الوَزير يَفقِد منْصِبه. وإذا كانَ وزَيرًا اسْتَقالت الحُكومة بِرُمَّتها!! .
__________
(1) انظر مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص69. وانظر تاريخ الطبري (5/20 ـ 21) .(44/130)
فكيفَ بِنا ونَحن مُسلِمون نغفل عن مثل هذا، وإِذا سَرَق فينا الضَّعيفُ أَقمنا عليه الحدّ، وإذا سَرق فينا الشَّريفُ تركْنَاه. ورَسُولُنَا وقُدْوَتُنا أَقْسَم بأَيْم الله لو أَنَّ فَاطِمة بنت مُحمّد سَرَقت لَقَطَعْتُ يدها (1) .
فَهل مِثل هَذا التَّصرف من بَعْضِنا دافِعه المجامَلة أَم التَّجملِ؟ وهل هما مِن أنواع المدارة في شيءٍ؟
قالوا: المجامَلَة هي المعامَلة بالجميلِ، قَولاً، وفِعْلاً، ومن المعامَلة بالجميل إِعْطاءُ كلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه، والأَخذ بالأَسباب المشْروعة عند كلّ إنْجازٍ لَهُ. والعَمل بقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذا عَمِل أَحدكم عَمَلاً أَن يُتْقِنَهُ " (2) .
وأما التَّجمل فهو أَن يكونَ عَمَلُ الجميلِ مِنه تكلُفًا. فيَقْضِي حَوائج النَّاسِ حَسَب مقاماتِهم، ودَرَجاتِ نفُوذهم في المجتمع، وبقدْر ما يأْمل مِن كَسْبٍ مادِي مِنهم فيُخِلَّ بحقوق الآخرين من عامةِ النَّاس، ويُضَيِّع عليهم أَوقاتَهم، ويُلوِّحُ لَهم بقبولِ الرِشْوَة.
والإِنْسان المضْطر لقضاء حوائِجه تلْمس عندَه الاستعدادَ للبذْلِ، والتَّخلُّقِ باللِّين، والمدارة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع. ومسلم في الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره.
(2) قال في مجمع الزوائد (4/98) : رواه أبو يعلى عن عائشة، وفيه مصعب بن ثابت وثّقه ابن حبّان، وضعّفه جماعة. قال في التقريب: ليِّن الحديث. اهـ. وللحديث شاهد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان لفظه: ((إنّ الله يحب من العامل إذا عمل أن يُحسن)) من حديث قطبة بن العلاء بن المنهال. قال الألباني: مرسل. انظر السلسة الصحيحة، رقم (1113) .(44/131)
فَخَوْفُه من المجْهولِ، وعَدم ثِقَتِه بالمسْتَقْبل يُوصِلانِه إلى الشُّعور باليأْس، فيُحاول التَّقليل مِن هَذا الشُّعور بالضَّغْطِ على نَفْسه والتَّحلي بالصَّبْر، والتَّسَلُّح بأَنواعٍ مِن المداراةِ، كالمُسايَرة، والملايَنة، والمداجاةِ، والمصَانعة. فَيَسْتَغِل مثل هذه الحَالة مَن لا خلاقَ له، فيَبْسُط نُفُوذَه، ويُمْلي شُروطَه، ويُساوِم، فإن أُعطي رَضي، وإِن لم يُعطَ يتعنَّت، ويُماطِل صَاحِبَ الحاجَةِ في إِنْجازِها. ولسانُ حالِه يَقول:
لَقد قرَّرْتُ فَلا تُحاوِل تَضْلِيلِي بالحقَائِقِ!! .
ولعلّ من أبرز المجالات الإنسانية في الحياة الدنيا استعمالاً لأكثر أنواع المداراة هو مجال السياسة.
لأن الساسة يكون لهم أهداف لتحقيق مصالحهم. وتكون تلك المصالح في الغالب مع الأجنبي الَّذي يختلف في أحكامه، وأعرافه، وشرائعه عن بلد السياسي. فتجده يبذل جهدًا موصولاً بعيدًا عن العنف. يلفُّه الحذر الشديد لئلا يَسمع منه الآخر ما يثير ضغينته، فتراه يستخدم من الألفاظ، ويأتي من الأفعال ما يداري به صاحبه، وبما يعجبه ليصل بذلك إلى ما يريد منه.
ولعل من أسوأ ما يمكن أن يقع فيه السياسي من خُلُقٍ هو لجوؤه إلى الكذب المبطّن، أو الخداع المدسوس، في القول أو الفعل.
فهو يحرص ألاّ يكشِف أوراقه لمنازعه، في الوقت الَّذي يُبقي فيه على شعرة معاوية (1) بينهما.
ولكن هل من سبيل إلى تجنّب قول الحقيقة دون الوقوع في الكذب؟
يبدو أن المسألة تجمع بَيْنَ ضِدَّين، الأمر الَّذي يصعب على العقل إدراكه، ولكن لعلّ في المعاريض مندوحة عن الكذب.
__________
(1) قال معاوية بن أبي سفيان: لو أنّ بيني وبين النَّاس شعْرة لما انقطعت. قيل له: كيف؟ قال: إذا أرخوها شددتها، وإذا شدوها أرخيتها.(44/132)
والوطن يدافع عنه رجلان: أحدهما بالسِّنان، والآخر بالبيان، فهما في حرب مع العدو، وقد أباح الشارع اللجوء إلى الكذب في الحرب، ومن أجل الصلح بَيْنَ اثنين أو أكثر (1) .
فهذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول، ومجاوزة الصدق طلبًا للسلامة، ودفعًا للضرر عن نفسه.
وقد رُخِّص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد لما يُؤمَّل بعده من الصلاح.
الخاتمة، والتوصيات
(المداراة) خُلُق في الإنسان، مكتسب ليُصبح له بعد ذلك سلوكًا، يُقَوِّم من خلاله معظم علاقاته الاجتماعية مع الآخرين.
وكُلَّما كان الإنسان ذا علاقة واسعة مع غيره، وتعددت مسئولياته احتاج إلى نوع من (المداراة) الّتي من أبرزها: اللين.
فمهمّة الأنبياء والرسل في نشر الدعوة إلى توحيد الله، وهداية الأمم يغلب عليها طابع (المداراة) فيما لا يخالف منهج الدعوة، وأهداف الداعية. فكانوا يتعاملون مع أذى المناوئين لدعوتهم بالصبر، والأناة، والحكمة، والموعظة الحسنة. مُوَجَّهِين من الله تعالى بذلك.
والعامة من المسلمين في تعاملهم المعيشي مع بعضهم يُفْتَرضُ أن الشريعة الإسلامية الّتي تحثّ على الصدق، والوفاء، والتعاون على البرِّ والتقوى وإصلاح ذات البين، وإغاثة المحتاج، والإيثار هي مرشدهم في تعاملهم. أولئك كانوا أقرب إلى الهدى من الضلال، وإلى الخير من الشرّ، حتّى إذا ابتعد أكثر النَّاس عن صميم تعاليم دينهم، وخفَّ لديهم الوازع الديني، وشُغِلوا بالماديات في شتى أمور حياتهم، وتعلّقوا بالحياة الدنيا وزخرفها، ابتدعوا من قبل أنفسهم حِيلاً، وأساليب مختلفة للوصول إلى غاياتهم، لا يضرهم من تضرر إذا حققوا ما يُريدون!!
__________
(1) انظر كتاب الصلح من صحيح البخاري، باب ليس الكاذب الَّذي يصلح بَيْنَ النَّاس. وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب في إصلاح ذات البين.(44/133)
فَبَرَزَ في المجتمع المسلم فئة من المسئولين استغلت ضعف الضعيف، وطمع القوي، يعاملون الفئتين بالابتزاز، واصطياد الفرص، فأفشت بينهم الرِّشْوَة، ورسَّخت في المفهوم العام فكرة الوَسَاطَةِ، والوَسيط لانجاز مصلحة وإن لم تَسْتَوْف الشروط اللاَّزمة الصحيحة لإنجازِها. وهذا ليس من (المداراة) في شيء.
ويكون من واجب ولاة الأمر حِينَئذٍ التقصي والاجتهاد في اختيار مُعاونيهم في شتى الأعمال، ومتابعتهم بعد ذلك، وتقويم اعوجاج سُلوكِهم، أو حماية المجتمع من شرورهم بإقصائهم بعد معاقبتهم، ليتحقق المفهوم العام القائل: الرجل المناسب في المكان المناسب.
وما يسببه البعض من إحراج للمسئول عند مراجعته لإنجاز معاملته - وتكون ناقصة المعلومات، أو مخالفة لمقتضيات النظام - فيذكّره بقرابته، ويستفزه بعبارات المديح، وبما له عليه من حقوق، مما يضطره إلى مجاملته، وتقديم طلبه على المستحقين قَبْلَهُ، أو أن يعامله بخلاف نصوص التنظيم، فيضطرب أمر الدائرة، ويتسلل الخطأ، وربما يعالج بخطأ آخر.(44/134)
فعلاج ذلك - في مفهومي - دراسة الأنظمة - قبل وضعها موضع التنفيذ - دراسة دقيقة وافية من قِبَل مختصين، أهل دراية، وخبرة شرعية وقانونية، ثمَّ تُطْرح للتجربة، ويتابعون تنفيذها، والعمل بها مدّة تتناسب وأهميّة النظام من حيث مِساسه بالجمهور، وباعتباره قاعدة تقوم عليها أسس أخرى. وألاَّ يستنكف واضعو النظام من الأخذ بكلّ ملاحظة مهما كان حجمها، أو قَدْرَهَا، ويستفيدون منها في التجربة، فيضيفون أو يحذفون، ثمَّ بعد التأكّد من صلاح النظام بنسبة معقولة، يعاقب كلّ من يخالفه أو يتجاوزه بزيادة أو نقص عقابًا صارمًا يصل في المرحلة الثالثة إلى فصل المتسبب من عمله، والغرامة المالية لغير العاملين في السلك الوظيفي، وأن يُجعل شعار كلّ دائرة لها اتصال بالمواطنين: (المصلحة العامة فوق كلّ شيء) ، وفي هذا قضاء على (المحسوبية) ، وإعطاء الموظّف القدر الكافي من الجرأة لرفض كل ما يخالف الأنظمة.
و (المداراة) لا تكون أبدًا على حساب العقيدة الصحيحة، ولا تنافي المروءات، ولا تكون عونًا للظالم على ظلمه.
بل هي أسلوب لحياة كريمة، ووسيلة للتوصّل إلى الحق، وتحصيل الحقوق، والمحافظة على الصِّلات الإنسانية بين أفراد المجتمع، والرفق بالجاهل، والسفيه في الدعوة والإرشاد، فذلك كلّه مع صلاح النية، ومراقبة الله تعالى في السّرِّ والعلن في كلّ ما يأتي أو يدع وذلك معنى الإحسان: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". وابتغاء وجه الله ومرضاته كفيل - إن شاء الله - بالسداد، والقبول.
والله تعالى أعلم، وهو المستعان.
المراجع
1. الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1975 م.
2. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، سنة 1408 هـ.(44/135)
3. أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق البجاوي، طبعة عيسى الحلبي.
4. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، المكتب الإسلامي، 1399 هـ.
5. أسباب نزول القرآن، لأبي الحسن عليّ بن الواحدي، تحقيق: السيد أَحمد صقر، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدّة، ط2، سنة 1404 هـ.
6. أعلام الحديث، للخطابي، طبعة جامعة أم القرى بمكة، سنة 1409.
7. بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، لعلي بن سليمان بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق الدكتور: حسين أَحمد صالح الباكري، الناشر: مركز خدمة السنّة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة، سنة 1413 هـ.
8. تاريخ الطبري، دار المعارف بمصر، ط2، تحقيق: محمَّد أبو الفضل إِبراهيم.
9. التعريفات، للجرجاني، مكتبة لبنان، سنة 1969 م.
10. تفسير البغوي، تحقيق محمد النمر وآخرين، دار طيبة بالرياض.
11. تفسير الطبري، بتحقيق محمود شاكر، دار المعارف بمصر.
12. تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إِسماعيل بن كثير القرشي، الناشر: دار الأندلس، بيروت، سنة 1385 هـ.
13. تفسير الكشاف، دار الكتاب العربي، بيروت.
14. تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، مكتبة القاهرة.
15. تفسير النسفي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي.
16. تقريب التقريب، لابن حجر، دار المعارف للطباعة، بيروت.
17. تهذيب التهذيب، لأبي الفضل أَحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند، سنة 1325 هـ.
18. تهذيب اللغة، للأزهري، الهيئة المصرية العامة.
19. الروح، لابن قيّم الجوزية، دار الندوة الجديدة، بيروت.
20. سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، طبعة المكتب الإسلامي.
21. سنن الترمذي، نشر عبد المحسن الكتبي، المدينة المنورة، سنة 1384 هـ.
22. سنن أبي داود، تعليق: عزت الدعاس، الناشر: محمَّد عليّ السيد، حمص، سنة 1388 هـ.(44/136)
23. سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، سنة 1372 هـ.
24. سنن النسائي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، سنة 1348 هـ.
25. شرح السنة للبغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، سنة 1403 هـ.
26. شعب الإيمان، للبيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت.
27. الصحاح، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار.
28. صحيح البخاري، مطبوع مع فتح الباري.
29. صحيح سنن أبي داود، للألباني. محمَّد ناصر الدين، المكتب الإسلامي، بيروت.
30. صحيح مسلم، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
31. صور من حياة عبد العزيز، لابنه الأمير طلال، مطابع حنيفة للأوفست، الرياض، 1402.
32. ضعيف سنن أبي داود، للألباني. محمَّد ناصر الدين، المكتب الإسلامي، بيروت، سنة 1412 هـ.
33. ضعيف سنن ابن ماجه، للألباني. محمَّد ناصر الدين، المكتب الإسلامي، بيروت، سنة 1408 هـ.
34. عارضة الأحوذي، لابن العربي، طبعة سنة 1415.
35. غريب الحديث، لأبي عبيد، دار الكتاب العربي، بيروت.
36. فتح الباري، لابن حجر، المطبعة السلفية، القاهرة، سنة 1380 هـ.
37. فردوس الأخبار، للديلمي، طبعة بيروت.
38. الفروق، لأبي هلال العسكري، الناشر: جروس برس، طرابلس، لبنان، سنة 1415هـ.
39. فقه اللغة، للثعالبي، مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
40. الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أَحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، الناشر: دار الفكر، بيروت، سنة 1404 هـ.
41. كشف الخفاء للعجلوني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، سنة 1403 هـ.
42. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لجار الله محمود بن عمر الزمخشري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت.
43. اللسان، لابن منظور، دار صادر.(44/137)
44. لزوم ما لا يلزم، لأبي العلاء المعري، عناية: كمال اليازجي، دار الجيل، بيروت، سنة 1412 هـ.
45. مجمع الزوائد، للهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، سنة 1967 م.
46. مداراة الناس، لابن أبي الدنيا، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، سنة 1418 هـ.
47. المستدرك، للحاكم، دار الفكر، بيروت، سنة 1398 هـ.
48. مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت.
49. مسند أبي حنيفة، بشرح ملا علي القاري، بتحقيق خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت.
50. مسند أبي داود الطيالسي، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند، سنة 1321 هـ.
51. مصنّف ابن أبي شيبة، الدار السلفية، بومباي، الهند.
52. معالم السنن، شرح سنن أبي داود، للخطابي، إعداد عزّت عبيد الدعاس، نشر: محمَّد عليّ السيد، حمص، سنة 1388 هـ.
53. معجم العلوم الاجتماعية، إعداد نخبة من الأساتذة المصريين والعرب المتخصصين، تصدير الدكتور إِبراهيم مدكور، إشراف اليونسكو، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1975 م.
54. المعجم الوسيط، إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
55. مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لابن الجوزي، تحقيق د. زينب إبراهيم القاروط، دار الكتب العلمية، بيروت.
56. موطأ الإمام مالك، صححه محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة عيسى الحلبي بمصر.
57. الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عز وجل، واختلاف العلماء في ذلك، لأبي جعفر أحمد بن محمد النحَّاس، تحقيق: الدكتور سليمان بن إبراهيم اللاّحمم، مؤسسة الرسالة، بيروت، سنة 1412 هـ.
58. النهاية في غريب الحديث والأثر، للإِمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمَّد الجزري ابن الأثير، تحقيق: محمود محمَّد الطناحي وطاهر أَحمد الزاوي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، سنة 1383 هـ.(44/138)
أبو تُراب اللّغويّ
وكتابه "الاعتقاب"
الدكتور
عبد الرّزّاق بن فرّاج الصّاعديّ
المقدّمة
الحمد لله حقَّ حمده، والصّلاة والسّلام على خير خلقه، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإنّ كثيراً من المتخصّصين في علوم العربية لا يعرفون عن أبي تراب اللّغويّ أو عن كتابه "الاعتقاب"إلا الشيء اليسير، وقد لا يعرفون عنه شيئاً؛ فهو من علماء اللّغة المغمورين على الرّغم من تقدّمه وعنايته الفائقة باللّغة، وإعجاب معاصريه به، وتوثيقهم إيّاه، وتلقّيهم كتابه الاعتقاب بالقبول والرّضا، وهو ككثير من علماء اللغة المغمورين الذين لم يواتهم الحظ، فقصّر في ترجمته المترجمون، وأهمله أكثرهم، ولم يكن كتابه أوفر حظاً منه فقد أتت عليه عوادي الزمان، فضاع فيما ضاع من تراث العربيّة.
ولقد قيض الله لأبي تراب من أبقى ذكره؛ بترجمة مختصرة نافعة، وحَفِظَ جلّ كتابه "الاعتقاب"بنقله نصوصاً كثيرة منه تُربي (1) على ثلثمائة نص، وهو الأزهريّ (370هـ) القائل في مقدمة معجمه الكبير "تهذيب اللغة"بعد أن ذكر أبا تراب وكتابه "الاعتقاب": "وقد قرأت كتابه فاستحسنته، ولم أره مجازفاً فيما أودعه، ولا مصحّفاً في الذي ألّفه، وما وقع في كتابي لأبي تراب فهو من هذا الكتاب".
__________
(1) من الفعل أَرْبَى.(44/139)
وقد عَرَضَتْ لي فكرة هذا البحث منذ سنوات مضت وهي جمع نصوص كتاب "الاعتقاب"من كتاب التّهذيب وغيره، ودراسته من خلالها، والترجمة لمؤلّفه أبي تراب ترجمة ضافية، فعرضت الفكرة على أستاذي الدّكتور محمّد يعقوب تركستاني فاستحسنها، وحثّني على المضيّ في إتمامها، ثمّ حالت دون البدء فيه حوائل؛ منها ما وجدته في ترجمة أبي تراب من اضطراب في اسمه وغموض في حياته العلميّة؛ فأرجأت الشروع في الكتابة إلى حين التّمكّن من جلاء ذلك الغموض، فبقيت فكرة البحث كامنة في نفسي، تبرز كلّما قرأت كتاباً في التّراجم أو التّاريخ أو التّراث اللّغويّ القديم، حتّى تمكّنت بحول الله وقوته في هذا العام 1421هـ من كشف ذلك الغموض، وتصحيح الاضطراب، وجمع مادة الاعتقاب من مظانها الأصلية كـ "التهذيب"للأزهريّ وباقي معاجم اللّغة كـ "الصحاح" للجوهريّ، و "التكملة"و "العباب"للصّغاني "اللّسان"لابن منظور، فبلغت النّصوص الّتي جمعتها خمسة وسبعين وثلثمائة نصّ لغويّ من نصوص كتاب الاعتقاب، بعد أن قرأت التّهذيب مرّتين، وهي – في الحقِّ – أضعاف ما كنت أطمح إليه، وأكثر النصوص هي من الاعتقاب بمعناه الاصطلاحي؛ أي: الإبدال، وبعضها ليس من الإبدال، ولكنها من كتاب الاعتقاب لأبي تراب، فليس بالإمكان حذفها أو تجاهلها، ولا يضير ذلك أبا تراب، ولا يعيب كتابه، فهو كغيره من علمائنا القدامى ـ رضي الله عنهم ـ الذين يحرصون على الأشباه والنظائر، وقد يخلطون شيئاً بشيء؛ لغزارة حفظهم، ونزوعهم إلى الاستفاضة في جمع المادة، واتساعهم في مفهوم التأليف، فإن لم يكن ذلك من الإبدال فهو من اللغات، والحَدُّ بين الإبدال واللغات دقيق، وبعضهم يتسع في هذا الأمر فيجعل كل كلمتين متفقتين في الحروف إلا حرفاً واحداً ـ من الإبدال، مثل نَبَأَ ونَتَأَ، ولابِثٍ ولابَنٍ وثاقِبٍ وناقَبٍ.
وقد جعلت البحث في قسمين رئيسين:
القسم الأول: أبو تراب وكتاب الاعتقاب(44/140)
وفيه بابان وفصول؛ وهما كما يلي:
الباب الأول: أبو تراب اللّغويّ
الفصل الأول: سيرته الشخصية
الفصل الثاني: حياته العلمية
الباب الثاني: كتاب الاعتقاب
الفصل الأول: مادّة الكتاب ومنهجه
الفصل الثاني: مصادره
الفصل الثالث: شواهده
الفصل الرابع: قيمته العلميّة وأثره
القسم الثاني: نصوص من كتاب الاعتقاب (جمع وترتيب)
وفيه أبواب كثيرة بحسب مواد الاعتقاب، وهي.
أبواب اعتقاب الهمزة
أبواب اعتقاب الباء
أبواب اعتقاب التّاء
أبواب اعتقاب الثّاء
أبواب اعتقاب الجيم
أبواب اعتقاب الحاء
أبواب اعتقاب الخاء
أبواب اعتقاب الدّال
أبواب اعتقاب الذّال
أبواب اعتقاب الرّاء
أبواب اعتقاب الزّاي
أبواب اعتقاب السّين
أبواب اعتقاب الشّين
أبواب اعتقاب الصّاد
أبواب اعتقاب الضّاد
أبواب اعتقاب الطّاء
أبواب اعتقاب الظّاء
أبواب اعتقاب العين
أبواب اعتقاب الغين
أبواب اعتقاب الفاء
أبواب اعتقاب القاف
أبواب اعتقاب الكاف
أبواب اعتقاب اللام
أبواب اعتقاب الميم
أبواب اعتقاب النّون
أبواب اعتقاب الواو
أبواب اعتقاب الياء
باب الاعتقاب في حروف مختلفة
باب الفوائد والنّوادر
وقد التزمت - في هذا القسم المهمّ من البحث - نقل النّصوص اللّغويّة كما هي في مظانّها الأصليّة، ووضع كلّ نصّ بين علامتي تنصيص، لتسهل مراجعته، وأضفت إلى ذلك ترتيب أبواب الاعتقاب على حروف المعجم، وتركت تخريج الشّواهد الشّعريّة؛ اكتفاء بورودها في مظانّها اللّغويّة القديمة، وعلى رأسها "التّهذيب"ولأنّ ذلك ليس من هدفي في هذا البحث القائم على الجمع والتّرتيب والدّراسة. ولأني لا أحقق كتاباً مخطوطاً، فنصوص الاعتقاب متداولة في كتب مطبوعة.(44/141)
فأرجو أن يكون التّوفيق حليفي في هذا الجهد المتواضع؛ لإخراج شيء من كتاب لغويّ مفقود، يعدّ من مصادر اللّغة، الّتي استقت منها معاجم العربية مادتها اللّغويّة، وبخاصّة فيما يتّصل بالإبدال اللّغويّ، وأرجو - أيضاً - أن أقدّم ترجمة علميّة مفيدة لأبي تراب مؤلّف هذا الكتاب النّفيس.
والله حسبي وهو نعم الوكيل.
القسم الأوّل
أبو تُراب وكتابه
الباب الأوّل
أبو تراب اللّغويّ
الفصل الأوّل: سيرته الشّخصيّة
اسمه:
ثمّة غموض واضطراب في اسم أبي تراب اللّغويّ (1) ، فهو:
إسحاق بن الفرج
أو محمد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ
أمّا كنيته فـ: "أبو تراب"ولا خلاف في هذا.
ويعدّ الأزهريّ (ت 370هـ) من أقدم المصادر التي ترجمت لأبي تراب في مقدّمة كتابة "تهذيب اللّغة"الّتي ترجم فيها لبعض العلماء، وقد أسهمت نسخ هذا الكتاب المتناثرة في العراق وخراسان في ذلك الغموض والاضطراب، فهو "محمّد بن الفرج"في المقدّمة في بعض النّسخ القديمة الّتي اطّلع عليها ياقوت الحمويّ فيما نقل عنه الصّفديّ (2) .
وهو في بعضها: "أبو تراب الّذي ألّف كتاب الاعتقاب"وهذا هو الّذي في الكتاب المطبوع المتداول.
ويشير إليه الأزهريّ فيما ينقله عنه من نصوص بثلاثة طرق:
بكنيته، فيقول: "أبو تراب"
أو يقول: "ابن الفرج"
أو باسمه، فيقول: "إسحاق بن الفرج".
ويلاحظ أنّ نسخ التّهذيب لا تتفق في اسمه دائماً، فقد يكون في نصّ في بعض النّسخ: "أبو تراب"، فيكون في النّصّ نفسه في نسخة أخرى: "ابن الفرج"أو "إسحاق بن الفرج"وقد يكون عكس ذلك، أي: إذا قالت نسخة: "ابن الفرج"قالت نسخة أخرى: "أبو تراب".
__________
(1) من مصادر ترجمته: تهذيب اللغة 1/26، والفهرست 92، ومعجم الأدباء 1/462، وإنباه الرواة 4/102، 103، والوافي بالوفيات 4/319، 320، وبغية الوعاة 1/209.
(2) ينظر: الوافي 4/319.(44/142)
وسرى ذلك الاضطراب إلى "لسان العرب"لابن منظور، فقد يكون النّصّ في "التّهذيب"منقولاً عن "أبي تراب"، فنجده بنصّه في "اللّسان"ولكن عن "ابن الفرج" ونجد العكس - أيضاً- أي أن ابن منظور قد يقول: "أبو تراب"في الموضع الّذي يقول فيه الأزهريّ: "ابن الفرج"أو "إسحاق بن الفرج".
ويمكن بيان ذلك من خلال المقابلة بين بعض النّصوص في "التّهذيب"و "اللّسان"
النّصّ في التّهذيب النّصّ نفسه في اللّسان
1/186 "إسحاق بن الفرج" 8/271 "أبو تراب"
5/205 "أبو تراب" 14/172 "ابن الفرج"
6/397 "ابن الفرج" 9/19 "أبو تراب"
8/243 "ابن الفرج" 15/140 "أبو تراب"
8/325 "ابن الفرج"
6/358 "أبو تراب"
8/337 "ابن الفرج"
1/484 "أبو تراب"
8/373 "ابن الفرج"
11/381 "أبو تراب"
8/376 "ابن الفرج"
10/204 "أبو تراب"
8/393 "ابن الفرج"
7/320 "أبو تراب"
9/30 "ابن الفرج"
9/96 "أبو تراب"
10/552 "أبو تراب"
3/266 "ابن الفرج"
13/25 "أبو تراب"
1/95 "ابن الفرج"
14/70 "أبو تراب"
13/160 "ابن الفرج"
16/188 "ابن الفرج"
8/450 "أبو تراب"
وجاء اسمه في "الوافي"للصّفديّ على النّحو التّالي:
محمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ أبو تراب اللّغويّ.
وذكر الصّفديّ أنّ ياقوتاً نقل هذا الاسم من نسخة من كتاب الاعتقاب، بعد أن تنبّه لهذا الاضطراب؛ قال الصّفديّ في التّرجمة: "محمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ أبو تراب اللّغويّ. ذكره أبو منصور الأزهريّ في مقدّمة كتابه، فقال: أبو تراب محمّد بن الفرج صاحب كتاب الاعتقاب ...(44/143)
قال ياقوت في "معجم الأدباء"كنت رأيت نسخة بكتاب الأزهريّ ببغداد، وقد ذكر الأزهريّ أبا تراب فيها، وسمّاه محمّد بن الفرج، فلمّا وردت إلى مرو وقفت على النّسخة التي بخطّ الأزهريّ، ولم أجد ذكر اسم أبي تراب في المقدّمة، إنمّا ذكر كنيته فقال: أبو تراب صاحب كتاب الاعتقاب، ورأيته يقول في ضمن كتابه: قال إسحاق بن الفرج، وكان هناك نسخة أخرى بكتاب (1) الأزهريّ لا توافق التي بخطّه، وفيها زيادات ونقصان، وكنت أتأمّل ذلك القول الّذي عزاه في كتابه الّذي بخطّه إلى إسحاق بن الفرج، وهو مذكور في النّسخة الأخرى لأبي تراب، وكذا إذا وجدت في خطّه شيئاً قد عزاه إلى أبي تراب أراه في تلك النّسخة قد عزاه إلى إسحاق بن الفرج، وطلبت نسخة بكتاب الاعتقاب لأصحّح اسمه منها فوجدتها مترجمة لمحمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ، وأنّا في حيرة من هذا إلى أن يصحّ إن شاء الله تعالى، انتهى كلام ياقوت".
ونخرج من هذا النصّ النّفيس الذي أورده الصّفديّ بجملة من الملحوظات، منها:
أ- قِدَم الغموض والاضطراب في اسم أبي تراب، ووقوع ذلك في نسخ التّهذيب القديمة.
ب- أنّ اسمه في المقدّمة من نسخة التّهذيب الّتي بخطّ الأزهريّ: إسحاق بن الفرج، وفي نسخة بغداد: محمّد بن الفرج، وفي الكتاب المطبوع الّذي بأيدينا: أبو تراب، فحسب.
جـ- أنّ اسمه في كتاب "الاعتقاب": محمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ، وهذه أهمّ الملحوظات.
د- حيرة ياقوت في ذلك الاضطراب، وهو من علماء التّراجم المُدقّقين.
هـ- أنّ هذا النصّ النّفيس ليس في "معجم الأدباء"في طبعتيه؛ القديمة بعناية مرجليوث، والحديثة بتحقيق الدّكتور إحسان عبّاس.
__________
(1) هكذا، ولعلّ الصّواب: ((من كتاب ... )) أو ((لكتاب ... ))(44/144)
ولهذا تعيّن أن أُحَرِّرَ هذا الاضطراب قدر الاستطاعة باستقراء كامل النّصوص المعزوة لأبي تراب،أو ابن الفرج، أو إسحاق بن الفرج في "تهذيب اللّغة"ودراسة محتواها ومقابلة بعضها بما في "اللّسان"لابن منظور، أو "التّكملة"للصّغانيّ؛ لأتبيّنَ في النّهاية حقيقة هذه الأسماء؛ هل هي لرجل واحد، أو لرجال مختلفين؟ وقد فعلت ذلك؛ فثبت عندي أنّ من يسميه الأزهريّ ابن الفرج هو من يسميه إسحاقَ بن الفرج؛ وهو من يسميه أبا تراب صاحب كتاب الاعتقاب، فهو شخص واحد، وأوجز خلاصة ذلك فيما يلي:
1- نقل الأزهريّ عن "أبي تراب"في نحو أربعين ومائتي نصّ ونقل عن "ابن الفرج"في نحو خمسة وثمانين نصاً (1) ، ونقل عن إسحاق بن الفرج في نحو عشرين نصاً (2) .
وهذه النّصوص تتطابق في محتواها، فهي من نصوص التّعاقب (الإبدال) وهي توافق عنوان الكتاب: "الاعتقاب".
2- قد يقرن الأزهريّ بين اسمين من هذه الأسماء الثّلاثة بما يدلّ على أنّهما لشخصٍ واحد، كقوله: "روى ابن الفرج أبو تراب عن خليفة الحصينيّ ... ".
وقوله في أوّل أحد النّصوص: "قال ابن الفرج...."وقوله في آخره: "جاء به أبو تراب في باب الشّين والسّين وتعاقبهما".
أو يقرن بين أحد هذه الأسماء واسم الكتاب، كقوله: "رواه أبو تراب له في كتاب الاعتقاب" وفي نسخة أخرى - كما في الهامش: "حكاه ابن الفرج له في كتاب الاعتقاب" (3)
3- الإشارة إلى عناوين بعض الأبواب في كتاب "الاعتقاب"وورود ذلك مع الأسماء الثّلاثة، كقول الأزهريّ فيما يلي:
"روى أبو تراب في باب الكاف والفاء"
"قال ابن الفرج في باب الميم والباء"
"قال إسحاق بن الفرج ... جاء بهما في باب الكاف والجيم"
"وقد طلبته في باب العين والحاء لأبي تراب فلم أجده"
"ونظرت في باب ما يعاقب من حرفي الصاد والطاء لابن الفرج، فلم أجده"
__________
(1) ينظر ما تقدم - أيضاً.
(2) ينظر ما تقدم - أيضاً.
(3) المصدر السابق 7/538 هامش (10) .(44/145)
"روى ابن الفرج لابن الأعرابي في باب الصّاد والفاء"
4- اتفاق الرّواة الوارد ذكرهم مع الأسماء الثّلاثة، وهو ما يظهر جلياً في النّصوص المثبتة في القسم الثّاني من هذا البحث، وأمثلة ذلك ممّا نقله الأزهريّ:
أ- "قال أبو تراب: سمعت شُجاعاً السّلميّ يقول....."
"قال ابن الفرج: سمعت شُجاعاً السّلميّ يقول...."
"قال إسحاق بن الفرج: سمعت شُجاعاً السّلميّ يقول...."
ب- "قال أبو تراب: سمعت أبا السَّمَيدع يقول ... "
"روى ابن الفرج عن أبي السَّمَيدع ... ".
"قال إسحاق بن الفرج: سمعت أبا السَّمَيدع يقول ... "
جـ- "روى أبو تراب عن مُدْرِك الجعفريّ ... "
"قال ابن الفرج: سمعت مُدْرِكاً الجعفريّ يقول ... "
"قال إسحاق بن الفرج ... وقال مُدْرِك الجعفريّ ... "
5- يمكن أن يستدلّ - أيضاً - بتعاقب الأسماء الثّلاثة في نسخ التّهذيب الّذي أشرت إليه فيما تقدّم، فقد يكون دليلاً على وحدة المسمّى، أي أنّها لشخص واحد، هو أبو تراب.
6- اجتماع هذا الاسم في نصّ فريد في "معجم البلدان"لياقوت الحموي؛ منقول ـ فيما يظهر لي ـ عن الأزهري في التهذيب؛ قال ياقوت في رسم (عربة) : "قال أبو تراب إسحاق بن الفرج: عَرَبة: باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم ... " وهذا يوافق ما في التهذيب، ولكن الأزهري اختصر الاسم فقال: "قال إسحاق بن الفرج ... " وقد يكون هذا الاختصار امتداد للاضطراب في اسم أبي تراب في التهذيب.
ويبقى تعليل ذلك التّعاقب أو الاضطراب، وهو عندي من اجتهاد النّسّاخ، لاختلاف شهرة أبي تراب من بلد إلى بلد، فبعضهم يعرفه بأبي تراب، ويعرفه بعضهم بإسحاق بن الفرج أو ابن الفرج، فأباح بعض النّسّاخ لنفسه التّغيير وفق ما يراه هو، فاختلفت نسخ "التّهذيب"، وسرى الاختلاف من خلال هذه النّسخ المتباينة إلى معاجم أخرى كـ "التّكملة"و "العباب"للصّغانيّ و "لسان العرب"لابن منظور.(44/146)
ويدلّ على هذا التّفسير ما وقع في "التّهذيب"من تغيير في أسماء بعض العلماء غير أبي تراب، فقد يذكره الأزهريّ باسم فيغيره النّاسخ باسم آخر من أسمائه، ومن ذلك ما وقع في اسم "ثعلب"فهو يذكر تارة باسم "أحمد بن يحيى"فيُغيّر في نسخة أخرى في النّصّ نفسه ويجعل: "أبو العبّاس" ويذكر تارة بقوله "روى ثعلب"فيغير ويقال: "روى أبو العبّاس".
ووقع التّغيير في اسم "الزّجّاج"فهو يرد في بعض النسخ بقوله: "قال الزّجّاج"ويَرِدُ في بعضها في الموضع نفسه بقوله: "قال أبو إسحاق"وهو واحد، وقد وقع مثل هذا كثيراً في الجزءين السّابع والعاشر من "التّهذيب"تثبته فروقات النّسخ المثبتة في الهوامش (1) .
ووقع التغيير في اسم الأزهري نفسه، فإذا قال في بعض النسخ: "قلت"غَيَّرَهُ نَاسِخٌ في أخرى بقوله: "قال الأزهريّ" (2) أو "قال أبو منصور" وقد نجد العكس - أيضاً (3) .
وبهذا يتبيّن أنّ تلك الأسماء الثّلاثة "أبا تراب" و "ابن الفرج" و "إسحاق بن الفرج" التي نقل عنها الأزهريّ في "التّهذيب" هي لشخص واحد، هو مؤلّف كتاب "الاعتقاب": أبو تراب إسحاق بن الفرج.
وثمّة اسم آخر لهذا الرّجل غير هذه الثّلاثة، وهو "محمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ"وهذا ما انفرد به ياقوت ونقله عنه الصّفديّ في "الوافي" ونقله عن أحدهما أو عن غيرهما السّيوطيُّ في "بغية الوعاة".
قال ياقوت فيما يرويه عنه الصّفديّ: "وطلبت نسخة بكتاب الاعتقاب لأصحّح اسمه منها فوجدتها مترجمة لمحمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ، وأنا في حيرة من هذا".
__________
(1) ينظر: المصدر السابق 7/499، 502، 246، 10/47، 53، 117، 202.
(2) ينظر: التهذيب 10/54، 55، 64، 68، 72، 79، 89، 92، 96، 114، 115، 117، 122، 127، 147، 198، 200.
(3) ينظر: المصدر السابق 10/215.(44/147)
وإن صحّ ما نقله الصّفديّ فهو حجّة قويّة لأنّ الاسم مأخوذ من كتاب مؤلّفه، وهو "الاعتقاب"ولكن يصعب الجزم بشيء؛ لأنّ هذا النّصّ ليس في "معجم الأدباء"لياقوت في طبعتيه، وفيهما عناية فائقة بإخراج النّصّ وتصحيحه ومقابلته على أصوله، وقد ورد اسمه فيهما بما يوافق ما في طبعة التّهذيب؛ أي بقوله: "أبو تراب صاحب كتاب الاعتقاب".
ولعلّ ذلك النّصّ ممّا ضاع من كتاب "معجم الأدباء"وهو غير قليل.
ومهما يكن من أمر فلا تنافيَ بين الاسمين إلا في الأوّل منهما؛ أي "محمّد"و "إسحاق"وقد يكون ذلك من تحريف النّسّاخ أو من تغييراتهم الّتي أشرتُ إلى بعضها، وقد يكون لهذا الرّجل اسمان: محمّد وإسحاق، وليس لدينا ما يُقْطَعُ به، وإنمّا هي احتمالات.
أما اسم جَدِّة وهو "الوليد"فتركُ ذكرِهِ في الاسم الأوّل لا ينفيه في الاسم الثّاني لاقتصار الأوّل على الأب.
أمّا اللّقب وهو "الشّعرانيّ"فهو نسبة إلى "الشَّعْر"المرسل على الرّأس، وقد اشتهر به جماعة من العلماء ذكر السّمعانيّ (1) بعضهم، ولا يمتنع أن يكون أبو تراب منهم.
ويبدو أنّ أبا تراب لم يكن مشهوراً في العراق، وربّما في خراسان - أيضاً - فلم يعرفه كثير من معاصريه في القرن الثّالث ومن جاء بعدهم في القرن الرّابع. ويدلّ على هذا قول ابن فارس (395هـ) وهو ينقل عنه في نصّ لغويّ من نصوص التّعاقب: "وذُكِرَ عن رجل يُقال له أبو تراب، ولا نعرفه نحن: بَجَسْتُ الجرح مثل بططته".
ولهذا - أيضاً - ذكره صاحب "الفهرست" فيمن لا تُعرف أسماؤهم وأخبارهم ولعلّ خمول ذكره ممّا يفسّر الغموض والاضطراب الّذي تقدّم في اسمه.
وفي الختام يمكن أن نقول: إن اسمه يحتمل الوجهين معاً، أو أحدهما، وهما:
أبو تراب محمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ، كما في "الوافي".
أو أبو تراب إسحاق بن الفرج، كما يفهم ممّا جاء في "التّهذيب".
__________
(1) ينظر: الأنساب 7/343.(44/148)
وبهذا الأخير جزم محقّق المستدرك على التّهذيب، وهو الدّكتور رشيد العبيديّ، وقال: "ابن الفرج هو إسحاق بن الفرج، وهو أبو تراب نفسه صاحب الاعتقاب في اللّغة، ولم يتنبّه محقّقو التّهذيب إلى هذا".
ورجّحه الدّكتور فؤاد سزكين في "تاريخ الترّاث العربيّ".
مولده ووفاته:
سكتت المصادر القليلة الّتي ترجمت لأبي تراب اللّغويّ عن ذكر تاريخ مولده أو وفاته. والحقّ أنّنا لا نطمع في معرفة ذلك مع هذا الغموض الّذي يلفّ اسمه وتاريخ حياته بعامّة، فليس لنا إلا التّقدير بالاستعانة ببعض القرائن، كتاريخ وفيات بعض شيوخه وتلامذته، فقد روى أبو تراب عن جماعة من العلماء وسمع منهم، وكلّهم من علماء القرن الثّالث، أو ممّن أدرك القرن الثّالث.
ومن آخر من روى عنهم أبو تراب وفاة:
محمّد بن زياد المعروف بابن الأعرابيّ (ت 231هـ)
وأبو العميثل الأعرابيّ (ت 240هـ)
وأبو محلّم محمّد بن سعيد البغداديّ (ت 248هـ) .
وشمر بن حمدويه (ت 255)
بالإضافة إلى روايته عن بعض الأعراب الّذين استقدمهم ابن طاهر في الثّلث الأوّل من القرن الثّالث.
وبهذا يمكن أن نستنتج أنّ النّشاط اللّغويّ لأبي تراب تركّز في النّصف الأوّل من القرن الثّالث، ويمكن القول: إنَّه عاش بين سنتي 200هـ و 280 تقريباً، أو نقدّر أنّ مولده كان بين سنتي 190 و 200 هـ وأنّ وفاته كانت بين سنتي 270 و 280هـ.
وقد قدّر الدّكتور فؤاد سزكين وفاة أبي تراب بسنة 275هـ.
وذكر محقق المستدرك على التهذيب (الجزء السّادس عشر) أنّ أبا تراب توفيّ مطلع القرن الرّابع (1) ، وليس لهذا الذي ذكره ما يؤيّده لمّا تقدّم ذكره، ولقول الأزهريّ بعد أن ذكر طبقة العلماء الّذين فيهم أبو تراب: "ويتلو هذه الطبقة طبقة أخرى أدركناهم في عصرنا".
وهذا يعني أنّه لم يدرك طبقة أبي تراب، ومولد الأزهريّ كان في سنة (282هـ) .
موطنه ورحلاته:
__________
(1) ينظر: التّهذيب 16/5.(44/149)
يعدّ أبو تراب من أهل خراسان، ولكن لا يُعرف على وجه الدّقّة مكان مولده، فقد يكون في إحدى تلك البلاد، وقد يكون في غيرها، وإن كنت أرى أنّ مولده كان في نيسابور وهي المدينة الّتي نشأ بها وأخذ عن علمائها كأبي سعيد الضّرير الّذي استقدمه إليها ابن طاهر (1) ، وأخذ فيها عن الأعراب الرّواة الّذين استقدمهم ابن طاهر - أيضاً.
ثمّ توجّه أبو تراب إلى هراة وهي من المدن الكبيرة الزّاخرة بالعلماء (2) في خراسان قال الأزهريّ: "ثم رحل إلى هراة فسمع من شمر بعض كتبه".
وقال في موضع آخر: إنّه "كتب عنه شيئاً كثيراً".
وقد كانت هذه الرّحلة قبل منتصف القرن الثّالث، إذ توفيّ شمر سنة (255) وقد لازمه أبو تراب سنين قبل وفاته وكتب عنه شيئاً كثيراً - كما قال الأزهريّ.
ويبدو أن أبا تراب استطاب المقام في هراة فبقي فيها زمناً أملى فيه أجزاء من كتابه "الاعتقاب"قبل أن يعود إلى نيسابور، فيكمل إملاء الكتاب هناك. وفي هذا يقول الأزهريّ: "وأملى بهراة من كتاب الاعتقاب أجزاء، ثم عاد إلى نيسابور، وأملى باقي الكتاب".
وتفيد عبارة: "ثمّ عاد إلى نيسابور"أنّ أبا تراب كان فيها قبل قدومه إلى هراة.
ولعله أمضى ما تبقى من حياته هناك في تلك المدينة العامرة.
الفصل الثاني
حياته العلميّة
يعنينا في حياة أبي تراب العلمية ثلاثة عناصر: شيوخه، وتلامذته، مؤلفاته، فيما يلي تفصيل الحديث عن كل منها:
أوّلاً: شيوخه:
شحّت المصادر الّتي ترجمت لأبي تراب فلم تزوّدنا بكثير من التّفاصيل المهمّة في حياته العامّة كما تقدّم، ولم تزوّدنا - أيضاً - بمعلومات تساعد على التّعرف على أكثر شيوخه الّذين أخذ عنهم علومه، ولا سيّما في اللّغة، ومع ذلك أمكن التّعرف على ثلاثة منهم، وهم:
1- أبو سعيد الضّرير اللّغويّ:
__________
(1) التهذيب1/24، وإنباه الرواة 1/76.
(2) ينظر: معجم الأدباء 5/396.(44/150)
وهو أحمد بن خالد المعروف بأبي سعيد الضّرير البغداديّ اللّغويّ، من علماء اللّغة المعروفين في القرن الثّالث، وكان من أهل بغداد، وأخذ فيها عن محمّد بن زياد الأعرابيّ
وأبي عمرو الشّيبانيّ، ثم استقدمه ابن طاهر إلى نيسابور (1) ليستفاد من علمه هناك، فلقي الأعراب الفصحاء الذين استوردهم ابن طاهر نيسابورَ، فشافههم وحفظ عنهم فوائد كثيرة أودعها كتبه.
قال ياقوت: "لمّا قدم عبد الله بن طاهر نيسابورَ وأقدم معه جماعة من فُرسان طَرَسوس ومَلَطْيَة، وجماعة من أدباء الأعراب منهم: عرّام وأبو العميثل وأبو العيسجور وأبو العجنّس وعوسجة وأبو العُذافر، وغيرهم فتفرّس أولادُ قواده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدّبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرّج أبو سعيد الضّرير ... فصار إماماً".
وكان شَمِر بن حَمْدَوَيه وأبو الهيثم الرازيّ يوثّقان أبا سعيد الضّرير ويثنيان عليه.
وله من التّصانيف في اللّغة والأدب:
1- كتاب النّوادر.
2- كتاب معاني الشّعر.
3- كتاب الرّدّ على أبي عبيد في غريب الحديث.
وقد لازم أبو تراب أبا سعيد سنين طويلة في نيسابور وأخذ عنه كتباً جمة، وفي ذلك يقول الأزهريّ: "فأمّا أبو تراب فإنه شاهد أبا سعيد الضّرير سنين كثيرة، وسمع منه كتباً جمة"
وكان ينقل عنه، ويقول: "سمعت أبا سعيد ... "
ويبدو أنّ أبا تراب تأثّر بشيخه أبي سعيد في ملازمته الأعراب، فأكثر في كتابه "الاعتقاب"من الرواية عنهم، كما سيأتي في الحديث عن مصادره.
وتوفّي أبو سعيد الضّرير بعد منتصف القرن الثّالث تقريباً، وليس في المصادر التي بين أيدينا ما يُعيّن تاريخ وفاته.
2- شَمِر بن حَمْدَوَيه الهرويّ:
__________
(1) ينظر: التّهذيب 1/24، وإنباه الرواة 1/76.(44/151)
وهو أبو عمرو شَمر بن حَمْدَوَيه الهرويّ (1) ، كانت له عناية صادقة باللّغة في هراة؛ فاشتهر فيها بعد رحلته إلى العراق في شبابه ولقائه ابن الأعرابيّ وغيره من اللّغويّين من أصحاب أبي عمرو الشّيبانيّ وأبي زيد الأنصاريّ، وأبي عبيدة والفرّاء وغيرهم، ثمّ عودته إلى نيسابور، ولقائه أصحاب النَّضِر بن شميل واللّيث بن المظفّر (2) .
ولمّا ألقى شمر عصاه بهراة ألّف كتاباً كبيراً في اللّغة جعله على حروف المعجم، وابتدأ بحرف الجيم، فجوّده وأشبعه بالشّواهد والرّوايات الجمّة عن أئمّة اللّغة والأعراب، فكتمه ضناً به في حياته، ولم ينسخه طُلابه، فلم يبارك له فيما فعله - كما يقول أصحاب التّراجم (3) - حتى مضى لسبيله وضاع، ولم يصل منه إلا تفاريقُ في كتب اللّغة نقلها عنه تلامذته.
وكان من هؤلاء التّلامذة أبو تراب اللّغويّ أخذ عنه عند قدومه هراة. قال الأزهريّ: "وكان أبو تراب الّذي ألّف كتاب الاعتقاب قدم هراة مستفيداً من شمر، وكتب عنه شيئاً كثيراً".
وقد ذكر أبو تراب سماعه عن شمر (4) ، وكان يذاكره ويراجعه ويأنس برأيه كقوله مثلاً: "فذكرته لشمر بن حمدويه، وتبّرأت إليه من معرفته ... "
وكانت وفاة شمر بن حمدويه في سنة 255هـ.
3- أبو الوَازع الخراساني:
وهو محمّد بن عبد الخالق أبو الوازع الخراسانيّ اللّغويّ النّحويّ، من علماء القرن الثالث.
قال القفطيّ: "كان عالماً بالنّحو والغريب، صادقاً فيما يروي، روى عنه أبو تراب وغيره، وروى أبو الوازع نوادر الأعراب الذين
كانوا مع ابن طاهر بنيسابور، وجمعها ورويت عنه" (5)
__________
(1) من مصادر ترجمته: التّهذيب 1/25، ونزهة الألباء 151، ومعجم الأدباء 3/1420، وإنباه الرواة 2/77، وإشارة التعيين 141، وبغية الوعاة 2/4.
(2) ينظر: التّهذيب 1/25، وإنباه الرواة 2/77.
(3) ينظر: المصدر السابق 1/25، ونزهة الألبا 151، ومعجم الأدباء 3/1421.
(4) ينظر: التّهذيب 4/27.
(5) إنباه الرواة 3/168.(44/152)
وروى عنه أبو تراب في كتابه "الاعتقاب" فيما نقله الأزهريّ، وابن منظور (1)
ولأبي الوازع كتاب "نوادر الأعراب"ولعلّ أبا تراب اطّلع عليه، وأفاد منه، وقد نقل الأزهريّ عن هذا الكتاب نقولاً كثيرة (2) .
ثانياً: تلامذته:
لم أعرف من تلامذة أبي تراب سوى اثنين، وهما:
1- الخارْزَنجي البُشْتيّ:
وهو أبو حامد أحمد بن محمّد الخارْزَنجي البُشتّي (3) ، من علماء اللّغة والأدب المشهورين في أواخر القرن الثّالث ومطلع القرن الرّابع في مدينة نيسابور موطن أبي تراب، وله من المصنّفات: "تكملة كتاب العين" وهو أشهر كتبه و "كتاب التّفصلة"وكتاب "تفسير أبيات أدب الكاتب"
أخذ الخارْزَنجيّ العربيّة عن جماعة من علماء زمانه في نيسابور، ومنهم أبو تراب اللغوي، وعنه نقل الخارزنجي في كتابه "التكملة" وذكره في مقدّمته الّتي اقتبس منها الأزهريّ (4) .
وأشار إلى ذلك الصّاحب بن عبّاد في "المحيط في اللّغة".
وتوفيّ أبو حامد الخارْزَنجيّ في رجب سنة 348هـ.
2- ابن حَمَّوَيه:
وهو أحمد بن علىّ بن حَمَّوَيه النيسابوريّ النحويّ، ذكره الحافظ ابن البيِّع في تاريخه، وسمّاه النّحويّ، وأوجز القول في ترجمته (5) ، ولم أعرف تاريخ وفاته.
سمع من أبي تراب ألفاظاً في غريب اللغة، وأخذ عنه. قال الأزهري: "أخبرني المنذري عن ابن حمَّوَيه قال: سمعت أبا تراب يقول: كتب أبو محلّم إلى رجل: اشتر لنا جَرَّة ولتكن غير قَعْراء ولا دَنّاء ولا مُطربلة ... ".
ثالثاً: مؤلّفاته:
__________
(1) ينظر: اللسان (ندش) 6/352.
(2) ينظر: التّهذيب 1/26، 98، 207، 213، 287، 359، 2/2/11، 63، 175، 3/154.
(3) من مصادر ترجمته: التّهذيب 1/32، والأنساب 5/12، ومعجم الأدباء 1/461، وطبقات ابن قاضي شهبة 1/247، وبغية الوعاة 1/388.
(4) ينظر: التّهذيب 1/33، 34، 35، وإنباه الرواة 1/142 - 145، واللسان (ثعثع) 12/40.
(5) ينظر: إنباه الرواة 1/125، وتلخيص ابن مكتوم 15، وبغية الوعاة 1/340.(44/153)
تفيد المصادر بأنّ لأبي تراب كتابين في اللّغة، وهما:
1- الاعتقاب:
وهو هذا الكتاب الّذي نعنى به في هذه الدّراسة، وسيأتي الحديث عنه مفصّلاً في الباب الثّاني من هذا القسم من الدّراسة.
2- الاستدراك على الخليل في المهمل والمستعمل:
استدرك فيه أبو تراب على الخليل بن أحمد في معجم العين، وخطّأه في أماكن، وزاد ما رأى أنّ الخليل نقصه من اللّغة في أبوابه، ونقص ما رأى أنّ الخليل زاده في غير بابه، وهذّب ذلك تهذيباً "زعم أنّه الصّواب".
والكتاب مفقود، فلا يمكن الحكم عليه، ولكن يبدو أنّ أبا تراب ألّفه في شبابه، فاندفع في الاستدراك والتّخطئة، فأثار معاصريه من اللّغويّن ومن جاء بعدهم، فردّ عليه جماعة منهم (1) ، ونقضوا عليه ما استدركه، وانتصروا للخليل.
الباب الثّاني
كتاب الاعتقاب
تمهيد: التّعاقب وما ألّف فيه
التّعاقب في اللّغة بمعنى التّتابع، وهو مصدر قولك تعاقب اللّيل والنّهار؛ أي: أتى أحدهما عقب الآخر.
ويراد به في الاصطلاح: اللّفظان المتّفقان في المعنى المرويّان بوجهين بينهما اختلاف في حرف واحد، كقضم وخضم، وجاسَ وحاسَ، ونَبَأَ ونَتَأَ، ويُسمّى أيضاً "الاعتقاب" (2) .
وهو الّذي اشتهر عند علماء اللّغة بمصطلح "الإبدال اللّغويّ"وهو يختلف عن "الإبدال الصّرفيّ"فهو - أي: الإبدال اللغويّ – شائع وغير لازم ويقع في أكثر الحروف، وجمعها بعضهم في قوله: لِجَدٍّ صَرْفُ شَكِس آمنٍ طيَّ ثوب عزتِه. وقيل إنه يقع في حروف الهجاء جميعاً (3) ، بخلاف الإبدال الصّرفيّ، فهو شائع لازم، ويقع فيه التّبادل بين حروف مخصوصة لعلّة تصريفيّة، وحروفه مجموعة في قولك: طويت دائماً، ويزيدها بعضهم ويجمعها في قوله: أُجُدٌ طُوِيَتْ منهلا، أو أنجدته يوم طال.
__________
(1) ينظر: إنباه الرواة 4/102.
(2) ينظر: المفصل 360، وشرح المفصل 10/7.
(3) ينظر: الأمالي للقالي 2/186، والمزهر 1/474، وظاهرة الإبدال اللغوي 60.(44/154)
وهذا - أي الإبدال الصّرفيّ - نوعان أحدهما إبدال من أجل الإدغام، كإبدال لام التّعريف وإدغامها في بعض الحروف كالنّون والرّاء والدّال والتّاء مثلاً، وكالإدغام في اسَّمَعَ، وأصلها: استمع.
والآخر: الإبدال لغيرالإدغام، وهو المراد عند إطلاق المصطلح عند الصّرفيّين، كإبدال تاء الافتعال طاء إذا وقعت بعد الصّاد في قولك اصطفى واصطبر واصطحب.
أما الإبدال اللّغويّ فهو أعم، إذ يشمل الإبدال الصرفي وغيره من اللغات، مما لا يلزم فيه الإبدال كما تقدم، وقد ألّفَ فيه جماعة من علماء العربيّة محاولين حصر ألفاظه على الطّريقة المعجميّة الّتي تقوم أساساً على جمع الألفاظ وتبويبها وشرحها، وأكثرهم لا يشترط في الإبدال أو التعاقب تقارب المخارج بين الحروف المبدلة، كما يفهم من صنيع ابن مالك في كتابه "وفاق المفهوم"وأبي تراب في "الاعتقاب". ومؤلّفاتهم الّتي وصلت إلينا أو بلغنا ذكرها في هذا الفنّ هي على النّحو التّالي:
1- الإبدال:
لأبي عبيدة معمر بن المثنّى (1) (209هـ) وهو مفقود.
2- القلب والإبدال:
للأصمعيّ (2) (214هـ) وهو مفقود، نقل عنه القالي كثيراً.
3- القلب والإبدال:
لابن السّكّيت (244هـ) وقد طبع مرتين إحداهما سنة (1903م) بعناية أوغست هفنر والأخرى سنة (1398هـ) بتحقيق الدّكتور حسين محمّد شرف، وسمّاه "الإبدال".
4- الاعتقاب:
لأبي تراب (ت 270 - 280هـ تقريباً) وسيأتي الحديث عنه.
5- الإبدال والمعاقبة والنّظائر:
للزّجّاجيّ (340هـ) نشر سنة (1381هـ) بتحقيق الأستاذ عزّ الدّين التّنوخيّ.
6- الإبدال:
لأبي الطّيّب اللّغويّ (351هـ) نشر سنة (1379هـ) بتحقيق عزّ الدّين التّنوخيّ.
7- وفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم:
__________
(1) ينظر: معجم الأدباء 6/2708.
(2) ينظر: الفهرست 61، وبغية الوعاة 2/113.(44/155)
لابن مالك (672هـ) وموضوعه الاعتقاب أو الإبدال اللّغويّ، وحقّق الكتاب في الجامعة الإسلاميّة سنة 1405هـ ونشر في المدينة سنة 1409هـ بتحقيق بدر الزّمان محمّد شفيع النّيباليّ.
8- وفاق الاستعمال في الإعجام والإهمال:
لابن مالك (672هـ) وهو رسالة صغيرة في الاعتقاب، ولعلّه مختصر من كتاب "وفاق المفهوم"المتقدّم ذكره، وله نسخة خطّيّة في مكتبة شهيد علي باشا 2677/2.
ويلحق بهذه المؤلفات ما كتب من أبواب الإبدال في بعض المصنّفات اللّغويّة أو الأدبيّة مثل أمالي القالي والمخصّص لابن سيده والمزهر للسّيوطيّ.
أما كتاب ابن جنّي "التّعاقب"الّذي أشار إليه في بعض كتبه (1) فليس من هذا الباب الّذي نحن فيه، بل هو في البدل والعوض. قال السّيوطيّ: "وقد ألّف ابن جنّي كتاب التّعاقب في أقسام البدل والمبدل منه، والعِوَض والمعوّض منه وقال في أوّله: اعلم أنّ كلّ واحد من ضَرْبَيِ التّعاقب - وهما البدل والعِوَض - قد يقع في الاستعمال موضع صاحبه، وربّما امتاز أحدهما بالموضع دون رَسِيلِهِ، إلا أنّ البدل أعمّ استعمالاً من العِوَض".
__________
(1) ينظر: الخصائص 1/264، والخاطريات 64.(44/156)
تابع أبو تُراب اللّغويّ وكتابه "الاعتقاب"
الفصل الأوّل
مادّة الكتاب ومنهجه
جمعت في هذه الدّراسة مادّة وافرة من نصوص كتاب "الاعتقاب " لأبي تراب تمثّل جزءاً كبيراً من الكتاب، وقد بلغت خمسة وسبعين وثلاثمائة نصّ، هي في الجملة من نصوص الإبدال اللّغويّ بمفهومه العامّ، وقليل منها من النّصوص اللّغويّة كالنّوادر والفوائد واللّغات، وذلك على الوجه التّالي:
أ- خمسة وأربعون وثلاثمائة نص من نصوص الاعتقاب (الإبدال)
ب- ثلاثون نصاً من النصّوص اللّغويّة الأخرى.
وهذه النّصوص جميعها مفرّقة بين أكثر حروف الهجاء، ولا ندري كيف رتبها أبو تراب، لأنّ النّصوص المجموعة من التّهذيب وغيره لا تعطي صورة كاملة ودقيقة لمنهج الكتاب إلا أنّ المؤكّد أنّه رتّبه على أبواب الاعتقاب في الحروف، وقد عرفنا من هذه الأبواب ممّا أشار إليه الأزهريّ الأبواب التّالية:
1- باب اعتقاب الباء والذّال (1) .
2- باب ما تعاقب من حرفي الصّاد والطّاء (2) .
3- باب ما تعاقب فيه الدال والباء (3) .
4- باب التّاء والميم (4) .
5- باب الحاء والكاف (5) .
6- باب الميم والباء (6) .
7- باب الكاف والجيم (7) .
8- باب الجيم والحاء (8) .
9- باب الجيم والخاء (9) .
10- باب الشّين والسّين (10) .
11- باب الظّاء والزّاي (11) .
12- باب الكاف والتّاء (12) .
13- باب الصّاد والفاء (13) .
14- باب العين والحاء (14) .
__________
(1) التّهذيب 16/210.
(2) التهذيب 11/295.
(3) المصدر السابق 14/70.
(4) المصدر السابق 9/259.
(5) المصدر السابق 4/311.
(6) المصدر السابق 11/244.
(7) المصدر السابق 1/387.
(8) المصدر السايق 11/8.
(9) المصدر السابق 11/8.
(10) المصدر السابق 3/395.
(11) التهذيب12/140.
(12) المصدر السابق 9/425.
(13) المصدر السابق 15/573.
(14) المصدر السابق 4/110.(44/157)
وهذه الأبواب لا تدلّ على طريقة ثابتة له في التّرتيب، فهو قد يقدّم الحرف السّابق في الهجاء من الحرفين في تسمية بعض الأبواب نحو: باب الباء والذّال مثلاً، وقد يقدّم المتأخّر نحو: باب الميم والباء.
ولمّا خفي ذلك رأيت أن ألتزم طريقة واحدة فيما جمعته من نصوص الكتاب لأسباب ذكرتها بين يدي القسم الثاني، ولأنّها توافق طريقة أبي الطيّب اللّغويّ في كتاب "الإبدال" ولا يستبعد أن يكون أبو الطّيّب متأثّراً في كتابه بطريقة أبي تراب في كتاب "الاعتقاب".
وفيما يلي أبواب الاعتقاب بحسب التّرتيب، الّذي آمل أن يوافق ترتيب أبي تراب، أو أن يكون قريباً منه، وما في هذه الأبواب من نصوص لغويّة مجموعة.
1- أبواب اعتقاب الهمزة
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الهمزة والتّاء
1
الهمزة والعين
3
الهمزة والغين
1
الهمزة والميم
1
الهمزة والواو
1
الهمزة والألف
1
الهمزة والياء
1
2- أبواب اعتقاب الباء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الباء والتّاء
2
الباء والثّاء
1
الباء والحاء
2
الباء والحاء والنّون
1
الباء والدّال
3
الباء والذّال
1
الباء والسّين
1
الباء والسّين واللام
1
الباء والشّين
1
الباء والصّاد
1
الباء والطّاء
2
الباء والعين
1
الباء والفاء
4
الباء والقاف
1
الباء واللام
4
الباء والميم
5
الباء والنّون
1
الباء والياء
1
3- أبواب اعتقاب التّاء:
اسم الباب
عدد النّصوص الوادرة فيه
التّاء والطّاء
1
التّاء والفاء
1
التّاء والكاف
2
التّاء والميم
1
4- أبواب اعتقاب الثّاء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الثّاء والذّال
3
الثّاء والسيّن
1
الثّاء والشيّن
1
الثّاء والفاء
6
الثّاء والهاء
1
5- أبواب اعتقاب الجيم:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الجيم والحاء
2
الجيم والخاء
4
الجيم والدّال والشّين
1
الجيم والزّاي
1
الجيم والعين واللام
1
الجيم والكاف
2
6- أبواب اعتقاب الحاء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الحاء والخاء(44/158)
5
الحاء والرّاء
1
الحاء والسّين
1
الحاء والسّين واللام
2
الحاء والعين
3
الحاء والكاف
1
7- أبواب اعتقاب الخاء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الخاء والهاء
2
8- أبواب اعتقاب الدّال:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الدّال والذّال
2
9-أبواب اعتقاب الذّال:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الذّال والزّاي
1
الذّال والضّاد
1
10- أبواب اعتقاب الرّاء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الرّاء واللام
11
الرّاء والميم
5
الرّاء والنّون
7
الرّاء والهاء
3
الرّاء والواو
1
الرّاء والألف اللّيّنة
1
11- أبواب اعتقاب الزاي:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الزّاي والسَين
2
الزّاي والسّين والصّاد
1
الزّاي والشّين
1
الزّاي والضّاد
4
الزّاي والظّاء
1
الزّاي والفّاء
1
الزّاي والقاف
1
الزّاي واللام
2
12- أبواب اعتقاب السّين:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
السّين والشّين
15
السّين والشّين والباء
1
السّين والصّاد
6
السّين والطّاء
1
السّين والعين
2
السّين والفاء
1
السّين والقاف
6
السّين واللام
3
السّين والميم
2
السّين والهاء
1
13- أبواب اعتقاب الشّين:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الشّين والصّاد
1
الشّين والغين
5
الشّين والفاء
3
الشّين واللام
1
الشّين والنّون
1
14- أبواب اعتقاب الصّاد:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الصّاد والضّاد
3
الصّاد والطّاء
4
الصّاد والفاء
2
الصّاد والقاف
1
الصّاد والكاف
1
الصّاد واللام
1
الصّاد والهاء
1
15- أبواب اعتقاب الضّاد:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الضّاد والطّاء
3
الضّاد والظّاء
2
الضّاد والعين
2
الضّاد والغين
1
الضّاد والفاء
1
الضّاد والكاف
1
الضّاد واللام
3
16- أبواب اعتقاب الطّاء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الطّاء والظّاء
3
الطّاء والعين
1
الطّاء والغين
1
الطّاء والقاف
5
الطّاء واللام
3
الطّاء والنّون
1
17- أبواب اعتقاب الظاء:
اسم الباب(44/159)
عدد النّصوص الواردة فيه
الظّاء والعين
1
الظّاء واللام
1
18- أبواب اعتقاب العين:
اسم الباب
عدد النصوص الواردة فيه
العين والغين
14
العين والفاء
4
العين والقاف
6
العين والكاف
1
العين واللام
5
العين والنّون
2
العين والهاء
4
19- أبواب اعتقاب الغين:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الغين والقاف
2
الغين والكاف
3
الغين والهاء
2
20- أبواب اعتقاب الفاء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الفاء والقاف
1
الفاء والكاف
5
الفاء واللام
2
الفاء والميم
4
الفاء والهاء
2
21- أبواب اعتقاب القاف:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
القاف والكاف
11
القاف واللام
2
القاف والميم
2
القاف والنّون
1
القاف والهاء
2
22- أبواب اعتقاب الكاف:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الكاف واللام
1
الكاف والميم
1
الكاف والنّون
1
الكاف والهاء
1
23- أبواب اعتقاب اللام:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
اللام والميم
2
اللام والنّون
10
اللام والواو
2
اللام والياء
2
24- أبواب اعتقاب الميم:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الميم والنّون
11
الميم والهاء
3
الميم والواو
2
25- أبواب اعتقاب النّون:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
النّون والهاء
1
النّون والواو
2
النّون والياء
2
26- أبواب اعتقاب الواو:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الواو والياء
4
27- أبواب اعتقاب الياء:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الياء والألف اللّيّنة
1
28- أبواب أخرى:
اسم الباب
عدد النّصوص الواردة فيه
الاعتقاب في حروف مختلفة
6
الفوائد والنّوادر
30
تحليل النصوص:
نستنتج من هذه الأبواب ما يلي
أ- أن الاعتقاب (الإبدال) في كتاب أبي تراب يقع بين الحروف متقاربة المخارج كالباء والفاء مثلاً، ويقع بين الحروف متباعدة المخارج كالباء والقاف مثلاً، وهذا يوافق ما جاء في كتاب "الإبدال" لأبي الطّيّب ويوافق مذهب من لا يشترط تقارب الحرفين في الإبدال.(44/160)
ب- أكثر أبواب الاعتقاب نصوصاً هي: باب السّين والشّين ويليه باب العين والغين ثم باب الرّاء واللام وباب القاف والكاف وباب الميم والنّون، وهذه الثّلاثة الأخيرة متساوية النّصوص. أما باب "الفوائد والنّوادر" وهو الباب الأخير في القسم الثّاني فليس من أبواب الاعتقاب وفيه ثلاثون نصاً.
جـ- كثير من الأبواب ليس فيه سوى نصّ واحد.
د- أكثر الأبواب ثنائيةُ التعاقب؛ أي أنّ التّعاقب فيها بين حرفين في كلمتين، وقليل منها ثلاثيّ، أي أنّ التّعاقب بين ثلاثة أحرف في ثلاث كلمات، نحو "باب اعتقاب الحاء والجيم والدّال" مثلاً.
ويتبيّن من دراسة النصوص أنّ التّعاقب (الإبدال) يقع بكثرة بين حرفين أصليّين في الكلمتين المتعاقبتين، ويقع نادراً في الحروف الزّائدة في الكلمتين.
ويكثر التّعاقب في الأصول الثُّلاثيّة ويقلّ في الأصول الرّباعيّة.
ويتبيّن أيضاً أنّ وقوع التّعاقب يكثر في الثّلاثيّ بين اللام واللام في جذر الكلمة، ويليه الفاء والفاء ثمّ العين والعين، ويتّضح ذلك بالأرقام على النحو التّالي:
أ- بلغت نصوص التّعاقب بين الحروف الأصول أحد وأربعين وثلاثمائة نصّ. أمّا التّعاقب في الزّوائد فجاء في أربعة نصوص فحسب. أمّا باقي النصّوص - وهي ثلاثون نصاً جاءت في باب الفوائد والنّوادر - فليست من أبواب الاعتقاب.
ب- بلغت نصوص التّعاقب في الأصول الثّلاثيّة أربعة وثلاثمائة نصّ وأمّا الأصول الرّباعيّة فهي سبعة وثلاثون نصاً.
جـ- جاء التّعاقب في جذور الكلمات الثّلاثيّة على النّحو التّالي:
تعاقب الفاء والفاء: عشرة ومائة نص (110)
تعاقب العين والعين: أربعة وسبعون نصاً (74)
تعاقب اللام واللام: عشرون ومائة نص (120)
د- جاء التعاقب في جذور الكلمات الرّباعيّة على النّحو التالي:
تعاقب الفاء والفاء: تسعة نصوص (9)
تعاقب العين والعين: عشرة نصوص (10)
تعاقب اللام الأولى واللام الأولى: ثمانية نصوص (8)(44/161)
تعاقب اللام الثّانية واللام الثّانية: تسعة نصوص (9)
نقد النصوص:
وبالتدقيق في هذه النصوص التي بين أيدينا من " كتاب الاعتقاب " نخرج بالملحوظات الآتية:
أولاً: إنّ عدداً من هذه النصوص ليس من "الاعتقاب" بمفهومه الاصطلاحي؛ كالفوائد، والنوادر، واللغات، وأقوال العلماء والرواة، وأشعار العرب، ولهذا وضعتها في باب مستقل في ذيل القسم الثاني، من هذا البحث، ولا سبيل إلى حذف هذه النصوص؛ لأنها من كتاب "الاعتقاب".
ثانياً: إذا كان التعاقب هو ورود لفظين مُتفقين في المعنى، مرويين بوجهين بينهما اختلاف في حرف واحد، كما تقدم (1) ؛ فإن ثمة نصوصاً أدرجها أبو تراب في كتابه "الاعتقاب" روي فيها اللفظان بوجهين بينهما اختلاف في أكثر من حرفين في الكلمتين، ومن ذلك:
أ- قال في اعتقاب الدال والذال: "جَدَفَتِ السماءُ بالثلج، وخَذَفَتْ تَجْدِفُ وتَخْذِفُ، إذا رَمَتْ به" (2) .
والاختلاف بين اللفظين في أكثر من حرف ولعل فيه تصحيفاً لم أتبينه.
ب- قال في باب الاعتقاب في حروف مختلفة: "مَرَطَ فلان فلاناً، وهرده، إذا آذاه".
ج- وقال: " بَجَستُ الجرح مثل بَطَطْتُهُ " (3) .
ثالثاً: قد يذكر أبو تراب نصوصاً في الاعتقاب لا يتفق المعنى فيها بين اللفظين، ومن ذلك:
أ- قال في اعتقاب الفاء والميم: " غلام أُملودٌ وأُفلوذٌ، إذا كان تامّاً محتلماً شَطْباً " (4) .
والاختلاف بين اللفظين -هنا- في أكثر من حرف، وقد يكون فيهما تصحيف.
ب- ذكر أبو تراب أنّ اللِّبأ: جلود صغار المعزى، وأنّ اللِّيأ: نبات من اليمن، وواضح أنه لاتعاقب بين اللفظين، فلكلّ منهما معنى ليس في الآخر.
ج- ذكر أن القندأو: القصير من الرجال، والسِّندأو: الفسيح من الإبل، والمعنيان مختلفان.
__________
(1) ينظر ص 21 من هذا البحث.
(2) ينظر الفقرة (62) من هذا البحث.
(3) ينظر الفقرة (345) .
(4) ينظر الفقرة (272) .(44/162)
د- ذكر وصفاً للجُعَل في أبيات، جمع فيها صاحبها بين الراء واللام في القافية، كالطير والليل؛ وليس فيهما تعاقب، إلا إذا تُوُسِّع في مفهوم الاعتقاب.
رابعاً: ثَمَّةَ نصوص أدرجها أبو تراب في كتابه "الاعتقاب" دون أن يتضح فيها اتحاد الدلالة بين الصيغتين، وقد يكون ما قدّر أنه من التعاقب هو من الإتباع، ومن ذلك:
أ- ذكر في باب الجيم والخاء: المَرِيخ والمَرِيج، ولم يَتَّضِح اتحاد الدلالة بينهما، وقد يكون من قبيل الإتباع.
ب- ذكر في باب الجيم واللام ثلاث صيغ، وهي: جِبْس وعِبْس ولِبْس، وهذا من باب الإتباع، كما نصّ على ذلك أبو تراب نفسه بلفظ صريح، والإتباع غير الاعتقاب، إلا أنه من نظائر الاعتقاب أو الإبدال، ولذا ذكره أبو تراب في كتابه.
ج- ذكر في باب الراء واللام عُلْجُوماً وعُرجُوماً، ولم يَتَّضح اتّحاد الدلالة فيهما، وقد يكون ذلك إتباعاً.
خامساً: هناك نصوص لا يتقارب فيها مخرجا الحرفين المتعاقبين، وتقارب المخرجين شرط في التعاقب أو الإبدال عند بعض العلماء، وليس شرطاً عند بعضهم، كما تقدم، ولعلّ منهم أبا تراب، ومن ذلك:
أ- زَمَجَ بَيْنَ القوم، وزَأَج؛ إذا حَرّش بينهم. ومخرجا الميم والهمزة متباعدان، فأحدهما شفوي والآخر حلقي.
ب- كان حَصِيص القوم وبصيصهم كذا، أي: عددهم. والتباعد بين مخرجي الحاء والباء واضح.
ج- تَسَقَّطْتُ الخبرَ وتَبَقَّطتُه؛ إذا أخذته شيئاً بعد شيء قليلاً قليلاً.
د- يقال: الغَطَشُ والغَبَشُ واحد.
هـ – يقال: كَمَعَ الفرسُ والرَّجُلُ والبعيرُ في الماء، وكَرَعَ، ومعناهما شرع.
و المِهْزامُ عصا قصيرة، وهي المِرْزام.
ز- زَأَبْتُ وقَأَبْتُ؛ أي: شَرِبتُ.
ح- تَنَطَّعَ في الكلام وتَنَطَّسَ؛ إذا تأنَّق فيه.
سادساً: قد يذكر أبو تراب مادّة الاعتقاب، ثُمّ يستطرد مورداً ما ليس من الاعتقاب، ومن ذلك:(44/163)
أ- قال بعد أن ذكر الاعتقاب بين مادّتي رَجَعَ ونَجَعَ: "والتّرجيع في الأذان أن يكرّر قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنّ محمداً رسول الله.
ورَجْع الوَشْم والنُّقوش وترجيعه: أن يُعاد عليه السّواد مرة بعد أخرى ".
ب- ذكر الاعتقاب بين صيغتي لَفَأَهُ ولَكَأَهُ، ثم استطرد مورداً شيئاً من الأضداد.
ج- ذكر التعاقب بين قولهم:سبحتُ في الأرض، وسبختُ فيها، إذا تباعدت فيها. ثم استطرد مورداً بعضاً من معاني سَبَحَ.
ولو أردنا أن نتتبع أمثال هذه الهنات لوجدنا الكثير، وحسبنا ما أشرنا إليه، وللناظر في هذه النصوص أن يحسن الظّنّ بأبي تراب، فلا يتّهمه بأنّ مفهوم الاعتقاب (الإبدال) لم يكن ناضجاً عنده، وله أن يقول: إن أبا تراب توسّع فيه، شأنه في ذلك شأن كثير من العلماء في تلك المرحلة المُبَكِّرة من تاريخ العربية، الذين لم يلتزموا بعناوين مصنفاتهم التزاماً دقيقاً، بل توسعوا في المضامين؛ لنزوعهم إلى الاستفاضة في جمع المادة اللغوية. ومرحلة جمع اللغة من أفواه الرواة، وتدوينها في المصادر قد تغفر لهم كثيراً مما قد يُعَدُّ خللا علمياً أو منهجياً بمفهومنا اليوم.
ولنا في كثير من المصنفات اللغوية شواهد على هذا التَّوجيه، وحسبنا أن نطالع كتاب "الإبدال" (1) لابن السِّكِّيت، ففيه مواد ليست من الإبدال؛ ومن أبرزها ما جاء في بابَيْ: "ماتزاد فيه الميم" (2) و "ما تزاد فيه النون" (3) وليس فيهما شيء من الإبدال.
ودَعْكُمْ ممّا في كتب الأصمعي وأبي عُبيدة مَعْمَر بن المثنّى وأبي زيد الأنصاري، وأمّا ما في كتاب "الجمهرة" لابن دريد مما لا سبيل إليه في معجم من معاجم الألفاظ فشيء كثير.
__________
(1) طبع هذا الكتاب مرتين، أولاهما تحت عنوان ((القلب والإبدال)) بعناية أوقست هفنر، والثانية تحت عنوان ((الإبدال)) بتحقيق الدكتور حسين محمد محمد شرف.
(2) ينظر الإبدال 147.
(3) ينظر المصدر السابق 149(44/164)
وقد جاؤونا ـ من حيث نحسب أنهم أساؤوا ـ بفوائد وطرائف ولطائف نفيسة كانت عرضة للضياع؛ فرحمهم الله جميعاً، ورضي عنهم، وغفر لهم زلاتهم.
الفصل الثّاني: مصادره
تنوّعت مصادر أبي تراب في كتابه " الاعتقاب " وفق النّصوص المتاحة لنا من هذا الكتاب، وقد تردّد في النّصوص الّتي جمعتها من هذا الكتاب عدد وافر من أسماء العلماء والرّواة من الأعراب الفصحاء.
ويمكن تصنيف مصادر أبي تراب في النّصوص المتاحة لنا من كتاب الاعتقاب على صنفين رئيسين:
أ- علماء اللّغة.
ب- الأعراب الرّواة.
أولاً: علماء اللّغة:
وهم من الّذين عاشوا في القرنين الثّاني والثّالث، وهم فريقان:
أ- فريق لم يدركهم أبو تراب، أو أدركهم ولم يلتقِ منهم أحداً، وهؤلاء روى عنهم أبوتراب بالواسطة أو بالنّقل من كتبهم.
ب- فريق أدركهم أبو تراب، والتقاهم (1) وسمع منهم.
وفيما يلي تفصيل ذلك.
أولاً: من روى عنهم أبو تراب بالواسطة، أو بالنّقل من كتبهم:
1- أبو عمرو بن العلاء (154هـ) روى عنه أبو تراب في ثمانية عشر موضعاً (2) .
2- الخليل بن أحمد الفراهيديّ (175هـ) نقل عنه في سبعة مواضع (3) ، ولا أدري هل أخذ أبو تراب من كتاب العين مباشرة، أو أنّه نقل عنه بالواسطة.
3- المُفَضَّل بن محمّد الضّبّي الكوفيّ (178هـ) نقل عنه في موضع واحد (4) .
4- أبو الحسن عليّ بن حمزة الكسائيّ (189هـ) نقل عنه أبو تراب في خمسة مواضع (5) .
__________
(1) الفعل ((التقى)) يتعدى بنفسه، وشاع عند بعض المتأخرين تعديته بحرف الجر، فيقولون: التقى به.
(2) ينظر: التّهذيب 1/141، 317، 382، 3/310، 4/240، 222، 311، 5/337، 8/307،311،425، 10، 10، 122، 331، 12/422، 14/82، 16/59، 171، 205.
(3) ينظر: المصدر السابق 1/71، 2/131، 333، 5/294، 11/319، 12/166، والصحاح (كمل) 5/1813.
(4) ينظر: المصدر السابق 4/93.
(5) ينظر: المصدر السابق 1/141، 4/441، 7/515، 12/194، 16/205.(44/165)
5- أبو فيد مؤرّج بن عمرو السّدوسيّ (195هـ) نقل عنه في ثلاثة مواضع (1) .
6- أبو محمّد يحيى بن المبارك اليزيديّ (202هـ) نقل عنه في موضع واحد (2) .
7- النّضر بن شميل المازنيّ (204هـ) نقل عنه أبو تراب في أربعة مواضع (3) .
8- أبو عمرو إسحاق بن مرار الشّيبانيّ (206هـ) نقل عنه في موضع واحد (4) .
9- أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء (207هـ) نقل عنه في عشرة مواضع (5) .
10- أبو عبيدة معمر بن المثنّى (209هـ) نقل عنه في موضعين.
11- أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعيّ (214هـ) نقل عنه أبو تراب في واحد وخمسين موضعاً (6) .
12- أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاريّ (215هـ) نقل عنه في سبعة مواضع.
13- أبو عبد الله محمّد زياد المعروف بابن الأعرابيّ (231هـ) نقل عنه في تسعة مواضع (7) .
14- أبو العميثل عبد الله بن خالد الأعرابيّ (240هـ) نقل عنه في موضعين (8) .
15- أبو مُحَلَّم محمّد بن سعيد البغداديّ (248هـ) روى عنه أبو
تراب في موضع واحد (9) .
__________
(1) ينظر: التّهذيب 2/37، 10/624، 11/244.
(2) ينظر: المصدر السابق 5/294.
(3) ينظر: المصدر السابق 1/129، 5/386، 6/496، 14/296.
(4) ينظر: المصدر السابق 13/227.
(5) ينظر: المصدر السابق 1/334، 3/395، 6/237، 7/43، 182، 8/373، 9/392، 10/552، 11/248، 249.
(6) ينظر: التهذيب 1/128، 133، 207، 215، 305، 317، 319، 388، 434، 2/37، 302، 323، 3/372، 4/212، 5/337، 6/188، 214، 369، 7/74، 84، 105، 213، 679، 8/44، 88، 186، 9/210، 259، 423، 10/62، 85، 279، 301، 354، 470، 11/98، 271، 300، 316، 483، 12/96، 13/148، 271، 350، 360، 14/322، 355، 15/355، 16/52، 171، وينظر: المحيط في اللّغة 3/31.
(7) ينظر: المصدر السابق 1/129، 4/65، 118، 6/6، 122، 10/279، 12/227، 306، 15/573.
(8) ينظر: المصدر السابق 9/59، 11/54.
(9) ينظر: التهذيب 14/57.(44/166)
16- أبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابيّ صاحب كتاب "خلق الإنسان" (من علماء القرنين الثّاني والثّالث) نقل عنه أبو تراب في موضع واحد (1) .
17- أبو الحسن عليّ بن حازم الِّلحيانيّ (من علماء القرن الثّالث) نقل عنه في أربعة مواضع (2) .
18- نصير بن أبي نصير الرازي النحوي (من علماء القرن الثّالث) أدرك الأصمعي وأبا زيد وسمع منهما، ونقل عنه أبو تراب في موضع واحد (3) .
هؤلاء هم مصادر أبي تراب الّذين نقل من كتبهم أو نقل عنهم بواسطة كتابٍ أو راوٍ، ويمكن أن نخرج في النهاية بالملحوظات التالية:
1- ينقل أبو تراب عن مصادره دون أن تسميه كتبهم.
2- يروى أبو تراب عن مصادره الّتي لم يدركها من غير السند، أي من غير سماع مُتَّصِل.
وكان كثير من العلماء في القرنين الثّاني والثّالث يتحرجون من ذلك، ويعدونه منقصة فيمن يصنعه، ثم بدأ بعضهم ينقل من كتب المتقدمين وصحفهم فيسقط السند.
وفي ذلك يقول أحمد بن محمّد البشتي في مقدمة كتابه "التّكملة" بعد أن ذكر المصادر الّتي نقل عنها: "استخرجت ما وضعته في كتابي من هذه الكتب ... ولعل بعض الناس يبتغي العنت بتهجينه والقدح فيه؛ لأني أسندت ما فيه إلى هؤلاء العلماء من غير سماع ... وإنما إخباري عنهم إخبار من صحفهم، ولا يزري ذلك على من عرف الغثَّ من السمين، ميّز بين الصحيح والسقيم.
وقد فعل مثل ذلك أبو تراب صاحب كتاب الاعتقاب، فأنّه روى عن الخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء والكسائي، وبينه وبين هؤلاء فترة.. وكذلك فعل القُتيبيّ" (4) .
__________
(1) ينظر: المصدر السابق 12/379.
(2) ينظر: المصدر السابق 1/78، 492، 2/388، 11/318.
(3) ينظر: المصدر السابق 2/217.
(4) التهذيب 1/33، وينظر: معجم الأدباء 1/461، 462.(44/167)
وقال الأزهريّ رداً على البشتي ودفاعاً عن أبي تراب: " وأما قوله: إن غيره من المصنّفين رووا في كتبهم عَمَّن لم يسمعوا منه مثل أبي تراب والقتيبيّ، فليس رواية هذين الرجلين عمّن لم يرياه حُجَّة له، لأنّهما وإن كانا لم يسمعا من كل من رويا عنه فقد سمعا من جماعة الثّقات المأمونين " (1) .
3- يكثر أبو تراب من النقل عن الأصمعي وعلّة ذلك أن للأصمعي كتاباً في الإبدال والاعتقاب، واسمه " القلب والإبدال " (2) وهو يناسب موضوع كتاب " الاعتقاب " لأبي تراب.
ثانياً: من أدركهم أبو تراب، والتقاهم وسمع منهم:
1- شَمِر بن حَمْدَوَيه الهَرَويّ (255هـ) روى عنه أبو تراب سماعاً في خمسة مواضع (3) .
2- أبو سعيد الضرير أحمد بن خالد البغداديّ ثمّ النّيسابوريّ اللّغويّ (من علماء القرن الثّالث) وهو من شيوخ أبي تراب، نقل عنه أبو تراب في ثلاثة وعشرين موضعاً (4) بعبارة "قال" أو "سمعت" أو "سألت".
3- عرام بن الإصبغ السّلميّ (من علماء القرن الثّالث) نقل عنه أبو تراب في خمسة عشر موضعاً.
4- أبو الوازع محمّد بن عبد الخالق الخراسانيّ اللّغويّ (من علماء القرن الثّالث) نقل عنه أبو تراب في موضعين (5) .
ثانياً: الأعراب الرّواة:
__________
(1) التهذيب 1/34.
(2) ينظر: الفهرست 88، ووفيات الأعيان 2/349، وبغية الوعاة 2/113.
(3) ينظر: التّهذيب 3/262، 263، 4/27، 10/628، 14/322.
(4) ينظر: المصدر السابق 1/78، 294، 364، 2/59، 264، 4/27، 240، 452، 6/6، 224، 7/69، 182، 383، 538، 9/207، 259، 10/45، 112، 11/297 (في موضعين) 12/70، 240، 13/25، 128.
(5) ينظر: المصدر السابق 1/78، 11/322.(44/168)
استورد ابن طاهر جماعة من الأعراب (1) نيسابورَ (2) ، وكانوا من قبائل مختلفة من تميم وبكر وسليم وقيس وغيرهم، فيهم الفصحاء والشعراء والرّواة، فالتقاهم علماء اللّغة في نيسابور، وأخذوا عنهم فوائد جمة، وكان من هؤلاء أبو تراب اللّغويّ فأنس بهؤلاء الأعراب، وصحبهم زمنا والتقط من أفواههم، من اللّغة، ونوادرها، وطرائفها، الشيء الكثير.
وكان أبو تراب وفيّا معهم فحفظ أسماءهم في كثير من نقوله عنهم في كتابه الاعتقاب، فيما تفرق في كتاب "تهذيب اللّغة" للأزهري، إلا أنّه -أي الأزهريّ - قد يُجمل ذكرهم ويشير إليهم بقوله مثلاً: "قال أبو تراب عن أصحابه" (3) أو: "روى أبو تراب لبعضهم" (4) أو نحو ذلك، وهذا يحملنا على افتراض أنّه قد يُهمل ذكرهم اختصاراً ومن هؤلاء:
1- خَليفة الحُصينيّ:
وهو من أبرز رواة أبي تراب، وقد روى عنه في عشرين موضعاً، يدلّ أكثرها على أنّه سمع منه مباشرة، فهو يقول: سمعت، أو سألت، أو أخبرني أو أنشدني.
2- شُجَاع السُّلميّ:
روى عنه أبو تراب في سبعة عشر موضعاً (5) .
3- أبو السَّمَيْدَع الجَعْفَريّ:
روى عنه أبو تراب في أحد عشر موضعاً (6) ، يقول في أكثرها: " سمعت أبا السميدع يقول "
4- مُدْرِك بن غَزْوان الجَعْفَري:
روى عنه أبو تراب في ثمانية مواضع (7)
5- الغَنَوِيّ:
__________
(1) ينظر: المصدر السابق 1/26، ومعجم الأدباء 1/253، ونكت الهميان 97.
(2) نيسابور مفعول ثان لاستورد.
(3) التّهذيب 7/676.
(4) المصدر السابق 13/169.
(5) ينظر: التّهذيب 1/315، 387، 4/214، 285، 441، 7/393، 8/206، 373، 9/378، 10/108، 537، 11/369، 403، 12/200، 13/113، 16/99، واللسان (بنش) 6/350.
(6) ينظر: التّهذيب 2/179، 5/294، 573، 6/188، 8/138، 11/8 في موضعين، 82، 13/144، 15/480، وينظر: الفائق 2/46.
(7) ينظر: التّهذيب 1/387، 2/331، 3/242، 4/428، 7/460، 8/337، 11/8، 13/345.(44/169)
أعرابيّ من قبيلة غَنيّ، روى عنه أبو تراب في سبعة مواضع (1) .
6- مُبْتَكِر الجَعْفَريّ:
روى عنه أبو تراب في سبعة مواضع (2) .
7- أبو مِحْجَن الضِّبابيّ:
روى عنه في سبعة مواضع (3) ، يقول في أكثرها "سمعت أبا محجن يقول".
8- واقع السُّلميّ:
روى عنه في خمسة مواضع (4) .
9- زائدة البَكْريّ:
روى عنه في أربعة مواضع (5) .
10- مُدْرِك الكِلابيّ:
روى عنه في أربعة مواضع (6) .
11- حَتْرَش الأعرابيّ:
روى عنه في أربعة مواضع (7) .
12- أبو الجَهْم الجَعْفَريّ:
روى عنه أبو تراب في ثلاثة مواضع (8) .
13- أبو مِقْدَام السُّلميّ:
روى عنه في ثلاثة مواضع (9) .
14- مُصْعَب الضّبانيّ:
روى عنه في ثلاثة مواضع (10) .
15- شَبَانة الأعرابيّ:
روى عنه في ثلاثة مواضع (11) .
16- أبو الهَمَيْسَع الأعرابيّ:
وهو من أعراب مَدْيَنَ، روى عنه أبو تراب في موضعين (12) . وقال: "وكان أبو الهَمَيْسَع ذكر أنّه من أعراب مَدْيَنَ، وكنّا لانكاد نفهم كلامه" (13) .
17- أبو الرَّبيع البَكْريّ أو البَكْرَاويّ:
__________
(1) ينظر: المصدر السابق 2/256، 4/212، 7/487، 8/325، 9/411، 12/308، وينظر: الصحاح (رغم) 5/1938، واللسان (رنم) 12/257.
(2) ينظر: التّهذيب 2/302، 331، 7/203، 9/208، 354، 11/8، 126.
(3) ينظر: المصدر السابق 2/287، 8/243، 10/138، 159، 548، 15/72، 373.
(4) ينظر: المصدر السابق 1/320، 3/20، 6/237، 11/383، 15/82.
(5) ينظر: المصدر السابق 2/331، 7/119، 8/229، 9/201، 14/64، 15/343.
(6) ينظر: التهذيب 11/391، 12/34، والعباب (حرف الفاء 482) ، واللسان (مشن) 13/408.
(7) ينظر: التّهذيب 8/206، 9/201، 11/29، 12/121.
(8) ينظر: المصدر السابق 4/337، 6/102، 8/217.
(9) ينظر: المصدر السابق 5/127، 8/393، 10/673.
(10) ينظر: المصدر السابق 9/215، 10/590، 11/331.
(11) ينظر: التهذيب 8/233، 12/194، 14/133.
(12) ينظر: المصدر السابق 3/262، 12/83.
(13) المصدر السابق 3/262.(44/170)
روى عنه في موضعين (1) .
18- مُزَاحِم الأعرابيّ:
روى عنه في موضعين (2) .
19- عُقْبَةُ السّلميّ:
روى عنه في موضعين (3) .
20- الباهِلِيّ:
روى عنه في موضعين (4) .
21- الجَعْفَرِيّ:
روى عنه في موضعين (5) ، ولا أدري هل هو أبو الجَهْمِ أو مُدْرِكٌ أو أبو السَّمَيْدَع أو مُبْتَكِرٌ أو غيرهم؟
22- مُدِرك السّلميّ:
روى عنه في موضع واحد (6) .
23- مُبْتَكِر السّلميّ:
روى عنه في موضع واحد (7) .
24- رافع الأعرابيّ:
روى عنه في موضع واحد (8) .
25- حُصَين السُّلميّ:
روى عنه أبو تراب في موضع واحد (9) .
26- عُتَيِّر بن غَرْزَة الأَسَديّ:
روى عنه في موضع واحد (10) .
27- عُثمان الجَعْفَريّ:
روى عنه في موضع واحد (11) .
28- أبو الخَيْهَفْعَى التّميميّ:
روى عنه في موضع واحد (12) .
29- سُلَيمان الكلابيّ:
روى عنه في موضع واحد (13) .
30- زائِدة القيسيّ:
روى عنه في موضع واحد (14) .
31- فُلان بن عبدِ الله التّميميّ:
روى عنه في موضع واحد (15) .
(32) سَلْمَان بن المُغِيرة:
في موضع واحد (16) .
ويلحق بهؤلاء جملة من الأعراب الرّواة، ممّا أجمله أبو تراب، أو أجملته المصادر الّتي نقلت عن كتابه "الاعتقاب" ولا نكاد نعرف عن هؤلاء شيئاً سوى أنّهم من الأعراب، أو من بعض القبائل، يشير إليهم بإشارات مجملة، كقوله:
__________
(1) ينظر: المصدر السابق 1/69، 10/332.
(2) ينظر: المصدر السابق 10/280، 11/248.
(3) ينظر: التهذيب 6/214، 10/8.
(4) ينظر: المصدر السابق 7/506، 8/27.
(5) ينظر: المصدر السابق 6/159، 7/86.
(6) ينظر: المصدر السابق 9/30.
(7) ينظر: المصدر السابق 9/32.
(8) ينظر: التهذيب 7/80.
(9) ينظر: المصدر السابق 8/38.
(10) ينظر: المصدر السابق 3/263.
(11) ينظر: المصدر السابق 2/302.
(12) ينظر: المصدر السابق 3/263.
(13) ينظر: التّهذيب 8/169.
(14) ينظر: المصدر السابق 7/119.
(15) ينظر: المصدر السابق 3/193.
(16) ينظر: المصدر السابق 12/201.(44/171)
سمعت أعرابياً من بني سليم
أو سمعت أعرابياً من أشجع
أو سمعت أعرابياً من بني تميم
أو سمعت بعض بني سليم
أو سمعت العَبْسيّين
أو سمعت الجعفريين
أو سمعت جماعة من أعراب قَيْس
أو قال أعرابيّ من بني عامر
أو قال رجل من بلحارث بن كعب
أو قال بعض بني أسد
أو قال بعض الكِلابيّين
أو أنشدني جماعة من فصحاء قيس وأهل الصّدق منهم.
الفصل الثالث: شواهده
تقدم أنّ أبا تراب التقى جماعةً من الأعراب من رواة اللّغة والشّعر من الّذين اسْتُقْدِمُوا إلى نيسابورَ في خراسان مطلع القرن الثّالث إبّان ظهور الطّاهريّين، وأنّه لازمهم زمناً طويلاً، وسمع منهم فوائد جمّة أودعها كتابه "الاعتقاب"
ويبدو أنّ ذلك انعكس على شواهده؛ فطغى استشهاده بالشّعر على غيره من الشّواهد كالقرآن، والحديث النّبويّ، فلا نكاد نجد له من شواهد القرآن إلا الشّاهد أو الشّاهدين؛ في كلّ النّصوص الّتي جمعت (1) .
وليس الحديث بأوفر من ذلك فهو نادر -أيضاً- في نصوص كتاب "الاعتقاب"الّتي جمعتها، وقد وجدته يستشهد به على اعتقاب بعض الحروف في ثلاثة مواضع فحسب، أحدها أنّه روى عن رسول الله - صلّى الله عليّه وسلّم - أنّه قال لعمّار: "ويحك يا ابن سُميّة بؤساً لك، تقتلك الفئة الباغية"
والثّاني روايته لحديث النّبي -صلّى الله عليّه وسلّم - وهو قوله لعائشة -رضي الله عنها - ليلة تبعته وقد خرج من حجرتها، فنظر إلى سوادها فلحقها، وهي في جوف حجرتها فوجد لها نفساً عالياً، فقال: ويسها، ماذا لقيت اللّيلة (2) ؟
والثّالث روايته لحديث النّبيّ - صلّى الله عليّه وسلّم - أنّه أَبَدَّ يده على الأرض عند انكشاف المسلمين يوم حنين فأخذ منها قبضة من تراب فحذا بها في وجوههم (3) .
وروى أثراً واحداً عن ابن عباس -رضي الله عنه- استشهد به على معنى الفعل "فرّع"
__________
(1) ينظر: الفقرة رقم (364) .
(2) ينظر الفقرة رقم (76) من القسم الثّاني.
(3) ينظر الفقرة رقم (49) .(44/172)
أمّا الشّعر فكان هو الغالب في شواهد أبي تراب للسّبب الّذي ذكرته آنفاً، فعلى الرّغم من أن الكتاب لا يزال مفقوداً، وأنّ النّصوص الّتي وردت في بعض المعاجم كالتّهذيب ركّز أصحابها -في الغالب- على نصّ التّعاقب (الإبدال) اختصاراً للشّواهد أو اكتفاء بورودها في مواضع أخرى.
وعلى الرّغم من ذلك فإنّ في النّصوص المجموعة قدراً طيباً من الشّواهد الشّعرية، وهذا كلّه يسمح لنا بالقول: إنّ "الاعتقاب"لأبي تراب كان من المصادر اللّغوية الغزيرة بالشّعر؛ الّتي أفادت منها المصنّفات اللّغويّة، وعلى رأسها المعاجم.
وممّن استشهد أبو تراب بشعرهم: لَبيد، وجِران العَوْد، وسَعْد بن المُنتحر البارقيّ، ورؤبة، وعَدِيّ بن عليّ الغاضِرِيّ، وعَليّ بن شَيبة الغَطَفَانيّ، وعَدِيّ بن زيد، والمُخْرُوع السَّعْدِيّ، وذو الرُّمَّة، وأبو مَحْضَة، والأَخْطَل، وحاجِز بن الجعيد الأزديّ، ورويشد الطّائيّ، والأغلب العجليّ، وجَزْء بن الحارث، وأوس بن حجر، والأَفْوَه الأوديّ، وأبو الصَّامت الجشميّ، والكُميت بن زيد، والجَهْم الجَعْديّ، وأمّ البُهْلُول.
وبعض هؤلاء الشّعراء هم من غير المشهورين، وهم من شعراء الأعراب الّذين التقاهم أبو تراب في خراسان، أو من رواة الشّعر منهم.
وقد يروي عنهم أبو تراب ولا يذكر اسم الشّاعر أو الرّاوي، كقوله: "أنشدني جماعة من فصحاء قيس وأهل الصّدق منهم".
الفصل الرّابع
قيمة الكتاب العلمية وأثره
يُعَدُّ كتاب "الاعتقاب"من المصادر اللّغويّة القديمة المتخصّصة في التّعاقب (الإبدال اللّغويّ) الّتي وجدت مادّتها طريقها إلى بعض المعاجم الكبيرة، وقد أفاد منه من اطّلع عليه، وأثنى عليه من خبره وعرف قيمته، كالأزهريّ الّذي رفع من قدره، وعدّه في المصنّفات اللّغويّة المعتمدة الموثّقة، ومدحه بخُلَّتين:
إحداهما: خُلوّه من التّصحيف والتّحريف.
والأخرى: بُعْدُ مؤلّفه عن المجازفة فيما أودعه في نصوصه.(44/173)
وفي ذلك يقول حين ذكر مؤلّفه أبا تراب: "وقد قرأت كتابه، فاستحسنته، ولم أره مُجازفاً فيما أودعه، ولا مُصحّفاً في الّذي ألّفه".
ومما يرفع من قيمة الكتاب أنّه كبير (1) ، غزير المادّة الّتي أخذها عن علماء عصره، كشمر، وأبي سعيد الضّرير، وملازمته إيّاهما سنين عدّة، وسماعه منهما كتباً جمّة، سوى ما سمع من الأعراب الفصحاء لفظاً، وحفظه عن أفواههم خطاباً (2) .
ولكتاب "الاعتقاب"نصيب من الأثر في مصنفات اللّغويّين الّذين جاءوا بعده، الّتي نقل أصحابها عنه منذ أواخر القرن الثّالث، فقد وَجَدَتْ نصوصُهُ اللّغويّة طريقها إلى مصنّفات كثير من اللّغويّين، وبخاصّة الأزهريّ في التّهذيب، كما سيأتي، ومن هؤلاء من صرّح باسم أبي تراب أو كتابه، ومنهم من لم يصرّح بشيء من ذلك إلا في النّادر، تمشّياً مع منهجه في الاختصار، كما فعل الصّاحب بن عبّاد في "المحيط في اللّغة".
ولما تعذّر القطع بأثر "الاعتقاب"في نصوص لم يصرّح أصحابها بالنّقل عنه أو عن مؤلّفه فقد اكتفيت بتتبّع أثره في مصنّفات وجدت فيها تصريحاً بذلك، ورتّبتها زمنياً، وهي:
1- "التّكملة"لأبي حامد الخارْزَنجي البُشتيّ (348هـ)
وهو تكملة لكتاب العين للخليل، ويتعذّر أن نعرف – على وجه الدّقّة – مقدار الأثر الذي كان لأبي تراب في هذا الكتاب، لأنّه مفقود، فيبقى لنا تلمس ذلك من خلال ما نقل عن "التّكملة"من نصوص، وهي قليلة، ومن ذلك ما أورده الأزهريّ (3) من مقدّمة كتاب "التّكملة"هذا، وفيها ذكر لأبي تراب، وإشارة إلى اعتماده مصدراً من مصادره، وروى الصّاحب بن عبّاد نصاً عنه عن أبي تراب، وهو في الإبدال والتّعاقب، قال الصّاحب: "الخارْزَنجي عن أبي تراب: حَمَظَهُ وحَمَزَهُ: بمعنى واحد، أي: عصره".
__________
(1) ينظر: إنباه الرّواة 4/102.
(2) التهذيب 2/145.
(3) ينظر: التّهذيب 1/32 -34. .(44/174)
ونقل عنه شاهداً من الشّعر، أورده الأزهريّ (1) ، والقفطيّ (2) .
2- "الإبدال"لأبي الطّيّب اللّغويّ (351هـ)
نقل عن أبي تراب في موضعين (3) ، هما في كتاب الاعتقاب، كما يأتي في القسم الثّاني.
ولعله نقل عنه في غير هذين الموضعين دون أن يشير إليه.
3- "تهذيب اللّغة"للأزهري (370هـ)
اطّلع الأزهريّ على كتاب "الاعتقاب"فأعجب بمادّته، ودقة مؤلفه، وبعده عن التصحيف فأفرغ أكثر الكتاب في معجمه، وفَرَّقَه على موادّه، وقال في مُقدِّمته: "وما وقع في كتابي لأبي تراب، فهو من هذا الكتاب".
وبهذا العمل حفظ لنا الأزهريّ جلّ الكتاب، وعن طريقه وصلت مواد "الاعتقاب"إلى كثير من معاجم اللّغة، كـ "التّكملة"و "العباب"للصّغانيّ، و "اللّسان" لابن منظور، و"القاموس"للفيروزاباديّ، و "التّاج" للزّبيديّ، كما يتّضح من الرّسم البيانيّ التّالي:
الاعتقاب
التهذيب
التّكملة والذيل والصلة
العباب
اللسان
القاموس
التاج
وقد بلغت النّصوص الّتي نقلها الأزهريّ عن "الاعتقاب"ونصّ عليّها أكثر من ستين وثلاثمائة نصّ، كما يظهر من القسم الثّاني من هذه الدراسة، ويظهر - من الإحالات الّتي أوردتها عند الحديث عن اسمه والاضطراب فيه.
4- "المحيط في اللّغة"للصاحب بن عباد (385هـ) .
فيه نصّان لأبي تراب أحدهما من نصوص التّعاقب وهو الذي رواه الصاحب عن شيخه البشتي الخارزنجي (4) ، وأشرت إليه فيما سبق، والآخر رواه الصاحب - فيما يظهر - عن أبي تراب (5) ، ولا أدري هل اطّلع على كتاب أبي تراب أو لا، ولا أدري هل هذا النّصّ من كتاب "الاعتقاب"أو من "الاستدراك"لأنّ المادة ليست من مواد التّعاقب (الإبدال)
ولعلّ الصاحب أفاد من كتاب الاعتقاب في مواضع أخرى ولكننا لم نتبيّنها بسبب منهجه القائم على الاختصار الذي قاده إلى حذف مصادره.
__________
(1) ينظر: التّهذيب 1/34.
(2) ينظر: إنباه الرّواة 1/146.
(3) ينظر: الإبدال 2/275، 278.
(4) ينظر: المحيط 3/64.
(5) ينظر: المحيط 3/31.(44/175)
5- "الصحاح"للجوهريّ (392هـ) .
نقل عن كتاب "الاعتقاب"في ثلاثة مواضع (1) ، وذكر اسم الكتاب نصاً (2) في أحدها.
6- "فقه اللّغة وسِرّ العربيّة" للثّعالبيّ (429هـ)
فيه ثلاثة نصوص منقولة عن أبي تراب (3) .
7- "الفائق في غريب الحديث"للزّمخشريّ (583هـ) .
نقل عن أبي تراب في سبعة مواضع (4) ، كلّها من الاعتقاب، ويبدو أنّه أخذها من كتاب "الاعتقاب"بغير واسطة، أو نقلها عن غير التّهذيب (5) ، فبعض النّصوص الّتي أوردها ليست في التّهذيب، أو هي فيه لكنّها ليست منقولة عن أبي تراب (6) .
8- "العباب"للصّغانيّ (650هـ)
فيه نصوص كثيرة (7) عن أبي تراب من كتاب "الاعتقاب"ولعلّها مأخوذه من التّهذيب للأزهريّ، لأنّه يسمّيه أبا تراب تارة، وابن الفرج تارة أخرى.
9- "التّكملة والذّيل والصّلة"للصّغانيّ (650هـ)
__________
(1) ينظر: الصحاح (هرر) 2/854، (حرشف) 4/1343، (كمل) 5/1813.
(2) ينظر: الصحاح (حرشف) 4/1343.
(3) ينظر: فقه اللّغة وسر العربية 48، 52، 316.
(4) ينظر: الفائق 1/27، 2/7، 46، 154، 416، 3/347، 4/13.
(5) ينظر: المصدر السابق 2/7.
(6) ينظر: المصدر السابق 2/416، والذي في التّهذيب 3/318 عن أبي حاتم عن أبي عمرو.
(7) ينظر: العباب (حرف الهمزة) 110 (لفأ) ، وحرف الغين 34 (دوغ) ، 76 (مشغ) ، 82، (نشغ) وحرف الفاء 37 (أنف) ، 287 (سلخف) ، 287 (سلغف) ، 293 (شنغف) ، 319 (شرهف) ، 330 (شلخف) 330 (سلعف) ، 331 (شلغف) ، 447 (عفف) 482 (غلف) ، 610 (يغف) ، 632 (وضف) ، 659 (هلغف) .(44/176)
نقل فيه الصّغانيّ عن أبي تراب في مواضع متعدّدة (1) ، ولعلّه -أيضاً - ينقل عن الأزهريّ؛ لأنّه يسمّي صاحب الاعتقاب بالأسماء الثّلاثة الّتي وردت في التّهذيب.
10- "لسان العرب"لابن منظور (711هـ) .
__________
(1) ينظر: التّكملة 1/48 (لفأ) ، 50 (مطأ) ، 214 (عظب) ، 342 (نثت) ، 2/13 (ثعجج) ، 146 (ريخ) ، 3/127 (عمر) ، 219 (نمر) ، 227 (وهر) ، 381 (طهس) ، 382 (عبس) ، 456 (نبش) ، 500 (فنش) ، 517 (ندش) 4/43 (معض) ، 99 (نوض) ، 192 (بنط) 198 (شظظ) ، 227 (حجلجع) ، 244 (خهفع) ، 328 (قزع) ، 330 (قطع) ، 342 (كبع) ، 348 (كمع) ، 367 (نصع) ، 425 (مشغ) 438 (أنف) ، 5/415 (صمل) ، 503 (كعظل) ، 6/140 (كمم) ، 275 (غسن) .(44/177)
وصلت إليه نصوص "الاعتقاب"عن طريق التّهذيب، وفيه منها الكثير (1)
__________
(1) ينظر: اللسان 1/95 (سطأ) ، 153 (لكأ) ، 157 (مطأ) ، 450 (زعب) ، 525 (صغب) ، 587 (عرب) ، 670 (قرطب) ، 2/25 (حلت) ، 42 (سحت) ، 83 (لحت) ، 105 (هلت) 189 (مثث) ، 232 (حدج) ، 299 (سلج) ، 371 (نبج) ، 393 (هملج) ، 450 (رضح) ، 390 (سمح) ، 549 (فلطح) ، 557 (قذح) ، 568 (قيح) ، 618 (نضح) ، 639 (ويح) ، 3/54 (مرخ) ، 264 (سمح) ، 549 (فلطح) ، 557 (قذح) ، 568 (قيح) ، 618 (نضح) ، 639 (ويح) ، 3/54 (مرخ) ، 264 (صدد) ، 266 (ضهد) ، 298 (عقد) ، 402 (مرد) ،410 (ملد) ، 501 (غذذ) ، 4/480 (صبر) ، 611 (عنقر) ، 5/133 (كثر) ، 135 (كدر) ، 236 (نمر) ، 6/ 85 (دغس) ، 127 (طهس) ، 127 (طوس) ، 129 (عبس) ، 217 (مرجس) ، 231 (نشش) ، 271 (جحش) ، 276 (جنش) ، 285 (حشش) ، 306 (رمش) ، 324 (غطش) ، 341 (كشش) ، 285 (حشش) ، 306 (رمش) ، 324 (غطش) ، 341 (كشش) ، 350 (نبش) ، 352 (نخش) ، و352 (ندش) ، 358 (نقش) 373، (وقش) 7/17 (حقص) ، 037 (دلص) ، 67 (فصّ) ، 122 (بهض) ، 136 (حضض) ، 162 (رمض) ن 199 (غضض) ، 248 (هضض) ، 266 (بهط) ،320 (سقط) ، 337 (شمعط) ، 446 (شنط) ، 8/40 (حجلجع) ، 50 (جعع) ، 52 (جلع) ، 81 (خهفع) ، 118 (رجع) ، 271 (قزع) ، 364 (نكع) ، 450 (مشغ) ، 9/19 (توف) ، 96 (درق) ، 183 (شلخف) ، 183 (شلغف) ، 184 (شنغف) ، 315 (لحف) ، 10/96 (درنق) ، 144 (زلق) ، 173 (شذق) ، 204 (صفق) ، 207 (صمق) ، 239 (عذق) ، 295 (غهق) ، 463 (ضزك) ، 11/79 (تلل) ، 80 (تنبل) ، 153 (حسكل) 160 (حقل) ، 312 (زيجل) ، 370 (شمل) ، 381 (صقل) ، 385 (عثم) ، 400 (طربل) ، 555 (قرقل) ، 588 (كعظل) ، 624 (مصل) ، 662 (نشل) ، 688 (هبركل) ، 694 (هرجل) ، 698 (هضل) ، 12/140 (حظم) ، 209 (دمم) ، 241 (رسم) ، 257 (رنم) ، 325 (شلم) ، 371 (طمم) ، 447 (فأم) ، 484 (قشم) ، 605 (هدم) ، 611 (هزم) ، 13/8 (أحن) ، 88 (جزن) ، 160 (دفن) ، 277 (عثن) ، 281 (عذن) ، 285 (عسن) ، 313 (غسن) ، 321 (فدن) ، 376 (فلن) 324، (لبن) ، 408 (مشن) ، 429 (نون) ، 14/172 (حذذ) ، 429
(شرى) ، 15/ 104 (عنا) ، 140 (غنذى) ، 371 (هوا) .(44/178)
، وفي "اللّسان"أيضاً اضطراب في اسم أبي تراب، على النّحو الّذي تقدّم ذكره، وقد لاحظت عند مقابلة نصوص التّهذيب باللّسان أنّ ابن منظور قد يسقط اسم أبي تراب، ويكتفي بذكر من روى عنه أبو تراب، أو يكتفي بذكر المادّة اللّغويّة الّتي فيها التّعاقب، وهو نوع من الاختصار.
11- "وفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم"لابن مالك (672هـ)
وهو كتاب في التّعاقب (الإبدال) وفيه نقل عن أبي تراب في موضعين (1) أحدهما عن طريق الأزهريّ، ويبدو أنّ ابن مالك لم يطلّع على كتاب "الاعتقاب"ولو اطّلع عليّه لأكثر من النّقل عنه؛ لأنّ موضوع كتابيهما واحد، وهو التّعاقب.
12- "تاج العروس"للزّبيديّ (1205هـ)
وصلت إليه نصوص "الاعتقاب"عن طريق "القاموس المحيط"و "اللّسان"وأكثرها كان عن طريق هذا الأخير؛ ولهذا يمكن القول: إنّ أكثر ما في "اللّسان"من نصوص "الاعتقاب"هو في "التّاج"أيضاً (2) .
هذا أثر "الاعتقاب" لأبي تراب في المادّة اللّغويّة، أي من خلال النّصوص اللّغويّة المنقولة عنه.
وثمّة أثر له في المنهج، فقد كان أبو تراب يروي أحياناً عن علماء لم يدركهم كالخليل وأبي عمرو بن العلاء، فتابعه على ذلك الخارزنجيّ البشتيّ واحتجّ بصنيعه، وفي ذلك يقول الخارزنجي في مقدّمة كتابه "التّكملة": "ولعلّ بعض النّاس يبتغي العنت بتهجينه والقدح فيه، لأنّي أسندت ما فيه إلى هؤلاء العلماء من غير سماع ... وإنّما إخباري عنهم إخبار عن صحفهم، وقد فعل مثل ذلك أبو تراب صاحب كتاب الاعتقاب، فأنّه روى عن الخليل بن أحمد، وأبي عمرو بن العلاء والكسائيّ، وبينه وبين هؤلاء فترة".
__________
(1) ينظر: وفاق المفهوم 146، 210.
(2) ينظر على سبيل المثال وليس الحصر: التاج 1/80 (شقأ) ، 118 (مطأ) ، 592 (نقت) ، 2/103 (نبج) ، 3/499 (مرد) ، 516 (كثر) ، 4/395 (دلص) ، 416 (فصص) 5/325 (خثفع) ، 7/40 (غهق) ، 323 (دقل) ، 8/389 (عثم) ، 9/276 (عذن) .(44/179)
أمّا المنهج في التّرتيب فإنّني لا أستبعد أن يكون أبو الطيب اللغوي قد تأثّر بمنهج أبي تراب في ترتيب الأبواب، وقد أشرت إلى هذا فيما تقدّم.(44/180)
تابع أبو تُراب اللّغويّ وكتابه "الاعتقاب"
القسم الثّاني
نصوص من كتاب "الاعتقاب"
"جمع وترتيب"توطئة: في ترتيب النّصوص المجموعة
تقدّم في دراسة الكتاب أنّ أبا تراب جعل كتابه مبوّباً على الحروف، لكل حرفين متعاقبين بابٌ، غير أنّ النّصوص المتفرّقة في المعاجم، وعلى رأسها "تهذيب اللّغة"للأزهريّ لا تسعف في التّعرف على نظام الكتاب في ترتيب الأبواب، والرّاجح أنّها لم تكن مرتّبة، كما تقدّم ذكره في الدراسة.
وقد رأيت أن أرتّب ما جمعته من مادّة الكتاب على حروف الهجاء، بحسب أبوابها مقدّماً أسبق الحرفين في الهجاء ثم أجعل التّرتيب له، فمثلاً: مدهمس ومدغمس، التّبادل فيهما بين الهاء والغين، والغين أسبق من الهاء في الهجاء، فيكونان في باب الغين والهاء، ويكون "اختزع واختزل"في باب العين واللام، و "حلتُّه وحلأته"في باب الهمزة والتّاء، و "الجرماق والجلماق"في باب الرّاء واللام، و "هرهرت الشّيء وفرفرته"في باب الفاء والهاء، وهكذا.
وإذا تساوى بابان أو أكثر في الحرف الأوّل قدّمت الأسبق من الحرفين الثّانيين، نحو أبواب: (البّاء والتّاء) و (البّاء والثّاء) و (البّاء
والحاء) و (البّاء والدّال) وهكذا في جميع الأبواب (1)
__________
(1) قد يشكل على القارئ أن صاحب الكتاب - فيما ورد فيه ذكر لأسماء الأبواب وهو قليل جداً - قد يقدم في التسمية الحرفَ المتأخّر على الحرف المتقدّم، كما جاء في قول الأزهري فيما نقله عن أبي تراب: ((جاء به في باب الظّاء والزّاي)) (التّهذيب 4/461) لم يقل: الزّاي والظّاء و ((قال ابن الفرج في باب الميم والباء)) (التّهذيب 11/244) ولم يقل: الباء والميم.
... و ((قد طلبته في باب العين والحاء لأبي تراب ... )) (التّهذيب 4/110) لم يقل: الحاء والعين.
... ونحو ذلك، فهل عليّ أن التزمَ في هذه الأبواب خاصة بهذا الترتيب بين الحرفين وهذه التسمية، أو لا ألتزم بذلك؟
... ولقد رأيت ألا ألتزم بذلك للأسباب التالية:
... أولاً: أن الالتزام به يؤدّي إلى خلل كبير في الترتيب الذي وضعته للأبواب.
... ثانياً: أن أبا تراب نفسه - فيما نقل عنه - لم يلتزم به في المواد القليلة التي ورد فيها إشارة إلى تسمية الباب، فهو قد يقدم الحرف الأسبق من الحرفين، كما جاء في قول الأزهري مثلاً: ((ذكره في باب اعتقاب الباء والذّال)) (التّهذيب (16/210) و ((قال أبو تراب في باب التّاء والميم)) (التّهذيب /259) .
... و ((ذكره في باب الجيم والحاء)) (التّهذيب 11/8) .
... و ((رواه ابن الفرج..... في باب الصّاد والفاء)) (التّهذيب 15/573) .
... و ((نظرت في باب ما تعاقب من حرفي الصاد والطاء)) (التّهذيب 11/295) .
... وهكذا، وهو يوافق المنهج الذي وضعته للأبواب في مادة الكتاب المجموعة.
ثالثاً: أنني وجدت الأزهريّ يقول: ((أبو تراب ... ومثله مما تعاقب فيه الدّال والباء)) (التهذب 14/70) في حين يقول ابن منظور: ((ومثله مما تعاقب فيه الباء والدال)) فقدم الباء.
رابعاً: أنني تأملت المادة المجموعة كاملة مما نص فيها على الأبواب وهو قليل، ومما لم ينص عليه وهو الكثير، وتأملت الكلمات المتعاقبة وكيفية ترتيبها، فتبين لي أنه ليس ثمة طريقة ثابتة لترتيب الأبواب والمواد ولعلَّ جهد المؤلف - رحمه الله - كان منصباً على تعاقب الحرفين في الباب فحسب.(44/181)
، وهي الطّريقة الّتي سار عليها أبو الطّيّب اللّغويّ في كتابه "الإبدال" وليس بعيداً أن يكون قد اطّلع على ترتيب أبي تراب وتأثّر به، وقد وجدته ينقل عنه بعض النّصوص، كما تقدّم في الحديث عن أثر أبي تراب في غيره.
ثمّ رتّبتُ المادّة في كلّ باب بحسب أسبق الكلمتين المتعاقبتين في التّرتيب الهجائيّ الأبجديّ سواء كانت الكلمة الأولى أو الثّانية، فمثلاً "داك الرجل المرأة وباكها"أسبق في الترتيب من "حدجه بالعصا حدجاً، وحبجه بها حبجاً"لأنّ "باكها"هي الأسبق، فقدّم النصّ الأوّل بها.
وبمثل هذا أرجو أن يكون التّرتيب محكماً في الأبواب، وفي الموادّ داخل كل باب، وما من بأس إن كان ثمّة ألفاظ من المادة المجموعة من كتاب الاعتقاب لا يتضح فيها الإبدال أو الاعتقاب بمعناه النّاضج الذي تبلور عند بعض علماء العربية الذين يشترطون فيه حروفاً محددة يسمونها حروف الإبدال، ويشترطون فيه اتحاد الدلالة بين الكلمتين، وهذا أمر مهم نبّهت عليه في الدراسة، وذكرت أن أبا تراب يتّسع في جمع المادة وينزع إلى الاستفاضة في جمع الأشباه والنّظائر، ويستطرد أحياناً.
وثمة مواد قليلة جاء الاعتقاب فيها في ثلاثة أحرف من ثلاث كلمات نحو "جبس وعبس ولبس"و "احتفد واحتمد واحتفل"ولمثل هذا باب خاص، يشار فيه إلى الأحرف الثلاثة المتعاقبة، فيكون النّصّ الأوّل المشار إليه في باب "الجيم والعين واللام"ويكون الثّاني في باب: "الدّال واللام والميم".
وربّما جاء الاعتقاب في حروف مختلفة في كلمتين أو ثلاثة، مثل "مرط فلان فلاناً وهرده"فالاعتقاب بين أربعة أحرف في كلمتين الميم والهاء من ناحية والطّاء والدّال من ناحية أخرى.
ونحو "بَضَّعَهُ وكَنَّعَهُ وكَوَّعَهُ" وهذا تعاقب بين حروف مختلفة في ثلاث كلمات، وهو ضرب من الاتّساع في مفهوم الإبدال أو الاعتقاب عند أبي تراب.(44/182)
وجعلت لهذا النّوع باباً يلمّ شتاته سمّيته "باب الاعتقاب في حروف مختلفة"جاء في نهاية الأبواب الهجائيّة قبل الباب الأخير الّذي جعلته لما روى عن أبي تراب، ممّا لا يدخل في شيء من الأبواب السّابقة؛ لأنّ ما فيه ليس من الاعتقاب إنّما هو من الفوائد اللّغوية المتفرّقة، واللّغات، وأقوال العلماء أو الرواة، وأشعار الشعراء، ونحو ذلك، وسمّيته: "باب الفوائد والنّوادر"ولم أحذفه؛ لأنه جزء من كتاب "الاعتقاب".
وفيما يلي ما توفّرت عليه من نصوص كتاب الاعتقاب لأبي تراب مجموعاً، ومصنّفاً في أبواب، ومرتّباً على الحروف:
(باب اعتقاب الهمزة والتّاء)
1- "قَالَ ابنُ الفَرَجِ: قَالَ الكِسَائِيُّ: حَلَتُّه؛ أَيْ: ضَرَبْتُهُ.
قَالَ: وَغَيْرُهُ يَقُولُ: حَلأْتُهُ".
(باب اعتقاب الهمزة والعين)
2- "قَالَ أَبُو تُرَاب: قَالَ أَبُو زَيد: ذَأَتَه ذَأْتاً، وذَعَتَه ذَعْتاً، وهو أَشَدُّ الخَنقِ".
3- "قَالَ ابنُ الفَرَجِ: قَالَ الأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ لِلْقَومِ: ذَرُونِي أُكَثِّعُ
سِقَاءَكُمْ، وأُكَثّئُهُ؛ أَيْ: آَكُلُ مَا عَلاه مِنَ الدَّسْمِ".
4- "قَالَ أَبُو تُراب: مَضَى هَجِيعٌ مِنَ اللَّيلِ وهَزيعٌ، بمَعْنىً وَاحِد.
قَالَ: وقَالَ ابنُ الأعرابيّ: هَجَع غَرَثُه وهَجَأَ: إِذَا سَكَنَ.
قَالَ: وقَالَ ابْنُ شُمِيلٍ: هَجَعَ جُوعُ الرَّجُلِ يَهْجُعُ هَجعاً، أَيْ: انكَسَرَ جُوْعُهُ، ولم يَشْبَعْ بَعْد. قَالَ: وهَجَأ فلان غَرَثُه وهَجَعَ غَرَثَه، وهَجَأ غَرَثُه - أيضاً.
قال: وأَهْجَعَ غَرَثَه وأَهْجَأَه، إذا سَكَّنَ ضَرَمَهُ.
قال: وهَجَّعَ القَوْمُ تَهْجِيْعاً، إذا نوَّمُوا" (1) .
(باب اعتقاب الهمزة والغين)
5- "قال أبو تُراب: سَمِعْتُ الباهِليَّ يَقُولُ: يُقَالُ لبَيْضَةِ القَمْلَةِ: صُغَابٌ وصُؤابٌ" (2) .
__________
(1) المصدر السابق 1/129.
(2) المصدر السابق 8/27، وينظر: اللّسان (صغب) 1/525، ووفاق المفهوم 201.(44/183)
(باب اعتقاب الهمزة والميم)
6- "رَوَى أبو تُرابٍ عَن شَمِر: زَمَجَ بَيْنَ القَوم، وَزأَجَ؛ إذا حَرَّشَ".
(باب اعتقاب الهمزة والواو)
7- "قَالَ أبو تُراب (1) أَحِنَ عليه وَوَحِنَ مِنَ الإِحْنَةِ"
(باب اعتقاب الهمزة والألف اللّينة)
8- قَالَ "ابنُ الفَرَج: سَمِعْتُ البَاهِليّينَ يَقُولون: وَطَا الرّجلُ المرأْةَ ووَطَأَهَا، بالهَمْزِ؛ أَيْ: وَطِئَها".
(باب اعتقاب الهمزة والياء)
9- "قَالَ إِسْحَاقُ بن الفَرَج: قَالَ الأَصْمَعِيّ: الأَكَاسِمُ: اللُمَعُ من النَّبْتِ المُتَرَاكِبَةِ. يُقال: لُمْعَة أُكْسُومٌ؛ أي: مُتَراكمة، وأنشد:
أَكَاسِماً للطَّرْفِ فِيهَا مُتَّسَعْ
وللأيُولِ الآيِلِ الطَّبِّ فَنَعْ
وقال غيره: روْضَةٌ أُكْسُومٌ ويَكسومٌ؛ أي نَدِيةٌ كثيرة، وأبو يَكْسُوم من ذَلِكَ" (2) .
(باب اعتقاب الباء والتاء)
10- "أبو تُراب: البَلابل والتَّلاتل: الشَّدَائِدِ".
11- "قَالَ أَبُو تُراب: قَالَ الأَصْمَعِيّ: رَجُل تِنبَلٌ وتِنتَلٌ، إذا كان قَصِيراً".
قَالَ ابنُ مَنظُور: "ورَوَاه أبو تُراب في باب الباءِ والتَّاءِ من الاعتقَابِ".
(باب اعتقاب الباء والثّاء)
12- "روى أبو تراب للأصمعيّ: بَلِجَ بالشَيء، وثَلِجَ به، بالباء والثّاء، إذا فرح به، يبلَجُ بَلَجاً، وقد أبلجني وأثلجني؛ أي: سَرَّني".
(باب اعتقاب الباء والحاء)
13- "قال ابن الفرج: كان حَصِيص القوم وبَصِيصهم كذا؛ أي: عددهم".
14- "قال ابن الفرج: يقال احتضضت نفسي لفلان وابتضَضْتُها؛ إذا استزدتها".
(باب اعتقاب الباء والحاء والنون)
15- "قال أبو تراب: كان حَصِيص القوم وبَصِيصهم
ونَصِيصهم كذا وكذا؛ أي: عددهم، بالحاء والنّون والباء".
(باب اعتقاب الباء والدال)
__________
(1) في اللسان (أحن) 13/8: ((ابن الفرج ... )) .
(2) التّهذيب 10/85.(44/184)
16- "أبو تراب (1) : أَدَنَّ الرّجل بالمكان إدناناً، وأَبّنّ إِبناناً، إذا أقام، ومثله ممّا يعاقب فيه الدّال والباء: انبَرَى واندَرَى، بمعنى واحد".
17- قال أبو عمرو: "داك الرّجل المرأة يدوكها دَوْكاً، وباكها بَوْكاً، إذا جامعها. وأنشد:
فَدَاكَها دَوْكاً عَلَى الصِّراطِ
لَيْسَ كَدَوْكِ زَوْجِهَا الوَطْوَاطِ
وقال أبو تراب: قال أبو الرّبيع البكراويّ: دَاكَ القومُ إذا مَرِضوا، وهم في دَوْكَةٍ؛ أي: مَرَضٍ".
18- "قال ابن الفرج: حَدَجَه بالعَصا حَدْجاً وحَبَجَه بها حَبْحاً؛ إذا ضَرَبَهُ بِها".
(باب اعتقاب الباء والذّال)
19- "حكى أبو تراب (2) عن بعض بني سليم، يقال: تَذَقَّطْتُ الشيءَ تَذَقُّطاً، وتَبَقَّطته تَبَقُّطاً، إذا أخذتَهُ قليلاً قليلاً، ذكره في باب: اعتقاب الباء والذال".
(باب اعتقاب الباء والسين)
20- "قال ابن الفرج (3) : سمعت أبا المِقدام السّلميّ يقول: تسقّطت الخبرَ وتبقّطته؛ إذا أخذته شيئاً بعد شيء قليلاً قليلاً".
(باب اعتقاب الباء والسّين واللام)
21- "قال ابن الفرج: سمعتُ شُجَاعاً السّلميّ يقول: بَرْدٌ بَحْتٌ وسَحْتٌ ولَحْتٌ؛ أي: صادق، مثل ساحة الدّار وباحتها".
(باب اعتقاب الباء والشّين)
22- "روى أبو تراب، عن مُصعب الضِّبَابيّ: امرأة شِنظيانٌ بِنظيانٌ، إذا كانت سَيّئة الخلق صَخَّابَة".
(باب اعتقاب الباء والصّاد)
23- "أبو سعيد: هي الشَّصَائِبُ والشَّصَائِصُ للشَّدائد.
قال أبو تراب: وقال غيره: هي الشَّصَائب والشَّطائب، للشّدائد".
(باب اعتقاب الباء والطّاء)
24- "أبو تراب عن الحُصَين (4) يُقال: الْحَقْ بِطَيَّتِكَ وَبيَّتِكَ؛ أي: بحاجتك".
__________
(1) في اللسان (دنن) 13/160: ابن الفرج.
(2) في بعض نسخ التّهذيب 16/210: ((قال ابن الفرج)) .
(3) وفي اللسان (سقط) 7/320: ((عن أبي تراب)) .
(4) لعله: الحصيني.(44/185)
25- "قال أبو تراب: الغَطَشُ والغَبَشُ واحد" (1) .
(باب اعتقاب الباء والعين)
26- "أبو تراب عن زائدة: ما فيه بُلالة ولا عُلالة؛ أي: ما فيه بقيّة".
(باب اعتقاب الباء والفاء)
27- "قال أبو تراب: سمعت السّلميّ يقول بَنَّشَ الرَّجُلُ في الأمر وفَنَّشَ، إذا استرخى فيه، وأنشد أبو الحسن:
إِن كُنتَ غَيْر صَائِدِي فَنَبِّشِ
قال: ويروى: فَبَنِّشِ، أي اقعُدْ".
28- "قال الأصمعي فيما يروي عنه أبو تراب: ضربه فجَعَبَهُ وجَعَفَهُ، إذا ضرب به الأرض. ويثقّلُ فيقال جَعَّبَهُ تَجْعِيْباً، أي صَرَعَهُ. قال: والْمُتَجَعِّبُ المَيِّتُ - أيضاً".
29- "قال أبو تراب: قال الأصمعيّ: الشَّاسِب والشَّاسِف: الّذي يَبِسَ عليه جِلْدُهُ. وقال لبيد:
أَتِيكَ أَمْ سَمْحَجٌ تَخَيَّرَها
عِلْجٌ تَسَرَّى نَحائِصا شُسُبا
وله:
تَتَّقِي الأَرْضَ بِدَفٍّ شاسِبٍ
وضُلُوعٍ تَحْتَ زَورٍ قد نَحَلْ"
30- "الأصمعيّ فيما روى له أبو تراب: شَطَفَ وشَطَبَ، إذا ذهب وتباعد، وأنشد:
أحان مِن جِيرَتِنا خُفُوفُ
وأقْلقتْهُمْ نِيَّةٌ شَطُوفُ"
(باب اعتقاب الباء والقاف)
31- "قال ابن الفرج: سمعت أبا المقدام السّلميّ يقول: هذه بَاحَةُ الدار وقاحتُها، ومثله طين لازِبٌ ولازقٌ، ونَبِيْثَةُ البئر ونقيثَتُهَا، وقد نَبَّث عن الأمر ونَقَّثَ".
(باب اعتقاب الباء واللام)
32- "قال ابن الفَرَج: قال السّلميّ: بَرْدٌ بَحْتٌ لَحْتٌ؛ أي: برد صادق".
33- "أبو تراب: قال الأصمعيّ: شَخَل فلانٌ ناقته وشَخَبَها؛ إذا حلبها".
34- "قال ابن الفرج: الهَرَاجِيبُ والهَرَاجِيْلُ: الضِّخام من الإبل. وقال جِران العَوْد:
حتى إذا مَتعت والشمسُ حاميةٌ
مَدَّت سَوالِفَهَا الضُّهبُ الهَراجِيلُ
وقال رؤبة:
__________
(1) المصدر السابق 16/162، وينظر: اللسان (غطش) 6/324، والإبدال في هاتين الكلمتين بين حرفين متباعدين، وقد أشرت إلى ذلك في نقد النصوص من الدّراسة.(44/186)
مِن كُلِّ قَرْوَاءَ وهِرْجابٍ فُنُقْ
وهو الضخم من كل شيء"
35- "قال ابن الفرج: هو يَهْضِل بالكلام وبالشِّعْرِ ويَهْضِبُ به: إذا كان يَسُحّ سَحّاً، وأنشد:
كأَنّهُنَّ بِجِمَادِ الأَجْبَالْ
وقد سَمِعْنَ صَوْتَ حَادٍ جَلْجَالْ
مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَيْهَا هَضَّالْ
عِقْبانُ دَجْنٍ ومَرازيحُ الغَالْ
قال: قيل له: هَضَّال؛ لأنَّه يَهْضِلُ عليها بالشِّعر إذا حَدَا".
(باب اعتقاب الباء والميم)
36- "قال ابن الفرج في باب الميم والباء: المرجاس: حَجَرٌ يُرْمَى به في البِئِر ليُطَيِّب ماءَها، ويَفْتَحَ عُيُونَها، وأنشد:
إذا رأوا كريهةً يَرْمُونَ بي
رَمْيَكَ بالمِرجَاس في قَعْرِ الطَّوِي
قال: ووجدت هذا الشعر في أشعار الأزد "بالبرجاس في قَعْرِ الطَّوِي"بالباء. والشعر لسعد ابن المنتحِر البارقي، وهو جاهلي، رواه المؤرِّج له، وهو حَجَرٌ يُرْمَى به في البئر".
37- قال الأزهري: "أبو عبيد عن الفراء: جَرْدَبتُ الطَّعام، وهو أن يضع يده على الشيء يكون بين يديه [على] الخِوان كي لا يتناوله غيره ...
وروى أبو تراب عن الفراء: جَرْدَبَ وجردَمَ بالمعنى الذي رواه أبو عبيد عنه. وأنشده الغنوي:
فلا تجعَلْ شِمالَكَ جردَبيلا
وزَعَمَ أنّ معناه أن يأخذَ الكِسْرَة بيده اليُسرى، ويأكلَ باليُمْنَى فإذا فَنِيَ ما بين يدى القوم أكل ما في يده اليُسْرى".
38- "أبو عبيدة: رجَبتُ فلاناً بقَولٍ سَيِّئٍ، ورَجَمْتُهُ، بمعنى صككته. قال أبو تراب: وقال أبو العميثل مِثلَه".
39- "قال ابن الفرج حكاية عن بعض الأعراب، قال: السِّبَاح والسِّماح: بُيُوتٌ من أَدَم، وأنشد:
إذا كان المسَارِحُ كالسِّماح"
40- قال أبو تراب: قال ابن شميل: خُذِ الشَّفْرَة فالتُبْ بها في لَبَّة الجزور، والتُمْ بها بمعنى واحد، وقد لَتَمَ في لَبَّتِها ولَتَبَ بالشَّفْرة؛ إذا طَعَن فيها بها انتهى والله أعلم".
(باب اعتقاب الباء والنون)(44/187)
41- "قال أبو تراب: الكُبُوع والكُنُوع: الذّلّ والخضوع".
(باب اعتقاب الباء والياء)
42- روى أبو تراب عن أبي سعيد الضّرير أنّه قال: إنمّا هو اللِّباء الّذي يجعل في قِداد الجَدْي، وجعله تَصحيفاً من المُحَدِّث.
وقال أبو سعيد: اللبأ يُحْلَبُ في قِدَادٍ، وهي جُلُودُ صِغار المِعْزَى، ثُمَّ يُمَلّ في الملّة حتّى يَيْبَس ويجمد، ثمّ يخرج ويباع كأنّه الجُبْن، فإذا أراد الآكل أكله قشا عنه الإهاب الّذي طُبِخَ فيه، وهو جِلْدُ السَّخْلَةِ الّذي جُعِلَ فيه.
قال أبو تراب: وقَالَ غَيْرُه: هو اللِّياءُ - بالياء - وهو من نَبَاتِ اليَمَنِ، ورُبّما نَبَتَ بالحِجاز في الخِصْبِ، وهو في خِلْقَةِ البَصَلَةِ، وقَدْرِ الحِمَّصةِ، وعليه قُشُور رقاق، إلى السَّواد ما هو، يُقلَى ثمّ يُدلك بشيء خشن، كالمِسْح ونحوه؛ فيخرج من قشرة؛ فيؤكل بحتاً، ورُبَّمَا أُكِلَ بالعسل، وهو أبيض، ومنهم من لا يقبله".
(باب اعتقاب التاء والطاء)
43- "قال أبو تراب: سمعت عراماً يقول ... وكذلك امرأة سَلَطَانة وسَلَتَانة "
(باب اعتقاب التاء والفاء)
44- "أبو تراب عن عرّام: ظلّ لبطنه نَتِيتٌ ونَفِيتٌ؛ بمعنى
واحد" (1)
(باب اعتقاب التاء والكاف)
45- "روى ابن الفرج عن أبي سعيد قال: العِتْرة: ساق الشجرة. قال: وعترة النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد المطلب وولده. قال: ومن أمثالهم: عادت لعِتْرها لميس ولِعِكْرِها؛ أي: أصلها".
46- "أبو تراب: قال الأصمعيّ: لعن الله أمّا لتأت به، ولَكَأت به، أي: رمت به، قال: وقال شمر: لتأتُ الرجلَ بالحجر إذا رميته به، ولَتَأْتُه بعَيْنِي لَتْأً إذا أَحْدَدْتَ إليه النّظر".
(باب اعتقاب التّاء والميم)
47- "قال أبو تراب في باب التاء والميم: قال الأصمعيّ: تئق الرُّجلُ، إذا امتلأ غضباً، ومَئِق، إذا أخذه شبه الفُواق عند البكاء قبل أن يبكي.
__________
(1) التهذيب 14/254، وينظر: التكملة (نتت) 1/342.(44/188)
وقال: وكان أبو سعيد يقول في قولهم: أنا تَئِقٌ وأنت مَئِقٌ، أنت غضبان وأنا غضبان.
قال: وحكاه أبو الحسن عن أعرابي من بني عامر".
(باب اعتقاب الثاء والذال)
48- "قال أبو تراب: يقال: هو ذو ذَرْوَة من المال؛ أي ذو ثَرْوَةٍ".
49- "قال أبو تراب (1) : حَذَوْتُ التُّرَابَ في وجوههم، وحَثَوْتُهُ بمعنى واحد. قال: وفي حديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنّه أَبَدَّ يده على الأرض عند انكشاف المسلمين يوم حنين فأخَذّ منها قبضة من تراب فحذا بها في وجوههم فما زال حَدُّهم كليلاً، أي: حثا".
50- قال الأزهريّ: "روى أبو تراب للأصمعيّ أنه قال: رأيتُ القومَ مُذْعَابِّين كَأَنَّهُم عُرْفُ ضِبعان، ومُثْعَابِّين بمعناه، وهو أن يَتْلُوَ بعضُهُم بعضاً.
قلت (2) : وهذا عندي مأخوذ من انثعب الماء وانذعب إذا سَالَ واتَّصَلَ جَرَيَانُهُ في النَّهْر " (3) .
(باب اعتقاب الثّاء والسّين)
51- "قال المُفَضَّلُ: كَسَحَ وكَثَحَ بمعنى واحد. حكاه أبو تراب".
(باب اعتقاب الثّاء والشّين)
52- "قال أبو تراب: سَمِعْتُ أبا مِحْجَن الضّبابيّ يقول: مُثَّ الجُرْحَ ومُشَّه؛ أي: انفِ عنه غَثِيثَتَهُ".
(باب اعتقاب الثّاء والفاء)
53- قال ابن منظور: "ويقال للحديد اللّيّن: أَنِيفٌ وأنيثٌ، بالفاء والثّاء، قال الأزهري (4) : حكاه أبو تراب".
54- "قال أبو تراب: الثَّوج: لغة في الفوج. وأنشد لجندل:
مِنّ الدَّبَا ذَا طَبَقٍ أَثَايِجِ
ويروى: أفاوِج؛ أي: فَوْجاً فَوْجاً".
55- "قال ابن الفرج: يقال للعجوز عُفّة وعُثّة. قال: والعُفّة: سَمَكَة جَرداء بيضاء صغيرة إذا طبخت فهي كالأرز في طعمها".
__________
(1) في اللسان (حذا) 14/172: ((عن ابن الفرج)) .
(2) القائل: الأزهري.
(3) المصدر السابق 2/323.
(4) ذكره الأزهري في التّهذيب 15/483 ولم يعزه لأحد. ولعلّه ممّا غيره النُّسّاخ.(44/189)
56- "روى ابن الفرج للأصمعيّ أنه قال: انقعث الجدار وانقعف، إذا سقط من أصله. وروى عنه - أيضاً - أنّه قال: اقتعث الحافر اقتعاثاً، إذا استخرج تراباً كثيراً من البئر".
57- "قال أبو تراب: وقال عرّام: القُعاث: داءٌ يأخذ الغنم في أنوفها قال: وانقعث الشّيء وانقعف، إذا انقلع".
58- "قال أبو تراب: هي النَّفِّيَّة والنَّثِّيَّة".
(باب اعتقاب الثّاء والهاء)
59- "قال أبو تراب: سمعت زائدة البكريّ يقول: العرب تدعو ألوان الصوف: العِهْن، غير بني جعفر فإنّهم يدعونه العِثْن، بالثاء. قال: وسمعت مُدْرِك بن غَزْوان الجعفريّ وأخاه يقولان: العِثْن: ضرب من الخُوصةِ يرعاه المال إذا كان رَطْباً، فإذا يبس لم ينفع.
وقال مُبتكر: هي العِهْنة، وهي شجرة غبراء ذات زهر أحمر".
(باب اعتقاب الجيم والحاء)
60- "أبو تراب عن اللّحيانيّ: رجل مُجَارَف ومحارف، وهو الّذي لا يكسِبُ خيراً".
61- قال الأزهريّ: "قال أبو تراب: سمعت أبا السّميدع يقول: سِرنا عُقْبَةً (1) مَتُوجاً، ومَتُوحاً؛ أي: بعيدة، وذكره في باب الجيم والحاء. ويقال - أيضاً - في باب الجيم والخاء ... ".
(اعتقاب الجيم والخاء)
62- "أبو تراب عن أبي المقدام السّلميّ: جَدَفَتِ السّماء بالثّلج، وخَذَفَتْ، تَجْدِف وتَخْذِف، إذا رَمَت به"
63- قال أبو تراب: بعد أن ذكر مَتُوجاً ومَتُوحاً (2) في باب الجيم والحاء: "ويقال - أيضاً - في باب الجيم والخاء، [و] سمعت أبا السّميدع ومُدركاً ومُبتكراً الجعفريِّين، يقولون: سِرنا عُقْبَةً مَتُوجاً ومتوخاً، أي بعيدة، فإذا هي ثلاث لغات: مَتُوح ومتوخ ومتوج".
__________
(1) قال محقق التّهذيب 11/8: ((كذا ضبطت في الأصول بضم العين وسكون القاف، وهو يوافق ما في التاج (متج) قال: وفي بعضها محركة وهو الأكثر)) .
(2) ينظر الفقرة رقم (61) .(44/190)
64- قال الأزهريّ: "أمّا العظيم الهشّ الوالج في جوف القَرْن فإنّ أبا خيرة قال: هو المَرِيخ والمَرِيج. ويجمعان: أَمْرِخَة وأَمْرِجَة. رواه أبو تراب له في كتاب الاعتقاب (1) .
قال: وسألت عنهما أبا سعيد، فلم يعرفهما.
قال: وعَرَف غيرُه: المَرِيخ: القَرْن الأبيض، الذي يكون في جوف القَرْنِ".
65- وقال الأزهريّ في موضع آخر: "أبو تراب (2) - عن بعض العرب - قال: المِرِّيخ: الرّجل الأحمق.
والمِرِّيخ: السَّهم الذي يُغالى به.
والمِرِّيخ: القَرْن الذي في جوف القَرْن.
ويقال له: المَرِيخ.
وقال أبو خيرة: المِرِّيخ والمِرِّيج - بالخاء والجيم جميعاً - القَرْن الداخل ويُجمعان: أَمْرِخةٌ وأَمْرِجة.
وقال أبو تراب: سألت أبا سعيد عن المِرِّيخ والمِرِّيج فلم يعرفهما. قال: وعرف غيره: المِرِّيخ".
(باب اعتقاب الجيم والدّال والشّين)
66- "روى ابن الفرج عن أبي سعيد أنه قال: الارتعاج والارتعاش والارتعاد واحد".
(باب اعتقاب الجيم والزاي)
67- "قال أبو تراب: مضى هجيعٌ من اللّيل، وهزيعٌ، بمعنى واحد".
(باب اعتقاب الجيم والعين واللام)
68- "قال أبو تراب: يقال: هو جِبس عِبْس لِبس: إتباع، ويوم عبوس: شديد".
(باب اعتقاب الجيم والكاف)
69- "قال الأصمعيّ - فيما روى ابن الفرج - الجذّان والكَذّان: حجارة رِخْوة، الواحدة: جَذّانه وكذّانة، ومن أمثالهم السّائرة في الّذي يقدم على اليمين الكاذبة: جَذَّهَا جذّ البعير الصِّلِّيانة، أرادوا أنّه أسرع إليها".
70- "قال إسحاق بن الفرج: سمعت شجاعاً السّلميّ يقول: العبكة: الرجل البغيض الطَّغَامة، الذي لا يَعِى ما يقول، ولا خير فيه.
قال: وقال مُدرك الجعفريّ: هو العَبَجة، جاء بهما في باب الكاف والجيم".
(باب اعتقاب الحاء والخاء)
__________
(1) في بعض نسخ التّهذيب 7/538: ((حكاه ابن الفرج في كتاب الاعتقاب)) .
(2) في بعض نسخ التّهذيب 7/383 ((ابن الفرج)) .(44/191)
71- "أبو سعيد - فيما روى عنه أبو تراب: حَبَجَهُ بالعصا، وخَبَجَه بها، إذا ضربه بها".
72- "قال ابن الفرج: سمعت أبا الجهم الجعفريّ يقول: سَبَحْتُ في الأرض، وسبختُ فيها؛ إذا تباعدت فيها.
قال: وسَبَحَ اليربوع في الأرض إذا حَفَرَ فيها، وسَبَحَ في الكلام إذا أكثر فيه".
73- "قال أبو سعيد المتْح: القَطْع. يقال: مَتَحَ الشيء ومَتَخَه إذا قطعه من أصله، وقال: مَتَحَ بسَلْحه ومَتَخَ به؛ إذا رَمَى به. رواه أبو تراب عنه".
74- "قال ابن الفَرَجَ: مَحَجَ المرأة ومَخَجَها إذا نَكَحَهَا، ومَحَجَ اللبن ومَخَجَه إذا مَخَضَه".
75- "قال ابن الفرج: سمعت جماعة من قيس يقولون: النَّضْحُ والنَّضْخُ واحد، قال: وقال أبو زيد: نضحته ونضخته بمعنى واحد، قال: وسمعت الغنوي يقول: النَّضْح والنَّضْخ، وهو فيما بان أَثَرُهُ وما رَقَّ بمعنى واحد.
قال: وقال الأصمعي: النَّضْخ: الذي ليس بينه فُرَج، والنَّضْحُ أَرَقّ منه".
(باب اعتقاب الحاء والراء)
76- "قال أبو تراب: وسمعت عُتَيّر بن غَرْزَة الأسديّ يقول: اثْعَنجَحَ المَطَرُ بمعنى اثْعَنجَرَ (1) إذا مال وكثر وركب بعضه بعضاً، فذكرته لشمر فاستغربه حين سمعه، وكتبه، وأنشدته فيه ما أنشدني عُتَيِّر لعَدِيّ بن عليّ الغاضريّ في الغيث:
جَوْنٌ تَرَى فيه الرَّوَايَا دُلَّحا
كَأَنّ جِنّانا وبَلْقا ضُرَّحَا
فيه إذا ما جُلْبُهُ تَكَلَّحا
وسحَّ سحّاً مَاؤُهُ فاثْعَنجَحَا
(باب اعتقاب الحاء والسين)
77- "قال أبو تراب: جاء عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال لعمّار: ويحك يا ابن سُمَيَّة بُؤساً لك، تَقْتُلك الفئة الباغية.
__________
(1) في التّهذيب 3/263: ((اثعحنجر)) وهو تحريف أو سهو.(44/192)
[و] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ليلة تبعته (1) وقد خرج من حُجْرَتِها، فنظر إلى سوادها فلحقها، وهي في جوف حُجرتها، فوجد لها نَفَساً عالياً، فقال: وَيْسَها، ماذا لَقِيت اللّيلة؟ "
(باب اعتقاب الحاء والسّين واللام)
78- "قال اليزيديّ: الوَيحُ والوَيْسُ بمنزلة الوَيْل في المعنى. وقال أبو تراب: سمعت أبا السّميدع يقول في هذه الثّلاثة: إنّ معناها واحد".
79- "قال إسحاق [بن] الفرج: الوَيْحُ والوَيْلُ والوَيْسُ بمعنى واحد.
قال: وقال الخليل: ويس (2) كلمة في موضع رأفة واستملاح، كقولك للصّبيّ: ويحه ما أملحه، ووَيْسَه ما أملحه.
قال: وسمعت أبا السميدع يقول: ويحك وويسك ووَيْلك بمعنى واحد.
قال: وقال اليزيدي: الوَيْح والويل بمعنى واحد" (3) .
(باب اعتقاب الحاء والعين)
80- "روى (4) أبو تراب للأصمعي: حَظَبَ على العمل وعَظَب إذا مَرَنَ عليه.
وقال: وقال أبو نصر: عَظَبَتْ يده إذا غلظت على العمل.
قال: وعَظَب جِلْدُه: إذا يبس.
وقال عثمان الجعفريّ: إنّ فلانا لحسن العُظُوب على المصيبة، إذا نزلت به، يعني أنّه حسن التَّصَبُّر جميل العزاء.
وقال مبتكر الأعرابيّ: عَظَب فلان على مالِه، وهو عاظب؛ إذا كان قائماً عليه؛ وقد حَسُنَ عُظُوبُهُ عليه".
81- "روى ابن الفرج عن أبي سعيد الضّرير أنه قال: الأَرْصَحُ والأَرْصَعُ والأَزَلُّ: واحد.
قال: وقال ذلك أبو عمرو.
ويقال: الرَّصَعُ: قرب ما بين الوَرِكين، وكذلك الرَّصَحُ والرَّسَحُ والزَّلَل".
82- "قال ابن الفَرَج: سمعت خليفة الحصينيّ يقول: المُقاذحة والمقاذعة: المشاتمة، وقاذحني فلان وقابحني: شاتمني".
(باب اعتقاب الحاء والكاف)
__________
(1) في التهذيب 5/295: ((تبعت النبي)) .
(2) في التّهذيب 5/294 ((وليس)) والتصويب من العين 7/332.
(3) التّهذيب 5/294، ينظر: اللسان (ويح) 2/639.
(4) في التّهذيب 2/302 ((رواه)) والتصويب من الهامش.(44/193)
83- "قال أبو تراب: قال أبو عمرو وابو سعيد في باب الحاء والكاف: السُّلَحَة والسُّلَكَة: فَرْخ الحَجَل، وجمعه سِلْحانٌ وسِلكانٌ".
(باب اعتقاب الخاء والهاء)
84- قال ابن الفرج: أمر مُدَخْمَسٌ ومُدَهْمَسٌ: إذا كان مستوراً".
85- "قال أبوتراب - عن أصحابه: شباب مُطْرَهِمٌّ ومُطْرَخِمٌّ: بمعنى واحد".
(باب اعتقاب الدّال والذّال)
86- "أبو تراب عن أبي المقدام السّلميّ: جَدَفَتِ السَّماءُ بالثلج، وخَذَفَتْ، تَجْدِفُ وتَخْذِفُ، إذا رَمَتْ به" (1) .
87 - "روى إسحاق بن الفرج عن شبانة الأعرابيّ أنه قال: غُلامٌ أُملودٌ وأفلودٌ إذا كان تاماً محتلماً شَطْباً".
(باب اعتقاب الذّال والزّاي)
88- "قال إسحاق بن الفرج: تقول العرب: أَقْزَعَ له في المنطق، وأَقْذَعَ، وأَزْهَفَ؛ إذا تعدَّى في القول".
(باب اعتقاب الذّال والضّاد)
89- "روى ابن الفرج عن بعض العرب: غَضَضْتُ منه وغَذَذْتُ؛ أي: نقصت".
(باب اعتقاب الرّاء واللام)
90- "قال أبو تراب: قال شجاع: الجِرْمَاق والجِلْماق: ما عُصِبَ به القوس من العَقَب. والجرامقة: جيل من النّاس"
91- "أبو تراب: مَرَّ مَرّاً دَرَنفَقَا ودَلَنفَقَا، وهو مَرٌّ سريع شبيه بالهَمْلَجَة (2) . وأنشد قول عليّ بن شيبة الغَطَفَانيّ:
فَراحَ يُعَاطِيهُنَّ مَشْياً لَنفَقَا
وهُنَّ بِعِطْفَيهِ لَهُنَّ خَبِيبُ"
92- "أبو تراب عن زائدة: يقال: رَدَّه عن الأمْر ولَدَّه، أي: صَرَفَهُ عنه برفق، قال: والرِّدُّ: الظّهْر والحَمُولَةُ من الإِبِل".
93- "يقال: انشمل الرّجل في حاجته، وانشمر فيها، وأنشد أبو تراب:
وَجْنَاءُ مُقْوَرَّةُ الألياطِ يَحْسَبُها
من لم يكُن قبلُ رَاها رَأْبَةً جَمَلاً
__________
(1) التهذيب 10/673، وفي هذا النصّ اعتقاب آخر بين الجيم والخاء، وقد أوردته هناك في المادة ذات الرقم (62) .
(2) الهَمْلَجَةُ: حُسْنُ سير الدّابّة في سرعة وبخترة. ينظر: اللسان (هملج) 2/393/ 394.(44/194)
حَتَّى يَدُلُّ عليها خَلْقُ أَرْبَعَةٍ
في لازقٍ لَحِقَ الأقْرَابَ فانشَمَلا
أراد أربعة أخلاف في ضرعٍ لازقٍ لَحِقَ أقرابها فانشمَرَ وانضمّ.
وقال لآخر:
رَأَيْتُ بَنِي العَلاَّتِ لما تَضَافَرُوا
يَحُوزون سَهْمِي دُونَهُم في الشَّمائِلِ
أي: يُنزلونني بالمنزلة الخسيسة، والعرب تقول: فلان عندي باليمين، أي بمنزلة حسنة، وإذا خَسَّتْ منزلته قال: أنت عندي بالشِّمال.
وقال عديّ بن زيد يخاطب النّعمان بن المنذر، ويفضّله على أخيه:
كَيْفَ تَرْجُو رَدَّ المُفِيضِ وقَدْ أخَّـ
رَ قِدْحَيْكَ في بَيَاضِ الشِّمالِ
يقول: كنت أنا المُفيضَ بقدح أخيك وقِدْحِك ففَوّزْتُك عليه، وقد كان أخوك قد أَخَّرَك، وجعل قِدْحَك بالشِّمَال لئلا يَفوزَ.
قال: ويقال: فلان مشمول الخلائق، أي كريم الأخلاق، أُخِذَ من الماء الّذي هَبّتْ به الشَّمَال فَبَرَّدَتْه".
94- "أبو تراب: قال الأصمعيّ: إنّه لمُطْرَخِمُّ ومُطْلَخِمُّ، أي: متكبِّرٌ ومتعظِّمٌ وكذلك: مُسْلَخِمٌ".
95- "عُلْجُوم وعُرْجُوم؛ عن أبي عمرو وأبي تراب".
96- "قال ابن الفرج: يقال: فَرْطَح القُرْصَ وفَلْطَحَه، إذا بسطه، وأنشد لرجل من بلحارث بن كعب يصف حيَّة:
جُعِلَتْ لَهَازِمُهُ عِزِينَ ورأسُه
كالقُرص فُرْطِحَ من طَحِين شعير
97- قال الأزهريّ: "قال الأصمعيّ فيما روى عنه أبو تراب - أيضاً: القَندَفِيلُ: الضَّخم:
وقال المخروع السَّعديّ:
مَائِرة الضَّبْعَينِ قَنْدَفِيلُ
وقال ابن دريد: القَنْدَفِيرُ: العَجُوز"
98- "أبو تراب: نَمَر في الجَبَلِ والشَّجَر ونَمَل، إذا عَلا فيها".
99- "روى أبو تراب للأصْمَعِيِّ: هَدَر الغُلامُ وهَدَلَ: إذا صَوَّت، قال: وقال أبو السَّمَيْدَع: ذاك؛ (1) إذا أراغ الكلام وهو صغير، وأنشد قول ذي الرُّمَّة:
طَوَى البَطْنَ زَيّامٌ كَأنَّ سَحِيلَه
عَلَيهُنَّ إذ وَلَّى هَدِيلُ غُلام
__________
(1) أي هذا القول الّذي تقدّم وهو ((هَدَرَ الغلام وهَدَل)) .(44/195)
أي: غِناء غلام".
100-"قال أبو تراب أنشدني أبو خليفة الحُصينيّ لرجل يصف الجُعَلَ:
أَسْوَدُ كاللّيلِ وَلَيْسَ باللَّيْلْ
لَه جَناحان وليس بالطَّيْرْ
يَجُرُّ فَدَّانا وليس بالثَّوْر
فجمع بين الرّاء واللام في القافية، وشَدَّد الفدّان" (1) .
(باب اعتقاب الراء والميم)
101- "قال أبو تراب: سَمْعتُ رافعاً يقول: لي عنده خُرَاشةٌ وخُمَاشَةٌ؛ أي: حَقٌّ صغير" (2) .
102- "قال أبو تراب: قال شُجَاع: سار القومُ وساموا، بمعنى واحد".
103- "قال ابن الفرج: قال الأصمعي: تركت القوم في غَيثرة وغَيثمة؛ أي: في قتال واضطراب".
104- "قال إسحاق بن الفرج: سمعت أبا السَّمَيدع يقول: كَمَعَ الفَرَسُ والرَّجُلُ والبعير في الماء وكرع، ومعناهما شرع".
105- "وقال ابن الفرج: قال الأصمعيّ: الوغرُ والوغم الذَّحْلُ. قال: وقال بعضهم: ذهب وَغَرُ صدره ووَغَمُ صدره؛ أي: ذهب ما فيه من الغِلِّ والعَداوة".
(باب اعتقاب الرّاء والنّون)
106- "قال إسحاق بن الفرج: قال الأصمعيّ: يقال: ما أصبت منه حَبَرْبراً ولا حَبَنبَراً؛ أي: ما أصبت منه شيئاً.
قال: وقال أبو عمرو: يقال: ما فيه حَبَرْبَرٌ ولا حَبَنبَرٌ، وهو أن يخبرك بالشيء فتقول ما فيه حَبَنْبَرٌ".
107- "قال ابن الفرج: سمعت بعض بني سليم يقول: قد رَجَعَ كلامي في الرّجل ونجَعَ فيه، بمعنى واحد.
قال: ورجع في الدّابّةِ العَلَفُ ونَجَعَ؛ إذا تَبَيَّنَ أثره.
قال: والتّرجيع في الأذان: أن يكرّر قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله.
ورَجْع الوَشْم والنُّقوش وترجيعه: أن يعاد عليه السَّواد مَرَّةً بعد أُخرى".
__________
(1) التّهذيب 14/141، وينظر: اللسان (فدن) 13/321 وبهذا يرى أبو تراب أن الجمع بين الراء واللام في القافية ضرب من الاعتقاب، وقد أشرت إلى توسّعه في مفهوم الاعتقاب في الحديث في نقد النصوص، من الدراسة.
(2) التّهذيب 7/80.(44/196)
108- "قال أبو تراب: سَمِعت أبا السَّمَيْدَع يقول: المَنجُولُ الّذي يُشَقّ من رجليه إلى مَذْبَحِهِ، والمَرْجُول: الّذي يُشَقُّ من رجليه ثم يُقْلَبُ إهابه".
109- "قال ابن الفرج: الضِّبْن والضِّبر: الإبط، وأنشد:
ولا يَئُوبُ مُضْمَراً في ضَبْرِي
زَادي وقَدْ شَوَّلَ زادُ السَّفْرِ
أي: لا أخبأُ طعامي في السَّفَرِ فأؤوب به إلى بيتي، وقد نَفِدَ زادُ أصحابي، ولكن أطعِمُهم إياه.
ومعنى: شَوَّلَ: خَفَّ وقَلَّ، كما تُشَوِّل المَزَادةُ، إذا بقي فيها جُزَيعةٌ من ماء".
110- "رَوى أبو تراب للأصمعي: إنه لمنيع الفِنطِيسة والفِرْطيسة، وهي الأرنبة؛ أي: هو منيع الحوزة حَمِيُّ الأنف.
وقال أبو سعيد: فِنطيسة الذِّئب وفِرْطِيسته: أَنْفُه".
111- "قال أبو تراب: سمعت مُزَاحماً يقول: تفكّن وتفكّر: واحد".
112:- "قال أبو تراب: قال أبو عمرو: الكَدَنُ أن تُنزحَ البئر فيبقى الكَدَرُ، فذلك الكَدَن.
يقال: أدرِكوا كَدَن مائكم؛ أي: كَدَرَه.
ويقال: كَدِن الصِّلِّيان إذا رُعِيَ فُرُوعُهُ وبقيت أُصُولُه".
(باب اعتقاب الرّاء والهاء)
113- "قال أبو سعيد: هَدَّمَ (1) فلان ثوبه ورَدَّمَه: إذا رَقَّعَهُ. رواه أبو تراب (2) عنه" (3) .
114- "قال ابن الفرج: المِهزام: عصا قصيرة، وهي المرزام، وأنشد:
فَشَامَ فيها مِثْلَ مِهزامِ العَصَا
ويُرْوَى: مثل مِرْزام".
115- "روى أبو تراب لبعضهم: نَزَّرَه عن كذا؛ أي: نَزَّهَهُ" (4) .
(باب اعتقاب الراء والواو)
116- "روى أبو تراب (5) لبعض العرب: رُمْحٌ مَرْكوزٌ، وموكوزٌ بمعنى واحد، وأنشد:
والشَّوْكُ في أَخْمصِ الرّجلين مَوكُوزُ".
__________
(1) في التّهذيب 6/224: ((هَدَمَ)) وفي اللسان (هدم) 12/605: ((هَدَّم)) .
(2) في بعض نسخ التّهذيب 6/224: ((ابن الفرج)) وكذا في اللسان (هدم) 12/605.
(3) التّهذيب 6/224.
(4) التّهذيب 13/169.
(5) في بعض نسخ التّهذيب 10/323: ((روى ابن الفرج))(44/197)
(باب اعتقاب الرّاء والألف اللّينة)
117- "قال أبو تراب (1) : سمعت مدركاً يقول: رجل أجْخَى وأجخرُ إذاكان قليل لحم الفَخِذَين، وفيهما تخاذل من العظام، وتَفَاحُج".
(باب اعتقاب الزّاي والسّين)
118- "قال أبو تراب: سمعت أبا السميدع الحصيني يقول: الرِّجز والرِّجس: الأمر الشّديد ينزل بالنّاس".
119- "قال أبو تراب: امّلَزَ من الأَمْر، وامَّلَسَ: إذا انفلت، وقد مَلَّزتُه ومَلَّستُهُ: إذا فعلت به ذلك".
(باب اعتقاب الزّاي والسّين والصّاد)
120- "أبو تراب - عن الأصمعي: يقال: بَخَزَ عَيْنَه وبَخَسَها: إذا فقأها، وبخصها كذلك".
(باب اعتقاب الزّاي والشّين)
121- "قال أبو تراب: قال عَرَّامٌ: نِيَّةٌ زَمَخٌ وشَمَخٌ، وزَمُوخٌ وشموخٌ. وقد زمخ بأنفه وشمخ".
(باب اعتقاب الزّاي والضّاد)
122- "قال مُدْرِك الكلابيّ فيما روى ابن الفرج (2) ارتمزت
الفرس بالرّجل، وارتمضت به؛ أي: وثبت به".
123- "روى أبو تراب للخليل: قال: التّعريز كالتّعريض في الخُصُومة".
124- "أبو تراب عن مصعب الضِّبابيّ: تقوَّزَ البيت وتَقَوَّضَ، إذا انهدم، سواءٌ كان بيتَ مَدَرٍ أو شَعَرٍ".
125- "قال ابن الفرج: جاء يَهِزُّ المشي ويَهُضُّه؛ إذا مشى مشياً حسناً في تدافع".
(باب اعتقاب الزّاي والظّاء)
126- قال الأزهريّ: "قال أبو تراب: سمعت بعض بني سُلَيم يقول: حَمَزَه وحَمَظَه؛ أي: عَصَرَه. جاء به في باب الظّاء والزّاء" (3) .
باب اعتقاب الزّاي والفاء
127- "قال أبو تراب: سمعت مبتكراً يقول: زاخرته فزخرته،
وفاخرته ففخرته"
(باب اعتقاب الزّاي والقاف)
128- "أبو تراب: قال الأصمعي: زَأَبْتُ وقَأَبْتُ؛ أي: شَرِبت".
(باب اعتقاب الزّاي واللام)
__________
(1) في بعض نسخ التّهذيب 7/460: ((قال ابن الفرج ... ))
(2) في بعض نسخ التّهذيب 12/34: ((أبو تراب)) وكذا في اللسان (رمض) 7/162.
(3) التّهذيب 4/461، وينظر: المحيط في اللغة 3/64، وينظر: اللسان (حظم) 12/140.(44/198)
129- "روى ابن الفرج عن أبي السّميدع، أخذت بِزَغَبِ رقبته، ولَغَبِ رقبته، قال: وهي باللام في تميم، قال: وذلك إذا تبعه وقد ظنّ أنّه لم يدركه، فلحقه، أخذ برقبته أولم يأخذ".
130- "قال الكسائيّ وأبو عمرو: "الزّقْمُ واللَّقْمُ: واحد، والفعل: زَقَمَ يَزْقُمُ ولَقِمَ يَلْقَم. حكى ذلك عنهما إسحاق بن الفرج".
(باب اعتقاب السّين والشّين)
131- قال الأزهريّ: "قال ابن الفرج: قال الفراء: يقال: أَلْحَقَ الحِسَّ بِالإسّ.
قال: وسمعت بعض بني أسد يقول: أَلْحَقَ الحِشَّ بِالإِشِّ.
قال: كأنّه يقول: ألحق الشَّيء بالشّيء؛ إذا جاءك شيء من ناحية فافعل مثله. جاء به أبو تراب في باب الشَّين والسّين وتعاقبهما" (1) .
132- "قال ابن الفَرَج: قال ابن الأعرابيّ: الجَحْشُ: الجِهَادُ.
قال: وتُحَوَّل الشّين سينا، وأنشد:
يَوْماً تَرَانَا في عِرَاكِ الجَحْشِ
نَنْبُو بأَجْلال الأُمُورِ الرُّبْشِ
أي: الدّواهي العِظام".
133- "قال أبو تراب: سمعت أبا مِحجَنٍ وباهلياً يقولان: تَجَشَّمْتُ الأمر وتَجَسّمْتُه؛ إذا حملتَ نفسك عليه".
134- "قال أبو تراب: سَمِعْتُ عَرَّاما يقول: هو الرَّسْمُ والرَّشْمُ للأثر، ورسم على كذا ورشم؛ أي: كتب.
وقال أبو عمرو: يقال للذي يطبع به: رَوْسَم ورَوْشَم، وراسُوم وراشُوم، مثل رَوْسَم الأكداس ورَوْشَم الأمير".
135- "قال أبو تراب: سَمِعْتُ عَرَّاما يقول: الرَّسْمُ والرشمُ: الأثر، ورَسَم على كذا، ورَشَمَ؛ أي كتب.
ويقال للخاتم الّذي يُخْتَم به البُرّ: الرَّوْسَم، والرَّوْشَم".
136- "رَوَى أبو تراب: قال (2) ابن الأعرابيّ: تركت القوم قد ارتهسوا، وارتهشوا، وارتهست رِجْلا الدّابّة، وارتهشتا؛ إذا اصطَكَّتا، وضرب بعضها بعضاً".
__________
(1) التّهذيب 3/395، وينظر: اللسان (حشش) 6/285، وتحبير الموشين في التعبير بالسين والشين 4أ.
(2) كذا في التّهذيب 6/122 والسياق يقتضى أن يقول: قال: قال ...(44/199)
137- "روى ابن الفرج (1) لأبي عمرو: السَّوْذق والشّوذق:
السِّوَار. قال أبو إسحاق (2) : السّوذانق والشّوذانق: الصّقر".
138- "أبو تراب: سَرْهَفَ غذاءه، وشرهفه، إذا أحسن غِذاءه".
139- "قال أبو سعيد: سَطَأَ الرّجلُ المرأة وشَطَأَها: إذا وَطِئَها، رواه أبو تراب عنه".
140- "أبو تراب - جماعة من أعراب قيس-: الشِّلَّخْفُ والسِّلّخْفُ: المضطرب الخلق".
141- "ابن الفرج: الشِّلّعْقُ والسِّلّعْفُ: المضطرب الخلق".
142- "أبو تراب: قال ابن الأعرابيّ: السَّناسِن والشَّناشِن: العِظامُ، وقال الجَرَنفَشُ:
كَيْفَ تَرَى الغَزْوَةَ أَبْقَتْ مِنّي
شَنَاشِنا كَخَلَقِ المِجَنِّ"
143- "قال أبو تراب: العَشَقُ والعَسَقُ، بالشّين والسّين: اللّزوم
للشّيء لا يفارقه، ولذلك قيل للكَلِيف عَاشِقٌ، للزومه هَوَاه".
144- "قال ابن الفرج: قال الخليل: المعَشُّ: المطلب.
قال: وقال غيره: المعَسُّ: المطلب".
145- "قال أبو تراب: سمعت الجعفريَّ يقول: نُخِشَ لحم الرجل، ونُخِسَ؛ أي: قَلَّ.
قال: وقال غيره: نَخَشَ - بفتح النّون".
(باب اعتقاب السّين والشّين والياء)
146- "قال أبو تراب: قال خليفة الحصينيّ: يقال: تَعَامَسْتُ عن الأمر وتَعَامَشْتُ وتعاميت بمعنى واحد".
(باب اعتقاب السّين والصّاد)
147- "قال أبو تراب (3) : قال الغنويّ: سخا النّار وصخاها؛ إذا فتح عينها".
148- "قال أبو تراب: قال أبو عبيدة: جاء فلان يضرب أَسْدَرَيه وأَصْدَرَيه؛ أي: عِطْفَيْهِ، وذلك إذا جاء فارغاً".
149- "قال أبو تراب: قال النضر: هو صُقْع الرّكيّة وأصقاعها، لنواحيها. قال: ويقال سُقْعٌ، والدِّيكُ يَسْقَعُ ويَصْقَعُ" (4) .
__________
(1) في بعض نسخ التّهذيب 8/311: ((روى أبو تراب ... )) وكذا في اللسان (شذق) 10/173.
(2) في بعض نسخ التّهذيب 8/311: ((أبو تراب)) .
(3) في بعض نسخ التّهذيب 7/487: ((ابن الفرج))
(4) المصدر السابق 1/183.(44/200)
150- "قال أبو تراب: قال الفَرَّاء: سُندوق وصُندوق، ويجمع صناديق وسناديق".
151- "روى أبو تراب للخليل أنّه قال: فريصة الرّجل: الرّقبة. وفريسُها: عروقها.
وفي حديث قيلة: أن جُوَيرِيَةً لها كانت قد أخذتها الفَرْصَةُ.
قال أبو عبيد: العامَة تقول لها: الفَرْسه - بالسَين - المسموع من العرب بالصّاد، وهي ريح الحَدَبَةِ.
قال: والفَرْس - بالسين - الكَسْر، والفَرْص: الشَّقّ".
152- "قال أبو تراب: قال شَبانة (1) : فَصَلَتِ المرأةُ وَلَدَهَا وفسلته؛ أي: فطمته".
(باب اعتقاب السّين والطّاء)
153- "روى إسحاق بن الفرج عن الأصمعيّ: بعته المَلَسَى والمَلَطَى، وهو البيع بلا عُهدة".
(باب اعتقاب السين والعين)
154- "قال أبو الحسن اللّحيانيّ: سمعت العامريّة تقول في كلامها: تركتهم (2) سامراً بمكان كذا وعامراً.
قال أبو تراب: فسألت مُصْعباً عن ذلك فقال: مقيمين مجتمعين".
155- "قال ابن الفرج: سمعت أبا السَمَيدع يقول: تنطّع في الكلام وتنطّس؛ إذا تأنق فيه".
(باب اعتقاب السّين والفاء)
156- "أبو تراب عن الحصينيّ: ذهب منّي الأمرُ فلْتَةً وسَلْتةً؛ أي: سبقني وفاتني".
(باب اعتقاب السين والقاف)
157- "قال أبو تراب: قال أبو عبيدة: به أُلاقٌ وأُلاسٌ، من الأَوْلَق والألْس، وهو الجنون".
158- "قال إسحاق بن الفرج: قال أبو عمرو: طَريقٌ مدعوس ومدعوق، وهو الّذي دعقه النّاس. وقال الأصمعيّ: طريق دَعْسٌ ودَعْقٌ؛ أي: مَوْطُوء كثير الآثار".
159- "قال أبو تراب: قال أبو زيد: القِندَأْو: القصير من الرجال، وهم قِندَأْون. والسِّنْدَأْو: الفسيح من الإبل في مشيه، والجمع
السِّنْدَأوون".
__________
(1) في التّهذيب 12/94 ((شَبَّاية)) بالياء، وهو تصحيف. ينظر: اللسان (ملد) 3/410، و (دغس) 6/85، و (دغس) 6/ 90، (دهمس) 6/ 103.
(2) في التّهذيب 2/388: ((تركتم)) والتصويب من اللسان (سمر) 4/377.(44/201)
160- "قال مُدْرِك السّلميّ فيما روى ابن الفَرَج (1) عنه: مَلَسني الرّجل بلسانه وملقني ودَرَقَني؛ أي: ليّنني وأصلح منّي، يَدْرُقُني ويملُسُني ويملُقُني".
(باب اعتقاب السين والكاف)
161- "روى أبو تراب عن الأصمعي: يقال: اختصر فلان الجارية، وابتسرها وابتكرها (2) ؛ إذا اقتَرَعَها (3) قبل بلوغها".
162- "قال أبو تراب: سمعت الغنويّ يقول: ناقة ذات نسناس؛ أي: ذات سير باقٍ.
قال: ويقال: بلغ من الرَّجُل نَسِيسُهُ؛ إذا كان يموت وقد أشرف على ذهاب نكيسته (4) وقد طُعِنَ في حَوْصِهِ مثلُه".
(باب اعتقاب السّين واللام)
163- "قال ابن الفرج: قال السّلميّ: غُسّ له الخِنجَرَ والسِّنانَ، وغُلَّهُ له؛ أي: دُسَّهُ له، وهو لا يَشْعُر به".
164- قال الأزهريّ: "قال أبو تراب: قال الأصمعيّ: كَلَّسَ على القوم، وكَلَّلَ وصَمَّمَ؛ إذا حمل.
وقال أبو الهيثم: كَلَّسَ فلان عن قِرْنِهِ وهَلَّلَ؛ إذا جَبُنَ وفرَّ عنه. قلت (5) :وهذا أصح مِمّا روى أبو تراب".
(باب اعتقاب السّين والميم)
165- "قال أبو تراب: قال بعض أعراب قيسٍ: سَلَجَ الفَصِيلُ النّاقةَ ومَلَجَها؛ إذا رَضَعَها".
166- "أبو تراب؛ عن مصعب: امْتَلَّ واسْتَلَّ، وانمَلَّ وانسَلَّ، بمعنى واحد".
(باب اعتقاب السّين والهاء)
167- "قال ابن الفرج: سمعت واقعا السّلميّ يقول: انهلَتَ يعدو، وانْسَلَتَ يعدو.
قال: وقال الفرّاء: سَلَتَهَ وهَلَتَهُ. وقال اللّحيانيّ: سَلَتَ الدَّمَ وهَلَتَه: قَشَرَه بالسّكّين".
(باب اعتقاب الشّين والصّاد)
168- "أبو تراب: سمعت مبتكراً يقول: الوَقَشُ والوَقَصُ؛ صِغَارُ الحَطَبِ الّذي يُشَيَّعُ به النّار"
__________
(1) في بعض نسخ التّهذيب 9/30: ((أبو تراب عن مدرك السّلميّ)) وكذا في اللسان (درق) 9/69.
(2) قوله: ابتسرها وابتكرها هما كلمتا الاعتقاب.
(3) بالقاف - كافترعها بالفاء.
(4) في اللسان (نسس) 6/231، ((نكيثته)) .
(5) القائل: الأزهريّ.(44/202)
(باب اعتقاب الشّين والغين)
169- "أبو تراب: سمعت السّلميّ يقول: أَشْرَيتُ بين القَوم وأغريت، وأشريته به فَشَرِيَ، مثل أَغْريْتُه به فَغَرِيَ".
170- "قال إسحاق بن الفرج: سمعت شُجَاعاً وحَتْرَشاً يقولان: هذه كلمة فاغية فينا؛ أي: فاشية".
(باب اعتقاب الشّين والفاء)
171- "روى ابو تراب عن الضّبابيّ: لَعَنَ الله أُمَّا شَطَأَت به، وفَطَأَتْ به، أي: طَرَحَتْهُ".
172- "روى أبو تراب، عن أبي الوازع: نَدَفَ القطن ونَدَشَه، بمعنى واحد، قال رؤبة:
في هِبْرِياتِ الكُرْسُفِ المَندُوشِ"
173- "قال أبو تراب قال الأصمعيّ: ماءٌ لا يُنكَفُ ولا يُنزَح.
قال: وقال ابن الأعرابيّ: نَكَفَ البِئرَ ونكَشَها؛ أي: نزحها".
(باب اعتقاب الشّين واللام)
174- "قال ابن الفرج (1) : سمعت الغَنَوِيّ يقول: المُنَقِّشَةُ والمُنَقِّلَةُ من الشِّجَاجِ الّتي تَنَقَّلُ منها العظام".
(باب اعتقاب الشّين والنّون)
175- "أبو تراب: إنّ فلاناً لَيَمْتَشُّ من فلان، ويَمْتَشِنُ من
فلان؛ أي: يُصِيبُ منه"
(باب اعتقاب الصّاد والضّاد)
176- قال الأزهريّ: "رَوَى أبو تراب: الكسائيّ: يقال: هذه الصِّئْبِلُ، للدّاهية. قال: وهي لغة لبني ضَبَّةَ:
قال: وهي بالضّاد أعرف.
قلت: وأبو عبيد رواه الضِّئبِل - بالضّاد - ولم أسمعه بالصّاد إلاما جاء به أبو تراب".
177- "قال أبو تراب: سمعت زائدة يقول: صَدَّه عن الأمر وضَدَّه، أي: صرفه عنه بِرِفْق".
178- "أبو تراب: قال الأصمعيّ: مضمض إناءه ومصمصه، إذا حَرَّكَهُ. وقال اللّحيانيّ: إذا غسله".
(باب اعتقاب الصّاد والطّاء)
179- "قال أبو تراب: الشَّطائب والشَّصَائب: الشّدائد".
180- "أبو سعيد: هي الشَّصَائب والشَّصائصُ (2) ، للشّدائد. قال أبو تراب: وقال غيره: هي الشّصائب والشّطائب، للشّدائد".
__________
(1) في اللسان (نقش) 6/358: ((قال أبوتراب))
(2) هاتان ليستا كلمتي الباب، والمراد ما بعدهما.(44/203)
181- "قال ابن الأعرابيّ: أنشد أبو محضة أبياتاً ثمّ قال: هذه بِصَراهُنَّ وبِطَرَاهنَّ.
قال أبو تراب: وسألت الحُصِينيّ عن ذلك فقال: هذه الأبيات بِطَرَاوَتِهِنَّ وصَرَاوَتِهِنَّ؛ أي: بجِدَّتِهِنَّ وغَضَاضَتِهنّ" (1) .
182- "قال المؤرّج - فيما روى له أبو تراب: النِّصَع والنِّطَع لواحد الأنطاع (2) وهو ما يُتخذ من الأَدَم. وأنشد لحاجز بن الجعيد الأزديّ:
فَنَنحَرُهَا ونَخْلِطُهَا أُخْرَى
كَأَنَّ سَرَاتَها نِصَعٌ دَهِين
قال: ويقال: نِصْع بسكون الصّاد".
(باب اعتقاب الصّاد والفاء)
183- "روى ابن الفرج لابن الأعرابيّ في باب الصّاد والفاء:
فَئِبْتُ وصَئِبْتُ، إذا رَدِيتَ من الماء".
184- "قال أبو تراب: سمعت أبا السَّمَيدع يقول: فَئِمْتُ في الشَّرَابِ وصَئِمْتُ، إذا كَرَعْتُ فيه نفساً".
(باب اعتقاب الصّاد والقاف)
185- "قال أبو تراب: قال الأصمعيّ: يقال: شَرِب حتّى نَصَعَ وحتّى نَقَع، وذلك إذا شَفَى غليله".
(باب اعتقاب الصّاد والكاف)
186- "قال أبو تراب: قال أبو محجن وغيره من الأعراب: صَلَتُّ الفَرَسَ وكلَتُّهُ؛ إذا ركضته.
قال: وصببته: مِثله، ورجل مِصْلتٌ مِكَلَتٌ إذا كان ماضياً في الأمور".
(باب اعتقاب الصّاد واللام)
187- "قال أبو تراب: قال حترش: فصَصْتُ (3) كذا من كذا؛ أي: فصلته: وانفَصَّ منه؛ أي: انفَصَلَ، وافْتَصَصْتُهُ: افْتَرَزْتُه".
(باب اعتقاب الصّاد والهاء)
188- "روى أبو تراب لأبي عمرو قال: المهروع: المصروع من الجهد وقاله الكسائي".
(باب اعتقاب الضّاد والطّاء)
__________
(1) المصدر السابق 12/227.
(2) أصاب هذه الكلمة والتي قبلها بعض التحريف في مطبوعة التّهذيب 2/37.
(3) في التّهذيب 12/121 ((قصصت)) (بالقاف) وهو تصحيف، يدلّ عليه السّياق وما في اللسان (فصص) 7/67، والتاج (فصص) 4/416.(44/204)
189- "قال ابن الفرج: قال أبو عمرو: الإحباض: أن يَكُدَّ الرّجل رَكِيَّته فلا يَدَعُ فيها ماء، قال: والإِحباط: أن يذهب ماؤها فلا يعود كما كان، قال: وسألتُ الحصينيّ عنه، فقال: هما بمعنى واحد".
190- أبو تراب عن أبي سعيد البغداديّ، قال: الأنواضُ والأنواطُ واحد، وهي ما نُوِّط على الإبل إذا أُوقِرَتْ، وقال رُؤبة:
جاذَبْنَ بالأصْلابِ والأَنْوَاضِ"
191- "قال أبو تراب: سَمِعتُ الباهليّ يقول: وَخَطَهُ الشَّيْبُ، ووَخَضَهُ، بمعنى واحد".
(باب اعتقاب الضّاد والظّاء)
192- "قال أبو تراب: سمعت أعرابياً من أشجَعَ يقول: بهضني هذا الأمر وبَهَظَنِي؛ أي: فدَحَني.
قال: ولم يتابعه على ذلك أحد، والله أعلم".
193- "قال بعض الكلابيّين - فيما روى أبو تراب: تماضَّ القوم وتماظُّوا، إذا تلاحَوا وعَضَّ بعضهم بعضاً بألسنتهم".
(باب اعتقاب الضّاد والعين)
194- "قال أبو تراب: سمعت الغَنَويّ يقول: العَمَدُ والضَّمَدُ: الغضب".
195- "قال أبو تراب: قال أبو زيد والأصمعيّ معاً: سمعت ضَوَّةَ القَوْمِ وعَوّتَهُم؛ أي: أصواتَهم".
(باب اعتقاب الضّاد والغين)
196- "أبو تراب: قال الأصمعيّ: أَغَدَّ الرجُلُ فهو مُغِدٌّ، وأضَدَّ فهو مُضِدٌّ؛ أي: غضبان".
(باب اعتقاب الضّاد والفاء)
197- "روى ابن الفرج عن بعضهم: غَضَضْتُ الغُصْنَ، وغضفته، إذا كسرته، فلم تُنعِم كسرَهُ" (1) .
(باب اعتقاب الضّاد والكاف)
198- "روى أبو تراب للأصمعيّ: هو آرَضُهُم أن يفعلَ ذاك، وآركُهُم أن يفعَلَهُ؛ أي: أخلَقُهُم.
قال: ولم يبلغني ذلك عن غيره".
(باب اعتقاب الضّاد واللام)
199- "روى أبو تراب للفراء: رَجُل جَلْدٌ، ويبدلون اللام ضاداً: رَجُل جَضْدٌ".
200- "قال ابن الفرج: قال الفراء: يقال: اضجعتُه فاضطجع.
__________
(1) التّهذيب 16/38، وينظر: الإبدال لأبي الطَيّب 2/275، واللّسان (غضض) 7/199.(44/205)
قال: "وبعضهم يقول: فالطجع (1) بإظهار اللام، وهو نادر. قال: وربّما أبدلوا اللام ضاداً كما أبدلوا الضّاد لاماً، قال بعضهم: الطِراد واضطِرادُ، لطراد الخيل.
قال: "وروى إسحاق عن المعتمر بن سليمان عن ليثٍ عن مجاهدٍ والحكم قالاً: إذا كان عند اضطرادِ، وعند ظلّ السّيوف أجزَى الرّجل أن تكونَ صَلاته تكبيراً. قال: وفَسَّرَهُ ابن إسحاق:
الطّراد".
201- "قال أبو تراب (2) :قال أبو زيد: أضهدت بالرّجل
إضهاداً، وألهدت به إلهاداً، وهو أن تجور عليه وتستأثر".
(باب اعتقاب الطّاء والظّاء)
202- قال الأزهريّ: "قال أبو تراب: سمعت الأَشْجَعِيَّ يقول: بَهَظَنِي الأمْرُ وبَهَطَنِي (3) بمعنى واحد.
قلت: ولم أسمعها بالطّاء لغيره".
203- "روى أبو تراب عن الأصمعيّ أنّه قال: لا تذهب بما صنعت طَلَفاً ولا ظَلَفاً؛ أي: باطلاً".
204- "قال أبو تراب (4) : قال أبو عمرو: المُغَطْغَطَةُ والمُغَظْغَظَةُ – بالطّاء والظّاء -: القِدْرُ الشّديدة الغليان".
(باب اعتقاب الطّاء والعين)
205- "روى ابن الفرج (5) لبعض بني كلاب: أنّه قال: مررت على عَرَقَة الإبل وطرقتها؛ أي: على أثرها" (6) .
(باب اعتقاب الطّاء والغين)
__________
(1) في التّهذيب 1/334: ((فالضجع)) بالضّاد، وهو تحريف، والتّصحيح من اللّسان (ضجع) 8/219، وهو ما يقتضيه السياق.
(2) في اللسان (ضهد) 3/266: ((روى ابن الفرج لأبي زيد....))
(3) في التّهذيب 6/181: ((بهظني)) بالظّاء المعجمة، وهو تصحيف طباعي، والتصويب من هامشه، وقد تقدمت هذه المادة في باب الضاء والظّاء، وهي هنا برواية أخرى مختلفة.
(4) في بعض نسخ التّهذيب 16/59: ((روى ابن الفرج لأبي عمرو ... )) .
(5) في بعض نسخ التّهذيب 16/238: ((روى أبو تراب)) .
(6) المصدر السابق 16/238.(44/206)
206- "أبو تراب عن الأصمعيّ: غَسَمَ الليلُ وأَغْسَمَ إذا أَظْلَمَ. قال: والغَسَم والطَّسَم عند الإمساء، وفي السّماء غُسَمٌ من سحاب وأَغْسَامٌ، ومثله أَطْسَامٌ من سَحاب ودُسَمٌ وأدسامٌ، وطُلَسٌ من سحاب، وقد أغسمنا في آخر العَشِيِّ".
(باب اعتقاب الطّاء والقاف)
207- "قال أبو تراب: سمعتُ بعضَهم يقول: احتَطَبَ عليه في الأمر واحتَقَبَ بمعنى واحد" (1) .
208- قال الأزهريّ: "قال اللحياني: الصَّعوط والسّعوط (2) بمعنى واحد. وروى أبو تراب له في كتابه: خطيب مِصْطَعٌ ومِصْقَعٌ، بمعنى واحد" (3) .
209- "قال أبو تراب: سمعت عَرّاما يقول: عَفَقَ بها وعَفَطَ بها إذا ضَرَطَ".
210- "قال أبو تراب: قال الخليل (4) : الممشوط الطّويل الدَّقيق.
قال: وغيره يقول: هو الممشوق".
211- "قال زائدة البكريّ وحَتْرَشٌ فيما روى أبو تراب عنهما: هو يَنتَبِقُ الكلامَ انتباقاً، ويَنتَبِطُهُ؛ أي: يستخرجه".
(باب اعتقاب الطاء واللام)
212- "قال أبو تراب: سمعت بعض قيس يقول: اشمعطَّ القوم في الطلب، واشمعلّوا، إذا بادروا فيه، وتفرّقوا. واشمعلّت الإبل واشمعطّت إذا انتشرت".
213- "قال بعض الأعراب: الطَّخِيفة واللَّخِيفة: الخَزِيرة - رواه أبو تراب".
214- "أبو تراب عن خليفة: نَشَلَتْهُ الحيّةُ ونَشَطَتْهُ بمعنى واحد".
(باب اعتقاب الطّاء والنّون)
215- "أبو تراب عن أبي محجن: التَّنَوُّل لا يكون إلا في الخير؛ والتَّطَوُّل، قد يكون في الخير والشّرّ".
(باب اعتقاب الظّاء والعين)
216- "روى أبو تراب للأصمعيّ: طار القوم شَظاظاً وشَعاعاً. وأنشد لرويشد الطّائيّ يصف الضَّأن:
طِرْنَ شَظَاظاً بين أَطْرافِ السَّنَدْ
__________
(1) المصدر السابق 4/394.
(2) التعاقب ليس في هاتين الكلمتين، وإنما هو فيما يأتي من كلام أبي تراب في قوله: مِصْطَع ومِصْقَع.
(3) التّهذيب 1/492.
(4) في التّهذيب 11/319: ((قال الخيل)) وهو تحريف، والتصويب من اللسان (مشط) 7/403.(44/207)
لا تَرْعَوِي أمٌّ بها عَلَى وَلَدْ
كأَنَّمَا هَايَجَهُنَّ ذُو لِبَدْ"
(باب اعتقاب الظّاء واللام)
217- "قال أبو تراب: قال بعض بني سُلَيم: فلان مُحَافِظ على حَسَبِهِ ومُحَافِلٌ عليه؛ إذا صانه".
(باب اعتقاب العين والغين)
218- "قال أبو تراب: قال الخليل: الثُعْبان: ماء، الواحد ثَعْبٌ. قال: وقال غيره: هو الثّغب بالغين".
219- "ابن الفرج: سمعت جماعة من أعراب قيس يقولون: الشِّلَّغْفُ والشِّلّعفُ المضطرب، بالعين والغين".
220- "قال ابن الفرج: سمعت زائدة البكريّ يقول: الشِّنَّعْفُ والشِّنَّغْفُ والهِلَّغْفُ: المضطرب الخلق".
221- "قال أبو الحسن اللّحيانيّ: صَعْصَعَ رأسَه بالدّهن وصَغْصَغَه، إذا رَوَّاه ورَوَّغَهُ.
وقال أبو سعيد: الصَّعْصَعة: نَبْتٌ يُسْتَمْشَى به.
وقال إسحاق بن الفرج قال أبو الوازع: قال اليماميّ: هو نبت يشرب ماؤه للمَشْي" (1) .
222- "قال ابن الفرج: قال حُصين السّلميّ: فلان على أَغْسَان من أبيه وأَعْسَانٍ؛ أي: أخلاق، وغَسَّان: ماء نزل عليه قومٌ من أهل مأرب إليه نُسِبَ ملوك غَسَّان" (2) .
223- "قال أبو تراب: قال بعض العرب: عفقت الإبل تَعْفِق عَفْقاً، إذا كانت ترجع إلى الماء في كلِّ يوم أو كلّ يومين. وكلّ راجع مختلف عافق وغافق. ويقال: إنّك لتَعْفِقُ؛ أي:
تكثر الرّجوع".
224- "قال أبو تراب: يقال: ما أَعْنَى شيئاً، وما أَغْنَى شيئاً بمعنى واحد".
225- "قال ابن الفرج (3) : سمعت الضبابي يقول: إن فلانة لتُغَنذِي بالناس وتُعَنذِي بهم؛ أي: تُغرِي بهم، وقطع الله عنك عَنذَاتها؛ أي: إغراءَها".
226- "قال أبو تراب: سمعت واقعاً السّلميّ يقول: أَفْعَمْتُ الرّجل وأَفْغَمْتُهُ إذا مَلأتَهُ غضباً أو فرحاً".
__________
(1) التّهذيب 1/78.
(2) المصدر السابق 8/38، 39، وينظر: اللسان (غسن) 13/313.
(3) في اللسان (غتذى) 15/140: ((قال أبو تراب ... ))(44/208)
227- "روى ابن الفرج عن أبي سعيد: في بطن الرّجل مَعَص ومَغَص وقد مَعِص ومَغِص، قال: وتَمَعَّصَ بَطني وتَمَغَّصَ؛ أي: أوجعني".
228- قال الأزهريّ: "يقال: إنّه لطويل مُمَّعِطٌ كأنّه قد مُدَّ. قلت: المعروف في الطّول المُمَّغِطُ بالغين معجمة، كذلك رواه أبو عبيد عن الأصمعي ولم أسمع مُمَّعِط بهذا المعنى لغير الليث، إلا ما قرأته في كتاب الاعتقاب لأبي تراب، قال: سمعت أبا زيد وفلان بن عبد الله التميمي يقولان: رجل مُمَّغِط ومَمَّعِط؛ أي: طويل.
قلت: ولا أبعد أن يكونا لغتين، كما قالوا لَعَنَّكَ ولَغَنَّكَ بمعنى لَعلّكَ والمَعَص والمَغَص: البِيض من الإبل، وسُرُوع وسُرُوغ للقضبان الرَّخصة".
229- "روى ابن الفرج (1) للأصمعيّ: نَشَغَهُ ونَشَعَهُ: إذا أَوْجَرَهُ. قال: وقال أبو عمرو: نُشِغَ به، ونُشِعَ به، وشُعِفَ به؛ أي: أُوْلِع به".
230- "قال الأصمعي فيما روى عنه أبو تراب: هو النَّشُوع والنَشُوغ، للوَجُور".
231- "قال ابن الفرج: قال مدرك الجعفريّ: كذبت وَبّاعَتُهُ ووَبَّاغَتُهُ، ونّبَّاعَتُهُ ونّبَّاغَتُهُ".
(باب اعتقاب العين والفاء)
232- "قال إسحاق بن الفرج: سمعت أبا الرّبيع البكريّ يقول: الجَعْجَعَ والجَفْجَفُ من الأرض: المتطامن، وذلك أنّ الماء يتجفجف فيه فيقوم؛ أي: يدوم.
قال: وأردته أن يقول: يتجعجع، فلم يَقُلْها في الماء. وقال: جعجع الماشية وجفجفها؛ إذا حَبَسَها".
233- "أبو تراب، عن أبي السَّمَيْدَع: بنو فلان ما يُعانون ما لَهم ولا يُفانونه؛ أي: ما يقومون عليه ولا يُصْلِحونه".
234- "قال أبو تراب: سمعْتُ خليفة الحُصَينيّ يقول: أَوضَفَتِ النَّاقَةُ وأَوْضَعَتْ: إذا خَبَّتْ. وأَوضفتُها فوضفت؛ أي: أَخْبَيْتُها فخَبَّتْ".
235- "أبو تراب: الهَجَنَّعُ والهجنّفُ: الطّويل العظيم. وأنشد الأصمعيّ لجران العَوْد:
__________
(1) في بعض نسخ التّهذيب 16/171: ((أبو تراب)) .(44/209)
يُشَبِّهُهَا الرَّائِي المُشَبِّهُ: َيْضَةً
غَدَا في النَّدَى عَنْهَا الظَّلِيمُ الهَجَنَّفُ " (1)
(باب اعتقاب العين والقاف)
236- "روى ابن الفَرَج أبو تراب عن خليفة الحُصَينيّ أنّه قال: الجَلَعة والجَلَقة: مَضْحَك الإنسان".
237- "حكى ابن الفرج عن بعض العرب أنّه قال: فتح الله عليك الجَلَقَةَ والجَلَعَةَ؛ أي: المكشر".
238- "قال نصير - فيما روى له أبو تراب: اندلع بطن المرأة واندلق إذا عَظُم واسترخى.
وقال غيره: اندلع السّيف من غمده واندلق".
239- "قال أبو تراب: فَرَّع بين القوم وفَرَّق بمعنى واحد. وروى في ذلك حديثاً بإسناد له عن أبي الطُفَيل قال: كنت عند ابن عبّاس فجاء بنو أبي لَهَب يختصمون في شيء بينهم، فاقتتلوا عنده في البيت، فقام يُفَرِّعُ بينهم؛ أي: يحجز بينهم".
240- "قال ابن الفرج: سمعت خليفة الحُصيني يقول: امتشعتُ ما في الضّرع وامتشقته، إذا لم تدع فيه شيئاً.
قال: وكذلك امتشعت ما في يد الرّجل وامتشقته، إذا أخذت ما في يديه كلّه".
241- "قال أبو تراب: ناقة مَيْلَع مَيْلَق؛ إذا كانت سريعة، وقال شَمِر: المَيْلَع: النَّاقة الخفيفة السّير".
(باب اعتقاب العين والكاف)
242- "روى إسحاق بن الفرج عن عرّام أنه قال: العذّانة: الاست. والعرب تقول: كذبت عذّانته وكذّانته بمعنى واحد".
(باب اعتقاب العين واللام)
243- "روى أبو تراب عن أبي مِحجَن قال: الانبتاع والانبتال: الانقطاع".
244- "قال إسحاق بن الفرج: سمعت خليفة الحُصينيّ يقول: اختزعَ فلاناً عِرق سوء فاختزله، أي: اقتطعه دون المكارم وقعدَ به".
245- "قال أبو تراب: سمعتُ الغنويّ يقول: دَرْقَل القومُ درقلةً
ودرقعوا درقعة، إذا مَرّوا مرَاً سريعاً".
246- "روى ابن الفرج (2) للفرّاء: فلان في صُقْعٍ خالٍ وصُقْلٍ خالٍ؛ أي: ناحية خالية.
__________
(1) التّهذيب 3/372.
(2) في اللسان (صقل) 11/381: ((أبو تراب عن الفراء....))(44/210)
قال: وسمعت شجاعاً يقول: صَقَعَه بالعصا وصَقَلَه، وصَقَعَ به الأرض وصقل به الأرض؛ أي: ضَرَبَ به".
247- "روى أبو تراب عن واقع السّلميّ: نكع عن الأمر ونكل بمعنى واحد. وأنشد أبو حاتم في الإنكاع بمعنى الإعجال:
أَرَى إِبِلي لا تُنكَعُ الوِرْدَ شُرَّداً
إذا شُلَّ قَوْمٌ عَنْ وُرُودٍ وَكُعْكِعُوا"
(باب اعتقاب العين والنون)
248- "قال إسحاق بن الفرج: سمعت بعض بني سليم يقولون: عَكَّظَهُ عن حاجته ونَكَّظَهُ، إذا صرفه عنها، وعَكَّظَ عليه حاجته ونَكَّظَها،
إذا نَكَّدَها" (1) .
249- "قال ابن الفرج: سمعت جماعةً من قيس يقولون: تماجَنَ الرّجلان وتماجعا، إذا ترافثا" (2) .
(باب اعتقاب العين والهاء)
250- "روى أبو تراب عن أعرابي من قيس أنّه قال هذا البيت:
مُجْتَزئٍ بِزِعْبِهِ وزِهْبِهِ
أي: بنفسه. وزَعَبَ لي زُعْبَةً من ماله، وزَهَبَ لي زُهْبَةً؛ إذا أعطاه قطعة وافرة. وأعطاه زِهْباً من ماله فازدهبه وزِعبا فازدعبه؛ أي: قطعةً".
251- "أبو تراب عن الجعفريّ: أعطاه زِهْباً من ماله فازدهبه؛ إذا احتمله وازدعبه مثله" (3) .
252- "قال إسحاق (4) بن الفرج: قال الأصمعيّ: عِدْفَةٌ وعِدَفٌ، وهِدْفَةٌ وهِدَفٌ بمعنى: قطْعَةٌ.
قال: وقال عُقْبَةُ: رأيت هِدْفةً من النّاس: أي فِرْقَة"
253- "قال أبو تراب: قال أبو عمرو: النَّعَجُ: السِّمَن، يقال: نَعَجَ هذا بعدي، أي سَمِن.
قال: والنَّعْجُ: أن يربو وينتفخ.
قال: وقال غيره: النَّهَج مثله".
(باب اعتقاب الغين والقاف)
254- "روى ابن الفرج (5) لبعض العرب: مشغه مائة سَوْط ومشقة مائة سَوْط؛ إذا ضربه".
__________
(1) التهذيب 1/303.
(2) المصدر السابق 1/395، وينظر: الفائق 3/347.
(3) التّهذيب 6/159.
(4) في بعض نسخ التّهذيب 6/214: ((قال ابن الفرج ... ))
(5) في بعض نسخ التّهذيب 16/188: ((أبو تراب ... )) وكذا في اللسان (مشغ) 8/450.(44/211)
255- "قال أبو تراب: سمعت الحُصَيني يقول: سمعت نَغْيَةَ حَقٍّ ونَقْيَةَ حَقٍّ، أي: كلمة حقٍّ".
(باب اعتقاب الغين والكاف)
256- "قال ابن الفرج: سمعت سُليمان الكلابيّ يقول: داغ القومُ وداكوا: إذا عَمَّهُم المرض، والقوم في دوغة من المرض وفي دوكة، إذا عمّهم وآذاهم
وقال غيره: أصابتنا دوغة؛ أي: بردٌ.
وقال أبو سعيد: في فلان دوغة ودوكة؛ أي: حمقٌ".
257- "قال أبو تراب: سمعت أبا مِحْجَن يقول: غَنَظَه وكَنَظَه؛ إذا ملأه وغمَّه".
258- "قال أبو تراب: المِغَمّة والمكمَّة: شيء يوضع على أنف الحِمار كالكيس؛ وكذا الغِمامة والكمَامة".
(باب اعتقاب الغين والهاء)
259- "قال أبو تراب: سمعت شَبانَةَ يقول: هذا أمرٌ مُدَغْمَسٌ ومُدَهْمَسٌ إذا كان مستوراً" (1) .
260- "قال ابن الفرج: سمعت أبا الجَهْم الجعفريّ يقول: نَهْضَنا
إلى القَوْمِ ونَغَضْنَا إِلَيْهِم بمعنى واحد".
(باب اعتقاب الفاء والقاف)
261- "قال أبو تراب: سمعت الحصينيّ يقول: هم لا يقانون ما لهم ولا يُفَانُونَه بَالقَافِ والفاء؛ أي: ما يقومون عليه".
(باب اعتقاب الفاء والكاف)
262- "ثعلب عن ابن الأعرابيّ: إذا جاء الرّجل ومعه صبيانه قلنا: جاء بحِسْكِلِه وبحِسْفِلِه وحَمَكِهِ ودَهْدائه.
وقال ابن الفرج: الحساكِل والحسافِل (2) : صغار الصّبيان، يقال: مات فلان وخلّف يتامى حَساكِل، واحدها حِسْكِل، وكذلك صغار كلّ شيء حَسَاكِل".
263- "ابن الفرج عن عُرَّام: أزحَفَ الرّجل وأزحك إذا أعيت به دابّته".
264- "قال أبو تراب: سمعت الثّعلبيّ يقول: فَرَسٌ فُلَّتٌ كُلَّتٌ،
وفُلَتٌ كُلَتٌ؛ إذا كان سريعاً".
__________
(1) التّهذيب 8/233، وينظر: اللسان (دغس) 6/85،وقد تقدم مثل هذا النص في باب الخاء والهاء.
(2) ويروى أيضاً ((الحساقل)) بالقاف، وقد ذكره ابن منظور في اللسان في ثلاثة مواضع (حسفل) وحسقل) و (حسكل) 11/153، وكذلك في القاموس (حسفل) و (حسقل) و (حسكل) 1272.(44/212)
265- "روى أبو تراب في باب الكاف والفاء: الأفعى تَكِشُّ وتَفِشُّ (1) ، وهو صوتها من جلدها، وهو الكشيش والقشيش.
قال: والفحيح: صوتها من فيها.
قال: وقال بعض قيس: البكر يَكِشُّ ويَفِشّ، وهو صوته قبل أن يهدر".
266- "أبو عمرو: لَفَأه بالعصا ولكَأه، إذا ضربه بها. ولفأه حَقَّه، إذا أعطاه كلّه.
قال: ولفَأه حقه؛ إذا أعطاه أقلّ من حقّه.
قال أبو سعيد: قال أبو تراب: أحسب هذا الحرف من الأضداد".
(للبحث بقية في العدد القادم – إن شاء الله -)
__________
(1) في المصدر السابق 9/425: ((تقش)) بالقاف، وهو تصحيف يدلّ عليه قوله: باب الكاف والفاء، وما في اللسان (كشش) 6/341.(44/213)
العدد 115
فهرس المحتويات
1- مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم وتفسيره
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
د. شايع بن عبده بن شايع الأسمري
2- حقيقة السحر وحكمه في الكتاب والسنة
... تابع (1)
... تابع (2)
الدكتور عواد بن عبد الله المعتق
3- أحكام اللّمس في الطّهارة اللّمس في الطّهارة
... تابع (1)
4- العلمانية وموقف الإسلام منها
... تابع (1)
... تابع (2)
د. حمود بن أحمد الرحيلي
5- أبو تراب الغوي وكتابه الإعتقاب (القسم الثاني)
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3) - فهرس المصادر والمراجع
د. عبد الرزاق بن فراج الصاعدي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(44/214)
مع الإمام أبي اسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم وتفسيره
إعداد:
د. شايع بن عبده بن شايع الأسمري
الأستاذ المساعد في كلية القرآن الكريم في الجامعة
خطبة البحث
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .
أما بعد: فإن علماء الأندلس لهم مكانةٌ عالية في تاريخ حضارة المسلمين؛ لما قدموه من بحوث قيِّمة في جميع المجالات - دينية ودنيوية - إلا أن هذه المكانة العالية أتت عليها أقدارُ الله تعالى التي لا رادّ لها، فكان مصير هذه الحضارة العالية، والأبحاث القيمة على ثلاثة أقسام:
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.
(2) سورة النساء، الآية: 1.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 70، 71. وهذه خطبة الحاجة، التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأخرجها طائفة من الأئمة: منهم أبو داود في سننه (2/238، 239) كتاب النكاح، باب خطبة النكاح، ح (2118) ، وابن ماجة في سننه (1/609) كتاب النكاح، باب خطبة النكاح، ح (1892) وصححها الشيخ الألباني. انظر صحيح سنن ابن ماجة (1/319) .(44/215)
القسم الأول - وهو الأكثر الأعظم - قضى عليه الإفرنج عبدة الصليب وأبادوه، عند استيلائهم على بلاد الأندلس، وإخراج المسلمين منها.
والقسم الثاني: ادّعاه أولئك الأوغاد - النصارى - ونسبوه لأنفسهم، وزعموا أنهم أهل السبق فيه.
والقسم الثالث: بعضه لا زال مدفونا مخطوطا في مكتبات العالم - ولعله الأكثر من هذا القسم - وبعضه أُخرج لكنه لا زال بحاجة إلى دراسة لاستخراج درره ولآلئه، وتنبيه الدارسين عليها؛ علّهم يفيدون منها في حياتهم العملية.
ومؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي الغرناطي من غرر ذلك التراث القيم، وما خرج منها فهو لا يزال بحاجة إلى بيان العلوم التي احتوى عليها، وتوجيه الدارسين إلى الإفادة منها، خصوصا الأبحاث المتعلقة بعلوم القرآن الكريم وتفسيره، فإن مؤلفات هذا الإمام قد حوت على جملة مباركة طيبة، لكن لا يعرفها إلا القليل من الباحثين والدارسين، فجاء هذا البحث ليُعرّف ببعض أنواع علوم القرآن الكريم وتفسيره التي اشتملت عليها مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى، والتي هي في حقيقتها قواعد وأصول عامة، تهدي الدارسين وترشدهم إلى الإفادة من أعظم كتاب أُنزل من عند الله تعالى.
وليوجه أنظار الباحثين والدارسين - من أهل القرآن وعلومه - إلى الاستفادة من مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي، رحمه الله تعالى.
وهو في الوقت نفسه إشادة واعتراف بفضل الإمام أبي إسحاق الشاطبي على أهل القرآن الكريم وعلومه.
هذا وقد سميت هذا البحث "مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم وتفسيره".
والله تعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الباحثين والدارسين، وأن يزيد به الإمام أبا إسحاق الشاطبي رفعة ومكانة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
1 - أهمية الموضوع، وسبب اختياره:(44/216)
إن هذا الموضوع - "مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم وتفسيره" - له أهمية ويستحق الدراسة؛ لأسباب أشرت إلى بعضها - إجمالاً - في خطبة الكتاب، وأُفصّل أهمها فيما يلي:
1 - هذا الموضوع يتعلّق بإمام، معدود من المجدّدين في الإسلام بما قدم من أبحاث قيمة في موضوعها ومضمونها.
2 - هذه الدراسة هي الأولى من نوعها، إذ لا أعلم أنه كُتب حول الإمام أبي إسحاق الشاطبي فيما يتصل بعلوم القرآن الكريم وتفسيره.
3 - هذه الدراسة ستكون - بإذن الله تعالى - توجيها للباحثين والدارسين في تفسير القرآن الكريم وعلومه إلى الإفادة من كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي؛ لأنّ كثيرًا من الباحثين والدارسين يعدونه من أهل الفقه وأصوله فحسب.
4 - هذه الدراسة جمعت طائفةً من أصول التفسير وقواعده، وجَعَلَتْها في متناول الباحثين، مع الإشارة إلى مواطنها من كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي لمن أراد الدراسة والتوسع في تلك القواعد والأصول.
5 - تطرق أبو إسحاق الشاطبي إلى مباحث قيّمة لم يُسبق إليها سواء في أصول التفسير، أو في التفسير، فجاء هذا البحث ليوجه أنظار الدارسين إليها، ويعطيهم صورة صادقة عنها.
2 - خطة البحث:
يتكون هذا البحث من مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة.
المقدمة: وتشمل:
1 - أهمية الموضوع، وسبب اختياره.
2 - خطة البحث.
3 - المنهج المتبع في إخراج البحث.
الفصل الأول: عن حياة الإمام أبي إسحاق الشاطبي؛ويشمل - بإيجاز - ما يلي:
1 - اسم الإمام أبي إسحاق الشاطبي ونسبه.
2 - مولد الإمام أبي إسحاق الشاطبي ونشأته.
3 - بعض شيوخ الإمام أبي إسحاق الشاطبي.
4 - بعض تلاميذ الإمام أبي إسحاق الشاطبي.
5 - مذهب الإمام أبي إسحاق الشاطبي.
6 - مقاومة الإمام أبي إسحاق الشاطبي للبدع والمبتدعة.
7 - ثناء العلماء على الإمام أبي إسحاق الشاطبي.
8 - آثار الإمام أبي إسحاق الشاطبي العلمية.(44/217)
9 - مكانة الإمام أبي إسحاق الشاطبي في علوم القرآن الكريم وتفسيره.
10 - شعر الإمام أبي إسحاق الشاطبي.
11 - وفاة الإمام أبي إسحاق الشاطبي، رحمه الله تعالى.
الفصل الثاني: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في مباحث من علوم القرآن الكريم (وفيه اثنا عشر مبحثا) :
المبحث الأول: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أسباب النزول.
المبحث الثاني: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في الأقوال المحكية في القرآن الكريم.
المبحث الثالث: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في منهج القرآن الكريم في الترغيب والترهيب.
المبحث الرابع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أقسام العلوم المضافة إلى القرآن الكريم.
المبحث الخامس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في التفسير الإشاري للقرآن الكريم.
المبحث السادس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في قوله: إن المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً على المكي في الفهم وكذلك المكي بعضه مع بعض والمدني بعضه مع بعض.
المبحث السابع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أن تفسير القرآن الكريم يتبع فيه المفسر التوسط والاعتدال ويجتنب فيه الإفراط والتفريط
المبحث الثامن: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في بيان المقصود بالرأي المذموم والرأي الممدوح في تفسير القرآن الكريم.
المبحث التاسع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في حكم ترجمة القرآن الكريم
المبحث العاشر: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في التفسير العلمي للقرآن الكريم
المبحث الحادي عشر: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أسباب الاختلاف
غير المؤثرة في تفسير القرآن الكريم.
المبحث الثاني عشر: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في وجود المعرَّب في القرآن الكريم.
الفصل الثالث: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في مباحث من تفسير القرآن الكريم (وفيه عشرة مباحث) :
المبحث الأول: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بالقرآن.
المبحث الثاني: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بالسنة.(44/218)
المبحث الثالث: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
المبحث الرابع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير القرآن بأقوال التابعين وأتباعهم.
المبحث الخامس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في شيء من تعقيباته وآرائه في التفسير.
المبحث السادس: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في نحو القرآن وبلاغته.
المبحث السابع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في ذكر القراءات وتوجيهها.
المبحث الثامن: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في تفسير آيات العقيدة.
المبحث التاسع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في أحكام القرآن الكريم.
المبحث العاشر: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في الإفادة من أصول الفقه في تفسير القرآن الكريم.
الخاتمة: أهم النتائج التي ظهرت لي من خلال هذا البحث، والتوصيات.
3 - المنهج المتبع في إخراج البحث:
1 - تأمّلت في كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي، ودونت كثيرًا من المباحث التي رأيت أن لها صلة بعلوم القرآن الكريم وتفسيره.
2 - رتبت هذه المباحث على حسب الخطّة المذكورة في الفصلين: الثاني، والثالث.
3 - قابلت النصوص المنقولة على أصولها المطبوعة للتأكد من سلامة النقل.
4 - أشرت إلى الكلام المحذوف - أثناء النقل من النصوص - بوضع ثلاث نقاط، وفي هذه الحالة أطلب من القارئ مراجعة الكتاب المنقول منه بقولي: انظر، وأما إذا كان الكلام لم يُحذف منه شيء أشرت إلى المرجع بقولي: الموافقات - مثلاً - ثم أذكر الجزء والصفحة، وهذا في الغالب.
5 - نقلت من كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي ما يوضِّح عنوان المبحث، وأحلت القارئ على باقي الكلام في الكتاب المنقول منه، وحرصت أن يكون الكلام المنقول هو الزبدة والخلاصة التي يستفيد منهما أهل التفسير وعلوم القرآن.(44/219)
6 - كان لي بعض المداخلات والتعليقات على كثير من المباحث تجدها أحيانا في آخر المبحث - تحت عنوان بارز - وقد تكون في أثنائه، وقد تكون في أوله، وقد تكون في الحاشية.
7 - أشرت إلى اسم السورة، ورقم الآية، في كل الآيات المنقولة - في الأصل - وذلك في الحاشية.
8 - خرجت الأحاديث والآثار من مظانها، وحرصت أن أذكر كلام أهل العلم على الحديث (تصحيحا، وتحسينا، وتضعيفا) ما لم يكن في الصحيحين، أو أحدهما. وأما الآثار عن الصحابة والتابعين فقمت بتخريجها، وإذا وجدت لأهل العلم عليها كلاما نقلته، وإن لم أجد حاولت إعطاء القارئ شيئا عن حال رجال إسنادها.
9 - شرحت الكلمات الغريبة، ولم أتوسع في ذلك.
10 - ترجمت لبعض الأعلام الذين رأيت أنهم يحتاجون لترجمة، ولم أتوسع في هذا الجانب خشية إثقال الحواشي.
11 - أشرت إلى أماكن بعض النقولات التي نقلها الإمام الشاطبي عن بعض العلماء، وقد أترك البعض، إذ ليس المقام مقام تحقيق فليزم توثيق كل نص من مرجعه، أضف إلى ذلك أنه قد ينقل عن علماء مشافهة، وقد ينقل من مؤلفات هي في عداد المفقود الآن.
12 - أشرت إلى المباحث التي استفادها بعض المفسرين المتأخرين من كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي، وذلك في الحاشية.
13 - وثقت القراءات التي ذُكرت في أثناء المباحث من كتب القراءات المعتمدة، وبينت المتواتر منها والشاذ.
14 - لم أجيء بكل المباحث التي حوتها كتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي - مما يتعلق بعلوم القرآن وتفسيره - وإنما جئت بما يعطي القارئ صورة جيدة عن القيمة العلمية، التي حوتها مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي، من علوم القرآن الكريم وتفسيره.
15 - ذكرت بين يدي الفصلين الثاني والثالث تمهيدًا قصيرًا.
16 - ذكرت ترجمة موجزة للإمام أبي إسحاق الشاطبي، حرصت أن آتي فيها ببعض الجديد، مثل إظهار مكانة الإمام أبي إسحاق الشاطبي في علوم القرآن الكريم وتفسيره، وغير ذلك مما لا تجده في الدراسات التي سبقتني.(44/220)
17 - اعتمدت في نقل كلام الإمام أبي إسحاق من كتابه الموافقات على
النسخة التي حققها الشيخ مشهور بن حسن، وقد أرجع إلى النسخة التي حققها العلاّمة عبد الله دراز عند الحاجة.
18 - وضعت خاتمة لهذا البحث بينت فيها أهم النتائج التي ظهرت لي خلال المدة التي عشتها مع هذا البحث، مع إبداء بعض التوصيات التي أرجو أن يؤخذ بها.
19 - وضعت الفهارس اللاَّزمة للإفادة من هذا البحث، وهي على النحو التالي:
1 - فهرس آيات القرآن الكريم.
2 - فهرس الأحاديث الشريفة.
3 - فهرس الآثار.
4 - فهرس المصادر والمراجع.
5 - فهرس مواضع البحث.
هذه أهم الركائز التي اتبعتها في إخراج هذا البحث، وأرجو أن أكون قد وُفقت في ذلك.
هذا وقد اجتهدت في السلامة من الزلل، لكنني لا أشك في وقوعه، فأستغفر الله تعالى من ذلك.
وأرجو أن أكون قد أديت شيئا من حق الإمام أبي إسحاق الشاطبي على أهل القرآن الكريم بهذا البحث المتواضع، كما أرجو أن أكون قد أسديت شيئا لمكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم.
وكتبه: شايع بن عبده بن شايع الأسمري
الفصل الأول
عن حياة الإمام أبي إسحاق الشاطبي ويشمل - بإيجاز - ما يلي:
1 - اسم الإمام أبي إسحاق الشاطبي ونسبه: هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، أبو إسحاق، الشهير بالشاطبي.
2 - مولد الإمام أبي إسحاق الشاطبي ونشأته: لم تُسلط - كتب التراجم المعتمدة - الأضواء على مكان ولادته، ولا عن تاريخها، ولا عن كيفيّة نشأته.
إلا أن الذي يبدو - والله أعلم - أن أصله كان من مدينة شَاطِبَة، وأنه ولد في مدينة غرناطة، قبيل سنة 720هـ.(44/221)
أما عن نشأته: فقد نشأ على حبّ العلم، ومتابعة الدرس منذ نعومة أظفاره، حدثنا هو بذلك في مقدمة كتابه الاعتصام، نقتطف من ذلك قوله: " لم أزل منذ فُتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في عقلياته، وشرعياته، وأصوله، وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعًا دون آخر حسبما اقتضاه الزمان والإمكان ... " (1) .
3 - بعض شيوخ الإمام أبي إسحاق الشاطبي: تتلمذ الإمام أبو إسحاق الشاطبي على جماعة من العلماء، ذكر منهم بعض المعاصرين أربعة وعشرين شيخًا، أكتفي بذكر من ذكرهم العلامة أحمد بابا التنبكتي، حيث قال: "أخذ العربية وغيرها عن أئمة منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ابن الفخار البيري.والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية أبو القاسم السبتي والإمام المحقق أعلم أهل وقته الشريف أبو عبد الله التلمساني ... والإمام علاّمة وقته بإجماع أبو عبد الله المقري ... وقطب الدائرة ... الإمام الشهير أبو سعيد ابن لب، والإمام الجليل ... ابن مرزوق الجد، والعلاّمة المحقّق المدرس الأصولي أبو علي منصور بن محمد الزاوي، والعالم المفسر المؤلف أبو عبد الله البلنسي ... والعلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري ... والعالم الحافظ الفقيه أبو العباس القباب، والمفتي المحدّث أبو عبد الله الحفّار، وغيرهم".
4 - بعض تلاميذ الإمام أبي إسحاق الشاطبي: قال أحمد بابا التنبكتي: "أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين أبي يحيى بن عاصم الشهير، وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم، والشيخ أبي عبد الله البياني، وغيرهم".
قلت: ومن هؤلاء الغير أبو عبد الله محمد بن محمد المجاري الأندلسي، وأبو جعفر أحمد القصار الأندلسي الغرناطي، وأبو الحسن علي بن سمعت، الذي أجازه الإمام الشاطبي إجازة عامة.
__________
(1) الاعتصام (1/31) .(44/222)
5 - مذهب الإمام أبي إسحاق الشاطبي: هو مالكي المذهب، يدل على ذلك أن علماء المالكية أدخلوه في عداد طبقاتهم، ولم ينازعهم في ذلك أحد من أهل المذاهب الفقهية الأخرى، ووصفه المعتنين بالتراجم عمومًا بأنه مالكي المذهب.
ومن الأدلة على هذه المسألة أن الإمام الشاطبي - نفسه - قد اعتنى بذكر أقوال الإمام مالك، وغيره من أئمة المذهب، يظهر ذلك جليا من خلال كتبه.
وهذا لا يعني أن الإمام الشاطبي مقلد أعمى متعصب، بل هو يعتمد في فتاواه على المأثور من نصوص الوحي، وأقوال أعلام المذهب المالكي، وإذا لم يظفر بشيء من ذلك في المسألة، يجتهد بانيا على مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية.
وأما مذهب الإمام أبي إسحاق الشاطبي في العقيدة: فهو مذهب أهل السنة والجماعة، المبني على الكتاب والسنة، وذلك في الجملة؛ إذ أنه لم يسلم من الميل إلى رأي الأشاعرة في بعض الصفات - وفي غير الصفات -، فمن ذلك قوله: " والحب والبغض من الله تعالى، إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام، فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام فيرجعان إلى صفات الذات؛ لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ... " (1) .
وقال: " ... قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} (2) ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (3) وأشباه ذلك إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهيّة الواحد الحقّ، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيها على نفي ما ادَّعوه في الأرض فلا يكون فيه دليل على إثبات الجهة البتة".
__________
(1) الموافقات (2/194) .
(2) سورة النحل، الآية: 50.
(3) سورة الملك، الآية: 16.(44/223)
وقال: " (فصل) وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد، لا بحسبه في نفسه؟. فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدّد فيه بوجه ولا باعتبار، حسبما يتبين في علم الكلام".
فأنت ترى في المثال الأول أن الإمام الشاطبي أوّل الحب والبغض بإرادة الإنعام والانتقام، أو أنهما نفس الإنعام والانتقام.
وفي المثال الثاني يؤوّل صفة الفوقية الثابتة في النصوص لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.
وفي المثال الثالث يجعل كلام الله تعالى معنى قائما بالنفس، مجردًا عن الألفاظ والحروف.
ولا شك أن أبا إسحاق - غفر الله له - قد فاته الصواب في هذه الأمثلة الثلاثة.
6 - مقاومة الإمام أبي إسحاق الشاطبي للبدع والمبتدعة: أصيب العالم الإسلامي بعد القرون المفضّلة ببعض الانحراف عمّا كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكلما ابتعد آخر هذه الأمة عن أولها ازداد ظهور البدع، حتى كان عصر الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - فزادت هذه الحال سواء في شرق العالم الإسلامي، أم في غربه.
وكانت غرناطة - في عصر الإمام الشاطبي - مجمع فلول الهزائم، وملتقى آفات اجتماعية نشأ عنها انتشار بعض البدع التي أدت إلى ضعف المسلمين.
وكانت هذه الحال لا ترضي الإمام الشاطبي، وهو يعلم أنه مأمور بإنكار المنكر.
فقام في هذا الجانب خير قيام، وألف في ذلك كتابًا حافلاً نصر به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقمع به بدع المبتدعين.
وقد تحدث هو بنفسه عن بعض مما قام به في هذا الشأن فقال: " ... لم أزل أتتبع البدع التي نبّه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منها، وبيَّن أنها ضلالة، وخروج عن الجادة، وأشار العلماء إلى تمييزها والتعريف بجملة منها؛ لعلي أجتنبها فيما استطعت، وأبحث عن السنن التي كادت تطفئ نورها تلك المحدثات؛ لعلي أجلو بالعمل سناها، وأُعد يوم القيامة فيمن أحياها ... ".(44/224)
وأثنى عليه العلماء بذلك، فمن ذلك قول أحمد بابا التنبكتي: " ... حريصًا على اتباع السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك، مع تثبت تام، منحرف عن كلّ ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في مسائل".
هذا ولم يسلم الإمام الشاطبي من ألسنة المبتدعة أعداء السنة فنسبوا إليه ما لم يقل، واتهموه بأشياء هو برئ منها براءة ذئب يوسف عليه السلام.
وقد أشار إلى ذلك بعض من ترجم له، كما تقدم قريبا في كلام التنبكتي.
كما أشار هو إلى شيء من الابتلاء الذي أُصيب به في سبيل قول الحق ورد الباطل.
7 - ثناء العلماء على الإمام أبي إسحاق الشاطبي: لم تسلط
الأضواء على حياة الإمام أبي إسحاق الشاطبي وفضائله - بما يستحق - وما ذلك - في نظري - إلاّ لأنه خالف مألوف المبتدعة فأحيا السنة وأمات البدعة، وإلاّ فما معنى أن يكتب المقَّري صاحب نفح الطيب صفحات وصفحات كلها إطراء وثناء عن الزنديق الحلولي ابن عربي، فإذا جاء إلى الإمام الشاطبي يكتفي ببعض النقولات من كتبه، ولا يجود علينا بشيء من حياته وإمامته.
ويكتفي آخر - عن الإمام الشاطبي - بقوله: "إبراهيم الشاطبي الغرناطي أبو إسحاق".
ومع ذلك فلا تخلو هذه الأمة ممن يقول الحق فمن ذلك: قول تلميذه أبي عبد الله المجاري: "الشيخ الإمام العلامة الشهير، نسيج وحده، وفريد عصره، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي".
وقال عنه أحمد بابا التنبكتي: "الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليا مفسرًا، فقيها محدثا، لغويا بيانيا، نظارًا ثبتا، ورعا صالحا زاهدًا، سنيا إماما مطلقا، بحاثا مدققا جدليا، بارعا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتقنين الثقات ... ".
وحسبك بشهادة هذين الإمامين الفاضلين، وإنما يعرف الفضل لأهله أهلُه.
وقد تابعهما في الثناء على الإمام أبي إسحاق الشاطبي محمد مخلوف وغيره من المتأخرين.(44/225)
8 - آثار الإمام أبي إسحاق الشاطبي العلمية: ألف الإمام أبو إسحاق الشاطبي تآليف نفيسة في موضوعها ومضمونها "اشتملت على تحرير للقواعد، وتحقيقات لمهمات الفوائد" نشير إليها فيما يلي:
1 - الموافقات: وهو كتاب معدود في أصول الفقه، وكان قد سماه "عنوان التعريف بأسرار التكليف"؛ لأجل ما أُودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفيّة.
لكن بعض شيوخ الشاطبي أخبره برؤيا جعلت الإمام الشاطبي يسمي هذا الكتاب باسم "الموافقات".
وهو كتاب عظيم القدر جليل النفع، أثنى عليه المتقدمون من العلماء، والمتأخرون، وكُتبت حوله الدراسات العلمية، واختصره بعض العلماء، ونظمه بعض تلاميذ المؤلف، وطبع أكثر من طبعة، ولا تكاد تخلو منه مكتبة طالب علم.
2 - الاعتصام: وهو كتاب في غاية الإجادة، تناول فيه الإمام أبو إسحاق الشاطبي موضوع البدع، وبحثها بحثا علميا، وسبرها بمعيار الأصول الشرعية، بحيث أن من جاء بعد الإمام أبي إسحاق الشاطبي فألف في رد البدع فهو عيال على كتاب الاعتصام، والكتاب لم يتمه مؤلفه، وقد طبع عدّة طبعات.
3 - الإفادات والإنشادات: وهو كتاب لطيف الحجم يبدؤه المؤلف بإفادة يتبعها بإنشادة، وقد جمع فيه المؤلف طرفا وتحفا وملحا أدبية، وهو مطبوع بتحقيق أبي الأجفان.
4 - المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية (1) : نسبه إليه تلميذه المجاري باسم "شرح رجز ابن مالك"، وكذلك نسب إليه كتاب الموافقات، والاعتصام، وأشار إليه أحمد بابا التنبكتي بقوله: "شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار لم يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم".
وذكر الدكتور أبو الأجفان وجود نسخة من الكتاب بالخزانة الملكية بالرباط برقم (276) ، وقال: ويقوم مركز البحوث بجامعة أم القرى بتحقيق هذا الشرح ونشره.
__________
(1) انظر مقدمة الدكتور عياد الثبيتي لتحقيق الكتاب (1/ط، ي) .(44/226)
قلت: وقفت على مجلدين منه مطبوعين، حققهما الدكتور عيَّاد الثبيتي، ونشرتهما مكتبة دار التراث بمكة المكرّمة عام 1417هـ. تضمنا من النائب عن الفاعل إلى نهاية حروف الجر، وهو شرح حافل يدل على إمامة مؤلفه رحمه الله تعالى في فنّ العربية.
وقد بلغني أن الكتاب سيخرج كاملاً في وقت قريب إن شاء الله تعالى، ويقوم بالإشراف على إخراجه معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى.
5 - كتاب المجالس: شرح فيه كتاب البيوع من صحيح الإمام البخاري، ذكر ذلك أحمد بابا، وقال: "فيه من الفوائد والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله".
6 - عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق: نسبه إليه أحمد بابا، وإسماعيل باشا.
7 - أصول النحو: نسبه إليه - أيضا - أحمد بابا، وقال عن الكتابين: "وقد ذكرهما معا في شرح الألفية، ورأيت في موضع آخر أنه أتلف الأول في حياته، وأن الثاني أُتلف أيضا".
8 - وله فتاوى كثيرة: ذكر ذلك أحمد بابا، وأورد طائفة منها الدكتور أبو الأجفان في مقدمة كتاب الإفادات والإنشادات، وكذلك في آخره، وقد أوردها غيره من المتقدمين، وجمعها أبو الأجفان باسم "فتاوى الإمام الشاطبي".
وقد زاد الدكتور أبو الأجفان كتابا آخر بعنوان "شرح جليل على الخلاصة في النحو"عدّه كتابا، وعدّ "شرح رجز ابن مالك في النحو"كتابا آخر، وتابعه على ذلك الشيخ مشهور بن حسن.
والذي يظهر لي - والله أعلم - أنه كتاب واحد، ذكره تلميذ أبي إسحاق الشاطبي بعنوان: "شرح رجز ابن مالك"، وذكره أحمد بابا فلم يحدد اسمه بل قال: "شرح جليل علىالخلاصة في النحو"، فظنهما الدكتور أبو الأجفان كتابين، وإنما هما كتاب واحد.
ويدل على هذا أن أحدًا من المتقدمين لم يذكر الكتابين معا.
ثم اطلعت بعد كتابة هذه الأسطر على مقدمة الدكتور عياد للمقاصد الشافية فوجدته قد سبقني إلى هذا التنبيه.(44/227)
9 - مكانة الإمام أبي إسحاق الشاطبي في علوم القرآن الكريم وتفسيره: الإمام أبو إسحاق الشاطبي برزت مواهبه في أكثر من جانب من جوانب البحث العلمي، فهو فقيه، وأصولي، وعالم بمقالات الإسلاميين، ونحوي بارع، وما من فنّ من هذه الفنون، إلا وله فيه مؤلف يشهد بإمامته، عليه رحمة الله تعالى.
والإمام أبو إسحاق الشاطبي ليس باحثا تقليديا يعيد ما سبق إليه الأوائل، بل هو باحث مجدد ابتكر وأضاف.
إلا أن كتابات هذا الإمام لم يكن شيء منها في علوم القرآن، أو في تفسيره، في حدّ علمي، وأعني أنه لم يخص ذلك بمؤلف خاص.
وإنما تعرض لجانب التفسير وعلوم القرآن من خلال مؤلفاته فجاء في هذا الجانب بفوائد قد لا توجد عند المتخصصين، الذين وهبوا حياتهم لكتاب الله بحثًا في علومه وتفسيره.
ولأجل هذه المباحث القيمة - في علوم القرآن وتفسيره - وصفه علماء التراجم بالإمامة في ذلك، فقال أحمد بابا التنبكتي: "له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقه-اوأصولاً وتفسيرًا وحديثا، وعربية وغيرها".
ووصفه محمد مخلوف بالفقيه الأصولي، المفسر المحدث.
وكذا قال عنه عمر رضا كحالة.
واستفاد من أبي إسحاق طائفةٌ من الباحثين المتأخرين في تفسير القرآن وعلومه، وهذه شهادة لأبي إسحاق بمعرفته بهذا العلم الجليل. ومن هؤلاء الباحثين:
الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي، في كتابه "بحوث في أصول التفسير ومناهجه".
والدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، في كتابه "تفسير سورة العصر".
والدكتور خالد بن عثمان السبت، في كتابه "قواعد التفسير جمعا ودراسة".
والأستاذ مصطفى إبراهيم المشني، في كتابه "مدرسة التفسير في الأندلس".
والدكتور عبد الوهاب فايد، في كتابه "منهج ابن عطية في تفسير القرآن الكريم".
والدكتور محمد حسين الذهبي، في كتابه "التفسير والمفسرون".
والدكتور محمد أشرف الملباري، في تحقيق "نواسخ القرآن"لابن الجوزي.(44/228)
والدكتور سليمان اللاحم، في تحقيق "الناسخ والمنسوخ"لأبي جعفر النحاس.
والدكتور محمد بن صالح المديفر، في تحقيق "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز"لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم.
والدكتور شايع بن عبده الأسمري، في تحقيق "نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام"للإمام القصاب.
والدكتور رمزي نعناعة، في كتابه "بدع التفاسير في الماضي والحاضر".
والدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب، في كتابه "اتجاهات التفسير في العصر الراهن".
والدكتور محمد الصادق عرجون، في كتابه "القرآن العظيم هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين".
والعلامة ابن عاشور في كتابه "التحرير والتنوير".
وعلاّمة الشام في زمانه القاسمي، في كتابه "محاسن التأويل".
والدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان، في كتابه "اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره".
والعلامة الشيخ عبد العظيم الزرقاني، في كتابه "مناهل العرفان".
والعلامة الشيخ مناع القطان، في كتابه "مباحث في علوم القرآن".
والخلاصة مما تقدم أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي له مكانته في التفسير وعلوم القرآن؛ لما يلي:
1 - لما دونه في مؤلفاته من دقيق المباحث في هذا الجانب.
2 - لشهادة علماء التراجم له بالإمامة في جانب التفسير.
3 - لاعتماد طائفة من الباحثين في التفسير وعلوم القرآن على مؤلفات الإمام أبي إسحاق الشاطبي.
10 - شعر الإمام أبي إسحاق الشاطبي: بلاد الأندلس من البلاد التي اختصّها الله بالجمال في طبيعتها، فأثر ذلك في أبنائها الذين عاشوا على ترابها، وكذلك فيمن قدم إليها من بلاد أخرى، فقالوا الشعر من أعماق نفوسهم دونما تكلّف.
والإمام أبو إسحاق الشاطبي كان ممن ينظم الشعر، ولكن لم تمدنا المصادر بالكثير من نظمه، الذي قال عنه عبد الوهاب بن منصور: "وله أشعار متوسطة مثل أشعار الفقهاء التي هي أنظام في الحقيقة".
قلت: نقل أحمد بابا طائفة منها في كتابه نيل الابتهاج.(44/229)
ومنها ما أورده أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الإفادات والإنشادات في مدح الشفا لَمَّا طلب منه الوزير ابن زمرك ذلك فقال:
يا من سَمَا لمراقي المجد مَقْصَدُه
فَنَفْسُهُ بِنَفِيسِ العِلْمِ قد كَلفت
هَذِي ريَاضٌ يروق العقلَ مخبَرُها
هي الشِّفا لنفوسِ الخلق إن دَنفت
وكان ممن نظم في هذا الغرض جماعة من الأدباء، منهم أبو القاسم بن رضوان، وغيره.
إلا أن الإمام محمد بن العباس التلمساني قد شهد لأبيات أبي إسحاق بأنها أحسن ما قيل في مدح الشفا.
11 - وفاة الإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى: قال تلميذه أبو عبد الله المجاري: وتوفي رحمه الله في شعبان عام تسعين وسبعمائة. وكذلك قال أحمد بابا، إلا أنه زاد يوم الثلاثاء. وتبعهما على ذكر سنة وفاته كل من جاء بعدهما ممن رأيت.
رحم الله تعالى أبا إسحاق الشاطبي وجمعنا به في مستقر رحمته ودار كرامته.(44/230)
العلمانية وموقف الإسلام منها
إعداد:
د. حمود بن أحمد الرحيلي
الستاذ المشارك في كلية الدعوة في الجامعة
المقدّمة
الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبد الله الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى آله وأصحابه، ومن نهج نهجهم وسلك سبيلهم إلي يوم الدين.
أما بعد:
فإنه لما كان المسلمون يجمعهم كتاب ربهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتجمعهم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانوا أمة واحدة قوية وعزيزة ورائدة.
ولكن لما اتصلت هذه الأمة بالأمم الأخرى ذات الأنماط الحضارية المختلفة، فإن هذه الأمة قد تأثرت بكيد أعدائها من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والملاحدة حتى أصبح المتأثرون بفكر أولئك الأعداء أمة داخل الأمة الإسلامية.
وما لذلك من سبب سوى البعد عن منهج الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هداية ونوراً وإخراجاً للناس من الظلمات إلى النور.
وهذا البحث المتواضع يتناول جانباً مهما وخطيراً من جوانب هذاالتيار الفكري الذي وفد على الأمة الإسلامية واستهدف إبعادها عن عقيدتها وربطها بالفكر المهيمن في هذا العصر البعيد عن هدي الله ومنهج رسوله - صلى الله عليه وسلم.
وهذا التيار الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو تيار "العلمانية"ذلك المصطلح الغربي الذي يوحي ظاهره أن طريقة الحياة التي يدعو إليها تعتمد على العلم وتتخذه سنداً لها ليخدع الناس بصواب الفكرة واستقامتها. حتى انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره، وقد أوصلهم ذلك إلى البعد عن الدين بعداً واضحاً.
وإن من أقوى الأدلة المشاهدة في الرد على العلمانيين هو ما تحقق من تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية في العصر الحديث من نجاح عظيم في شتى المجالات.(44/231)
وقد حاولت في هذا البحث إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع وسميته: "العلمانية وموقف الإسلام منها".
خطة البحث
وقد جعلت البحث في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة:
وقد اشتملت المقدمة على أهمية الموضوع والخطة ومنهجي في البحث.
والفصل الأول: في تعريف العلمانية ومفهومها، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف العلمانية في اللغة والاصطلاح.
والمبحث الثاني: التضليل والخداع في تسميتها.
والمبحث الثالث: مراحل العلمانية أو صورها.
والفصل الثاني: في أسباب ظهورها ونشأتها وآثارها في الغرب، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب، ويشتمل على ما يلي:
أولاً: طغيان رجال الكنيسة.
ثانياً: الصراع بين الكنيسة والعلم.
ثالثاً: الثورة الفرنسية.
رابعاً: نظرية التطور.
خامساً: طبيعة التعاليم النصرانية.
سادساً: دور اليهود.
المبحث الثاني: آثار العلمانية في الغرب.
والفصل الثالث: الإسلام يتنافى مع العلمانية.
والفصل الرابع: في عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي وآثارها السيئة عليه، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي، ويشتمل على ما يلي:
أولاً: انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة.
ثانياً: الاستعمار الغربي والشرقي.
ثالثاً: الغزو الفكري.
رابعاً: المستشرقون.
خامساً: المنصّرون.
سادساً: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية.
سابعاً: تقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي.
ثامناً: البعثات إلى الخارج.
المبحث الثاني: في آثارها السيئة على العالم الإسلامي.
والفصل الخامس: في موقف الإسلام من العلمانية، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حكم الإسلام من العلمانية.
المبحث الثاني: عمد وقواعد العلمانية وتفنيدها.
المبحث الثالث: التطبيق العملي للإسلام.
وأما الخاتمة فقد أوجزت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.(44/232)
هذا وقد عزوت الآيات الكريمة إلى السور مع ترقيمها، كما خرجت الأحاديث النبوية الواردة في البحث، وشرحت معاني الكلمات الغريبة، كما عزوت ما تناولته في البحث إلى المصادر والمراجع التي رجعت إليها في هذاالشأن.
هذا. وأحبُّ أن أنبه بأن ما نقلته عن كتب في هذه السلسلة لا يعني موافقتي لأصحابها في المنهج، وإنما كان ذلك لحاجة هذه الأبحاث لمثل تلك المراجع، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.
وقد ألحقت بهذا فهرساً للآيات الكريمة، وفهرساً للأحاديث والآثار، وقائمة بأسماء المصادر والمراجع مرتبة حسب حروف الهجاء مبيناً اسم المؤلف والطبعة وتاريخ النشر ما أمكن، وقائمة أخرى للموضوعات.
وإنه على الرغم من كثرة الكتابات عن العلمانية إلا أني قد بذلت جهداً في إضافة فوائد مهمة كعمد العلمانية وتفنيدها، وتوضيح آثارها، وبيان موقف الإسلام منها على التفصيل، مبتعداً عن الاستطرادات المملة والاختصارات المخلة.
وأسأل الله جلت قدرته أن أكون قد وفقت فيما كتبت، وأن يتجاوز عن التقصير إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفصل الأول
تعريف العلمانية ومفهومها
المبحث الأول
تعريف العلمانية في اللغة والاصطلاح
العلمانية لغة: لم توجد لفظ العلمانية في معاجم اللغة العربية القديمة، وقد وردت في بعض المعاجم الحديثة ومن ذلك:
أ– ما ورد في معجم المعلم البستاني: "العلماني: العامي الذي ليس بإكليريكي".
ب- وفي المعجم العربي الحديث: "علماني: ما ليس كنسياً ولا دينياً".
ج- وفي المعجم الوسيط "العلماني نسبة إلى العَلم بمعنى العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي".
ولعل المعنى الصحيح لترجمةكلمة "العلمانية"هى "اللادينية"أو "الدنيوية" وليس المعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى ما لا صلة له بالدين، يتضح ذلك مما تورده دوائر المعارف الأجنبية للكلمة:(44/233)
تقول دائرة المعارف البريطانية: "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها".
وتقول دائرة المعارف الأمريكية: "الدنيوية هى: نظام أخلاقي أسس على مبادئ الأخلاق الطبيعية ومستقل عن الديانات السماوية أو القوى الخارقة للطبيعة..".
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو فصل الدين عن الدولة.
وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة.
والعلمانية في الاصطلاح:
هي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وتعنى في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهى اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم والمذهب العلمي.
ولاشك أن كلمة العلمانية اصطلاح جاهلي غربي يشير إلى انتصار العلم على الكنيسة النصرانية التي حاربت التطور باسم الدين.
ومن هذا يتضح لنا أنه لا علاقة لكلمة العلمانية بالعلم، وإنما علاقتها قائمة بالدين على أساس سلبي وهو نفي الدين عن مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية ... الخ.
المبحث الثاني
التضليل والخداع في تسميتها
وقد أدرك أعداء الإسلام أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بما قرراه من تشريع هما مصدر قوة المسلمين، وأنه لا أمل في القضاء على الإسلام والمسلمين مادام المسلمون يطبقون إسلامهم تطبيقاً عملياً في كل حياتهم.
ومن هنا وضعوا أسلوبا جديداً لمقاومة الإسلام وهو: محاولة إبعاده عن مجال الحياة وإحلال القوانين الوضعية الغربية مكانه، ليصلوا بذلك إلى ما يريدون من هدم العقيدة الإسلامية، وإخراج المسلمين من التوحيد إلى الشرك.
وهذا ما قصده أعداء الإسلام حين نادوا في المجتمعات الإسلامية بفكرة إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق، والاستعاضة عنه بنظام الغرب وقوانينه. وهو ما عرف في التاريخ "بالفصل بين الدين والدولة".(44/234)
وإمعاناً في التضليل والخداع سماها الفكر الغربي "بالعلمانية"وهو اصطلاح يوحي بأن لها صلة بالعلم حتى ينخدع الآخرون بصواب الفكرة واستقامتها، فمن الذي يقف في وجه دعوة تقول للناس إن العلم أساسها وعمادها.
ومن هنا انطلى الأمرُ على بعض السذج وأدعياء العلم، فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره دون أن ينتبهوا إلى حقيقته وأبعاده.
والحق أن الإسلام لا يصدُّ عن العلم والانتفاع به، ولكن أي علم هذا الذي يدعيه دعاة العلمانية، ويزعمون أنه سندها وأساسها؟. إنه العلم الذي يكون بعيداً عن الدين أو الفصل الكامل بين الدين والحياة.
والعلمانية بهذا المفهوم تعتبر في ميزان الإسلام مفهوماً جاهلياً؛ إذ تعني عزل الدين عن شئون الحياة، وذلك أن الإسلام دين متكامل جاء لينظم الحياة بأوجه نشاطها ويوجه الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإبعاد الدين عن الحياة وعن شئون الدنيا، وعزله عن العقيدة والشريعة والاقتصاد والسياسة والتعليم والأسرة والمجتمع وغيرها، إنما يعني في الإسلام الكفر وحكم الجاهلية والصد عن سبيل الله، وتعطيل حدوده.
كما أن اسم "العلمانية"يوحي بأن العلم والدين ضدان وإن الصراع قائم بينهما، كما يوحي بأن الدين لا علاقة له بالدنيا، وأن التمسك به يعني التأخر والرجعية والجهل، وهذا خطأ فاحش لأن الدين - الذي هو الإسلام - هو دين العلم والسعادة والتقدم، وهذا لا يخفى على الغربيين أنفسهم - فضلاً عن المسلمين - إن الإسلام هو الذي فتح لهم آفاق العلم والاختراع والتقدم والحضارة.
والسبب الأول في تسمية هذا المذهب بالعلمانية، هو ما فعله رجال الكنيسة النصرانية الذين وقفوا ضد التحضر والتقدم في الغرب زاعمين أن الدين يحرم العلم التجريبي والاختراعات والاكتشافات الناتجة عنه.
المبحث الثالث
مراحل العلمانية أو (صورها)
ذهب البعض إلى أن الفكر العلماني الأوروبي مرَّ بمرحلتين:
المرحلة أو (الصورة) الأولى:(44/235)
مرحلة العلمانية المعتدلة، وهي مرحلة القرنين السابع عشر والثامن عشر - وهى وإن اعتبر الدين فيها أمراً شخصياً - لا شأن للدولة به إلا أن على الدولة - مع ذلك - أن تحمي الكنيسة، وبالأخص في جباية ضرائبها. والتفكير العلماني في هذه المرحلة وإن طالب بتأكيد الفصل بين الدولة والكنيسة إلا أنه لم يسلب المسيحية كدين من كل قيمة لها. وإن كان ينكر فيها بعض تعاليمها، ويطالب بإخضاع تعاليم المسيحية إلى العقل، وإلى مبادئ الطبيعة مما نشأ عنه المذهب المعروف باسم مذهب الربوبيين، وهو مذهب يعترف بوجود الله كأصل للعالم، ولكنه ينكر الإعجاز والوحي وتدخل الله في العالم.
ومن دعاة هذه المرحلة: فولتير (1694-1713م) في فرنسا، وشفتسيري (1671-1713م) في إنجلترا، وليسنج (1729-1781م) في ألمانيا، والفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1714م) ، وهوبز (1588-1679م) ، وديكارت، وبيكون، وسبينوزا، وجان جاك روسو، وأضرابهم.
المرحلة أو (الصورة) الثانية:
وهي مرحلة العهد المادي أو ما يسمى بالثورة العلمانية، وهى مرحلة القرن التاسع عشر ومابعده، وعلمانية هذه المرحلة هى مرحلة إلغاء الدين - أي دين إلغاءً كلياً وعدم الإيمان بالأمور الغيبية - وليس فصلاً بينه وبينه الدولة كما هو المفهوم في المرحلة الأولى، واعتبار أن الموجود الحقيقي هو المحسوس فقط، والدافع عليها هو الاستئثار بالسلطة، ولذلك كانت العلمانية غير مساوية لمفهوم الفصل بين الكنيسة والدولة، بل كانت إلغاء للدين كمقدمة ضرورية إلى السلطة المنفردة التي هى سلطة جماعة العمل أو المجتمع أو الدولة أو الحزب حسب تحديد بعض هؤلاء الشيوعيين اليساريين.
ومن دعاة هذه المرحلة: هيجيل وفيرباخ وكارل ماركس وأضرابهم.
الفصل الثاني
أسباب ظهور العلمانية وآثارها في الغرب
المبحث الأول
أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب
ويشتمل على ما يلي:
أولاً: طغيان رجال الكنيسة:(44/236)
لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الأمة الساذجة، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.
وقد شمل هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها على الإطلاق وسنعرض إلى شيء من ذلك بإيجاز:
أ - الطغيان الديني:
1- إنَّ الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وإن عيسى عبد الله ورسوله، قد تحول في عقيدة النصارى إلى إيمان باله مثلث يتجسد، أويحلُّ بالإنسان ذي ثلاثة أقانيم (الأب والابن ورح القدس) .
وذلك أنه منذ مجمع نيقية سنة 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهراً، وحرّمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال.
وتتفق المصادر على أن اليد الطولى في تحريف العقيدة النصرانية تعود إلى بولس "شاؤل"اليهودي، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعياً أنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
2- والعبادات قد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حمّلها النصارى مفاهيم غيبية، وفسّروها بأن لها أسراراً مقدسة، وجعلوا لها طقوساً تُمارس في مناسباتها، ويجب احترامها والتقيد بها.
3- والأحكام التشريعية معظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهى تُحلّلُ وتُحرِّم من غير أن يكون لها مستند من كتاب الله، أو من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.(44/237)
ونصّبت الكنيسة نفسها عن طريق المجامع المقدسة "إلهاً"يُحلُّ ويُحرِّمُ، ينسخُ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي كائناً من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته؛ لأنه كافر ((مهرطق)) .
وقد كان الختان واجباً فأصبح حراماً، وكانت الميتة محرمة فأصبحت مباحة، وكانت التماثيل شركاً ووثنية فأصبحت تعبيراً عن التقوى، وكان زواج رجال الدين حلالاً فأصبح محظوراً، وكان أخذ الأموال من الأتباع منكراً فأصبحت الضرائب الكنسية فرضاً لازماً، وأمورٌ كثيرة نقلتها المجامع من الحل إلى الحرمة أو العكس دون أن يكون لديها من الله سلطان، أو ترى في ذلك حرجاً.
وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان بها والإقرار بشرعيتها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة.
بعض شعائر المسيحية:
ومن شعائر المسيحية الحالية والتي هى خليط من وثنيات العالم القديم ما يلي:
1- التعميد: وطريقته هى: رش الماء على الجبهة أو غمس أي جزء من الجسم في الماء، ويكثر أن يغمس الشخص كله في الماء، ولابد أن يقوم بهذه العملية كاهن يعمد الإنسان باسم الأب والابن وروح القدس، ولا يقوم غير الكهنة بالتعميد إلا للضرورة، وحينئذ يسمى التعميد: "تعميد الضرورة".
2- العشاء الرباني: ويرمز به إلى عشاء عيسى الأخير مع تلاميذه إذ اقتسم معهم الخبز والنبيذ، والخبز يرمز إلى جسد المسيح الذي كُسِّرَ لنجاة البشرية، أما الخمر فيرمز إلى دمه الذي سفك لهذا الغرض، ويُستعمل في العشاء الرباني قليل من الخبز وقليل من الخمر لذكرى ما فُعل بالمسيح ليلة موته وكذلك ليكون هذا طعاماً روحياً للمسيحيين، فمن أكل هذا الخبز وشرب هذا الخمر استحال الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه فيحصل امتزاج بين الآكل وبين المسيح وتعاليمه إلى غير ذلك من المزاعم الباطلة.(44/238)
3- تقديس الصليب وحمله: إن تقديس الصليب عند المسيحيين سبق صلب المسيح نفسه، فقد ورد عن المسيح قوله: "إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني".
ومعنى حمل الصليب عندهم هو الاستهانة بالحياة والاستعداد للموت في أبشع صورة، أي صلبا على خشبة كما يفعل بالمجرمين والآثمين، وقويت فكرة تقديس الصليب بعد صلب عيسى -على زعمهم- فأصبح أداة تذكر المسيحيين بالتضحية الضخمة التي قام بها المسيح من أجل البشر. (1) وقولهم هذا باطل، قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (2) .
4- عقيدة الخطيئة الموروثة: وأساس هذا الموضوع عند المسيحيين أن من صفات الله العدل والرحمة، وبمقتضى صفة العدل كان على الله أن يعاقب ذرية آدم بسبب الخطيئة التي ارتكبها أبوهم، وطُرد بها من الجنة، واستحق هو وأبناؤه البعد عن الله بسببها، وبمقتضى صفة الرحمة كان على الله أن يغفر سيئات البشر، ولم يكن هناك من طريق للجمع بين العدل والرحمة إلا بتوسط ابن الله ووحيده وقبوله في أن يظهر في شكل إنسان، وأن يعيش كما يعيش الإنسان، ثم يصلب ظلماً ليكفّر عن خطيئة البشر.
__________
(1) انظر: المسيحية لأحمد شلبي ص 170 - 171، والنصرانية لأبي زهرة ص 129-130.
(2) سورة النساء، الآيتان (157- 158) .(44/239)
وقد ورد في العهد الجديد ما نصه: "وإن ابن الإنسان قد جاء ليخلص ما قد هلك، فبمحبته ورحمته قد صنع طريقاً للخلاص، لهذا كان المسيح هو الذي يكفّر عن خطايا العالم، وهو الوسيط الذي وفق بين محبة الله تعالى وبين عدله ورحمته، إذ إن مقتضى العدل أن الناس كانوا يستمرون في الابتعاد عن الله بسبب ما اقترف أبوهم، ولكن باقتراف العدل والرحمة وبتوسط الابن الوحيد، وقبوله للتكفير عن خطايا الخلق، قرب الناس من الرب بعد الابتعاد".
فهذه الأناجيل تذكر أن أهم الأغراض التي ظهر من أجلها المسيح ابن مريم أو المسيح ابن الله - على زعمهم - هو أن يكفر بدمه الخطيئة التي ارتكبها آدم - عليه السلام - والتي انتقلت بطريق الوراثة إلى جميع نسله، وأنه صلب بالفعل، فحقق بذلك أهم غرض ظهر من أجله.
والقرآن يرد على هذه الفرية، ويبين أن آدم عليه السلام قد أناب إلى الله تعالى واستغفر من خطيئته التي ارتكبها إذ أكل من الشجر فغفرها الله له، وأن الخطيئة لا يحمل وزرَها غير مقترفها، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) .
وقال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
وقال عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (3) .
كما أن الوزر لا يحمل تبعته إلا من اقترفه قال تعالى: { ... أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} (4) .
وعززت الكنيسة سلطتها الدينية الطاغية بادعاء حقوق لا يملكها إلا الله؛ مثل: حق الغفران، وحق الحرمان، وحق التحلة، ولم تتردد في استعمال هذه الحقوق واستغلالها.
صكوك الغفران والحرمان:
__________
(1) سورة فاطر، الآية (18) .
(2) سورة البقرة، الآية (37) .
(3) سورة طه، الآيتان (121 -122) .
(4) سورة النجم، الآيتان (38-39) .(44/240)
فأما غفران الذنوب فقد أصبح بدعة عجيبة، وذلك أنه إذا أراد البابا أن يبني كنيسة أو يجمع مالاً لشيءٍ ما؛ طبع صكوك الغفران ووزعها على أتباعه ليبيعوها للناس؛ كالذين يبيعون أسهم الشركات. وبالصك فراغٌ تُرِكَ ليُكتب به اسم الذي سيغفر ذنبه، والعجيب أن هذا الصك يَغفر لمشتريه ما تقدم من الذنوب وما تأخر، فهو بعبارة أخرى إذن بارتكاب كل الجرائم بعد أن ضُمنت الجنة لهذا المحظوظ.
الاعتراف:
ولم تقف قضية غفران الذنوب عند هذه الصكوك، بل سرعان ما دخلها عنصر جديد فاضح ذلك ما يسمى "الاعتراف"فكان على المذنب أن يعترف بذنبه، في خلوة مع قسيسه؛ ليستطيع هذا القسيس أن يغفر له ذنبه، وفي خلوات الاعتراف حدثت أشياء يقشعر له الوجدان.
وأما حق التحلة فهو حق خاص يبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين وتتخلى عن الالتزام بها متى اقتضت المصلحة - مصلحتها هى -ذلك.
حياة الرهبنة:
قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (1) .
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} "أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله مالم يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل".
وتمارس حياة الرهبنة داخل الأديرة بالانقطاع عن الحياة العامة، وبالامتناع عن الزواج وتضم الراهبين والراهبات، وكأي حياة تنافي الفطرة وتلغيها، شهدت الأديرة أحط ألوان الفسوق بما نمسك عنه.
__________
(1) سورة الحديد، الآية (27) .(44/241)
إلى غير ذلك من العقائد والمبتدعات النصرانية التي فرضتها الكنيسة على أتباعها، وكل هذه العقائد واضح بطلانها بحمد الله في العقيدة الإسلامية، وإنَّ ديناً من هذا القبيل هو مقطوع الصلة بما أنزل الله تعالى من الحق، وغير صالح لأن يكون له سلطان على العقول البشرية في عصور التنور الفكري، والتقدم الحضاري، وانتشار العلوم والمعارف.
ب- الطغيان المالي:
إن المتأمل في الأناجيل - على الرغم من تحريفها - يجد أنها لم تنه عن شيء كنهيها عن اقتناء الثروة والمال.
جاء في إنجيل متى: "لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا ".
وجاء في إنجيل مرقص: "مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيٌ إلى ملكوت الله".
وجاء في إنجيل لوقا: "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون، الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس، تأملوا الغربان، إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقيتها، كم أنتم بالحرى أفضل من الطيور".
إلا أن القرون التالية قد شهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقعها العملي، حتى صار جمع المال والاستكثار من الثروات غاية لديهم، فتهالك رجال الدين على جمع المال والإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات.
ويمكن إيجاز مظاهر الطغيان الكَنَسِيّ في هذا المجال فيمايلي:
1-الأملاك الإقطاعية:(44/242)
يقول ديورانت: "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير "فلدا"مثلاً يمتلك (15000) قصر صغير، وكان دير "سانت جول"يملك (2000) من رقيق الأرض، كان "الكوين فيتور"أحد رجال الدين سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة ... وكانوا يقسمون يمين الولاء لغيرهم من الملاك الإقطاعيين ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية ... وهكذا أصبحت الكنيسة جزءاً من النظام الإقطاعي.
وكانت أملاكها الزمنية: أي المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين ومصدراً للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات".
2-الأوقاف:
كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً للكنيسة، بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة، وبناء الكنائس، وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي "ويكلف"- وهو من أوائل المصلحين -: "إن الكنيسة تملك أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله".
3-العشور:
فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة (العشور) وبفضلها كانت الكنيسة تضمن حصولها على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئاً من ذلك فالشعب خاضع تلقائياً لسطوتها (1) .
4-ضريبة السنة الأولى:
__________
(1) المرجع السابق (2 / 380) .(44/243)
لم تشبع الأوقاف والعشور نهم الكنيسة الجائع، وجشعها البالغ، بل فرضت الرسوم والضرائب الأخرى، لاسيما في الحالات الاستثنائية؛ كالحروب الصليبية والمواسم المقدسة، وظلت ترهق بها كاهل رعاياها، فلما تولى البابا حنا الثاني والعشرون جاء ببدعة جديدة هى "ضريبة السنة الأولى"وهى مجموعة الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية تدفع للكنيسة بصفة إجبارية، وبذلك ضمنت الكنيسة مورداً مالياً جديداً (1) .
5-الهبات والعطايا:
وكانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة. وقد قويت هذه الدوافع بعد مهزلة صكوك الغفران، إذ انهالت التبرعات على الكنيسة، وتضخمت ثروات رجال الدين تضخماً كبيراً.
هذا. ولا ننسى المواسم المقدسة والمهرجانات الكنيسية التي كانت تدرُّ الأموال الطائلة على رجال الكنيسة؛ فمثلاً في سنة 1300م عقد مهرجان لليوبيل واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما بلغ من انهيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس.
6- العمل المجاني "السخرة":
لم تقنع الكنيسة بامتلاك الإقطاعيات برقيقها وما يملكه بعض رجال الدين من آلاف الأرقاء، بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، ولاسيما بناء الكنائس والأضرحة وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملوا بالمجان لمصلحتها مدة محدودة، هى في الغالب يَوْمٌ واحِدٌ في الأسبوع، ولا ينالون مقابل ذلك جزاءً ولا شكورا.
وبهذا يتبين لنا أن الانحراف والفساد الديني والاجتماعي قد وصل على يد الكنيسة النصرانية ورجالها وتعاليمها المزيفة إلى حد لم يعد يتحمله الناس ولا تطيقه فطرة البشر، حيث شقيت أوروبا برجال الدين الدجالين، وبتسلطهم ونفوذهم باسم الدين، وباسم الرب.
ج-الطغيان السياسي:
__________
(1) معالم تاريخ الإنسانية (3/913) .(44/244)
أما الطغيان السياسي فقد بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أوجها، حتى كان باستطاعة البابا أن يتوج الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره، وأن يحرمهم من الدين، وأن يحرم شعوبهم الذين يوالونهم، ولايستجيبون لأوامر الخلع البابوية.
حتى إن البابا "جريجوري"السابع خلع الإمبراطور الألماني "هنري" الرابع وحرمه، وأحلَّ أتباعه والأمراء من ولائهم له، وألبهم عليه، فعقد الأمراء اجتماعاً قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على مغفرة البابا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فاضطر هذا الإمبراطور حفاظاً على عرشه أن يسعى لاسترضاء البابا سنة (1077م) فاجتاز جبال الألب في شتاء بارد مسافراً إلى البابا الذي كان في قلعته بمرتفعات "كانوسا"في "تسكانيا"وظل واقفاً في الثلح في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان، متدثراً بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، يحمل عكازه مظهراً ندمه وتوبته، حتى ظفر بعفو البابا، وحصل على رضاه.
ثانياً: الصراع بين الكنيسة والعلم:
الصراع بين الدين والعلم مشكلة من أعمق وأعقد المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي إن لم تكن أعمقها على الإطلاق.
وذلك أن الكنيسة كانت هي صاحبة السلطة طوال القرون الوسطى في أوروبا حتى قامت النهضة العلمية هناك.
وفي هذه الأثناء وقعت الحروب الصليبية بين المسلمين والأوروبيين، واستمرت طوال القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلادي، واحتك الصليبيون خلالها بالمسلمين ووقفوا عن كثب على صفات الإسلام وروعته في جميع مجالات العلوم والفنون، في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها، حيث كانت المدارس والجامعات المتعددة في كل مكان في بلاد المسلمين، يؤمها طلاب العلم، ومنهم الأوروبيون الذين وفدوا يتعلمون من الأساتذة المسلمين، وترجمت بعض الكتب إلى اللغة الإنجليزية.(44/245)
فلما عاد أولئك الأوروبيين الذين تأثروا بنور الإسلام وعرفوا أن الكنيسة ورجالها عملة مزيفة، ووسيلة للدجل والتحكم الظالم في عباد الله، أخذ هؤلاء يقاومون الكنيسة ودينها المزيف وأعلنوا كشوفاتهم العلمية والجغرافية، والعلوم الطبيعية التي تحرمها الكنيسة، وعند ذلك قامت قيامة من يُسمون لدى النصارى برجال الدين، واحتدم الصراع، ومكث قروناً بين رجال العلم ورجال الكنيسة، فأخذوا يُكفّرون ويقتلون ويحرقون ويشردون المكتشفين، وأنشأت الكنيسة محاكم للتفتيش لملاحقة حملة الأفكار المخالفة لآرائها وأفكارها.
ومكث هذا الصراع عدة قرون، وانتهى بإبعاد الكنيسة ورجالها عن التدخل في نظم الحياة وشئون الدولة، فالدين - بمعنىً أوضح - مهمته داخل جدران الكنيسة فقط ولا داعي لوجوده خارجها، ويكون لرجال الدولة والعلم إدارة شئون الحياة بالأسلوب الذي يناسبهم سواء أكان متفقاً مع مبادئ الدين أم لا؟!!
وبما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، فإن الأولى أن نسمي ما حدث في أوروبا صراعاً بين الكنيسة والعلم، وليس بين الدين والعلم أو بين رجال الدين والعلماء.
ونظراً لأن الصراع الدامي الطويل قد انتهى بأول انتصار حاسم لأعداء الكنيسة اثناء الثورة الفرنسية فإننا سنتناول ذلك بإيجاز.
ثالثاً: الثورة الفرنسية:
ونتيجة لوضع الكنيسة ودينها المحرف، ووقوفها ضد مطالب الناس، دبّر اليهود مكايدهم لاستغلال الثورة النفسية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية، لاسيما الشعب الفرنسي.. فأعدوا الخطط اللازمة؛ لإقامة الثورة الفرنسية الرامية إلى تغيير الأوضاع السائدة، وفي مقدمتها عزل الدين النصراني المحرف الذي حارب العلم عن الحياة، وحصره في داخل الكنيسة وإبعاد رجالها عن التحكم الظالم.(44/246)
وفعلاً قامت الثورة الكبرى عام (1789م) واستطاع اليهود أن يجنوا ثمرات عملهم على حساب آلام الشعوب، والدماء التي أهرقت من جرائها، واستطاعوا أن يظلوا في الخفاء بعيداً عن الأضواء، وأن يزوروا كثيراً من الحقائق التاريخية؛ لستر مكايدهم وغاياتهم، واستطاعوا أن يصوروا هذه الثورة وما جرّت وراءها بالصورة الجميلة المحببة، وأن يجعلوها إحدى الأعمال التاريخية المجيدة، وذلك عن طريق الدعايات والإشاعات المزخرفة المقرونة بالشعارات البراقة التي انخدع بها الناس، وأخذت ترددها دون أن تفهم الهدف الذي ترمي إليه.
ووضع اليهود شعاراً مثلثاً لهذه الثورة هو "الحرية، والمساواة، والإخاء".
أما أصل مخططات هذه الثورة فقد وضعها جماعة النورانيين من الحاخامين اليهود، واستخدموا للبدء بالدعوة إليها بين سادة المال اليهود العالميين، الثري المرابي الكبير "روتشيلد الأول"ثم ابنه "ناتان روتشيلد".
ومما يدل على أن الثورة الفرنسية هي من صنع اليهود وتدبيرهم ماتتبجح به بروتوكولاتهم فتقول: "تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها "الكبرى"إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا".
وتقول: "كذلك كنا قديماً أول من صاح في الناس "الحرية، والمساواة والإخاء"كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر.
وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الخطورة، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية، لادينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب - وليس باسم الله - وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلاً من قرارات الكنيسة.
وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها فقد حلت الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة، وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة ...(44/247)