ثانياً: عناية الملك عبد العزيز -رحمه الله- بتعيين الأئمة العالمين بأمور الصلاة:
من أهمية المسجد تنبثق أهمية الإمامة فيه، فهي مسئولية كبرى أولاها الإسلام عناية فائقة دلَّ على ذلك الشروط التي أفاض الفقهاء في شرحها وذهبوا إلى وجوب توافرها في الإمام.
ولا شك أنَّ وجود الإمام الصالح الحافظ لكتاب الله، الفاهم للإسلام والشريعة وقضاياها فهماً صحيحاً يسهم في خدمة الدعوة إلى الله.
ونظراً لأهمية الإمامة، فإنَّ الدولة السعودية ومنذ نشأتها كانت حريصة على تدعيم هذا المرفق الهام، فقد اهتمت بتعيين الأئمة والخطباء فكانوا رجالها في مجال نشر الدعوة السلفية وتثبيت أركانها في المجتمع.
ومع إشراقة الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - كان أغلب المساجد بدون أئمة لقلة الدعاة، وازدادت حِدَّة المشكلة مع توالي الفتوح وتوحيد البلاد، واتسعت رقعة الدولة، وازداد عدد المساجد بالإضافة إلى مساجد الهجر الجديدة، فكان على الملك عبد العزيز أن يواجه هذه المشكلة. وقد انتهج في هذا المجال عدة تدابير منها:
1 - شغل المساجد الكبرى بأئمة وخطباء غير متفرغين مِمَّن كانوا يشغلون مناصب القضاء والتدريس وغير ذلك لما كان يتمتع به شاغلو هذه المناصب من درجة كبيرة في العلم.
2 - إنشاء المؤسسات التعليمية التي تكون نواة لتخريج أئمة مؤهلين مثل: إنشاء دار التوحيد في الطائف سنة (1364هـ) .
3 - أسند إلى رئاسة القضاء الشرعي المهام المتعلقة بالمدرسين في المساجد حيث نص نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي على ما يلي:
"جميع المدرسين الرسميين في المساجد يكون تعيينهم وفصلهم وتنقلاتهم وغير ذلك من اختصاص رئاسة القضاء" [53] .(41/399)
4 - توجيه الاهتمام بالأئمة. ونظراً لتطور الظروف المعيشية، وجب أن يمنح القائمون بوظيفة الإمامة والخطابة والدعوة إلى الله الحقوق المادية التي تؤهلهم للتفرغ الكامل لوظائفهم وتضمن لهم المعيشة الكريمة الهادئة فلا يشغلون بمعاشهم ومعاش أسرهم عن التفرغ لمهماتهم [54] .
والمتأمل في سيرة العلماء الذين جعلهم الملك عبد العزيز أئمة في المساجد يجد أنَّ معظمهم قضوا حياتهم في نفع العباد ونشر العلم لوجه الله منهم: الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، فقد عينه الملك عبد العزيز إماماً في مسجد والده الإمام عبد الرحمن آل فيصل فاستمر إماماً وواعظاً ومدرساً في هذا المسجد، وقام بذلك خير قيام [55] .
ثُمَّ جعله إماماً وخطيباً في المسجد الحرام سنة 1344هـ، كما أسند إليه تعيين الأئمة في المساجد واختيارهم.
وعين الملك عبد العزيز الشيخ سعد بن عتيق إماماً في المسجد الكبير في الرياض، وفي هذا المسجد الواسع عقد له حلقتين [56] للتدريس إحداهما بعد طلوع الشمس حتى امتداد النهار، والثانية بعد صلاة الظهر.
وكان حريصاً على ما يلقيه من الدروس شديد التثبت لمعنى ما يقرأ عليه فلا يلقى درسه ولا يسمعه [57] من الطالب حتى يراجع فيه شروحه وحواشيه، وما قاله العلماء فيه، وضبطه لغةً ونحواً وصرفاً حتى يحرر الدرس تحريراً بالغاً، لذا أقبل عليه الطلاب، واستفادوا منه فوائد جليلة.
وهذا يدل على العناية باختيار أئمة المساجد من الملك عبد العزيز
- رحمه الله - لأهمية وظيفة الإمام في الإسلام.(41/400)
وَلَمَّا كان من الأمور التي تسهل على الإمام مهمته في كل الصلوات وفي الحر والبرد، وجود دار يسكنه بجوار المسجد، واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانت حجرات نسائه ملاصقة للمسجد، وأبوابها مشرعة إليه، فقد تنبه الملك لهذا الأمر. فلمَّا ازدادت موارد الدولة بعد تدفق البترول شرع يخصص راتب للأئمة ويشتري لهم البيوت. وتوجد مخطوطة في دارة الملك عبد العزيز تحت رقم (719) تتضمن خطاباً من الملك عبد العزيز إلى الشيخ حمد بن عبد المحسن التويجري يكلفه بشراء بيوت للأئمة والمؤذنين [58] .
ومن اهتمام الملك عبد العزيز بالأئمة وتعينهم بصفة دائمة ما ورد في أحد كتبه: "من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل. إلى عبد الله بن ناصر. توكل على الله وانحر [59] [60] . إخوانك ابن ضنمة وجماعته وأقم عندهم تصلي بهم وتعلمهم أمر دينهم".
وقد كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - يختار لكل عمل أفضل من يراه لذلك العمل، فإن لم يجد الأفضل انتقل إلى مَن هو دونه.
وبناءً على ذلك فقد اختار للإمامة في المسجد الحرام، والمسجد النبوي أفضل من كان معروفاً بالعلم بأحكام الصلاة، ومن كان مشهوراً بالتدريس. ففي عام 1344هـ قدم مكة في صحبة الشيخ محمد رشيد رضا كل من الشيخين:
1) عبد الظاهر أبي السمح.
2) والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة.
فرشحهما السيد رضا لدى الملك عبد العزيز للإمامة والخطابة في الحرمين الشريفين فاختار الملك عبد العزيز - الشيخ عبد الظاهر أبا السمح لإمامة الحرم المكي وخطابته، واختار الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة لخطابة المسجد النبوي وإمامته، ومراقبة الدروس بالمسجد النبوي بالإضافة إلى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف بالمدينة [61] .(41/401)
وهكذا كان للملك عبد العزيز يد طولى في تنظيم تنصيب الأئمة والخطباء للوعظ والإرشاد وإمامة الناس في الصلاة. وقد أصبحت الإمامة وظيفة ثابتة لها مخصصات وعليها واجبات، مِمَّا مكَّن من تحقيق أهداف المسجد وأهمها الدعوة إلى الله تعالى بالعبادة والتوجيه في عصرٍ أصبح لا يكفي فيه الاعتماد على الأعمال التطوعية [62] .
والمهم هو عبادة الله على الوجه الذي شرعه الله حتى تتحقَّق الغاية التي من أجلها شُرِعَت، ولن يكون ذلك إلاَّ مِمَّن علم ما تصح به، وما هو روحها ولبها [63] .
ولا شكَّ أنَّ هذه الأمور التي قام بها الملك عبد العزيز، مِمَّا يساعد على حضور قلوب المصلين وخشوعهم في صلاتهم، وقد قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2] .
المطلب الثالث: اهتمامه بالدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) :
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اهتمامه بالهدف العام لهذه الدعامة، وهو تحقيق الأخوة الإسلامية:
من الأمور التي يتميز بها الملك عبد العزيز - رحمه الله - أنَّه يسير على منهج واضح مبني على أصول ثابتة مستمدة من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما فهمه السَّلف الصالح منهما.
وقد وصف الملك عبد العزيز بأنَّه داعية عقيدة ومنفذ شريعة.
وقد سبق أنَّ من أهداف الدعامة الثانية للتمكين في الأرض وهي
(إيتاء الزكاة) الاعتصام والالتفاف حول المنهج أو حول الإسلام الذي تضمنته الدعامة الأولى (إقام الصلاة) وأن لا يكون نفع المؤمن مقصوراً على نفسه وحسب.
وكل مؤرخ منصف أمين راسخ في العلم في التاريخ الحديث والمعاصر لا يستطيع أن يصف الملك عبد العزيز إلاَّ أنَّه من أعظم دعاة الوحدة التي دعا إليها الإسلام. ومن أعظم محققيها في العصر الحديث. وكما أنَّه استمد منهج العقيدة والشريعة من الإسلام، فكذلك استمد منهج الوحدة من الإسلام.(41/402)
إذ كان يسترشد ويستضيء - وهو يرسي دعائم وبناء الوحدة الإسلامية - بالآيات القرآنية الداعية إلى الاعتصام بحبل الله.
قال -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
[الأنبياء:92] ، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] ، وقال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] .
وكان الملك عبد العزيز ينظر إلى العقيدة والشريعة نظرة منهجية متكاملة.
فالعقيدة عنده هي توحيد الله، ثُمَّ اجتماع المؤمنين في ذات الله [64] .
والشريعة عنده هي النظام الذي يأتلف المسلمون على طاعته وموالاته، ويتحد صفهم تحت لوائه.
ومن العقيدة الموحدة والشريعة المنظمة تنبثق الوحدة، فما ينبغي لمجتمع اتحد في العقيدة والشريعة أن يتفرق اجتماعياً أو سياسياً أو جغرافياً.
ويبين الملك عبد العزيز منهجه في الوحدة فيقول: "نحن دعاة إلى العروة الوثقى التي لا انفصام لها".
وسبق أنَّه قال في العقيدة: "نحن دعاة إلى العقيدة السلفية" [65] .
وصيغ التعبير تكاد أن تكون متطابقة في المجالين، مِمَّا يدل على وضوح المنهج وترابطه لدى الملك عبد العزيز.
ويقول في الوحدة أيضاً: "إني أعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً، وصغيركم ابناً، فكونوا يداً واحدة، وألِّفُوا بين قلوبكم لتساعدوني على المهمة الملقاة على عاتقنا" [66] .
ويقول: "يجب أن تحرصوا على العمل، والعمل لا يكون إلاَّ بالتساند والتعاضد" [67] .(41/403)
ويقول: "أنا مسلم وأحب جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وليس هناك ما هو أحب إليَّ من تحقيق الوحدة" [68] .
وما قاله الملك عبد العزيز في المنهج طبَّقه بالفعل والإنجاز وما فكَّر فيه من الوحدة حقَّقه في الواقع، كأعظم ما يكون من تحقيق الوحدة، إنَّ المملكة العربية شبه قارَّة.
لكن عزيمة الملك عبد العزيز كانت أقوى من المثبطات والصعوبات التي كانت تقف في سبيل التوحيد، حيث مضى يوحد البلاد، ويرصها صفّاً واحداً، تحت رايةٍ واحدة، وخلف قيادة واحدة، في وطنٍ واحدٍ كبيرٍ، في ضوء منهجٍ جامعٍ قويم.
لأنَّه يعلم ويؤمن أنَّ أمَّةً تعتنق عقيدة التوحيد وتلتزم شريعة الإسلام لا يحل لها - بحالٍ من الأحوال - أن تتفرَّق وتتشتت؛ لأنَّ ذلك مخالفة جسيمة للعقيدة والشريعة.
ومن هنا يعلم أنَّ العزم على رد الأمة إلى العقيدة والشريعة هو عزم - في الوقت نفسه - إلى ردها إلى الوحدة. كما سبق في الآيات الكريمة التي تلوناها، وكما مرَّ في تقرير الملك عبد العزيز رحمه الله للعقيدة عالمياً.
المسألة الثانية: اهتمامه بالهدف الخاص للدعامة الثانية:
وهو (إيتاء الزكاة) بمعناها المعروف، أي دفعها إلى مستحقيها كما أمر الله بذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد سبق الكلام على أهميتها في الإسلام. والمنافع التي تعود على المزكِّي والمجتمع والآخذ للزكاة كثيرة، وفيها معنى التعبُّد - كما قال -تعالى-: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
وليس على المسلم في ماله حق سواها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في المال حق سوى الزكاة" [69] .
وقد حدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار الواجب فيها، والشروط التي يجب توفرها ...(41/404)
وكان الرسولُ صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً لكل المسلمين في زهده، وعفته، وكرمه، فأقبل الناس على إخراج زكاة أموالهم، مِمَّا أشاع المساواة والعدالة في جوانب الجزيرة القاحلة التي كانت قبل الإسلام تتسم بمظاهر الفوارق والأنانية والسلب والنهب..
لقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بفريضة الزكاة، فبعث السعاة لجمعها وتوزيعها على مستحقيها، وكان هديه صلى الله عليه وسلم انتقاء هؤلاء السعاة وإصدار التعليمات إليهم في معاملة أصحاب الأموال معاملة فيها رفق وتيسير، مع عدم التهاون في حق الله، وكان يحذر هؤلاء السعاة من الغلول ويحاسبهم على التقصير.
وكذلك سار على هديه خلفاؤه من بعده رضي الله عنهم. لكن العلماء اختلفوا في الزكاة التي يليها الأئمة ما هي:
قال الماوردي [70] في الباب الحادي عشر من كتابه (الأحكام السلطانية) : "والأموال المزكاة ضربان: ظاهرة، وباطنة:
فالظاهرة ما لا يمكن إخفاؤه - كالزرع والثمار والمواشي.
والباطنة ما يمكن إخفاؤه من الذهب والفضة وعروض التجارة.
وليس لولي الصدقات نظر في زكاة المال الباطن، وأربابه أحق بإخراج زكاته منه، إلاَّ أن يبذلها أرباب الأموال طوعاً يتقبلها منهم ويكون في تفريقها عوناً لهم.
ونظرهُ مختص بزكاة الأموال الظاهرة يؤمر أرباب الأموال بدفعها إليه وفي هذا الأمر إذا كان عادلاً قولان:
أحدهما: أنَّه محمول على الإيجاب، وليس لهم التفرد بإخراجها ولا تجزئهم إن أخرجوها.
والقول الثاني: أنَّه محمول على الاستحباب إظهاراً للطاعة، وإن تفردوا بإخراجها أجزأتهم. وله على القولين معاً أن يقاتلهم عليها إذا امتنعوا من دفعها - كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة - لأنَّهم يصيرون بالامتناع من طاعة ولاة الأمر بغاة" [71] .(41/405)
وهذا ما ذهب إليه واختاره أبو عبيد [72] في كتاب الأموال. وقال عنه: "هو قول أهل السنَّة والعلم من أهل الحجاز والعراق وغيرهم - في الصامت -؛ لأنَّ المسلمين مؤتمنون عليه كما ائتمنوا على الصلاة.
وأمَّا المواشي والحب والثمار فلا يليها إلاَّ الأئمة، وليس لربها أن يغيبها عنهم، وإن هو فرَّقها ووضعها مواضعها فليست كافية عنه، وعليه إعادتها إليهم. فرَّقت بين ذلك السُنَّة والأثر" [73] .
ويقول: "ألا ترى أنَّ أبا بكر الصديق إنَّما قاتل أهل الردة في المهاجرين والأنصار على منع صدقة المواشي، ولم يفعل ذلك في الذهب والفضة" [74] .
والملك عبد العزيز - يرحمه الله - كما سبق - هو داعية عقيدة ومنفذ شريعة، ومتبع لسنة السلف الصالح. فجهوده - بلا شك - ستكون على هذا النحو الذي هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل خلفائه من بعده. ثُمَّ السلف الصالح.
حيث كان يبعث السعاة كل عام لجلب الزكاة من الأموال التي تجب فيها الزكاة وصرفها على مصارفها الشرعية. وكان يحث على أداء الزكاة في المناسبات، ويأمر رجال هيئة الأمر بالمعروف والأئمة والخطباء بتوضيح أحكام الزكاة وبيان مصارفها.(41/406)
ولمَّا توسعت الدولة وكثرت الوزارات والهيئات الحكومية والإدارات والمصالح خصصت للزكاة مصلحة خاصة تقوم على شئونها وتنظيمها وجمعها ثُمَّ تفريقها على مستحقيها، حتى وصل الأمر في الأيام الأخيرة إلى تشجيع أهل الأموال على أداء زكاة أموالهم وذلك بإعطائهم بروات [75] تسهل لهم الحصول على الإعانات الحكومية التي تدفعها الحكومة للمواشي والمزارع وغيرها. مِمَّا جعل صاحب المال هو الذي يبحث عن الساعي بعد أن كان الساعي هو الذي يأتي إليه. وقد أدَّى ذلك إلى الاجتهاد في إحصاء الأموال الزكوية ودفع زكاتها بنفسٍ رضية، فجزى الله ولاة الأمر عن ذلك خير الجزاء؛ لأنَّ فيه تعاوناً على البر والتقوى - فضلاً - على أنَّه واجب من واجبات المسلم فرداً كان أو والياً من ولاة الأمر.
المطلب الرابع: في جهود الملك عبد العزيز واهتمامه بالدعامتين الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) :
سبق أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما العام يتناولان الإسلام كله؛ لأنَّه إمَّا أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
أمَّا بالمعنى الخاص لهما على ضوء الآية الكريمة موضوع البحث، فهما بمعنى السياج الواقي والدرع الحامي والمعلم المستمر الذي يتعاهد شجرة الإيمان بالسقيا ويذود عنها عوادي الأيام من البدع وغيرها. وهما سفينة النجاة التي تسير بهذا الشرع إلى أنحاء المعمورة في صورته العملية النقية وتطبيقاته الجلية.
والكلام عن جهود الملك عبد العزيز - رحمه الله - في هذه الدوائر الواسعة من الصعوبة بمكان. ولكن سوف نقتصر على إشارات تضيء، وتنبه المُطَّلِع إلى ما لم يذكر مِمَّا هو في المعنى كالمذكور فنقول:(41/407)
سبق أنَّ كثيراً من المفسرين جعلوا الآية - موضوع البحث - وهي قوله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] .
أقول: جعلوها متضمنة للغاية الكبرى من وجود الدولة المسلمة، وأنَّ وظيفة الدولة المسلمة تدور حول هذه الدعائم الأربع ومدى تطبيقها على الوالي والرعية.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[76] : "صلاح أمر السلطان بتجريد المتابعة لكتاب الله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحمل الناس على ذلك. فالله سبحانه وتعالى جعل صلاح أهل التمكين في أربعة أشياء:
1 - إقام الصلاة. 2 - وإيتاء الزكاة.
3 - والأمر بالمعروف. 4 - والنهي عن المنكر.
فإذا أقام الصلاة في مواقيتها جماعة هو وحاشيته وأهل طاعته، وأمر بذلك جميع الرعية، وعاقب من تهاون في ذلك العقوبة التي شرعها الله، فقد تَمَّ هذا الأصل.
ثُمَّ كل نفع وخير يوصله إلى الخلق هو من جنس الزكاة، فمن أعظم العبادات: سد الفاقات، وقضاء الحاجات، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف.
والأمر بالمعروف: هو الأمر بما أمر الله به ورسوله من العدل والإحسان، وأمر نواب البلاد وولاة الأمر باتباع حكم الكتاب والسُنَّة واجتناب حرمات الله. والنهي عن المنكر: هو النهي عما نهى الله عنه.
وإذا تقدَّم السلطان بذاك في عامَّة بلاد الإسلام كان فيه من صلاح الدنيا والآخرة، وله وللمسلمين ما لا يعلمه إلاَّ الله، والله يوفقه لما يحبه ويرضاه" [77] .
والملك عبد العزيز نحسبه من هؤلاء الذين عناهم شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الكلام.(41/408)
ومن الأدلة على جهوده في هذا الباب ما بذله في ولاية الحسبة وهي ولاية شرعية اهتم بها الملك عبد العزيز اهتماماً ملحوظاً وأولاها عناية خاصة وإن كانت أخص من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنها باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسع ومهم.
وقد عني بهذا المسلمون في مختلف العصور لأهميتها. وكان الملك عبد العزيز أول مَنْ أسَّس هيئة رسمية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكَّة المكرمة بعد فتح الحجاز سنة (1344هـ) [78] تتولى أمر الاحتساب في المملكة العربية السعودية، وكان تسميتها بـ (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تسمية طبيعية حيث تسعى هذه الهيئة إلى إقامة صرح هذه الولاية الدينية المهمة (ولاية الحسبة) . وقد جاء في قرار إنشائها أنَّ أهدافها هي الأهداف الخمسة الآتية:
1 - تتبع المعاملات والعادات، فما وافق الشرع منها تقره، وما خالفه تزيله.
2 - منع البذاءة اللسانية التي تعودها السوقة.
3 - حث الناس على أداء الصلوات الخمس جماعة.
4 - مراقبة المساجد من جهة أئمتها ومؤذنيها ومواظبتهم، وحضور الناس بها، وغير ذلك من دواعي الإصلاح.
5 - أن تتخذ في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جميع الوسائل الموصلة إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا أعياها أمر من الأمور رفعت مذكرة إلى ولي الأمر لإجراء اللازم" [79] .
ثُمَّ تطورت مهام الهيئة وإجراءاتها فيما بعد. واتسعت دائرة المهام الموكلة إليها.(41/409)
"ومع أنَّه لا يمكن إغفال الأثر الذي ترتب على تأسيس هذه الهيئة، إلاَّ أنَّه لا ينكر - أيضاً - الجهد الذي قام به الملك عبد العزيز شخصياً في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمتمثل في رسائله ومناصحته للأمراء وعامَّة الناس بوجوب التزام الطاعات والانتهاء عن المنكرات، حيث عرف عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - أنَّه آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، متمسك بأحكام الشريعة الإسلامية قولاً وعملاً في كافة المجالات، عاملٌ بما يحقق المصلحة لبلاده وشعبه، محباً للعلماء، كثير التوجيه والنصح والإرشاد لهم إيماناً بأنَّ محبة الخير لإخوانه كمحبته لنفسه" [80] .
قال الملك عبد العزيز - رحمه الله - في اجتماع له بموظفي الدولة: "نحن وضعنا جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبلاغاتها ومقرراتها تشمل الجميع على السواء، وأنتم يا جماعة الموظفين أحق الناس باتباع أوامرها واجتناب منهياتها، فإنَّكم أنتم المكلفون بتنفيذها، فإذا كنتم لا تبدأون بأنفسكم وتكونون قدوة صالحة للناس يصعب تطبيقها وتنفيذها".
وقد أمر -رحمه الله- بعض منسوبي الاحتساب [81] بأمور:
أولها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا - كما يقول الملك
عبد العزيز - هو رأس المال.
ثانيها: سعة الصدر مع الناس بحيث يعطي كل ذي حق حقه بالشرع، ولا يتعدى أمر الشرع [82] .
والمحلل لعبارات الملك عبد العزيز السابقة يجد فيها من حرص الملك عبد العزيز إيمانه بضرورة الحسبة وأهميتها، حيث يلاحظ ما يلي:
أ - تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمور التي وصى بها.
ب - وصفه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنَّه (رأس المال) أي أنَّه أساس لابُدَّ من المحافظة عليه [83] .(41/410)
2 - وفي عام 1355هـ عقد اجتماعاً عامّاً من الرؤساء وأهل الحل والعقد، وكان مِمَّا قاله في هذا الاجتماع ما يلي: "يجب أن ننظر في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنفيذاً لأمر الله وحفظاً له، ويجب أن ننظف أنفسنا من الأدران ونطهرها من كل الأمور المخالفة، وندنو إلى ما يرضي الله ونخاف عقوبته، إذ ليست هناك عقوبة أشد من عقوبة الله جلَّ وعلا.
وهذه البلاد يجب أن تكون قدوة صالحة للمسلمين في كل عمل من أعمالها، ونحن نطلب المساعدة في هذا الشأن منكم ومن الأهلين، ونريد أن تكونوا عوناً للحكومة في هذا الأمر؛ لأنَّه إذا كان الجميع اتفقوا على درء المفاسد، سهل العمل. أمَّا إذا كانت إجبارية صعب حلّها وطال أمرها، وإنَّ المساعدة التي نطلبها هي:
أولاً: مساعدة الأهالي.
ثانياً: ترتيب طريقة لدرء المفاسد، والحيلولة دون الفساد، لنتمكن من إقامة الشرع الشريف، فإذا عملنا هذا قمنا باللازم، وهذا أهم ما يجب العناية به؛ لأنَّ الدنيا إذا كثرت خيراتها وأُهْمِلَ الدين فلا فائدة ترجى منها.
أمَّا إذا عُمِّرَ الدين ونُفِّذَت أوامره واجتنبت محارمه، صلُحَت الدنيا، فأنا أرجو أن تفكروا في طاعة الله ومخافته، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأرجو أن تهتموا بالأمر اهتماماً شديداً، فبإصلاح هذه المسألة يصلح كل شيء" [84] .
وجهود الملك عبد العزيز في هذا المجال جليلة وعظيمة، وأقواله وأفعاله في هذا الباب تدل على أنَّه منفذ شريعة حقاً، وهي كثيرة، وما ذُكِرَ إنَّما هو نماذج منها فقط للتدليل على جهود الملك عبد العزيز في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [85] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الدكتور سعود بن سعد الدريب، الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 9(41/411)
[2] فؤاد حمزة، البلاد العربية السعودية ص 30، مطبعة دار المطبوعات الحديثة، ط 1 سنة 1408 هـ، والمرجع السابق ص 9
[3] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز ص:1/ 56
[4] المرجع السابق ص 56 مع الحاشية.
[5] الملك الراشد ص 322، لعبد المنعم الغلامي، دار اللواء، الرياض، 1400هـ، والزركلي: شبه الجزيرة 1/57
[6] د. سعود الدريب، مصدر سابق ص 10
[7] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز ص 1/60، والزركلي في مقدمة كتابه شبه الجزيرة 1/21
[8] تاريخ نجد ص 110، والزركلي: شبه الجزيرة 2/792
[9] الزركلي: شبه الجزيرة 2/794، عبد العزيز والشخصية الإسلامية، لعبد العزيز شرف ومحمد إبراهيم شعبان ص 170، الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/ 62
[10] القصص: 5 - 6
[11] محمد: 7
[12] المنهج القويم في الفكر والعمل ص 42
[13] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/197
[14] جهود الملك عبد العزيز في خدمة العقيدة ص 2 لعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.
[15] المنهج القويم في الفكر والعمل ص 44
[16] محمد حامد الفقي: أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح العمراني والديني في جزيرة العرب وغيرها ص 110-111، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/138، 262
[17] من خطبة الملك عبد العزيز رحمه الله في المأدبة الكبرى لضيوف الرحمن والمنشورة بجريدة أم القرى بعددها (989) الصادر في 6 من ذي الحجة 1363هـ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/265
[18] د. عبد الله بن عبد المحسن التركي: منهج الملك عبد العزيز في السياسة الدولية وأثره في العلاقات السعودية المصرية ص 38
[19] أم القرى، العدد (434) سنة 1351هـ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/264
[20] الزركلي: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 159(41/412)
[21] المنهج القويم للتركي ص 44-47.
[22] المرجع السابق 44.
[23] الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 23
[24] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/263
[25] المهندس / سليمان علي الشائع: الملك عبد العزيز وأثره في التاريخ المعاصر ص36
[26] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/263 ومن هؤلاء الدعاة: الشيخ محمد رشيد رضا - مؤسس مجلة المنار - التي نشرت مقالات التوحيد ومحاربة الشركيات. والشيخ محمد حامد الفقي، والشيخ محمود الألوسي، وغيرهم كثير.
[27] الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 17
[28] وصفه بهذه العبارة محمد جلال كشك في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي) ص32، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/267
[29] عبد الله القصيمي: الثورة الوهابية ص 28
[30] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/270
[31] أم القرى، العدد (333) الصادر في ذي الحجة 1349هـ.
[32] المنهج القويم ص 66
[33] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/275
[34] المائدة: 44
[35] الدرر السنية 5/319
[36] يراد بها الأعراف التي كانت سائدة في الجزيرة العربية التي تخالف الشرع. مثل نار الملحس التي يزعمون أنها تدل على السارق. وقانون أبي نمى وحماية الدخيل ولو كان مجرماً تعسيم القريبة وجعلها في الوجه عن الخاطب.
[37] نشر هذا الخطاب بجريرة أم القرى، عدد (857) في 11 ذي الحجة سنة 1355هـ.
[38] نشر هذا الخطاب بجريرة أم القرى، الصادر في يوم الاثنين في 11 ذي الحجة سنة 1355هـ.
[39] نشر هذا الخطاب بجريرة أم القرى، عدد (434) في 11 ذي الحجة سنة 1351هـ.
[40] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/282
[41] المفردات في غريب القرآن ص 429(41/413)
[42] الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده 4/151 عن عقبة بن عامر.
قال في مجمع الزوائد 10/270: "إسناده حسن".
[43] الأحيدب: من حياة الملك عبد العزيز ص 37-43
[44] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 25، المنهج القويم في الفكر والعمل ص 31، الملك الراشد ص 322
[45] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/57
[46] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/65
[47] لسان العرب / مادة (سجد) 3/204
[48] رواه البخاري، كتاب التيمم 1/436، مع فتح الباري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
[49] وأول الآية قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} .
[50] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/354-355
[51] أعلن الملك عبد العزيز عام 1368هـ على العالم الإسلامي اعتزامه توسعة المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وبدأت الدراسة في مشروع توسعة المسجد الحرام، وبُدِئَ في التنفيذ بعد وفاته - يرحمه الله -.
عن كتاب إعلامي بعنوان (المملكة العربية السعودية) صدر عن وزارة المالية بمناسبة صدور ميزانية الدولة للعام المالي 1382/1383هـ وقال إنَّ تكاليف توسعة المسجد الحرام بلغت (700) مليون ريال سعودي.
وانظر: التطبيقات العملية للحسبة في المملكة العربية السعودية من عام 1351-1408هـ للدكتور / طامي بن هديف معيض البقمي.
[52] المرجع السابق.
[53] أبو راس الديب: الملك عبد العزيز والتعليم ص 204، وبيان إحصائية
بالجوامع والمساجد بالمملكة والمرفق بخطاب سعادة وكيل وزارة الحج والأوقاف لشئون المساجد رقم 272 وتاريخ 19/10/1410 هـ، والتطبيقات العملية للحسبة في المملكة ص 233 مع الحاشية.(41/414)
[54] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/381، 2/601، 639
[55] المرجع السابق 1/379
[56] المراد مجلسين للتدريس.
[57] أي لا يقبل من الطالب قراءة الدرس حتى يحضره. لأن بعض المعلمين يطلبون من الدارس قراءة الدرس قبل الشرح وتسميعه أولاً.
[58] المخطوطة في دارة الملك عبد العزيز برقم (719) ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/382
[59] كان تاريخ هذا الخطاب في 28/1/1342 وهو من وثائق الملك عبد العزيز ص 9
[60] ومعنى: "وانحر اخوانك"، توجه إليهم، وهي لغة دارجة في الجزيرة.
[61] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 2/795-796
[62] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/385، 2/635-650
[63] الخشوع في الصلاة لابن رجب الحنبلي ص 10-11، و 30
[64] المراد من أجل الله. وانظر المنهج القويم في الفكر والعمل للدكتور التركي ص51.
[65] المرجع السابق ص51.
[66] من شيم الملك عبد العزيز 3/130
[67] الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 207
[68] المصدر السابق ص 216، المنهج القويم في الفكر والعمل ص 51
[69] رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة، حديث رقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس أنَّها سَمِعَت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس في المال حق سوى الزكاة".
وضعفَّه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته، وأورد عن فاطمة رضي الله عنها: "إنَّ في المال لحق سوى الزكاة". مشكاة المصابيح، حديث رقم (1914) . ويجمع بينهما بأن المنفي الوجوب، والمثبت الندب.
وانظر كتاب الماوردي الباب الحادي عشر. وقارن بالتطبيق المعاصر للزكاة ص13.(41/415)
[70] الماوردي: هو علي بن محمد بن حبيب البصري، المعروف بالماوردي، فقيه شافعي، وكنيته أبو الحسن. وُلِدَ بالبصرة سنة (364هـ) . من شيوخه: الحسن بن علي الحنبلي، ومحمد بن عدي المقرئ، وأبو حامد الاسفراييني.
ومن تلاميذه: أبو بكر الخطيب، وأبو العينين كادش.
ومن مؤلفات: الحاوي في الفقه، ودلائل النبوة في الحديث، والأحكام السلطانية في السياسة.
الفتح المبين 1/240، شذرات الذهب 3/286، طبقات الشافعية للسبكي 3/303
[71] الأحكام السلطانية للماوردي، طبعة نهضة الوطن بمصر، سنة 1298 هـ ص 108، وانظر التطبيق المعاصر للزكاة ص12 للدكتور شوقي إسماعيل.
[72] أبو عبيد: القاسم بن سلام. البغدادي، الفقيه الأديب صاحب المصنفات الكثيرة في القرآن والفقه والشعر. توفي سنة 244هـ.
مقدمة كتاب الأموال بتحقيق محمد خليل هراس ص5.
[73] المراد بالسنة: سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، والأثر: آثار الصحابة والتابعين. انظر التطبيق المعاصر للزكاة ص12.
[74] الأموال لأبي عبيد ص 567، طبعة المكتبة التجارية، سنة 1355هـ.
[75] البروات: وثائق تدل على دفع الزكاة.
[76] هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، شيخ الإسلام ابن تيمية، ناصر السُنَّة وقامع البدعة، وُلِدَ سنة 661هـ، مجتهد في جميع الفنون، وقد بذل نفسه وماله من أجل نصرة الإسلام. آثاره كثيرة، من أعظمها مجموع الفتاوى، ودرء تعارض النقل والعقل. توفي سنة 728هـ.
شذرات الذهب 1/43، الأعلام 1/55، طبقات الأصوليين 2/139
[77] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/242، الدعوة في عهد الملك
عبد العزيز 1/205-206
[78] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/315(41/416)
[79] لمحات من الإصلاحات الدينية والاجتماعية في عهد صقر الجزيرة، بحث ودراسة تاريخية من إعداد إبراهيم محمد سرسيق 1407هـ، والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/329-330
[80] جريدة أم القرى، عدد (142) الصادر في يوم الجمعة 6 ربيع الأول سنة 1346 هـ.
[81] هما: محمد بن طرمان، ومحمد بن مرضي. الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/332
[82] الرسالة مخطوطة بدارة الملك عبد العزيز تحت رقم (1979) .
[83] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/333
[84] الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة ص 25-26
[85] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/299-301. وفي هذه الصفحات خطبة مفيدة وطويلة، ولولا أنَّ المقام لا يحتمل التطويل لنقلتها.(41/417)
تابع لدعائم التمكين للمملكة العربية السعودية
المبحث الثاني: في جهود أبناء الملك عبد العزيز –رحمه الله– في ترسيخ تلك الدعائم والأُسُس:
لقد كان للمنهج القويم الذي سار عليه الملك عبد العزيز -رحمه الله-، آثار وثمار طيبة آتت أكلها بإذن ربها.
فالملك عبد العزيز ارتفق منهجاً واضحاً أساسه العقيدة الصافية، ولحمته الشريعة الكاملة المنظِّمَة لجميع شئون الحياة في الدنيا والآخرة. وهدفه وغايته تحقيق الأخوة الإسلامية كما أرادها الله تعالى، ثُمَّ رضى الرب سبحانه وتعالى الذي وعد بالنصر والتمكين لمن ينصره، قال -تعالى-: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] ، وقال -تعالى-: {الذين إنْ مكّنَّاهم في الأرض الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] .
وقد سبقت جهود الملك عبد العزيز في تحقيق وتطبيق هذه الأسس والدعائم. فكان من ثمار تلك الجهود المباركة أن أسس الملك عبد العزيز الدولة وأقام الوحدة، وأكسب بلاده احتراماً ووزناً بين الدول، إلى غير ذلك من الأمجاد التي لا يتسع المقام لحصرها.
فلمَّا توفاه الله إلى جواره - قام أبناؤه من بعده - وهم من ثمار منهجه وخريجي سياسته الحكيمة -بالمحافظة على تلك الأسس والدعائم- بكل أمانة وعزم وهمة وشموخ [1] .
وهذا وفاء كريم لوالد كثير العطاء متتابع الإنجاز موفور الأمجاد.(41/418)
إنَّ الكيان الذي بناه الملك عبد العزيز قد ازداد - في عهد أبنائه - عمقاً وتنوعاً وازدهاراً مع المحافظة على الأساس والغاية والهدف الذي كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - يسعى إليه؛ لأنَّ المنهج الذي كان الملك عبد العزيز يسير عليه في جميع شئونه ليس منهجاً (اجتهادياً) من حيث الأصول والأسس، يطرأ عليه من التبديل والتغيير والتعديل أو التحوير والنقص ما يطرأ على كل المناهج الأخرى التي ليست لها قداسة المصدر، ولا معجزة حفظ النص، ولا خصيصة الخلود، ولا ميزة الشمول والتنوع.
نعم إنَّ المنهج القويم الذي جاهد الملك عبد العزيز زمناً طويلاً في سبيله باقٍ مستمر بإذن الله وتوفيقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنَّه عقيدة الأمة وشريعتها، وقوام وحدتها.
ولأنَّ تطبيقه آية إيمانها الكامل بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ولأنَّها تعرف مصدره ونصوصه ولغته.
ولأنَّها تتعامل معه في حياتها اليومية، في الصلاة، وقراءة القرآن، وفي الحلال والحرام، في المطعومات والمشروبات، وفي الزواج والطلاق، وتسمية الأولاد، وفي بر الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك مما يعتبر - وحده - منهجاً متكاملاً للحياة منبثقاً من المنهج العام [2] .
ولأنَّه منهج تفرَّعت عنه سائر الأنظمة التي تنظم حياة المجتمع وشئون الدولة [3] .(41/419)
إنَّ الذين وسعوا وعمَّقوا وأضافوا - مع المحافظة على عدم المساس بالأصل، هم خريجو مدرسة الملك عبد العزيز، هم أبناؤه الأوفياء الأمناء الأقوياء، الذين تولوا قيادة سفينة النجاة من بعده، وهم الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد -رحم الله الجميع- حتى وصلت القيادة إلى يد خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله تعالى- وأطال في عمره؛ فكانوا خير خلف لخير سلف. وقبل أن نذكر الشواهد والدلائل على تقرير أبناء الملك عبد العزيز وترسيخهم لدعائم التمكين نستمع أولاً إلى ما يقوله خادم الحرمين الشريفين في بيان السياسة الشرعية التي اتبعها آل سعود، حيث يقول: "لقد قامت السياسة الشرعية التي انتهجها آل سعود على الأسس الآتية:
أولاً: عقيدة التوحيد التي تجعل الناس يخلصون العبادة لله وحده لا شريك له، ويعيشون أعِزَّة مكرمين.
ثانياً: شريعة الإسلام التي تحفظ الحقوق والدماء وتنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتضبط التعامل بين أفراد المجتمع، وتصون الأمن العام.
ثالثاً: حمل الدعوة الإسلامية ونشرها حيث إنَّ الدعوة إلى الله من أعظم وظائف الدولة الإسلامية وأهمها.
رابعاً: إيجاد بيئة عامَّة صالحة مجردة من المنكرات والانحرافات تعين على الاستقامة والصلاح، وهذه المهمة منوطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامساً: تحقيق الوحدة الإيمانية التي هي أساس الوحدة السياسية والاجتماعية والجغرافية.
سادساً: الأخذ بأسباب التقدم وتحقيق النهضة الشاملة التي تيسر حياة الناس ومعاشهم وتراعي مصالحهم في ضوء هدي الإسلام ومقاييسه.
سابعاً: تحقيق الشورى التي أمر الإسلام بها ومدح من يأخذ بها، إذ جعلها من صفات المؤمنين.
ثامناً: الدفاع عن الدين، والمقدسات، والوطن، والمواطنين، والدولة.
هذه هي الأصول الكبرى التي قامت عليها الدولة السعودية [4] .(41/420)
ومن يتأمَّل هذه الأُسس التي جاءت في كلمة خادم الحرمين الشريفين التي ألقاها بمناسبة صدور النظام الأساسي للحكم في الدولة السعودية، يجدها قد تضمنت أسس ودعائم التمكين التي ذُكِرَت في الآية موضوع البحث، وقررت ذلك أيما تقرير مِمَّا يدل دلالة واضحة أنَّ أسرة آل سعود تسير في جميع عهودها على ضوء تلك الدعائم الأربع المذكورة في الآية.
يقول الدكتور صالح بن عبد الله العبود - مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية -: "لمَّا توفي الملك عبد العزيز - رحمه الله - تولَّى بعده الملك سعود - رحمه الله - وفي عهده تمَّ فتح الجامعة الإسلامية، وتوسعة الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف - كما سبق - وكان في المناسبات يشكر الله على ما حبا به الشعب السعودي من نعمة التمسك بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة ولزوم طريق أهل السُنَّة والجماعة.
ويذكر أنَّ أول ما يهم الجميع هو الاعتصام بحبل الله المتين، واتخاذ الوسائل التي تمكن روح التوحيد الخالص في قلوب أفراد الشعب كافة حتى يخلص الجميع العبادة لله وحده، والسير في ذلك بهدي الكتاب والسُنَّة في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في كل مجال، وعلى الأخص في المدارس. ومراقبة ذلك وحثّ الناس على كل ما يأمر به الشرع الإسلامي ومنعهم من كل ما ينهى عنه؛ لأنَّ في ذلك خيري الدنيا والآخرة. ولأنّه ليس شيء من الخير إلاَ أمر به الإسلام، وليس شيء من الشرّ إلاَّ ينهى عنه الإسلام" [5] .
وهكذا نرى أنَّ المنهج الذي يترسمه ويهتدي بضوئه أبناء الملك عبد العزيز هو نفس المنهج الذي تبناه وجاهد من أجله المؤسس الأول. وهو تحقيق وترسيخ عقيدة السلف الصالح وتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع شئون الحياة على كافة أفراد الشعب يستوي في ذلك الراعي والرعية.(41/421)
وهذا مثال على جهود أبناء الملك عبد العزيز في ترسيخ وتقرير الدعامة الأولى من دعائم التمكين، وهو تحقيق العقيدة وتنفيذ الشريعة.
أمَّا الدعامة الثانية للتمكين فنذكر لها مثالاً في الهدف العام منها وهو تحقيق الأخوة الإسلامية والوحدة الإيمانية.
جهود الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- رائد التضامن الإسلامي، ذي الجهد الصادق المشكور، الذي بذل كل ما في وسعه من أجل جمع كلمة المسلمين وتضامنهم تحت راية التوحيد، عملاً بقوله -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] . وقوله -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] .
وحيث إنَّ العالم يتعرَّض لهجمات سياسية وفكرية من أعدائهم، فكل ذلك يحتم على المسلمين أن يتضامنوا ويتحدوا تحت عقيدة واحدة وراية واحدة، كما أمرهم ربهم، ولا سيما في مقابل تضامن أعدائهم عليهم.
إنَّ جَمْعَ أكثر من ستمائة مليون مسلم على الشعور بالرابطة الإسلامية وتوحيدهم بذلك كفيل بالوقوف أمام أعدائهم أن يستبيحوا بيضتهم ويتسلطوا على ديارهم ومقدساتهم في فلسطين وغيرها.
ولهذا تبنى الملك فيصل -رحمه الله- الدعوة إلى مؤتمر القمة الإسلامي في الرباط بالمغرب، عام 1389هـ، ثُمَّ تلته مؤتمرات أخرى.
وكان مِمَّا قاله في خطاب له ألقاه في موسم الحج يدعو فيه إلى تضامن المسلمين: "أيها الأخوة.. إنَّ الإسلام هو دين المحبة، دين الأخوة، دين السلام، دين القوة، دين العلم، دين البناء، دين التقدم، دين الفضيلة ... لم يبق فضيلة ولا مكرمة إلاَّ دعا إليها، ولم يبق رذيلة إلاَّ حذَّر منها، فحينما نقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى اتباع ما جاء به في كتابه وسنة نبيه.. فإنَّما تؤدون [6] واجباً مفروضاً عليكم تجاه ربكم ودينكم وتجاه أنفسكم..(41/422)
وإنَّ واجب المسلمين أن يتكاتفوا ويثبتوا لما يصيبهم من مكاره وما يعترض سبيلهم من صعاب، وعليهم أن يسعوا إلى ما يؤلف قلوبهم ويقرب بينهم، ويبذر بذور المحبة والأخوة والتعاون فيما يصلح دينهم ودنياهم" [7] .
وقال وهو يتحدث عن تحرير المسجد الأقصى: "أيها الأخوة المسلمون. نريدها غضبة ونهضة إسلامية، لا تدخلها قومية ولا عنصرية ولا حزبية، إنَّما دعوة إسلامية، دعوة إلى الجهاد في سبيل الله، في سبيل ديننا وعقيدتنا دفاعاً عن مقدساتنا وحرماتنا، وأرجو الله سبحانه وتعالى أنَّه إذا كتب لي الموت أن يكتب لي الموت شهيداً في سبيل الله". ونرجو أن يكون قد نال الشهادة التي تمناها [8] .
ومن كلمات الملك فيصل رحمه الله:
"إنَّ غيرنا من الحكام مقلدون وليسوا مبتكرين، ونحن لسنا في حاجة إلى استيراد تقاليدنا من الخارج، وقد كان لنا تاريخ مجيد، وقدنا العالم، نحن لنا أجداد وأمجاد وتاريخ وتراث. فلماذا نتنصل من هذا ونلتفت يميناً وشمالاً نتلمس الطريق، ونتلمس المبادئ؟!
تراثنا أشرف تراث، وتاريخنا أشرف تاريخ، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس. ونحن لا نقبل أبداً أن يقال عن ديننا وعن شريعتنا إنَّه دين التأخر والجمود. نحن نريد لأمتنا أن تكون قائدة لا مقودة، وأن تكون في المقدمة لا في المؤخرة، وبإمكاننا أن نتقدم ونمسك الأمر إذا اتبعنا كتاب الله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم" [9] .
ومن كلمة له ارتجلها في الحفل الذي أقامته الجامعة الإسلامية بمناسبة زيارته لها: "أيها الأخوة.. إنَّ المسئولية الملقاة على عواتقكم وعواتق الجميع مسئولية عظيمة، فاسعوا إلى التفقه في دينكم ومعرفة كل ما يمكن معرفته لتكونوا مسلحين بسلاح العلم وسلاح الفقه وبسلاح المعرفة حتى تكونوا مستعدين لما يجابهكم من صعاب ومن دعوات مضللة ومن مجهودات يرغب ويأمل أصحابها أن يأخذوا من هذا الدين وأن يحطوا من قدره وأن يهاجموه بكل ما أوتوا من قوة.(41/423)
وإنَّني لأرجو الله مخلصاً أن يهبكم الصبر والشجاعة والقوة لتكافحوا في سبيل هذا الدين ولتبصروا الناس بما يحتويه هذا الدين، وما تحتويه هذه الدعوة والشريعة من مزايا ومن مكارم ومن أسس هي أصلح ما يكون للبناء الذي يهدف إلى صالح البشر وإلى خير الأُمَّة، ولا يهدف إلى التزوير وإلى البدع والمضللات وإلى هدم الكيانات البشرية وإلى هدم الأخلاق وكل ما هو كريم في بني الإنسان" [10] .
ومن هذا نعلم عظم الجهود التي بذلها الملك فيصل رحمه الله في ترسيخ عقيدة السلف الصالح وتوطيد وحدة الأُمَّة والعمل على تضامن المسلمين، حيث قام برحلات عديدة إلى الأقطار الأفريقية والآسيوية وبعض الدول الأوربية لشرح وجهة نظر المملكة من منطلق إسلامي تجاه الخطر الصهيوني على العرب والمسلمين.
وقبل أن ينتقل الحديث عن هذا الموضوع، أحب أن أشير إلى أنَّ الملك فيصل -رحمه الله- خلال زيارته للجامعة الإسلامية زار كلية الشريعة ودخل على فضيلة الشيخ محمد الأمين -صاحب أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن- رحمه الله- وكان مِمَّا شرحه الشيخ أمام الملك فيصل -رحمه الله- الآية الكريمة موضوع البحث {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} فأعجب بما قاله الشيخ محمد الأمين في تفسيرها وشكره على ذلك.
وأمَّا جهود أبناء الملك عبد العزيز -رحمه الله- في ترسيخ وتطبيق الدعامتين الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) :
فقد تقدَّم أنَّ المبدأ والأساس لم يتغير، وإنَّما حدث توسيع في الوسائل وتطور في التنظيم، لما توفرت المادة التي ساعدت على ذلك، والآلة التي سهلت توصيل الدعوة إلى الناس.(41/424)
وقد مرَّ أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بقدر الاستطاعة "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" [11] .
ومرَّ أيضاً أنَّ من وظائف الدولة المسلمة التي دلَّت عليها الآية موضوع البحث وغيرها من أدلة الشرع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) . وأنَّ ذلك يشمل الدين كله؛ لأنَّه إمَّا أمر أو نهي [12] .
ولأهمية هذا الأمر -كما سبق- كان الملك عبد العزيز -حمه الله- وأبناؤه من بعده يحرصون على تنفيذ هذا المبدأ ويقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنفسهم، ويحثون من يلون أمرهم بذلك، كما أسندت مهمته إلى هيئة خاصة هي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يعرف بـ (ولاية الحسبة) في الإسلام. وهي من باب الدعوة إلى الله تعالى، وإن كانت أخص من الدعوة.
وحيث إنَّ المقام لا يتسع لذكر ما يتعلَّق بهاتين الدعامتين (الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر) وكذلك الدعوة إلى الله في عهود أبناء الملك عبد العزيز -رحمه الله-، فسأقتصر على الوسائل التي تقوم بهذه المهمة:
1 - وسائل أصلية بمعنى أنَّها كانت معروفة من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وعبر العصور المتتالية في تبليغ الدعوة إلى الله.
2 - وسائل إعلامية حديثة- أي: لم تعرف إلاَّ حديثاً– كالصحافة والإذاعة.
فمن النوع الأول ما يلي:
1) هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد سبق الكلام عليها وبيان وظائفها.
2) تعيين القضاة والمفتين، فإنَّ ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3) التعليم في المساجد.
4) تعيين الأئمة والخطباء في المساجد للدعوة.(41/425)
5) إرسال العلماء والدعاة إلى البادية والهجر. وكان ذلك في عهد الملك عبد العزيز، أمَّا اليوم فقد تجاوز إرسال الدعاة إلى خارج المملكة، وهناك وزارة خاصة بالأوقاف والدعوة والإرشاد، بلغ عدد دعاتها خارج المملكة أكثر من (2000) داعية.
6) رسائل العلماء ومكاتباتهم.
7) استقبال الوفود. وقد سبق أنَّ الملك عبد العزيز -رحمه الله- قد استغل هذه الوسيلة في نشر الدعوة السلفية خارج المملكة.
8) إنشاء المدارس.
9) إقامة الجهاد.
كل هذه وسائل تستخدمها الدولة المسلمة في تبليغ الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وحيث إنَّ المملكة العربية السعودية قد التزمت بتطبيق الشريعة الإسلامية، فقد انعكس أثر ذلك على الأجهزة والقطاعات والمرافق التي أنشئت لتصريف دفة الحكم والقيام بمسيرة الحياة العملية لكيان الدولة.
وذلك بأن تتوافق في نشأتها وحركتها مع مبادئ وتعاليم الإسلام. وإنَّه مهما توسعت تلك القطاعات أو تفرعت؛ فإنَّها تلتزم بالسير وفق تلك المبادئ الإسلامية. وبالتالي فإنَّ جهودها تلتقي في النهاية لخدمة الإسلام والمسلمين.
وإنْ كان بعض الأجهزة يظهر فيها ذلك بشكل أوضح، فإنَّما يعود لكونها أجهزة تقوم بدور أساس في هذا الجانب بينما غيرها يقوم بدور مساعد، لكنها في النهاية تخدم دولة التزمت بتطبيق الشريعة وخدمة الإسلام، فانسحب ذلك الدور على كافة الأجهزة [13] .
وما ذكر إنَّما هو للتمثيل وبيان للأجهزة الحكومية التي تقوم بدور أساس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الدعوة إلى الله بالوسائل الأصلية.
أمَّا القسم الثاني الوسائل الإعلامية الحديثة فمنها:
1 - الصحافة بأنواعها.
2 - الإذاعة والتلفاز.
3 - طباعة الكتب الإسلامية ونشرها.(41/426)
والمقام لا يتسع لإعطاء فكرة أولية عن أهمية هذه الوسائل وما تقوم به في سبيل الدعوة، فضلاً عن تفصيل الأعمال المشكورة التي قامت بها أو تقوم بها هذه الوسائل في سبيل نشر العقيدة السلفية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لكن نشير هنا إلى أهم الجهود التي حدثت في عهد أبناء الملك عبد العزيز رحمه الله في أهم هذه الجوانب، ونحيل على ما سبق الكلام عليه، ومن ذلك ما يلي:
2 - جهود أبناء الملك عبد العزيز في بناء المساجد وعمارتها:
نظراً لما للمسجد من مكانة في قلوب المسلمين، وما له من دور في نشر الدعوة إلى الله، فقد اهتم به المسلمون عبر العصور، وسبق ما بذله الملك عبد العزيز من الأمر بتوسعة الحرمين الشريفين لَمَّا ضاقا عن اتساع الوافدين للحج أو العمرة.
ولكن أكبر توسعة شهدها الحرمان الشريفان هي التوسعة التي تمَّت على يد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -أطال الله في عمره- فقد وجه حفظه الله بإجراء توسعة للحرم المكي الشريف، وذلك بإضافة جزء جديد إلى مبنى الحرم، وتبلغ مساحته (000ر76 متراً مربعاً) تستوعب (000ر65) مصلٍّ. وبهذه التوسعة تصل مساحة الحرم الإجمالية (000ر309 متراً مربعاً) تتسع لـ (000ر695) مصلٍّ.
وفي صفر عام 1405هـ تمَّ وضع حجر الأساس لتوسعة المسجد النبوي الشريف، وقد تضمن المشروع إضافة مبنى جديد إلى مبنى المسجد الحالي بمساحته الحالية، وعلى أن يتصل به من الشمال، والشرق، والغرب، لتصبح المساحة الإجمالية بالدور الأرضي للمسجد (500ر98 متراً مربعاً) وعلى أن يستفاد من سطح التوسعة، وهي مساحة (000ر67) متراً تستوعب (90) ألف مصل، وبذلك يتسع المسجد النبوي بعد التوسعة لأكثر من (257) ألف مصلّ [14] ، عدا الساحات المحيطة به، وقد واكبت هذه التوسعة العملاقة التي كانت محل إعجاب جميع المسلمين أعمال أخرى مشكورة، ومنها:(41/427)
1 - إقامة محطة للتبريد والتهوية على مسافة سبعة كيلومترات من المسجد.
2 - تزويد المسجد بكل ما يحتاجه من كهرباء وماء وفرش فاخر وماء بارد وغير ذلك مما يهيئ الجو المناسب ويساعد على إقامة الصلاة في هذه الأماكن وخشوع القلوب لمرتاديها.
3 - مشروع خادم الحرمين لطباعة مصحف المدينة النبوية وتزويد المساجد داخل المملكة وخارجها بما تحتاجه من هذه المصاحف التي طُبِعَت على أعلى المستويات، وتمَّت مراجعتها على أيدي علماء أجِلاَّء متمكنين في هذا المجال، وذلك لأول مرة في تاريخ طباعة المصحف الشريف.
4 - ولم تقتصر عناية خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله تعالى- على بناء المساجد وعمارتها وتوسيعها في داخل المملكة العربية السعودية؛ بل امتدت جهوده الطيبة إلى جميع أقطار العالم، فوصلت إلى كل مكان يوجد فيه مسلمون أو أقليات إسلامية، حيث أمر ببناء المراكز الإسلامية والثقافية، وتشييد المساجد فيها نظراً لأهمية المسجد وما له من مكانة عالية في الإسلام.. وما مسجد خادم الحرمين الشريفين في جبل طارق عنا ببعيد، حيث افتتح في العام الماضي.. وإنَّك أيها القارئ الكريم أينما ذهبت في هذه المعمورة في قاراتها وعواصم دولها، لتجد هذه المراكز منتشرة فيها لتقوم بدور الدعوة إلى الله تعالى ونشر العقيدة السلفية الصالحة، فجزى الله خادم الحرمين الشريفين عن هذه الجهود وجعلها في موازين حسناته.
2 - طباعة الكتب الإسلامية ونشرها:
نظراً لأهمية الكتب والمخطوطات في نشر الدعوة إلى الله تعالى، فقد اتجه الملك عبد العزيز رحمه الله إلى طبع نفائس من كتب التراث المخطوطة، ومن كتب العلم المهمة، مما يتصل بالدعوة، وكذلك الكتب الأدبية، وغيرهما مما يجد في نشرها خدمة للدعوة السلفية، أو تشجيع المؤلفين والناشرين، وكانت سياسته في طبع الكتب والمخطوطات أنَّه يأخذ بما يشير به العلماء [15] .(41/428)
ولذلك كانت الكتب التي أسهم في طبعها تضم:
1 - كتب الدعوة المعتمدة.
2 - كتب التفاسير المعتبرة.
3 - كتب في الحديث والفقه الإسلامي في موسوعاته الكبرى.
4 - كتب تاريخية عظيمة الفائدة.
5 - كتب في الأدب ودواوين بعض الشعراء [16] .
ولم يقتصر على طبع الكتب باللغة العربية، بل هناك كتب نشرها الملك عبد العزيز باللغة الجاوية، والهندية، لتعميم الفائدة، ونشر الدعوة في الأقطار الإسلامية.
ومما هو جدير بالذكر أنَّ جهود الملك عبد العزيز وأبنائه من بعده في مجال الكتب اتخذت ثلاثة مسارات:
أ - تمويل طباعة الكتب الإسلامية.
ب - دعم ناشري الكتب قبل الطبع وبعده.
جـ- شراء كميات من الكتب بقصد التوزيع والتشجيع [17] .
ومن أهم الكتب التي طُبِعَت على نفقة الملك عبد العزيز أو أحد أبنائه ما يلي:
1 - تفسير ابن كثير، والبغوي.
2 - البداية والنهاية لابن كثير.
3 - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، لجماعة من علماء نجد.
4 - المغني والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي في الفقه.
5 - روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه.
6 - جامع الأصول لابن الأثير في الحديث، ومعالم السنن للخطابي.
7 - الآداب الشرعية لابن مفلح في الأدب.
8 - شرح العقيدة الطحاوية في العقيدة السلفية، لأبي العز الحنفي.
9 - مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم في العقيدة.
10- درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية.
11- الفتاوى لابن تيمية.
12- مختار الصحاح للجوهري.
13- مسند الإمام أحمد.
وغير ذلك كثير.(41/429)
ومن عرض هذه الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبد العزيز أو أحد أبنائه، يتأكد لنا أنَّها تخدم العقيدة الإسلامية، ومن ثم كان لها الأثر الكبير في نشر الدعوة السلفية في مختلف البلدان، وبخاصة أنَّ هذه المطبوعات تضمنت العديد من الكتب التي تذب عن الدعوة الإسلامية والعقيدة السلفية النقية [18] ، فجزى الله كل من أسهم في ذلك خير الجزاء.
المبحث الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم:
يجب على كل مسلم آمن بالله رباً، وبرسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- رسولاً مبلغاً أميناً، وبالإسلام ديناً كاملاً صالحاً لكل زمان ومكان، أن لا يعتريه شك في حصول الثمار المرتبة على تطبيق دعائم التمكين في الأرض التي تضمنتها الآية الكريمة التي هي موضوع البحث؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أخبر بذلك ووعد بالنصر والعاقبة الحميدة لمن عمل بتلك الدعائم وخبر الله ووعده لا يتخلف متى ما توفرت فيه الشروط، وانتفت الموانع.
والمسلمون عامّة - والعرب منهم خاصة - مرهون عزهم ومكانتهم بمدى تطبيقهم للإسلام، كما قال -تعالى- في شأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وقومه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلون} [الزخرف: 44] .
وكما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نحن أمة أعزها الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله" [19] .
ولك أن تتخيَّل -أيها القارئ الكريم- أمَّةً قد قامت بشرع الله وطبَّقته على نفسها، ولم تكتف بهيئات التطبيق الظاهري، وإنَّما أوفته حقه كاملاً كما أمر الله بذلك.
ثُمَّ توحدت قلوب أفرادها حول هذا الدين الكامل، فأصبحوا أخوة متحابين في الله، ومن أجل الله، وتواصوا بالحق وبالصبر عليه. ولم يقتصر نفعهم على أنفسهم وحسب. بل تعدَّى ذلك إلى غيرهم مِمَّن هو بمنزلة النفس في تشريعات الإسلام.(41/430)
وبعد ذلك كله قد أقامت هذه الأمة المؤمنة المتحابة المطبقة لتعاليم الإسلام -على نفسها- رقيباً منها يتعهد أفرادها وجماعاتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث لا يدع مجالاً يدخل منه ما يفسد البنيان الواحد الذي يشد بعضه بعضاً، ويتألَّم لآلام بعضه الآخر، ويراقب بعضه أعمال بعض، فيثبت ما فيها من خير، ويعمل على تقويته وزيادته، ويدفع عنها الشر ويعمل على منعه ويسد منافذه.
إنَّ أمّةً تكون بهذه الصورة لا شكَّ أنَّها تستحقق النصر والتمكين في الأرض، ويتحقّق فيها ما وعد الله عليه بالنصر والعاقبة الحميدة وهي أقرب ما تكون إلى مَنْ قال الله -تعالى- فيهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، وقوله -تعالى-: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27] .
وقد سبق أنَّ تطبيق دعائم التمكين قد تحققت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه من بعده، وهي ثمار ونتائج لم تتحدد بزمان أو مكان، وإنَّما علقت بوجود شروطها، فمتى توافرت الشروط ترتبت عليها الثمار، وتحقق الوعد بالتمكين في الأرض. ومن خلال دراسة هذا الموضوع وبيان جهود الملك عبد العزيز -رحمه الله- وأبنائه من بعده في تقرير وتطبيق دعائم التمكين في الأرض على أنفسهم ورعيتهم، نحسب أنَّ أولئك الحكَّام المسلمين الذين مكَّن الله لهم في الأرض يدخلون فيمن عناهم الله -تعالى- بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] .(41/431)
ذلك أنَّ أسرة آل سعود منذ وجودها قد ارتفقت منهجاً إسلامياً يقوم على تطبيق دعائم التمكين التي جاءت في الآية الكريمة موضوع البحث، فكان من ثمار ذلك -وخاصَّة في عهد الملك عبد العزيز وأبنائه من بعده- ما يلي:
1 - قيام دولة إسلامية كبرى، هي المملكة العربية السعودية [20] . مملكة العقيدة المنجية، ومملكة الشريعة المنظمة، ومملكة الوحدة الراسخة، ومملكة الأمن المكين الواعد، ومملكة البناء والعمران، مملكة القوة والسلام، ومملكة الوزن الدولي المؤثر والموقر.
هذا أثر واحد من تطبيق تلك الدعائم.
وهناك آثار أخرى وهي آثار طبيعية لما سبق، ومنها:
2 - أنَّ الملك عبد العزيز قد أقام مؤسسات دولته على ضوء تلك الدعائم وجعلها محكومة بها وخادمة لها، فكان من ثمار ذلك ما يلي: -وهو مثال للتطبيق لا للتفصيل والحصر-
فقد وضع الملك عبد العزيز نواة التعليم المنظم، فإذا هو اليوم ثمان جامعات عملاقة، ورئاسة عامة وكبيرة للبنات، وعشرات الكليات والمعاهد، وألوف المدارس، وملايين من الطلاب والطالبات.
ووضع نواة الزراعة، فإذا الزراعة اليوم اكتفاء ذاتي من القمح والخضروات، بل تصدير للفائض من ذلك كله [21] .
ووضع أسس الأمن، فإذا الأمن اليوم أجهزة متطورة، وطاقة بشرية متعلمة ومدربة وكثيفة قادرة على توطيد الأمن على الرغم من التعقيد الذي حصل في الحياة. وعلى الرغم من الانفتاح والتدفق البشري الغادي والرائح.
ووضع قواعد سياسة جيش قوي، فإذا بالقوات المسلحة السعودية اليوم قوة ضاربة تحرس السلم وتردع العدوان.
ووضع قواعد بناء الحرس الوطني؛ فإذا بالحرس الوطني اليوم من أكبر المؤسسات العسكرية والحضارية التي تسهم في بناء المجتمع وحمايته.(41/432)
ووضع مبادئ السياسة الخارجية، فإذا الوزن الخارجي للمملكة اليوم ملء السمع والبصر، وموضع التقدير والثقة والمهابة في الوطن العربي، والعالم الإسلامي، والمحيط الدولي.
واعتنى بالحرمين الشريفين -توسعةً وصيانةً- فإذا التوسعة التي قام بها اليوم خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- تفوق التوسعات التي حدثت في التاريخ الإسلامي كله [22] .
وكان الملك عبد العزيز يتمنى أن تُعَبَّد الطرق وتختصر المسافات بين جده والمدينة، فإذا الطرق السريعة التي تربط بين أجزاء المملكة تحقق الأمنية في زمنٍ وجيزٍ [23] .
وهذا -كما سبقت الإشارة- إنَّما هو على سبيل التمثيل لما تحقق من تطبيق لدعائم التمكين، وأمَّا تفصيل ثمار التطبيق فمن الصعوبة بمكان الإحاطة به.
فهرس المراجع
أولاً: القرآن وعلومه:
1 - أحكام القرآن: للجصاص، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
2 - أحكام القرآن: لابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
3 - إصلاح الوجوه والنظائر: للدامغاني، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة، 1980م.
4 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير: لأبي بكر جابر الجزائري، الطبعة الثانية، 1407هـ.
5 - بصائر ذوي التمييز: للفيروزآبادي، تحقيق محمد علي النجار، لجنة إحياء التراث الإسلامي بمصر، الطبعة الثانية، 1406هـ.
6 - تحصيل نظائر القرآن: للترمذي، تحقيق حسني نصر زيدان، مطبعة السعادة بمصر.
7 - تفسير ابن جرير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) الطبعة الثالثة، 1388هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
8 - التفسير الحديث: لمحمد عزة دروزة، طبعة 1383هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
9 - تفسير ابن سعدي: مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، 1398هـ.(41/433)
10- التفسير القرآني للقرآن: لعبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي.
11- تفسير ابن كثير: مكتبة النهضة الحديثة بمصر، الطبعة الأولى، 1384هـ.
12- تفسير النووي: لمراح لبيد، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1402هـ.
13- التفسير الواضح: للدكتور محمد محمود حجازي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
14- توفيق الرحمن في دروس القرآن: للشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك، الطبعة الأولى، المكتبة الأهلية، بالرياض.
15- التيسير في أحاديث التفسير: للشيخ محمد المكي الناصري. ط. أولى. دار الغرب- بيروت
16- زاد المسير في علم التفسير: لابن الجوزي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
17- صفوة التفاسير: للصابوني، دار الفكر، بيروت، لبنان.
18- فتح القدير: للشوكاني، الطبعة الثانية، 1383هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
19- في ظلال القرآن: لسيد قطب، الطبعة السابعة، 1391هـ، دار إحياء التراث العربي، لبنان.
20- كشف السرائر: لابن العماد، تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية.
21- منتخب قرة العيون الناظر في الوجوه والنظائر في القرآن: لابن الجوزي، تحقيق محمد الطنطاوي والدكتور فؤاد عبد المنعم، منشاة المعارف، الإسكندرية.
22- نزهة الأعين النواظر: لابن الجوزي، تحقيق محمد عبد الكريم كاظم، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ.
ثانياً: الحديث وعلومه:
1 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1399هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
2 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: للمزي، جمع محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى،1410هـ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.(41/434)
3 - سنن الترمذي: تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
4 - سنن أبي داود: تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
5 - سنن ابن ماجه: دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية.
6 - صحيح البخاري: دار الدعوة.
7 - صحيح ابن حيان (الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان) ، ط. دار الفكر.
8 - صحيح مسلم: دار الدعوة.
9 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير) : للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1399هـ، المكتب الإسلامي بيروت.
10- مجمع الزوائد: للهيثمي، الطبعة الثانية، 1402هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
11- مسند الإمام أحمد بن حنبل: المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت.
12- مشكاة المصابيح: للتبريزي، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1381هـ، المكتب الإسلامي، بيروت.
13- موارد الظمآن لدروس الزمان: لعبد العزيز أحمد السلمان، الطبعة الثانية، 1413 هـ.
ثالثاً: الفقه والدعوة والأمر بالمعروف والسياسة السلطانية:
1 - أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للغزالي، تحقيق سيد إبراهيم.
2 - أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح العمراني والديني في جزيرة العرب وغيرها: لمحمد حامد الفقي.
3 - الأحكام السلطانية: للماوردي، مطبعة النهضة الوطنية، بمصر، سنة 1298هـ.
4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لأبي بكر الخلال، تحقيق عبد القادر عطار، دار الاعتصام، مصر، الطبعة الأولى، سنة1395هـ.
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لخالد بن عثمان السبت، المنتدى الإسلامي، لندن، الطبعة الأولى، سنة 1415هـ.
6 - الأموال: لأبي عبيد القاسم بن سلام، المجلد الأول، المكتبة التجارية، سنة 1355هـ.(41/435)
7 - البحر المحيط في أصول الفقه: للزركشي، قام بتحريره. عمر سليمان الأشقر، الطبعة الأولى، سنة 1409هـ، دار الصفوة للطباعة والنشر والتوزيع بالغردقة.
8 - التطبيقات العملية للحسبة في المملكة العربية السعودية: د. طامي بن هديف البقمي، الطبعة الأولى، 1415هـ، مطابع الفرزدق التجارية.
9 - التطبيق المعاصر للزكاة: للدكتور شوقي إسماعيل شحاتة، الطبعة الأولى، 1397هـ، دار الشروق جده.
10 - الثورة الوهابية لعبد الله القصيمي: المطبعة الرحمانية بمصر، الطبعة الأولى، سنة 1354هـ.
11 - جهود الملك عبد العزيز في خدمة العقيدة: لعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود، عام 1406 هـ.
12 - حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأركانه ومجالاته: للدكتور حمد بن ناصر بن عبد الرحمن العمار، الطبعة الأولى، 1417هـ، مركز الدراسات والإعلام، دار اشبيلية، الرياض.
13 - الخشوع في الصلاة: لابن رجب الحنبلي، تحقيق عادل أبو المعاطي الطبعة الأولى، 1408هـ، دار المشرق العربي، القاهرة.
14 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية: جمع عبد الرحمن القحطاني النجدي، الطبعة الثانية، 1402هـ، الدار العربية للطباعة والنشر، بيروت.
15 - الدعوة في عهد الملك عبد العزيز: لمحمد بن ناصر الشثري، الطبعة الأولى، 1417هـ.
16 - الروض المربع: لمنصور بن يوسف البهوتي، مع حاشية العنقري، مكتبة الرياض الحديثة الرياض، 1390هـ.
17 - الزكاة: لمحي الدين مستو، الطبعة الرابعة.
18 - الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة: أ. د. عبد الله بن محمد الطيار، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مكتبة التوبة، الرياض.
19 - شرح منهاج الطالبين: لجلال الدين المحلى.
20 - الصلاة: أ. د. عبد الله بن محمد الطيار، الطبعة الأولى، 1416هـ، دار الوطن، الرياض.
21 - الصلاة عماد الدين: للدكتور حسن الترابي.(41/436)
22 - الصلاة في القرآن مفهومها وفقهها: د. فهد بن عبد الرحمن بن سلمان الرومي، الطبعة الأولى، سنة 1409 هـ.
23 - عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها على العالم الإسلامي: للدكتور صالح بن عبد الله العبود، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث الإسلامي.
24 - الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم، تحقيق د. محمد نصير، والدكتور عبد الرحمن عميرة.
25 - فقه الزكاة: للشيخ يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة.
26 - الفواكه العذاب في معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (في الصفات) : للشيخ حمد بن ناصر آل معمر، تحقيق عبد الرحمن بن عبد الله التركي، الطبعة الثانية، 1416هـ، مؤسسة الرسالة بيروت.
27 - القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، الطبعة الأولى 1412هـ، مكتبة دار السلام.
28 - لمحات من الإصلاحات الدينة والاجتماعية في عهد صقر الجزيرة: إعداد إبراهيم محمد سرسيق، أمين بحوث ندوة العلاقات المصرية السعودية، 1407هـ، الزقازيق، مصر.
29 - مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطابع الرياض، الطبعة الأولى، 1381هـ.
30 - مجمل اعتقاد أئمة السلف: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الثانية، 1417هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
31 - المغني: لابن قدامة، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الأولى، 1408 هـ، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.
32 - ملامح الانقلاب الإسلامي في سيرة عمر بن عبد العزيز: للدكتور عماد الدين خليل.
33 - الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة: للدكتور سعود بن سعد الدريب، الطبعة الأولى، 1408هـ، دار المطبوعات الحديثة.(41/437)
34 - الملك عبد العزيز والمملكة العربية السعودية المنهج القويم في الفكر والعمل: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الثانية، 1409هـ، الزهراء للإعلام العربي.
35 - من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لمحمد عبد الله الخطيب.
36 - مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لفاروق عبد المجيد حمود السامرائي، مكتبة دار الوفاء، جدة.
37 - منهج الملك عبد العزيز في السياسة الدولية وأثره على العلاقات السعودية المصرية: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بحث مقدم في ندوة العلاقات المصرية السعودية بجامعة الزقازيق بمصر، سنة 1407 هـ.
38 - موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: لجمال الدين القاسمي.
39 - وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار العاصمة، الرياض.
40 - الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز: لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.
رابعاً: كتب التراجم والتاريخ:
1 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى.
2 - الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه: للأستاذ عبد القادر عودة.
3 - الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق علي محمد البجاوي، طبعة دار نهضة مصر، القاهرة، 1358 هـ.
4 - الأعلام: لخير الدين الزركلي، الطبعة السادسة، 1984م، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان.
5 - البداية والنهاية: لابن كثير، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1405هـ.
6 - البلاد العربية: لفؤاد حمزة، دار المطبوعات الحديثة.
7 - تاريخ الدولة السعودية: لأمين سعد.(41/438)
8 - تاريخ المملكة: لسيد محمد إبراهيم.
9 - تاريخ المملكة العربية السعودية: للصف الثالث المتوسط، الطبعة الأولى، 1394هـ.
10- تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية: تعريب عمر الديراوي، نشر المكتبة الأهلية، بيروت.
11- تبيين كذب المفتري: لابن عبد البر الدمشقي، دار الكتاب العربي بيروت، 1399هـ.
12- التعريفات: للجرجاني، الطبعة الأولى، 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
13- تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، الطبعة الأولى، 1393هـ دار نشر الكتب الإسلامية، باكستان.
14- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: لابن حجر العسقلاني، الطبعة الثانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1392هـ.
15- سير أعلام النبلاء: للإمام شمس الدين الذهبي، الطبعة الأولى، 1401هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
16- شبه جزيرة العرب: للزركلي، الطبعة الثالثة، دار الملايين، بيروت.
17- شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
18- طبقات السبكي: الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.
19- طبقات ابن سعد: دراسة وتحقيق زياد محمد منصور، الطبعة الأولى 1403هـ، من مطبوعات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
20- طبقات ابن سلام الجمحي: شرح محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، 1974م.
21- طبقات المفسرين: للداودي، الطبعة الأولى، 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
22- طبقات المفسرين: للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م.
23- عالم جهبذ وملك فذ: للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.
24- عبد العزيز والشخصية الإسلامية: لعبد العزيز شرف، ومحمد إبراهيم شعبان، الطبعة الأولى، 1403هـ، القاهرة.(41/439)
25- الفتح المبين في طبقات الأصوليين: للمراغي، الطبعة الثانية، 1394هـ، الناشر محمد أمين دمج وشركاه، بيروت، لبنان.
26- معجم المؤلفين: لرضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
27- الملك الراشد: لعبد المنعم الغلامي، الطبعة الثانية، 1400هـ، دار اللواء، الرياض.
28- الملك عبد العزيز وأثره في التاريخ المعاصر: للمهندس سليمان الشائع، بحث ماجستير مقدم لكلية القيادة والأركان بوزارة الدفاع السعودية، 1405هـ.
29- الملك عبد العزيز والتعليم: تأليف بدر الدين أبو رأس، الطبعة الأولى، 1407هـ، مكتبة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض.
30- من حياة الملك عبد العزيز: للأحيدب، الطبعة الأولى، 1399هـ الرياض.
31- من شيم الملك عبد العزيز: لفهد المارك، الطبعة الأولى، 1398هـ، بيروت.
32- المنهج السوي في ترجمة الإمام النووي: للسيوطي، تحقيق الدكتور محمد العيد الخطراوي، الطبعة الأولى، 1409هـ، مكتبة دار التراث المدينة المنورة.
33- وفيات الأعيان: لابن خلكان، مطبعة بولاق.
خامساً: اللغة والشعر:
1 - البلغة في أصول اللغة: للقنوجي، تحقيق نذير مكتبي، الطبعة الأولى 1418هـ دار البشائر الإسلامية، بيروت.
2 - ديوان الأعشى: دار صادر، بيروت، 1966م.
3 - ديوان النابغة الذبياني:
4 - الشعر والشعراء: لابن قتيبة، الطبعة الأولى، 1404هـ، دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان.
5 - لسان العرب المحيط: لابن منظور، أعاد بناءه على الحرف الأول يوسف خياط، دار الجيل، بيروت، دار لسان العرب، بيروت.
6 - المعجم الوسيط: مجموعة من المؤلفين، الطبعة الثانية.
7 - المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني، المطبعة الميمنية بمصر.
8 - مقاييس اللغة: لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الثانية، مطبعة البابي الحلبي.(41/440)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المنهج القويم في الفكر والعمل ص 114
[2] المرجع السابق ص 110
[3] الملك عبد العزيز والمنهج القويم في الفكر والعمل ص 109، 115 مع بعض التصرف.
[4] كلمة لخادم الحرمين الشريفين ألقاها بمناسبة صدور النظام الأساسي للحكم في الدولة السعودية. انظر نص الخطاب في جريدة الجزيرة، عدد (7095) في يوم الاثنين 28/8/1412هـ. والدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/113
[5] انظر: تاريخ الدولة السعودية، عهد سعود بن عبد العزيز. تأليف أمين سعد 3/17-18، وعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي ص 611
[6] التفات من التكلم إلى الخطاب. لأنه كان يتكلم بضمير المخاطب نقول، ثم بضمير الخطاب تؤدون.
[7] تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط، ط 1 عام 1394هـ ص 291
[8] عالم جهبذ وملك فذ، بقلم عبد المحسن العباد ص 26-27
[9] تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط ص 289-290
[10] عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي ص 618
[11] سبق تخريجه ص 83
[12] انظر مبحث أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 87
[13] التطبيقات العملية للحسبة ص 201
[14] انظر كتيب (الحَرَمَان الشريفان) إعداد وزارة الإعلام. الأهلية للأوفست بالرياض، وملف موجود بمكتب المؤسسة التي قامت بتنفيذ المشروع وهي مؤسسة بن لادن، وبلغت هذه التكلفة حوالي 6 بليون ريال. وانظر: التطبيقات العملية للحسبة ص232
[15] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز 1/503
[16] المرجع السابق 1/ 505
[17] المرجع السابق ص 505
[18] المرجع السابق 1/ 517(41/441)
[19] ينظر تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص174، وتاريخ الدعوة د. جمعة على الخولي2/109، دار الطباعة المحمدية الطبعة الأولى 1405هـ.
[20] المنهج القويم في الفكر والعمل ص 29
[21] المرجع السابق ص 115
[22] المرجع السابق ص 115
[23] المرجع السابق ص 115(41/442)
منهج الملك الإمام
عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود
-رحمه الله –
في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة
د/ غازي بن غزاي بن عبد العزيز المطيري
الأستاذ المساعد بقسم الدعوة بالجامعة الإسلامية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.
وبعد:
فإن دراسة حياة العباقرة والنابغين، وما تحفل به حياتهم من إنجازات عظام، سبقت زمانهم وفاقت قدرات أقرانهم، مدرسة عملية للأجيال، ومدعاة لاستخلاص العبر والدروس، وإصلاح الحاضر، واستشراف المستقبل، في ضوء الحقائق الموضوعية الماثلة في حياتهم، ولا جرم أن أحق الناس وأولادهم بالدراسة، زعماء الأمة وقادتها التاريخيين، الذين ابلوا بلاءً حسناً في سبيل خدمة أوطانهم وأمتهم، اعترافاً بفضلهم، وحفظاً لحقهم فلا تزال الأمة بخير – ما اعتزت بتاريخها المجيد، وعرفت حق أهل الفضل والعلم فيها، ممن تجتمع معهم في جذور واحدة، وأصول مشتركة، حيث من السهل حينئذ إعادة تاريخهم المجيد، وتطبيق تجربتهم، واختزان نجاحهم، وتوظيفه في رقي الأمة ونهضتها، وحق للشعب السعودي المسلم الأصيل، أن يسترجع بفخر واعتزاز سيرة مؤسس دولته الثالثة، الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – الذي أجمع الباحثون الذين كتبوا عنه، على تعدد مواهبه، وعظيم شخصيته، وقوة شكيمته، وجلالة جهاده ومن العسير – والحالة هذه – الإلمام بجوانب حياته واستعراضها وتحليلها في بحث موجز، مما حملني على طرق جانب واحد، نال قسطاً كبيراً من اهتمام الملك الإمام تبدت فيه عبقريته، وظهرت في ميدانه نباهته، وذلك من خلال نهجه السديد في جمع القلوب المتنافرة، وتأليف النفوس المتناحرة، ورص الصفوف المتفرقة، حيث تكللت جهوده المباركة بنجاح رائع فريد، في أقل من ثلاثة عقود، وعنونته (منهج الملك الإمام عبد العزيز في تحقيق الوحدة ونبذ(41/443)
الفرقة) وتعظم أهمية هذه الدراسة في وقت تستعيد فيه المملكة العربية السعودية، ذكرى مرور مائة عام على تأسيسها في كيان متحد متلاحم الشعار والدثار، مما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، اغتباطاً بتلك الذكرى الأثيرة على نفوسنا جميعاً، والتذكير بضرورة المحافظة على تماسكها، وتوظيف رصيدها في حماية الأمة من براثن التفرق، وويلات التحزب، ومآسي الشقاق، هذا واعتمدت في كتابة البحث على المراجع والوثائق العلمية الأصيلة التي تحدثت عن حياة الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – وهي أكثر من أن تحصى، ولم أجد عنتاً يذكر في إيراد الأدلة والبراهين والشواهد من حياة الملك الإمام وأقواله، على ما أريد تقريره فقد كانت حياته غنية بالإنجازات والمواقف الفذة، نالت اهتمام الباحثين والدارسين في عصره وبعده، وما من فصل في البحث إلا افتتحته بمقدمة موجزة لتهيئة ذهن القارئ لما أريد تقريره، وذيلته بخاتمة لتكون حلقة وصل لما بعده، وقد اشتمل البحث على مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة. أما المقدمة، فتحدثت فيها عن أهمية البحث ومنهجي في كتابته، وتضمن التمهيد تعريفاً موجزاً بالملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله -.
أما الفصل الأول: فاشتمل على أسس الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة.
أما الفصل الثاني: فتكلمت فيه عن وسائل الملك عبد العزيز – رحمه الله – في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة.
أما الفصل الثالث: فذكرت فيه أساليب الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة.
أما الفصل الرابع: فجمعت فيه نتائج منهج الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة.
أما الخاتمة: فتضمنت الدروس المستنبطة من منهج الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة.(41/444)
والله تعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به عموم المسلمين.
التمهيد
(التعريف بالملك الإمام عبد العزيز رحمه الله)
يلاحظ الباحث المدقق لسيرة الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – تحليه بصفات ومناقب ذات أثر بالغ في حياته أهلته -بفضل الله- إلى قيادة مبكرة، والتحفز نحو المقاصد العالية والأهداف السامية، حتى نال مرامه، وحقق أحلامه، ولم يزل بعد في مقتبل العمر ورواء الفكر، جامعاً بين رسالة الداعية وريادة المصلح وحنكة القائد، ملماً باتجاهات عصره ومتطلبات زمانه وثقافة وقته، زد على ذلك خلفية أسرية مفعمة بالطموح والمجد، وإرث معنوي ملء السمع والبصر.
نسب الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله -:(41/445)
ينتهي نسب الملك الإمام إلى أرومة عربية، ضاربة في الأصالة، متجذرة في العراقة، فهو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي من بني حنيفة بن ربيعة من نزار [1] . تولى جده الأول مانع المريدي إمارة الدرعية، والتي لم تزل في توسع في ممتلكاتها وحدودها نظراً لتعاظم دور الإمارة وأمرائها وقوتهم [2] حتى انتهى الحكم إلى الأمير محمد بن سعود – رحمه الله – الذي قاده تعاونه ونصرته ومؤازرته الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – إلى تبوء أسرة آل سعود مكانة سامقة في تاريخ الجزيرة العربية أفضت إلى قيادة أمة مترامية الأطراف ضمت الجزيرة وأعرابها ودلفت إلى يمنها وعراقها وشامها في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد – رحمه الله – وابنه الإمام سعود بن عبد العزيز – رحمه الله -[3] وبهذا تكون أسرة الملك الإمام ذات تاريخ معرق في الأصالة، باذخ الصيت في المجد، متجذر الأصول في الإمارة والملك زادها مناصرة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بعداً دينياً لا يرام وعزاً لا يضام، وأضحت رمزاً للوحدة الوطنية، وروحاً حية تبث روح الحياة في أوصال الأمة في أوقات الشدة وتكالب الأعداء عليها.
مولده:
ولد الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – في قصر الإمارة في الرياض سنة 1297هـ[4] في أوقات عصيبة عصفت بأسرته المباركة، حيث تفتحت عيناه على ملك مضاع، وشعب متناحر، وبيئة سياسية تتسم بالفوضى وعدم الاستقرار.
تعليمه:(41/446)
منذ نعومة أظافره عبّ الملك الإمام من معين العلوم الشرعية، على أيدي علماء عصره وقراء زمانه الذين أولوه اهتامهم وعطفهم، منهم الشيخ عبد الله الخرجي -رحمه الله-، الذي أخذ عنه القراءة، والشيخ محمد بن مصيبيح – رحمه الله – الذي درس على يديه الفقه، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ – رحمه الله – الذي درس عليه التوحيد في كراسة أعدها خصيصاً له [5] . ولم يزل – رحمه الله – طالباً للعلم راغباً في تحصيله، حتى حفظ أجزاء من القرآن الكريم، واستظهر عديداً من المؤلفات، مثل الرحبية في الفرائض، والأربعين النووية، وبلوغ المرام، وقرأ الزاد كاملاً ثم توسع في القراءة الذاتية، فقرأ البداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الطبري، وكان رحمه الله محباً للأدب يحفظ الشاهد والمثل، ويتمثل بهما في خطبه وحواراته، مكثاراً للقراءة العامة، محافظاً على حزبه من الأذكار، وحفلت مجالسه حتى آخر حياته بمجالس العلم ومذاكرته سماعاً ونقاشاً، وقد رزقه الله سرعة البديهة وألمعية النظر وفرط الذكاء وعقلاً متفتحاً متنوراً لا يضيق ذرعاً من النقاش بل يستدعيه وينميه [6] .
تنقلاته ورحلاته:(41/447)
اضطر الإمام عبد الرحمن بن فيصل آل سعود – رحمه الله – إلى الخروج من الرياض تحت وطأة الضرورة، فرأى من المصلحة التنقل، إلى حين سنحان الفرص، واهتبال الفُرَج، وانكشاف الكُرب، فاصطحب ابنه عبد العزيز، فنزل في بادية العجمان وآل مرة، فتعلم فيها ضروب الفروسية من ركوب الخيل والضرب بالسيوف والطعن بالرماح يقول – رحمه الله – "أنا ترعرعت في البادية، فلا أعرف التلاعب بالكلام، وتزويقه، ولكني أعرف الحقيقة عارية من كل تزويق " [7] وبين تضاعيف كلام الملك الإمام ما ينبئ عن مكنون قوة شخصيته، وصلابة قناته. وفي فترة مبكرة من عمره أسند إليه والده بعض المهام الصعبة الملائمة لتكوينه واستعداده، فشارك في مفاوضة ابن رشيد والإصلاح بين القبائل، والوفادة على الأمراء والشيوخ رسولاً وسفيراً من قبل والده -رحمهما الله-[8] .
وبانتقاله مع والده إلى الكويت، اكتسب من مخالطة داهية العرب في وقته (مبارك الصباح) أمير الكويت – رحمه الله – خبرة ومهارة في التعامل مع الأحداث، والتعرف على القوى الخارجية وسياستها في المنطقة، والوقوف عن كثب على الصراعات الدولية في مناطق النفوذ، ومن هناك بدأ يخطط لوحدة بلاده، ولم شعثها، وجمع كلمتها، يحدوه أمل غير محدود، بنجاح طلبته، وأحقية مهمته، وهو يعلم أن قلوب الشعب وسيوفهم معه، فقد ضاقوا ذرعاً من الانشقاقات والنزاعات ولم تزدهم الإمارات المتسلطة يومئذٍ إلا بؤساً وظلماً يقول – رحمه الله – "أنا قوي بالله تعالى. ثم بشعبي، وشعبي كلهم – كتاب الله في رقابهم وسيوفهم بأيديهم يناضلون – ويكافحون في سبيل الله، ولست أدعي أنهم أقوياء بعددهم أو عُددهم وكلهم أقوياء – إن شاء الله بإيمانهم" [9] .
وفاته:(41/448)
قضى الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- عمراً مديداً مباركاً في زراعة بذرة الوحدة، وسقيها بالإيمان والجهاد، حتى أينعت ثمارها وحان قطافها بالأمن والأمان، والسعادة والاطمئنان، وفي رحلته السنوية التي اعتاد قضاءها في الربوع المقدسة، لرعاية الحجاج من قرب، قعد به المرض في مدينة الطائف قبل أن يبلغ وجهته، مما اضطره إلى إنابة ولي عهده الملك سعود -رحمه الله- للذهاب إلى مكة في موسم عام 1372هـ، بينما اشتدت وطأة المرض عليه، وفي صبيح الاثنين 2 ربيع الأول سنة 1373هـ انتقل إلى جوار ربه ونقل بالطائرة إلى الرياض ودفن بها [10]-رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عن المسلمين والإسلام خير الجزاء-.
أهلية أسرة الملك الإمام وخصائصها الوحدوية:
لم تكن أسرة الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – غريبة على سكان الجزيرة العربية، فهم من بني جلدتهم، وبضعة من لحومهم ودمائهم، يتقاسمون بينهم الآلام والآمال، وتاريخهم شاهد على نزاهتها من النقائص، واستعلائها على الأهواء والأطماع، فليس لحي من أحياء العرب من الحظوة والمكانة القيادية ما لأسرة الملك الإمام، وذلك للأسباب التالية:-
1 – تجذر الملك والحكم في أصولها، فلم يكونوا حديثي عهد بملك، بل أخذوه كابراً عن كابر، يقول الملك الإمام: "أنا عربي من خيار الأسر العربية ولست متطفلاً على الرئاسة والملك، ولست ممن يتكئ على سواعد الآخرين في النهوض والقيام، وإنما اتكالي على الله، ثم على سواعدنا يتكئ الآخرون ويستندون إن شاء الله" [11] .
ومن عادة العرب أنها لا تنسى مآثر ذوي المكرمات وتعرف لذوي الهيئات منازلهم مهما تعرضوا للنكبات وطوارق المدلهمات، فسرعان ما تلتف حولهم الخاصة والعامة، عند أول بادرة نهضة ويقظة وهدة، كما هو حال تاريخ أسرة الملك الإمام.(41/449)
2 – ارتباط أسرة الملك الإمام – رحمه الله – بنصرة الدين الحق، وتجديده مما أكسب حكمها سلطاناً على القلوب لا يزول أثره، ولا يحمي ذكره، يقول الملك الإمام: "نحن دعاة إلى التمسك بالدين الخالص من كل بدعة نحن دعاة إلى العروة الوثقى" [12] ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت: إنها الأسرة الوحيدة التي قام ملكها في جزيرة العرب بعد العهد النبوي والراشدي على أسس دعوية صحيحة، ولا أدعي هذا الفهم لنفسي فقد سبقني إليه الدكتور محمد البهي - رحمه الله - الذي قال بإنصاف - يشكر عليه - حين الحديث عن التعاضد بين الإمامين: محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب – رحمهما الله – "وبهذا التعاضد اجتمع لهذه الدعوة سلطان الحاكم وقوة الإيمان، وقلما اجتمع الأمران في حركة دينية بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين سوى هذه الحركة" [13] وصدق فيهم قول الإمام الشوكاني – رحمه الله – في أبيات له:
جميع بني الدنيا فما للمجادل
هم الناس أهل البأس يعرف فضلهم
إلى أن أقاموا بالظي كل مائل
وقد جاهدوا في الله حق جهاده
كما دافعوا داعي الهوى بالقنابل [14]
لقد نصروا دين الإله وحزبه
3 – ابتعاد أسرة الملك الإمام عن التسلط والظلم، واتسمت سياستهم بالصبغة الشرعية، حتى في أوقات الشدة بخلاف ما اشتهر عن كثير من أفراد الأسر الحاكمة (أحياناً) من الظلم والاعتداء، واغتصاب حقوق الناس وممتلكاتهم، وقد تمتع القضاء تحت ظل حكمهم باستقلالية ونزاهة، لا سلطان لغير شرع الله عليه، وقد أشار أحد الباحثين إلى علة انتصار أسرة الملك الإمام بقوله: "تمكن آل سعود من السيطرة على البلاد لما قاموا به، من جليل الأعمال كما كانوا وما زالوا أكثر الأسر التي حكمت الجزيرة منذ زوال الملكية من أيدي العرب تفانياً في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وإعلاء كلمة الله في السر والعلن" [15] .(41/450)
4 – لم يعهد من سياسة أسرة الملك الإمام – رحمه الله – الانحياز إلى فئة دون أخرى، أو تأليب بعضها على بعض، مما حفظ لهم مصداقية، ونزاهة أمام الأمة (فلا يكاد أمير سعودي، يظهر حتى يتسابقوا في تأييده ونصرته، ويتراكضوا إلى بيعته والانظواء تحت رايته لا يتعانون مع غيره، ولا ينقادون مع سواه، مادام ذلك في مقدورهم وفي حيز استطاعتهم ومرد ذلك ما عرفوه بالتجارب الكثيرة المتتالية عبر التاريخ، وعبر الأيام من زائد الإخلاص في محبتهم، واهتمام بشؤونهم وحرص على إقامة العدل بينهم [16] ، وباشر الجميع تحت حكمهم العمل بتفان وإخلاص في محيط تحفظ فيه الحقوق، وتصان الحرمات، وتتكافأ فيه الفرص أمام الجميع كل على قدر أمانته وكفاءته، فهم أبعد الناس عن التحزب والوقوع في براثن العنصرية والفئوية والقبلية، ومن هنا كان حكمهم بلسماً شافياً، ودواء كافياً ورحمة وسلام، وبهذه المعطيات الراسخة تمثلت أمام الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – بارقة أمل لا ينقطع في العودة إلى الوطن، ولم شعثه، ورتق فتقه، يؤازره في ذلك رجال صالحون من آل بيته، وعموم علماء الدعوة وفي مقدمتهم أسرة آل الشيخ المباركة الطيبة، وغالب رجالات العرب العرباء وأبطالهم النجباء – رحم الله الجميع رحمة واسعة – وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
الفصل الأول
أسس منهج الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة(41/451)
ما من منهج سديد يروم الكمال ويسعى إلى التأثير، إلا حرص مخططوه ومنظروه على إقامته على دعائم راسخة وقواعد جامعة، تؤكد أحقيته في البقاء وصيرورته في النجاح والإثراء، وقد حرص الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – في سبيل تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة، أن يقيم منهجاً يتسم بالشمولية والاستيعاب لحاجة عصره ومراحل جهاده، توظف فيه مناقب العرب، وفق وجهة إسلامية رشيدة، تنتهي إلى وحدة شاملة، تنطلق في البناء والإعمار، راشدة موفقة، ينعم بها القريب، ويسعد بها البعيد، وتبقى منارة هدى ومثابة أمن وأمان، للأجيال الحاضرة والقادمة، وعليه وطد منهجه على أسس وقواعد، بنيت عليها الوحدة الكبرى بين أبناء شعبه وأفراد أمته، بما لا يستطيع أحد زعزعته، أو النيل منها، ومن أهمها:
المبحث الأول: العقيدة الصحيحة:(41/452)
ورث الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – عن آبائه وأجداده، موروثاً علمياً وزاداً حضارياً، أخذه عن علم وبصيرة، وطبقه بنية صادقة، وإرادة قوية، أحدثت معجزة باهرة في جميع أمة مقطعة الأوصال، مختلفة الرؤى متناقضة الأهداف، فانصهرت جميعها في بوتقة الإيمان، وحدة متماسكة وبنية متشابكة، فسعى إلى إعادة هذا الموروث، والاستناد إليها في كل خطوة نحو الوحدة، وطبقها بعلم مكين، وفهم دقيق، وفقه راسخ رشيد، جنبه -بفضل الله- الوقوع في المحاذير والآفات التي تورطت فيها الفرق والطوائف المختلفة. يقول الملك الإمام عن الفهم الصحيح للعقيدة "عقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح، التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح، نحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق بين الأئمة: مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة كلهم محترمون في نظرنا" [17] ويقول رحمه الله "أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها، فأرجع بشأنه، إلى أقوال الأئمة الأربعة، فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين، أنا مسلم، وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين، وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة المسلمين، ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية في سبيل ذلك" [18] .(41/453)
فسعى بإخلاص إلى إعادة هذا الموروث السلفي – الذي يلزم عموم المسلمين فجعله محور دعوته ولب جهاده، مع يقينه بأثرها الناجح في تربية شعبه ونهضته، يقول -رحمه الله-: "مثل هذه البادية في حياتها، كمثل أرضها تظل قاحلة، إلى أن يسقيها الغيث فإذا سقيت أخضرت وأزهرت، كذلك هي في رجالها، تستمر عصوراً وهي مستغرقة في جهالتها، ويبرز فيها رجل يحسن تنظيمها وتوجيهها، فتنقلب الحياة في كل ناحية من نواحيها" [19] . فعقيدة التوحيد في نظر الملك الإمام، قوة متجددة تؤدي دورها التجديدي في بعث الأمة ووحدتها في كل أوان، متى أراد أهلها ذلك، وتهيئة الأسباب المعينة على ذلك، ومن أهمها بعد توفيق الله – وجود مصلح حكيم، يحسن تنظيمها نحو الإصلاح – كمثل الملك الإمام – رحمه الله – فكان إشهار هذا الدواء الناجح ضرورة شرعية، وحاجة بشرية، يقتضيها خطاب الشرع الحنيف في كل زمان ومكان، فضلاً عن ظروف الجزيرة العربية وأحوالها الاجتماعية والسياسية، والتي عادت بعد سقوط الدولة السعودية الثانية إلى سبل التناحر والتقاتل، فأعلن -رحمه الله- لشعبه منذ خطواته الأولى أنه لم يأت لإحياء مكاسب دنيوية، وكثيراً ما يقول مبتهلاً في دعائه المنيب: "اللهم إن كان قصدي إعلاء كلمة الله ونصرة الإسلام والمسلمين فأرجو منك التوفيق والتأييد والنصر، وإن كان قصدي خلاف ذلك، فأرجو منك أن تريحني بالموت العاجل" [20] ولم يكن ترسيخ العقيدة في نفوس أبناء العرب بالأمر الهين، ولاسيما بعد طول عهدهم بمعرفتها، فقد واجه الملك الإمام مصاعب عدة، تنبثق من جبلة العرب، ونزعتهم نحو الحرية والاستقلالية وأنفتهم الشديدة من الانصياع للنظام، يقول ابن مانع رحمه الله: "لقد كان من أعظم مشكلات ابن سعود في بناء دولة مستقرة تلك المشكلة التي واجهت كل زعيم في الصحراء وهي نزعة رجال القبائل الجادة إلى الاستقلال، وحبهم للحرب وسرعة تغيير ولائهم" [21] ولكنه رحمه الله سعى بلباقة وحكمة وجلد(41/454)
إلى توجيه حماس العربي لقبيلته ومنازلها، إلى هدف عقدي يجتمعون على تحقيقه، ويكسبون معيشتهم بسببه، ويتحقق لهم الأمن والطمأنينة على مائدته، مما يستوجب ذلك تغيير المفاهيم السائدة والمصطلحات الراسخة يقول -رحمه الله-: "إني أريد تغيير نزعة العرب إلى الحرب، وعدم جعلها الأسلوب الوحيد أو الأقوى لتحقيق الأهداف حتى يشعروا بأنهم في جماعة واحدة" [22] فكانت عقيدة التوحيد خير وسيلة لتغيير نزعة العرب إلى الحرب، ولم تكن العقيدة الصحيحة عند الملك شعاراً رناناً للاستهلاك المحلي، كعادة أصحاب الشعارات الطنانة والرايات الرنانة، يقول -رحمه الله-: "إني أفضل أن أكون على جبل آكل من عشب الأرض أعبد الله وحده، على أن أكون ملكاً على سائر الدنيا، وهي على حالتها من الكفر والضلال، اللهم إنك تعلم إني أحب من تحب، وأبغض من تبغض، إننا لا يهمنا الأسماء والألقاب، وإنما يهمنا القيام بحق واجب التوحيد" [23] ولذا نراه لا يحاب أحداً حين القدح في جانب التوحيد، فقد زاره أحد الزعماء العرب المشهورين، ودار بينهما حوار، وأراد الضيف أن يؤكد أمراً قائلاً: وحياة رأسك فنظر إليه الملك الإمام وقال: "قل والله" [24] ويعلو صوته، ويشتد غضبه إذا ما جانب أحد من رعيته عقيدة التوحيد، ولو كان مدحاً له ففي زيارته إلى الخرج سنة 1363هـ دخل عليه شاعر واستأذنه. في قصيدة مطلعها:
أنت أملنا وفيك الرجا(41/455)
فصاح الملك الإمام في وجهه قائلاً: "تخسأ – تخسأ"ولمح في المجلس أحد طلبة العلم فقال: "علمه التوحيد" [25] وقد اقترن قوله بفعله في تربية شعبه على التوحيد، فمكنه من قيادة الإصلاح في جميع نواحي الحياة، وسخر العلم لتوجيه الناشئة من صغرهم، ليتولى العلماء تدريسه في حلقاتهم ودروسهم، ويطبقه القضاة في محاكمهم، ولم يحاب فيه أحداً كما تقدم. فحلت العقيدة الصحيحة في قلب الملك الإمام وسياسته موضع الاهتمام البالغ والتحكيم الحازم، وعلى فلكها يدور منهجه، وجهاده وإصلاحه غير آبه لمعارضتها أو مجامل لمخالفتها، مهما كانت المكاسب يقول الدكتور عبد الله التركي -حفظه الله-: "عرف عن كثير من الساسة الذين يهمهم المكسب السياسي فحسب – أنهم يعاملون الناس ويداهنون العامة في أمور العقائد بل إنهم من يشارك العامة في خرافاتها ووثنياتها رغبة في السلطة وطلباً للتأييد، وكان من مقتضيات المجاراة العرفية في منطق السياسيين الذين يضحون بالعقيدة من أجل أهدافهم السياسية أن يجاري الملك عبد العزيز بعض الأعراف وطوائف البدع والخرافات التي تنال من جلال التوحيد، ولكنه لم يفعل لأن التوحيد أعلى وأسمى وأعظم من أي اعتبار آخر، بل فعل ذلك حيث عقد العزم على تطهير الجزيرة من كل عرف أو تقليد أو عادة أو خرافة تفسد على الناس توحيدهم الخالص، وهذه طريقة لا يستخدمها في الانتصار للعقيدة إلا داعية موحد لا يقايض على التوحيد بشيىء " [26] لقد جعل الملك الإمام الاهتمام بالعقيدة أصل الأصول أساساً للحكم ووصية لعقبه من بعده ففي وصيته لولي عهده يقول فيها: "تعقد نيتك على نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون دينك إعلاء كلمة التوحيد" [27] وليس ثمة وصف يصح إطلاقه على جهود الملك الإمام سوى تلك المقولة التي قالها الملك الإمام "أنا داعية أدعو إلى عقيدة السلف الصالح" [28] .
المبحث الثاني: تطبيق الشريعة:(41/456)
من البدهي أن يكون تطبيق الشريعة، قاعدة أساسية في منهج الملك الإمام عبد العزيز رحمه الله في سبيل جمع فلول أمته على مائدة أحكام الشريعة، التي يتفيؤُ الجميع ظلال عدالتها وبركة قسطاطها، ليغدوا أخوة متحابين، تسودهم المودة، وتغشاهم المحبة وتلك نتيجة طبيعية للعلاقة الوطيدة بين الشريعة والعقيدة في نفس الملك الإمام، فإن تمكنها في نفسه وسريانها في روحه ودمه، استلزم حتماً تطبيقها بمفهومها الشامل، ليقينه بعدالتها المطلقة، وضرورتها الملحة في إزالة أسباب الجفوة بين أفراد شعبه، وكفالتها بإزاحة العوائق أمام الوحدة الكبرى لبلده، فبدأ بنفسه، يقول الملك فيصل رحمه الله: "إن والدي لا يفرق بيننا وبين أبناء شعبه، وليس للعدالة عنده ميزانان، يزن بأحدهما لأبناءه، ويزن بآخر لأبناء الشعب فالكل سواء عنده والكل أبناؤه" [29] وتلك آية حرصه على تكامل حلقات الإصلاح، وسد ثغراتها، مما يؤدي إلى تحقيق العدالة، وتقوية البنية الاجتماعية ولذا نراه يؤكد على هذا المعنى بقوله: "لا يدوم الملك إلا بدولة عادلة" [30] فلم يكن -رحمه الله- رجل دولة محنكاً، أو قائداً عسكرياً مظفراً فحسب بل جاوز ذلك إلى داعية مخلص، ومصلح اجتماعي متنور، وعالم إسلامي متمكن، جعل من تطبيق الشريعة الإسلامية غاية وهدفاً لتحقيق الأهداف السامية، والإصلاحات العظيمة. يقول -رحمه الله-: "إن اعتصامي بالله وسيري على الطريقة المحمدية واقتدائي بعلماء المسلمين يدعوني إن شاء الله تعالى لعدم الجموح بالنفس وقد عاهدت الله على ثلاث:
1 – الدعوة لتعلم التوحيد، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل.
2 – الأخذ على يد السفيه وتحكيم السيف فيه.
3 – الإحسان إلى المحسن والعفو عن المسيئ " [31] .(41/457)
وقد أنجز ما وعد وحقق – بفضل الله تعالى – ما جاهد من أجله وجد وقال على الملأ مبيناً نهجه الذي يسير عليه في تطبيق الشريعة "إن كتاب الله ديننا، ومرجعنا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دليلنا، وفيها كل ما نحتاجه من خير ورشاد، ونحن من جانبنا سنحرص إن شاء الله كل الحرص على إقامته واتباعه، وتحكيمه في كل أمر من الأمور" [32] .
وبهذا النهج القويم انطلق الملك الإمام مسترشداً بشرع الله وتطبيقه نحو تأليف الأمة، وضم أقاليم الجزيرة بعضها إلى بعض معلناً ومؤكداً في كل مرة، هدفه وغايته من ذلك. ففي سنة 1343هـ قال قبل خروجه إلى الحجاز "إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها بل لرفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله، إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة، وتأييدها فلن يكون هناك بعد اليوم سلطان إلا الشرع" [33] ولا يجد الناظر تأويلاً لهذا الاهتمام الكبير من قبل الملك الإمام بتطبيق الشريعة سوى الإيمان الجازم بأحقيتها في الحكم، ويقينه الراسخ بدورها العظيم في الإصلاح، ولم شعث الشعب الممزق، ووحدته الضائعة، وقد تكللت جهوده المباركة بإقامة دولة الإيمان والوحدة (المملكة العربية السعودية) وأعلن في النظام الأساسي للحكم أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي والوحيد للمملكة فقد ورد فيه ما نصه "جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح" [34] فاقترن القول بالعمل في ثنائية لا تعرف الانفصام في حياة الملك الإمام وتمثل منهجه، في تطبيق الشريعة في مسلك إيماني عميق، وصدق حين قال –رحمه الله-: "دستوري، وقانوني، وشعاري، دين محمد صلى الله عليه وسلم فإما حياة سعيدة، وإما موتة سعيدة" [35] فحقق الله مرامه وقامت دولة التوحيد والشريعة على يد الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – مهابة الجانب، متماسكة الجوانب، جددت الدين، ورفعت لواء الدعوة إلى الله، ومدت يد العون إلى عموم(41/458)
المسلمين، وتحت سلطان الشريعة وقوتها استوى الشعب السعودي في الحقوق والواجبات، واستبدل بالثأر القبلي، الحد الشرعي، وبالسلوم والأعراف، أحكام الشرع الحنيف، ورضي الجميع بحكم الله، فساد الأمن وطهرت البلاد من الفتن، وضربت المملكة مثلاً في الأمن يؤتسى، وأسوة في العدل تقتدى.
المبحث الثالث: القيام بحقوق الرعية:
إن شعور المصلح الحق، بمعاناة الناس، وسعيه في حاجاتهم آية بينة على صدقه، وبلوغه درجة الاشتقاق، التي ميزت أولي الهمم العالية الذين أفنوا حياتهم في خدمة البشرية، وليس من شك أن التفاف الشعب حول الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – لم يكن من فراغ، أو نتيجة حملهم قسراً أو ساقهم إليه بعصاه، بقدر ما عرفوا عنه الاهتمام البالغ بمشكلاتهم وسعيه الحثيث في خدمتهم، وكفاية حاجاتهم، فنظروا إليه والداً حنوناً لصغيرهم وأخاً شفيقاً لكبيرهم، فأطعم جائعهم وكسا عاريهم، وداوى مريضهم وأمن خائفهم فقد كان يبادر إلى ما في خزائنه الخاصة وخزائن الدولة من مال فيأمر بالإنفاق منه على إطعام القبائل المجدبة أرضها وعلى الأفران تمون بالدقيق لتوزيع العيش (الخبز) على أهل المدن مجاناً، وكان يقول -رحمه الله-: "إنما يهمنا توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا" [36] واستطاع بفضل الله أن يخرج شعبه من ظلمات الجهالة المطبقة، والغفلة المستحكمة إلى نور العلم والهداية، ومن براثن التخلف إلى مراقي التقدم والحضارة، ومن سغب الجوع ورقة الحال إلى بحبوبة العيش والحياة الكريمة اللائقة بالإنسان. لقد أدرك الملك الإمام أن حياة الناس واجتماعهم، لا تستقر في بيئة ينهش المرض فيها أجسادهم، ويطوي الجوع أحشائهم، ويسم الفقر حياتهم فنذر نفسه لخدمتهم شعوراً بالواجب والتزاماً بالمسؤولية يقول –رحمه الله-: "إن خدمة الشعب واجبة علينا لهذا نخدمه بعيوننا وقلوبنا، ونرى أن من لا يخدم شعبه ويخلص له فهو ناقص" [37] ولم يقتصر خيره على شعبه بل سرى إلى(41/459)
أمته الإسلامية والعربية يقول -رحمه الله-: "وخدمة الإسلام والعرب واجبة علينا بصفة عامة وخدمة شعبنا بصفة خاصة" [38] وأناط المسؤولية بكل وال.
يقول رحمه الله مخاطباً رعيته: "ولابد أنكم سمعتم أننا ألزمنا ولاة الأمور بالنظر في شؤون الرعية، وجعلناها أمانة في أعناقهم، فعليهم أن يقوموا بالواجب والنفع للشعب، وأن يجتهدوا في تحقيق ما عليهم من حقوق وما لهم من واجبات" [39] واتخذ خطوات عملية جادة، تلامس شغاف القلوب، وتأسر النفوس، فأستنهض الهمم، وجند الطاقات، وسخر الموارد لمحاربة الأدواء السارية وألوان الفقر المدقع ومظاهر الجهل المختلفة، وقد تكللت جهوده المباركة بنجاح منقطع النظير يقول أحد شهود العيان: "ومن رأى هذا الشعب من عشرين سنة لا يكاد يصدق عينه، حين يرى تلك الجهود الضخمة التي تبذل في جميع المجالات العلمية والإعلامية والصحية والاجتماعية وحين يرى شباباً متفتحاً على الحياة، يسير بخطى واسعة في طريق التقدم والبناء، وبالجملة فهي حركة ناهضة، تحارب التخلف، في كل صوره" [40] . فكانت جهود الملك الإمام بمثابة الأسس الرئيسية التي قامت عليها صروح النهضة والتنمية لبلاده، وهي تمثل في حقيقتها نقلة جذرية لحياة جديدة لم تكن معهودة من قبل يقول اللورد اوف حاكم كندا: "شهدت بنفسي عندما زرت المملكة العربية السعودية، ماذا صنع الملك عبد العزيز لرفاهية شعبه، لقد استقر السلام والأمن في البلاد التي كانت من قبل تمزقها المنازعات الداخلية، وأتيح لي أن أشهد كيف تم الاعتراف به ملكاً وزعيماً على شعبه الذي أضاء له حكمه الطريق إلى الارتقاء في جميع النواحي الاجتماعية والثقافية" [41] ولا يمكن بحال حصر الخدمات التي قدمها الملك الإمام لشعبه – والتي سرت إلى عموم أبناء العرب والمسلمين، وفي إشارة لآثاره الخيرة وما تؤول إليه جهوده المباركة يقول: "إذا وفق الله أولادي كما وفقني فسوف يتولون مقدرات مائة مليون مسلم" [42] فصدق(41/460)
ظنه، وحق حدسه، فالكل يلمس ما تقدمه المملكة العربية السعودية، من بذل وعطاء، طال خيره سائر الشعوب العربية والإسلامية.
المبحث الرابع: تحقيق الأخوة:
لا يستقيم الاجتماع البشري، وينتظم العمران الإنساني، ما لم يتحقق الوفاء بين أفراده، بأداء واجبات اجتماعية، وحقوق إنسانية، تنظم العلاقة بين أفراد الجنس البشري، على وجه سوي، تصان به الحرمات، وتحفظ فيه الحقوق وذلك هو الفارق بين حياة الإنسان، وسائر العجماوات، وإنما تتفاضل المجتمعات في استقرارها وسعادتها على قدر فهمها والتزامها بما تمليه عليه الحقوق والواجبات من أنماط سلوكية ومعاملات سوية، وقد تفطن الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – إلى حاجة مواطنيه، إلى المصالحة الوطنية، والوحدة الأخوية، بعد دهور عديدة من العداء المستحكم، أفرز كماً لا حصر له من الثأرات المتبادلة، والفتن الجاهلية التي عصفت بشعب الجزيرة العربية زمناً ليس بالقصير، فليس من السهل والحالة هذه، إحداث تغيير جذري في أنماط التفكير والسلوك، إلا بما يشبه المعجزة، مما حمل الملك الإمام على تجنيد عديد من الوسائل المتنوعة، لتشكل في مجموعها تياراً جارفاً من قنوات الإصلاح، وعوامل البناء، وأسباب التواصل، وفق مضامين ثابتة وأسس راسخة، وقواعد متينة، تحيط بأفراد الأمة جميعاً، لتصهرهم في بوتقة الوحدة والمؤاخاة، شعباً متجانساً، وكياناً متوحداً، فجعل – رحمه الله – من نفسه قدوة صالحة لرعيته، فعفا عن كل خصومه ومضطهدي مواطنيه، وقابل الإساءة بالحسنى، واستل بلطفه سخيمة القلوب، وجعلهم في حل مما سلف، واتصل وأبناؤه الكرام بنسب إلى كثير من القبائل، فوصل حبلهم بحبله، وودهم بوده، وحرص على أن تسير المصالحة الوطنية وفق آداب الدين الحنيف وقواعده، فأمر بإقامة الصلاة جماعة في سائر القرى والمدن، ووكل رجالاً أكفاء بالدعوة إليها، وتأديب من تهاون في أدائها، وتجسد ذلك في (هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن(41/461)
المنكر) ، وألغى جميع النعرات الجاهلية، التي كانت عاملاً في تفتيت وحدة الأمة، وتدل خطواته الحكيمة على العناية الفائقة بالوحدة، مهتبلاً كل سانحة ومقتنصاً كل فرصة عارضة، ويوم دخل الحجاز منتصراً ومظفراً دعا علماء نجد والحجاز إلى مائدة مستديرة، تطرح فيها الآراء بحرية كاملة، وتغربل على بساطها مسائل الخلاف الصالحة للنقاش، وقد انفض الاجتماع عن اتفاق في وجهات النظر في جميع المسائل مما أزال الغمة عن القلوب، وكبت جهود أعداء الوحدة، الذين سعوا إلى تشوية سمعة علماء الدعوة السلفية، بمختلف الأكاذيب وألوان الدعايات المغرضة، وانعكس هذا الاجتماع الناجح بدوره على سكان نجد والحجاز، فقامت بينهم أخوة إيمانية راسخة لم تزدها الأيام والسنون إلا رسوخاً كما قال الملك الإمام: "إنا نحمد الله على جمع الشمل، وعلى جعل الحكم في هذه الديار، بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [43] فتغيير ما بأنفسنا يعود علينا بالضرر، وهذا الضرر هو أعظم من الجهل والفساد والجرائم، فالواجب عليكم، هو معرفة الله تعالى، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك البدع والخرافات، والتأدب بآداب الشريعة، وتوثيق عرى الألفة وأواصر النصيحة والإخلاص" [44] وقد أكرم الله تعالى شعب المملكة بهذه الوحدة الإيمانية، تحت راية التوحيد كما قال الملك خالد – رحمه الله –: "لقد وحد جلالة الملك عبد العزيز – رحمه الله – هذه المملكة تحت راية التوحيد الخالدة، لا إله إلا الله محمد رسول الله" [45] .(41/462)
وقد كانت أسس الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – بمثابة قواعد منهجية ورؤى مسلكية، لداعية مصلح، وقائد حكيم، بذل ما في طاقته مستخدماً ما وقع تحت يده من الوسائل المباحة والمتاحة، لتصير تلك الأسس واقعاً عملياً مثمراً، يفيض بالألفة، وينمو بالمحبة، ويقوى بالتعاون، من خلال وسائله المختلفة، وقنواته المتعددة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج2 ص12، وانظر الوجيز ص9، وصقر الجزيرة ص80 للعطار.
[2] الوجيز ص9 – 10.
[3] المصدر السابق ص92.
[4] المصدر السابق ص7-5- المصدر السابق ص18-19 شبه الجزيرة الزركلي ج1 ص59.
[5] الوجيز ص17.
[6] الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة للدريب ص29 الوجيز 186-209-306 البلاد العربية السعودية ص30 فؤاد حمزة.
[7] شبه الجزيرة للزركلي ج2 ص794.
[8] الوجيز ص 18-19.
[9] الوجيز ص 186.
[1 0] المصدر السابق ص 186.
[11] المصدر السابق ص186.
[12] المصحف والسيف ص62 محي الدين القابسي.
[13] الحركة الوهابية ص13 لخليل هراس.
[14] تاريخ العرب الحديث والمعاصر ص111 لعبد رحيم عبد الرحمن عبد الرحيم
[15] تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها ج1 ص28 لصلاح الدين مختار.
[16] من حياة الملك عبد العزيز ص129 للأحيدب.
[17] الوجيز ص 216.
[18] المصدر السابق ص216.
[19] المصدر السابق ص29.
[20] من تاريخ الملك عبد العزيز ومواقفه ص9 سعد الرويشد.
[21] توحيد المملكة للمانع ص71.
[22] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز ج1 ص217.
[23] جريدة أم القرى العدد 989 سنة 1363هـ.
[24] الوجيز ص185.(41/463)
[25] الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة للدريب ص23.
[26] الفكر والدعوة في عهد الملك عبد العزيز ج1 ص266-267.
[27] الوجيز ص59.
[28] الوجيز ص 216.
[29] من حياة الملك عبد العزيز للأحيدب ص39.
[30] توحيد المملكة العربية السعودية لمحمد المانع ص357.
[31] جريدة أم القرى العدد 228.
[32] حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز ص84 لطفي جمعة.
[33] المصدر السابق ص83.
[34] شبه الجزيرة للزركلي ج1 ص354.
[35] أم القرى العدد 432 سنة 1351هـ.
[36] الوجيز ص223.
[37] عبد العزيز وعبقرية الشخصية الإسلامية ص377.
[38] المصدر السابق ص377.
[39] عبد العزيز آل سعود وعبقرية الشخصية الإسلامية ص377.
[40] الحركة الوهابية 52 لخليل هراس.
[41] عبد العزيز آل سعود وعبقرية الشخصية الإسلامية ص248-429.
[42] السعوديون والحل الإسلامي ص35.
[43] سورة الرعد آية (11) .
[44] المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود البديوي ص 296.
[45] المصدر السابق للبديوي ص296.(41/464)
تابع لمنهج الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود
الفصل الثاني
وسائل تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة عند الملك الإمام عبد العزيز آل سعود - رحمه الله -.
ترتبط المقاصد الكبرى بوسائلها العظمى – كماً وكيفاً – ويتفاضل رواد الإصلاح على قدر نجاحهم في تحقيق أهدافهم المرسومة، وخططهم المحددة، دون تنازل عن ثوابتهم ومبادئهم، ولا يغيب عن الذهن، أن قيام فرد واحد ببناء أمة وإصلاح شعب وتوحيد فئات متناحرة، مهمة في غاية المشقة والخطورة، لا يستطيعها إلا القلة الأكفاء، الذين ألهمهم الله التوفيق وأخذ بأيديهم وسدد خطاهم، فحققوا ما عجز عنه غيرهم، وبنوا ما هدمه خصومهم، ولا مست جهودهم شغاف القلوب ومشاعر الوجدان، ووقعت في حياة الناس موضع الشفاء للمريض المضنى، والري للناهل الصادي، ويأتي في طليعتهم في هذا العصر الحديث الملك الإمام عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – الذي استخدم ما وقع تحت يديه من الوسائل المتاحة والمباحة شرعاً لتحقيق ونبذ الفرقة بين مواطنيه، وأبناء جلدته ومن أهمها:
المبحث الأول: الجهاد في سبيل الله:(41/465)
اقتضت ضرورة المرحلة، إلزام الملك عبد العزيز – رحمه الله – اقتحام لجج المخاطر ولجب المهالك، وركوب الصعب والذلول، لإزالة العقبات الصادة والسدود المانعة أمام الكبرى، مما ليس منه بد فقد بدأ بقوة صغيرة – زهاء أربعين رجلاً – خرج بهم من الكويت على حين غفلة من أعين أعداءه وهو لا يشك أبداً في نجاح أعدائه مهمته، المتمثل في إزالة رمز سلطة ظالمة، وطغمة حاكمة، أطبقت بكلكلها على رقاب العباد، ولم تراع حرمة، أو تحفظ حقاً؛ وبمجرد أن سمع الناس صوت الصارخ بعد فتح الرياض الملك لله ثم لعبد العزيز – إلا وانعطفوا إليه انعطاف الأم الرؤوم على ابنها المفقود، وأقبلت الرياض بعلمائها وأعيانها فرحين مستبشرين، بعهد جديد، طال انتظاره، ولما عظمت مسؤولية التحدي أمام جهود الملك الإمام، وأقبلت قوى الشر بقضها وقضيضها، اضطر إلى مقابلة القوة بمثلها على قدر استطاعته وإمكانياته، يقول الأمير نايف بن عبد العزيز – حفظه الله – عن الملك الإمام: "لم يثن عزيمته، قلة ما معه من عتاد ولا تردد في إنفاذ مسيرته الفذة، رغم قلة العدد من الرجال، ولا توقع الاستحالة في اجتياز الفيافي والجبال، بل اندفع بقوته وقدراته المحدودة مستمداً العون من الله الذي آزره وقواه – من إرادته حتى واجه التحديات المختلفة، وفرق الخصوم والحشود بلا تردد ولا خوف" [1] ولم يكن ذلك حباً في الحرب، وتعلقاً بها حيث قال: "لست من المحبين للحرب وشرورها وليس أحب إلي من السلم والتفرغ للإصلاح" [2] . مما يدل على أن الحرب كانت ضرورة، دفع إليها دفعاً، ولم يلجأ إليها إلا بعد استنفاذ كافة الوسائل.(41/466)
يقول الملك فيصل -رحمه الله-: "وهو يتوخى حل المشكلات بالسلم، كما أنه يتسامح مع خصومه، واسع الصدر، لا يدخر وسعاً في استخدام المرونة، ووسائل اللين، ولا يلجأ إلى الشدة حتى يستنفذ هذه الوسائل" [3] . ولكنه لا يتردد في استخدام القوة إذا تعرضت العقيدة والوطن إلى المخاطر يقول -رحمه الله-: "عندي أمران لا أتهاون في شيىء منهما ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النيل منهما ولو بشعرة.
الأول: كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة.(41/467)
الثاني: هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد الفرقة وأعزهم به بعد الذلة، وكثرهم بعد القلة فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حياضه" [4] ، ومن أجل ذلك أعد جيشاً قوياً على عينه، ورباهم على نهجه، حتى خلصت نفوسهم من الشوائب وقدموا أرواحهم عند النوائب، يبتغون نصرة الدين الحق وسماهم جنود التوحيد يقول رحمه الله: "إن ورائي ما لا يقل عن أربعمائة ألف مقاتل، إن بكيت بكوا، وإن فرحت فرحوا، وإن أمرت نزلوا على أرائي، وإن نهيت انتهوا، وهؤلاء هم جنود التوحيد" [5] وبهذا الوصف الدقيق لجيشه، واجه قوى الشر وأعداء الوحدة، وقد تعرض رحمه الله للأخطار، وأصيب في جسده مرات عدة، ولم يثنه ذلك عن هدفه يقول رحمه الله: "لقد أوذينا في سبيل الدعوة إلى الله وقوتلنا قتالاً شديداً، ولكنا صبرنا وصمدنا" [6] ولم تزل ندب الجراح باقية في جسده شاهدة على تلك المعاناة الملحمية يقول أحد وزرائه: "خاض عبد العزيز أكثر من مائة معركة، ولما مات وجدوا على جسمه ثلاثاً وأربعين ندبة وأثر جرح" [7] ولكنه خرج من هذه جميعاً منتصراً بفضل الله تعالى ثم إيمانه العميق بنصر الله وعدالة قضيته المتمثلة في جمع أمته وإقامة شريعة الله وتحكيمها بها ونشر الدعوة الإسلامية يقول رحمه الله: "إن ربي لم يعطني ما أعطاني من قوة مني بل أعطاني ما أعطانيه عن ضعف مني وقوة منه، اعتدت أن أحزم أمري وأجمع ما استطيع جمعه من قوة وأحياناً يفوتنا النصر مع القوة الكبيرة، حتى إذا قل عددنا، وكاد اليأس يقرب من القلوب هدانا الله إلى الطريق التي نسلكها للنصر، فيفتح لنا لنعلم أن النصر من عنده يؤتيه من يشاء" [8] .
المبحث الثاني: إقامة الدولة المسلمة:(41/468)
لا ينكر بحال أثر السلطان الصالح في استتباب الأمن، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوحيد صفوف الأمة في منظومة واحدة، توثق فيها عرى الأخوة والمودة بين أفراد الوطن الواحد، وليس من شك أن تأليف القلوب واجتماعها على إمام واحد يسوس الأمة بالكتاب والسنة، من أجل نعم الله بركة، وأكثرها نفعاً وخيراً لا يقتصر فضلها على فرد، أو يخص قوماً دون قوم، بل يسري تأثيرها إلى الحياة برمتها، فيحفظ الله بالسلطان الصالح ما ضاع من الحقوق، وما ضيع من الواجبات وما انتهك من الحرمات، وما انخرم من العهود والمواثيق، اتفاقاً مع الاجتماع البشري الذي لا يقوم أوده، وينسق أمره على الفوضى السياسية، والتشرذم الاجتماعي والتقاتل الفئوي، الذي من مفرزاته المشئومة الحروب الأهلية المبددة للطاقات والمنزعة في سفك الدماء، وانتهاك الحرمات ولا سيما في بلاد مترامية الأطراف كحال جزيرة العرب، مما دفع الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – إلى إقامة دولة مسلمة ذات شوكة، يقودها إمام مسلم، تتوفر فيه شروط وآداب الإمامة والإمارة الشرعية، تكون سياسته بلسماً شافياً لأدواء المجتمع ومفتاحاً لأمان الوطن، ونبراساً للإشعاع الحضاري، ومظلة للهداية وتحكيماً لشرع الله على نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [9] طبق الملك الإمام مضمون هذه الآية الكريمة، وأصل منطوقها في النظام الأساسي للحكم بعد إعلان دولته كما ورد نصه:(41/469)
"الدولة دولة ملكية شورية إسلامية – مستقلة في داخلها وخارجها، إدارة المملكة بيد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل وهو مقيد بأحكام الشرع، جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح" [10] فقامت دولته المباركة على نهج السلف الصالح، أخذت على عاتقها نشر الإسلام الصحيح، وكان الملك الإمام ينوه بذوي الكفاءات الفاعلة والعاملة لخدمة الإسلام والمسلمين قائلاً: "إني أفتخر بمن خدم الإسلام والمسلمين، وأعتز بهم، بل أخدمهم، وأعطيهم وأساعدهم، وإنني أمقت كل من يحاول الدس على الدين، وعلى المسلمين، ولو كان من أسمى الناس مقاماً وأعلاهم مكانةً" [11] .
وبهذه الرؤية النورانية الواضحة أقام الملك الإمام دولته السعودية السلفية والتي تدرج في إعلانها مراعياً الظروف المناسبة لاكتمالها، وتحرير كامل أرضها، من براثن الفرقة، وعوامل التجزئة، وأسباب الخلاف والكراهية، ولم تلبث أن شقت طريقها نحو المجد والعلياء بخطى ثابتة جامعة بين الانفتاح على الجديد النافع واستيعابه والتكيف معه باستقلالية متميزة، والمحافظة في الوقت نفسه على شخصيتها وتراثها انطلاقاً من دستورها الشرعي الصالح لكل زمان ومكان، وأضحت -بفضل الله- رائدة العالم الإسلامي أجمع، تشرئب إليها الأعناق وتتعلق بها الأفئدة، محتضنة لمؤسسات ومنظمات إسلامية فاعلة حملت على كاهلها هموم العالم الإسلامي وقضاياه.
المبحث الثالث: نشر العلم:(41/470)
إن إدراك الحقائق الماثلة، والتعامل معها بوعي مستنير، مسلك حضاري ومظهر إيماني، ينم عن عقلية متزنة، وفهم بصير، وعند الإخلال بهذه المعطيات، ينفرط عقد الحقيقة، وتغيب وسط دياجير الغفلة وحوالك الظلم المفضي إلى الخلافات المستعصية، والثارات الدائمة، والخلاف المتكلف الممجوج، ولقد حرص الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – منذ خطواته الأولى نحو الوحدة ونبذ الفرقة، على إنارة العقل العربي، وتزويده بمدارك الفهم والعلم على أسس متينة، وثوابت علمية، حيث أدرك بثاقب بصره، ونور بصيرته، وسداد رأيه، أن أكثر ما يعانيه مواطنوه – قبل الوحدة – من انحراف عقدي وصراع قبلي، وتخلف اقتصادي يرجع إلى مكنة الجهل في صدورهم، والفراغ في عقولهم، والقسوة في قلوبهم، فعالج – رحمه الله – كل ذلك بالقيام بحركة علمية واسعة النطاق، في طول البلاد وعرضها، وفق منظومة مترابطة الحلقات، فكلف الدعاة، وشجع العلماء، وعين القضاة، وبثهم في البلاد هداة مرشدين، وأساتذة مبجلين، لاجتثاث الجهل من جذوره، وتوطين العلم في أصوله، ومحاصرة الغفلة في مكمنها، وإخراجها من قمقمها، رغم ضيق ذات اليد، ولم يلبث حتى خرج من رعيته علماء محققون وفقهاء مدققون، ومتخصصون في جميع المجالات، وقامت في عصره نواة نهضة علمية مباركة أذكى جذوتها، وأشعل أوارها، أبناؤه البررة من بعده وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – الذي تولى وزارة المعارف في بداية تأسيسها.
وكان الملك الإمام – رحمه الله – يزور بنفسه مدارس العلم ويشجع الطلبة على التزود بالعلم والتحصيل، ومن ذلك قوله: "أبنائي، إن من كان فيكم، من بيت رفيع، فليحرص على أن لا يكون سبباً في خفضه، ومن كان منكم، من بيت آخر فليبني لنفسه مجداً فقد منّ الله عليكم وأرشدكم إلى طريق الخير فاعلموا فلعلمكم منتظرون" [12] .(41/471)
وقد بلغ عدد المدارس المختلفة بمراحلها في عهد الملك الإمام وبالتحديد في سنة 1373هـ 326 مدرسة، و1652 مدرس و43724 طالب [13] هذا عدا الحلقات العامة في المساجد، والرحلات الدورية للعلماء، فضلاً عن المرشدين المستوطنين في سائر القرى والأرياف والأقاليم والذين عينهم الملك الإمام، بحيث لا توجد قرية دون مدرس أو معلم وخير مثال يضرب في هذا المجال، ما قدمه الملك الإمام من تشجيع ومساعدة وعون للشيخ الداعية (القرعاوي) –رحمه الله-، في سبيل نشر العلم والمعرفة في جنوب المملكة حيث بلغت المدارس 2800 مدرسة وبلغ عدد الطلبة 175 ألف طالب منهم 15 ألف طالبة [14] ولم يقتصر اهتمامه بنهضة شعبه ورقيه فحسب بل دعا إلى نهضة العرب، ولزوم أخذهم بالأسباب المدنية، إذ يرى أن العلم سبيل حتمي لنهضة العرب والمسلمين، ولا مندوحة من الدخول من بابه، والعكوف في محرابه يقول رحمه الله: "إذا نهض العرب مرة أخرى، وأخذوا بقسطهم العلمي في سائر العلوم المادية، فإنهم لا يأتون ببدعة، بل يعتبرون محيين لعهد آباءهم، الذين ملكوا ناصية العلم حقبة من الزمن وقدموا خدمات لا تنكر" [15] .
وجاءت دعوته للعلم، بريئة من نفثات الفكر العلماني، الذي عشى نظر وعقول كثير من الأدباء والمفكرين من أبناء العرب إذ يقول -رحمه الله- رداً عليهم: "يقولون إن المسلمين في تأخر وبحثوا ليجدوا طريقة لتقدم المسلمين، فما وجدوا طريقة أمامهم، إلا أن يقلدوا الأوربيين، فيما لم يكن سبباً لقوتهم ومنعتهم بل قلدوهم فيما يخالف ما ينتسب إليه المسلم" [16] .
المبحث الرابع: عقد المؤتمرات:(41/472)
لا ينكر بحال، أثر تبادل الآراء، وغربلتها في استخلاص النتائج الصحيحة والسلامة من عثرات الرأي الفطير الذي يؤدي دائماً إلى النتائج العكسية، ولا جرم أن اجتماع ذوي الرأي والمشورة مفتاح كل المعضلات، وتفادي كثير من الأزمات، التي مردها الانغلاق والاعجاب بالذات، ولم تغب هذه الحقائق عن ذهن الملك الإمام عبد العزيز – رحمه الله – الذي مرت جهوده نحو الوحدة، ونبذ الفرقة بعدد من المشكلات المتكررة، مما حمله إلى دعوة أهل الحل والعقد عند ظهور بوادر أزمة أو استفحالها، جمعاً للقلوب، ودفعاً للشبهات والأراجيف والدعايات الكاذبة، ومن أول تلك المؤتمرات ما تم في سنة 1320هـ. حين حضر العلماء وكبار رجالات الرياض وأعيانها بعد صلاة الجمعة وأعلن فيه الإمام عبد الرحمن الفيصل – رحمه الله – نزوله عماله من حقوق الإمارة لكبير أبنائه عبد العزيز، وأهدى إليه سيف سعود الكبير، نصله ومنصبه محلاة بالذهب وقرابه مطعمة بالفضة، وفي سنة 1345هـ دعا الملك الإمام إلى مؤتمر لزعماء الإخوان عقده في الرياض، شرح فيه سياسته ومنهجه في الاصلاح، ورد فيه على جميع الشبهات والأكاذيب فوصف نفسه بأنه خادم الشريعة، والمحافظ عليها، وأنه هو الذي يعهدونه من قبل لم يتغير كما يتوهم بعض الناس، ولا يزال ساهراً على مصالح العرب والمسلمين. وفي سنة 1347هـ. دعا إلى مؤتمر في الرياض حضره 347 من العلماء والزعماء، ورؤساء الحواضر والبوادي، عدا من انضم إليهم من كبار رجالاتهم حتى قدر عدد الجميع بثمان مائة، وافتتح المؤتمر في جمادى الأولى بخطبة ارتجلها قال فيها: "أيها الإخوان، تعلمون عظم المنة التي منّ الله بها علينا بدين الإسلام إذ جمعنا بعد الفرقة، وأعزنا به بعد الذلة، واذكروا قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [17] الآية، إن شفقتي عليكم وعلى ما منّ الله به علينا، خوفي من تحذيره سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ(41/473)
لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [18] كل هذا دعاني لأن أجمعكم في هذا المكان لتذكروا.
أولاً: ما أنعم الله به علينا، فنرى ما يجب عمله لشكران هذه النعمة.
ثانياً: لأمر بدا في نفسي وهو أني خشيت أن يكون في صدر أحد شيىء يشكوه مني أو أحد من نوابي وأمرائي بإساءة كانت عليه، أو يمنعه حقاً من حقوقه، فأردت أن أعرف ذلك منكم، لأخرج أمام الله بمعذرة من ذلك، وأكون قد أديت ما عليّ من واجب.
ثالثاً: لأسألكم عما في خواطركم، وما لديكم من الأراء مما ترونه يصلحكم في أمر دينكم ودنياكم.
أيها الإخوان إن القوة لله جميعاً، وكلكم يذكر أنني يوم خرجت عليكم كنتم فرقاً وأحزاباً، يقتل بعضكم بعضاً، وينهب بعضكم بعضاً وجميع ولاة أمركم من عربي أو أجنبي كانوا يدسون لكم الدسائس، لتفريق كلمتكم، وإضعاف قوتكم لذهاب أمركم، ويوم خرجت كنت محل الضعف، وليس لي من عضد ومساعد إلا الله وحده، ولا أملك من القوة إلا أربعين رجلاً تعلمونهم، ولا أريد أن أقص عليكم ما من الله به عليّ من فتوح، ولا بما فعلت من أعمال معكم كانت لخيركم، لأن تاريخ ذلك منقوش في صدر كل واحد منكم وأنتم تعلمونه جميعاً، وكما قيل السيرة تبين السريرة. إنني لم أجمعكم اليوم خوفاً أو رهبة من أحد منكم، فقد كنت وحدي قبل ذلك، وليس لي مساعد إلا الله، فما باليت الجموع، والله هو الذي نصرني، إنما جمعتكم كما قلت لكم خوفاً من ربي، ومخافة من نفسي أن يصيبها زهو أو استكبار، جمعتكم هنا لأمر واحد، ولا أجيز لأحد أن يتكلم هنا في غيره، ذلك هو النظر في أمر شخصي وحدي، فيجب أن تجتنبوا في هذا المجلس الشذوذ عن هذا الموضوع، أما الأشياء الخارجية عن هذا، فسأعين لكم اجتماعات خاصة وعامة للنظر فيها.(41/474)
أريد منكم أن تنظروا أولاً فيمن يتولى أمركم غيري، وهؤلاء أفراد الأسرة أمامكم فاختاروا واحداً منهم تتفقون عليه، وأنا أقره وأساعده، وكونوا على يقين أني لم أقل هذا القول استخباراً، لأنني ولله الحمد، لا أرى لأحد منكم منة عليّ في مقامي هذا، بل المنة لله وحده، ولست في شيىء من مواقف الضعف. لا يحملني على القول إلا أمران.
الأول: محبة راحتي في ديني ودنياي.
والثاني: إني أعوذ بالله من أن أتولى قوماً وهم كارهون لي فإن اجبتموني إلى هذا فذلك مطلبي، ولكم أمان الله فإن من يتكلم في هذا فهو آمن، ولا أعاتبه لا آجلاً ولا عاجلاً فإن قبلتم طلبي هذا فالحمد لله، وإن كنتم لا تزالون مصرين على ما كلمتموني به إثر دعوتي لكم، فإني أبرأ إلى الله أن أخالف أمر الشرع في اتباع ما تجمعون عليه، مما يؤيده شرع الله وهنا ارتفع صياح الحضور "لا نريد بك بديلاً لن نرضى بغيرك"واستمر في الخطابة فقال: "إذا لم يحصل ذلك منكم، فأبحثوا في شخصي وأعمالي، فمن كان له عليّ - أنا عبد العزيز - شكوى أو حق أو انتقاد في أمر دين أو دنيا فليبينه ولكل من أراد الكلام عهد الله وميثاقه وأمانه، أنه حر في كل نقد يبينه ولا مسؤولية عليه، وإني لا أبيح لإنسان من العلماء، ولا من غيرهم، أن يكتم شيئاً من النقد في صدره، وكل من كان عنده شيىء فليبينه، ولكم عليّ، أن كل نقد تذكرونه أسمعه، فما كان واقعاً أقررت به، وبينت سببه، وأحلت حكمه للشرع يحكم فيه، وما كان غير بين، وهو عندكم منه شيئاً، أما الذي تظنونه مما لم يقع، فأنا أنفيه لكم، وأحكم في كل ما تقدم شرع الله، فما أثبته أثبته، وما نفاه نفيته.(41/475)
أنتم أيه الإخوان، ابدوا ما بدا لكم، وتكلموا بما سمعتموه، وبما يقوله الناس من نقد ولي أمركم، أو من نقد موظفيه المسؤول عنهم، وأنتم أيها العلماء، اذكروا أن الله سيوقفكم يوم العرض، وستسألون عما سئلتم عنه اليوم، وعما أئتمنكم عليه المسلمون، فابدوا الحق في كل ما تسألون عنه، لا تبالوا بكبير ولا صغير، بينوا، ما أوجب الله للرعية على الراعي، وما أوجب للراعي على الرعية، في أمر الدين والدينا، وما تجب فيه طاعة ولي الأمر، وما تجب فيه معصيته، وإياكم وكتمان ما في صدوركم في أمر من الأمور، التي تسألون عنها، ولكل من تكلم بالحق عهد الله وميثاقه، أنني لا أعاتبه، وأكون مسروراً منه، وأني أنفذ قوله الذي يجمع عليه العلماء، والقول الذي يقع الخلاف بينكم فيه، أيها العلماء، فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح، إذ أقبل ما كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو قول أحد العلماء الأعلام المعتمد عليهم عند أهل السنة والجماعة.
إياكم أيها العلماء، أن تكتموا شيئاً من الحق، تبتغون بذلك مرضاة وجهي، فمن كتم أمراً يعتقد أنه يخالف الشرع فعليه من الله اللعنة. أظهروا الحق وبينوه وتكلموا بما عندكم".(41/476)
بهذا الخطاب العظيم، الذي حوى بين دفتيه، ما يصح أن نطلق عليه منهج الملك الإمام في السياسة الشرعية، حيث تجلت فيه سمات الحاكم المخلص الذي ينشد الحقيقة، ويتفانى في بذل النصح لرعيته، ولا يستنكف من النقد، مما يجعل جميع الطروحات الفكرية في السياسة المعاصرة تتصاغر أمام هذا الطرح السليم والمنهج القويم الذي أوضحه الملك الإمام عبد العزيز - رحمه الله - على الملأ جهاراً نهاراً، بمصداقية وإلحاح اقترن فيها الوعد بالوفاء، والقول بالعمل، والفهم بالدليل بوضوح وجلاء، لا لبس فيه ولا خفاء، وصل إلى حد التنازل عن الملك من أجل سلامة الذمة، وبراءة العرض، ونقاء السريرة وصحة العمل، بإصرار لا مواربة فيه، وحث لا لبس معه حتى إذا عرف أنه لن يطاع فيما أمّله، دعا إلى النظر في سياسته ووضعها تحت مجهر النقد، مذكراً العلماء بمسؤوليتهم وعظيم أمانتهم في وجوب النصح لولاة الأمر - ويقول من حضر ودوّن ما رأى فيه، إن العلماء أجابوا، بأنهم يبرأون إلى الله من كتمان ما يظهر لهم من الحق، وأعلنوا أنهم ما نصحوه إلا انتصح ولو رأوا في عمله ما يخالف الشرع لما سكتوا عنه، وهم ما رؤا منه إلا الحرص على إقامة شعائر الدين، واتباع ما أمر به الله ورسوله [19] .(41/477)
وفي سنة 1248هـ دعا الملك الإمام إلى اجتماع، في قرية الشعراء بين الرياض ومكة، وتم الاجتماع في أول جمادى سنة 1348هـ للنظر في أحوال بعض العصاة ومن شايعهم الذين هددوا الوحدة ونزعوا إلى الفرقة، رغم الإعذار لهم والصفح عن مسيئهم والإحسان إليهم [20] ومن المؤتمرات خارج نجد المؤتمر الذي دعا الملك الإمام إلى عقده في مكة المكرمة سنة 1344هـ وجاء في نص الدعوة الرسمية "خدمة للحرمين الشريفين، وأهلهما، وتأميناً لمستقبلهما، وتوفيراً لوسائل الراحة للحجاج والزوار، وإصلاحاً لحال البلاد المقدسة من سائر الوجوه، التي تهم المسلمين جميعاً، ووفاء بوعودنا التي قطعناها على أنفسنا، وميلاً في تكاتف المسلمين وتعاضدهم في خدمة هذه الديار الطاهرة – رأينا الوقت المناسب لانعقاد مؤتمر عام يمثل البلاد الإسلامية والشعوب الإسلامية يكون في20ذي القعدة 1344هـ وقد أرسلنا الدعوة لكل من يهمه أمر الحرمين من المسلمين وملوكهم وأملي أن مندوبيكم سيكونون حاضرين في التاريخ المحدد والله يتولانا جميعاً بعنايته" [21] وقد أدت هذه المؤتمرات أهدافها في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة ففي المؤتمر الأول حددت معالم النظام السياسي للدولة الناشئة، ودفع عن البلاد شبح الفراغ السياسي، وأعاد للجزيرة العربية نواة وحدتها المشروعة المتمثل في إعادة أسرة الملك الإمام، الذي تعد أمل أبناء الجزيرة دون استثناء، وفي المؤتمر الثاني نجح الملك الإمام في إزالة الشبهات والترهات، التي أشاعها العصاة، وفي المؤتمر المنعقد سنة 1345هـ إزدادت أواصر الوحدة ووشايجها بين أفراد الأمة، وتأكد للملك الإمام بما لا يدع مجالاً للشك أن الوحدة الوطنية بخير، ولا خوف عليها من تهديد فئة قليلة شاذة، لا تمثل رأياً عاماً، وأن جميع أفراد الأمة يقفون خلفه صفاً واحداً. وفي مؤتمر قرية الشعراء، وضعت الخطوط العريضة لتأديب أعداء الوحدة، أما مؤتمر مكة المنعقد في سنة 1344هـ، فقد كانت خطوة(41/478)
موفقة جداً، حققت أهدافها كاملة، حيث اجتمع أهل الرأي والفكر من عموم العالم الإسلامي، وأطمأنوا بأنفسهم على رعاية الملك الإمام للبلاد المقدسة، واطلعوا على حقيقة الدعوة السلفية، وعرفوا عن كثب حقيقة الواقع على الأرض، واطمأنوا بأنفسهم أن الأراضي المقدسة، بأيدي مؤمنة أمينة، فكان هذا المؤتمر فرصة ذهبية لإزالة جميع المخاوف التي أثارها أعداء الوحدة، فجاءت قرارات المؤتمر اعترافاً واضحاً للعهد الصالح الجديد، وشرعيته ومبشراً بعهد زاهر للربوع المقدسة، في ظل حكم الملك الإمام.
المبحث الخامس: إقامة الهجر وتوطين البادية:-
العارف بأحوال الجزيرة العربية وسعة رقعتها وتناثر سكانها، يدرك مدى الصعوبة البالغة في تقديم الخدمات لأهلها، مما يؤدي إلى بعثرة الجهود وهدر الطاقات، دون فائدة تناسب مقابلة ذلك الجهد المبذول، وهذا ما حمل الملك الإمام عبد العزيز - رحمه الله - أثناء قيامه بلم شعث الجزيرة العربية إلى جمع وتوطين فلول البادية ومن في حكمهم، في كيانات ثابتة تتوفر فيها أسباب العيش الكريم، يمكن من خلالها تقديم الخدمات بأيسر السبل، وأقل التكاليف، وتحقق في ذات الوقت سهولة توجيه البادية عقدياً وعلمياً نحو منهج موحد يحقق الوحدة المنشودة، بعيداً عن القالة والإشاعة التي تقف عادة وراء كل فتنة، وعند سماع مناد الجهاد يهب الجميع من قرب وبقوة دافعة وجماعة شاملة نحو المقصد المحدد دون تأخير، وقد كانت خطوة بارعة اتخذها الملك بمشاورة والده الحكيم، أدت إلى تربية أبناء البادية وبث روح الجهاد والحماس بينهم، وتوجيه حماسهم وتوظيف مناقبهم في نصرة الدين الحق.(41/479)
وقد أنشئت أول هجرة، على آبار الأرطاوية الواقعة على الطريق بين الزلفي والكويت سنة 1330هـ، وسكنها سعد بن مثيب أحد شيوخ حرب ثم أعطيت لفيصل الدويش وجماعته من (مطير) [22] . وأصبحت خلال بضع سنوات مدينة عامرة فيها من السكان ما يزيد على عشرين ألفاً، ثم ازداد عدد الهجر والتي تكونت بفضل حركة الهجرة، التي سرت دعوتها وفضلها بين أوساط البادية باعتبار أنها هجرة دينية محضة فباعوا الإبل، وأقبلوا على دراسة الدين، وغصت بهم المساجد حتى بلغ عدد الهجر في عهد الملك الإمام 153 هجرة [23] وصفها أحد الكتاب بأنها معسكرات في أنحاء البادية، والإخوان سكان هذه المعسكرات، وقسمت كل هجرة إلى ثلاث فئات فيما يلي بيانها.
1- الفئة الأولى، التي يجب على أفرادها أن يكونوا دائماً مستعدين لتلبية أمر الجهاد، متى أصدره الإمام، ومن ثم فإن كل فرد من أفرادها يجب أن يكون مسلحاً، وعنده ناقة يمتطيها بالإضافة إلى الذخيرة التي تلزمه..
2- الفئة الثانية: وهي التي يجب على أفرادها تلبية نداء الإمام عندما يعلن أن الجهاد (مثنى) ويكون كل مجاهد مكلف بإحضار مجاهد آخر بين رفاقه يردفه على جمله.
3- الفئة الثالثة: يكون كل فرد من أفرادها على استعداد لتلبية دعوة الجهاد، عندما يعلن العلماء هذه المرة، بناء على اقتراح الإمام، النفير العام للدفاع عن الوطن، فيشترك فيها الذكور البالغين، بينما يبقى العمل في الأرض والتجارة على عاتق المسنين من الرجال والأولاد والنساء [24] . وقد كان لهذه الوسيلة الفذة، أثراً عظيماً في توسيع نطاق الجهاد المبارك، وتمكين العربي من أداء رسالة واضحة، ومهمة محددة في بناء الوحدة الكبرى، تنصهر في بوتقتها الإيمانية وشايج العلاقات الأسرية والقبلية، جنوداً مجاهدين ومحاربين مخلصين، ينشدون الشهادة في سبيل الله، ونصرة دعوة الحق المبين.
المبحث السادس: البلاغات والخطب:-(41/480)
يعد الاتصال بآحاد الناس مطلباً ضرورياً، لكل من رام النجاح الدعوي والتأثير الأممي، حيث يتيح ذلك توسعاً أفقياً غير محدود، ويغطي ما قد يكون قصوراً وضعفاً في الوسائل الأخرى، وتحقيق طموحات الدعاة التي قد لا تسع أعمارهم، ولما كان الملك الإمام عبد العزيز - رحمه الله - بصدد وحدة كبرى، لم يدع وسيلة نافعة، لتحقيق هدفه المنشود إلا استخدمها، مراعياً الوسيلة المناسبة في الوقت المناسب، فكان -رحمه الله - حريصاً على الاتصال بآحاد الناس، وجمهور الأمة وحثهم على لزوم الوحدة ونبذ الفرقة وتحقيق العدالة، فعمل على إخراج البلاغات الدعوية لفئة من الناس التي لا يتسنى للملك الإمام اللقاء بهم مباشرة، وذلك من خلال منشورات توزع على الناس أو تعلق في الأماكن العامة، أو تنشر في الصحف الرسمية، أما إذا أتيحت له الفرصة في اللقاءات العامة فإنه لا يدع الفرصة تمر إلا اهتبلها لعرض منهجه الوحدوي ومسلكه الوطني نحو الوحدة، ولا يسعني في هذا المقام استعراض تلك البلاغات والخطب وأكتفي بإيراد نموذج واحد منها يفي بالمقصود -إن شاء الله-. ففي بلاغ علق في المسجد النبوي ورد فيه ما يلي:-
"من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود إلى شعب الجزيرة العربية على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه، أن يتقدم إلينا بالشكوى، وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا. وعلى كل موظف بالبريد أو البرق، أن يتقبل الشكاوي من رعيتنا ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي، وليعلم كل موظف، يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية، عن تقديم شكواه مهما تكن قيمتها، أو يحاول التأثير عليه، ليخفف من لهجتها أننا سنوقع عليه العقاب الشديد.(41/481)
لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم، أو استخلاص حق مهضوم، ألا قد بلغت، اللهم فاشهد" [25] ونلاحظ في هذا البلاغ التأكيد الجازم على رفع المظالم، إلى مقام الملك الإمام، دون عائق أو تدخل من جهة رسمية أو غيرها متخذاً من التحذير الشديد، أسلوباً واضحاً لطمأنة المواطنين بأن شكاياتهم، ستجد طريقها إلى الحل، دونما إخلال بفحواها أو تغيير ألفاظها أو تخفيف لهجتها، وستنقل كما هي بنصها، معلناً أنه سينصف المظلوم من الظالم، مهما كان مصدر الظلم أو جهته، وليس من شك في تأثير هذا البلاغ وانعكاسه على تقوية الوحدة وتماسكها إذ يجد الناظر بين دفتي البلاغ العدالة ناطقة والنصفة راسخة، والبراءة من الظلم صرخة مدوية، وتلك أسباب بناء العمران البشري، والاستقرار البشري على مر العصور. وأما خطبه فجاءت مفعمة بالصدق طافحة بالإخلاص، تسرى روح الإيمان إلى قائلها فضلاً عن سامعها، فقد أعطي أزمة الفصاحة وأعنة البلاغة، مع صدق اللهجة، والبعد عن التكلف والتصنع يقول أحد معاصريه، والمقربين منه "لم يكن يهيئ الخطبة كما يفعل أكثر الناس ويعرف أنه يخطب، إلا من ارتفاع صوته هادراً، يتحدث حين يخطب منطلقاً على سجيته، غير متأنق ولا متكلف، ويتناول الموضوع، فإن كان عادياً تكلم هادئاً متمهلاً، تتخلل قوله ابتسامة خفيفة، يجتذب قلوب سامعيه وإن لم تكن الابتسامة، فليس هناك عبوس ولا تجهم، أما إذا كان الموضوع لأمر جلل، فكان الخطيب حقاً، المتجهم المزمجر، لا يتلكأ ولا يتعلثم ولا يتمتم ولا يجمجم، وإذا كان في الخطباء، من يدركه العثار حين يستثار، فالملك عبد العزيز كان أبين ما تراه حين يجد الجد ويقندح الزند، فكان عجباً في سرعة الخاطر إذا تحدث، وفي قول الحجة إذا أراد الإقناع" [26] ومن نماذج خطبه العظيمة، ما ألقاه في زيارته إلى المدينة النبوية حيث قال: "إننا نبذل النفس والنفيس في سبيل راحة هذه(41/482)
البلاد وحمايتها، من عبث العابثين، ولنا الفخر العظيم في ذلك، وإن خطتي التي سرت عليها، ولا أزال أسير عليها هي إقامة الشريعة السمحة كما أنني أرى من واجبي، ترقية جزيرة العرب، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة، مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف، إنني اعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً وصغيركم ابناً، فكونوا يداً واحدة، وألفوا بين قلوبكم لتساعدوني على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقنا، إنني خادم في هذه البلاد العربية، لنصرة هذا الدين، وخادم للرعية، الملك لله وحده، وما نحن إلا خدم لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على ظالمهم، وننصح لهم ونسهر على صالحهم فنكون قد خنا الأمانة المودعة إلينا.
إننا لا تهمنا الأسماء والألقاب، وإنما يهمنا القيام بحق الواجب لكلمة التوحيد، والنظر في الأمور التي توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا، إن من حقكم علينا النصح لكم، فإذا رأيتم خطأ من موظف، أو تجاوزاً من إنسان، فعليكم برفع ذلك إلينا، ننظر فيه، فإذا لم تفعلوا ذلك فقد خنتم أنفسكم ووطنكم وولاتكم" [27] .
وهذا غيض من فيض خطبه الحكيمة، التي لا مست أحاسيس المواطنين وأجابت على تساؤلاتهم المكنونة. وعمقت جذور وحدتهم المصونة، وانسابت في جوارحهم بلسماً شافياً، مكن أواصر المحبة وأوثق وشايج المواطنة الصالحة، بين عموم سكان المملكة.
المبحث السابع: الاستعانة بالعلماء:-(41/483)
ثمة عوامل استكشافية، عن ما هية الدولة الخيرة في الإسلام، والتي يعد بروزها في الواقع منطقياً، أو تحصيل حاصل، لامتلاكها حق الظهور والديمومة، المنبثق من تناغم وتوائم، بين السنان والبرهان، في وحدة البناء والتصور والتطبيق، وتلك الخاصية سمة بارزة، للدول الخيرة في التاريخ الإسلامي، ويأتي في طليعتها الدولة السعودية في عهودها الثلاثة، حيث كانت الدعوة إلى الله، علة نشأتها، وسر قوتها، وعامل استمرارها يقول الشيخ العلامة عبد الله عبد اللطيف - رحمه الله -: "فتجرد الحبر الجليل للدعوة إلى الله أي -الشيخ محمد بن عبد الوهاب - وآزره على ذلك، من سبقت له من الله سابقة السعادة، من أسلاف آل مقرن الماضين وآبائهم المتقدمين -رحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عن الإسلام خيراً - فما زالوا على ذلك، على آثار حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم تعالى من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص من شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم الدولة والصولة، ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة، لا تزاحمهم فيها العرب العرباء، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء" [28] ولم يزل يتوارث الأحفاد ما سار عليه الأجداد من إكرام أهل العلم، واتخاذهم أعواناً وبطانة ومستشارين، فمنذ أن دخل الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله -الرياض، سانده العلماء، فكلفهم بالتعليم والقضاء، والتوجيه والإرشاد، وحين بدو بذور الفتنة وسنوح مظاهر المعصية، من بعض الفئات، وجه إليهم العلماء لإقامة الحجة، وإزالة الشبهة، فنزلوا بساحتهم، معلمين مرشدين منهم: الشيخ عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن بليهيد، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، -رحمهم الله رحمة واسعة - فحرصوا على توطيد دعائم الوحدة، وتأصيلها وفق قواعد الشرع ففي رسالة للشيخين الجليلين محمد بن عبد اللطيف والشيخ(41/484)
عبد الله بن عبد العزيز العنقري رحمهما الله جاء فيها "ومما أدخل السطان إساءة الظن بولي الأمر، أو عدم الطاعة، فإن هذا من أعظم المعاصي وهو من دين الجاهلية، الذين لا يرون السمع الطاعة لولي الأمر في العسر واليسر، والمنشط والمكره حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسمع وأطع، وإن أخذ مالك وضرب ظهرك" [29] فتحرم معصيته، والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته وفي معاقدته، لأنه نائب المسلمين، والناظر في مصالحهم، ونظره لهم، خير لهم من نظرهم لأنفسهم، لأن بولايته يستقيم نظام الدين، وتتفق كلمة المسلمين، لا سيما وقد منّ الله عليكم بإمام ولايته ولاية دينية، وقد بذل النصح لعامة رعيته من المسلمين خصوصاً المتدينين" [30] .
وحين اعترض بعضهم على استخدام المخترعات الحديثة، وتسخيرها في خدمة الحياة اليومية، انبرى العلماء بفقه حكيم، وإرشاد سليم، إلى توضيح روح الشريعة الإسلامية، وموقفها المساند، لكل نافع مفيد، وتكيفها واستيعابها لكل جديد، وكان الملك الإمام يجل العلماء ويتودد إليهم، وفي رسالة تفيض حباً وثناءً، وجهها الملك الإمام للعلماء، تدل على مدى العلاقة الحميمة بينه وبين العلماء يقول -رحمه الله-: "من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل. إلى حضرات الإخوان الكرام، قرة عيني وبهجة قلبي، علماء المسلمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(41/485)
وصلني، كتابكم المكرم، الذي هو غاية مرادي، والذي ابتهج به قلبي، سرني غاية السرور، وقد أخذته بعين القبول، وهذا الذي يجعلني أزداد حباً لكم ووثوقاً بكم، وهذا الذي أرجوا أن يكون دائماً منكم لي، ولأمثالي بالنصيحة، وأن الله يجعل القبول مني، وممن ولاة الله أمر المسلمين، بذلك أني أقول: رب إني ظلمت نفسي فأغفر لي، فما عملته من عمل موافق لكتاب الله فهو من الله، وما عملته مخالفاً لأوامر الله فهو مني ومن الشيطان واستغفر الله، وبحول الله وقوته سترون إن شاء الله - مايسركم في أمر يعلي الله به كلمته، ويزيل الله به كل أمر يخالف أوامره بحوله وقوته، وإني لاأزال رهين فضلكم، ونصائحكم الثمينة وأرجو من الله أن يحيينا على ملة الإسلام، ويقيم بنا أوامره ويرسل الله فضله وكرمه - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته" [31] .
على هذا المنوال، كانت العلاقة بين العلماء والملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- حيث أصبح، ذلك نهجاً ثابتاً للملك الإمام وأبنائه البررة من بعده، وهكذا ندرك مدى عناية الملك الإمام بحشد ما تطاله قدرته من وسائل الوحدة لإنجاح طلبته، وإدراك غايته، بيد أنه حرص على إضفاء روح الشريعة وآدابها على وسائله، فجاءت في قالب من الكمال الحقيقي والسمو الأدبي، حيث اصطبغت بالأساليب المؤثرة والطرائق النافعة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المصدر السابق ص301.
[2] الوجيز ص 48.
[3] المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود ص295.
[4] أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح العمراني والديني في جزيرة العرب للفقي ص1-11.
[5] السعوديون والحل الإسلامي لجلال كشك ص 587-588.
[6] جريدة أم القرى العدد 333 عام 1349هـ.
[7] الوجيز ص330.
[8] الوجيز ص330.
[9] سورة الحج آية 41.
[10] شبه الجزيرة للزركلي ج1 ص354.(41/486)
[11] عبد العزيز آل سعود وعبقرية الشخصية الإسلامية ص156.
[12] جريدة أم القرى العدد 342 سنة 1350هـ.
[13] الدعوة في عهد الملك عبد العزيز ت: محمد ناصر الشثري ج1 ص244.
[14] المصدر السابق ج2 ص787-794.
[15] جزيرة العرب في القرن العشرين لحافظ وهبه ص113.
[16] جريدة أم القرى العدد 333 سنة 1349هـ.
[17] سورة التوبة، من الآية (105) .
[18] سورة الرعد، من الآية (11) .
[19] الوجيز ص112-116.
[20] المصدر السابق ص 120.
[21] تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين ت د/ مديحة درويش ص142.
[22] الوجيز ص 70.
[23] الوجيز ص70.
[24] تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين لمديحة درويش ص162-164.
[25] الوجيز ص 158-187.
[26] الوجيز باختصار ص211-213.
[27] المصدر السابق ص215-216.
[28] الدرر السنية ج7 ص297.
[29] رواه مسلم ج3 ص1476، وابن حبان انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج7 ص45 عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[30] الدعوة في عهد الملك الإمام عبد العزيز ج1 ص152.
[31] جريدة أم القرى العدد 341 سنة 1350هـ.(41/487)
تابع لمنهج الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود
الفصل الثالث
أساليب الملك الإمام عبد العزيز في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة
تقاس نتائج الجهود والأنشطة على قدر ارتباط وسائلها بأساليبها كماً وكيفاً، فالوسيلة يوجهها الأسلوب ويستنفذ طاقاتها، فعلى قدر حسن الأسلوب وفعاليته تحسن الوسيلة وتثمر والعكس صحيح، فقد تتفق الوسيلة بين عدة أفراد، وغاياتهم واحدة، ولكنهم يتفاضلون في النتائج والثمرات، على قدر حسن استخدامهم للوسائل وتوجيهها نحو هدفها بحكمة واتزان، وهذا ما نسمية الأسلوب، وكذا ارتبط منهج الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة، بحسن الوسيلة والأسلوب معاً - دون انفصام في أي وقت، وكانت جهوده على مستوى الحدث دون مبالغة أو تفريط، فتجاوز العقبات التقليدية والطارئة، على نمط يثير الإعجاب ويأخذ الألباب، وأشير هنا إلى أهم الأساليب والتي يندرج تحتها عدد لا حصر له من الشواهد والصور مما لا يمكن جمعه في بحث موجز، وفيما يلي بيان بأهم أساليب الملك الإمام، لتحقيق الوحدة الكبرى.
المبحث الأول: الحكمة:-(41/488)
اصطبغت تطبيقات الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- في سبيل تحقيق الوحدة بالحكمة قلباً وقالباً، علماً وعملاً، ترسخت في نفسه وتأصلت في نهجه، وغدت ملكة طيعة في متناول يده، وجاءت قراراته مناسبة لمقتضى الحال، ومن شواهد حكمته، انطلاقه من الكويت بقوة صغيرة محدودة العدد، لم يفطن لحركتها ولا ترصد مسيرتها وإن كان باستطاعته تجنيد العدد الكبير من أفراد القبائل، واستدراجها تحت مظلة المغنم والغزو والنهب، مما يألفه العرب في ذلك الوقت ولا سيما الموتورون والفقراء، وما أكثرهم يومئذ!! ولكنه آثر إخفاء أمره، وتعمية مقصده، بعيداً عن الأنظار، ليقينه بنجاح مهمته فكان ذلك آية حكمته، ودليل بصيرته، مما مكنه - بفضل الله - من فتح الرياض، واستسلام حاميتها، وشروعه مباشرة، في بناء التحصينات الدفاعية، حول الرياض في خلال شهر [1] ومن دلائل حكمته، عنايته بالعقيدة وجعلها محور دعوته إلى الوحدة وركيزتها حرصاً على إصلاح المنهج، وسلامة المقصد، وضماناً للنجاح، حيث أن النفوس لا تخلص من أهوائها، وتنسلخ من غلوائها، إلا بالعقيدة الصحيحة التي من شأنها توحيد الرؤى وحشد العواطف والطاقات، نحو أهدافها السامية وغاياتها النبيلة، مما يصرف عن العثار ويحقق النصر المؤزر -بإذن الله - وهذا ما سار عليه آباء الملك الإمام من قبل، فكانت تجربة سعودية متوارثة، اقتداء بالسلف الصالح، فقد ثبت بالبرهان، أن أي جهد في الإصلاح، بمعزل عن العقيدة الصحيحة مآله الفشل، ونهايته الخسران، فمن المحال جمع القلوب على المصالح الدنيوية، مهما كانت ضخامتها، وعظيم امتيازاتها، فإنها ببساطة لا تستوعب الناس جميعاً إلا حفنة من المنتفعين الذين سرعان ما تتعارض مصالحهم، ويحل بعضهم بعضاً موضع النقمة والنقد اللاذع، الذي يؤول طبيعياً إلى طلب التشفي والانتقام، فتنفرط عقدتهم، وتزول ألفتهم، وتغدوا تلك المصالح علة الشقة وعامل الشقاق والخلاف، وأما العواطف، وإن تأجج أوارها(41/489)
فلا تصلح أساساً للوحدة، حيث تستحيل عادة إلى سآمة وملل، وتنتهي إلى مصارمة وجفاء، وبهذا فإن المال والعاطفة لا يصلحان أساسين لبناء الوحدة كما قال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [2] ومن شواهد حكمته.
عنايته ببناء الهجر وتوطين البادية فيها، مما مكنه من جمعهم وتربيتهم وفق مضامين العقيدة الصحيحة، مما أدى إلى إقبال سكان الهجر على الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، في أي وقت يطلب منهم الملك الإمام، فأصبحوا جنود التوحيد، مما يعد تحولاً جذرياً في حياتهم صيرهم نحو التمسك بالإسلام الحق، وصرفهم عن مسلكهم السابق إلى غير رجعة - بفضل الله- ومن صور حكمته تعامله بأناة ولباقة، مع أحداث عصره، فإبان الحربين العالميتين لازم جانب الحياد، مراعياً حساسيات المواقف الدولية مما جنب وطنه وشعبه ويلات الحرب، يقول الملك فيصل - رحمه الله - في حج عام 1359هـ: "ولا يجهل أحد ما فيه العالم اليوم من نكبات ومحن، حتى البلاد التي لم تشترك في الحرب، لا تخلو من أزمات اقتصادية وغيرها، أما نحن فلله الحمد من أسعد الناس وهذا لا شك من نعم الله التي تستوجب الشكر" [3] ووسط آتون الحرب والصراع المحتوم بين الدول الكبرى على مناطق النفوذ، والسيطرة على الممرات المائية وطرق الملاحة، بدت سياسة الملك الإمام، تتسم بالهدوء والواقعية، دون المساس بعقيدته ومصالح بلاده العليا، مهتماً في ذات الوقت، بحسن الاستعداد، في كل عمل يقوم به، مبتعداً عن الإرتجالية، مع صرف الهمة إلى حسن التنظيم والدقة وتوقع المفاجآت والإعداد لها بلباقة وحزم، وتلك غيض من فيض حكمته، التي لا يتسع المقام لاستقراء شواهدها وصورها. وحسبنا الإشارة إلى بعضها فيما تقدم ذكره.
المبحث الثاني: اللطف واللين:-(41/490)
لا جرم أن جمع القلوب المتنافرة على الحق مهمة عسيرة، لا يستطيعها إلا الأكفاء الملهمون والزعماء الموفقون، مما فتح الله لأحدهم باب التوفيق على مصراعيه، ونزع له من معينه بملء يديه، فإن استمالة القلوب آية البصيرة، وعنوان التوفيق وبرهان النجاح، فرب كلمة بليغة، تأخذ بمجامع الأفئدة، وكم من صفح وعفو ينسي الضغائن، ويقشع وحر الصدور، وما فتئ الملك الإمام يعامل خصومه ومناوئيه ومضطهدي مواطنيه بألوان التسامح والصفح، رغم نقض العهود ونكث الوعود، ولا يلجأ إلى القوة إلا مكرهاً، حين استنفاذ جميع الحلول المتاحة، يقول -رحمه الله-: "ليس لدينا أحب من السلام يغمر هذه الربوع، فنحن لسنا طالبي حرب، ولا نشهر السلاح إلا في وجه من يبارزنا بالسلاح، لقد آن لهذه البلاد أن تعرف السكينة، وتنعم بالسلام، فلنوحد صفوفنا وكلمتنا" [4] .
وسمع يتمثل كثيراً بقول الفرزدق
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم [5]
ويصف أحد شهود العيان [6] أثر أسلوب اللطف واللين في خصوم الملك الإمام يقول الأستاذ عبد الرحمن عزام- رحمه الله-: "كنت في عام 1938م ضيفاً له - يقصد الملك الإمام - في شمال نجد، وبقيت أياماً في البادية للقنص، وكلما جلسنا إلى طعام، وجدت حوله من قاتلوه أو قاتله آباؤهم، يمزحون ويمزح معهم ويشاركهم في قوله وماله ومتاعه، وهو يستمع لقصصهم، وقصص آبائهم معه، والهزائم التي ابتلي بها في قتالهم، والنصر الذي آتاه الله عليهم ويقسم إنه يراهم كما يرى أبنائه، ولا يرضى فيهم إلا ما يرضى لأبنائه".(41/491)
ويقول شاهد آخر: "إني التقيت ببعض خصوم الملك السابقين فوجدتهم الآن، من أكبر أعوانه، ومن أكبر المطيعين والمؤيدين له، ويعود هذا إلى معامله الحلم، وهو النهج والأسلوب الذي كان يعامل به خصومه" [7] وهكذا يتجلى لنا أثر أسلوب اللطف واللين للملك الإمام، وضرورته الوحدوية الناجحة، مما يدل قطعاً على أهمية استخدام هذا الأسلوب الحيوي، في تأليف القلوب ورص الصفوف، وتقوية أواصر المحبة والأخوة.
المبحث الثالث: الجدل الممدوح:-(41/492)
لا مناص لأي مصلح نبيه وداعية حصيف، من أخذ أهبة الاستعداد لمواجهة الخصوم، وامتلاك ناصية التأثير، لإرشاد الضال، وتعليم الجاهل وإقناع المستنكف، وإقامة الحجة على المجادل، إمتثالاً لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} [8] وما كان للملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله - وقد تصدى لمهمة شاقة تنوء بأعناق عظماء الرجال، أن يغفل عن هذا الأسلوب، حيث أن خصوم الوحدة يومئذ كثيرون مختلفوا المآرب والرؤى، ولدى بعضهم من الشبهات على الدعوة السلفية ما يلزم تفنيدها حيث أن حملات خصوم الدعوة، بدأت تظهر على صفحات المجلات البارزة يومئذ وانطلقت تؤججها قوى شريرة، مارست التشويه لجهود الملك الإمام عن عمد، ولوثت عقول الكثير من أبناء المسلمين، مما دفع الملك الإمام اضطراراً إلى استخدام الجدل لإقناع مستمعيه، واهتبل كل فرصة سانحة لبيان منهجه في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة وسلامة مقصدها والرد على خصومها، وقد اكتسب خبرة في حياته وشبابه في هذا المضمار، إذ كلفه والده الإمام عبد الرحمن -رحمه الله- بإصلاح ذات البين بين القبائل العربية المتناحرة، فأدى ما أوكل إليه ببراعة واقتدار، بين أقوام عرفوا بسرعة البديهة ودقة الملاحظة وذلاقة اللسان، وحين حمل على عاتقه وحدة بلاده وشعبه، لم يزل يواجه بين الفينة والأخرى بعض العصاة، فكان يسعى إلى استمالتهم بالحجة والإقناع ولم يستنكف قط من سماع وجهات النظر الأخرى، ومناقشتها وكان -رحمه الله- يحب الحوار والمناقشة.(41/493)
يقول أحد أفراد خاصة الملك الإمام: "كان دستور الملك عبد العزيز، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [9] يعن له الأمر، أو يرفع إليه فيحيل فيه فكرته، وينتهي إلى حل له في نفسه يرضاه، ويجتمع مستشاروه، فيطرحه عليهم ويدرسونه، فإذا اتجهوا إلى البت فيه بما يتفق مع ما وصل إليه هو، أخذ بقولهم وأمضاه، وإلا ناقشهم، وأفضلهم عنده من يعترض ويناقض ثم يعمل بما يستقر عليه الرأي" [10] ومن أقواله النيرة في سبيل غربلة الأراء ومناقشتها قوله: "أريد الصراحة في القول، لأن ثلاثة أكرههم ولا أقبلهم رجل كذاب يكذب علي عن عمد، ورجل ذو هوى، ورجل متملق، فهؤلاء أبغض الناس عندي" [11] .(41/494)
واهتبل -رحمه الله - موسم الحج، يرد على خصوم الدعوة السلفية التي أحياها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- إذ يقول في إحدى مجالسة الموسمية "يسموننا بالوهابيين، ويسمى مذهبنا بالوهابي، باعتبار أنه مذهب خاص، هذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة، التي يبثها أهل الأغراض، نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح، التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح. نحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق بين الأئمة، مالك والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، كلهم محترمون في نظرنا" [12] ونلاحظ في هذا الطرح الجدلي امتلاك الملك الإمام، ناصية الجدل الممدوح، ففي البدء طرح الشبهة، ثم أبان سبب ظهورها وعلته، ثم كر عليها بالتفنيد العقلي والاستقراء التاريخي، مع التزامة بآداب الجدل، وعفة اللسان، وبعده عن الإسفاف والبذاءة التي يقع فيها الكثير من المتناظرين، تحت تأثير الانتصار لما يذهبون إليه، مما دل قطعاً على اقتداء الملك الإمام عبد العزيز - رحمه الله - بسلف الأمة وعلماءها الربانيين، وقد كان لهذه المقدرة الخطابية -بفضل الله- الأثر الكبير، في تقوية الوحدة الوطنية، وبيان حقيقة الدعوة السلفية.
نتائج منهج الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله-
في تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة(41/495)
تمخضت جهود الملك الإمام عبد العزيز - رحمه الله - في سبيل تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة إلى نتائج باهرة وثمرات يانعة، لا يزال أبناء شعبه، ينعمون ببركاتها المتدفقة وخيراتها المستمرة دون منّ ولا أذى، وحين استعراض النتائج تلك، ندرك مدى المنّنّ الربانية، التي أسبغها الله على هذه البلاد الطيب أهلها، والتي تدفعنا في ذات الوقت، إلى لزوم غرز الملك الإمام والمحافظة على ثمرات جهاده ومكتسبات حصاده التي ضحى من أجلها بالنفس والمال والولد، في ثلاثة عقود من عمره المبارك، طافحة بلآلام، وشاهدة على تحمل المشاق والصبر والمرابطة، ومن أبرز تلك النتائج:-
1- بعث أمة خامدة ممزقة الأوصال، مختلفة الرؤى، متناحرة القوى، فنقلها - بفضل الله - إلى أمة قوية الوشايج عظيمة الجانب، متعددة المناقب، أعادت مكانتها الكبيرة وقيادتها التاريخية بين الأمم.
2- تجديد الدعوة الإسلامية، وتوحيد جهود الدعاة نحو تصفية العقيدة، وإصلاح العبادة، وتقويم السلوك، وإقامة مجتمع مسلم زكي، يفيض بالهداية وينعم بالاستقامة.
3- إقامة دولة إسلامية تحكم بشرع الله تستثمر طاقاتها ومكتسباتها لخدمة الإسلام، وبسط نوره في المشارق والمغارب، وتقديم العون والمساعدة للمسلمين، ونصرة قضاياهم.
4- تحقيق الأمن المفقود في جزيرة العرب وتأمين طرقها للسالكين، وتهيئة مشاعر الحج لقاصديها بما يليق بقداستها وحرمتها، وفي مقدمة ذلك، عمارة الحرمين الشريفين، على أعلى المستويات وأرقاها.
5- القضاء على عوامل التخلف، من جهل صارف، وشرك وبدع خوالف، فعادت راية التوحيد خفاقة على جزيرة العرب من جديد، تحت قيادة الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- وأبنائه البررة المخلصين من بعده.(41/496)
6- البرهنة العملية على إمكانية إعادة أمجاد المسلمين وفق مضامين الشرع الحنيف، وإثبات أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، مع الأخذ بأسباب الحياة العصرية وتطورها، دون التنازل عن المضامين العقدية والشرعية.
الخاتمة
وفيها الدروس والعبر
لا يخفى على الباحث أن المقصود من تاريخ العباقرة والنابغين، لا ينحصر في مفهوم ضيق يقف عند حد تسجيل الرواية التاريخية، وإنما يتجاوزها إلى الدراسة والتحليل، والفحص والتنقيب عن العوامل والأسباب المؤثرة في نجاحهم، وكيفية توظيفها في قوالب عملية وتربوية قابلة للتنفيذ، وليس من شك أن حياة الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله - حافلة بالدروس والعبر، ولا سيما في نهجه السديد نحو تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة. والذي يعد معلماً بارزاً في جهاده ومنارة رائعة في حياته، ويظهر لنا بادي الرأي أنه يمكن تلخيصها على النحو التالي:-
1- ضرورة أن يعنى المربون بغرس عقيدة التوحيد في نفوس الناشئة، وأخذهم بلباقة إلى دراسة مفرداتها منذ الصغر لتكون وسيلة لتشكيل عقولهم وتوجيه سلوكهم وفق مضامينها وحقائقها، فقد اكتسب الملك الإمام، منذ صغره حصانة عقدية، أسهمت بوضوح في تجديد نهجه، وبناء شخصيته، وتوجيه سلوكه، نحو معالي الأمور غير هياب ولا وجل، متطلعاً في الوقت نفسه إلى تحقيق ما شيده آباؤه وزيادة.
2- لزوم أن يروض الآباء أبناءهم على تحمل المسؤولية وإسناد المهمات الصعبة إليهم وفق استعدادهم الفطري وتدرجهم المعرفي لتقوية عودهم، وإنضاج تجربتهم، ليخرجوا إلى الحياة وتحمل تبعاتها، بكفاءة، واستعداد واقتدار.(41/497)
3- وجوب توطين النفس على المشاق والمتاعب لصقل موهبتها، وإصلاح رعونتها، وتوسيع مداركها، وإثراء خبرتها لإستقبال ما يوكل إليها في المستقبل من الأعمال الشاقة، وتمثل حياة الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله - ملحمة رائعة لزعيم تهيأ تحت مطارق الشدة والابتلاء، لبعث أمة خامدة، خبر عللها، وسبر غورها، وألم بمشكلاتها وتلظى بآلامها، مما مكنه الله تعالى، من تحقيق حلمه الرشيد وأمله السديد، رغم شدة الصوارف، وكلبة الأعداء، وقلة الأعوان، وندرة الوسائل المادية الأخرى.
4- لا ريب أن الاحتكاك بأهل الخبرة والتجربة، تحقق للمرء سعة في الأفق وبسطة في العقل وتوسعاً في الفهم، يصعب نيله في قمقم العزلة وزاوية الانطواء، وقد أتيح للملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- صحبة والده الإمام عبد الرحمن -رحمه الله - الذي عرف عنه رجاحة الرأي، والخبرة بأحوال الجزيرة وأهلها مع وفرة العقل والدين، فاكتسب منه وعلى عينه الخلال الحميدة والصفات القيادية السديدة، وفي أثناء إقامته بالكويت، بجانب أميرها الشيخ مبارك الصباح -رحمه الله - لازم جليساً نابهاً، وأنيساً فطناً، وسميراً بارعاً، تعرف بواسطته على مجريات السياسة الدولية وأطلع على مجريات الصراع بينها، مما جعله يحدد وجهته، وسط هذا الصراع المحتدم، والتعامل معه ببراعة وذكاء، سخره لخدمة دينه وبلاده وشعبه.(41/498)
5- إن الإرادة القوية والهمة المتوثبة وصف لأي داعية يروم الإصلاح ويتطلع إلى الغد المشرق لأمته، فاليأس والقنوط لم يعرف طريقه إلى نفس الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله - وهو يحشد طاقاته ويدير أموره ويحبك خططه، وكان أمله غير المحدود، وإيمانه بالنصر هجيري وسميري قلبه ونجيي فؤاده، رغم بعض النكسات والهزائم، فالمستحيل وغير الممكن لا يصح اعتبارهما عائقاً في سبيل الإصلاح، لمن فهم صيرورة الحياة وسبر مسيرتها وحذق قانون الصراع البشري، الذي تؤثر فيه الأهواء، وتدفعه الرغبات، فتحديد الهدف النبيل وتوفير الحد الأدنى من الوسائل المناسبة لتطبيقه، مؤشر قوي على تحقيق الغاية، وتسجيل النصر المؤزر بإذن الله.(41/499)
6- لا تدور عجلة الإصلاح، دون قوة كامنة ورغبة صادقة وحركة دؤوبة، وكل ذلك يستلزم قوة لا تقهر، وطاقة لا تستنفذ، تمد القائمين على برامج الإصلاح، بالإرادة المعنوية دون أن تقعدهم السآمة، أو يفت في عضدهم الملل، فضلاً عن الوقوف بصلابة أمام الشدائد والمحن، ومن أجل ذلك جعل الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- العقيدة الصحيحة محور استراتيجيته الإصلاحية، وروح حركته الوحدوية، مما وفر عليه الكثير مما يحتاجه في دعم إصلاحاته، فأقبلت إليه الجموع، كل يرغب أن ينال شرف نصرة الدين، وإعلاء كلمة التوحيد، ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى. فليس ثمة وسيلة تجمع القلوب، وتؤلف النفوس دون أن تسوقهم رغبة أورهبة، كمثل عقيدة التوحيد. التي وحدت العرب في سالف دهرهم وغابر زمانهم، رغم شدة أنفتهم، ورهافة إحساسهم، وقوة شكيمتهم، والذين يعدون التواضع مذلة، والتنازل عن الحقوق ضعفاً، ويعترفون بالفوارق العرقية، ويعظمون الوشايج القبلية، فصهرتهم عقيدة التوحيد، قلباً واحداً وانسلخوا من تلك المشاعر الاستفزازية إلى مرسى الأخلاق الإسلامية، فحقق الملك الإمام- بفضل الله - للأحفاد ما نعم به الأجداد، واتصل الماضي بالحاضر، وبرهنت العقيدة على ديمومتها في الوحدة، ومعجزتها في التغيير والإصلاح.
7- من الضرورة أن تنطلق حركة الإصلاح، وتتجة جهود القائمين عليها، على نحو من التناسب والتقسيم، ليحمل كل فرد نصيبه ومسؤوليته وأمانته، على قدر طاقته وقدرته، ولم يغب عن ذهن الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله- إشراك أفراد أسرته وشعبه، وفي طليعتهم الأمراء والعلماء، والذي كان الجميع رهن إشارته وطوع أمره، مما فتح الباب واسعاً أمام التنافس والتسابق الشريف، تحت ظل حكم الملك الإمام بطواعية ورغبة صادقة، يحدوا الجميع حبهم الكامن للملك الإمام، ومعرفتهم بنبل مقصده، وجلالة هدفه.(41/500)
8- إن اصطباغ الحياة بشرع الله، وتقييد حركة الإصلاح به عصمة من الزلل، وضمان من الإنحراف والفشل، ولقد كان الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله - حريصاً على تتبع خطى الشرع الحنيف، والالتزام بأحكامه، حيث مكنه الله في الأرض، ونيل ثمرات الوحدة دون الوقوع في المحاذير والآفات، وفي هذا درس لسائر المصلحين الذين ينشدون الإصلاح والخير للناس، ويسعون في هداهم وإرشادهم أن يعلموا ضرورة الالتزام المطلق بالشريعة في الوسائل والأساليب والأهداف.
9- كل ذي غاية نبيلة ومقصد طيب حري أن ينعكس هذا على مظهره ومدخله ومخرجه، ليعطي صورة طبق الأصل لما يدعو إليه، وحينئذ فإن النصر حليفه، والتوفيق قرينه، فقد اتصف الملك الإمام عبد العزيز -رحمه الله - بحسن النية وصلاحها، مع اجتهاده -رحمه الله- بالتضرع لله في الخلوات والإكثار من الاستغفار، وتعفير الجبين في الطاعات، فأعلى الله مقامه ورفع شأنه وسط أعداء كثيرين يزيدون عليه عدداً وعدة، فزالت قوتهم واندثرت هيبتهم وتلاشت سطوتهم، ونصر الله عبده الملك الإمام الصالح عبد العزيز -رحمه الله- وحقق مناه، وأبدله بعد الفقر غنى، وصير ضعفه قوة، وخوفه أمناً، وغدت المملكة العربية السعودية روضة فيحاء للأمن والأمان ومثابة للسعادة والاطمئنان.
أدام الله عزها ورفع شأنها
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
الحديث الشريف
الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان
ترتيب الأمير علاء الدين الفارسي
مؤسسة الكتب الثقافية بيروت ط 1 1407هـ.
الكتب الأخرى:
1- أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح العمراني والديني في جزيرة العرب:
ت محمد حامد الفقي ط1 القاهرة 1354هـ.
2- تاريخ العرب الحديث والمعاصر:
ت عبد الرحيم عبد الرحمن ط2 القاهرة.
3- تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين:
ت د/ مديحة أحمد درويش ط3 جده 1405هـ.(42/1)
4- تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها:
ت صلاح الدين مختار منشورات دار الحياه بيروت.
5- توحيد المملكة:
ت محمد المانع ط1 الدمام.
6- جزيرة العرب في القرن العشرين:
ت حافظ وهبة ط1 القاهرة 1955م.
7 - حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز:
ت رابح لطفي جمعة منشورات دارة الملك عبد العزيز.
8 - الحركة الوهابية:
(رد على مقال الدكتور محمد البهي في نقد الوهابية) بقلم د/ محمد خليل هراس طبع توزيع الجامعة الإسلامية 1396هـ.
9 - الدعوة في عهد الملك عبد العزيز:
ت د / محمد ناصر الشثري ط1 1417هـ.
10- الدرر السنية في الأجوبة النجدية:
جمع عبد الرحمن قاسم ط بيروت 1385هـ.
11- السعوديون والحل الإسلامي:
ت محمد جلال كشك ط 1 القاهرة 1404هـ.
12- شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز:
ت خير الدين الزركلي ط 1 دار الملايين بيروت.
13- عبد العزيز وعبقرية الشخصية الإسلامية:
ت د/ عبد العزيز شرف / محمد إبراهيم شعبان ط1 1403هـ مصر.
14- عنوان المجد في شارع نجد:
ت عثمان بن بشر ط4 الرياض 1402هـ.
15- المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود:
ت محمد منبر أحمد البديوي ط1 1387هـ.
16- المصحف والسيف:
ت محي الدين القابسي ط2 الرياض.
17- الملك عبد العزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة:
ت سعود سعد الدريب ط1 جدة 1408هـ.
18- من تاريخ الملك عبد العزيز ومواقفه النادرة:
ت سعد الرويشد منشوارت جامعة الإمام.
19- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز:
ت خير الدين الزركلي دار العلم للملايين بيروت ط4 1984م.
الجرائد:
جريدة أم القرى العدد 228 - 333 - 341 - 342 - 432 - 989.(42/2)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الوجيز ص30
[2] سورة الأنفال آية 63
[3] الوجيز ص249
[4] عبد العزيز والشخصية الإسلامية ص38
[5] المصدر السابق ص64
[6] هو الأستاذ عبد الوهاب عزام رحمه الله
[7] المتوكل على الودود ص342
[8] سورة النحل آية 125
[9] سورة الشورى آية 38
[10] الوجيز ص160
[11] المصدر السابق ص 161
[12] المصدر السابق ص217.(42/3)
كتابة العدل
"ولاية التوثيق"
في المملكة العربية السعودية
د/ عبد الله بن محمد بن سعد الحجيلي
الأستاذ المشارك في قسم القضاء والسياسة الشرعية
بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل القرآن المبين، على قلب سيد المرسلين، فجعله حجة على العالمين، وأودع فيه من الحكمة والعلوم ما به سعادة البشرية جمعاء إلى يوم الدين، فمن أخذ به نجا، ومن نبذه هلك، والحجة قائمة عليه، ولا يضر إلا نفسه، ولله ميراث السماوات والأرض.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله الأمين، أفضل الأنبياء والمرسلين، الذي جاء بهذا النور المبين، وأبلغه للناس كافة، فلم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا وقد ضرب الإسلام بسرادقه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وعلى آله وذريته وعلى الخلفاء الراشدين، الذين ورثوا ميراث النبوة، وقاموا بالأمر من بعده على سننه وهداه وعلى صحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
ومن الأئمة المقتدين بآثار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، الإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله تعالى-، الذي غامر بنفسه، مع فئة قليلة من أصحابه، ففتح مدينة الأباء والأجداد، الرياض في 5/10/1319هـ، فكان فتحه للرياض فتحاً للجزيرة العربية بكاملها، وانطلق من الرياض مشرقاً ومغرباً، ومُشمِلاً ومجنباً، حتى هدم الحصون المفرقة لأجزاء مناطق الجزيرة العربية فوحدها، وإلى قلاع الشرك فاجتثها، وإلى بذور الجاهلية ومفاخرها فقلعها، وإلى القلوب العمياء فأنارها بمنار العلوم، فأضحت المملكة العربية السعودية اليوم مضرب المثل في الأمن والتآلف، والوحدة، والعلم، والعقيدة الصحيحة، والأخوة الصادقة، والتقدم المستمر.
فلله ما أعظمه من قائد!!، ولله ما أجلها من فتوح!!(42/4)
وبمناسبة الاحتفال المئوي بتأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه، أحببت أن أشارك في موضوع بعنوان "كتابة العدل ولاية التوثيق في المملكة العربية السعودية"، والأهداف التي من أجلها كتبت في هذا الموضوع كثيرة أهمها ما يلي:
1- كانت الجزيرة العربية قبل الملك عبد العزيز، تعيش في ظلام دامس، نتيجة الفتن والحروب بين القبائل المتناحرة المتغالبة، التي كل منها يريد الزعامة، والظفر بملك الجزيرة، مهما كلفه ذلك من ثمن، ولو كان الثمن إهلاك الحرث والنسل، فجاء الملك عبد العزيز فقطع دابر الفتن القائمة.
2- كانت الأمم المجاورة للجزيرة العربية تتدخل في شئون الجزيرة العربية حتى تتمكن من تحقيق أهدافها في هذا الجو المضطرب، فجاء الملك عبد العزيز فوحد الجزيرة وحماها من الطامعين.
3- كانت الأمم الأوربية وبعض الدول العربية الإسلامية تعيش في نهضة تعليمية وعلمية، وجزيرة العرب تعيش في جهل وظلام دامس، فجاء الملك عبد العزيز فأبدل ظلامها نوراً، وجهلها علماً.
4- أقام الملك عبد العزيز الدولة السعودية الثالثة على أساس متين من العلم والمعرفة، والنظم الحضارية المأخوذة من الشريعة الإسلامية، وهذا -هو بيت القصيد- فضرب المثل الرائع لكل أحد في سن الأنظمة المأخوذة من الشريعة الخالدة.
5- كان كثير من الدول الإسلامية والعربية معجبة بأنظمة الغرب، فقامت بنقل تلك الأنظمة وترجمتها إلى العربية، وهي غريبة في اللسان المنتزع فكان عملهم مزيجاً من الخلط الفكري والاستعمار الثقافي، فجاء الملك عبد العزيز -رحمه الله- فأقام الحجة على كافة المسلمين في عصره بأن في شرع الله الخالد الغني عن تلك الأنظمة المستوردة.(42/5)
6- عهد الملك عبد العزيز إلى مجلس الشورى سن الأنظمة المأخوذة من الشريعة الغراء، وبعد الاطلاع عليها واعتمادها قام بإبلاغها لكافة مُدراء الإدارات الحكومية في عصره، وهي أحكام إمامية سلطانية واجبة التطبيق على كل أحد، ولا يعفى من تجاوزها أحد؛ لأن في تطبيق الأنظمة حفظ هيبة الدولة، وفرض سلطانها، وإعطاء كل ذي حق حقه بموجب الأنظمة المرعية، فيسود الأمن ويتحقق العدل.
7- الأنظمة التي عهد الملك عبد العزيز -رحمه الله- إلى مجلس الشورى بسنها لكافة المصالح الحكومية، وقد بلغ عددها في عصره بضع مئات من الأنظمة، لا زال الكثير منها مطبقاً إلى اليوم، وهذه الأنظمة كما هو معلوم عند علماء السياسة الشرعية يراعى فيها الحال، والزمان، والمكان، عند الإصدار والتطبيق، ويعيد النظر فيها ولي الأمر المرة تلو الأخرى، أو في أجزاء وفقرات منها، فما وافق العصر أقره، وما تجاوزه العصر عدله.
8- من أهم الأنظمة التي أصدرها الملك عبد العزيز، الأنظمة القضائية من قضاء وكتابة العدل، وديوان المظالم والحسبة وغير ذلك.
وقد اخترت نظام كتابة العدل موضوعاً لبحثي، وسأوضح معالم البحث في موجز خطتي في الفقرة التالية.
هذه هي أهم الأسباب الداعية لاختيار هذا الموضوع وهي أسباب وجيهة تدعو كل قارئ لحفز الهمة لقراءة هذا البحث لمعرفة بعض جهود الملك عبد العزيز -رحمه الله- في هذا الجانب، والله من وراء القصد.
خطة البحث
يتكون البحث من فصلين وكل فصل يحتوي على عدة مباحث ومطالب.
أما الفصول فهي كالتالي:(42/6)
الفصل الأول: ولاية التوثيق "خطة العدالة"في الفقه الإسلامي، والقصد من هذا الفصل والمباحث المتفرعة عنه، إلقاء الأضواء على بعض أحكام ولاية التوثيق، والتعريف بها، ومعرفة مكانتها من الولايات القضائية، والإحاطة بأهم شروط الموثق وآدابه، وهو جهد تأصيلي في هذا الجانب حتى يكون لدى القارئ عند انتقاله إلى قراءة الفصل الثاني العلم التام بأهم الأحكام الشرعية لهذه الولاية الجليلة في الفقه الإسلامي.
أما الفصل الثاني: فألقيت فيه الأضواء على تاريخ كتابة العدل في المملكة العربية السعودية منذ إنشائها، وأهم النظم الصادرة المنظمة لها من عهد الملك عبد العزيز إلى الوقت الحاضر، وإرشاد القارئ الكريم إلى أهم مواد نظام كتابة العدل، وهي الولاية العظيمة التي لها دور مباشر في حياة كل فرد من أفراد الأمة، وما هنالك فرد من أبناء هذه البلاد الطاهرة إلا قد احتاج لهذه الولاية الجليلة فراجعها بنفسه أو نيابة عن الغير.
هذه أهم الموضوعات التي سوف يطالعها القارئ الكريم في هذا البحث.
وفي الختام أزجي شكري الجزيل إلى الجامعة الإسلامية ومديرها فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ صالح بن عبد الله العبود، الذي حضنا على الكتابة وسهل لنا كافة سبل البحث، ولوكيليه المكرمين، وأسدي شكري الجزيل لفضيلة وكيل وزارة العدل الشيخ الدكتور/ عبد الله محمد اليحيى لتفضله بإصدار توجيهاته لإدارة كتابتي العدل بالمدينة المنورة تسهيل مهمتي البحثية، وأشكر المشايخ الأفاضل الشيخ خالد الحصين، والشيخ عبد العزيز المهنا، والشيخ مريشيد البذيلي لما وجدته منهم من تعاون صادق واستجابة سريعة لكل ما طلبته منهم، وقد استفدت من خبرتهم العريقة في هذا الميدان الشرعي، وأشكر كل من ساعدني بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إعداد هذا البحث، وأسال الله الكريم أن يغفر لي ولوالدي ولحكامنا آل سعود الميامين السابقين والمعاصرين، والحمد لله رب العالمين.(42/7)
د. عبد الله بن محمد بن سعد الحجيلي
الفصل الأول
ولاية التوثيق والموثق
(كتابة العدل في الفقه الإسلامي)
المبحث الأول: تعريف الولاية في اللغة والاصطلاح.
المبحث الثاني: أنواع الولايات الدينية (السلطانية) .
المبحث الثالث: أولاية التوثيق ولاية عامة أم جزئية؟.
المبحث الرابع: تعريف التوثيق في اللغة والاصطلاح.
المبحث الخامس: تعريف ولاية التوثيق "العدالة"وذكر بعض أحكامها.
المبحث السادس: مشروعية تعيين ولاة التوثيق وكتاب الوثائق الشرعية.
المبحث السابع: شروط الموثق (كاتب العدل عند الفقهاء) .
المبحث الثامن: آداب كاتب الوثائق الشرعية (كاتب العدل) .
المبحث التاسع: شروط صحة كتابة الوثيقة الشرعية عند الفقهاء.
المبحث الأول
تعريف الولاية في اللغة والاصطلاح
المطلب الأول: تعريف الولاية في اللغة [1] :
الولاية -بفتح الواو- تأتي بمعنى النصرة والسلطة.
تقول: وليت الأمر، أًلِيْهِ -بكسرتين- وِلاية -بالكسر-: توليته، وَوَلِيت البلد، وعليه، والفاعل: (والٍ) ، والجمع ولاة.
ولي الشيء وِلايةً، ووَلاية، وهي المصدر-، وبالكسر، والمراد بها: الخطة، والإمارة، والسلطان، وهو المراد هنا.
المطلب الثاني: الولاية في اصطلاح الفقهاء:
قسم فقهاء الإسلام الولاية إلى نوعين رئيسين هما:
النوع الأول: الولاية العامة:
عرّفها الفقهاء بصورة موجزة فقالوا: "الولاية حق تنفيذ القول على الغير شاء أم أبى" [2] ، وهذا الحق تدخل فيه كل الولايات العامة والخاصة، ومن الولايات العامة (ولاية السلطان، وولاية القاضي، والمحتسب، ووالي التوثيق، وغيرهم من أصحاب الولايات الدينية والإدارية) .
وعرفها بعض المعاصرين وهو د. نزيه حماد بقوله:(42/8)
"سلطة تدبير المصالح العامة للأمة، وتصريف شؤون الناس، والأمر والنهي فيهم" [3] ، ويندرج تحت هذا التعريف كل الولايات الشرعية كالإمامة العظمى، وإمارات الأقاليم، والبلدان، والوزارة، والقضاء، والشرطة..، الخ.
وهناك تعريف آخر ذكره الأستاذ الزرقا:
"هي سلطة شرعية لشخص في إدارة شأن ما، وتنفيذ إرادته فيه على الغير" [4] .
وهذا التعريف أوجز من سابقة، ولكن السابق أشمل وأعم لكل الولايات الشرعية، ويؤخذ على الثاني قوله: "تنفيذ إرادته فيه"، والحقيقة أنَّه لا يجوز له أن ينفذ إرادته، إنما ينفذ ما توصل إليه باجتهاده في تنفيذ الأحكام أو الأنظمة التي خولته إياها السلطات، وولاية التوثيق جزء من الولاية العامة في الشريعة الإسلامية.
وهي لب الحديث في هذا البحث المقصور عليها وعلى أحكامها.
النوع الثاني: الولاية الخاصة:
وعرفها الأستاذ/ صالح جمعة الجبوري بقوله:
"هي قدرة الإنسان على التصرف الصحيح النافذ لنفسه أو لغيره جبراً أو اختياراً" [5] .
وهي بهذا الاعتبار أنواع كثيرة وباعتبارات متعددة بحسب طبيعة ما تتناوله وهذه إشارة موجزة لأهم أنواعها [6] :
أ - الولاية على النفس: كقيام الكبير العاقل بإدارة شئون القاصر الخاصة به غير المالية كالتربية أو التعليم أو التزويج، أو أخذ الدية أو تنفيذ القصاص، ونحو ذلك.
ب - الولاية على المال: وهي القدرة على إنشاء العقود الخاصة بالمال وتنفيذها، كقيام الكبير العاقل الراشد على مال المحجور عليه ونحو ذلك.
ج – الولاية على النكاح، وهي ولاية النظر في أمر النكاح أو الإذن فيه أو المنع منه.
وذكرتها هنا موجزة لأنها ليست من صميم البحث، إنما استدعى الحديث عنها الحديث عن أقسام الولاية الشرعية.
المبحث الثاني
نواع الولايات الدينية (السلطانية)(42/9)
حصر بعض الفقهاء المصنفين في علم الأحكام السلطانية والولايات الدينية أنواع الولايات الدينية، وليس قصدهم عند ذكرهم العدد الحصر، إنما هو تفصيل بعض أحكام الولايات الذائعة المشهورة في عصرهم، ومن هؤلاء الأئمة الإمام أبو يعلى الفراء الحنبلي في كتابة "الأحكام السلطانية"، والإمام الماوردي الشافعي كذلك، ومن المتأخرين الإمام ابن جماعة الشافعي، والإمام القرافي المالكي، والإمام ابن فرحون المالكي وغيرهم، وهذا سرد مجمل لأهم الولايات الدينية التي ذكروها كما نص عليها الإمام أبو يعلى الحنبلي:
1 - الإمامة العظمى "الخلافة". 2 - الوزارة.
3 - إمارة البلدان والأقاليم. 4 - ولاية القضاء.
5 - ولاية المظالم.
6 - ولاية النقابة على ذوي الأنساب.
7 - ولاية الإمامة على الصلوات. 8 - ولاية الحج.
9 - ولاية الصدقات. 10 - ولاية الجرائم.
11 - ولاية الحسبة، وغير ذلك كثير.
وكلٌ من الإمامين أبي يعلى الفراء والماوردي لم يذكرا ولاية التوثيق صراحة ضمن الولايات الدينية إنما ذكروا أحكامها مندرجة ضمن ولاية القضاء.
ولكن هنالك من ذكرها صراحة كالإمام القرافي في الأحكام، والإمام ابن خلدون في مقدمته، والإمام ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك، فهي عند الإمام القرافي خمسة عشر ولاية، هي [7] :
1 - الإمامة الكبرى.
2 - الوزارة.
3 - ولاية الإمارة على البلدان والأقاليم.
4 - وزير الأمير المولى على القطر.
5 - الإمارة الخاصة بتدبير الجيوش.
6 - ولاية القضاء.
7 – ولاية المظالم
8 - ولاية نواب القضاة.
9 - ولاية الحسبة.
10 - الولايات الجزئية المستفادة من القضاة وغيرهم [كولاية التوثيق] .
11 - الولاية المستفادة من آحاد الناس (التحكيم) .
12 - ولاية السعاة وجباة الصدقة.
13 - ولاية الخرص.(42/10)
14 - ولاية قسم الغنائم ونحوها.
15 - ولاية المقوم والمترجم.
فالإمام القرافي بعد هذا التعداد تكلم عن الفروق بينها، وعد ولاية التوثيق ولاية جزئية، أما الإمام ابن خلدون فعدها ولاية عامة، وذكرها كإحدى "الخطط الدينية الخلافية".
ومما قاله: "اعلم أًنًّ الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير، والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها، داخلة فيها، لعموم نظر الخلافة، وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم" [8] ، ثم ذكر الخطط الدينية الخلافية ومنها:
1- إمامة الصلاة. 2- خطة الفتيا.
3- خطة القضاء. 4- خطة النظر في المظالم.
5- خطة صاحب الشرطة. 6- خطة العدالة [أي ولاية التوثيق] .
7- خطة الحسبة والسكة.
وماذكره الإمام ابن خلدون فيما مضى من إندراج كل الوظائف الإدارية والدينية والأمنية والحربية تحت مظلة الإمامة الكبرى، هذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وتابعه في هذا القول الإمام ابن الأرزق في كتابة (بدائع السلك في طبائع الملك) ، ومما قاله:
"إن حقيقة الخلافة نيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به، وأن الملك مندرج فيها، وتابع للقصد بها، وعند ذلك، فتمام القيام به اتباعاً لمقاصد الخلافة ما أمكن ذلك، متوقف على تولية خططها، من يقوم بها على التعين، لتعذر وفاء السلطان بها مباشرة، وأمهات ما يذكر منها جملة" [9] .
ثم ذكر أمهات الخطط الدينية وهي [10] :
الخطة الأولى: "إمامة الصلاة".
الخطة الثانية: "الفتيا".
الخطة الثالثة: "التدريس".
الخطة الرابعة: "القضاء".
الخطة الخامسة: "العدالة" [أي ولاية التوثيق] .
الخطة السادسة: "الحسبة".(42/11)
الخطة السابعة: "السكة".
ونختم الحديث عن الخطط الدينية بقول الإمام ابن خلدون: "وبالجملة فقد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسياسة في سائر الدول في هذا العهد"، وما قاله الإمام ابن خلدون حق وصدق، فكل الولايات الحكومية، هي ولايات شرعية مهما كان نوعها وحالها، وقد نصَّ على ذلك الإمام ابن تيمية حين قال: "جميع الولايات هي في الأصل ولايات شرعية، ومناصب دينية، فكل من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأبرار الصالحين، وكل من ظلم وعمل فيها بظلم فهو من الفجار الظالمين، وإنما الضابط قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [11] ، [والآيتان من سورة الانفطار (13،14) ] .
المبحث الثالث
أولاية التوثيق ولاية عامة أم جزئية؟
تمهيد: حدود الولاية الشرعية:
ذهب الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم والإمام ابن فرحون معتمدا على كلامهما، مورده في مجال الاستشهاد بهما والانتصار لهما، أن الولاية الشرعية لا حد لها في عرف الشرع، وأًن هذا راجع إلى العرف والعادة والتنظيمات التي يقوم ولي الأمر بإصدارها والعمل بها في أي زمان أو مكان، قال الإمام ابن فرحون عن الولاية الدينية:
"واعلم أن الذي ينبغي أن يعول عليه العرف، وقد قال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية الحنبلي: "اعلم أن عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية، يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة، ما يدخل في ولاية الحرب، وقد يكون في بعض الأمكنة والأزمنة قاصرة على الأحكام الشرعية فقط" [12] .
وقال الإمام ابن تيمية في تفصيل أكثر لما شاع في عصره من تنوع اختصاصات أصحاب الولايات الشرعية قال:(42/12)
"فولاية الحرب في عرف هذا الزمان في هذه البلاد الشامية والمصرية تختص بإقامة الحدود التي فيها إتلاف، مثل قطع يد السارق، وعقوبة المحارب، ونحو ذلك، وقد يدخل فيها من العقوبات ما ليس فيه إتلاف كجلد السارق، ويدخل فيها الحكم في المخاصمات والمضاربات، ودواعي التهم التي ليس فيها كتاب ولا شهود، كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود، وكما تختص بإثبات الحقوق والحكم في مثل ذلك، والنظر في حال نُظَّار الوقوف، وأوصياء اليتامى، وغير ذلك مما هو موقوف، وفي بلاد أخرى كبلاد المغرب، ليس لوالي الحرب حكم في شيء، وإنما هو منفذ لما يأمر به متولي القضاء، وهذا اتباع للسنة القديمة" [13] .
فيستفاد من ولاية القضاء في كل قطر ما جرت به العادة واقتضاه العرف، وهذا هو التحقيق في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واستشهد الإمام ابن فرحون على صحة ما ذهب إليه الإمام ابن القيم بذكر واقعة تاريخية فقال: "وقد جمع للقاضي أبي العباس عبد الله بن أحمد بن طالب -قاضي أفريقيا- النظر والولاية" [14] .
فهذا القاضي له ولايات متعددة ولم يحصره ولي الأمر بالقضاء بل أطلق يده في كل الولايات، وهذا جائز شرعاً وعرفاً، ولا حجر في الاصطلاح الشرعي لمصطلح الولاية.
ولاية التوثيق ولاية كاملة أم جزئية:
مرَّ معنا أن الولاية الشرعية لا حدَّ لها في الشرع المطهر، فقد تكون في بعض العصور ولاية تامة كاملة، وقد تكون في بعض العصور ولاية جزئية متحدة مع بعض الولايات الشرعية الأخرى كالقضاء، وهذا ما رجحه بعض الأئمة كالإمام ابن تيمية وابن القيم وابن فرحون وغيرهم وقالوا: لا حد لها في الشرع المطهر، بل ذلك راجع إلى العرف والعادات والمصالح الراجحة، وما قيل عن بعض الولايات الشرعية، ينطبق على ولاية التوثيق، وهذا يعرف من خلال الاستقراء لبعض النصوص التاريخية كشواهد علمية لما ذهبت إليه.(42/13)
كانت كتابة الوثائق في كثير من الدول الإسلامية الماضية عملاً رسمياً من أعمال الدولة، بل ولاية من ولاياتها، وخطة من خططها كبقية الولايات الإسلامية، لهذا أفردها في أبواب مستقلة كخطة من الخطط الإسلامية الإمام ابن الأزرق وابن خلدون في كتبهما تحت مسمى (خطة العدالة) ، وفي كتاب الصلة لابن بشكوال في ترجمة (أحمد بن محمد الأموي) قال عن بعض ولاياته الرسمية: "وتولى عقد الوثائق لمحمد المهدي أيام تولية الملك بقرطبة" [15] .
وقال ابن بشكوال في ترجمة الحسين بن حي التجيبي: "ولي خطة الوثائق السلطانية في صدر دولة المظفر عبد الملك بن عامر" [16] .
والخطة الولاية الكاملة؛ بل إن التجيبي بعد ولايته لخطة الوثائق السلطانية تولى القضاء في عدد من مدن الأندلس كباجة ومدينة سالم وجيان وغيرها.
وفي الغالب لا يتولى هذه الخطة الشريفة إلا من برع في فقهها، فها هو الإمام أحمد بن محمد بن عفيف بن عبد الله الأموي، -الماضي ذكره- يقول عنه ابن بشكوال: "وعني بالفقه، وعقد الوثائق والشروط فحذقها، وشهر بتبريزه فيها" [17] ، فلما فاق المعاصرين من أقرانه كان جديراً بأن يتولى هذه الولاية العظيمة التي عرف أسرارها، وأجاد فقهها، وحذق فنونها.
وقد فصل القول الإمام القرافي في حديثه عن الولايات الشرعية وأحكامها وما تفيده كل ولاية وهذا بعض ما قاله:(42/14)
"من الولايات ما لا يفيد أهلية شيء من الأحكام، ومنها ما يفيد أهلية الأحكام كلها، ومنها ما يفيد أهلية بعض الأحكام، ومنها ما يحتملها من حيث الجملة، ثم الولاية لها طرفان وواسطة، فأعلاها الخلافة التي هي الإمامة الكبرى، وأدناها التحكيم الذي يكون بين المتنازعين، وبين هذين الطرفين وسائط كثيرة" [18] ، ثم سرد الولايات الشرعية وأنواعها وأحكامها، وقال عن الولاية الجزئية المستفادة من القضاة وغيرهم -ككتاب الوثائق، ومأذوني الأنكحة، وغيرهم، وجعلهم في الرتبة العاشرة من الولايات الشرعية- ما نصه:
"الولاية الجزئية المستفادة من القضاة وغيرهم كمن يتعاطى العقود والفسوخ في الأنكحة فقط، أو النظر في شفاعات الأيتام أو عقودهم فقط، فيفوض إليه في ذلك النقض والإبرام على ما يراه من الأوضاع الشرعية، فهذه الولاية شعبة من ولاية القضاء، وله إنشاء الأحكام في غير المجمع عليه، وذلك كله فيما وليه فقط، وماعداه لا ينفذ له في حكم البتة" [19] .
أما إذا عُدَّت ولاية التوثيق خطة مستقلة، وولاية منفصلة، كما في بعض العصور الإسلامية الماضية، كما هو الحال في عصرنا، فيُعدُّ الموثق نائباً عن القاضي، وقال القرافي عن نواب القضاة وهم في المرتبة الثانية ضمن درجات الولايات الشرعية، ما نصه:
"نواب القضاة في كل عمل من أعمالهم ومطلقاتهم، مساوون للقضاة الأصول، في أن لهم إنشاء الحكم في غير المجمع عليه، وتنفيذ المجمع عليه، إذا قامت الحجاج، وتعينت الأسباب، وولايتهم مساوية لمنصب الحكم من غير زيادة ونقصان، غير أن الفرق بقلة العمل وكثرته من جهة كثرة الأقطار وقلتها" [20] .(42/15)
وقد يباشر القاضي أو قاضي الجهة الإشراف على الوثائق، فقد ذكر ابن حارث في "قضاة قرطبة"في ترجمة أحمد بن بقي بن مخلد "أنه كان يتعقب كتاب الوثائق، وكان حسن الانتقاء والفطنة في الوثائق، وكان لا يوقع شهادته في وثيقة حتى يقرأ جميعها، من أولها إلى آخرها، وكان بصيراً على ذلك، وإن كان قائماً على قدميه" [21] . وهذا يدل على أن الوثائق في الغالب خاصة الوثائق التي تصدر من المحاكم الشرعية لا يكتبها إلا العدول، ولابدَّ من تصديق القاضي عليها، وأن القاضي هو المرجع الأعلى لكتاب العدل، وأنه يتعقب أعمالهم ومدى مطابقتها للشرع المطهر، وانضمام مجموعة من الولايات بعضها إلى بعض مذهب معروف مشتهر في التاريخ الإسلامي.
"فهذا أبو جعفر المنصور يضم إلى قاضيه سوار بن عبد الله القاضي ولاية الصلاة والشرطة مع القضاء، وقبله كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ينظر في أمور بيت المال والقضاء بولاية من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عبد الله بن الحسن القاضي في زمن عمر وعثمان ينظر في الصدقة، ومرم الأنهار، ومشاكل المياه، وذكر الكندي أن سليم بن عتر قاضي مصر المشهور جمع له القضاء مع الشرطة، وأن الحسين بن علي بن النعمان فوض له الحاكم الإشراف على دار الضرب والدعوة والقضاء، وذكر وكيع أن عبد الرحمن بن زيد بن حارثة الأنصاري كان قاضيَ المدينة وواليها في عصره، بل قد يصل القاضي إلى درجة الوزارة، فذكر النباهي أن ابن ذكوان قد ولي الوزارة مجموعة إلى قضاء القضاة" [22] .(42/16)
فلا ريبَ بعد هذا كله أن تكون ولاية التوثيق مندرجة في بعض الولايات الشرعية في بعض العصور، وأن تكون مستقلة في عصور أخرى، فهذا يعود لعظم الدولة الإسلامية واتساع سلطانها، ومدى حاجة الناس إلى هذه الولاية، فإذا كثر الناس تعددت الولايات، وإذا قل الناس قلت الولايات؛ لأن القصد من الولايات كلها تصريف شئون الأمة بسهولة ويسر، مع الحزم والصرامة، وإنهاء الحقوق، وحفظها في أقل مدة، وأقصر طريق، وهذا كله يعود إلى نظر الإمام الأعظم "الخليفة"القائم بالأمر في ذلك العصر.
المبحث الرابع
تعريف التوثيق في اللغة والاصطلاح
أولاً: التوثيق في اللغة [23] :
كلمة التوثيق مأخوذة من قولك "وثق بالشيء"-أي قوي وثبت، فهو وثيق: ثابت محكم، وأخذ فلان بالوثيقة في أمره: أي بالثقة، والجمع وثائق، قال ابن فارس: "إن مادة الواو والثاء والقاف -وهي جذر كلمه (وثق) - تدل على "عقد وأحكام"فوثقت الشيء: أحكمته، والميثاق: العهد، والتوثقة في الأمر: إحكامه، وتوثق بالأمر مثله، واستوثق فلان، وتوثقت من الأمر: إذا أخذت فيه بالوثاقة، ومنه: "عقد وثيق: أي محكم"، واستوثقت منه: أخذت في أمره بالوثيقة، ومنه الميثاق والمَوْثق: هو العهد والجمع مواثيق.
وسمي الحلف موثقاً: لأنَّه توثق به العهود وتؤكد.
مما سبق نجد أن معنى الوثيقة في اللغة العربية يطلق على معانٍ عدة منها:
1- العقد والأحكام.
2- التقوية والثبوت والثقة.
3- الشدّ والإحكام.
4- الأخذ بالوثاقة والوثيقة.
5- العهد والأيمان.
ثانياً: التوثيق والوثيقة في الاصطلاح:
عرفه الأستاذ الفاضلي بقوله: "التوثيق في الاصطلاح هو: علم يبحث فيه عن كيفية إثبات العقود والالتزامات والتصرفات وغيرها، على وجه يصح الاحتجاج والتمسك به" [24] ، والموثق: "هو من يقوم بالتوثيق، أي بكتابة العقد أو الإقرار أو التصرف ونحو ذلك" [25] .(42/17)
والوثيقة هي: "الورقة التي يكتب فيها الموثق، وسميت هذه الورقة وثيقة لأن مادة "وثق"تنبئ عن الربط، فهي شريط كل من المتعاقدين بما التزم به".
والوثيقة الشرعية هي: "الورقة التي يدون فيها ما يصدر من شخص أو أكثر من التصرفات أو الالتزامات أو الإسقاطات أو نحو ذلك، على وجه يجعله منطبقاً على القواعد الشرعية، ومستوفياً لجميع الشروط التي اشترطها الفقهاء لجعل هذا المدون صحيحاً بعيداً عن الفساد" [26] .
ويسمى الفقهاء علم التوثيق بعلم الشروط والمحاضر والسجلات، وفيه كتب كثيرة مؤلفة عند كل المذاهب الإسلامية قديماً وحديثاً.
المبحث الخامس
تعريف ولاية التوثيق "العدالة"وذكر بعض أحكامها
عرفت ولاية التوثيق عند علماء المغاربة باسم "خطة العدالة"وهذا الاسم ليس مقصوراً عليهم بل هو عندهم أشهر، فلقد عرف الشهود باسم "العدول"منذ عصر متقدم من هذا ما روي عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قوله:
"والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول" [27] .
وقد عرفها بصورة شاملة جامعة الإمام ابن خلدون في مقدمته، وعنه نقل كل من جاء بعده كابن الأزرق في بدائع السلك في طبائع الملك، وغيره من المعاصرين، قال الإمام ابن خلدون عنها [28] :
"العدالة: وظيفة رئيسية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه، وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم، تحملاً عند الإشهاد، وأداء عند التنازع، وكتباً في السجلات، تحفظ به حقوق الناس، وأملاكهم، وديونهم، وسائر معاملاتهم"وهذا التعريف يُلاحَظُ فيه نوعٌٍ من الخلط بين ولاية العدالة، ووظيفة العدول "المزكين"في القديم وفي عصره، ولكنه عند ذكر مهامهم الوظيفية يوضح بجلاء الصورة الحقيقية لولاية العدالة في عصره فقال عن طبيعة وظائفهم:(42/18)
"القيام بكتب السجلات والعقود من جهة عباراتها، وانتظام فصولها، ومن جهة إحكام شروطها الشرعية، وعقودها، فيحتاج حينئذٍ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه ولأجل هذه الشروط وما تحتاج إليه من المران على ذلك والممارسة له اختص بذلك ببعض العدول" [29] ، ولم تكن في عصر الإمام ابن خلدون - وهو العصر المملوكي - لها استقلال تام عن ولاية القضاء، بل كان للقضاة الإشراف عليهم، فقد ذكر مراقبة القضاة لهم وأنها وظيفة تابعة للولاية القضائية من جهة الإشراف ونحوه.
فقال: "ويجب على القاضي تصفح أحوالهم، والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك، لما يتعلق عليه من حفظ حقوق الناس، فالعهدة عليه في ذلك كله، وهو ضامن دركه" [30] .
وذكر أنها وظيفة مساعدة للعملية القضائية، وأن حاجة الناس إليها ماسة، وكذلك القضاة، فقال: "إذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة، عمت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة، بسبب اتساع الأمصار، واشتباه الأحوال، واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف" [31] .
ثم ذكر أماكن جلوسهم وتواجدهم في المدن الإسلامية، والفرق بين العدالة والشهادة والجرح.
فقال: "لهم - في سائر الأمصار - دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقيده بالكتاب، وصار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي بين مدلولها وبين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح وقد يتواردان ويفترقان" [32] .
وعقد الإمام ابن الحاج في المدخل فصلاً بعنوان (العدالة) وذكر حال ولاتها في عصره وآداب كاتب العدل ومما قاله:(42/19)
"فإذا تقرر ما ذكر من الهرب من المناصب فمن آكدها الهرب من العدالة، والتشوف إليها، إذ أن الخطر فيها أعظم مما تقدم في القضاء، إذ إن القاضي ليس له أمر ولا نهي في الغالب إلا بشهاداتهم فكأنه أسيرهم، لأنه بحسب ما قالوه حكم، فهم الباعثون له على الحكم" [33] .
ومن خلال كلام ابن خلدون السابق يمكن أن نخرج بالنتائج التالية:
1- أن ولاية العدالة ولاية منفردة عن القضاء، ومن اختصاصات القضاة أو قاضي الجماعة الإشراف عليهم وتسمى في المغرب الإسلامي "بخطة عقد الشروط" [34] ، أو "خطة العدالة".
2- أن وظيفة العدل القيام بدلاً عن القاضي بضبط شهادات الخصوم في السجلات، وكتابة الحقوق، وإصدار الصكوك والحجج الشرعية الخاصة بالديون والأملاك وغير ذلك.
3- لابدَّ أن يكون المتولي لها عالماً بعلم الفقه والشروط والسجلات وأحكامها الشرعية، وأن يمارس هذه المهنة ويتمرن عليها حتى يحذقها.
4- يجب على القاضي تصفح أحوال هؤلاء الشروطيين والعدول والكشف عن سيرهم وأحوالهم.
5- أن اتساع الأمصار واشتباه الأحوال، وانشغال القضاة سبب من أسباب وجود هذه الولاية الشرعية.
6- العدول: الشرطيون يجلسون في عصر المماليك في دكاكين خاصة بهم ويحصلون على إجازات وتصريح بالعمل في هذه المهنة الشرعية الجليلة من قبل رئيس القضاة في عصرهم.
7- أن الفرق شاسع بين مهنة العدول وهم الشروطيون، والعدول الآخرون الذين يشهدون على الناس من جهة العدالة وضدها -"أخت الجرح"- كما وصفهم بذاك الإمام ابن خلدون.
المبحث السادس
مشروعية تعيين ولاة التوثيق، وكتاب الوثائق الشرعية
لقد ثبتت مشروعية تعين ولاة التوثيق وكتاب الوثائق الشرعية بأدلة الكتاب والسنة القولية والفعلية، والإجماع والمعقول.
المطلب الأول: مشروعيته من الكتاب الكريم:(42/20)
لقد أنزل الله عز وجل في الأمر بكتابة الديون ونحوها أطول آية كريمة في كتابه الكريم، وأحدث آية نزولاً بالعرش.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وقال تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُب ... } [سورة البقرة: 282] .
هذه الآية الكريمة أمرت بالكتابة وقد اختلف الفقهاء والمفسرون هل الأمر هنا للوجوب أم للندب؟، وسواء أكان الأمر للندب أم للفرض، فالآية تقرر مبدأ مشروعية الكتابة، ونصب الكتبة، وهم "ولاة التوثيق"، وهذا النصب لا يكون إلا من قبل ولاة الأمر، للآثار العظيمة المترتبة على حجية الوثائق الشرعية وقوة نفاذها، وحاجة الناس إليها في كل زمان ومكان، والاعتماد عليها عند الجحود والإنكار، وحفظ الحقوق بها أزمنة متطاولة، وفصل النزاعات فيها عند القضاء عند التخاصم والتجاحد.
يقول الدكتور/ محمد الزحيلي موضحاً الشاهد من هذه الآية الكريمة: "إن هذه الآية الكريمة أمرت بكتابة الدين لدى كاتب موثوق معتمد، مع توثيق الكتابة بالإشهاد عليها، وهذا السند العادي أو العقد الرسمي الذي يستعمل اليوم في أنحاء العالم، وانتشر استعماله في كل الأمور، وعند كل الأشخاص، يُعَدُّ سنداً في الدين، وحجة في القضاء، يلزم صاحبه، ويلزم القاضي الحكم به ما لم يثبت تزويره أو تغييره" [35] .
وما ذكره الدكتور الزحيلي هو ما نصَّ عليه وفهمه علماء السلف الأجلاء، كالإمام مالك وغيره، قال مالك:
"لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [36] .(42/21)
ووضح الشاهد من هذه الآية الكريمة الإمام الجصاص بقوله في معرض تفسيره لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} : "فيه أمر لمن تولى كتابة الوثائق بين الناس، أن يكتبها بالعدل بينهم، والكتاب وإن لم يكن حتماً، فإن سبيله إذا كتب أن يكتب على حد العدل والاحتياط، والتوثق من الأمور التي من أجلها يكتب الكتاب، بأن يكون شرطاً صحيحاً جائزاً على ما توجبه الشريعة وتقتضيه، وعليه التحرز من العبارات المحتملة للمعاني، وتجنب الألفاظ المشتركة، وتحري تحقيق المعاني بألفاظ مبينة، خارجة عن حد الشركة والاحتمال، والتحرز من خلاف الفقهاء ما أمكن، حتى يحصل للمتداينين معنى الوثيقة والاحتياط المأمور بها في الآية" [37] .
ومن هنا ترى أنَّه ليس بوسع كل أحد، أن يقوم بكتابة الوثائق، فلابد أن يقوم ولي الأمر باختيار ولاة عدولٍ لهم خبرة ودراية وعلم في فقه الشروط والوثائق، حتى يقوموا بهذا الواجب على أكمل وجه، هذا ما ذكره علماء الإسلام وفهموه من قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} قال الجصاص: "يعني والله أعلم ما بينه من أحكام العقود الصحيحة، والمداينات الثابتة الجائزة، ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلاً بالحكم لا يأمن أن يكتب ما يفسد عليهما ما قصداه، ويبطل ما تعاقداه"، ومتى كتب فواجب أن يكون على هذه الشريطة كما قال عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، فانتظم ذلك صلاة الفرض، والنفل غير واجب عليه ولكن من قصد فعلها وهو محدث فعليه ألاَّ يفعلَها إلا بشرائطها من الطهارة وسائر أركانها، فكذلك كتابة الدين والإشهاد عليه ليسا بواجبين ولكنه متى كتب فعلى الكاتب أن يكتبه على الوجه الذي أمره الله تعالى به وأن يستوفي فيه شروط صحته ليحصل المعنى المقصود بكتابته" [38] .(42/22)
هذا بعض ما فهمه العلماء من قول الله عز وجلَّ عن الكاتب بأن يكتب كما علمه الله تعالى، وهذا يفيد أنَّه لا يجوز أن يتولى هذه الولاية والٍ جاهل بشروطها وأركانها وواجباتها، لهذا جعل العلماء وولاة الأمر في القديم والحديث شروطاً واجبة وشروطاً مستحبة لكل من تقدم لشغل هذه الولاية الشريفة الجليلة.
ولا يستغني عن كُتّاب العدل وولاة التوثيق أحد، خاصة في عصرنا الحاضر الذي شاعت فيه المعاملات التجارية، وكثرت العقود بشتى أنواعها، وتشابكت المصالح بين الأفراد والدول والحكومات تشابكا قوياً لا يمكن أن تقوم المصالح المناطة بهذه المعاملات على سنن العدل إلا بإدارات كتابات العدل.
يقول الشيخ محمد عبده:
"إن كاتب العقود والوثائق بمنزلة المحكمة الفاصلة بين الناس، وليس كل من يخط بالقلم أهلاً لذلك، إنما أهله من يصح أن يكون قاضيَ العدل والإنصاف"، وقال عن وجوب نصب كتاب العدل في معرض شرحه للآية السابقة: "فهذا إرشاد للمسلمين إلى أنَّه ينبغي أن يكون منهم هذا الصنف من الكتاب، فهذه قاعدة شرعية لإيجاد المقتدرين على كتابة العقود، وهم ما يسمون اليوم "بالعقود الرسمية" يتحتم ذلك على هذا القول بأن الكتابة واجبة وعليه العمل الآن فإن للعقود الرسمية كتاباً يختصون بها" [39] .
المطلب الثاني: مشروعيته من السنة المطهرة:(42/23)
اتخذ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الكتابة وسيلة من وسائل تبليغ الرسالة إلى الناس في عصره من عرب وعجم، وكتب بعض الكتب إلى بعض ولاته في بيان الحلال والحرام، وكتب المعاهدات مع قريش وغيرهم، وكتب عقود الصلح والأمان، وأعطى كل من وفد إليه من أمراء الأعراب القطائع العظيمة، وكتب لهم بذلك كتباً معروفة عند أهل العلم مفردة في كتب لديهم، وكتب إلى أمرائه في البلدان النائية عنه، وكتب كتباً لقادة السرايا، بل استعملها في عقود البيع والشراء والوصية والقضاء وغير ذلك مما ذكره العلماء في كتب الحديث والفقه والسيرة والتاريخ وغيرها، وهذه نبذ من هذه الكتب العظيمة.
أولاً: حدث أبو هريرة فقال: "لما فتحت مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الخطبة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم - ثم قال: فقام رجل من اليمن يقال له أبو شاه، فقال: يا رسول الله اكتبوا لي، فقال صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه" [40] .
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة الحديث له، والأمر بالكتابة يدل على مشروعية كتابة الأحاديث؛ لأنها سبب الحفظ والتذكر والاعتماد عليها عند الحاجة [41] ، وهذه الخطبة تضمنت أحكاماً شرعية وبلاغاً عاماً للحجاج ولكل من نقلت إليه، وله أن يسمعها ويقرأها ويبلغها غيره، وللغير العمل بها، ولاشك أن حفظ أحكام شرائع الإسلام وتبليغها أهم من حفظ حق آحاد الناس، وما جعل أداة في حفظ الحقوق العامة فهو في الحقوق الخاصة أوجب لأنها تبع لها، لهذا قال الإمام القاري: "قد أمر رسول الله أمته بالتبليغ وقال: "ليبلغ الشاهد الغائب"، فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ، ولم يؤمن ذهاب العلم، وأن يسقط أكثر الحديث، فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف، فدلَّ ذلك على جواز كتابة الحديث للعلم، والله أعلم [42] .(42/24)
ثانياً: كتب النبي صلى الله عليه وسلم في المعاهدات والصلح والأمان والصدقات ونحوها:
ومن هذه الكتب أو ما أذن فيه:
أ- كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لآل الخطاب في الصدقات ونحوها [43] .
ب- كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في الديات والفرائض والسنن [44] .
ج- صحيفة علي بن أبي طالب في حدود المدينة المنورة وتخوم الأرض [45] .
د- الصحيفة التي كتبها عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [46] .
هـ- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة بن جعشم فيه أمان له يوم الهجرة [47] .
و كتب النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح لأهل مكة ويهود المدينة المنورة وغيرهم [48] .
ز- كتب النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه قبل موته بشهر في جلد الميتة [49] .
ح- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الأمان لأهل نجران مع خالد بن الوليد [50] .
وجه الدلالة:
فهذه الكتب الصادرة من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في أنواع شتى من أحكام الشريعة المطهرة، دليل واضح جليٌّ على أن الكتاب حجة عند من حمل الكتاب ومن بلغه بالخطاب، وعلى هذا كان العمل من قبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا اعتبر الفقهاء هذه الكتب حجة شرعية، وبلاغاً عامّاً للأمة، ونقل الكتاب أهل الحديث والسير، وبنى عليه الفقهاء القواعد، واستخرجوا منه الفوائد، ولو لم تكن تلك الكتب حجة شرعية لما رأيناها مدونة في كتب العلماء، ولما أخذ منها العلم الفقهاء، وأضحت نوعاً من العبث، وهذا محال في حق المبلغ والشريعة الغراء.(42/25)
لهذا عدها العلماء حجة شرعية، وشرعاً باقياً إلى قيام الساعة، وبناءً على ما مضى فكل كتاب صادر من ذي ولاية شرعية كالإمام أو القاضي أو الموثق فكتابه حجة شرعية يجب العمل بها عند كل العلماء، وتقوم بها الحجة عند الاختصام لدى قضاة العدل في كل زمان، وهذا ما جرى عليه العمل من عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر.
ثالثاً: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في العقود من البيع والشراء وغيره:
أخرج البخاري تعليقاً والترمذي وغيره عن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداء بن خالد رضي الله عنه: "ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، فأخرج إلي كتاباً: "هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذه من محمد صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبداً أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم من المسلم" [51] .
وجه الدلالة:
هذا الحديث نص جليٌّ في مشروعية الكتابة وحجيتها والاعتماد عليها عند التنازع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب وثيقة في البيع، لتكون حجة على المتبايعين عند الاختلاف، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تعليماً منه لأمته، -وإلا فحاشاه صلى الله عليه وسلم من الجحود- فهذا دليل صريح على حجية كتابة الوثائق الشرعية، وردّ على من عاند في ذلك، وإلا لما كان لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فائدة البته.
رابعاً: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض من عرب وعجم:(42/26)
قام الشيخ الإمام عبد الله بن علي بن أحمد الشهير بابن حديدة الأنصاري بحصر ذلك في كتاب سماه "المصباح المضيء في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي" [52] ، ولم ينفرد هذا الإمام بهذا التأليف بل سبقه كثير من العلماء كالإمام ابن سعد، وابن شيبة، والقضاعي، وابن عساكر، والسهيلي، والمزني، وابن القيم، وابن كثير، ومن بعدهم ابن طولون، ومن المعاصرين د، محمد حميد الله، وغيرهم كثير.
وكتب من بعد النبي الكريم الخلفاء الراشدون، وهي سنة جارية عند الخلفاء والملوك والأمراء إلى اليوم.
وجه الدلالة:
إن كتب النبي الكريم إلى ملوك الأرض في عصره، دليل على حجية الكتابة في إبلاغ دعوة الإسلام إليهم، وقيام الحجة عليهم عند الله وعند رسوله الكريم، وهذا ما صرح به الفقهاء، نقل الإمام السبكي عن الإمام ابن إسحاق قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكتبه حجة عليهم عند الله" [53] .
خامساً: كتب النبي صلى الله عليه وسلم في الإقطاع:
كل من وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أمراء العرب وغيرهم وطلب منه أن يعطيه شيئاً من الأرض أقطعه إياه، إذا لم تكن هذه الأرض ملكاً خاصاً، أو ذات نفع عام كالمناجم والأودية ونحوها؛ لأن عادية الأرض لله ولرسوله والأئمة من بعده، وقد عقد كل من الإمامين أبي عبيد والإمام ابن زنجويه في كتابيهما في الأموال وهما من علماء السلف، فصولاً خاصة بالقطائع النبوية، ومما ذكروه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير بن العوام أرضاً بالمدينة وأرضاً بخيبر، وأقطع بلال بن الحارث المزني العقيق أجمع، وأقطع فرات بن حيان العجلي أرضاً باليمامة، وأقطع أبا ثعلبة الخشني أرضاً بالروم قبل الفتح، وأقطع تميماً الداري قُريّات بالشام [54] ، وغيرهم كثير.
وجه الدلالة:(42/27)
فكتب القطائع وثائق شرعية من قبل النبي الكريم لأمرائه في عصره وبعد عصره، في إنفاذ ما أقطع لهم، وعدم منازعتهم في الأراضي المقطعة لهم، ولو نازعهم أحد فيها فعلى الأمراء والقضاة الاعتماد على كتب القطائع في فصل الخصام، وأصبحت تلك الكتب حججاً شرعية حتى فقدت من أصحابها، وعادت الأراضي بوراً، كما كانت أول مرة، ويحكي الإمام ابن زنجويه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع مجاعة بن مرارة العجلي أرضاً باليمامة، وقد أقر هذا الإقطاع الخلفاء حتى عصر عمر بن عبد العزيز الأموي، ورأى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه منه وقبله ورده إلى صاحبه، فهذا دليل على حجية هذه الكتب في كل العصور إذا علمت عين الأرض، وبقيت في أيدي أصحابها، ولم تعد بوراً كحالتها الأولى قبل الإقطاع، والله أعلم.
المطلب الثالث: مشروعيته من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم:
إن نصب ولاة التوثيق وكتاب العدل وتعيينهم من الواجبات المناطة بولاة الأمر، ولا يجوز لأحد أن يتخذ التوثيق مهنة، أو حرفه بدون إذن من ولي الأمر ومن فعل ذلك فقد افتات عليه.
وهذه الأحكام الشرعية وضحها علماء الإسلام أتم توضيح لأن كل السلطات مجموعة بيد ولي الأمر، وهو الذي يقوم بتوزيعها على الولاة الأكفاء، وله الحق في جميع السلطات، وتجزئتها بحسب الحاجة إليها في الدولة الإسلامية، يقول الإمام القرافي موضحاً اجتماع كل السلطات والولايات بيد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو القدوة لكل الحكام في كل العصور والأزمنة ما نصه:(42/28)
"اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية، فوضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى مناصبها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة، غير أن الغالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه، ثم تقع تصرفاته منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً، ومنها ما يجمع الناس على أنَّه بالقضاء، ومنها ما يجمع الناس على أنَّه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء لتردده بين رتبتين فصاعداً، فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذا الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة، فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ، كان ذلك علماً عامّاً إلى الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأموراً به أقدم عليه كل أحد بنفسه، وكذلك المباح، وإن كان منهيّاً عنه اجتنبه كل أحد بنفسه، وكل ما تصرف فيه - عليه الصلاة والسلام - بوصف الإمامة، لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداءً به - عليه الصلاة والسلام -؛ ولأن سبب تصرفه فيه بالإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء يقتضي ذلك" [55] .(42/29)
ولاشك أن نصب ولاة التوثيق وكتاب العدل وغيرهم من الولاة من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بموجب منصب الإمامة وهذا ما ذكره العلماء، وبه ضرب المثال الإمام القرافي بعد أن ذكر القاعدة الماضية فذكر المثال على تصرفاته بموجب منصب الإمامة فقال، "مثل بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وجمعها من محالها، وتولية القضاة والولاة الولايات العامة..، عُلِم أنَّه تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة دون غيرها" [56] .
وأول من قام بنصب ولاة التوثيق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من الكتبة، لهم اختصاصات متعددة.
وقد نص أهل التاريخ على أن من هؤلاء الكتاب من خصه النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الديون والبيع والشراء ونحو ذلك من الاختصاصات والمهام المناطة بولاة التوثيق، قال الإمام القضاعي بعد أن ذكر بعض كتاب النبي صلى الله عليه وسلم واختصاصاتهم ومهامهم الكتابية ما يلي: "وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات" [57] .
فتبين من خلال هذا النص أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم خص بعض كتابه من الصحابة بهذه الولاية الجليلة فعهد إلى المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير أن يقوما بكتابة المداينات والمعاملات الجارية بين أهل المدينة القاطنين فيها، أو الطارئين عليها، وهذه الوظائف التي أسندت إليهم هي الوظائف التي يقوم بها اليوم كتاب العدل في عصرنا الحاضر.(42/30)
ويمكن أن نستخرج من هذا النص أن هذه الولاية الشرعية لا يجوز أن يقوم بها أحد من تلقاء نفسه، خاصة إذا كانت ولاية عامة يخضع لها كل مواطني الدولة إلا بإذن صريح من ولي الأمر؛ لأن الوثائق الصادرة من قبل هؤلاء الولاة لا يمكن أن تكون وثائق شرعية ذات قوة في النفاذ والتطبيق في تملك الحقوق وأخذها والدفاع عنها، إلا إذا كانت صادرة من صاحب ولاية مأذون له.
المطلب الرابع: مشروعيته من الإجماع:
الإجماع على جواز كتابة الوثائق والعهود، وتحصين الحقوق بالصكوك، وحفظ الأموال بالكتابة، أمر مجمع عليه من عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدين، وفي كل العصور الإسلامية إلى عصرنا الحاضر.
ولقد حكى الإجماع أكثر من فقيه، وهذه نبذ من مقالاتهم:
قال الإمام السرخسي: "والناس تعاملوه أي -كتابة الوثائق- من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا..، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بعلم الشروط" [58] .
ومثله قال الجلالي في شروطه، وأبونصر في رسومه [59] ، والامام السمناني في روضته [60] ، وقال: "وهو فعل أئمة العدل والجور"أي: في كل زمان ومكان مضى فيما مضى من العصور الإسلامية السالفة.
وقال الإمام ابن القيم:
"لم يزل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم لبعض، ولا يشهدون حاملها على ما فيها، ولا يقرؤونها عليه، وهذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن".
فها هو الإمام ابن القيم ينقل الإجماع على الاحتجاج بالكتب عامة مهما كان نوعها، سواء أكانت صكوكاً شرعية، أم عهود ولاية، أم كتاب قاض منه إلى آخر، وغير ذلك من أنواع الوثائق والتوثيق المتعددة.
المطلب الخامس: مشروعيته من المعقول:
وقد نص عليه كثير من الفقهاء قديماً وحديثاً.
قال الإمام الجلالي:(42/31)
"إن في ترك الكتابة والإشهاد ضياع الحقوق والأموال، وقد أمرنا بصيانتها، ونهينا عن إضاعتها في كافة الأحوال، ثم الكتابة فضيلة سنية من بين الفضائل، أربت روائح شمائلها على نفحات الشمائل، ومنقبه رضيه، اعترف بنباهة شأنها الُمعَرّقُ والُمشَيّمُ، واخبر بعلو مكانها المُنجِدُ والُمتهِمُ" [61] .
والكتابة حجة شرعية نص عليها الفقهاء في كتبهم، وعدَّوها من البينات المرجحات، منهم جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة وغيرهم.
قال الإمام ابن تيمية:
"العمل بالخط مذهب قوي بل هو قول جمهور السلف" [62] .
وقال الإمام ابن القيم - في معرض تعليقة على حديث الهبة الصحيح -:
"والحديث كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصى، وكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك؛ ولأن الكتابة تدل على المقصود فهي كاللفظ، ولهذا يقع بها الطلاق" [63] .
وقال أيضاً:
"إن إجماع أهل الحديث قاطبة على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنده، وجواز التحديث به إلا خلافاً شاذّاً لا يعتد به، ولو لم يعتمد على ذلك لضاع الإسلام اليوم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بأيدى الناس -بعد كتاب الله- إلا هذه النسخ الموجودة من السنن، وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم، وتقوم بها حجته، ولم يكن يشافه رسولاً بكتابه بمضمونه قط، ولا جرى هذا في مدة حياته صلى الله عليه وسلم، بل يوقع الكتاب مختوماً، ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلوم بالضرورة لأهل العلم بسيرته وأيامه" [64] .(42/32)
وقال أيضاً: "إن الكتابة على الحجارة والحيوان وكتب العلم أقوى من هذه الأمارات بكثير، فهي أولى أن يثبت بها حكم تلك الكتابة، ولاسيما عند عدم المعارض، أما إذا عارض ذلك بينه لا تتهم، ولا تستند إلى مجرد التبديل بذكر سبب الملك واستمراره فإنها تقدم على هذه الأَمارات" [65] .
وإذا نظرنا إلى حاجة الناس إلى التوثيق في عصرنا الحاضر وجدناها حاجة ماسة، لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال، لدفع الحرج والمشقة عنهم في عصر كثرت فيه المعاملات المالية بين الشعوب في شتى القارات الست، وتشعبت صورها، وتعددت حالاتها، وأصبح العالم اليوم قرية واحدة -كما يقولون-.
فلو لم يكن التوثيق للحقوق في شتى صورها اليوم معتمداً، لتعطلت مصالح الدول والأفراد، وضاعت الحقوق والأموال؛ لعدم الثقة بالشهود، بل الثقة اليوم بالمكتوب، ولوجدوا من المشقة والحرج مالا يعلمه إلا الله، وقواعد الشريعة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة ترفع الحرج والمشقة، وتقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مطلقاً" [66] .
فاليوم لا تستطيع أن تشتري أدنى بضاعة، من أدنى محل تجاري، إلا بسند كتابي، ولا تستطيع أن تخرج ببضاعتك إلا بإذن مكتوب من صاحب الحق (فاتورة) .
فحاجة المتعاملين بالنقد أو الدين في عصرنا الحاضر داعية إلى اعتماد التوثيق، واعتباره من الحاجات الخاصة التي تنزل منزلة الضروريات في القواعد الفقهية، والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة [67] .(42/33)
فلا ريب أن رفع الحرج والمشقة عن الأفراد والدول من مقاصد الشريعة الغراء، وكذلك حفظ الحقوق بكافة أنواعها، والشريعة الغراء جاءت صالحة لكل زمان ومكان، كاملة من غير زيادة أو نقصان، وهذه الخصائص الفريدة التي امتاز بها الدين الخالص الخاتم المهيمن على كل نظام ونحله وقانون، وفيه الغناء عن كل مذهب ونحلة وقوانين مستوردة، فنحن نحض الشعوب الإسلامية كافة إلى تحكيم الشريعة الغراء، ونبذ ما خالفها؛ لأن الصلاح والسعادة والأمن بتطبيقها، والشقاء والضياع بنبذها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القاموس: ص1209 (ول ي) . - المصباح: ص258 (ول ي) .
- المعزب: ص458 (ول ي) . - لسان العرب: مادة (ول ي) .
[2] حاشية ابن عابدين (رد المحتار) 3/55.
[3] معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: ص358.
[4] الولاية العامة للمرأة: ص12.
[5] الولاية على النفس في الشريعة الإسلامية، ص31.
[6] انظر: المصادر التالية:
- التعريفات للجرجاني: ص254.
- التوقيف على مهمات التعريف: ص734.
- معجم لغة الفقهاء: ص510.
- المدخل الفقهي العام للزرقا: 2/804.
[7] الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص (83-87) .
[8] مقدمة ابن خلدون: ص219، وانظر الصفحات (218-226) من المقدمة.
[9] بدائع السلك: 1/236.
[10] انظر بدائع السلك: 1/236-268.
[11] مجموع الفتاوى 28/69.
[12] الطرق الحكمية: ص199، انظر: تبصرة الحكام: 1/18.
[13] مجموع الفتاوى: 8/29.
[14] تبصرة الحكام: 1/19.
[15] الصلة: 1/543.
[16] الصلة: 1/139.
[17] نفس المصدر السابق.(42/34)
[18] الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص83.
[19] المصدر السابق: ص85، قارن بكتاب تبصرة الحكام: 1/20.
[20] المصدر السابق: ص85.
[21] قضاة قرطبة: ص115.
[22] انظر نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي "السلطة القضائية"للقاسمي (1/295-303) .
[23] انظر المعاجم التالية:
-معجم مقاييس اللغة: 6/85 مادة "وثق".
-تاج العروس: 6/85 مادة "وثق".
-لسان العرب: 10/272-371 مادة "وثق".
-أساس البلاغة: ص492 مادة "وثق".
-المصباح المنير: ص248 مادة "وثق".
-المغرب للمطرزي ص476 مادة "وثق".
-معجم لغة الفقهاء، ص499 مادة "وثق".
-المعجم الوسيط ص1022 مادة "وثق".
[24] مذكرات في علم التوثيق: ص4.
[25] مذكرات في علم التوثيق: ص4.
[26] مذكرات في علم التوثيق: ص5.
[27] السنن الكبرى للبيهقي: 10/166.
[28] مقدمة ابن خلدون: ص224-225.
[29] المصدر السابق.
[30] المصدر السابق.
[31] المصدر السابق.
[32] مقدمة ابن خلدون: ص225.
[33] المدخل: 4/159.
[34] معلمة الفقه المالكي: ص270، وأحال على الأعلام للمراكشي: 1/354.
[35] وسائل الإثبات: ص426.
[36] تفسير القرطبي: 3/384.
[37] أحكام القرآن: 2/208-209.
[38] أحكام القرآن: 2/209.
[39] تفسير المنار: 3/121 (نسبه المؤلف للإمام محمد عبده) .
[40] صحيح البخاري: 1/205 رقم (112) ، وأطرافه [2434، 6880] .
- سنن الترمذي: 5/39 رقم (2667) .
- سنن أبي داود (عون المعبود) 10/81 رقم: (3632) ، - جامع الأصول: 8/26.
[41] وسائل الإثبات: ص427.
[42] عون المعبود: 10/80.(42/35)
[43] أخرجه أبو داود بطرق متعددة: 2/214-227 الأحاديث رقم (1567، 1568، 1569، 1570) وفي الحديث الأخير قال ابن شهاب: "هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب"، (2/226) .
- والحديث أخرجه النسائي في باب زكاة الإبل، رقم: (2449) .
[44] أخرجه النسائي: 8/57-58، والحاكم: 1/397، والدارقطني: 376، وابن حبان: والبيهقي: 4/89، ومالك: 2/849.
[45] أخرجه البخاري: 1/204 رقم (111) ، 12/41 رقم (675) ، ومواضع أخرى كثيرة، صحيح مسلم: 2/1147 رقم: (1370) .
[46] أبو داود 4/60 رقم (3646) ، ابن عبد البر في جامع بيان العلم ص89-90.
الدارمي: 1/125، الإمام أحمد في المسند بالأرقام (6510، 6802، 6930، 7018) .
وقال محقق المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الوليد بن عبد الله، وهو ثقة".
[47] صحيح البخاري مع الفتح: 7/238 رقم (3906) تعليقاً، صحيح مسلم: 4/2310 باب حديث الهجرة أخرجه موصولاً، البيهقي في الدلائل: 2/483-490، السيرة النبوية لابن هشام: 2/102، قال ابن حجر: "وصله الحاكم في الإكليل والإسماعيلي والمعافا في الجليس"، فتح الباري: 7/240.
[48] كتاب الأموال للإمام أبي عبيد: ص168-192.
[49] أخرجه أحمد (4/311) ، وأبو داود: رقم (4127) ، والنسائي: 7/175، وابن ماجه: رقم (3613) ، الطيالسي: 1293، الطحاوي: 1/27، وغيرهم كثير.
[50] كتاب الأموال لأبي عبيد: ص182-184.
[51] فتح الباري: 4/309-311، وقال ابن حجر: "سنده حسن أخرجه البخاري تعليقاً".
- الترمذي في جامعه: 3/511 كتاب الشروط رقم: (1216) ، وقال: "حديث حسن غريب".
ابن ماجة في سننه: 2/756 كتاب التجارات رقم: (2251) .
- ابن الجارود في المنتقى: ص256 رقم (1028) .(42/36)
- جامع الأصول: 1/496 وقال المحقق: "حديث حسن".
- مشكاة المصابيح: 2/868 وقال المحقق: "إسناد حسن".
[52] نشر دار الندوة الحديدة، بيروت لبنان، الأولى، 1406هـ، وله طبعات غيرها.
[53] الأِشباه والنظائر للسبكي: 1/89.
[54] الأموال لأبي عبيد: ص253-263. - الأموال لابن زنجويه: 1/316.
[55] الفروق: 1/206.
[56] الفروق: 1/207.
[57] تاريخ القضاعي: ص237-238، وقد أورد مثل هذا النص الجهشياري في كتابه الوزراء والكتاب: ص12-13، والمسعودي في التنبيه والإشراف: ص282-283.
[58] المبسوط:30/168.
[59] شروط الجلالي /الورقة (97) ، رسوم القضاة: صفحة 24.
[60] روضة القضاة: (1/113)
[61] شروط الجلالي: الورقة 7/أ، المعرق: أراد الداخل إلى العراق، المشيم/ أراد: الداخل إلى الشام.
[62] مختصر الفتاوي المصرية: ص601.
[63] الطرق الحكمية لابن القيم: ص175.
[64] الطرق الحكمية لابن القيم: ص174.
[65] " " " ": ص179.
[66] القوعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص94، 104.
[67] الأشباه النظائر للسيوطي: ص 88.(42/37)
العدد 111
فهرس المحتويات
1-الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء
... تابع (1)
... تابع (2)
لفضيلة الشيخ د/ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
2- بحث في إجابة الدعوة
... تابع (1)
د. إبراهيم بن علي بن عبيد العبيد
3- إبراهيم بن محمد بن سفيان روايته، وزياداته، وتعليقاته على صحيح مسلم
... تابع (1)
... تابع (2)
د/ عبد الله بن محمد حسن دمفو
4- السؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم وأثره في التربية والتعليم
... تابع (1)
د. أحمد بن عبد الفتاح ضليمي
5- الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم عرض ونقد
... تابع (1)
... تابع (2)
د. محمود عبد الرحمن قدح
6- الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة تطبيقية على ألفية ابن مالك
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
... تابع (4)
د. إبراهيم بن صالح الحندود
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(42/38)
الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء
دراسة تحليلية
بقلم عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
{يأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنتُم مُسْلِمُونَ} .
{يأيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً واتَّقُوا اللهََ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كان عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكمْ ويَغْفِرْ لَكمْ ذُنوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
أما بعد، فلا ريب في عِظم فضل وكبر شرف العلم بأسماء الله وصفاته الواردة في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمها فهماً صحيحاً سليماً بعيداً عن تحريفات المحرّفين وتأويلات الجاهلين؛ إذ إنَّ شرف العلم تابعٌ لشرف معلومه، وما من ريب أنَّ أجَلَّ معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلاّ هو رب العالمين، وقيّوم السموات والأرضين، الملك الحقّ المبين، الموصوف بالكمال كلّه، المنزَّه عن كلِّ عيب ونقص، وعن كلِّ تمثيل وتشبيه في كماله {ذَالِكُمْ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .(42/39)
ولا ريب أنَّ العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجَلُّ العلوم وأفضلُها وأشرفُها، ونسبة ذلك إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات، والعلم به – سبحانه - هو أصل كلِّ علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به، فالعلم به – سبحانه - عنوان سعادة العبد في الدنيا والآخرة، والجهل به أصل شقاوته في الدنيا والآخرة، ومن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربّه فهو لما سواه أجهل، قال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، وقد دلّت هذه الآية على معنى شريف عظيم، وهو أنَّ من نسيَ ربَّه أنساه ذاتَه ونفسَه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده فصار معطَّلاً مهملاً.
ولهذا فإنَّ العناية بفهم هذا العلم وضبطه وعدم الغلط فيه أمر متأكّد على كلِّ مسلم، وقد كان أئمّة المسلمين، الصحابة ومن تبعهم بإحسان على نهجٍ واحدٍ في هذا العلم وعلى طريقة واحدة، ليس بينهم في ذلك نزاع ولا خلاف، "بل كلُّهم [بحمد الله] على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمةً واحدةً من أوّلهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرّفوها عن موضعها تبديلاً، ولم يُبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحدٌ منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقّوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلَّها أمراً واحداً، وأجرَوْها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوا القرآن عِضين، وأقرّوا ببعضها وأنكروا بعضَها من غير فُرقان مبين".(42/40)
بل زاد المعطِّلة على ذلك فجعلوا جحد الصفات وتعطيل الربّ عنها توحيداً، وجعلوا إثباتها لله تشبيهاً وتجسيماً وتركيباً، فسمّوا الباطل باسم الحق ترغيباً فيه، وزخرفاً ينفقونه به، وسمّوا الحقَّ باسم الباطل تنفيراً عنه، والناس أكثرهم مع ظاهر السكّة، ليس لهم نقد النقّاد.
ولا يأمن جانب الغلط في هذا الباب الخطير من لا يتعرّف على نهج السلف ويسلك طريقتهم، فهي طريقة سالمة مأمونة مشتملة على العلم والحكمة، وكلامهم في التوحيد وغيره قليلٌ كثيرُ البركة، فهم لا يتكلّفون، بل يعظِّمون النصوص، ويعرفون لها حرمتها، ويقفون عندها، ولا يتجاوزونها برأي أو عقل أو وَجْدٍ أو غير ذلك.
فهم بحقٍّ الأئمةُ العدول والشهود الأثبات، ولا يزال بحمد الله في كلِّ زمان بقايا منهم "يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن عباد الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عِقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهّال الناس بما يشبّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلّين".(42/41)
ولهذا فإنَّ دراسة آثار هؤلاء وأقوالهم المنقولة عنهم في نصر السنة وتقرير التوحيد والردّ على أهل الأهواء يُعدّ من أنفع ما يكون لطالب العلم، للتمييز بين الحقّ والباطل، والسنة والبدعة، والهدى والضلال؛ لأنَّ هؤلاء الأئمة قد مضوا في معتقدهم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، فهم بنبيّهم محمد صلى الله عليه وسلم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، ولطريقته مقتفون، وعن الأهواء والبدع المضلّة معرضون، وعلى الصراط المستقيم والمحجّة البيضاء سائرون، يوصي بذلك أولُهم آخرَهم، ويقتدي اللاحقُ بالسابق؛ ولهذا "لو طالعتَ جميع كتبهم المصنّفة من أوّلهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم - مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كلّ واحد منهم قطراً من الأقطار - وجدتَهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمطٍ واحد، يجرون فيه على طريقة واحدة، لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً، ولا تفرّقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعتَ جميعَ ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنّه جاء من قلب واحد، وجرى على لسانٍ واحد"، والسبب في ذلك هو لزوم الجميع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبُعدُهم عن الأهواء والبدع، فهم كما قال الأوزاعي - رحمه الله -: "ندور مع السنة حيث دارت"، فهذا شأنهم وديدنُهم، يدورون مع السنة حيث دارت نفياً أو إثباتاً، فلا يثبتون إلاَّ ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا ينفون إلاَّ ما نفي في الكتاب والسنة، لا يتجاوزون القرآن والحديث.(42/42)
وهؤلاء الأئمة لم يكفّوا عن الخوض فيما خاض فيه من سواهم لعجز منهم عن ذلك أو لضعف وعدم قدرة بل الأمر كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: " ... فإنَّ السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا، وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا". ومن كان على نهج هؤلاء فهو في طريق آمنة وسبيل سالمة، قال محمد بن سيرين - رحمه الله -: "كانوا يقولون: إذا كان الرجل على الأثر فهو على الطريق".
ولما كان الأمر بهذه المثابة وعلى هذا القدر من الأهمية أحببت أن أقدّم دراسة لأحد الآثار المرويّة عن السلف الصالح - رحمهم الله - في تقرير التوحيد وردّ البدع والأهواء؛ ليكون - إن شاء الله - أنموذجاً للتدليل على عِظم فائدة العناية بآثار السلف وعظم ما يحصله من عُنيَ بذلك من فوائد وثمار ومنافع.
ولهذا نشطت في إعداد هذه الدراسة للأثر المشهور عن الإمام مالك - رحمه الله - عند ما جاءه رجل وقال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فتأثّر مالك – رحمه الله - من هذه المسألة الشنيعة وعلاه الرحضاء [أي العَرَق] ، وقال في إجابته لهذا السائل: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وأمر بالسائل أن يُخرج من مجلسه، وهو أثر عظيمُ النفع جليلُ الفائدة.
ويمكن أن أحدِّد أهمّ الدوافع التي شجّعت لتقديم هذه الدراسة لهذا الأثر خاصة في النقاط التالية:
أوّلاً: أنَّ هذا الأثر قد تلقّاه الناس بالقبول، فليس في أهل السنة والجماعة من ينكره، كما يذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، بل إنَّ أهل العلم قد ائتمّو به واستجودوه واستحسنوه.
ثانياً: أنَّه من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعاباً؛ لأَنَّ فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعلوم في اللغة على وجه يليق بالله عز وجل.(42/43)
ثالثاً: أنَّ قوله هذا ليس خاصّاً بصفة الاستواء، بل هو بمثابة القاعدة التي يمكن أن تُقال في جميع الصفات.
رابعاً: محاولة أهل البدع في القديم والحديث تبديل معناه وتحريف مراده بطرق متكلّفة وسبل مختلفة.
خامساً: محاولة أحد جهّال المعاصرين التشكيك في ثبوته والطعن في أسانيده.
سادساً: التنبيه إلى أنَّ بعض أتباع الأئمة في الفروع لم يوَفَّقوا إلى العناية بمذهب أئمّتهم في الأصول، ولهذا ترى في بعض من يتعصّبون إلى مذهب الإمام مالك - رحمه الله - في الفروع من يخالفه في أصول الدين، ويفارقه في أساس المعتقد بسبب غلبة الأهواء وانتشار البدع.
إلى غير ذلك من الأسباب، وقد جعلت هذه الدراسة بعنوان:
الأثر المشهور عن الإمام مالك - رحمه الله - في صفة الاستواء
دراسة تحليلية
أما الهدف من هذه الدراسة فهي إعطاء هذا الأثر مكانته اللائقة به واستخراج الدروس والقواعد العلمية المستفادة منه، والردّ على تحريفات المناوئين، وتشكيكات المحرّفين.
وقسمته إلى تمهيد وأربعة فصول وخاتمة على النحو التالي:
التمهيد، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ترجمة موجزة للإمام مالك بن أنس - رحمه الله -.
المبحث الثاني: في ذِكر معتقد أهل السنة والجماعة في صفة الاستواء بإيجاز.
المبحث الثالث: في بيان أهمية القواعد وعِظم نفعها في معرفة صفات الباري.
الفصل الأول: في تخريج هذا الأثر، وبيان ثبوته، وذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تخريج الأثر، وبيان ثبوته عن الإمام مالك
- رحمه الله -.
المبحث الثاني: ذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة.
المبحث الثالث: ذكر نظائر هذا الأثر ممّا جاء عن السلف الصالح.
المبحث الرابع: ذكر كلام أهل العلم في التنويه بهذا الأثر، وتأكيدهم على أهميّته، وجعله قاعدة من قواعد توحيد الأسماء والصفات.(42/44)
الفصل الثاني: في ذكر معنى هذا الأثر، وبيان مدلوله وما يُستفاد منه من ضوابط في توحيد الأسماء والصفات، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: في معنى قوله: "الاستواء غير مجهول"والضوابط المستفادة منه.
المبحث الثاني: في معنى قوله: "الكيف غير معقول" والضوابط المستفادة منه.
المبحث الثالث: في معنى قوله: "الإيمان به واجب" والضوابط المستفادة منه.
المبحث الرابع: في معنى قوله: "السؤال عنه بدعة" والضوابط المستفادة منه.
الفصل الثالث: في إبطال تحريفات أهل البدع لهذا الأثر.
الفصل الرابع: في ذكر فوائد عامة مأخوذة من هذا الأثر، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ذكر ما في قولهم: "حتى علاه الرّحضاء"من فائدة.
المبحث الثاني: ذكر ما في قوله: "ما أراك إلاَّ مبتدعاً"من فائدة.
المبحث الثالث: ذكر ما في قوله: "أخرجوه عنِّي"من فائدة.
الخاتمة: وفيها خلاصة البحث وأهمّ نتائجه.
هذا وإني أسأل الله الكريم أن يتقبّل مني هذا العمل بقبول حسن، وأن يجعله لوجهه خالصاً، وللحق موافقاً، وأن يغفر لي ولوالديّ وللإمام مالكٍ ولجميع أئمة المسلمين، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنَّه هو الغفور الرحيم.
تمهيد:
لعل من الحسن قبل الشروع في الموضوع أن أُمهِّد بذكر بعض الأمور المهمّة بين يديه، وذلك من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: ترجمة موجزة للإمام مالك بن أنس - رحمه الله -.
أولاً: نسبه:
هو شيخ الإسلام، حجّة الأمة، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عَمرو بن الحارث بن غيمان بن خُثيل بن عَمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شدّاد بن زرعة، وهو حِمير الأصغر، الحِميري ثم الأصبحي المدني، حليف بني تَيم من قريش، فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحدِ العشرة.
وأمُّه هي عالية بنت شريك الأزدية.(42/45)
وأعمامه هم: أبو سُهيل نافع، وأُويس، والربيع، والنضر، أولاد أبي عامر.
ثانياً: مولده:
قال الذهبي - رحمه الله -: "مولد مالك على الأصح في سنة ثلاث وتسعين، عام موتِ أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في صَون ورفاهية وتجمّل".
ثالثاً: نشأته وطلبه للعلم:
طلب مالكٌ العلمَ وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهّل للفتيا، وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة، وحدّث عنه جماعة وهو حيٌّ شابٌّ طريٌّ، وقصدَه طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد، إلى أن مات.
رابعاً: شيوخه:
طلب الإمام مالك - رحمه الله - العلمَ وهو حدَثٌ بُعيد موت القاسم وسالم، فأخذ عن نافع، وسعيد المقبري، وعامر بن عبد الله ابن الزبير، وابن المنكدر، والزهري، وعبد الله بن دينار، وخلق.
وقد أحصى الذهبي - رحمه الله - شيوخه الذين روى عنهم في الموطأ وذكر إلى جنب كلِّ واحد منهم عدد ما روى عنه الإمام مالك ورتّبهم على حروف المعجم.
خامساً: تلاميذه:
قال الذهبي - رحمه الله -: "وقد كنت أفردتُ أسماء الرواة عنه في جزء كبير يُقارب عددهم ألفاً وأربع مائة، فلنذكر أعيانهم، حدّث عنه من شيوخه: عمّه أبو سُهيل، ويحيى بن أبي كثير، والزهري، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن الهاد، وزيد بن أبي أُنيسة، وعمر بن محمد بن زيد، وغيرهم، ومن أقرانه: معمر، وابن جريج، وأبو حنيفة، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي، وشعبة، والثوري ... "، وذكر آخرين.
سادساً: مؤلفاته:
من مؤلفاته - رحمه الله -:
1- الموطأ.
2- رسالة في القدر كتبها إلى ابن وهب.
3- مؤلف في النجوم ومنازل القمر.
4- رسالة في الأقضية.
5- رسالة إلى أبي غسان بن مطرّف.
6- جزء في التفسير.
وأما ما نقله عنه كبار أصحابه من المسائل والفتاوى والفوائد فشيءٌ كثيرٌ.
سابعاً: ثناء العلماء عليه:
1- قال الشافعي: "العِلمُ يدور على ثلاثة: مالك، والليث، وابن عيينة".(42/46)
2- وروي عن الأوزاعي أنه كان إذا ذكر مالكاً يقول:
"عالم العلماء، ومفتي الحرمين".
3- وعن بقيّة أنَّه قال: "ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنّةٍ ماضية منك يا مالك".
4- وقال أبو يوسف: "ما رأيت أعلمَ من أبي حنيفة، ومالك، وابن أبي ليلى".
5- وذكر أحمد بن حنبل مالكاً فقدّمه على الأوزاعي، والثوري، والليث، وحماد، والحَكم، في العلم، وقال: "هو إمام في الحديث، وفي الفقه".
6- وقال القطّان: "هو إمام يُقتدى به".
7- وقال ابن معين: "مالكٌ من حُجج الله على خلقه".
8- وقال أسد بن الفرات: "إذا أردتَ الله والدارَ الآخرة فعليك بمالكٍ".
ثامناً: أقواله في السنة:
1- قال مطرّف بن عبد الله: سمعتُ مالكاً يقول: "سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووُلاة الأمر بعده سُنناً، الأخذُ بها اتّباع لكتاب الله، واستكمالٌ بطاعة الله، وقوّةٌ على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلُها، ولا النّظرُ في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتّبع غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولّى، وأصلاه جهنّم وساءت مصيراً".
2- وروى إسحاق بن عيسى عن مالك - رحمه الله - أنَّه قال:
"أكلّما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدلِه".
3- وقال أبو ثور: سمعت الشافعيَّ يقول: "كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أمَا إني على بيّنة من ديني، وأمَّا أنت فشاكٌّ، اذهب إلى شاكٍّ مثلكَ فخاصمه".
4- وقال يحيى بن خلف الطَرسوسي: "كنت عند مالك فدخل عليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق، اقتلوه، فقال: يا أبا عبد الله، إنّما أحكي كلاماً سمعته، قال: إنّما سمعته منك، وعظَّم هذا القول".
5- وروى ابن وهب عن مالك - رحمه الله - أنّه قال: "الناس ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة بأعينهم".(42/47)
6- وقال القاضي عياض: قال معنٌ: "انصرف مالكٌ يوماً فلحقَه رجلٌ يُقال له: أبو الجويرية، متّهمٌ بالإرجاء، فقال: اسمع مني، قال: احذر أن أشهد عليك، قال: والله ما أريد إلاَّ الحق، فإن كان صواباً فقُل به، أو فتكلّم، قال: فإن غلبتني، قال: اتبعني، قال: فإن غلبتُك، قال: اتّبعتُك، قال: فإن جاء رجل فكلّمنا، فغلبنا؟ قال: اتّبعناه، فقال مالك: يا هذا، إنَّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وأراك تتنقّل".
7- وعن مالك قال: "الجدالُ في الدِّين ينشئ المراء، ويذهب بنور العلم من القلب ويقسّي، ويورث الضِّغن".
تاسعاً: وفاته:
قال القعنبي: "سمعتهم يقولون: عُمر مالك تسع وثمانون سنة، مات سنة تسع وسبعين ومائة".
وقال إسماعيل بن أبي أُويس: "مرض مالك، فسألتُ بعض أهلنا عما قال عند الموت، قالوا: تشهّد، ثم قال: {للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (1) وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، فصلَّى عليه الأمير عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، وَلَد زينب بنت سليمان العباسية، ويُعرف بأمِّه"، رواها محمد بن سعد عنه، ثم قال: "وسألتُ مصعباً، فقال: بل مات في صفر، فأخبرني معن بن عيسى بمثل ذلك".
وقال أبو مصعب الزهري: "مات لعشر مضت من ربيع الأول سنة تسع".
وقال محمد بن سحنون: "مات في حادي عشر ربيع الأول".
وقال ابن وهب: "مات لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول".
قال القاضي عياض: "الصحيح وفاته في ربيع الأول يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يوماً من مرضه".
قال الذهبي: "تواترت وفاتُه في سنة تسع، فلا اعتبار لقول من غلِط وجعلها في سنة ثمان وسبعين، ولا اعتبار بقول حبيب كاتبه، ومطرِّف فيما حكي عنه، فقالا: سنة ثمانين ومائة".
__________
(1) رواه ابن بطة في الإبانة (1/357) .(42/48)
ونقل عن القاضي عياض أنَّ أسد بن الفرات قال: "رأيتُ مالكاً بعد موته، وعليه طويلة وثياب خضر وهو على ناقة، يطير بين السماء والأرض، فقلت: يا أبا عبد الله، أليس قد متَّ؟ قال: بلى، فقلت: فإلامَ صِرتَ؟، فقال: قدِمتُ على ربي وكلّمني كفاحاً، وقال: سلني أعطِك، وتمنَّ عليَّ أُرضِك".
فرحمه الله، وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنّة.
المبحث الثاني: في ذكر معتقد أهل السنة والجماعة في صفة الاستواء بإيجاز
الاستواء صفةٌ من صفات الكمال الثابتة لذي العظمة والجلال – سبحانه -، وقد دلّ النقل على هذه الصفة حيث أثبتها الربٌّ – سبحانه - لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنّته، وأجمع على ثبوتها المسلمون.
وقد وردت هذه الصفة في القرآن الكريم في مواطن عديدة، وكان ورودها فيه على نوعين: تارة معدّاة بـ (على) ، وتارة معدّاة بـ (إلى) .
1- أمّا النوع الأول: وهو مجيئها معدّاة بـ (على) فقد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع، حيث تمدّح بها الرب – سبحانه -، وجعلها من صفات كماله وجلاله، وقرنها بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال، مما يدل على ثبوت هذه الصفة العظيمة لله ثبوت غيرها من الصفات.
قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: "اعلموا أنَّ هذه الصفة التي هي الاستواء صفةُ كمال وجلال تمدّح بها ربُّ السموات والأرض، والقرينة على أنّها صفة كمال وجلال أنَّ الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلاَّ مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها، وسنضرب مثلاً بذكر الآيات:(42/49)
فأوّل سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (1) فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
الموضع الثاني في سورة يونس قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقاًّ إِنَّهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} (2)
فهل لأحد أن ينفيَ شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
__________
(1) مجموع الفتاوى (13/309) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/520) .(42/50)
الموضع الثالث في سورة الرعد في قوله جلّ وعلا: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) وفي القراءة الأخرى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ تُسْقِى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
الموضع الرابع في سورة طه: {طَهَ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} (2)
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (5/520) .
(2) وهي ملخّصة من سير أعلام النبلاء للذهبي (8/48 وما بعدها) ، وللوقوف على مصادر ترجمة الإمام مالك انظر هامش السير، الصفحة المتقدّمة.(42/51)
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّاٍم ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (1)
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
الموضع السادس في سورة السجدة في قوله تعالى: {أَمْ يَقولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِن مَآءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ
وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكْمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} .
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال.
__________
(1) سورة الروم، الآية: (4) .(42/52)
الموضع السابع في سورة الحديد في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1)
أما النوع الثاني: وهو مجيئها معدّاة بـ (إلى) فقد ورد في القرآن في موطنين:
الأول في سورة البقرة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2)
الثاني: في سورة فُصّلت، قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} (3)
والاستواء معناه معلوم في لغة العرب، لا يجهله أحد منهم، والله قد خاطب عباده في القرآن الكريم بكلام عربيٍّ مبين، والاستواء معناه في اللغة العلوّ والارتفاع.
ولهذا فإنَّ مذهب السلف في الاستواء هو إثباته لله عز وجل كما أثبته لنفسه، وكما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأنَّ الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله، ولا يشبه استواء أحد من خلقه - تعالى الله عن ذلك -، ومعنى الاستواء عندهم العلوّ والارتفاع، ولا خلاف بينهم في ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير يوجد في كتب التفسير والأصول.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: (54) .
(3) سورة يونس، الآيات: (3 6) .(42/53)
قال إسحاق بن راهويه: حدّثنا بشر بن عمر: سمعت غير واحد من المفسّرين يقولون: " {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : أي ارتفع".
وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: "استوى إلى السماء: ارتفع"، قال: وقال مجاهد: "استوى: علا على العرش".
وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: "وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء، وكذلك قال الخليل بن أحمد".
وروى البيهقي في كتاب الصفات قال: قال الفرّاء: "ثم استوى، أي صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعداً فاستوى قائماً".
وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: "وهو اليوم الذي استوى فيه ربّكم على العرش".
والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدُحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير أبي بكر بن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد وغيرهم، ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير سُنيد، وتفسير عبد الرزاق، ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يُحصى، وكذلك الكتب المصنّفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين".
وجاء عن الخليل بن أحمد قال: "أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت وكان على سطح فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام، فقال: استووا، فلم ندر ما قال، فقال لنا شيخ عنده: يقول لكم: ارتفعوا، قال الخليل: هذا من قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ} " (1) أي: ارتفع وعلا.
__________
(1) سورة السجدة، الآيات: (3 9) .(42/54)
والاستواء سواء عُدّيَ بـ"إلى"أو بـ"على" فمعناه العلو والارتفاع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "ومن قال: استوى بمعنى عَمَدَ، ذكره في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ؛ لأنَّه عُدي بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أنَّ ما ذُكر في تلك الآية لا يُعرف في اللغة أيضاً، ولا هو قول أحد من مفسريّ السلف؛ بل المفسِّرون من السلف قولهم بخلاف ذلك - كما قدّمناه عن بعضهم –"، وقد حكى ابن القيم - رحمه الله - إجماع السلف على ذلك.
فهذا ملخَّص معتقد أهل السنة والجماعة في هذه الصفة، ومن أراد الاطّلاع على كلام أهل العلم في هذه الصفة موسّعاً فليطالع الكتب التي أُفرِدت في ذلك وهي كثيرة جداًّ، وكما قال السفاريني - رحمه الله -: "وقد أكثر العلماء من التصنيف، وأجلبوا بخيلهم ورَجِلِهم من التأليف، في ثبوت العلوّ والاستواء ونبّهوا على ذلك بالآيات والحديث وما حوى، فمنهم الراوي الأخبارَ بالأسانيد، ومنهم الحاذفُ لها وأتى بكلِّ لفظٍ مفيدٍ، ومنهم المُطَوِّل المُسهِب، ومنهم المُختصِر والمتوسِّط والمهذِّب، فمن ذلك (مسألة العلوّ) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و (العلوّ) للإمام الموفق صاحب التصانيف السنيّة، و (الجيوش الإسلاميّة) للإمام المحقق ابن قيِّم الجوزية، و (كتاب العرش) للحافظ شمس الدين الذهبي صاحب الأنفاس العليّة، وما لا أُحصي عدّهم إلاّ بكُلْفة، والله تعالى الموفِّق".
المبحث الثالث: في بيان أهميّة القواعد وعظم نفعها في معرفة صفات الباري(42/55)
لا ريب أنَّ معرفةَ القواعد والأصول والضوابط الكليّة الجامعة يُعدُّ من أعظم العلوم وأجلِّها نفعاً وأكثرها فائدةً، ذلك أنَّ "الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان والأصول للأشجار لا ثبات لها إلاّ بها، والأصول تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتتقوّى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمي نماءً مطَّرداً، وبها تُعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيراً، كما أنَّها تجمع النظائر والأشباه التي من جمال العلم جَمعُها" إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة والمنافع الجليلة التي لا تحصى.
بل إنَّ "من محاسن الشريعة وكمالها وجمالها وجلالها: أنَّ أحكامَها الأصوليَّة والفروعية والعبادات والمعاملات وأمورها كلّها لها أصولٌ وقواعدُ تَضبِطُ أحكامَها وتَجمعُ مُتفرِّقَها وتَنشر فروعَها وتَردُّها إلى أصولها".
والقاعدة: هي أمرٌ كلّيٌّ ينطبق على جزئيّاتٍ كثيرةٍ تُفهم أحكامُها منها.
فإذا ضُبطت القاعدةُ وفُهم الأصلُ أمكن الإلمام بكثيرٍ من المسائل التي هي بمثابة الفرع لهذه القاعدة، وأُمن الخلطُ بين المسائل التي قد تشتبه، وكان فيها تسهيلٌ لفهم العلم وحفظه وضبطه، وبها يكون الكلام مبنياًّ على علمٍ متينٍ وعدلٍ وإنصافٍ.
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "لا بُدَّ أنْ يكون مع الإنسان أصولٌ كليّةٌ تُردُّ إليها الجزئيّات؛ ليتكلّم بعلمٍ وعدلٍ، ثمّ يعرف الجزئيّات كيف وقعت، وإلاّ فيبقى في كذبٍ وجهلٍ في الجزئيّات، وجهلٍ وظُلمٍ في الكليّات فيتولّد فسادٌ عظيمٌ".
لأجل هذا عُني أهل العلم كثيراً بوضع القواعد وجَمعها في الفنون المختلفة، فلا تكاد تجد فناًّ من الفنون إلاّ وله قواعدُ كثيرةٌ وضوابطُ عديدةٌ تَجمع مُتَفرِّقَه، وتُزيل مشتَبهَه، وتُنير معالمَه، وتُيسِّر فهمَه وحِفظَه وضبطَه، "ويحصل بها من النفع والفائدة على اختصارها ما لا يحصل في الكلام الطويل".(42/56)
ولهذا فإنَّه يترتَّب على العناية بالقواعد المأثورة والأصول الكليّة المنقولة عن السلف الصالح - رحمهم الله - من الفوائد والمنافع ما لا يعلمه إلاّ الله؛ لأنَّ فيها كما يقال وضعُ النقاط على الحروف، وفيها تجليةٌ للأُمور، وتوضيحٌ للمسائل، وإزالةٌ للّبْس، وأَمْنٌ من الخَلْط، إلى غير ذلك من الفوائد.(42/57)
تابع لسؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم
المبحث الرابع: آداب السؤال لدى المعلمين
(1) - إدراك قيمة السؤال في التعليم والتعلم.
(2) - تشجيع المتعلمين على السؤال.
(3) - التوجيه إلى طرح الأسئلة الهامة.
(4) - عدم إرهاق المتعلمين بالأسئلة.
(5) - توجيه المتعلمين بعدم التعجل في طرح الأسئلة.
(6) - عدم الإجابة على كل سؤال.
(7) - رد العلم فيما لا يعلم إلى اللَّه.
(8) - الحرص على التزود الدائم بالعلم.
تمهيد:
تبين لنا في المبحث السابق آداب السؤال وضوابطه في القرآن الكريم وأهمية هذه الآداب للمتعلم. وإذا كان يطلب من المتعلم أن يهتم بالسؤال ويحافظ على آدابه، فإن المعلم مطالب بالأمر ذاته، وذلك لأهمية السؤال وضرورة العناية به لكل من المعلم والمتعلم، بيد أن آداب السؤال التي يتوجب على المعلم التمسك بها والانطلاق منها تختلف عن تلك الآداب المتعلقة بالمتعلم، وذلك نظراً لاختلاف موقف المعلم والمتعلم من السؤال ولاختلاف الدور الذي يقوم به كل من المعلم والمتعلم في الموقف التعليمي. وبغض النظر عن اختلاف آداب السؤال لدى المعلم عنها لدى المتعلم، إلا أنها تعد في غاية الأهمية والضرورة لنجاح المعلم في مهامه التعليمية والتربوية. ولأهمية هذه الآداب وضرورة تمسك المعلم بها فقد أرشد القرآن الكريم المعلمين إلى طائفة من الآداب والأخلاق ودعاهم إلى التحلي بها والتعامل مع المتعلمين في ضوئها، ومن بين هذه الآداب ما يلي:
(1) - إدراك قيمة السؤال في التعليم والتعلم(42/58)
فالمعلم الذي لا يدرك أهمية السؤال في التعلم والتعليم قد لا يعمد إلى استخدامه كوسيلة من وسائل تحقيق الأهداف التعليمية والتربوية المنشودة، أو لا يعطيه الاهتمام الذي يتناسب مع أهميته ودوره، وإن أهمية السؤال في التعلم والتعليم ومكانته في المنهج التربوي القرآني واضحتان تمام الوضوح، فالسؤال في القرآن هو وسيلة اكتساب العلم ورفع الجهل عن النفس، ولكن وفق منهج سليم وتوجيه سديد، وذلك بأخذ العلم من مصادره الموثوقة، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (1) بل إن التربية الإسلامية في لفتها الأنظار إلى مكانة السؤال تجعل ضرورته للمتعلم كالدواء للمريض، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما شفاء العي السؤال".
(2) - تشجيع المتعلمين على السؤال
إن توجيه الأسئلة له فوائده الإيجابية للمتعلم والمعلم على حد سواء وإن وجود الأسئلة الكثيرة في القرآن الكريم والإجابة عليها في ضوء المنهج القرآني الحكيم يدل دلالة واضحة على ضرورة أن يتيح المعلم الفرصة للمتعلمين أن يسألوا وأن يحسن استثمار أسلوب السؤال في تعليمهم وتربيتهم.
وقد سبق أن بينّا موقف القرآن من السؤال وترغيبه فيه وحثه وتشجيعه عليه بما يوضح تمام الإيضاح أن من أوجب واجبات المعلم أن يشجع المتعلمين على طرح أسئلتهم واستفساراتهم، وأن يسمح لهم بمناقشته ومحاورته، وأن يتقبل أسئلتهم بوجه بشوش وروح طيبة.
(3) - التوجيه إلى طرح الأسئلة الهامة
__________
(1) سورة النحل: آية: 43.(42/59)
إن من أهم واجبات المعلم تجاه تلاميذه أن يلفت انتباههم إلى توجيه الأسئلة الهامة وذات العلاقة بموضوع الدرس وترك ما عدا ذلك. وقد وجه القرآن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشد أمته إلى سلوك المنهج السديد في طرح الأسئلة، وذلك بالسؤال عما ينفع وترك السؤال عما لا ينفع أو ما قد يجلب الإساءة للسائل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (1) وقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (2) وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} (3) .
وقد استنبط بعض المفسرين توجيه القرآن إلى طرح الأسئلة المهمة وترك ما عداها من قول الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (4) .
فقال: "هناك تفسير يتجه بهذه الفقرة من الآية {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وهو أنهم في سؤالهم عن تغير الهلال عكسوا في سؤالهم، فسألوا عما لا يعنيهم ولا يفيدهم، فهم بمثابة من يأتي البيوت من ظهورها، وكان الأولى أن يأتوها من أبوابها فيسألوا عما يعنيهم وينفعهم في أمر دينهم ودنياهم".
(4) - عدم إرهاق المتعلمين بالأسئلة
__________
(1) سورة المائدة: آية: 101.
(2) سورة الإسراء: آية: 85.
(3) سورة الأعراف: آية: 187.
(4) سورة البقرة: آية: 189.(42/60)
وذلك بتوجيه صعاب المسائل إليهم، فينبغي للمعلم أن يختار المسائل الميسرة ويتجنب الصعبة منها، وذلك تيسيراً للمتعلمين وتشجيعاً لهم للإقبال على التعلم، وفي قصة موسى مع العبد الصالح توجيه إلى هذا المعنى، قال تعالى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} (1) قال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: "ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذه مدعاة إلى النفور منه والسآمة بل يأخذ المتيسر له ليتيسر له الأمر". وقال القاضي أبو السعود في معنى عسرا: "أي لا تعسر عليّ متابعتك ويسرها عليّ بالإغضاء وترك المناقشة". وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الأغلوطات" (2) قال الأوزاعي: "الأغلوطات: شداد المسائل وصعابها".
(5) - توجيه المتعلمين بعدم التعجل في طرح الأسئلة
فمن حق المعلم - كما بيّن القرآن الكريم - أن يوجه تلاميذه إلى عدم التعجل في طرح أسئلتهم وأن يتريثوا ويصبروا حتى يفرغ مما هو بصدده ثم يسألوا بعد ذلك، قال تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} (3) قال الشيخ السعدي: "من فوائد هذه الآية أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصراً، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها أو لا يدركها ذهنه، ويسأل سؤالاً لا يتعلق بموضوع البحث".
(6) - عدم الإجابة على كل سؤال
__________
(1) سورة الكهف: آية: 73.
(2) المسند: 5/435.
(3) سورة الكهف: آية: 70.(42/61)
فلا يلزم المعلم أن يلم بجميع المعلومات والحقائق الخاصة بالمادة أو الدرس، بحيث يجيب على كل سؤال من أسئلة المتعلمين، وإذا كان الله لم يعطِ هذه السعة في العلم لأنبيائه عليهم السلام، فمن باب أولى ألا تعطى لغيرهم. وقد ذكر الإمام الشوكاني في سبب ذكر قصة موسى والخضر في سورة الكهف: "أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبي وإلا فلا، ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار".
ومن ثم فإنه لا يقدح في مكانة المعلم ولا يقلل من قدره ألا يجيب على بعض أسئلة المتعلمين، ومما يجدر ذكره هنا أن بعض التلاميذ قد يوجه أسئلة بهدف إضاعة الوقت أو إشغال المعلم عن سؤال التلاميذ.
كما أن بعض التلاميذ قد يسأل أسئلة بعيدة كل البعد عن موضوع الدرس.
(7) - رد العلم فيما لا يعلم إلى الله
ومن آداب المعلم تجاه أسئلة المتعلمين أن يقول لما لا يعلم الله أعلم. وقد ذكر المفسرون أن سبب رحيل موسى إلى الخضر أنه لما سئل أي الناس أعلم؟ لم يرد العلم إلى الله، بل قال أنا أعلم، فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إليه، وبين له أن هناك من هو أعلم منه وأمره بالسير إليه. ولذلك ينبغي للمعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يرد العلم إلى الله تمسكاً بهذا الأدب الرفيع الذي وجه إليه الإسلام، عن ابن مسعود قال: "إن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم الله أعلم" وعن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء، فلا يجيب حتى يأتيه الوحي" وعن ابن وهب قال: "لو كتبنا عن مالك لا أدري لملأنا الألواح" وقال مالك: "كان ابن عباس يقول: "إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله".
(8) - الحرص على التزود الدائم بالعلم(42/62)
إن تزود المعلم الدائم والمستمر بالمعلومات والحقائق العلمية يعينه في دروسه وتعليمه، كما يعينه على الإجابة على أسئلة المتعلمين واستفساراتهم، ولذلك أرشد القرآن إلى ضرورة التزود الدائم بالعلم، وأن الإنسان مهما أوتي من العلم يبقى في حاجة ماسة إلى المزيد منه، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (1) وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (2) .
وفي رحيل موسى إلى الخضر للتعلم منه مع ما هو عليه من علم ومكانة بين الأنبياء خير دليل على ضرورة الطلب الدائم للعلم والاستزادة المستمرة منه، قال الزجاج في معرض تعليقه على رحيل موسى إلى الخضر: "فيما فعل موسى - وهو من جملة الأنبياء - من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته. وقال الشيخ السعدي: "ينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصراً في علم النحو أو الصرف أو نحوه من العلوم أن يتعلمه ممن مهر فيه وإن لم يكن محدثاً ولا فقيهاً".
المبحث الخامس: خصائص السؤال في القرآن الكريم
(1) - الشمول والتنوع.
(2) - الأهمية.
(3) - تثبيت العقيدة وإثبات الوحدانية لله.
(4) - بيان أفضال الله على خلقه بهدف هدايتهم إلى الحق.
(5) - التوجيه إلى سؤال أهل العلم والخبرة.
(6) - تنوع مصادر الأسئلة.
تمهيد:
__________
(1) سورة طه: آية: 114.
(2) سورة الإسراء: آية: 85.(42/63)
تميز السؤال في ضوء المنهج التربوي القرآني بالعديد من المزايا والخصائص التربوية حيث تميز بالشمول، والتنوع، والتوجيه إلى القضايا والموضوعات الهامة، كما تميز باهتمامه بالجانب الإيماني الذي هو أهم جوانب الشخصية الإنسانية، كما تميز بتوجيه المتعلم إلى أحسن الطرق وأصدقها في تحصيل العلوم واكتساب المعارف، كما تميز السؤال في القرآن الكريم بتنوع مصادره وأسلوبه الفذ في التعامل مع السائلين على اختلاف معتقداتهم ودوافعهم وأغراضهم. وفيما يلي تفصيل لتلك الخصائص والمميزات.
(1) الشمول والتنوع
حيث عالجت الأسئلة القرآنية جوانب متعددة من حياة مجتمع الصدر الأول، فقد شملت:
أ - أموراً خاصة بجانب الغيب، كالسؤال عن الساعة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} (1) .
ب - وأموراً خاصة بالجانب المالي، كالسؤال عن أوجه الإنفاق، والإنفاق على وجه الصدقة: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (2) .
ج - وأموراً خاصة بالحرب والقتال، كالسؤال عن الظروف الزمنية للقتال: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} .
د- وأموراً خاصة ببعض ما يراد توجيهاً حاسماً وشافياً بصدده، مثل تعاطي الخمر والميسر: {يسألونك عن الخمر والميسر} .
هـ - وأموراً خاصة ببعض الفئات، كفئة اليتامى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} (3) .
و وأموراً خاصة بالجانب الصحي، كالجماع عند المحيض: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (4) .
ز - وأموراً خاصة ببعض السابقين، كالسؤال عن ذي القرنين: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} (5) .
ح - وأموراً خاصة بموضوعات غامضة وغير مفهومة، كالسؤال عن الروح: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} (6) .
__________
(1) سورة الأعراف: آية 187.
(2) سورة البقرة: آية 215
(3) سورة البقرة: آية 220
(4) سورة البقرة: آية 222
(5) سورة الكهف: آية 83
(6) سورة الإسراء: آية 85(42/64)
ط - وأموراً خاصة ببعض الظواهر الكونية، كالسؤال عن الجبال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} (1) . والسؤال عن الأهلة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} (2) .
وهكذا ينبغي للمعلم أن يتأسى بالمنهج التربوي القرآني في طريقته في التربية بالسؤال، فيتيح الفرصة للتلاميذ أن يسألوا فيما يعن لهم من أمور تتعلق بما يدرسونه وبما يواجهونه ويعرض لهم من مشكلات في حياتهم. كما ينبغي للمعلم أن يحرص على استخدام طريقة السؤال في مختلف خطوات درسه من تمهيد وعرض وربط وتقويم، كما يجب على المعلم أي يشمل جميع التلاميذ بأسئلته فلا يخص بها بعضهم دون البعض الآخر.
(2) الأهمية.
وقد امتازت الأسئلة التي جاءت في القرآن الكريم بالأهمية، يدل على هذه الأهمية ما شملته تلك الأسئلة من مجالات الحياة الأساسية وما طرحته من قضايا ملحة وهامة تتعلق بحياة مجتمع الصدر الأول، وقد بينا في الخاصية الأولى المجالات التي شملتها الأسئلة القرآنية، وذكرنا بعض الموضوعات والجوانب التي تناولتها، وإن تأمل خاصية الأهمية في المنهج التربوي القرآني يوضح أن القرآن الكريم قد أرسى قاعدة تربوية عظيمة، وهي أن الأهمية لا تحصر في الدرس أو فيما يتعلق بالجانب التعليمي، بل هي أوسع من ذلك بكثير، فهي تمتد لتشمل جميع ما يهم المتعلم ويتصل بحياته، سواء كان ذلك يتعلق بما يتعلمه داخل حجرة الدراسة أم كان يتعلق بمختلف جوانب حياته ويحتاج إلى فهمه ومعرفته والإجابة عما يثيره من أسئلة واستفسارات.
(3) تثبيت العقيدة وإثبات الوحدانية لله
__________
(1) سورة طه: آية 105
(2) سورة البقرة: آية 189(42/65)
وقد استخدم القرآن السؤال كطريقة للإقناع والوصول إلى الحق الذي هو التوحيد ونبذ الباطل الذي هو الشرك، فقال تعالى منكراً على الكفار شركهم بالله في عبادته في الوقت الذي يقرون فيه بربوبيته: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1) وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (2) وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (3) وإن بإمكان المعلم أن يستثمر استخدام القرآن السؤال على هذا النحو في غرس التوحيد الخالص لله في نفوس المتعلمين فيسألهم عن خالق السموات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ويسألهم عمن أحي الأرض بعد موتها، ويسألهم عمن خلقهم وخلق كل شيء ويسألهم عن الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من العبادات التي أمر الله بها، ليصل بعد هذه الأسئلة إلى نفس النتيجة التي أراد القرآن الوصول إليها من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده وبذلك يعمل المعلم على تثبيت الإيمان الصحيح في نفوس التلاميذ معتمداً في ذلك على أسلوب السؤال وطريقته الناجحة في رعاية الجانب الإيماني لدى المتعلمين.
(4) بيان أفضال الله على خلقه بهدف هدايتهم إلى الحق.
__________
(1) سورة العنكبوت: آية 61.
(2) سورة العنكبوت: آية 63.
(3) سورة الزخرف: آية 87.(42/66)
وهو أسلوب يقوم على استمالة العاطفة فضلاً عن مخاطبة العقل، وذلك أن النفوس مجبولة على محبة من يحسن إليها والميل إليه، وقد استخدم القرآن هذا الأسلوب في مواضع عديدة، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (1) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (2) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} (3) وإن المعلم مطالب بأن ينتفع بهذا الأسلوب القرآني وذلك بذكر تلك النعم التي بينها القرآن والتأكيد عليها في كل فرصة وفي كل مناسبة سانحة، وذلك على نحو يؤدي إلى محبة المتعلمين خالقهم وتقوية صلتهم به.
(5) التوجيه إلى سؤال أهل العلم والخبرة
وهو أسلوب تربوي علمي يوفر الجهد والوقت، ويبني الجانب العلمي لدى المتعلم وفق أقوى الأسس وأمتنها، وذلك بأخذ العلوم والمعارف من مصادرها الصحيحة والموثوقة قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (4) وقال تعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (5) وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (6) كما أن التوجيه إلى سؤال أهل العلم والخبرة يرشد إلى أهمية السؤال وأنه طريقة من أهم طرق التعلم والكشف عن الحقائق والمعلومات.
(6) تنوع مصادر الأسئلة
__________
(1) سورة الأنعام: آية 63.
(2) سورة يونس: آية 31.
(3) سورة الأنبياء: اية 42.
(4) سورة النحل: آية 43.
(5) سورة يونس: آية 94.
(6) سورة الفرقان: آية 59.(42/67)
فقد تنوعت الأسئلة في مصادرها واختلف السائلون وتنوعوا بين مسلمين ومشركين، وأعراب، وأهل كتاب، ومنافقين، وكان لكل فئة من هذه الفئات أهدافها ودوافعها من السؤال، وقد عالج القرآن الكريم كل سؤال بما يتناسب مع أغراضه ودوافعه وأجاب عن كل سؤال في ضوء منهجه الحكيم الخالد. وإن مما يجدر التنبيه إليه هنا أن المعلم المسلم في أمس الحاجة إلى المعرفة بتلك الأسئلة ومعرفة أصحابها ودوافعهم وأغراضهم ومعرفة كيفية تعامل القرآن معها، وذلك من أجل الانتفاع بهذه المعرفة في حياته التعليمية والعامة.
المبحث السادس: خصائص الإجابات القرآنية
(1) الاتصال بالواقع.
(2) الإقناع العقلي.
(3) التوجيه إلى التعامل مع الأمور في ضوء ما يغلب عليها من الخير أو الشر.
(4) اغتنام الفرصة للتوجيه والإصلاح.
(5) التوجيه إلى عدم استعظام خطأ في وقت يرتكب فيه خطأ أكبر.
(6) مراعاة مصلحة الفرد والمجتمع.
(7) التوجيه إلى أعمال البر والإصلاح.
(8) التوجيه إلى عدم تبديد الطاقة العقلية.
(9) التوسع في الإجابة أو الإنقاص منها وفق مقتضى الحال.
تمهيد:
يوصي المتخصصون في مجال التربية والتعليم بضرورة العناية بالسؤال والاستفادة منه في كافة أنشطة الدرس وخطواته وعناصره، كما يوصون بالعناية بالإجابات وأن تتوفر فيها بعض الشروط والضوابط لتؤدي الغرض المطلوب منها وتحقق الأهداف المعلقة عليها. ومن الشروط والضوابط التي ينبغي أن تتوفر في الإجابات: حسن الصياغة والوضوح، وأن تكون على قدر السؤال، وأن تبتعد عن الإساءة إلى المتعلمين والاستهزاء بهم، وأن يتوخى منها النفع والفائدة. وقد شملت إجابات الأسئلة في القرآن الكريم هذه الخصائص وغيرها كما تميزت بخصائص أخرى تدل على تفوق المنهج التربوي القرآني واحتفاظه بهذا التفوق مهما تقدم الإنسان في علومه ونشاطاته التعليمية والتربوية. ومن الخصائص التي تميزت بها الإجابات القرآنية ما يلي:
(1) - الاتصال بالواقع.(42/68)
فقد استمدت الإجابات القرآنية من واقع السائلين ومما يدور ويجري في حياتهم فإذا سأل الناس عن الخمر والميسر تكون الإجابة بالتوجيه إلى الرجوع إلى الواقع، والنظر إلى ما تحدثه الخمر وما يؤدي إليه الميسر في واقع حياتهم، قال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (1) .
وإذا سأل الناس عن المحيض فإن في واقع حياتهم ما يبين لهم خطورة هذا الفعل وإضراره بهم، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (2) وقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن إتيان الحائض يصيب كلاً من الرجل والمرأة بالضرر.
وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الخبائث تثبت الدراسات والوقائع والأرقام ضررها وخطرها وبالتالي ضرورة الإقلاع عنها واجتنابها.
والمربي الناجح هو الذي يربط إجاباته على أسئلة تلاميذه بواقع حياتهم فيكون هذا الربط خير معين لهم - بعد الله عزوجل - على تقبل إجاباته والانتفاع بها.
(2) - الإقناع العقلي
__________
(1) سورة المائدة: آية: 90،91.
(2) سورة البقرة: آية: 222.(42/69)
وقد تميزت الإجابات العقلية بالإقناع، فهي مقنعة للعقل في مخاطبتها إياه، ولا تجد العقول السليمة غضاضة في قبولها والتسليم بها. فالعاقل يسلم بضرورة الإقلاع عن تعاطي الخمر لكثرة مضارها وقلة منافعها، وهو كذلك يأبى القيام بما يضر بصحته، كإتيان الحائض، كما أن العقلاء يبتعدون دائماً عن الخبائث التي ترفضها فطرهم السليمة وتأباها عقولهم الرشيدة.
وهكذا ينبغي للمعلم أن يستفيد من هذه الميزة وذلك بأن يبني إجاباته على أسئلة المتعلمين على أساس من الإقناع العقلي، فيجتهد في تقديم إجابات تكون مقنعة للمتعلمين، تحظى بقبولهم إياها وانتفاعهم بها.
(3) - التوجيه إلى التعامل مع الأمور في ضوء ما يغلب عليها من الخير والشر
فإن كان جانب الخير هو الغالب عليها أخذ بها وإلا طرحت وتركت، لأن الأخذ بها عند غلبة الشر عليها يكون فيه الوبال والخراب والدمار الذي يعم الفرد والمجتمع ويهلك الحرث والنسل. وهكذا كان التوجيه القرآني بصدد ما كان يتعاطاه العرب قبل الإسلام معتقدين النفع فيه، كتعاطي الخمر والميسر، والاحتكام إلى الأزلام (1) ، وعبادة الأصنام، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) .
__________
(1) الأزلام: هي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها.
(2) سورة البقرة: آية: 219.
(3) سورة المائدة: آية: 90،91.(42/70)
قال الحافظ ابن كثير في تفسير آية السؤال عن الخمر والميسر: "أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث أن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيد بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها ... وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وكان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين".
وهكذا ينبغي أن يحرص المربي المسلم على غرس هذا المبدأ وغيره من المبادئ الإسلامية في نفوس المتعلمين وذلك من أجل تكوين منهج صالح يسير النشء والشباب المسلم في ضوئه ويستظلون بظلاله الوارفة.
(4) - اغتنام الفرصة للتوجيه والإصلاح
فالقرآن الكريم لم يدع فرصة السؤال عن الأهلّة تذهب دون الاستفادة منها بل رأى فيها فرصة مناسبة للتوجيه نحو السلوك الصحيح ومجانبة السلوك غير السوي. فسلامة الفطرة واستقامة الخلق وصحة العقيدة تقضي بأن تؤتى الأمور من مآتيها الصحيحة فذلك أجدر أن يؤدي إلى الخير والنفع، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) . قال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: "كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره". فالقرآن الكريم قد اغتنم الفرصة ووجه أولئك الأقوام إلى السلوك السوي الذي ينبغي أن يسلك، وهكذا ينبغي للمربي أن يغتنم الفرص المناسبة لتوجيه المتعلمين نحو الفضائل وتنفيرهم من الرذائل، لعل ذلك أن يطبع نفوسهم بالخصال الحميدة ويقيهم الخلال المذمومة.
__________
(1) سورة البقرة: آية: 189.(42/71)
(5) - التوجيه إلى عدم استعظام خطأ في وقت يرتكب فيه خطأ أكبر
فعندما سأل المشركون عن الشهر الحرام وحرمة القتال فيه بين لهم القرآن الكريم صحة ما ذهبوا إليه، ولكنه أوضح لهم - في الوقت ذاته - أن هناك أمراً هو أعظم بكثير من الأمر الذي سألوا عنه وهو التعدي على حرمة المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وفتنتهم بالإخراج والرد إلى الكفر هو أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} (1) .
وهكذا فإنه ينبغي للمتعلم ألا يناقش في مسألة ما في وقت يقع فيه في خطأ هو أعظم من الخطأ الذي يناقش بخصوصه.
(6) - مراعاة مصلحة الفرد والمجتمع
وقد تميزت الإجابات القرآنية بمراعاة المصلحة الفردية والاجتماعية وهذا واضح في كافة الإجابات القرآنية، وعلى سبيل المثال فإن الانتهاء عن الخمر والميسر فيه مصالح كثيرة للناس بما يقيهم من ويلات وآلام وخراب فردي واجتماعي ينتج عن تعاطي الخمر والميسر، وعدم التعدي على حقوق اليتامى يعود بالخير على اليتامى الذي هم فئة من فئات المجتمع، وعلى المجتمع أيضاً، لأن رفع الظلم وإقامة العدل من أسباب الرخاء والنهوض الاجتماعي، بينما يؤدي الظلم وهضم الحقوق إلى التقهقر والتخلف الاجتماعي.
(7) - التوجيه إلى أعمال البر والإصلاح
والتوجيه نحو هذه الأمور ملحوظ في الإجابات القرآنية:
__________
(1) سورة البقرة: آية: 217.(42/72)
(أ) - فعندما كان السؤال عن الكيفية التي تنفق بها الأموال، كان التوجيه القرآني الحكيم بأن تنفق فيما يحفظ الصلات ويدعم الروابط والعلاقات ويقي مئونة الحاجة، فتنفق على الوالدين والأقربين والمساكين ونحوهم من أهل الحاجات، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (1) .
(ب) - وتتكرر الإجابة بالأمر بالإصلاح عند السؤال عن اليتامى، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (2) .
(8) - التوجيه إلى عدم تبديد الطاقة العقلية
ومن خصائص الإجابات القرآنية المحافظة على الطاقات العقلية وعدم تبديدها فيما لا طائل وراءه، فالله عز وجل قد وهب الإنسان هذه الطاقة ليستخدمها فيما ينفعه في دينه ودنياه ويبتعد بها عما لا يجديه نفعاً أو يجلب التخريب والدمار.
(أ) - ومما فيه تبديد للطاقة العقلية أن يسأل عن أمور لا يستطيع العقل إدراكها وفهمها، لأنها أكبر من قدراته مهما بلغت، وأعظم من أن يصل إليها بعلومه ومعارفه، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (3) .
__________
(1) سورة البقرة: آية: 215.
(2) سورة البقرة: آية: 220.
(3) سورة الإسراء: آية: 85.(42/73)
(ب) - كما أن السؤال عن الساعة لا يجدي الإنسان شيئاً وخير من السؤال عنها الاستعداد لها بالعمل الصالح، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (1) وفي ضوء هذا المنهج الحكيم يتعامل المعلم مع أسئلة التلاميذ فيجيب على ما فيه نفعهم ومصلحتهم ويدع ما عدا ذلك.
(9) - التوسع في الإجابة أو الإنقاص منها وفق مقتضى الحال
والأصل في الإجابة على الأسئلة - في القرآن الكريم والدراسات التربوية الحديثة - أن يكون الجواب على قدر السؤال. إلا أن المنهج التربوي القرآني قد فاق تلك الدراسات، وذلك بالتوجيه إلى أنه ليس من الضروري التطابق بين السؤال والجواب، وإنما يترك ذلك لمقتضى الحال، وبذلك جاءت بعض الإجابات على قدر السؤال، كما هو حال كثير من الإجابات التي تناولناها في هذا البحث، بينما جاءت بعض الإجابات أعم من أسئلتها، كما في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} (2) في جواب: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (3) كما جاءت بعض الإجابات أنقص من أسئلتها، كما في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} (4) في جواب: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} وذلك لأن التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكانه فالاختراع أولى.
__________
(1) سورة النازعات: آية: 4245.
(2) سورة الأنعام: آية: 64.
(3) سورة الأنعام: آية: 63.
(4) سورة يونس: آية: 15.(42/74)
ومما تميزت به الإجابات القرآنية أنه قد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيهاً على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك، وهو المسمى بأسلوب الحكيم، ويمثل له بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) فأجيبوا ببيان حكمة ذلك تنبيهاً على أن الأهم السؤال عن ذلك لا عما سألوا عنه.
ولعل هذا التنوع في الإجابة على الأسئلة يكسب المعلم حنكة ومقدرة في التعامل مع أسئلة التلاميذ والإجابة على كل سؤال منها بالطريقة المناسبة.
الخاتمة
اتضح فيما سبق من هذا البحث أهمية السؤال ومكانته التعليمية والتربوية، كما اتضحت عناية الإسلام بالسؤال والمنهج التربوي المتكامل الذي أرشد إليه لاستخدام السؤال والانتفاع به، ولعل أهم النتائج التي توصل إليها الباحث في هذا البحث ما يلي:
1- إعلاء الإسلام من شأن السؤال، وعناية نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم به وتشجيع أصحابه عليه.
2- إن السؤال قد احتل مكانة بارزة في القرآن الكريم واتضاح هذه المكانة من تشجيع القرآن على السؤال وترغيب المتعلمين فيه، كما أبرز القرآن الكريم أهمية السؤال ومكانته التعليمية والتربوية من خلال الأحداث التي حفلت بها قصة موسى والخضر عليهما السلام.
3- إن الأسئلة القرآنية قد تميزت بخصائص ومميزات شملت مختلف جوانب شخصية المتعلم ولا سيما الجانب الإيماني منها، كما عنيت بربط المتعلم بواقعه ومشكلاته.
4- تميزت الإجابات القرآنية بالشمول واهتمامها بحاجات المتعلم، كما تميزت باتصالها بواقعه، وعملها على تنمية شخصيته وإصلاحها.
5- عناية العلماء والمربين المسلمين بالسؤال على امتداد التاريخ الإسلامي وتأكيدهم على أهميته ودوره الأساسي في التعليم.
__________
(1) سورة البقرة: آية: 189.(42/75)
6- أهمية السؤال ودوره الهام والأساسي في كثير من الأنشطة التعليمية والتربوية وحاجة المتعلم والمعلم الضرورية إليه، وأنه جزء لا يتجزأ من الدرس والطريقة والتقويم.
7- إن نجاح السؤال في تحقيق الأهداف المنوط به مرتهن بالآداب التي أرشد إليها القرآن الكريم ووجه المتعلمين والمعلمين إلى التحلي بها والمحافظة عليها.
8- إن نجاح التربية بالسؤال لا يتوقف على المتعلم فحسب إذ المعلم هو كذلك طرف أساسي في تحقيق ذلك النجاح، وذلك باتباع الإرشادات والتوجيهات التي أسداها القرآن للمعلم فيما يتعلق بالأسئلة والإجابات المتعلقة به وبالمتعلمين.
وفي ضوء هذه النتائج، فإن الباحث يوصي بما يلي:
1- الاهتمام بالسؤال وإعطائه الاهتمام الذي يستحقه، ولا سيما في ضوء ما ثبت في هذا البحث من أهمية السؤال ودوره الكبير والفاعل في التربية والتعليم.
2- التأكيد على الدور والمكانة البارزة التي أولاها الإسلام السؤال، والتي تتضح من الرجوع إلى الكتاب والسنة وآراء العلماء والمربين المسلمين.
3- اتخاذ الطرق والأساليب الكفيلة بتمسك المتعلمين والمعلمين بآداب السؤال والجواب والتي يتم في ضوئها تحقيق الأهداف والنتائج التي تنشدها التربية الإسلامية.
4- إجراء المزيد من الدراسات التربوية الإسلامية فيما يتعلق بالسؤال وبغيره من الجوانب والموضوعات التعليمية والتربوية، والعمل على الانتفاع بنتائج هذه الدراسات في إرساء دعائم المنهج التربوي الإسلامي داخل المؤسسات التعليمية والتربوية الإسلامية.
5- الرجوع الدائم والمستمر إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتدبر ما فيهما، واستنباط منهجنا التربوي والتعليمي منهما، والبحث من خلالهما عن علاج جميع مشكلاتنا.
وبعد؛ فهذا ما يسر الله لي الوصول إليه في هذا البحث، أسأله سبحانه أن يتقبله مني وأن يجعله خالصاً لوجهه، وأن يجعل فيه النفع والفائدة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(42/76)
فهرس المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- د. إبراهيم عباس نتو:
أفكار تربوية: جدة: تهامة: الطبعة الأولى: 1401هـ-1981م.
3- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني:
فتح الباري بشرح صحيح البخاري: تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز: بيروت: دار المعرفة.
4- أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني:
المسند: بيروت: المكتب الإسلامي: الطبعة الرابعة: 1403هـ- 1983م.
5- إسماعيل بن عمر بن كثير:
تفسير القرآن العظيم: دار المعرفة: بيروت: الطبعة الأولى: 1406هـ-1986م.
6- د. جودت الركابي:
طرق تدريس اللغة العربية: دمشق: دار الفكر: الطبعة الثانية: 1406هـ-1986م.
7- د. حامد بن عبد السلام زهران:
علم نفس النمو: القاهرة: عالم الكتب: الطبعة الرابعة: 1977م.
8- حسين عبد الله بانبيلة:
ابن خلدون وتراثه التربوي: بيروت: دار الكتاب العربي: الطبعة الأولى: 1404هـ- 1984م.
9- سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي:
سنن أبي داود: إعداد وتعليق: عزت عبيد الدعاس، عادل السيد: بيروت: دار الحديث الطبعة الأولى: 138هـ- 1969م.
10- د. عبد الحميد الصيد الزنتاني:
أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية: ليبيا - تونس: الدار العربية للكتاب: 1984م.
11- د. عبد الحميد الهاشمي:
الرسول العربي المربي: دمشق: دار الثقافة للجميع: الطبعة الأولى: 1401هـ- 1981م.
12- د. عبد الرحمن صالح عبد الله:
التربية العملية أهدافها ومبادئها: عمان: دار العدوي: الطبعة الأولى: 1406هـ- 1986م.
13- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون:
مقدمة ابن خلدون: بيروت: دار القلم: الطبعة السادسة: 1406هـ-1986م.
14- عبد الرحمن بن ناصر السعدي:
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: مكة المكرمة: مؤسسة مكة للطباعة والإعلام: 1398هـ.
15- عبد الرحمن النحلاوي:
أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع: دمشق: دار الفكر: الطبعة الأولى: 1399هـ- 1979م.
16- عبد العليم إبراهيم:(42/77)
الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية: القاهرة: دار المعارف: الطبعة الثالثة عشرة.
17- عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي:
سنن الدارمي: استانبول: دار الدعوة: 1401هـ- 1981م.
18- عبد الله عبد المجيد بغدادي:
الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية: جدة: دار الشروق: الطبعة الأولى: 1402هـ- 1982م.
19- د. ماجد عرسان الكيلاني:
تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية: دمشق - بيروت: دار ابن كثير: الطبعة الثالثة.
20- د. محب الدين أحمد أبو صالح:
أساسيات في طرق التدريس العامة: الرياض: دار الهدى للنشر والتوزيع: الطبعة الثانية: 1412هـ- 1991م.
21- محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني:
تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم: بيروت: دار الكتب العلمية.
22- محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية:
العلم فضله وشرفه: تحقيق: علي بن حسن الحلبي الأثري: الرياض: مجموعة التحف والنفائس الدولية: الطبعة الأولى: 1416هـ-1996م.
23- محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي:
الجامع لأحكام القرآن: بيروت: دار الشآم للتراث: الطبعة الثانية.
24- محمد أحمد عبد الهادي:
المربي والتربية الإسلامية: جدة: دار البيان العربي: الطبعة الأولى: 1404هـ- 1984م.
25- محمد بن جرير الطبري:
جامع البيان عن تأويل آي القرآن: بيروت: دار الفكر: 1405هـ- 1984م.
26- محمد صالح سمك:
فن التدريس للتربية اللغوية: القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية: 1979م.
27- د. محمد عبد العليم مرسي:
المعلم المناهج وطرق التدريس: الرياض: دار الإبداع الثقافي: الطبعة الثانية: 1415هـ- 1995م.
28- د. محمد علي البار:
هل هناك طب نبوي: جدة: الدار السعودية: الطبعة: الأولى: 1409هـ- 1988م
29- محمد بن علي الشوكاني:
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: عالم الكتب.
30- محمد بن عمر الرازي:
تفسير الفخر الرازي: بيروت: دار الفكر: الطبعة الثالثة: 1405هـ- 1985م.(42/78)
31- محمد بن محمد العمادي:
تفسير أبي السعود: بيروت: دار إحياء التراث العربي.
32- مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري:
صحيح مسلم: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: بيروت: دار إحياء التراث العربي.
33- مناع خليل القطان:
مباحث في علوم القرآن: الرياض: مكتبة المعارف: الطبعة الثامنة: 1401هـ- 1981م.
34- يحيى بن شرف النووي:
صحيح مسلم بشرح النووي: بيروت: دار الكتب العلمية.
35- د. يوسف القرضاوي:
العقل والعلم في القرآن الكريم: القاهرة: مكتبة وهبة: الطبعة الأولى: 1416هـ-1996م.(42/79)
الأسفار المقدسة عند اليهود
وأثرها في انحرافهم
عرض ونقد
تأليف
د. محمود عبد الرحمن قدح
عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه دراسة موجزة عن موضوع (الأسفار المقدسة عند اليهود - عرض ونقد - وأثرها في انحرافهم) سرت فيها على خطى علمائنا المتقدمين- الذين قاموا بهدي من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ببيان مواطن التحريف والتبديل في كتب أهل الكتاب - إقامة للحجة وإلزاماً للبينة ومجادلة بالتي هي أحسن - ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة - وتحذيراً لإخواننا المسلمين من كيد أعدائنا. قال تعالى: {لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُواْ..} (1) ، لأن اليهود أعداء الحق والفضيلة والخير منذ ظهورهم قال تعالى: {لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُون كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (2) .
واليهود أعداؤنا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فحينما بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سارع اليهود إلى تكذيبه وإنكار رسالته مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل قالوا لقريش عبدة الأصنام بأنهم أهدى سبيلاً من محمد صلى الله عليه وسلم، وحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم بشتى الوسائل بالشبهات والشكوك والكيد والنفاق، والاغتيال والقتال والسحر والسم.
وهم أعداؤنا حاضراً باحتلالهم أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثالث المساجد التي تشد الرِّحال إليها وقتلهم المسلمين وتشريدهم واحتلالهم ديارنا.
__________
(1) سورة المائدة، آية 82.
(2) سورة المائدة، آية 78-79.(42/80)
وأعداؤنا مستقبلاً فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسيح الدجال سيتبعه عند خروجه سبعون ألفاً من يهود أصبهان، فهم جند الدجال وأعوانه، كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنه: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر -وراءه يهودي-: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله".
وهم أعداء السلام وأصحاب الفتن والخصام قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِين َ} .
وقد بينت في هذه الدراسة بعض الأسس والمرتكزات الدينية التي ينطلق منها اليهود في فسادهم وعداوتهم الفضيلة والناس جميعاً، وبذلك تتضح الرؤية في التعامل معهم والحذر والتحذير منهم.
وقسمت الدراسة إلى ثلاثة مباحث كالآتي:
- المبحث الأول: الإيمان بالكتب الإلهية.
- المبحث الثاني: الأسفار المقدسة عند اليهود عرض ونقد.
- المبحث الثالث: أثر الأسفار المقدسة في انحراف اليهود.
وبالله التوفيق والسداد
وكتبه
د. محمود بن عبد الرحمن قدح
المبحث الأول
الإيمان بالكتب الإلهية
إن من حكمة الله عز وجل ورحمته بعباده أن بعث أنبياء ورسلاً لهدايتهم ودعوتهم إلى الخير، وإقامة حجته على خلقه، وأنزل عليهم كتباً ليبيّنوا للناس ما أنزل إليهم من الهدى والنور، وما تتضمنه من أحكام الله عز وجل العادلة، ووصاياه النافعة، وأوامره ونواهيه الكفيلة بإصلاح البشرية وإسعادها في الدنيا والآخرة.(42/81)
وتمهيداً لموضوع دراستنا (الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم - عرض ونقد) ، فإنه يجدر بنا أن ندرس بإيجاز ثلاث مسائل مهمة لنتبين موقف الإسلام من الكتب الإلهية، وهي:
1 - الإيمان بالكتب السماوية.
2 - وقوع التحريف والتبديل في الكتب السماوية السابقة على القرآن الكريم.
3 - حكم قراءة المسلم في التوراة والأناجيل المحرّفة.
المطلب الأول: الإيمان بالكتب الإلهية السماوية
إن من أركان الإيمان الستة الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل على أنبيائه ورسله، وبأنها حق وصدق وهدى ونور وبيان وشفاء ورحمة للخلق وهداية لهم ليصلوا بها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة.
والإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الكريم الذي نُزّل على محمد صلى الله عليه وسلم والإنجيل الذي نُزّل على عيسى صلى الله عليه وسلم، والزّبور الذي نُزّل على داود صلى الله عليه وسلم، والتوراة التي أنزلت على موسى صلى الله عليه وسلم، وصحف إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
والإيمان بأن لله كتبا أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله، قال عز وجل: {كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ليَحْكُمَ بَينَ النّاسِ فِيما اختَلَفُوا فِيهِ وَما اخْتَلَفَ فيه إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُم فَهَدَى الله الَّذِينَءَامَنُوا لمِا اختَلَفُوا فِيهِ مِن الحَقِّ بإذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) .
وأما كيفية إيماننا بالكتب السماوية، فإنا نؤمن بالكتب السماوية السابقة إيماناً مجملاً، يكون بالإقرار بها بالقلب واللسان، وأن منها ما فُقد واندثر، ومنها ما حُرِّف وغُيِّر، وأنها منسوخة بالقرآن الكريم.
__________
(1) سورة البقرة، آية 213.(42/82)
وأم االقرآن الكريم فنؤمن به إيماناً مفصلاً، يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، وإتباع ما جاء فيه، وتحكيمه في كل كبيرة وصغيرة، وأن الله تعالى قد تكفَّل بحفظه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه كلام الله منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه ناسخ لما قبله من الكتب السماوية، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... } (1) ، أي حاكماً عليه، وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السماوية إلاَّ ما أقره منها القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
المطلب الثاني: وقوع التحريف في الكتب السماوية السابقة على القرآن الكريم.
__________
(1) سورة المائدة، آية 48.(42/83)
لقد تضافرت الأدلة والبراهين على تحريف أهل الكتاب للتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب المتقدمة، والآيات القرآنية كثيرة في ذلك منها: قوله تعالى: { ... قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىَ نُوراً وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ... } (1) ، وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الّذِينَ قَالُواْ إِنّا نَصَارَىَ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ} (2) .
وقد أجمع المسلمون على وقوع التحريف في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السابقة، إما عمداً وإما خطأً في ترجمتها أو في تفسيرها أو تأويلها، إلا أن علماء المسلمين قد اختلفوا في مقدار التحريف فيها:
فقال بعضهم: إن كثيراً مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله.
ومنهم من قال: بل ذلك قليل.
وقال بعضهم: لم يحرف أحد شيئاً من حروف الكتب وإنما حرفوا معانيها بالتأويل.
وقال بعضهم: كانت توجد نسخ صحيحة للتوراة والإنجيل بقيت إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخ كثيرة محرفة.
وقال الجمهور: بأنه بُدِّل بعض ألفاظها وحُرِّف.
__________
(1) سورة الأنعام، آية 91.
(2) سورة المائدة، آية 13-15.(42/84)
والذي أراه - والله أعلم - أن تحريفاً كثيراً قد وقع في كتبهم إلا أنه لا تزال فيها بقايا من الوحي الإلهي وهي كثيرة أيضاً، ولا سبيل لمعرفتها إلا بموافقتها لما في القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
وأما أنواع التحريف في كتبهم فهو: تحريف بالتبديل، وتحريف بالزيادة، وتحريف بالنقصان، وتحريف بتغيير المعنى دون اللفظ، والشواهد على ذلك كثيرة.
وإلى جانب التحريف فإن هناك وسائل أخرى ذكرها القرآن الكريم لا تقل خطورة في تأثيرها عن التحريف والتبديل، ومن هذه الوسائل ما يلي:
1- الإخفاء: قال تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ... } (1) ، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءكُمْ مّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ} (2) .
2- الكتمان: قال تعالى: {الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنّ فَرِيقاً مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (3) .
3- إلباس الحق بالباطل: قال تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الأنعام، آية 91.
(2) سورة المائدة، آية 15.
(3) سورة آل عمران، آية 187.
(4) سورة البقرة، آية 42.(42/85)
4- الكذب والتكذيب: قال تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} ، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ..} .
5- لوي الألسنة بالكتاب: قال تعالى: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون} (1) .
6- التعطيل: المقصود به تعطيل أحكام التوراة والإنجيل وعدم إقامتها والعمل بها. قال تعالى: {وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمّةٌ مّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىَ شَيْءٍ حَتّىَ تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ…} (2) . وقال تعالى: {مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُواْ التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} .
7- الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر: قال تعالى: { ... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ... } (3) .
__________
(1) سورة آل عمران، آية 78.
(2) سورة المائدة، آية 68.
(3) سورة البقرة، آية 85.(42/86)
8- الإهمال: قال تعالى: {وَلَما جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (1) .
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاشْتَرَوْا بِهِ ثمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} .
9- الظن: قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ} .
10- النسيان: قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ ... } (2) .
11- التزوير: قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ للذِينَ يَكْتُبُون الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ} (3) .
وتوضح هذه الوسائل مجتمعة الطرق التي تحوّلت بها التوراة والإنجيل وغيرها من كتب إلهية سماوية إلى كتب بشرية خطها رجال الدين من اليهود والنصارى بأيديهم.
المطلب الثالث: حكم قراءة المسلم في التوراة والأناجيل المحرفة وما شابهها.
بعد أن علمنا من المطلبين السابقين أن الكتب السماوية السابقة قد حرّفت وبُدّلت ونُسخت بالقرآن الكريم، فإن سؤالاً مهماً يتبادر إلى الذهن هو: ما حكم إطلاع المسلم وقراءته الكتب المقدسة عند أهل الكتاب؟
__________
(1) سورة البقرة، آية 101.
(2) سورة المائدة، آية 13.
(3) سورة البقرة، آية 79.(42/87)
وبالرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بهذه المسألة نجد أدلة ظاهرها التعارض، فبعضها يفيد الجواز والآخر يفيد المنع، وسأبدأ بأدلة المنع ثم أدلة الجواز ثم أبين ما يترجح منها مستعيناً بالله عز وجل.
- أما أدلة المنع من قراءة كتب أهل الكتاب فهي:
- عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال: "أمتهوكون (1) فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني" (2) .
__________
(1) التَّهوك كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير رويّة، وقيل: التحيّر.
انظر: النهاية في غريب الحديث 5/282 لابن الأثير.
(2) أخرجه الإمام احمد 3/387 والدارمي 1/115، وابن أبي شيبة ح26421، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/42، والبزار وأبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان. قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/334: "رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفاً". وبمثله قاله الهيثمي في المجمع 1/179.
قال الشيخ الألباني: وفيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف، ولكن الحديث حسن عندي لأنه له طرقاً كثيرة عند اللالكائي والهروي وغيرهما. (انظر: المشكاة ح177، والإرواء 6/34 ح1589)(42/88)
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} (1) الآية" (2)
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحْدَثُ الأخبار بالله تقرؤنه لم يُشبْ؟! وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدَّلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} (3) ، أفلا ينهاكم بما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قطُّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لا تسألوا أهل الكتاب، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل".
- وأما أدلة جواز الإطلاع على كتب أهل الكتاب فمنها:
قال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْجَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْترين (4) } (5) .
__________
(1) سورة البقرة: 126.
(2) أخرجه البخاري (انظر: فتح 5/291، 8/170) ، والبيهقي في السنن الكبرى 10/) 163.
(3) سورة البقرة، آية 79.
(4) المراد من قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} على سبيل الفرض والتقدير، إذ الشك لا يتصور منه صلى الله عليه وسلم أبداً لعصمته، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أشك ولا أسأل"، كذا قاله ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير والحسن البصري. (انظر: تفسير ابن كثير 2/448) .
(5) سورة يونس، آية 94.(42/89)
وقال تعالى: {وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىَ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} .
قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} .
- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عَلَيَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". والتحديث عن بني إسرائيل يقتضي النظر في كتبهم.
- وعن عطاء بن يسار قال: "لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ... الخ" (1) .
- وورد أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدِّث منهما.
وإزاء هذه النصوص التي ظاهرها التعارض بين النهي والجواز في النظر في كتب أهل الكتاب، فقد ذكر العلماء أقوالاً في الترجيح والجمع بين تلك النصوص:
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ... " أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم لأنه كان تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.
__________
(1) رواه البخاري (انظر: فتح الباري 4/343) ، وأحمد 2/174.(42/90)
وقال بعضهم: إن الأمر بالإباحة والجواز ليس على إطلاقه، فإن جاء ما في كتبهم موافقاً لما في شرعنا صدّقناه وجازت روايته، وما جاء مخالفاً لما في شرعنا كذّبناه وحرمت روايته إلا لبيان بطلانه، وما سكت عنه شرعنا توقفنا فيه فلا نحكم عليه بصدق ولا بكذب وتجوز روايته، وتذكر للاستشهاد لا للاعتقاد.
والأولى في هذه المسألة الجمع بين النصوص المتعارضة، لأن فيه العمل بالنصوص كلها، أما القول بالنسخ ففيه الأخذ ببعض النصوص وترك لبعضها، وطريقة الجمع بينها تكون بالتفصيل في المسألة على النحو الآتي:
1- حكم المقروء من كتب أهل الكتاب.
2- حال القارئ لها.
3- قصد القارئ ونيته من القراءة فيها.
1- فأما بالنسبة لحكم المقروء منها فإنه على ثلاثة أنواع:
أ - نوع يجوز تصديقه وروايته، وهو ما جاء في كتبهم موافقاً لما في شرعنا.
ب - ونوع يحرم روايته إلا بشرط تكذيبه وبيان بطلانه، وهو ما جاء في كتبهم مخالفاً لما في شرعنا.
ج - ونوع يتوقف فيه، لا يحكم عليه بصدق ولا بكذب وتجوز روايته وتذكر للاستشهاد لا للإعتقاد، وهوما سكت عنه شرعنا.
2- وأما حال القارئ لكتبهم فإنه يجوز لأهل العلم من الراسخين في الإيمان والعلم وعلى هذا الصنف من الناس نحمل نصوص الجواز والإباحة في قراءة كتب أهل الكتاب، ولا يجوز لمن لم يكن من الصنف الأول كالعامي الغرِّ والشاب الغمر من الناس ومن في حكمهم فهؤلاء تحمل عليهم نصوص المنع وعدم الجواز.
3- وأما بالنسبة لقصد القارئ ونيته ممن يجوز لهم القراءة، فإنه لا يجوز للقارئ إذا كان النظر فيها على وجه التعظيم والتفخيم لها، أو إذا كان يتشاغل بذلك دون غيرها مما هو مطلوب من علوم الشرع.(42/91)
وأما إذا كان قصد القارئ معرفة ما في كتبهم من الشر لتوقيه وتحذير الناس منه، أو الرد على المخالف وإلزام اليهود والنصارى بطلان دينهم وتحريف كتبهم ونسخ شريعتهم والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرج من البشارات في كتبهم، فهذا جائز يدل عليه النصوص الشرعية وفعل الأئمة كابن حزم وابن تيمية وابن القيم وغيرهم في النقل من كتب أهل الكتاب، ولولا اعتقاد الأئمة جواز النظر فيها لما فعلوه وتواردوا عليه.
وذلك القصد داخل ضمن ما أمرنا به الله عز وجل في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بمِنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} (1) . وقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} .
والمجادلة المحمودة التي أمرنا بها هي التي تكون عن علم وبصيرة وهدي وذلك يقتضي النظر في كتبهم لإلزامهم الحجة وإقامة البينة عليهم والله أعلى وأعلم.
__________
(1) سورة النحل، آية 125.(42/92)
تابع الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم
المبحث الثاني: الأسفار المقدسة عند اليهود - عرض ونقد
المطلب الأول: التعريف بالأسفار المقدسة عند اليهود.
إن الكتب المقدسة عند اليهود تنقسم على وجه الإجمال إلى قسمين هما:
الأول: التوراة وما يتبعها من أسفار الأنبياء المقدسة عند اليهود، وهذا القسم يسميه اليهود بعدة أسماء منها:
1- أهمها وأشهرها (التناخ) ويكتبونها بالعبرية (ت، ن،ك) وهي حروف اختصار من الألفاظ (توراة) ، نبوئيم (الأنبياء) ، كتوبيم (الكتب) وهي الأجزاء الثلاثة الكبيرة التي يتألف منها العهد القديم كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
2- (المقرا) ومعناه: النص المقروء، لأنهم مطالبون بقراءته في عباداتهم والرجوع إلى الأحكام الشرعية فيها التي تنظم حياتهم.
3- (المِسُورَه) أو (المِسُورِتْ) وهو عندهم صفة علمية خاصة، يعنون بذلك النص المقدس المروي عن الأسلاف رواية متواترة - على حد زعمهم - ارتضتها أجيال العلماء ورفضت ما عداها [1] .
الثاني: التلمود: الذي يعتبره اليهود مصدراً من مصادر التشريع اليهودي ومن أسفارهم المقدسة لديهم، ويتكون من جزئين أحدهما يسمى المِشْنا أو المشْنَة، والثاني الجمارا أو الجمارة.
وهناك أسفار أخرى كثيرة عند اليهود لم تدخل ضمن الأسفار القانونية التي يتكوّن منها كتاب اليهود المقدس، وإن كانوا يحيطون تلك الأسفار الغير معترف بها -ويسمونها بـ (الكتب غير القانونية) أو (الأبوكريفا) - بكثير من العناية والاهتمام ويجعلونها استمراراً لتاريخهم.
وسوف نبدأ الحديث - إن شاء الله تعالى - بشيء من التفصيل عن القسم الأول عرضاً ونقداً ثم نتلوه بالقسم الثاني.
فأما القسم الأول: فإنه يندرج تحت ما يسمّى بـ (الكتاب المقدس) The Bible الذي يبذل النصارى جهوداً جبارة وخبيثة في سبيل ترجمته بمختلف اللغات واللهجات ونشره وتوزيعه في جميع أنحاء العالم.(42/93)
وهذا الكتاب المزعوم بأنه مقدس ينقسم إلى قسمين رئيسين هما:
الأول: يسمى (العهد القديم [2] أو العتيق) Old Testament ويحتوي على الأسفار المنسوبة إلى موسى والأنبياء من بعده الذين كانوا قبل عيسى عليهم الصلاة والسلام.
الثاني: يسمى (العهد الجديد) New Testament ويحتوي على الأناجيل وما يتبعها من الأسفار المنسوبة إلى الحواريين وتلامذتهم.
وهذا التقسيم والتسمية من النصارى الذين يقدسون العهد القديم والجديد، ومجموعهما هو الكتاب المقدس عندهم، ويعتقدونه وحياً كُتب بإلهام من الروح القدس لمؤلفيها.
أما اليهود فإنهم لا يقدسون إلا العهد القديم فقط، وهو الكتاب المقدس عندهم، ولا يعترفون بالعهد الجديد ويكفرون به لكفرهم بالمسيح عليه الصلاة والسلام وقولهم بأنهم قتلوه وصلبوه، لذلك سوف تتركز دراستنا في هذا البحث على العهد القديم أو ما يسميه اليهود بـ (التناخ، أو المقرا، أو المسورت) ويشتمل على ستة وثلاثين سفراً يقسمه اليهود باعتبار محتوياته إلى ثلاثة أقسام رئيسة.
ومما يجدر التنبيه إليه أن اليهود والنصارى قد وضعوا مصطلحات خاصة بكتبهم المقدسة لديهم ليسهل عليهم الوقوف والرجوع إلى نصوصها، ومن تلك المصطلحات:
السفر: ويعني (الكتاب أو الباب) ، وجمعه أسفار، وله عنوان أو مسمى، فيقال مثلاً: سفر التكوين، سفر أرميا ونحوه.
الإصحاح: ويعني (الفَصْل) ، حيث إن السفر يشتمل على عدّة إصحاحات، ولكل إصحاح رقم، فيقال مثلاً: الإصحاح الأول، الإصحاح الثاني، وهكذا. وقد يرمز للإصحاح بالرمز (صح) .
الفقرة: وتعني (العبارة أو النص) ، فالإصحاح الواحد يحتوي على عدة فقرات أو نصوص مرقّمة.
كما تختصر تلك المصطلحات في عدة رموز، مثاله:
(تك 7/21-35) ، ومعناه سفر التكوين، الإصحاح السابع، الفقرات من الفقرة الحادية والعشرين إلى الفقرة الخامسة والثلاثين.
تقسيم اليهود لأسفارهم المقدسة (العهد القديم) [3]
بحسب محتوياته(42/94)
(1) التوراة: ويشتمل على خمسة أسفار هي:
1- سفر التكوين (50 إصحاحاً)
2- سفر الخروج (40 إصحاحاً)
3- سفر اللاويين (27 إصحاحاً)
4- العدد (36 إصحاحاً)
5- التثنية (34 إصحاحاً)
(2) أسفار الأنبياء
أسفار الأنبياء الأول (المتقدمين) وهي:
1- سفر يشوع (يوشع بن نون) (24 إصحاحاً)
2- سفر القضاة (21 إصحاحاً)
3- سفر صموئيل الأول (31 إصحاحاً)
سفر صموئيل الثاني (24 إصحاحاً)
4- سفر الملوك الأول (22 إصحاحاً)
سفر الملوك الثاني (25 إصحاحاً)
أسفار الأنبياء الأُخر (المتأخرون) وهي:
1- سفر أشعيا (66 إصحاحاً)
2- سفر ارميا (52 إصحاحاً)
3- سفر حزقيال (48 إصحاحاً)
4- أسفار الأنبياء الصغار أو الاثني عشر نبياً وهي:
1/ سفر هوشع (14إصحاحاً)
2/سفر يوئيل (3 إصحاحات)
3/ سفر عاموس (9إصحاحات)
4/ سفر عوبديا (إصحاح واحد)
5/ سفر يونان (4 إصحاحات)
6/ سفر ميخا (7 إصحاحات)
7/ سفر ناحوم (3 إصحاحات)
8/ سفر حبقوق (3 إصحاحات)
9/ سفر صفنيا (3 إصحاحات)
10/ سفر حجاي (إصحاحان)
11/سفر زكريا (14 إصحاحاً)
12/ سفر ملاخي (4 إصحاحات)
(3) الكتب (كتب الحكمة) : وتشتمل على الأسفار الآتية:
1- مزامير داود (150 مزموراً)
2- أمثال سليمان (31 إصحاحاً)
3- سفر أيوب (42 إصحاحاً)
4- نشيد الأناشيد (8 إصحاحات)
5- سفر روث (راعوث) (4 إصحاحات)
6- مراثي أرميا (5 إصحاحات)
7- سفر الجامعة (12 إصحاحاً)
8- سفر إستير (10 إصحاحات)
9- سفر دانيال (12 إصحاحاً)
10- سفر عزرا (10 إصحاحات)
11- سفر نحميا (13 إصحاحاً)
12- سفر أخبار الأيام، وينقسم إلى قسمين:
أخبار الأيام الأول (29 إصحاحاً) ، أخبار الأيام الثاني (36 إصحاحاً)
المطلب الثاني: عرض موجز لمحتويات الأسفار:
القسم الأول: التوراة: في اللغة: كلمة عبرانية بمعنى الشريعة والتعليم، وتسمى بكتب موسى أو الأسفار الخمسة أو الناموس (ومعناه القانون) أو البنتاتيك Pentateuch (وهي كلمة يونانية تعني الأسفار الخمسة) [4] .(42/95)
وأما في اصطلاح اليهود والنصارى: فالتوراة هي الأسفار الخمسة (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية) التي كتبها موسى عليه الصلاة والسلام.
وأما في اصطلاح المسلمين: فالتوراة [5] هي الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على رسوله موسى عليه الصلاة والسلام فيه الهدى والنور للناس، ولكن اليهود حرّفوه وبدلوه، وقد نسخه الله بالقرآن الكريم المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين (ز) .
محتويات الأسفار الخمسة بإيجاز:
1- سفر التكوين: ويقع في (50) إصحاحاً، وفيه قصة خلق العالم وتكوينه، وقصص آدم عليه الصلاة والسلام وذريته ونوح عليه الصلاة والسلام وإبراهيم عليه الصلاة والسلام وذريته، وينتهي باستقرار بني إسرائيل في مصر ووفاة يوسف عليه الصلاة والسلام.
2- سفر الخروج: ويقع في (40) إصحاحاً، وفيه قصة موسى عليه الصلاة والسلام وخروجه ببني إسرائيل من مصر، وتاريخ بني إسرائيل في أرض التيه، وفيه الوصايا العشر وطائفة من الأحكام والتشريعات.
3- سفر اللاّويين: ويقع في (27) إصحاحاً، شغل معظمه بشئون العبادات وخاصة ما تعلق منها بالأضحية والقرابين والطقوس الكهنوتية التي كانت موكولة إلى سبط لاوي بن يعقوب، ومن ثمّ نسب إليهم.
4- سفر العدد: ويقع في (36) إصحاحاً، وقد شغل معظمه بالعدِّ والإحصاء عن قبائل بني إسرائيل وجيوشهم وكثير مما يمكن إحصاؤه من شئونهم، ويتخلل ذلك بعض الأحكام.
5- سفر التثنية: ويقع في (34) إصحاحاً، وقد أعيد فيه ذكر الوصايا العشر مرة ثانية، وفيه الأحكام والتشريعات المتنوعة، وينتهي هذا السفر بوفاة موسى عليه الصلاة والسلام ودفنه، وبه تنتهي التوراة.
وأسماء هذه الأسفار الخمسة مأخوذة عن نسخة التوراة باللغة اليونانية، أما في النسخة العبرية للتوراة المعتمدة عند اليهود فإن هذه الأسفار تسمّى بالكلمات التي في بداية كل سفر منها كالآتي:
- سفر التكوين، يسمى (براشيت) أي [في البدء] .(42/96)
- وسفر الخروج يسمى (اله شموت) أي [وهذه أسماء] .
- وسفر اللاويين يسمى (ويقرا) أي [ودعا] .
- وسفر العدد يسمى (بمدبر) أي [في البرية] .
- وسفر التثنية يسمى (اله هدبريم) أي [هذا هو الكلام] [6] .
القسم الثاني: أسفار الأنبياء، وتنقسم إلى قسمين هما:-
(1) أسفار الأنبياء الأول (المتقدمين) : وتتضمن تاريخ بني إسرائيل وما جرى لهم من الحوادث منذ دخولهم فلسطين بقيادة يشوع (يوشع) فتى موسى عليهما الصلاة والسلام إلى خروجهم منها في السبي البابلي، ومنها حوادث عهد القضاة وعهد الملوك وعهد انقسام مملكة بني إسرائيل وبناء هيكل سليمان عليه السلام وتدميره في الغزو البابلي، ويتخلل ذلك بعض الوصايا والأحكام والتشريعات.
(2) - أسفار الأنبياء الأُخر (المتأخرين) : وتتضمن تاريخ بني إسرائيل وتراثهم أثناء فترة السبي البابلي ثم عودة بعضهم إلى فلسطين تحت ظل الحكم الفارسي ثم إعادة بناء هيكل سليمان مرة ثانية، وبها بعض الوصايا والنبؤات والأحكام.
القسم الثالث: أسفار الكتب أو كتب الحكمة، وهي مجموعة أسفار يغلب عليها الطابع الأدبي شعراً أو نثراً وبعضها يتضمن تراثاً من القصص والحكم والمواعظ والأدعية، وفيها تمجيد بطولاتهم في الاستقرار بفلسطين.
ومن أسفار الكتب سفرا أخبار الأيام الأول والثاني وفيهما تلخيص للوقائع التاريخية الواردة في الأسفار السابقة منذ بدء الخليقة إلى عودة اليهود من السبي البابلي في أيام قورش ملك الفرس (أي بدءاً من أسفار التوراة إلى آخر أسفار الأنبياء الأُخر) .
ومما تجدر الإشارة إليه أن لليهود أسفاراً مقدسة أخرى تسمى بـ (الأبوكريفا Apocrypha) أي الكتب غير القانونية أو المخفية التي لم تقبل عندما تقرر تسجيل أسفار العهد القديم في وضعها الذي ذكرناه كأجزاء معتمدة من هذا الكتاب المقدس عندهم، ويسميها بعض الباحثين من اليهود (الكتابات الخارجة) ، ولكن بأية سلطة وبناء على أي مقياس أخرجت هذه النصوص؟!؟! [7](42/97)
((وبعض هذه الأسفار الخفية غير مقدس ولا معتمد في نظر اليهود، بينما بعضها الآخر مقدس أي معترف بأنه موحى به ومعتمد في نظرهم، ولكن رأى أحبارهم وجوب إخفائه وقرروا أنه لا يجوز أن يقف عليه الجمهور ولا أن يدرج في أسفار العهد القديم، وإلى هذا يشير الله عز وجل في القرآن الكريم فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَىَ بَشَرٍ مّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىَ نُوراً وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ... } [8] ، وإذ يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [9] ، وإذ يقول: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَىَ مِن بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولََئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} [10] ، وإذ يقول: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولََئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [11] .
ومن هذا يظهر أن السفر قد يكون خفياً ومقدساً في آن واحد عند اليهود. وفي هذا يختلف الاصطلاح اليهودي بعض الاختلاف في مدلول كلمة ((الخفي)) عن الاصطلاح المسيحي. فالمسيحيون يطلقون كلمة ((الخفي)) apocryphe على كل سفر يرون أنه غير مقدس أي غير موصى به)) [12] .
وهذه النصوص غير القانونية أو الكتابات الخارجة أو الأسفار المخفية هي كالآتي [13] :(42/98)
1- أسفار تاريخية تشمل: سفر أسدراس الأول، سفر المكابيين الأول والثاني، وإضافات إلى سفر دانيال (وهذه الإضافات هي نشيد الثلاثة الفتية المقدسين، وتتمة سفر دانيال، وقصة سوسن العفيفة، وقصة بيل) ، وبقية سفر أستير، ورسالة أرميا، وصلاة منسي.
2- أسفار قصصية تحوي أساطير وهي: سفر باروخ، وسفر طوبيت، وسفر يهوديت.
3- أسفار رُوءوِيَّة: أسدراس الثاني.
4- سفران تعليميان وهما: سفر حكمة سليمان، وسفر حكمة يشوع بن سيراخ.
المطلب الثالث: نقد التوراة المحرفة وما يتبعها من الأسفار
لقد ذكرنا فيما سبق بعض آيات القرآن الكريم الصريحة في أن اليهود قد حرفوا التوراة وغيرها من كتب الله المنزلة على أنبيائه من بني إسرائيل، ولقد انطلق علماؤنا المسلمون من تلك الآيات وغيرها من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في نقدهم للتوراة وما يتبعها من الأسفار المقدسة عند اليهود، واستخرجوا منها الأدلة والشواهد على تحقيق ما ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم من وقوع التحريف والتبديل والكذب في كتبهم، ونستطيع أن نقرر بكل ثقة أن الأسبقية في نقد التوراة والأناجيل والكتب الأخرى المحرفة كان لعلمائنا المسلمين بهدي من القرآن الكريم الذي وضع أصول ذلك النقد الهادف إلى إظهار الحق وإزهاق الباطل، وقد تأثر أحبار اليهود والنصارى ومفكريهم بالمسلمين في دراساتهم النقدية للتوراة والأناجيل ومن ثم تجرؤا على المشاركة في تلك الدراسات النقدية لكتبهم المقدسة بعد أن تخلصوا من طغيان الكنيسة وسيطرتها واستطاعوا إعلان نتائج دراساتهم التي سبقهم إلى كثير منها علماؤنا المسلمون بقرون عديدة [14] .(42/99)
وفي هذه الدراسة الموجزة جداً سنحاول أن نبين الخطوط العريضة والعناوين الرئيسة في نقد أسفار العهد القديم وخاصة التوراة، وستتركز على ناحيتين: الأولى: نقد سند كتبهم المقدسة وعدم صحة نسبتها إلى أنبيائهم، الثانية: نقد المتن وبيان ما فيه من مواطن التحريف والتبديل والخطأ.
الناحية الأولى: نقد السند.
لقد أرشدنا القرآن الكريم إلى طريقة المجادلة والرد على دعاوى اليهود والنصارى وبيان بطلانها وهي مطالبتهم بالحجة والدليل على مزاعمهم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [15] .
وبما أن اليهود وكذلك النصارى يزعمون أن التوراة الحالية كتبها موسى بيده وأن أسفارهم الأخرى كتبها أنبياؤهم أو أشخاص أوحي إليهم بها، فإنا نطالبهم بالأدلة والبراهين التي تثبت صحة نسبة التوراة المحرفة إلى موسى عليه الصلاة والسلام وكذلك سائر أسفارهم المنسوبة إلى أنبيائهم ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) !
ومن الأدلة التي نطالبهم بها:-
1- النسخة الأصلية للتوراة التي كتبها موسى عليه الصلاة والسلام أو أملاها على غيره، وكذلك النسخ الأصلية لأسفارهم الأخرى.
2- السند المتصل المتواتر بنقل الثقات العدول الذي يثبت سلامة النص الحالي لأسفارهم من التحريف والتبديل. وتأتي الإجابة لطلبنا من أحبار اليهود والنصارى وباحثيهم بأنهم لا يملكون النسخ الأصلية للتوراة أو غيرها من الأسفار، وإن أقدم مخطوطة لديهم لأسفارهم تعود إلى القرن الرابع الميلادي، علما بأن موسى عليه الصلاة والسلام قد عاش في القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الأرجح، وآخر نبي من أنبيائهم في العهد القديم عاش في القرن الرابع قبل الميلاد [16] .(42/100)
يقول مؤلفوا قاموس الكتاب المقدس: ولكن لا توجد لدينا الآن هذه المخطوطات الأصلية [للعهد القديم والجديد] التي دوّنها كتبة الأسفار المقدسة [17] .
ويعلل اليهود والنصارى فقدان النسخ والسند لكتبهم المقدسة بكثرة حوادث الاضطهاد والنكبات التي نزلت بهم خلال تاريخهم الطويل. ومن تلك الحوادث: الغزو الآشوري عليهم في سنة 722ق. م [18] ، ثم الغزو البابلي الشهير سنة 586ق. م ونتج عنه تدمير الهيكل وأخذ بني إسرائيل سبياً إلى بابل [19] ، ثم الإضطهاد اليوناني ومن بعده الإضطهاد الروماني الذي استمر لعدة قرون [20] ، وقد نتج عن هذه الإضطهادات إحراق أسفارهم وإتلافها ومنع قراءتها وقتل أحبارهم وعلمائهم.
ونضيف سبباً آخر مهماً لضياع أسفارهم وانقطاع أسانيدهم هو كثرة حوادث الردة والشرك في بني إسرائيل وكفرهم بالله عز وجل وإهمالهم للتوراة وغيرها، وهي مذكورة في أسفارهم المقدسة لديهم ومنها ما ورد في سفر القضاة 2/11-15: "وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها وأغاظوا الرب، تركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروت، فحمي الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم، حيثما خرجوا كانت يد الرب عليهم للشر كما تكلم الرب وكما أقسم الرب لهم".
وقد تكررت الردة والشرك بالله من بني إسرائيل مرات عديدة في عهد القضاة [21] .
ثم تكرر ذلك منهم في عهد الملوك، فقد ورد في سفر الملوك (12/28-33) : "أن يربعام استشار الملك وعمل عجلي ذهب وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم، هو ذا آلهتكم يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر، ووضع واحداً في بيت إيل وجعل الآخر في دان، وكان هذا الأمر خطية، وكان الشعب يذهبون إلى أمام أحدهما حتى إلى دان ... " [22] .(42/101)
وما ذكرناه مما يجعل كل عاقل منصف منهم يرتاب ويشك في صحة نسبة التوراة الحالية إلى موسى وسلامتها من التحريف والتبديل!!!
وكانت تلك الأسباب وغيرها قد دفعت بالكثيرين من محققي اليهود والنصارى إلى الاعتراف بأن أسفار العهد القديم مشكوك في أمر مؤلفيها، وإليك مختصر لما يقوله محرروا طبعة سنة 1971م الإنجليزية من كتابهم المقدس لديهم، وهي آخر طبعة معدّلة من كتابهم وآخر طبعة حتى الآن، يقول المحررون [23] :
- سفر التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية: مؤلفه موسى على الأغلب.
- سفر يشوع: معظمه منسوب إلى يشوع.
- سفر القضاة: مؤلفه صموئيل على الاحتمال.
- سفر راعوث: مؤلفه غير محدد ولكن ربما يكون صموئيل.
- سفر صموئيل الأول: المؤلف مجهول.
- سفر صموئيل الثاني: المؤلف مجهول.
- سفر الملوك الأول: المؤلف مجهول.
- سفر الملوك الثاني: المؤلف مجهول
- سفر أخبار الأيام الأول: المؤلف مجهول، ولكن ربما جمعه وحرره عزرا.
- سفر أخبار الأيام الثاني، المؤلف مجهول، ولكن ربما جمعه وحرره عزرا.
- سفر عزرا: من المحتمل أن عزرا كتبه أو حرره.
- سفر أستير: المؤلف مجهول.
- سفر المزامير: المؤلف الرئيسي داود، لكن معه آخرون وبعضهم مجهولون.
- سفر الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد: المؤلف مجهول، ولكنها عادة تنسب إلى سليمان.
- سفر أشعياء: ينسب معظمه إلى أشعيا، ولكن بعضه من المحتمل كتبه آخرون.
- سفر يونان: المؤلف مجهول.
- سفر حبقون: لا يعرف شيء عن مكان أو زمان ولادته.
وبعد هذا الاعتراف منهم فإن الأمر لا يحتاج إلى زيادة تعليق منا.(42/102)
ومن الأدلة أيضاً على عدم الوثوق بالتوراة الحالية ما ورد في سفر الملوك الثاني 22/8-13 في عهد الملك يوشيا من ملوك مملكة يهوذا، أن التوراة قد فقدت وضاعت من بني إسرائيل سنوات عديدة، ثم ادعاء العثور عليها على يد الكاهن في الهيكل، ولا نسلم لهم بأن التوراة التي عثر عليها هي توراة موسى إذ أن اتهام الكاهن بالتزوير قائم في مسايرته لرغبة الملك في العودة إلى التوحيد بعد ارتداد وكفر من سبقه من آبائه، إضافة إلى أن هذه النسخة من التوراة قد فقدت أيضاً في الغزو البابلي وحوادث الحروب الأخرى.
ومن الأدلة القاطعة على عدم صحة نسبة التوراة الحالية إلى موسى عليه الصلاة والسلام نصوص التوراة نفسها، وإليك بعض الشواهد:
- خاتمة التوراة في سفر التثنية 34/1-12 وفيه "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ودفنه في الجواء ... ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوماً، فكملت أيام بكاء مناحه موسى، ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنو إسرائيل وعملوا كما أوصى الرب موسى، ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه ... ) وبذلك ينتهي كتاب التوراة.
ولا أعتقد أن عاقلاً يجرؤ على القول أن كاتب هذا الكلام هو موسى عليه الصلاة والسلام!!!
- إن بعض نصوص التوراة تتحدث عن موسى بضمير الغائب وبصيغة لا يمكن التصديق بأن كاتبها هو موسى، ومن تلك النصوص: (تحدث الله مع موسى) (وكان الله مع موسى وجهاً لوجه) (وكان موسى رجلاً حليماً جداً أكثر من جميع الناس) [24] (فسخط موسى على وكلاء الجيش) [25] (موسى رجل الله) [26] ونحو ذلك، فلو كان موسى كاتب تلك النصوص لقال مثلاً: كلمني الرب، تحدثت مع الله. ونحوه.(42/103)
- إن ملاحظة اللغات والأساليب التي كتبت بها التوراة وما تشتمل عليها من موضوعات وتشريعات وبيئات اجتماعية وسياسية وجغرافية تنعكس فيها تظهر أنها قد ألفت في عصور لاحقة لعصر موسى، مما يثبت أن هذه الأسفار قد كتبت بأقلام اليهود التي تعكس أفكارهم ونظمهم المتعددة في مختلف أدوار تاريخهم الطويل، مثال ذلك:
ورد في التوراة في سفر التكوين 14/14 أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تتبع أعداءه إلى (دان) . وهي اسم مدينة لم تُسَمَّ بهذا الاسم إلا بعد موت يوشع بعد دخول بني إسرائيل فلسطين واستقرارهم بها، فقد ورد في سفر القضاة 18/29 (وسمُّوا المدينة (دان) باسم أبيهم الذي ولد لإسرائيل وكان اسم المدينة قبل ذلك (لاييش) .
فكيف يذكر موسى - وهو يقص قصة إبراهيم - اسم مدينة لم تسمَّ بهذا الاسم إلا من بعده بزمن طويل جداً؟!!
تلك بعض الملاحظات التي جعلت الفيلسوف اليهودي باروخ سبنوزا (ت1677م) يعلن صراحة قوله: من هذه الملاحظات كلها يظهر واضحاً وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة، بل كتبها شخص آخر عاش بعد موسى بقرون عديدة ا. هـ[27]
أضف إلى ذلك أيضاً اختلاف فرق اليهود في قبول ورفض بعض أسفار العهد القديم، فطائفة السامرة من اليهود لا تعترف إلا بالتوراة الخمسة الأسفار وتنكر ما عداها من الأسفار وتقبل منها سفري يوشع والقضاة باعتبارهما أسفارا تاريخية فقط. ويخالفها جمهور اليهود الذين يقبلون أسفار العهد القديم المذكورة. ويختلف مع اليهود أيضاً طائفة الكاثوليك من النصارى في قبول ورفض بعض أسفار العهد القديم.
الناحية الثانية: نقد المتن.
قال الله عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [28] .(42/104)
وقال تعالى: {إِنّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ} [29] .
وقال تبارك وتعالى: {إِنّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [30] .
في ضوء هذه الآيات الكريمة - التي وضحت بعض خصائص الوحي الإلهي المنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - نبين بعض مواطن الاختلاف والتناقض والباطل الذي يدل على وقوع التحريف والتزوير في أسفار اليهود، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدم ويمكننا تلخيص أبرز الانتقادات الموجهة إلى متن الأسفار في العناوين الرئيسة الآتية وتندرج تحتها عشرات الأمثلة والشواهد، وسنكتفي بذكر بعضها:
(1) - الاختلاف بين نسخ التوراة المختلفة:
إن التوراة الحالية ليست نسخة واحدة مجمعاً عليها من اليهود والنصارى، وإنما هي ثلاث نسخ مختلفة: التوراة العبرية، التوراة السامرية، التوراة اليونانية.
فالتوراة السامرية تؤمن بها فرقة السامرة من اليهود، والتوراة العبرية يعترف بها جمهور اليهود وفرقة البروتستانت من النصارى، والتوراة اليونانية تعترف بها فرقة الكاثوليك من النصارى، وكل فرقة لا تعترف بالنسخة الأخرى.
وتوجد اختلافات جوهرية وتناقضات صريحة بين النسخ الثلاث مثال ذلك:
- أن قبلة اليهود ومكان بناء مذبح الرب في التوراة العبرية واليونانية (تثنية 27/4) جبل عيبال بأورشليم (بيت المقدس) ، وفي التوراة السامرية (تثنية 27/4) أن القبلة جبل جريزيم بمدينة نابلس.(42/105)
- ورد أن مجموع الأعمار (الفترة الزمنية) من عهد آدم إلى إبراهيم عليهما الصلاة والسلام في التوراة العبرية يبلغ (2023) سنة، وفي التوراة السامرية يبلغ مجموع الأعمار (2324) سنة، وفي التوراة اليونانية يبلغ (2200) سنة!!
وهناك اختلافات أخرى كثيرة من حيث الألفاظ والإملاء والقواعد النحوية وغيرها [31] .
(2) - الاختلاف بين أسفار التوراة بعضها ببعض وبين الأسفار الأخرى مثال ذلك:-
- ورد في سفر التكوين 6/3 أن الله غضب على البشر لطغيانهم في عصر نوح عليه الصلاة والسلام فقضى بأن عمر الإنسان لا يتجاوز (120) عاماً، وهذا النص يختلف مع ما ورد في التوراة أيضا في سفر التكوين 11/10-32 من أن سام بن نوح عاش 600 سنة، وابنه أرفكشاد عاش 438 سنة، وشالح عاش 433 سنة، وعابر عاش 464 سنة وغيرهم كثير ممن تجاوزت أعمارهم 120 سنة!!
- ورد في سفر التكوين 7/12 أن طوفان نوح عليه الصلاة والسلام استمر مدة أربعين يوماً وليلة، ولكن ينقضه ما ورد في نفس السفر والإصحاح 7/24 أن الطوفان استمر مدة مائة وخمسين يوماً!!
- ورد في سفر التكوين 8/4-5 (واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط، وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر، وفي الشهر العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال)
وفي هذا اختلاف واضح، لأنه إذا ظهرت رؤوس الجبال في الشهر العاشر فكيف تكون سفينة نوح قد استقرت على جبال أراراط (أرمينيا) في الشهر السابع، أي قبل شهرين ونصف من ظهور رؤوس الجبال؟!!
- ورد في سفر الخروج 20/5 وسفر التثنية 5/9 أن الأبناء يؤاخذون بذنب الآباء حتى الجيل الثالث والرابع، ولكن ورد في سفر حزقيال 18/20 وفي سفر أرميا 31/30 أن الأبناء لا يعاقبون بذنب الآباء. وفي هذا تناقض لأن اليهود لا يقولون بنسخ أحكام التوراة.(42/106)
- ورد في سفر التكوين 46/21 أن أبناء بنيامين بن يعقوب عددهم عشرة أبناء، ولكن ورد في سفر أخبار الأيام الأول 7/6 أن أبناء بنيامين ثلاثة، وفي نفس السفر 8/1-2 أن أبناء بنيامين خمسة فقط!!!
- ورد في سفر صموئيل الثاني 24/13 (فأتى جاد داود وأخبره وقال له: أتأتي عليك سبع سنين جوعاً في أرضك أم تهرب أمام أعداءك ثلاثة أشهر وهم في أثرك) ويناقضه ما ورد في سفر أخبار الأيام الأول 21/11 (فأتى جاد داود وقال له: كذا قال الرب تخير إما ثلاث سنين جوعاً، وإما ثلاثة أشهر تهرب فيها أمام أعدائك وسيف أعدائك يدركك) فهل هي سبع سنوات جوعاً أم ثلاث سنوات؟؟!!!
- ورد في سفر صموئيل الثاني 8/4 (فأخذ داود منه ألفاً وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل)
ولكن تكرر الخبر في سفر أخبار الأيام الأول 18/4 كالآتي (فأخذ داود منه ألف مركبة وسبعة آلاف فارس وعشرين ألف راجل) .
- ورد في سفر الملوك الأول 4/26 (وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس)
ولكن تكرر الخبر في سفر أخبار الأيام الثاني 9/25 كالآتي: (وكان لسليمان أربعة آلاف مذود خيل ومركبات واثنا عشر ألف فارس) .
- ورد في سفر الملوك الثاني (كان أخزيا ابن اثنتين وعشرين سنة حين مَلَكَ ومَلَكَ سنة واحدة في أورشليم)
وتكرر الخبر في سفر أخبار الأيام الثاني 22/2 بصورة مختلفة (كان أخزيا ابن اثنتين وأربعين سنة حين مَلَكَ، ومَلَكَ سنة واحدة في أورشليم) !!!
والأعجب من ذلك ما ورد في أخبار الأيام الثاني نفسه 21/5 (أن يهورام -والد أخزيا- كان ابن اثنين وثلاثين سنة حين مَلَكَ، ومَلَكَ ثمان سنين في أورشليم) فكيف يكون الابن أكبر سنا من أبيه؟!!
- ورد في سفر الملوك الثاني 24/8 (كان يهوياكن ابن ثماني عشرة سنة حين ملك، وملك ثلاثة أشهر في أورشليم)
وتكرر الخبر باختلاف في سفر الأيام الثاني 36/9 (كان يهوياكن ابن ثماني سنين حين ملك، وملك ثلاثة أشهر وعشرة أيام في أورشليم) .(42/107)
(3) - الاختلاف مع الحقائق العلمية والتاريخية، مثال ذلك:-
- ورد في سفر التكوين 1/6-8 (وقال الله: ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصل بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، ودعا الله الجلد سماء، وكان مساء وكان صباح اليوم الثاني)
يقول موريس بوكاي: أسطورة المياه هنا تستمر بانفصالها إلى طبقتين بواسطة الجلد الذي سيجعل الطبقة العليا عند الطوفان تنفذ من خلاله لتنصب على الأرض، إن صورة انقسام المياه هذه إلى كتلتين غير مقبولة علمياً اهـ[32] .
- ورد في سفر التكوين 15/13 أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر ستكون (400 سنة) ولكن ورد في الخروج 12/40 أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر كانت (430) سنة، وكلا التاريخين يختلفان مع الحقيقة التاريخية التي اعترف بها أحبارهم ومفسرو أسفارهم من أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر لا تزيد عن (215) سنة [33] ، بدليل حساب عمر إسرائيل (يعقوب) عليه الصلاة والسلام عند دخوله مع بنيه أرض مصر، ثم أعمار الأجيال إلى زمن خروج بني إسرائيل من مصر مع موسى عليه الصلاة والسلام.
(4) - وجود الأقوال القبيحة والتهم الشنيعة والأوامر الباطلة والتعاليم الفاسدة والقصص البذيئة - في أسفارهم - التي تستحيل أن تكون وحياً من عند الله عز وجل، مثال ذلك:-
- ورد في سفر التكوين 2/1-3 أن الله - سبحانه وتعالى - لما خلق الخلق في ستة أيام فإنه تعب واستراح في اليوم السابع.
- ورد في سفر التكوين 9/20-27 وصف نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام بأنه شرب الخمر حتى سكر وتعرّى في خبائه وأبصر ابنه الأصغر حام عورته.
- ورد في سفر التكوين 19/30-39 قذف نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام بالزنا، حيث زعموا - لعنهم الله - أن ابنتيه سقتاه خمراً وضاجعتاه حتى أولد منهما نسلاً - والعياذ بالله من هذا الكفر.(42/108)
- ورد في سفر التكوين 27/1-30 وصف يعقوب عليه الصلاة والسلام بأنه خدع أباه إسحاق عليه السلام واحتال وكذب عليه حتى ينال دعوته وبركته قبل أخيه عيسو.
- ورد في سفر الخروج الإصحاح (32) وصف هارون عليه الصلاة والسلام بأنه صنع العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته.
- ورد في سفر يشوع 6/17،21 أن الله أمر يوشع عليه السلام عند إستيلائه على مدينة أريحا أن يقتل في المدينة كل رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وقد فعل يشوع ذلك حسب زعمهم، والله عز وجل منزه عن ذلك لأنه تعالى يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي.
- ورد في سفر صموئيل الإصحاح (2) وصف داود عليه الصلاة والسلام بأنه زنا بزوجة قائده واحتال في قتله لكي يتزوج بزوجته من بعده.
- ورد في سفر الملوك الأول 11/1-6 وصف سليمان عليه الصلاة والسلام بأنه تزوج نساءً وثنيات، وبأن نساءه أضللنه حتى أشرك بالله وعبد أصنام نسائه الوثنيات في شيخوخته.
- ورد في سفر حزقيال الإصحاح (33) قصة زنا أهولة وأهوليبة وفجورهما بأسلوب جنسي فاضح قبيح بذيء.
- ورد في سفر نشيد الأناشيد المنسوب إلى سليمان عليه الصلاة والسلام شعر جنسي وغزل فاحش وكلام بذيء يستحى من ذكره وتسطيره.
- ورد في سفر هوشع 1/2-9 أن الله - سبحانه وتعالى - أمر نبيه هوشع أن يأخذ لنفسه امرأة زانية وينجب منها أولاد زنى. تعالى الله عز وجل عما يقول الكافرون علواً كبيراً، وتَنَزَّه الله عز وجل عن هذا الكفر، فإن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
ونكتفي بهذا القدر اليسير جداً من فضائح كتبهم الكثيرة، فلا عجب أن يكون حال محققيهم ومفكريهم كما وصفهم الله عز وجل بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ} [34] .(42/109)
المطلب الرابعً: القسم الثاني من الأسفار المقدسة عند اليهود: التلمود
- التلمود في اللغة: Talmud كلمة عبرية مستخرجة من كلمة (لامود Lamud) وتعني تعليم أو تعاليم.
- وفي الاصطلاح: كتاب تعليم ديانة وآداب اليهود، أو كتاب فقه اليهود، أو الكتاب العقائدي الذي يفسر ويبسط كل معارف اليهود وتعاليمهم [35] .
ولم يرد اسم التلمود في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة - فيما أعلم - ولكن أشار القرآن الكريم إليه بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هََذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ} [36] .
ووردت الإشارة إليه أيضا في السنة النبوية المطهرة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً فاتبعوه وتركوا التوراة" [37] .
وتلك هي حقيقة التلمود وأنه ليس وحياً من الله، وإنما هو تفاسير وشروحات واجتهادات واستنباطات أحبار اليهود لنصوص التوراة ولأقوال منسوبة مكذوبة على موسى عليه الصلاة والسلام دُوِّنت وجمعت في القرن الثاني الميلادي [38]- كما سنبينه إن شاء الله تعالى -.
أقسام التلمود:
ينقسم التلمود إلى قسمين رئيسين هما: (المشنا) و (الجمارا) وتعريفهما كالآتي:
(1) - المشْنا (المشْنة) : ومعناه (التكرار) أو (الشريعة المتكررة) ، وهو بمثابة المتن، وهو عبارة عن مجموعة من الشرائع والتقاليد والروايات اليهودية المختلفة المروية على الألسنة لقرون عديدة إلى أن دوّنها الحاخام (يهوذا هاناسئ) في نهاية القرن الثاني بعد الميلاد (200م) .(42/110)
ويزعم اليهود بأن تلك الشرائع والروايات قد تلقاها موسى من الله ثم نقلها موسى مشافهة إلى هارون ويوشع واليعازر الذين نقلوها بدورهم إلى الأنبياء الذين نقلوها أيضاً إلى أحبار اليهود علمائهم وتناقله بعد ذلك الأجيال من الأحبار جيلاً بعد جيل عن طريق المشافهة إلى أن جمعها ودوّنها الحاخام (يهوذا هاناسئ) ، ولذلك فإن اليهود يسمون المشنة بـ (التوراة الشفوية) أو (الشريعة الشفاهية) وقد كتبت باللغة العبرية [39] .
وتنقسم المشنا إلى ستة أقسام كالآتي:
1- كتاب (زراعيم) أي البذور أو الإنتاج الزراعي: ويحتوي على (11) فصلاً يتضمن القوانين الدينية الخاصة بالأرض والزراعة، ويبدأ بتحديد الصلوات المفروضة والبركات أو الأدعية.
2- كتاب (مُوعد) أي العيد، ويحتوي على (12) فصلاً يتضمن الأحكام الدينية والفرائض الخاصة بالسبت وبقية الأعياد والأيام المقدسة.
3- كتاب (ناشيمْ) أي النساء، ويحتوي على (7) فصول، فيه النظم والأحكام الخاصة بالنساء كالزواج والطلاق.
4- كتاب (نزيقين) أي الأضرار أو الجنايات، ويحتوي على (10) فصول، ويشتمل على جزء كبير من الشرائع المدنية والجنائية، بما في ذلك القصاص والعقوبات والتعويضات.
5- كتاب (قُدَّاشيم) أي المقدسات، ويحتوي على (11) فصلاً، وفيه الشرائع الخاصة بالقرابين وخدمة الهيكل.
6- كتاب (طهاروت) أي الطهارة، ويحتوي على (12) فصلاً، يتضمن الأحكام الخاصة بما هو طاهر وما هو نجس، وما هو حلال وما هو حرام من المأكولات والمشروبات وغيرها.
وبذلك يكون المشنا مكوّناً من (63) فصلاً، وعندما أكمل الحاخام يهوذا هناسي تقييد المشنا في القرن الثاني الميلادي، فقد تركزت جهود أحبار اليهود على شرحه وتبسيط واستنباط الأحكام منه، ومن تلك الشروحات والحواشي الكثيرة على المشنا تكوّن القسم الثاني من التلمود وهو (الجمارا) .
(2) - الجمارا (الجمارة) : ومعناه (التكملة) أو (الإكمال) .(42/111)
وهو عبارة عن مجموعة شروحات وتعليقات واستنباطات ومناقشات الأحبار على (المشنا) وأساطير وخرافات وأقوال مروية عن حاخامات اليهود من طائفة الربانيين في موضوعات شتى وعصور مختلفة منذ القرن الثالث الميلادي إلى نهاية القرن الخامس الميلادي. وقد كتبت باللغة الآرامية.
والجمارا نوعان: جمارا بابل، وجمارا أورشليم، وهذا التقسيم يرجع إلى اختلاف مركز البحث العلمي والديني لليهود ومكان تمركز أحبارهم.
فأما جمارا بابل:- فهو عبارة عن شروحات وحواشي أحبار اليهود على (المشنا) في بابل (العراق) - حيث استمر تجمع اليهود هناك كجالية أجنبية منذ السبي البابلي - من سنة 219 ق م. إلى سنة 500م.
وأما جمارا أورشليم:- فهو عبارة عن شروحات وحواشي أحبار اليهود على (المشنا) في أورشليم (فلسطين) - ممن بقي هناك من فلول اليهود أو ممن جاؤا إليها متسللين - من سنة 219ق. م إلى سنة 759م.
وبناءاً على ذلك فقد ظهر تلمودان هما:-
الأول: تلمود بابل: وهو مكوّن من (المشنا) و (جمارا بابل) ويسمى أيضاً بالتلمود الشرقي، وهو المتداول بين اليهود والمراد عند الإطلاق.
الثاني: تلمود أورشليم: وهو مكوّن من (المشنا) و (جمارا أورشليم) . ويسمى أيضا بالتلمود الغربي.
ويتميز التلمود البابلي عن الأورشليمي أنه يغطي بشرحه كل نص المشنا (الأقسام أو الكتب الستة) ، أما التلمود الأورشليمي فإنه ظل ناقصاً لا يشرح إلا بعض المشنا (الثلاثة كتب الأولى) ، كما أن أحبار اليهود في بابل كانوا يحظون بثقة أرسخ من ناحية التبحر في الفكر اليهودي مما كان يحظى به أحبار اليهود في فلسطين. لذلك فإن التلمود البابلي يتمتع بتقدير أعظم في أعين اليهود من التلمود الأورشليمي، وهو المتداول بين اليهود والمراد عند الإطلاق [40] .
- طبعات التلمود:(42/112)
طبع التلمود طبعات كثيرة أهمها الطبعة الأولى الكاملة للتلمود البابلي بمدينة البندقية (فبنيسيا بإيطاليا) في اثنى عشر مجلداً من القطع الكبير من سنة 520م إلى سنة 1523م.
وطبع كذلك تلمود أورشليم في مدينة البندقية سنة 1523-1524م في مجلد واحد ضخم [41] .
ولما نشر التلمود في طبعته الأولى واطلع عليه النصارى أفزعهم ما فيه من السباب والشتائم ضد المسيح والنصارى وما فيه من العقائد الأخرى الخطيرة، فثاروا ضد اليهود واضطهدوهم، فقرر أحبار اليهود حينئذ تحريف التلمود بأن تترك مكان الألفاظ المسيئة لمشاعر النصارى على بياض أو تعوض بدائرة بشرط أن هذه التعاليم لا تعلّم إلا في مدارسهم فقط، لذلك جاءت الطبعات التالية للطبعة الأولى ناقصة وفيها تحريفات كثيرة، يقول محررو دائرة المعارف اليهودية العامة: إن أحد أهم الأسباب لعدم بقاء مخطوط كامل (لتلمود بابل) هو التعصب الديني المغالي للمسيحية في العصور الوسطى، الذي دفع الكثيرين إلى إشعال النيران - أحياناً - في العربات المحمّلة بالتلمود المطبوع أو المخطوط. اهـ[42] .
ويجري في إسرائيل إعادة طبع النسخة العبرية الأصلية من تلمود بابل بإشراف الحاخام آدين شتاينز التز، وسيطبع منها - كما أعلن - ستة آلاف نسخة فقط، مما يدل على حرص القائمين على الدين اليهودي على المحافظة على سرية التلمود [43] .
- منزلة التلمود عند اليهود:(42/113)
يعتقد جمهور اليهود أن التلمود كتاب مقدس، ويعتبرونه من مصادر التشريع اليهودي، وقد ذكرنا فيما سبق أن اليهود يسمون (المشنا) بالتوراة الشفوية وينسبونها إلى موسى عليه السلام. غير أن اليهود قد غلوا في تقديس التلمود أكثر من التوراة نفسها، فقد ورد في التلمود (أولئك الذين يكرسون أنفسهم لقراءة الكتاب المقدس (التوراة) يؤدون فضيلة لا ريب فيها لكنها ليست كبيرة، وأولئك الذين يدرسون المشنا يؤدون فضيلة سوف ينالون المكافأة عليها، لكن أولئك الذين يأخذون على عاتقهم دراسة الجمارة يؤدون فضيلة سامية جداً) [44] .
وورد فيه أيضاً: (من احتقر أقوال الحاخات استحق الموت أكثر ممن احتقر أقوال التوراة، ولا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة فقط، لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى) [45] .
لذلك وصف الله عز وجل اليهود بقوله: {اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهَاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [46] .
وبقوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُم بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [47] .
المطلب الخامس: نقد التلمود.
أما عن نقد التلمود وبيان بطلانه وتزويره وإظهار زيف ادعائهم نسبته إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فإننا سوف نوجز الحديث عنه، لأننا قد بينا فيما سبق أن التوراة نفسها - الحالية - لا تربطها بموسى عليه الصلاة والسلام إلا علاقة ضعيفة جداً [48] .
وتكفينا في بيان حقيقة التلمود شهادة المؤرخ اليهودي شاهين مكاريوس في تعريف التلمود، حيث قال:(42/114)
"والتلمود مجموعة تفاسير وشروح وأخبار وإضافات وأحكام وضعها حكماؤهم وربانييهم والمجتهدون منهم، وهو كبير الحجم يزيد عن عشرين مجلداً وضعت في عصور مختلفة وأحوال متباينة، وهو يتألف من المشنة والجمرة، وذلك أنه لما كثرت التقاليد وتشعبت أطرافها، وازداد عدد الكتاب والمجتهدين الناظرين في هذه الشريعة وكثرت الأحكام الصادرة من المجامع في الشؤون المختلفة، قام سمعان بن جاملئيل وتلامذته على تنسيق تلك التقاليد والنظر فيها، فجمعوا ما تيسر لهم جمعه منها، وعكفوا على غربلته وتبويبه، وظلّ العمل سائراً كذلك إلى أن أتمه يهوذا اهاناسي (أعني الرئيس) وتلامذته نحو سنة 316 ب. م، فجاء ستة أقسام تحتوي على 63 مبحثاً، فيها 524 فصلاً" [49] .
كما يعترف شاهين مكاريوس اليهودي بوقوع التحريف حتى في التلمود المختلق، فقال: "وأما التلمود البابلي، فكان الفراغ الأول منه نحو أواخر القرن الخامس، ولم يمض زمن طويل حتى اعتور التلمود تحريف وأُدخل فيه تقاليد لم تكن هناك، وأضيف إليه تفاسير وشروح وفتاوى جديدة، وسبب ذلك أن التلمود لم يكن قد قيّد بعد في الكتب والدفاتر، فكان تحريفه سهلاً، ثم إن انتشار اليهود في أنحاء الأرض وكثرة المدارس والجمعيات اليهودية التي نشأت معهم أينما حلّوا، جعلت فرقاً في أحوالهم بحسب تباين تلك الأحوال، فكانت الأحكام الصادرة من هذه الجمعيات في المكان الواحد تباين في بعض الأحايين أحكام جمعيات أخرى في مكان آخر، ولما كثر التحريف والزيادة قام أحد علمائهم المشهورين وعني بتأليف التلمود ثانية بمعونة تلامذته ومريديه وكتبته، وقضى ستين سنة في التحبير والتحرير والتنقيب والتهذيب، وجاء بعده غيره فسعى سعيه واقتفى خطواته، فتمّ بذلك هذا العمل وجاء كتاباً كبيراً كما تقدم الكلام، وهو بمثابة انسكلوبيذيا كبيرة" [50] .(42/115)
ويؤكد لنا ذلك المهتدي السموآل بن يحيى المغربي (المتوفى سنة 570هـ) - وكان من أحبار اليهود فأسلم - في كتابه (إفحام اليهود) في بيانه لحقيقة التلمود بقوله:
((وكانت اليهود في قديم الزمان تُسمي فقهاءها بالحكماء، وهم الذين يدعون (الحاخاميم) ، وكانت لهم في الشام والمدائن مدارس، وكان لهم ألوف من الفقهاء، وذلك في زمان دولة النبط البابليين، والفرس، ودولة اليونان، ودولة الروم، حتى اجتمع الكتابان اللذان اجتمع فقهاؤهم على تأليفهما، وهما (المِشْنا، والتلمود) .
فأما المِشْنا، فهو الكتاب الأصغر، وحجمه نحو ثمانمائة ورقة.
وأما التلمود، فهو الكتاب الأكبر، ومبلغه نحو نصف حمل بَغْلٍ لكثرته، ولم يكن الفقهاء الذين ألّفوه، في عصر واحد، وإنما ألّفوه في جيل بعد جيل.
فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مرّ عليه جيل زادوا فيه، وأن في هذه الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إذا لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه، أدى إلى الخلل الظاهر والمتناقض الفاحش، فقطعوا الزيادة فيه، ومنعوا من ذلك، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شيء آخر إليه، وحرّموا من يضيف إليه شيئاً آخر، فوقف على ذلك المقدار" [51] .
ثم قال أيضاً: "ثم إن اليهود فرقتان:
إحداها: عرفت أن أولئك السلف الذين ألّفوا (المشنا) و (التلمود) وهم فقهاء اليهود، قوم كذّابون على الله تعالى وعلى موسى النبي (عليه السلام) ، أصحاب حماقات ورقاعات هائلة!!
من ذلك، أن أكثر مسائل فقههم ومذهبهم يختلفون فيها، ويزعمون أن الفقهاء كانوا إذا اختلفوا في كل واحدة من هذه المسائل، يوحي الله إليه بصوت يسمعه جمهورهم، يقول: (الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان) ، وهم يسمون هذا الصوت (بث قول) " [52] .
أما عن تلمود أورشليم، فيقول محرر دائرة المعارف اليهودية العامة:(42/116)
"النص الحالي لتلمود فلسطين في حالة فاسدة جداً، والنساخ الذين نقلوه لم يترددوا في تصحيحه كلما وجدوا أن المعنى بعيد عن إدراكهم، وقد تكرّر وقوع ذلك كثيراً بسبب أسلوب التلمود البليغ، وبسبب لغة النص غير المألوفة. ومشكلة النص هذه أدت إلى زيادة هذه الأخطاء، التي يقع فيها النساخ، مثل وقوع التباس بين حروف متشابهة، وحذف حروف، وترك سطور، وإساءة فهم الرموز" [53] .
وتلمود فلسطين مكتوب بالعبرية أو الآرامية الغربية، ويشمل على ما يقرب من 750.000 كلمة، 15 بالمائة منها هاجّادا Haggadah، أي القصص والحكايات اليهودية، وهذه القصص الخرافية هي أساس الإسرائيليات [54] .
ومما يدلنا أيضاً على زيف التلمود وتزويره، اختلاف اليهود فيما بينهم على قداسته، بل إنكار طوائف كثيرة منهم قديماً وحديثاً لكتاب التلمود، ومن تلك الطوائف والفرق اليهودية.
- فرقة القرائين [55] ، حيث يقول شاهين مكاريوس عنهم: "وفي القرن الثامن بعد الميلاد قام أحد العلماء في بغداد وتبعه فرقة رفضت التلمود، واكتفت بما في التوراة بغير تفسير، وهذه الفرقة تسمى اليهود القرائين" [56] .
- ومنها فرقة السامريين، ويقول عنهم شاهين مكاريوس:
"والسامرة يتمسكون بالتوراة ويرفضون التقليد (يعني التلمود) ، وقد بقي منهم إلى عصرنا الحاضر نحو ثلاثمائة، وهم في نابلس" [57] .
- ومنها فرقة الصدوقيين، وعنهم يقول شاهين: "هم أشراف اليهود ورجال الكهنوت منهم، واتخذوا لقبهم من اسم زعيمهم صدوق الكاهن الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، وقد كان الفريسيون [58] غير راضين عنه لاعتقادهم أن أفكاره مضادة للتوراة، وكان له زميل اسمه (بينوس) قام بفرق أخرى، وعلّم بالاكتفاء بما في التوراة وعدم الالتفات إلى التلمود" [59] .
- ومنها فرقة الأصبهانيين (العيسويين) [60] ، وفرقة البنيامينيين [61] ، وغيرهم [62] .(42/117)
وأما عن متن التلمود ومحتوياته، فتكفينا الإشارة أيضاً إلى بعض مبادئ التلمود وتعاليمه الباطلة التي يتبين منها أن التلمود ليس وحياً من عند الله عز وجل؛ لأن الله تبارك وتعالى يأمر بالعدل والإحسان، ولا يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي.
- بعض مبادئ التلمود وتعاليمه الفاسدة:
1- الاستهزاء بالله - عز وجل - ووصفه بالنقائص وصفات العيب والتجسيم والعنصرية.
2- شتم المسيح عليه الصلاة والسلام وسبّه وأمّه مريم عليها السلام بأقبح السباب وأقذع الشتائم وأشنع الأوصاف.
3- استعلاء الشعب اليهودي وتفوقه وبأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الدنيا خلقت لهم.
4- أن من عدا اليهود من البشر حيوانات خلقهم الله في صورة البشر لأجل خدمة اليهود ويسمونهم بـ (الجوييم) أو (الأمميين) .
الحقد والكراهية لجميع الأميين.
5- إباحة الربا الفاحش مع غير اليهود بل استحبابه والحث عليه.
6- جواز التعامل بالغش والخداع مع الأمميين (غير اليهود) والحث على إلحاق الأذى بهم والسرقة منهم وغير ذلك من القبائح والمفاسد التي يجوز فعلها مع الأمميين ولا يجوز فعلها مع اليهود.
7- لا ينبغي لليهودي أن يرد الأشياء التي يفقدها الأجانب (غير اليهود) ، ولا يجوز للطبيب اليهودي أن يعالج الأجانب إلا بقصد الحصول على المال أو للتمرن على المهنة.
8- من يتجرأ على الاعتداء على اليهودي فإن مصيره القتل، وأي يهودي يشهد ضد يهودي آخر أمام أجنبي ولصالحه فإنه يلعن ويسب فيه علانية أمام اليهود.
9- ينتظرون مسيحاً مخلصاً في آخر الزمان من نسل داود يقيم مملكة اليهود ويعز دينهم ويذل ويبيد أعداءهم.
10- لا قيمة للعهود والمواثيق والأيمان عند اليهودي مع الأجنبي (الأممي) ، ولليهودي أن يتحرر منها متى شاء.
11- لا قيمة لأعراض غير اليهود، فلليهود الحق في اغتصاب النساء غير اليهوديات، وليس للمرأة اليهودية أن تبدي أية شكوى إذا زنا زوجها بأجنبية (غير يهودية) ، كما أن اللواط بالزوجة جائز لليهودي.(42/118)
12- أن السلطة في الأرض لليهود، وعليهم أن يبذلوا جهدهم في سبيل ذلك بشتى الوسائل والطرق المشروعة وغير المشروعة.
13- طرق استخدام السحر وتعاليمه [63] .
تلك بعض تعليمات التلمود الخطيرة على الإسلام والناس جميعاً، لذلك قال د. باركلي: "بعض أقوال التلمود مغال، وبعضها كريه، وبعضها الآخر كفر، ولكنها تشكل في صورتها المخلوطة أثراً غير عادي للجهد الإنساني وللعقل الإنساني وللحماقة الإنسانية" [64] .
---
[1] انظر: الفكر الديني اليهودي ص62،63 د. حسن ظاظا.
[2] العهد: هو الميثاق، ومعنى ذلك أن هذه الأسفار تعتبر ميثاقاً أخذه الله على الناس ليؤمنوا ويعملوا به، وأخذ هذا المعنى من سفر الخروج في التوراة 24/8 وفيه (وأخذ موسى الدم ورشه على الشعب وقال: هو ذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال) .
[3] انظر: قاموس الكتاب المقدس ص467، الفكر الديني اليهودي ص12،32،45-47. د. حسن ظاظا.
[4] انظر: قاموس الكتاب المقدس ص235،339،609،801،808، السنن القويم في تفسير العهد القديم 1/1.
[5] ورد في الصحيحين وغيرهما أن الله عز وجل كتب التوراة بيده. (انظر: صحيح البخاري مع الفتح 11/505، 13/422، وصحيح مسلم 4/2032-2044) .
[6] انظر: السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم 1/1.
[7] انظر: الفكر الديني اليهودي ص62 د. حسن ظاظا، بتصرف بسيط.
[8] سورة الأنعام، آية 90.
[9] سورة المائدة، آية 15.
[10] سورة البقرة، آية 159.
[11] سورة البقرة، آية 174.
[12] انظر: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام ص23.
[13] انظر: قاموس الكتاب المقدس ص19، الفكر الديني اليهودي ص65، الأسفار المقدسة ص23.(42/119)
[14] لعل أول من قام بنقد التوراة من اليهود هو الحبر اليهودي إبراهيم بن عزرا الغرناطي (ت562هـ) إلا أنه لم يجرؤ على المجاهرة بذلك في زمنه ولكنه أشار إلى نقده بعبارات غامضة، إلى أن ظهر الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا (ت1073هـ - 1677هـ) الذي فسر عبارات ابن عزرا الغامضة في نقد التوراة وجهر بذلك وأضاف أدلة أخرى في ذلك النقد (انظر: رسالة في اللاهوت والسياسة - لسبينوزا) ولا يخفى أن ابن عزرا قد تأثر بعلماء المسلمين الذين كان يعيش بينهم وخاصة العلامة ابن حزم (ت456هـ) في كتابه الفصل في الملل والنحل في نقده للتوراة والأناجيل وغيرها. (انظر: في مقارنة الأديان بحوث ودراسات ص71،72 د. محمد الشرقاوي) .
[15] سورة البقرة، آية 111.
[16] تحدّى الشيخ رحمة الله الهندي بعض القسيسين في محفل المناظرة أن يأتوا بالسند المتصل لأسفارهم فاضطروا للإعتراف بأنهم لا يملكون سنداً متصلاً لأسفارهم. (انظر: إظهار الحق ص83،84) .
[17] انظر: ص844 من قاموس الكتاب المقدس.
[18] انظر: سفر الملوك الثاني، الإصحاح (2) ، قاموس الكتاب المقدس ص78.
[19] انظر: سفر الملوك الثاني، الإصحاحين (24،25) ، وسفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح (36) ، قاموس الكتاب المقدس ص458.
[20] انظر: سفر المكابيين الأول والثاني، تاريخ الإسرائيليين ص32-71، شاهين مكاريوس.
[21] انظر: سفر القضاة، الإصحاحات (3،4،6،10،13،17) .
[22] وتكرر منهم الشرك والردَّة عن دين الله الحق مرات عديدة في عهد الملوك.
- انظر: سفر الملوك الأول، الإصحاحات (19،22) ، وسفر الملوك الثاني، الإصحاحات (1/13،14،15،16،17،21،22،23،24) .
بل وصل بهم الكفر إلى حد وصف نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام بالكفر وعبادة غير الله - والعياذ بالله -.
- انظر: سفر الملوك الأول، الإصحاح (11) .(42/120)
[23] نقلاً من كتاب (التحريف في التوراة، ص3 د. محمد الخولي، ووجدت أيضاً تلك الاعترافات بجهالة مؤلفي أسفارهم في مقدمة الكتاب المقدس (المدخل) طبع المطبعة الكاثوليكية سنة 1988م بلبنان، وفي كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة) - تأليف الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا، وكتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم، وقاموس الكتاب المقدس في التعليق على تلك الأسفار.
[24] العدد 25/3.
[25] العدد 31/14.
[26] التثنية 13/1.
[27] انظر: رسالة في اللاهوت والسياسة ص271.
[28] سورة النساء، آية 82.
[29] سورة النحل، آية 90.
[30] سورة النساء، آية 58.
[31] انظر: للتوسع كتاب (نقد التوراة العبرية والسامرية واليونانية) - د. أحمد السقا، وكتاب (السامريون واليهود) ص93-95 د. سيد فراج راشد.
[32] انظر: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص42 وللتوسع في معرفة مواضع الاختلاف مع الحقائق العلمية، راجع الكتاب المذكور من ص39 إلى ص61.
[33] انظر: السنن القويم في تفسير العهد القديم 1/363، إظهار الحق ص 135، 243 - 244، نقد التوراة ص128.
[34] سورة فصلت، آية 45.
[35] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص111 شاهين مكاريوس، قاموس الكتاب المقدس ص222، فضح التلمود ص21 للقسيس برانايتس.
[36] سورة البقرة، آية 79.
[37] رواه الطبراني في الأوسط والكبير، قال الهيثمي في المجمع 1/150،192: رجاله ثقات.
وقال الشيخ الألباني: حديث حسن (انظر: صحيح الجامع الصغير ح2044) .
[38] انظر: فضح التلمود ص22، قاموس الكتاب المقدس ص222، الكنز المرصود في قواعد التلمود ص47،48، دروس اللغة العبرية ص41-43.
[39] يمكن القول بأن (المشنا) عند اليهود بمثابة السنة النبوية عند المسلمين.
- انظر: الفكر الديني اليهودي ص66-69، التلمود تاريخه وتعاليمه ص11-13.(42/121)
ويقول المؤرخ اليهودي شاهين مكاريوس في تعريف المشنة: المشنة خلاصة الشريعة الشفاهية، أي غير المكتوبة، أو مجموعة قوانين اليهود السياسية والحقوقية والمدنية والدينية، وهي عبارة عن الكلمة للشريعة الموسوية المكتوبة وتفسير لها، وأكثرها مبني على تقاليد قديمة وحديثة، حتى إن بعضهم يقول: إن هذه التقاليد وُجدت منذ خروج بني إسرائيل من مصر وتيههم في البرية، وأكثرها مكتوب بالعبرانية القديمة.
- انظر: تاريخ الإسرائيليين ص111،112 بالحاشية.
[40] انظر فيما سبق: تاريخ الإسرائيليين ص111-116، الفكر الديني اليهودي ص66-93، فضح التلمود ص22-38، التلمود تاريخه وتعاليمه ص11-49.
[41] انظر: التلمود تاريخه وتعاليمه ص27.
[42] نقلاً من (التلمود تاريخه وتعاليمه ص28) .
[43] انظر: التوراة تاريخها وغاياتها ص82،83 سهيل ديب، بتصريف بسيط.
[44] انظر: فضح التلمود ص41.
[45] للمزيد من تلك النصوص الدالة على قداسة التلمود عند اليهود راجع: الكنز المرصود في قواعد التلمود ص50-53 د. روهلينج، فضح التلمود ص41-42 برانايتس.
[46] سورة التوبة، آية 31.
[47] سورة التوبة، آية 34.
[48] انظر: الفكر الديني اليهودي ص66.
[49] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص113.
[50] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص113-114.
[51] انظر: إفحام اليهود ص161-162.
[52] انظر: إفحام اليهود ص171.
[53] انظر: التلمود تاريخه وتعاليمه ص25.
[54] انظر: المرجع السابق.
[55] القراؤون (العنانية) : نسبة إلى عِنان بن داود، ويخالفون سائر اليهود في أحكام السبت والأعياد، وكانوا يقيمون في مصر والشام وتركيا وغيرها، ويتركزون حالياً حول الرملة.
- انظر: تاريخ الإسرائيليين ص119، الفكر الديني اليهودي ص247.
[56] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص114.
[57] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص122.(42/122)
[58] الفريسيون: الذين امتازوا عن العامة، وهم طائفة علماء الشريعة من الربانيين قديماً والمتشددين منهم والمتمسكين بالتلمود.
- انظر: تاريخ الإسرائيليين ص117، الفكر الديني اليهودي ص210-212.
[59] انظر: تاريخ الإسرائيليين ص119،120، الفكر الديني اليهودي ص214-216.
[60] الأصبهانية (العيسوية) : أتباع إسحاق بن عوبديا، المعروف بأبي عيسى الأصفهاني، وكان في زمن المنصور العباسي (750-754م) ، وكان ينكر التلمود، وأدخل تعليمات كثيرة على الأحكام اليهودية.
- انظر: الملل والنحل 1/215، الفكر اليهودي الديني ص115،244.
[61] البنيامينية: أتباع بنيامين بن موسى النهاوندي الفارسي (830-860م) ، وهي فرقة متشعبة من طائفة القرائين (العنانيين) ويخالفونهم في بعض المسائل والأحكام، وينكرون التلمود.
- انظر: الملل والنحل 1/217، إفحام اليهود ص171.
[62] انظر: الملل والنحل 1/215، الفكر الديني اليهود ص115،244.
[63] للتوسع في دراسة التلمود وتعاليمه وفضائحه، راجع ما يأتي:
- الكنز المرصود في قواعد التلمود -الدكتور روهلينج، فضح التلمود -للقسيس أي. بي. برانايتس، التلمود -د. جوزيف باركلي، التلمود تاريخه وتعاليمه -ظفر الإسلام خان، كنوز التلمود - ترجمة محمد خليفة التونسي؛ الفكر الديني اليهودي -د. حسن ظاظا.
وسوف يأتي تفصيل هذه المبادئ والتعاليم الباطلة في التلمود وذكر الشواهد عليها في الفصل الثاني - إن شاء الله تعالى -.
[64] نقلاً من التلمود تاريخه ص91 ظفر الإسلام.(42/123)
تابع الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم
المبحث الثالث
أثر الأسفار المقدسة في انحراف اليهود
إن تحريف الأسفار المقدسة وتزويرها والادعاء بأنها من عند الله عز وجل أمر خطير، ينتج عنه انحراف في العقيدة والشريعة والأخلاق، لأن تلك الأسفار هي المصدر لكل ذلك، وهذا ما حدث لليهود - لعنهم الله - حينما تجرأ بعض أحبارهم وخبثائهم في ارتكاب جريمة تحريف التوراة وأسفار أنبياء بني إسرائيل، وتزوير التلمود والكتب، والادعاء بأنها من وحي الله عز وجل، فقد نتج عنه انحراف أتباع التوراة والديانة اليهودية في عقيدتهم وشريعتهم وأخلاقهم، وسوف نستعرض من خلال القرآن الكريم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - ومن خلال الأسفار المقدسة عند اليهود بعض انحرافاتهم وضلالاتهم.
المطلب الأول: انحرافهم في الإيمان بالله عز وجل:
1 - زعموا أن (عزير) ابن الله، وردّ الله عليهم بقوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ} (1) .
2 - تشبيه الله عز وجل بصفات خلقه:
ورد في التوراة المحرفة أن بني إسرائيل رأوا إله إسرائيل وتحت رجليه حجر من العقيق الأزرق.
وفي سفر دانيال 7/9،10 أن إلههم في صورة آدمي وأنه شيخ، أبيض الرأس واللحية - نعوذ بالله من هذا الكفر - وقد قال الله عز وجل عن نفسه تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
3 - وصف الله عز وجل بصفات العيب والنقائص:
__________
(1) سورة التوبة، آية 30.
(2) سورة الشورى، آية 11.(42/124)
ورد في أسفار التوراة المحرفة أن الله تعالى تعب لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام واحتاج إلى الراحة "فأكملت السماوات والأرض وكل جندها وفرغ الرب في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل" (1) ، فردّ الله عليهم بقوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتةِ أَيّامٍ وَمَا مَسّنَا مِن لّغُوبٍ} (2) .
- وزعموا أن يد الله مغلولة فرد عليهم الله عز وجل بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ... } (3) .
- وزعموا أن إلههم يندم ويحزن، وينسى ويتذكر، ويجهل كل ذلك في توراتهم المحرفة والعياذ بالله.
- ورد في تلمودهم أن إلههم يلعب مع الحوت الذي خلقه، ويبكي حتى تسقط دموعه حزناً على ما فعله بأبنائه اليهود، وأنه يكفر عن ذنوبه وأيمانه - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً -.
4- يصفون إلههم بالعنصرية وأنه إله بني إسرائيل فقط.
المطلب الثاني: انحرافهم في الإيمان بالنبوة والأنبياء
1- إضطراب مفهوم النبوة في أسفارهم المحرفة وغموضه، فلفظة (النبي) تطلق في أسفارهم على النبي الصادق المرسل من الله، وعلى النبي الكاذب، وعلى كهنة الهيكل، وعلى العالِمْ الحبْر، وعلى الساحر والمنجم، وعلى كهنة الآلهة الوثنية.
2- اختلاط مفهوم النبوة والوحي عندهم بالكهانة والتنجيم والسحر والرؤيا والخيالات.
3- يجعلون بعض النساء أنبياء، كمريم أخت موسى وخلدة ورفقة وغيرهن.
4- يتهمون بعض أنبيائهم بارتكاب الكبائر من الذنوب كالزنا والقتل والشرك بالله وقد تقدمت الشواهد على ذلك.
__________
(1) انظر: سفر التكوين 2/1-3.
(2) سورة ق، آية 38.
(3) سورة المائدة، آية 64.(42/125)
5- يكفرون ببعض الأنبياء ويقتلون البعض الآخر، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (1) .
6- إنكارهم نبوة ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعرفون نبوته وصدقه كما يعرفون أبناءهم. قال تعالى: {الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنّ فَرِيقاً مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) .
المطلب الثالث: انحرافهم في الإيمان بالتوراة وكتب الله المنزلة على أنبيائه الكرام.
حينما تجرأ اليهود على تحريف التوراة وغيرها من الكتب السماوية فقدت قدسيتها في نفوسهم واستهانوا بها وأصبحوا كما قال عز وجل عنهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ الله المَسِيحَ ابنَ مَرْيَم وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُون} الآية.
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لم يحَمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يحَمِلُ أَسْفاراً بِئسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ الله والله لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ} (3) .
وكانوا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً فاتبعوه وتركوا التوراة" (4) .
المطلب الرابع: انحرافهم في الإيمان بالملائكة.
__________
(1) سورة البقرة، آية 87.
(2) سورة البقرة، آية 146.
(3) سورة الجمعة، آية 5.
(4) تقدم تخريجه في ص62.(42/126)
يحقدون على الملائكة ويزعمون أن جبريل وميكائيل من أعدائهم قال الله عز وجل: {مَن كَانَ عَدُوّاً للهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنّ اللهَ عَدُوّ لّلْكَافِرِينَ} (1) .
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله: "أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدوٌ لهم وأن ميكائيل ولي لهم".
وعن أنس رضي الله عنه "أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني أسألك عن أشياء لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أخبرني به جبريل آنفاً". قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: ... الحديث" (2) .
المطلب الخامس: انحرافهم في الإيمان باليوم الآخر.
1- تنكر بعض فرق اليهود كالصدوقيين قيام الأموات وتعتقد أن العقاب والثواب يحصلان في الدنيا، وبعض فرقهم تعتقد أن اليوم الآخر هو ظهور المسيح المنتظر وإقامة مملكة اليهود العالمية في الدنيا.
2- من يؤمن من اليهود باليوم الآخر فإن إيمانه لا يخلو من انحراف كما أخبرنا القرآن الكريم فقال عز وجل: {وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيَئَتُهُ فَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولََئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة، آية 98.
(2) أخرجه البخاري (انظر: فتح الباري 7/272) .
(3) سورة البقرة، آية 80-82.(42/127)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما فُتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةٌ فيها سُم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود"، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أسألكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه"؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟ قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم، بل أبوكم فلان". فقالوا: صدقت وبررت، فقال: "هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار"؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً"، ثم قال لهم: "هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟ قالوا: نعم. فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سُمّاً؟ فقالوا: نعم. فقال: "ما حملكم على ذلك"؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن اليهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإنما سبعة أيام فنزلت: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَة ... } الآية.
ويرى الحاخامات أن الجحيم له أبواب ثلاثة، باب في البرية، وباب في البحر، وباب في أورشليم.
ومن تعاليم التلمود أيضاً أن نار جهنم لا سلطان لها على مذنبي بني إسرائيل، ولا سلطان لها على تلامذة الحكماء (الحاخامات) (1) .
__________
(1) انظر: التلمود ص30 د. جوزيف باركلي، نقلاً من التلمود تاريخه ومعالمه ص79 ظفر الإسلام خان.(42/128)
3- تحريفهم التوراة وغيرها من كتب الله المنزلة على أنبيائه في إخفاء وحذف نصوص إثبات اليوم الآخر فيها، فإن أسفارهم المقدسة لديهم تكاد تكون خالية منها.
وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) .
4- أما تلمودهم فتبدو العنصرية واضحة في أن الجنة لليهود فقط دون غيرهم وأن حاخاماتهم يدخلونها.
5 - أما مسألة الجنة، فقد قال أحد الحاخامات: الجنة ليست مثل هذه الأرض، لأنه لا أكل فيها ولا شرف ولا زوج ولا تناسل ولا تجارة ولا حقد ولا ضغينة ولا حسد بين النفوس، بل الصالح سوف يجلس وعلى رأسه تاج وسيتمتع برونق السكينة.
ويتناقض هذا مع ما ورد في التلمود أيضاً: أن مأكل المؤمنين في النعيم هو لحم زوجة الحوت المملحة التي قتلها إلههم، ويقدم لهم أيضاً على المائدة لحم ثور بري كبير جداً، كان يتغذى بالعشب الذي ينبت في مائة جبل، ويأكلون أيضاً لحم طير كبير لذي الطعم جداً، ولحم إوز سمين للغاية، أما الشراب فهو من النبيذ اللذيذ القديم المعصور ثاني يوم خليقة العالم.
المطلب السادس: انحرافهم في نظرتهم للبشر (الإنسان) .
ينقسم الناس في نظر اليهود إلى قسمين لا ثالث لهما:
1- القسم الأول: الطبقة الممتازة وهم اليهود الذين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم خلقوا من روح الله، وقد ردّ الله عليهم ادعاءهم ذلك بقوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ ... } (2) .
__________
(1) سورة البقرة، آية 111.
(2) سورة المائدة، آية 18.(42/129)
- وقد ورد في التلمود أن أرواح اليهود جزء من الله كما أن الابن جزء من والده، وأن أرواحهم عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح، لأن أرواح غير اليهود هي أرواح شيطانية وشبيهة بأرواح الحيوانات.
2- القسم الثاني: وهم من عدا اليهود من الناس فهم في نظر اليهود حيوانات خلقهم الله لخدمة اليهود، وصبغهم الله بالصبغة البشرية ليسهل لليهود التعامل معهم وأنه لا قيمة لأرواح غير اليهود أو أعراضهم أو ممتلكاتهم ولا حرمة لها. قال تعالى: { ... ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاُمّيّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) ، و (الأميين) هم من عدا اليهود.
لذلك يعتقد اليهود أن سرقة الأممي (غير اليهودي) تعتبر واجبة وكذلك غشه وخيانته وهتك عرضه والتعامل معه بالربا الفاحش وقتله إن أمكن وفعل كل سوء له، ولا قيمة للعهود والمواثيق التي يعقدها اليهود مع غيرهم ما لم يكن لليهود مصلحة في ذلك.
- فورد في التلمود أنه "مسموح غش الأمي، وأخذ ماله بواسطة الربا الفاحش لكن إذا بعت أو اشتريت من أخيك اليهودي شيئاً فلا تخدعه ولا تغشه".
- وفي التلمود "إن الله لا يغفر ذنباً ليهودي يرد للأمي ماله المفقود، وغير جائز رد الأشياء المفقودة من الأجانب".
- وفي التلمود "اقتل الصالح من غير الإسرائيليين، ويحرم على اليهودي أن ينجي أحداً من باقي الأمم من هلاك، أو يخرجه من حفرة يقع فيها، لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين".
- وقال الحاخام ميموند: إن لليهود الحق في اغتصاب النساء الغير مؤمنات، أي الغير يهوديات.
المطلب السابع: انحرافهم في نظرتهم للكون.
__________
(1) سورة آل عمران، آية 75.(42/130)
يعتقد اليهود - ما داموا أنهم أبناء الله وأحباؤه - أن هذا الكون وما فيه خلق لهم ولأجلهم فعلى اليهود امتلاكه وتسخيره لمصالحهم، وكل ما ليس ملكاً لهم أو تحت أيديهم فهو حق مغتصب منهم عليهم استعادته بشتى الوسائل والطرق. فقد ورد في التلمود أن الحاخام ألبو قال: سلط الله اليهود على أموال باقي الأمم ودمائهم.
وقال الحاخام ممياند مفسراً لما جاء في التوراة (لا تسرق) : إن السرقة غير جائزة من الإنسان أي من اليهود، أما الخارجون عن دين اليهود فسرقتهم جائزة.
المطلب الثامن: انحرافهم في الإيمان بالمسيح المنتظر.
من أركان الاعتقاد اليهودي الإيمان بمجيء المسيح المنتظر من سلالة آل داود الذي سيخلصهم من الذل ويحكم العالم ويقيم مملكة اليهود العالمية، وحقيقة المسيح الذي ينتظره اليهود أنه المسيح الدجال الأعور كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة ". فاليهود لعنهم الله هم جنود الدجال وأعوانه في آخر الزمان وأنه سيخرج فيهم.
المطلب التاسع: انحرافهم في عبادتهم وشعائرهم.
تقدم ذكر بعض انحرافاتهم في تشريعاتهم، في نظرتهم إلى البشر والتعامل معهم بالغش والخداع والكذب، كما أن حاخاماتهم وأحبارهم يحلّون لأتباعهم ما حرّم الله ويحرمون ما أحل الله عز وجل، قال تعالى: {اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللهِ ... } (1) .
يقول د. حسن ظاظا - أستاذ اللغة العبرية -: "وحتى الطقوس والعبادات اليهودية تطورت جنباً إلى جنب مع تطور العقائد، ولسنا نريد أن نقول في هذا الموضوع الحساس برأينا، بل نقتطف اللباب من المقدمة التي كتبها أحد علماء الشريعة اليهودية المصريين، وهو الدكتور هلال يعقوب فارحي لترجمته لمجموع نصوص الصلوات اليهودية الذي سماه (سِدُّور فارحي) - ثم ينقل منه د. حسن ظاظا مقتطفات مطولة نذكر منها:
__________
(1) سورة التوبة، آية 31.(42/131)
"أما زمن وضع الصلاة المستعملة في وقتنا الحاضر فيختلف حسب أقسامها. إنما القسم الأساسي والأهم فيها وهو الشِمَاع والشِمُونه عِسْرِهِ، ينسب إلى عزرا ومائة وعشرين رجلاً من الشيوخ والعلماء، والأنبياء، ومن ضمنهم النبي دانيال وحجي وزكريا وملاخي. فإن عزرا بعد خراب الهيكل الأول وإبطال الذبائح والتقدمات رأى وجوب وضع صلوات هؤلاء الرجال المعروفين برجال الكنيسة الكبرى ووضعوا القسم الأساسي من الصلاة المذكور آنفاً. وهو المنبع عند كافة الإسرائيليين، ولم يتغير أساساً إلى الآن إلا في بعض تغييرات لفظية، وإضافة بعض فصول وأناشيد منتخبة من التوراة والمشنا والتلمود، وأغاني روحية مثل (أدُونْ عولام) (1) . وما أشبه لسلمون جابيرول ورِبِّي يهوذا الليفي، وإبراهيم وموسى عزرا، لتلائم الأوقات والمواسم، أضيفت مؤخراً لغاية الجيل السادس عشر" (2) .
ثم يعلّق د. حسن ظاظا على ما نقله من المقتطفات السابقة، فيقول: وإذ قد تبين لنا من شرح الدكتور هلال فارحي هذا أن أساس التدين اليهودي نفسه، وهو الصلاة الموسوية الموصوفة في كتب الشريعة اليهودية، لا تمت إلى ما كان من طقوس الصلاة الموسوية، فإننا نريد أن نشير أيضاً إلى أن الأعياد الدينية الإسرائيلية ضعيفة الصلة هي كذلك بموسى وشريعته، بل إن كثيراً منها يرجع إلى مناسبات وذكريات تاريخها متأخر عن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام بكثير.
ومن تلك الأعياد اليهودية المحدثة: عيد البوريم أو عيد النصيب، ويسميه الكتاب العرب (عيد المسخرة أو عيد المساخر) ، والسبب في ذلك ما جرت به بعض التقاليد اليهودية الشعبية في هذا العيد من إسراف في شرب الخمر، ولبس الأقنعة والملابس التنكرية على طريقة المهرجان (الكرنفال) .
__________
(1) معناها (رب العالم) .
(2) انظر: الفكر الديني اليهودي ص145.(42/132)
وهذا العيد أيضاً لا يمت بصلة إلى رسول الله موسى عليه الصلاة والسلام، ولا إلى شريعته، بل هو احتفال تذكاري متصل بملابسات ممهدة للعودة من السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، بناء على وعد صدر من ملك الفرس إلى ممثلي الجالية اليهودية بالعراق، وهو احتفال أشد التصاقاً بالسياسة منه بالدين.
وبالرغم من وضوح مناسبة هذا العيد من الناحية السياسية والتأريخية، فإن التلمود يزعم أنه كان معروفاً محتفلاً به منذ أيام يوشع بن نون لأسباب مماثلة - كما يقول - للأحداث التي وقعت لليهود وفي السبي البابلي.
وبعد أن يذكر د. حسن ظاظا عدداً من الأعياد اليهودية وتأريخها وبعض طقوسها يخلص إلى النتيجة الآتية حيث يقول: مما سبق يتبين أن أعياد اليهود معظمها لا يرجع إلى عهد موسى، بل هو أحدث من ذلك بكثير، وربما كانت أعياد الحج ترجع إلى أشياء تماثلها في الشريعة الموسوية القديمة، وأعياد الحج عندهم هي الفصح والحصاد والظلل.
ومن انحرافاتهم في الشريعة أيضاً مزاولتهم للسحر، حيث يزاول أحبارهم ورؤساؤهم أعمال السحر والدجل مما هو مدون في كتابهم (الكابالا) أحد كتبهم السرية التلمودية، وقد عُرف اليهود بمزاولة السحر والشعوذة قديماً وحديثاً.(42/133)
قال تعالى: {وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلََكِنّ الشّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِن أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إنَّما نحن فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر فَيَتَعَلَّمونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقونَ بِهِ بَين المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُم بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بإِذْنِ الله وَيَتَعَلَّمونَ مَا يَضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهُم وَلَقَدْ عَلِمُوا لمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُم لَو كَانُوا يَعْلَمُون} (1) ، وفي السنة النبوية أن لبيد بن الأعصم اليهودي - لعنه الله - قد سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر، وشفاه الله عز وجل من السحر بالمعوذتين.
والتلمود يمتلئ بطقوس السحر والشعوذة والعرافة، فيقول الحاخام راوهنا: كل منا يوجد عن شماله ألف (من العفاريت) ، ويوجد عن يمينه عشرة آلاف.
وقال ربَّا: إن الازدحام أثناء الموعظة بالكنيس بسببهم (العفاريت) ، واستهلاك ملابس الحاخام (الإبلاء) بسبب احتكاكهم بها، والأقدام المكسورة بسببهم. ثم يصف الحاخام بعض الطرق السحرية لمن أراد مشاهدة العفاريت.
__________
(1) سورة البقرة، آية 102.(42/134)
ولا يزال اليهود يمارسون السحر إلى يومنا هذا، بل تتميز ظاهرة الشعوذة لدى الإسرائيليين أن الأشخاص الذين يمارسونها في الأساس هم رجال دين من الحاخامات، أما جمهورهم فهو من مختلف قطاعات الشعب وعلى جميع المستويات، ويشتهر في إسرائيل حالياً عدد كبير من الحاخامات الذين يمارسون السحر، حيث يحتاج المرء لتحديد موعد مع أحد هؤلاء الحاخامات إلى وقت طويل، وتشاهد أحياناً طوابير من الناس أمام مقراتهم بانتظار دور للدخول، ويعتبر الحاخام (إسحاق كادوري) واحداً من أشهر هؤلاء الحاخامات الذي بالإضافة إلى كون قائمة زبائنه طويلة جداً فإنها تتضمن نخبة من ألمع الأسماء في الحياة السياسية والعسكرية والإجتماعية عامة في إسرائيل ومن بينهم رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين، ووزير الداخلية السابق آربيه درعي، ووزير الإسكان بنيامين اليعازر وغيرهم.
ومن تعاليمهم السرية في كتبهم تقديم ذبيحة أو أضحية بشرية في أعيادهم حيث يخلط الدم البشري المستنزف بطريقة بشعة مع عجين الفطير الذي يؤكل في عيد الفصح، وذلك من أشنع وأفظع ما يرتكبه أحبارهم باسم الدين، وقد افتضح اليهود في عدد من حوادث الإختطاف والقتل لذلك الغرض البشع المشين.
تلك إشارات موجزة ولمحات خاطفة عن بعض انحرافات اليهود وأفكارهم الخبيثة وعقائدهم الفاسدة التي نتجت عن التوراة المحرفة وما يتبعها من أسفارهم الأخرى المبدّلة ومن إيمانهم بالتلمود المكذوب ومن إتباعهم لأحبارهم وحاخاماتهم فيما يأمرونهم به من التحليل والتحريم، فاليهودية ديانة كهنوتية بمعنى أن الحاخامات والكهنة هم الذين يضعون لليهود شرائعهم كشأن الديانة النصرانية، ومن هنا جاء تقديس الحاخامات ورجال الدين اليهودي واعتقاد عصمتهم، ومجمع أحبارهم يسمى (السنهدرين) ويسمى الآن (الكهيلا) له دور كبير في حياة اليهود الدينية والاجتماعية والسياسية.(42/135)
ومن ذلك المجمع الكهنوتي لحاخامات اليهود المتمسكين بتعاليم التوراة المحرفة والتلمود الخبيث انبثقت أخطر وأخبث خطة عرفها العقل البشري للاستيلاء على العالم والتحكم فيه وإفساد الدين والأخلاق وهو ما يعرف بـ (برتوكولات حكماء صهيون) وعنها انبثقت المؤسسات والمنظمات والنوادي اليهودية الصهيونية السرية التي عاثت في الأرض فساداً كالماسونية، والروتاري، واللّيونزكِلَبْ (نوادي الأسود) ، وجمعية بنايْ بِرْث (أبناء العهد) وغيرها مما تتنوع فيها الأسماء ولكن يبقى المضمون والهدف واحد وهو خدمة الأهداف الصهيونية اليهودية الرئيسة وهي على ثلاث مراحل:
الأولى: تجميع اليهود وإقامة دولة ووطن لهم في فلسطين، وقد نجحوا في ذلك بتعاون مع القوى الاستعمارية الصليبية الحاقدة.
الثانية: توسيع دولة إسرائيل لتصبح (إسرائيل الكبرى) لتشمل الأراضي الواقعة بين النيل والفرات وتشمل المدينة المنورة وخيبر.
الثالثة: المملكة اليهودية العالمية، حيث يخضع العالم لسيطرة اليهود وتكون أورشليم عاصمة المملكة العالمية التي يحكمها ملك يهودي.
تلك بعض نتائج وآثار الانحرافات العقدية والتشريعية عند اليهود، وتأثيرها في علاقتهم مع الآخرين، بل خطر اليهود على الآخرين، وهذا ما سنبينه - إن شاء الله تعالى - في دراسة قريبة عن هذا الموضوع بعنوان (خطر اليهود على الإسلام والعالم) .(42/136)
ويتخذ اليهود جميع الوسائل والطرق في إثارة الفتن والحروب ونشر الفساد الأخلاقي والدعوة إلى الإباحية والإجهاض والزنا وإشاعة الربا والفساد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني في سبيل تحقيق أهدافهم وأحلامهم وهم في حقيقتهم أحقر وأجبن وأضعف من أن يحققوا شيئاً من ذلك ولكنهم انتهازيون يستفيدون من الأحداث والاضطرابات والفتن في تحقيق أهدافهم ولا يتناهون عن منكر في سبيل ذلك قال الله عز وجل: {لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (1) .
فكان عقاب الله عز وجل عليهم بقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ إِلاّ بِحَبْلٍ مّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مّنَ النّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (2) .
وقد يقول قائل: إنهم الآن أصحاب عز وملك وسلطان بعد أن أصبح لهم كيان دولي بإنشاء (دولة إسرائيل) .
__________
(1) المائدة، آية 78،79.
(2) سورة آل عمران، آية 112.(42/137)
والجواب أنهم مع قيام هذه الدولة يعيشون تحت حماية غيرهم من دول الكفر الكبرى، فهي التي تحميهم، وتمدهم بأسباب الحياة والقوة، فينطبق على هذه الحالة - أيضاً - أنها بحبل من الناس. فاليهود لا سلطان لهم، ولا عزة تكمن في نفوسهم، ولكنهم مأمورون مسخرون أن يعيشوا في تلك البقعة من الأرض، لتكون مركزاً لتلك الأمم التي تعهدت بحمايتهم ليقفزوا منه إلى محاربة المسلمين، إذا أتيحت لهم فرصة. ولو أن المسلمين غيروا ما بأنفسهم، وتمسكوا بشريعتهم، واجتمعت قلوبهم، وتوحدت أهدافهم لكانت تلك الدولة ومن يحميها في رعب من المسلمين. والأمل في الله، أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيدفعوها، ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فهرس المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
1 - أبحاث في الفكر الديني اليهودي - د. حسن ظاظا، الطبعة الأولى دار القلم، بيروت، 1407 هـ.
2 - الإسرائيليات في التفسير والحديث - د. محمد الذهبي.
3 - الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير - د. رمزي نغاعة.
4 - الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير - د. محمد أبو شهبة
5 - الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام - د. علي عبد الواحد وافي، دار النهضة مصر، القاهرة.
6 - إظهار الحق -الشيخ رحمة الله الهندي، تحقيق د. أحمد السقا، دار التراث العربي، القاهرة.
7 - أضواء على اليهود - مصطفى السعدني.
8 - إفحام اليهود - السموأل بن يحيى المغربي، تحقيق: د. محمد الشرقاوي، الطبعة الأولى، دار الهداية - مصر، 1406هـ.
9 - بنو إسرائيل في القرآن والسنة - د. محمد سيد طنطاوي، الطبعة الأولى، الزهراء للإعلام العربي - القاهرة، 1407هـ.
10 - تاريخ الإسرائيليين - شاهين بك مكاريوس - مطبعة المقتطف، مصر 1904م.(42/138)
11 - التحريف في التوراة - د. محمد علي الخولي، الطبعة الأولى، مطبعة النرجس - الرياض، 1411هـ.
12 - ... تفسير القرآن العظيم - للإمام ابن كثير- طبعة الأولى، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ.
13 - التلمود تاريخه وتعاليمه - ظفر الإسلام خان، الطبعة الرابعة، دار النفائس، بيروت، 1401 هـ.
14 - جامع بيان العلم وفضله، للإمام ابن عبد البر.
15 - جامع البيان في تأويل آي القرآن، للإمام أبي جعفر الطبري، الطبعة الثالثة، مطبعة الحلبي، مصر، 1388 هـ.
16- الجامع الصحيح - للإمام مسلم النيسابوري - تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى سنة 1375 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
17- الجامع الصحيح - للإمام محمد بن إسماعيل البخاري - مطبوع مع فتح الباري شرح صحيح البخاري.
18 - الجامع الصحيح - للإمام محمَّد بن عيسى الترمذي - تحقيق أحمد محمَّد شاكر، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1356 هـ / 1937 م.
19- جريدة الشرق الأوسط - الصادرة من لندن.
20 - الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح - لشيخ الإسلام ابن تيمية، نشر السيد علي صبح المدني، مطابع المجد التجارية، جده.
21 - دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة - د. موريس بوكاي، دار المعارف، القاهرة.
22 - رسالة في اللاهوت والسياسية - باروخ سبنوزا، ترجمة د. حسن ضيفي، الهيئة المصرية للتأليف، القاهرة، 1971م.
23 - السامريون واليهود - د. سيد فراج راشد، دار المريخ للنشر، الرياض.
24 - سلسلة الأحاديث الصحيحة - للشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
25 - سنن الدارمي - لأبي محمَّد عبد الله الدارمي، دار إحياء السنة النبوية، بيروت.
26 - السنن الكبرى - للحافظ البيهقي.
27 - السنن القويم في تفسير العهد القديم - مجموعة من اللاهوتيين - مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت، 1972م.(42/139)
28- شرح العقيدة الطحاوية - للإمام ابن أبي العز الحنفي، الطبعة الرابعة، المكتب الإسلامي - بيروت، 1391هـ.
29 - صحيح الجامع الصغير وزياداته - للشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت، 1406هـ.
30 - علاقة الإسلام باليهودية - د. محمد خليفة حسن، دار الثقافة للنشر - القاهرة، 1988م.
31 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني دار المعرفة، بيروت.
32 - فضح التلمود - الأب آي. بي. برانايتس. ترجمة زهدي الفاتح الطبعة الثانية، دار النفائس، بيروت، 1403هـ.
33 - في مقارنة الأديان بحوث ودراسات - د. محمد الشرقاوي.
34 - قاموس الكتاب المقدَّس. مجموعة من اللاهوتيين، القاهرة.
35- قصة الحضارة - ول ديورانت، الطبعة الثالثة، القاهرة 1973م.
36- الكتاب المقدَّس - طبعة دار الكتاب المقدَّس، القاهرة.
37- الكتاب المقدَّس - منشورات دار المشرق، بيروت، 1983م.
38- الكنز المرصود في قواعد التلمود - د. روهلنج، ترجمة: د. يوسف نصر الله، الطبعة الأولى، دار القلم، بيروت، دمشق 1408هـ /1987م.
39 - كنوز التلمود، ترجمة محمد خليفة التونسي. الطبعة الأولى، دار البيان، الكويت، 1409هـ.
40 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ.
41 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مكتبة المعارف - بيروت ن 1406هـ.
42- مجموع الفتاوى - لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، مطابع الرياض.
43- مشكاة المصابيح للتبريزي (محمَّد بن عبد الله الخطيب) ، تحقيق الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399هـ.
44- مصنف ابن أبي شيبة، الطبعة الأولى، دار التاج، بيروت، 1409هـ.
45 - الملل والنحل - عبد الكريم الشهرستاني - تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة - بيروت، 1402هـ.(42/140)
46 - ... نقد التوراة العبرية والسامرية واليونانية - د. أحمد السقا.
47 - النهاية في غريب الحديث - لابن الأثير، تحقيق: محمود الطناحي وطاهر الزاوي، نشر أنصار السنة المحمدية - باكستان.
48 - هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى للإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق د. أحمد السقا، الطبعة الثانية، المكتبة القيمة، القاهرة، 1399هـ.
49 – اليهودية – د. أحمد شلبي، الطبعة السابعة، مكتبة النهضة المصرية، 1984 م.(42/141)
الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين
دراسة تطبيقية على ألفية ابن مالك
إعداد
د. إبراهيم بن صالح الحندود
رئيس قسم النحو والصرف وفقه اللغة
كلية العلوم العربية والاجتماعية بالقصيم
فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
حمداً لك اللهم لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد أفضل من أرسل إلى البشرية وخير من نطق بالعربية وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإنه لم يبلغ قوم في الحفاظ على لغتهم، والحرص على نقائها، والتفاني في خدمتها ما بلغه المسلمون؛ إذ يسَّر الله - عز وجل - من هذه الأمة من نذر نفسه لخدمة هذه اللغة في شتى فروعها. وما كثرة المصنفات وتتابع ظهورها حتى اليوم - وما بعده - إن شاء الله تعالى - إلا دليل على ذلك. ولا غرو في هذا فهي لغة القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه إلى يوم الدين {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، {إناَّ نَحْنُ نَزَّلْنا الْذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} .
وممَّا لقي عناية من علماء العربية لغة النثر والشعر من حيث اتفاقُهما أو اختلافهما في بناء الألفاظ وصياغة العبارات، وكذا الخضوع لقواعد اللغة، والنحو حسب طبيعة كلٍّ منهما.(42/142)
لقد كانت النظرة في بادئ الأمر إلى فنّيَ الشعر والنثر واحدة من حيث الخصائص التعبيرية في صياغة العبارة وبناء الألفاظ؛ بدليل اشتراكهما في شواهد اللغة والنحو، فلم يفرق علماء العربية بين شاهد المنثور وشاهد المنظوم في كتبهم، فترى الشاهد من القرآن الكريم جنباً إلى جنب مع الشاهد من الحديث النبوي، والشعر، والمأثور من أقوال البلغاء على الرغم من التفاوت الملحوظ في طريقة الصياغة أو الإعراب. وغاية ما في الأمر أنَّ هذا التغير عندهم يُعدُّ شذوذاً عن القاعدة قد يرقى إلى درجة الجواز إذا جاء في القرآن أو الحديث أو المقبول إذا جاء على لسان شاعر كبير ممن يستشهد بشعرهم. وما عدا ذلك خطأٌ لا ذكر للضرورة فيه.
وإن المتتبع لسيبويه - رحمه الله - ليلحظ أنه لم يصرِّح في كتابه بتعريف محدد للضرورة، بل إن لفظ "الضرورة"لم يجر له ذكر عنده على الإطلاق
- على اتساع الكتاب - وإنما كان يكتفي بتعبير يؤدي إلى معناه دون التصريح بلفظه.
ودخلت الضرورة - فيما بعد - في ميادين البحث اللغويّ، والنقديّ على نطاق واسع.
فدخلت ميدان اللغة؛ لأنها تضطر الشاعر إلى تغيير بناء اللفظ؛ زيادةً أو حذفاً أو خروجاً عن القياس، فتناول اللغويون ذلك بالبحث من خلال معاجم اللغة وأشاروا إلى هذه الضرائر.
ودخلت ميدان النحو لكونها تدفع الشاعر إلى مخالفة القياس في بناء الجملة وفي عمل الأدوات وكذا التغيير في تركيب الجملة (من حيث التقديم والتأخير) .(42/143)
إن قضية الضرورة وما أثارته من اهتمام لدى العلماء تعتبر أحد الموضوعات التي استهوت عدداً غير قليل من الدارسين، وشغلت أذهان الكثير من القدماء، والمحدثين وذلك للعلاقة المتينة بين اللغة والشعر؛ إذ إن الشعر من المصادر الرئيسة التي استمد منها العلماء قواعد اللغة وأصولها. ولكنهم وجدوا فيه بعض الألفاظ والتراكيب التي تشذ عن هذه الأصول التي استنبطوها منه ومن كلام العرب المحتج بكلامهم فدفعهم ذلك إلى التأمل والتماس العلل.
ولأهمية هذا الموضوع واختلاف أقوال العلماء فيه رأيت أن أدلي دلوي فيه من خلال هذا البحث المقرون بتطبيق الضرورة على ألفية ابن مالك لكونها نظماً تسوغ فيه الضرائر من جهة، وما يعتقده صاحبُها من أن الضرورة (ما لا مندوحة للشاعر عنه بأن لم يمكنه الإتيان بعبارة أخرى) .
ولا أزعم أني أوفيت البحث حقَّه، كما لا أدعي خلّوه من الخطأ والثغرات، ولكن حسبي أني اجتهدت وبذلت وسعي ما استطعت. فإن وفقت للصواب فلله الحمد والمنة على توفيقه، وإن أخطأت أو قصَّرت فأسأله هَدْيَه وتوفيقه.
وفي الختام أتوجه بالشكر إلى الله عز وجل على أن وفقني لإتمام هذا البحث، وأسأله تعالى أن يجعل مابُذل فيه خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
د. إبراهيم بن صالح الحندود
التمهيد
أولاً: طبيعة الشعر وعلاقته بالضرورة:(42/144)
الشعر كلام موزون بأفاعيلَ محصورة في عدد معيّن من الحروف، والحركات، والسكنات، يستلزم بناؤه على هذه الصورة المقيَّدة بالوزن، والقافية أن يلجأ قائله - أحياناً - إلى الخروج عن القواعد الكلّيّة وارتكاب ما ليس منها؛ إمّا بزيادة اللفظ أو نقصانه أو تغيير في تركيب الجملة من تقديم وتأخير أو فصل بين متلازمين، وغير ذلك مما لا يُستجاز في الكلام مثله؛ لأن الشاعر غير مختار في جميع أحواله فيفعل ذلك تلافياً لقصور اللفظ الذي يناسب المعنى الذي يريد مع الحفاظ على الوزن وسلامة القافية.
على أنه لا يخرج عن القواعد المذكورة كيفما اتفق، وإنما يسلك طريقة لها وجه في العربية.
قال سيبويه (180هـ) : "وليس شيءٌ يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهاً" "فإن جهلنا ذلك فإنما جهلنا ما علمه غيرنا، أو يكون وصل إلى الأول ما لم يصل إلى الآخر".
كما ألحقوا الكلام المسجوع في ذلك بالشعر لكون السجع يجري في ذلك مجرى الشعر، بدليل قولهم: "شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى" فحذفوا التنوين من "ثرى"، ومن "مرعى"إتباعاً لقولهم: "ترى"؛ لأنه فعل فلم ينوّن لذلك.
وقالوا: "الضِّيح والريح"فأبدلوا الحاءَ ياءً إتباعاً للريح، والأصل: الضِّحّ.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ارجعن مأزورات غير
مأجورات"؛ بإبدال الواو ألفاً إتباعاً لمأجورات، والأصل: "موزورات"؛ لأنه من الوزر.
وقد جاء مثل ذلك أيضاً في فواصل القرآن لتتفق. قال عز وجل: {فَأَضَلُّونا السَّبِيلا} ، وقال سبحانه: {وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} (1) فإن زيادة الألف في "السبيلا"و "الظنونا"بمنزلة زيادتها في الشعر على جهة الإطلاق.
__________
(1) من الآية 67، من سورة الأحزاب.(42/145)
وقد كان النحاة يقفون إزاء الأبيات المخالفة لمذاهبهم وأقيستهم فيعمدون إلى التأويل لإدخالها ضمن هذه الأقيسة، فأصبحت تلك الأبيات الخارجة عن القياس المألوف ميداناً رحباً لتأويلات النحاة وتعليلاتهم، فدخلت بسبب ذلك ضمن الخلاف النحوي؛ إذ كل طرف لا يتردد في إلقاء جملة مما احتج به الطرف الآخر في بحر الضرورة.
ثانياً: التأليف في الضرائر:
لسيبويه - رحمه الله - جهود في مجال الكتابة عن الضرورة - وإن كانت لفظة "الضرورة"غير مذكورة في كتابه كما سبق - إلاّ أن دراسته لهذه الظاهرة تفتقر إلى المنهجية المحددة القائمة على التقسيم، والتصنيف للمظاهر العامة للضرورة. وهذا لا يلغي سمة التبكير، والريادة في معالجة موضوع متشعب الأطراف. فما كتبه عن الضرورة يعدّ إضاءات موزعة ذات فوائد متفرقة، أفاد منها النحاة في هذا المجال.
ولعل أبا بكر بن السراج (316هـ) قد سبق في بداية القرن الرابع إلى تثبيت مبادئ التصنيف في الضرائر الشعرية بقوله: "ضرورات الشعر أن يضطر الوزن إلى حذف، أو زيادة، أو تقديم أو تأخير في غير موضعه، وإبدال حرف، أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل، أو تأنيث مذكر على التأويل".
هذا النص يمكن عدُّه الأساس التاريخي الأول لحركة التأليف، والكتابة المنهجية عن الضرورة.
أما المبكِّر إلى حصر تلك المظاهر حصراً علمياً فهو أبو سعيد السيرافي (368هـ) حيث يقول: "ضرورة الشعر على تسعة أوجه: الزيادة، والنقصان، والحذف، والتقديم، والتأخير، والإبدال، وتغيير وجه من الإعراب إلى وجهٍ آخر على طريق التشبيه، وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث".
وإنما يُعَدّ هذا النص لشارح "الكتاب" أصلاً لكل ما ورد في فصول النحاة من نصوص، وإشارات إلى أنواع هذه الظاهرة؛ لأن ابن السراج قد اقتصر على سبعة أقسام فقط ولم يشر إلى ما يقع في الشعر من تذكير المؤنث، إلا أن يكون هذا النقص سهواً من ناسخ كتاب "الأصول"أو محققه.(42/146)
ويمكن اعتبار تذكير المؤنث الذي لم يذكره أبو بكر داخلاً ضمن الحذف الذي أشار إليه.
أمَّا التطور في تصنيف الضرورات فقد سار - بعد أبي سعيد السيرافي - على مرحلتين:
الأولى: الانتقال من التصنيف السباعي إلى التصنيف الخماسي، كما هو الشأن عند ابن عصفور (669هـ) في "ضرائر الشعر"، و "شرح الجمل"، و "المقرب"وأبي الفضل الصفار القاسم بن علي البَطَلْيوسي (بعد 630هـ) في "شرح كتاب سيبويه". وجرى على هذا أبو حيان (745هـ) ، في "ارتشاف الضرب".
ويتمثل هذا التقسيم في: الزيادة، والنقص، والتقديم والتأخير، والبدل.
الثانية: الانتقال من التصنيف الخماسي المذكور إلى تصنيف آخر ثلاثي يتمثل في الزيادة، والحذف، والتغيير. وقد بنى الآثاري (828هـ) سرده للضرورات في منظومته "كفاية الغلام في إعراب الكلام" فقال:
ضرورة الشاعر تمحو ما وجبْ
على الذي يتبع أوزان العربْ
وهي ثلاث فاغنم الإفادة
الحذف والتغيير والزيادة
كما أقام على هذا التقسيم أبو المعالي محمود شكري الآلوسي (1342هـ) ترتيب الضرورات في كتابه "الضرائر"، وجرى على هذا جمعٌ غير قليل من العروضيين المعاصرين وغيرهم مفيدين من التصنيفات المذكورة السابقة مع اختلاف يسير.
فللدكتور عبد الوهاب العدواني كتاب بعنوان "الضرورة الشعرية. دراسة نقدية لغوية"، وللدكتور محمد حماسة عبد اللطيف مصنَّفٌ بعنوان "الضرورة الشعرية في النحو العربي"، كما صنَّف الدكتور خليل بنيان الحسون مصنفاً بعنوان "في الضرورة الشعرية".
على أن أول كتاب يصل إلينا يستقل ببحث الضرورة هو كتاب "ما يجوز للشاعر في الضرورة"لأبي جعفر القزاز (412هـ) .
الفصل الأول
مفهوم الضرورة لدى النحويين
أولاً: رأي سيبويه وابن مالك:(42/147)
لم يصرّح سيبويه بتعريف محدد للضرورة، وإنما كان يكتفي ببعض العبارات التي فهم منها بعض شرّاح "الكتاب"ودارسيه مفهوم الضرورة عنده من خلال تناوله لبعض المسائل، وبخاصة الباب الذي عقده في أول الكتاب بعنوان "ما يحتمل الشعر".
فمن خلال بعض النصوص حدّد العلماء رأي سيبويه في "الضرورة"وهو أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز له في الكلام بشرط أن يضطر إلى ذلك، ولا يجد منه بداً، وأن يكون في ذلك ردُّ فرع إلى أصل، أو تشبيه غير جائز بجائز.
قال سيبويه - عند قول أبي النجم العجلي -:
قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ تدَّعي
عليَّ ذنباً كلُّه لم أصنعِ
"هذا ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر البيت ولا يخل به ترك إظهار الهاء".
ولا يبعد مفهوم ابن مالك (ت 672هـ) للضرورة عن مفهوم سيبويه المتقدم وهو أن الضرورة: ما لا مندوحة للشاعر عنه بحيث لا يمكن الاتيان بعبارة أخرى.
صرَّح بهذا في شرح التسهيل وشرح الكافية الشافية.
فوصل "أل"بالمضارع - على سبيل المثال - جائز عنده اختياراً لكنه قليل، فذكر أن قول الفرزدق:
ما أنتَ بالحكمِ التُرضى حكومته
ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ
وقول ذو الخِرَق الطهوي:
يقول الخنا وأبغض العجم ناطقاً
إلى ربنا صوت الحمار اليجدعُ
غيرُ مخصوص بالضرورة؛ لتمكن قائل الأول من أن يقول:
ما أنت بالحكم المرضي حكومته
ولتمكن الآخر من أن يقول:
إلى ربنا صوت الحمار يُجدعُ
فإذ لم يفعلا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار.
وهذا الاتجاه في فهم الضرورة قد نُسب إلى ابن مالك وشُهر به، حتى إن كثيراً ممن خالف هذا المنهج وجّه نقده إلى ابن مالك وحده ولم يتعرّض لسيبويه، كقول أبي حيان: "لم يفهم ابن مالك معنى قول النحويين في ضرورة الشعر ... " إلخ.(42/148)
وإن المتأمل ليستوقفه النظر حيال قبول الناس لهذا الرأي في فهم الضرورة؛ إذ لم يجد كثرة من الأنصار له على الرغم من أن أشهر الذين قالوا به هما سيبويه وابن مالك، والأول كان يعيش في عصر الاستشهاد ويستقي شواهده من المصادر الحية أو ممن سمعها من المصادر الحية، والآخر يعد أمَّة لا في الاطلاع على كتب النحاة وآرائهم فحسب، بل أيضاً في اللغة وأشعار العرب بله القراءات ورواية الحديث النبوي.
(ومعنى هذا أنّ رأي هذين الإمامين لما امتازا به من سعة رواية ونفاذ رأي ينبغي أن يكون له وزنه في دراسة اللغة؛ لأنه نابع من فهم لخصائصها أصيل وحسّ بها غير مدخول) .
لكن هذا الرأي قد تعرَّض لنقد شديد من المتأخرين كأبي إسحاق الشاطبي (790هـ) ، وأبي حيان، وابن هشام (761هـ) ، والشيخ خالد الأزهري (905هـ) ، وعبد القادر البغدادي (ت1093هـ) .
وملخص رد الشاطبي على ابن مالك يتمثل في الآتي:
أولاً: أن النحاة قد أجمعوا على عدم اعتبار هذا المنزع، وعلى إهماله في النظر القياسي جملة، ولو كان معتبراً لنبهوا عليه.
ثانياً: أن الضرورة لا تعني عند النحويين أنه لا يمكن في الموضع غير ما ذكر؛ لأنه ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره، دليل ذلك الراء في كلام العرب، فإنها من الشياع في الاستعمال بمكان لا يُجهل، ولا يكاد ينطق أحد بجملتين تعريان عنها. وقد هجرها واصل بن عطاء (131هـ) لمكان لثغته فيها، بل كان يناظر الخصوم ويخطب على المنبر فلا يُسمع في نطقه راءٌ، حتى صار مثلاً. وإن الضرورة الشعرية لهي أسهلُ من هذا بكثير، وإذا كان الأمر هكذا أدى إلى انتفاء الضرورة في الشعر وذلك خلاف الإجماع، وإنما معنى الضرورة أن الشاعر قد لا يخطر بباله إلا لفظة ما اقتضت ضرورة النطق بها في ذلك الموضع زيادة أو نقص أو غير ذلك، في الوقت الذي قد يتنبه غيره إلى أن يحتال في شيءٍ يزيل تلك الضرورة.(42/149)
ثالثاً: أنه قد يكون للمعنى الواحد أكثر من عبارة بحيث يلزم في إحداها ضرورة ولكنها هي المطابقة لمقتضى الحال، وهنا يرجع الشاعر إلى الضرورة؛ لأن اعتناء العرب بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ. وإذا تبيَّن في موضع ما أن ما لا ضرورة فيه يصلح هنالك، فمن أية جهة يعلم أنه مطابق لمقتضى الحال؟
رابعاً: أن العرب قد تأبى الكلام القياسي لعارض زحاف فتستطيب المزاحف دون غيره أو بالعكس فتركب الضرورة لذلك.
ومن أقوال ابن هشام في الرد على ابن مالك قوله: "إذا فُتح هذا الباب - يعني زعم القدرة على تغيير بنية الشعر وألفاظه - لم يبق في الوجود ضرورة، وإنما الضرورة عبارة عما أتى في الشعر على خلاف ما عليه النثر".
ومن أقواله أيضاً: إن كثيراً من أشعار العرب يقع عن غير روية، وهو مما يدعو إلى عدم التمكن من تخيّر الوجه الذي لا ضرورة فيه.
كما أن الشعر لمّا كان مظنة للضرورة استُبيح فيه ما لم يُضطرّ إليه، كما أُبيح قصر الصلاة في السفر؛ لأنه مظنة المشقة مع انتفائها أحياناً والرخصة باقية.
هذا الكلام قاله ابن هشام في رده على ابن مالك إذ زعم أن إيراد الضمير المتصل بعد "إلاَّ"في قول الشاعر:
وما نبالي إذا ما كنتِ جارتَنا
ألاّ يجاورنا إلاَّكِ ديارُ
ليس ضرورة، لتمكن قائله من أن يقول:
ألا يكون لنا خلٌّ ولا جارُ
ثم إن الشاعر قد يتاح له في حرارة التجربة الشعرية غير عبارة عن الفكرة الواحدة، لكنه لا يختار من الألفاظ إلا ما يأنس فيه الملاءمة التامة للمعنى الذي ينشده وإن ساوره قلق فني في دقة لغته، وقدرتها على التعبير عنه. فإذا ثبت هذا وأنه هو واقع الشعر اللغوي فإن التفكير بنفي الضرورة، ومحاولة استبدالها بما لا ضرورة فيه أمرٌ من الصعوبة بمكان على الشاعر، ناهيك عن الناقد اللغوي، والنحوي وذلك لتفاوت القدرات على تخيّل الألفاظ، واستحضارها من المعاجم الذهنية المختلفة في سعتها، وتنوعها، وصفائها.(42/150)
وقد حاول بعض المحدثين الاعتذار لابن مالك بأنه كان يعمل ثقافته، وفكره حين بيّن رأيه في الضرورة الشعرية. فكان يضع في اعتباره لهجات العرب المتباينة، والقراءات القرآنية، والحديث النبوي الشريف بحيث إذا ورد فيها شيء قال النحاة عن نظيره في الشعر إنه ضرورة لم يعدّه هو كذلك، بل يرجع كل ظاهرة إلى أصلها، وأحياناً ينصّ على أنه لهجة قبيلة معينة وضرورة عند غيرهم. فنراه - مثلاً - يقول عن تسكين هاء الغائب واختلاس حركتها: "وقد تسكن أو تختلس الحركة بعد متحرك عند بني عُقَيل، وبني كلاب اختياراً، وعند غيرهم اضطراراً".
وقد ذكر في كتاب "التسهيل"جملة من المسائل يعدّها بعضهم ضرورة ولا يراها هو كذلك كحذف نون الوقاية من "ليس"، و "ليت"، و "عن"، و "قد"، و "قط"، وزيادة "ال"في العلم، والتمييز، والحال، وإسكان عين "مع"، والفصل بينها وبين تمييزها، وتأكيد المضارع المثبت، ومجيء الشرط مضارعاً، والجواب ماضياً، وإجراء الوصل مجرى الوقف.
وفي بعض كتبه الأخرى يشير إلى أن بعض الظواهر تكثر في الشعر دون النثر.
(ولعله في هذا متأثر بسيبويه. وهذا يشعر بأنهما يدركان أن للشعر نظاماً خاصاً به في صرفه، ونحوه ينبغي أن يدرس وحده منفصلاً عن النثر، ولكن النظرة السائدة إلى وحدة اللغة جعلت هذه الملاحظة تقف عند حدّ الإدراك الذي لم يؤيده التنفيذ العملي) .
ثانياً: رأي ابن جني والجمهور:
يرى أبو الفتح عثمان بن جني (392هـ) وكثير من النحويين أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء كان للشاعر عنه مندوحة أم لا؟ ولم يشترطوا في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره، بل جوّزوا له في الشعر ما لم يجز في الكلام؛ لأنه موضع قد أُلفت فيه الضرائر. دليل ذلك قول الشاعر:
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا
وكريمٍ بخله قد وضَعَهْ(42/151)
في رواية من خفض "مقرف"، حيث فصل بين "كم"وما أضيفت إليه بالجار والمجرور، وذلك لا يجوز إلا في الشعر، ولم يضطر إلى ذلك إذ يزول الفصل بينهما برفع "مقرف"أو نصبه.
ومما استدل به صاحب هذا المذهب - أيضاً - قول الآخر:
فلا مزنةٌ ودقت ودقَها
ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها
ألا ترى أنه حذف التاء من أبقلت، وقد كان يمكنه أن يثبت التاء وينقل حركة الهمزة فيقول: أبقلت ابقالها.
قال ابن جني في قول الشاعر:
فزججتها بمزجة
زجَّ القلوصَ أبي مزاده
(فصل بينهما بالمفعول به) ، هذا مع قدرته على أن يقول:
زجّ القلوص أبو مزاده
كقولك: سرَّني أكلُ الخبز زيدٌ ... فارتكب هاهنا الضرورة مع تمكنه من ترك ارتكابها.
وإلى هذا المذهب ذهب كل من الأعلم الشنتمري (476هـ) ، والرضي (686هـ) ، وأبو حيان، وابن هشام، والبغدادي، والشيخ محمد الأزهري المعروف بـ "الأمير" (1232هـ) .
قال الأعلم: "والشعر موضع ضرورة يحتمل فيه وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة ولا تحصيل معنى وتحصينه، فكيف مع وجود ذلك"؟
وقال أبو حيان - في التذييل والتكميل -: "لا يعني النحويون بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإلا كان لا توجد ضرورة؛ لأنه ما من لفظ أو ضرورة إلا ويمكن إزالتها ونظم تركيب آخر غير ذلك التركيب، وإنما يعنون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر المختصة به، ولا يقع ذلك في كلامهم النثريّ، وإنما يستعملون ذلك في الشعر خاصة دون الكلام".
أما البغدادي فيقول عن الضرورة: "والصحيح تفسيرها بما وقع في الشعر دون النثر سواء كان عنه مندوحة أوْ لا".
وخالف الأمير قول ابن مالك بحجة أنه - كما يقول -: "يسد باب الضرورة، فإن الشعراء أمراء الكلام قل أن يعجزهم شيء. على أنه لا يلزم الشاعر وقت الشعر استحضار تراكيب مختلفة".
وما احتج به أصحاب هذا الرأي لم يسلم من المعارضة من قبل أنصار الرأي الأول كاعتراضهم على الاحتجاج بقول الشاعر:(42/152)
بأنه يحتمل أن يكون الذي اضطره إلى حذف التاء أنه ليس من لغته النقل، فلو قال: أبقلت ابقالها من غير نقل على لغته لم يصل للوزن.
ولعل أهم ثمرة للخلاف بين الجمهور من جهة، وسيبويه وابن مالك من جهة أخرى؛ أن الضرورة واسعة المدلول حسب رأي الجمهور؛ فهي تشتمل كل ما ورد في الشعر، أو كَثُر فيه سواء أكانت له نظائر في النثر أم لا. فكثرت أنواع الضرائر نتيجة لهذا؛ لأنهم لا يريدون تمزيق القاعدة، أو الإكثار من القواعد فاستندوا إلى هذا الحكم (الضرورة في كل بيت يخالف القاعدة. وأما على رأي سيبويه، وابن مالك فإن ما يجد الشاعر عنه بدلاً لا يعدُّ ضرورة، بل نوع من التغيير يجوز في الشعر والنثر على حد سواء) .
ثالثاً: رأي أبي الحسن الأخفش:
يرى أبو الحسن الأخفش (215هـ) أن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لا يجوز لغيره في كلامه؛ لأن لسانه قد اعتاد الضرائر، فكثيراً ما يقول: جاء هذا على لغة الشعر، أو يحمل على ذلك قوله تعالى: {قَوارِيراً مِنْ فِضَّةٍ} في قراءة من قرأ بصرف "قوارير".
وقال تعالى: {وتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} ، و {فَأَضَلُّونا السَّبِيلا} بزيادة الألف لتتفق الفواصل، كزيادة الألف في الشعر للإطلاق.
وهذا الاتجاه في الرأي يقلل من وجود ما يسمى بالضرورة من قبل أنه يبيح للشاعر في كلامه المعتاد ما لا يباح لغيره إلا في الاضطرار لاعتياد لسانه الضرائر على حدِّ تعبيره.
ويعترف أبو الحسن من جانب آخر بتأثير هؤلاء الشعراء في غيرهم بوصفهم طبقة ذات مكانة اجتماعية تقلدها العامة وتقتدي بها وبذلك تشيع الظاهرة في الشعر، والنثر على السواء، وعليه فلا محل إذن للقول بأنها ضرورة.
رابعاً: رأي ابن فارس:(42/153)
يختلف موقف أحمد بن فارس (395هـ) من ضرائر الشعر عن موقف النحويين جميعهم؛ إذ لا يكاد يعترف بما يسميه النحاة ضرورة، فيتعيّن على الشاعر أن يقول بما له وجه في العربية، ولا ضرورة فيه حينئذٍ. فإن لم يك ثمت وجه منها رُدَّ وسمّي باسمه الحقيقي وهو الغلط أو الخطأ، ولا داعي للتكلف واصطناع الحيل للتخريج.
قال في كتابه الصاحبي: "وما جعل الله الشعراء معصومين يُوَقُّون الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية، وأصولها فمردود".
وقد ألف ابن فارس مصنفاً لهذا الغرض سمَّاه "ذمُّ الخطأ في الشعر"ولخَّص فيه موقفه من الضرورة الشعرية. ومن جملة ما قاله:
"إنَّ ناساً من قدماء الشعراء ومن بعدهم أصابوا في أكثر ما نظموه من شعرهم وأخطأوا في اليسير من ذلك، فجعل ناس من أهل العربية يوجهون لخطأ الشعراء وجوهاً، ويتمحلون لذلك تأويلات حتى صنعوا فيما ذكرنا أبواباً، وصنفوا في ضرورات الشعر كتباً".
ويرى أنه لا فرق بين الشاعر، والخطيب، والكاتب، فالشعراء يخطئون كما يخطىء سائر الناس، ويغلطون كما يغلطون، ولا يعدو أن يكون ما ذكره النحويون في إجازة ذلك والاحتجاج له ضرباً من التكلف.
ويعرّض ابن فارس بما استشهد به سيبويه من قول الشاعر:
فلست بآتيه ولا استطيعه
ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضلِ
فيتساءل: لم لا يجوز لواحد منا - إذن - أن يقول للآخر: لست أقصدك ولاك اقصدني أنت؟
ولكن الملاحظ أن ابن فارس في كتابه "الصاحبي"على الرغم من إعادته، وتكريره بعض ما قاله في "ذم الخطأ في الشعر"- يبدو أكثر رفقاً وأقل حدة في موقفه من الضرورة فهو قد أكّد عدم عصمة الشعراء من الخطأ. ولكنه لم ينكر الضرورة على الإطلاق، فما عدّه النحاة ضرورة قسّمه ابن فارس في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام:(42/154)
الأول: ما يباح للشعراء دون غيرهم كقصر الممدود، والتقديم، والتأخير، والاختلاس، والاستعارة. فأما اللحن في الإعراب أو إزالة كلمة عن نهج الصواب فليس لهم ذلك.
الثاني: ما يُعدُّ من خصائص العربية، ومظهراً من مظاهر الافتنان فيها، ويسميه ابن فارس بأسماء مختلفة كالبسط، والقبض، والإضمار. ولعله في مثل هذا ينظر إلى اللهجات المختلفة. وهذا ما دعاه إلى عدم القول بأنها ضرورة أو من خصائص الشعر. كقول الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس
إذا ما خفت من أمرٍ تَبالا
وهذا مما يعدّه النحاة ضرورة.
الثالث: ما يُعدَّ خطأ وغلطاً عنده، كقول الشاعر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي
بما لاقت لبونُ بني زيادِ
والراجح عندي هو ما ذهب إليه جمهور النحويين من أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء أكان للشاعر عنه مندوحة أم لا؛ لأن الشعر كلام موزون بأفاعيل محصورة يستلزم بناؤه على هذه الصورة المقيدة بالوزن، والقافية، أن يلجأ قائله أحياناً إلى الضرورة.
صحيح أنه ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره لكن الشاعر غير مختار في أموره كلها، فقد لا يخطر بباله في ذلك الموضع إلا هذه اللفظة المؤدية إلى الضرورة. وكثير من أشعار العرب يقع في غير روية، وهو مما يدعو إلى عدم التمكن من تخير الوجه الذي لا ضرورة فيه، ولا يلزم الشاعر - وقت الإنشاد - استحضار التراكيب المختلفة ليوازن بينها ويختار منها ما خلا من الضرورة ويبتعد عما سواه.
الضرورة لا تنحصر بعدد معيّن:
لعل أقرب تعريف يمكن إطلاقه على الضرورة الشعرية هو: الخروج على القواعد النحوية، والصرفية؛ لإقامة الوزن وتسوية القافية.
والضرورة بابها الشعر، وشعر العرب لم يحط بجميعه كما روي عن أبي عمرو بن العلاء (154هـ) أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلاَّ أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير.(42/155)
وإذا كان الأمر هكذا فإنه لا يمكن حصر الضرائر بعدد دون آخر، فلا يلتفت إلى من حصر الضرائر في عشرٍ ولا مائة.
والشاعر غير مقيّد بحدود ما يجده لدى الشعراء الآخرين من ضرورات فيزيد في المواضع التي زادوا فيها ويحذف حيث حذفوا، أو يغيّر على نحو ما غيروا، فقد يعترض في بعض نظمه الكثير مما لا يجد له نظيراً عند غير.
ومما ساعد على وجود الضرائر وكثرتها اختلافُ نظرة العلماء إلى مصادر الاستشهاد، ومواقفهم المختلفة منها.
واختلفت نظرتهم كذلك إلى مدلول الضرورة الشعرية ذاتها فسلكوا في فهمهم لها وجهات متباينة فصارت الظاهرة الواحدة ضرورة شعرية على رأي في حين أنها لا تُعدُّ كذلك في رأي مغاير.
الضرورة تنقسم إلى حسنة وقبيحة:
الحكم النحوي ينقسم إلى رخصة وغيرها، والرخصة هاهنا ما جاز للشاعر استعماله للضرورة التي تتفاوت حسناً وقبحاً. فالضرورة المستحسنة هي التي لا تستهجن ولا تستوحش منها النفس، كتسكين العين في جمع فَعْلَة بالألف والتاء حيث يجب الإتباع، كقول الشاعر:
علَّ صروفَ الدهرِ أو دُولاتِها
يُدِلْننا اللمة مِنْ لماتِها
فتستريحَ النفسُ من زَفْراتِها
وهذا من أسهل الضرورات.
ومن الضرائر المستحسنة: صرف ما لا ينصرف، وذلك أن أصل الأسماء كلها الصرف. ومنه قول النابغة الذبياني:
فلتأتينك قصائدٌ وليركبن
جيشٌ إليك قوادم الأكوارِ
وقصر الجمع الممدود تشبيهاً بحذف الياء من "فعاليل"ونحوه، كقول الشاعر:
فلو أنَّ الأطبا كانُ حولي
وكان مع الأطباءِ الأُساةُ
ومدّ المقصور كقول الشاعر:
سيُغنيني الذي أغناك عني
فلا فقرٌ يدومُ ولا غِناءُ
وأما الضرورة المستقبحة فمثل عدل الأسماء عن وضعها الأصلي بتغييرٍ ما فيها من زيادة أو نقص يترتب عليه التباس جمع بجمع مثلاً كرد "مطاعم" إلى مطاعيم أو عكسه، فإنه يؤدي إلى التباس "مطعم"بـ "مطعام".
وكالنقص المجحف كما في قول لبيد بن ربيعة:
درس المنا بمُتالعٍ فأبانِ
فتقادمت بالحَبْسِ فالسُّوبانِ(42/156)
يريد: المنازل. فرخَّمه في غير النداء بحذف حرفين منه هما الزاي واللام.
وكقول العجاج:
واطناً مكةَ من وُرْقِ الحمَي
يريد: الحمام.
فلا يحسن بالشعراء الأخذ بمثال هذه الضرورات لقبحها، حتى وإن ارتكزت على شواهد معتبرة؛ لأن بتر اللفظ على هذا النحو يمسخ صورته المألوفة. كما أن الأخذ بمثل هذه الضرائر يفضي إلى اختلاط الصيغ وعدم وضوح القصد، وابتعاد الذهن عن الوصول إلى اللفظ بحدوده المعروفة.
فالأولى اقتصار الشاعر على الأخذ بالحسن من الضرورات، وهي التي يكون فيها الحذف أو الزيادة، أو التغيير الذي يطرأ ضمن القياس المعروفة نظائره، والذي يهدي فيه التركيب إلى المراد بسهولة لكثرة شواهده وأمثلته.
ثم إنه لا يجوز للشاعر أن يلحن لتسوية قافية ولا لإقامة وزن بأن يرفع منصوباً أو ينصب مخفوضاً، أو يحرك مجزوماً، ويسكن معرباً. وليس له أن يُخرج شيئاً عن لفظه إلا أن يكون يخرجه إلى أصل قد كان له فيرده إليه؛ لأنه كان حقيقته، ومتى وجد هذا في شعر كان خطأً ولحناً ولم يدخل في ضرورة الشعر.(42/157)
تابع الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين
الفصل الثاني
الضرورات الشعرية في ألفية ابن مالك
ربما ورد في ألفية ابن مالك بعض التجاوزات غير الإعرابية، كأن يقع الناظم في عيب من عيوب الشعر، أو يتجوَّز في بعض الألفاظ، أو يجمع بين متنافيين، وهذه الأشياء لم أُعن بها في هذا البحث، من قبل أنها لا تدخل في نحو ولاصرف، ولكني مضطر لذكر بعض النماذج المثبتة لذلك:
فمن عيوب الشعر قول الناظم - في باب "إنَّ"وأخواتها -:
وتصحبُ الواسطَ معمولَ الخبرْ
والفَصْلَ واسماً حلَّ قبله الخبرْ
حيث تكرَّر لفظ القافية ومعناها واحد، وهو من عيوب القافية، المسمى
بـ"الإيطاء"، كما قال امرؤ القيس في قافية:
سرحةُ مرقبِ
فوق مرقبِ
وذلك قوله:
على الأيْنِ جيَّاشٍ كأنَّ سراتَه
على الضُّمرِ والتعداءِ سرحةُ مَرقَبِ
له أيْطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ
وصَهوةُ عَيْرٍ قائمٍ فوقَ مَرْقَبِ
وإذا اتفقت الكلمتان في القافية واختلف معناهما لم يكن إيطاءً.
ومنه ما جاء في باب "الضمير"حين كان يتحدث عن نون الوقاية فقال:
وليتني فشا وليتي ندرا
ومع لعلَّ اعكس وكن مخيّرا
في الباقيات واضطراراً خَفَّفا
منيِّ وعنيِّ بعضُ من قد سلفا
فقوله: "في الباقيات"متعلق بـ"مخيرا"، واتصال آخر الكلمة من البيت بأول كلمة من البيت الذي بعده يُسمَّى تضميناً، وهو قبيح في الشعر.
ومثله قوله في باب "الإبدال":
والواوُ لاماً بعد فتح يا انقلبْ
كالمعطيانِ يُرْضَيانِ.ووجبْ
إبدالُ واوٍ بعد ضمٍ من ألفْ
ويا كموقن بذا لها اعتُرفْ (1)
وإنما سُمي هذا بالتضمين، لأنك ضمَّنت البيت الثاني معنى الأول، لأن الأول لا يتم إلا بالثاني، كقول النابغة الذبياني:
وهُمْ وردوا الجفارَ على تميمٍ
وهم أصحابُ يومِ عكاظ إنِّي
شهدتُ لهم مواطنَ صالحاتٍ
وثقت لهم بحسن الظن مني (2)
وكلما كانت اللفظة المتعلقة بالبيت الثاني بعيدةً من القافية كان أسهل عيباً.
__________
(1) الألفية ص68.
(2) الديوان 123.(42/158)
ومن التجوّز في الألفاظ ما يلي:
1 - قال في باب "الابتداء ":
وبعد "لولا "غالباً حذفُ الخبرْ
حتمٌ، وفي نصِّ يمينٍ ذا استقرْ
فجمع بهذا بين متباينين هما قوله: "حتم" و"غالباً"، فأشكل الجمع بينهما من قبل أن حتمية الحذف تقتضي عدم الانفكاك، وغالبيته تقتضي خلاف ذلك.
2 - تجوَّز الناظم في تسمية ما بعد "بل ولكن "معطوفاً إذ قال في باب "كان وأخواتها":
ورفعَ معطوفٍ بلكنْ أو ببلْ
من بعد منصوبٍ بما الزم حيثُ حلْ (1)
وفي الواقع أن ما بعدهما غير معطوف، وإنما هو خبر لمبتدأ محذوف. فإذا قيل: ما زيدٌ قائماً بل قاعدٌ، وما عمرو منطلقاً لكن مقيمٌ، فإن التقدير: بل هو قاعد، ولكن هو مقيم. و"بل"، و"لكن"حرفا ابتداء.
3 - قال في باب "إن وأخواتها":
وإنْ تُخفَّفْ أنَّ فاسمها استكنْ
والخبرَ اجعلْ جملةً من بعد أنْ (2)
فتجوَّز في قوله: "استكن"، لأن الضمير المنصوب لا يستكن، كما أن الحرف لا يُستكن فيه الضمير، وإنما هو محذوف لامستكن. قاله بدر الدين المرادي (749هـ) .
4 - قال في باب "الاشتغال ":
وبعد عاطفٍ بلا فصل على
معمول فعل مستقر أوّلا
فتجوَّز في قوله: "على معمول فعل"، لأن العطف حقيقة إنما هو على الجملة الفعلية.
يعني أن الاسم المشتغل عنه إذا وقع بعد عاطف تقدمته جملة فعلية ولم يُفصل بين العاطف والاسم اختير نصبه نحو: قام زيدٌ وعمراً أكرمتُه، وذلك طلباً للمناسبة بين الجملتين، لأن مَنْ نَصَبَ فقد عطف فعلية على فعلية، ومن رفع فقد عطف اسمية على فعلية، وتناسب المتعاطفين أولى من تخالفهما.
5 - وقال في باب "إعراب الفعل":
وإن على اسمٍ خالصٍ فعلٌ عُطفْ
تنصبُهُ "أنْ "ثابتاً أو منحذفْ (3)
فجعل الفعل هو المعطوف، والمعطوف في الحقيقة إنما هو المصدر، أي المؤول من "أنْ"والفعل، كما في قول الشاعرة:
ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني
أحبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ
__________
(1) الألفية ص18.
(2) الألفية ص20.
(3) الألفية ص52.(42/159)
فالواو في "وتقر"واو العطف، و"تقر"فعل مضارع منصوب بـ"أنْ"مضمرة جوازاً بعد الواو العاطفة على اسم صريح، أي خالص من التأويل بالفعل.
6 - وقال في باب "جمع التكسير":
في نحو رامٍ ذو اطِّرادٍ فُعَلَهْ
وشاع نحوُ: كاملٍ وكَمَلَهْ
ومقصوده أن من أمثلة جمع الكثرة "فُعَلَة" وهو مطرد في كل وصف على "فاعل"معتل اللام لمذكر عاقل نحو: رامٍ ورُماة وقاضٍ وقُضاة.
ومنها كذلك "فَعَلَة"وهو مطرد في كل وصف على "فاعل" صحيح اللام لمذكر عاقل نحو: كاملٍ وكَمَلَة وكاتبٍ وكتَبَة.
فالاطراد كائن في الوصفين إلا أن الناظم استعمل مع الأول الاطراد واستعمل مع الثاني الشِّياع والشياع لا يلزم منه الاطراد مع أنه مطرد نحو: ساحر وسَحَرة وبارٍّ وبَرَرَة. ولذلك فإنه لو قال:
في نحو رامٍ ذو اطراد فُعَلَهْ
كذاك نحو: كامل وكَمَلَهْ
لكان أنصّ، لأن الشياع لا يقتضي بالضرورة الاطراد مع أنه مطرد كما تبين.
7 - ولعله يدخل فيما نحن فيه ما يرد في بعض عبارات الألفية من قصور، كقوله في باب "لا النافية للجنس":
وركب المفرد فاتحاً كلا
حولَ ولا قوة ... ... (1)
قال المرادي: "وفي عبارته هنا قصور حيث قال: "فاتحاً"، بل الصواب: على ما ينصب به ... ، ولو قال وركب المفرد كالنصب لأجاد".
والقصور الذي أشار إليه المرادي حاصل من عدم شمول عبارة الناظم المثنى وجمع المذكر السالم، لأنهما يُبنيان على الياء، وكذا جمع المؤنث السالم لبنائه على الكسر.
كذلك لم أُعْن بما يحتمل وجهين أحدهما ضرورة، فإذا حُمل على الآخر لم يعد كذلك، كقوله في باب "الابتداء":
وبعد "لولا "غالباً حذفُ الخبرْ
حتمٌ، وفي نصِّ يمينٍ ذا استقرْ
__________
(1) الألفية ص21.(42/160)
فقوله: "استقر"في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو قوله: "ذا"، وإظهار "استقرَّ"هنا للضرورة (1) ، كما في قول الشاعر:
لكَ العِزُّ إنْ مولاك عزَّ وإن يَهُنْ
فأنت لدى بحبوحةِ الهونِ كائنُ (2)
لكونه كوناً مطلقاً.
ويمكن حمل بيت الألفية على وجه آخرَ هو أن يراد بالاستقرار الثبوت، وكذا يحمل الكون في قول الشاعر على الثبوت وعدم التزلزل والانفكاك فيصير كوناً خاصاً ويخرج من بيت الضرورة، لأنه حينئذٍ يجوز ذكره، وحذفه.
ونظير هذا ما قاله أبو البقاء العكبري وغيره في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} (3) : إن الاستقرار في الآية معناه الثبوت، وعدم التحرك، لا مطلق الوجود والحصول، فهو كون خاص.
وقال في باب "لا النافية للجنس":
ومفرداً نعتاً لمبنيٍّ يلي
فافتح أوِ انصبَنْ أو ارفع تَعْدِلِِ (4)
فإن قوله: "ومفرداً نعتاً"مفعول مقدم لقوله: "افتح أو انصب أو ارفع"من باب التنازع مع تأخر العوامل. وقد قدَّم "مفرداً"على "نعتاً"وحقه التأخير، لأنه وصف له لأجل الضرورة.
ويجوز نصبه - أعني "مفرداً"- على الحالية، لأنه وصفٌ لنكرة تقدم عليها. وعليه فلا ضرورة في البيت.
وقال في باب "المفعول معه":
والنصبُ إنْ لم يجزِ العطفُ يجب
__________
(1) الأصل عند الجمهور أن الخبر إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً أن يكون كل منهما متعلقاً بكون عام واجب الحذف، فإن كان متعلقهما كوناً خاصاً وجب ذكره إلاّ أن تقوم قرينة تدل عليه إذا حذف، فيجوز ذكره وحذفه. انظر: شرح ابن عقيل 1/250، الهمع 2/40.
(2) من " الطويل ".بحبوحة كل شيء: وسطه. والهون: الذل والهوان.
والشاهد فيه: التصريح بالخبر "كائن "الذي تعلق به الظرف "لدى "وهو شاذ، والقياس حذفه.
والبيت في: المغني 582، شرح ابن عقيل 1/211، المقاصد النحوية 1/544، الهمع 2/22، 5/135، شرح شواهد المغني 2/847، الدرر 2/18، 5/313.
(3) من الآية 40 من سورة النمل.
(4) الألفية ص21.(42/161)
أو اعتقد إضمارَ عاملٍ تُصِبْ (1)
أعرب المكودي قوله: "اعتقد"معطوفاً على "يجب"، وجاز عطف الفعل "اعتقد"- مع كونه طلباً - على الفعل "يجب"مع كونه خبراً، لأن يجب في معنى أوجب.
وألزمه الأزهري حذف الجواب مع كون الشرط مضارعاً، ووقوع ما هو بمعنى الطلب خبراً، والأول ممتنع إلا في الضرورة، والآخر خلاف الأكثر.
قال: ولو جعل "يجب"جواب الشرط، والشرط وجوابه خبر المبتدأ لسلم من هذا. وعطفُ الإنشاء على الأخبار أجازه الصفار (63هـ) وجماعة، ومنعه ابن مالك في شرح التسهيل تبعاً للبيانيين.
وقال في باب "جمع التكسير":
وزائدَ العادي الرباعي احذفْهُ ما
لم يكُ ليناً إثرَهُ اللَّذ خَتَما (2)
فقوله: "اللَّذْ"لغة في "الذي" وهو مبتدأ مؤخر، وجملة "ختما"إمّا أن يكون الفعل فيها مبنياً للمفعول فتكون الجملة صلة المصول، والعائد محذوف مجرور بالباء - وإن لم تتوافر شروط الحذف - للضرورة، والتقدير: خُتم به.
وإما أن يكون الفعل مبنياً للمعلوم، والفاعل ضمير مستتر راجع إلى الحرف الذي ختم الكلمة وعلى هذا لا إشكال ولا ضرورة.
قال المكودي - معرباً على البناء للفاعل -: "ومفعول "ختَم"محذوف، والتقدير: ما لم يكن الزائد ليناً الذي ختم الكلمة بعده".
أما التجاوزات الإعرابية فهي محل التطبيق في هذا البحث. ولست أزعم أني استقصيت جميع الضرائر التي لجأ إليها الناظم في منظومته ولكن حسبي أني اجتهدت في حصرها أو حصر معظمها على أقل تقدير.
وحاولت قدر الإمكان تقديم هذه الضرائر مراعياً باب المسألة النحوية محل الدراسة، دون النظر إلى ترتيب البيت في الألفية، إذ لو راعيتُ ذلك لترتب عليه فصلٌ بين الضرائر المتشابهة، من قبل أن الضرورة الواحدة قد ترد في أكثر من موضع من الألفية.
ثم إن مراعاة ترتيب أبيات الألفية لا ينبني عليه كبير فائدة.
وبعد:
فدونك هذه الضرائر أو التجاوزات التي وقعت للناظم في ألفيته:
__________
(1) الألفية ص28.
(2) الألفية ص60.(42/162)
خبر "كان"إذا كان ضميراً بين الاتصال، والانفصال:
إذا كان خبر "كان"ضميراً فإنه يجوز اتصاله، وانفصاله عند عامة النحويين، ولكن اختُلف في المختار منهما، حيث اختار سيبويه الانفصال نحو: كان زيد إياك وكنتُ إياك.
قال عمر بن أبي ربيعة:
لئن كان إياهُ لقد حال بعدنا
عن العهد والإنسانُ قد يتغيَّرُ (1)
كما اختاره - أيضاً - ابنُ يعيش (643هـ) وابن عصفور:
وإنما كان المختار الانفصال، لأنه في الأصل خبر المبتدأ، فكما أن خبر المبتدأ منفصل من المبتدأ فكذلك هو في هذا الباب.
وذهب الرماني (384هـ) وأبو الحسين بن الطراوة (528هـ) إلى أن الاتصال هو الأفصح والمختار. ووافقهما ابن مالك وابنه بدر الدين (686هـ) .
قال ابن مالك:
وصِل أو افصل هاءَ سلنيهِ وما
أشبهه، في كنتُه الخلفُ انتمى
كذاك خلتنيه، واتصالا
أختارُ. غيري اختار الانفصالا (2)
وجاء موجبُ هذا الاختيار عند ابن مالك مُوضَّحاً في شرح الكافية الشافية حيث قال في نحو: "الصديق كنته":
"حقُّ هذا أن يمتنع انفصاله لشبهه بهاء "ضربته" ولكنه نُقل فقُبل، وبقي الاتصال راجحاً لوجهين:
أحدهما: الشبه بما يجب اتصاله، وإذا لم يساوه في الوجوب فلا أقل من الترجيح.
الثاني: أن الانفصال لم يرد إلاَّ في الشعر، والاتصال وارد في أفصح النثر كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في ابن صياد: "إن يكنه فلن تسلط عليه، وإلاَّ يكنه فلا خير لك في قتله" (3) ، وكقول بعض فصحاء العرب: "عليه رجلاً ليسني".
__________
(1) من " الطويل ".
قوله: "حالَ "أي تغيَّر وتحولت حاله عما كنا نعلمه فيه. "العهد ": المعرفة.
والبيت في: الديوان 121، شرح المفصل 3/107، أوضح المسالك 1/102، المقاصد النحوية 1/314، التصريح 1/108، شرح الأشموني 1/119، الخزانة 5/312، 313.
(2) الألفية ص12.
(3) انظر: صحيح البخاري (جنائز) 110، (جهاد) 253، صحيح مسلم (فتن) 85.(42/163)
ومع اختيار الناظم للاتصال -كما سبق- فقد عدل عنه لضرورة الشعر إلى الانفصال.
قال في باب "الابتداء"- وهو يتحدث عن الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ إذا كانت هي المبتدأ في المعنى -:
وإنْ تكنْ إياه معنًى اكتفى
بها كنطقي الله حسبي وكفى (1)
الإظهار في موضع الإضمار:
قال ابن مالك في باب "إنَّ"وأخواتها:
وإنْ تُخَفَّفْ أنَّ فاسمها استكنْ
والخبرَ اجعل جملةً من بعدِ أنْ (2)
ففي البيت الثاني إظهارٌ في موضع الإضمار للضرورة. والقياس: من بعدها.
فإن بعض النحويين يرى أن الاسم إذا احتيج إلى ذكره ثانيةً في جملة واحدة كان الاختيار أن يذكر ضميره كقولك: "زيدٌ أكرمته"، فلو أعدت لفظه بعينه موضع ضميره فقلت: "زيدٌ أكرمتُ زيداً"كان ضعيفاً ووجه الكلام على خلافه.
وإنما كان اختيار الضمير دون الاسم الظاهر، لأنه أخف، وأبعد عن الشبهة واللبس.
فإذا أعيد ذكر الاسم الظاهر في جملة أخرى جاز وحسن نحو: مررتُ بزيدٍ وزيدٌ رجلٌ فاضلٌ.
قال سيبويه: "وتقول: "ما زيدٌ ذاهباً ولا محسنٌ زيدٌ"الرفع أجود وإن كنت تريد الأول، لأنك لو قلت: ما زيدٌ منطلقاً زيدٌ لم يكن حدَّ الكلام، وكان هاهنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: ما زيدٌ منطلقاً هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره، ألا ترى أنك لو قلت: ما زيدٌ منطلقاً أبو زيد لم يكن كقولك: ما زيد منطلقاً أبوه، لأنك قد استغنيت عن الإظهار. فلما كان كذلك أجرى مجرى الأجنبي، واستؤنف على حاله حيث كان هذا ضعيفاً، وقد يجوز أن تنصب. قال الشاعر، وهو سوادة بن عدي:
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ
نغَّصَ الموتُ ذا الغنى والفقيرا (3)
فأعاد الإظهار".
__________
(1) الألفية ص16.
(2) المصدر السابق ص20.
(3) البيت من "الخفيف ". ومعناه ظاهر.
انظره في: ديوان عدي بن زيد 65، الخصائص 3/53، ما يجوز للشاعر في الضرورة 96، تحصيل عين الذهب 86، الاقتضاب 368، الخزانة 1/379، شرح أبيات المغني 7/77.(42/164)
وكان الوجه أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء، ولكنه أظهر الضمير.
فسيبويه يختار - عند إعادة الاسم الظاهر – الرفعَ، لأن العرب لا تعيد لفظ الظاهر إلاّ أن تكون الجملة الأولى غير الثانية، فتكون الثانية ابتدائيةً كقولك: زيدٌ أكرمته وزيدٌ أحببته، إذ إنه بالإمكان الوقف على الجملة الأولى ثم الابتداء بالأخرى بعد ذكر رجل غير زيد. فلو قيل: زيد أكرمته وهو أحببته لجاز أن يُتوهم الضميرُ لغير زيد. فإذا أُعيد باسمه الظاهر انتفى التوهم. أما مع إعادته مضمراً في الجملة الواحدة نحو: زيد أكرمته فإنه لا يتوهم عود الضمير لغيره، إذ لا تقول، زيدٌ أكرمت عمراً.
ونصَّ بعضهم كأبي عبد الله القيرواني صاحب ضرائر الشعر، ومكي ابن أبي طالب (437هـ) ، والأعلم على أنه لا يجوز الإظهار في موضع الإضمار إلا في الشعر، كقول الفرزدق:
لعمرك ما معنٌ بتاركِ حقِّهِ
ولا منسىءٌ معنٌ ولا متيسِّرُ
فـ "معن"الثاني هو "معن"الأول. وكان القياس أن يأتي بضميره فيقول: ولا منسىء ولا متيسر.
ويرى قوم أنه يجوز ي الشعر وغيره. قال مكي: وفيه نظر.
ويرىآخرون أنه لا يجوز مطلقاً لا في ضرورة ولا في اختيار. واستثنوا من ذلك ما إذا كان اسماً للجنس، أو أريد به تفخيم الأمر وتعظيمه فإن في ذلك فائدة كقوله - عز وجل-: {الحاقَّةُ ما الحاقَّةُ} (1) ، و {القارِعَةُ ما القارِعَةُ} (2) ، فلولا ما أُريد به من معنى التعظيم والتفخيم لقيل - والله أعلم-: الحاقةُ ما هي، والقارعةُ ما هي.
وكقوله سبحانه: {إذا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزالَها وأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَها} (3) فأعاد الظاهر ولم يضمره. ومنه قول الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبقَُ الموتَ شيىءٌ
لأن الموت اسم جنس بمنزلة الأرض، فإذا أُعيد مظهراً لم يُتوهم أنه اسم لشيء آخر كما يتوهم في زيد ونحوه من الأسماء المشتركة.
__________
(1) الآيتان 1، 2 من سورة الحاقة.
(2) الآيتان 1، 2 من سورة القارعة.
(3) الآيتان 1، 2 من سورة الزلزلة.(42/165)
والراجح أن الإظهار في موضع الإضمار لا يجوز إذا كان ذلك في جملة واحدة نحو: زيدٌ أكرمت زيداً، إلا في الضرورة، لكون الإضمار أخفَّ وأبعد عن الشبهة واللبس.
فإذا أعيد في جملة أخرى، أو قصد به التفخيم، والتعظيم حَسُن.
حذف العائد المجرور مع اختلاف متعلق الجارين:
من المعلوم أنه يجوز حذف العائد المجرور بحرف جرٍّ إنْ جَرَّ الموصولَ حرف مثله مع اتفاق متعلقي الحرفين لفظاً ومعنى، أو المضاف إلى الموصول، أو الموصوف بالموصول نحو: مررت بالذي مررت به، أو بغلام الذي مررت به، أو بالرجل الذي مررت به، فيجوز حذف "به"هاهنا.
قال ابن مالك:
كذا الذي جُرَّ بما الموصولَ جَرّْ
كمُرَّ بالذي مررتُ فهو بَرّْ (1)
ومن ذلك قوله تعالى: {مَا هَذا إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُم يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (2) .
فالموصول وهو "ما"مجرور بـ"مِنْ" التبعيضية، وهي متعلقة بقوله: "يشرب"قبلها، والعائد المحذوف مجرور بـ"مِنْ"التبعيضية وهي متعلقة بقوله "تشربون"، والتقدير: ويشرب من الذي تشربون منه. فاتفق الحرفان لفظاً ومعنى ومتعلقاً.
فالعائد المجرور يجوز حذفه عند الجمهور بشروط ثلاثة:
الأول: أن ينجرّ الموصول بمثل الحرف الجار للعائد لفظاً، فإذا اختلفا لفظاً لم يجز الحذف نحو: حللت في الذي حللت به.
الثاني: أن يتفق الحرفان معنى، فإذا اختلفا لم يجز الحذف نحو: مررت بالذي مررت به، مريداً بإحدى البائين السببية، والأخرى الإلصاق.
الثالث: أن يتفقا متعلقاً، فلو اختلف المتعلق لم يجز الحذف نحو: سررت بالذي مررت به.
__________
(1) الألفية ص15.
(2) من الآية 33 من سورة المؤمنون.(42/166)
قال ابن مالك في شرح الكافية الشافية: "وإن جُرَّ العائد بحرف وجُرَّ الموصول بمثله لفظاً ومعنىً جاز حذف العائد نحو: مررتُ بالذي مررت. ومنه قوله تعالى: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تّشْرَبُونَ} (1) أي: مما تشربون منه ... وكذلك يجوز حذف العائد المجرور بحرفٍ جُرَّ بمثله موصوف بالموصول أو عائد عليه بعد الصلة.
فإذا خلا العائد المجرور مما شُرط لم يجز حذفه عند الجمهور إلا ضرورة أو شذوذاً.
كقول الشاعر:
وإنَّ لساني شُهدةٌ يُشتفى بها
وهُوَّ على من صبَّه الله علقمُ
أراد: من صبه الله عليه، فحذف العائد المجرور بـ"على"مع اختلاف المتعلق. والمتعلقان هما: "صَبَّ"و"علقم".
فـ"على"المحذوفة متعلقة بـ"صبَّه"والمذكورة متعلقة بـ"علقم"لتأوله بصعب أو شاق أو شديد، فاختلف متعلقا جارِّ الموصول وجارِّ العائد.
وابن مالك لا يتفق مع الجمهور في عدِّ مثل هذا ضرورةً أو نادراً، بل يعدُّه قليلا.
ولعله لما كان عنده كذلك - أي قليل وليس شاذاً أو ضرورةً كما يقول الجمهور - وقع له شئ من ذلك في الألفية، حيث قال في باب "الندبة":
ويُندبُ الموصولُ بالذي اشتَهَرْ
كـ"بئرَ زمزمٍ"يلي وامَنْ حَفَرْ
فقوله: "اشتهر"صلة "الذي" والعائد ضمير محذوف مجرور بحرف جُرَّ الموصولُ بمثله غير أن متعلقي الجارين مختلفان، والتقدير: ويُندب الموصول بالوصف الذي اشتهر به.
وقال في باب "تثنية المقصور والممدود وجمعهما جمعاً تصحيحاً":
والسالمَ العينِ الثلاثي اسماً أنِلْ
إتباعَ عينٍ فاءه بما شُكلْ
فجملة "شُكل"لا محل لها صلة الموصول المجرور محلاً بالباء، والعائد ضمير محذوف مجرور بباء أخرى.
ومتى اختلف متعلق الجارين: "الذي جَرَّ الموصول والذي جر العائد فالحذف شاذ أو ضرورة عند الجمهور. وجائز بقلة عند ابن مالك كما تقدم.
وما ذهب إليه ابن مالك هو الراجح عندي. فهو قليل لا ممتنع.
__________
(1) من الآية 33 من سورة المؤمنون.(42/167)
وقد أورد ابن مالك جملة من الشواهد على ذلك غير البيت المستشهد به هاهنا تدل على أن المسألة ليست شاذة أو ضرورة، بل ليست نادرة.
تقديم معمول الصلة على الموصول:
قال ابن مالك في باب "إن"وأخواتها:
ولا يلي ذي اللامَ ما قد نُفيا
ولا من الأفعال ما كرضيا (1)
قال الأزهري: "كرضيا: في موضع صلة "ما"الثانية، والألف للإطلاق، وتقدير البيت: ولا يلي الخبر الذي قد نفي ولا الخبرُ الذي كرضي حال كونه من الأفعال هذه اللامَ. ففيه تقديم معمول الصلة على الموصول وذلك جائز في الشعر".
قلت: اختلف النحاة في تقديم معمول الصلة على الموصول. فجمهور البصريين على منع تقديم شئ من الصلة على الموصول مطلقاً، سواء كان الموصول اسماً أو حرفاً. فإن جاء ما ظاهره كذلك أوَّلوه.
وذهب الكوفيون إلى جواز ذلك مطلقاً.
وأجاز بعض البصريين تقدم المتعلق بالصلة على الموصول إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً مطلقاً وجعله متعلقاً بالصلة نفسها، لأن العرب تتسع في الظروف والمجرورات ما لا تتسع في غيرها من الفضلات، لكثرة دورانهما في الكلام.
وذهب ابن الحاجب (646هـ) إلى جواز تقديم معمول الصلة على الموصول مع "أل"خاصة، كقوله تعالى: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ} (2) ، ومنعه فيما عدا ذلك.
وهو قريبٌ من رأي ابن مالك في شرح التسهيل إلاَّ أنَّ ابن مالك جعل التقدم مع "أل"مطرداً إذا كانت مجرورة بـ"مِنْ"التبعيضية كالآية السابقة، ومَنَعَ التقدم في غير "أل" مطلقاً، ومعها إذا لم تجرَّ بـ"من".
أما في شرح الكافية الشافية فقد قال: "لا تتقدم الصلة ولا شئ يتعلق
بها ... فإن كان الموصولُ الألفَ واللام أو حرفاً مصدرياً لم يجز تقديم المعمول، لأن امتزاج الألف واللام والحرف المصدري بالعامل آكد من امتزاج غيرهما به" فلم يستثنِ ما إذا كانت "أل"مجرورة بـ"مِن"أو لا.
وعلى هذا فإن قوله:
ولا من الأفعال ما كرضيا
__________
(1) الألفية ص 20.
(2) من الآية 20 من سورة يوسف.(42/168)
جائز عند بعض البصريين لكون المعمول جاراً ومجروراً، وجائز عند الكوفيين دون النظر إلى هيئة المعمول.
أما عند جمهور البصريين وابن الحاجب وابن مالك فلا يجوز إلا في الضرورة.
تقديم معمول خبر "ليس"عليها:
اختلف في خبر "ليس": أيجوز تقدمه عليها أم لا؟ فذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز، لأن "ليس"فعل جامد فلا يجري مجرى المتصرف كما أجريت "كان"مجراه، لأنها متصرفة.
ولأنها في معنى "ما"في نفي الحال، وكما أن "ما"لا تتصرف ولا يتقدم معمولها عليها فكذلك "ليس".
وممن منع تقديم الخبر أبو سعيد السيرافي، والأنباري (577هـ) ، كما نُسب المنع إلى أبي العباس المبرد.
وذهب جمهور البصريين إلى جواز تقدمه. وكذا من المتأخرين أبو علي الفارسي (377هـ) وابن جني، وابن بَرْهان (456هـ) وعبد القاهر الجرجاني (471هـ) والزمحشري، وأبو البقاء العكبري (616هـ) وابن عصفور.
ومما احتج به أصحابُ هذا الرأي قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْروفاً عَنْهُمْ} (1) ، فقالوا: إن "يوم"معمول "مصروفاً"وتقديم المعمول يؤذن بتقدم العامل.
أما ابن مالك فرأيه رأي الفريق الأول القائل بمنع تقديم خبر "ليس"عليها (2) ، وقال: لنا في الآية ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن "يوم"مرفوع بالابتداء، وإنما بني على الفتح لإضافته إلى الجملة وذلك سائغ مع المضارع كسوغه مع الماضي.
الثاني: أن المعمول قد يقع حيث لا يقع العامل نحو: أمَّا زيداً فاضرب، فإنه لا يلزم من تقديم معمول الفعل بعد "أمَّا" تقديم الفعل.
الثالث: أن يكون "يوم"منصوباً بفعل مضمر، لأن قبله: {ما يَحْبِسُهُ} ، فـ {يَوْمَ يَأْتيهمْ} جواب، كأنه قيل: يعرفون يوم يأتيهم و {لَيْسَ مَصْرُوفاً} جملة حالية مؤكدة أوِّ مستأنفة.
__________
(1) من الآية 8 من سورة هود.
(2) انظر: شرح التسهيل 1/351، شرح عمدة الحافظ 112.(42/169)
إذاً: فإن ابن مالك يرى أنه لا يجوز تقديم خبر "ليس"عليها ولا معمول الخبر كما هو ظاهر كلامه وتخريجه للآية.
ومع هذا فقد جاء في ألفيته ما يخالف هذا، حيث قال في باب "الوقف":
والنقلُ إنْ يُعدم نظيرٌ ممتنعْ
وذاك في المهموز ليس يمتنعْ
فإن "ذاك"مبتدأ و"في المهموز" جار ومجرور متعلق بقوله: "يمتنع"،
و"ليس"فعل ماض واسمها ضمير مستتر فيها، وجملة "يمتنع"خبرها. والجملة من "ليس"واسمها وخبرها في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو اسم الإشارة "ذاك"، والتقدير: وذاك النقل ليس يمتنع في المهموز، فقدم معمول خبر "ليس"عليها وهو ممتنع عند الجمهور. - ومنهم ابن مالك - كما تقدم - وهذا ضرورة.
قال الأزهري (905هـ) :
"إلا أن يقال بجوازه في الظروف على حَدِّ قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} (1) ".
الفصل بين العامل، والمعمول بالأجنبي:
قال ابن مالك في "فصل: الأحرف المشبهة بـ"ليس":
وسبقَ حرفِ جَرٍّ او ظرفٍ كما
بي أنت معنياً أجاز العلما
تقدير البيت: أجاز العلماء سبق حرف جر ومجروره أو ظرف معمول
"ما"حال كونهما متعلقين بخبر "ما"نحو: ما بي أنت معنياً، والأصل: ما أنت معنياً بي. وقد فصل بين "سبق"وعامله "أجاز" بالمثال وهو أجنبي منه. وهذا مختص بالضرورة الشعرية. قاله الأزهري.
وجمهور النحاة - العالمون بما يتكلم به العرب - لا يجيزون الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي إلاَّ في حال الضرورة كقول الفرزدق:
وإني لأطوي الكشحَ منْ دونِ مَنْ طوى
وأقطع بالخرقَ الهبوعِ المُراجمِ
أراد: وأقطع الخرقَ بالهبوعِ، ففصل بين الجار ومجروره بالمفعول وهو قوله: الخرق.
ومثل ذلك - بل أقبح منه - قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً
أبو أمه حيٌّ أبوه يقاربه
فحق الكلام وما ينبغي أن يكون عليه اللفظ: "وما مثله في الناس حيٌّ يقاربه إلاَّ أبو أمه أبوه".
__________
(1) من الآية 8 من سورة هود.(42/170)
ففرَّق بين المبتدأ وخبره بما ليس منه، من قبل أن قوله: "أبو أمه أبوه"مبتدأ في موضع نعت المملك، ففرَّق بينهما بقوله: "حيٌّ"و"حيٌّ"خبر "ما".
وعليه فإن بيت ابن مالك السالف الذكر يُحمل على الضرورة التي ألجأته إلى ذلك كما ألجأته في غير هذا الموضع من الألفية.
تقديم معمول الفعل المؤكد بالنون:
قال ابن مالك في باب "المعرب والمبني":
والرفعَ والنصبَ اجعلَنْ إعرابا
لاسمٍ وفعلٍ نحو: لن أهابا
أعرب بعضهم كلمة "الرفع"مفعولاً به مقدماً للفعل "اجعلن".
وهو معترض بأن الفعل المؤكد بالنون لا يتقدم معموله عليه.
وقد مشى الناظم على ذلك في عدة مواضع من الألفية، كقوله في باب "اسم الإشارة":
وبهنا أو ههنا أشر إلى
داني المكانِ وبِهِ الكافَ صلا (1)
وقوله في "باب التمييز":
والفاعلَ المعنى انصبن بأفعلا
مفضِّلاً كأنت أعلى منزلا
وقوله في باب "النائب عن الفاعل":
وثالثَ الذي بهمز الوصلِ
كالأول اجعلنَّه كاستُحلي
وقد حاول بعض المعربين التماس بعض التأويلات والتقديرات لتصحيح هذه المخالفة، كإعرابهم المعمول مفعولاً به لفعل محذوف يفسره الآتي المؤكد بالنون وهو "اجعلنْ"و "صلا"و "انصبن"و "اجعلنَّ"في الأبيات السابقة مع أن الفعل المؤكد بالنون لا يصلح أن يفسر عاملاً محذوفاً قبله، ولما في ذلك من تهافت بلاغي أيضاً.
وقيل: إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً جاز تقديمه على عامله المؤكد بالنون دون غيرهما من المعمولات كقول ابن مالك:
كالأول اجعلنَّه كاستُحلي
بناءً على أنه يتوسع في شبه الجملة ما لا يتوسع في غيرها.
وهو غير بعيد لديَّ، غير أني أميل إلى عدم التعسف والتكلف، ويكفي القول بأن ضرورة النظم هي التي ألجأته إلى ارتكاب المخالفة كغيرها من الضرائر التي ارتكبها في الألفية والتي عرضت جزءاً منها، وسيأتي أمثلة لها أيضاً.
تقديم النائب عن الفاعل على الفعل:
قال ابن مالك في باب "أفعل التفضيل":
__________
(1) الألفية ص 14.(42/171)
وما بِهِ إلى تعجبٍ وُصِلْ
لمانعٍ به إلى التفضيل صِلْ
أعرب المكودي (807هـ) "ما"مبتدأ أو مفعولاً بفعل محذوف يفسره "صل "وهي موصولة، وصلتها: وصل به، و"به"متعلق بـ"وُصل".
فقوله: "و"به"الأول متعلق بـ"وُصل"فيه تقديم النائب عن الفاعل على مذهب الكوفيين. والبصريون يمنعونه.
ويمكن تخريجه على مذهب البصريين على أنه من الحذف والإيصال بأن يكون في "وُصِل"ضمير مستتر كان مجروراً بالباء، والأصل: وما به وصل به، ثم حذفت الباء واستتر الضمير".
قلت: هذه المسألة مبنيَّةٌ على مسألة الخلاف في تقديم الفاعل على الفعل وهي المثبتة في كتب النحو من قبل أن أحكام نائب الفاعل هي أحكام الفاعل التي منها وجوب تأخره عن المسند على مذهب البصريين.
وذهب بعض الكوفيين إلى جواز تقديم الفاعل مع بقاء فاعليته في سعة الكلام نحو: زيدٌ قام، تقديره: قام زيدٌ. وكذلك محمد قعد، وما أشبه ذلك.
ومما استدلوا به قول الزبَّاء:
ما للجمالِ مشيُها وئيدا
أجندلاً يحملنَ أم حديدا
قالوا: معناه وئيداً مشيها.
ووجه الاستدلال أن "مشيها"روي مرفوعاً. ولا يجوز أن يكون مبتدأ، إذ لا خبر له في اللفظ إلا "وئيدا"وهو منصوب على الحال، فوجب أن يكون فاعلاً بوئيدا مقدماً عليه.
وهو عند البصريين ضرورة، والضرورة تبيح تقديم الفاعل على الفعل.
كما خرَّجه كثير من النحويين على أن "مشيُها" مبتدأ، والخبر محذوف، كأنه قال: ما للجمال مشيها ظهر وئيداً، أو ثبت وئيداً. ويكون حذف الخبر هنا والاكتفاء بالحال نظيرَ قولهم: "حكمك مسمَّطا" " فـ"حكمك"مبتدأ حذف خبره لسدّ الحال مسدَّه، أي: حكمك لك مثبتاً.
كما خُرِّج على أن "مشيُها"بدل من الضمير في "للجمال"لأنه في موضع خبر المبتدأ الذي هو "ما".(42/172)
والصحيح ما ذهب إليه جمهور النحويين - ومنهم ابن مالك - من أنه لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل، لأننا إذا قلنا: زيدٌ ذهب فإن في "ذهب" ضميراً يُعرب فاعلاً، والفعل لا يرفع فاعلين في غير العطف نحو: ذهب زيدٌ وعمرو. ونحن إذا ما أظهرنا هذا الضمير بأن جعلنا في موضعه غيره تبيَّن ذلك كما في قولنا: زيدٌ ذهب أخوه.
كما نقول: رأيت زيداً ذهب، فيدخل على الابتداء ما يزيله ويبقى الضمير على حاله.
ولست أميل إلى أن قول الزباء من باب تقديم الفاعل على الفعل ضرورة، وذلك لتمكنها من النصب على المصدرية أو الجر على البدلية، كما يقول الأزهري.
وأقرب تأويل إلى نفسي أن يكون "مشيها" مبتدأ قد حذف خبره على نحو: "حكمك مسمطاً"كما تقدم.
قلبُ المعنى:
قال ابن مالك في باب "الابتداء":
كذا إذا ما الفعلُ كان الخبرا
أو قُصد استعمالُه منحصرا
قال الأزهري: "في هذا التركيب قلب ... ، لأن المحدث عنه الخبر، فكان حقه أن يقول:
كذا إذا ما الخبرُ كان الفعلا
وهو خاص بالشعر، وأصل التركيب: كذا إذا ما كان الخبر الفعل المسند إلى ضمير المبتدأ المفرد فامنع تقديمه على المبتدأ".
فإنه من المعلوم أن العرب بعامة مجمعون على رفع الفاعل ونصب المفعول إذا ذكر الفاعل، غير أنه قد ورد في الشعر شيء على جهة القلب، فصُيِّر المفعول فاعلاً والفاعل مفعولاً على التأويل.
كقول الأخطل:
مثل القنافذ هَّداجونَ قد بلغت
جرانَ أو بلغت سوءاتِهم هجرُ
أراد: بلغت نجرانَ سوءاتُهم أو هجرَ، وذلك وجه الكلام، لأن السوءات تنتقل من مكان فتبلغ مكاناً آخر، إلاَّ أنه قلب الفاعل فصار مفعولاً فجعل "هجر"كأنها هي البالغة وإنما هي المبلوغة في المعنى، لأن البلدان لا ينتقلن وإنما يُبلغنَ ولا يَبلغن (1) .
وأكثر ما يكون ذلك فيما لا يشكل معناه من الكلام ولم يدخله لبس كالبيت السابق.
__________
(1) انظر: الأصول 3/464، ما يحتمل الشعر من الضرورة 210، شرح الأبيات المشكلة الإعراب 123.(42/173)
وقد اختلف العلماء في قلب الإعراب، فمنهم من أجازه في الضرورة مطلقاً، على تأويلٍ هو أن يضمَّن العامل معنًى يصح به.
ومنهم من أجازه في الشعر وفي الكلام اتساعاً واتكالاً على فهم المعنى.
وقد حكى أبو زيدِ الأنصاري (215هـ) : إذا طلعت الجوزاء انتصب العودُ في الحِرباء. يريد: انتصب الحرباء في العود.
وحكى أبو الحسن: عرضتُ الناقةَ على الحوضِ، وعرضتها على الماء. يراد: عرضتُ الماءَ والحوض عليها.
ومن كلامهم: إنَّ فلانةَ لتنوءُ بها عجيزتُها. يراد: لتنوءُ هي بعجيزتها وكذلك قوله تعالى: {وَآتَينْاهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولي القُوَّة} (1) فقد احتمله قوم على مثل هذا، وقالوا: إن المفاتيح لا تنوء بالعصبة، بل العصبة تنوء بها وتحملها في ثقل.
وقيل: ليس الأمر كذلك بل الصواب أن الباء للنقل بمعنى الهمزة، فيكون معنى لتنوء بالعصبة: لتنوء العصبةُ. كما تقول: ذهب بزيدٍ وأذهبه، وكذلك: ناءَ به وأناءه.
ومثله قولهم: لتنوء بها عجيزتها.
وذهب ابن عصفور إلى أن القلب لا يجوز إلاَّ في الشعر، وأن ما جاء منه في الكلام قليلٌ لا يقاس عليه.
وأورد ابن السراج القلبَ فيما جاء كالشاذ الذي لا يقاس عليه.
والراجح لديَّ أنه يجوز في الشعر وفي سعة الكلام. لكنما المسألة تعود إلى القلة والكثرة، فيكثر القلب في الشعر ويقل في الكلام كما تقدم من الأمثلة التي حكاها أبوزيد وغيره، ولكن على شرط أن لا يشكل معناه.
وعليه فالذي يظهر لي أن قول ابن مالك:
كذا إذا ما الفعل كان الخبرا
لا بأس به، لكونه مما لا يلبس، ولوقوعه في الشعر الذي نصَّ العلماء على أن القلب فيه جائز.
تقديم المفعول له على عامله:
__________
(1) من الآية 76 من سورة القصص.(42/174)
الأصل في المفعول له أنه يجوز تقديمه على عامله نحو: مخافةَ شره جئته، لأن العامل متصرف في نفسه فيتصرف في معموله. هذا إن لم يكن هناك مانع يمنع من ذلك. فإن كان هكذا امتنع تقديم المفعول له إلا على جهة الضرورة الشعرية. وممَّن نصّ على جواز تقديمه أبو حيان، والمرادي، والسيوطي، سواء كان المفعول له منصوباً أو مجروراً.
وذهبت طائفة منها ثعلب إلى منع تقديم المفعول له على عامله. والسماع يرد عليهم، قال الشاعر:
فما جَزَعاً وربِّ الناس أبكي
ولا حرصاً على الدنيا اعتراني (1)
فإن "جزعاً"مفعول له مقدم على عامله وهو "أبكي".
وقد اضطر ابن مالك إلى تقديم المفعول له مع وجود المانع حين قال:
فاجرره باللام وليس يمتنعْ مع الشروطِ كلزُهْدٍ ذا قَنِعْ.
فإن "ذا"اسم إشارة في محل رفع على الابتداء، وجملة "قَنِع"خبره.
قال الأزهري: "وفيه تقديم المفعول له على عامله وما أظن أحداً يجيز مثل ذلك نثراً، لأن الخبر الفعلي لا يجوز تقديمه على المبتدأ فمعموله أولى. وقول بعض الشراح إن فيه إشعاراً بجواز تقديم المعمول له على عامله صحيح لكنه مشروطٌ بعدم المانع....والمانع هنا موجود كما ترى، وإنما يجوز ذلك أن لو قال: ذا لزهدٍ قنع. ولم أرَ أحداً تنبه لما قلناه في هذا المثال، بل حكموا فيه بالجواز مطلقاً، والظاهر وقفه على الضرورة".
قيل: وقد وقف على كلام الأزهري غير واحد وسلَّمه.
خروج "سوى"عن الظرفية:
ذهب سيبويه، وجمهور البصريين إلى أن "سوى" ظرف مكان ملازم للنصب على الظرفية لا يخرج عن ذلك إلاَّ في الشعر.
ومما احتج به هؤلاء الاستقراءُ، فإن العرب لم تستعمل "سوى"في اختيار الكلام إلا ظرفاً، وتُتأول في الموضع الذي وقعت فيه غير ظرف.
__________
(1) البيت من "الوافر ".
قال الشنقيطي: نسبه أبو حيان لجحدر، فإن كان يريد جحدر بن مالك الحنفي فلم نجده في نونيته المشهورة إلا أن يكون سقط من الرواة. الدرر 3/80. وهو في الهمع 3/135 بلا نسبة.(42/175)
واحتج سيبويه لهذا بعدم تصرفها، وعدم التصرف إنما يوجد في الظرف، وفي المصادر، وفي الأسماء المبهمة.
كما احتج البصريون لملازمة "سوى"النصب على الظرفيةِ بأنها صفة ظرف في الأصل، والأولى في صفات الظروف إذا حذفت موصوفاتها النصب.
وذهب الكوفيون إلى أن "سوى"ترد بالوجهين، فتكون اسماً كـ"غير"وتكون ظرفاً، فليس خروجها عن الظرفية، مقصوراً على الضرورة الشعرية.
وذهب الزجاجي (340هـ) وابن مالك إلى أن "سوى"كـ"غير"تصرفاً ومعنى، فيقال: "جاءني سواك"بالرفع على الفاعلية، و"رأيت سواك" بالنصب على المفعولية، و"ما جاءني أحد سواك"بالنصب والرفع.
كما ذهب إلى هذا أيضاً ابن الناظم ورجحه ابن هشام.
وأورد ابن مالك في شرح التسهيل، وشرح الكافية الشافية طائفةً من الشواهد النثرية، والشعرية الدالة على تصرفها.
وذهب الرماني والعكبري إلى أن "سوى"تستعمل ظرفاً غالباً وكـ"غير"قليلاً، وإلى هذا ذهب المرادي وابن هشام، ورجحه الأشموني (1) (900هـ) .
وقد استعملها ابن مالك غير ظرف في باب "العلم"حيث قال:
واسماً أتى وكنيةً ولقبا
وأخرن ذا إن سواه صحبا (2)
فـ"سواه"مفعول به مقدم لـ"صحب".
كما استعملها غير ظرف في باب "اسم الإشارة" إذ قال:
وذانِ تانِ للمثنى المرتفع
وفي سواه ذَيْنِ تَيْنِ اذكر تَطع
حيث جرّ "سوى"، لأنها عنده متصرفة.
__________
(1) انظر: شرح الأشموني 2/160.
(2) الألفية ص 13.(42/176)
تابع الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين
مجيء الحال من المبتدأ:
قال ابن مالك في باب "عطف النسق ":
فالعطفُ مطلقاً بواوٍ ثم
حتى أم أو كفيك صدقٌ ووفا
فقوله: "العطف"مبتدأ وخبره "بواو" وما بعده. و"مطلقاً"حال من العطف. قاله المكودي.
فقوله: "ومطلقاً حال من العطف"فيه إتيان الحال من المبتدأ وهو ضعيف.
وقيل: حال من الضمير المستتر في الخبر. وجاء تقديم الحال على عاملها المضمن معنى الفعل دون حروفه؛ لأن ذلك مغتفر في النظم. على أن الأخفش، والناظم أجازاه قياساً.
قلت: ستأتي قريباً مسألة تقديم الحال على عاملها الظرفي. وسأناقش - هاهنا - مسألة إتيان الحال من المبتدأ. فأقول:
اختلف النحويون في مجئ الحال من المبتدأ؛ فظاهر كلام سيبويه أن صاحب الحال في نحو: "فيها قائماً رجلٌ"هو المبتدأ. وصححَّه ابن مالك.
وأكثر النحويين على منعه قائلين: إن صاحب الحال هو الضمير المستكن في الخبر بناءً على أنه لا يكون إلاَّ من الفاعل والمفعول.
قال ابن مالك:
"وقول سيبويه هو الصحيح؛ لأن الحال خبرٌ في المعنى، فَجَعْلُه لأظهر الاسمين أولى من جعله لأغمضهما".
(وزعم أبو الحسن بن خروف أن الخبر إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً لا ضمير فيه عند سيبويه، والفراء إلاَّ إذا تأخر، وأما إذا تقدم فلا ضمير فيه. واستدل على ذلك بأنه لو كان فيه ضمير إذا تقدم لجاز أن يؤكد، وأن يعطف عليه، وأن يبدل منه كما فعل ذلك مع التأخر) .
وإذا قيل: "زيد راكباً صاحبك"لم يجز عند الجمهور إلاَّ على تقدير: إذا كان راكباً.
كما يظهر من كلام أبي القاسم الزجاجي في الجمل أن الابتداء يعمل في الحال؛ لأن العامل في الحال هو العامل في صاحب الحال.
ومذهب أبي العباس المبرد، وتبعه ابن السراج أنه لا يعمل في الحال إلا فعل مجرد أو شيء في معنى الفعل كاسم الإشارة في قولك: هذا زيد قائماً؛ لأن المبتدأ هاهنا في معنى الفعل وهو التنبيه، كأنك قلت: انتبه له قائماً.(42/177)
وإذا قلت: ذاك زيد قائماً صار كأنك قلت: أُشير لك إليه قائماً.
أما مذهب سيبويه: فإن الذي يظهر لي - كما ظهر لغيري من قبل - أن الحال تجئ من المبتدأ. فإنه قال في باب "ما ينتصب لأنه خبرٌ للمعروف المبني ... ":
(فأما المبني على الأسماء المبهمة فقولك: هذا عبد الله منطلقاً ... ، فـ"هذا"اسمٌ مبتدأ يُبنى عليه ما بعده وهو "عبد الله"، ولم يكن ليكون هذا كلاماً حتى يُبنى عليه أو يُبنى على ما قبله ... والمعنى أنك تريد أن تعرِّفه عبد الله؛ لأنك ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: انظر إليه منطلقاً، فـ "منطلقاً "حال قد صار فيها عبد الله، وحال بين منطلق وهذا.
لكن الذي يبدو لي من هذا النصّ أن المذهب المتقدم عن المبرد وابن السراج موافق لمذهب سيبويه وهو أن الحال تجيء من المبتدأ إذا كان في معنى الفعل كأسماء الإشارة؛ لأن سيبويه قال: "فكأنك قلت: انظر إليه منطلقا"
ومثَّل سيبويه - في موضع آخر من الكتاب - بـ"فيها عبد الله قائماً، وعبد الله فيها قائماً"ثم قال:
"قولك: "فيها"كقولك: استقرَّ عبد الله، ثم أردت أن تخبر على أية حال استقرَّ فقلت: قائماً، فـ "قائم"حال مُسْتَقَرٌّ فيها.
وإن شئت ألغيت "فيها" فقلت: فيها عبد الله قائمٌ ... فإذا نصبت القائم فـ"فيها"قد حالت بين المبتدأ والقائم واستُغني بها، فعمل المبتدأ حين لم يكن القائم مبنياً عليه عَمَلَ: هذا زيد قائماً".
والراجح لديَّ أن المبتدأ يعمل في الحال إذا كان فيه معنى فعل كما قال سيبويه، وأبو العباس المبرد وأبو بكر بن السراج، وصححه ابن مالك.
وفي القرآن الكريم: {وَهَذا بَعْلي شَيْخاً} .
فالجمهور على نصب "شيخاً"وفيه وجهان أشهرهما أنه حالٌ، والعامل فيه معنى الإشارة، والتنبيه أو أحدهما.
والآخر: أنه منصوب على التقريب عند الكوفيين.
مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ:
حق الحال أن تكون من المعرفة؛ لأنها خبر في المعنى، وصاحبها مخبر عنه، فأصله أن يكون معرفة.(42/178)
وكما جاز أن يُبتدأ بنكرة بشرط حصول الفائدة وأمن اللبس كذلك يكون صاحب الحال نكرة بشرط وضوح المعنى، وأمن اللبس. ولا يكون ذلك في الأكثر إلا بمسوغ. قاله ابن مالك.
وأشهر ما ذكره النحويون من مسوغات تنكير صاحب الحال تخصيصُه بوصف أو بإضافة.
فمن الأول قول الحق تبارك وتعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أمْراً مِنْ عِنْدِنا} .
ومن الثاني قوله: {في أَرْبَعَةِ أيَّامٍ سَواءً للسَّائِلِينَ} .
ومن مسوغات تنكيره كذلك: تقدم الحال عليه نحو: جاءني ضاحكاً رجلٌ.
أو اعتماده على نفي كقوله تعالى: {ومَا أَهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلاّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} .
أو نهي كـ"لا تعتب على صديقٍ غائباً".
وقد اختلف النحاة في مجيء الحال من النكرة دون مسوغ من المسوغات السابقة؛ فذهب سيبويه إلى أن ذلك مقيسٌ لا يُوقف فيه على ما ورد به السماع، وإن كان الإتباع في إعرابه صفةً أقوى.
ووجه ماذهب إليه سيبويه أن الحال إنما يؤتى بها لتقييد العامل، فلا معنى لاشتراط المسوغ في صاحبها.
وذهب ابن مالك إلى إن مجيء صاحب الحال نكرة خالية من المسوغات المذكورة جائز بقلة؛ لقوله في الألفية:
ولم يُنكَّرْ – غالباً - ذو الحال إنْ
لم يتأخر أو يُخصَّص أو يَبِنْ
من بعدِ نفيٍ أو مضاهيه كلا
يبغ امرؤٌ على امرىءٍ مستسهلاً
ولمَّا كان هذا مذهبه - في مجيء صاحب الحال نكرة - فقد جاء شيءٌ من ذلك في باب "الإبدال"إذ قال:
أحرفُ الإبدالِ هَدَأْتَ مُوطيا
فأبدلِ الهمزةَ من واوٍ ويا
آخراً اثر ألفٍ زِيد وفي
فاعِلِ ما أُعِلَّ عيناً ذا اقتُفي
قال الصبان (1206هـ) :
"وله: "آخراً"جعله حالاً من المتعاطفين قبله، وإن أحوج إفراده إلى تأويلها بالمذكور، وإلى ارتكاب الحال من النكرة بلا مسوغ، وهو نادر".
وذهب ابن هشام إلى ما ذهب إليه ابن مالك.
أما أبو حيان فقد اختار مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيراً قياساً، وإن كان دون الإتباع في القوة.(42/179)
ويرى ابن الشجري (542هـ) والإسفراييني (684هـ) أن مجيء الحال من النكرة دون مسوغ ضعيف.
وعدَّه ابن أبي الربيع ضعيفاً قبيحاً. وكذا عدَّه قبيحاً ابن القواس
(696هـ) فقال:
إن خلت النكرة من مسوغ فمجيء الحال منها قبيح؛ لإمكان الحمل على الصفة مع المخالفة في الإعراب.
وقال عنه السيوطي (911هـ) : نادر.
والصحيح عندي ما ذهب إليه سيبويه من صحة مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ، وإن كان دون الإتباع في القوة؛ فقد ورد في كلام العرب شيئ من ذلك، كقولهم: فيها رجلٌ قائماً، وعليه مائةٌ عيناً.
وما حكاه يونس (182هـ) فيما سبق أن العرب تقول: مررت بماءٍ قعدةَ رجلٍ. ويُسِّهل ذلك أن الحال إنما يجاء بها لتقييد العامل، فلا ضرورة لاشتراط المسوغ في صاحبها.
تقديم الحال على عاملها غير المتصرف:
قال ابن مالك في باب "إعراب الفعل":
وبعدَ حتىَّ هكذا إضمارُ أنْ
حَتْمٌ كـ "جد حتى تَسُرَّ ذا حَزَنْ
فقوله: "إضمار": مبتدأ، و "حَتْمٌ" بمعنى واجب خبره، و"هكذا"في موضع الحال من "حتم"على أنه في الأصل نعت له قدم عليه فانتصب على الحال. والتقدير: إضمارُ أنْ بعد حتى هكذا فقدم الحال على عاملها، وهو غير متصرف، ولا شبيه به للضرورة.
قلت: مذهب جمهور النحويين أنه إذا كان العامل في الحال فعلاً متصرفاً نحو: أتيت مسرعاً، وزيد دعا مخلصاً فإنه يجوز تقديم الحال عليه. وكذلك إذا كان العامل صفةً تشبه الفعل المتصرف بأن كانت متضمنهً معنى الفعل، وحروفه، وقبول علاماته الفرعية من تأنيث، وتثنية، وجمع، فذا في قوة الفعل. ويستوي في ذلك اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة. نحو: راحل، ومقبول. فيجوز أن يقال: مسرعاً أتيت، وزيد مخلصاً دعا، وهو مسرعاً راحل، وأنت شاهداً مقبول.
قال ابن مالك:
والحالُ إن يُنصب بفعلٍ صُرِّفا
أو صفةٍ أشبهتِ المصرَّفا
فجائزٌ تقديمه كمسرعا
ذا راحلٌ، ومخلصاً زيدٌ دعا(42/180)
فإذا كان العامل فعلاً غير متصرف كفعل التعجب لم يجز تقديمها عليه.
وكذلك لو كان العاملُ صفةً لا تشبه الفعل المتصرف كأفعل التفضيل، فإنه لا يجوز تقديم الحال عليه، نحو: زيد أحسنُ من عمرو ضاحكاً.
وجواز تقديم الحال على العامل المتصرف مشروط بعدم المانع كوقوعه
صلة "ال "نحو: أنت المصلي فذّاً، والجائي مسرعاً زيدٌ. فلا يقال: ال فذَّاً أنت مصلٍّ، ولا: ال مسرعاً جاءني زيدٌ. بخلاف صلة غيرها فيقال: من الذي خائفاً جاء؟
وكذلك لو كان العامل صلةً لحرفٍ مصدري عامل كـ"أن" أو إحدى أخواتها، نحو: يعجبني أن يقوم زيدٌ مسرعاً، فلا يجوز: يعجبني أنْ مسرعاً يقوم زيد.
أو كان مصدراً ينسبك بحرف مصدري، والفعل نحو: سرني ذهابك غداً غازياً، ولأجزينك بودك إياي مخلصاً.
وقد يكون العامل غير ما ذكر وعرض له مانع يمنع ما بعده أن يعمل فيما قبله؛ كأن يكون مقروناً بلام ابتداء نحو: لأصبر محتسباً، أو بلام قسم نحو: لأقومن طائعاً؛ فإن ما في حيِّز لام الابتداء ولام القسم لا يتقدم عليهما، إذ لا يقال: محتسباً لأصبر، ولا: طائعاً لأقومنَّ؛ لأن لام الابتداء ولام القسم من الأشياء التي لها الصدارة فلا يجوز أن يعمل ما بعدهما في شيءٍ قبلهما.
هذا هو مجمل قول جمهور النحويين في مسألة تقديم الحال على عاملها، ومنهم ابن مالك كما اتضح.
وعليه فإن تقديم الناظم للحال في النظم السابق يُعدُّ ضرورة؛ لأن العامل فيها وهو قوله "حتم"مصدر وليس بفعل متصرف ولا شبيه بالمتصرف.
تقديم الحال على صاحبها المجرور بحرف:
لايجوز عند أكثر النحويين تقديم الحال على صاحبها المجرور بحرف، فلا يجوز عندهم أن يقال في "مررت بهندٍ جالسةً"مررت جالسةً بهند، قياساً على المجرور بالإضافة في امتناع تقدم حاله عليه.
وذهب ابن كيسان (320هـ) ، وأبو علي الفارسي، وابن برهان إلى جواز ذلك.
وتابعهم ابن مالك فقال في الألفية:
وسبقَ حالٍ ما بحرفٍ جُرَّ قد
أَبَوْا، ولا أمنعه فقد وردْ(42/181)
وحجته في ذلك - بالإضافة إلى السماع - أن المجرور بحرف مفعولٌ به في المعنى، فلا يمتنع تقديم حاله عليه كما لا يُمنع تقديم المفعول به.
ومما جاء مسموعاً من أشعار العرب الموثوق بعربيتهم قول الشاعر:
لئن كانَ بردُ الماءِ هيمانَ صادياً
إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ
فـ "هيمان"و "صاديا"حالان من الضمير المجرور بـ "إلى"وهو الياء.
وأشار في التسهيل، وشرحه إلى أن تقديم الحال على صاحبها المجرور بحرف ضعيفٌ على الأصح لا ممتنع.
ولما كان تقديم الحال على صاحبها بهذه الهيئة جائز عنده - وإن كان ممتنعاً عند غيره - استخدمه في باب "أفعل التفضيل"حيث قال:
وأفعلَ التفضيلِ صله أبدا
تقديراً او لفظاً بـ "مِنْ"إنْ جُرِّدا
فقوله: "تقديراً أو لفظاً"مصدران في موضع الحال من المجرور بعدهما. وعند المانعين منصوبان على إسقاط "في".
تقديم الحال على عاملها المضمن معنى الفعل دون حروفه:
للحال مع عاملها - إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً - ثلاث صور:
الأولى: أن تتأخر عن الجملة نحو: زيد في الدار قائماً وزيد عندك مقيماً. وهذه الصورة لا إشكال في جوازها، بل هي الأصل.
الثانية: أن تتوسط بين المخبر عنه والخبر. نحو: زيدٌ قائماً في الدار، وزيد مقيماً عندك - وستأتي قريباً -.
الثالثة: أن تتقدم الحال على الجملة نحو: قائماً زيدٌ في الدار، ومقيماً زيدٌ عندك. وهي ما أنا بصدد الحديث عنه الآن؛ حيث قال ابن مالك في آخر باب "أبنية المصادر":
في غيرِ ذي الثلاثِ بالتا المرّهْ
وشذَّ في هيئةٍ كالخِمْرهْ
فإن قوله: "في غير"جار ومجرور متعلق بمحذوف حال مقدم على صاحبه وهو الضمير المستكن في خبر المبتدأ المقدم الذي هو قوله: "بالتا"و "المرَّه"مبتدأ مؤخر. والتقدير: والمرة كائنة بالتاء حال كونها كائنة في غير الفعل صاحب الأحرف الثلاثة، فقدم الحال على عاملها المضمن معنى الفعل دون حروفه.
قال الأزهري: وهو نادر.(42/182)
فهذه الصورة منعها جمهور النحاة، فلا يقال عندهم: قائماً زيدٌ في الدار، ولا قائماً في الدار زيدٌ؛ نظراً إلى ضعف الظروف في العمل.
على أن أبا بكر بن طاهر (580هـ) قد ذكَر أنه ليس ثمت خلاف في امتناع: قائماً زيدٌ في الدار، وتبعه ابن مالك.
ولكن الصحيح خلاف ذلك؛ فإن أبا الحسن الأخفش قد أجاز في قولهم:
"فداءً لك أبي وأمي"أن يكون "فداءً"حالاً، والعامل فيه "لك". وهو نظير: قائماً في الدار زيدٌ.
أما الصورة التي وعدت قريباً بذكرها فهي أن تتوسط الحال بين المخبر عنه، والخبر، وتلك لا تخلو من أن تكون متوسطة بين الخبر المقدم، والمبتدأ المؤخر نحو: عندك قائماً زيد، وفي الدار مقيماً عمرو. وهذه لا خلاف في جوازها.
أو تكون الحال بين المبتدأ والخبر في ترتيبها الأصلي، نحو: زيد قائماً عندك، وعمرو مقيماً في الدار.
ففي هذه الصورة خلاف بين النحويين على أربعة مذاهب. سأوردها باختصار، ولكني سأذكر قبل ذلك ما جاء في ألفية ابن مالك من هذا القبيل.
ففي باب "عطف النسق "قال:
فالعطف مطلقاً بواوٍ ثم فا
حتى أم أو كفيك صدقٌ ووفا
فقوله: "العطف": مبتدأ، وخبره قوله: "بواو"و "مطلقاً"حال من الضمير المستتر في الخبر، وجاء تقديم الحال على عاملها المضمن معنى الفعل دون حروفه؛ لأن ذلك مغتفر في النظم، على أن الأخفش والناظم أجازاه قياساً.
وفي باب "المقصور والممدود"قال:
والعادمُ النظير ذا قصر وذا
مدٍّ بنقلٍ كالحجا وكالحذا
فقوله: "العادم": مبتدأ، و "بنقل" جار ومجرور متعلق بمحذوف خبره. و"ذا قصر وذا مد"حالان من الضمير المستكن في الخبر. وهذا من تقديم الحال على عاملها المعنوي.
والآن أُورد المذاهب الأربعة في هذه المسألة:
الأول: مذهب جمهور البصريين المتمثل في المنع مطلقاً. وما ورد من ذلك فمسموع يحفظ ولا يقاس عليه؛ نظراً لضعف العامل بعدم تصرفه.
الثاني: الجواز مطلقاً، وإليه ذهب الفراء، والأخفش، وصحَّحه ابن مالك مع التضعيف.(42/183)
واستدل المجيزون بجملة من الشواهد، منها قراءة بعضهم: {وَقَالُوا ما فِي بُطُونِ هذِه الأنعامِ خالِصَةً لِذكُورِنا ومُحَرَّمٌ على أَزْواجِنا} (1)
بنصب "خالصةً "على الحال المتوسطة بين المخبر عنه وهو "ما "والمخبر به وهو "لذكورنا".
أما المانعون فقد ردُّوا ذلك وتأولوه.
فمن أقوالهم: إن ما ورد من هذا قليل لا يُحفظ منه إلا هذا، وما لا بال له لقلته لا ينبغي القياس عليه.
ومن تخريجاتهم للآية أن "خالصة "معمولة للجار والمجرور قبلها على أنها حال من الضمير المستتر في صلة "ما " فهو العامل في الحال. وتأنيث "خالصة "باعتبار معنى "ما "؛ لأنها واقعة على الأجنَّة.
المذهب الثالث: الجواز بقوة إن كان الحال ظرفاً أو جاراً ومجروراً وبضعف إن كان اسماً صريحاً، وهو مذهب ابن مالك في التسهيل وشرحه.
المذهب الرابع: الجواز إذا كانت الحال من مضمر مرفوع نحو: أنت قائماً في الدار، والمنع إن كانت من ظاهر، وهو مذهب الكوفيين، فأجازوا أن يُقال في: "أنت في الدار قائماً ": في الدار قائماً أنت، وأنت قائماً في الدار.
والذي أميل إليه: أنه يجوز وقوع الحال بين المبتدأ والخبر في نحو: زيد في الدار قائماً، وزيدٌ عندك مقيماً. فيقال: زيدٌ قائماً في الدار، وزيد مقيماً عندك، وذلك لأمرين:
الأول: السماع. وله شواهد مبثوثة في كتب النحو وغيرها.
الثاني: أنه يتسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتسع في غيرهما.
تقديم الصفة على الموصوف:
وهو من الأشياء التي نصَّ النحاة على منعها.
وذهب بعضهم إلى أنه إذا تقدمت الصفة على الموصوف أُعربت - حينئذٍ - حسب موقعها وأُبدل منها الموصوف.
__________
(1) هي قراءة ابن عباس بخلاف، والأعرج، وقتادة، وسفيان بن حسين، وابن جبير، والزهري.
(مختصر في شواذ القرآن 41، المحتسب 1/232، البحر المحيط 4/231) .(42/184)
فإذا قيل - مثلاً -: مررت بالطويل عبد الله فإنه لا يجوز جعل الطويل صفةً لعبد الله، ولكن على إرادة: مررت بالرجل الطويل عبد الله، فحذف الموصوف وأبدل عبد الله من الصفة. قاله ابن الشجري، وحكم عليه بالقبح.
ومثل ابن مالك لتقديم النعت وجعل المنعوت بدلاً بقوله عز وجل:
{إلى صِراطِ العَزيزِ الحَمِيدِ اللهِ} .
أما في الألفية فقد ذكر بعض المعربين بعض المواضع التي اضطر فيها ابن مالك إلى تقديم الصفة على الموصوف لإقامة الوزن. كقوله في باب "جمع المذكر السالم":
وارفع بواوٍ وبيا اجرُرْ وانصبِ
سالمَ جمعِ عامرٍ ومذنبِ
الأصل: جمع عامر ومذنب السالم، فقدم الصفة على الموصوف، وحذف "ال"ليتمكن من الإضافة، ثم أضاف الصفة إلى موصوفها كجرد قطيفةٍ وفاضل رجلٍ للضرورة.
وقال في باب "لا النافية للجنس":
ومفرداً نعتاً لمبنيٍّ يلي
فافتح أو انصبَن أو ارفع تَعْدِلِ
قدَّم "مفرداً"على "نعتاً"مع أن حقه التأخير عنه؛ لأنه وصف له لأجل الضرورة. ويجوز نصبه على الحال؛ لأنه نعت نكرة تقدم عليها.
وقال في باب "النداء":
وابنِ المعرَّف المنادى المفردا
على الذي في رفعه قد عُهِدا
فقوله: "المعرَّف "مفعول بـ "ابْنِ"، وكان حقه أن يقدم المنادى؛ لأن المعرَّف نعت له، والمفرد نعت للمنادى.
فأصل كلام الناظم: وابنِ المنادى المعرف المفرد ... الخ، فالمعرّف نعت للمنادى، فقدم النعت وهو "المعرَّف"على المنعوت وهو "المنادى"، فأعرب المعرف مفعولاً والمنادى بدلاً منه، فصار التابع متبوعاً. ولو أراد الناظم السلامة من ذلك لقال:
وابنِ المنادى المفرد المعرَّفا
على الذي في رفعه قد أُلفا
تقديم معمول المصدر على المصدر:
قال ابن مالك في باب "الضمير":
وفي لَدُنِّي لَدُني قَلَّ وفي
قَدْني وقَطْني الحذفُ أيضاً قد يفي(42/185)
فإن قوله: "وفي قدني"متعلق بـ "يفي"أو بالحذف؛ فعلى الأول يلزم تقديم معمول الخبر على المبتدأ. ويلزم على الثاني إعمال المصدر المحلى بـ "أل"وتقديم معموله عليه، وكلاهما خاص بالشعر.
وقال في باب "كان وأخواتها":
وبعد أنْ تعويضُ ما عنها ارتُكِبْ
كمثل: أمَّا أنت برّاً فاقتربْ
قال الأزهري: "وبعد: متعلق بـ"ارتكب" أو بـ"تعويض". وأيًّا كان فاللازم أحد الأمرين: إما تقديم معمول الخبر الفعلي على المبتدأ، أو تقديم معمول المصدر عليه، وكلاهما مخصوص بالشعر".
وقال الناظم في أول باب "التنازع":
إنْ عاملانِ اقتضيا في اسمٍ عَمَلْ
قبلُ فللواحد منهما العملْ
فالمكودي يرى أن قوله: "في اسم"متعلق بـ"اقتضيا"، لكن الذي يظهر للأزهري - كما قال - أنه متعلق بـ"عمل"وقدم عليه للضرورة.
وفي باب "الممنوع من الصرف"قال:
ولسراويلَ بهذا الجمعِ
شبهٌ اقتضى عمومَ المنعِ
نقل الأزهري عن الشاطبي قوله: "أتى بضرورة في هذا البيت؛ حيث قدم "بهذا"على "شبَه"وهو مصدر مقدر بـ "أنْ"والفعل، ولا يتقدم معموله عليه، ولا يمكن أن يقدر "شَبَه" هنا بمشبه كما قدر "عجب"بمعنى معجب في قوله تعالى: {أَكان للنَّاسِ عَجَباً} ) اهـ. بمعناه.
قال الأزهري: "وقد يمنع كونه مقدراً بـ "أنْ"والفعل هنا ويدعي بأنه مصدر صريح، وحينئذٍ لا يمنع تقديم معموله عليه على الأصحّ - سلّمنا ذلك، لكن ذاك في غير المجرور والظرف لكونهما يكتفيان برائحة الفعل عند المحققين".
ومن هذا قوله في باب "إعراب الفعل":
وبعدَ "حتى"هكذا إضمارُ "أنْ"
حتمٌ كـ"جد حتى تسرَّ ذا حَزَنْ
أعرب الأزهري قوله: "حتم"خبر المبتدأ الذي هو "إضمار"والتقدير: إضمارُ أن حتم بعد حتى هكذا. قال: فقدم معمول المصدر عليه، وعلى المبتدأ العامل فيه للضرورة.
قلت: المصدر العامل على ضربين:(42/186)
أحدهما: مقدر بالفعل وحده وهو الآتي بدلاً من اللفظ بفعله نحو: ضرباً زيداً. وهذا يعمل عند أكثر النحويين مقدماً ومؤخراً؛ لأنه ليس بمنزلة موصول، ولا معموله بمنزلة صلة؛ فيقال: ضرباً زيداً، وزيداً ضرباً.
والآخر: مقدر بالفعل، وحرف مصدري. ولأجل تقديره بهذا جُعل هو ومعموله كموصول وصلة، فلا يتقدم ما يتعلق به عليه، كما لا يتقدم شيءٌ من الصلة على الموصول.
وقد نسب السيوطي إلى ابن السراج القول بجواز تقديم المفعول على المصدر نحو: يعجبني عمراً ضَرْبُ زيدٍ.
والذي في "الأصول"خلاف ذلك؛ إذ صرّح أبو بكر بعدم الجواز فقال: "واعلم أنه لا يجوز أن يتقدم الفاعل ولا المفعول الذي مع المصدر على المصدر؛ لأنه في صلته".
ويرى ابن مالك إضمار عامل فيما أوهم خلاف ذلك، أو عدَّه نادراً.
فقد يجيء ما قبل المصدر متعلقاً به من جهة المعنى تعلق المعمول بالعامل، كقول ابن مُقْبل:
لقد طالَ عن دهماءَ لدِّي وعِذْرتي
وكتمانُها أُكني بأمِّ فُلانِ
وكقول عمر بن أبي ربيعة:
ظنُّها بي ظنُّ سوءٍ كُله
وبها ظنِّي عَفافٌ وكرمْ
قال ابن مالك:
فَلَنا في هذه أن نعلق ما تقدم بمصدر آخر محذوف لدلالة الموجود عليه، فيصير كأنه قال: لدِّي عن دهماء لدِّي. وظنِّي بها ظنِّي. فيُتلطف لذلك كله فيما يُؤمن معه الخطأ ويُثبت به الصواب.
ويكون هذا التقدير نظير قولهم في قوله تعالى: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدينَ} ، أنَّ تقديره: وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين.
وزاد في شرح التسهيل تأويلين أحدهما: أن يجعل ما تقدم متعلقاً بنفس المصدر الموجود على نية التقديم والتأخير.
الثاني - وهو الذي تطمئن إليه النفس لبعده عن التكلف -: أن يكون ما تقدم متعلقاً بالمصدر الموجود نفسه، لا على نية التقديم والتأخير ولكن على أن يكون ذلك مُستباحاً في المصدر، وإن لم يُتسبح مثله في الموصول المحض كما استُبيح استغناؤه عن معمول لا دليل عليه، وإن لم يُتسبح مثله في صلة الموصول.(42/187)
الإخبار عن المصدر قبل تمام عمله:
قال ابن مالك في باب "الصفة المشبهة باسم الفاعل":
وعملُ اسمِ فاعلِ المُعدَّى
لها على الحدِّ الذي قد حُدَّا
أعرب المكودي "عمل"مبتدأ و"اسم فاعل"مضافاً إلى "المعدَّى". قال: "وهو على حذف الموصوف. والتقدير: فاعل الفعل المعدَّى. و "لها"في موضع خبر "عمل"، و"على الحدّ"متعلق بـ "عمل".
فقوله: "لها"في موضع خبر المبتدأ الذي هو "عمل"و"على الحدّ"متعلق بـ "عمل"فيه الإخبار عن المصدر قبل تمام عمله.
قد تقدمت الإشارة - قريباً - إلى أن المصدر المقدر بالحرف المصدري والفعل مع معموله كالموصول مع صلته وأنه لا يتقدم عليه ما يتعلق به كما لا يجوز تقديم شيء من الصلة على الموصول، ولا يفصل بينهما بأجنبي كما لا يفصل بين الموصول وصلته.
هذا رأي جمهور النحويين في هذه المسألة.
قال ابن مالك في الكافية الشافية:
وهو مع المعمول كالموصول مع
صلته فيما أُجيز وامتُنع
وبالندور احكم على الذي يرد
بغير ذا، أو حاول العذر تجدْ
وقال في التسهيل:
"ويُضمرُ عاملٌ فيما أوهم خلاف ذلك، أو يُعدُّ نادراً".
أي إن وقع ما يوهم خلاف ما ينبغي تُلطف له فيما يؤمن معه الخطأ ويُثبت به الصواب، من محاولة تخريجه على وجه مناسب ومحاولة إيجاد العذر، كالضرورة الشعرية. فإن لم يتأتَ كلُّ ذلك حُمل على النُّدرة.
فممَّا يوهم الفصل بأجنبي - مثلاً - قول الشاعر:
المنُّ للذمِّ داعٍ بالعطاءِ فلا
تمنن فتُلقى بلا حمد ولا مالِ
فإن من يسمع هذا البيت يسبق إلى ذهنه أن الباء الجارة لـ "العطاء"متعلقة بـ "المن"؛ ليكون التقدير: المنُّ بالعطاء داعٍ للذم، وعليه مدار المعنى. غير أن هذا التقدير ممتنع من جهة الإعراب؛ لأنه يلزم منه ارتكاب محذورين؛ أحدهما: الفصل بين المصدر ومعموله. والآخر: الإخبار عن المصدر قبل تمام عمله، أي فيما تعلق به من مجرور وغيره.(42/188)
فيُخرج البيت على تعليق الباء بمحذوف؛ كأنه قيل: المنُّ للذمِّ داعٍ المنّ بالعطاء، فـ "المنَّ"الثاني يدل على "المنِّ"الأول، فحُذف وأُبقي ما يتعلق به دليلاً عليه.
تقديم "مِنْ"ومجرورها على أفعل التفضيل:
إذا كان أفعل التفضيل مجرداً جيء بعده بـ "مِنْ"جارةً للمفضَّل عليه نحو: محمدٌ أكرمُ من خالدٍ. و "مِنْ"ومجرورها بمنزلة المضاف والمضاف إليه، لا يجوز تقديمها عليه، كما لا يجوز تقديم المضاف إليه على المضاف.
ويتعيّن تقديم "مِنْ"ومجرورها على أفعل التفضيل إذا كان المجرور اسم استفهام أو مضافاً إلى اسم استفهام.
أما إذا كان المجرور بـ "من"غير استفهام لم يجز تقديمه على أفعل التفضيل إلا في ضرورة الشعر عند كثير من النحويين، كقول الفرزدق:
فقالت لنا: أهلاً وسهلاً، وزوَّدتْ
جنى النحل بل ما زوَّدتْ منه أطيبُ
فقدَّم المجرور بـ "مِنْ"على أفعل التفضيل في غير الاستفهام.
أما ابن مالك فقد عَدَّ التقديم بهذه الصورة نادراً لا ممتنعاً، فقال في الألفية:
وإنْ تكنْ بتلوِ "مِنْ "مستفهِماً
فلهما كن أبداً مقدِّما
كمثل: مِمَّنْ أنت خيرٌ؟ ولدى
إخبارٍ التقديمُ نَزْراً ورَدا
وقال في شرح التسهيل: "إن كان المفضول غير ذلك لم يجز تقديمه إلاَّ في نادر من الكلام.
ومع كون تقديم "مِنْ"ومجرورها ممتنعاً - إذا لم يكن المجرور اسم استفهام أو مضافاً إليه - عند الجمهور، ونادراً عند ابن مالك إلاَّ أنه قد جاء به ابن مالك مقدماً، إذ قال في باب "الأسماء الستة":
وفي أبٍ وتالِيَيْه يندرُ
وقصرها من نقصهن أشهر
فقوله: "من نقصهن"متعلق بـ "أشهر"مقدَّم عليه.
قال الأزهري: "هذا غير جائز عند الجمهور، خلافاً للناظم".
تقديم معمول الصفة على الموصوف:
قال ابن مالك في "باب الكلام وما يتألف منه":
بالجرِّ والتنوينِ والندا وأل
ومسند للاسم تميزٌ حَصَلْ ((42/189)
فقوله: "للاسم"يُعرب خبراً مقدماً. و "تمييز": مبتدأ مؤخر. وجملة "حصل"في محل رفع صفة لـ "تمييز". ويلزم على هذا تقديم الصفة التي هي قوله: "بالجر"وما عطف عليه على الموصوف وهو قوله: "تمييز"، والصفة لا تتقدم على الموصوف، فمعمولها أولى بالمنع.
قلت: ذهب جمهور البصريين إلى أنه لا يجوز تقديم معمول الصفة على الموصوف، فلا يجوز أن يقال في: هذا رجلٌ يأكلُ طعامَك: هذا طعامَك رجلٌ يأكلُ.
وتبعهم في هذا ابن مالك فقال في الكافية الشافية:
وعَمَلَ التابعِ قبلَ ما تبع
لا توقِعَنْ ففعلُ ذاك ممتنعْ
وما نعوه علماءُ البصرهْ
وغيرهم أجاز دون كثرهْ
وأجاز ذلك الكوفيون، وتبعهم الزمخشري في قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَليغاً} قال: "فإن قلت: بم تعلق قوله: "في أنفسهم"؟ قلت: بقوله: "بليغاً"؛ أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم ... ".
واستثنى ابن مالك في التسهيل ما إذا كان النعت صالحاً لمباشرة العامل فإنه يجوز تقديمه، ولكن ليس من باب تقديم الصفة على الموصوف ولكن على جعل المنعوت بدلاً منه. ومثَّل في الشرح بقوله - عز وجل -: {إلى صِراطِ العَزيزِ الحَميدِ اللَّهِ} ففيه تقديم النعت وهو قوله: "العزيز الحميد"وجعل المنعوت - وهو لفظ الجلالة - بدلاً.
ومنه قول الشاعر:
ولكنِّي بليتُ بوصلِ قومٍ
لهم لحمٌ ومنكرة جسومُ
أي: وجسوم منكرة.
وقال ابن عصفور: "ولا يجوز تقديم الصفة على الموصوف إلاَّ حيث سمع، وذلك قليل".
والراجح هو ما ذهب إليه البصريون ومن تبعهم من عدم جواز تقديم معمول الصفة على الموصوف؛ لأن حق المعمول ألاَّ يحل إلا في موضع يحل فيه العامل، كما قال ابن مالك.
فأنت تقول: هذا رجلٌ مكرمٌ زيداً، ولا تقول: هذا زيداً رجلٌ مكرمٌ؛ لأن النعت لا يتقدم على المنعوت؛ لأنه تابع. ولعله يُتسامح في ذلك إذا كان معمولُ الصفة جاراً ومجروراً كما في آية النساء وبيت الألفية.
الفصل بين الصفة والموصوف بما هو أجنبي:(42/190)
قال ابن مالك في باب "نعم وبئس"وما جرى مجراهما:
فِعلانِ غير متصرفين
نعم وبئس رافعان اسمينِ
أعرب المكودي قول الناظم: "فعلان"خبراً مقدماً، و"غير متصرفين"نعتاً له، و"نعم وبئس"هو المبتدأ، و"رافعان"نعت لفعلين كذلك. قال: ولا يجوز أن يكون قوله: "غير متصرفين"و"رافعان"أخباراً؛ لأنهما قيدٌ في فعلين، وليس المراد أن يخبر بهما عن "نعم وبئس".
وعقَّب عليه الأزهري بقوله: "يلزم منه الفصل بين الموصوف والصفة بالمبتدأ، وهو أجنبي من الخبر".
فمذهب جمهور النحويين أنه لا يجوز الفصل بين الموصوف والصفة بما ليس معمولاً لواحدٍ منهما، بل لم أقف على قول لأحد يجيز ذلك إلا في ضرورة الشعر.
نصَّ على ذلك ثُلةٌ من العلماء منهم ابن جني، وابن عصفور، وابن القواس، وأبو حيَّان.
فمن الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي قول عروة بن الورد:
أقولُ لقومٍ في الكنيفِ تروَّحوا
عشية بتنا عند ماوان رُزّحِ
يريد: أقول لقوم رزّحٍ في الكنيف تروَّحوا عشية بتنا عند ماوان
وعليه فإن بيت ابن مالك الآنف الذكر يُعدُّ من هذا القبيل، حيث ألجأته ضرورة الشعر إلى الفصل بين الموصوف "فعلان"وصفته - وهي قوله: "غير متصرفين". وكذا قوله: "رافعان"- بالمبتدأ وهو أجنبي من الخبر، بمعنى أن المبتدأ ليس معمولاً للخبر. وهو الصحيح.
العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ:
هذه المسألة من المسائل المختلف فيها؛ فجمهور البصريين، والفراء يرون أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بعد إعادة حرف الجر، فلا يجوز نحو: مررت بك وزيدٍ.
واحتجوا لمذهبهم بأدلة منها: أن الجار والمجرور بمنزلة شيء واحد، فإذا عطفت على الضمير المجرور فكأنك قد عطفت الاسم على الحرف الجارّ، من قِبل أن الضمير إذا كان مجروراً اتصل بالجار ولم ينفصل منه، ولهذا لا يكون إلا متصلاً، بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب، وعطف الاسم على الحرف لا يجوز.(42/191)
ومنها أن ضمير الجر شبيه بالتنوين ومعاقب له، فلم يجز العطف عليه كالتنوين.
ومنها أن حق المتعاطفين أن يصلحا لحلول كل منهما محل الآخر، وضمير الجر لا يصلح حلوله محل المعطوف، فامتنع العطف عليه.
ويرى الكوفيون ما عدا الفراء جواز العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار؛ وذلك لوروده في التنزيل، وكلام العرب، كقوله تعالى: {واتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامِ} - بالجر - وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ في النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وغيرها من الآيات والشواهد الشعرية.
ووافق الكوفيين في ذلك كلٌّ من يونس بن حبيب، والأخفش، وأبو علي الشلوبيني (645هـ) وصحَّحه ابنُ مالك.
قال في الألفية:
وعَوْدُ خافضٍ لدى عطفٍ على
ضميرِ خفضٍ لازماً قد جُعلا
وليس عندي لازماً إذ قد أتى
في النظم والنثر الصحيح مُثبتا
وقال في التسهيل:
"وإن عُطف على ضمير جر اختير إعادة الجار، ولم تلزم وفاقاً ليونس، والأخفش، والكوفيين".
أما الفراء فقد عدَّه قليلاً مرةً فقال: "وما أقل ما تردّ العرب مخفوضاً على مخفوض قد كُني عنه".
وعدَّه مرة أخرى قبيحاً ضعيفاً لا يجوز إلا في الشعر لضعفه.
ولأن الناظم لا يرى لزوم ذلك فقد جاء في الألفية شيء منه حيث قال في باب "أمَّا ولولا ولوما":
وبِهما التحضيضَ مِزْ وهَلاَّ
ألاَّ ألا وأولينها الفعلا
فقوله: "وهلاَّ"معطوف على الضمير المجرور بالباء من غير إعادة حرف الجر.
وقال في باب "النسب":
وأولِ ذا القلب انفتاحاً وفَعِل
وفُعِلٌ عينَهما افتح وفِعِلْ
فقوله: "وفِعِل"- بكسر الفاء والعين - معطوف على الضمير المجرور بالإضافة من غير إعادة الجار.
صرف ما لا ينصرف:
ذكر العلماء أنه يجوز للشاعر أن يصرف في الشعر ما لا ينصرف؛ لأن الأسماء أصلها الصرف.
فإذا اضطر الشاعر ردَّها إلى أصلها ولم يلتفت إلى العلل الداخلة عليها.(42/192)
ويرى بعض البصريين أن كل ما لا ينصرف يجوز صرفه إلاَّ أن يكون آخره ألف تأنيث نحو: "بشرى"فإنه لا يجوز فيه ذلك.
واستثنى الكسائي والفراء "أفعل"الذي معه "مِنْ"كـ "هذا أفضل منك، ورأيت أكرم منك. فإنه لا يجوز صرفه.
وذكر بعضهم أن صرف ما لا ينصرف لغة عند قوم من النحاة. وقد أجاز ذلك في الكلام أحمد بن يحيى.
وزعم أبو الحسن الأخفش أنه سمع من العرب من يصرف في الكلام جميع ما لا ينصرف. كما حكى الزجاجي مثل ذلك.
ويرى ابن عصفور أن ذلك لغة الشعراء؛ (لأنهم قد اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك. وأما سائر العرب فلا يجوز صرف شيء منه في الكلام فلذلك جعل من قبيل ما يختص به الشعر) .
وابن مالك مع جمهور النحويين في أنه يجوز للضرورة أو التناسب صرف جميع ما لا ينصرف.
قال في الألفية:
ولاضطرارٍ أو تناسبٍ صُرِفْ
ذو المنعِ، والمصروف قد لا ينصرفْ
وقد وردت بعض الألفاظ في الألفية مصروفة لأجل الضرورة مع أنَّ حقها المنع من الصرف.
من ذلك ما جاء في باب العلم، إذ قال:
من ذاك أمُّ عريطٍ للعقربِ
وهكذا ثعالةٌ للثعلب
فـ "ثعالة"علم لجنس الثعلب، وهو غير منصرف للعلمية وتاء التأنيث، إلاَّ أنه صرفه للضرورة.
ومنه صرف الناظم لكلمة "أحمد"وهو مستحق للمنع لأجل العلمية ووزن الفعل حين قال:
كذاك ذو وزنٍ يخصُّ الفعلا
أو غالبٍ كأحمدٍ ويعلى
وقال في باب: "جمع التكسير":
أفعِلةٌ أَفْعُلُ ثم فِعْلَهْ
ثُمَّت أفعالٌ جُموعُ قِلَّهْ
فـ "أفعلة"مستحق للمنع من الصرف للعلمية والتأنيث إلاَّ أن الناظم قد صرفه للضرورة.
وقال في الباب نفسه:
فَواعِلٌ لفَوْعَلٍ وفاعَلِ
وفاعِلاءَ مَعَ نحوِ كاهِلِ
فصرف كلمة "فواعل"للضرورة مع استحقاقها للمنع للسبب السابق.
وقال في باب "النسب":
وفَعَليٌّ في فَعِيلَةَ التُزم
وفُعَليٌّ في فُعَيْلَةٍ حُتم
فنوَّن "فُعَيْلَةٍ"للضرورة، مع أنها في الأصل ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث كذلك.(42/193)
وقال في موضع آخر من الباب نفسه:
وبأخٍ أَختاً وبابنٍ بِنْتا
أَلحِقْ ويونسٌ أبى حذف التا
فصرف كلمة "يونس"للضرورة مع أنه ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل.
أما في باب "الإبدال"فقال:
وصحَّ عينُ فَعَلٍ وفَعِلا
ذا أَفْعَلٍ كأغْيَدٍ وأحْوَلا
فصرف كلمة "أغيد"للضرورة مع كونها في الأصل ممنوعة من الصرف للوصفية ووزن أفعل.(42/194)
تابع الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين
حذف أداة الشرط:
قال ابن مالك في باب "المعرف بأداة التعريف":
أل: حرفُ تعريفٍ أو اللامُ فقطْ
فَنَمَطٌ عَّرفتَ قُلْ فيه: النَّمَطْ
أعرب الأزهري لفظة "نمط"مبتدأ، وقال: سوَّغ ذلك إعادته بلفظ المعرفة. و"عرَّفت": شرطٌ حذفت أداته ضرورة. ومفعوله محذوف. و"قُلْ"فعل أمر جواب الشرط، حذفت منه الفاء للضرورة، والشرط وجوابه خبر المبتدأ. والتقدير: فنمط إذا عرَّفته فقل فيه النمط، على معنى: إذا أردت تعريفه فقل.
قلت: مذهب جمهور النحويين أنه لا يجوز حذف أدوات الشرط، لا "إنْ"ولا غيرها.
قال أبو حيان: وقد جوَّز ذلك بعضهم في "إنْ". قال: ويرتفع الفعل بحذفها، وجعل منه قول ذي الرِّمَّة:
وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً
فيبدو وتارات يَجُمُّ فيَغْرَقُ
أي: إن يحسر الماءُ. فلما حذفت "إنْ"ارتفع الفعل.
وإنما قدر بعضهم فيه "إنْ"محذوفة، لأن قوله "وإنسانُ عيني"مبتدأ، وجملة "يحسر الماءُ تارةً"خبره، وليس ثَمَّ رابط لهذه الجملة بالمبتدأ. فلما خلت من الرابط ذهب من ذهب إلى أصلها جملة شرطية، إذ إنه لا يشترط في الشرط إذا ما وقع خبراً أن يكون الرابط في جملة الشرط، بل قد يكون في جملة الجزاء نحو: زيد إنْ تقم هند يغضب.
وخرَّج بعض المحققين بيت ذي الرمة على أنه من عطف جملة فيها ضمير المبتدأ وهي قوله: "يبدو"بفاء السببية على الجملة المخبر بها الخالية منه وهي قوله: "يحسر الماءُ"، فيُكتفى بذلك، لانتظام الجملتين من حيث العطف بالفاء في نظم جملة واحدة.
وهو الراجح عندي. وقد عدَّ النحاة هذا من روابط الجملة الواقعة خبراً بالمبتدأ نحو: زيدٌ جاءت هند فضربها.
حذف جواب الشرط:
لأداة الشرط - عند البصريين - صدر الكلام، فلا يسبقها شيء من معمولات فعل الشرط، ولا فعل الجواب غير معمول الجواب المرفوع.(42/195)
وقال أكثر البصريين: ولا يجوز كذلك تقديم الجواب على الأداة، لأنه ثانٍ أبداً عن الأول متوقف عليه.
فإن تقدم شبه الجواب على الأداة فهو دليل عليه وليس إياه، وإنما الجواب محذوف مدلول عليه بما قبله نحو: أنت ظالم إن فعلت، والتقدير: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم.
ولا يكون هذا الحذف اختياراً إلا إذا كان فعل الشرط ماضياً لفظاً أو معنى بأن كان مضارعاً مقترناً بـ"لم" نحو: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَ رْجُمَنَّكَ} (1) .
قال ابن مالك في شرح الكافية الشافية: "ولا يكون فعل الشرط مضارعاً غير مجزوم بـ"لم"عند حذف الجواب إلا في ضرورة.
أما في التسهيل فقد ذكر مرةً أن حذفه دون تحقق هذا الشرط مخصوص بالشعر، وذكر مرة أخرى أنه قليل.
وقد وقع في الألفية شيء كثير من حذف الجواب مع فوات شرط هذا الحذف، وهو كون الشرط فعلاً ماضياً.
ولا أزعم أني قد حصرت هذه المواضع كلها، ولكني وقفت على اثني عشر منها.
ففي باب "الموصول"قال:
إنْ يُستطل وصلٌ وإنْ لم يُستطل
فالحذفُ نزرٌ وأبَوْا أنْ يُختزلْ
فـ "إنْ يُستطل"- بالبناء للمفعول - فعل الشرط مجزوم بـ "إنْ"
و"وَصْلٌ"نائب عن الفاعل بـ"يُستطل"، وجواب الشرط محذوف للضرورة لكون الشرط هنا مضارعاً.
وقال في باب "التنازع":
ولا تجيء مع أوَّلٍ قد أُهملا
بمضمرٍ لغير رفعٍ أُوهِلا
بل حذفَه الزم إنْ يكن غيرَ خبر
وأخِّرَنْه إنْ يكن هو الخبرْ
فقوله: "إن يكن غير خبر"و"إن يكن هو الخبر"حذف في الموضعين جواب "إنْ"التي فعلها مضارع. وهو ضرورة.
وقال في باب "المفعول معه":
والعطف إنْ يمكن بلا ضعفٍ أحقْ
والنصبُ مختارٌ لدى ضعفِ النسقْ
فـ "إنْ"حرف شرط، و "يمكن"فعل الشرط، وجوابه محذوف للضرورة، لكون الشرط غير ماض.
وقال في باب "عطف النسق":
وبانقطاعٍ وبمعنى بَلْ وَفَتْ
إنْ تكُ مما قُيِّدت به خَلَتْ
__________
(1) من الآية 46 من سورة مريم.(42/196)
فجملة "خلت"في موضع نصب خبر "تك" وجواب الشرط محذوف مع فوات شرط حذفه وهو مضي الشرط ضرورة.
وقال في "المنادى المضاف إلى ياء المتكلم":
واجعل منادًى صَحَّ إن يُضف لِيا
كعبدِ عبدي عبدَ عبدا عَبْديا
فإن "يُضف"- بالبناء للمفعول - فعل الشرط، وجوابه محذوف للضرورة لكون الشرط هنا مضارعاً.
وجاء حذف جواب الشرط مع فوات شرط حذفه مرتين في باب "الندبة":
الأولى: قوله:
والشكلَ حتماً أوْلهِ مُجانِسا
إنْ يكنِ الفتحُ بوهمٍ لابسا
والثانية: قوله:
وواقفاً زِدْ هاءَ سكتٍ إنْ تُرِدْ
وإنْ تشأْ فالمدَّ والها لا تَزِدْ
فـ"ترد"فعل الشرط وجواب الشرط محذوف ضرورة.
وقال في باب "إعراب الفعل":
وبعدَ غيرِ النفي جزماً اعتمد
إنْ تُسقطِ الفا والجزاءُ قد قُصدْ
كما قال في باب "عوامل الجزم":
والفعلُ من بعد الجزا إنْ يقترنْ
بالفا أو الواوِ بتثليثٍ قَمِنْ
فقوله: "والفعل"مبتدأ، و"قمن" خبره، وجواب الشرط محذوف للضرورة، لأن شرط حذف الجواب اختياراً مضيُّ الشرط لفظاً أو معنىً.
وقال في باب "الوقف":
فـ"يُعدم"- بالبناء للمفعول - فعل الشرط، وجوابه محذوف للضرورة، لكون الشرط مضارعاً.
والنقلُ إنْ يُعدمْ نظيرٌ مُمتنعْ
وذاكَ في المهموز ليس يمتنعْ
وقال في باب "الإمالة":
وهكذا بَدَلُ عَيْنِ الفعل إنْ
يَؤُلْ إلى فِلتُ كماضي خَفْ ودِنْ (1)
وقال في باب "الإبدال":
ومدًّا ابدل ثانيَ الهمزيْن مِنْ
كِلْمةٍ ان يَسْكُن كآثِرْ وائتمِنْ
فإنَّ "يَسْكُن"فعل الشرط، وجوابه محذوف للضرورة، لكونه مضارعاً.
وثمت أبيات أخرى من الألفية ذكر الأزهري أنها مما حُذف فيها جوابُ الشرط للضرورة لكون الشرط مضارعاً غير أني أعرضت عنها صفحاً، لأن الشرط - وإن كان مضارعاً لفظاً - إلاّ أنه ماضٍ من حيث المعنى، وذلك لتقدم "لم"عليه، كقوله في باب "تعدي الفعل ولزومه":
وحذفَ فضلةٍ أجز إن لم يَضِرْ
كحذفِ ما سيق جواباً أو حُصِرْ
وقوله في باب "النسب":
__________
(1) الألفية ص 64.(42/197)
واجبُرْ بردِّ اللامِ ما منه حُذفْ
جوازاً ان لم يك رَدُّه أُلِفْ
حذف الفاء من جواب الشرط، وحذف جواب الشرط:
قال ابن مالك في باب "الكلام وما يتألف منه":
والأمرُ إنْ لم يكُ للنون مَحَلْ
فيه هو اسمٌ نحو صَهْ وحَيَّهلْ
فقوله "هو اسم"مبتدأ وخبر، والجملة منهما في محل جزم جواب الشرط. وإنما لم يأتِ بالفاء للضرورة. والجملة من الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ أو تُجعل جملة "هو اسم"في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو قوله: "والأمرُ"، وتكون جملة جواب الشرط محذوفة دلَّت عليها جملة المبتدأ وخبره. وهذا أيضاً ضرورة، لأن من شرط حذف الجواب أن يكون الشرط فعلاً ماضياً. فالبيت لا يخلو من الضرورة.
ونظير ذا تماماً قول الناظم في باب "النداء":
والضمُّ إنْ لم يلِ الابنُ علما
أو يلِ الابنَ علم قد حُتما
فقوله: "قد حُتما"- بالبناء للمفعول - يحتمل أن يكون خبر المبتدأ، وجواب الشرط محذوف، والتقدير: والضمُّ قد حُتم إن لم يلِ فهو محتم، وفيه ضرورة، لأن شرط حذف الجواب أن يكون الشرط فعلاً ماضياً، فحيث كان مضارعاً كان حذف الجواب مخصوصاً بالشعر.
ويحتمل أن يكون "قد حُتم"هو جواب الشرط، والشرط وجوابه خبر المبتدأ، وترك الفاء ضرورةً، لأن الجواب ماضٍ مقرونٌ بـ"قد"، ولا تحذف منه الفاء في هذه الحالة إلاَّ في الضرورة. فليست إحدى الضرورتين بأولى من الأخرى إلا بكثرة الاستعمال.
ومثل ترك الفاء للضرورة - أيضاً - قوله في باب "العلم":
وإنْ يكونا مفرديْنِ فأضِفْ
حتماً وإلاَّ أتبعِ الذي رَدِفْ
فإن جملة "أتبع"هي جواب الشرط، وهي طلبية يجب أن تكون مقرونةً بالفاء، ولا تحذف إلاَّ للضرورة.
ومثل الجملة الطلبية الواقعة جواباً للشرط قوله في باب "لا" النافية للجنس:
والعطفُ إن لم تتكرر "لا"احكما
له بما للنعت ذي الفصل انتمى(42/198)
فإن قوله: "احكما"فعل أمر مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفاً لأجل الوقف، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وقد حذف منها ألفاً ضرورة وهي لازمة لكون الجواب جملةً طلبية.
وكذلك قوله في باب "عوامل الجزم":
والفعلُ من بعد الجزا إن يقترنْ
بالفا أو الواوِ بتثليث قَمِنْ
فإن قوله: "والفعل"مبتدأ، و "قمن" خبره، وجواب الشرط محذوف للضرورة، لأن شرط حذف الجواب - اختياراً - مضيُّ الشرط لفظاً أو معنى.
ويحتمل جعل "قمن" خبر مبتدأ محذوف، والجملة جواب الشرط، وحذف الفاء للضرورة.
وقال في باب "التصغير ":
وألف التأنيث ذو القصر متى
زاد على أربعةٍ لن يثبتا
فجملة "لن يثبت"في محل جزم جواب الشرط وكان من حقها أن تقترن بالفاء، لكن الناظم حذفها لضرورة إقامة الوزن. وجملة الشرط والجواب في محل رفع خبر المبتدأ، أو تكون الجملة هي خبر المبتدأ، وجواب الشرط محذوف للضرورة، لكون الشرط غير ماض (1) .
فهذه الأبيات من الألفية تنتظم مسألتين:
الأولى: حذف الفاء من جواب الشرط للضرورة.
والأخرى: حذف جواب الشرط دون توافر لشرطه عند الجمهور.
ومن أشهر المواضع التي لا يصلح فيها الجواب أن يكون شرطاً كونه جملة اسمية كقوله تعالى: {وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (2) أو كان فعلاً دالاً على الطلب نحو: {إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني} (3) .
والطلب يشمل الأمر، والنهي، والتحضيض، والعرض، والدعاء، والاستفهام.
أو كان ماضياً مقروناً بـ"قد"لفظاً، أو تقديراً، أو مقروناً بحرف تنفيس، أو بحرف نفي غير "لا"و "لم"، أو كان الفعل جامداً.
__________
(1) انظر: تمرين الطلاب في صناعة الإعراب 131، منحة الجليل 4 / 145.
(2) من الآية 19 من سورة الأنفال.
(3) من الآية 31 من سورة آل عمران.(42/199)
قال ابن القواس: "وإنما لزمت الفاء لأنه لما امتنع تأثير أداة الشرط في هذه الأمور أُتي بالفاء للربط توصلاً إلى المجازاة بها، وكانت الفاء دون الواو، لأن معناها التعقيب من غير مهلة، والجزاء يجب عقيب الشرط".
وقد اختُلف في حذف هذه الفاء من جواب الشرط إذا كان شيئاً مما تقدم على ثلاثة مذاهب:
الأول: مذهب جمهور النحويين وهو أنه لا يجوز حذفها إلا في الضرورة، ويمتنع في سعة الكلام.
وممن نصَّ على هذا سيبويه، والصيمري، وابن عصفور، وابن مالك، وأبو حيان، وابن هشام.
الثاني: المنع مطلقاً في الضرورة والاختيار. نقله أبوحيان عن بعض النحويين.
ومذهب ابن الناظم - وتبعه الأزهري - أنه يجوز ترك هذه الفاء في الضرورة أو في الندور، ومثَّل للندور بما أخرجه البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأُبيّ بن كعب لما سأله عن اللقطة: "فإن جاء صاحُبها وإلاَّ استمتع بها"، أي فإن جاء صاحبها فردها إليه وإن لم يجيء فاستمتع بها.
والمذهب الأول هو الراجح لدي. أمَّا ما ورد في الحديث فقد أخرجه البخاري مرتين، الأولى بإثبات الفاء: "وإلا فاستمتع بها" وكذا في صحيح مسلم في كتاب "اللقطة"، والترمذي في كتاب "الأحكام".
والأخرى برواية: "وإلا استمتع بها"بإسقاط الفاء.
أما حذف جواب الشرط فيجوز إذا كان ثمَّ قرينة نحو قوله تعالى: {وَإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهُمْ} (1) ، تقديره: فافعل. وقوله: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} (2) أي تطيرتم.
وهو كثير في لسان العرب عندما يدل دليل على حذفه نحو: "أنت ظالم إن فعلت"تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم.
قال ابن مالك في الألفية:
والشرطُ يغني عن جواب قد عُلم
واشترط البصريون، والفراء لحذف الجواب مع وجود الدليل مضيَّ الشرط لفظاً أو معنى.
__________
(1) من الآية 35 من سورة الأنعام.
(2) من الآية 19 من سورة يس.(42/200)
فالأول مثل: أنت ظالم إن فعلت. والثاني: ما كان فعلاً مضارعاً مقروناً بـ"ل"نحو: أنت ظالم إن لم تفعل، فلا يجوز: أنت ظالم إن تفعل.
ومذهب الكوفيين - ما عدا الفراء - جواز كون الشرط مضارعاً غير منفي بـ"لم"قياساً.
واستدلوا بقول الكميت بن معروف الأسدي:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم
ليعلم ربي أن بيتي واسعُ
فجاء بجواب القسم المقترن باللام وهو قوله: "ليعلم ربي"، وحَذَف جواب الشرط مع كون فعل الشرط - وهو قوله: "تك"- مضارعاً غير منفي بـ"لم".
كما استدلوا بقول الشاعر:
يُثني عليك وأنت أهلُ ثنائه
ولديك إنْ هو يستزدك مزيدُ
حيث جاء الفعل المضارع "يستزدك"مجرداً من "لم". وهذا وأمثاله عند البصريين والفراء معدود في الضرائر. وعند ابن مالك قليل.
وبذلك يتبيّن أن ما أورده بعض المعربين للألفية على الناظم في حذف جواب الشرط في غير موضعه، من قبل أن الشرط في الأبيات السابقة متوافر فيه ما ذكره المحققون وهو كونه مضارعاً منفياً بـ"لم"في قوله:
والأمرُ إن لم يك للنون محل
وقوله: والعطفُ إن لم تتكرر "لا"احكما
وقوله: والضمُّ إن لم يلِ الابن علما
على أن الناظم يجيز - ولو بقلة - مجيء الشرط مضارعاً غير منفي بـ"لم"كما تقدم، فمن باب الأولى أن يجيز مجيئه مقروناً بها.
تقديم معمول الجزاء على الشرط:
في هذه المسألة خلاف بين البصريين، والكوفيين حيث أجاز الكوفيون تقديم معمول الجزاء على أداة الشرط نحو: زيداً إن تضربْ أضربْ. ومنعه البصريون.
واحتج المجيزون بأن الأصل في الجزاء أن يكون مقدماً على "إن"، إذ إن قولك - مثلاً -: "إن تضرب أضرب"الأصل فيه - عندهم -: أضربُ إن تضرب. فلما تأخر الجواب انجزم على الجوار، وإن كان من حقه أن يكون مرفوعاً. واستشهدوا لذلك ببعض الشواهد، كقول زهير بن أبي سلمى:
وإنْ أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ
يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ(42/201)
التقدير فيه: يقول إن أتاه خليل يومَ مسألة، فلولا أنه في تقدير التقديم لما جاز أن يكون مرفوعاً.
"وإذا ثبت هذا - وأنه في تقدير التقديم - فإنه يجب جواز تقديم معموله على حرف الشرط، لأن المعمول قد وقع في موقع العامل".
وأما البصريون فلا يجوز عندهم – كما تقدم – أن يقال: "زيداً إنْ تضربْ أضربْ"لا يجوز عندهم نصب "زيد"لا بالشرط، ولا بالجزاء.
وقالوا: إن ما يعمل فيه فعل الشرط كائنٌ من جملته، فلا يجوز تقديمه على حرف الشرط.
ومن احتجاجاتهم أيضاً أن أداة الشرط كأداة الاستفهام و "ما" النافية ونحوهما مما له الصدارة، فكما لا يجوز تقديم ما بعد الاستفهام عليه فكذلك لا يجوز تقديم ما بعد أداة الشرط عليها.
وكذلك فإن الشرط سبب في الجزاء، والجزاء مسبِّبه، ومحال أن يتقدم المسبِّب على السبب.
وإذا ثبت أن مرتبة الجزاء إنما هي بعد الشرط وجب أن تكون مرتبة معموله كذلك، لأن المعمول تابعٌ للعامل.
وأما قول زهير:
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ
يقولُ ... ... ...
فلا يعني رفعه أنه على نية التقديم وإنما رفعه لأن فعل الشرط ماض، وفعل الشرط إذا كان ماضياً، نحو: إنْ قمتَ أقوم فإنه يجوز أن يبقى الجواب على رفعه، لأنه لمَّا لم يظهر الجزمُ في فعل الشرط ترك الجواب على أول أحواله وهو الرفع.
وابن مالك مخالفٌ للكوفيين في تجويزهم تقديم معمول الجزاء على الأداة فقال في شرح التسهيل.
"لـ"إنْ"الشرطية صدر الكلام، فلا يتقدم عليها ما بعدها ... فلذلك لو تقدم على أداة الشرط مفعول في المعنى لفعل الشرط أو الجزاء وجب رفعه بالابتداء وشغل الفعل بضمير مذكور أو مقدر".
وقد جاء في الألفية بما لم يجزه وهو تقديم معمول الجزاء على الشرط في قوله في باب "المعرَّف بأداة التعريف":
وحذفَ ألْ ذي إنْ تُنادِ أو تُضِفْ
أَوْجِبْ. وفي غيرهما قد تنحذفْ(42/202)
فإن قوله: "أوْجبْ" جواب الشرط على حذف الفاء للضرورة، والتقدير: إن تنادِ مصحوب "أل" أو تضفه فأوجب حذف "أل". فقدَّمَ معمول الجواب على الشرط ضرورة.
قصر الممدود:
أجاز العلماء للشاعر قصر الممدود في حال الضرورة، وقد لجأ ابن مالك في منظومته إلى هذه الضرورة في مواضع كثيرة حتى أكاد أقول بأنه يصعب حصرها وربما كان في البيت الواحد أكثر من موضع، وهي من الضرائر اليسيرة التي لا يترتب عليها - في الغالب - اختلافُ إعراب أو تغيُّرُ معنى.
وحسبي أن أشير إلى بعض هذه المواضع فقط لأمرين، أحدهما: خشية الإطالة، والثاني: أن إدراك بقية المواضع غير خافٍ على المتأمل.
قال في باب "الكلام وما يتألف منه":
بالجرِّ والتنوين والندا وألْ
ومسندٍ للاسمِ تمييزٌ حَصَلْ
فقصر كلمة "النداء"وهي ممدودة، لضرورة الوزن.
وقال في الباب نفسه:
بِتا فعلتَ وأَتَتْ ويا افعلي
ونونِ أقبلنَّ فعلٌ ينجلي
فقصر الناظم تاء "فعلت"وياء "افعلي" وهما في الأصل ممدودان وذلك لضرورة الوزن أيضاً.
وقال في باب "المعرب والمبني":
وارفع بواوٍ وانصبنَّ بالألفْ
واجرُرْ بياءٍ ما من الأسما أصِفْ
فكلمة "الأسماء"ممدودة لكن ضرورة الوزن قد ألجأت الناظم إلى قصرها.
وقال في باب "الأسماء الستة":
وشرطُ ذا الإعرابِ أنْ يُضَفْنَ لا
لليا كجا أخو أبيك ذا اعتلا
ففي هذا البيت ما ذكرته آنفاً من وجود غير لفظة مقصورة للضرورة، فهو هاهنا قد قصر - مضطراً - ثلاثة ألفاظٍ هي: "لليا"، و"كجا"، و"اعتلا"وأصل الكلام بالمد:
للياء كجاء أخو أبيك ذا اعتلاء
وقال في باب "ما ولا ولات":
إعمالَ ليس أُعملتْ ما دون إنْ
مع بقا النفي وترتيب زُكِنْ
الأصل: مع بقاء النفي، بالمدّ، لكنه قصر لضرورة الوزن.
وقال في باب "ظنَّ وأخواتها":
وجوّزِ الإلغاءَ لا في الابتدا
وانوِ ضميرَ الشأنِ أو لامَ ابتدا
فقوله: "في الابتدا"، و"لام ابتدا" كلاهما بالقصر للضرورة.
ومنه قوله في باب "جمع التكسير":(42/203)
والسينَ والتا من كمُسْتَدْعٍ أزلْ
إذ ببنا الجمعِ بقاهما مُخِلْ
حيث قصر ثلاث كلمات ممدودات في الأصل وهو قوله: "والتا"، وقوله: "ببنا"وقوله: "بقاهما"، والأصل فيهن: "والتاء"، و "ببناء"، و"بقاؤهما".
ومن ذلك قوله في باب "الإمالة":
دونَ مزيدٍ أو شذوذٍ ولما
تليه ها التأنيثِ ما الها عَدِما
فقوله: "ها"، هي فاعل "تليه"، وقوله: "الها"مفعول مقدم بالفعل "عَدِم"، وكلاهما مقصور لضرورة الوزن.
وأختتم هذه النماذج بما قاله في باب "الحكاية":
وقُل لمن قال: أتت بنْت: مَنَهْ
والنونُ قبل تا المثنى مُسْكَنَهْ
والفتحُ نزرٌ وصِلِ التا والألفْ
بِمَنْ بإثرِ ذا بنسوةٍ كَلِفْ
فقد قصر ابن مالك كلمة "تا"في البيت الأول الواقعة مضافاً إليه بإضافة "قبل"إليها، وكذا كلمة "التا"في البيت الثاني الواقعة مفعولاً به للفعل "صل". كل ذلك إنما كان لضرورة الوزن.
حذف حرف الصلة للاكتفاء بالحركة منه:
ذكر بعض من تكلم في ضرائر الشعر من العلماء أنه يجوز للشاعر حذف الياء وهي لام الفعل اجتزاءً بالكسرة.
كما قال أبو خُراش الهذلي:
ولا أدرِ مَنْ ألقى عليه ثيابَه
ولكنه قد سُلَّ عن ماجدٍ محضِ
يريد: ولا أدري: لأن الفعل غير مجزوم فحذف الياء مجتزئاً بالكسرة التي قبلها، لأنها تدل عليها.
وقد وقع في ألفية ابن مالك شيء من ذلك، إذ قال في باب "الإضافة":
وبعضُ الاسماءِ يُضاف أبدا
وبعضُ ذا قد يأتِ لفظاً مفردا
أراد: قد يأتي. بإثبات الياء، لأنه فعل مضارع مرفوع، إلا أنه قد حذف لامه وهي الياء ضرورة.
قال الزمخشري: "والاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل".
وعدّ ابن الشجري هذا الحذف شاذاً في غير الفواصل والقوافي.(42/204)
وهذه المسألة قريبة من سابقتها أو هي منها. والراجح فيها لدي ما ترجح هناك من أنه يجوز حذف الياء في غير ما ضرورة، وذلك لمجيئه في القرآن الكريم وهو أفصح كلام بلا ريب، قال المولى عز وجل: {وَسَوْفَ يُؤْتِ} (1) ، {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإذْنِهِ} (2) . قرأ نافع وأبو عمرو والكسائي: "يأتي"بإثبات الياء وصلاً، وحذفها وقفاً. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً. وقرأ باقي السبعة بحذفها في الحالين.
وقال تعالى: {يَوْمَ يُنادِ المُنادِ} (3) و {فَمَا تُغْنِ النُّذٌرْ} (4) .
على أنه قد تقدم عن الزمخشري أن هذا كثير في لغة هذيل.
__________
(1) من الآية 146 من سورة النساء.
(2) من الآية 105 من سورة هود.
(3) من الآية 41 من سورة ق.
(4) من الآية 5 من سورة القمر.(42/205)
تابع الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين
زيادة ألف الإطلاق في آخر الكلمة:
ومما ذكره جمهور العلماء في باب الضرائر الشعرية أنه يجوز للشاعر أن يلحق القافية المطلقة حرفاً، كقول جرير:
أقلي اللوم عاذل والعتابا
وقولي إن أصبت لقد أصابا
فألحق هذه الألف في الروي؛ لأن الشعر وضع للغناء والترنم؛ إذ اعتاد الشعراء أن يترنموا في أواخر الأبيات قبل حرف الروي ليمتد بها الصوت، ويقع فيه تطريب لا يتم إلا بمد الحرف. وأكثر ما يقع ذلك في الأواخر (1)
قال السيرافي:
"وهذه الزيادة غير جائزة في حشو الكلام، وإنما ذكرناها لاختصاص الشعر بها دون الكلام، وهي جيدة مطردة، وليس تخرجها جودتها من ضرورة الشعر إذ كان جوازها سبب الشعر.
ومن هذا القبيل ما جاء في ألفية ابن مالك في باب "المعرب والمبني"حيث قال:
ومُعربُ الأسماء ما قد سَلمِا
من شَبَه الحرف كأرضٍ وسُما
وفعل أمر ومُضِيٍّ بُنيا
وأعربوا مضارعاً إن عَريا
قضت ضرورة الشعر عليه بزيادة الألف في آخر الفعلين "سَلِم"و "عري"
وقال في الباب نفسه:
فالأوَّل الإعرابُ فيه قُدِّرا
جميعُهُ وهو الذي قد قُصِرا
زاد ألف الإطلاق في الفعلين "قُدِّر"و "قُصِر".
وقال في باب "النكرة والمعرفة":
في الباقيات واضطراراً خفَّفا
منِّي وعنِّي بعضُ من قد سَلَفا
أراد: "خَفَّفَ" و"قد سَلَفَ"فمدَّ من أجل الضرورة.
ومثل ذا قوله في باب "الابتداء":
والأصلُ في الأخبار أنْ تُؤخَّرا
وجَوَّزوا التقديمَ إذْ لا ضَرَرا
الأصل: "تُؤخَّرَ"و"لا ضَرَر".
وقوله في باب "كان وأخواتها":
ككانَ ظلَّ باتَ أضحى أصبحا
أمسى وصارَ ليسَ زالَ بَرحِا
زاد ألف الإطلاق في الفعلين "أصبح" و "برح".
وقوله في باب "إنَّ وأخواتها":
ولا يلي ذي اللامَ ما قد نُفِيا
ولا مِن الأفعال ما كرضيا
الأصل: "نُفي"و "كرضي".
وقوله في باب "ظنَّ وأخواتها":
وَهَبْ تعلَّمْ والتي كصيَّرا
أيضاً بها انصِب مبتداً وخبرا
__________
(1) انظر: الكتاب 2 / 299.(42/206)
حيث زاد ألف الإطلاق في الفعل "صيَّر".
وقال في باب "أعلَمَ وأرى":
وكأرى السابقِ نبَّا أخبرَا
حدَّثَ أنبأ كذاك خبَّرا
اقتضت ضرورة النظم زيادة الألف في الفعلين "أخبرَ"و "خبَّر".
وثمت نماذج كثيرة في الألفية ليست بخافية على القارئ. من أجل ذا أكتفي بما ذكرت خشية الإطالة.
قطع همزة الوصل:
وهو من الضرائر اليسيرة التي لا تُغير إعراباً ولا تُحيل معنًى كذلك ولكنه لا يسوغ إلا لضرورة الشعر.
قال الزمخشري: "وإثبات شيء من هذه الهمزات في الدرج خروج عن كلام العرب، ولحن فاحش؛ فلا تقل: الإسم والإنطلاق والإستغفار ومن إبنك وعن إسمك. وقوله:
إذا جاوَزَ الإثنين سِرٌّ
من ضرورات الشعر".
فيجوز للشاعر عند الضرورة قطع ألف الوصل في الدرج إجراءً لها مجراها في حال الابتداء بها. وأكثر ما يكون ذلك في أوائل أنصاف الأبيات؛ لأنها إذ ذاك كأنها في ابتداء الكلام.
والقطع بهذه الهيئة أسهل من القطع في حشو البيت؛ لأن المصراع كثيراً ما يقوم بنفسه حتى يكاد يكون بيتاً كاملاً فكأن الهمزة وقعت أولاً.
أما القطع في حشو البيت فهو قليل كما تقدم. ومنه قول قيس بن الخطيم:
إذا جاوز الإثنين سرٌّ فإنه
بِنَثٍّ وتكثير الوشاة قمينُ
فقطع الألف من "الاثنين"وهي ألف وصل.
وقد لجأ إلى ذلك ابن مالك في ألفيته حين قال في باب "ما لا ينصرف":
وألغينَّ عارضَ الوصفيَّهْ
كأربعٍ وعارضَ الإسميّهْ
فقطع الهمزة في قوله: "الاسمية" وهي همزة وصل ليتيسَّر له إقامة الوزن.
وصل همزة القطع:
وهو عكس ما تقدم وأكثر منه استعمالاً كما ذكر ابن جني وغيره. فللشاعر عند الضرورة أن يصل ألف القطع لإقامة الوزن كما قال حاتم الطائي:
أبوهم أبي والامَّهاتُ امهاتُنا
فأنعم ومتِّعني بقيس بن جحدرِ
يريد: والأمهات أمهاتنا
ولا يقتصر الوصل في الأسماء بل يسوغ في الأفعال أيضاً. أنشد أبو علي الفارسي:
إنْ لم أُقاتِلْ فالبسوني بُرقُعا
وفَتَخاتٍ في اليدينِ أَرْبَعا(42/207)
يريد: فألبسوني ثم حذف الهمزة
وقد ورد في ألفية ابن مالك شيء من ذلك في بعض أبياتها، كقوله في باب:
"الموصول":
موصولُ الاسماء الذي الأنثى التي
واليا إذا ما ثُنِّيا لا تُثبتِ
وَصَل همزة القطع في قوله: "الاسماء"لإقامة الوزن.
وقوله في الباب نفسه:
في عائدٍ متَّصلٍ إن انتصب
بفعلٍ أو وصفٍ كمن نرجو يَهَبْ
أراد: أو وصفٍ بالقطع.
وقوله في باب "الابتداء":
وأوَّلٌ مبتدأ والثاني
فاعلٌ اغنى في أسارٍ ذانِ
وصل همزة القطع في قوله: "اغنى" للضرورة.
وقوله في باب "لا التي لنفي الجنس":
مرفوعاً او منصوبا او مُركَّبا
وإن رفعتَ أوَّلاً لا تنصبا
وَصَل الهمزة المقطوعة في قوله: "أو مركبا"للضرورة.
وقوله في باب "التمييز":
كشِبْرٍ ارضاً وقفيزٍ بُرّا
ومَنَويْنِ عسلاً وتمرا
وَصَل الهمزة في "أرضاً"وهي همزة قطع.
وقوله في باب "الإضافة":
وابنِ أو اعرِبْ ما كإذ قد أُجريا
واختر بنا متلوِّ فِعلٍ بُنيا
وَصَل الهمزة من قوله: "أعرب"لضرورة الوزن وأصلها همزة قطع.
وفي الألفية كثير من هذا لكني أقتصر على ما أوردت خشية الإطالة.
حذف الياء والاستغناء بالكسرة عنها:
تقدم أن من ضرائر الشعر الحذف، ومن الحذف حذف الياء من "قاضي"و"جاري" وبابهما في حال الإضافة، والتعريف بالألف، واللام تشبيهاً بما ليس فيه ذلك؛ أي تشبيهاً للألف، واللام، والإضافة بما عاقبتاه وهو التنوين، فكما تحذف الياء مع التنوين كذلك تحذف مع الألف، واللام، والإضافة.
قال الأعشى:
وأخو الغوانِ متى يشأ يَصْرِ مْنَهُ
ويَصِرْنَ أعداءً بُعَيْد ودادِ
فقد حذف الياء واجتزأ بالكسرة عنها حين شبّه الألف، واللام بالتنوين؛ لأنهما يتعاقبان، فحكم لهذا بحكم ما عاقبه.
فإذا ما جئنا لنطبق هذا على ألفية ابن مالك وجدنا الناظم يفعله أحياناً فيحذف الياء ويستغني عنها بالحركة المجانسة لها في آخر الكلمة وهي الكسرة، كما قال في باب "أعلم وأرى":
وما لمفعوليْ علمتُ مطلقاً(42/208)
للثانِ والثالثِ أيضاً حُقِّقا
فقوله: "للثانِ"أصله: للثاني، بإثبات الياء غير أنه قد حذفها للضرورة.
وقال في باب "أبنية المصادر":
فأوَّلٌ لذي امتناع كأبى
والثانِ للذي اقتضى تقلُّبا
فهذا نظير سابقه، ومثلهما - كذلك - قوله في باب "عطف النسق ":
وانقُل بها للثانِ حكمَ الأولِ
في الخبر المثبتِ والأمر الجلي
وقد عدَّ سيبويه هذا وأمثاله من ضرائر الشعر، فقال في باب "ما يحتمل الشعر":
"اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف ... وحذف ما لا يحذف".
أما مذهب أبي زكريا الفراء فهو أن كل ياءٍ أو واو تسكنان وما قبل الواو مضموم وما قبل الياء مكسور فإن العرب تحذفها وتجتزئ بالضمة من الواو وبالكسرة من الياء.
على أن هناك من أنكر على سيبويه وغيره من النحويين جعلهم هذا ونحوه من ضرورة الشعر؛ لأنه قد جاء في القرآن الكريم حذف الياء في غير رؤوس الآي، وقرأ به جمعٌ من القراء، كقوله - جل وعز - {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} ، وفي آيات غيرها كذلك (1)
وأمَّا ابن عصفور فيرى أن هذا لا يرد على النحويين ولا يلزمهم؛ من قبل أنهم أرادوا أنَّ من كانت لغته إثبات الياء في "الغواني"وأمثاله فإنه قد يحذفها في الضرورة للعلة المذكورة وهي تشبيه المضاف إليه والألف واللام بالتنوين.
__________
(1) من الآية 17 من سورة الكهف.
وقد قرأ نافع وأبو عمرو بإثبات ياء "المهتدي " وصلاً وحذفها وقفاً. وأثبتها في الحالين يعقوب، ورويت عن قنبل من طريق ابن شنبوذ. وحَذَفَها الباقون في الحالين.
انظر: السبعة في القراءات 391، الدر المصون 7/414، النشر 2/309، 316، الإتحاف 288.(42/209)
والراجح لديَّ أنه لا يدخل ضمن الضرائر الشعرية؛ لوقوعه في أفصح كلام هو القرآن الكريم؛ في رؤوس الآي وغيرها كقوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ التَّنادِ} ، و {يَوْمَ التَّلاقِ} (1) و {الكَبيرُ المُتَعَالِ} (2) وقوله: {وَجِفَانٍ كالجَوابِ} (3) فهذه الآيات في غير الوقف، ولو قيل: إن هذا يكثر في الشعر دون غيره لكان أولى. والله أعلم.
ويشير أبو العلاء المعري (449هـ) إلى أن حذف الياء من المضاف إلى الظاهر أحسن من المضاف إلى المضمر؛ لأن الظاهر منفصل، والمضمر يجري مجرى ما هو من الاسم. وحذفها من المجرد من الألف واللام أشذُّ مما هي فيهما؛ لأن الألف واللام قد يسوغ معهما حذف الياء حتى قيل إنها لغة للعرب، وقد قرأ بها القراء.
تخفيفُ الحرفِ المُشَدَّد:
أجاز العلماء للشاعر تخفيف كل مثقل؛ فله أن يحذف في الشعر ما لا يجوز حذفه في الكلام لتقويم الشعر، كما أن له أن يزيد لتقويمه أيضاً (4) فإذا حذف بقي ما يدل على أنه قد حذف منه مثله؛ لأن المشدد حرفان، فإذا تمَّ للشاعر الوزن بأحدهما حذف الآخر (5) وسواء في ذلك الصحيح والمعتل (6)
فمن التخفيف في الصحيح قول طرفة بن العبد:
أصحوتَ اليومَ أم شاقتك هِرْ
ومن الحبِّ جنونٌ مُسْتَعِرْ
فهو مضطر إلى حذف أحد الحرفين من "هرّ"لاستواء الوزن ومطابقة البيت، فقابل براءِ "هر"راء "مستعر"وهي خفيفة أصلاً.
ومن التخفيف في المعتل قول الراجز:
حتى إذا ما لم أجد غير السَّري
كنتُ امرءاً من مالك بنِ جعفرِ
فخفف ياء "السَّريّ"مضطراً أيضاً.
__________
(1) من الآية 32 من سورة غافر.
(2) من الآية 15 من سورة غافر.
(3) من الآية 9 من سورة الرعد.
(4) انظر: الكامل 2/1368.
(5) انظر: ما يحتمل الشعر من الضرورة 89.
(6) انظر: الأصول 3/448، ما يجوز للشاعر في الضرورة 122.(42/210)
وهكذا الشأن فيما يتعلق بألفية ابن مالك؛ إذ وقع فيها شيءٌ من ذلك حين اضطر ناظمها إلى التخفيف في بعض المواضع لتقويم الوزن، سواء كان ذلك في الأحرف الصحيحة أو المعتلة.
فمن الأول قوله في باب "إن"وأخواتها:
وأُلحقت بإنَّ لكنَّ وأنْ
من دون ليت ولعلَّ وكأنْ
فخفف النون في "أنَّ"و "كأنَّ"لضرورة الشعر التي جعلت النون ساكنة فيهما.
وقوله في باب "النسب":
والحذفُ في اليا رابعاً أحقُّ من
قلبٍ، وحتمٌ قلبُ ثالثٍ يَعِنْ
أصل النون في "يعن"مشددة؛ لأنها من عنَّ يَعنُّ بمعنى ظهر إلاَّ أن الناظم قد اضطر لتسكينها لأجل الشعر.
ونظيره قوله في باب "الإبدال":
وجمعُ ذي عين أُعِلَّ أو سَكَنْ
فاحكم بذا الإعلال فيه حيث عَنْ
وقال في الباب نفسه:
واواً وهمزاً أوَّلَ الواوين رُدْ
في بدء غيرِ شبهِ وُوفِي الأشُدْ
فخفف كلاًّ من الدال في الفعل المبني للمجهول وأصله "رُدَّ"بالتضعيف، وكذلك الدال في "الأشد".
ومن الثاني - أعني ما وقع التخفيف فيه من الأحرف المعتلة - قوله في باب "الفاعل":
وقابلٌ من ظرفٍ او من مصدرِ أو حرف جرٍّ بنيابةٍ حري
الأصل فيه: "حريّ"بالتشديد بمعنى خليق، فخفف الياء للضرورة.
وقوله في باب "النسب":
وضاعف الثاني من ثنائي
ثانيه ذو لينٍ كـ "لا"ولائي
يريد: مثل "لا"وتضعيفه: لائيٌّ؛ بياء النسب المشددة، ولكنها خففت هنا لضرورة الشعر.
الخاتمة
لا يسعني بعد هذا التطواف، وفي ختام هذا البحث إلا أن أقدم خلاصة موجزة له مشتملة على أهم النتائج فأقول:
أولاً: لقد كانت النظرة في بادئ الأمر إلى الشعر، والنثر واحدةً من حيثُ الخصائصُ التعبيرية في صياغة العبارة، وبناء الألفاظ. يقوِّي ذلك اشتراك الفنَّيْن في شواهد اللغة، والنحو على الرغم من التفاوت الملحوظ في طريقة الصياغة، والإعراب.
ثم دخلت الضرورة - فيما بعدُ - في ميادين البحث اللغوي، والنقدي على نطاق واسع.(42/211)
ثانياً: لسيبويه - رحمه الله - جهود في مجال الكتابة عن الضرورة - وإن كانت لفظة "الضرورة"غير مذكورة في كتابه - إلاَّ أن دراسته لهذه الظاهرة تفتقر إلى المنهجية المحددة القائمة على التقسيم، والتصنيف. فما كتبه عن الضرورة لا يعدو أن يكون إضاءاتٍ موزعة ذات فوائد متفرقة أفاد منها النحاة في هذا المجال.
يمكن اعتبار ما كتبه أبو بكر بن السراج الأساسَ التاريخي الأول لحركة التأليف والكتابة المنهجية عن الضرورة. وأمّا المبكر إلى حصر تلك الظاهرة حصراً علمياً فهو أبو سعيد السيرافي.
ثالثاً: لم يصرّح سيبويه بتعريف محدَّد للضرورة، وإنما كان يكتفي ببعض العبارات التي فهم منها بعض شراح "الكتاب" وغيرهم مفهوم الضرورة عنده، وهو أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز له في الكلام بشرط أن يضطر إلى ذلك ولا يجد منه بدّاً، وأن يكون في ذلك ردُّ فرع إلى أصل أو تشبيه غير جائز بجائز.
وقد نُسب هذا الاتجاه في فهم الضرورة إلى ابن مالك أيضاً وشُهر به حتى إن كثيراً ممَّن خالف هذا المنهج وجَّه نقده إلى ابن مالك وحده ولم يتعرض لسيبويه.
ولم يجد هذا الرأي قبولاً لدى كثير من العلماء، على الرغم من شهرة، ومكانة من قال به؛ حيث لقي نقداً شديداً من المتأخرين كالشاطبي، وأبي حيان، وابن هشام، والأزهري، والبغدادي.
وأمَّا عند أبي الفتح عثمان بن جني، وكثير من النحويين فالضرورة ما وقع في الشعر مطلقاً سواء كان للشاعر عنه مندوحة أو لا؛ إذ لا يشترط في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره؛ لأن الشعر موضعٌ قد ألفت فيه الضرائر.
ويتعدى أبو الحسن الأخفش ذلك فيقول: إن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لا يجوز لغيره في كلامه؛ لأن لسانه قد اعتاد الضرائر.(42/212)
وأما أحمد بن فارس فيختلف موقفه عن موقف النحويين؛ إذ لا يكاد يقرّ بما يسميه النحاة ضرورة، حيث يتعيّن على الشاعر أن يقول بما له وجه في العربية - ولا ضرورة فيه حينئذٍ - فإن لم يك ثمَّت وجه فيها رُدَّ وسُمِّي باسمه الحقيقي وهو الغلط أو الخطأ، ولا داعي للتكلف واصطناع الحيل للتخريج، ويرى أنه لا فرق بين الشاعر، والخطيب، والكاتب، فالشعراء يخطئون كما يخطئ سائر الناس، ويغلطون كما يغلطون.
رابعاً: إن أقوى هذه الآراء أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء كان للشاعر عنه مندوحة أولا؛ لأن الشعر كلام موزون بأفاعيل محصورة يستلزم بناؤه على هذه الصورة المقيَّدة بالوزن، والقافية أن يلجأ قائله أحياناً إلى الضرورة.
خامساً: أنه لا يمكن حصر الضرائر بعدد معيّن من قِبَل أن الشاعر غير مقيّد بحدود ما يجده لدى الشعراء الآخرين من ضرورات، فيزيد في المواضع التي زادوا فيها ويحذف حيث حذفوا، أو يغيّر على نحو ما غيروا، فقد يعترض في بعض نظمه الكثير مما لا يجد له نظيراً عند غيره.
سادساً: مما ساعد على وجود الضرائر وكثرتها اختلاف نظرة العلماء إلى مصادر الاستشهاد ومواقفهم المختلفة منها، واختلاف نظرتهم إلى مدلول الضرورة الشعرية ذاتها، فصارت الظاهرة الواحدة ضرورة على رأي، في حين أنها لا تُعدُّ كذلك في رأي مغاير.
سابعاً: أن الضرورة تنقسم إلى حسنة لا تستهجن النفس منها، ولا تستوحش كصرف ما لا ينصرف، وقصر الجمع الممدود، ومدّ الجمع المقصور، وإلى ضرورة مستقبحة كعدل بعض الأسماء عن وضعها الأصلي بتغيير مَّا فيها من زيادة أو نقص يترتب على أحدهما التباسٌ وعدم وضوح القصد، وابتعاد الذهن عن الوصول إلى اللفظ بحدوده المعروفة.
على أنه لا يجوز للشاعر أن يلحن لتسوية قافية أو إقامة وزن كأن يرفع منصوباً أو ينصب مخفوضاً، ومتى وجد هذا في شعر كان خطأً ولحناً لا يدخل في ضرورة الشعر.(42/213)
ثامناً: أنه قد وقع لابن مالك في ألفيته كثير من المخالفات التي يمكن إدراجها ضمن الضرورة الشعرية. وإذا ما أريد تطبيق رأيه في الضرورة على هذه المخالفات فإن هذا ليس في صالح ابن مالك نفسه؛ لأن له في هذه المواضع أو معظمها مندوحة.
وكما يقول أبو حيان: ما من كلمة إلا ويمكن استبدالها بأخرى.
وعلى سبيل المثال فإن ابن مالك قد اضطر إلى تقديم الصفة على الموصوف لإقامة الوزن حين قال:
وابْنِ المعرَّفَ المنادى المفردا
على الذي في رفعه قد عُهدا
وأصل الكلام: وابن المنادى المعرَّفَ المفرد.
مع أنه يمكن السلامة من ذلك لو قال:
وابن المنادى المفرد المعرَّفا
هذا. والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
والحمد لله أولاً وآخِراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
1 - ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة. عبد اللطيف الزبيدي: ت: د. طارق الجنابي، ط (1) عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، 1407هـ.
2 - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر. أحمد الدمياطي: رواه وصحّحه علي بن محمد الضباع، دار الندوة الجديدة، بيروت.
3 - أدب الكاتب. ابن قتيبة الدينوري: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط (4) ، مطبعة السعادة بمصر، 1382هـ - 1963م.
4 - ارتشاف الضرب من لسان العرب. أبو حيان: ت: د. مصطفى النماس، ط (1) ، مطبعة المدني، القاهرة، 1408هـ.
5 - إرشاد السالك (شرح ألفية ابن مالك) . عبد المجيد الشرنوبي الأزهري: المكتبة الشعبية. بيروت.
6 - الأزمنة والأمكنة. أبو علي المرزوقي الأصفهاني: حيدر آباد، الدكن 1332هـ.
7 – الأزهية في علم الحروف. علي بن محمد الهروي: ت. عبد المعين الملوحي، ط (2) ، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق 1401هـ.
8 - أسرار العربية. أبو البركات الأنباري: ت. محمد بهجة البيطار، دمشق، 1377هـ - 1957م.(42/214)
9 - إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين. عبد الباقي اليماني: ت: د. عبد المجيد دياب، ط (1) ، شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض، 1406هـ.
10 - الأشباه والنظائر. جلال الدين السيوطي: ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
11 - الإصابة في تمييز الصحابة. ابن حجر العسقلاني: دار الكتاب العربي، بيروت.
12 - الأصول في النحو. أبو بكر بن السراج: ت: د. عبد الحسين الفتلي، ط (1) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ.
13 - تمرين الطلاب في صناعة الإعراب. الشيخ خالد الأزهري: ط (1) ، المكتبة الشعبية. بيروت.
14 - إعراب القرآن. أبو جعفر النحاس: ت: د. زهير غازي زاهد، ط (2) ، عالم الكتب 1405هـ-1985م.
15 - الأعلام. خير الدين الزركلي: ط (4) ، دار العلم للملايين، بيروت 1979م.
16 - الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب. أبو نصر الفارقي: ت: سعيد الأفغاني، ط (3) ، مؤسسة الرسالة، بيروت 1400هـ - 1980م.
17 - الاقتراح في أصول النحو. جلال الدين السيوطي: ت: د. أحمد محمد قاسم، ط (1) 1396هـ.
18 - الاقتضاب في شرح أدب الكتاب. ابن السيد البطليوسي: دار الجيل، بيروت 1973م.
19 - ألفية ابن مالك في النحو والصرف. ابن مالك: ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
20 - الأمالي. أبو علي القالي: دار الكتاب العربي، بيروت.
21 - أمالي الزجاجي. أبو القاسم الزجاجي: ت: عبد السلام هارون، ط (2) ، دار الجيل، بيروت 1407هـ- 1987م.
22 - أمالي السهيلي. أبو القاسم السهيلي: ت: محمد إبراهيم البنا، ط (1) ، مطبعة السعادة، 1390هـ- 1970م.
23 - أمالي ابن الشجري. هبة الله بن علي الشجري: ت: د. محمود الطناحي، ط (1) ، مكتبة الخانجي، القاهرة 1413هـ - 1992م.
24 - أمالي المرتضى. الشريف المرتضى: ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط (2) ، دار الكتاب العربي 1387هـ.
25 - الأمالي النحوية (أمالي القرآن الكريم) . ابن الحاجب: ت. هادي حسن حمودي، ط (1) ، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية 1405هـ.(42/215)
26 - إنباه الرواة على أنباه النحاة. القفطي: ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط (1) ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، دار الفكر العربي، القاهرة 1406هـ.
27 - الأنساب. أبو سعيد السمعاني: ت. د، مرجليوت. بغداد 1950م.
28 - الإنصاف في مسائل الخلاف. أبو البركات الأنباري: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل 1982م.
29 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك. ابن هشام: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط (6) ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1394هـ.
30 - الإيضاح العضدي. أبو علي الفارسي: ت: د. حسن شاذلي فرهود، ط (1) ، مطبعة دار التأليف، مصر 1389هـ.
31 - البحر المحيط. أبو حيان الأندلسي: ط (2) ، دار الفكر، 1403هـ.
32 - البسيط في شرح جمل الزجاجي. ابن أبي الربيع: ت: د. عياد الثبيتي، ط (1) ، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1407هـ.
33 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. جلال الدين السيوطي: ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت 1384هـ.
34 - البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة. الفيروزابادي: ت: محمد المصري، ط (1) ، مطبعة الفيصل، الكويت 1407هـ.
35 - التبصرة والتذكرة. أبو محمد الصيمري: ت: د. فتحي عليّ الدين، ط (1) ، دار الفكر، دمشق 1402هـ.
36 - التبيان في إعراب القرآن. أبو البقاء العكبري: ت: علي البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
37 - التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين. أبو البقاء العكبري: ت: د. عبد الرحمن العثيمين، ط (1) ، بيروت، 1406هـ-1986م.
38 - تحصيل عين الذهب. يوسف بن سليمان الشنتمري: مطبوع بهامش كتاب سيبويه، ط (1) ، بولاق 1317هـ.
39 - تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد. ابن هشام: ت: د. عباس مصطفى الصالحي، ط (1) ، بيروت 1406هـ - 1986م.
40 - تذكرة الحفاظ. الذهبي: دار الكتب العلمية، بيروت 1374هـ.
41 - تذكرة النحاة. أبو حيان الأندلسي: ت: د. عفيف عبد الرحمن، ط (1) مؤسسة الرسالة، بيروت 1406هـ.(42/216)
42 - التذييل والتكميل في شرح التسهيل. أبو حيان الأندلسي: دار الكتب المركزية برقم 62 نحو. مصورة مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة.
43 - تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد. ابن مالك: ت: د. محمد كامل بركات، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1387هـ.
44 - التصريح بمضمون التوضيح. خالد الأزهري: دار الفكر.
45 - تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد. الدماميني: ت: د. محمد المفدى، ط (1) ، الأجزاء 1-4، 1403-1409هـ.
46 - توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك. المرادي (ابن أم قاسم) : ت: د. عبد الرحمن سليمان، ط (2) ، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، 1397هـ.
47 - التوطئة. أبو علي الشلوبيني: ت: د. يوسف المطوع، مطابع سجل العرب، 1401هـ -1981م.
48 - الجامع الصحيح (سنن الترمذي) . محمد بن عيسى بن سورة: ت: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
49 - الجامع لأحكام القرآن. القرطبي: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
50 - الجمل في النحو. أبو القاسم الزجاجي: ت: د. علي توفيق الحمد، ط (2) ، مؤسسة الرسالة، دار الأمل 1405هـ.
51 - الجنى الداني في حروف المعاني. الحسن بن قاسم المرادي: ت: د. فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل، ط (2) ، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1403هـ-1983م.
52 - حاشية ابن حمدون بن الحاج على شرح المكودي: دار الفكر، بيروت.
53 - حاشية الشيخ محمد الأمير على مغني اللبيب: مطبوع بهامش مغني اللبيب لابن هشام، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي.
54 - حاشية الصبان على شرح الأشموني: دار الفكر، بيروت.
55 - حاشية الملوي الأزهري على المكودي: مطبوع بهامش شرح المكودي على ألفية ابن مالك.
56 - الحلل في شرح أبيات الجمل. ابن السيد البطليوسي: ت: د. مصطفى إمام، ط (1) ، القاهرة، 1979م.
57 - الحماسة. أبو تمام (حبيب بن أوس) : ت: د. عبد الله عسيلان، ط (1) ، دار الهلال، الرياض 1401هـ.(42/217)
58 - حياة الحيوان الكبرى. كمال الدين الدميري: دار الفكر، بيروت.
59 - خزانة الأدب. عبد القادر البغدادي: ت: عبد السلام هارون، ط (2) ، مصر 1979م.
60 - الخصائص. ابن جني: ت: محمد علي النجار، ط (2) ، دار الهدى للطباعة النشر، بيروت 1952م.
61 - الدرر اللوامع على همع الهوامع. الشنقيطي: ت: عبد العال سالم مكرم، ط (1) ، الكويت 1401هـ-1981م.
62 - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي: ت: د. أحمد محمد الخراط، ط (1) ، دار القلم، دمشق، 1406هـ- 1415هـ.
63 - ديوان أبي النجم العجلي: صنعة علاء الدين أغا، ط (1) ، الرياض 1401هـ - 1981م.
64 - ديوان الأخطل: ت: مهدي محمد ناصر الدين، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1406هـ - 1986م.
65 - ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس: شرح وتعليق د. محمد محمد حسين، ط (7) ، مؤسسة الرسالة، بيروت 1403هـ.
66 - ديوان امرىء القيس: ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط (4) ، دار المعارف، القاهرة.
67 - ديوان تميم بن أبي مقبل: ت: د. عزة حسن، دمشق 1962م.
68 - ديوان جرير بن عطية الخطفي: دار صادر، بيروت.
69 - ديوان حاتم الطائي: ط (2) ، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت 1406هـ.
70 - ديوان ذي الرمة: ط (2) ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق 1384هـ.
71 - ديوان زهير بن أبي سلمى: دار بيروت للطباعة والنشر، 1402هـ -1982م.
72 - ديوان طرفة بن العبد: دار صادر، دار بيروت، 1380هـ-1961م.
73 - ديوان العجاج. رواية الأصمعي: ت: د. عبد الحفيظ السطلي، دمشق 1971م.
74 - ديوان عدي بن زيد العبادي: جمع وتحقيق محمد جبار المعيبد، بغداد 1965م.
75 - ديوان عروة بن الورد: دار صادر، بيروت.
76 - ديوان عمر بن أبي ربيعة: دار صادر، بيروت.
77 - ديوان الفرزدق: ت: علي فاعور، ط (1) دار الكتب العلمية، بيروت 1407هـ.
78 - ديوان قيس بن الخطيم: ت: الدكتور ناصر الدين الأسد، مطبعة المدني بالقاهرة 1962م.(42/218)
79 - ديوان كعب بن مالك الأنصاري: ت: سامي مكي العاني، ط (1) ، بغداد 1966م.
80 - ديوان لبيد بن ربيعة العامري: دار صادر، بيروت.
81 - ديوان النابغة الذبياني. صنعة ابن السكيت: ت: د. شكري فيصل، ط (2) ، دار الفكر، 1410هـ - 1990م.
82 - ديوان الهذليين. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1385هـ.
83 - ذم الخطأ في الشعر. ابن فارس اللغوي: ت: الدكتور رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، بمصر 1400هـ.
84 - ذيل الأمالي والنوادر. أبو علي القالي: مطبوع مع كتاب الأمالي لأبي علي.
85 - رسالة الغفران. أبو العلاء المعري: ت: د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) ، ط (6) ، دار المعارف، القاهرة.
86 - رصف المباني في شرح حروف المعاني. أحمد بن عبد النور المالقي: ت: د. أحمد الخراط، ط (2) ، دار القلم، دمشق 1405هـ.
87 - رغبة الآمل. سيد بن علي المرصفي: مصر 1346هـ - 1348م.
88 - السبعة في القراءات. ابن مجاهد: ت: د. شوقي ضيف، ط (2) ، دار المعارف، القاهرة 1400هـ.
89 - سر صناعة الإعراب. ابن جني: ت: د. حسن هنداوي، ط (1) ، دار القلم، دمشق 1405هـ.
90 - سمط اللآلي. ويحتوي على اللآلي في شرح أمالي القالي. أبو عبيد البكري: ت: عبد العزيز الميمني، ط (2) ، بيروت 1404هـ-1984م.
91 - سنن ابن ماجه: ت: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية، بيروت.
92 - سيبويه والضرورة الشعرية. د. إبراهيم حسن إبراهيم: ط (1) ، مطبعة حسّان، القاهرة 1403هـ-1983م.
93 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب. ابن العماد الحنبلي: ط (2) ، دار المسيرة، بيروت 1399هـ.
94 - شرح الأبيات المشكلة الإعراب (إيضاح الشعر) . أبو علي الفارسي: ت: د. حسن هنداوي، ط (1) ، دار القلم، دمشق، دار العلوم والثقافة، بيروت 1407هـ - 1987م.
95 - شرح أبيات مغني اللبيب. عبد القادر البغدادي: ت: عبد العزيز رباح، أحمد يوسف دقاق، ط (1) ، دار المأمون للتراث، دمشق 1393هـ.(42/219)
96 - شرح ألفية ابن مالك. أبو زيد المكودي: دار الفكر، بيروت.
97 - شرح ألفية ابن مالك. لابن عقيل: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط (2) ، دار الفكر 1405هـ - 1985م.
98 - شرح ألفية ابن مالك. ابن الناظم: ت: د. عبد الحميد السيد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت.
99 - شرح ألفية ابن معطي. ابن القواس الموصلي: ت: د. علي موسى الشوملي، ط (1) ، مكتبة الخريجي، الرياض، 1405هـ.
100 - شرح التحفة الوردية. ابن الوردي: ت: د. عبد الله علي الشلاّل، مكتبة الرشد، الرياض 1409هـ - 1989م.
101 - شرح التسهيل. ابن مالك: ت: د. عبد الرحمن السيد، د. محمد بدوي المختون، ط (1) ، مصر 1410هـ - 1990م.
102 - شرح الجمل. ابن عصفور: ت: د. صاحب أبو جناح، ط (1) ، بغداد 1400هـ.
103 - شرح ديوان الحماسة. الخطيب التبريزي: عالم الكتب. بيروت.
104 - شرح السيرافي: شرح كتاب سيبويه. أبو سعيد السيرافي. مصور عن نسخة دار الكتب برقم 137 نحو.
105 - شرح شذور الذهب. ابن هشام الأنصاري: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.
106 - شرح شواهد الشافية. عبد القادر البغدادي: مطبوع مع شرح الشافية للرضي.
107 - شرح شواهد المغني. جلال الدين السيوطي: ت: أحمد ظافر كوجان، دار مكتبة الحياة.
108 - شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ. ابن مالك: ت: عدنان عبد الرحمن الدوري، مطبعة العاني، بغداد 1397هـ.
109 - شرح الكافية. رضي الدين الاستراباذي: ت: يوسف حسن عمر، منشورات جامعة قاريونس 1398هـ - 1978م.
110 - شرح الكافية الشافية. ابن مالك: ت: د. عبد المنعم أحمد هريدي، ط (1) ، دار المأمون للتراث 1402هـ.
111 - شرح المفصل. ابن يعيش: طبع عالم الكتب، بيروت، ومكتبة المثنى بالقاهرة.
112 - شعر عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: جمع وتحقيق: د. سامي مكي العاني، ط (1) ، بغداد 1971م.
113 - الشعر والشعراء. ابن قتيبة: ت: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، 1966م.(42/220)
114 - شفاء العليل في إيضاح التسهيل. أبو عبد الله السلسيلي: ت: د. الشريف عبد الله البركاتي، ط (1) ، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة 1406هـ.
115 - شواهد التوضيح والتصحيح. ابن مالك: ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت.
116 - الصاحبي. أحمد بن فارس: ت: السيد أحمد الصقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
117 - صحيح البخاري. ط (2) ، عالم الكتب، بيروت 1402هـ.
118 - صحيح مسلم. ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
119 - صفة الصفوة. أبو الفرج الجوزي: ت: محمود فاخوري، ط (3) ، دار المعرفة، بيروت.
120 - ما يجوز للشاعر في الضرورة. أبو عبد الله القزاز القيرواني: ت: د. محمد زغلول سلام، د. محمد مصطفى هدارة، الإسكندرية.
121 - ضرائر الشعر. ابن عصفور: ت: السيد إبراهيم محمد، ط (1) ، دار الأندلس 1980م.
122 - الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر. محمود شكري الآلوسي: القاهرة 1341هـ.
123 - الضرورة الشعرية، دراسة نقدية لغوية. د. عبد الوهاب محمد العدواني: ط (1) ، الموصل 1410هـ.
124 - الضرورة الشعرية في النحو العربي. د. محمد حماسة عبد اللطيف: مكتبة دار العلوم، مصر.
125 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. شمس الدين السخاوي: منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
126 - طبقات فحول الشعراء. محمد بن سلام الجمحي: تحقيق وشرح: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة 1974م.
127 - عبث الوليد. أبو العلاء المعري: علق عليه محمد عبد الله المدني، ط (3) ، دار الرفاعي، الرياض 1405هـ - 1985م.
128 - العمدة في محاسن الشعر. ابن رشيق القيرواني: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط (5) ، دار الجيل، بيروت 1401هـ -1981م.
129 - غاية النهاية في طبقات القراء. ابن الجزري: عني بنشره ج. برجستراسر، ط (3) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ.(42/221)
130 - فتح الرب المالك بشرح ألفية ابن مالك. محمد بن قاسم الغزِّي: ت: محمد المبروك الختروشي، ط (1) ، طرابلس 1401هـ.
131 - الفتوحات الإلهية. سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر.
132 - الفريد في إعراب القرآن المجيد. المنتجب الهمذاني: ت: د. محمد حسن النمر، د. فؤاد علي مخيمر، ط (1) ، الدوحة 1411هـ -1991م.
133 - الفوائد الضيائية. نور الدين الجامي: ت: د. أسامة طه الرفاعي، العراق 1403هـ - 1983م.
134 - في الضرورات الشعرية. د. خليل بنيان الحسون: ط (1) ، بيروت1403هـ.
135 - الكافي في العروض والقوافي. الخطيب التبريزي: ت: الحسّاني حسن عبد الله، مكتبة الخانجي، القاهرة.
136 - الكامل. أبو العباس المبرد: ت: محمد أحمد الدالي، ط (1) ، مؤسسة الرسالة، بيروت 1406هـ.
137 - الكامل في التاريخ. ابن الأثير: ط (4) ، دار الكتاب العربي، بيروت 1403هـ-1983م.
138 - الكتاب. سيبويه: ط (1) بولاق، 1316هـ.
139 - الكشاف. أبو القاسم الزمخشري: دار المعرفة، بيروت.
140 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. حاجي خليفة: ط (1) ، منشورات مكتبة المثنى، بيروت.
141 - كفاية الغلام في إعراب الكلام. أبو سعيد الآثاري: ت: د. زهير زاهد، والأستاذ هلال ناجي، ط (1) ، بيروت 1407هـ.
142 - اللامات. أبو القاسم الزجاجي: ت: مازن المبارك، ط (2) ، دار الفكر، دمشق 1405هـ-1985م.
143 - لباب الإعراب للإسفراييني. تاج الدين الإسفراييني: ت: بهاء الدين عبد الوهاب عبد الرحمن، ط (1) ، الرياض 1405هـ.
144 - لسان العرب. ابن منظور: دار صادر، بيروت.
145 - لمع الأدلة. أبو البركات الأنباري: ت: سعيد الأفغاني، دمشق، 1377هـ-1957م.
146 - اللمع في العربية. ابن جني: ت: حامد المؤمن، ط (2) ، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية 1405هـ.
147 - المؤتلف والمختلف. أبو القاسم الآمدي: تصحيح وتعليق د/ ف. كرنكو، ط (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ.(42/222)
148 - ما يحتمل الشعر من الضرورة. أبو سعيد السيرافي: ت: د. عوض بن حمد القوزي، ط (1) ، مطابع الفرزدق، الرياض 1409هـ -1989م.
149 - ما ينصرف وما لا ينصرف. أبو إسحاق الزجاج: ت: هدى محمود قراعة، ط (1) ، القاهرة، 1391هـ-1971م.
150 - المبسوط في القراءات العشر. أبو بكر الأصبهاني: ت: سبيع حاكمي، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق.
151 - مجاز القرآن. أبو عبيدة معمر بن المثنى: ت: محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، القاهرة 1374هـ-1954م.
152 - مجالس ثعلب. أبو العباس أحمد بن يحيى: ت: عبد السلام هارون، ط (3) ، دار المعارف، مصر.
153 - مجمع الأمثال. أبو الفضل الميداني: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط (3) ، دار الفكر 1393هـ.
154 - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها. ابن جني: ت: علي النجدي ناصف وزميليه، ط (2) ، دار سزكين للطباعة والنشر 1406هـ.
155 - مختصر في شواذ القراءات. ابن خالويه: نشر: ج براجستراسر، المطبعة الرحمانية، مصر 1934م.
156 - المدارس النحوية. د. شوقي ضيف: ط (4) ، دار المعارف 1968م.
157 - المسائل البصريات. أبو علي الفارسي: ت: د. محمد الشاطر أحمد محمد، ط (1) ، القاهرة 1405هـ-1985م.
158 - المسائل المشكلة (البغداديات) . أبو علي الفارسي: ت: صلاح الدين عبد الله السنكاوي، مطبعة العاني، بغداد.
159 - المساعد على تسهيل الفوائد. ابن عقيل: ت: محمد كامل بركات، ط (1) ، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى 1400هـ - 1980م.
160 - مشكل إعراب القرآن. مكي بن أبي طالب: ت: د. حاتم صالح الضامن، ط (2) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ - 1984م.
161 - المعارف. ابن قتيبة: ت: د. ثروت عكاشة، ط (4) ، دار المعارف 1981م.
162 - معاني القرآن. أبو زكريا الفراء: ت: أحمد نجاتي ومحمد النجار، ط (3) ، عالم الكتب، بيروت 1403هـ.(42/223)
163 - معاني القرآن وإعرابه. أبو إسحاق الزجاج: ت: د. عبد الجليل عبده شلبي، ط (1) ، عالم الكتب، بيروت 1408هـ - 1988م.
164 - المعاني الكبير. ابن قتيبة الدينوري: ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
165 - معجم الأدباء. ياقوت الحموي: ط (3) ، دار الفكر، 1400هـ.
166 - معجم الشعراء. أبو عبيد الله المرزباني: تصحيح وتعليق: د. ف. كرنكو، ط (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ.
167 – مغني اللبيب عن كتب الأعاريب. ابن هشام الأنصاري: ت: د. مازن المبارك، محمد علي حمد الله، ط (5) ، دار الفكر، بيروت 1979هـ.
168 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة. طاش كبرى زادة: دار الكتب الحديثة، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة.
169 - مفتاح العلوم. أبو يعقوب السكاكي: ت: نعيم زرزور، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1403هـ.
170 - المفصل في علم العربية. أبو القاسم الزمخشري: ت: السيد محمد بدر الدين النعساني، ط (2) ، دار الجيل، بيروت.
171 - المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية. بدر الدين العيني: مطبوع بهامش خزانة الأدب، ط (1) ، بولاق 1299هـ.
172 - المقتصد في شرح الإيضاح. عبد القاهر الجرجاني: ت: د. كاظم بحر المرجان، دار الرشيد للنشر، العراق 1982م.
173 - المقتضب. أبو العباس المبرد: ت: محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت.
174 - المقرب. ابن عصفور الإشبيلي: ت: أحمد الجواري وعبد الله الجبوري، ط (1) ، مطبعة العاني، بغداد 1391هـ.
175 - منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل. محمد محيي الدين عبد الحميد: مطبوع مع شرح ابن عقيل.
176 - المنصف. أبو الفتح بن جني: ت: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، ط (1) ، مصطفى البابي الحلبي 1373هـ.
177 - منهج السالك إلى ألفية ابن مالك. الأشموني نور الدين أبو الحسن: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
178 - الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء. محمد بن عمران المرزباني: مصر 1343هـ.(42/224)
179 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. جمال الدين بن تغري بردي: مصورة عن طبعة دار الكتب.
180 - النحو الوافي. عباس حسن: ط (5) ، دار المعارف، مصر 1980م.
181 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء. أبو البركات الأنباري: ت: د. إبراهيم السامرائي، ط (3) مكتبة المنار، الأردن 1405هـ.
182 - النشر في القراءات العشر. ابن الجزري: صححه وراجعه علي محمد الضبع، دار الكتب العلمية، بيروت.
183 - نكت الهميان في نكت العميان. الصفدي: المطبعة الجمالية، القاهرة 1329هـ.
184 - النوادر في اللغة. أبو زيد الأنصاري: ت: د. محمد عبد القادر أحمد، ط (1) ، دار الشروق، بيروت 1401هـ-1981م.
185 - همع الهوامع في شرح جمع الجوامع. جلال الدين السيوطي: ت: د. عبد العال سالم مكرم، ط (1) ، دار البحوث العلمية، الكويت 1400هـ - 1980م.
186 - وفيات الأعيان. ابن خلكان: ت: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت.(42/225)
تابع لأثر المشهور عن الإمام مالك
الفصل الأوَّل
في تخريج هذا الأثر، وبيان ثبوته
وذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة
وأقوال السلف الصالح
المبحث الأوَّل: تخريج هذا الأثر وبيان ثبوته عن الإمام مالك - رحمه الله -
لقد اشتهر هذا الأثر عن الإمام مالك - رحمه الله - شهرة بالغة، ورواه عنه طائفة من تلاميذه، وهو مرويٌّ عنه من طرق عديدة، وقد حَظِي باستحسان أهل العلم، وتلقَّوه بالقبول، وهو مخرَّج في كتب عديدة من كتب السنة.
وفيما يلي ذكرٌ لما وقفت عليه من طرق لهذا الأثر مع ذكر مخرِّجيها، وما وقفت عليه من كلام أهل العلم في بيان ثبوته.
1-رواية جعفر بن عبد الله
قال الحافظ أبو نعيم في الحلية: حدّثنا محمد بن علي بن مسلم العقيلي، ثنا القاضي أبو أميَّة الغلابي، ثنا سلمة بن شبيب، ثنا مهدي بن جعفر، ثنا جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكتُ بعود في يده حتى علاه الرّحضاء يعني العرق ثمَّ رفع رأسه ورمى بالعود وقال:"الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وأمر به فأُخرج.
ورواه الإمام أبو إسماعيل الصابوني في كتابه (عقيدة السلف) قال: أخبرنا أبو محمد المخلدي العدل، حدّثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن مسلم الإسفراييني، حدّثنا أبو الحسين علي بن الحسن، حدّثنا سلمة بن شبيب به، وذكر نحوَه، إلاّ أنّه قال:"الكيف غير معلوم".
ورواه أيضاً الإمام الصابوني من طريق أخرى قال: أخبرنا به جدّي أبو حامد أحمد بن إسماعيل، عن جدّ والدي الشهيد، وأبو عبد الله محمد بن عدي بن حمدويه الصابوني، حدّثنا محمد بن أحمد ابن أبي عون النسوي، حدّثنا سلمة بن شبيب به.(42/226)
ورواه الحافظ اللالكائي في شرح الاعتقاد من طريق علي بن الربيع التميمي المقري قال: ثنا عبد الله بن أبي داود قال: ثنا سلمة ابن شبيب به، باللفظ السابق.
وتابعه بكّار بن عبد الله عن مهدي بن جعفر عن مالك، ولم يذكر شيخه جعفر بن عبد الله.
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد، أخبرنا محمد بن عبد الملك قال: حدّثنا عبد الله بن يونس قال: حدّثنا بقيُّ بن مخلد قال: حدّثنا بكار بن عبد الله القرشي قال: حدّثنا مهدي بن جعفر عن مالك ابن أنس أنَّه سُئل عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، قال: فأطرق مالك ثم قال:"استواؤه مجهول، والفعل منه غير معقول، والمسألة عن هذا بدعة".
وتابعه أيضاً الإمام الدارمي، قال في كتابه الردّ على الجهميّة: حدّثنا مهدي بن جعفر الرملي ثنا جعفر بن عبد الله وكان من أهل الحديث ثقة عن رجل قد سمّاه لي، قال: جاء رجل إلى مالك ابن أنس، وذكره.
فزاد في إسناده بعد جعفر بن عبد الله:"عن رجل".
ومهدي بن جعفر صدوق له أوهام وقد اضطرب في روايته لهذه القصة، فرواها مرّة عن شيخه جعفر بن عبد الله عن مالك، ورواها مرّة أخرى عن شيخه جعفر عن رجل عن مالك، ورواها مرّة ثالثة عن مالك مباشرة، وهذا الاضطراب الذي في هذه الطريق لا ينفي صحة القصة؛ لأنَّها قد جاءت من طرق أخرى تعضدها وتقوِّيها - كما سيأتي -.
2- رواية عبد الله بن وهب
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران، ثنا أبي، حدّثنا أبو الربيع بن أخي رشدين ابن سعد قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استواؤه؟، قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال:"الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، قال: فأُخرج".(42/227)
قال الذهبي في العلوّ:"وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني عن ابن وهب ... "وذكره.
وقال الحافظ ابن حجر:"وأخرج البيهقي بسند جيِّد عن ابن وهب ... "وذكره.
3- رواية يحيى بن يحيى التميمي
قال البيهقي - رحمه الله - في كتابه الأسماء والصفات:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه الأصفهاني، أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيَّان المعروف بأبي الشيخ، ثنا أبو جعفر أحمد بن زيرك اليزدي: سمعت محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري يقول: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} فكيف استوى؟، قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ مبتدعاً. فأمر به أن يُخرج".
ورواه البيهقي في كتابه الاعتقاد بالإسناد نفسه.
وأورده الذهبي في العلوّ قال: وروى يحيى بن يحيى التميمي وجعفر بن عبد الله وطائفة، وذكره ثم قال:"هذا ثابت عن مالك".
وقال الإمام شمس الدين محمد بن عبد الهادي في كتابه في الاستواء:"صحيح ثابت عن مالك".
4- رواية جعفر بن ميمون
قال الإمام أبو إسماعيل الصابوني حدّثنا أبو الحسن بن إسحاق المدني، حدّثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي، حدّثنا شاذان، حدّثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني، حدّثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ، وأمر به أن يخرج من مجلسه".
5- رواية سفيان بن عيينة
قال القاضي عياض:"قال أبو طالب المكي: كان مالك(42/228)
- رحمه الله - أبعدَ الناس من مذاهب المتكلِّمين، وأشدَّهم بُغضاً للعراقيين، وألزَمَهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين، قال سفيان بن عيينة: سأل رجلٌ مالكاً فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى يا أبا عبد الله؟، فسكت مالكٌ مليًّا حتى علاه الرحضاء، وما رأينا مالكاً وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به، ثمَّ سُريَّ عنه فقال:"الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنُّك ضالاًّ، أخرجوه".
فناداه الرجل: يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله إلاَّ هو، لقد سألتُ عن هذه المسألة أهلَ البصرة والكوفة والعراق، فلم أجِد أحداً وُفِّق لما وُفِّقت له".
6- رواية محمد بن النعمان بن عبد السلام التيمي.
قال أبو الشيخ الأنصاري في كتابه طبقات المحدّثين: حدّثنا عبد الرحمن بن الفيض، قال: ثنا هارون بن سليمان، قال: سمعت محمد بن النعمان بن عبد السلام يقول:"أتى رجل مالكَ بنَ أنس فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: فأطرق، وجعل يعرق، وجعلنا ننتظر ما يأمر به، فرفع رأسه، فقال:"الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ، أَخرجوه من داري"، وإسناده جيّد.
7- رواية عبد الله بن نافع.(42/229)
قال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله -: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ابن مالك، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا سريج بن النعمان، قال: حدّثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك بن أنس:"الله عز وجل في السماء وعلمه في كلِّ مكان، لا يخلو منه مكان، قال: وقيل لمالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فقال مالك - رحمه الله -: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء".
8- رواية أيوب بن صالح المخزومي.
قال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله -: وأخبرنا محمد بن عبد الملك، قال: حدّثنا عبد الله بن يونس، قال: حدّثنا بقي بن مخلد، قال: حدّثنا بكّار بن عبد الله القرشي ... وساق روايته للأثر المتقدّمة من طريق مهدي بن جعفر، ثم قال: قال بقي: وحدّثنا أيوب بن صلاح المخزومي بالرملة، قال:"كنا عند مالك إذ جاءه عراقي فقال له: يا أبا عبد الله مسألة أريد أن أسألك عنها؟، فطأطأ مالك رأسه فقال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: سألتَ عن غير مجهول، وتكلّمت في غير معقول، إنّك امرؤ سوء، أخرِجوه، فأخذوا بضبعيه فأخرجوه".
9- رواية بشّار الخفّاف الشيباني.
قال ابن ماجه في التفسير: حدّثنا علي بن سعيد، قال: حدّثنا بشّار الخفّاف أو غيره، قال:"كنت عند مالك بن أنس فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف استوى؟، وذكره، كذا في تهذيب الكمال.(42/230)
وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره:"وقد رووا عن جعفر بن عبد الله وبشر الخفّاف قالا: كنّا عند مالك بن أنس فأتاه رجل فسأله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف استوى؟ فأطرق مالك مليًّا، وعلاه الرحضاء، ثم قال:"الكيف غير معقول، الاستواء مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنّك إلاّ ضالاًّ، ثم أمر به فأخرج"، من غير شك في رواية بشار الخفاف.
10- رواية سحنون عن بعض أصحاب مالك.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل: قال سحنون: أخبرني بعض أصحاب مالك أنَّه كان قاعداً عند مالك فأتاه رجل فقال:"يا أبا عبد الله مسألة؟، فسكت عنه ثم قال له: مسألة؟، فسكت عنه، ثم عاد فرفع إليه مالك رأسَه كالمجيب له، فقال السائل: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف كان استواؤه؟ فطأطأ مالك رأسَه ساعة ثم رفعه، فقال:"سألتَ عن غير مجهول، وتكلّمتَ في غير معقول، ولا أراك إلاَّ امرأ سوء، أَخرِجوه".
فهذا جملة ما وقفت عليه من طرق لهذا الأثر عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله -، وبعض طرقه صحيحة ثابتة، وبعضها لا يخلو من مقال، إلا أنّها يشدّ بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، والأثر ثابت بلا ريب بمجموع هذه الطرق، ولذا اعتمده أهل العلم، وصححه غير واحد، وقد تقدّم الإشارة إلى بعض من صحّحه، ولا يُعرف أحدٌ منهم ضعّفه، وسيأتي في مبحث لاحق نقل كلام أهل العلم في التنويه به، والثناء عليه، وتلقّيهم له بالقبول والاستحسان.
المبحث الثاني: ذكر الشواهد على هذا الأثر من الكتاب والسنة
لقد تضمّن هذا الأثر العظيم جملاً أربعاً وهي:
1- الاستواء غير مجهول.
2- والكيف غير معقول.
3- والإيمان به واجب.
4- والسؤال عنه بدعة.(42/231)
وهي جمل صحيحة المعنى عظيمة الدلالة، لكلِّ جملة منها شواهدها الكثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيمرُّ معنا في ثنايا هذا المبحث العديد من النصوص التي تشهد لصحة كلِّ جملة من هذه الجمل، ولنقف هنا مع كلِّ جملة من هذه الجمل لذكر بعض الشواهد عليها من القرآن والسنة.
أوّلاً: أما قوله: (الاستواء غير مجهول) فالمراد به أنَّ الاستواء معلوم المعنى؛ لأنَّ الله قد خاطبنا في القرآن الكريم بكلام عربيٍّ مبين، قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيًّا} (3) وقال تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (4) فهو – سبحانه - أنزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين؛"لأنَّ لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات"، وليفهم المخاطَبون به كلام الله وليعقلوا خطابه ويحيطوا بمعانيه كما قال – سبحانه -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} فمن لطف الله بخلقه أنه يرسل إليهم الرسل منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (5) وفي المسند من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم يبعث
__________
(1) سورة الشعراء، الآية: (195) .
(2) سورة يوسف، الآية: (2) .
(3) سورة فصّلت، الآية: (3) .
(4) سورة الأحقاف، الآية: (12) .
(5) سورة فصّلت، الآية: (44) .(42/232)
الله عز وجل نبيًّا إلاَّ بلغة قومه" (1)
والقرآن الكريم شأنه كذلك، فهو بلسان عربيٍّ مبين، يفهمه المخاطَبون به، فمدلولاته ظاهرة، ومعانيه واضحة، وقد فهمه المخاطَبون به وعقلوا معناه، ولا سيما في أشرف مقاصده وأعظم أبوابه وهو توحيد الله عز وجل،"ومن المعلوم أنَّ الصحابة سمعوا القرآن والسنة من النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأوه وأقرأوه مَن بعدهم، وتكلّم العلماء في معانيه وتفسيره، ومعاني الحديث وتفسيره، وما يتعلّق بالأحكام وما لا يتعلّق بها، وهم مجمعون على غالب معاني القرآن والحديث، ولم يتنازعوا إلاّ في قليل من كثير، لا سيما القرون الأولى، فإنَّ النزاع بينهم كان قليلاً جدًّا بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، وكان النزاع في التابعين أكثر، وكلّما تأخّر الزمان كثر النزاع وحدث من الاختلاف بين المتأخرين ما لم يكن في الذين قبلهم، فإنَّ القرآن تضمّن الأمر بأوامر ظاهرة وباطنة، والنهي عن منَاهٍ ظاهرة وباطنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن مقادير الصلوات ومواقيتها وصفاتها، والزكوات ونصبها ومقاديرها، وكذلك سائر العبادات، وعامة هذه الأمور نقلتها الأمة نقلاً عاماًّ متواتراً خلَفاً عن سلف، وحصل العلم الضروري للخلق بذلك كما حصل لهم العلم الضروري بأنَّه بلغهم ألفاظها، وأنَّه قاتل المشركين وأهل الكتاب، وأنَّه بُعث بمكة وهاجر إلى المدينة، وأنَّه دعا الأمة إلى أن شهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وأخبرهم أنَّ هذا القرآن كلام الله الذي تكلّم به لا كلامه ولا كلام مخلوق، وأنَّه ليس قول البشر، وأنَّه علمهم أنَّ ربه فوق سمواته على عرشه، وأنَّ المَلَك نزل من عنده إليه، ثم يعرج إلى ربِّه، وأنَّ ربّه يسمع ويرى ويتكلّم وينادي ويحب ويبغض ويرضى ويغضب، وأنَّ له يدَيْن ووجهاً، وأنَّه يعلم السِرَّ وأخفى، فلا يخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض، وأنَّه يقيمهم من قبورهم
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية: (4) .(42/233)
أحياء بعدما مزّقهم البِلى إلى دار النعيم أو إلى الجحيم".
ثمَّ"إنَّ الله – سبحانه - وصف نفسه بأنّه بيّن لعباده غاية البيان، وأمر رسوله بالبيان، وأخبر أنَّه أنزل عليه كتابه ليبيّن للناس، ولهذا قال الزهري:"مِن الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم"، فهذا البيان الذي تكفّل به – سبحانه -، وأمر به رسوله، إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده، أو المعنى وحده، أو اللفظ والمعنى جميعاً، ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى، فإنَّ هذا لا فائدة فيه، ولا يحصل به مقصود الرسالة، وبيان المعنى وحده بدون دليله وهو اللفظ الدال عليه ممتنع، فعُلم قطعاً أنَّ المراد بيان اللفظ والمعنى.
والله تعالى أنزل كتابه - ألفاظه ومعانيه -، وأرسل رسوله ليبيّن اللفظ والمعنى، فكما أنّا نقطع ونتيقّن أنّه بيَّن اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقّن أنّه بيّن المعنى، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشدّ من عنايته ببيان اللفظ، وهذا هو الذي ينبغي، فإنَّ المعنى هو المقصود، وأمَّا اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهمّ من عنايته بالمقصود؟، وكيف نتيقّن بيانه للوسيلة ولا نتيقّن بيانه للمقصود؟، وهل هذا إلا من أبين المحال؟
فإنْ جاز عليه ألاّ يبيّن المراد من ألفاظ القرآن، جاز عليه ألاّ يبيّن بعض ألفاظه، فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها ومدلولاتها وقد كتمه عن الأمة، ولم يبيّنه لها كان ذلك قدحاً في رسالته وعِصمته، وفتحاً للزنادقة والملاحدة من الرافضة وإخوانهم بابَ كتمان بعض ما أنزل عليه، وهذا منافٍ للإيمان به وبرسالته".(42/234)
وقد أخبر الله - سبحانه وتعالى - أنَّه أكمل به الدِّين وأتمَّ به النعمة، وأمره أن يبلّغ البلاغ المبين كما في قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً} ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة، الآية: (3) .(42/235)
"ومحال مع هذا أن يدع أهم ما خلق له الخلق وأرسلت به الرسل، وأنزلت به الكتب، ونصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ملتبساً مشتبهاً حقّه بباطله، لم يتكلّم فيه بما هو الحق، بل تلكّم بما ظاهره الباطل، والحق في إخراجه عن ظاهره، وكيف يكون أفضل الرسل وأجلّ الكتب غير وافٍ بتعريف ذلك على أتمِّ الوجوه، مبيّن له بأكمل البيان، موضح له غاية الإيضاح، مع شدّة حاجة النفوس إلى معرفته، ومع كونه أفضل ما اكتسبته النفوس، وأجلّ ما حصلته القلوب، ومن أبين المحال أن يكون أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم قد علّم أمّته آداب البول، قبله وبعده ومعه، وآداب الوطء وآداب الطعام والشراب، ويترك أن يعلّمهم ما يقولونه بألسنتهم وتعتقده قلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف، والوصول إليه أجلّ المطالب، وعبادته وحده لا شريك له أقرب الوسائل، ويخبرهم فيه بما ظاهره باطل وإلحاد، ويحيلهم في فهم ما أخبرهم به على مستكرهات التأويلات، ومستنكرات المجازات، ثم يحيلهم في معرفة الحق على ما تحكم به عقولهم وتوجبه آراؤهم، هذا وهو القائل:"تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك"، وهو القائل:"ما بعث الله من نبي إلاّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمّته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم" (1) وقال أبو ذر:"لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلّب جناحيه في السماء إلا ذكّرنا منه علماً"، وقال عمر بن الخطاب:"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه"، ذكره البخاري….
__________
(1) رواه ابن ماجه (1/15) ، وابن أبي عاصم في السنة (رقم:48،49) . وقال الألباني:"حديث صحيح".(42/236)
فكيف يتوهّم مَن لله ولرسوله ولدينه في قلبه وَقار أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن بيان هذا الأمر العظيم ولم يتكلّم فيه بالصواب، بل تكلّم بما ظاهره خلاف الصواب؟، بل لا يتمّ الإيمان إلا باعتقاد أنَّ بيان ذلك قد وقع من الرسول على أتمِّ الوجوه، وأوضحه غاية الإيضاح، ولم يَدَع بعده لقائل مقالاً ولا لمتأوّل تأويلاً، ثم من المحال أن يكون خير الأمة وأفضلها وأعلمها وأسبقها إلى كلِّ فضل وهدى ومعرفة قصروا في هذا الباب فجفوا عنه أو تجاوزوا فغلوا فيه".
ثمّ إنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد حثَّ عباده على تدبّر القرآن وتعقّل آياته وفهم معانيه في مواطن عديدة في القرآن الكريم، فقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (1) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَبَّرُوا آيَاتِهِ} (2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (3) وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة محمد، الآية: (24) .
(2) سورة النساء، الآية: (82) .
(3) سورة ص، الآية: (29) .
(4) سورة الزمر، الآية: (27) .(42/237)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"فحضَّ على تدبّره وفقهه وعقله والتذكّر به والتفكر فيه، ولم يستثن من ذلك شيئاً؛ بل نصوص متعدّدة تصرّح بالعموم فيه مثل قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، وقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} ، ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلاّ بتدبّره كلّه، وإلاَّ فتدبّر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفه ما لم يتدبّر لما تدبّر.(42/238)
وقال علي رضي الله عنه لما قيل له: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟، فقال:"لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه، وما في هذه الصحيفة". فأخبر أنَّ الفهم فيه مختلف في الأمة، والفهم أخصُّ من العلم والحكم، قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"رُبَّ مبلّغ أوعى من سامع" (1) وقال:"بلِّغوا عني ولو آية" (2) وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائرالأمة قد تكلّموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها، وفسّروها بما يوافق دلالتها وبيانها، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن، وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول:"لو أعلم أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته"، وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتاً للصفات، ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا، وما في التابعين أجلّ من أصحاب هذين السيّدين، بل وثالثهما في عليّة التابعين من جنسهم أو قريب منهم، ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت؛ لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس، ولو كان معاني هذه الآيات منفياً ومسكوتاً عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاماً فيه.
__________
(1) سورة الأنبياء، الآية: (79) .
(2) رواه البخاري (3/573 - 574 - الفتح) .(42/239)
ثم إنَّ الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنَّه امتنع من تفسير آية، قال أبو عبد الرحمن السلمي:"حدّثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنّهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل"، وكذلك الأئمة كانوا إذا سُئلوا عن شيء من ذلك لم ينفوا معناه بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فقال:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وكذلك ربيعة قبله، وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة مَن ينكره ... ".
فهذه هي طريقة أئمة السلف أهل السنة والجماعة في هذا الباب وفي جميع أبواب الدين، وقد لخّص الإمام ابن القيم - رحمه الله - طريقتهم هذه بقوله:"كان أئمة السلف وأتباعهم يذكرون الآيات في هذا الباب، ثم يُتبعونها بالأحاديث الموافقة لها، كما فعل البخاري ومَن قبله ومَن بعده من المصنفين في السنة، فإنَّ الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على صحة ما تضمّنته أحاديث النزول والرؤية والتكليم والوجه واليدين والإتيان والمجيء بما في القرآن، ويثبتون اتفاق دلالة القرآن والسنة عليها، وأنّهما من مشكاة واحدة، ولا ينكر ذلك مَن له أدنى معرفة وإيمان، وإنّما يحسن الاستدلال على معاني القرآن بما رواه الثقات عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء، ثم يتبعون ذلك بما قاله الصحابة والتابعون أئمة الهدى.(42/240)
وهل يخفى على ذي عقل سليم أنَّ تفسير القرآن بهذه الطريق خير مما هو مأخوذ عن أئمة الضلال وشيوخ التجهّم والاعتزال كالمريسي والجبّائي والنظّام والعلاّف وأضرابهم من أهل التفرّق والاختلاف الذين أحدثوا في الإسلام ضلالات وبدعاً، وفرّقوا دينهم وكانوا شيعاً، وتقطّعوا أمرهم بينهم كلُّ حزب بما لديهم فرحون.
فإذا لم يجز تفسير القرآن وإثبات ما دلّ عليه، وحصول العلم واليقين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة، وكلام الصحابة وتابعيهم، أفيجوز أن يرجع في معاني القرآن إلى تحريفات جهم وشيعته، وتأويلات العلاّف والنظام والجبّائي والمرّيسي وعبد الجبار وأتباعهم من كلِّ أعمى أعجمي القلب واللسان، بعيد عن السنة والقرآن، مغمور عند أهل العلم والإيمان؟ ".
ويمكن أن نلخِّص ما تقدّم في ستة وجوه ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فيها أوضح دلالة على أن المعنى معلوم ومطلوب من العباد العلم به:
"أحدها: أنَّ العادة المطَّرَدة التي جبل الله عليها بني آدم توجب عنايتهم بالقرآن المنزّل عليهم لفظاً ومعنىً؛ بل أن يكون عنايتهم بالمعنى أوكد، فإنَّه قد عُلم أنَّه مَن قرأ كتاباً في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك، فإنَّه لا بدَّ أن يكون راغباً في فهمه، وتصوُّر معانيه، فكيف بمن قرؤوا كتاب الله تعالى المنزل إليهم، الذي به هداهم الله، وبه عرّفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي؟!.
فمن المعلوم أنَّ رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات؛ بل إذا سمع المتعلّم من العالم حديثاً فإنَّه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلّغ عنه؟!، بل ومن المعلوم أنَّ رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإنَّ معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود؛ إذ اللفظ إنما يُراد للمعنى.(42/241)
الوجه الثاني: إنَّ الله سبحانه وتعالى قد حضّهم على تدبّره وتعقّله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1) وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (2) وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا} (3)
فإذا كان قد حضّ الكفار والمنافقين على تدبّره، علم أنَّ معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك ممكناً للمؤمنين، وهذا يبيّن أنَّ معانيه كانت معروفة بيّنة لهم.
الوجه الثالث: أنَّه قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4) فبيّن أنَّه أنزله عربيًّا؛ لأنْ يعقلوا، والعقل لا يكون إلاّ مع العلم بمعانيه.
الوجه الرابع: أنّه ذمّ من لا يفهمه فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} ، وقال تعالى: {فَمَا لِهؤَلاَءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (5) فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمّهم الله تعالى به.
__________
(1) سورة ص، الآية: (29) .
(2) سورة محمد، الآية: (24) .
(3) سورة المؤمنون، الآية: (68) .
(4) سورة يوسف، الآية: (2) .
(5) سورة الإسراء، الآيات: (45،46) .(42/242)
الوجه الخامس: أنَّه ذمّ من لم يكن حظّه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} ، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (1) وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمُ واتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} (2) وأمثال ذلك.
وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفهموا، وقالوا: ماذا قال آنفا؟، أي: الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمُ واتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} .
فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن، جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمّهم الله تعالى عليه.
الوجه السادس: أنَّ الصحابة - رضي الله - عنهم فسّروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد:"عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كلِّ آية وأسأله عنها".
ولهذا قال سفيان الثوري:"إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به". وكان ابن مسعود يقول:"لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته". وكلُّ واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا الله، والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها".
__________
(1) سورة البقرة، الآية: (171) .
(2) سورة الفرقان، الآية: (44) .(42/243)
ثانياً: قوله:"والكيف غير معقول"فإنَّ العقول لا يمكن لها أن تدرك كيفية صفات الباري – سبحانه -، وقد نصّ الله على ذلك في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .
قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -:"فقوله: {يُحِيطونَ بِه} فعل مضارع والفعل الصناعي الذي يسمى بالفعل المضارع وفعل الأمر والفعل الماضي ينحل عند النحويين عن مصدر وزمن كما قال ابن مالك في الخلاصة:
المصدر اسمُ ما سوى الزمان مِنْ
مدلولي الفعل كأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ(42/244)
وقد حرّر علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية أنه ينحل عن مصدر وزمن ونسبة، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعاً، فـ"يحيطون"في مفهومها الإحاطة، فيتسلّط النفي على المصدر الكامن في الفعل فيكون معه كالنكرة المبنية على الفتح، فيصير المعنى: لا إحاطة للعلم البشري برب السموات والأرض، فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها، فالإحاطة المسندة للعلم منفية عن رب العالمين، فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء ولا صفة يد ولا أصابع ولا عجب ولا ضحك؛ لأنَّ هذه الصفات كلّها من باب واحد، فما وصف الله به نفسه منها فهو حق، وهو لائق بكماله وجلاله لا يشبه شيئاً من صفات المخلوقين، وما وُصف به المخلوقون منها فهو حق مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وهذا الكلام الكثير أوضحه الله في كلمتين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تنزيه بلا تعطيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} إيمان بلا تمثيل، فيجب من أول الآية وهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} التنزيه الكامل الذي ليس فيه تعطيل، ويلزم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الإيمان بجميع الصفات الذي ليس فيه تمثيل، فأول الآية وآخرها إيمان، ومن عمل بالتنزيه الذي في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والإيمان الذي في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وقطع النظر عن إدراك الكنه والكيفية المنصوص في قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} خرج سالماً".
وروى أحمد وأبو داود وغيرهما عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -:"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات".
قال عيسى بن يونس:"والأغلوطات ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف".
وقال الخطابي:"وفيه كراهية التعمّق فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسائل ووجوب التوقّف عمّا لا علم للمسؤول به".(42/245)
والله - تبارك وتعالى - لم يكلّف عباده ولم يأمرهم بالبحث عن كيفية صفاته ولا أراد منهم ذلك، بل لم يجعل لهم سبيلاً إليه،"ولهذا لمّا سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان.
فبيَّن أنَّ الاستواء معلوم، وأنَّ كيفية ذلك مجهول، ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنَّه لا يعلم كيف الله إلاَّ الله، فلا يعلم ما هو إلاَّ هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر:"اللهم إني أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم، وقد أخبر فيه أنَّ لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده".(42/246)
بل إنَّ المخلوقَ عاجزٌ عن إدراك كنه كثير من المخلوقات وكيفيتها، فلأن يكون عن إدراك كنه صفات الباري وكيفيتها أعجز من باب أولى، قال رُسته: سمعتُ ابن مهدي يقول لفتى من ولد الأمير جعفر بن سليمان:"بلغني أنَّك تتكلّم في الرب، وتصفه وتشبهه. قال: نعم، نظرنا فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن من الإنسان، فأخذ يتكلّم في الصفة، والقامة، فقال له: رُويدك يا بنيّ حتى نتكلّم أول شيء في المخلوق، فإن عجزنا عنه فنحن عن الخالق أعجز، أخبرني عمّا حدّثني شعبة، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال:"رأى جبريل له ستمائة جناح"، فبقي الغلام ينظر، فقال: أنا أُهوِّن عليك صِفْ لي خلقاً له ثلاثة أجنحة، وركّب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم، قال: يا أبا سعيد عجزنا عن صفة المخلوق، فأُشهدك أني قد عجزتُ ورجعتُ".(42/247)
وقال أبو يحيى زكريا الساجي: حدّثنا المزني: قال: قلت:"إن كان أحدٌ يخرجُ ما في ضميري، وما تعلّقَ به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي، فصِرتُ إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فعلمت أنَّ أحداً لا يعلم علمك، فما الذي عندك؟، فغضب، ثم قال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم، قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلَغك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟، قلت: لا، قال: هل تكلّم فيه الصحابة؟، قلت: لا، قال: تدري كم نجماً في السماء؟، قلت: لا، قال: فكوكبٌ منها تعرف جنسَه، طلوعَه، أفولَه، ممّ خُلق؟، قلت: لا، قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لستَ تعرفه، تتكلّم في علم خالقه؟!، ثم سألني عن مسألة في الوضوء، فأخطأتُ فيها، ففرّعها على أربعة أوجه، فلم أُصب في شيء منه، فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرّات، تدعُ علمه، وتتكلّف علمَ الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك، فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى: {وَإِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية، فاستدِلَّ بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلّف علمَ ما لم يبلغه عقلك، قال: فتبتُ".(42/248)
وقال القاضي أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات:"والله إنّا لعاجزون كالّون حائرون باهتون في حدّ الروح التي فينا، وكيف تعرج كلَّ ليلة إذا توفّاها بارئها، وكيف يرسلها؟، وكيف تستقلّ بعد الموت؟، وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربّه بعد قتله؟، وكيف حياة النبيين الآن؟، وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره قائماً، ثم رآه في السماء السادسة وحاوره، وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته؟، وكيف ناظر موسى أباه آدم، وحجّه آدم بالقدر السابق، وبأنَّ اللّوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟، وكذلك نعجز عن وصف هيأتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفياتها؟، وأنّ بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني، فالله أعلى وأعظم، وله المثل الأعلى والكمال المطلق، ولا مثل له أصلا {آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ".
وممّا يعين المسلم على قطع الطمع عن إدراك كيفية صفات الباري – سبحانه -، اعتقاده وإيمانه بأنَّ الله أكبر من كلِّ شيء، فإذا اعتقد المسلم وآمن بأنّ الله -سبحانه وتعالى - أكبر من كلِّ شيء، وأنّ كلَّ شيء مهما كبر يصغر عند كبرياء الله وعظمته، علمَ من خلال ذلك علم اليقين أن كبرياءَ الربِّ وعظمتَه وجلالَه وجمالَه وسائرَ أوصافه ونعوته أمرٌ لا يمكن أن تحيط به العقول أو تتصوّره الأفهام أو تدركه الأبصار والأفكار، فالله أعظم وأعظم من ذلك، بل إنّ العقولَ والأفهامَ عاجزةٌ عن أن تدركَ كثيراً من مخلوقات الرب -تبارك وتعالى-، فكيف بالرب – سبحانه -.(42/249)
ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال:"بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء وسَمَاءٍ خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسيِّ خمسمائة عام، وبين الكرسيِّ والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
وروي عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما السموات السبع في الكرسي إلاّ كدراهم سبعة أُلقيت في تُرس".
وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".
وليتأمّل المسلم في عظم السماء بالنسبة إلى الأرض، وعظم الكرسيِّ بالنسبة إلى السماء، وعِظم العرش بالنسبة إلى الكرسيِّ، فإنّ العقولَ عاجزةٌ عن أن تدرك كمال هذه الأشياء أو أن تحيط بكُنْهِها وكيفيتها، فكيف بالأمر إذاً في الخالق – سبحانه -، فهو أكبر وأجلُّ من أن تعرف العقولُ كُنْهَ صفاته أو تدرك الأفهامُ كبرياءَه وعظمتَه، ولهذا جاءت السنةُ بالنهي عن التفكّر في الله؛ لأنّ الأفكار والعقول لا تدرك كنه صفاته، فالله أكبر من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله عز وجل".(42/250)
والتفكّرُ المأمور به هنا كما يبيّن ابن القيّم - رحمه الله - هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة، وهذا يتضح بالمثال، فالمسلم إذا أحضر في قلبه كبر هذه المخلوقات من سموات وأرض وكرسي وعرش ونحو ذلك، ثم أحضر في قلبه عجزه عن إدراك هذه الأشياء والإحاطة بها حصل له بذلك معرفة ثالثة وهي عظمة وكبرياء خالق هذه الأشياء وعجز العقول عن أن تدرك صفاته أو تحيط بنعوته -سبحانه-، يقول -سبحانه-: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، فالله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
ثالثاً: وأمَّا قوله:"والإيمان به واجب"أي: الاستواء الذي وصف الرب به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنّته، وهكذا الشأن في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة، يجب الإيمان بها وإمرارها كما جاءت دون تعرّض لها بردّ أو تحريف أو تكييف أو تمثيل أو غير ذلك، ولهذا ندب الله عباده وحثّهم ورغّبهم في مواطن كثيرة من القرآن الكريم على تعلّم أسماء الرب وصفاته والإيمان بها ومعرفتها معرفة صحيحة سليمة.(42/251)
يقول الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاًمَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (1) وقال تعالى: {هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهَ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (2) وقال تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضَ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيء عِلْماً} (3) وقال تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال: {وَاعْلَمُوا اَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (5) وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (6) وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (7) وقال: {وَاعْلَموا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (8) وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9)
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: (180) .
(2) سورة الإسراء، الآية: (110) .
(3) سورة الحشر، الآيات: (22 - 24) .
(4) سورة البقرة، الآية: (209) .
(5) سورة البقرة، الآية: (231) .
(6) سورة البقرة، الآية: (233) .
(7) سورة البقرة، الآية: (235) .
(8) سورة البقرة، الآية: (244) .
(9) سورة البقرة، الآية: (267) .(42/252)
وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرِ} (1) وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} (2) وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (3) وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فهذه الآيات وما في معناها تدلّ أوضح الدلالة على أهمية الإيمان بأسماء الرب - تبارك وتعالى - الحسنى، وصفاته العظيمة، وأنَّ ذلك من أصول الإيمان الراسخة، وأسسه العظيمة التي لا إيمان إلاّ بها، فمن جحدها أو جحد شيئاً منها فليس بمؤمن، كما قال الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ، قال ذلك – سبحانه - في شأن من ينكر اسمه الرحمن، فكيف بمن ينكر أسماءه جميعها أو صفاته كلَّها؟!
وقال تعالى في شأن من شك في صفة واحدة: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مَمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} ، فهؤلاء حصل منهم شك في صفة العلم، فظنوا أنَّ الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم، فترتّب على هذا الظنّ الفاسد والاعتقاد الباطل تردّيهم في مهاوي الباطل وأودية الضلال، فكيف إذاً بمن عنده شك في جميع الصفات أو غالبها؟!
__________
(1) سورة المائدة، الآية: (98) .
(2) سورة الأنفال، الآية: (40) .
(3) سورة البقرة، الآية: (194) .
(4) سورة البقرة، الآية: (235) .(42/253)
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} الآية:"كان رجلان من قريش وخَتَنٌ لهما من ثقيف أو رجلان من ثقيف وخَتَنٌ لهما من قريش في بيت، فقال بعضهم: أترون أنَّ الله يسمع حديثنا؟، قال بعضهم: يسمع بعضه، وقال بعضهم: لئن كان يسمع بعضه لقد يسمع كلّه، فأنزلت: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ} ".
هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: عن ابن مسعود قال:
"اجتمع عند البيت ثلاثة نفر، قرشيّان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليلٌ فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟، وقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا؟، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} ".(42/254)
وقال – تعالى - في شأن من لم ينزّه الله عمّا نزّه عنه نفسه مما لا يليق بجلاله وكماله – سبحانه - من النقائص والعيوب: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} فهؤلاء غلطوا في صفة من صفات التنزيه تنزيه الله عن الولد فهو – سبحانه - الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٌ، وقد وصف الرب – سبحانه - غلطهم هذا بأنَّه {إِدًّا} أي عظيماً بالغ العظمة والخطورة، تكاد السموات على اتّساعها أن تتفطّر منه، والأرض على ترامي أطرافها أن تنشقّ والجبال على قُوَّتها وصلابتها أن تخرَّ هداًّ، كلُّ ذلك بسبب تفوُّه هؤلاء بهذه المقالة الجائرة، المشتملة على هذا الغلط الفاحش في صفة من صفات الرب سبحانه، فكيف الشَّأن بمن كثرت أغلاطهم في هذا الباب، وتنوَّع باطلهم فيه؟!
وروى البخاري ومسلم عن أمِّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سريّة وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"سلوه لأيِّ شيء يصنع ذلك؟ "، فسألوه فقال: لأنَّها صفة الرحمن، وأنا أحبُّ أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أنَّ الله يحبُّه".
وقد دلَّ هذا الحديث على عظم شأن الإيمان بصفات الرب ومحبّتها والحرص على تعلُّمها، وأنَّ ذلك سببٌ عظيمٌ من أسباب دخول الجنة ونيل رضى الرب – سبحانه -.(42/255)
وروى عبد الرزاق في مصنّفه عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال:"ما فَرَقُ هؤلاء؟، يجدون رقّة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه".
وصفات الله الواردة في القرآن والسنة جميعها من المحكم، إلاّ أنَّ هذا الرجل لقلّة علمه وضعف تفريقه اشتبه عليه الأمر فبادر إلى الاستنكار، فأنكر عليه ابن عباس - رضي الله عنهما - ذلك وأخبر أنَّ هذا الاستنكار سبيل هلكه.
والشاهد من جميع ما تقدّم أنَّ الإيمان بأسماء الرب وصفاته الواردة في كتابه وسنة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم يجب الإيمان بها جميعها، والإيمان بها داخل في الإيمان بالله بل هو ركن من أركان الإيمان بالله؛ لأنَّ الإيمان بالله يقوم على أركان ثلاثة هي: الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته، والإيمان بوحدانيته في ألوهيته، والإيمان بوحدانيته في أسمائه وصفاته.(42/256)
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مقدمة العقيدة الواسطية:"ومن الإيمان بالله الإيمانُ بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأنَّ الله – سبحانه - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيِّفون ولا يمثِّلون صفاته بصفات خلقه، لأنه – سبحانه - لا سميّ له ولا كفء ولا ندّ له، ولا يقاس بخلقه - سبحانه وتعالى -، فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه، ثم رسله صادقون مصدَّقون بخلاف الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ولهذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (1) فسبّح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلّم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب.
وهو - سبحانه - قد جمع فيما وصف وسمّى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين".
رابعاً: وأما قوله:"والسؤال عنه بدعة"فلأنَّ السؤال عنه والبحث فيه أمرٌ لم يشرع للعباد، بل دلّت النصوص على عدم إمكان ذلك، وأنَّه لا سبيل إلى العلم به.
ولهذا فإنَّه من خاض فيه وبحث عن علمه يكون قد قال على الله بلا علم، وقد قال الله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .
__________
(1) سورة الشورى، الآية: (11) .(42/257)
وهذا من أعظم المحرّمات، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ ما ظهر منها وما بطن والإِثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .
وقفا ما ليس له به علم، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} .
وتقدّم بعقله القاصر بين يدي الله ورسوله، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
ثم إنَّه قد ورد في القرآن والسنة النهي عن الأسئلة عن الأمور المغيبة، وعن الأمور التي عفا الله عنها فلم يوجبها ولم يحرِّمها، وكذلك عن سؤال التعنُّت والأغلوطات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم".(42/258)
قال الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في شرح هذا الحديث:"ومما يدخل في هذا الحديث السؤال عن كيفية صفات الباري؛ فإنَّ الأمر في الصفات كلّها كما قال الإمام مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء على العرش؟، فقال:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، فمن سأل عن كيفية علم الله، أو كيفية خلقه وتدبيره، قيل له: فكما أنَّ ذات الله – تعالى - لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله ويعرفون ما تعرّف لهم به من صفاته وأفعاله، وأما كيفية ذلك، فلا يعلم تأويله إلاّ الله".
فهذه بعض الشواهد لقول الإمام مالك – رحمه الله – "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، والمقصود هنا هو الإشارة إلى بعض الشواهد فقط، وإلاّ فإنَّ استقصاء ذلك يطول.(42/259)
تابع لأثر المشهور عن الإمام مالك
المبحث الثالث: ذكرُ نظائر هذا الأثر مما جاء عن السلف الصالح
إنَّ لقول الإمام مالك - رحمه الله - هذا نظائرَ كثيرةً جداًّ عند أئمّة السلف وأهل العلم، وسوف أتناول في هذا المبحث - إن شاء الله - ذكر بعض نظائره، لكن يحسن قبل ذلك الإشارةُ إلى أنَّ هذا اللفظ المنقول عن مالك والمشهور عنه - رحمه الله - قد سبقه إليه شيخُه ربيعةُ الرأي، ويُروى قبل ذلك عن أمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لكن من وجه لا يثبت عنها - رضي الله عنها -.
روى اللالكائي في شرح الاعتقاد، والصابوني في عقيدة السلف، وابن قدامة في إثبات صفة العلوّ، والذهبي في العلوّ من طريق أبي كنانة محمد بن الأشرس الورّاق، حدّثنا أبو عمير الحنفي، عن قُرَّة بن خالد عن الحسن، عن أمِّه، عن أمِّ سلمة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} قالت: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر".
قال شيخ الإسلام: "وقد رُوي هذا الجواب عن أمِّ سلمة -رضي الله عنها- موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يُعتمد عليه".
وقال الذهبي: "هذا القول محفوظ عن جماعة كربيعة الرأي، ومالك الإمام، وأبي جعفر الترمذي، فأما عن أم سلمة فلا يصح؛ لأنَّ أبا كنانة ليس بثقة، وأبو عمير لا أعرفه".
وقال الذهبي في ذيل ديوان الضعفاء والمتروكين عن ابن الأشرس: "له مناكير، ليس بشيء".
أما أثرُ ربيعة الرأي فقد رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد وابن قدامة في العلوّ من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "روى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ... "فذكره.(42/260)
ورواه الذهبي في العلوّ من طريق النجَّاد قال: حدّثنا معاذ بن المثنى حدّثني محمد بن بشر حدّثنا سفيان [وهو الثوري] قال: "كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن ... "فذكره.
قال الألباني: "وهو صحيح".
ورواه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عبد الله بن صالح بن مسلم قال: سئل ربيعة الرأي عن قول الله - تبارك وتعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: "الكيف مجهول، والاستواء غير معقول، ويجب عليَّ وعليكم الإيمان بذلك كلِّه".
هكذا لفظه: "الكيف مجهول، والاستواء غير معقول"، وهو مخالف للفظ السابق في الطريقين المتقدِّمين، وفي إسناده عبد الله بن صالح بن مسلم وهو أبو صالح المصري كاتب الليث، قال الحافظ في التقريب: "صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة".
ثم هو أيضاً لم يدرك ربيعة، فقد كان مولده سنة سبع وثلاثين ومائة كما في ترجمته في تهذيب الكمال، وكانت وفاة ربيعة الرأي على الصحيح كما في التقريب لابن حجر سنة ست وثلاثين ومائة.
أورد هذه الآثار الثلاثة - أعني أثر أم سلمة وربيعة ومالك - ابنُ قدامة في كتابه (ذمّ التأويل) ثم قال: "وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى واللفظ، فمن المحتمل أن يكون ربيعة ومالك بلغهما قول أم سلمة فاقتديا بها وقالا مثل قولها لصحته وحسنه وكونه قول إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المحتمل أن يكون الله تعالى وفقهما للصواب وألهمهما من القول السديد مثل ما ألهمها".
وقد تقدّم أنَّ أثر أم سلمة - رضي الله عنها - لم يثبت عنها، فلم يبق إلاّ الاحتمال الثاني وهو أنَّ الله وفقهما للصواب وألهمهما هذا القول السديد، وربما أنَّ مالكاً - رحمه الله - سمعه من شيخه فاقتدى به، أو أنَّه لم يسمعه منه ولكن وُفِّق إليه كما وُفِّق إليه شيخه.
وذكر الذهبي في كتابه الأربعين أنَّ هذا الأثر يروى أيضاً عن وهب بن منبِّه، لكن لم أقف عليه في مصادر التخريج.(42/261)
ويشبه تماماً قولَ ربيعة ومالك هذا قولُ أبي جعفر الترمذي (ت295هـ) - رحمه الله - عندما سُئل عن صفة النزول.
قال الخطيب البغدادي: حدّثني الحسن بن أبي طالب قال: نبّأنا أبو الحسن منصور بن محمد بن منصور القزاز قال: سمعت أبا الطيب أحمد بن عثمان السمسار والد أبي حفص بن شاهين يقول: حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا ... "، فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علوّ؟!، فقال أبو جعفر الترمذي: "النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
وأورده الذهبي في العلوّ، قال الألباني - حفظه الله -: "وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات ... ".
وعلّق الذهبيُّ على هذا الأثر بقوله: "صدق فقيهُ بغداد وعالمُها في زمانه؛ إذ السؤال عن النزول ما هو؟ عيٌّ؛ لأنَّه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة، وإلاّ فالنزول والكلام والسمع والبصر والعلم والاستواء عباراتٌ جليّةٌ واضحةٌ للسامع، فإذا اتّصف بها من ليس كمثله شيء، فالصفة تابعةٌ للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر، وكان هذا الترمذي من بحور العلم ومن العباد الورعين. مات سنة خمس وتسعين ومائتين".
ويشبه هذا الأثر إلى حدٍّ ما ما أجاب به سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) عندما سُئل عن القدر.
قال الحافظ اللالكائي: أخبرنا محمد بن إبراهيم النجيرمي، قال: ثنا أبو عبيد محمد بن عليّ بن حيدرة، قال: ثنا أبو هارون الأُبُلِّي وكان ممن صحب سهل بن عبد الله، وكان رجلاً صالحاً، وكان يُقرئنا القرآن في المسجد الجامع، قال: سُئل سهل بن عبد الله عن القدر، فقال: "الإيمان بالقدر فرضٌ، والتكذيب به كفرٌ، والكلام فيه بدعةٌ، والسكوت عنه سنةٌ".(42/262)
ثم إنَّ لأهل العلم أقوالاً كثيرةً جداًّ مماثلة لقول الإمام مالك هذا، وتُؤدّي إلى مقصوده، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وهكذا سائر الأئمّة قولهم يوافق قول مالك ... ".
ومن أقوال السلف المماثلة لقول مالك ما يلي:
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "روى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: "أمرّوها كما جاءت"، وروى أيضاً عن الوليد ابن مسلم قال: سألت مالك ابن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: "أمرُّوها كما جاءت"،- وفي رواية قالوا: "أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"- وقولهم - رضي الله عنهم -: "أمرّوها كما جاءت" ردٌّ على المعطِّلة، وقولهم: "بلا كيف"ردٌّ على الممثِّلة، والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما ... ".
وأورد أثر مالك وربيعة ثم قال: "فقول ربيعة ومالك الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب"موافق لقول الباقين: "أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرّد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول"، ولما قالوا: "أمرّوها كما جاءت بلا كيف"، فإنَّ الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً، بل مجهول بمنزلة حروف المعجم، وأيضاً فإنَّه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، إنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أُثبتت الصفات.
وأيضاً فإنَّ من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف"، فمن قال: إنَّ الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.(42/263)
وأيضاً فقولهم: "أمرّوها كما جاءت"يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالَّة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمرّوا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ الله لا يوصف بما دلّت عليه حقيقةً، وحينئذ تكون قد أُمرَّت كما جاءت، ولا يقال حينئذٍ: "بلا كيف"، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول.
وروى الأثرم في السنة وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون - وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم: مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب - وقد سُئل عما جحدت به الجهمية: "أما بعد فقد فهمتُ ما سألتَ فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر، وكلّت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أُمروا بالنظر والتفكير، فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: "كيف"لمن لم يكن مرّة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلاّ هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ، ومن لا يموت ولا يبلى؟، وكيف يكون لصفته شيء منه حدٌّ أو منتهى يعرفه عارف، أو يحدُّ قدره واصف؟، على أنَّه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغراً، يحول ويزول، ولا يُرى له سمع ولا بصر، لما يتقلّب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم، وسيِّد السادة، وربُّهم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.(42/264)
اعرف - رحمك الله - غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلّفك علم ما لم يصف؟!، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته؟، أو تزجر به عن شيء من معصيته؟ …".
إلى أن قال: "فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم تتكلّف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، ولا نجحد ما وصف، ولا نتكلّف معرفة ما لم يصف …"، إلى آخر كلامه - رحمه الله -.
2- وقال إسماعيل بن علي الأبلي: سمعت سهل بن عبد الله بالبصرة سنة ثمانين ومئتين يقول: "العقل وحده لا يدل على قديم أزليّ فوق عرش محدث، نصبه الحق دلالة وعلَماً لنا لتهتدي القلوب به إليه ولا تتجاوزه، ولم يكلّف القلوبَ علم ماهية هُويّته، فلا كيف لاستوائه عليه، ولا يجوز أن يُقال: كيف الاستواء لمن أوجد الاستواء؟، وإنَّما على المؤمن الرضى والتسليم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّه على عرشه"، وقال: إنَّما سُمي الزنديق زنديقاً؛ لأنَّه وَزَن دِقَّ الكلام بمخبول عقله وقياس هوى طبعه، وترك الأثر والاقتداء بالسنة، وتأوّل القرآن بالهوى، فسبحان من لا تكيّفه الأوهام، في كلام نحو هذا".
3- وقال الإمام أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر: "فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذِكر الوجه واليد والنفس فهو له صفاتٌ بلا كيف، ولا يُقال إنَّ يده قدرته أو نعمته؛ لأنَّ فيه إبطال الصفة، هو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفتُه بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف".(42/265)
4- وروى الأثرم في كتاب السنة حدّثنا إبراهيم بن الحارث يعني العبادي، حدّثني الليث بن يحيى، قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر صاحب الفضيل: سمعت الفضيل بن عياض يقول: "ليس لنا أن نتوهّم في الله كيف وكيف؛ لأنَّ الله وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، فلا صفة أبلغ مما وصف الله به نفسه، وكذا النزول والضحك والمباهاة والاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهّم كيف وكيف، وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب ينزل عن مكانه، فقل أنت: أنا أومن برب يفعل ما يشاء".
5- وعن سلمويه بن عاصم قاضي هجر قال: "كتب بشر المريسي إلى منصور بن عمار يسأله عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، فكتب إليه: استواؤه غير محدود، والجواب فيه تكلّف، ومسألتك عن ذلك بدعة، والإيمان بجملة ذلك واجب، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ".
6- وسئل أبو علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء وقيل له: كيف استوى على عرشه؟، فقال: "أنا لا أعرف من أنباء الغيب إلاَّ مقدار ما كُشف لنا، وقد أعلمنا جلّ ذكره انَّه استوى على عرشه ولم يخبرنا كيف استوى".(42/266)
7- وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: "أما الكلام في الصفات، فإنَّ ما روي منها في السنن الصحاح، مذهبُ السلف إثباتُها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قومٌ فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصدُ إنَّما هو سلوك الطريقة المتوسّطة بين الأمرين، ودينُ الله تعالى بين الغالي فيه والمقصِّر عنه، والأصلُ في هذا أنَّ الكلام في الصفات فرعُ الكلام في الذات، ويُحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً أنَّ إثبات ربِّ العالمين إنّما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنَّما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: لله يدٌ وسمعٌ وبصرٌ، فإنَّما هي صفاتٌ أثبتها الله لنفسه، ولا نقول: إنَّ معنى اليد القدرة، ولا إنَّ معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنَّها جوارح، ولا نشبّهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارحُ وأدوات للفعل، ونقول: إنَّما وجب إثباتها؛ لأنَّ التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ".(42/267)
8- وقال أبو منصور معمر بن أحمد: "ولما رأيت غربة السنة، وكثرة الحوادث واتباع الأهواء أحببت أن أوصي أصحابي وسائر المسلمين بوصية من السنة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من السلف المتقدّمين، والبقية من المتأخرين ... - فذكر أموراً - ثم قال: وأنَّ الله عز وجل استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فالاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، والإيمان به واجب، والإنكار له كفر، وأنَّه – جلّ جلاله - مستوٍ على عرشه بلا كيف، وأنَّه - جلَّ جلاله - بائنٌ من خلقه والخلق بائنون منه، فلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنَّه الفرد البائن من خلقه، الواحد الغني عن الخلق، علمه بكلِّ مكان، ولا يخلو من علمه مكان".
9- وقال ابن قتيبة: "وعدلُ القول في هذه الأخبار أن نؤمن بما صحّ منها بنقل الثقات لها، فنؤمن بالرؤية والتجلي، وأنَّه يعجب وينزل إلى السماء الدنيا، وأنَّه على العرش استوى وبالنفس واليدين من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو بحدّ أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت، فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غداً - إن شاء الله تعالى -".
والآثار في هذا المعنى عن السلف مستفيضة، وممّا روي في هذا المعنى - لكن لم أقف له على إسناد - ما روي عن الشافعي أنَّه قال - لما سئل عن الاستواء -: "آمنت بلا تشبيه، وصدّقت بلا تمثيل، واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض غاية الإمساك".
وعن أحمد أنّه قال: (استوى كما ذكر لا كما يخطر للبشر"، والله أعلم.
ومن جميل ما قيل في هذا شعراً قول الناظم:
"على عرشه الرحمن سبحانه استوى
كما أخبر القرآن والمصطفى روى
وذاك استواء لائق بجلاله
وأبرأ من قولي له العرش قد حوى
فمن قال مثلَ الفلك كان استواؤه
على جبل الجودي من شاهق هوى
ومن يتبع ما قد تشابه يبتغي
به فتنة أو يبغِ تأويله غوى
فلم أقل: استولى ولست مكلّفاً(42/268)
بتأويله كلاَّ ولم أقل احتوى
ومن قال لي كيف استوى؟، لا أجيبه
بشيء سوى أني أقول له: استوى".
المبحث الرابع: ذكر كلام أهل العلم في التنويه بهذا الأثر وتأكيدهم على أهميته، وجعله قاعدة من قواعد توحيد الأسماء والصفات
لا ريب في صحة هذا الأثر وثبوته عن إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -، وحسنه وقوّة دلالته، وقد تلقّاه أهل العلم بالقبول، واستحسنوه واستجادوه، واعتبروه من أحسن جواب وأنبل جواب قيل في هذه المسألة، وجعلوه قاعدة من قواعد توحيد الأسماء والصفات تطبق في جميع الصفات، فيُقال في كلِّ صفة ما قاله الإمام مالك - رحمه الله - في صفة الاستواء، وقد سبق أن مرّ معنا في مبحث مستقلّ تخريج هذا الأثر وبيان ثبوته عن الإمام مالك - رحمه الله -.
وسأتناول في هذا المبحث أمرين:
1- ذكر بعض النقول عن أهل العلم في استحسانه والثناء عليه.
2- ذكر بعض النقول عنهم في عدِّهم له قاعدة من قواعد توحيد الأسماء والصفات.
أولاً: أما كلام أهل العلم في استحسانه واستجادته وتلقيه بالقبول فكثير جدًّا، ولهذا لا يخلو في الغالب كتاب من كتب العقيدة لأهل السنة والجماعة من ذكر هذا الأثر والاستشهاد به والثناء عليه.
ومما جاء عن أهل العلم في الثناء على هذا الأثر واستحسانه ما يلي:
1- قال الإمام أبو سعيد الدارمي عقِب روايته لهذا الأثر في كتابه الرد على الجهمية: "وصدق مالك، لا يُعقل منه كيف، ولا يُجهل منه الاستواء، والقرآن ينطق ببعض ذلك في غير آية".
2- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعاباً؛ لأنَّ فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتمَّ أهل العلم بقوله واستجادوه واستحسنوه".
وقال أيضاً: "وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره ".(42/269)
وقال أيضاً: "فإنَّه قد رُوي من غير وجه أنَّ سائلاً سأل مالكاً عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، ثم أمر به فأُخرج، ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد رُوي هذا الجواب عن أمِّ سلمة - رضي الله عنها - موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يُعتمد عليه، وهكذا سائر الأئمة قولهم يُوافق قول مالك في أنّا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته، ولكن نعلم المعنى الذي دلَّ عليه الخطاب، فنعلم معنى الاستواء، ولا نعلم كيفيته، وكذلك نعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته، ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة، ولا نعلم كيفية ذلك، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك".
3- وقال الذهبي - رحمه الله -: "هذا ثابت عن مالك، وتقدّم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة: أنَّ كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأنَّ استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنَّه كما يليق به، ولا نتعمّق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنَّه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أنَّ الله - جلَّ جلاله - لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً".(42/270)
4- وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية: (ومما استُحسن من كلام مالك أنَّه سُئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلتُجرَ آية الاستواء والمجيء وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (1) وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا".
5- وقال الإمام البغوي في تفسيره: "فأمَّا أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة الله تعالى بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكِلُ العلم فيه إلى الله عز وجل، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، فأطرق رأسه مليًّا وعلاه الرَّحضاء ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلاَّ ضالاًّ، ثم أمر به فأُخرج، وروي عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات: أمِرُّها كما جاءت بلا كيف".
6- وقال ملا علي القاري: "ونِعم ما قال الإمام مالك
- رحمه الله - حيث سُئل عن ذلك الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وهذه طريقة السلف وهي أسلم، والله أعلم".
ومع ذلك فقد قال بعض جُهّال المعاصرين بعد محاولة فاشلة لتضعيف هذا الأثر: "وعلى أيٍّ فالقضية تبقى رأياً من عالم غير ملزم للناس ولا قاطع للجدل والفهم، ولا محدد لفهم واحد، بل لكلّ متّسع فيما يرى".
فالجهمي له متسع، والمعتزلي له متسع، والأشعري له متّسع، فالله وحده المستعان.
__________
(1) سورة ص، الآية: (75) .
(2) سورة الرحمن، الآية: (27) .(42/271)
ثانياً: أما عدّ أهل العلم لهذا الأثر قاعدة من قواعد توحيد الأسماء والصفات فمن ذلك:
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟، قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما - رضي الله عنهما -: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنَّه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربّنا إلى السماء الدنيا؟، قيل له: كيف هو؟، فإذا قال: لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره، وتكليمه، واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته"؟! .
وقال أيضاً: "ومن أوَّل الاستواء بالاستلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك وسلك غير سبيله، وهذا الجواب من مالك –رحمه الله- في الاستواء شافٍ كافٍ في جميع الصفات مثل: النزول والمجيء، واليد، والوجه، وغيرها، فيقال في مثل النزول: النزول، معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يُقال في سائر الصفات؛ إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة".
2- وقال العلاّمة ابن القيم رحمه الله: "وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شافٍ، عامّ في جميع مسائل الصفات، فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأرَى} كيف يسمع ويرى؟، أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقول، وكذلك من سأل عن العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والنزول، والغضب، والرضى، والرحمة، والضحك، وغير ذلك، فمعانيها كلها مفهومة، وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقُّل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟!.(42/272)
والعصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل تثبِتُ له الأسماء والصفات، وتنفِي عنه مشابهة المخلوقات.
فيكون إثباتُك منزَّهاً عن التشبيه، ونفيُك منزَّهاً عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطِّل، ومن شبّهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثِّل، ومن قال: استواء ليس كمثله شيءٌ فهو الموحِّد المنزِّه.
وهكذا الكلام في السمع والبصر والحياة والإرادة والقدرة واليد والوجه والرضى والغضب والنزول والضحك، وسائر ما وصف الله به نفسه".
3- وقال الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "سُئل الإمام مالك - رحمه الله - وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف الاستواء؟، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فبيّن أنَ الاستواء معلوم، وأنَّ كيفية ذلك مجهول، وهكذا يُقال في كلِّ ما وصف الله به نفسه".
4 - وقال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي: "واعلموا أنّ آيات الصفات كثير من الناس يُطلق عليها اسم المتشابه وهذا من جهة غلطٌ، ومن جهة قد يسوغ كما يثبته الإمام مالك بن أنس، أما المعاني فهي معروفة عند العرب كما قال الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة"، كذلك يقال في النزول: النزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، واطّرده في جميع الصفات؛ لأنَّ هذه الصفات معروفة عند العرب، إلاّ أنَّ ما وصف به خالق السموات والأرض منها أكمل وأجلّ وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين، كما أنَّ ذات الخالق - جلّ وعلا - حق والمخلوقون لهم ذوات، وذات الخالق - جلّ وعلا - أكمل وأنزه وأجلّ من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين".(42/273)
وللبحث صلة تأتي في العدد القادم إن شاء الله تعالى وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(42/274)
بحث في إجابة الدعوة
إعداد
د. إبراهيم بن علي بن عبيد العبيد
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
الجامعة الإسلامية - المدينة النبوية
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .
أما بعد:
فإن الدعوات في هذا العصر قد كثرت وأصبح الكثير لا يدري ما يأتي منها وما يذر سواء كانت لعرس أو إملاك أو عقيقة أو حضور ضيف أو غير ذلك.
وأصبح البعض الآخر في حرج من عدم الإجابة فأحببت أن أدلي بدلوي في هذا الباب ببحث هذه المسألة بجمع أدلتها مع تخريجها والحكم عليها وبيان أقوال أهل العلم فيها ومناقشتها وبيان الراجح منها حسب مايظهر لي وسميته:
(إجابة الدعوة)
وجعلته في مقدمة ومبحثين:
المبحث الأول: حكم إجابة الدعوة.
المبحث الثاني: الأكل لمن دعي إذا حضر.
وخاتمة تشتمل على أهم النتائج في هذا البحث.
هذا وقد بذلت جهدي في إخراج هذا البحث فما كان فيه من صواب فمن توفيق الله وما كان فيه من خطأ فأسأل الله العفو والتوفيق للصواب.
__________
(1) آل عمران (102) .
(2) النساء (1) .
(3) الأحزاب (70،71) .(42/275)
والله أسأل أن ينفع به وأن يعظم به الأجر إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
إبراهيم بن علي عبيد العبيد
المدينة النبوية
في 1/1/1417هـ
المبحث الأول: حكم إجابة الدعوة
عند تأمل الأحاديث الواردة في هذه المسألة نجد أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم إجابة الدعوة إذا دعي إليها حتى لو دعي إلى كراع كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم وقد تعددت الأحاديث القولية والفعلية في ذلك واختلفت دلالتها فبعضها ظاهر في الوجوب مطلقاً، وبعضها ظاهر في الوجوب في وليمة العرس، وبعضها ظاهر في السنية ولهذا اختلفت مذاهب أهل العلم في ذلك على أقوال هي:
القول الأول:
وجوب إجابة الدعوة مطلقاً سواء كانت عرساً أو غيره وممن قال بهذا: بعض الشافعية وأهل الظاهر وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة والشوكاني وابن حزم، وقال: إن هذا قول جمهور الصحابة والتابعين.
لكن تعقبه العراقي فقال: وادعى ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين وفي ذلك نظر.
وقال الحافظ ابن حجر: وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين ويعكر عليه مانقلناه عن عثمان بن أبي العاص وهو من مشاهير الصحابة أنه قال في وليمة الختان: "لم يكن يدعى لها"لكن يمكن الانفصال عنه بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دعوا ...
أدلة هذا القول:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وفي لفظ لمسلم مرفوعاً جميعه.
وفي الباب عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم.
ووجه الدلالة منه أن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب والوليمة تشمل العرس وغيره.
2- حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها".(42/276)
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
وفي لفظ متفق عليه "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها". قال: وكان عبد الله يأتي الدعوة في العرس وغير العرس ويأتيها وهو صائم".
وفي لفظ لمسلم وأبي داود "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه".
وله ألفاظ أخر.
ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإجابة الوليمة والدعوة والأصل في الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف، وقالوا إن الوليمة والدعوة تشمل العرس وغيره ويؤيد هذا رواية مسلم وغيره "عرساً كان أو نحوه" وأن عبد الله بن عمر وهو راوي الحديث كان يأتي الدعوة في العرس وهو صائم.
وفي لفظ لأبي داود، وابن عدي، والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله ومن دخل على غير دعوة دخل سارقاً وخرج مغيراً".
وفي هذا اللفظ قال: "من دعي فلم يجب" ولم يخصها بالوليمة.
وفي لفظ لأبي يعلي "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجبها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".
ووجه الدلالة أنه سمى من لم يجب الدعوة عاصياً لله ولرسوله.
قال ابن حزم: فإن قيل قد جاء في بعض الآثار "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب" قلنا نعم لكن الآثار التي أوردنا فيها زيادة غير العرس مع العرس وزيادة العدل لايحل تركها.
3- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بإتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والحرير، والديباح، والقسى، والإستبرق".
أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي.
وفي الباب عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكوا العاني، وأجيبوا الداعي وعودوا المريض" أخرجه البخاري.(42/277)
ووجه الدلالة منهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإجابة الداعي مطلقاً والأصل في الأمر الوجوب.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه.
وفي لفظ لمسلم أيضاً، ولفظ أبي داود "خمس تجب للمسلم على أخيه".
وفي الباب عن علي، وأبي مسعود، وأبي أيوب رضي الله عنهم.
ووجه الدلالة أن المراد بالحق الوجوب بدليل رواية مسلم وأبي داود.
قال الحافظ: "وقد تبين أن معنى الحق هنا الوجوب خلافاً لقول ابن بطال المراد حق الحرمة والصحبة والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية".اه
وحديث أبي أيوب نص في الوجوب لو صح لكنه ضعيف.
5- حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعاكم فأجيبوه".
أخرجه الطبراني في الكبير.
ووجه الدلالة ظاهرة كالدليل الثاني.
6- حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين".
أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، والبزار، والطحاوي، وابن حبان، والطبراني.
ووجه الدلالة منه ظاهرة كالدليل الثاني.
7- حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك".
أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
وأخرجه ابن ماجه وزاد "وهو صائم" وفي الباب عن أبي هريرة، وابن مسعود.
ووجه الدلالة أن هذا أمر والأصل في الأمر الوجوب.(42/278)
8- عن عكرمة بن عمار سمعت أبا غادية اليمامي قال: "أتيت المدينة فجاء رسول كثير بن الصلت فدعاهم فما قام إلا أبو هريرة وخمسة منهم أنا فذهبوا فأكلوا ثم جاء أبو هريرة ثم قال: والله يا أهل المسجد إنكم لعصاة لأبي القاسم صلى الله عليه وسلم".
أخرجه أحمد.
ووجه الدلالة ظاهرة حيث سمى من لم يجب عاصياً.
9- حديث عياض بن أشرس السلمي قال: رأيت يعلي بن مرة دعوته إلى مأدبة فقعد صائماً فجعل الناس يأكلون ولا يطعم فقلت له: والله لو علمنا أنك صائم ما عتبناك قال: لا تقولوا ذلك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب أخاك فإنك منه على اثنتين إما خير فأحق ما شهدته، وإما غيره فتنهاه عنه وتأمره بالخير".
أخرجه الطبراني في الكبير.
ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإجابة الدعوة.
قال الشوكاني: "والظاهر الوجوب للأوامر الواردة بالإجابة من غير صارف لها من الوجوب ولجعل الذي لم يجب عاصياً وهذا في وليمة النكاح في غاية الظهور وأما في غيرها من الولائم الآتية فإن صدق عليها اسم الوليمة شرعاً كما سلف في أول الباب كانت الإجابة إليها واجبة ... ".
وقال أيضاً: ولكن الحق ما ذهب إليه الأولون يعني القول بالوجوب.
القول الثاني:
أن إجابة الدعوة سنة مطلقاً في العرس وغيره وممن قال بهذا القول:
بعض الشافعية والحنابلة وذكر اللخمي من المالكية أنه المذهب وابن عبد البر.
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بعموم أدلة أصحاب القول الأول وأنها تدل على السنية واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان هدْيُهُ إجابة الدعوة كما ورد في أحاديث كثيرة منها:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو دعيت إلى كُراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ كراع لقبلت".
أخرجه البخاري، والنسائي، ولفظه "لو دعيت إلى كراع أو إلى ذراع ولو أهدي إلىَّ ذراع أو كراع لقبلت" وفي الباب عن أنس وابن عباس رضي الله عنهم.(42/279)
2- حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه وكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهى العروس، قال سهل: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقعت له تمرات من الليل فلما أكل سقته إياه".
أخرجه البخاري، ومسلم، وفي الباب عن أنس، وأبي طلحة رضي الله عنهما.
3- حديث أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف ليف".
أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، والبيهقي.
4- حديث أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب ولقد كان له درع عند يهودي فما وجد ما يفكها حتى مات".
أخرجه الترمذي في الشمائل، وأبو يعلي، وأبو الشيخ.
وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو إجابة الدعوة وهذا فعل وهو يدل على السنية.
القول الثالث:
التفصيل وهو أن إجابة الدعوة تجب في العرس دون غيره.
وممن قال بهذا: مالك والثوري والشافعي والخطابي والعنبري والحنفية وجمهور الحنابلة وجمهور الشافعية وهو المشهور عنهم وبالغ السرخسي منهم فنقل الإجماع وهو قول الجمهور.
ونقل القاضي عياض وغيره الاتفاق على وجوب الإجابة في وليمة العرس.
لكن اعترض على هذا النقل الحافظ ابن حجر فقال: "وقد نقل ابن عبد البر ثم عياض ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة إلى وليمة العرس وفيه نظر نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب وصرح جمهور الشافعية والحنابلة أنها فرض عين ونص عليه مالك وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة وذكر اللخمي من المالكية أنه المذهب ... ".
أدلة هذا القول:(42/280)
1- عموم أحاديث الباب وأنها تدل على السنية إلا ما نص عليه وهو وليمة العرس.
2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله".
ووجه الدلالة منه أن هذا الحديث يدل على وجوب إجابة وليمة العرس دون غيرها لأن الوليمة المراد بها وليمة العرس إذا أطلقت دون غيرها وهذا الدليل هو الذي خصص دعوة وليمة العرس بالوجوب دون غيرها من الدعوات فتبقى على السنية.
3- حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها".
وفي لفظ "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجبها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (1) .
ووجه الدلالة أن المراد بالوليمة هي وليمة العرس كما تقدم وما ورد في بعض ألفاظه "الدعوة" فالألف واللام للعهد والمراد بها وليمة العرس.
4- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "الوليمة حق وسنة فمن دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله والخُرس والإعذار والتوكير أنت فيه بالخيار".
قال قلت: إني والله لا أدري ما الخرس والإعذار والتوكير؟ قال: الخرس الولادة والإعذار الختان، والتوكير الرجل يبني الدار وينزل في القوم فيجعل الطعام فيدعوهم فهم بالخيار إن شاؤا جاؤا، وإن شاؤا قعدوا".
أخرجه الطبراني في الأوسط.
ووجه الدلالة منه أنه فرق بين دعوة الوليمة وغيرها وسمى من لم يجب في الوليمة عاصياً أما غيرها فهو بالخيار.
القول الرابع:
أن إجابة وليمة العرس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
وممن قال بهذا: بعض الشافعية والحنابلة.
أدلة هذا القول:
عموم الأدلة السابقة وقالوا إن الإجابة إكرام وموالاة فهي كرد السلام.
القول الخامس:
أن إجابة الدعوة تسن في العرس وتباح في غيره، حكاه العراقي عن بعض الحنابلة.
المناقشة:
__________
(1) تقدم تخريجه في القول الأول الدليل الثاني.(42/281)
بعد استعراض الأقوال في هذه المسألة اتضح أن الأقوال فيها خمسة المشهور منها ثلاثة: الوجوب والسنية والتفصيل وإن كان كل قول منها لا يسلم من اعتراض لكن قد يكون الاعتراض له حظ من النظر وقد لا يكون له حظ من النظر وفي هذا المبحث أود أن أورد فيه الاعتراضات الواردة على أدلة كل قول ومناقشتها قدر الإمكان مع ذكر أقوال أهل العلم في ذلك فأقول:
مناقشة أدلة أصحاب القول الأول:
نوقشت أدلة أصحاب القول الأول.
أما الدليل الأول وهو حديث أبي هريرة فاعترض عليه من وجهين:
الأول: بأن المراد به وليمة العرس وذلك لأن الوليمة إذا أطلقت فالمراد بها وليمة العرس.
قال الحافظ ابن حجر: عقب تبويب البخاري "باب حق إجابة الوليمة والدعوة": كذا عطف الدعوة على الوليمة فأشار بذلك إلى أن الوليمة مختصة بطعام العرس ويكون عطف الدعوة عليها من العام بعد الخاص وقد تقدم بيان الاختلاف في وقته.
وأما اختصاص اسم الوليمة به فهو قول أهل اللغة فيما نقله عنهم ابن عبد البر وهو المنقول عن الخليل بن أحمد وثعلب وغيرهما وجزم به الجوهري وابن الأثير وقال صاحب المحكم: الوليمة طعام العرس والإملاك، وقيل كل طعام صنع لعرس وغيره.
وقال عياض في المشارق: الوليمة طعام النكاح وقيل: الإملاك وقيل: طعام العرس خاصة.
وقال الشافعي وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختان أو غيرهما، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح وتقيد في غيره فيقال: وليمة الختان ونحو ذلك.
وقال الأزهري: الوليمة مأخوذة من الوَلم الجمع وزناً ومعنى لأن الزوجين يجتمعان.
وقال ابن الأعرابي: أصلها من تتم الشيء واجتماعه.
وجزم الماوردي ثم القرطبي بأنها لا تطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة وأما الدعوة فهي أعم من الوليمة ... اه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الوليمة تختص بطعام العرس في مقتضى كلام أحمد في رواية المروذي.(42/282)
وقيل: تطلق على كل طعام لسرور حادث وقاله القاضي في الجامع وقيل: تطلق على ذلك إلا أنه في العرس أظهر.
وقال العراقي: اختلف العلماء وأهل اللغة في الوليمة والمشهور اختصاصها بطعام العرس ... ثم ساق نحو كلام الحافظ السابق.
وقال في القاموس: الوليمة طعام العرس أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها وأَوْلَم صنعها.
قال ابن رسلان: وقول أهل اللغة أقوى لأنهم أهل اللسان وهم أعرف بموضوعات اللغة وأعلم بلسان العرب.
وقال الشوكاني: عقب دلالة هذا الحديث: "والظاهر الوجوب للأوامر الواردة بالإجابة من غير صارف لها عن الوجوب ولجعل الذي لم يجب عاصياً وهذا في النكاح في غاية الظهور وأما في غيرها من الولائم الآتية فإن صدق عليها اسم الوليمة شرعاً كما سلف في أول الباب كانت الإجابة إليها واجبة".
وقال أيضاً: ويمكن أن يقال: الوليمة في اللغة وليمة العرس فقط وفي الشرع للولائم المشروعة. اه.
وبعد إيراد هذه النقول يظهر لنا أن المشهور عند أهل اللغة وغيرهم أن الوليمة لا تطلق إلا على وليمة العرس فقط وعلى هذا لا يكون في الحديث دلالة على الوجوب إلا في وليمة العرس فقط.
قال الطحاوي: فتأملنا هذا الحديث - يعني حديث أبي هريرة - لنقف على معناه الذي أريد به إن شاء الله فوجدنا الطعام المقصود بما ذكر إليه فيه هو الوليمة وكانت صنفاً من الأطعمة لأن في الأطعمة أصنافاً سواها نحن ذاكروها في هذا الباب إن شاء الله وهو ما سمعت أحمد بن أبي عمران يقول: كانت العرب تسمى الطعام الذي يطعمه الرجل إذا ولد له مولود طعام الخرس وتسمى طعام الختان طعام الأعذار. يقولون: قد أعذر على ولده.
وإذا بنى الرجل داراً أو اشتراها فأطعم قيل طعام الوكيرة أي من الوكر.
وإذا قدم من سفر فأطعم قيل طعام النقيعة.
قال: وأنشد أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم
ضرب القدار نقيعة القدام(42/283)
قال: والقدار الجزار والقدام القادمون يقال قادم وقدّام كما يقال كاتب وكتاب.
وطعام المأتم يقال له طعام الهضيمة قال لنا ابن أبي عمران: وأنشدني الحسن بن عمرو الوائلي لأم حكيم بنت عبد المطلب لأبيها:
كفى قومه نائبات الخطوب
في آخر الدهر والأول
طعام الهضائم والمأدبات
وحمل عن الغارم المثقل
وطعام الدعوة: طعام المأدبة قال لي ابن أبي عمران: وما سمعت طعام الهضيمة من أصحابنا البغداديين وإنما سمعته بالبصرة من أهل اللغة بها.
قال أبو جعفر: وطعام الوليمة خلاف هذه الأطعمة وفي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام الذي قصد به إليه فيه ما قد دل أنه حكمه في الدعاء إليه خلاف غيره من الأطعمة المدعى إليها ولولا ذلك لاكتفى بذكر الطعام ولم يقصد إلى اسم من أسمائه فيذكره به ويدع ما سواه من أسمائه فلا يذكرها.
فنظرنا في المعنى الذي به حكم ذلك الطعام من حكم ما سواه من الأطعمة فوجدنا أبا أمية وإبراهيم بن أبي داود قد حدثانا قالا: ... ثم ذكر حديث "لابد للعرس من وليمة" وقال: فكان في هذا الحديث إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لابد للعرس من وليمة ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن عوف "أولم ولو بشاة" وقال: فكان هذا الحديث أيضاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف لما تزوج أن يولم ثم ذكر حديث "الوليمة حق والثاني معروف والثالث رياء وسمعة".
وقال: فكان في هذا الحديث إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوليمة حق وفرّق بين حكمها في الأيام الثلاثة فجعلها في أول يوم محموداً عليها أهلها لأنهم فعلوا حقاً.
وجعلها في اليوم الثاني معروفاً لأنه قد يصل إليها في اليوم الثاني من عسى أن لا يكون وصل إليها في اليوم الأول ممن في وصله إليها من الثواب لأهلها مالهم في ذلك.(42/284)
وجعلها في اليوم الثالث بخلاف ذلك لأنه جعلها رياء وسمعة وكان معلوماً أن من دعي إلى الحق فعليه أن يجيب إليه وأن من دعي إلى معروف فله أن يجيب إليه وليس عليه أن يجيب إليه وأن من دعي إلى الرياء والسمعة فعليه أن لا يجيب إليه.
وفي ذلك ما قد دل على أن من الأطعمة التي يدعى إليها ما للمدعو إليه أن لا يأتيه وأن منها ما على المدعو إليه أن يأتيه. اه.
وأما قوله في آخر الحديث: "ومن ترك الدعوة" فقال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن اللام في الدعوة للعهد من الوليمة المذكورة أولاً. وقد تقدم أن الوليمة إذا أطلقت حملت على طعام العرس بخلاف سائر الولائم فإنها تقيد. اه.
الوجه الثاني:
ما حكاه ابن عبد البر بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله" قال على أنه يحتمل والله أعلم من لم ير إتيان الدعوة فقد عصى الله ورسوله وهذا أحسن وجه حمل عليه هذا الحديث إن شاء الله. اه.
وفي هذا نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق العصيان على عدم الإتيان لا على الاعتقاد والأصل حمل اللفظ على حقيقته إلا بقرينة تدل على أن هذا الظاهر غير مراد.
وأما الدليل الثاني وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه نوقش من وجهين هما:
الأول: أن يقال إن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" المراد به وليمة العرس كما تقدم بيان ذلك في الجواب عن حديث أبي هريرة.
وأما رواية "أجيبوا هذه الدعوة" فقال الحافظ ابن حجر: وهذه اللام يحتمل أن تكون للعهد والمراد وليمة العرس ويؤيده رواية ابن عمر الأخرى "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" وقد تقرر أن الحديث الواحد إذا تعددت ألفاظه وأمكن حمل بعضها على بعض تعين ذلك، ويحتمل أن تكون اللام للعموم وهو الذي فهمه راوي الحديث فكان يأتي الدعوة للعرس ولغيره"اه.(42/285)
وأما رواية أبي داود وابن عدي والبيهقي "من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله ... " فإنها تدل على العموم وعدم التخصيص بالعرس لكنها ضعيفة كما تقدم بيان ذلك.
لكنه ورد عند أبي يعلي وصححه الحافظ بلفظ "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجبها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".
فجعل العصيان مقيداً بمن لم يجب دعوة الوليمة لا كل دعوة.
وأما رواية "عرساً كان أو نحوه" فإنها تدل على عدم التخصيص بوليمة العرس لأنه قال أو نحوه لكن يمكن أن يجاب عنه:
بأن يقال هذه الرواية تدل على أنه لا يجب إجابة كل دعوة وذلك لأن الحديث أمر بإجابة دعوة العرس ونحوه فما المراد بهذا النحو؟ فهل المراد به نحوه من حيث الكبر أو غير ذلك؟ إلا أن يقال بينه فهم ابن عمر وأنه كان يأتي في العرس وغير العرس لكن هذا لا يدل على الوجوب أيضاً لأن تطبيق ابن عمر للإتيان إنما هو لكونه مأموراً بهذا ولو كان على سبيل الاستحباب، لما عُرف عنه من شدة تحريه للسنة وقد يكون أخذ إتيان وليمة العرس من هذا الحديث وغير وليمة العرس من أحاديث أُخر كحديث البراء وغيره ففعله لا يدل على وجوب الجميع والله أعلم.
وقال الطحاوي: قد يحتمل أن يكون ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد يحتمل أن يكون من كلام رواة هذين الخبرين.
وقد روى حديث ابن عمر هذا جماعة عن نافع بغير ذكر هذا المعنى الذي هو خلاف العرس ثم ساقه من طريق عمر بن محمد العمري عن نافع بلفظ "إذا دعيتم فأجيبوا".
ومن طريق موسي بن عقبة عن نافع بلفظ "أجيبوا الدعوة إذا دعيتم لها".
ومن طريق أيوب السختياني عن نافع بلفظ "ائتوا الدعوة إذا دعيتم".
ثم قال: فاحتمل أن تكون تلك الدعوة المرادة في هذه الآثار هي الدعوة المذكورة في الآثار الأول فتتفق هذه الآثار ولا تختلف فنظرنا هل رُوي شيء يدل على أنها تلك الدعوة كما ذكرنا؟(42/286)
فوجدنا يونس قد حدثنا قال أنبأنا ابن وهب أن مالكاً أخبره عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" فبين هذا الحديث أن الذي يجب إتيانه من الأطعمة التي يدعى إليها في أحاديث ابن عمر هى هذه الوليمة ... "اه.
تنبيه:
قال ابن عبد البر: قد رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر فقال فيه "عرساً كان أو غيره" ذكره عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم أخاه فليجبه عرساً كان أو غيره" وذكر أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الرزاق بإسناده مثله وقال: "عرساً كان أو دعوة" قال أبو داود: وكذلك رواه الزبيدي عن نافع مثل حديث معمر عن أيوب ومعناه سواء ... "اه.
ففي هذه الرواية التي ذكرها ابن عبد البر وعزاها لأبي داود وكذا لعبد الرزاق يبطل التأويل السابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "عرساً كان أو نحوه" فإن رواية أبي داود وعبد الرزاق تدل على العموم في العرس وغيره إلا أن هذه الرواية التي ذكرها ابن عبد البر وعزاها لأبي داود وعبد الرزاق لم أجدها عندهما بهذا اللفظ بل عندهما بلفظ "عرساً كان أو نحوه" من نفس الطريق التي ذكرها ابن عبد البر فليتأمل ذلك لعله في نسخ أخرى غير هذه أو تكون تصحيفاً، إلا أن يقال لو صحت حملت على حديث البراء وغيره لأنه لم يرتب العصيان على من لم يجب في هذه الرواية والله أعلم.
الوجه الثاني:
حمل المطلق على المقيد وذلك أنه ورد في بعض روايات هذا الحديث إطلاق الوليمة وفي بعضها قال "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجيب" كما عند مسلم وغيره.(42/287)
قال النووي عقب هذه الرواية: قد يحتج به من يخصص وجوب الإجابة بوليمة العرس ويتعلق الآخرون بالروايات المطلقة ولقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذه "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه" ويحملون هذا على الغالب أو نحوه من التأويل.
وقال العراقي: ويدل على عدم الوجوب في غير وليمة العرس التقييد في بعض الروايات بقوله "وليمة عرس" وقد تقدم ذكرها فيحمل المطلق على المقيد.
وقد تعقب الشوكاني هذا الوجه فقال: لا يقال ينبغي حمل مطلق الوليمة على الوليمة المقيدة بالعرس كما وقع في رواية حديث ابن عمر المذكورة بلفظ "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب" لأنا نقول ذلك غير ناتج للتقييد لما وقع في الرواية المتعقبة لهذه الرواية بلفظ "من دعي إلى عرس أو نحوه" وأيضاً قوله: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" يدل على وجوب الإجابة إلى غير وليمة العرس. اه.
لكن تقدم أن رواية "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" هذه مقيد بالوليمة كما في الصحيحين.
أما رواية أبي داود المطلقة فإنها ضعيفة.
وأما رواية "إلى عرس أو نحوه" فتقدم الجواب عنها وأنها لا تدل على وجوب كل دعوة، والله أعلم.
وأما الدليل الثالث حديث البراء:
فقال ابن عبد البر: قال البراء: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع فذكر منها إجابة الداعي وذكر منها أشياء منها ما هو فرض على الكفاية ومنها ما هو واجب وجوب سنة فكذلك إجابة الدعوة والله نسأل العصمة.
وأما الدليل الرابع حديث أبي هريرة:
هذا الحديث لفظ الصحيحين "حق" لكن عند مسلم في لفظ "خمس تجب" وهذا اللفظ ظاهره الوجوب إلا أن الحافظ حمله على وجوب الكفاية فقال: وقد تبين أن معنى الحق هنا الوجوب خلافاً لقول ابن بطال: المراد حق الحرمة والصحبة والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. اه.(42/288)
ولعله أخذ هذا مما قرن معه من عيادة المريض واتباع الجنائز ورد السلام وتشميت العاطس مع ما في دلالة الاقتران من الكلام عند الأصوليين.
وقال الطحاوي: عقب هذا الحديث: فقد تحتمل أيضاً أن يكون الحق الواجب في إجابة الدعوة يراد به الدعوة التي هي وليمة لا ما سواها فلم يبين لنا في شيء مما روينا وجوب إتيانه من الطعام المدعى إليه غير طعام الوليمة التي هي الأعراس والله سبحانه نسأله التوفيق.
وقال أيضاً في الجواب عن حديث أبي أيوب: فقال قائل ففي هذا الحديث من كلام أبي أيوب ما قد دل على أن الدعوة التي من حق المسلم على أخيه إجابته إليها هو مثل ما دعا إليه فأجاب إليه.
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه قد يحتمل أن يكون ذلك كما قد ذكر ويكون الأحسن بالناس إذا دعوا إلى مثله أن لا يتخلفوا عنه ويكون حضور بعضهم إياه مسقطاً لما على غيرهم منه ويكون من الأشياء التي يحملها العامة على الخاصة كحضور الجنائز وكدفن الموتى.
ويحتمل أن يكون ذلك على ما يجب أن يكون الناس عليه في أسفارهم مع إخوانهم من الزيادة في مواصلتهم والانبساط إليهم والجود عليهم أكثر مما يكونون لهم عليه في خلاف السفر فيكون ما كان من أبي أيوب لذلك والذي كان منه فلم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما سوى ذلك مما في هذا الحديث.
وقد يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بما في هذا الحديث من إجابة الدعوة الوليمة التي ذكرنا لا ما سواها. اه.
وأما الدليل الخامس حديث أبي أمامة والدليل الثامن حديث أبي هريرة والدليل التاسع حديث يعلي بن مرة فإنها ضعيفة وتقدم بيان ضعفها.
أما الدليل السادس حديث ابن مسعود فيجاب عنه بمثل ما أجيب عن الدليل الثالث والرابع حديث البراء وأبي هريرة رضي الله عنهما.(42/289)
وقال الطحاوي: في الجواب عن حديث ابن مسعود: ففي هذا الحديث الأمر بإجابة الداعي وبقبول الهدية والمنع من ردها فقد يحتمل أن تكون هذه الإجابة وهذا الممنوع من رده من جنس واحد ويكون المدعى إليه هو خلاف الوليمة وقد يحتمل أن يكون كل واحد منهما جنساً غير الجنس الآخر فيكون المدعى إليه هو الوليمة الواجب إتيانها والهدية بخلافها. اه.
وأما الدليل السابع حديث جابر فيجاب عنه بمثل ما أجيب عن الدليل الثالث والرابع حديث البراء وأبي هريرة.
وقال الطحاوي أيضاً في الجواب عن هذا الحديث: فكان ذلك محتملاً أن يكون أريد به الطعام المذكور في الآثار الأول لا ما سواه منها.
وقد يجاب عن هذه الأدلة كلها عدا الدليل الأول والثاني بأن المراد بها إما وليمة العرس كما أشار إليه الطحاوي، وإما أنها محمولة على الاستحباب والصارف لها عن الوجوب هو حديث أبي هريرة وابن عمر في رواية أبي يعلي حيث رتب العصيان على من لم يجب الوليمة فهذا يدل على أن غير الوليمة لها حكم آخر غير الوجوب وهو الندب وسيأتي مزيد بحث في ذلك عند مناقشة أصحاب القول الثالث إن شاء الله تعالى.
مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني:
أدلة أصحاب هذا القول لا تخلو عن ثلاثة أحوال:
الأول: بعضها ظاهر الدلالة على السنية مثل الدليل الأول والثاني والثالث والرابع مع ضعف في الثالث والرابع.
والثاني: بعضها ظاهر الدلالة على الوجوب وذلك في مثل حديث أبي هريرة وابن عمر حيث أطلق العصيان على من لم يجب الدعوة والعصيان يكون بترك الواجب أو فعل المحرم وهذا ظاهر في وليمة العرس محتمل في غيرها.
الثالث: بعضها محتملة للوجوب والسنية وذلك بحسب القرائن وهذا في مثل الأحاديث التي فيها الأمر بإجابة الدعوة كحديث البراء وغيره.
فعلى هذا هذه الأدلة لا تسلم دلالتها على السنية مطلقاً لأن فيها أدلة تدل على الوجوب كما تقدم.
مناقشة أصحاب القول الثالث:(42/290)
هذا القول وسط بين القولين السابقين الوجوب مطلقاً والسنية مطلقاً والأدلة التي استدلوا بها ظاهرة الدلالة على هذا القول بالجملة إلا أنه قد ينازع في بعضها وهي التي فيها الأمر بإجابة الدعوة مطلقاً من غير تقييد بالوليمة إذ الأصل في الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف إلا أن يقال إن الصارف لهذه الأدلة عن الوجوب - غير وليمة العرس - هو:
1- ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه فقال: "وهذه؟ " لعائشة، فقال: "لا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" فعاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهذه؟ " فقال: "لا" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" ثم عاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهذه؟ " قال: نعم في الثالثة فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله".
ووجه الدلالة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاه قال: "لا" لما لم يوافق على مجيء عائشة رضي الله عنها معه ولو كان الأمر في الدعوة للوجوب لما قال لا وهذه الدعوة ظاهرها أنها ليست دعوة عرس فهذا قد يستأنس به على أنه مخصص لدعوة غير العرس فتحمل على الاستحباب.
2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله".
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما رواية أبي يعلي "إذا دعا أحدكم إلى وليمة فليجبها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".
ووجه ذلك هو أنه أطلق العصيان على من لم يجب الدعوة إلى الوليمة ولم يرد هذا الحكم في غير الوليمة إلا في رواية عن أبي داود وغيره من حديث ابن عمر "من دُعِيَ فلم يجب فقد عصى الله ورسوله"لكنها ضعيفة كما تقدم.(42/291)
فهذا يفهم منه أن العصيان يختص بعدم إتيان الوليمة فقط دون غيرها من الدعوات فتحمل على الاستحباب وتقدم أن الوليمة المراد بها وليمة العرس عند الإطلاق كما هو قول أكثر أهل اللغة وغيرهم.
3- ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث صهيب رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأتيته وهو في نفر جالس فقمت حياله فأومأت إليه فقال: "وهؤلاء؟ " فقلت: لا فسكت فقمت مكاني فلما نظر إليَّ أومأت إليه فقال: "وهؤلاء؟ " فقلت: لا مرتين فعل ذلك أو ثلاثاً فقلت: "نعم" وهؤلاء وإنما كان شيئاً يسيراً صنعته له فجاء وجاؤا معه فأكلوا وأحسبه قال وفضل منه".
ووجه الدلالة منه أنه لم يجب الدعوة حتى أذن لمن معه.
لكن قال الهيثمي فيه: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن ضريب بن نفير لم يسمع من صهيب.
4- حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدليل الرابع من أدلة القول الثالث وهو نص في محل النزاع لكنه ضعيف.
مناقشة أدلة أصحاب القول الرابع:
أدلة أصحاب هذا القول هي عموم أدلة الأقوال السابقة وسبق مناقشتها إلا أن جعل الأدلة تدل على أنه فرض كفاية محل نظر لأمور هي:
الأول: قلة القائلين به ولا يعرف أحد من الأئمة المشهورين قال به بل حكى عن بعض الشافعية والحنابلة وإن كان هذا لا يكفي في رد القول لكن يستأنس به.
الثاني: أن فرض الكفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين فالمقصود في فروض الكفاية قيام هذا الفعل فليس معلقاً بالجميع بل بالبعض مثل الآذان المهم أن يقوم هذا العمل بخلاف إجابة الدعوة فإن الخطاب متوجه لكل من دعي وغالباً يكون مقصوداً في الدعوة فإذا لم يحضر فإنه يؤثر على الداعي ولو حضر غيره.
الثالث: أن في حديث أبي هريرة قال: من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله، وفي حديث ابن عمر قال: "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".(42/292)
الخطاب هنا ظاهره متوجه إلى كل من دعي فإذا لم يجب يكون عاصياً إلا ما قام الدليل على تخصيصه بخلاف فرض الكفاية فإن الخطاب موجه إلى البعض وإنما يأثم الجميع إذا لم يمتثل الكل نعم لو كان لفظ الحديث "من دَعا فلم يُجَبْ ... "لكان يدل على هذا القول والله أعلم.
الرابع: قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام: محل ذلك - أي فرض الكفاية - إذا عمت الدعوة أما لو خص كل واحد بالدعوة فإن الإجابة تتعين.
مناقشة أصحاب القول الخامس:
هذا القول لا أعلم لهم دليلاً فيه على هذا التفصيل إلا أن كان القائل به لم يبلغه إلا حديث أبي هريرة "شر الطعام ... "فحمله على الندب وما عداه على الإباحة وهذا القول أضعف الأقوال في هذه المسألة بل هو خلاف الأدلة الواردة وليس على هذا التفريق دليل يعتمد عليه، والله أعلم.
الترجيح:
من خلال تأمل الأحاديث الواردة في هذه المسألة نجدها ظاهرة الدلالة على القول الأول وهو القول بالوجوب مطلقاً والقول الثالث وهو التفصيل وأن الدعوة تجب إجابتها في العرس وتسن فيما عداه وهو قول جمهور أهل العلم وهذا القول أقوى في نظري لقوة أدلته ولأن فيه توسطاً بين القول الأول والثاني ولأن حمل حديث أبي هريرة وابن عمر والذي فيهما إطلاق العصيان على من لم يجب الدعوة على وليمة العرس فيه قوة ويكون كافياً في تخصيص وليمة العرس بالوجوب دون غيرها وذلك لأن حمل الوليمة على وليمة العرس هو قول أكثر أهل العلم وهو قول أكثر أهل اللغة فهذا يدل على أن هذا هو الغالب في استعمال هذا اللفظ والأحكام إنما تعلق بالغالب لا بالنادر الذي لا يقع إلا قليلاً، والله أعلم.
قال الشافعي رحمه الله: إتيان دعوة الوليمة حق والوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل دعوة دعا إليها رجل وليمة فلا أرخص لأحد في تركها ولو تركها لم يتبين لي أنه عاص في تركها كما تبين لي في وليمة العرس.(42/293)
ورجح الطحاوي هذا القول وأطال في الجواب عن الأحاديث كما تقدم نقل غالب كلامه والله أعلم.
مسألة: إجابة الدعوة لمن كان صائماً
ظاهر الأحاديث الواردة تدل على أن الصوم ليس بعذر يمنع من إجابة الدعوة كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم.
ومن هذه الأحاديث:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصل وإن كان مفطراً فليطعم" وفي لفظ "إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم".
أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وتقدم وله شاهد من حديث جابر عند ابن ماجه ومن حديث ابن مسعود عند النسائي والطبراني ومن حديث ابن عمر عند أبي داود والبيهقي وتقدمت.
2- عموم الأحاديث الواردة في إجابة الدعوة لم تستثن الصائم.
3- أن هذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما يجيب الدعوة وهو صائم وكذا ورد عن يعلي بن مرة وأبي أيوب رضي الله عنهما.
قال النووي عقب حديث ابن عمر "ويأتيها وهو صائم": فيه أن الصوم ليس بعذر في الإجابة وكذا قاله أصحابنا قالوا: إذا دعي وهو صائم لزمه الإجابة كما يلزم المفطر ويحصل المقصود بحضوره وإن لم يأكل ... ".
وقال في الروضة: والصوم ليس عذراً في ترك إجابة الدعوة.
وقال العراقي: إن الصوم ليس عذراً في ترك الإجابة.
وقال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ من فعل ابن عمر أن الصوم ليس عذراً في ترك الإجابة ولاسيما مع ورود الأمر للصائم بالحضور والدعاء، نعم لو اعتذر به المدعو فقبل الداعي عذره لكونه يشق عليه أن لا يأكل إذا حضر أو لغير ذلك كان ذلك عذراً له في التأخر.
وقال الشوكاني في حديث ابن عمر: وفي الحديث دليل على أنه يجب الحضور على الصائم ولا يجب عليه الأكل لكن هذا بعد أن يقول للداعي إني صائم كما في الرواية الأخرى فإن عذره في الحضور بذلك وإلا حضر.
وقال الصنعاني في حديث أبي هريرة: فيه دليل على أنه يجب على من كان صائماً أن لا يتعذر بالصوم.(42/294)
وقال الحسيني بعد قوله "وإن كان صائما فليدع" أي فليدع أخذ به الشافعي فأسقط الإجابة على الصائم وإنما يطلب منه أن يدعو لأهل البيت بالمغفرة والبركة.
وقال أصبغ: ليست إجابة الصائم بالوكيد وإنه لخفيف.
وقال مالك في كتاب محمد: أرى أن يجيب.
قال الباجي: فقول مالك على أن الأكل ليس بواجب، وقول أصبغ على أنه واجب، فإذا أسقط الصوم فقد سقط وسيلته وهو الإجابة. اه.
والحاصل أن الصوم لا يعتبر عذراً مسقطاً للإجابة.(42/295)
تابع لبحث في إجابة الدعوة
المبحث الثاني: الأكل لمن دعي إذا حضر
من دعي إلى وليمة أو غيرها فحضر هل يلزمه الأكل أم لا؟
المدعو في هذه الحالة لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون المدعو مفطراً.
الثاني: أن يكون المدعو صائماً.
فأما الأمر الأول: وهو أن يكون المدعو مفطراً:
فاختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه يجب الأكل.
قال العراقي: والوجه الثاني لأصحابنا أنه يجب الأكل واختاره النووي في تصحيح التنبيه وصححه في شرح مسلم في الصيام وبه قال أهل الظاهر ومنهم ابن حزم وتوقف المالكية في ذلك وعبارة ابن الحاجب في مختصره: ووجوب أكل المفطر محتمل. اه.
واستدلوا على ذلك:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصل وإن كان مفطراً فليطعم" وفي حديث ابن عمر "وإن كان مفطراً فليطعم" وفي حديث ابن مسعود قال "فإن كان مفطراً فليأكل ... " وتقدمت.
ووجه الدلالة أن هذا أمر لمن كان مفطراً أن يأكل والأصل في الأمر الوجوب.
القول الثاني: أنه لا يجب على المفطر الأكل.
قال العراقي: وهو أصح الوجهين عند الشافعية وبه قال الحنابلة.
وقال النووي: وأما المفطر ففي أكله وجهان أحدهما يجب وأقله لقمة وأصحها: أنه مستحب.
وقال ابن قدامة: وأما الأكل فغير واجب صائماً كان أو مفطراً نص عليه أحمد.
وقال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ منه - يعني حديث جابر - أن المفطر لو حضر لا يجب عليه الأكل وهو أصح الوجهين عند الشافعية، وذكر نحو هذا الشوكاني.
واستدلوا على ذلك:
1- حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك".
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وتقدم.(42/296)
قال ابن قدامة بعد حكاية القولين: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء أكل وإن شاء ترك" حديث صحيح ولأنه لو وجب الأكل لوجب على المتطوع بالصوم فلما لم يلزمه الأكل لم يلزمه إذا كان مفطراً وقولهم المقصود الأكل قلنا بل المقصود الإجابة ولذلك وجبت على الصائم الذي لا يأكل. اه.
المناقشة:
مناقشة أدلة أصحاب القول الأول:
قال النووي: ومن لم يوجبه اعتمد التصريح بالتخيير في الرواية الأولى - يعني حديث جابر - وحمل الأمر في الثانية - يعني حديث أبي هريرة وغيره - على الندب.
وقال الصنعاني: وقال من لم يوجب الأكل: الأمر للندب والقرينة الصارفة إليه قوله "وله" أي لمسلم من حديث جابر رضي الله عنه نحوه وقال: "فإن شاء طعم وإن شاء ترك" فإنه خيره والتخيير دل على عدم الوجوب للأكل ولذلك أورده المصنف عقب حديث أبي هريرة.
مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني:
ذكر العراقي عدة أجوبة عن حديث جابر هي:
الجواب الأول: قال ابن حزم لم يذكر فيه أبو الزبير أنه سمعه من جابر ولا هو من رواية الليث عنه فإنه أعلم له ما سمعه منه وليس هذا الحديث مما أعلم له عليه فبطل الاحتجاج به.
لكن يجاب عن هذا الجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث في صحيح مسلم وعنعنة المدلس في الصحيحين أو أحدهما محمولة على السماع.
الوجه الثاني: أن أبا الزبير صرح بالتحديث كما عند الطحاوي في شرح مشكل الآثار.
الجواب الثاني: قال ابن حزم أيضاً ثم لو صح لكان الخبر الذي فيه إيجاب الأكل زائداً على هذا وزيادة العدل لا يحل تركها.
قلت: ليس هذا صريحاً في إيجاب الأكل فإن صيغة الأمر ترد للاستحباب وأما التخيير الذي في حديث جابر فإنه صريح في عدم الوجوب فالأخذ به وتأويل الأمر متعين، والله أعلم. اه.
الجواب الثالث: قال النووي: من أوجب تأول تلك الرواية على من كان صائماً.(42/297)
قال العراقي وأشار والدي رحمه الله في الرواية الكبرى من الأحكام إلى تأييد هذا التأويل بأن ابن ماجه روى حديث جابر هذا في الصوم من نسخته من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه بلفظ "من دعي إلى طعام وهو صائم فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك" والروايات يفسر بعضها بعضا وقد أخرج مسلم رواية ابن جريج هذه ولم يسق لفظها بل قال إنها مثل الأولى وقد عرفت زيادة هذه الفائدة فيها وهذا الجواب أقوى هذه الأجوبة. اه.
وهذا الوجه يجاب عنه بأن هذه الزيادة "وهو صائم" أخرجها ابن ماجه، قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا أبو عاصم أنبأنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر به ورجال إسناده ثقات لكن أبا الزبير عنعنه.
ورواه ابن نمير ويزيد بن سنان وعمرو بن علي بن بحر كلهم عن أبي عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير بدون هذه الزيادة وأبو الزبير صرح بالتحديث عند الطحاوي.
أما الأمر الثاني: وهو أن يكون المدعو صائماً:
إذا حضر المدعو وكان صائماً فقال النووي لا خلاف أنه لا يجب عليه الأكل. اه.
وهذا الأمر لا يخلو من أحوال هي:
الأولى: أن يكون الصوم فرضاً مضيقاً فيحرم الفطر كما قاله النووي.
وقال ابن قدامة: إن كان المدعو صائماً صوماً واجباً أجاب ولم يفطر لأن الفطر غير جائز فإن الصوم واجب والأكل غير واجب.
الثانية: أن يكون الصوم فرضاً موسعاً كالنذر المطلق وقضاء رمضان فقال النووي: فإن لم نجوز الخروج منه حرم الفطر وإلا فقيل هو كصوم النفل.
الثالثة: أن يكون الصوم نفلاً:
وهذه الحالة اختلف العلماء فيها فذهب بعض أهل العلم إلى استحباب الفطر.
قال في الإنصاف: الصحيح من المذهب استحباب الأكل لمن صومه نفل أو هو مفطر قاله القاضي وصححه في النظم وقدمه في المحرر والفروع وتجريد العناية وغيرهم وقيل يستحب الأكل للصائم إن كان يجبر قلب داعيه وإلا كان إتمام الصوم أولى.
واستدلوا على ذلك:(42/298)
1- حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: "صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأتاني هو وأصحابه فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعاكم أخوكم وتكلف لكم ثم قال: أفطر وصم يوماً مكانه إن شئت".
أخرجه البيهقي - وحسن سنده الحافظ - والطبراني.
ورواه الطيالسي، والدارقطني ولم يذكرا "إن شئت".
2- قالوا إن في الأكل إجابة لدعوة أخيه المسلم وإدخال السرور في قلبه.
قال ابن قدامة: وإن كان صوماً تطوعاً استحب له الأكل لأن له الخروج من الصوم فإذا كان في الأكل إجابة أخيه المسلم وإدخال السرور على قلبه كان أولى وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعوة ومعه جماعة فاعتزل رجل من القوم ... "الحديث وإن أحب إتمام الصيام جاز لما روينا في الخبر المتقدم ولكن يدعو لهم ويبارك ويخبرهم بصيامه ليعلموا عذره فتزول عنه التهمة في ترك الأكل وقد روى أبو حفص بإسناده عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه أنه أجاب عبد المغيرة وهو صائم فقال: "إني صائم ولكنني أحببت أن أجيب الداعي فأدعو بالبركة".
وعن عبد الله قال: إذا عرض على أحدكم طعام وهو صائم فليقل إني صائم وإن كان مفطراً فالأولى له الأكل لأنه أبلغ في إكرام الداعي وجبر قلبه ولا يجب ذلك عليه.
وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر أنه يلزمه الأكل لقول النبي صلى الله عليه وسلم "وإن كان مفطراً فليطعم" ولأن المقصود منه الأكل فكان واجباً. اه.
القول الثاني: ذهب طائفة من أهل العلم إلى جواز الفطر وتركه.
وممن ذهب إلى هذا بعض الشافعية والحنابلة.
ودليل هذا القول:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصل وإن كان مفطراً فليطعم" أخرجه مسلم، وشاهده من حديث ابن عمر وجابر وابن مسعود.
وفي لفظ لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره "إذا دعي أحدكم وهو صائم فليقل إني صائم".(42/299)
ووجه الدلالة أنه لو كان الفطر مرغب فيه لحث عليه وقال "فليطعم".
2- حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك" أخرجه مسلم.
ووجه الدلالة أنه خير المدعو بين الأكل وعدمه سواء كان صائماً أم مفطراً ولم يرغب في أحدهما.
3- حديث عائشة رضي الله عنها قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "ياعائشة هل عندكم شيء؟ " قالت فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء، قال: "فإني صائم"، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْر قالت فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يارسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْر وقد خبأت لك شيئاً قال: "ما هو؟ " قلت: حيس، قال: "هاتيه" فجئت به فأكل ثم قال: "قد كنت أصبحت صائماً".
أخرجه مسلم واللفظ له وأبو داود والترمذي والنسائي وزاد "وأصوم يوماً مكانه".
ووجه الدلالة جواز الخروج من صوم النفل.
4-حديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر".
أخرجه النسائي والحاكم والبيهقي.
ووجه الدلالة أنه جوز للصائم المتطوع الفطر والإمساك.(42/300)
5- حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء، متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال: كل، قال: إني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، قال: فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم فلما كان في آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان".
أخرجه البخاري والترمذي.
ووجه الدلالة: إفطار أبي الدرداء وهو صائم صوم تطوع وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وهذه الأدلة تدل على جواز الفطر إذا كان الصوم تطوعاً.
الترجيح:
والأظهر والله أعلم ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال:وأعدل الأقوال أنه إذا حضر الوليمة وهو صائم إن كان ينكر قلب الداعي بترك الأكل فالأكل أفضل وإن لم ينكر قلبه فإتمام الصوم أفضل.
ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في تناول الطعام للمدعو إذا امتنع فإن كلا الأمرين جائز فإذا ألزمه بما لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها، ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع فإن فطره جائز، فإن كان ترك الجائز مستلزماً لأمور محظورة ينبغي أن يفعل ذلك الجائز وربما يصير واجباً. اه.(42/301)
وقال الحافظ ابن حجر: وهل يستحب له الفطر إن كان صومه تطوعاً؟ قال أكثر الشافعية وبعض الحنابلة: إن كان يشق على صاحب الدعوة صومه فالأفضل الفطر وإلا فالصوم وأطلق الروياني وابن الفراء استحباب الفطر وهذا على رأي من يجوز الخروج من صوم النفل، وأما من يوجبه فلا يجوز عنده الفطر كما في صوم الفرض ويبعد إطلاق استحباب الفطر مع وجود الخلاف ولاسيما إذا كان وقت الإفطار قد قرب. اه.
وقال نحوه العراقي.
وقال الأبيّ: وإن كان في صوم تطوع جاز له الفطر إلا أن يشق على صاحب الوليمة فيكون له الفطر أفضل.
وقال النووي: وإن كان نفلاً - أي الصوم - جاز الفطر وتركه فإن كان يشق على صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر وإلا فإتمام الصوم، والله أعلم.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والحمد لله على إتمام هذا البحث مع الاعتراف بالقصور ولكني أسأل الله أن يبارك فيه فقد ظهر لي من خلال هذا البحث النتائج التالية:
- أن الأظهر من أقوال أهل العلم وجوب إجابة الدعوة في العرس واستحبابها في غيره.
- أن الصوم ليس عذراً يمنع من إجابة الدعوة.
- أن الأفضل لمن دعي وهو مفطر أن يأكل وخلاف في وجوبه.
- أن من دعي وهو صائم صوم فرض مضيق حرم عليه الفطر.
- أن من دعي وهو صائم صوم فرض موسع ففي جواز فطره خلاف.
- أن من دعي وهو صائم صوم نفل فإن كان ينكسر قلب الداعي بعدم الأكل فالأكل أفضل وإن كان لا ينكسر فإتمام الصوم أفضل، والله أعلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر والمراجع
- الاختيارات الفقهية من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية: إختارها الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد البعلي، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية.(42/302)
- أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه: للحافظ أبي محمد عبد الله بن جعفر بن حيان الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ، تحقيق د. السيد الجميل، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ.
- الأدب المفرد: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، تقديم كما يوسف الحوت، عالم الكتب، الطبعة الأولى 1404هـ.
- آداب الزفاف في السنة المطهرة: للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة السادسة 1402هـ، والطبعة الثانية المكتبة الإسلامية، الأردن.
- إعلاء السنن: للمحدث ظفر أحمد التهانوي، تحقيق محمد تقي عثماني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي، باكستان، الطبعة الثالثة 1415هـ.
- إكمال إكمال المعلم: للإمام محمد بن خليفة الأبي، تحقيق محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت 1415هـ.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، تحقيق محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1376هـ.
- البدر المنير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لسراج الدين ابن الملقن، رسالة ماجستير محققة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: للإمام محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية 1383هـ.
- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: تحقيق د/ إكرام الله إمداد الحق، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ.
- تقريب التهذيب: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عوامة، دار الرشد، سوريا، الطبعة الأولى 1406هـ.
- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الله هاشم اليماني، دار المعرفة، لبنان.
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لابن عبد البر، تحقيق جماعة من المحققين، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في المغرب.(42/303)
- تهذيب التهذيب: للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى 1327هـ.
- تهذيب الكمال: للحافظ جمال الدين المزي، تحقيق د/ بشار عواد مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى.
- تهذيب اللغة: لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق مجموعة من المحققين، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
- التواضع والخمول: للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا، تحقيق لطفي محمد الصغير، دار الاعتصام، القاهرة.
- جامع الأصول في أحاديث الرسول: للإمام المبارك بن محمد بن الأثير الجزري تحقيق عبد القادر الأرناؤط، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
- الجرح والتعديل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، دائرة المعارف العثمانية، الهند، الطبعة الأولى 1372هـ.
- الجعديات: حديث علي بن الجعد الجوهري لأبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي، تحقيق د/ رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى 1415هـ.
- دلائل النبوة: للبيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ.
- روضة الطالبين وعمدة المفتين: للإمام النووي، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1405هـ.
- سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام: للصنعاني، تعليق محمد محرز حسن سلامة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثالثة 1400هـ.
- السنن – المجتبي -: للحافظ أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ.
- السنن: لأبي داود السجستاني الأزدي، تحقيق عزة عبيد الدعاس، دار الحديث، سوريا، الطبعة الأولى 1388هـ.
- السنن: لأبي عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الأولى 1396هـ.
- السنن: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية، بيروت.(42/304)
- السنن: للحافظ علي بن عمر الدارقطني، تصحيح عبد الله هاشم اليماني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
- السنن: للحافظ سعيد بن منصور الخرساني، تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، دار الباز، مكة المكرمة.
- السنن الكبرى: للإمام النسائي، تحقيق د/ عبد الغافر البنداري، وسيد كردي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ.
- السنن الكبرى: للبيهقي، دار الفكر.
- شرح علل الترمذي: للحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي، تحقيق همام سعيد، الأردن، الطبعة الأولى 1407هـ.
- شرح مسلم: للإمام النووي، دار الفكر.
- شرح مشكل الآثار: لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1415هـ.
- شرح معاني الآثار: لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق محمد زهير النجار، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ.
- الشمائل المحمدية: لأبي عيسى الترمذي، تحقيق محمد عفيف الزغبي، الطبعة الأولى، دار العلم للطباعة والنشر، 1403هـ.
- الصحاح: لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1402هـ.
- صحيح البخاري - الجامع الصحيح المسند -: للإمام البخاري، تحقيق د/ مصطفى البغا، دار ابن كثير واليمامة، دمشق، بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ.
- صحيح ابن حبان - الإحسان ترتيب الأمير علاء الدين -: للإمام أبي حاتم بن حبان البستي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1408هـ.
- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
- طرح التثريب في شرح التقريب: لزين الدين أبي الفضل العراقي، دار إحياء التراث العربي.
- عارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي: لأبي بكر بن العربي المالكي، دار الكتاب العربي، بيروت.
- عمدة القاري شرح صحيح البخاري: لبدر الدين محمود بن أحمد العيني، مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الأولى 1392هـ.(42/305)
- عمل اليوم والليلة: للإمام النسائي، تحقيق د/ فاروق حمادة، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى 1401هـ.
- عمل اليوم والليلة: لابن السني، تحقيق عبد القاهر أحمد عطار، دار المعرفة، بيروت،1399هـ.
- عون المعبود شرح سنن أبي داود: لأبي الطيب محمد شمس الدين العظيم آبادي، المكتبة السلفية، الطبعة الثانية 1388هـ.
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
- الكامل في ضعفاء الرجال: للإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
- كشف الأستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة: للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1404هـ.
- الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الثقات: لأبي البركات محمد بن أحمد ابن الكمال، تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي، دار المأمون للتراث، بيروت، دمشق، الطبعة الأولى 1402هـ.
- لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الثانية 1390هـ.
- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين: لأبي حاتم بن حبان البستي، تحقيق محمود إبراهيم زائد، دار الوعي بحلب، الطبعة الأولى 1396هـ.
- مجمع البحرين بزوائد المعجمين: للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1413هـ.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة، الثالثة 1402هـ.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مكتبة المعارف، الرباط.
- المحلي: للإمام أبي محمد بن حزم الأندلسي، تحقيق د/ عبد الغفار البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت.(42/306)
- المراسيل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، تحقيق شكر الله بن نعمة الله القوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1402هـ.
- المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم، دار الكتب العلمية.
- المسند: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة.
- مسند أبي داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود، دار المعرفة، بيروت.
- مسند أبي يعلي الموصلي أحمد بن علي التميمي: تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ.
- مصباح الزجاجة إلى زوائد ابن ماجه: للشهاب أحمد بن أبي بكر البوصيري، تحقيق موسى محمد علي ود/ عزت عطية، دار الكتب الحديثة، مصر.
- المصنف في الأحاديث والآثار: للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، الهند، الطبعة الثالثة 1399هـ.
- المصنف: للحافظ عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ.
- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق غنيم عباس، وياسر إبراهيم، دار الوطن، الطبعة الأولى 1418هـ.
- المعجم الأوسط: للطبراني، تحقيق د/ محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1405هـ.
- المعجم الكبير: لأبي القاسم الطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مطبعة الأمة، بغداد، ومطابع الزهراء الحديثة، الطبعة الأولى والثانية.
- المعجم الصغير: للطبراني، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1388هـ.
- المغني: لأبي محمد بن قدامة المقدسي، مكتبة الرياض الحديثة.
- مكمل إكمال الإكمال: للإمام محمد بن محمد بن يوسف السنوسي الحسيني، تحقيق محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ.
- موطأ الإمام مالك بن أنس: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية.(42/307)
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للإمام الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
- النهاية في غريب الحديث: للإمام مجد الدين المبارك بن محمد بن الأثير، تحقيق طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، دار الفكر، بيروت.
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للعلامة الشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.(42/308)
إبراهيم بن محمد بن سفيان
روايته، وزياداته، وتعليقاته
على صحيح مسلم
تأليف
د/ عبد الله بن محمد حسن دمفو
قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية
كلية التربية بالمدينة المنورة - جامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فإنَّ أصحَّ الكتب بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ، صحيحا الإمامين البخاري ومسلم، فهما أول من ألَّف في الصحيح المجرَّد، وشرطهما في إخراج الحديث أشدُّ من شرط غيرهما، ولذلك تلقتهما الأمة بالقبول ابتداءً من علماء عصرهما وحتى يرث الله الأرض ومَن عليها، فكثر الآخذون عنهما، والرواة لكتابيهما، لكن لم تصلنا من روايات الكتابين إلاَّ أشهرها كرواية الفربري عن الإمام البخاري، ورواية ابن سفيان عن الإمام مسلم.
وإن كانت رواية الفربري قد وَجدت اهتماماً من العلماء الذين كتبوا حول سند الجامع الصحيح للبخاري، كابن رُشيد السبتي في كتابه ((إفادة النَّصيح، إلاَّ أنَّني لم أجد من كَتب حول ابن سفيان وروايته لصحيح مسلم استقلالاً، مع أنَّ روايته هي الرواية المعتمدة والكاملة للصحيح، ولذلك استقرَّ في نفسي سدُّ هذه الثغرة في المكتبة الإسلامية والكتابة حول هذا الموضوع، فوجدتُ أنَّ جهود ابن سفيان في خدمة هذا الكتاب لم تقتصر على الرواية فقط، بل وُجدت له زيادات وتعليقات عليه، ولذلك جاء البحث في مقدِّمة، وأربعة مباحث، وخاتمة.
أمَّا المقدِّمة فبيَّنتُ فيها سبب اختياري هذا الموضوع ومنهجي فيه.
وأمَّا المبحث الأول: فكان حول ترجمة ابن سفيان، جمعتُ فيه ما تفرَّق من مادة علمية في بطون المراجع، إضافة إلى استنطاق بعض النصوص لاستنباط معلومات جديدة تُفيد في الكشف عن جوانب من شخصيته.(42/309)
وأما المبحث الثاني: فكان حول روايته لصحيح مسلم، وأهميَّتها، والردِّ على ما وُجِّه إليها من نقد من جهة الفوائت التي فاته سماعها من شيخه مسلم.
وأمَّا المبحث الثالث: فكان حول زياداته على صحيح مسلم، وقدَّمتُ له بتعريف الزيادات، والفرق بينها وبين الزوائد، ثم ذكرتُ ما وقفتُ عليه من الزيادات على كتب السنة، وبيَّنتُ بعد ذلك أهميَّة الزيادات وفوائدها من خلال زيادات ابن سفيان، ثم أوردتُ نصوصها التي بلغت ثلاثة عشرة زيادة مع تخريجها ودراستها.
وأما المبحث الرابع: فكان حول تعليقاته على الصحيح، وعدد نصوصها ستُّ تعليقات، صدَّرتُها بالفوائد التي أفادتها، مع تخريجها ودراستها أيضاً.
وأما الخاتمة، فضمَّنتها أهمَّ نتائج البحث.
وقد اتَّبعتُ في البحث المنهجَ الآتي:
1 - لم أدرس من رجال الإسناد إلاَّ ما ورد في زيادات ابن سفيان، وتركتُ ما جاء في إسناد مسلم؛ لشهرتهم إلاَّ إذا دعت الضرورة لذلك.
2 - اعتمدتُ على كتابي الكاشف للذهبي والتقريب لابن حجر في بيان أحوال الرواة، خاصة عند اتفاقهما في الحكم؛ لأنَّهما ذكرا خلاصة من سبقهما من علماء الجرح والتعديل، وقد اعتمدتُ مراجع أخرى غيرهما عند الحاجة.
3 - لم أحكم على أحاديث الزيادات؛ وذلك لأنَّ أصلَها في صحيح مسلم، وقد التقى ابن سفيان معه في شيخه أو شيخ أعلى.
4 - استوعبتُ الزيادات التي أوردها ابن سفيان على أحاديث الصحيح المسندة المرفوعة، ولم أتعرَّض لزيادة ابن سفيان على مقدِّمة الصحيح (1/22) ، وهي في موضع واحد فقط؛ لأنَّها أثرٌ عن يونس بن عبيد، ولم يُخرِّج مسلم أصل هذا الأثر.
5 - التزمتُ الرجوع إلى المصادر الأصيلة قدر الامكان، ولم ألجأ إلى المراجع البديلة إلاَّ إذا لم أقف على المرجع الأصيل.(42/310)
هذا، وأسأل الله العفو عن الخطأ والزلل، وحسبي أنِّي اجتهدتُ، فإن أصبتُ فمن الله، وإن كانت الأخرى فمن نفسي، وأستغفر الله من ذلك، وصلَّى الله على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
المبحث الأول
ترجمة ابن سفيان
نسبه وولادته:
هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، ولم تذكر المصادر سنةَ ولادته، ويظهر أنَّها كانت في النصف الأول من القرن الثالث؛ لأنَّ الإمام مسلماً رحمه الله فرغ من كتابة الصحيح سنة خمسين ومائتين، كما ذكر العراقي، ثم أخذ يمليه على الناس حتى فرغ من ذلك لعشر خلون من رمضان سنة سبع وخمسين ومائتين، كما نصَّ على ذلك ابن سفيان، وعاش ابن سفيان بعد ذلك حتى أول القرن الرابع كما سيأتي.
صفاته:
وصفه النووي بالسيد الجليل، وبأنَّه أحد الفقهاء في عصره، لكن غلب عليه الوصف بالصلاح والزهد وكثرة العبادة، فقال الحاكم النيسابوري: سمعتُ أبا عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف السلمي يقول: "كان إبراهيم بن محمد بن سفيان من الصالحين"، وقال فيه محمد بن أحمد بن شعيب: "ما كان في مشايخنا أزهد ولا أكثر عبادة من إبراهيم بن محمد بن سفيان"، ويظهر أنَّ صحبته لأيوب بن الحسن الزاهد أثَّرت فيه، وأثْرَت هذا الجانب في شخصيته.
كما وصفه محمد بن يزيد العدل بأنَّه مُجاب الدعوة. يعني: لكثرة عبادته.
ولم تقتصر معارفه على الزهد والفقه فقط، فهو معدود في محدِّثي نيسابور، وكان من أعلم أهل بلده بهذا العلم، كيف لا وهو أكثر تلامذة الإمام مسلم ملازمة له، وأخصَّهم به، وراوية صحيحه، بل إنَّ روايته أشهر الروايات وأكملها كما سيأتي.
طلبه للعلم ورحلاته:(42/311)
يظهر أنَّ الإمام ابن سفيان بدأ في طلب العلم على مشايخ بلده نيسابور، فمُعظم شيوخه الذين وقفتُ عليهم نيسابوريون، ثم ارتحل بعد ذلك إلى بعض المراكز العلمية في وقته لتلقي العلم والسماع من مشايخها، فذكر الذهبي أنَّه رحل وسمع ببغداد، والكوفة، والحجاز، وذكر ابن نقطة أنَّه ارتحل كذلك إلى الري، وربَّما كان ذلك في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج، أو عند رجوعه منها، ولم أقف له على رحلة إلى الشام ومصر وغيرهما، ولعله اكتفى بلقاء مَن حضر من علماء هذه الأمصار إلى الديار الحجازية بهدف الحج.
شيوخه:
لم تذكر المصادر التي ترجمت له سوى تسعةً من شيوخه، وقد وقفتُ على سبعة عشر شيخاً غيرهم روى عنهم ابن سفيان، من بينهم شيوخه الثمانية الذين روى عنهم زياداته على صحيح مسلم، ومن هؤلاء الثمانية ستة شيوخ لم أقف على رواية ابن سفيان عنهم إلاَّ من خلال هذه الزيادات، ممَّا يدلُّ على أهميَّتها وفائدتها:
أولاً: شيوخه الذين ورد ذكرهم في مصادر ترجمته:
1 ـ سفيان بن وكيع.
2 ـ عبد الله بن سعيد الكندي، أبو سعيد الأشج.
3 ـ عمرو بن عبد الله الأودي.
4 ـ محمد بن أسلم الطوسي.
5 ـ محمد بن رافع القشيري.
6 ـ محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ.
7 ـ محمد بن مقاتل الرازي.
8 ـ مسلم بن الحجاج، وهو من أجلِّ شيوخه، وأشهر من أن يُعرَّف به.
9 ـ موسى بن نصر الرازي.
ثانيا: شيوخه الذين روى عنهم ابن سفيان في الزيادات على صحيح مسلم، وقد عرَّفتُ بمن وقفتُ عليه منهم في أول موضع ذُكروا فيه:
10 ـ إبراهيم بن بنت حفص: روى عنه النص (13) .
11 ـ الحسن بن بشر بن القاسم: روى عنه النصوص (1) ، (3) ، (7) ، (8) ، (10) ، (12) .
12 ـ الحسين بن بشر بن القاسم ـ أخو الحسن ـ: روى عنه النص (10) .
13 ـ الحسين بن عيسى البسطامي: روى عنه النص (13) .
14 ـ سهل بن عمَّار: روى عنه النص (13) .
15 ـ عبد الرحمن بن بشر: روى عنه النصين (2) ، (6) .(42/312)
16 ـ محمد بن عبد الوهاب الفراء: روى عنه النص (4) .
17 ـ محمد بن يحيى الذهلي: روى عنه النصوص (5) ، (9) ، (10) ، (11) .
ثالثاً: شيوخ آخرين غير الذين تقدَّموا:
18 ـ أحمد بن أيوب، أبو ذر العطار النيسابوري.
19 ـ أحمد بن حرب بن فيروز الزاهد النيسابوري.
20 ـ أحمد بن محمد بن نصر اللَّبَّاد النيسابوري.
21 ـ أيوب بن الحسن النيسابوري.
22 ـ رجاء بن عبد الرحيم الهروي.
23 ـ العباس بن حمزة بن عبد الله بن أشرس النيسابوري.
24 ـ علي بن الحسن الذهلي الأفطس النيسابوري.
25 ـ محمد بن أيوب بن الحسن النيسابوري.
26 ـ مهرجان النيسابوري الزاهد.
تلاميذه:
أما عن تلاميذه فالظاهر أنَّ كثيرين قد أخذوا العلم عن ابن سفيان، على اعتبار أنَّه أشهر راوية للصحيح، لكن المصادر لم تذكر لنا منهم سوى القليل، فذكر الذهبي في ترجمته في كتابه تاريخ الإسلام أربعة منهم، ثم قال: وآخرون، وهم:
1 ـ أحمد بن هارون البرديجي.
2 ـ عبد الحميد بن عبد العزيز القاضي، أبو حازم السكوني.
3 ـ أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن الفضل الهاشمي.
4 ـ محمد بن عيسى بن عمرويه الجُلودي.
وقد وقفتُ على خمسة آخرين أخذوا عنه، وهم:
1 ـ إسماعيل بن نجيد السلمي.
2 ـ أبو سعيد أحمد بن محمد بن إبراهيم الفقيه.
3، 4 ـ أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يحيى الكسائي وأبوه.
5 ـ محمد بن أحمد بن شعيب.
أما فيما يتعلَّق بعلومه ومعارفه، فسيأتي الكلام عليها في مبحثي: زياداته وتعليقاته على صحيح مسلم.
وفاته:
عاش الإمام ابن سفيان بعد شيخه مسلم أكثر من نصف قرن، حتى وافته المنيَّةُ ببلدته نيسابور في شهر رجب سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة كما حكاه الحاكم، وعنه نقل كلُّ مَن ترجم له، ودُفن بها كما تقدَّم، رحمه الله رحمة واسعة.
المبحث الثاني
روايته لصحيح مسلم(42/313)
تبوَّأ الإمام مسلم مكانة علمية مرموقةً في علم الحديث، وترسَّخت هذه المكانة بعد تأليفه كتابه الصحيح، فحرص أهلُ العلم على التتلمذ عليه والسماع منه، ولذلك كثر الآخذون عنه، وقد ذكر المزي، والذهبي، في ترجمته خمساً وثلاثين من تلاميذه، وزاد عليهما الباحث مشهور حسن سلمان خمسة عشر آخرين، وهو أوفى مَن ذكر تلاميذه - فيما رأيتُ -، وإن كان هذا العدد لا يُمثِّل حقيقة مَن سمع من الإمام مسلم، فهم أكثر من هذا بكثير.
أمَّا فيما يتعلَّق برواة صحيحه الذين سمعوه منه، ونقلوه للناس، فهم أقلُّ من
ذلك، بدليل أنَّ الضياء المقدسي المتوفى سنة (643هـ) حينما ألَّف جزءاً في الرواة عن مسلم الذي وقعوا له، لم يزد على عشرة، وربَّما لأنَّه التزم أن يورد في ترجمة كلِّ راوٍ حديثاً بالإسناد المتصل منه إلى هذا الراوي عن مسلم، وهؤلاء هم على ترتيبهم في كتابه:
1 ـ أحمد بن محمد بن الحسن النيسابوري المعروف بابن الشرقي (ت325هـ) .
2 ـ أحمد بن علي بن الحسن النيسابوري، ابن حسنويه المقرئ المعمِّر (ت350هـ) .
3 ـ أحمد بن حمدون الأعمشي النيسابوري (ت321هـ) .
4 ـ إبراهيم بن محمد بن سفيان - موضوع البحث -.
5 ـ عبد الله بن محمد بن ياسين الدوري (ت302هـ) .
6 ـ محمد بن عبد الرحمن السرخسي الدغولي (ت325هـ) ، وهو شيخ ابن حبان، وقد روى في صحيحه حديثاً واحداً لمسلم من طريقه.
7 ـ محمد بن عيسى الترمذي، صاحب الجامع (ت279هـ) .
8 ـ محمد بن مخلد بن حفص الدوري (ت331هـ) .
9 ـ مكي بن عبدان بن محمد النيسابوري (ت325هـ) .
10 ـ يعقوب بن أبي إسحاق، أبو عوانة الاسفراييني (ت316هـ) .
يُضاف إليهم القلانسي راوي رواية المغاربة عن مسلم، وسيأتي الكلام عليها قريباً.(42/314)
لكن هذا الكتاب مع شهرته التامة صارت روايته بالإسناد المتصل بمسلم مقصورة على أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، غير أنَّه يروى في بلاد المغرب مع ذلك عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي عن مسلم، كما قال ابن الصلاح.
وفي هذا يقول النووي: "صحيح مسلم رحمه الله في نهاية من الشهرة، وهو متواتر عنه من حيث الجملة، فالعلم القطعي حاصلٌ بأنَّه من تصنيف أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج، وأما من حيث الروايةُ المتصلةُ بالإسناد المتصل بمسلم؛ فقد انحصرت طريقه عنه في هذه البلدان والأزمان في رواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم، ويروى في بلاد المغرب مع ذلك عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي، عن مسلم".
ويُفهم من كلامهما انحصار رواية الصحيح بالإسناد المتصل منذ القرن السابع الهجري في روايتين:
الأولى: رواية المشارقة:
وهي رواية ابن سفيان، سُميت بذلك؛ لأنَّ رواتَها مشرقيُّون، وهذه شجرة إسنادها كما جاءت عند النووي الذي ترجم لكلِّ رواتها:
مسلم بن الحجاج النيسابوري
إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري
محمد بن عيسى الجُلودي النيسابوري
عبد الغافر الفارسي النيسابوري
محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري
منصور بن عبد المنعم الفراوي النيسابوري
إبراهيم بن أبي حفص الواسطي (سكن نيسابور مدة طويلة
الإمام النووي
الثانية: رواية المغاربة:
وهي رواية القلانسي، سُميت بذلك؛ لأنَّها وقعت لأهل المغرب، ولا رواية له عند غيرهم، دخلت روايته إليه من جهة أبي عبد الله محمد بن يحيى بن الحذَّاء القرطبي، وغيره، سمعوها بمصر من أبي العلاء بن ماهان، عن أبي بكر أحمد بن يحيى الأشقر، عن القلانسي، وهذه شجرة إسناد إحدى طرقها التي رواها القاضي عياض شارح صحيح مسلم:
مسلم بن الحجاج النيسابوري
أحمد بن علي القلانسي
أحمد بن محمد الأشقر
عبد الوهاب بن عيسى بن ماهان
محمد بن يحيى بن الحذَّاء القرطبي
ابنه: أحمد بن محمد القرطبي(42/315)
الحسين بن محمد الجيَّاني (صاحب تقييد المهمل وتمييز المشكل
القاضي عياض بن موسى اليحصبي (صاحب إكمال المعلم)
وقد بخلت كتبُ التراجم بترجمة وافية للقلانسي، فلم أقف على مَن ترجم له سوى ابن الصلاح في كتابه صيانة صحيح مسلم، الذي بيَّن نسبَه وأنَّه: أبو محمد أحمد بن علي بن الحسن بن المغيرة بن عبد الرحمن القلانسي، وأشار إلى روايته للصحيح كما تقدّم في كلام النووي الذي اعتمد كلامه.
وهناك أمرٌ آخر يُفهم من كلامي ابن الصلاح والنووي المتقدِّمين، وهو أنَّ الرواية المعتمدة لصحيح مسلم هي رواية المشارقة؛ ولذلك شاعت وانتشرت بين أهل العلم، وغالب من يروي حديثاً لمسلم في صحيحه، إنَّما يدخل من طريق الجُلودي، عن ابن سفيان راوي هذه الرواية، حتى علماء المغرب أنفسهم، كالقاضي عياض، وابن بشكوال، وابنُ رُشيد، وغيرهم.
وإنَّما كان الاعتماد على هذه الرواية؛ لأنَّها أكمل الروايتين، فرواية القلانسي "المغاربة ناقصة من آخر الكتاب، وقدَّر العلماء هذا النقص بثلاثة أجزاء"، تبدأ من حديث الإفك الطويل، ورقمه: (2770) الذي أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف، أي بمقدار ثلاثة وستين ومائتي حديث على اعتبار عدد أحاديث صحيح مسلم بدون المتابعات (3033) حديث حسب ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، فإنَّ أبا العلاء ابن ماهان - أحد رواة رواية المغاربة - يروي هذه الأحاديث عن أبي أحمد الجُلودي، عن ابن سفيان، عن مسلم، أي أنَّه يعود إلى رواية المشارقة.(42/316)
لكن لا يعني هذا طرح هذه الرواية وعدم الاعتداد بها؛ إذ لا تخلو من فائدة، وسنحتاج إليها في الدفاع عن صحيح مسلم، والردِّ على ما انتُقدت به رواية ابن سفيان (المشارقة، وربَّما كان الإمام الدارقطني يحثُّ أهل العلم على تحمُّل وسماع هذه الرواية لهذا السبب، فقد قال محمد بن يحيى بن الحذاء - أحد رواتها -: أخبرني ثقات أهل مصر أنَّ أبا الحسن علي بن عمر الدراقطني كتب إلى أهل مصر من بغداد: أن اكتبوا عن أبي العلاء ابن ماهان كتاب مسلم بن الحجاج الصحيح، ووصف أبا العلاء بالثقة والتميُّز) .
النَّقد الذي وُجِّه إلى رواية المشارقة والردِّ عليه:
مع أنَّ رواية ابن سفيان هي الرواية المعتمدة كما تقدم إلاّ أنّها لم تسلَم كذلك من النّقد، من جهة وجود أحاديث لم يسمعها ابن سفيان من مسلم مما قد يعكِّر على اتّصال إسنادها، وأوّل من تنبّه إلى ذلك - فيما يبدو - الإمام ابن الصلاح حيث قال: اعلم أنّ لإبراهيم بن سفيان في الكتاب فائتاً لم يسمعه من مسلم، يُقال فيه: أخبرنا إبراهيم، عن مسلم، ولا يُقال فيه: قال أخبرنا أو حدَّثنا مسلم، وروايته لذلك عن مسلم إما بطريق الإجازة وإما بطريق الوجادة، وقد غفل أكثر الرواة عن تبيين ذلك، وتحقيقه في فهارسهم، وبرنامجاتهم وفي تسميعاتهم وإجازاتهم، وغيرها، بل يقولون في جميع الكتاب: أخبرنا إبراهيم، قال: أخبرنا مسلم.
ثمَّ بيَّن أنَّ هذا الفوت في ثلاثة مواضع محقَّقة في أصول معتمدة، وهي:
الفائت الأول:
في كتاب الحج، ويبدأ من باب الحلق والتقصير، حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله المحلِّقين"، وينتهي عند أول باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج، حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر".
الفائت الثاني:(42/317)
ويبدأ من أول كتاب الوصايا، حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم ... "، وينتهي في كتاب القسامة، باب: القسامة، قبل آخر رواية أوردها مسلم في حديث سهل بن أبي حثمة في قصة حُوَيِّصة ومُحَيِّصة.
الفائت الثالث:
ويبدأ من كتاب الإمارة، أول باب: الإمام جنة، حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما الإمام جنة ... "، وينتهي في كتاب الصيد والذبائح، قبل باب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده.
ولم أقف على من تعرَّض لهذه الفوائت بالدراسة، وبيان أنَّها لا تؤثِّر في صحة واتِّصال هذه الأحاديث سوى ما ذكره الدكتور الحسين شواط حيث قال:
"يبعد أن يكون هذا الفائت قد بقي على ابن سفيان إلى حين وفاة مسلم، وذلك لأمور، منها:
أ - توفر دواعي تلافي ذلك الفوت وسماعه من مسلم، وذلك لأنَّ الفراغ من سماع الكتاب قد تمَّ سنة (257هـ) أي قبل وفاة مسلم (ت261هـ) بحوالي خمس سنوات، فكيف يغفل عن ذلك كلَّ هذه المدَّة مع وجودهما في بلد واحد.
ب - ما نصَّت عليه المصادر ونوَّهت به من كثرة ملازمة ابن سفيان لشيخه مسلم، ممَّا يجعل الفرصة سانحة بصفة أكيدة لسماع ما يفوته منه.
جـ - النص في بعض النسخ على عدم حضور ابن سفيان مجلس السماع لا يمنع سماعه في مجلس آخر بعده.
وعلى فرض تسليم بقاء هذا الفوت فعلاً؛ فإنَّ احتمال روايته بطريق الوجادة ضعيف جدًّا؛ لأنَّ بعض النسخ قد نصَّت على أنَّه كان إجازة كما ذكر ابن الصلاح".(42/318)
وما ذكره - حفظه الله - فيه وجاهة، لكن لا تعدو كونها أموراً نظريةً قائمة على الاجتهاد الذي قد يصيب وقد يخطئ، ولا يمكن أن تتأكّد إلاَّ من خلال الجانب التطبيقي العملي، وهذا ما توصلتُ إليه حيث تتبَّعتُ روايات العلماء المغاربة لصحيح مسلم للوقوف على مَن روى أحاديث مسلم من طريق القلانسي لمعرفة كيفية روايته لأحاديث الفوائت حتى طُبع مؤخّراً كتاب حجَّة الوداع للإمام ابن حزم الأندلسي، فوجدته روى جميع أحاديث مسلم التي ضمَّنها فيه من طريق القلانسي عن مسلم.
وعددُها سبعون ومائة حديث، قال فيها القلانسي: "حدَّثنا مسلم، وكان من بينها ثلاثة عشر حديثاً من أحاديث الفوائت في رواية ابن سفيان، وهذه قائمة بها:
الرقم المتسلسل
رقم الحديث في كتاب حجَّة الوداع
رقم الحديث في صحيح مسلم بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي
1
131
1335
2
134
1334
3
159
1305
4
174
1308
5
176
1316
6
185
1306
7
186
1307
8
195
1315
9
199
1309
10
201
1313
11
203
1314
12
324
1319
13
335
1211
فثبت من هذا أنَّ أحاديث الفوائت في رواية ابن سفيان ـ لو سُلِّم بقاؤها ـ قد اتَّصلت في رواية القلانسي، فاندفع بذلك النقد الذي يمكن أن يُوجَّه إليها، والله أعلم.(42/319)
تابع لإبراهيم بن محمد بن سفيان
المبحث الثالث
زياداته على صحيح مسلم
تعريف الزيادات والفرق بينها وبين الزوائد:
قبل أن أذكرَ تعريف الزيادات والمراد بها، يُستحسن أن أعرض لمصطلح آخر اشتهر عند أهل العلم، وكثر التصنيف فيه، ويَشتبه كثيراً بمصطلح الزيادات، ذلكم هو مصطلح الزوائد.
وقد عرَّف الكتاني كتب الزوائد بأنَّها:
"الأحاديث التي يزيد بها بعض كتب الحديث على بعض آخر معيَّن".
كما عرَّف الدكتور خلدون الأحدب علم الزوائد بأنَّه:
"علمٌ يتناول إفراد الأحاديث الزائدة في مصنَّف رويت فيه الأحاديث بأسانيد مؤلفه، على أحاديث كتب الأصول الستة أو بعضها من حديث بتمامه لا يوجد في الكتب المزيد عليها، أو هو فيها عن صحابي آخر، أو من حديث شارك فيه أصحاب الكتب المزيد عليها أو بعضهم، وفيه زيادة مؤثرة عنده".
ويستخلص من التعريفين السابقين عدّة نقاط:
أولاً: أنَّ المراد بالزوائد أحاديث زائدة في كتاب على كتاب آخر، وهذه الزيادة مطلقة، وقد تكون الزيادة في سند أو متن حديث اشتركا في إخراجه وهذه الزيادة نسبية.
ثانياً: أنَّ مؤلف الكتاب الذي احتوى على الزوائد لا علاقة له بمؤلف الكتاب المزيد عليه، فتأليف كل واحد منهما لكتابه استقلالاً.
ثالثاً: أنَّ إبراز زوائد الكتاب المزيد عليه جاء في فترة متأخِّرة ومن إمام متأخر عنهما.
وتتجلَّى هذه النقاط واضحة في استعراض المؤلفات في الزوائد، وهي كثيرة أقتصر على ذكر بعضها، وهي:
1 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (ت273هـ) :
يعني على الكتب الخمسة المشهورة (صحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي) .
ومؤلفه هو الحافظ شهاب الدِّين أحمد بن أبي بكر البوصيري (ت840هـ) .
2 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:(42/320)
وهو زوائد مسندي الإمام أحمد (ت241هـ) ، وأبي يعلى الموصلي (ت307هـ) ، ومعاجم الطبراني الثلاثة، الكبير والأوسط والصغير (ت360هـ) ، على الكتب الخمسة السابقة إضافة إلى سنن ابن ماجه وهي ما تُعرف بالكتب الستة.
ومؤلفه هو الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) .
3 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية:
وهو زوائد مسند الطيالسي (ت204هـ) ، والحميدي (ت219هـ) ، ومسدد (ت228هـ) ، وابن أبي عمر (ت243هـ) ، وأحمد بن منيع (ت244هـ) ، وابن أبي شيبة (ت235هـ) ، والحارث بن أبي أسامة (ت282هـ) ، وعبد بن حميد (ت249هـ) على الكتب الستة.
ومؤلِّفه الحافظ شهاب الدِّين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) .
هذا فيما يتعلَّق بالزوائد.
أما الزيادات، فلم أقف على مَّن تعرَّض لها بتعريف يُحدِّدها، لكن من خلال النظر في عمل أصحاب الزيادات يُمكن أن أقول إنَّها:
"الأحاديث التي يرويها راوية كتاب ما على مؤلف ذلك الكتاب، إمَّا استخراجاً عليه، فيلتقي معه في شيخه أو شيخ أعلى، أو استقلالاً بإيراده حديثاً مختلفاً في سنده ومتنه".
والفرق بينها وبين المستخرجات أنَّ شرط الزيادات أن تكون من راوية ذلك الكتاب عن مصنِّفه، في حين أنَّ مؤلفي المستخرجات ليسوا من رواة الكتاب المستخرج عليه.
ثم إنَّه لا يُشترط في ذلك الراوية أن يكون تلميذ المؤلف بل قد تكون الزيادات من تلميذ أنزل منه.
وحتى يتَّضح التعريف السابق أوردُ ما وقفتُ عليه من كتب السنة والزيادات عليها:
أولاً: مسند الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) :
وعليه زيادتان:
أ - زيادات عبد الله بن أحمد بن حنبل (ت290هـ) راوية الكتاب عن أبيه، على مسند أبيه.
ب - زيادات أبي بكر أحمد بن جعفر القطيعي (368هـ) راوية الكتاب عن عبد الله ابن أحمد، عليه.
ثانياً: فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل:
وعليه زيادتان:
أ - زيادات عبد الله بن أحمد، راوية الكتاب على أبيه.(42/321)
ب - زيادات أبي بكر القطيعي، راوية الكتاب عن عبد الله، عليه.
ثالثاً: كتاب الزهد للإمام أحمد بن حنبل:
وعليه زيادات ابنه عبد الله بن أحمد - راوية الكتاب - على أبيه.
رابعاً: كتاب الزهد للإمام عبد الله بن المبارك (ت181هـ) :
وعليه ثلاث زيادات:
أ - زيادات الحسين بن الحسن المروزي (ت246هـ) - راوية الكتاب برواية المشارقة على ابن المبارك.
ب - زيادات يحيى بن محمد بن صاعد (ت318هـ) - راوية الكتاب عن الحسين المروزي - عليه.
ج - زيادات نعيم بن حمَّاد (ت228هـ) - راوية الكتاب برواية المغاربة - على ابن المبارك.
خامساً: كتاب البر والصلة للإمام عبد الله بن المبارك:
وعليه زيادات الحسين بن الحسن المروزي - راوية الكتاب - على ابن المبارك.
سادساً: صحيح الإمام البخاري (ت256هـ) :
وعليه زيادات محمد بن يوسف الفربري (ت320هـ) راوية الكتاب عن البخاري، عليه.
سابعاً: صحيح الإمام مسلم (ت261هـ) .
وعليه زيادتان:
أ - زيادات أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان - راوية الكتاب عن مسلم - عليه، وهو موضوع البحث.
ب - زيادات أبي أحمد محمد بن عيسى الجُلودي (ت368هـ) - راوية الكتاب عن ابن سفيان - عليه.
ثامناً: سنن أبي داود سليمان بن الأشعث (ت275هـ) .
وعليه زيادات أبي سعيد أحمد بن محمد ابن الأعرابي (ت341هـ) - أحد رواة الكتاب عن أبي داود - عليه.
تاسعاً: سنن محمد بن يزيد بن ماجه (ت275هـ) :
وعليه زيادات أبي الحسن علي بن إبراهيم ابن القطان (ت345هـ) - راوية الكتاب عن ابن ماجه - عليه.
عاشراً: القدر لعبد الله بن وهب (ت197هـ) :
وعليه زيادات أبي بكر محمد بن إسماعيل الورَّاق (ت378) - راوية الكتاب عن أبي بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني، عن أبي جعفر أحمد بن سعيد المصري، عن ابن وهب.
الحادي عشر: كتاب الطهور للإمام أبي عُبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) .
وعليه زيادات أبي بكر محمد بن يحيى المروزي (ت298هـ) - راوية الكتاب عن أبي عبيد - عليه.(42/322)
الثاني عشر: كتاب عوالي مالك لأبي أحمد محمد بن أحمد الحاكم الكبير (ت378هـ) :
وعليه زيادات زاهر بن طاهر الشحامي (ت522هـ) - راوية الكتاب عن أبي سعد محمد بن عبد الرحمن الكنجروذي، عن الحسن بن أحمد السمرقندي، عن الحاكم - على كتاب الحاكم.
الثالث عشر: كتاب نزهة الحفاظ للإمام أبي موسى محمد بن عمر المديني (ت581هـ) :
وعليه زيادات أبي عبد الله محمد بن مكي الأصبهاني (616هـ) - راوية الكتاب عن أبي موسى المديني - عليه.
وبعد:
فهذا ما وقفتُ عليه من الزيادات على كتب السنة، وربَّما وُجدت غيرها لم أتمكَّن من الوقوف عليها، وعلى أيِّ حال فإن فيما ذكرتُ كفاية لإثبات ما تقدّم ذكره من التفرقة بين الزوائد والزيادات، وأنَّ شرط الزيادات أن تكون من راوية الكتاب عن مؤلفه أو من راوية أنزل، وعليه فإنَّ التعبير عنها بمصطلح (الزوائد) غير صحيح.
أهميَّة معرفة الزيادات:
تكمن أهميَّة معرفة الزيادات وتمييزها عن أحاديث الكتاب المزيد عليه في كونها ليست على شرط صاحب الكتاب الأصلي من حيث صحةُ الأحاديث أو ثقةُ الرواة، أو يُظنُّ أنَّ أحد رواة الزيادات من رجال الكتاب المزيد عليه وليس كذلك، فيقع الوهم واللبس، وقد وقع في ذلك الإمام أبو مسعود الدِّمشقي حيث ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب (2/224) في ترجمة الحسن بن بشر السلمي أنَّ أبا مسعود قال في الأطراف في حديث عائشة مرفوعاً: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه الحلواء والعسل": "إنَّ مسلماً رواه عن أبي كريب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر، ثلاثتهم عن أبي أسامة".
ثم تعقَّبه الحافظ بقوله: "والذي في الأصول من الصحيح: حدَّثنا أبو كريب وهارون بن عبد الله قالا: ثنا أبو أسامة، ليس فيه الحسن بن بشر، لكن قال فيه إبراهيم بن سفيان - الراوي عن مسلم - عقب هذا الحديث: حدَّثنا الحسن بن بشر، ثنا أبو أسامة مثله، فهذا من زيادات إبراهيم وهي قليلة جدًّا".(42/323)
ولذلك قال في التقريب أيضاً (ص:159) : "صدوق، لم يصح أنَّ مسلماً روى عنه، وإنَّما روى عنه أبو إسحاق بن سفيان الراوي عن مسلم مواضع علا فيها إسناده".
فالحسن إذاً ليس من رجال مسلم، وليس على شرطه.
ومن الوهم الذي يقع للباحثين نتيجة عدم تميُّز هذه الزيادات، جعلُ الشيخ تلميذاً والتلميذَ شيخاً، وهو ما وقع فيه جامعو كتاب (المسند الجامع) في (3/233) عند تخريجهم حديث بريدة بن الحصيب مرفوعاً: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية ... "، الحديث فقالوا: "وأخرجه مسلم قال: حدَّثنا إبراهيم، قال: حدَّثنا محمد بن عبد الوهاب الفرَّاء ... ".
فإبراهيم هذا هو ابن سفيان الراوي عن مسلم، وإسناده هذا من زياداته على صحيح مسلم.
وقد تنبَّه إلى مثل ما تقدّم شيخنا الأستاذ الدكتور / مسفر الدميني حيث قال في مقدّمة بحثه زيادات أبي الحسن القطان (ص:6، 7) : "والناظر في صنيع الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي والدكتور محمد مصطفى الأعظمي عند طبع كلٍّ منهما للكتاب (يعني سنن ابن ماجه) يجد لبساً في إخراج الكتاب حيث لم تُميَّز الزيادات عن الأصل ... ثم قال: وعملهما هذا - غفر الله لهما - يوهم بعض طلاَّب العلم أنَّ الجميع من سنن ابن ماجه، وأنَّ تلك الزيادات من معلقات ابن ماجه عن أبي الحسن، بينما الأمر خلاف ذلك، فأبو الحسن القطان تلميذ ابن ماجه وراوية سننه وليس شيخه، وتلك الأحاديث الواردة في صورة التعليق من زيادات أبي الحسن القطان على كتاب شيخه ابن ماجه، ثم إنَّها ليست معلَّقة، بل مسندة له، فربَّما التقى مع شيخه أثناء الإسناد، وربَّما استقلَّ بحديث تام بإسناده ومتنه".اه.
فوائد الزيادات:
بعد تأمل نصوص زيادات ابن سفيان على صحيح مسلم يمكن تلخيص ما استنبطته من فوائد فيما يلي:
1 - علو الإسناد:(42/324)
وقد كان العلو بدرجة في جميع نصوص الزيادات الثلاثة عشر، غير أنَّ النصَّ رقم (5) تميَّز بموافقة ابن سفيان لشيخه مسلم، حيث روى مسلم الحديث عن عبد الرحمن بن بشر العبدي، عن سفيان بن عيينة، ورواه ابن سفيان تلميذ مسلم كذلك عن عبد الرحمن، عن سفيان.
وهذه الفائدة هي الدافع الأكبر لتأليف الزيادات؛ فإنَّ طلبَ العلوِّ من الحديث من علوِّ همَّة المحدِّث ونبل قدره وجزالة رأيه، كما قال محمد بن طاهر المقدسي.
2 - وصل الرواية التي جاءت عن رجل مبهم في الكتاب المزيد عليه:
وذلك كما في النص (11) حيث رواه مسلم في الطريق الثاني عن مبهم، فقال: حدَّثنا عدَّةٌ من أصحابنا، عن سعيد بن أبي مريم.
ورواه ابن سفيان موصولاً وموضحاً تلميذ سعيد، فقال: حدَّثنا محمد بن يحيى، حدَّثنا ابن أبي مريم.
ومحمد بن يحيى هو الذهلي.
3 - بيان متابعة الراوي الصدوق الذي جاء في الكتاب المزيد عليه براوٍ ثقة:
وذلك كما في النص (4) الذي رواه مسلم عن حجَّاج بن الشاعر، عن عبد الصمد ابن عبد الوارث، عن شعبة. وعبد الصمد: صدوق، كما قال ابن حجر.
ورواه ابن سفيان، عن محمد بن عبد الوهاب الفراء، عن الحسين بن الوليد، عن شعبة. والحسين بن الوليد هو القرشي: ثقة.
4 - تكثير طرق الحديث، ومن فوائده دفع الغرابة:
وذلك في النص (10) الذي رواه مسلم، عن أبي بكر بن إسحاق، عن أبي مسهر.
ورواه ابن سفيان، عن الحسن والحسين ابني بشر ومحمد بن يحيى، ثلاثتهم عن أبي مسهر.
وكما في النص (13) الذي رواه مسلم، عن سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، كلاهما عن حجاج بن محمد.
ورواه ابن سفيان، عن الحسين بن عيسى البسطامي وسهل بن عمار وإبراهيم بن بنت حفص وغيرهم، عن حجاج.
5 - دفع احتمال اختصار متن الحديث من أحد الرواة في إسناد الكتاب المزيد عليه، وتحميله على راوٍ آخر:(42/325)
وذلك كما في النص (10) الذي رواه مسلم من طريقي مروان الدمشقي وأبي مسهر، كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز، ثم قال: "غير أنَّ مروان أتمَّهما حديثاً"، فأوهم أنَّ أبا مسهر اختصره.
ورواه ابن سفيان عن ثلاثة من شيوخه، عن أبي مسهر وقال: "فذكروا الحديث بطوله"، فتبيَّن من كلامه أنَّ الذي اختصر المتن في رواية مسلم ليس أبا مسهر، وإنَّما الراوي عنه أبو بكر بن إسحاق.
نصوص الزيادات
1 - حدَّثنا أبو كريب محمد بن العلاء وهارون بن عبد الله، قالا: حدَّثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ الحلواءَ والعسلَ، فكان إذا صلَّى العصرَ دار على نسائه، فيدنو منهنَّ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر ممَّا كان يحتبس، فسألتُ عن ذلك، فقيل لي: أهدتْ لها امرأةٌ من قومها عُكَّة من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلتُ: أمَا والله لنحتالنَّ له، فذكرتُ ذلك لسودة، وقلتُ: إذا دخل عليكِ فإنَّه سيدنو منكِ، فقولي له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلتَ مغافير؟ فإنَّه سيقول لكِ: لا، فقولي له: ما هذه الرِّيح؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتدُّ عليه أن يوجد منه الرِّيح - فإنَّه سيقول لكِ: سقتْني حفصةُ شربةَ عسل، فقولي له: جَرَستْ نحلُه العرفُط، وسأقول ذلك له، وقوليه أنتِ يا صفيَّةُ، فلمَّا دخل على سودة، قالت: تقول سودةُ: والذي لا إله إلاَّ هو، لقد كدتُ أنْ أُبادئه بالَّذي قلتِ لي، وإنَّه لعلى الباب فرَقاً منكِ، فلمَّا دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أكلتَ مغافير؟ قال: "لا". قالت: فما هذه الرِّيح؟ قال: "سقتني حفصةُ شربة عسل". قالت: جرستْ نحلُه العُرفُطَ، فلمَّا دخل عليَّ قلتُ له مثلَ ذلك، ثم دخل على صفيَّةَ فقالت بمثل ذلك، فلمَّا دخل على حفصة قالت: يا رسول الله، ألاَ أسقيكَ منه؟ قال: "لا حاجةَ لي به". قالت: تقول سودة: سبحان(42/326)
الله، والله لقد حرَمناه. قالت: قلتُ لها: اسكُتي.
قال أبو إسحاق إبراهيم: حدَّثنا الحسن بن بشر، حدَّثنا أبو أسامة، بهذا سواء. [صحيح مسلم (2/1100) كتاب الطلاق، باب: وجوب الكفَّارة على من حرَّم امرأته ولم ينو الطلاق (1474) ] .
2 - حدَّثنا بشر بن الحكم وإبراهيم بن دينار وعبد الجبَّار بن العلاء - واللَّفظ لبشر - قالوا: حدَّثنا سفيان بن عيينة، عن حُميد الأعرج، عن سليمان ابن عتيق، عن جابر: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح".
قال أبو إسحاق - وهو صاحب مسلم -: حدَّثنا عبد الرحمن بن بشر، عن سفيان، بهذا. [ (3/1191) كتاب المساقاة، باب: وضع الجوائح (1554) ] .
3 - حدَّثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو النَّاقد - واللفظ لسعيد - قالوا: حدَّثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جُبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بلَّ دمعُه الحصى. فقلت: يا ابن عبَّاس! وما يوم الخميس؟ قال: اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعُه، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعدي"، فتنازعوا، وما ينبغي عند نبيٍّ تنازعٌ، وقالوا: ما شأنه؟ أهجرَ؟ استفهموه. قال: "دعوني، فالذي أنا فيه خيرٌ، أوصيكم بثلاث: أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب، وأَجيزوا الوفد بنحو ما كنتُ أُجيزهم" قال: وسكت عن الثالثة، أو قالها فأُنسيتُها.
قال أبو إسحاق إبراهيم: حدَّثنا الحسن بن بشر، قال: حدَّثنا سفيان، بهذا الحديث. [ (3/1257) كتاب الوصية، باب: ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (1637) ] .
4 - وحدَّثني حجَّاج بن الشاعر، حدَّثني عبد الصمد بن عبد الوارث، حدَّثنا شُعبة، حدَّثني علقمة بن مرثد، أنَّ سليمان بن بريدة حدَّثه عن أبيه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً أو سريَّة دعاه فأوصاه ... "، وساق الحديث بمعنى حديث سفيان.(42/327)
حدَّثنا إبراهيم، حدَّثنا محمد بن عبد الوهاب الفرَّاء، عن الحسين بن الوليد، عن شعبة، بهذا. [ (3/1358) كتاب الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث (1731) ] .
5 - حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا هاشم بن القاسم، ح وحدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا أبو عامر العقدي، كلاهما عن عكرمة بن عمَّار، ح وحدَّثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وهذا حديثه: أخبرنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد، حدَّثنا عكرمة - وهو ابن عمَّار - حدَّثني إياس بن سلمة، حدَّثني أبي قال: "قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الرَّكيَّة، فإمَّا دعا وإمَّا بسق فيها، قال: فجاشت، فسَقينا واستَقينا، قال: ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة ... "، وذكر حديثاً طويلاً في قصة الحديبية.
قال إبراهيم: حدَّثنا محمد بن يحيى، حدَّثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن عكرمة بن عمَّار، بهذا الحديث بطوله. [ (3/1441) كتاب الجهاد، باب: غزوة ذي قرد (1807) ] .
6 - وحدَّثناه عبد الرحمن بن بشر العبدي، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا إسماعيل ابن أميَّة، عن سعيد بن أبي سعيد، عن يزيد بن هرمز، قال: "كتب نجدةُ إلى ابن عباس ... "، وساق الحديث بمثله.
قال أبو إسحاق: حدَّثني عبد الرحمن بن بشر، حدَّثنا سفيان، بهذا الحديث بطوله. [ (3/1446) كتاب الجهاد والسير، باب: النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يُسهم ... (1812) ] .(42/328)
7 - حدَّثنا قتيبة بن سعيد، حدَّثنا ليث، ح وحدَّثنا محمد بن رمح، حدَّثنا الليث، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ألاَ كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعيةٌ على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيِّده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلُّكم راع، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته".
وحدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا محمد بن بشر، ح وحدَّثنا ابن نمير، حدَّثنا أبي، ح وحدَّثنا ابن المثنى، حدَّثنا خالدٌ - يعني ابنَ الحارث - ح وحدَّثنا عبيد الله بن سعيد، حدَّثنا يحيى - يعني القطان - كلُّهم عن عبيد الله بن عمر. ح وحدَّثنا أبو الربيع وأبو كامل، قالا: حدَّثنا حماد بن زيد، ح وحدَّثني زهير بن حرب، حدَّثنا إسماعيل، جميعاً عن أيوب، ح وحدَّثني محمد بن رافع، حدَّثنا ابن أبي فُديك، أخبرنا الضحاك - يعني ابنَ عثمان - ح وحدَّثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدَّثنا ابن وهب، حدَّثني أسامة، كلُّ هؤلاء عن نافع، عن ابن عمر مثل حديث الليث عن نافع.
قال أبو إسحاق: وحدَّثنا الحسن بن بشر، حدَّثنا عبد الله بن نمير،
عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بهذا، مثل حديث الليث عن
نافع. [ (3/1459) كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل ... (1829) ] .
8 - وحدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء: أنَّها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة، فتدعو بالماء فتصبُّه في جيبها، وتقول: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبردوها بالماء"، وقال: "إنَّها من فيح جهنَّم".
وحدَّثناه أبو كريب، حدَّثنا ابنُ نمير وأبو أسامة، عن هشام بهذا الإسناد، وفي حديث ابن نمير: صبَّت الماء بينها وبين جيبها، ولم يذكر في حديث أبي أسامة: "أنَّها من فيح جهنَّم".(42/329)
قال أبو أحمد: قال إبراهيم: حدَّثنا الحسن بن بشر، حدَّثنا أبو أسامة، بهذا الإسناد. [ (4/1733) كتاب السلام، باب: لكل داء دواء ... (2211) ] .
9 - حدَّثنا محمد بن رافع، حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا معمر، عن همَّام بن منبِّه، قال: هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاء مَلَك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أَجِبْ ربَّك. قال: فلطم موسى عليه السلام عينَ مَلَك الموت ففقأها، قال: فرجع المَلَكُ إلى الله تعالى فقال: إنَّك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموتَ، وقد فقأ عيني، قال: فردَّ الله إليه عينَه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياةَ تريد؟ فإن كنتَ تريد الحياةَ فضعْ يدَكَ على متن ثور، فما توارت يدُكَ من شعرةٍ فإنَّك تعيش بها سنة، قال: ثمَّ مَهْ؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، ربِّ أمِتني من الأرض المقدَّسة رميةً بحجر"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله، لو أنِّي عنده لأريتكم قبرَه إلى جانب الطريق، عند الكثيب الأحمر".
قال أبو إسحاق: حدَّثنا محمد بن يحيى، حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، بمثل هذا الحديث. [ (4/1843) كتاب الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام (2372) ] .(42/330)
10 - حدَّثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي، حدَّثنا مروان - يعني ابن محمد الدمشقي - حدَّثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنَّه قال: "يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّماً فلا تظالموا، يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلاَّ من هديتُه فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلاَّ مَن أطعمته فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلاَّ من كسوته فاستكسوني أكسُكم، يا عبادي، إنَّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنَّكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته ما نقص ذلك مِمَّا عندي إلاَّ كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخل البحر، يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفِّيكم إيَّاها فمن وجد خيراً فليَحمد الله، ومَن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه".
قال سعيد: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
حدَّثنيه أبو بكر بن إسحاق، حدَّثنا أبو مسهر، حدَّثنا سعيد بن عبد العزيز بهذا الإسناد، غير أنَّ مروان أتمُّهما حديثاً.
قال أبو إسحاق: حدَّثنا بهذا الحديث الحسن والحسين ابنا بشر، ومحمد ابن يحيى، قالوا: حدَّثنا أبو مسهر، فذكروا الحديث بطوله. [ (4/1995) كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم (2577) ] .(42/331)
11 - حدَّثني سويد بن سعيد، حدَّثنا حفص بن ميسرة، حدَّثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتَّبعُنَّ سَنَن الذين من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ، حتى لو دخلوا في جُحرِ ضبٍّ لاتَّبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، آليهود والنَّصارى؟ قال: فمَن؟ ".
وحدَّثناه عدَّةٌ من أصحابنا، عن سعيد بن أبي مريم، أخبرنا أبو غسَّان - وهو محمد بن مطرِّف - عن زيد بن أسلم، بهذا الإسناد نحوه.
قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد: حدَّثنا محمد بن يحيى، حدَّثنا ابن أبي مريم، حدَّثنا أبو غسَّان، حدَّثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وذكر الحديث نحوَه. [ (4/2055) كتاب العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (2669) ] .
12 - حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا وكيع، حدَّثنا الأعمش، عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل) : "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأَزيدُ، ومن جاء بالسيِّئة فجزاؤه سيِّئةٌ مثلها أو أغفر، ومن تقرَّب منِّي شبراً تقرَّبتُ منه ذراعاً، ومن تقرَّب منِّي ذراعاً تقرَّبتُ منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولة، ومن لقيني بقُراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئاً لقيتُه بمثلها مغفرة".
قال إبراهيم: حدَّثنا الحسن بن بشر، حدَّثنا وكيع بهذا الحديث. [ (4/2068) كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الذِّكر والدعاء (2687) ] .(42/332)
13 - حدَّثني سُريج بن يونس وهارون بن عبد الله، قالا: حدَّثنا حجَّاج ابن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله عز وجل التربةَ يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدوابَّ يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل".
قال إبراهيم: حدَّثنا البسطامي - وهو الحسين بن عيسى - وسهل بن عمَّار، وإبراهيم بن بنت حفص، وغيرُهم، عن حجَّاج، بهذا الحديث. [ (4/2150) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ابتداء الخلق (2789) ] .
المبحث الرابع
تعليقاته على صحيح مسلم
تقدَّم في المبحث السابق ضابط الزيادة، بأن يروي راوية الكتاب أو مَن دونه أحاديث الزيادات بإسناده، ولم تقتصر فائدة أصحاب الزيادات على ذلك، بل وجدت تعليقات لهم على أحاديث صاحب الكتاب المزيد عليه حوت فوائد تتعلَّق بتلك الأحاديث، وكانت الظاهرة المشتركة الملحوظة في هذه التعليقات أنَّهم لم يرووها بأسانيد مثل ما فعلوا في الزيادات، وعليه فلا يمكن عدُّها من الزيادات، ورأيتُ أنَّ إفرادَ هذه التعليقات بمبحث خاص بها أولى من إدراجها معها، وما فعله شيخنا الفاضل الدكتور / مسفر الدميني من عدِّه إحدى تعليقات أبي الحسن القطان على حديث من سنن ابن ماجه من الزيادات فيه نظر.
ومِن تأمُّل تعليقات أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان على صحيح مسلم خرجتُ بالفوائد التالية:
1 - بيان منهج الإمام مسلم في صحيحه، كما في التعليق رقم: (1) ، وهو نص مهمٌّ اعتمده كلُّ من كتب حول منهج الإمام مسلم.
2 - بيان وهم في متن الحديث كما في التعليق رقم: (2) .(42/333)
3 - توضيح معنى حديث رواه الإمام مسلم، حصل فيه تقديم وتأخير، وذلك كما في التعليق رقم: (3) ، أو حصل فيه اختلاف في حركة لفظة في متن الحديث، كما في التعليق رقم: (4) ، أوجدا معنى جديداً.
4 - إيراد استشكال على بعض روايات الصحيح، يتضح منه الاختلاف والفرق بينهما، وذكر ما يدفع هذا الاستشكال، وذلك كما في التعليق رقم: (5) .
5 - توضيح رجل مبهم في متن الحديث، وذلك كما في التعليق رقم: (6) .(42/334)
تابع لإبراهيم بن محمد بن سفيان
نصوص التعليقات
1 - حدَّثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري ومحمد ابن عبد الملك الأموي - واللفظ لأبي كامل - قالوا: حدَّثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن يونس بن جُبير، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشي، قال: "صلَّيتُ مع أبي موسى الأشعري صلاةً، فلمَّا كان عند القعدة قال رجل من القوم: أُقرَّت الصلاة بالبرِّ والزكاة، قال: فلمَّا قضى أبو موسى الصلاةَ وسلَّم انصرف فقال: أيُّكم القائل كلمةَ كذا وكذا؟ قال: فأرمَّ القومُ، ثم قال: أيُّكم القائل كلمةَ كذا وكذا؟ فأرمَّ القوم، فقال: لعلَّك يا حِطَّان قلتَها؟ قال: ما قلتُها، ولقد رهبتُ أن تبكعني بها، فقال رجل من القوم: أنا قلتُها، ولم أرِدْ بها إلاّ الخير. فقال أبو موسى: أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبيَّن لنا سنَّتَنا وعلَّمنا صلاتَنا، فقال: "إذا صلَّيتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤُمَّكم أحدُكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين، يُجبكم الله، فإذا كبَّر وركع فكبِّروا واركعوا، فإنَّ الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتلك بتلك، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللَّهمَّ ربَّنا لك الحمد، يسمع الله لكم، فإنَّ الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده، وإذا كبَّر وسجد فكبِّروا واسجدوا، فإنَّ الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيَّات الطيِّبات الصلوات لله، السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله".(42/335)
حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا أبو أسامة، حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة، ح وحدَّثنا أبو غسَّان المسمعي، حدَّثنا معاذ بن هشام، حدَّثنا أبي، ح وحدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، عن سليمان التيمي، كلُّ هؤلاء عن قتادة، في هذا الإسناد بمثله، وفي حديث جرير، عن سليمان، عن قتادة من الزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا"، وليس في حديث أحد منهم: "فإنَّ الله قال على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده" إلاَّ في رواية أبي كامل وحده عن أبي عوانة.
قال أبو إسحاق: قال أبو بكر بن أخت أبي النضر في هذا الحديث. فقال مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟ فقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح؟ - يعني: "وإذا قرأ فأنصتوا" - فقال: هو عندي صحيح. فقال: لِمَ لَمْ تضعْه ههنا؟ قال: ليس كلُّ شيء عندي صحيح وضعتُه ههنا، إنَّما وضعتُ ههنا ما اجمعوا عليه. [ (1/303،304) كتاب الصلاة، باب: التشهد في الصلاة (404) ] .(42/336)
2 - وحدَّثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان الجعفي، حدَّثنا عبد الرحيم - يعني ابنَ سليمان - عن زكرياء، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن ابن مسعود قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جلوسٌ، وقد نُحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيُّكم يقوم إلى سلا جَزورِ بني فلان فيأخذُه، فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضُهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي مَنَعةٌ طرحتُه عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمةَ، فجاءت - وهي جُويريةٌ - فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلمَّا قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاتَه رفع صوته ثم دعا عليهم - وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً - ثم قال: "اللَّهمَّ عليك بقريش - ثلاث مرَّات –" فلمَّا سمعوا صوتَه ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوتَه، ثم قال: "اللَّهمَّ عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعُقبة بن أبي مُعيط" - وذكر السابع ولم أحفظه - فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيتُ الذين سمَّى صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب قليب بدر".
قال أبو إسحاق:"الوليد بن عقبة غلَطٌ في هذا الحديث". [ (3/1418،1419) كتاب الجهاد، باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى قريش (1794) ] .
3 - حدَّثنا محمد بن رافع، حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، ليأتينَّ على أحدكم يومٌ ولا يراني، ثم لأن يراني أحبُّ إليه من أهله وماله معهم".(42/337)
قال أبو إسحاق: "المعنى فيه عندي: لأن يراني معهم أحبُّ إليه من أهله وماله، وهو عندي مقدَّمٌ ومؤَخَّر". [ (4/1836) كتاب الفضائل، باب: النظر إليه صلى الله عليه وسلم وتمنّيه (2364) ] .
4 - حدّثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ح وحدثنا يحيى ابن يحيى، قال: قرأتُ على مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم".
قال أبو إسحاق: "لا أدري "أهلكَهم" بالنصب أو "أهلكُهم" بالرفع". [ (4/2024) كتاب البر والصلة، باب: النهي من قول: هلك الناس (2623) ] .
5 - حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا أبو أسامة، حدَّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبروني بشجرة شِبه، أو كالرجل المسلم، لا يتحاتُّ ورَقُها".
قال إبراهيم: "لعلَّ مسلماً قال: "وتُؤتي أُكُلها"، وكذا وجدتُ عند غيري أيضاً: "ولا تؤتي أُكُلها كلَّ حين" (1)
__________
(1) ذكر النووي معنى كلام ابن سفيان موضحاً له، فقال: "معنى هذا أنَّه وقع في رواية إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم ورواية غيره أيضاً عن مسلم (لا يتحات ورقها ولا تؤتي أكلها كلَّ حين) واستشكل إبراهيم بن سفيان هذا لقوله: "ولا تؤتي أكلها" خلاف باقي الروايات، فقال: لعلَّ مسلماً رواه "وتؤتي" بإسقاط (لا) وأكون أنا وغيري غلطنا في إثبات (لا) ... ". المنهاج (17/161) .
وتعقَّب القاضي عياض، ابنَ سفيان بأنَّ تأويله غير صحيح وليس هو بغلط كما توهَّم، وما في أصل صحيح مسلم هو الصحيح، وإثبات (ولا) صحيح، وقد رواه البخاري كذلك، فقال: "لا تتحات ورقها ولا تؤتي أكلها" فـ (تؤتي) ابتداء كلام ليس منفياً ب (لا) الذي قبله، وإنَّما نفى في الحديث أشياء أخر من العيوب عنها، فاختصره الراوي (ولا) ولا شاء ذكرها، ونسيها الراوي، والله أعلم، أو اختصر من أنَّه لا يقطع ثمرها، ولا ينعدم ظلها، وشبه هذا، ثم وصفها بأنها تؤتي أكلها كلَّ حين". إكمال المعلم (8/347) .
والذي يظهر أن استشكال ابن سفيان وجيه، على اعتبار أن روايات الحديث تؤيِّده، فبعد تخريج الحديث من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر وسيأتي وجدتُ أنَّ متنه جاء بأحد لفظين:
الأول: "أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربِّها، ولا تحت ورقها" كما عند البخاري في الصحيح في كتاب الأدب، وفي الأدب المفرد، وكما عند ابن منده بتقديم جملة: "تؤتي أكلها" على "ولا تحت ورقها".
الثاني: "أخبروني بشجرة تشبه أو كالرجل المسلم، لا يتحات ورقها، ولا، ولا، ولا، تؤتي أكلها كلَّ حين".
وعلى كلا اللفظين لا إشكال، فلما جاءت رواية مسلم بتقديم جملة "لا يتحات ورقها" وجاء بعدها قوله: "تؤتي أكلها" كان استشكال ابن سفيان.
وعلى أية حال فإنَّ ابنَ سفيان لم يجزم بأنَّ تأويله صحيح، بل اعتذر لنفسه ابتداءً بقوله: (ولعل) إشارة منه إلى أنَّ المسألة يمكن الرجوع فيها، وأنَّه يمكن أن يكون الصحيح ما ذهب إليه غيره، والله أعلم.
وحديث مسلم:
أخرجه البخاري في صحيحه (مع الفتح 8/377) كتاب التفسير، باب: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة..} (4698) ، وفي (10/536) كتاب الأدب، باب: إكرام الكبير ... (6144) . وأخرجه في الأدب المفرد (فضل الله الصمد (1/452) (360) . وأخرجه ابن منده في الإيمان (1/351) (187) .
كلاهما من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به، على اختلاف في المتن كما تقدَّم.(42/338)
قال ابن عمر: "فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيتُ أبا بكر وعمر لا يتكلَّمان، فكرهتُ أن أتكلَّم أو أقول شيئاً، فقال عمر: لأَن تكون قلتَها أحبُّ إليَّ من كذا وكذا". [ (4/2166) كتاب صفات المنافقين، باب: المؤمن مثل النخلة (2811) ] .
6 - حدَّثني عمرو الناقد والحسن الحلواني وعبد بن حميد - وألفاظهم متقاربة، والسياق لعبد - قال: حدَّثني. وقال الآخران: حدّثنا يعقوب - وهو ابن إبراهيم بن سعد -، حدّثنا أبي عن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة؛ أنّ أبا سعيد الخدري قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حديثاً طويلاً عن الدجّال، فكان فيما حدّثنا قال: "يأتي - وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة - فينتهي إلى بعض السِّباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خير الناس، فيقول له: أشهد أنّك الدجّال الذي حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه. فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلتُ هذا ثمَّ أحييته، أتشُكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا. قال: فيقتله ثم يحييه. فيقول حين يحييه: والله! ما كنتُ فيك قطُّ أشدَّ بصيرة منِّي الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتله فلا يُسلَّط عليه".
قال أبو إسحاق: يقال إنَّ هذا الرجل هو الخضر عليه السلام.
وحدّثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، أخبرنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري، في هذا الإسناد، بمثله. [ (4/2256) ، كتاب: الفتن، باب: في صفة الدجال (رقم:2938) ] .
الخاتمة
الحمد لله الذي أنعم عليَّ بإتمام هذا البحث، ويُمكن أن أُلخِّص أهمَّ النتائج التي توصَّلتُ إليها فيما يلي:
1 - يُعدُّ الإمام إبراهيم بن محمد بن سفيان من محدِّثي نيسابور الذين كانت لهم مكانة علمية مرموقة، ولا تنقص قلَّةُ المعلومات عنه من مكانته.(42/339)
2 - تُعدُّ روايته لصحيح مسلم الرواية المعتمدة، ولا يُعكِّر وجود الفوائت فيها من اتِّصال سنده بالصحيح؛ لأنَّنا لا نسلِّم بقاء هذه الفوائت له، ولو سلَّمنا بذلك، فقد اتَّصلت أحاديث هذه الفوائت من رواية القلانسي.
3 - شرط الزيادات أن تكون من راوية الكتاب عن مؤلِّفه أو ممَّن هو أدنى.
وهذا ما يفرق بينها وبين الزوائد التي لا ينطبق عليها هذا الشرط.
4 - للزيادات فوائد عديدة من أهمِّها: علوّ الإسناد، ووصل الرواية المنقطعة أو التي جاءت عن رجل مبهم، وتقوية الرواية الأصل بمتابعة الثقة، وتكثير طرق الحديث دفعاً للغرابة.
5 - من فوائد تعليقات ابن سفيان على صحيح مسلم: بيان منهج الإمام مسلم في صحيحه، وبيان الوهم الذي قد يقع في متن الحديث، أو توضيح رجل مبهم فيه، أو توضيح معنى الحديث.
وصلَّى الله على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
فهرس المراجع
1- الآداب: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) ، تحقيق: سعيد المندوه، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت،، ط: الأولى (1408هـ) .
2- إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة: للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت852هـ) ، تحقيق: د. زهير الناصر وآخرين، وزراة الشؤون الإسلامية، السعودية، ط: الأولى (1415هـ) .
3- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: ترتيب علي بن بلبان الفارسي (ت739هـ) ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: الأولى (1408هـ) .
4- أخبار أصبهان: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ) ، دار الكتاب الإسلامي.
5- الأدب المفرد: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) المطبوع مع فضل الله الصمد، المكتبة السلفية بالقاهرة، ط: الثالثة (1407هـ) .
6- الأربعين البلدانية: لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر (ت571هـ) ، تحقيق: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، ط: الأولى (1413هـ) .(42/340)
7- الأسامي والكنى: لأبي أحمد محمد بن محمد الحاكم الكبير (ت378هـ) ، تحقيق: يوسف الدخيل، مكتبة الغرباء بالمدينة، ط: الأولى (1414هـ) .
8- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لأبي عمر يوسف بن عبد البر (ت463هـ) ، تحقيق: علي معوض وآخرين، مكتبة دار الباز، ط: الأولى (1415هـ) .
9- أسد الغابة في معرفة الصحابة: لأبي الحسن علي بن محمد، ابن الأثير الجزري (ت630هـ) ، دار الشعب بالقاهرة.
10- أسماء الصحابة وما لكلِّ واحد منهم من العدد: لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم (ت456هـ) ، تحقيق: مسعد السعدني، مكتبة القرآن بالقاهرة.
11- الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة: لأبي بكر أحمد بن ثابت الخطيب (ت463هـ) ، تحقيق: د. عز الدِّين السيد، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط: الأولى (1405هـ) .
12- الأسماء والصفات: لأحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) ، تحقيق: عماد الدين حيدر، دار الكتاب العربي، بيروت، ط: الأولى (1405هـ) .
13- الإصابة في تمييز الصحابة: للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت852هـ) ، تحقيق: طه محمد الزيني، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، ط: الأولى (1396هـ) .
14- إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي: للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت852هـ) ، تحقيق: د. زهير الناصر، دار ابن كثير ببيروت، ط: الأولى (1414هـ) .
15- إكمال المعلم بفوائد مسلم: للقاضي عياض اليحصبي (ت544هـ) تحقيق: د. يحيى إسماعيل، دار الوفاء، ط: الأولى (1419هـ) .
16- الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع: للقاضي عياض اليحصبي (544هـ) ، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار التراث بالقاهرة.
17- الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح: لأبي عبيدة مشهور بن حسن سلمان، دار الصميعي، ط: الأولى (1417هـ) .
18- الأموال: لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) ، تحقيق: محمد خليل هراس، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، ط: الثالثة (1401هـ) .(42/341)
19- الأنوار في شمائل النبي المختار: لأبي مسعود الحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) تحقيق: إبراهيم اليعقوبي، دار الضياء بيروت، ط: الأولى (1409هـ) .
20- الإيمان: لمحمد بن إسحاق بن منده (ت395هـ) ، تحقيق: د. علي الفقيهي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: الثانية (1406هـ) .
21- البداية والنهاية: لأبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت774هـ) ، تحقيق: د. أحمد أبي ملحم وآخرين، دار الريان، القاهرة، ط: الأولى (1408هـ) .
22- البر والصلة: للحسين بن الحسن المروزي (ت246هـ) عن ابن المبارك وغيره، تحقيق: د. محمد سعيد البخاري، دار الوطن، ط: الأولى (1419هـ) .
23- بغية الطلب في تاريخ حلب: لابن العديم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، تحقيق: د. سهيل زكار، دار الفكر، بيروت.
24- تاج التراجم: لأبي الفداء قاسم بن قطلو بغا (ت879هـ) ، تحقيق: محمد خير رمضان، دار القلم بدمشق، ط: الأولى (1413هـ) .
25- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) ، تحقيق: د. عمر تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت.
26- تاريخ بغداد: لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب (ت463هـ) ، دار الكتب العلمية بيروت.
27- تاريخ دمشق: لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر (ت571هـ) ، مصورة عن المخطوط، نشرتها مكتبة الدار بالمدينة.
28- تاريخ يحيى بن معين (ت233هـ) برواية العباس بن محمد الدوري (ت271هـ) ، تحقيق: د. أحمد نور سيف، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى بمكة، ط: الأولى (1399هـ) .
29- تدريب الراوي: جلال الدين السيوطي (ت911هـ) ، تحقيق: عزت عطية وموسى محمد، دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
30- تذكرة الحفاظ: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) ، ومعه ذيوله لأبي المحاسن الحسيني ولمحمد بن فهد المكي.
31- التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت671هـ) ، تحقيق: فؤاد أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت،، ط: الثانية (1410هـ) .(42/342)
32- الترغيب والترهيب: لقوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت535هـ) ، تحقيق: محمد السعيد بسيوني، مكتبة عبد الشكور فدا - مكة.
33- تقريب التهذيب: للحافظ علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، قدَّم له وقابله: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، ط: الثالثة (1411هـ) .
34- التقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد: لأبي بكر محمد بن عبد الغني، ابن نقطة (ت629هـ) ، مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، ط: الأولى (1403هـ) .
35- التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح: لزين الدين عبد الرحيم العراقي (ت806هـ) ، تحقيق: محمد راغب الطباخ، مؤسسة الكتب الثقافية.
36- تلخيص تاريخ نيسابور: لأحمد بن محمد بن الحسن، الخليفة النيسابوري، تحقيق: دكتر بهمن، طهران (1339هـ) .
37- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر (ت463هـ) ، تحقيق: مجموعة من الباحثين، وزارة الأوقاف المغربية من سنة (1387هـ) .
38- تهذيب التهذيب: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، دار الفكر، بيروت، ط: الأولى (1404هـ) .
39- تهذيب الكمال في أسماء الرجال: لأبي الحجاج يوسف المزي (ت742هـ) ، تحقيق: د. بشار عواد، مؤسسة الرسالة، ط: الثانية (1403هـ) .
40- التوحيد وإثبات الصفات: لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت311هـ) ، تحقيق: عبد العزيز الشهوان، دار الرشد، ط: الأولى (1408هـ) .
41- التوحيد ومعرفة أسماء الله عزَّ وجلَّ: لأبي عبد لله محمد بن إسحاق بن منده (ت395هـ) ، تحقيق: د. علي فقيهي، مطبوعات الجامعة الإسلامية.
42- الثقات: لمحمد بن حبان البستي (ت354هـ) ، مراقبة محمد خان، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، ط: الأولى (1193هـ) .
43- جامع البيان عن تأويل القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) ، دار الفكر بيروت (1408هـ) .(42/343)
44- جامع الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (279هـ) ، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، دار الحديث بالقاهرة.
45- الجامع الصحيح: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت261هـ) ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
46- الجامع الصحيح: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) المطبوع مع شرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر، تحقيق: الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز، المطبعة السلفية بالقاهرة (1380هـ) .
47- الجرح والتعديل: لعبد الرحمن بن المنذر الرازي (ت327هـ) ، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند، ط: الأولى.
48- جزء الرواة عن مسلم: لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد، الضياء المقدسي (ت643هـ) ، المطبوع مع ترجمة الإمام مسلم للذهبي، تحقيق: عبد الله الكندري وهادي المري، دار ابن حزم، ط: الأولى (1416هـ) .
49- الجمع بين الصحيحين: لمحمد بن فتوح الحميدي (ت488هـ) ، تحقيق: د. علي البواب، دار ابن حزم بيروت، ط: الأولى (1419هـ) .
50- حجة الله البالغة: لأحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، دار التراث بالقاهرة، ط: الأولى (1355هـ) .
51- حجة الوداع: لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم (ت456هـ) ، تحقيق: أبي صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية (1418هـ) .
52- الحذر في أمر الخضر: للملا علي القاري (ت1014هـ) ، تحقيق: محمد خير رمضان، دار القلم بدمشق، ط: الأولى (1411هـ) .
53- الحل المفهم على صحيح مسلم: لرشيد أحمد الكنكوهي، علَّق عليها: محمد عاقل وحبيب الله قربان، المطبعة اليحيوية بسهارنفور، الهند.
54- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ) ، دار الريان، القاهرة، ط: الخامسة (1407هـ) .
55- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب لشريعة: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: الأولى (1405هـ) .(42/344)
56- الرسالة المستطرفة: محمد بن جعفر الكتاني (ت1345هـ) ، دار البشائر الإسلامية، ط: الخامسة (1414هـ) .
57- الزهد للإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) دار الريان بالقاهرة، ط: الأولى (1408هـ) .
58- الزهد: لعبد الله بن المبارك (ت181هـ) ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار عمر ابن الخطاب.
59- الزهر النضر في نبأ الخضر: للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت852هـ) ، تحقيق: مجدي السيد، مكتبة القرآن، القاهرة.
60- زيادات أبي الحسن القطان على سنن ابن ماجه: د. مسفر بن غرم الله الدميني،، ط: الأولى (1412هـ) .
61- السنة: لأبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم (ت287هـ) ، تحقيق: د. باسم الجوابرة، دار الصميعي بالرياض، ط: الأولى (1419هـ) .
62- السنة: لمحمد بن نصر المروزي (ت294هـ) ، تحقيق: سالم السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، ط: الأولى (1408هـ) .
63- السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث (ت275هـ) ، تعليق: عزت عبيد دعاس، وعادل السيد، دار الحديث، بيروت، ط: الأولى (1388هـ) .
64- السنن: لعلي بن عمر الدارقطني (ت385هـ) ، تصحيح: عبد الله هاشم اليماني، دار المحاسن بالقاهرة.
65- السنن: لابن ماجه محمد بن يزيد القزويني (ت275هـ) ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية، بيروت.
66- السنن الصغير: لأحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) ، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، ط: الأولى (1410هـ) .
67- السنن الكبرى: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) ، دار المعرفة بيروت.
68- السنن الكبرى: لأحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) ، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان وسيد حسن، دار الكتب العلمية ببيروت، ط: الأولى (1411هـ) .
69- سؤالات حمزة بن يوسف السهمي (ت427هـ) للدارقطني وغيره، تحقيق: موفق عبد القادر، مكتبة المعارف بالرياض، ط: الأولى (1404هـ) .
70- سير أعلام النبلاء: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، ط: الرابعة (1406هـ) .(42/345)
71- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد (ت1089هـ) ، دار إحياء التراث العربي.
72- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لأبي القاسم هبة الله اللالكائي (ت418هـ) ، تحقيق: د. أحمد سعد الحمدان، دار طيبة بالرياض.
73- شرح السنة: للحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي بيروت، ط: الثانية (1403هـ) .
74- شرح مشكل الآثار: لأحمد بن محمد الطحاوي (ت331هـ) ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: الأولى (1415هـ) .
75- شروط الأئمة الستة: محمد بن طاهر المقدسي (ت507هـ) تعليق: محمد زاهد الكوثري، مكتبة عاطف بالقاهرة.
76- شعب الإيمان: لأحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) ، تحقيق: محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية ببيروت، ط: الأولى (1410هـ) .
77- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: للقاضي عياض اليحصبي (ت554هـ) ، تحقيق: علي ابن محمد البجاوي، مطبعة عيسى الحلبي بالقاهرة (1398هـ) .
78- الشمائل المحمدية: لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ) تعليق: محمد عفيف الزعبي، ط: الأولى (1403هـ) .
79- صحيفة همام بن منبِّه (ت132هـ) ، تحقيق: د. رفعت فوزي، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط: الأولى (1406هـ) .
80- صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط: لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح (ت642هـ) ، تحقيق: موفق عبد القادر، دار الغرب الإسلامي، ط: الثانية (1408هـ) .
81- الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد الهاشمي (ت230هـ) طبعة دار التحرير بالقاهرة (1388هـ) .
82- الطهور: لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) ، تحقيق: مشهور حسن سلمان، مكتبة الصحابة، جدة، ط: الأولى (1414هـ) .
83- العبر في خبر من غبر: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) ، تحقيق: محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، ط: الأولى (1405هـ) .(42/346)
84- العظمة: لأبي محمد عبد الله بن حيَّان أبي الشيخ الأصبهاني (ت369هـ) ، تحقيق: د. رضاء الله المباركفوري، دار العاصمة، ط: الأولى (1408هـ) .
85- علم زوائد الحديث: د. خلدون الأحدب، دار القلم، ط: الأولى (1413هـ) .
86- العوالي عن الإمام مالك: للحاكم أبي أحمد محمد الكبير (ت378) وآخرين، تحقيق: محمد الناصر، دار الغرب الإسلامي، ط: الأولى (1419هـ) .
87- العيال: لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا (ت281هـ) ، تحقيق: د. نجم الخلف، دار ابن القيم بالدمام، ط: الأولى (1410هـ) .
88- الغوامض والمبهمات: لأبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال (ت578هـ) ، تحقيق: محمود مغراوي، دار الأندلس الخضراء بجدة، ط: الأولى (1415هـ) .
89- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر (ت852هـ) = انظر: صحيح البخاري.
90- فتح الملهم بشرح صحيح مسلم: شبير أحمد الديوبندي العثماني، مطبعة الرمانده، الهند (1357هـ) .
91- فضائل الصحابة: للإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) تحقيق: وصي الله عباس، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، ط: الأولى 01403هـ) .
92- الفقيه والمتفقه: لأبي بكر أحمد بن ثابت الخطيب (ت462هـ) ، تحقيق: عادل العزازي، دار ابن الجوزي، ط: الأولى (1417هـ) .
93- فهرسة ما رواه أبو بكر محمد بن خير الأشبيلي (ت275هـ) عن شيوخه، مؤسسة الخانجي بالقاهرة وغيرها، ط: الثانية (1382هـ) .
94- الفوائد المنتخبة العوالي المعروفة بالغيلانيات: لأبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي (ت354هـ) ، تحقيق: د. مرزوق الزهراني، دار المأمون بدمشق، ط: الأولى (1417هـ) .
95- القدر وما ورد في ذلك من الآثار: عبد الله بن وهب المصري (ت197هـ) ، تحقيق: د. عبد العزيز العثيم، دار السلطان، ط: الأولى (1406هـ) .
96- الكاشف في معرفة مَن له رواية في الكتب الستة: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) ، تحقيق: محمد عوامة وأحمد الخطيب، دار القبلة، ط: الأولى (1413هـ) .(42/347)
97- الكامل في التاريخ: لأبي الحسن علي بن أبي الكرم، ابن الأثير (ت630هـ) ، مؤسسة التاريخ العربي ببيروت، ط: الرابعة (1414هـ) .
98- الكنى والأسماء: لأبي بشر محمد بن أحمد الدولابي (ت310هـ) ، المكتبة الأثرية، باكستان.
99- الكواكب النيِّرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات: لأبي البركات محمد ابن أحمد الكيَّال (ت939هـ) تحقيق: عبد القيوم عبد رب النبي، دار المأمون بدمشق، ط: الأولى (1401هـ) .
100- لسان الميزان: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، دار الفكر، بيروت، ط: الأولى (1408هـ) .
101- ما لا يسع المحدّث جهله: لأبي جعفر عمر بن عبد المجيد الميانشي (581هـ) ، تحقيق: صبحي السامرائي، بغداد (1397هـ) .
102- المجتبى: لأحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) اعتنى به: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط: الثالثة (1409هـ) .
103- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لعلي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) ، دار الريان، مصر (1407هـ) .
104- المجمع المؤسس للمعجم المفهرس: للحافظ أحمد بن علي بن حجر ت852هـ) ، تحقيق: د. يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت ط: الأولى (1412هـ) .
105- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: دار عالم الكتب بالرياض (1412هـ) .
106- محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح: لسراج الدين عمر البلقيني (ت805هـ) المطبوع مع مقدمة ابن الصلاح، تحقيق: د. عائشة عبد الرحمن، الهيئة المصرية للكتاب (1974هـ) .
107- المدخل إلى شرح السنة: علي بن عمر بادحدح، دار الأندلس الخضراء بجدة، ط: الأولى (1415هـ) .
108- مرآة الجنان وعبرة اليقظان: لأبي محمد عبد الله بن سعد اليافعي (ت768هـ) ، دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة، ط: الثانية (1412هـ) .
109- المرض والكفارات: لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا (ت281هـ) ، تحقيق: عبد الوكيل الندوي، الدار السلفية بالهند، ط: الأولى (1411هـ) .(42/348)
110- مسألة العلو والنزول: لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت507هـ) ، تحقيق: صلاح الدين مقبول، مكتبة ابن تيمية بالكويت.
111- مستخرج أبي عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (ت316هـ) ، المطبوع باسم مسند أبي عوانة، تحقيق: أيمن الدمشقي، دار المعرفة بيروت، ط: الأولى (1419هـ) .
112- مستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم: لأحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ) تحقيق: محمد حسن الشافعي، مكتبة عباس الباز بمكة، ط: الأولى (1417هـ) .
113- المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405هـ) ، دار الفكر بيروت (1398هـ) .
114- المسند الجامع: بشار عواد وآخرون، دار الجيل، بيروت،، ط: الأولى (1413هـ) .
115- مسند الشافعي: محمد بن إدريس (ت204هـ) ، بترتيب محمد عابد السندي، تحقيق: يوسف الزواوي، وعزت العطار، دار الكتب العلمية، بيروت (1370هـ) .
116- مسند الموطأ: لأبي القاسم عبد الرحمن الغافقي (ت381هـ) ، تحقيق: لطفي الصغير، وطه بوسريح، دار الغرب الإسلامي، ط: الأولى (1997م) .
117- المسند للإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) ، تصوير المكتب الإسلامي، ط: الخامسة (1405هـ) .
118- المسند لإسحاق بن راهويه (ت238هـ) تحقيق: د. عبد الغفور البلوشي، مكتبة الإيمان بالمدينة،، ط: الأولى (1412هـ) .
119- المسند: لأبي داود سليمان بن داود الطيالسي (ت204هـ) ، دار المعرفة، بيروت.
120- المسند: لأبي يعلى أحمد بن علي الموصلي (ت307هـ) تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون ط: الأولى، (1404هـ) .
121- المسند: للإمام عبد الله بن الزبير الحميدي (ت219هـ) ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، عالم الكتب، بيروت.
122- مسند علي بن الجعد (ت230هـ) ، تحقيق: د. عبد المهدي عبد الهادي، مكتبة الفلاح، ط: الأولى (1405هـ) .
123- المسند: للهيثم بن كليب الشاشي (ت335هـ) ، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة، ط: الأولى (1410هـ) .(42/349)
124- مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: لأحمد بن أبي بكر البوصيري (ت840هـ) ، تحقيق: موسى محمد علي، وعزت عطية، دار الكتب الإسلامية، القاهرة.
125- المصنف: لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت235هـ) تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة العلوم والحكم، المدينة، ط: الأولى (1409هـ) .
126- المصنف: لعبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ) حققه: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط: الثانية (1403هـ) .
127- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت852هـ) ، تحقيق: عدد من الباحثين، دار العاصمة، ط: الأولى (1419هـ) .
128- معالم التنزيل في التفسير بالتأويل: لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) ، دار الفكر بيروت (1405هـ) .
129- معالم السنن: لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت388هـ) ، تحقيق: عبد السلام محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: الأولى (1405هـ) .
130- المعجم الكبير: لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) تحقيق: حمدي السلفي، ط: الثانية.
131- المعجم المفهرس أو تجريد أسانيد الكتب المشهورة: للحافظ ابن حجر (852هـ) ، تحقيق: محمد شكور المياديني، مؤسسة الرسالة،، ط: الأولى (1418هـ) .
132- معرفة علوم الحديث: للحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله (ت405هـ) مكتبة المتنبي بالقاهرة.
133- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: لأبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت806هـ) ، اعتناء: أشرف عبد المقصود، دار طبرية بالرياض، ط: الأولى (1415هـ) .
134- المقاصد السنية في الأحاديث الإلهية: لأبي القاسم علي بن بلبان (ت684هـ) ، تحقيق: محيي الدين مستو، د. محمد الخطراوي، دار التراث، ط: الثانية (1408هـ) .
135- مقدِّمة إكمال المعلم: للقاضي عياض اليحصبي (ت544هـ) ، تحقيق: د. حسين شواط، دار ابن عفان بالخبر، ط: الأولى (1414هـ) .(42/350)
136- ملء العيبة بما جُمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة: لأبي عبد الله محمد بن عمر بن رُشيد السبتي (ت721هـ) ، تحقيق: د. محمد الحبيب الخوجة، دار الغرب الإسلامي، ط: الأولى (1408هـ) .
137- المنتخب من مسند عبد بن حميد (ت249هـ) تحقيق: صبحي السامرائي ومحمود الصعيدي، مكتبة السنة بالقاهرة،، ط: الأولى (1408هـ) .
138- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت597هـ) ، تحقيق: محمد ومصطفى عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: الأولى (1412هـ) .
139- المنتقى من السنن: لأبي محمد عبد الله بن علي بن الجارود (ت307هـ) ، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني، مطبعة الفجالة (1383هـ) .
140- المنهاج بشرح مسلم بن الحجاج: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676هـ) ، مراجعة: خليل ألميس، دار القلم، بيروت، ط: الثالثة.
141- منهاج السنة النبوية: لأبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت728هـ) ، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مطبوعات جامعة الإمام، ط: الأولى (1406هـ) .
142- منهجية فقه الحديث عند القاضي عياض: د. الحسين بن محمد شواط، دار ابن عفان، ط: الأولى (1415هـ) .
143- موطأ الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) :
- برواية يحيى بن يحيى الليثي، تصحيح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة.
- وبرواية سويد بن سعيد الحدثاني، تحقيق: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي،، ط: الأولى (1994هـ) .
- وبرواية أبي مصعب الزهري، تحقيق: د. بشار عواد ومحمود خليل، مؤسسة الرسالة ببيروت،، ط: الأولى (1412هـ) .
- وبرواية عبد الرحمن بن القاسم - بتلخيص القابسي - تحقيق: محمد علوي المالكي، دار الشروق بجدة،، ط: الأولى (1405هـ) .
144- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الفكر، بيروت.(42/351)
145- نزهة الحفاظ: لأبي موسى محمد بن عمر المديني (ت581هـ) ، تحقيق: مجدي السيد، مكتبة القرآن بالقاهرة.
146- نسخة أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر (ت218هـ) ، تحقيق: مجدي السيد، دار الصحابة بطنطا، ط: الأولى (1410هـ) .
147- نسخة يحيى بن معين (ت233هـ) برواية الصوفي - رسالة ما جستير بجامعة الملك سعود، تحقيق: عصام السناني (1415هـ) .
148- هدي الساري، مقدمة فتح الباري: للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت852هـ) ، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز، المكتبة السلفية بالقاهرة.(42/352)
السؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم
وأثره في التربية والتعليم
إعداد
د. أحمد بن عبد الفتاح ضليمي
أستاذ مساعد بقسم التربية بكلية الدعوة وأصول الدين
بالجامعة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن نعم الله على الإنسان عظيمة، وأفضاله عليه كثيرة، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (1) ومن نعم الله على الإنسان منحة القدرة على التعلم، وتزويده بأدوات التعلم ووسائله، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (2) وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) . وقد زوّد الإسلام المسلم بالمنهج السليم للتعلم، وأرشده إلى أدواته وطرائقه والتي من أهمها السؤال، فقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (4) وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (5) . ولأهمية السؤال في التعلم والتعليم فقد عدّه بعض علماء الإسلام مفاتيح العلم، كما عدّه بعضهم نصف العلم. والمتأمل في السؤال وأهميته يجد أنه يشغل حيزاً كبيراً وهاماً في النشاطات التعليمية والتربوية، بل ويشكل أهمية كبيرة لمختلف عناصر الموقف التعليمي من معلم ومتعلم وطريقة ومحتوى وتقويم وأهداف تعليمية. وانطلاقاً من هذه الأهمية بالإضافة إلى قلة البحوث التربوية الإسلامية في مجال السؤال ولا سيما ما يتعلق منها بالسؤال في القرآن الكريم تبرز أهمية هذا البحث والذي يهدف الباحث - من خلاله - إلى إلقاء الضوء على مكانة
__________
(1) سورة إبراهيم: آية:34.
(2) سورة البقرة: آية:31.
(3) سورة النحل: آية:78.
(4) سورة النحل: آية:43.
(5) سورة الفرقان: آية:59.(42/353)
السؤال في القرآن الكريم، والآداب التي أرشد المتعلمين والمعلمين إلى التمسك بها في هذا الصدد، فضلاً عن بيان الخصائص التربوية للسؤال والجواب في ضوء المنهج التربوي القرآني، ويأمل الباحث أن يكون هذا البحث خطوة في طريق إبراز وبلورة منهج إسلامي تربوي متكامل.
المبحث الأول: أهمية السؤال التربوية.
أولاً: قدم طريقة السؤال.
ثانياً: أهمية السؤال في التربية الحديثة:
أ) - أهمية السؤال للطفل.
ب) - أهمية السؤال للمتعلم.
ج) - أهمية السؤال للمعلم.
د) - أهمية السؤال للدرس وطريقة التدريس.
هـ) - أهمية السؤال في مراحل التعليم المختلفة.
ثالثاً: أهمية السؤال عند المربيين المسلمين المتقدمين.
رابعاً: أهمية السؤال في السنة.
تمهيد:
للسؤال أهمية بالغة في التربية والتعليم، وقد كان السؤال وما زال من أفضل الطرق التربوية وأحسنها أثراً وأعظمها نفعاً.
ويُعدّ السؤال الطريقة التي يتعرّف الطفل من خلالها على العالم المحيط به، كما أنه يقدم الكثير من المنافع للمتعلم فيحرك تفكيره، ويثير نشاطه، ويقوي صلته بالموضوعات التي يدرسها، كما يعتمد المعلم على السؤال في تحقيق كثير من الأهداف التعليمية والتربوية، كما أن حسن استخدام المعلم للسؤال يعد آية نجاحه، ومقياس مهارته، ويعد السؤال قوام الدرس، وأساس الطريقة التدريسية، ولأهمية السؤال فإنه لا يمكن الاستغناء عنه في أي مرحلة من المراحل التعليمية، حيث تستمر الحاجة إليه من قبل المتعلم والمعلم على حد سواء.
وانطلاقاً من أهمية السؤال ودوره في التربية والتعليم، فإننا سوف نعرض في هذا المبحث لأهمية السؤال التربوية لكل من المتعلم والمعلم، كما نبرز الاهتمام الذي أولته التربية الإسلامية السؤال والمكانة الرفيعة التي نالها في ضوء هذه التربية.
أولاً: قدم طريقة السؤال(42/354)
تعدّ طريقة السؤال من أقدم الطرق التعليمية والتربوية التي عرفها الإنسان، حيث استعملت المجتمعات الإنسانية على اختلافها هذه الطريقة، فاستعملها المربون والمعلمون والمصلحون في تلك المجتمعات.
وإن الذين درسوا تاريخ التربية يعلمون أن طريقة السؤال طريقة قديمة قدم التربية ذاتها.
ثانياً: أهمية السؤال في التربية الحديثة
أ) - أهمية السؤال للطفل (مرحلة ما قبل الابتدائية)
يطلق البعض على هذه المرحلة مرحلة السؤال، حيث تكثر فيها أسئلة الطفل ويسمع فيها من الطفل دائماً (ماذا؟، لماذا؟، متى؟، أين؟، كيف؟، من؟، ... الخ) والطفل في هذه المرحلة علامة استفهام حية بالنسبة لكل شيء، فهو يحاول الاستزادة العقلية والمعرفية. إنه يريد أن يعرف الأشياء التي تثير انتباهه، وأن يفهم الخبرات التي يمر بها. ويقدر بعض الباحثين أن حوالي 10-15 % من حديث الطفل في هذه المرحلة يكون عبارة عن أسئلة. كما يشاهد سلوك الاستطلاع والاستكشاف بكثرة عند طفل الحضانة.
ب) - أهمية السؤال للمتعلم:
يقوم السؤال بدور فاعل ومؤثر لدى المتعلم، حيث يجعله محور العملية التعليمية ومركز الفاعلية عوضاً عن المدرس.
ويقدم السؤال للمتعلم العديد من الفوائد والإيجابيات، وذلك كما يلي:
10- يعدّ السؤال عماد المعلم في تعليم صغار التلاميذ الذين لا يطيقون التلقي والاستماع طويلاً دون إثارة انتباههم وتجديد نشاطهم بالمناقشة وتوجيه الأسئلة.كما تفيد الأسئلة في توجيه الأطفال إلى التعرف على صفات المحسات وخواصها.
2 - يدفع السؤال والمناقشة المتعلم إلى إعمال العقل والتفكير لمعرفة ما يتصل بموضوع النقاش. كما يقود السؤال التلاميذ إلى الطريقة الصحيحة للتفكير، كما يحدث عند قيام المتعلم بفحص الجزئيات والمقدمات، بغرض الوصول إلى العموميات والكليات، كما يؤدي السؤال دوراً هاماً في الجانب العقلي لدى المتعلم، وذلك عندما يكسبه القدرة على الربط والموازنة والاستنتاج.(42/355)
3 - يؤدي السؤال إلى تركيز انتباه التلاميذ وإثارة اهتمامهم نحو الحقائق التي يراد الوصول إليها. فالأسئلة تثير مزيداً من الانتباه والنشاط والحيوية في حجرة الدراسة، ولا سيما إذا كان الموضوع مما يتصل بميول التلاميذ وحاجاتهم ومشكلاتهم.
4 - يقوم السؤال بإثارة نشاط التلاميذ ويجعلهم فاعلين، ويحملهم على الاشتراك العملي في الدرس، فالأسئلة التي يطرحها المعلم تحمل التلاميذ على المشاركة والاستماع والفهم والسؤال عما لا يدركونه من الحقائق.
5 - يعمل السؤال على إقامة علاقة قوية ومستمرة بين التلاميذ وبين حقائق الدرس ومعلوماته، ومن ثم فهو يكفل حضور التلاميذ العقلي وارتباطهم بالدرس وعدم انقطاع صلتهم به ومتابعتهم إياه، كما يؤدي اتباع طريقة السؤال في التعليم إلى عدم ملل التلاميذ من الدروس كما يحدث عند الاقتصار على طريقة الإلقاء.
6 - تؤدي طريقة الأسئلة والمناقشة إلى ثبات المعلومات واستمرارها لدى المتعلمين حيث يلاحظ أن المعلومات التي يصل إليها المتعلم بجهده عن طريق السؤال تتصف بالثبات والاستمرار فترة أطول من المعلومات التي تصله عن طريق التلقي ولا يبذل جهداً في معرفتها والتوصل إليها.
7 - تعمل طريقة السؤال - في التدريس - على إكساب التلاميذ مهارات التحدث والاستماع، وإبداء الملاحظات، وتقبل الانتقادات.
8 - تؤدي مشاركة المتعلم في الدرس من خلال المناقشة والسؤال إلى الشعور بقيمته الذاتية مما يعزز ثقته بنفسه ويدفعه نحو المزيد من النمو والتقدم في دراسته وتعلمه.
ج) - أهمية السؤال للمعلم:
يعدّ توجيه الأسئلة إلى المتعلمين والإجابة عن أسئلتهم ووضع الأسئلة الملائمة لتقويم تعلمهم من أهم المهارات التي يحتاجها المعلم.(42/356)
ولأن إتقان وضع الأسئلة وإجادة المعلم طريقة مناقشتها مع تلاميذه فن لا يتقنه إلا كل بارع عليم بطرق التدريس، خبير بطبائع التلاميذ، فقد عد استعمال طريقة السؤال مقياس مهارة المعلم، وجودة طريقته، ووضوح منهجه في التدريس.
ويُقدم استعمال السؤال في التدريس فوائد عديدة إلى المعلم من أهمها ما يلي:
1- دفع المعلم إلى التفكير العميق في جوانب الموضوع الذي يزمع القيام بتدريسه.
2 - تشجيع روح النقد الذاتي لديه لمراجعة أفكاره وخبراته بين الحين والآخر، فالحوار مع النفس أو الآخرين يعد من طرق التعلم الفاعلة، والتي ترافق الفرد في جميع مراحل حياته.
3 - مناقشة ما يتلقاه من تلاميذه في الإجابة عن الأسئلة، وإصلاح ما قد يقعون فيه من خطأ.
4 - اكتساب اليقظة والثقة بالنفس، وحضور البديهة، والاستعداد لحل أي مشكلة تعرض أثناء الدرس حلاً سريعاً وموفقاً.
5 - اشتراك التلاميذ مع المعلم في استنباط المعلومات.
6 - يعد السؤال من أفضل الوسائل التي يستخدمها المعلم للمراجعة والتطبيق.
7 - كشف نواحي اهتمام التلاميذ وقدراتهم.
8 - حصر النقاط الهامة في الدرس وتلخيصها.
د) - أهمية السؤال للدرس وطريقة التدريس:
لا يستطيع أحد أن ينكر ما للأسئلة من قيمة في التدريس فالسؤال قوام الطريقة التحاورية، وركن أساسي من أركان الطريقة الاستقرائية.
فهو يقوم بتنويع مسلكية الدرس، وذلك بالانتقال من الإلقاء إلى الحوار، فيقوم بذلك بتبديد السأم عن التلاميذ وتجديد نشاطهم.
كما أنه أشبه بالقوة الدافعة في الدرس، فيسير ويتحرك في اتجاه أهدافه.
كما أن الأسئلة تعتبر بحق الوسيلة المنظمة للمناقشة بين الطلاب والأساتذة.
كما تستخدم الأسئلة في جميع خطوات الدرس الأساسية من تمهيد، وعرض، وربط، وتعميم، وتطبيق.(42/357)
وتستخدم طريقة الأسئلة والمناقشة في كثير من الدروس والخطوات الدرسية التفصيلية، فيستخدمها المعلم عقب سرد القصص، فيكون في توجيهها وإجابة التلاميذ عنها تدريب على الاستعمال اللغوي السليم.
وما يقال عن الأسئلة والمناقشات عقب سرد القصص يقال عن الأسئلة والمناقشات عقب دروس المطالعة، فهناك أسئلة تعقب القراءة الصامتة، وأسئلة تتخلل المناقشات التفصيلية، وكذلك الحال في دروس التعبير عقب انتهاء المتحدث من حديثه.
هـ) - أهمية السؤال في مراحل التعليم المختلفة:
للسؤال أهمية كبيرة في جميع مراحل التعليم: الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية والجامعية حيث تستخدم طريقة السؤال على نطاق واسع في المراحل الأولى من التعليم بل ويجب أن تكون عماد التدريس فيها، أما في المراحل المتقدمة فهي تقتصر في الغالب على مناقشة المقدمات للوصول إلى النتائج العامة، كما تستخدم للربط والاستنتاج.
وعلى الرغم من أهمية طريقة السؤال وشيوع استعمالها في جميع مراحل التعليم، إلا أن من الحقائق ما لا يمكن الوصول إليها عن طريق السؤال، ولا يستطيع التلاميذ استنباطها مهما دارت الأسئلة حولها، ولا سبيل لمعرفتها إلا بتوضيحها وإلقائها عليهم من قبل المعلم.
ثالثاً: أهمية السؤال عند المربيين المسلمين المتقدمين(42/358)
يبين أحد الدارسين المعاصرين أن طريقة السؤال كانت من أهم الطرق التعليمية وأكثرها شيوعاً على امتداد التاريخ الإسلامي. وأن هذا الأسلوب كان معروفاً وشائعاً لدى الصحابة والتابعين ومن أوائل من طبق هذا الأسلوب على ابن أبي طالب - رضي الله عنه - والذي أثر عنه قوله: "العلم خزائن، ومفتاحه السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمحب لهم". وكان هذا الأسلوب شائعاً استعمله عبد الله بن عباس وشجع تلاميذه عليه، وكان يرى فيه أداة تساعد على تمييز التلاميذ ومعرفة مستوياتهم العلمية، كما استعمله الحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وعكرمة.وخلصت آراؤهم إلى أن المعلم إذا لم يتح للمتعلمين أن يسألوه ويسألهم ينقص علمه، ويتوقف نموه، وينتهي بهم جميعاً إلى ركود في التفكير، ومن هنا اهتموا بصياغة السؤال وحسن طرحه وقرروا أن ذلك نصف العلم".
ومن العلماء الذين أكدوا على طريقة السؤال ودعوا إلى رعايتها والاهتمام بها:
1- علي بن محمد الماوردي (364-450هـ) :
وقد شدّد على استعمال الأسئلة، وتشجيع المتعلم على السؤال، حيث كان يرى أن كثرة السؤال فيما التبس ليست إعناتاً، وأن الأسئلة مفاتيح العلم، وأن الأحاديث النبوية تحضّ المتعلم على السؤال، وأنها جعلت حسن السؤال نصف العلم.
2- أحمد بن علي الخطيب البغدادي (392-463هـ) :
وقد ركزّ على أسلوبين من أساليب التعليم كان يرى أن لهما علاقة وثيقة بالاجتهاد والتحرر من التقليد، وهما: أسلوب الأسئلة، وأسلوب المناظرة.
3- بدر الدين بن جماعة (639-733هـ) :
وقد دعا المعلم - بعد فراغه من الدرس - أن يطرح بعض الأسئلة التي تكشف عن مدى فهم التلاميذ لما شرح، شريطة أن تنطلق هذه الأسئلة من منطلق واضح ومحدد. كما يرى أن العلم إنما يتوصل إليه بطرح المسائل، ودعا إلى حسن فهم السؤال.
4- ابن قيم الجوزية (691-751هـ) :(42/359)
وقد اهتم بالسؤال وأولاه عناية كبيرة، حيث أكدّ أن الحياء من معوقات التعلم وذلك بعدم السؤال وبيّن أن العلم له ست مراتب أولها حسن السؤال.
وفي أهمية السؤال في التعلم يقول الإمام ابن القيم:
"من الناس من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله، إما أنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه".
5- عبد الرحمن بن خلدون (732- 808 هـ) :
وقد اهتم اهتماما كبيراً بالسؤال والحوار، وكان يرى "أن أيسر طرق ملكة التعلم فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها".
فطريقة المناقشة عنده من أجدى وسائل التعلم، ولذلك أخذ على المغاربة عدم أخذهم بها في التعليم.
رابعاً: أهمية السؤال في السنة
اهتمت السنة بالسؤال اهتماماً كبيراً، حيث يتضح هذا الاهتمام من استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للسؤال وكثرة الطرق والموضوعات التي استخدمه فيها:
1- فقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار كوسيلة فاعلة ومؤثرة في تعليم أصحابه أمور دينهم وركائز عقيدتهم، وتوضيح كثير من الأمور الدينية والدنيوية التي تهمهم، ومن أمثلة ذلك: الحوار الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، بطريقة مشوقة شدت انتباه الصحابة الحاضرين وهيأت عقولهم للتلقي والفهم ومتابعة الحوار من بدايته إلى خاتمته، بوعي وتركيز شديدين.
2- كما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يكون أصحابه هم البادئون بالسؤال في بعض الأحيان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني"، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان ... الحديث".
ويؤخذ من هذا الحديث فوائد تربوية من أهمها:
أ) - مشروعية ترغيب المتعلمين في أن يكونوا هم السائلين، ليكون التعليم مبنياً على رغبتهم، وليكون أشدّ وقعاً في نفوسهم.(42/360)
ب) - إجراء حوار أمام المتعلمين ليتابعوا الحوار، ويتعلموا منه أمور دينهم.
وهذه الطريقة ربما كانت مقصودة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: "هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا" (1) .
3- وقد كانت طريقة السؤال تروق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع ... الحديث".
4- وقد استخدم أسلوب السؤال في السنة استخدامات كثيرة ومتنوعة منها ما يلي:
- تعليم المسلمين أمور دينهم، كما في حديث جبريل المشار إليه آنفاً.
- لفت أنظار المسلمين إلى بعض الأفعال التي يؤدي الوقوع فيها إلى سوء العاقبة والتي لا ينفع معها القيام بأعمال صالحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس؟ ….الحديث".
- التنبيه على بعض المفاهيم والحقائق الأساسية، وكيفية ترجمتها إلى جانب عملي مثل حقيقة الإسلام، والهجرة، وأنهما ليسا ادعاء، وإنما هما عمل وتطبيق.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (2) .
- تصحيح مفاهيم وسلوكيات خاطئة، مثل مؤازرة الإخوان، والأقارب والأصدقاء، ونحوهم في الخير والشر.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا: يا رسول هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: "تأخذ فوق يديه" (3) .
- غرس خصال الخير، وتشجيع العطاء والبذل لدى المسلم والتشجيع على التفكير.
__________
(1) صحيح مسلم: 1/40، باب: 2، ح: 10.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 1/53، كتاب الإيمان، باب: 4، ح: 10.
(3) نفس المرجع: 5/98، كتاب المظالم، باب: 4، ح: 2443.(42/361)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: "هي النخلة" (1) .
المبحث الثاني: مكانة السؤال في القرآن الكريم
أولاً: الحث على السؤال والترغيب فيه.
ثانيا: السؤال في قصة موسى والخضر عليهما السلام.
تمهيد:
عني القرآن الكريم بالسؤال عناية كبيرة، فالسؤال في المنهج التربوي وسيلة من أهم وسائل التعلم، بل هو الأداة التي يتوصل عن طريقها إلى الإلمام بالحقائق والمعلومات التي يرغب المتعلمون في معرفتها، لذلك وجه القرآن إلى الانتفاع بأسلوب السؤال وحثّ عليه ورغّب فيه. وسوف نوضح في هذا المبحث الأهمية التي أولاها القرآن السؤال والمكانة التي تبوأها السؤال في ظل المنهج التربوي القرآني.
أولاً: الحث على السؤال والترغيب فيه
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (2)
فقد وجه القرآن الكريم كفار قريش إلى سؤال علماء التوراة والإنجيل عن حقيقة إرسال الله رسلاً من البشر عندما استعظموا ذلك وأنكروا أن يرسل الله بشراً،فكان سؤال أهل العلم والاختصاص وسيلة استخدمها القرآن لتثبيت حقيقة إيمانية، وترسيخها في النفوس، فلا يتطرق إليها الشك بعد ذلك
وفي استعمال السؤال في التعلم، والانتفاع بسؤال أهل الخبرة والمعرفة، يقول أحد الدارسين: "من الأدبيات القرآنية المهمة في مجال العلم وجوب الرجوع إلى أهل الخبرة في كل علم وفن، وسؤال أهل الذكر في كل موضوع، فهم الذين يستطيعون أن يحلوا العقد، ويعالجوا العضل من المسائل والعويص من القضايا".
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 1/145، كتاب العلم، باب: 4، ح: 61.
(2) سورة النحل: آية: 43.(42/362)
وقد استعمل السؤال في القرآن لزيادة طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن نبوته ورسالته وذلك بسؤال أهل التوراة والإنجيل عن وجود هذه الحقيقة في كتبهم. قال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (1) .
ومرة ثالثة يوجه القرآن الكريم إلى أخذ الحقائق من أهلها العارفين بها ويكون أقرب الطرق وأصدقها في ذلك هو السؤال، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (2) .
ثانياً: السؤال في قصة موسى والخضر عليهما السلام
لقد كان السؤال في هذه القصة من أهم طرق التعلم ووسائله، وقد حقق السؤال الكثير من الفوائد والإيجابيات، نبين بعضها في هذا الجزء من البحث، ونبين البعض الآخر في مكانها المناسب من البحث.
وقد تكرر استعمال السؤال مرات عديدة في هذه القصة، وكان استعماله فيها جميعها استعمالاً راشداً وموفقاً
__________
(1) سورة يونس: آية: 94.
(2) سورة الفرقان: آية: 58، 59.(42/363)
1- فقد استخدم نبي الله موسى عليه السلام السؤال ليعرف مكان الخضر عليه السلام ويتعلم منه، روى الإمام البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فمرّ بهما أُبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ فقال أُبي: نعم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه يقول: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: أتعلم أحداً أعلم منك؟ فقال موسى: لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى: بلى عبدنا خضر. فسأل السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه ... الحديث".
2- كما استخدم عليه السلام السؤال في اتباعه الخضر والتعلم منه، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (1) قال الإمام القرطبي في تفسير الآية: "هذا سؤال الملاطف المستنزل المبالغ في حسن الأدب، والمعنى هل يتفق لك ويخف عليك". وقد استخدم نبي الله موسى عليه السلام السؤال هنا لتحقيق أغراض منها: الاتباع، والتعلم الراشد.
3- إن طلب الخضر من نبي الله موسى أن لا يسأله عن شيء حتى يبينه له، يدل على أن السؤال من الوسائل الأولية والهامة لمعرفة أسباب القيام ببعض الأمور التي لا يرى لها حكماً ظاهرة، فيكون السؤال من أهم أسباب اجتلاء كنهها، ومعرفة أسرارها وخفاياها.
__________
(1) سورة الكهف: آية: 66.(42/364)
4- إن السؤال هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها نبي الله موسى عليه السلام للتعبير عن إنكاره لما جرى أمام عينيه من تعدٍّ وظلم، كما كان ظاهر ما حدث، وذلك كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} (1) وقوله تعالى: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس} (2) وقوله تعالى: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} (3) .
5- إن أسئلة نبي الله موسى المتكررة هي التي جعلت الخضر عليه السلام لا يجد مناصاً من تبيين حكمة ما فعل لموسى عليه السلام، وهذا يدل على فاعلية السؤال وقوة تأثيره في القصة، إذ أثمر معرفةً وفهماً وتفسيراً لأمور كانت أسبابها غير معروفة وغير ظاهرة للعيان.
6- إن التزام المتعلم بعدم سؤال المعلم فيما لا يجب أن يسأل فيه من الأسباب المؤدية إلى استمرار العلاقة بين المعلم والمتعلم وقوتها، فالاستخدام الحكيم للسؤال يدل على أهمية السؤال في تحقيق الهدف المتقدم وغيره من الأهداف التعليمية والتربوية الإيجابية.
المبحث الثالث: آداب السؤال لدى المتعلمين
(1) - احتمال عناء السؤال.
(2) - الحرص على السؤال والتعلم.
(3) - التلطف في السؤال.
(4) - السؤال عن العلم النافع.
(5) - التريث وعدم الاستعجال في السؤال.
(6) - حسن السؤال.
(7) - الاعتذار إلى المعلم عند سؤاله فيما لا يرغب أن يسأل فيه.
(8) - أن يقيم المتعلمون مناقشتهم معلمهم على الأدلة والبراهين.
(9) - عدم السؤال عن الحقائق بغرض التشكيك فيها والاستهزاء بها.
تمهيد
__________
(1) سورة الكهف: آية:71.
(2) سورة الكهف: آية: 74.
(3) سورة الكهف: آية: 77.(42/365)
يعدّ السؤال من أهم وسائل بناء الجانب التعليمي لدى المتعلم، فعن طريق السؤال يستطيع المتعلم أن ينمي هذا الجانب، وذلك بما يضيفه إليه من خبرات تعليمية عديدة ولكن استخدام السؤال من قبل المتعلم لتحقيق الهدف المتقدم لا يمكن أن يتحقق ما لم يلتزم المتعلم بضوابط ومعايير يتحقق في ضوء التمسك بها ذلك الهدف، لذلك أرشد المربون والمختصون في مجال التربية التعليم إلى ضرورة التزام المتعلم بتلك الضوابط والمعايير والتمسك بها من أجل تحقيق ما يطمح إليه.
ولقد سبق القرآن الكريم إلى تنبيه المتعلم إلى تلك الضوابط والمعايير، وتوجيهه إلى ضرورة التحلي بها وجعلها أساساً ومنطلقاً لنشاطاته التعليمية، ومن أهم ضوابط وآداب السؤال التي أرشد إليها القرآن الكريم ما يلي:
(1) - احتمال عناء السؤال:
وقد قص علينا القرآن الكريم قصة رحلة نبي الله موسى عليه السلام وتحمله المشقة والتعب من أجل الالتقاء بالخضر عليه السلام والتعلم منه. ومما هو جدير بالذكر هنا أن سبب هذه الرحلة كان السؤال، فسؤال بني إسرائيل موسى عليه السلام أي الناس أعلم كان سبب خروجه وطلبه ملاقاة الخضر وقد احتل السؤال مكاناً بارزاً في القصة: مرة عند سؤال موسى عليه السلام الخضر أن يسمح باتباعه يتعلم منه، ومرات عند سؤاله عما كان يقوم به من أفعال لم تكن حكمتها ظاهرة لديه.(42/366)
وإذا كان السؤال يكلف صاحبه عناءً ومشقةً، إلا أن فيه فوائد جليلة ومنافع عظيمة. قال الإمام القرطبي: "في هذا - أي في رحلة موسى إلى الخضر عليهما السلام - من الفقه: رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم. واغتنام لقاء الفضلاء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فركزت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام". وقال الزجاج: "فيما فعل موسى وهو من جملة الأنبياء من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته".
وقال الشيخ السعدي: "في هذه القصة - قصة موسى والخضر - فضيلة العلم والرحلة في طلبه وأنه أهم الأمور، فإن موسى - عليه السلام - رحل مسافة طويلة ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك".
(2) - الحرص على السؤال والتعلم(42/367)
وقد وجه القرآن الكريم المتعلمين إلى الحرص على السؤال والتعلم حتى لو كان من يتعلم منه أقل فضلاً ممن يتعلم، فنبي الله موسى عليه السلام كان حريصاً على التعلم من الخضر مع كونه أفضل من الخضر، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (1) قال الإمام الرازي: "إن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه، ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له". وقال الإمام الشوكاني: "في الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل، وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيوب ومعرفة البواطن". وقال الشيخ السعدي: "ومن فوائد الآية: تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى بلا شك أفضل من الخضر". وقال: "كان موسى أعلم من الخضر بأكثر الأشياء، وخصوصاً في العلوم الإيمانية والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين الذين فضلهم الله على سائر الخلق بالعلم والعمل وغير ذلك".
(3) - التلطف في السؤال
ومن آداب المتعلم التلطف والتواضع والاستئذان عند سؤال المعلم، وقد كان نبي الله موسى في غاية التلطف عند سؤال الخضر في اتباعه والتعلم منه، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (2) .قال الإمام الشوكاني في تفسير الآية: "في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب، لأنه استأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم".
وفي الآداب التي اشتملتها الآية يقول الإمام الرازي:
__________
(1) سورة الكهف: آية: 66.
(2) سورة الكهف: آية: 66.(42/368)
"اعلم أن هذه تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فأحدها أنه جعل نفسه تابعاً له لأنه قال {هَلْ أَتَّبِعُكَ} ، وثانيها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع".
وقال الإمام ابن القيم: "كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلطف لابن عباس في السؤال، فيعزه بالعلم عزاً".
وقال ابن جريج: "لم أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به". ويرى بدر الدين بن جماعة أن على المتعلم: "أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الامكان، ولا يقول له لم؟ ولا نسلم، ولا من نقل هذا؟ وأين موضعه؟ وشبه ذلك، فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك".
(4) - السؤال عن العلم النافع
والعلم النافع هو العلم الذي يهدي إلى الحق والخير والصواب والهدى، "فكل علم يكون فيه علم وهداية لطريق الخير، وتحذير عن طريق الشر أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضاراً أو ليس فيه فائدة".
وينبغي للمتعلم ألا يسأل عما لا فائدة عملية أو مصلحة حقيقية ترجى من ورائه لأن ذلك لا يعود عليه بفائدة في دينه أو دنياه، وقد ذكر القرآن أنواعاً من الأسئلة بعضها عن المشركين، مثل: السؤال عن الساعة، وبعضها عن اليهود مثل: السؤال عن الروح وهي أسئلة لا ثمرة لها، لذلك كان الجواب أن ذلك من أمر الله ولا يعلمه سواه.
قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} (1) .
وقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (2) .
(5) - التريث وعدم الاستعجال في السؤال
__________
(1) سورة الأعراف: آية: 187.
(2) سورة الإسراء: آية: 85.(42/369)
وهو من الآداب الضرورية والهامة للمتعلم، إذ كثيراً ما تأتي اعتراضات المتعلمين ومناقشاتهم وسؤالاتهم نتيجة التعجل وعدم التثبت، أو عدم فهم مراد المعلم وقصده، قال تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} (1) قال القاضي أبو السعود في تفسير الآية: "قوله تعالى: {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي حتى أبتدأ ببيانه، وفيه إيذان بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة، وهذا من أدب المتعلم مع العالم".
ويقول الشيخ السعدي: "من فوائد الآية: التأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما هو المراد منه وما هو المقصود".
(6) - حسن السؤال
وقد سبق أن ذكرنا قول بعض السلف أن حسن السؤال نصف العلم، وقول ابن القيم: "إن أول مراتب العلم حسن السؤال، وإن من الناس من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله".
وقد دعا القرآن الكريم إلى حسن السؤال والبعد عن الأسئلة السيئة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (2) وقد ذكر العلماء عديداً من صور السؤال المجانبة لحسن المسألة، والتي منها ما يلي:
(أ) - السؤال عما لا يعني السائل.
(ب) - المسائل التي نزلت فيها قول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
__________
(1) سورة الكهف: آية:70.
(2) سورة المائدة: آية: 101، 102.(42/370)
(ج) - الإكثار من تفريع المسائل، ومن ثم كره جماعة من السلف السؤال عما لا يقع، لما يتضمن من التكلف في الدين، والتنطع، والرجم بالظن من غير ضرورة. وعن الزهري قال: "بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون" "وعن عبادة بن نسي الكندي وسئل عن المرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم ولا يسألون مسائلكم".
(د) - السؤال عما لا فائدة فيه
قال الحافظ بن كثير في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها".
(هـ) - السؤال عما يسوء وتشق إجابته
قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته" (1) .
(و) - السؤال على سبيل الاستهزاء والعناد
كما في قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (2) أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوما من قبلكم، فأجيبوا عنها، ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي بسببها أن بينت لهم، فلم ينتفعوا بها، لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد".
(ز) - الأسئلة التعجيزية
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 13/264، كتاب الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال، ح: 7286.
(2) سورة المائدة: آية: 102.(42/371)
التي يراد منها إظهار عدم قدرة المعلم على الإحاطة والإلمام بضروب المعرفة، وقد سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف للحكم على صدق نبوته في ضوء إجابته ولكن الله أنزل وحيه على نبيه مجيباً إياهم عن أسئلتهم التي سألوها، ومع ذلك فقد ذكر بعض المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار كما أن ذهاب نبي الله موسى إلى الخضر ليتعلم منه يدل على المعنى ذاته.
وفي البعد عن هذا النوع من الأسئلة يقول الإمام ابن القيم:
"إذا جلست إلى عالم فسل تفقهاً لا تعنتاً".
(7) - الاعتذار إلى المعلم عند سؤاله فيما لا يرغب أن يسأل فيه
قال تعالى: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} (1) .
فقد يرغب بعض المعلمين في تأجيل الأسئلة إلى آخر الدرس، أو عدم السؤال عن أمور بعينها، أو عدم السؤال فيما لا علاقة له بالدرس، أو نحو ذلك، وينبغي للمتعلم أن يحترم رغبة المعلم في ذلك، وإذا بدر منه خلاف ما وجه إليه المعلم، فعليه أن يسارع بالاعتذار والتعهد بعدم تكرار ذلك، وقد وجه القرآن المتعلمين إلى هذا الأدب الرفيع من خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام، فقال تعالى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراًً} (2) . إن على المتعلم أن يسأل في الوقت المناسب، وفي الحال المناسب، ولا يكثر من الأسئلة فيما لا طائل تحته.
(8) - أن يقيم المتعلمون مناقشتهم معلمهم على الأدلة والبراهين
__________
(1) سورة الكهف: آية: 76.
(2) سورة الكهف: آية: 73.(42/372)
وليس على مجرد الظن، فالمناقشة السليمة هي التي تبنى على الدليل، أما المناقشة التي تبنى على عدم المعرفة بموضوع النقاش فلا تقبل من المتعلم، وهكذا كان التوجيه الرباني لنوح عليه السلام عندما ذهب يسأل ربه الرحمة بابنه، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) .
وهكذا يقرر القرآن الكريم أن المعرفة بالحقائق والمعلومات شرط أساسي لمناقشتها، لذلك يجب على المتعلم أن يكون على معرفة وفهم وإلمام بما يناقش فيه معلميه.
(9) - عدم السؤال عن الحقائق بغرض التشكيك فيها أو الاستهزاء بها
وذلك لأن الحقائق لا تقبل التشكيك فيها والاستهزاء بها، كحقائق الإسلام، وما ثبت من حقائق العلم، وإنما تؤخذ مأخذ اليقين والتسليم والإذعان، وإن التشكيك في الحقائق أو الاستهزاء بها يعد تفريطاً في أدب هو من أعظم آداب المتعلم.
وقد بين القرآن الكريم أن التشكيك في الحقائق هو من شأن الكافرين، قال تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} (2) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي يقول: متى يكون يوم القيامة؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده".
ومن ثم يتضح أن القرآن الكريم يوجه طالب العلم المسلم إلى احترام الحقائق والتسليم بها وعدم التشكيك فيها أو استبعاد وقوعها وحدوثها.
__________
(1) سورة هود: آية: 45-47.
(2) سورة القيامة: آية: 6.(42/373)
العدد 112
فهرس المحتويات
1- الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء
د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
2- الصفات الإلهية تعريفها وأقسامها: د. محمد بن خليفة بن علي التميمي
3- تفسير أسماء الله الحسنى للشيخ عبد الرحمن السعدي
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
... تابع (4)
د. عبيد بن علي العبيد
4- الحدود في علم النحو
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
للعلامة أحمد الأبذي المتوفى سنة 860هـ د. نجاة حسن عبد الله نولي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(42/374)
الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء
دراسة تحليلية
إعداد
د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذا القسم الثاني من دراستي لأثر الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله المتعلق بصفة الاستواء، وقد سبق في القسم الأول من هذه الدراسة الحديث عن مكانة هذا الأثر وأهميته لدى أهل العلم، وبيان ثبوته عن الإمام مالك رحمه الله بالأسانيد الصحيحة وذكر الشواهد على هذا الأثر من الكتاب والسنة، وذكر نظائر هذا الأثر من خلال ما ورد عن السلف الصالح رحمهم الله، كل ذلك سبق في الفصل الأول من هذه الدراسة، وفي هذا القسم نستكمل ما بقي من فصول هذه الدراسة، حيث بقي ثلاثة فصول وهي:
- ذكر معنى هذا الأثر مدلوله، وما يستفاد منه من ضوابط في توحيد الأسماء والصفات.
- إبطال تحريفات أهل البدع لهذا الأثر.
- ذكر فوائد عامة مأخوذة من هذا الأثر. والله الكريم نرجو التوفيق والسداد.
الفصل الثاني:
في ذكر معنى هذا الأثر وبيان مدلوله وما يستفاد منه
من ضوابط في توحيد الأسماء والصفات
لا شك أنَّ هذا الأثر يتضمّن معاني عميقة ودلالات دقيقة ويشتمل على فوائد عظيمة ودروس قوية متعلّقة بتوحيد الأسماء والصفات، بل بالمنهج الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم في أمور الغيب عموماً، ومن هنا حاز هذا الأثر على استحسان أهل العلم وثنائهم، وكثر استشهادهم به في مؤلّفاتهم، ولهذا رأيتُ إفراد هذا الفصل لبيان معاني هذا الأثر ودلالاته وما يستفاد منه من دروس وضوابط.
ولما كان هذا الأثر ينتظم جُملاً أربعاً رأيت أن أفرد لكل جملة منها مبحثاً مستقلاًّ لبيان ما فيها من دروس وفوائد.
المبحث الأوّل: في معنى قوله: "الاستواء غير مجهول"والضوابط المستفادة منه.(42/375)
المبحث الثاني: في معنى قوله:"الكيف غير معقول"والضوابط المستفادة منه.
المبحث الثالث: في معنى قوله: "الإيمان به واجب"والضوابط المستفادة منه.
المبحث الرابع: في معنى قوله: "والسؤال عنه بدعة"والضوابط المستفادة منه
المبحث الأوّل:
في معنى قوله: "الاستواء غير مجهول"والضوابط المستفادة منه
مراد الإمام مالك رحمه الله بقوله: "الاستواء غير مجهول"ظاهرٌ بيِّنٌ، حيث قصد رحمه الله أنَّ الاستواء معلوم في لغة العرب، وقد سبق أن نقلت في مبحث سابق جملةً من النقولات عن أئمّة السلف رحمهم الله في معنى الاستواء وأنَّ المراد به في اللغة: العلوّ والارتفاع، وهو من الصفات السمعية المعلومة بالخبر، وهو علوٌّ وارتفاعٌ مخصوصٌ وقع بمشيئة الربّ تبارك وتعالى وإرادته، فعلاَ سبحانه وتعالى فوق عرشه كيف شاء سبحانه "فالأصل أنَّ علوَّه على المخلوقات وصفٌ لازمٌ له كما أنَّ عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعلٌ يفعله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته، ولهذا قال فيه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، ولهذا كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر، وأما علوُّه على المخلوقات فهو عند أئمّة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع".
والاستواء كما تقدّم له معنى معلوم من لغة العرب وهو العلوّ والارتفاع، لكن ما يضاف إلى الله منه فهو أمرٌ يليق بجلاله وكماله سبحانه لا يشبه ما يكون من المخلوقين، ولا يجوز أن يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوقين وملزوماتها كقولهم: لو كان على العرش لكان محتاجاً إليه، ولو سقط العرش لخرّ مَن عليه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون الجاحدون علواًّ كبيراً، لأنَّ الله تبارك وتعالى أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوقين ولا عاماًّ يتناول المخلوق، وإنما ذكر استواءً أضافه إلى نفسه الكريمة.(42/376)
فكيف يُتوهَّم أو يُظنّ فيما أضاف الرب سبحانه إلى نفسه أنَّه يشبه ما هو من خصائص المخلوقين، ومن المعلوم أنَّ الإضافة تقتضي التخصيص، فما يُضاف إلى الربّ يخصُّه ويليق بجلاله وكماله، وما يُضاف إلى المخلوق يخصُّه ويليق به وبكونه مخلوقاً ضعيفاً عاجزاً.
فالاستواء المضاف إلى الربّ سبحانه معلومٌ معناه، وهو خاصٌّ بالربّ سبحانه لا يشبه وصف المخلوقين، فكما أنَّه سبحانه له ذاتٌ لا تشبه الذوات فله صفاتٌ لا تشبه الصفات، فمن كان يقرُّ بأنَّ له ذاتاً حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيءٌ فله كذلك سمعٌ وبصرٌ وكلامٌ واستواء ونزول ثابتٌ في نفس الأمر، فهو سبحانه متّصفٌ بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمعُ المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم. وكما أنَّه لا علم للخلق بكيفية ذات الربّ سبحانه فلا علم لهم بكيفية صفاته سبحانه، إذ العلم بكيفية الصفات يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرعٌ عنه وتابع له.
ولهذا فإنَّ الصفات معلومة من حيث المعاني ومجهولة ومتشابهة من حيث الكيفية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والآيات التي ذكر الله فيها أنَّها متشابهات لا يعلم تأويلها إلاّ الله، إنَّما نفى عن غيره علم تأويلها، لا علم تفسيرها ومعناها، كما أنَّه لما سئل مالك رضي الله عنه عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"وكذلك ربيعة قبله فبيّن مالك أنَّ معنى الاستواء معلوم، وأنَّ كيفيته مجهولة، فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله، وأما ما يُعلم من الاستواء وغيره فهو من التفسير الذي بيَّنه الله ورسوله.(42/377)
والله تعالى قد أمرنا أن نتدبّر القرآن، وأخبر أنَّه أنزله لنعقله، ولا يكون التدبُّر والعقل إلاّ لكلام بيَّن المتكلِّم مراده به، فأما من تكلّم بلفظ يحتمل معاني كثيرة ولم يبيِّن مراده منها فهذا لا يمكن أن يُتدبّر كلامه ولا يعقل، ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أنَّ كلام الله يحتمل وجوهاً كثيرةً، وأنَّه لم يبيِّن مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلاّ الله، بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، وإن كانوا لم يتعمّدوا الكذب، كالمحدِّث الذي يغلط في حديثه خطأ، بل منتهى أمرهم: القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات، وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان".(42/378)
ولهذا فقد مضى أهل السنة والجماعة قاطبة على إثبات الصفات للباري سبحانه، وفهم معناها ومدلولها فـ"التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبيَّن أنَّهم إنَّما كانوا يفهمون منها الإثبات، بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرفٌ واحدٌ يوافق قول النفاة، ومن تدبّر الكتب المصنَّفة في آثار الصحابة والتابعين، بل المصنَّفة في السنة، من (كتاب السنة والرد على الجهمية) للأثرم، ولعبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي داود السجستاني، وعبد الله بن محمد الجعفي، والحكم بن معبد الخزاعي، وحشيش بن أصرم النسائي، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وأبي بكر الخلاّل، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي أحمد العسّال، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي حفص بن شاهين، ومحمد بن إسحاق بن منده، وأبي عبد الله بن بطة، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي ذر الهروي، وأبي محمد الخلاّل، والبيهقي، وأبي عثمان الصابوني، وأبي نصر السجزي، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي القاسم التيمي، وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين، ما يُعلم معه بالاضطرار أنَّ الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها، وأنَّهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلوِّ الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأنَّ القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه.
وهذا يصير دليلا من وجهين:
أحدهما: من جهة إجماع السلف، فإنَّهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على خطأ، فكيف في الأصول؟
الثاني: من جهة أنَّهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها، لا يفهمون منها ما يناقض ذلك.(42/379)
ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولاً بالإثبات وإنكاراً لقول النفاة، كما قال يزيد بن هارون الواسطي: "من قال: إنَّ الله على العرش استوى خلاف ما يقرّ في نفوس العامة فهو جهمي".
وقال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقرُّ بأنَّ الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته".
قال الإمام الصابوني رحمه الله: "وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أنَّ الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سماواته، يُثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به ويُصدِّقون الرب جلّ جلاله في خبره، ويُطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش ويُمرُّونه على ظاهره ويَكِلون علمه إلى الله، ويقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} ، كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنَّهم يقولون ذلك ورَضِيَه منهم فأثنى عليهم به".
وبما تقدّم يتّضح أنَّ مراد الإمام مالك رحمه الله بقوله: "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول المعنى، وأنَّه ثابت لله حقيقة على وجه يليق بجلاله سبحانه.
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه ذم التأويل: "وقولهم: "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول الوجود، لأنَّ الله تعالى أخبر به، وخبرُه صدقٌ يقيناً لا يجوز الشك فيه، ولا الارتياب فيه، فكان غير مجهول لحصول العلم به، وقد روي في بعض الألفاظ "الاستواء معلوم" ".
ولم يكن أحد من السلف رحمهم الله يتعرض لنصوص الاستواء أو غيره من الصفات بتأويل يصرف فيه هذه الألفاظ عن معانيها ودلالاتها المعلومة من لغة العرب.(42/380)
روى اللالكائي في شرح الاعتقاد عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنَّه قال: "اتفق الفقهاء كلُّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الربّ عز وجل، من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسّر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنَّهم لم يصفوا ولم يفسِّروا، ولكن أفتَوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جَهمٍ فقد فارق الجماعة، لأنَّه قد وصفه بصفة لا شيء".
وروى البيهقي وغيره عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم قال: "هذه الأحاديث التي يقول فيها ضحِك ربُّنا مِن قنوط عباده وقُرْب خيره، وأنَّ جهنّم لا تمتلئ حتى يضع ربُّك فيها قدمَه، والكرسي موضع القدمين، وهذه الأحاديث في الرؤية، هي عندنا حقٌّ حَمَلَها الثقات بعضهم عن بعض، غير أنّا إذا سُئلنا عن تفسيرها لا نفسِّرها، وما أدركنا أحداً يُفسِّرها".
فلم يكن مِن هؤلاء الأئمة مَن يخوض في صفات الله بشيء من التفسيرات الباطلة والتحريفات للنصوص، بل كانوا يمرُّونها كما جاءت بلا تحريف، فالمراد بقول محمد بن الحسن: "لم يُفسِّروا"وقول أبي عبيد "لا نفسِّرها، وما أدركنا أحداً يفسِّرها"نفي تحريف الصفات وصرفها عن ظاهرها الذي دلّت عليه لغة العرب كما هو الحال عند الجهمية، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن أورد كلام أبي عبيد المتقدِّم "فقد أخبر أنَّه ما أدرك أحداً من العلماء يفسِّرها تفسير الجهمية".
وتفسيرات الجهمية لهذه الصفة كثيرة جداًّ وهي تقارب العشرين، كما قال مرعي بن يوسف الكرمي: "وأما أهل التأويل من الخلَف فقد اختلفوا في الاستواء على نحو العشرين قولاً ... " وذكرها.(42/381)
وهي تأويلات متكلّفة وتحريفات بغيضة تأباها النصوص ويردّها سياق الأدلّة المشتملة على ذكر استواء الربّ تبارك وتعالى على عرشه، وكما يقول العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله: "إنَّ استواء الرب المعدى بأداة على المعلق بعرشه المعرّف باللاّم المعطوف بـ"ثمّ"على خلق السموات والأرض المطَّرَد في موارده على أسلوب واحد ونمط واحد، لا يحتمل إلاّ معنىً واحداً لا يحتمل معنيين ألبتة، فضلاً عن ثلاثة أو خمسة عشر كما قال صاحب (القواصم والعواصم) : إذا قال لك المجسِّم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقل استوى على العرش يستعمل على خمسة عشر وجهاً فأيُّها تريد؟ فيقال له: كَلاَّ والذي استوى على العرش لا يحتمل هذا اللفظ معنيين ألبتة، والمُدَّعي للاحتمال عليه بيان الدليل، إذ الأصل عدم الاشتراك والمجاز، ولم يذكر على دعواه دليلاً ولا بيّن الوجوه المحتملة حتى يصلح قوله (فأيُّها تريدون وأيُّها تعنون) وكان ينبغي له أن يبيِّن كلّ احتمال ويذكر الدليل على ثبوته، ثم يطالب حزب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتعيين أحد الاحتمالات، وإلاّ فهم يقولون لا نسلِّم احتماله لغير معنىً واحد، فإنَّ الأصل في الكلام الإفراد والحقيقة، دون الاشتراك والمجاز فهم في منعهم أولى بالصواب منك في تعدد الاحتمال، فدعواك أنَّ هذا اللفظ يحتمل خمسة عشر معنى دعوى مجرّة ليست معلومة بضرورةٍ ولا نصٍ ولا إجماعٍ".
إلاَّ أنَّ أشهر تأويلات هؤلاء وأكثرها ذيوعاً بينهم هو قولهم: إنَّ الاستواء المراد به الاستيلاء، وهو تأويل باطل وتحريف فاسد، أبطله أهل العلم من وجوه كثيرة، وفيما يلي تلخيص لبعض الوجوه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في إبطال هذا التأويل:(42/382)
"أولاً: إنَّ هذا التفسير لم يفسّره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين، فإنَّه لم يفسِّره أحد في الكتب الصحيحة عنهم، بل أول من قال ذلك بعض الجهمية والمعتزلة، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات وكتاب الإبانة.
ثانياً: إنَّ معنى هذه الكلمة مشهور، ولهذا لما سُئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؟ قالا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ثالثاً: إنَّه إذا كان معلوماً في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلوماً في القرآن.
رابعاً: إنَّه لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلوماً لم يحتج أن يقول: الكيف مجهول، لأنَّ نفيَ العلم بالكيف لا ينفي إلاَّ ما قد عُلم أصله، كما نقول: إنَّا نقرُّ بالله ونؤمن به، ولا نعلم كيف هو.
خامساً: الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك هو عام في المخلوقات كالربوبية، فلو كان استوى بمعنى استولى، كما هو عام في الموجودات كلّها لجاز مع إضافته إلى العرش أن يُقال: استوى على السماء، وعلى الهوى، والبحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها، إذ هو مستوٍ على العرش، فقد اتفق المسلمون على أنَّه يُقال: استوى على العرش، ولا يُقال استوى على هذه الأشياء، مع أنَّه يُقال استولى على العرش والأشياء، علم أنَّ معنى استوى خاص بالعرش ليس عاماً كعموم الأشياء.(42/383)
سادساً: أنّه أخبر بخلق السموات والأرض في ستة أيّام ثم استوى على العرش، وأخبر أنَّ عرشَه كان على الماء قبل خلقها، وثبت ذلك في صحيح البخاري عن عمران بن حُصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِّكر كلَّ شيء ثم خلق السموات والأرض"، مع أنَّ العرش كان مخلوقاً قبل ذلك، فمعلوم أنَّه ما زال مستولياً عليه قبل وبعد، فامتنع أن يكون الاستيلاء العام هذا الاستيلاء الخاص بزمان كما كان مختصاًّ بالعرش.
سابعاً: أنَّه لم يثبت أنَّ لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى، إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:
ثم استوى بِشر على العراق
من غير سيفٍ ولا دم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنَّه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنَّه بيت مصنوع لا يُعرف في اللغة، وقد علم أنَّه لو احتجّ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحّته، فكيف بيت من الشعر لا يُعرف إسناده؟! وقد طعن فيه أئمة اللغة، وذُكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه الإفصاح قال: "سُئل الخليل هل وجدتَ في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها". وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا يُعرف حمل باطل.
ثامناً: أنَّه روي عن جماعة من أهل اللغة أنّهم قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلاَّ في حقِّ من كان عاجزاً ثم ظهر، والله سبحانه لا يعجزه شيء، والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى، فإذا تبيّن هذا فقول الشاعر:
ثم استوى بِشر على العراق
لفظ مجازي لا يجوز حمل الكلام عليه إلاَّ مع قرينة تدل على إرادته، واللفظ المشترك بطريق الأولى، ومعلوم أنَّه ليس في الخطاب قرينة أنَّه أراد بالآية الاستلاء.(42/384)
وأيضاً فأهل اللغة قالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلاَّ فيما كان منازعاً مغالباً، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل: استولى، والله لم ينازعه أحد في العرش، فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم لم يجب حمله عليه بمجرّد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه، وهؤلاء ادّعوا أنّه بمعنى استولى في اللغة مطلقاً.
تاسعاً: أنَّ معنى الاستواء معلوم علماً ظاهراً بين الصحابة والتابعين وتابعيهم، فيكون التفسير المحدث بعده باطلاً قطعاً، وهذا قول يزيد بن هارون الواسطي، فإنَّه قال: "إنَّ من قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} خلاف ما تقرّر في نفوس العامة فهو جهمي"، ومنه قول مالك: "الاستواء معلوم"، وليس المراد أنَّ هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قال بعض الناس: استوى أم لا؟ أو أنَّه سُئل عن الكيفية ومالك جعلها معلومة، والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه، فقد تكلّم فيه الصحابة والتابعون، وإنَّما البدعة السؤال عن الكيفية".
وقد أبطل العلاّمة ابن القيم هذا التأويل الفاسد في كتابه الصواعق المرسلة من اثنين وأربعين وجهاً، فلم يدَعْ رحمه الله لمبطل متعلّقاً.
فإذا تبيّن فساد هذا التأويل الذي هو أشهر تأويلات هؤلاء، فإنَّ ما سواه من التأويلات أشدّ فساداً وأكثر بعداً عن الحق والصواب.
وقبل أن أختم هذا المبحث أودّ التنبيه على أمرين:
الأول: كلام القاضي أبي يعلى في كتابه إبطال التأويلات بعد أن ذكر أثر أم سلمة في آية الاستواء حيث قال: "فقد صرّحت بالقول بالاستواء غير معقول، وهذا يمنع تأويله على العلوّ والاستيلاء".
قال هذا رحمه الله، مع أنَّ لفظ الأثر عنده "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول المعنى وهو العلو والارتفاع كما تقدّم فكيف يُقال: إنَّه يمتنع تأويله بالعلوّ، مع أنَّ هذا هو معنى اللفظ في لغة العرب.(42/385)
الثاني: قول القرطبي بعد أن نقل ما قيل في معنى الاستواء حيث قال: "أظهر الأقوال وإن كنتُ لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أنَّ الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف بائنٌ من جميع خلقه، هذا جملة مذهب السلف الصالح".
فهو كلام غريب من مثله رحمه الله، إذ كيف يكون على علم بتظاهر الآيات عليه وقول الفضلاء الأخيار به وأنَّه مذهب السلف الصالح ثم يصرّح بأنَّه لا يقول به ولا يختاره، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلال} ، ولذا قال السفاريني رحمه الله بعد أن نقل كلامه هذا: "وفي قوله رحمه الله: "وإن كنتُ لا أقول به" غاية العجب، لأنَّه اعترف بتظافر الآيات القرآنية عليه ودلالة الأخبار النبوية إليه، وتعويل السلف الصالح الأخيار عليه، فكيف يليق من مثله أن يقول: "وإن كنتُ لا أقول به ولا أختاره"مع الدلالات القرآنية والأحاديث النبوية، وكونه معتقد الرعيل الأول والحزب الذي عليه المعوَّل ... ". وبالله وحده التوفيق.
المبحث الثاني:
في معنى قوله: "والكيف غير معقول"والضوابط المستفادة منه
قول الإمام مالك رحمه الله في الاستواء: "والكيف غير معقول"هو نظير قول غير واحد من أئمة السلف في إثبات الصفات عموماً: "بلا كيف"، وقد سبق نقل بعض ألفاظهم في ذلك ومنها غير ما تقدّم:
قول سفيان بن عيينة: "كلُّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره ولا كيف ولا مثل".
وقول وكيع: "نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف هذا، ولِمَ جاء هذا".
وسبق أن مرَّ معنا قول مالك نفسه رحمه الله، وغيره من أئمة السلف في الصفات: "أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف".(42/386)
قال شيخ الإسلام: "فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب" موافق لقول الباقين: "أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"فإنَّما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرّد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول"، ولما قالوا: "أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"، فإنَّ الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهول بمنزلة حروف المعجم وأيضاً فإنَّه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، إنّما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، وأيضاً فإنَّ من ينفي الصفات الجزئية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف"فمن قال: إنَّ الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف. وأيضاً فقولهم: "أمرُّوها كما جاءت"يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنّها جاءت ألفاظاً دالّة على معاني، فلو كانت دلالتُها منتفية لكان الواجب أن يُقال: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ المفهوم منها غير مراد، أو أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ الله لا يوصف بما دلّت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أُمِرَّت كما جاءت، ولا يُقال حينئذ: "بلا كيف"، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغوٌ من القول".
وقول السلف رحمهم الله: "الكيف مجهول"أو "بلا كيف"يتضمّن عدّة فوائد أُجملها فيما يلي:
1- قطع طمع العقل في إدراك كيفية صفات الله، وأنَّ ذلك غير ممكن "مهما تصوّر في وهمك فالله بخلاف ذلك".
2- أنّهم نفوا علمنا بالكيفية، ولم ينفوا أن يكون في نفس الأمر كيفية لا يعلمها إلاَّ هو سبحانه "نفي الشيء غير نفي العلم به""لم يقل مالك: الكيف معدوم، وإنما قال الكيف مجهول".
3- عدم العلم بالكيفية لا يقدح في الإيمان بالصفات.(42/387)
4- إثبات الصفة لله حقيقة، لأنَّ من ينفي الصفات ولا يثبتها لا يحتاج أن يقول: "لا كيف".
5- إنَّ العلم بكيفية الشيء تكون برؤيته أو رؤية نظيره أو الخبر الصادق عنه، والمؤمنون لن يرى أحدٌ منهم ربَّه في الدنيا، والله تبارك وتعالى لا نظير له، ولم يأت في الخبر الصادق ذكر لكيفية صفات الباري سبحانه.
6- إمكانية العلم بكيفية الصفة عند رؤية الله في الآخرة.
7- بطلان قول المعتزلة وغيرهم الذين ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه.
8- التوقّف عند النصوص وما دلّت عليه وعدم تجاوزها فالكيف مجهول، "لأنَّه لم يرد به توقيف ولا سبيل إلى معرفته بغير توقيف".
9- الردّ على الممثِّلة، لأنَّ كلَّ ممثِّل مكيِّف.
10- أنَّ إثبات أهل السنة والجماعة للصفات هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فالمؤمن مُبصِرٌ بها من وجه، أعمى من وجه آخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المشهور بين أهل السنة والجماعة أنَّه لا يُقال في صفات الله عز وجل (كيف) ولا في أفعاله (لِمَ) وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أنَّ السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته، كقول مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول". لم ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو، وتكلّمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك، لكن كثيراً من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه".(42/388)
وقال ابن القيم رحمه الله: "ومراد السلف بقولهم: "بلا كيف"هو نفي للتأويل، فإنَّه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل، فإنَّهم هم الذين يثبتون كيفيةً تخالف الحقيقة فيقعون في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف بالتأويل، وتعطيل الرب تعالى عن صفته التي أثبتها لنفسه، وأما أهل الإثبات فليس أحد منهم يكيِّف ما أثبته الله تعالى لنفسه، ويقول: كيفية كذا وكذا، حتى يكون قول السلف "بلا كيف"ردًّا عليه، وإنّما ردّوا على أهل التأويل الذي يتضمّن التحريف والتعطيل، تحريف اللفظ وتعطيل معناه".
وقال أيضاً: "إنَّ العقل قد يئس من تعرّف كُنه الصفة وكيفيتها، فإنَّه لا يعلم كيف الله إلاَّ الله، وهذا معنى قول السلف "بلا كيف"أي: بلا كيف يعقله البشر، فإنَّ من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعَجْزُنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.(42/389)
فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كلّه، والجمال كلّه، والعلم كلُّه، والقدرة كلّها، والعظمة كلّها، والكبرياء كلّها؟ من لو كُشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وما وراء ذلك، الذي يقبض سمواته بيده فتغيب كما تغيب الخردلة في كفِّ أحدنا، الذي نسبة علوم الخلائق كلّها إلى علمه أقلَّ من نسبة نقْرة عصفور من بحار العلم الذي لو أنَّ البحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام، لفَنِيَ المداد وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته، الذي لو أنَّ الخلق من أول الدنيا إلى آخرها، إنسهم وجِنَّهم، وناطقهم وأعجمهم، جُعلوا صفًّا واحداً ما أحاطوا به سبحانه، الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثمّ يهزّهنَّ، ثم يقول: أنا الملك.
فقاتل الله الجهمية والمعطّلة! أين التشبيه ها هنا؟ وأين التمثيل؟ لقد اضمحلَّ ها هنا كلُّ موجود سواه، فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه فيه، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاّها ما تولّت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها.
ولما فهمت هذه الطائفة من الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين، فرَّت إلى إنكار حقائقها، وابتغاء تحريفها، وسمَّته تأويلاً، فشبّهت أوَّلاً، وعطّلت ثانياً، وأساءت الظنَّ بربِّها وبكتابه وبنبيِّه، وبأتباعه".
ثم بيّن رحمه الله وجه إساءة هؤلاء الظنّ بربِّهم وكتابه ونبيّهم وأتباعه.(42/390)
وقال الجويني في رسالته (النصيحة في صفات الرب جلَّ وعلا) : "وصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة له من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه، أعمى من وجه، مبصراً من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله به نفسه، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف، وذلك هو مراد الله تعالى مِنَّا في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها، ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه، ولا نعطلها بالتحريف والتأويل، لا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر، لأنَّ الكلَّ ورد في النص".
فهذا هو مراد السلف رحمهم الله بقولهم: "بلا كيف".
ومع ذلك فقد قال الزمخشري المعتزلي في كشافه: "ثم تعجب من المتسمّين بالإسلام، المتسمّين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً، ولا يغرّنك تستّرهم بالبَلْكَفَة، فإنَّه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية فيهم:
لجماعة سمّوا هواهم سنّة وجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا شنع الورى فتستّروا بالبلكفه".
وقد أجاب بعض أهل العلم عن هذين البيتين بمثلهما فقال:
عجباً لقوم ظالمين تلقّبوا ب العدل ما فيهم لعمري معرفة
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة(42/391)
ثم هم مع تعطيل الذات ونفي الصفة قد شبّهوا الله تبارك وتعالى بخلقه، لأنّهم إنما قالوا بالتعطيل لتوهمهم التشبيه، ففرّوا منه إلى التعطيل، فوقعوا في تشبيه آخر، وهو تشبيه الله بالممتنعات والمعدومات أو الجمادات، وذلك بحسب نوع تعطيلهم، وقد "برّأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنّته عن ذلك كلّه فلم يصفوه إلاَّ بما وصف به نفسه ووصفه به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عمّا أنزلت عليه لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريًّا من التشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل لا كمن شبّه حتى كأنَّه يعبد صنماً، أو عطّل حتى كأنَّه لا يعبد إلاَّ عدَماً"، والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثالث:
في معنى قوله "والإيمان به واجب"والضوابط المستفادة منه(42/392)
لا ريب أنَّ الإيمان بالاستواء وغيره من صفات الباري سبحانه واجبٌ، وكذلك "الجحود به كفرٌ، لأنَّه ردٌ لخبر الله، وكفرٌ بكلام الله، ومن كفر بحرف متفق عليه فهو كافر، فكيف بمن كفر بسبع آيات وردَّ خبَرَ الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه"، وقد سبق أنْ مرّ معنا نصوصٌ كثيرةٌ في مبحث سابق فيها أوضح دلالة على وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة. و"كتاب الله من أوّله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوّلها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوءٌ بما هو إمّا نصٌ وإمّا ظاهرٌ في أنَّ الله سبحانه وتعالى هو العليُّ الأعلى، وهو فوق كلِّ شيء، وهو على كل شيء، وإنَّه فوق العرش، وإنَّه فوق السماء، مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (1) {أَأَمِنْتُمْ مَن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (2) {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (3) {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (4) {تَعْرُجُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (5) {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (6) {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (7) {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} ، في ستّة مواضع، {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاِت فَأَطِّلِعَ إِلَى إِلَهِ ُموَسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} ، {تَنْزِيلٌ مِنْ
__________
(1) سورة: فاطر، الآية: (10) .
(2) سورة: آل عمران، الآية: (55) .
(3) سورة: الملك، الآية: (16) .
(4) سورة: الملك، الآية: (17) .
(5) سورة: النساء، الآية: (158) .
(6) سورة: المعارج، الآية: (4) .
(7) سورة: السجدة، الآية: (5) .(42/393)
حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة.
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة، مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربّه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: "فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم".
وفي الصحيح في حديث الخوارج: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً"، وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره "ربّنا الله الذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتُك في السماء اجعل رحمتَك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاءك على هذا الوجع" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء ... "، وذكره، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلاّ الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية".
فليس لمسلمٍ يؤمن بوحي الله وتنزيله ويؤمن بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجحد شيئاً من ذلك أو يتعرَّض له بردٍّ أو تحريفٍ أو نحو ذلك، بل الواجب هو القبول والتسليم والإيمان والتعظيم، و"القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتجاوز القرآن والحديث.
__________
(1) سورة: غافر، الآيات: (36،37)
(2) رة: فصلت، الآية: (42) .(42/394)
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: "لا يوصف إلاَّ بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتجاوز القرآن والحديث"، ومذهب السلف أنّهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أنَّ ما وصف الله به من ذلك فهو حقٌّ ليس فيه لُغْزٌ ولا أحَاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلّم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلّم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدّسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقّن أنَّ الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإنَّ الله منزَّهٌ عنه حقيقة، فإنَّه سبحانه مستحقٌ للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم، ولافتقار المحدَث إلى محدِث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثِّلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثِّلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فيعطِّلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرِّفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطِّلون فإنَّهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلاّ ما هو اللاّئق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثّلوا أوّلاً وعطّلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقُّه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللاّئقة بالله سبحانه وتعالى".(42/395)
ويمكن تلخيص الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها في ستة أقسام ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكل قسم منها عليه طائفة من أهل القبلة وهي:
قسمان يقولان: تجرى نصوص الصفات على ظواهرها.
وقسمان يقولان: إنَّ نصوص الصفات على خلاف ظاهرها، أي ظاهرها غير مراد.
وقسمان: يسكتون.
أما الأولون فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبِّهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليهم يتوجّه الردّ بالحق.
الثاني: من يجريها على ظاهرها اللاّئق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللاّئق بجلال الله، فإنَّ ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إمَّا جوهر محدَث، وإمَّا عرَض قائم به.
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراضٌ، والوجه واليد والعين في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأنَّ له علماً وقدرةً وكلاما ومشيئة وإن لم يكن ذلك عرَضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضحٌ، فإنَّ الصفات كالذات، فكما أنَّ ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات ...(42/396)
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأنَّ الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أوالخمسة عشر أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرّون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلّمين، فهؤلاء قسمان:
قسم: يتأوّلونها ويُعيِّنون المراد مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علوّ المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلِّمين.
وقسم: يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنَّه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.
وأما القسمان الواقفان:
فقوم: يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللاّئق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
وقوم: يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها".
والصواب في ذلك هو طريق السلف الصالح رحمهم الله، إثباتُ ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ونفيُ ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، إثباتٌ بلا تمثيلٍ وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ على حدِّ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
المبحث الرابع:
في معنى قوله: "والسؤال عنه بدعة"والضوابط المستفادة منه(42/397)
قوله رحمه الله: "والسؤال عنه بدعة"أي: الكيف، فالسؤال عن كيفية صفات الباري بدعة محدثةٌ، "لأنَّه سؤال عما لا سبيل إلى علمه، ولا يجوز الكلام فيه، ولم يسبق ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعده من أصحابه".
قال الإمام البربهاري رحمه الله: "احذر صغار المحدثات مِن الأمور، فإنَّ صغارَ البدع تعود كباراً، فالكلام في الربِّ عز وجل مُحدثٌ وبدعة وضلالة، فلا نتكلّم فيه إلاَّ بما وصف به نفسه، ولا نقول في صفاته: (لِمَ؟) ، ولا (كيف؟) ، والقرآن كلام الله وتنزيلُه ونوره ليس مخلوقاً، والمِراء فيه كفر".
وهذا من السنة اللازمة المتأكّدة في حق كلِّ مسلم، ومَن فارق ذلك كان معدوداً في جملة أهل البدع والأهواء، كما قال الإمام علي بن المديني رحمه الله: "السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، ثم تصديق بالأحاديث والإيمان بها لا يُقال: لِمَ؟، ولا كيف؟ إنَّما هو التصديق بها والإيمان بها وإن لم يعلم تفسير الحديث ويبلغه عقلُه فقد كفى ذلك وأحكم عليه الإيمان به والتسليم".
ثم إنَّه خوض في أمرٍ محالٍ على العقول أن تدركه، فكما أنَّ بصر الإنسان له غاية لا يمكن أن يتجاوزها، وكما أنَّ سمعه له غاية لا يمكن أن يتجاوزها، فكذلك عقله له نطاق محدّد، ومجال لا يمكن أن يتجاوزه.(42/398)
يروى أنَّ رجلاً أتى بابن له إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: "لقد حيّرت الخصومة عقله، وأذهبت المنازعة قلبه، وذهبت به الكلفة عن ربه، فقال عبد الله: امدد بصرك يا ابن أخي ما السواد الذي ترى؟ قال: فلان، قال: صدقت، قال: فما الخيال المسرف من خلفه؟ قال: لا أدري، قال عبد الله: يا ابن أخي فكما جعل الله لأبصار العيون حداًّ محدوداً من دونها حجاباً مستوراً فكذلك جعل لأبصار القلوب غاية لا يجاوزها، وحدوداً لا يتعدّاها، قال: فردّ الله عليه غارب عقله، وانتهى عن المسألة عما لا يعنيه، والنظر فيما لا ينفعه، والتفكر فيما يحيِّره".
وهو كلام حسن وتنظير سديد وإن كان لم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما والأمر كما ذكر، فكما أنَّ الله جعل لأبصار العيون حدوداً معلومة فكذلك الشأن في أبصار القلوب، لها مجال محدود لا يمكنها أن تتجاوزه أو تتعدّاه.
أورد هذا الأثر ابن بطة في كتابه الإبانة وقال معلِّقاً عليه: "فاتقوا الله يا معشر المسلمين وانتهوا عن معرفة خلقه، أما تعلمون أنَّ الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلاّ الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون".
وقد عقد الإمام ابن بطة رحمه الله في هذا الموضوع باباً نافعاً في كتابه الإبانة وهو (باب ترك السؤال عما لا يعني البحث والتنقير عما لا يضر جهله والتحذير من قوم يتعمّقون في المسائل ويتعمّدون إدخال الشكوك على المسلمين) .
أورد تحته جملة من النصوص والآثار منها:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاعملوا منه ما استطعتم".
2- حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: "هلك المتنطِّعون" ثلاث مرات.(42/399)
3- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلاّ عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلُّهن في القرآن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ} (1) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى} (2) {وَيَسَأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ} (3) كانوا يسألون إلاّ عمّا ينفعهم".
4- حديث المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله عز وجل كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال".
5- وعن ابن شبرمة رحمه الله قال: "من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسؤول أن يجيب فيها".
6- وعن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: مرّ القاسم بن محمد بقوم يتكلّمون في القدر فقال: "انظروا ما ذكر الله في القرآن فتكلموا فيه وما كفّ الله عنه فكفُّوا".
7- وعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا لا يسألون إلاّ عن الحاجة".
8- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً سدده وجعل سؤاله عما يعنيه وعلمه فيما ينفعه".
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: (217) .
(2) سورة: البقرة، الآية: (219) .
(3) ورة: البقرة، الآية: (220) .(42/400)
وذكر آثاراً أُخر ثم قال: "فالعجب يا إخواني رحمكم الله لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تند محاضره في أودية الردى، تركوا ما قدّمه الله عز وجل في وحيه وافترضه على خلقه، وتعبَّدَهم بطلبه وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق ولا تقدمهم فيه سلَف سابق، فشغلوا به وفرّغوا له آراءهم وجعلوه ديناً يدعون إليه ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون مفاتيح أبواب الكفر ومعالم أسباب الشرك، التكلف لما لم تحط الخلائق به علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير والأحمق الصغير بقوته الضعيفة، وعقله القصير، أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب يريدها لنفسه، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلاّ بما شاء، ولا يعلمون منها إلاّ ما يريد، فكلما لم ينزل الوحي بذكره ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله ومخزون غيبه وخفي أقداره فليس للعباد أن يتكلّفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحمّلوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره وقلّب فيه فكره أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلاّ بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلاّ تحيُّراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة ويلزم الحجة الواضحة والجادة السابلة والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به والمخالفة إلى ما ينهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده، والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه، أما(42/401)
يعلمون أنَّ الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلاّ الحق فسبحان الله أنى تؤفكون.
حدّثني ابن الصواف، قال: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: "لو كلَّف الله هؤلاء ما كلَّفوه أنفسهم من البحث والتنقير لكان من أعظم ما افترضه عليهم".
فالزموا رحمكم الله الطريق الأقصد والسبيل الأرشد والمنهاج الأعظم من معالم دينكم وشرائع توحيدكم التي اجتمع عليها المختلفون واعتدل عليها المعترفون {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وترك الدخول في الضيق الذي لم نخلق له".
الفصل الثالث: في إبطال تحريفات أهل البدع لهذا الأثر
رغم أنَّ كلام الإمام مالك رحمه الله واضح غايةَ الوضوح، ظاهر مراده به تمام الظهور، من خلال سياق الأثر نفسه، ومن خلال القصة التي ورد فيها، ومن خلال منهج الإمام مالك في الصفات عموماً، ومن خلال أيضاً مقارنته بأقوال غيره من أئمة السلف، إلاّ أنَّ أهل الأهواء قد فهم بعضهم من كلامه رحمه الله خلاف ما أراد، وبنوا عليه خلاف ما قصد.
والإمام مالك رحمه الله وغيره من أئمة السلف كالشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهم يُنقل عنهم نقول كثيرة في تقرير العقيدة وإثبات الصفات والرد على المعطِّلة وذمّ المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم "وهذه الأقوال سمعها طوائف مِمَّن اتبعهم وقلّدهم ثم إنَّهم يخلطون في مواضع كثيرة السنة والبدعة، حتّى قد يبدّلون الأمر، فيجعلون البدعة التي ذمّها أولئك هي السنة، والسنة التي حمدها أولئك هي البدعة، ويحكمون بموجب ذلك، حتى يقعوا في البدع والمعاداة لطريق أئمتهم السنيّة، وفي الحب والموالاة لطريق المبتدعة التي أمر أئمتهم بعقوبتهم، ويلزمهم تكفير أئمتهم ولعنهم والبراءة منهم.....(42/402)
ومن أمثلة ذلك: أنَّ كلام مالك في ذم المبتدعة وهجرهم وعقوبتهم كثير، ومن أعظمهم عنده الجهمية الذين يقولون: إنَّ الله ليس فوق العرش، وإنَّ الله لم يتكلّم بالقرآن كله، وإنَّه لا يُرى كما وردت به السنة، وينفون نحو ذلك من الصفات.
ثم إنَّه كثير من المتأخّرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور، كما ينكرها فروع الجهمية، ويجعل ذلك هو السنة، ويجعل القول الذي يخالفها، وهو قول مالك وسائر الأمة السنة هو البدعة، ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك، فبدّل هؤلاء الدين فصاروا يطعنون في أهل السنة".
وقول الإمام مالك رحمه الله الذي هو موضوع هذه الدراسة ناله شيء من هذا الذي سبق الإشارة إليه، حيث فُهم منه أمورٌ لم يُرِدْها رحمه الله، وذلك من قِبل من تأثّر بالمناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فإنَّ مثل هؤلاء يأتون إلى أقوال الأئمة بل إلى نصوص القرآن والسنة وهم يحملون تصوُّرات مسبقة وعقائد راسخة لا تمتُّ إلى الحق بصلة، ثم يحاولون جاهدين صرف النصوص إلى عقائدهم وحملها على أهوائهم بطرُقٍ متكلَّفة، ورحم الله الإمام ابن القيم إذ يقول: "وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جداً، وإن ساعد الله أفردنا لها كتاباً".
وقد ظنَّ هؤلاء أنَّ طريقة الإمام مالك رحمه الله وغيره من أئمة السلف هي مجرّد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لمعانيها بمنزلة الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} وسبب ذلك هو اعتقاد هؤلاء أنَّ النصوص لم تدل على صفة حقيقية لله عز وجل، لأنَّ ثبوتها يلزم منه بزعمهم التشبيه، فحملتهم هذه الظنون الفاسدة والاعتقادات المنحرفة إلى تحريف أقوال الأئمة رحمهم الله.(42/403)
وسأقتصر في التمثيل على ذلك بنقلين عن اثنين من المعاصرين حول ما فهماه من كلامه رحمه الله، ثم أوضِّح ما في ذلك من انحراف وفساد وشطط في فهم كلام الإمام مالك رحمه الله.
1- قال الكوثري معلِّقاً على أثر الإمام مالك: "الاستواء معلوم يعني مورده في اللغة والكيفية التي أرادها الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة، فمن يقدر أن يعيِّنها؟ فتحصّل لك من كلام إمام المسلمين مالك أنَّ الاستواء معلوم وأنَّ ما يجوز على الله غير متعيّن وما يستحيل عليه هو منزّه عنه".
ففهم من كلام الإمام مالك رحمه الله أنَّه أراد تفويض المعنى، لأنَّ الاستواء بزعمه مورده في اللغة جاء على معان عديدة ولا يُدرى ما المقصود بالاستواء المضاف إلى الله منها، ولهذا قال: "والكيفية التي أرادها الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة فمن يقدر أن يعيِّنها؟ ".
ولهذا قال في تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي: "الاستواء الثابت له جلّ جلاله استواء يليق بجلاله على مراد الله ومراد رسوله من غير خوض في المعنى كما هو مسلك السلف".
2- وقال البوطي بعد ما قرّر أنَّ مذهب الخلَف هو تأويل النصوص: "وهكذا فقد كان بوسع الإمام مالك رحمه الله أن يقول في عصره لذلك الذي سأله عن معنى الاستواء في الآية: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، إذ كان العصر عصر إيمان ويقين راسخين، بسبب قرب العهد بعصر النبوة، وامتداد الإشراق إليه، ولكن لم يكن بوسع الأئمة الذين قاموا في عصر التدوين وازدهار العلوم، واتّساع حلقات البحث وفنون البلاغة أن يسلِّموا ذلك التسليم دون أن يحلِّلوا هذه النصوص على ضوء ما انتهوا إليه من فنون البلاغة والمجاز، خصوصاً أنَّ فيهم الزنادقة الذين لا يقنعهم منهج التسليم ويتظاهرون بالحاجة إلى الفهم التفصيلي وإن كانوا في حقيقة الأمر معاندين.(42/404)
والمهم أن تعلم بأنَّ كلا المذهبين متّجهان إلى غاية واحدة، لأنَّ المآل فيهما إلى أنَّ الله عز وجل لا يشبهه شيء من مخلوقاته، وأنَّه منزَّه عن جميع صفات النقص، فالخلاف الذي تراه بينهما خلاف لفظي وشكلي فقط".
فظنَّ أنَّ مذهب السلف ومنهم الإمام مالك رحمه الله هو تفويض المعاني وإمرار الألفاظ بدون فهمٍ لما تدل عليه، وقرّر أنَّ السلف كانوا يقطعون بأنَّ ظاهر نصوص الصفات غير مراد وأوَّلها تأويلاً إجمالياً، حيث قال قبل كلامه هذا: "فمذهب السلف هو عدم الخوض في أيِّ تأويل أوتفسير تفصيلي لهذه النصوص والاكتفاء بإثبات ما أثبته الله تعالى لذاته مع تنزيهه عز وجل عن كلِّ نقص ومشابهة للحوادث، وسبيل ذلك التأويل الإجمالي لهذه النصوص وتحويل العلم التفصيلي بالمقصود منها إلى علم الله عز وجل، أما ترك هذه النصوص على ظاهرها دون أيِّ تأويل سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً فهو غير جائز وهو شيء لم يجنح إليه سلف ولا خلَف ... ".
ولا ريب أنَّ هذا الذي قرّره البوطي هنا ومن قبله الكوثري ومن قبلهما عامة المتكلِّمين يعدُّ افتراء على السلف الصالح رحمهم الله وتقويلاً لهم لشيء لم يقولوه، وقد جمع هؤلاء فيما نسبوه إلى السلف بين أخطاء عديدة أهمّها:
1- تجهيل السلف الصالح رحمهم الله حيث وصفوهم بأنهم لا يفهمون معاني نصوص الصفات، بل يقرأونها قراءة مجرّدة بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون
الكتاب إلاّ أمانيّ، وأيُّ تجهيل لهم أعظم من هذا.
2- الجهل بمذهب السلف الصالح، وأيُّ جهل بمذهب السلف الصالح رحمهم الله أعظم من هذا.
3- الكذب على السلف عندما نسبوا إليه عدم فقه المعاني.
4- تكذيب القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وأيُّ تبيان في كلمات لا يدرى ما معناها.(42/405)
5- فتح باب الشر للفلاسفة والقرامطة وغيرهم لنشر ضلالهم وباطلهم فقالوا لهؤلاء المفوِّضة أنتم لا تعرفون شيئاً، ونحن نعرف كيف ننزِّه الله فعطّلوا صفاته بأنواع من التحريفات.
6- تفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف، ولهذا قال أرباب هذه المقالة إنَّ مذهب السلف أسلم ومذهب الخلَف أحكم وأعلم.
إلى غير ذلك من الأخطاء والمفاسد التي ترتبت على اعتقاد هؤلاء في مذهب السلف أنَّه التفويض، وعدم إثبات الصفات التي دلّت عليها النصوص ومن يتأمل الأمر حقيقة يجد أنَّ "السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة، وقالوا بالإثبات وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير: مثل مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، موجود كثير لا يحصيه أحد.
وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات، فإنَّ السائل قال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول"وفي لفظ: "استواؤه معلوم، أو معقول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فقد أخبر رضي الله عنه بأنَّ نفس الاستواء معلوم، وأنَّ كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل الإثبات.
وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته، بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أنَّ الاستواء مجهول غير معلوم، وإذا كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يُقال: الكيف مجهول، لا سيما إذا كان الاستواء منتفياً، فالمنتفي المعدوم لا كيفية له حتى يُقال: هي مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنَّه معلوم، وأنَّ له كيفية، لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن.(42/406)
ولهذا بَدَّع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية، فإنَّ السؤال إنّما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه، وليس كلُّ ما كان معلوماً وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا، يبيّن ذلك أنَّ المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنَّه قال: "الله في السماء وعلمه في كلِّ مكان"، حتى ذكر ذلك مكيّ - خطيب قرطبة - في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو عمرو الطلمنكي، وأبو عمر بن عبد البر، وابن أبي زيد في المختصر، وغير واحد، ونقله أيضاً عن مالك غير هؤلاء ممّن لا يُحصى عددُهم، مثل أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، والأثرم، والخلال، والآجري، وابن بطة، وطوائف غير هؤلاء من المصنّفين في السنة، ولو كان مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات".
وقد ألزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هؤلاء القائلين بأنَّ مذهب السلف التفويض بسبعة لوازم، لا فكاك لهم منها ولا مناص لهم عنها، وهي تنادي على مذهبهم بالإبطال:
أحدها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيّه من هذه الألفاظ ما يضلّهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل.
الثاني: أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب لهم ولم يُفصح به، بل رمز إليه رمزاً، وألغزه ألغازاً لا يفهم من ذلك إلاَّ بعد الجهد الجهيد.
الثالث: أن يكون قد كلَّف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلّفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك.(42/407)
الرابع: أنَّه يكون دائماً متكلّماً في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوّعة من الخطاب تارة بأنَّه استوى على عرشه، وتارة بأنَّه فوق عباده، وتارة بأنَّه العليّ الأعلى، وتارة بأنَّ الملائكة تعرج إليه، وتارة بأنَّ الأعمال الصالحة تُرفع إليه، وتارة بأنَّ الملائكة في نزولها من العلوِّ إلى أسفل تنزل من عنده، وتارة بأنَّه رفيع الدرجات، وتارة بأنَّه في السماء، وتارة بأنَّه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وتارة بأنَّه فوق سماواته على عرشه، وتارة بأنَّ الكتاب نزل من عنده، وتارة بأنَّه ينزل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، وتارة بأنَّه يُرى بالأبصار عياناً، يراه المؤمنون فوق رؤوسهم، إلى غير ذلك من الدلالات على ذلك، ولا يتكلّم فيه بكلمة واحدة توافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد قط ما هو الصواب فيه لا نصًّا ولا ظاهراً، ولا يبيّنه.
الخامس: أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهمّ أصول الإيمان، وذلك إمّا جهل ينافي العلم، وإمّا كتمان ينافي البيان، ولقد أساء الظنّ بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك، ومعلوم أنَّه إذا ازدوج التكلّم بالباطل والسكوت عن بيان الحق، تولّد من بينهما جهل الحق وإضلال الخلق، ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدلّ على التعطيل والنفي نصًّا وظاهراً، ولا يتكلّمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصًّا ولا ظاهراً، وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرّفوه أنواع التحريفات، وطلبوا له مستكره التأويلات.
السادس: أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنّهم كانوا أميّين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل، ولم تكن الحقائق من شأنهم.(42/408)
السابع: أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب، فإنَّهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ولم يستفيدوا منها يقيناً ولا علماً بما يجب لله ويمتنع عليه، إذ ذاك إنَّما يُستفاد من عقول الرجال وآرائها.
وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ كلام الإمام مالك رحمه الله واضح في الإثبات على طريقة أئمة السلف، ومع ذلك فـ"قد حرّف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال: معناه الاستواء معلوم لله، فنسبوا السائل إلى أنَّه كان يشكّ هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه، ولما رأى بعضهم فساد هذا التأويل قال: إنّما أراد به أنَّ ورود لفظه في القرآن معلوم، فنسبوا السائل والمجيب إلى الغفلة، فكأنَّ السائل لم يكن يعلم أنّ هذا اللفظ في القرآن وقد قال يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فلم يقل: هل هذا اللفظ في القرآن أم لا، ونسبوا المجيب إلى أنَّه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا يجهله أحد، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه، ولا استشكله السائل، ولا خطر بقلب المجيب أنَّه يسأل عنه".
وقد أجاب عن هذا التحريف شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "فإن قيل: معنى قوله "الاستواء معلوم"أنَّ ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه.
قيل: هذا ضعيف، فإنَّ هذا من باب تحصيل الحاصل، فإنَّ السائل قد علم أنَّ هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية، وأيضاً فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار الله بالاستواء، وإنَّما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنَّه معلوم، لم يخبر عن الجملة.(42/409)
وأيضاً فإنَّه قال: "والكيف مجهول"، ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلاَّ العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه، ولو قال في قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأرَى} كيف يسمع ويرى؟ لقلنا: السمع والرؤيا معلوم، والكيف مجهول، ولو قال: كيف كلّم موسى تكليماً؟ لقلنا: التكليم معلوم، والكيف غير معلوم.
وأيضاً فإنَّ من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرُّون بأنَّ الله فوق العرش حقيقة وأنَّ ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يُعلم معناه بالكلية.
ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة، قال بعضهم: ارتفع على العرش، علا على العرش، وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب الرد على الجهمية، وأما التأويلات المحرّفة مثل استولى وغير ذلك، فهي من التأويلات المبتدَعة لما ظهرت الجهمية"إلى آخر كلامه رحمه الله.
ومنهج هؤلاء مع النصوص المخالفة لعقائدهم كما قال شيخ الإسلام: "تارة يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويتأوّلونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه ويقولون: نفوّض معناه إلى الله، وهذا فعل عامّتهم".
فكلام السلف رحمهم الله مؤتلف غير مختلف، ومقبول غير مردود، بخلاف كلام أهل الأهواء والبدع، فهم في قول مختلف يُؤفك عنه من أُفك، قُتل الخرّاصون.
الفصل الرابع: في ذِكر فوائد عامة مأخوذة من هذا الأثر
لقد اشتمل هذا الأثر العظيم عن الإمام مالك رحمه الله على فوائد عظيمة ومهمّة يحتاج طالب العلم إلى الوقوف عندها وتأمّلها وأخذ العبرة منها، وسأجمل هذه الفوائد في ثلاث مباحث:
المبحث الأول: ذكر ما في قولهم: "حتى علاه الرّحضاء"من فائدة.(42/410)
المبحث الثاني: ذكر ما في قوله: "ما أُراك إلاّ مبتدعاً"من فائدة.
المبحث الثالث: ذكر ما في قوله: "أخرجوه عني"من فائدة.
المبحث الأول:
ذكر ما في قولهم: "حتى علاه الرّحضاء"من فائدة
لَمَّا سمع الإمام مالك رحمه الله هذا السؤال الخطير وهذا الخوض الباطل من هذا السائل في البحث عن كيفية صفات الباري سبحانه شقَّ عليه الأمر، وعَظُم عنده الخَطب، وتأثّر تأثّراً شديداً، ووجد منه ورُحِضَ رحمه الله من ذلك، حتى قال من حضر: "فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء".
والرحضاء هو "العرق إثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثرة".
وهذا بلا شك يدلّ على شدّة تأثُّر الإمام مالك رحمه الله من هذه المقالة، وشدّة غضبه على انتهاك حرمات الله عز وجل، "وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء".
عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باباً بعنوان: "ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله".
وروى فيه عن عائشة رضي الله قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قِرامٌ فيه صُوَرٌ فتلوّن وجهُه، ثم تناول السِّتر فهتكه، وقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُصوّرون هذه الصُوَر".
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أتى رجل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخّر عن صلاة الغداة من أجل فلان ممّا يطيل بنا، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ أشدَّ غضباً منه يومئذٍ، قال: فقال: "يا أيّها الناس إنَّ منكم منفّرين، فأيُّكم ما صلى بالناس فلْيتَجَوَّز فإنَّ فيهم المريض والكبير وذا الحاجة".(42/411)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي رأى في قبلة المسجد نُخامة فحكَّها بيده فتغيَّظ ثم قال: "إنَّ أحدكم إذا كان في الصلاة فإنَّ الله حِيال وجهه، فلا يتنخّمنَّ حِيال وجهه في الصلاة".
وعن زيد بن خالد الجهني أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللُّقطة؟ فقال: "عرِّفها سنة، ثم اعرف وِكاءها وعِفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربُّها فأدِّها إليه"، قال: يا رسول الله فضالّة الغنم؟ قال: "خذها فإنّما هي لك أو لأخيك أو للذئب"، قال: يا رسول الله فضالّة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه، أو احمرَّ وجهه، ثم قال: "ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربُّها".
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجيرة مخصَّفة أو حصيراً فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إليها فتتبّع إليه رجالٌ وجاؤوا يصلّون بصلاته ثم جاؤوا ليلةً، فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنَّ خير صلاة المرء في بيته إلاَّ الصلاة المكتوبة".
فهذا هدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، يغضب إذا انتهكت حرمات الله، ولا ينتقم لنفسه، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأةً ولا دابّةً ولا شيئاً قط، إلاَّ أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه قط، إلاَّ أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله".
والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام:
1- قسم يغضبون لنفوسهم ولربِّهم.
2- وقسم يغضبون لنفوسهم ولا يغضبون لربِّهم.(42/412)
3- وقسم يغضبون لربهم ولا يغضبون لنفوسهم وهم الوسط الخيار.
المبحث الثاني:
ذِكر ما في قوله: "ما أراك إلاَّ مبتدعاً"من فائدة
لا ريب أنَّ هذا الرجل الذي قال في شأنه الإمام مالك ما قال قد ارتكب بدعة من البدع التي يُبدَّع قائلها، فعن أشهب بن عبد العزيز قال: سمعتُ مالك بن أنس يقول: "إيّاكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله: وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلّمون في أسمائه وصفاته، وكلامِه وعلمه وقدرته، لا يسكتون عمّا سكت الله عنه والصحابة والتابعون".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والبدعة التي يُعدّ بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة ... ".
ثمَّ إنَّ هذه البدع قد تصدر من شخص على وجه قد يكون يُعذر فيه، وقد تصدر على وجه لا يكون معذوراً فيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنَّما المقصود هنا أنَّ ما ثبت قُبحُه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يُعذر فيه، إمَّا لاجتهاد أو تقليد يُعذر فيه، وإمَّا لعدم قدرته كما قد قرّرته في غير هذا الموضع، وقرّرته أيضاً في أصل التكفير والتفسيق المبنيِّ على أصل الوعيد.
فإنَّ نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حقِّ المعيّن، إلاَّ إذا وُجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع، هذا في عذاب الآخرة فإنَّ المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار، أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالأعمال.(42/413)
فأمَّا أحكام الدنيا فكذلك أيضاً، فإنَّ جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقاً بدعوتهم، إذ لا عذاب إلاَّ على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلاَّ بعد قيام الحجّة".
ولهذا إذا علم العالم المحقق من حال الرجل أنَّه غير معذور بدَّعه بعينِه، ووصفه بأنَّه مبتدع، وإذا كان بخلاف ذلك لم يبدِّعه، ولعلّه لأجل هذا قال الإمام مالك رحمه الله: "وما أُراك إلاَّ مبتدعاً"، وفي لفظ: "وما أُراك إلاَّ ضالاًّ"، وفي لفظ: "وإني لأظنّك ضالاًّ"، وفي لفظ: "وما أظنّك إلاَّ ضالاًّ"، وأُرى بمعنى: أظنّ، فلم يجزم رحمه الله بتبديعه، وفي لفظ قال: "أنت رجل سوء، صاحب بدعة"، وفرقٌ بين إطلاق الوصف على الشخص بأنَّه مبتدعٌ، وبين القول بأنَّه صاحب بدعة، ولو فُرض أنَّ الإمام مالكاً رحمه الله قد بدَّعه بعينه فإنَّه يُحمل على أنَّه عَلِم من حاله أنَّه وقع في الأمر المبتدَع على وجه لا يُعذر فيه، وممّا يقوِّي هذا أنَّ في بعض طرق القصة ما يشير إلى أنَّ هذا الرجل عنده شيء من التعنّت في هذه المسألة، وحبِّ الإثارة، والتمادي في الأمر، مما لا يكون إلاَّ في أهل الأهواء والبدع، ففي رواية سفيان للقصة: قال الرجل: "والله الذي لا إله إلا هو لقد سألت عن هذه المسألة أهلَ البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحداً وُفِّق لما وُفِّقَ إليه".
وعموماً فأهل العلم يفرّقون بين التعميم والتعيين في التكفير والتبديع والتفسيق، ولا يلحق شيء من هذه الأوصاف بإنسان معيّن إلاَّ وَفْق شروط وضوابط معلومة عند أهل العلم، والله أعلم.
المبحث الثالث:
ذكر ما في قوله: "أخرجوه عني"من فائدة
لقد أمر الإمام مالك رحمه الله بإخراج هذا السائل تأديباً له، وصيانةً لمجلسه من أن يكون لأحد من أهل الأهواء مجال أن يخوض فيه برأي أو هوى أو تقرير باطل أو إثارة شبهات أو نحو ذلك.(42/414)
قال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يُلبِّسوا عليكم ما تعرفون".
وقال عمرو بن قيس الملائي: "كان يُقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك".
وقال مصعب بن سعد: "لا تجالس مفتوناً، فإنَّه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إمَّا أن يفتنك، وإمّا أن يؤذيك قبل أن تفارقه".
وقال الأوزاعي: "لا تمكّنوا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنة ارتياباً".
وقال أيوب السختياني: "دخل على محمد بن سيرين رجلٌ فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن أقرأها ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي، قال: فقال: يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج، قال: فقال بإزاره يشدّه عليه وتهيّأ للقيام فأقبلنا على الرجل فقلنا: قد حرج عليك إلاَّ خرجت، أفيحلّ لك أن تخرج رجلاً من بيته، قال: فخرج، فقلنا: يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج، قال: إني والله لو ظننت أنَّ قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكني خِفتُ أن يُلقيَ في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع".
لأجل هذا كان أئمة السلف يوصون بعدم مجالسة أهل الأهواء ويأمرون بإخراجهم من مجالسهم.
وهذا الرجل الذي أمر مالك رحمه الله بإخراجه من مجالسه قد خاض في متشابه القرآن الكريم، إذ الصفات من حيث الكنه والكيفية أمرها من المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وقد قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} .(42/415)
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} إلى قوله: {أُولُو الأَلْبَابِ} قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم" (1)
فأرشد صلوات الله وسلامه عليه إلى الحذر منهم واجتنابهم، وقصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صَبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن مشهورة، رواها غير واحد من أهل العلم، وفيها تأديب عمر له، ونفيه إلى البصرة، وهو نوع من التعزير له ليتأدَّب "والتعزير منه ما يكون بالتوبيخ، وبالزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب".
قال الإمام الآجري رحمه الله بعد أن روى قصة عمر: "فإن قال قائل: فمن يسأل عن تفسير {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالحَامِلاَتِ وِقْراً} استحق الضرب والتنكيل به والهجرة؟ قيل له: لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه، علم أنَّه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه، وعلم أنَّ اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به، وتطلّب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنَّه مقبل على ما لا ينفعه، سأل عمرُ اللهَ تعالى أن يمكِّنه منه حتى يُنكِّل به، وحتى يحذر غيره، لأنَّه راعٍ يجب عليه تفقّد رعيّته في هذا وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه".
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: (7) .(42/416)
ولهذا فإنَّ من يخوض في المتشابه يستحق الزجر والتأديب ما يردعه ويجعله يكفُّ عن خوضه، روى يزيد بن هارون في مجلسه حديثَ إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، عن جرير بن عبد الله في الرؤية وقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّكم تنظرون إلى ربِّكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر"فقال له رجلٌ في مجلسه: يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد وقال: "ما أشبهك بصبيغ، وأحوجَك إلى مثل ما فُعل به، ويلك! ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلّم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلاَّ من سفه نفسه واستخفَّ بدينه؟ إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتَّبعوه، ولا تبتدعوا فيه، فإنَّكم إن اتّبعتموه ولم تُماروا فيه سلِمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم". ثم إنَّ مالكاً إضافة إلى ما تقدّم قد يكون قد راعى حُرمة المكان الذي هو فيه، إذا كان السائل قد أتاه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي عنه أنَّه قال في قصة أخرى: "لا يُجتمع عند رجل مبتدع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، هذا وبالله وحده التوفيق.
الخاتمة
الحمد لله أوَّلاً وآخِراً، والشكر له ظاهراً وباطناً على توالي نِعمه وترادف مِننه، ونسأله سبحانه أن يوزعنا شكرها {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ، وبعد:(42/417)
فقد تمَّ في هذا البحث الحديث مفصّلاً عن الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في جواب من سأله عن كيفية استواء الله على عرشه، وتبيّن فيه ثبوت هذا الأثر عنه رحمه الله، وأنَّ المسلمين تلقّوه بالقبول، وليس في أهل السنة من ينكره، بل إنَّ أهل العلم استحسنوه واستجودوه وائتموه به، وعدّوه أنبل جواب قيل في هذه المسألة، وجعلوه قاعدةً مطردة تطبق في جميع الصفات، فمن سأل عن كيفية أيِّ صفة لله قيل له ما قاله الإمام مالك رحمه الله في جواب من سأله عن كيفية الاستواء، ولهذا يمكن أن نقول عموماً: "الصفات معلومة، وكيفياتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفياتها بدعة"، كما انتظم هذا البحث ذكر الشواهد على هذه الكلمة من الكتاب والسنة، وإيراد نظائر لها عن أئمة السلف رحمهم الله، واشتمل أيضاً على بيان مدلولات هذه الكلمة والأمور المستفادة منها، والرد على المخالفين والمحرِّفين، وإبطال ما قام به بعضهم من محاولةٍ لتحريف معنى هذا الكلام وصرفها عن معناها الصحيح، ثم ذِكر بعض الفوائد العامة المستفادة من القصة والسياق الذي وردت فيه هذه الكلمة، وإني لأرجو أن تكون هذه الدراسة أنموذجاً للعناية بالآثار المرويّة عن السلف رحمهم الله، وإعطائها حقَّها من الدراسة والتحقيق واستخراج الفوائد، ولا سيما منها ما حظي بالشهرة الواسعة وتلقي الأمة له بالاستحسان والقبول.
ونسأل الله تعالى أن يجزي سلفنا الصالح عنَّا خير الجزاء على نصحهم للأمة وجهودهم المباركة وأعمالهم الوفيرة في نصرة السنة وقمع البدعة، إنَّه سبحانه سميع الدعاء وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
1- الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة: لابن بطة العكبري، دار الراية، ط الأولى.(42/418)
2- إبطال التأويلات لأخبار الصفات: للقاضي أبي يعلى، تحقيق: محمد أحمد الحمود، مكتبة دار الإمام الذهبي، ط الأولى.
3- إثبات صفة العلو: لابن قدامة، تحقيق: د. أحمد بن عطية الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، ط الأولى.
4- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: المكتبة السلفية.
5- أخبار إصبهان: لأبي نعيم الأصبهاني، مطبعة ليدن.
6- الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة: لابن قتيبة، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية، ط الأولى.
7- الأربعين: للذهبي ضمن مجموع فيه ست رسائل للذهبي تحقيق: جاسم سليمان الدوسري، الدار السلفية، 1408هـ.
8- الاستقامة: لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط الأولى.
9- الأسماء والصفات: للبيهقي، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة الوادي، ط الأولى.
10- الأسماء والصفات: للبيهقي، دار الكتب العلمية، ط الأولى.
11- الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة: للبيهقي، دار الكتب العلمية، ط الأولى.
12- إعلام الموقعين: لابن القيم، تحقيق: طه عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية.
13- أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات: لمرعي الكرمي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الأولى.
14- البدع: لابن وضاح، تحقيق: محمد أحمد دهمان، دار البصائر.
15- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: للضبي أحمد بن عميرة، دار الكتاب العربي.
16- بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار في شرح جوامع الأخبار: المؤسسة العيدية.
17- البيان والتحصيل: لابن رشد، طبعة دار الغرب الإسلامي.
18- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير الأعلام: للذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، ط الأولى.
19- تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية.(42/419)
20- تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس: لابن الفرض عبد الله بن محمد، تصحيح: السيد عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي.
21- التدمرية: لابن تيمية، تحقيق: محمد بن عودة السعودي، ط الأولى.
22- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب.
23- تفسير أبي المظفر السمعاني: تحقيق: باسم بن إبراهيم وغنيم بن عباس، طبع دار الوطن.
24- تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل: تحقيق: خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة، ط الأولى.
25- تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، تحقيق: عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم البنا، الشعب.
26- تقريب التهذيب: لابن حجر، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف، دار العاصمة.
27- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: مطبعة فضالة المحمدية.
28- تهذيب التهذيب: لابن حجر، دار الفكر، ط الأولى.
29- تهذيب الكمال في أسماء الرجال: للمزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، ط الخامسة.
30- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، الجامعة الإسلامية.
31- الجامع الصحيح: للبخاري، المطبعة السلفية، ط الأولى.
32- جامع العلوم والحكم: لابن رجب، دار المعرفة.
33- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: لأبي عبد الله محمد بن فتوح الحميدي، تصحيح وتحقيق: محمد بن تاويت الطنجي، مكتبة الخانجي.
34- الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية.
35- الحجة في بيان المحجة في شرح عقيدة أهل السنة: لأبي القاسم التيمي، تحقيق: د. محمد ربيع المدخلي، ومحمد بن محمود أبو رحيم، دار الراية، ط الأولى.
36- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم، دار الفكر.
37- خلق أفعال العباد: للبخاري، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، ط الأولى.(42/420)
38- درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط الأولى.
39- ذم التأويل: لابن قدامة، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، ط الأولى.
40- ذيل ديوان الضعفاء والمتروكين: للذهبي، تحقيق: الشيخ حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله، مكتبة النهضة، ط الأولى.
41- الرد على الجهمية: للدارمي، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، ط الأولى.
42- الرد على الزنادقة والجهمية: للإمام أحمد بن حنبل، المطبعة السلفية، ط الأولى.
43- الرسالة الحموية: لابن تيمية، المطبعة السلفية، ط الرابعة.
44- الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة: لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة العيدية.
45- سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني، المكتب الإسلامي، ط الثالثة.
46- سير أعلام النبلاء: للذهبي، مؤسسة الرسالة، ط الثانية.
47- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة، ط الأولى.
48- شرح ابن عقيل للألفية: تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
49- شرح حديث النزول: لابن تيمية، تحقيق: د. محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة، ط الأولى.
50- شرح السنة: للبربهاري، تحقيق: د. محمد بن سعيد القحطاني، دار ابن القيم، ط الأولى.
51- شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز، تحقيق: د. عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الثانية.
52- شرح الفقه الأكبر: لملا علي القاري، نشر قديمي كتب خانة.
53- شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير: تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، ط الأولى.
54- الشريعة: للآجري، تحقيق: د. عبد الله الدميجي، دار الوطن، ط الأولى.
55- صحيح مسلم: تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
56- الصفات: للدارقطني، تحقيق: الدكتور علي بن ناصر فقيهي.(42/421)
57- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: لابن القيم، تحقيق: د. علي ابن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، ط الأولى.
58- الضعفاء والمتروكين: لابن الجوزي، تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، ط الأولى.
59- ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري: لأبي شامة الشافعي، تحقيق: د. أحمد بن عبد الرحمن الشريف، دار الصحوة، ط الأولى.
60- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية.
61- طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول: لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة العيدية.
62- عقيدة السلف أصحاب الحديث: للصابوني، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، مكتبة الغرباء، ط الثانية.
63- العقيدة النظامية: للجويني، تحقيق: أحمد حجازي، دار الشباب، ط الأولى.
64- العلو للعليِّ الغفار في صحيح الأخبار وسقيمها: للذهبي، تصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، ط الثانية.
65- فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى مستل من كتاب بدائع الفوائد: لابن القيم، تحقيق: عبد الرزاق البدر، دار الإمام مالك، ط الأولى.
66- فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر، دار المعرفة.
67- فهرست ابن خير: لابن خير الإشبيلي، دار الآفاق الجديدة بيروت.
68- القاموس المحيط: للفيروزابادي، مؤسسة الرسالة، ط الثانية.
69- القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد: لعبد الرزاق البدر، دار ابن عفان
70- الكشاف: للزمخشري، دار المعرفة.
71- الكواكب الدرية لشرح الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية: للشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع، مطبعة المدني، ط الثانية.
72- لسان الميزان: لابن حجر، دار الكتاب الإسلامي، ط الثانية.
73- لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السُّنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية: للسفاريني، تحقيق: د. عبد الله بن محمد بن سليمان البصيري، مكتبة الرشد، ط الأولى.(42/422)
74- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية: للسفاريني، مطبعة المدني.
75- مجموع الفتاوى: لابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب.
76- مختصر الصواعق المرسلة: لابن القيم، اختصار: محمد بن الموصلي، دار الندوة الجديدة، 1405هـ.
77- مختصر العلو للعلي الغفار: للذهبي، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط الأولى.
78- مدارج السالكين: لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي بيروت.
79- المسند للإمام أحمد: المكتب الإسلامي، ط الخامسة.
80- مسند الإمام الشافعي: دار الكتب العلمية، ط الأولى.
81- المصنف: لأبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق: عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، الهند 1399هـ.
83- المصنف: للإمام أبي بكر عبد الرزاق بن همام، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي بيروت، ط الثانية
84- معالم السنن: لأبي سليمان الخطابي، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية.
85- المغني في الضعفاء: للذهبي، إدارة إحياء التراث الإسلامي بقطر.
86- مفتاح دار السعادة: لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت.
77- منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الجامعة الإسلامية، 1401هـ.
78- النصيحة: للجويني.
79- نقض تأسيس الجهمية: لابن تيمية، تصحيح: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة، ط الأولى.(42/423)
تابع لحدود في علم النحو
والمبنيُّ من الأفعالِ: الفعلُ الماضي وفعلُ الأمر، فالماضي مبنيّ على الفتحِ أبداً ما لم يَعْرِضْ له عَارِض.
والأمرُ مبنيٌّ على ما يُجزمُ به مضارعُه.
والأصلُ في البناءِ: السكونُ، وما بُني منها على حركةٍ فهو على خلافِ الأصلِ.
وأسباب البناءِ على حركةٍ خمسةٌ:
الأولُ: الفرارُ من التقاءِ الساكنين، كأَيْنَ.
الثاني: كونُ الكلمةِ عرضة لأن يبتدأُ بها، كلامِ الابتداءِ.
الثالث: كونُ الكلمةِ لها أصلٌ في التمكينِ، كأوّل.
الرابع: كونُ الكلمةِ على حرفٍ واحدٍ، كبعضِ المضمرات.
الخامس: كونُ ما هي فيه شبيهاً بالمعرب، كالفعلِ الماضي، لأنَّه شبيهٌ بالمضارعِ في وقوعِه صفةً أو صلةً أو حالاً أو خبراً.
وأسبابُ البناءِ أربعةٌ:
الأولُ: الشبهُ الاستعماليّ، كأسماءِ الأفعال.
"الثاني: الوضعيّ، بأنْ يكونَ الاسمُ موضوعاً على حرفٍ أو حرفين.
الثالث: المعنويّ، بأن يتضَّمنَ الاسمُ معنى من المعاني التي حقُّها أن تكونَ للحرف) .
الرابع: الشبهُ الافتقاريّ. كالموصولات.
وزادَ ابنُ مالكٍ خامساً، وهو الشبهُ الإهماليّ.
ـ حدُّ جمعِ التكسير: ما تغيَّر فيه بناءُ واحدِه لفظاً أو تقديراً، ودلَّ على أكثرَ من اثنين.
- حدُّ جمعِ المؤنّثِ السالم: ما جُمعَ بألفِ وتاءِ مزيدتين.
- حدُّ جمعِ المذكَّرِ السَّالمِ: ما دلَّ على أكثرَ من اثنين، وسلِم فيه بناءُ واحدِه، وجمعُ المذكرِ السالم إنْ كانَ اسماً فيشترطُ فيه أنْ يكونَ عَلَماً لمذكّرٍ عاقلٍ خَالٍ من تاءِ التأنيثِ ومن التركيب. وإن كانَ صفةً فيشترطُ فيها أنْ تكونَ صفةً لمذكرٍ عاقلٍ خالٍ من تاءِ التأنيثِ ومن التركيبِ، وليسَ من بابِ أفعل فعلاء ولا فَعْلاَن فَعْلَى، ولا ممّا يستوي فيه المذكرُ والمؤنث.
وشرطُ إعرابِ الأسماءِ الخمسةِ بالحروف:
... 1- (1) أنْ تكونَ مفردةً، لا مثنَّاة ولا مجموعة.
__________
(1) في ب "الأول".(42/424)
.. 2- (1) وأن تكونَ مكبّرةً، احترازاً من أنْ تكونَ مصغّرة.
... 3- (2) وأن تكونَ مضافةً لغيرِ ياءِ المتكلّمِ، احترازاً من أن تكونَ مضافةً إلى ياءِ المتكلِّم.
- حدُّ التثنية: ضمُّ اسمٍ إلى مثلهِ، بشرط اتفاقِ اللفظ والمعنى الموجب للتسمية.
- حدُّ المثنَّى: هو الاسمُ الدالُّ على اثنين، بزيادةٍ في آخرِه
صالحاً للتجريد وعطفِ مثلِه عليه.
وللتثنيةِ شروطٌ:
الأول: الإفرادُ، فلا يُثنَّى المثنَّى ولا المجموعُ على حدِّه.
الثاني: الإعرابُ، فلا يُثنَّى المبني، وأما نحو هذان واللذان فصيغٌ موضوعةٌ على المُثَنَّى لا أنَّها مثنَّاةٌ حقيقة.
الثالث: عدمُ التركيبِ، فلا يُثَنَّى المركَّبُ تركيباً إسنادياً. وأما المركَّبُ تركيباً إضافياً فيُسْتَغنى بتثنيةِ المضافِ عن تثنيةِ المضافِ إليه.
الرابعُ: التنكيرُ، فلا يُثَنَّى العَلَمُ باقياً على عَلَمِيَّتِه، ولهذا لا يُثَنَّى الكنايات عن الأعلامِ نحو: فلان، وفلانة، لأنها لا تقبلُ التنكير.
الخامس: اتفاقُ اللفظ.
السادس: اتفاقُ المعنى. فلا يُثَنَّى المشتركُ، خلافاً للحريريّ. وأما نحوُ العُمَرَان، فمن باب التغليب.
السابع: أن لا يُستغنى عن تثنيتهِ بتثنيةِ غيرهِ. نحو سواء، فإنهم استغنوا عن تثنيتهِ بتثنيةِ "سي"، فقالوا: "سيّان".
الثامن: أن يكونَ له ثانٍ في الوجودِ، وأما نحو "القمران" فمن بابِ المجاز.
- حدُّ الاسمِ الذي لا ينصرفُ:
هو ما فيه علّتان فرعيّتان من عللٍ تسع، أو واحدة منها تقومُ مقامَها.
- موانعُ الصرفِ يجمعُها قولُك:- ...
عَدْلٌ وَوَصْفٌ وتَأْنِيْثٌ وَمَعْرِفَةٌ (3)
__________
(1) في ب "الثاني".
(2) في ب "الثالث".
(3) المعتبر من المعارفِ إنما هو العلميةُ دونَ غيرِها، لأنها لازمةٌ للاسم بسببِ الوضعِ بغيرِ
آلةٍ، بخلاف التعريف باللامِ والإضافةِ، فإنها لا تلزمُ إلا في استعمالِ المتكلمِ لا بالوضع. وأما المضمرُ المبهمُ فلا مدخلَ لهما في منع الصرف.
... وأجازَ الكوفيونَ والأخفشُ وأبو عليّ منعَ الصرفِ بالعلميّةِ وحدَها في ضرورةِ الشعرِ. ومنعه سيبويه وأكثرُ البصريين. انظر: (شرح ألفية ابن معطٍ 1: 438، 441، 442) .(42/425)
وَعُجْمَةٌ ثُمَّ جَمْعٌ ثُمَّ تَرْكِيْبُ
وَالنُّونُ زَائِدَةٌ مِنْ قَبْلِهَا أَلِفٌ
وَوَزْنُ فَعْلَى وهَذَا الْقَوْلُ تَقْرِيْبُ.
النواصبُ قسمانِ:-
... منها ما ينصبُ بنفسِه، ومنها ما ينصبُ بتقديرِ "أَنْ"بعدَه.
فالذي ينصبُ بنفسهِ: أنْ، ولنْ، و "إذن"، وكي.
والباقي ما ينصبُ بتقديرِ أنْ بعده.
ويُشترطُ في إذا شروطٌ يجمعُها قولُ الشاعر:
أَعْمِلْ إذا إذاً أتَتْكَ أَوَّلا
وسُقْتَ فِعلاً بَعْدَهَا مُسْتَقْبلا
واحذرُ إن أَعْمَلْتَهَا أنْ تَفْصِلا
إلاَّ بِخُلْفٍ أَوْ نِدَاءٍ أوْ بِلاَ
وَإِنْ أَتَتْ بِحَرْفِ عَطْفٍ أَوَّلا
فَأَحْسَنُ الوَجْهَيْنِ أَلاَّ تَعْمَلا
والجوازمُ على قسمين:
منها ما يجزمُ فعلاً واحداً، وهي: لَمْ، ولَمَّا، أَلَمْ، ألمَّا، لام الأمر، والدعاء، ولا في النهي والدعاء.
ومنها ما يجزمُ فعلين (وهي) :
إن إلى آخرها.
وَلمْ لنفي الماضي المنقطعِ عن الحال. وما لنفي الماضي المتصلِ بالحال.
- حدُّ الفاعل: ما أُسندَ إليه فعلٌ تامٌ فارغٌ غيرُ مصوغٍ للمفعول.
- حدُّ المبتدأ:
... اسمٌ أو بمنزلتِه مجرّدٌ عن العواملِ اللّفظيةِ غيرِ الزائدةِ، مخبرٌ عنه، أو وصفٌ لرافعِ المكتفي به.
- حدُّ الخبرِ:
هو الجزءُ المنتظمُ منه المبتدأ جملة.
الرجاءُ يكونُ في الممكنِ، والتمنِّي يكونُ في الممكنِ والمستحيل.
- حدُّ النعت:
التابعُ لِمَا قبلَه، المشعرُ بعلامةٍ فيه أو ما هو في سببه.
والنعتُ إما أنُ يكونَ حقيقياً فيتبع منعوته في أربعةٍ من عشرةٍ، في واحدٍ من الرفعِ والنصبِ والجرِ، وواحدٍ من الإفرادِ والتثنيةِ والجمعِ، وواحدٍ من التذكيرِ والتأنيثِ، وواحدِ من التعريفِ والتنكيرِ.
- حدُّ عطف النَّسَق:
التابعُ لِمَا قبلَه المشاركُ له في إعرابِه بواسطِة أحدِ الحروفِ العشرة.
- حدُّ التوكيدِ المعنويّ:
التابعُ المقرّرُ معنى متبوعهِ في نفسِ السامعِ.
- وحدُّه لفظاً:
تكرارُ اللفظِ بعينهِ.(42/426)
- حدُّ البدل:
التابعُ المقصودُ بالحكمِ بلا واسطةِ أحد.
- حدُّ المصدر:
هو الاسمُ الدالُّ على الحَدَث.
- حدُّ المستثنى:
هو الإخراجُ بإلاّ أو إحدى أخواتِها تحقيقاً، أو تقديراً.
- حدُّ الجملة:
ما تركَّب من كلمتينِ فصاعداً، بشرطِ الإسنادِ، أفاد أم لم يفد (1) .
- حدُّ الجملةِ الكبرى:
... ما وقع الخبرُ فيها جملة.
- حدُّ الجملةِ الصغرى:
ما وقعتْ خبراً لمبتدأ.
أقسام الجملة ثلاث:
اسمية وفعلية وظرفية، وهي ترجعُ إلى:
الاسمية: ما صُدَّرتْ باسمٍ.
- حدُّ الجملةِ الفعلية: ما صُدِّرتْ بفعلٍ.
- حدُّ الإضافة: نسبةٌ تقنينيةٌ بينَ اسمين، تثبتُ لثانيهما الخفضَ أبداً.
- حدُّ التمييز:
هو الاسمُ المنصوب المفسّرُ لِمَا آنبهمَ من الذوات.
... أعرف المعارفِ المضمراتُ، ثم الأعلامُ، ثم أسماءُ الإشارة، ثم الموصولات، ثم المحلى بالألف واللام.
- ... حدُّ الموصولِ الاسمّي:
ما افتقرَ أبداً إلى عائدٍ أو خلفه، وجملة تصريحية أو مؤولة.
- حدُّ الموصول الحرفيّ:
ما أُوِّل مع ما يليه بمصدرٍ. ولم يحتجْ إلى عائد.
- حدُّ الحال:
هو الاسمُ المنصوبُ المفسّرُ لما آنبهمَ من الهيئات.
يجبُ استتارُ الضميرِ في أربعةِ مواضع:
في الفعلِ المضارعِ المبدوءِ بالهمزةِ، أو بالتاءِ، أو بالنونِ، وفي فعلِ الأمر.
الجملُ الواقعةُ بعدَ النكراتِ صفاتٌ، وبعدَ المعارفِ أحوالٌ. وبعد المحتمل لهما.
... والجارُ والظرفُ إذا وقعا صفةً أو جملةً أو حالاً أو خبراً، تعلَّق بمحذوفٍ تقديرُه كائنٌ أو مستقرّ إلا في الموصولِ فيتعيَّن "استقر".
- حدُّ الصفةِ:
ما دل على معنى وزمان.
__________
(1) بعدها في ب: "أقسام الجملة ثلاثة: اسمية وفعلية وظرفية. حدُّ الاسميةِ: ما صُدِّرت باسم، حدُّ الفعليةِ: ما صُدِّرت بفعل، حَدُّ الظرفيةِ: ما صُدِّرت بظرفٍ. والجملُ جملتانِ: صغرى وكبرى. وانظر: شرح الحدود في النحو: للفاكهي ص 64.(42/427)
والحمد لله تم الكتابُ بحمدِ اللهِ وعونِه وحسنِ توفيقهِ على يدِ أفقرِ عبادِ ربِه إبراهيم يوسف.. وصلى اللهُ على سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلم(42/428)
تابع لحدود في علم النحو
فهرس المصادر والمراجع
1- الإشارة إلى تحسين العبارة: تأليف علي بن فضال بن علي المجاشعي المتوفَّى سنة 479هـ، تحقيق: د. حسن شاذلي فرهود، دار العلوم، الرياض، 1402هـ (د. ط) .
2- إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين: تأليف عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني المتوفَّى سنة 743هـ. تحقيق: د. عبد المجيد دياب، مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1406هـ.
3- الأشباه والنظائر في النحو: لأبي الفضل عبد الرحمن بن الكمال أبو بكر جلال الدين السيوطي.
حققه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1395هـ (طبعة جديدة مراجعة محققة) .
4- إصلاح المنطق: لابن السكّيت المتوفَّى سنة 244هـ، شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون، ط 3، دار المعارف بمصر.
5- الأعلام: لخير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة، 1389هـ.
6- إنباه الرواة على أنباه النحاة: للوزير جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، ط 1، القاهرة، 1374هـ.
7- الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين: تأليف كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت (د. ط) (د. ت) .
8- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لإسماعيل باشا بن محمد أمين بن مير سليم الباباني البغدادي، دار العلوم الحديثة، بيروت.
9- البداية والنهاية: لأبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي المتوفَّى سنة 774هـ. الناشر مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 1966م.
10- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط القاهرة، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
11- تاج العروس، عن جواهر القاموس: للزبيدي، منشورات: دار مكتبة الحياة، بيروت.(42/429)
12- تاج اللغة وصحاح العربية: تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت. ط 3، 1404هـ.
13- التبصرة والتذكرة: لأبي محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري من نحاة القرن الرابع، تحقيق: د. فتحي أحمد مصطفى علي الدين، ط 1، 1402هـ، جامعة أم القرى، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي.
14- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد: لابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، دار الكاتب العربي، 1387هـ، مصر.
15- كتاب التعريفات: للشريف علي بن محمد الجرجاني، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ.
16- تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد: محمد بدر الدين بن أبي بكر بن عمر الدماميني المتوفَّى سنة 827هـ، تحقيق: د. محمد بن عبد الرحمن بن محمد المفدي. الطبعة الأولى، بيروت، 1403هـ.
17- تلقيح الألباب في عوامل الإعراب: تأليف أبي بكر محمد بن عبد الملك الشنتريني المتوفَّى سنة 549هـ، تحقيق: د. معيض بن مساعد العوفي، دار المدني، جدة، الطبعة الأولى 1410هـ.
18- الجامع الصغير في النحو: لابن هشام الأنصاري، تحقيق: د. أحمد الهرمبل، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1400هـ.
19- جني الجنتين في تمييز نوعي المثنيين، تأليف محمد أمين بن فضل الله المحبي المتوفَّى سنة 1111هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
20- حياة الحيوان الكبرى، للشيخ كمال الدين الدميري، ج1، دار الفكر، بيروت.
21- دائرة المعارف وهو قاموس عام لكل فن ومطلب، تأليف المعلّم بطرس البستاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
22- الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة: لشهاب الدين أحمد بن حجرالعسقلاني، المتوفَّى سنة 852هـ، حقّقه وقدّم له: محمد سيّد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، مصر.(42/430)
23- شذا العرف في فن الصّرف: تأليف الأستاذ أحمد الحملاوي. أستاذ العلوم العربية بدار العلوم وأحد علماء الأزهر الشريف، منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بيروت.
24- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفَّى سنة 1089هـ، المكتب التجاري، بيروت، الطبعة الأولى.
25- شرح الأشموني على ألفية ابن مالك. ومعه حاشية الصبان وشرح الشواهد للعيني، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر.
26- شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، دار الاتحاد العربي، ط 15، 1368هـ.
27- شرح ألفية ابن مالك: لابن الناظم المتوفَّى سنة 686هأبي عبد الله بدر الدين محمد بن الإمام جمال الدين محمد بن مالك صاحب الألفية، تحقيق: د. عبد الحميد السيد محمد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت.
29- شرح ألفية ابن معطٍ لعز الدين أبي الفضل عبد العزيز بن جمعه بن زيد القوَّاس الموصلي المتوفَّى سنة 696هـ، تحقيق: د. علي موسى الشوملي، الناشر: مكتبة الخريجي، الرياض، الطبعة الأولى، 1405هـ.
30- شرح التحفة الوردية: لزين الدين أبي حفص عمر بن مظفر بن عمر ابن الوردي المتوفَّى سنة 749هـ، تحقيق: د. عبد الله علي الشلال، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1049هـ.
31- شرح التسهيل: لابن عقيل: المساعد على تسهيل الفوائد: للإمام بهاء الدين ابن عقيل على كتاب التسهيل لابن مالك، تحقيق: د. محمد كامل بركات، الناشر: مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بمكة، 1405هـ.
32- شرح التصريح على التوضيح: لخالد الأزهري، دار الفكر، بيروت.
33- شرح كتاب الحدود للأبدي تأليف: الشيخ الإمام العالم العلامة: عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم المالكي النحوي المتوفَّى سنة 920هـ. تحقيق: د. المتولي الدميري 1413هـ. وكالة الشروق للطباعة والنشر.(42/431)
34- شرح كتاب الحدود في النحو: للإمام عبد الله بن أحمد الفاكهي النحوي المكي المتوفَّى سنة 972هـ، تحقيق: د. المتولي الدميري، 1408هـ.
35- شرح الفصيح: لابن هشام اللخمي المتوفَّى سنة 577هـ. دراسة وتحقيق: د. مهدي عبيد جاسم ط 1، 1409هـ. وزارة الثقافة والإعلام، دائرة الآثار والتراث، دار صدام للمخطوطات، العراق.
36- شرح اللمحة البدرية في علم العربية: لأبي حيان الأندلسي. تأليف: أبي محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري. تحقيق: د. صلاح رواي، الطبعة الثانية، القاهرة.
37- شرح عيون الإعراب: تأليف الإمام أبي الحسن علي بن فضال المجاشعي المتوفَّى سنة 479هـ. تحقيق: د. حنا جميل حداد، مكتبة المنار، الأردن، الزرقاء، الطبعة الأولى، 1406هـ.
38- شرح المفصل: موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش النحوي المتوفَّى سنة 643هـ، عالم الكتب، بيروت، مكتبة المتنبي، القاهرة.
39- شرح ملحة الإعراب: لأبي محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري المتوفَّى سنة 516هـ. تحقيق: د. أحمد قاسم، مكتبة دار التراث، ط 2، 1412هـ.
40 - شفاء العليل في إيضاح التسهيل: لأبي عبد الله محمد بن عيسى السلسيلي المتوفَّى سنة 770هـ، تحقيق: د. الشريف عبد الله علي الحسيني البركاتي، ط 1، 1406هـ.
41- الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق: مصطفى الشويمي، مؤسسة أ. بدران، بيروت، 1382هـ.
42- صفة جزيرة الأندلس، منتخبة من كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري، جمعه سنة 866هـ، عني بنشرها وتصحيحها وتعليق حواشيها: أ. لافي بروفنصال، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة سنة 1937م.
43- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: شمس الدين محمد عبد الرحمن السخاوي، المجلد الأولى، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.(42/432)
44- غاية النهاية في طبقات القراء: شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن الجزري المتوفَّى سنة 833هـ. عني بنشره: ج برحستراسر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1400هـ.
45- الغرة المخفية لابن الخبّاز المتوفَّى سنة 639هفي شرح الدرّة الألفية: لابن معطٍ المتوفَّى سنة 628هـ، تحقيق: حامد محمد العبدلي، دار الأنباء، بغداد، الرمادي.
46- فوات الوفيات والذيل عليها. تأليف: محمد بن شاكر الكتبي المتوفَّى سنة 764هـ. تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
47-القاموس المحيط: تأليف مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز ابادي المتوفَّى سنة 816هـ، دار الجيل، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت.
48- الكافية في النحو: لجمال الدين أبي عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب النحوي المالكي المتوفَّى سنة 646هـ، شرحه: رضي الدين محمد ابن الحسن الاستراباذي النحوي المتوفَّى سنة 686هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
49- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة وبكاتب جلبى. أعادت طبعة بالأوفست منشورات مكتبة المثنى، بغداد.
50- لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار صادر، بيروت.
51- اللمع في العربية: صنعة أبي الفتح عثمان بن جنَّي، تحقيق: د. حسين محمد محمد شرف، عالم الكتب، القاهرة، ط 1، 1399هـ.
52- المحلّى "وجوه النصب"صنّفه أبو بكر أحمد بن الحسن بن شقير النحوي البغداديّ المتوفَّى سنة 317هـ. تحقيق: د. فائز فارس، مؤسسة الرسالة، بيروت، دار الأمل، الأردن، الطبعة الأولى، 1408هـ.
53- المرتجل: لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخشاب المتوفَّى سنة 567هـ. تحقيق: علي حيدر، دمشق، 1392هـ.
54- المزهر في علوم اللغة وأنواعها: لعبد الرحمن جلال الدين السيوطي، دار الفكر، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى، وعلي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة.(42/433)
55- المصباح في علم النحو: للمطرزيّ، تحقيق: عبد الحميد السيد طلب، مكتبة الشباب، الطبعة الأولى، مصر.
56- المصطلح النحوي "نشأته وتطوره حتى أواخر القرن الثالث الهجري": عوض حمد القوزي، الناشر: عمادة شؤون المكتبات، جامعة الرياض، الرياض، الطبعة الأولى، 1401هـ.
57- معجم البلدان لشهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحمويّ الروميّ البغداديّ، م1، بيروت، دار صادر، د. ت.
58- معاني القرآن: لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء المتوفَّى سنة 207هتحقيق: محمد علي النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة، مصر.
59- معاني القرآن: صنعه الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعيّ البّلْخي البصري المتوفَّى سنة 215هـ، ج1، تحقيق: د. فائز فارس، ط2، 1401هـ. يطلب هذا الكتاب من محققه ص. ب 2002 الصفاة الكويت.
60- معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، المجلد الأولى، الناشر: مكتبة المثنى، بيروت، ودار إحياء التراث العربيّ، بيروت.
61- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لجمال الدين بن هشام الأنصاري المتوفَّى سنة 761هـ، تحقيق: د. مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله، راجعه: سعيد الأفغاني، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1969م.
62- مفتاح الإعراب: للشيخ محمد بن علي بن موسى الأنصاري المحلي المتوفَّى سنة 673هـ. تحقيق: د. محمد عامر أحمد حسن، مكتبة الإيمان، القاهرة.
63- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم: أحمد بن مصطفى، الشهير بطاش كبرى زاده، تحقيق: كامل بكري، عبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة.
64- المقتضب: للمبّرد، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث الإسلاميّ، القاهرة، 1399هـ.
65- المقدمة الجزولية في النحو: تصنيف: أبي موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي المتوفَّى بأزمور سنة 607هـ، تحقيق وشرح: د. شعبان عبد الوهاب محمد، الأستاذ المشارك بجامعة الإمام بأبها، راجعه: د. حامد أحمد نيل، ود. فتحي جمعه.(42/434)
66- الموسوعة الثقافية بإشراف د. حسين سعيد، دار المعرفة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر.
67- الموسوعة العربية الميسرة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، 1959م.
68- موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب: للشيخ خالد الأزهري، شرح قواعد الإعراب لابن هشام الأنصاري، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، مكتبة الساعي، الرياض.
69- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين أبو المحاسن يوسف ... ابن تغري بردي الأتابكي المتوفَّى سنة 874هـ، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب مع استدراكات وفهارس جامعة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، د. ت.
70- نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي البركات الأنباري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر، القاهرة.
71- نفح الطيب من غصن الأندلس ال رطيب، وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب، تأليف أحمد بن محمد المقري التلمساني المتوفَّى في عام 1401هـ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربيّ، بيروت.
72- النكت الحسان في شرح غاية الإحسان: لأبي حيّان النحويّ الأندلسي الغرناطي المتوفَّى سنة 745هـ، تحقيق: د. عبد الحسين الفتلي، كلية الآداب جامعة بغداد، الطبعة الأولى 1405هـ. مؤسسة الرسالة، بيروت.
73- همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربية: لجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطيّ، عُني بتصحيحه: السيد محمد بدر الدين النعسانيّ، دار المعرفة، بيروت.
74- الوافي بالوفيات: تأليف صلاح الدين خليل بن أيبك الصفديَ، باعتناء: س. ديد رينغ، دار النشر: فرانز شتايز بفيسبادن، الطبعة الثانية، 1394هـ.(42/435)
الصفات الإلهية
تعريفها وأقسامها
إعداد
د. محمد بن خليفة بن علي التميمي
الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران 102] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء 1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 71 - 72] .
أما بعد
فإن شرف العلم تابع لشرف المعلوم، ولا ريب أن أجل معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، الملك الحق المبين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص، وعن كل تشبيه وتمثيل في كماله.
ولا ريب أن العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأفضلها، ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات.(42/436)
وكما أنه أجل العلوم وأشرفها وأعظمها، فهو أصلها كلها، فكل علم هو تابع للعلم به، مفتقر في تحقيق ذاته إليه، فالعلم به أصلُ كل علم ومنشؤه، فمن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، فعلى أساس العلم الصحيح بالله وأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها، فلا حياة للقلوب ولا نعيم، ولا سرور، ولا أمان، ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها ويكون أحب إليها مما سواه، والإنسان بدون الإيمان بالله لا يمكنه أن ينال معرفة ولا هداية، وبدون اهتدائه إلى ربه لا يكون إلا شقياً معذباً، كما هو حال الكافرين. لذلك فإن من في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه، وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه، فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التبصر فيه، وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وأجل غاياته، فهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه؛ وله خُلِقَ الخلق؛ ولأجله نزل الوحي؛ وأرسلت الرسل؛ وقامت السماوات والأرض؛ ووجدت الجنة والنار، ولأجله شرعت الشرائع، وأسست الملة، ونصبت القبلة، وهو قطب رحى الخلق، والأمر الذي مداره عليه.
وهو بحق أفضل ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شييء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر ولا فرحها بشييء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه.
وبابٌ هذه أهميته حريّ بأن تُوْلَى مسائلهُ ومباحثهُ حقها من العناية والاهتمام والدراسة، وإن من بين مباحث هذا الباب مسألة: "تعريف الصفات الإلهية وبيان أقسامها".
فأحببت تناول هذه الجزئية بالبحث آخذاً في الاعتبار إعطاء الأهمية لتحرير قول أهل السنة والجماعة في المسألة مع الإشارة إلى أقوال المخالفين بحسب ما تدعو إليه الحاجة وذلك في فصلين تسبقهما مقدمة وتعقبهما خاتمة وفهارس فنيّة:
المقدمة.(42/437)
الفصل الأول: تعريف الصفات والعلاقة بينها وبين باب الأسماء وباب الإخبار، وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الصفات، وضَمَّ مطلبين:
المطلب الأول: تعريف الصفات.
المطلب الثاني: الفرق بين الوصف والصفة.
المبحث الثاني: أنواع المضافات إلى الله، وانتظم ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالنوعين.
المطلب الثاني: أقوال العلماء في تقرير المسألة.
المطلب الثالث: موقف المخالفين من المسألة.
المبحث الثالث: العلاقة بين باب الصفات وباب الأسماء وباب الإخبار، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: العلاقة بين الأبواب الثلاثة.
المطلب الثاني: الألفاظ المجملة وحكم دخولها في باب الصفات وموقف أهل السنة من استعمالها.
الفصل الثاني: أقسام الصفات، وهو في مبحثين:
المبحث الأول: أقسام الصفات عند أهل السنة والجماعة، واحتوى مطلبين:
المطلب الأول: أقسام الصفات عموماً.
المطلب الثاني: أقسام الصفات الثبوتية.
المبحث الثاني: أقسام الصفات عند المخالفين، واشتمل مطلبين:
المطلب الأول: أقسام الصفات عند من ينكر جميع الصفات الثبوتية.
المطلب الثاني: أقسام الصفات عند من يثبت بعض الصفات وينكر بعضها.
وختمت ذلك بخاتمة وثبت للمراجع وآخر للموضوعات، وإني لا أدعي أني وصلت بهذا البحث إلى درجة الكمال، ولكن حسبي أني اجتهدت، فإن وفقت فذلك فضل من الله وحده، وإن كان غير ذلك، فهذا من طبيعة البشر، فأرجو ممن وقف على شييء من ذلك أن يبادرني بالنصيحة، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل مني هذا الجهد وأن يجعله عملاً صالحاً ولوجهه خالصاً، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفصل الأول:
تعريف الصفات والعلاقة بينها وبين باب الأسماء وباب الإخبار
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الصفات.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الصفات.(42/438)
حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها، تتقدم أحكامها، فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها. فمن حكم على أمر من الأمور - قبل أن يحيط علمه بتفسيره، ويتصوره تصوراً يميزه عن غيره - أخطأ خطأً فاحشاً.
فلابد عند الحكم على الشييء من أن يكون مسبوقاً بتصور ماهية المحكوم عليه والمحكوم به، فإن كل تصديق بشييء لابد أن يكون مسبوقاً بتصور.
والغرض من وضع الحدود والتعريفات هو التمييز بين المحدود وبين غيره من جهة.
وكذلك فإن من وظيفته تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال، فالحدود والتعريفات تساعد على تصور حقيقة المحدود، ولذلك كان من شرطها أن تكون جامعة مانعة.
فلابد أن يكون الحد جامعاً حتى يتصور السامع حقيقة المحدود، ولابد كذلك أن يكون مانعاً ليتميز المحدود عن غيره.
ومن هذا المنطلق لابد من تعريف للصفات يساعد على تصور مضمون هذا اللفظ من جهة ويحدد الفروق بين الصفة والاسم من جهة، وبين الصفة والخبر من جهة أخرى؛ كما يحدد الفرق بين ما يضاف إلى الله إضافة صفة وما يضاف إلى الله إضافة تشريف وتكريم
والتعريف الذي سأذكره هاهنا هو تعريف الصفات الثبوتية، وأما تعريف الصفات السلبية (أي المنفية) فسيأتي عند ذكر أقسام الصفات.
ضابط الصفات: هي ما قام بالذات الإلهية مما يميزها عن غيرها، ووردت به نصوص الكتاب والسنة.
شرح مفردات التعريف:
أ- "ما قام بالذات"يخرج من هذا التقييد ما كان من إضافة المُلْك والتشريف، إذ الإضافة إلى الله نوعان:
النوع الأول: إضافة مُلْك وتشريف وضابطها: كل ما يضاف إلى الله ويكون عيناً قائمة بنفسها، أو حالاً في ذلك القائم بنفسه.
ومثال ما يضاف ويكون عيناً قائمة بنفسها قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} .
ومثال ما يكون حالاً في ذلك القائم بنفسه قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} فهذا لا يكون صفة لأن الصفة قائمة بالموصوف.(42/439)
النوع الثاني: إضافة الصفة إلى الله وضابطها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به وهي المقصودة هنا.
فالله لا يتصف إلا بما قام به لا بما يخلقه في غيره، وهذا حقيقة الصفة، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به لا بما هو مباين له، صفة لغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما إضافة الوصف إلى الله فتعريفها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به" أي قبل الإضافة والتخصيص.
ومن فوائد هذا التقييد الرد على زعم الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم الذين زعموا أن الصفة هي مجرد قول الواصف، فزعموا أن إضافة الصفات هي إضافة وصف من غير قيام معنى به وهذا باطل، فإن حقيقة الصفة هي ما قام بالموصوف، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به لا بما هو مباين له.
أـ "بالذات الإلهية"
لفظ "الذات"في أصل اللغة تأنيث ذو، وهذا اللفظ لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره كأسماء الأجناس، ويتوصلون به إلى الوصف بذلك فيقال: فلان ذو علم وذو مال وشرف.
وحيث جاء لفظ ذو في القرآن أو لغة العرب وكذا لفظ "ذات"لم يجىء مقرونا إلا بالإضافة كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، وقول خُبيب رضي الله عنه الذي في صحيح البخاري
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
فاسم الذات في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والعربية المحضة بهذا المعنى.
ثم أطلقه المتكلمون وغيرهم على النَّفْس، فإنهم لما وجدوا الله في القرآن قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} وصفوها فقالوا: نفس ذات علم، وقدرة، ورحمة، ومشيئة، ونحو ذلك. ثم حذفوا الموصوف وعرفوا الصفة فقالوا: الذات. وهي كلمة مولدة ليست من العربية العرباء.
فهذا لفظ يقتضي وجود صفات تضاف الذات إليها، فأطلق بإزاء النفس.
ب ـ "مما يميزها عن غيرها"(42/440)
في هذا إشارة إلى وظيفة الصفة، فالله عز وجل وصف نفسه بصفات كثيرة، تَعَرَّفَ بها إلى عباده، وهذه الصفات هي التي تميز الخالق عز وجل عما سواه وتُظْهِرُ للعباد كمال الرب عز وجل وعظمة شأنه، وجلال قدرته، وتزيد العبد معرفة بالله عز وجل، ولا شك أن حاجة الناس إلى معرفة ربهم هي أعظم الحاجات، ولذلك تَعَرَّفَ الله لعباده بصفاته، ليكون ذكرهم له أعظم وأكثر، "وكلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشييء وذكره أشد وأكثر، كانت معرفتهم به وذكرهم له أعظم وأكثر، وكانت طرق معرفته أكثر وأظهر، وكانت الأسماء المعرِّفة له أكثر، وكانت على معانيه أدل".
وهذا الشأن حاصل في باب أسماء الله وصفاته، فالله هو أجل معلوم وأعظمه وأكبره. ولذلك كان العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأشرفها وأعظمها، فمن عرف الله عرف ما سواه ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، فالعلم بالله أصل كل علم وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد والجهل به أصل شقاوته.
وعلى أساس العلم الصحيح بالله وأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها.
فالمعرفة لله تَلْزَمُ العبد المؤمن لينعقد بها أصل الإيمان ولتجعله في سلامة من الكفر والشرك المخرجين من الإيمان.
جـ ـ "ووردت به نصوص الكتاب والسنة"
أي يجب الوقوف في هذا الباب على ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته.
قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتَجاوز القرآن والحديث".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتَجاوز القرآن والحديث".(42/441)
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفات ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: التصريح بالصفة.
كالعزة في قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت".
والقوة في قوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} .
والرحمة في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} .
واليدين في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
والبطش في قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} ، وفي حديث الاستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك"، وفي الحديث الآخر "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق"، فهذا في الإضافة الاسمية.
وأما بصيغة الفعل فكقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، وقوله
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} .
أما الخبر الذي هو جملة اسمية فمثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وذلك لأن الكلام الذي توصف به الذوات:
1- إما جملة 2- أو مفرد
فالجملة إما اسمية: كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
أو فعلية: كقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوه} .
أما المفرد فلا بد فيه من:
1ـ إضافة الصفة لفظاً أو معنى كقوله: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وقوله: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} .
2ـ أو إضافة الموصوف كقوله: {ذُو الْقُوَّة} ".
الوجه الثاني: تضمن الاسم للصفة.
فمن الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة أن أسماء الله الحسنى متضمنة للصفات، فكل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر.
·1 فالعزيز متضمن لصفة العزة وهو مشتق منها.(42/442)
·2 والخالق متضمن لصفة الخلق وهو مشتق منها.
·3 والرحيم متضمن لصفة الرحمة وهو مشتق منها.
فأسماء الله مشتقة من صفاته.
وترجع أسماء الله الحسنى من حيث معانيها إلى أحد الأمور التالية:
1- إلى صفات معنوية: كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير.
2- ما يرجع إلى أفعاله: كالخالق، والرازق، والبارئ، والمصور.
3- ما يرجع إلى التنزيه المحض ولا بد من تضمنه ثبوتاً إذ لا كمال في العدم المحض: كالقدوس، والسلام، والأحد.
4- ما دل على جملة أوصاف عديدة ولم يختص بصفة معينة بل هو دال على معنى مفرد نحو: المجيد، العظيم، الصمد.
الوجه الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها أي ما فيها معنى الصفة والفعل مثل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} .
وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
وقوله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} .
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه} .
وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} .
وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} .
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} .
وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} .
وبما تقدم من شرح لمفردات التعريف أرى أنه هذا التعريف هو المناسب لتعريف الصفات والله أعلم.
المطلب الثاني: الفرق بين الوصف والصفة.
كل واحد من لفظ "الوصف" و"الصفة"مصدر في الأصل كـ "الوعد –والعِدَة"و"الوزن- والزِنة".
فالصفة: مصدر وصفتُ الشييء أصفه صفة.
والوصف والصفة:(42/443)
1- تارة يراد به: الكلام الذي يوصف به الموصوف، مثاله: قول الصحابي في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} : أحبها لأنها صفة الرحمن.
2- وتارة يراد به: المعاني التي دل عليها الكلام كالعلم والقدرة، والجهمية والمعتزلة وغيرهم تنكر هذا ويقولون: إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف، فقالوا: إن إضافة الصفات إلى الله من إضافة وصف من غير قيام معنى به.
والكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية قد يفرقون بين الوصف والصفة، فيجعلون الوصف: هو القول، والصفة: المعنى القائم بالموصوف.
فأدخلوا في الوصف (الذي هو القول عندهم) صفات الأفعال حتى ينفوا قيامها بالذات.
وأدخلوا في الصفة (التي هي المعنى القائم بالذات) ما أثبتوه من الصفات كصفات المعاني السبعة (العلم، الحياة، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام) ليتأتى لهم على هذا التقسيم اعتبار بعض الصفات قائماً بالذات، وبعضها غير قائم بها، فأرادوا بذلك نفي صفات الأفعال واعتبروها نسباً وإضافات لا تقوم بالذات.
قال ابن القيم في الرد على زعمهم هذا:
فالحق أن الوصف ليس بمورد التق سيم هذا مقتضى البرهان
بل مورد التقسيم ما قد قام بالذات التي للواحد الرحمن
فهما إذا نوعان أوصاف وأفعال فهذي قسمة التبيان
فالوصف بالأفعال يستدعي قيا م الفعل بالموصوف بالبرهان
كالوصف بالمعنى سوى الأفعال ما أن بين دينك قط من فرقان
فالحق أن مورد القسمة هو نفس ما يقوم بالذات، فيقال إن ما يقوم بالذات ويكون وصفاً لها، إما أن يكون:
1- صفة معنى لازماً للذات.
2ـ وإما أن يكون صفة فعل.
والوصف بالفعل يستدعي قيام الفعل بالموصوف، كالوصف بالمعنى سواء بسواء.
فإذا كان وصفه سبحانه بأنه عليم، قدير، حي، ... الخ، يقتضي قيام العلم والقدرة والحياة به.
فكذلك وصفه بأنه خالق أو رازق أو مقدم أو مؤخر يقتضي قيام هذه الأفعال من الخلق والرزق والتقديم والتأخير ونحوها به.(42/444)
"ومن قال الصفات تنقسم إلى صفات ذاتية وفعلية، ولم يجعل الأفعال تقوم به، فكلامه فيه تلبيس، فإنه سبحانه لا يوصف بشييء لا يقوم به.
وإن سلم أنه يتصف بما لا يقوم به فهذا هو أصل الجهمية الذين يصفونه بمخلوقاته ويقولون: إنه متكلم مريد وراض وغضبان ومحب ومبغض وراحم للمخلوقات يخلقها منفصلة عنه لا بأمور تقوم بذاته".
المبحث الثاني: أنواع المضافات إلى الله
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالنوعين
يجب التفريق بين نوعين من الإضافة وردا في النصوص هما:
الأول: إضافة ملك.
الثاني: إضافة وصف.
1- أما إضافة الملك فتعريفها: هي كل ما يضاف إلى الله ويكون عيناً قائمة بنفسها، أو حالاً في ذلك القائم بنفسه ومن أمثلتها:
1- قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} ، فإضافة الناقة إلى الله هنا من إضافة الملك والتشريف فالناقة عين قائمة بنفسها.
2-قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} ، فالروح هنا هو جبريل عليه السلام.
3-قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .
4-وقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} .
5-وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .
6-وقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول} .(42/445)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن المضاف إن كان شيئا قائماً بنفسه أو حالاًّ في ذلك القائم بنفسه، فهذا لا يكون صفة لله، لأن الصفة قائمة بالموصوف.
فالأعيان التي خلقها الله قائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها تمتنع أن تكون صفات لله، فإضافتها إليه تتضمن كونها مخلوقة مملوكة، لكن أضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة لا لكونها صفة، والروح الذي هو جبريل من هذا الباب، كما أن الكعبة والناقة من هذا الباب، ومال الله من هذا الباب، وروح بني آدم من هذا".
وأما إضافة الوصف إلى الله فتعريفها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به.
فإذا كان المضاف إليه لا يقوم بنفسه، بل لا يكون إلا صفة كالعلم، والقدرة، والكلام، والرضا، والغضب، فهذا لا يكون إلا إضافة صفة إليه فتكون قائمة به سبحانه.
ومن أمثلة هذا القسم:
قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، فالكلام لا يقوم بنفسه إلا بالمتكلم فإضافته إلى المتكلم إضافة صفة إلى موصوفها.
وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} ، فإضافة العلم إلى الله إضافة صفة إلى موصوفها.
وفي الحديث: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك"، فعلمه صفة قائمة به وقدرته صفة قائمة به.
وفي الحديث: "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك"، فرضاه وسخطه قائم به، وكذلك عفوه وعقوبته.
وأما أثر ذلك وهو ما يحصل للعبد من النعمة واندفاع النقمة فذلك مخلوق منفصل عنه ليس صفة له.
تنبيه:
وقد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علماً والمقدور قدرة والمأمور أمراً والمخلوق بالكلمة كلمة فيكون ذلك مخلوقاً ومن أمثلة ذلك:
قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} والمراد بالأمر هنا المخلوق المكوَّن بالأمر.(42/446)
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فإذا قيل المسيح "كلمة الله"فمعناه المخلوق بالكلمة، إذ المسيح نفسه ليس كلاماً.
وكقوله في الحديث الصحيح للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" كما قال للنار: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها".
فالرحمة هنا عين قائمة بنفسها لا يمكن أن تكون صفة لغيرها.
المطلب الثاني: أقوال العلماء في تقرير المسألة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما ذكر في القرآن أنه منه أو أضيف إليه، فإن كان عينا قائمة بنفسها، أوأمراً قائماً بتلك العين كان مخلوقا. كقوله في عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} وقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} .
وأما ما كان صفة لا تقوم بنفسها، ولم يذكر لها محل غير الله كان صفة له، فكالقول، والعلم، والأمر إذا أريد به المصدر كان المصدر من هذا الباب كقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وإذا أريد به المخلوق المكون بالأمر كان من الأول كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} .
وبهذا يفرق بين كلام الله سبحانه، وعلم الله، وبين عبد الله وبيت الله وناقة الله وقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} .
وهذا أمر معقول في الخطاب، فإذا قلت علم فلان وكلامه ومشيئته لم يكن شيئا بائناً عنه، والسبب في ذلك أن هذه الأمور صفات لما تقوم به، فإذا أضيفت إليه كان ذلك إضافة صفة لموصوف، إذ لو قامت بغيره لكانت صفة لذلك الغير لا لغيره".(42/447)
وقال رحمه الله: "إضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف، إذ كل ما يضاف إلى الله: إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله.
ومن أمثلة القسم الأول:
قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} .
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} وهو جبريل {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} .
وكقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} .
وقال تعالى عن آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .
ومن أمثلة القسم الثاني:
كقولنا علم الله، وكلام الله، وقدرة الله، وحياة الله، وأمر الله.
ولكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علما، والمقدور قدرة، والمأمور أمراً، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقا.
كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} .
وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} .
وكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} .
وكقوله في الحديث الصحيح للجنة "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" كما قال للنار: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها"".
وقال السفاريني: "ومما ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه نوعان:(42/448)
الأول: صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها فالعلم والقدرة ... الخ صفات له تعالى غير مخلوقة، وكذا وجهه ويده ونحو ذلك من الصفات الخبرية والذاتية وكذا الفعلية من التكوين والمحبة والرضا ونحوها، في مذهب السلف.
الثاني: إضافة أعيان منفصلة كبيت الله، وناقة الله، وعبد الله، ورسول الله، وكذلك روح الله، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، ومصنوع إلى صانعه لكنها تقتضي تخصيصاً أو تشريفاً يتميز به المضاف إليه عن غيره "كبيت الله"وإن كانت كل البيوت لله ملكاً له، وكذلك "ناقة الله"والنوق كلها ملكه وخلقه، ولكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه، بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته، حيث تقتضي خلقه وإيجاده.
فالإضافة العامة تقتضي الخلق والإيجاد، والخاصة تقتضي الاختيار {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، فإضافة الروح إليه تعالى من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة، ولا من باب إضافة الصفات، فتأمل هذا الموضع فإنه نفيس.
وقال ابن القيم رحمه الله:
والله أخبر في الكتاب بأنه منه ومجرور بمن نوعان
عينٌ ووصفٌ قائم بالعين فالأعيـ ان خَلْقُ الخالق الرحمان
والوصف بالمجرور قام لأنه أولى به في عرفِ كل لسان
ونظير ذا أيضاً سواء ما يضاف إليه من صفة ومن أعيان
فإضافة الأوصاف ثابتة لمن قامت به كإرادة الرحمان
وإضافة الأعيان ثابتة له ً مُلْكا وخَلْقاً ما هما سِيَّان
فانظر إلى بيت الإله وعلمه لَمَّا أضيفا كيف يفترقان
وكلامه كحياته وكعلمه في ذي الإضافة إذ هما وصفان
لَكِنَّ ناقته وبيت إلهنا فكعبده أيضاً هما ذاتان
فانظر إلى الجهمي لما فاته الحـ ــق المبين الواضح التبيان
كان الجميع لديه باباً واحداً والصبح لاح لمن له عينان(42/449)
قال الشيخ الدكتور محمد خليل هراس في شرح هذه الأبيات: "يريد المؤلف في هذا الفصل أن يفرق بين ما كان من الأعيان مخبراً عنه أنه من الله؛ وبين ما كان من الأوصاف كذلك. وأن يفرق أيضاً بين ما كان من الأعيان مضافاً إلى الله، وبين ما كان من الأوصاف كذلك.
فالمخبر عنه بأنه من الله على نوعين لأنه:
إما أن يكون عيناً من الأعيان.
أو وصفاً قائماً بالعين.
فإن كان عيناً فمعنى كونه من الله أنه هو خالقه سبحانه كما في قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، وقوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} ، وقوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} والآيات كثيرة في هذا الباب.
وإن كان وصفاً فمعنى كونه من الله أنه صفة له كما في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَق} ، وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
ومعنى قول المؤلف: "والوصف بالمجرور قام"يعني أن ما أخبر عنه بمن إن كان وصفاً فهو قائم بالمجرور بها لأنه أحق به في عرف أهل اللغات جميعاً.
ومثل ذلك تماماً يقال فيما يضاف إلى الله عز وجل.
·4 فإن كان عيناً مثل بيت الله، وناقة الله، وعباد الرحمن، فنسبته إليه ثابتة خلقاً وملكاً، وتكون إضافته للاختصاص والتشريف.
·5 وأما إن كان وصفاً كعلم الله، وقدرته، وإرادته، وكلامه، وحياته، فهذه الإضافة تقتضي قيامها بالله وأنه موصوف بها.
وتدبر هذا الفرق بين قولك بيت الله، وعلم الله، فإن كُلاًّ منهما يضاف إلى الله، ولكن لما كانت إضافة الأول إضافة ذات دلت على أنه مخلوق.(42/450)
ولما كانت إضافة الثاني إضافة معنى دلت على أنه صفة للمضاف إليه.
ولهذا لما اهتدى السلف لهذا الفرق هُدُوا إلى الصراط المستقيم، ولما ضل عنه الجهمي الزائغ جعل الجميع باباً واحداً، ولم يفرق بين الأوصاف والأعيان، فوقع في الضلال والبهتان".
المطلب الثالث: موقف المخالفين من المسألة
موقف الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم:
ينكر الجهمية والمعتزلة صفات الله عز وجل ولذلك فهم لا يعترفون بالقسم الثاني من أقسام الإضافة إلى الله الذي هو إضافة الصفة إلى الموصوف.
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه، فردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به لأنهم يقولون إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف، وينفون أن يكون لله وصف قائم به علم أو قدرة أو إرادة أو كلام.
موقف الكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية:
يفرقون بين الوصف والصفة.
·1 فيجعلون الوصف: هو القول.
·2 ويجعلون الصفة: المعنى القائم بالموصوف.
فقالوا: إن الوصف الذي هو القول يراد به الأفعال، وزعموا أنها لا تقوم به، والصفة: هي الصفات اللازمة القائمة بالذات.
فظنوا أن هناك نوعين مختلفين من الصفات:
أحدهما: قائم بالذات لازم لها، كصفات المعاني السبعة التي هي العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.
والثاني: صفات أفعال لا تقوم عندهم بالذات، بل هي نسب إضافية عدمية تنشأ من إضافة المفعول لفاعله، ولا يعقل لها وجود إلا بتلك الإضافة، فوجودها أمر سلبي، وليس لها وجود في نفسها، فليس ثمت عندهم موجود إلا المفعولات، وأما الأفعال فنسب وإضافات.
المبحث الثالث: العلاقة بين باب الصفات وباب الأسماء وباب الإخبار.
المطلب الأول: العلاقة بين الأبواب الثلاثة.
أولاً: يجب أن يُعْلَم أن توحيد الأسماء والصفات يشتمل على ثلاثة أبواب:
الباب الأول: باب الأسماء.(42/451)
الباب الثاني: باب الصفات.
الباب الثالث: باب الإخبار.
فنحن إذا وقفنا وقفةَ تأمل عند نصوص الكتاب والسنة الواردة في هذا الشأن نجد الحقائق التالية:
أن الله أطلق على نفسه أسماء كـ (السَّميع) و (البصير) ، وأوصافاً كـ (السمع) و (البصر) ، وهكذا أخبر عن نفسه بأفعالها فقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة 1] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران 15] . فاستعملها في تصاريفها المتنوعة، مما يدل على أن مثل ذلك يجوز إطلاقه عليه في أي صورة ورد.
وأطلق على نفسه أفعالاً كـ (الصُّنع) و (الصِّبغة) و (الفعل) ونحوها. قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} [النمل 88] ، وقال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة 138] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود 107] ، لكنه لم يَتَسَمَّ ولم يصف نفسه بها ولكن أخبر بها عن نفسه، ممَّا يدل على أنَّها تخالف الأوَّل في الحكم فوجب الوقوف فيها على ما ورد.
ووصف نفسه بأفعال في سياق المدح كـ (يريد) و (يشاء) فقال جلَّ شأنه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام 125] وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير 29] إلا أنه لم يشتق له منها أسماء فدل على أن هذا النوع مخالف للقسمين الأولين، فوجب رده إلى الكتاب والسنة وذلك بالوقوف حيث أوقفنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ووصف نفسه بأفعال أخرى على سبيل المقابلة بالعقاب والجزاء فقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} [النساء 142] وقال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه} [الأنفال 30] . ولم يشتق منها أسماء له تعالى فدل ذلك على أن مثل هذه الأفعال لها حكمٌ خاصٌ فوجب الوقوف على ما ورد.(42/452)
فهذه الحقائق السابقة قررت عند العلماء النتائج التالية:
1ـ أن النصوص جاءت بثلاثة أبواب هي (باب الأسماء) و (باب الصفات) و (باب الإخبار) .
2ـ أن باب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، فما صح اسماً صحَّ صفة وصحَّ خبراً وليس العكس.
3ـ باب الصفات أوسع من باب الأسماء، فما صحَّ صفة فليس شرطاً أن يصحَّ اسماً، فقد يصحُّ وقد لا يصح، مع أن الأسماء جميعها مشتقة من صفاته.
4ـ أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، فالله يُخْبَرُ عنه بالاسم وبالصفة وبما ليس باسم ولا صفة كألفاظ (الشييء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) و (المعلوم) ، فإنه يخبر بهذه الألفاظ عنه ولا تدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
إن باب الأسماء والصفات توقيفيان.
فالأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيهما عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.
وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء والصفات إطلاقاً.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم".
أما باب الإخبار فالسلف لهم فيه قولان:
القول الأول: أن باب الإخبار توقيفي، فإن الله لا يُخْبَرُ عنه إلا بما ورد به النص، وهذا يشمل الأسماء والصفات، وما ليس باسم ولا صفة مما ورد به النص كـ (الشييء) و (الصنع) ونحوها.
وأما مالم يرد به النص فإنهم يمنعون استعماله.(42/453)
القول الثاني: إن باب الإخبار لا يشترط فيه التوقيف، فما يدخل في الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) ، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيِّئ، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيِّئ فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حَقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.
المطلب الثاني: الألفاظ المجملة وحكم دخولها في باب الصفات وموقف أهل السنة من استعمالها.
يمكن تقسيم الألفاظ المجملة -أي التي لم يرد استعمالها في النصوص- على النحو التالي:
أولاً: ألفاظ ورد استعمالها ابتداءً في بعض كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك لفظ (الذات) و (بائن) .
وهذه الألفاظ تحمل معاني صحيحة دلت عليها النصوص.
وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها.
وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب الإخبار توقيفي كسائر الأبواب.
والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع.
كقول أهل السنة: "إن الله استوى على العرش بذاته".
فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.
وكقولهم: "إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم".
فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته.(42/454)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة".
وقال أيضاً: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل.
ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه.
ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، وقالوا إنما قابل البدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل".
فيستفاد من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الألفاظ على أربعة أقسام:
القسم الأول: الألفاظ المأثورة وهي التي وردت بها النصوص.
القسم الثاني: الألفاظ المعروفة وهي التي بُيِّنَت معانيها.
القسم الثالث: الألفاظ المبتدعة التي تدل على معنى باطل.
القسم الرابع: الألفاظ المبتدعة التي تحتمل الحق والباطل.
فلفظ (الذات) و (بائن) هي من القسم الثاني.
وهذه الألفاظ كما أسلفنا إنما تستعمل في باب الإخبار ولا تستعمل في باب الأسماء والصفات، ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله: "وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها. فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي؟! ".
فرد شيخ الإسلام ابن تيمية على قول الخطابي من وجوه منها:(42/455)
"أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم. وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شييء من الموصوفات -كما وصف باليد والعلم- صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشييء عن غيره من صفته وقدره".
فأهل السنة لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة، بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته".
ثانياً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف تارة لإثباتها وتارة لنفيها.
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الحد) ولفظ (المماسة) ، فإطلاق السلف لها ليس من باب الصفات وإنما هو من باب الإخبار، ولهم في حال الإثبات والنفي توجيه ليس هذا محل بسطه.
ثالثاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف وفي كلام خصومهم.
ومن أمثلة ذلك: لفظة (الجهة) .
رابعاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام الخصوم ولم يرد استعمالها في كلام السلف.
ومن أمثلة ذلك: لفظ (الجسم) و (الحيز) و (واجب الوجود) و (الجوهر) و (العرض) .
وأما النوعان الثالث والرابع فالجواب عن ذلك أن نقول الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
النوع الأول: نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته، وإن نفى شيئا وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق.
وهذا كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص 1-4] ، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِن} [الحشر 22-23] ، ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته.(42/456)
وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11] ، وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103] ، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة 22-23] ، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كله حق.
النوع الثاني: الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع.
فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض) . فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه، ويقولون إن القرآن مخلوق، ولم يتكلم الله به، وينفون رؤيته لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته. وكذلك يقولون إن المتكلم لا يكون إلا جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلماً، ويقولون: لو كان فوق العرش لكان جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلماً فوق العرش وأمثال ذلك.
الموقف من هذا النوع:
"إذا كانت هذه الألفاظ مجملة -كما ذُكر- فالمخاطب لهم إما:
1- أن يفصل لهم ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟
فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت. وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت.
2- وأما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً. ولكن يلاحظ.
أن الإنسان إذا امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى الجهل والانقطاع.
وأن الإنسان إذا تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها".(42/457)
ولعل الراجح في المسألة أن الأمر يختلف باختلاف المَصْلَحَةِ.
1- فإن كان الخصم في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزام الناس بها أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق.
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لَبَّسَ مُلَبِّسٌ منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: إئتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة.
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أدَّاه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة.
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم.
فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام 102] ، وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء 2] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تجيء البقرة وآل عمران"، وأمثال ذلك من الأحاديث.
أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم.
ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟
عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟
ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث -وكان من أحذقهم بالكلام- ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً.(42/458)
فأجابه الإمام أحمد: بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله.
وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يُعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها.
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً.
2- وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لايمكن أن يرد إلى الشريعة.
مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك.
أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء.
فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدعونها إما:
1- بألفاظهم.
2- وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ يقال لهم الكلام إما:
أ- أن يكون في الألفاظ.
ب- وإما أن يكون في المعاني.
جـ- وإما أن يكون فيهما.
فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك.
فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً.(42/459)
وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ. كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب.
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة.
فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال؛ أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.
وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض) ، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره.
وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك.
وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله.
فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة.
الفصل الثاني: أقسام الصفات
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أقسام الصفات عند أهل السنة والجماعة.
تنوعت تقسيمات أهل السنة للصفات وذلك بحسب الاعتبارات التي يرجع لها كل تقسيم، ومن تلك التقسيمات مايلي:(42/460)
المطلب الأول: أقسام الصفات عموماً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الصفات نوعان:
أحدهما: صفات نقص؛ فهذه يجب تنزيه الله عنها مطلقاً؛ كالموت، والعجز، والجهل.
والثاني: صفات كمال؛ فهذه يمتنع أن يماثله فيها شييء".
وتنقسم الصفات باعتبار ورودها في النصوص إلى قسمين:
1- صفات ثبوتية 2- صفات سلبية (أي منفية)
القسم الأول: الصفات الثبوتية
وتعريفها: هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والصفات الثبوتية كثيرة جداً منها: العلم - والحياة - والعزة - والقدرة - والحكمة - والكبرياء - والقوة - والاستواء - والنزول - والمجيء، وغيرها.
والصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية.
إضافة إلى أن معرفة الله الأصل فيها صفات الإثبات والسلب تابع ومقصوده تكميل الإثبات، بل كل تنزيه مدح به الرب ففيه إثبات.
القسم الثاني: الصفات السلبية
وتعريفها: هي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والصفات المنفية كلها صفات نقص في حقه.
ومن أمثلتها: النوم - الموت - الجهل - النسيان - العجز - التعب - الظلم.
فيجب نفيها عن الله عز وجل مع إثبات أن الله موصوف بكمال ضدها.
وتجدر الإشارة هنا إلى الأمور التالية:
الأمر الأول: أن معرفة الله ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع ومقصوده تكميل الإثبات.
"فإن السلب لا يراد لذاته، وإنما يقصد لما يتضمنه من إثبات الكمال، فكل ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص فإنه متضمن للمدح والثناء على الله بضد ذلك النقص من الأوصاف الحميدة والأفعال الرشيدة".
الأمر الثاني: أن صفات التنزيه يجمعها معنيان:(42/461)
الأول: نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال.
الثاني: إثبات أنه ليس كمثله شييء في صفات الكمال الثابتة له.
الأمر الثالث: الصفات السلبية تذكر غالباً في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله:
كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
والثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون
كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} .
والثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين
كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ".
الأمر الرابع: أن الصفات السلبية إنما تكون كمالاً إذا تضمنت أموراً وجودية.
فلا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أموراً وجودية، وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه.
فينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.
والعدم المحض ليس بشييء، وما ليس بشييء فهو كما قيل ليس بشييء فضلا عن أن يكون مدحاً وكمالاً.
لأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع؛ والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
ولهذا كان عامة ما يصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح.
كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام.(42/462)
وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها؛ بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشييء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.
وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فإن نفي مس اللغوب -الذي هو التعب والإعياء- دل على كمال قدرته ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.
وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رؤي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف به نفسه".
ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب مع الله سبحانه، فإنك لو قلت لسلطان: أنت لست بزبال ولا كسَّاح ولا حجام ولا حائك لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً.
وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل، فإن أجملت في النفي أجملت في الأدب.(42/463)
فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل فيقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض إلى آخر تلك السلوب الكثيرة التي تمجها الأسماع وتأنف من ذكرها النفوس والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حق قدره.
الأمر الخامس: أن الرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل.
والمعطلة ناقضوهم فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل.
فإن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شييء عليم، وعلى كل شييء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليماً، وتجلى للجبل فجعله دكاً، وأنه أنزل على عبده الكتاب، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
وقال في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} .
وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا، فلا يقرب من شييء ولا يقرب منه شييء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه ولا يتعين، ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه، ولا داخله، ولا خارجه، إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم.
ثم قالوا في الإثبات هو وجود مطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية.
وبذلك عكسوا منهج القرآن والسنة، فأكثروا من وصف الله تعالى بالأمور السلبية التي لم يرد بها النص، وأفرطوا في ذلك إفراطاً عجيباً، بينما أنكر بعضهم جميع الصفات الثبوتية، والبعض الآخر لم يثبت سوى القليل منها.
الأمر السادس: للتفريق بين الصفات السلبية التي ورد بها النص والصفات السلبية التي أحدثها المعطلة النفاة نقول: إن الصفات السلبية التي ورد بها النص متضمنة لثبوت كمال الضد كما تقدم شرح ذلك.(42/464)
وأما الصفات السلبية التي هي من نسج المعطلة واختراعهم فلا تتضمن ثبوت كمال الضد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل تنزيه مدح فيه الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول ((سبحان الله)) متضمناً تنزيه الرب وتعظيمه، ففيها تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيها تعظيمه سبحانه وتعالى".
فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً.
وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم، ولا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له.
إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليس هي صفة مستلزمة صفة ثبوت.
فقولهم إنه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات.
الأمر السابع: إن سلب النقائص والعيوب عن الله نوعان:
النوع الأول: سلب لمتصل
"وضابطه: نفي كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، كنفي الموت المنافي للحياة، والعجز المنافي للقدرة، والسنة والنوم المنافي لكمال القيومية، والظلم المنافي للعدل، والإكراه المنافي للاختيار، والذل المنافي للعزة ... "الخ.
النوع الثاني: سلب لمنفصل
وضابطه: تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد من خلقه في شييء من خصائصه التي لا تنبغي إلا له.
وذلك كنفي الشريك له في ربوبيته، فإنه منفرد بتمام الملك والقوة والتدبير.
وكنفي الشريك له في أُلوهيته، فهو وحده الذي يجب أن يؤلهه الخلق ويفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم.
وكنفي الشريك له في أسمائه الحسنى وصفاته العليا فليس لغيره من المخلوقين شركة معه سبحانه في شييء منها.(42/465)
وكذلك نفي الظهير الذي يظاهره أو يعاونه في خلق شييء أو تدبيره، لكمال قدرته وسعة علمه ونفوذ مشيئته، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة إلا بالله، فالشريك والظهير منفيان عنه بإطلاق.
وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نسبه إليه النصارى عابدو الصلبان، والصابئة الذين يقولون إن الملائكة بنات الله.
قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ} ،.
المطلب الثاني: أقسام الصفات الثبوتية
أـ تنقسم الصفات الثبوتية من جهة تعلقها بالله إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الذاتية.
القسم الثاني: الصفات الفعلية.
وكلا النوعين يجتمعان في أنهما صفات له تعالى أزلاً وأبداً، لم يزل متصفاً بهما ماضياً ومستقبلاً لائقان بجلال رب العالمين.
أما القسم الأول: الصفات الذاتية
فضابطها: هي التي لا تنفك عن الذات.
أو: التي لم يزل ولا يزال الله متصفاً بها.
أو: الملازمة لذات الله تعالى. .
ومنها: الوجه - اليدين - العينين - الأصابع - القَدَم - العلم - الحياة - القدرة - العزة - الحكمة.
القسم الثاني: الصفات الفعلية.
وضابطها: هي التي تنفك عن الذات.
أو: التي تتعلق بالمشيئة والقدرة.
ومنها: الاستواء - المجيء - الإتيان - النزول - الخلق - الرزق - الإحسان - العدل.
فالفرق بين القسمين:
أن الصفات الذاتية لا تنفك عن الذات، أما الصفات الفعلية يمكن أن تنفك عن الذات على معنى أن الله إذا شاء لم يفعلها.
ولكن مع ذلك فإن كلا النوعين يجتمعان في أنهما صفات لله تعالى أزلاً وأبداً لم يزل ولا يزال متصفاً بهما ماضياً ومستقبلاً لائقان بجلال الله عز وجل.
وتنقسم الصفات الفعلية من جهة تعلقها بمتعلقها إلى قسمين:
- متعدية: وهي ما تعدت لمفعولها بلا حرف جرّ مثل: خلق، ورزق، وهدى، وأضل، ونحوها.(42/466)
- لازمة: وهي ما تتعدى لمفعولها بحرف جر كالإستواء والمجيء والإتيان والنزول ونحوها.
وإنما قسمت كذلك نظراً للإستعمال القرآني من جهة ولكونها في اللغة كذلك، قال ابن القيم: "فأفعاله نوعان: لازمة، ومتعدية كما دلت النصوص التي هي أكثر من أن تحصر على النوعين"، وقال رحمه الله: "المجيء والإتيان والذهاب والهبوط هذه من أنواع الفعل اللازم القائم به، كما أن الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والقبض، والبسط أنواع الفعل المتعدي وهو سبحانه موصوف بالنوعين وقد يجمعهما كقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} "،.
مواقف الطوائف من الصفات الذاتية والفعلية:
1- موقف أهل السنة والجماعة
أثبت أهل السنة جميع الصفات الذاتية منها والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة.
2- موقف المعتزلة ومن وافقهم
أثبتوا الذات مجردة عن الصفات، وزعموا أن الله لا يقوم به صفة ولا أمر يتعلق بمشيئته واختياره وهو قولهم: لا تحله الأعراض ولا الحوادث.
وبذلك نفوا قيام الصفات الذاتية والفعلية بالله تعالى، وجعلوا إضافة الصفات إلى الله تعالى إما من باب إضافة الملك والتشريف أو من إضافة وصف (أي القول) من غير قيام معنى به.
3. موقف المتأخرين من الأشاعرة ومعهم الماتريدية:
نفوا جميع الصفات ما عدا الصفات السبع وهي: (العلم ـ الحياة ـ القدرة ـ الإرادة ـ السمع ـ البصر ـ الكلام) . وزاد الباقلاني وإمام الحرمين من الأشاعرة صفة ثامنة هي: (الإدراك) . وزاد الماتريدية صفة (التكوين) .
4. موقف الكلابية ومن وافقهم من قدماء الأشاعرة وغيرهم:
يثبتون الصفات الذاتية وينفون الأفعال الاختيارية، ولم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته كالمحبة.
5. موقف الكرامية ومن وافقهم:(42/467)
يثبتون الصفات بما فيها أن الله تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن، وأنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث. ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
ب - ويمكن تقسيم الصفات الثبوتية كذلك إلى قسمين:
·1 القسم الأول: الصفات اللازمة
وتعريفها: هي الصفات اللازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته. أو بعبارة أخرى: هي الصفات التي لا تنفك عن الذات وتنقسم إلى قسمين:
الصفات الذاتية: وهي التي لا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها.
ومنها: الوجه - اليد - الأصبع - العين - القدم.
الصفات المعنوية: وهي ما يمكن تصور الذات مع تصور عدمها.
ومنها: الحياة - العلم - القدرة - العزة - العظمة - الكبرياء - الملك - الحكمة - السمع - البصر.
·1 القسم الثاني: الصفات العارضة أو الصفات الاختيارية
وتعريفها: هي الصفات التي يمكن مفارقتها له مع بقاء الذات.
أو: الصفات التي تنفك عن الذات.
أو: الصفات التي تتعلق بالمشيئة والقدرة.
وهي إما من باب الأفعال: كالاستواء، والاتيان، والمجيء، والنزول.
وإما من باب الأقوال والكلمات: التكليم والنداء، والمناجاة، والقول.
وإما من باب الأحوال: كالفرح، والغضب، والرضا، والضحك.
فكل ما كان بعد عدمه فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وهذا ضابط ما يدخل في الصفات الاختيارية.
الصفات الاختيارية:
وضابطها: هي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته.
والصفات الاختيارية أعم من الصفات الفعلية، لأنها تشمل بعض الصفات الذاتية التي لها تعلق بالمشيئة، مثل: الكلام، السمع، البصر، الإرادة، المحبة، الرضا، الرحمة، الغضب، السخط.
كما أنها -أي الصفات الاختيارية- تشمل الصفات الفعلية غير الذاتية.
مثل: الخلق، الإحسان، العدل، وهذه فعلية متعدية.(42/468)
ومثل: الاستواء، المجيء، الإتيان، النزول، وهذه فعلية لازمة.
فالكلام (صفةُ ذاتٍ وفعلٍ) فهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً بذاته.
وكل ما كان بعد عدمه، فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من الصفات الاختيارية، والصفات الصادرة عن الأفعال موصوف بها في القدم، ولم تتغير ذاته من أفعاله، ولم يكتسب عن أفعاله صفات كمال، فهو سبحانه لم يزل كريماً خالقاً.
ومن معتقد أهل السنة والجماعة إثبات قيام جميع هذه الصفات بالذات، خلافاً لقول الكلابية والأشاعرة والماتريدية.
فهذا نوع من تقسيمات الصفات يفصل بين عقيدة أهل السنة من جهة وعقيدة الصفاتية من أهل الكلام وهم (الكلابية، والأشاعرة، والماتريدية) من جهة أخرى.
فالكلابية وقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات ما عدا صفات الأفعال الاختيارية فإنهم ينفون كونها صفات قائمة بالله.
والمتأخرون من الأشاعرة والماتريدية ينفون الصفات الذاتية والاختيارية ويثبتون سبعاً من الصفات المعنوية هي (العلم - الحياة - القدرة - الإرادة - السمع - البصر - الكلام) .
ثالثاً: تنقسم الصفات من حيث أدلة ثبوتها إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الشرعية العقلية
وضابطها: هي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي والدليل العقلي، والفطرة السليمة.
وهي أكثر صفات الرب تعالى، بل أغلب الصفات الثبوتية يشترك فيها الدليلان السمعي والعقلي وإن كان الأصل في ثبوتها الدليل الشرعي.
ومنها: العلم، السمع، البصر، العلو، القدرة، الإرادة، الخلق، الحياة.
وسميت "شرعية عقلية"
شرعية: لأن الشرع دل عليها أو أرشد إليها.
وعقلية: لأنها تعلم صحتها بالعقل ولا يقال إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر.(42/469)
فإذا أخبر الله بالشييء، ودل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولا عليه بخبره، ومدلولا عليه بدليل العقل الذي يعلم به، فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى الدلالة الشرعية.
القسم الثاني: الصفات الخبرية وتسمى النقلية والسمعية
وضابطها: هي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع والخبر عن الله أو عن رسوله الأمين عليه الصلاة والتسليم.
ومنها: الوجه - اليد - العين - الرضا - الفرح - الغضب - القَدَم - الاستواء - النزول - المجيء - الضحك.
وهي تنقسم إلى قسمين:
1- صفات ذاتية مثل: الوجه - اليد - العين - القَدَم.
2- صفات فعلية مثل: النزول - الاستواء - الغضب - الفرح - الضحك.
المبحث الثاني: أقسام الصفات عند المخالفين
المطلب الأول: أقسام الصفات عند من ينكر جميع الصفات الثبوتية:
وهم الفلاسفة بشتى أصنافهم، والجهمية، والمعتزلة ومن وافقهم كالزيدية، والرافضة الإمامية، والنجارية، والضرارية، والإباضية، وابن حزم، وهؤلاء ليس عندهم تقسيم للصفات الثبوتية، لأنهم لا يثبتونها أصلاً فضلاً عن كونهم يقسمونها.
أما في جانب النفي ـ عند من يقول به منهم فإن ابن سينا وهو من الفلاسفة الإسماعيلية الباطنية يجعل الصفات إما سلبية محضة وإما إضافية محضة وإما مؤلفة من سلب وإضافة والسلوب والإضافات لا توجب كثرة في الذات.
1- صفات سلبية محضة:
وهذا النوع إذا وصف به واجب الوجود ـ على حد تعبيرهم ـ، أفاد أن المقصود به نفس وجوده مع سلب ما يؤدي إليه عنه، وهو ما يستلزمه مفهوم واجب الوجود.
فإذا قيل جوهر: لم يعن به إلا هذا الوجود الواجب مع سلب الكون في موضع عنه.
وإذا قيل واحد: لم يعن به إلا الوجود الواجب وسلب الشريك عنه أو سلب الكثرة من كل وجه.
وإذا قيل قديم: لم يعن به إلا هذا الوجود الواجب مع سلب العدم عنه أولاً.
وإذا قيل باق: لم يعن به إلا هذا الوجود الواجب مع سلب العدم عنه آخراً.
2- صفات إضافية محضة:(42/470)
وضابطها: هي الأمور المتضايفة التي لا يعقل الواحد منها إلا بتعقل مقابله.
ومن أمثلتها: كونه أولاً مبدأ، خالقاً، قديراً، مريداً، صانعاً، مبدعاً، حكيماً، جواداً، كريماً.
"مثلاً صفة كونه (أولاً) : هي نفس وجود واجب الوجود لكن مع الوجود إضافة إذا نسب الله تعالى إلى الموجودات غيره، أي لم يعن إلا إضافة هذا الوجود الواجب إلى الكل.
وكونه تعالى (مبدأ) : إضافة له إلى معلوماته بمعنى إشارة إلى وجوده وإلى أن وجود غيره إنما هو منه.
وصفة كونه (خالقاً) : هي نفس وجود الله تعالى مع إضافة لأن علة الإيجاد هي علم واجب الوجود أو تعقله للنظام الفائض منه على مقتضى علمه".
3- صفات مركبة من سلب وإضافة:
وهذا النوع من الصفات إذا وصف به واجب الوجود أفاد أن ذلك له على وجه السلب وعلى وجه النسبة والإضافة أيضا، وهو ما يستتبعه الاعتقاد بأنه خالق ومدبر للكون.
فإذا قيل واجب الوجود: أي موجود لا علة له وهذا سلب، وهو علة لغيره وهذه إضافة فالسلب والإضافة مجتمعان معاً.
وإذا قيل خالق: فهم منه أن وجوده شريف يفيض عنه وجود الكل فيضاً لازماً، وأن وجود غيره حاصل منه بالتبع.
وإذا قيل عالم: فهم أنه لا يعلم ذاته ما لم يعلم أنه مبدأ للكل.
وإذا قيل جواد: فهم أنه لا ينحو غرضا لذاته وهذا سلب، وأنه يفيض الجود على غيره لأنه مبدأ لكل جود.(42/471)
قال الشهرستاني: "قالت الفلاسفة: واجب الوجود بذاته لن يتصور إلا واحداً من كل وجه فلا صفة ولا حال ولا اعتبار ولا حيث ولا وجه لذات واجب الوجود بحيث يكون أحد الوجهين والاعتبارين غير الآخر بذاته، أو يدل لفظ على شييء هو غير الآخر بذاته ولا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته لأن وجود نوعه له لعينه ولا يشاركه شييء ما صفة أو موصوفاً في واجب الوجود والأزلية ولا ينقسم هو ولا يتكثر لا بالكم ولا بالمباديء المقومة ولا بأجزاء الحقيقة والحد. ثم له صفات سلبية: مثل تقدسه عن الكثرة من كل وجه، فيسمى لذلك واحداً حقاً أحداً صمداً.
ومثل تنزهه عن المادة وتجرده عن طبيعة الإمكان والعدم، ويسمى ذلك عقلاً وواجباً.
وله صفات إضافية: مثل كونه صانعاً مبدعاً حكيماً قديراً جواداً كريماً
وصفات مركبة من سلب وإضافة: مثل (كونه مريداً) : أي هو مع عقليته ووجوبه بذاته مبدأ لنظام الخير كله من غير كراهية لما يصدر عنه؛ (وجواداً) أي هو بهذه الصفة وزيادة سلب أي لا ينحو غرضاً لذاته وأولاً: أي هو مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجود الكل إليه.
وصفاته عندهم إما سلبية محضة، وإما إضافية محضة، وإما مؤلفة من سلب وإضافة، والسلوب والإضافات لاتوجب كثرة في الذات".
المطلب الثاني: أقسام الصفات عند من يثبت بعض الصفات وينكر بعضها.
وهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية، ويسمون الصفاتية
وهم في تقسيم الصفات على قسمين:
1 ـ الكلابية وقدماء الأشاعرة
وهؤلاء يتفقون مع أهل السنة في تقسيم الصفات عموماً إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الذاتية.
القسم الثاني: الصفات الفعلية.
وكذا في تقسيمها من حيث أدلة إثباتها حيث يقسمونها إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات العقلية.
القسم الثاني: الصفات السمعية.
لكنهم يختلفون مع أهل السنة فيما يثبتونه وطريقة إثباتهم.
2 ـ الأشاعرة المتأخرون والماتريدية(42/472)
المعروف عن متأخري الأشاعرة والماتريدية من أهل الكلام تقسيمهم الصفات إلى أربعة أقسام:
1- صفات المعاني. 2- الصفات المعنوية.
3- الصفات السلبية. 4- الصفة النفسية.
القسم الأول: صفات المعاني.
وضابطها في اصطلاحهم هي: ما دل على معنى وجودي قائم بالذات ولم يقر هؤلاء إلا بسبع منها هي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. ونفوا ما عداها من صفات المعاني كالرأفة والرحمة والحلم.
وهي القدر الذي عند هؤلاء من الإثبات، أما الأقسام الثلاثة الباقية ليس فيها إثبات على الحقيقة.
القسم الثاني: الصفات المعنوية
وضابطها: هي الأحكام الثابتة للموصوف بها معللة بعلل قائمة بالموصوف وهي كونه (حياً، عليماً، قديراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً) وهذا العد لا وجه له لأنه في الحقيقة تكرار لصفات المعاني المتقدم ذكرها.
ثم إن من عدها من هؤلاء عدوها بناءً على ما يسمونه الحالة المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة.
والتحقيق أن هذا خرافة وخيال. وأن العقل الصحيح لا يجعل بين الشييء ونقيضه واسطة البتة فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء.
القسم الثالث: الصفات السلبية:
وضابطها عندهم: ما دل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن يدل على معنى وجودي قائم بالذات.
والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها وهي عندهم: القِدَمُ، البقاء، والمخالفة للحوادث، والوحدانية، والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء عن المخصص والمحل.
وعلى ضابطهم الذي ذكروه فإن هذه الخمس لا تتضمن معنى وجودياً. وإنما تتضمن أمراً سلبياً فعلى سبيل المثال:
القدم: المقصود بها نفي الحدوث.
والبقاء: المقصود بها نفي الفناء.
والوحدانية: المقصود بها نفي النظير المساوي له.(42/473)
والقيام بالنفس: عدم افتقاره للمحل وعدم افتقاره للمخصص: أي الموجد.
القسم الرابع: الصفة النفسية
وضابطها هي: كل صفة إثبات لنفس لازمة ما بقيت النفس غير معللة بعلل قائمة بالموصوف.
وهي عندهم صفة واحدة هي: الوجود. وهي عندهم لا تدل على شيء زائد على الذات.
يقول شارح جوهرة التوحيد: "واعلم أن الوجود صفة نفسية وإنما نسبت للنفس أي الذات، لأنها لا تتعقل إلا بها فلا تتعقل نفس إلا بوجودها، والمراد بالصفة النفسية: صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها.
فقولنا: "صفة"كالجنس.
وقولنا: "ثبوتية"يخرج السلبية كالقدم والبقاء.
وقولنا: "يدل الوصف بها على نفس الذات"معناه أنها لا تدل على شييء زائد على الذات.
وقولنا: "دون معنى زائد عليها"تفسير مراد لقولنا (على نفس الذات) ويخرج بذلك المعاني لأنها لا تدل على معنى زائد على الذات، وكذلك (المعنوية) فإنها تستلزم المعاني فهي تدل على معنى زائد على الذات لاستلزامها المعاني".
وبهذا يعلم أنه ليس عند هؤلاء من الإثبات إلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني وهي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:
وكل نص أوهم التشبيها أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورم تنزيها
فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها، يسمونها نصوصاً موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل. ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: "ورم تنزيهاً"وشارح الجوهرة يقول: "أو فوض"أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى.(42/474)
فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية- موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية"وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي".
وقال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان: "اعلم أن المتكلمين قسموا صفاته جلا وعلا إلى ستة أقسام:
1ـ صفة نفسية.
2ـ صفة سلبية.
3ـ صفة معنى.
4ـ صفة معنوية.
5ـ صفة فعلية.
6ـ صفة جامعة مثل العلو والعظمة مثلاً.
والصفة الإضافية هي تتداخل مع الفعلية.
لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية، فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة.
وتتفرد الفعلية في نحو الإستواء وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى موجود قبل كل شييء، وأنه فوق كل شييء، لأن القَبْلِيَّةَ والفوقيَّةَ من الصفات الإضافية وليستا من صفات الأفعال".
الخاتمة
بعد هذا العرض لتعريف الصفات وبيان أقسامها والمسائل المتعلقة بذلك، أعرض أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث، فأقول:
أولاً: إن ضابط الصفات الإلهية عند أهل السنة هو: ما قام بالذات الإلهية ووردت به نصوص القرآن والسنة.
فأهل السنة يثبتون قيام الصفات بالذات سواء الذاتية منها أو الفعلية.(42/475)
ثانياً: يشترط لثبوت الصفات ورود النص من القرآن أو السنة بذلك، فباب الصفات توقيفي.
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفات ثلاثة أوجه:
1ـ التصريح بالصفة.
2ـ تضمن الاسم للصفة.
3ـ التصريح بفعل أو وصف دال عليها.
ثالثاً: أن كل واحد من لفظ (الوصف) أو (الصفة) لا فرق بينهما عند أهل السنة، وأنهما قد يراد بهما الكلام الذي يوصف به الموصوف أو المعاني التي يدل عليها الكلام.
بخلاف قول الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم الذين جعلوا الصفات مجرد القول الذي يعبر به عن الموصوف من غير قيام معنى.
وبخلاف الصفاتية الذين يجعلون الوصف: هو القول، والصفة: هو المعنى القائم بالموصوف، فيفرقون بين الوصف والصفة.
رابعاً: المضافات إلى الله على نوعين هما:
1ـ إضافة الملك.
2ـ إضافة صفة.
وصفات الله عز وجل من إضافة الصفة إلى الموصوف، فتكون قائمة به سبحانه. بخلاف قول الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم الذين لا يعترفون بالقسم الثاني من أقسام الإضافة إلى الله، فردوا جميع ما يضاف إلى الله من الصفات إلى إضافة الخلق أو إضافة وصف من غير قيام معنى به.
وبخلاف قول الصفاتية من الكلابية ومن وافقهم الذين ينكرون قيام صفات الأفعال بالذات ويجعلون إضافتها إلى الله على أنها نسب إضافية عدمية.
خامساً: يشتمل توحيد الأسماء والصفات على ثلاثة أبواب:
1ـ باب الأسماء.
2ـ باب الصفات.
3ـ باب الأخبار.
وباب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع منهما.
سادساً: أن الألفاظ التي لم ترد بها النصوص لا تدخل في باب الصفات وإنما هي داخلة في باب الإخبار، ولأهل السنة ضوابط في ذلك تقدم تفصيلها.
سابعاً: تنقسم الصفات عموماً إلى قسمين:
1ـ صفات نقص.
2ـ صفات كمال.
والله عز وجل موصوف بالكمال ومنزه عن صفات النقص.
ثامناً: تنقسم الصفات باعتبار ورودها في النصوص إلى قسمين:
1ـ الصفات الثبوتية.
2ـ الصفات السلبية.(42/476)
والأصل في هذا الباب صفات الإثبات وأما الصفات المنفية فهي تابعة للصفات الثبوتية ومكملة لها.
تاسعاً: تنقسم الصفات السلبية إلى قسمين:
القسم الأول: سلب متصل.
القسم الثاني: سلب منفصل.
عاشراً: تنقسم الصفات الثبوتية من جهة تعلقها بالله إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الذاتية.
القسم الثاني: الصفات الفعلية.
وكل من النوعين يجتمعان في أنهما صفات الله تعالى أزلاً وأبداً، لم يزل ولا يزال متصفاً بها ماضياً ومستقبلاً.
الحادي عشر: تنقسم الصفات الثبوتية كذلك إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات اللازمة وهي على نوعين:
1ـ ذاتية.
2ـ معنوية.
القسم الثاني: الصفات العارضة.
الثاني عشر: الصفات الاختيارية أعم من الفعلية، فكل صفة فعلية فهي اختيارية وليس العكس.
الثالث عشر: تنقسم الصفات الثبوتية باعتبار أدلتها إلى قسمين:
القسم الأول: صفات شرعية عقلية، وهي ما اشترك في إثباتها الدليل العقلي مع الدليل الشرعي.
القسم الثاني: الصفات الخبرية
وهي ما اقتصر في إثباتها على الدليل الشرعي فقط.
الرابع عشر: ينكر الغلاة من المعطلة الصفات الثبوتية ومن أقر منهم بالصفات السلبية قسمها إلى ثلاثة أقسام:
1ـ صفات سلبية محضة.
2ـ صفات إضافية محضة.
3ـ صفات مركبة من سلب وإضافة.
الخامس عشر: يتفق الكلابية وقدماء الأشاعرة مع أهل السنة في طريقة تقسيمهم للصفات، ولكن يخالفونهم في القدر المثبت.
السادس عشر: يقسم الأشاعرة المتأخرون والماتريدية الصفات إلى أربعة أقسام هي:
1ـ صفات المعاني.
2ـ الصفات المعنوية.
3ـ الصفات السلبية.
4ـ الصفات النفسية.
وليس عندهم من الإثبات إلا صفات المعاني السبع وهي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
وفي الختام، فهذا جهدي أقدمه للقراء فما كان فيه من صواب فمن فضل الله عز وجل، وما كان فيه من خطأ فمني واستغفر الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(42/477)
فهرس المصادر والمراجع
1. أضواء البيان -محمد الأمين الشنقيطي- الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، 1403هـ
2. بدائع الفوائد -محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية- دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
3. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (نقض تأسيس الجهمية) -شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم- مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1391هـ.
4. تحفة المريد بشرح جوهرة التوحيد -إبراهيم اللقاني- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
5. التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية -فالح بن مهدي آل مهدي- ط: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
6. التعريفات -علي بن محمد الجرجاني- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط 1، 1403هـ.
7. التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية -زيد بن عبد العزيز ابن فياض.
8. تهذيب التهذيب -أحمد بن علي بن حجر العسقلاني- مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، ط1، 1325هـ
9. التوضيح والبيان لشجرة الإيمان -عبد الرحمن بن سعدي- ط المشهد الحسيني، القاهرة مصر.
10. الجامع الصحيح -محمد بن إسماعيل البخاري- طبعة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية.
11. درء تعارض العقل والنقل -أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- تحقيق د/ محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العرببة السعودية.
12. الرد على المنطقيين -شيخ الإسلام ابن تيمية- إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان.
13. الرسالة التدمرية -شيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق محمد السعوي، ط: 1، 1405هـ.
14. رسالة العقل والروح -شيخ الإسلام ابن تيمية- (مطبوعة ضمن الرسائل المنبرية) .
15. الروح -ابن قيم الجوزية- تحقيق بسام العموش، دار ابن تيمية، ط1.
16. شرح حديث النزول -ابن تيمية- تحقيق: د/ محمد الخميس، دار العاصمة، الرياض.
17. شرح العقيدة الأصفهانية -شيخ الإسلام ابن تيمية- دار الكتب الإسلامية، مصر.(42/478)
18. شرح العقيدة الطحاوية -ابن أبي العز الحنفي- تحقيق جماعة من العلماء، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط6، 1400هـ.
19. شرح القصيدة النونية لابن القيم -محمد خليل هراس- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1406.
20. صحيح مسلم بشرح النووي -مسلم بن الحجاج القشيري- دار الفكر، بيروت، لبنان، ط2، 1399هـ.
21. الصفات الإلهية في الكتاب والسنة -محمد أمان الجامي- المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ط 1، 1408هـ.
22. الصفدية -شيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العرببة السعودية.
23. علاقة صفات الله تعالى بالذات -راجح الكردي- دار العدوي، عمان، الأردن.
24. فتح الباري -ابن حجر العسقلاني- دار الفكر، بيروت، لبنان.
25. الفتوى الحموية الكبرى -شيخ الإسلام ابن تيمية- المكتبة السلفية، القاهرة، مصر، ط3، 1398هـ.
26. القواعد المثلى -محمد بن صالح العثيمين- مكتبة الكوثر.
27. الكواشف الجلية عن معاني الواسطية -عبد العزيز المحمد السلمان- ط 18، 1413هـ.
28. لوامع الأنوار البهية -محمد بن أحمد الفارييني- مطبعة المدني.
29. مجموع الفتاوى -شيخ الإسلام ابن تيمية- جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، دار العربية، بيروت، لبنان.
30. مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية -محمد ابن الموصلي- دار الفكر.
31. معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى -د/ محمد ابن خليفة التميمي- دار إيلاف الدولية، الكويت، ط1، 1417هـ.
32. منهاج السنة -شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- تحقيق محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
33. منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات - محمد الأمين الشنقيطي- طبعة الجامعة الإسلامية.(42/479)
34. المواقف في علم الكلام -عضد الدين الإيجي- عالم الكتب، بيروت، لبنان.(42/480)
تفسير أسماء الله الحسنى
للشيخ عبد الرحمن السعدي
جمعا ودراسة
إعدادك
د. عبيد بن علي العبيد
الأستاذ المساعد في كلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) (4) .
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النّار.
__________
(1) آل عمران (102) .
(2) النساء (1) .
(3) الأحزاب (70،71) .
(4) هذه خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، وأخرج الحديث أبو داود في سننه (2/591) كتاب النكاح باب خطبة النكاح، والنسائي (6/89) كتاب النكاح باب مايستحب من الكلام عند النكاح، وابن ماجه في سننه (1/609) كتاب النكاح باب في خطبة النكاح، والترمذي وحسنه (3/404) كتاب النكاح باب ماجاء في خطبة النكاح، وقد توسع الألباني في تخريج الحديث في رسالته خطبة الحاجة.(42/481)
اعلم - وفقني الله وإياك - أنّ الله أمر المؤمنين بالإيمان به في غير موضع في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) .
وإنّ من أهم مايتضمنّه الإيمان بالله تعالى -الذي هو أول أركان الإيمان- التعرف عليه سبحانه بأسمائه وصفاته معرفة تثمر الخشية والعمل بآثارها على منهاج أهل السنة والجماعة.
وإن مما يبين أهمّيّة موضوع أسماء الله الحسنى أموراً كثيرة منها:
1-إنّ العلم بالله، وأسمائه، وصفاته أشرف العلوم، وأجلها على الإطلاق لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في هذا العلم هو الله سبحانه، وتعالى بأسمائه، وصفاته وأفعاله، فالاشتغال بفهم هذا العلم اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب.
2-إن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته، وخشيته، وخوفه، ورجائه، ومراقبته، وإخلاص العمل له، وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه الحسنى، والتفقه في معانيها.
3-إن معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسني مما يزيد الإيمان كما قال الشيّخ ابن سعدي رحمه الله: "أنّ الإيمان بأسماء الله الحسنى، ومعرفتها يتضمّن أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء، والصفات، وهذه الأنواع هي رَوح الإيمان وروحه، وأصله وغايته فكلّما ازداد العبد معرفة بأسماء الله، وصفاته ازداد إيمانه، وقوي يقينه.
أهم أسباب اختيار الموضوع:
1- عظم أمر الإيمان بأسماء الله الحسنى إذ إن معرفتها هو أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها. وذلك لشرف متعلقها، وعظمته، ووجوب معرفته تعالى كما وصف نفسه ووصفه نبيه صلى الله عليه وسلم كما سبق.
2- ندرة الكتابة في هذا الموضوع على منهج سلف الأمة.
__________
(1) النساء (136) .(42/482)
3- لما يتّسم به شرح الأسماء الحسنى للسّعديّ من شمول، ودقة في الفهم على منهج سلف الأمة، مع غوص في بيان المعاني الإيمانيّة للأسماء الحسنى، وبيان آثار الإيمان بها، قلّ أن تجده عند غيره رحمه الله تعالى.
4- من خلال مطالعتي لتفسير السعدي رحمه الله، وجدته عقد فصلاً في شرح الأسماء الحسنى بعد تفسيره لسورة النحل.
ووجدت في نفسي رغبة في إخراجه، وطباعته مستقلاً عن التفسير لتعمّ الفائدة ويسهل حصوله لمريده، حيث إن موضعه في التفسير ليس مظنّة لقاصده، وبعد العزم، والتصميم على ذلك، استشرت بعض المشايخ، والزملاء، فوجدت منهم استحساناً للأمر، وأشاروا عليَّ بأن أزيد على هذا الفصل كل ما يتعلق بشرح الأسماء الحسنى من كتب الشيخ عبد الرحمن السّعديّ - رحمه الله - وجمعها، وترتيبها، وإخراجها.
وكان ممن له أثر كبير في ذلك الأخ الدكتور/ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد وفقه الله تعالى، حيث أتحفني بفهرس لمواطن الأسماء الحسنى من كتب ابن سعدي رحمه الله تعالى فجزاه الله خير الجزاء.
ولهذه الأسباب وغيرها رغبت في إخراج هذا المجموع، والله الهادي لسواء السبيل.
خطة البحث:
وتشتمل على مقدمة وقسمين:
المقدمة: وذكرت فيها:
1-أهمية الموضوع.
2-أسباب اختيار الموضوع.
3-خطة البحث.
4-منهجي في البحث.
القسم الأول: الدراسة وتشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: ترجمة موجزة للشيّخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله.
المبحث الثاني: منهج الشيخ ابن السعدي - رحمه الله تعالى - في الأسماء الحسنى.
المبحث الثالث: أسماء الله تعالى توقيفية.
المبحث الرابع: حديث لله تسعة وتسعون اسما والكلام عليه.
القسم الثاني: عرض شرح أسماء الله الحسنى للسعدي جمعاً ودراسة.
منهجي في البحث:
أولاً: جمع المادة العلمية من كتب الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وهى من الكتب الآتية:
1-تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.(42/483)
2-تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، وقد أشرت إليه في العزو باسم الخلاصة.
3-توضيح الكافية الشافية.
4-الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية.
5-المواهب الربانية من الآيات القرآنية.
6-بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار.
7-مجموع الفوائد واقتناص الأوابد.
ثانياً: النظر فيما قاله عن كل اسم من أسماء الله الحسنى، وتأليفه، وترتيبه، وحذف ما تكرر منه.
ثالثاً: ترتيب الأسماء الحسنى حسب حروف الهجاء مع ترقيمها ترقيماً تسلسلياً ثم عرض ما قاله الشيخ عن الاسم وجعله بين علامتي تنصيص.
رابعاً: الاستدلال للاسم الذي لم يستدل له الشيخ من الكتاب أو السنة إن وجد، وأجعله في الحاشية.
خامساً: أعلق على ما يحتاج إلى تعليق.
سادساً: عزو الآيات إلى سورها وأرقامها.
سابعاً: تخريج الأحاديث.
ثامناً: جعلت في خاتمة البحث ملخّصاً يبيّن أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
تاسعاً: وضع الفهارس اللازمة للبحث.
هذا وإن الحمد لله تعالى على التمام، وله الشكر على كل حال أحمده سبحانه أن يسر لي إخراج هذا المجموع عسى الله أن ينفع به جامعه، وقارئه، وكل من سمعه.
كما أسأله سبحانه أن يكون هذا العمل متقبلاً عنده وسائر أعمالي إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول: الدراسة وتشتمل على:
المبحث الأول
ترجمة موجزة عن الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله
أولاً: اسمه ونسبه:
هو الشيخ العلامة أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، من بني تميم.
ثانياً: مولده:
ولد في عنيزة في القصيم في الثاني عشر من محرم سنة ألف وثلاثمائة وسبع من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.
ثالثاً: نشأته:(42/484)
نشأ الشيخ يتيماً فقد توفيت أمه وله أربع سنين، وتوفى والده وله سبع سنين، ولكنه نشأ نشأة صالحة وقد أثار الإعجاب فقد اشتهر منذ حداثته بفطنته، وذكائه، ورغبته الشديدة في طلب العلم وتحصيله، فحفظ القرآن عن ظهر قلب وعمره أحد عشر سنة ثم اشتغل بالعلم على يد علماء بلده فاجتهد في طلب العلم وجَدّ فيه وسهر الليالي وواصل الأيام حتى نال الحظ الأوفر من كل فن من فنون العلم ولما بلغ من العمر ثلاثاً وعشرين سنة جلس للتدريس فكان يَتَعلم ويُعلِّم.
رابعاً: نبذة من أخلاقه:
كان على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة، متواضعاً للصغير، والكبير، والغني، والفقير، وكان يقضي بعض وقته بالاجتماع بمن يرغب حضوره فيكون مجلسهم مجلساً علمياً حيث إنه يحرص على أن يحتوي على البحوث العلمية، والاجتماعية، ويحصل لأهل المجلس فوائد عظمى من هذه البحوث، وكان يتكلم مع كل فرد بما يناسبه، وكان ذا شفقة على الفقراء، والمساكين، والغرباء مادًّا يد المساعدة لهم بحسب قدرته، ويستعطف لهم المحسنين ممن يُعْرف عنهم حب الخير في المناسبات.
وكان على جانب كبير من الأدب، والعفّة، والنّزاهة، والحزم في كل أعماله، وكان من أحسن الناس تعليماً، وأبلغهم تفهيماً.
خامساً: مكانته العلميّة:
كان رحمه الله ذا معرفة فائقة في الفقه وأصوله، وكان أول أمره متمسكاً بالمذهب الحنبليّ تبعاً لمشايخه، وحفظ بعض المتون من ذلك.(42/485)
وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وحصل له خير كثير بسببهما في علم الأصول والتوحيد، والتفسير، ولغته، وغيرها من العلوم النافعة. وبسبب استنارته بكتب الشيخين المذكورين صار لا يتقيد بالمذهب الحنبلي، بل يرجح ما تَرَجّح عنده بالدليل الشرعي، ولا يطعن في علماء المذاهب. وله مكانة مرموقة في علم التفسير إذ قرأ عدة تفاسير وبرع فيه وألف تفسيراً جليلاً، في ثمان مجلدات، فسره بالبديهية من غير أن يكون عنده وقت لتصنيف كتاب تفسير ولا غيره.
دائماً يقرأ تلاميذه في القرآن الكريم ويفسره ارتجالاً، ويستطرد، ويبين من معاني القرآن، وفوائده، ويستنبط منه الفوائد البديعة والمعاني الجليلة، حتى أن سامعه يودّ أن لا يسكت، لفصاحته، وجزالة لفظه، وتوسعه في سياق الأدلة، والقصص، ومن اجتمع به وقرأ عليه وبحث معه عرف مكانته العلمية، وكذلك من قرأ مصنفاته وفتاويه.
سادساً: مصنفاته:
كان رحمه الله تعالى ذا عناية بالغة بالتأليف فشارك في كثير من فنون العلم فألّف في التوحيد، والتفسير، والفقه، والحديث، والأصول، والآداب، وغيرها، وأغلب مؤلفاته مطبوعة إلا اليسير منها، وإليك سرد لهذه المؤلفات:
1-الأدلة والقواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين.
2-الإرشاد إلى معرفة الأحكام.
3-انتصار الحق.
4-بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخيار.
5-التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب.
6-توضيح الكافية الشافية.
7-التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.
8-التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة.
9-تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله.
10-تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
11-تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن.
12-الجمع بين الإنصاف ونظم ابن عبد القوي.(42/486)
13-الجهاد في سبيل الله، أو واجب المسلمين وما فرضه الله عليهم في كتابه نحو دينهم وهيئتهم الاجتماعية.
14-الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية.
15-حكم شرب الدخان.
16-الخطب المنبرية على المناسبات.
17-الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية.
18-الدرة المختصرة في معان دين الإسلام.
19-الدلائل القرآنية في أن العلوم النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي.
20-الدين الصحيح يحل جميع المشاكل.
21-رسالة في القواعد الفقهية.
22-رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة.
23-الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة.
24-سؤال وجواب في أهم المهمات.
25-طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول.
26-الفتاوى السعدية.
27-فتح الرب الحميد في أصول العقائد والتوحيد.
28-فوائد مستنبطة من قصة يوسف.
29-الفواكه الشهية في الخطب المنبرية.
30-القواعد الحسان لتفسير القرآن.
31-القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة.
32-القول السديد في مقاصد التوحيد.
33-مجموع الخطب في المواضيع النافعة.
34-مجموع الفوائد واقتناص الأوابد.
35-المختارات الجلية من المسائل الفقهية.
36-المواهب الربانية من الآيات القرآنية.
37-منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين.
38-المناظرات الفقهية.
39-منظومة في أحكام الفقه.
40-منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة.
41-وجوب التعاون بين المسلمين وموضوع الجهاد الديني وبيان كليات من براهين الدين.
42-الوسائل المفيدة للحياة السعيدة.
43-يأجوج ومأجوج. طبع دار لينا، مصر، دمنهور، الطبعة الأولى 1418هـ.(42/487)
سابعاً: وبعد عمر دام تسعاً وستين سنة قضاها في التعلم والتعليم والتأليف وخدمة الأمة الإسلامية وافاه الأجل المحتوم فتوفى سنة 1376هـ في مدينة عنيزة من بلاد القصيم رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
منهج الشيخ ابن السعدي رحمه الله في الأسماء الحسنى
من خلال مطالعتي، وجمعي للأسماء الحسنى للسعدي - رحمه الله - تبين لي من منهجه ما يأتي:
أولاً: بالنسبة لمنهجه في الأسماء الحسنى فإن السعدي - رحمه الله - لم يتقيّد بمن سبقه ممن ألف في الأسماء الحسنى. لأنني وجدت بعض الأسماء التي أوردها لا توجد في هذه الكتب فأحياناً يزيد عليها، وأحياناً ينقص عنها في بعض الأسماء.
كما أنه لم يعتمد على حديث أبي هريرة في سرد الأسماء الحسنى فمثلاً أورد اسم الله تعالى «الستار» وهذا الاسم لم يرد في حديث أبي هريرة ولا في أي رواية من رواياته الواردة، والله أعلم.
فقد يكون - رحمه الله - اعتمد على ما ظهر له أنها أسماء الله تعالى من نصوص الكتاب، والسنة، والله أعلم.
ثانياً: من الأمور الذي تميز بها هذا المجموع ما ظهر لي من منهج الشيخ - رحمه الله تعالى - من العناية، والاهتمام بقواعد الأسماء، والصفات كما يتبين ذلك من خلال إيراده لهذه القواعد في هذا المجموع ومن ذلك:
القاعدة الأولى: أسماء الله كلها حسنى.
القاعدة الثانية: الإيمان بأسماء الله، وصفاته، وأحكام الصفات.
القاعدة الثالثة: دلالة الأسماء على الذات، والصفات تكون بالمطابقة، والتضمن، والالتزام.
القاعدة الرابعة: من أسماء الله ما يرد مفرداً، ومنها ما يرد مقروناً مع غيره لأن الكمال الحقيقي من اجتماعهما.
ثالثاً: من منهج الشيخ رحمه الله أنه أدخل في الأسماء الحسنى الأسماء المضافة مثل «بديع السموات والأرض» و «ذو الجلال والإكرام» و «الفعال لما يريد» وغيرها.(42/488)
وكذلك ما أخذ بطريق الإشتقاق ولم أقف على نص ينص على تسميته لله مثل «الستار» و «الهادي» و «الرشيد» وغيرها. وقد بينت في الدراسة ما ترجّح لي في الأسماء المضافة، والاشتقاق.
رابعاً: اتسم منهج الشّيخ - رحمه الله تعالى - لشرحه أسماء الله الحسنى ببيان المعنى الظاهر للاسم مع الغوص في بيان المعاني الإيمانية للأسماء الحسنى، وبيان آثار الإيمان بها.
وهذه السمة مما ميّزت شرحه على كثير من شروح الأسماء الحسنى مع إغفاله للأوجه اللغوية للاسم، وهذا ظاهر في أغلب الأسماء التي شرحها رحمه الله تعالى.
المبحث الثالث: أسماء الله تعالى توقيفية
مذهب جمهور أهل السنة والجماعة أن أسماء الله تعالى توقيفية، فلا يجوز تسميته سبحانه بما لم يرد به السمع.
وذلك أن أسماء الله تعالى من الأمور الغيبية التي لا يمكن لنا معرفة شيء منها إلا عن طريق الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء من الغيب ثم هم يبلغونه للناس فلا يجوز القياس فيها أو الإجتهاد لأن هذا الباب ليس من أبواب الاجتهاد.
قال أبو إسحاق الزجاج: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه".
وقال أبو إسحاق القشيري: "الأسماء تؤخذ توقيفياً من الكتاب، والسنة، والإجماع، فكل اسم ورد فيهما وجب اطلاقه في وصفه، وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه".
وقال أبو سليمان الخطابي: "ومن علم هذا الباب؛ أعني الأسماء، والصفات، ومما يدخل في أحكامه، ويتعلق به من شرائط أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس، فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر، وضع اللغة، ومتعارف الكلام، فالجواد: لا يجوز أن يقاس عليه السخي، وإن كانا متقاربين في ظاهر الكلام، وذلك أن السخي لم يرد به التوقيف كما ورد بالجواد، ثم إن السخاوة موضوعة في باب الرخاوة واللين، يقال: أرض سخية وسخاوية إذا كان فيها لين ورخاوة، وكذلك لا يقاس عليه السمح لما يدخل السماحة من معنى اللين، والسهولة.(42/489)
وأما الجود فإنما هو سعة العطاء من قولك جاد السحاب إذا أمطر فأغزر، وفرس جواد إذا بذل ما في وسعه من الجري.
وقد جاء في الأسماء القوى، ولا يقاس عليه الجلد، وإن كان يتقاربان في نعوت الأدميين لأن باب التجلد يدخله التكلف، والإجتهاد.
ولا يقاس على القادر المطيق، ولا المستطيع لأن الطاقة، والاستطاعة إنما تطلقان على معنى قوة البنية، وتركيب الخلقة.
وفي أسمائه العليم، ومن صفته العلم فلا يجوز قياساً عليه أن يسمى عارفاً لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء وكذلك لا يوصف بالعاقل.
وهذا الباب يجب أن يراعى، ولا يغفل فإن عائدته عظيمة، والجهل به ضار، وبالله التوفيق. اهـ.
وقال السفاريني في نظمه للعقيدة:
لكنها في الحق توقيفية
لنا بذا أدلة وفية
ثم شرح البيت فقال:
لكنها: أي الأسماء الحسنى، في القول الحق المعتمد عند أهل الحق توقيفية بنص الشرع، وورود السمع بها.
ومما يجب أن يُعلم أنّ علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى، والصفات العلى على الباري جل وعلا إذا ورد بها الإذن من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه. اهـ.
فالحق أن: أسماء الله تعالى توقيفية؛ لأنها من الأمور الغيبية التي لا تُعلم إلا بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلا مجال للقياس، وإعمال العقل فيها إثباتاً أو نفياً لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله من الأسماء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نحصى ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" (1) .
فإذا تبين أنّ أسماء الله تعالى توقيفية فلا يجوز أن يشتق من الفعل أو من الصفة اسماً لله تعالى.
فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/352) كتاب الصلاة باب مايقال في الركوع والسجود.(42/490)
وما ورد مقيداً أو مضافاً من الأسماء في القرآن أو السنة فلا يكون اسماً بهذا الورد مثل اسم (المنتقم) فلم يرد إلا مقيداً في قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (1) .
وما ورد مضافاً مثل: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (2) .
فلا يؤخذ هذا الاسم من هذا الورود المضاف لكن يؤخذ من آيات أُخر.
وإذا ورد في الكتاب، والسنة اسم فاعل يدل على نوع من الأفعال ليس بعام شامل فهذا لا يكون من الأسماء الحسنى لأن الأسماء الحسنى معانيها كاملة الحسن تدل على الذات، ولا تدل على معنى خاص مثل مجرى السحاب، هازم الأحزاب، الزارع، الذاري.
المبحث الرابع: حديث "لله تسعة وتسعون اسماً"
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحدة لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر"
وفي رواية: "من أحصاها دخل الجنة" وهذا الحديث متفق على صحته.
وقد وردت روايات أخرى للحديث بطرق أخرى مختلفة تزيد على الحديث السابق بذكر أسماء من أسماء الله تعالى، والحديث ورد بثلاث طرق عند الترمذي وابن ماجه والحاكم (3) ، وهذه الطرق ضعفت من جهة الإسناد، ومن جهة المتن كما بينه جمع من العلماء، والمحققين، وإليك أقوالهم.
قال البيهقي رحمه الله في حديثه عن رواية عبد العزيز بن الحصين: يحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة، وكذلك في حديث الوليد ابن مسلم.
__________
(1) السجدة (22) .
(2) الرعد (9) .
(3) وقد جمع هذه الطرق وبين أقوال أهل العلم عليها وحكم عليها الشيخ/ محمد بن حمد الحمود في كتابه النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/50) وكذلك الشيخ/ عبد الله بن صالح الغصن في كتابه أسماء الله الحسنى (ص 155) .(42/491)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين - يعني روايتي الترمذي من طريق الوليد وابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد - ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كل منهما من كلام بعض السلف".
وقال أيضاً: أن التسعة والتسعين اسماً لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث وفيها حديث ثان أضعف من هذا، رواه ابن ماجه، وقد روى في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف.
وقال ابن كثير رحمه الله: "الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث - أي حديث الوليد عند الترمذي - مدرج فيه وإنما ذلك كما رواه الوليد بن سلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي أنهم جمعوها من القرآن ... ".
وقال ابن حجر رحمه الله: "والتحقيق إنّ سردها إدراج من الرواة".
ونقل ابن حجر عن ابن عطية رحمهما الله قوله: "حديث الترمذي ليس بالمتواتر وبعض الأسماء التي فيه شذوذ" والله أعلم.(42/492)
تابع لتفسير أسماء الله الحسنى
القسم الثاني: عرض شرح أسماء الله الحسنى للسعدي
جمعاً ودراسة
1-الإله:
قال رحمه الله تعالى:
"والإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فقد دخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح إن الله أصله الإله وأن اسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى والله أعلم".
2-الله:
قال رحمه الله تعالى: "الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هى صفات الكمال، وأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون المعبود وحده المحمود وحده المشكور وحده المعظم المقدس ذو الجلال والإكرام.
واسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى، والصفات العلى، والله أعلم.
فإذا تدبر اسم الله عرف أن الله تعالى له جميع معاني الألوهية، وهي كمال الصفات والإنفراد بها، وعدم الشريك في الأفعال لأن المألوه إنما يؤله لما قام به من صفات الكمال فيحب ويخضع له لأجلها، والباري جل جلاله لا يفوته من صفات الكمال شيء بوجه من الوجوه، أو يؤله أو بعبد لأجل نفعه وتوليه ونصره فيجلب النفع لمن عبده فيدفع عنه الضرر، ومن المعلوم أنَّ الله تعالى هو المالك لذلك كله، وأنَّ أحداً من الخلق لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا فإذا تقرر عنده أنَّ الله وحده المألوه أوجب له أن يعلق بربه حبه وخوفه ورجاءه، وأناب إليه في كل أموره، وقطع الإلتفات إلى غيره من المخلوقين ممن ليس له من نفسه كمال ولا له فعال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد سئل الشيخ رحمه الله عن الاسم الأعظم من أسماء الله هل هو اسم معين معروف أو اسم غير معين ولا معروف.(42/493)
فأجاب: "بعض الناس يظن أن الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى لا يعرفه إلا من خصه الله بكرامة خارقة للعادة، وهذا ظن خطأ، فإن الله تبارك وتعالى حثنا على معرفة أسمائه وصفاته، وأثنى على من عرفها، وتفقه فيها، ودعاء الله بها دعاء عبادة وتعبد ودعا مسألة، ولا ريب أنّ الاسم الأعظم منها أولاها بهذا الأمر، فإنه تعالى هو الجواد المطلق الذي لا منتهى لجوده وكرمه، وهو يحب الجود على عباده، ومن أعظم ما جاد به عليهم تعرفه لهم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالصواب أنّ الأسماء الحسنى كلها حسنى، وكل واحد منها عظيم، ولكن الاسم الأعظم منها كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفاته الذاتية والفعلية أو دل على معاني جميع الصفات مثل:
الله، فإنه الاسم الجامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال، ومثل الحميد المجيد، فإن الحميد الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله تعالى، والمجيد الذي دل على أوصاف العظمة والجلال ويقرب من ذلك الجليل الجميل الغني الكريم.
ومثل الحي القيوم، فإن الحي من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، والقيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقام بجميع الموجودات، فهو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.
ومثل اسمه العظيم الكبير الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه.
ومثل قولك: يا ذا الجلال والإكرام، فإن الجلال صفات العظمة، والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب وغاية الذل وما أشبه ذلك.(42/494)
فعلم بذلك أن الاسم الأعظم اسم جنس، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والاشتقاق، كما في السنن أنه سمع رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال: "والذي نفسي بيده، لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى".
وكذلك الحديث الآخر حين دعا الرجل، فقال: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام، ياحي! يا قيوم! فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" (1) .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (3) رواه أبو داود والترمذي، فمتى دعا الله العبد باسم من هذه الأسماء العظيمة بحضور قلب ورقة وانكسار، لم تكد ترد له دعوة، والله الموفق".
3-الأحد: (الواحد (4) الأحد)
قال رحمه الله:
__________
(1) أخرجه أحمد (3/158) وأبو داود (1495) والنسائي (3/52) وابن ماجه (3858) والترمذي (3544) والحاكم (1/504) وصححه الألباني في صحيح أبي داود 1/279 ح (1326) .
(2) البقرة (163) .
(3) البقرة (255) .
(4) ودليل هذا الإسم قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) .(42/495)
"الواحد الأحد هو الذي توحّد بجميع الكمالات، وتفرّد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال، وحمد، وحكمة، ورحمة، وغيرها من صفات الكمال فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه فهو الأحد في حياته، وقوميته، وعلمه، وقدرته، وعظمته، وجلاله، وجماله، وحمده، وحكمته، ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال، ونهايته من كل صفة من هذه الصفات فيجب على العبيد توحيده، عقداً، وقولاً، وعملاً، بأن يعترفوا بكماله المطلق، وتفرده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة".
4-الأعلى: (العلي الأعلى)
قال رحمه الله تعالى: "من أسمائه الحسنى (العلي الأعلى) وذلك دال على أن جميع معاني العلو ثابتة لله من كل وجه، فله علو الذات.
وهو أنه مستو على عرشه، فوق جميع خلقه، مباين لهم، وهو مع هذا مطلع على أحوالهم، مشاهد لهم، مدبر لأمورهم الظاهرة والباطنة متكلم بأحكامه القدرية، وتدبيراته الكونية، وبأحكامه الشرعية.
وأما علو القدر فهو علو صفاته، وعظمتها فلا يماثله صفة مخلوق، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (1) وبذلك يعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته وله علو القهر فإنه الواحد القهار الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلّهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكن فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأه الله لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه، وذلك لكمال اقتداره، ونفوذ مشيئته وشدة افتقار المخلوقات كلها إليه من كل وجه.
فهو الذي على العرش استوى وعلى الملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرياء، والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف وإليه فيها المنتهى".
5-الأول: (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن)
__________
(1) طه (110) .(42/496)
قال رحمه الله تعالى: "فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً كاملاً واضحاً فقال: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (1) إلى آخر الحديث.
ففسر كل اسم بكل معناه، ونفى عنه كل ما يضاده وينافيه فمهما قدر المقدرون وفرض الفارضون من الأوقات السابقة المتسلسلة إلى غير نهاية فالله قبل ذلك، وكل وقت لاحق مهما قدر وفرض الله بعد ذلك.
ولهذا لا يستحق اسم واجب الوجود إلا هو، فمن خصائصه أنه لا يكون إلا موجوداً كاملاً فلا يشاركه في وجوب الوجود أحد فوجوب وجوده بنعوته الكاملة في جميع الأوقات، وهو الذي أوجد الأوقات وجميع الموجودات، وكلها مستندة في وجودها وبقائها إلى الله.
فالأول: يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى.
والآخر: يدل على أنه هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتأهلها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها.
والظاهر: يدل على عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات وعلى علوه.
والباطن: يدل على اطلاعه على السرائر، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوه، ولا يتنافى الظاهر، والباطن لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت فهو العلي في دنوه القريب في علوه.
6-الآخر:
7-الباري: (الخالق، الباري، المصور)
قال رحمه الله تعالى: "الخالق، البارئ، المصور، الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل ولا يزال على هذا الوصف العظيم".
8-الباسط: (القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، المانع، المعطي، الضار، النافع)
__________
(1) أخرجه مسلم (4/2084) كتاب الذكر والدعاء باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.(42/497)
قال رحمه الله تعالى: "القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، المانع المعطي، الضار النافع".
"هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يُثنى على الله بها إلا كل واحد مع الآخر لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق، والرحمة، والقلوب، وهو الرافع للأقوام القائمين بالعلم والإيمان الخافض لأعدائه، وهو المعز لأهل طاعته، وهذا عز حقيقي، فإن المطيع لله عزيز وإن كان فقيراً ليس له أعوان، المذل لأهل معصيته، وأعدائه ذلاً في الدنيا والآخرة فالعاصي وإن ظهر بمظاهر العز فقلبه حشوه الذل وإن لم يشعر به لانغماسه في الشهوات فإن العز كل العز بطاعة الله، والذل بمعصيته {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (1) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (2) {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (3) وهو تعالى المانع المعطي فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى وهو تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك.
وهذه الأمور كلها تبع لعدله، وحكمته، وحمده، فإن له الحكمة في خفض من يخفضه، ويذله، ويحرمه، ولا حجة لأحد على الله، كما له الفضل الخفي على من رفعه وأعطاه ويبسط له الخيرات.
فعلى العبد أن يعترف بحكمة الله، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه.
__________
(1) الحج (18) .
(2) فاطر (10) .
(3) المنافقون (8) .(42/498)
وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور كلها جارية تحت أقداره، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسباباً، ولضد ذلك أسباباً من قام بها ترتبت عليه مسبباتها، وكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا يوجب للعبد القيام بتوحيد الله، والاعتماد على ربه في حصول ما يحب، ويجتهد في فعل الأسباب النافعة فإنها محل حكمة الله".
9-الباطن:
10- بديع السموات والأرض:
قال رحمه الله تعالى: "بديع السموات والأرض: أي خالقها على وجه قد أتقنهما، وأحسنهما على غير مثال سبق، ومبدعها في غاية ما يكون من الحسن، والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم".
11- البرّ: (البر، الوهاب، الكريم)
قال رحمه الله تعالى: "من أسمائه تعالى: البر الوهاب الكريم الذي شمل الكائنات بأسرها ببره، وهباته، وكرمه، فهو مولى الجميل، ودائم الإحسان، وواسع المواهب، وصفه البر وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة، والباطنة، فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبره طرفة عين، وتدل هذه الأسماء على سعة رحمته، ومواهبه التي عم بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته. وإحسانه عام وخاص:
فالعام المذكور في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} (1) و {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} (2) {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (3) .
وهذا يشترك فيه البر، والفاجر، وأهل السماء، وأهل الأرض، والمكلفون، وغيرهم.
والخاص: رحمته ونعمه على المتقين حيث قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية.
وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (4) .
__________
(1) غافر (7) .
(2) الأعراف (156) .
(3) النحل (53) .
(4) الأعراف (56) .(42/499)
وفي دعاء سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (1) .
وهذه الرحمة الخاصة التي يطلبها الأنبياء وأتباعهم، تقتضي التوفيق للإيمان والعلم والعمل وصلاح الأحوال كلها، والسعادة الأبدية، والفلاح، والنجاح، وهي المقصود الأعظم لخواص الخلق.
12- البصير:
قال المؤلف رحمه الله:
"البصير الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات، حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة، والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار، وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها، وصغرها، ودقتها، ويرى نياط عروق النملة، والنحلة، والبعوضة، وأصغر من ذلك، فسبحان من تحدث العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبره بالغيب، والشهادة والحاضر، والغائب، ويرى خيانات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات الجنان، قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (3) {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (4) أي مطلع، ومحيط علمه، وبصره، وسمعه بجميع الكائنات.
يبصر ما تحت الأراضين السبع، كما يبصر ما فوق السماوات السبع وأيضاً سميع بصير بمن يستحق الجزاء بحسب حكمته، والمعنى الأخير يرجع إلى حكمته.
__________
(1) النمل (19) .
(2) الشعراء (218-220) .
(3) غافر (19) .
(4) البروج (9) .(42/500)
وكثيراً ما يقرن الله بين (السميع البصير) مثل قوله {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (1) فكل من السمع، والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة، والباطنة فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي، والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلف عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات، والقريب منها، والبعيد، والسر، والعلانية عنده سواء {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (2) .
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (3) .
قالت عائشة رضي الله عنها: "تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة وإنه ليخفي عليَّ بعض كلامها فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (4) الآية.
13- التواب:
قال رحمه الله تعالى: التواب الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين فكل من تاب إلى الله توبة نصوحا تاب الله عليه.
وتوبته على عبده نوعان:
أحدهما: أنه يوقع في قلب عبده التوبة إليه، والإنابة إليه، فيقوم بالتوبة وشروطها من الإقلاع عن المعاصي، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، وإستبدالها بعمل صالح.
والثاني: توبته على عبده بقبولها وإجابتها، ومحو الذنوب بها فإن التوبة النصوح تجب ما قبلها".
14- جامع الناس:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: "جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وجامع أعمالهم، وأرزاقهم، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
__________
(1) النساء (134) .
(2) الرعد (10) .
(3) المجادلة (1) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (8/167) كتاب التوحيد باب وكان الله سميعاً بصيرا.(43/1)
وجامع ما تفرق واستحال من الأموات الأولين، والآخرين، بكمال قدرته، وسعة علمه".
15- الجبار:
قال رحمه الله تعالى: "الجبار بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى الرؤوف، الجبار للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به، ولجأ إليه".
وله ثلاثة معان كلها داخلة باسمه الجبار فهو الذي يجير الضعيف، وكل قلب منكسر لأجله، فيجبر الكسير ويغني الفقير ويُيّسر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات، والصبر، ويعيضه على مصابه أعظم الأجر إذا قام بواجبها، ويجبر جبراً خاصاً قلوب الخاضعين لعظمته وجلاله، وقلوب المحبين بما يفيض عليها من أنواع كراماته، وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية فقلوب المنكسرين لأجله جبرها دان قريب وإذا دعا الداعي فقال: "اللهم أجبرني، فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته اصلاح العبد ودفع جميع المكاره عنه".
والمعنى الثاني: أنه القهار لكل شيء، الذي دان له كل شيء، وخضع له كل شيء.
والمعنى الثالث: أنه العلي على كل شيء، فصار الجبار متضمناً لمعنى الرؤوف القهار العلي، وقد يراد به معنى رابع وهو المتكبر عن كل سوء، ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له كفؤ أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه، وحقوقه".
16- الجليل: (الجليل، الكبير)
قال رحمه الله تعالى: "الجليل الكبير الذي له أوصاف الجلال؛ وهي أوصاف العظمة، والكبرياء ثابتة محققة لا يفوته منها وصف جلال وكمال.
وهو الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلُّ وأعلى، وله التَّعظيم، والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه".
17- الجميل:(43/2)
قال رحمه الله تعالى: "الجميل من له نعوت الحسن والإحسان، فإنه جميل في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلا يمكن مخلوقاً أن يعبر عن بعض جمال ذاته، حتى أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم، واللذات، والسرور، والأفراح التي لا يقدر قدرها إذا رأوا ربهم، وتمتعوا بجماله نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودّوا أن لو تدوم هذه الحال، ليكتسبوا من جماله، ونوره جمالاً إلى جمالهم، وكانت قلوبهم في شوق دائم ونزوع إلى رؤية ربهم، ويفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب.
وكذلك هو جميل في أسمائه، فإنها كلها حسنى بل أحسن الأسماء على الإطلاق وأجملها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (2) فكلها دالة على غاية الحمد، والمجد، والكمال، لا يسمى باسم منقسم إلى كمال وغيره.
وكذلك هو الجميل في أوصافه فإن أوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات، وأعمّها، وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة، والبر، والكرم، والجود.
وكذلك أفعاله كلها جميله فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويثني عليه ويشكر، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث ولا سفه، ولا سدى ولا ظلم، كلها خير وهدى ورحمة ورشد وعدل {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) .
فلكماله الذي لا يحصى أحد عليه به ثناء كملت أفعاله كلها فصارت أحكامه من أحسن الأحكام، وصنعه وخلقه أحسن خلق، وصنع وأتقن ما صنعه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} (4) .
وأحسن ماخلق {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (5) {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (6) .
__________
(1) الأعراف (180) .
(2) مريم (65) .
(3) هود (56) .
(4) النمل (88) .
(5) السجدة (7) .
(6) المائدة (50) .(43/3)
ثم استدل المصنف بدليل عقلي على جمال الباري، وأن الأكوان محتوية على أصناف الجمال، وجمالها من الله تعالى فهو الذي كساها الجمال، وأعطاها الحسن، فهو أولى منها، لأن معطي الجمال أحق بالجمال فكل جمال في الدنيا، والآخرة باطني وظاهري، خصوصاً ما يعطيه المولى لأهل الجنة من الجمال المفرط في رجالهم ونسائهم، فلو بدا كف واحدة من الحور العين إلى الدنيا لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، أليس الذي كساهم ذلك الجمال ومنَّ عليهم بذلك الحسن والكمال أحق منهم بالجمال الذي ليس كمثله شيء.
فهذا دليل عقلي واضح مسلم المقدمات على هذه المسألة العظيمة وعلى غيرها من صفاته، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} (1) .
فكل ما وجد في المخلوقات من كمال لا يستلزم نقصاً، فإن معطيه - وهو الله - أحق به من المعطي بما لا نسبة بينه وبينهم كما لا نسبة لذواتهم إلى ذاته، وصفاتهم إلى صفاته، فالذي أعطاهم السمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والجمال، أحق منهم بذلك.
وكيف يعبر أحد عن جماله وقد قال أعلم الخلق به: "لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه" (3) . فسبحان الله، وتقدّس عما يقوله الظالمون النافون لكماله علواً كبيراً، وحسبهم مقتاً وخساراً أنهم حرموا من الوصول إلى معرفته والإبتهاج بمحبته.
وجمع المؤلف بين (الجليل والجميل) لأن تمام التعبد لله هو التعبد بهذين الاسمين الكريمين فالتعبد بالجليل يقتضي تعظيمه، وخوفه، وهيبته، وإجلاله.
__________
(1) النحل (60) .
(2) أخرجه مسلم (1/352) كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
(3) أخرجه مسلم (1/161) كتاب الصلاة باب في قوله عليه السلام: "إن الله لاينام" وفي قوله: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ماانتهى إليه بصره من خلقه".(43/4)
والتعبد باسمه الجميل يقتضي محبته، والتأله له، وأن يبذل العبد له خالص المحبة، وصفو الوداد، بحيث يسبح القلب في رياض معرفته وميادين جماله، وينهج بما يحصل له من آثار جماله وكماله فإن الله ذو الجلال والإكرام".
18- الجواد:
قال رحمه الله تعالى: "الجواد: يعني أنه تعالى الجواد المطلق الذي عم بجوده جميع الكائنات، وملأها من فضله، وكرمه، ونعمه المتنوعة، وخص بجوده السائلين بلسان المقال أو لسال الحال من بر، وفاجر، ومسلم، وكافر، فمن سأل الله أعطاه سؤاله، وأناله ما طلب فإنه البر الرحيم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (1) .
ومن جوده الواسع ما أعده لأوليائه في دار النعيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
والجواد الذي عم بجوده أهل السماء، والأرض فما بالعباد من نعمة فمنه وهو الذي إذا مسهم الضر فإليه يرجعون، وبه يتضرعون، فلا يخلو مخلوق من إحسانه طرفة عين، ولكن يتفاوت العباد في إفاضة الجود عليهم بحسب مامنَّ الله به عليهم من الأسباب المقتضية لجوده، وكرمه، وأعظمها تكمل عبودية الله الظاهرة، والباطنة العلمية، والعملية القولية، والفعلية، والمالية، وتحقيقها باتباع محمد صلى الله عليه وسلم بالحركات والسكنات".
19- الحسيب:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: "الحسيب: هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق اعمالهم وجليلها.
والحسيب بمعنى الرقيب المحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى الكافي عبده همومه، وغمومه، وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2) أي كافيه أمور دينه ودنياه.
__________
(1) النحل (53) .
(2) الطلاق (3) .(43/5)
والحسيب أيضاً هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير، وشر، ويحاسبهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) أي كافيك وكافي أتباعك، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به في متابعة الرسول ظاهراً وباطناً، وقيامه بعبودية الله تعالى".
20- الحفيظ:
قال رحمه الله تعالى: "الحفيظ: الذي حفظ ما خلقه، وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه من وقوعهم في الذنوب والهلكات.
ولطف بهم في الحركات، والسكنات، وأحصى على العباد أعمالهم وجزاءها. والحفيظ يتضمن معنيين:
أحدهما: أنه قد حفظ على عباده ما عملوه من خير، وشر، وطاعة، ومعصية، فإن علمه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها، وباطنها وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ووكل بالعباد ملائكة كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون، فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم الله بأحوال العباد كلها ظاهرها، وباطنها، وكتابتها في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، وعلمه بمقاديرها، وكمالها، ونقصها، ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله، وعدله.
__________
(1) الأنفال (64) .(43/6)
والمعني الثاني: من معنيي الحفيظ: أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون وحفظه لخلقه نوعان عام وخاص: حفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها ويحفظ بنيتها، وتمشي إلى هدايته، وإلى مصالحها بإرشاده، وهدايته العامة التي قال عنها: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) أي هدى كل مخلوق إلى ما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل، والمشرب، والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، وكدفعه عنهم أصناف المكاره، والمضار، وهذا يشترك فيه البر، والفاجر بل الحيوانات، وغيرها، فهو الذي يحفظ السماوات، والأرض أن تزولا، ويحفظ الخلائق بنعمه، وقد وكل بالآدمي حفظة من الملائكة الكرام يحفظونه من أمر الله، أي يدفعون عنه كل ما يضره مما هو بصدد أن يضره لولا حفظ الله.
والنوع الثاني: حفظه الخاص لأوليائه سوى ما تقدم، بحفظهم عما يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الشبه، والفتن، والشهوات فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) وهذا عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم فعلى حسب ما عند العبد من الإيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه، وفي الحديث: "إحفظ الله يحفظك" (3) أي احفظ أوامره بالامتثال ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعديها، يحفظك في نفسك ودينك ومالك وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله".
21- الحق:
قال رحمه الله تعالى:"الحق: في ذاته، وصفاته، فهو واجب الوجود كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به.
__________
(1) طه (50) .
(2) الحج (38) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/263) والترمذي (4/667) كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن صحيح، وصححه أحمد شاكر في المسند (3/2671) وصححه الألباني في المشكاة (3/1459) .(43/7)
فهو الذي لم يزل، ولا يزال بالجلال، والجمال، والكمال، موصوفاً.
ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً.
فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسوله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء إليه فهو حق {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (2) {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (3) ".
22- الحكم: (الحكم، العدل)
قال رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه الحكم العدل الذي يحكم بين عباده في الدنيا، والآخرة بعدله، وقسطه فلايظلم مثقال ذرة، ولا يحمل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ويؤدي الحقوق إلى أهلها، فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه.
وهو العدل في تدبيره، وتقديره {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) (5) .
والحكم العدل الذي إليه الحكم في كل شيء فيحكم تعالى بشرعه، ويبين لعباده جميع الطرق التي يحكم بها بين المتخاصمين، ويفصل بين المتنازعين، من الطرق العادلة الحكيمة، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحكم فيها بأحكام القضاء، والقدر، فيجري عليهم منها ما تقتضيه حكمته ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها، ويقضي بينهم يوم الجزاء، والحساب، فيقضي بينهم بالحق، ويحمده الخلائق على حكمه حتى من قضى عليهم بالعذاب يعترفون له بالعدل، وأنه لم يظلمهم مثقال ذرة".
23- الحكيم:
__________
(1) الحج (62) .
(2) الكهف (29) .
(3) الإسراء (81) .
(4) هود (56) .
(5) التفسير (5/627) .(43/8)
قال رحمه الله تعالى: "الحكيم هو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره الذي أحسن كل شيء خلقه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
فلا يخلق شيئاً عبثا، ولا يشرع شيئاً سدى، الذي له الحكم في الأولى، والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه.
والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها.
والحكيم: الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين المخلوقات، فالحكيم هو واسع العلم، والإطلاع على مبادئ الأمور، وعواقبها، واسع الحمد تام القدرة غزير الرحمة، فهو الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه، وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال.
وحكمته نوعان:
أحدهما: الحكمة في خلقه فإنه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته، وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصاً، ولا فطوراً، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن، والانتظام، والإتقان لم يقدروا، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيراً من حكمه، ويطلعوا على بعض ما فيها من الحسن، والإتقان.
وهذا أمر معلوم قطعاً بما يعلم من عظمته، وكمال صفاته، وتتبع حكمه في الخلق، والأمر.
وقد تحدى عباده، وأمرهم أن ينظروا، ويكرروا النظر، والتأمل هل يجدون في خلقه خللاً أو نقصاً، وأنه لابد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته.
__________
(1) المائدة (50) .(43/9)
النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرفه العباد، ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذا، وأي فضل، وكرم أعظم من هذا، فإن معرفته تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، واخلاص العمل له وحده، وشكره، والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق.
وأجل الفضائل لمن منَّ الله عليه بها، وأكمل سعادة، وسروراً للقلوب، والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم.
فلو لم يكن في أمره، وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة، والنار، لكانت كافية شافية.
هذا وقد اشتمل شرعه، ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علماً، ويقيناً، وإيماناً، وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب، ويزول انحرافها، وتثمر كل خلق جميل، وعمل صالح، وهدى، ورشد، وأوامره، ونواهيه محتوية على عناية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهي إلا عما مضرته خالصة أو راجحة.
ومن حكمة الشرع الإسلامي أنه كما أنه هو الغاية لصلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، فهو الغاية لصلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقياً إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل، فإن أمة محمد لما كانوا قائمين بهذا الدين أصوله، وفروعه، وجميع ما يهدي، ويرشد إليه كانت أحوالهم في غاية الاستقامة، والصلاح، ولما انحرفوا عنه، وتركوا كثيراً من هداه، ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم.(43/10)
وكذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة، والحضارة، والمدنية مبلغاً هائلاً، ولكن لما كانت خالية من روح الدين، ورحمته، وعدله كان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكبر من خيرها، وعجز علماؤها، وحكماؤها، وساساتها عن تلافي الشرور الناشئة عنها، ولن يقدروا على ذلك ماداموا على حالهم، ولهذا كان من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين، والقرآن أكبر البراهين على صدقه، وصدق ما جاء به لكونه محكماً كاملاً لا يحصل إلا به، وبالجملة، فالحكيم متعلقاته المخلوقات، والشرائع، وكلها في غاية الإحكام، فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية.
والفرق بين أحكام القدر، وأحكام الشرع أن القدر متعلق بما أوجده، وكونه وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وأحكام الشرع متعلقة بما شرعه، والعبد المربوب لا يخلو منهما أو من أحدهما، فمن فعل منهم ما يحبه الله، ويرضاه فقد اجتمع فيه الحكمان، ومن فعل ما يضاد ذلك فقد وجد فيه الحكم القدري، فإن ما فعله واقع بقضاء الله، وقدره، ولم يوجد فيه الحكم الشرعي لكونه ترك ما يحبه الله، ويرضاه.
فالخير، والشر، والطاعات، والمعاصي كلها متعلقة، وتابعة للحكم القدري، وما يحبه الله منها هو تابع للحكم الشرعي، ومتعلقه، والله أعلم.
24- الحليم:
قال رحمه الله تعالى: "الحليم الذي له الحلم الكامل، والذي وسع حلمه أهل الكفر، والفسوق، والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا، واستمروا في طغيانهم، ولم ينيبوا.
والحليم الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة، والباطنة مع معاصيهم، وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا.(43/11)
والله تعالى حليم عفو، فله الحلم الكامل، وله العفو الشامل، ومتعلق هذين الوصفين العظيمين معصية العاصين، وظلم المجرمين، فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، وحلمه تعالى يقتضي إمهال العاصين، وعدم معاجلتهم ليتوبوا، وعفوه يقتضي مغفرة ما صدر منهم من الذنوب خصوصاً إذا أتوا بأسباب المغفرة من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة، وحلمه وسع السماوات، والأرض، فلولا عفوه ما ترك على ظهرها من دابة، وهو تعالى عفو يحب العفو عن عباده، ويحب منهم أن يسعوا بالأسباب التي ينالون بها عفوه من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه.
ومن كمال عفوه أن المسرفين على أنفسهم إذا تابوا إليه غفر لهم كل جرم صغير، وكبير، وأنه جعل الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها".(43/12)
تابع لتفسير أسماء الله الحسنى
25- الحميد:
قال رحمه الله تعالى: "الحميد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال أتمها، وأحسنها، فإن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل، والعدل.
فالحمد كثرة الصفات والخيرات، فهو الحميد لكثرة صفاته الحميدة، وهو سبحانه حميد من وجهين:
أحدهما: أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم، والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا، والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضاً، ومقدراً حيثما تسلسلت الأزمان، واتصلت الأوقات حمداً يملأ الوجود كله العالم العلوي، والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عد، ولا إحصاء فإن الله تعالى مستحقه من وجوه كثيرة:
منها أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة، والباطنة الدينية، والدنيوية، وصرف عنهم النقم، والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور إلا هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه، ويشكروه بعدد اللحظات.
الوجه الثاني: أنه يحمد على ماله من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أكملها، وأعظمها فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد، والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله لأنها دائرة بين أفعال الفضل، والإحسان، وبين أفعال العدل، والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأحكام الجزاء في الأولى، والآخرة، وتفاصيل حمده، وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار، ولا تحصيها الأقلام.
26- الحي: (الحي القيوم)
قال رحمه الله تعالى: "الحي القيوم كامل الحياة والقائم بنفسه.(43/13)
القيوم لأهل السماوات والأرض القائم بتدبيرهم وأرزاقهم وجميع أحوالهم فالحي: الجامع لصفات الذات، والقيوم: الجامع لصفات الأفعال وجمعهما في غاية المناسبة كما جمعهما الله في عدة مواضع من كتابه كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} (1) ، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات الذاتية لله كالعلم والعزة والقدرة، والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة.
والقيوم هو كامل القيومية الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقامت به الأرض، والسماوات، وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها، وأمدها، وأعدّها لكل ما فيه بقاؤها، وصلاحها، وقيامها، فهو الغني عنها من كل وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، فالحي، والقيوم من له صفة كل كمال، وهو الفعال لما يريد الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وكل الصفات الفعلية، والمجد، والعظمة، والجلال ترجع إلى اسمه القيوم، ومرجع صفات الكمال كلها ترجع إلى هذين الاسمين الكريمين، ولذلك ورد الحديث أن اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) لاشتمالهما على جميع الكمالات.
فصفات الذات ترجع إلى الحي، ومعاني الأفعال ترجع إلى القيوم ".
27- الحيي: (الحيي الستير الستار)
قال رحمه الله تعالى:"هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حيي يستحي من عبده إذا مد يده إليه أن يردها صفراً" (3) .
__________
(1) البقرة (255) .
(2) آل عمران (21) ."
(3) أخرجه أبو داود (2/165) كتاب الصلاة باب الدعاء، والترمذي (5/557) كتاب الدعوات، وابن ماجه (2/1271) كتاب الدعاء باب رفع اليدين في الدعاء من حديث سلمان الفارسي، وصححه الألباني. انظر: صحيح الترمذي (3/179 ح 3809) .(43/14)
وهذا من رحمته، وكرمه، وكماله، وحلمه أن العبد يجاهر بالمعاصي مع فقره الشديد إليه، حتى أنه لا يمكنه أن يعصى إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلهم من كرمه يستحي من هتكه، وفضيحته، وإحلال العقوبة به، فيستره بما يفيض له من أسباب الستر، ويعفو عنه، ويغفر له، فهو يتحبب إلى عباده بالنعم وهم يتبغضون إليه بالمعاصي، خيره إليهم بعدد اللحظات، وشرهم إليه صاعد.
ولا يزال الملك الكريم يصعد إليه منهم بالمعاصي، وكل قبيح، ويستحي تعالى ممن شاب في الإسلام أن يعذبه، وممن يمد يديه إليه أن يردهما صفراً، ويدعو عباده إلى دعائه، ويعدهم بالإجابة.
وهو الحيي الستير: يحب أهل الحياء، والستر، ومن ستر مسلما ستر الله عليه في الدنيا، والآخرة، ولهذا يكره من عبده إذا فعل معصية أن يذيعها، بل يتوب إليه فيما بينه وبينه ولا يظهرها للناس، وإن من أمقت الناس إليه من بات عاصياً، والله يستره فيصبح يكشف ستر الله عليه.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (1) وهذا كله من معنى اسمه الحليم الذي وسع حلمه أهل الكفر، والفسوق، والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا، واستمروا في طغيانهم، ولم ينيبوا".
28- الخافض الرافع:
29- الخالق:
30- الخبير: (العليم الخبير)
قال رحمه الله تعالى: "الخبير العليم: هو الذي أحاط علمه بالظواهر، والبواطن، والإسرار، والإعلان، والواجبات، والمستحيلات، والممكنات. وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.
__________
(1) النور (19) .(43/15)
وهو العليم المحيط علمه بكل شيء: بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمه، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهى الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (2) .
فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، واخباره بما ينشأ منها لو وجدت على وجه الفرض، والتقدير، ويعلم تعالى الممكنات، وهى التي يجوز وجودها وعدمها ما وجد منها، وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي، والسفلي لا يخلو عن علمه مكان، ولا زمان ويعلم الغيب، والشهادة، والظواهر، والبواطن، والجلي، والخفي، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) .
والنصوص في ذكر إحاطة علم الله، وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جداً لا يمكن حصرها، وإحصاؤها، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر، وإنه لا يغفل، ولا ينسى {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (4) {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (5) (6) .
وإن علوم الخلائق على سعتها، وتنوعها إذا نسبت إلى علم الله اضمحلت، وتلاشت، كما أن قدرتهم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة إليها بوجه من الوجوه، فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون وأقدرهم على ما لم يكونوا عليه قادرين.
__________
(1) الأنبياء (22) .
(2) المؤمنون (91) .
(3) البقرة (231) .
(4) الأنعام (59) .
(5) طه (7) .
(6) توضيح الكافية الشافية (ص118) .(43/16)
وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي، والسفلي، وما فيه من المخلوقات ذواتها، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها.
فهو يعلم ما كان، وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم، وبعد ما يميتهم، وبعد ما يحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها خيرها، وشرها، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار.
فينبغي للمؤمن الناصح لنفسه أن يبذل ما استطاع من مقدوره في معرفة أسماء الله، وصفاته، وتقديسه، ويجعل هذه المسألة أهم المسائل عنده، وأولاها بالإيثار، وأحقها بالتحقيق ليفوز من الخير بأوفر نصيب.(43/17)
فيتدبر مثلاً اسم العليم: فيعلم إن العلم كله بجميع وجوهه، واعتباراته لله تعالى فيعلم تعالى الأمور المتأخرة أزلاً وأبداً ويعلم جليل الأمور، وحقيرها، وصغيرها، وكبيرها، ويعلم تعالى ظواهر الأشياء، وبواطنها غيبها، وشهادتها ما يعلم الخلق منها، وما لا يعلمون، ويعلم تعالى الواجبات أو المستحيلات، والجائزات، ويعلم تعالى ما تحت الأرض السفلى كما يعلم ما فوق السماوات العلى، ويعلم تعالى جزئيات الأمور وخبايا الصدور، وخفايا ما وقع، ويقع في أرجاء العالم، وأنحاء المملكة، فهو الذي أحاط علمه جميع الأشياء في كل الأوقات، ولا يعرض تعالى لعلمه خفاء، ولا نسيان، ويتلو على هذه الآيات المقررة له كقوله في غير موضع: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (2) {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (3) {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (4) {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (5) {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (6) {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (7) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
__________
(1) البقرة (282) .
(2) آل عمران (119) .
(3) التغابن (4) .
(4) طه (7) .
(5) الرعد (10) .
(6) الحج (70) .
(7) آل عمران (6) .(43/18)
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (3) {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4) {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (5) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (6) .
وغير ذلك من النصوص الكثيرة على هذا المعنى فإن تدبر بعض ذلك يكفي المؤمن البصير معرفته باحاطة علم الله تعالى وكمال عظمته وجليل قدره إنه الرب العظيم المالك.
31- ذو الجلال والإكرام:
قال رحمه الله تعالى:
__________
(1) لقمان (34) .
(2) الأنعام (59) .
(3) الحج (63) .
(4) لقمان (27) .
(5) المجادلة (7) .
(6) السجدة (17) .(43/19)
"ذو الجلال والإكرام أي: ذو العظمة، والكبرياء، وذو الرحمة، والجود، والإحسان العام، والخاص، المكرم لأوليائه، وأصفيائه الذي يجلونه ويعظمونه ويحبونه".
32- الرؤوف:
قال رحمه الله تعالى: "الرؤوف أي: شديد الرأفة بعباده فمن رأفته ورحمته بهم أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها.
ومن رأفته توفيقهم القيام بحقوقه وحقوق عباده.
ومن رأفته ورحمته أنه خوف العباد، وزجرهم عن الغي، والفساد كما قال تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (1) .
فرأفته ورحمته سهلت لهم الطرق التي ينالون بها الخيرات ورأفته ورحمته، حذرتهم من الطرق التي تقضي بهم إلى المكروهات فنسأله تعالى أن يتمم علينا إحسانه بسلوك الصراط المستقيم، والسلامة من الطرق التي تفضي بسالكها إلى الجحيم".
33- الرافع الخافض:
34- الرب:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: "قد تكرر اسم (الرب) في آيات كثيرة.
والرب هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم.
وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم وبهذا كثر دعاؤهم له بهذا الإسم الجليل لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة.
وهو الذي له جميع معاني الربوبية التي يستحق أن يؤله لأجلها وهي صفات الكمال كلها والمحامد كلها له والفضل كله والإحسان كله، وأنه لا يشارك الله أحد في معنى من معاني الربوبية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
لا بشر ولا ملك، بل هم جميعاً عبيد مربوبون لربهم بكل أنواع الربوبية مقهورون خاضعون لجلاله وعظمته، فلا ينبغي أن يكون أحد منهم نداً ولا شريكاً لله في عبادته وإلوهيته.
فبربوبيته سبحانه يربي الجميع من ملائكة وأنبياء وغيرهم خلقاً ورزقاً وتدبيراً وإحياءً وإماتةً.
__________
(1) الزمر (66) .
(2) الشورى (11) .(43/20)
وهم يشكرونه على ذلك بإخلاص العبادة كلها له وحده، فيؤلهونه ولا يتخذون من دونه ولياً ولا شفيعاً، فالإلهية حق له سبحانه على عباده بصفة ربوبيته ".
36- الرحمن الرحيم:
قال رحمه الله تعالى: "الرحمن الرحيم: اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل مخلوق، وكتب الرحمة الكاملة للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة المتصلة بالسعادة الأبدية، ومن عداهم محروم من هذه الرحمة الكاملة، لأنه الذي دفع هذه الرحمة وأباها بتكذيبه للخبر وتوليه عن الأمر فلا يلومن إلا نفسه.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ما دل عليه الكتاب والسنة من الإيمان بأسماء الله كلها وصفاته جميعها وبأحكام تلك الصفات.
فيؤمنون مثلاً بأنه رحمن رحيم ذو الرحمة العظيمة التي اتصف بها المتعلقة بالمرحوم، فالنعم كلها من آثار رحمته، وهكذا يقال في سائر الأسماء الحسنى.
فيقال عليم: ذو علم عظيم يعلم به كل شيء.
قدير: ذو قدرة يقدر على كل شيء.
فإن الله قد أثبت لنفسه الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأحكام تلك الصفات، فمن أثبت شيئاً منها ونفى الآخر كان مع مخالفته للنقل والفعل متناقضاً مبطلاً.(43/21)
ودلالة الأسماء على الذات والصفات تكون بالمطابقة، والتضمين، والإلتزام فإن الدلالة نوعان: لفظية، ومعنوية عقلية، فإن أعطيت اللفظ جميع ما دخل فيه من المعاني فهي دلالة مطابقة لأن اللفظ طابق المعنى من غير زيادة ولا نقصان، وإن اعطيته بعض المعنى فتسمى دلالة تضمن، لأن المعنى المذكور بعض اللفظ وداخل في ضمنه، وأما الدلالة المعنوية العقلية فهي خاصة بالعقل والفكر الصحيح لأن اللفظ بمجرده لا يدل عليها وإنما ينظر العبد ويتأمل في المعاني اللازمة لذلك اللفظ الذي لا يتم معناها بدونه وما يشترط له من الشروط، وهذا يجرى في جميع الأسماء الحسنى كل واحد منها يدل على الذات وتلك الصفة دلالة مطابقة ويدل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن. ويدل على الصفة الأخرى اللازمة لتلك المعاني دلالة إلتزام، مثال ذلك: (الرحمن) يدل على الذات وحدها وعلى الرحمة وحدها دلالة تضمن، وعلى الأمرين دلالة مطابقة، ويدل على الحياة الكاملة والعلم المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام لأنه لا توجد الرحمة من دون حياة الراحم وقدرته الموصلة لرحمته، للمرحوم وعلمه به وبحاجته.(43/22)
ومن تدبر اسمه "الرحمن" وأنه تعالى واسع الرحمة له كمال الرحمة، ورحمته قد ملئت العالم العلوي والسفلي وجميع المخلوقات وشملت الدنيا والآخرة ويتدبر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى {أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (1) الآيات {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (2) {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} (3) {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (4) {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (5) {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) .
ويتلو سورة النحل الدالة على أصول النعم وفروعها التي هى نفحة وأثر من آثار رحمة الله ولهذا قال في آخرها {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (7) .
ثم تدبر سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فإنها عبارة عن شرح وتفصيل لرحمة الله تعالى فكل ما فيها من ضروب المعاني وتصاريف الألوان من رحمة الرحمن ولهذا اختتمها في ذكر ما أعد الله للطائعين في الجنة من النعيم المقيم الكامل الذي هو أثر من رحمته تعالى ولهذا يسمى الله الجنة الرحمة كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (8) .
وفي الحديث أن الله قال للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي". وقال: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (9) .
__________
(1) الأعراف (156) .
(2) البقرة (143) .
(3) الروم (50) .
(4) لقمان (20) .
(5) النحل (53) .
(6) إبراهيم (34) .
(7) النحل (81) .
(8) آل عمران (107) .
(9) وسف (64) .(43/23)
وفي الحديث الصحيح: "الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها" (1) .
وفي الحديث الآخر: "أن الله كتب كتاباً عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي" (2) .
وبالجملة فالله خلق الخلق برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشرع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النعمة الظاهرة، والباطنة برحمته، ودبرهم أنواع التدبير وصرفهم بأنواع التصريف برحمته وملأ الدنيا والآخرة من رحمته فلا طابت الأمور، ولا تيسرت الأشياء، ولا حصلت المقاصد، وأنواع المطالب إلا برحمته، ورحمته فوق ذلك، وأجل وأعلى. وللمحسنين المتقين من رحمته النصيب الوافر والخير المتكاثر {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (3) ".
37- الرزاق:
قال رحمه الله تعالى: "الرزاق لجميع المخلوقات، فما من موجود في العالم العلوي والعالم السفلي إلا متمتع برزقه مغمور بكرمه.
ورزقه نوعان:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاق} (4) {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (5) (6) .
__________
(1) خرجه البخاري (7/75) كتاب الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ومسلم (4/2109) كتاب التوبة باب في سعة ورحمة الله وهو جزء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (8/176) كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء، ومسلم (4/2107) كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى.
(3) الأعراف (56) .
(4) الذاريات (58) .
(5) هود (6) .
(6) الحق الواضح المبين (ص85) .(43/24)
أحدهما: الرزق النافع الذي لا تبعة فيه وهو موصل للعبد إلى أعلى الغايات، وهو الذي على يد الرسول صلى الله عليه وسلم بهدايته وإرشاده، وهو نوعان أيضا: رزق القلوب بالعلوم النافعة والإيمان الصحيح، فإن القلوب لا تصلح وتفلح ولا تشبع حتى يحصل لها العلم بالحقائق النافعة والعقائد الصائبة، ثم التخلق بالأخلاق الجميلة، والتنزه عن الأخلاق الرذيلة، وما جاء به الرسول كفيل بالأمرين على أكمل وجه بلا طريق لها إلا من طريقه.
والنوع الثاني: أن يغني الله عبده بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.
والأول هو المقصود الأعظم وهذا وسيلة إليه ومعين له فإذا رزق الله العبد العلم النافع والإيمان الصحيح والرزق الحلال والقناعة بما أعطاه الله منه، فقد تمت أموره واستقامت أحواله الدينية والبدنية وهذا النوع من الرزق هو الذي مدحته النصوص النبوية واشتملت عليه الأدعية النافعة.
وأما النوع الثاني، وهو إيصال الباري جميع الأقوات التي تتغذي بها المخلوقات برها وفاجرها المكلفون وغيرهم فهذا قد يكون من الحرام كما يكون من الحلال، وهذا فصل النزاع في مسألة هل الحرام يسمى رزقاً أم لا، فإن أريد النوع الأول وهو الرزق المطلق الذي لا تبعة فيه فلا يدخل فيه الحرام فإن العبد إذا سأل ربه أن يرزقه فلا يريد به إلا الرزق النافع في الدين، والبدن وهو النوع الأول، وإن أريد به مطلق الرزق - وهو النوع الثاني - فهو داخل فيه، فما من دابة على الأرض إلا على الله رزقها.
ومثل هذا يقال في النعمة والرحمة ونحوها".
38- الرشيد:
قال رحمه الله تعالى:(43/25)
"وهو الرشيد الذي أقواله رشد، وأفعاله رشد، وهو مرشد الحائرين في الطريق الحسي، والضالين في الطريق المعنوي، فيرشد الخلق بما شرعه على ألسنة رسله من الهداية الكاملة، ويرشد عبده المؤمن، إذا خضع له وأخلص عمله أرشده إلى جميع مصالحه، ويسره لليسرى وجنّبه العسرى والرشد الدال عليه اسم الرشيد وصفه تعالى والإرشاد لعباده. فأقواله القدرية التي يوجد بها الأشياء ويدبر بها الأمور كلها حق لاشتمالها على الحكمة، والحسن، والإتقان وأقواله الشرعية الدينية وهي: أقواله التي تكلم بها في كتبه، وعلى ألسنة رسله المشتملة على الصدق التام في الأخبار، والعدل الكامل في الأمر، والنهي فإنه لا أصدق من الله قيلا ولا أحسن منه حديثاً {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (1) في الأمر والنهي.
وهي أعظم وأجل ما يرشد بها العباد بل لا حصول إلى الرشاد بغيرها فمن ابتغى الهدى من غيرها أضله الله، ومن لم يسترشد بها فليس برشيد فيحصل بها الرشد العلمي وهو بيان الحقائق والأصول، والفروع والمصالح والمضار، الدينية والدنيوية، ويحصل بها الرشد العملي فإنها تزكي النفوس، وتطهر القلوب، وتدعو إلى أصلح الأعمال، وأحسن الأخلاق، وتحث على كل جميل، وترهب عن كل ذميم رذيل، فمن استرشد بها فهو المهتدي ومن لم يسترشد بها فهو ضال، ولم يجعل لأحد عليه حجة بعد بعثته للرسل وإنزاله الكتب المشتملة على الهدي المطلق، فكم بفضله هدى ضالاً وأرشد حائراً، وخصوصاً من تعلق به وطلب منه الهدى من صميم قلبه، وعلم أنه المنفرد بالهداية".
39- الرفيق:
قال رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه "الرفيق"في أفعاله وشرعه، وهذا قد أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله رفيق يحب أهل الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" (2) .
__________
(1) الأنعام (115) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2003، 2004) كتاب البر والصلة باب فضل الرفق من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.(43/26)
فالله تعالى رفيق في أفعاله خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئاً فشيئاً بحسب حكمته ورفقه مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة.
ومن تدبر المخلوقات وتدبر الشرائع كيف يأتي بها شيئاً بعد شيء شاهد من ذلك العجب العجيب، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة ووقار إتباعاً لسنن الله في الكون وإتباعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
فإن كان هذا هديه وطريقه تتيسر له الأمور، وبالأخص الذي يحتاج إلى أمر الناس ونهيهم وإرشادهم، فإنه مضطر إلى الرفق واللين، وكذلك من آذاه الخلق بالأقوال البشعة وصان لسانه عن مشاتمتهم، ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمقابلتهم بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد كسب الراحة، والطمأنينة والرزانة والحلم.
ومن تأمل ما احتوى عليه شرعه من الرفق وشرع الأحكام شيئاً بعد شيء وجريانها على وجه السعة واليسر ومناسبة العباد وما في خلقه من الحكمة إذ خلق الخلق أطواراً، ونقلهم من حالة إلى أخرى بحكم واسرار لا تحيط بها العقول.
والرفق من العبد لا ينافي الحزم، فيكون رفيقاً في أموره متأنياً، ومع ذلك لا يفوت الفرص إذا سنحت، ولا يهملها إذا عرضت".
40- الرقيب: (الرقيب الشهيد)
قال رحمه الله: "الرقيب والشهيد من أسمائه الحسنى وهما مترادفان، وكلاهما يدل على إحاطة سمع الله بالمسموعات وبصره بالمبصرات، وعلمه بجميع المعلومات الجليّة والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان.
والرقيب المطلع على ما أكنته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير.(43/27)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (1) {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2) ولهذا كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبد لله باسمه الرقيب الشهيد، فمتى علم العبد أن حركاته الظاهرة، والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنة عن كل فكر، وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله وتعبد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه ".
41-42- (الستار- الستير)
43- السلام: (القدوس- السلام)
قال رحمه الله تعالى: " ومن أسمائه القدوس السلام، أي: المعظم المنزه عن صفات النقص كلها وأن يماثله أحد من الخلق، فهو المتنزه عن جميع العيوب، والمتنزه عن أن يقاربه أو يماثله أحد في شيء من الكمال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (4) {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (5) {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} (6) فالقدوس كالسلام، ينفيان كل نقص من جميع الوجوه، ويتضمنان الكمال المطلق من جميع الوجوه، لأن النقص إذا انتفى ثبت الكمال كله فهو المقدس المعظم المنزه عن كل سوء، السالم من مماثلة أحد من خلقه ومن النقصان ومن كل ما ينافي كماله. فهذا ضابط ما ينزه عنه، ينزه عن كل نقص بوجه من الوجوه، وينزه ويعظم أن يكون له مثيل أو شبيه أو كفو أو سمي أو ند أو مضاد، وينزه عن نقص صفة من صفاته التي هى أكمل الصفات وأعظمها وأوسعها.
__________
(1) النساء (1) .
(2) المجادلة (6) .
(3) الشورى (11) .
(4) الإخلاص (4) .
(5) مريم (65) .
(6) البقرة (22) .(43/28)
ومن تمام تنزيهه عن ذلك إثبات صفات الكبرياء والعظمة له فإن التنزيه مراد لغيره ومقصود به حفظ كماله عن الظنون السيئة كظن الجاهلية الذين يظنون به ظن السوء، ظن غير ما يليق بجلاله وإذا قال العبد مثنياً على ربه "سبحان الله"أو "تقدس الله"أو "تعالى الله" ونحوها كان مثنياً عليه بالسلامة من كل نقص وإثبات كل كمال ".
44- السميع:
قال رحمه الله تعالى:"ومن أسمائه الحسنى السميع الذي يسمع جميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فالسر عنده علانية البعيد عنده قريب.
وسمعه تعالى نوعان:
احدهما: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة، الخفية والجلية، واحاطته التامة بها.
والثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيصيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (1) وقول المصلي سمع الله لمن حمده أي استجاب".
45-46- (الشاكر - الشكور)
قال رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه تعالى الشاكر الشكور وهو الذي يشكر القليل من العمل الخالص النقي النافع، ويعفو عن الكثير من الزلل ولا يضيع أجر من أحسن عملا بل يضاعفه أضعافاً مضاعفة بغير عدٍ ولا حساب، ومن شكره أنه يجزي بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وقد يجزئ الله العبد على العمل بأنواع من الثواب العاجل قبل الآجل، وليس عليه حق واجب بمقتضى أعمال العباد وإنما هو الذي أوجب الحق على نفسه كرماً منه وجوداً، والله لا يضيع أجر العاملين به إذا أحسنوا في أعمالهم واخلصوها لله تعالى.
فإذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته أعانه على ذلك، وأثنى عليه، ومدحه، وجازاه في قلبه نوراً وإيماناً وسعة، وفي بدنه قوة ونشاطاً وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء، وفي أعماله زيادة توفيق.
__________
(1) إبراهيم (39) .(43/29)
ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً موفوراً، لم تنقصه هذه الأمور. ومن شكره لعبده، أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، ومن عامله ربح عليه أضعافاً مضاعفة ".
47- الشهيد (1) :
قال رحمه الله تعالى: "الشهيد أي: المطلع على جميع الأشياء سمع جميع الأصوات خفيها، وجليها وأبصر جميع الموجودات دقيقها، وجليلها صغيرها، وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء الذي شهد لعباده، وعلى عباده بما عملوه".
48- الصبور:
قال رحمه الله تعالى:
"الصبور مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم" (2) .
وبما ثبت أيضاً في الصحيح قال الله تعالى: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه أياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" والله تعالى يدر على عباده الأرزاق المطيع منهم، والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته، وتكذيبه، وتكذيب رسله، والسعي في اطفاء دينه، والله تعالى حليم صبور على ما يقولون، وما يفعلون، يتتابعون في الشرور وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر، لأنه عن كمال قدره وكمال غنى عن الخلق وكمال رحمه وإحسان، فتبارك الرب الرحيم الذي ليس كمثله شيء الصبور الذي يحب الصابرين ويعينهم في كل أمرهم ".
49- الصمد:
__________
(1) سبق زيادة إيضاح لهذا الاسم مع اسم الله الرقيب.
(2) أخرجه مسلم (4/2160) كتاب صفات المنافقين باب لأحد أصبر على أذى من الله عز وجل من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(43/30)
قال رحمه الله تعالى: "الصمد: أي الرب الكامل والسيد، العظيم، الذي لم يبق صفة كمال إلا اتصف بها، ووصف بغايتها، وكمالها بحيث لا تحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تعبر عنها ألسنتهم وهو المصمود إليه، المقصود في جميع الحوائج والنوائب {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (1) .
فهو الغني بذاته، وجميع الكائنات فقيرة إليه بذاتهم: في إيجادهم، وأعدادهم، وإمدادهم بكل ما هم محتاجون إليه من جميع الوجوه ليس لأحد منها غنى مثقال ذرة، في كل حالة من أحوالها.
والصمد: هو الذي تقصده الخلائق كلها في جميع حاجاتها وأحوالها وضروراتها لما له من الكمال المطلق في ذاته وصفاته، وأسمائه وأفعاله.
والصمد المغني الجامع الذي يدخل فيه كل مافسر به هذا الاسم الكريم، فهو الصمد الذي تصمد إليه أي: تقصده جميع المخلوقات بالذل والحاجة والافتقار.
ويفزع إليه العالم بأسره، وهو الذي قد كمل بعلمه وحكمته وحلمه، وقدرته، وعظمته ورحمته وسائر أوصافه".
50- 51- الضار: (النافع الضار)
قال رحمه الله تعالى: "من أسمائه الحسنى ما يؤتي به مفرداً ويؤتى به مقروناً مع غيره وهو أكثر الأسماء الحسنى، فيدل ذلك على أن لله كمالاً من إفراد كل من الاسمين فأكثر وكمال من اجتماعهما أو اجتماعها.
__________
(1) الرحمن (29) .(43/31)
ومن أسمائه مالا يؤتى به إلا مع مقابلة الاسم الآخر لأن الكمال الحقيقي تمامه وكماله من اجتماعهما، وذلك مثل هذه الأسماء وهي متعلقة بأفعاله الصادرة عن إرادته النافذة وقدرته الكاملة وحكمته الشاملة فهو تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك، وكل هذا تبع لحكمته وسننه الكونية وللأسباب التي جعلها موصلة إلى مسبباتها، فإن الله تعالى جعل مقاصد للخلق وأموراً محبوبة في الدين، والدنيا، وجعل لها أسباباً، وطرقاً، وأمر بسلوكها ويسرها لعباده غاية التيسير، فمن سلكها أوصلته إلى المقصود النافع، ومن تركها أو ترك بعضها أو فوت كمالها أو أتاها على وجه ناقص ففاته الكمال المطلوب فلا يلومن إلا نفسه وليس له حجة على الله، فإن الله أعطاه السمع، والبصر، والفؤاد، والقوة، والقدرة، وهذه النجدين وبين له الأسباب، والمسببات ولم يمنعه طريقاً يوصل إلى خير ديني، ولا دنيوي، فتخلفه عن هذه الأمور يوجب أن يكون هو الملوم عليها المذموم على تركها.
52- الظاهر:
53- العدل:
54- العزيز: (العزيز- القوي - المتين - القدير)
قال رحمه الله تعالى: "هذه الأسماء العظيمة معانيها متقاربة فهو تعالى كامل القوة عظيم القدرة شامل العزة {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (1) (2) .
العزيز الذي له العزة كلها عزة القوة، وعزة الغلبة وعزة الامتناع، فممتنع أن يناله أحد من المخلوقات وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته.
__________
(1) يونس (65) .
(2) الحق الواضح المبين (ص44) وتوضيح الكافية الشافية (ص119) .(43/32)
فمعاني العزة الثلاث كلها كاملة لله العظيم عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت، وعزة الامتناع فإنه هو الغني بذاته فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضرة فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه بل هو الضار النافع المعطي المانع، وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات فهي كلها مقصورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به، فمن قوته واقتداره أنه خلق السماوات، والأرض، وما بينهما في ستة أيام، وأنه خلق الخلق ثم يميتهمثم يحييهم ثم إليه يرجعون {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (1) . {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} (2) ومن آثار قدرته أنك ترى الأرض هامدة، فإذا أنزل عليها الماء اعتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن آثار قدرته ما أوقعه بالأمم المكذبين، والكفار الظالمين من أنواع العقوبات وحلول المثلات، وأنه لم يغن عنهم كيدهم، ومكرهم، ولا أموالهم، ولا جنودهم، ولا حصونهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وخصوصاً في هذه الأوقات فإن هذه القوة الهائلة، والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة هذه الأمم هي من أقدار الله لهم وتعليمه لهم، ما لم يكونوا يعلمونه، فمن آيات الله أن قواهم، وقدرهم ومخترعاتهم لم تغن عنهم شيئاً في صد ما أصابهم من النكبات، والعقوبات المهلكة مع بذل جدهم واجتهادهم في توقي ذلك، ولكن أمر الله غالب، وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي، والسفلي.
__________
(1) لقمان (28) .
(2) الروم (27) .(43/33)
ومن تمام عزته وقدرته وشمولهما أنه كما أنه هو الخالق للعباد فهو خالق أعمالهم وطاعتهم ومعاصيهم، وهي أيضاً أفعالهم، فهي تضاف إلى الله خلقاً وتقديراً وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة على الحقيقة ولا منافاة بين الأمرين، فإن الله خالق قدرتهم وإرادتهم، وخالق السبب التام خالق للمسبب قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) .
ومن آثار قدرته ما ذكره في كتابه من نصرة أولياءه على قلة عددهم وعُددهم على أعدائهم الذين فاقوهم بكثرة العدد، والعُدة، قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (2) .
ومن آثار قدرته ورحمته ما يحدثه لأهل النار، وأهل الجنة من أنواع العقاب، وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع الذي لا ينقطع، ولا يتناهى ".
55- العظيم: (العظيم - الكبير)
قال رحمه الله: "العظيم الجامع فجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء، وإن جلت في الصفة، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم.
والله تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم فلا يقدر مخلق أن يثني عليه كما ينبغي له ولا يحصى ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يتثنى عليه عباده.
واعلم أن معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان:
أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء، والعظمة، ومن عظمته أن السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره وقال تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) .
__________
(1) الصافات (96) .
(2) البقرة (249) .
(3) الزمر (67) .(43/34)
وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (1) .
وقال تعالى وهو العلي العظيم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} (2) الآية.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته" (3) فلله تعالى الكبرياء والعظمة، والوصفان اللذان لا يقدر قدرهما ولا يبلغ كنههما.
النوع الثاني: من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذل له، والإنكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته، ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ومن تعظيمه تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (4) و {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (5) ومن تعظيمه أن لايعترض على شيء مما خلقه أو شرعه.
56- العفو: (العفو - الغفور - الغفار)
قال رحمه الله تعالى: "العفو الغفور الغفار: الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران، والصفح عن عباده موصوفاً.
كل أحد مضطر إلى عفوه، ومغفرته كما هو مضطر إلى رحمته، وكرمه وقد وعد بالمغفرة، والعفو لمن أتى بأسبابها قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (6) (7) .
57- العلي:
58- العليم:
__________
(1) فاطر (41) .
(2) الشورى (50) .
(3) أخرجه مسلم (4/2023) كتاب البر والصلة والآداب باب ماجاء في الكبر.
(4) الحج (32) .
(5) الحج (30) .
(6) طه (82) .
(7) التفسير (5/623) .(43/35)
59- 60- الغفار: (الغفور)
قال رحمه الله تعالى: "الغفور الذي لم يزل يغفر الذنوب ويتوب عل كل من يتوب ففي الحديث: "إن الله يقول يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (1) .
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (2) .
وقد فتح الله الأسباب لنيل مغفرته بالتوبة، والاستغفار، والإيمان، والعمل الصالح، والإحسان إلى عباد الله، والعفو عنهم، وقوة الطمع في فضل الله، وحسن الظن بالله، وغير ذلك مما جعله الله مقرباً لمغفرته".
61- 62- الغني المغني:
قال رحمه الله تعالى: قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} (3) .
فهو الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه، والاعتبارات لكماله، وكمال صفاته.
فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنياً، لأن غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا خالقاً قادراً رازقاً محسناً فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه.
فهو الغني الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة المغني جميع خلقه غني عاماً، والمغني لخواص خلقه مما أفاض على قلوبهم من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/147) بنحوه، والترمذي في سننه (5/548) كتاب الدعوات باب في فضل التوبة والاستغفار، وابن ماجه (2/1255) كتاب الآداب باب فضل العمل، والدارمي (2/230) كتاب الرقاق باب إذا تقرب العبد إلى الله عن أنس، وقال الترمذي هذا حديث غريب لانعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه. انظر: السلسلة الصحيحة (1/200) .
(2) النجم (32) .
(3) فاطر (15) .(43/36)
ومن كمال غناه وكرمه أنه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم، وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه، وما لم يسألوه، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلاً منهم ما سأله وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرة، ومن كمال غناه، وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم، واللذات المتتابعات، والخيرات المتواصلات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحباً ولا ولداً ولا شريكاً في الملك، ولا ولياً من الذل، وهو الغني الذي كمل بنعوته، وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته.
63- الفتاح:
قال رحمه الله تعالى: "الفتاح: الذي يحكم بين عباده، بأحكامه الشرعية، وأحكامه القدرية، وأحكام الجزاء، الذي فتح بلطفه بصائر الصادقين، وفتح قلوبهم لمعرفته، ومحبته، والإنابة إليه، وفتح لعباده أبواب الرحمة والأرزاق المتنوعة، وسبب لهم الأسباب التي ينالون بها خير الدنيا والآخرة.
وفتحه تعالى قسمان:
أحدهما: فتحه بحكمه الديني، وحكمه الجزائي.
والثاني: الفتاح بحكمه القدري.
ففتحه بحكمه الديني هو شرعه على الّسنة رسله جميع ما يحتاجه المكلفون، ويستقيمون به على الصراط المستقيم، وأما فتحه بجزائه فهو فتحه بين أنبيائه ومخالفيهم وبين أوليائه وأعدائه بإكرام الأنبياء واتباعهم ونجاتهم، وبإهانة أعدائهم وعقوباتهم، وكذلك فتحه يوم القيامة، وحكمه بين الخلائق حين يوفى كل عامل ما عمله. وأما فتحه القدري فهو ما يقدره على عباده من خير، وشر، ونفع، وضر، وعطاء، ومنع، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .
__________
(1) فاطر (2) .(43/37)
فالرب تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفنح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله.
64- الفعال لما يريد:
قال رحمه الله تعالى: "الفعال لما يريد هذا من كمال قوته، ونفوذ مشيئته، وقدرته، أن كل أمر يريده يفعله بلا ممانع، ولا معارض.
وليس له ظهير، ولا عوين على أي أمر يكون، بل إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون.
ومع أنه الفعال لما يريد فإرادته تابعة لحكمته، وحمده، فهو موصوف بكمال القدرة، ونفوذ المشيئة، وموصوف بشمول الحكمة لكل مافعله ويفعله.
وليس أحد فعال لما يريد إلا الله".
65- القابض: (القابض الباسط)
66- القريب:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: "القريب أي: هو القريب من كل أحد، وقربه نوعان:
قرب عام من كل أحد بعلمه، وخبرته، ومراقبته، ومشاهدته، واحاطته وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
وقرب خاص من عابديه، وسائليه، ومجيبيه، وهو قرب يقتضي المحبة، والنصرة، والتأييد في الحركات، والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول، والإثابة.
وهو المذكور في قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (1) وفي قوله: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (2) وفي قوله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) وهذا النوع قرب يقتضي الطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم ولهذا يقرن باسمه "القريب"اسمه "المجيب"وهذا القرب قربه لا تدرك له حقيقة، وإنما تعلم آثاره من لطف بعبده، وعنايته به وتوفيقه، وتسديده، ومن آثاره الإجابة للداعين والإثابة للعابدين".
67- القدوس:
68- القدير:
__________
(1) العلق (19) .
(2) هود (61) .
(3) البقرة (186) .(43/38)
قال رحمه الله تعالى: "القدير: كامل القدرة بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، بقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على مايشاء ويريد".
69- القهار:
قال رحمه الله تعالى: "القهار: لجميع العالم العلوي، والسفلي، القهار لكل شيء الذي خضعت له المخلوقات وذلك لعزته وقوته، وكمال اقتداره.
وهو الذي قهر جميع الكائنات، وذلت له جميع المخلوقات أو دانت لقدرته، ومشيئته مواد وعناصر العالم العلوي والسفلى، فلا يحدث حادث، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وجميع الخلق فقراء إلى الله عاجزون لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، ولا خيراً، ولا شراً ثم إن قهره مستلزم لحياته وعزته وقدرته، فلا يتم قهره للخليقة إلا باتمام حياته، وقوة عزته، واقتداره".
70- القوي:
71- القيوم:
72- الكافي:
قال رحمه تعالى: "الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه. الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه".
73- الكبير:
قال رحمه الله تعالى: "الكبير: الذي له الكبرياء في ذاته، وصفاته وله الكبرياء في قلوب أهل السماء، والأرض".(43/39)
تابع لتفسير أسماء الله الحسنى
فهرس المصادر والمراجع
أولاً: كتب علوم القرآن والتفسير.
1- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: لعبد الرحمن السعدي، نشر مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة، سنة 1407هـ.
2- تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن: لعبد الرحمن السعدي، نشر مركز صالح ابن صالح الثقافي بعنيزة، سنة 1408هـ.
3- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: لجلال الدين السيوطي، نشر دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
4- معاني القرآن وإعرابه: للزجاج، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
5- المواهب الربانية من الآيات القرآنية: لابن سعدي، طبع على نفقة بعض المحسنين.
ثانياً: كتب الحديث وشروحه وعلومه:
6- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: للألباني، طبع المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، سنة 1399هـ.
7- بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار في شرح جوامع الأخيار: لابن سعدي، طبع ونشر الرئاسة العامة لادارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، سنة 1405هـ.
8- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
9- جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: لابن الأثير، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، مطبعة دار الفكر، بيروت، سنة 1403هـ.
10- الجامع الصحيح - وهو سنن الترمذي -: لأبي عيسى الترمذي، تحقيق وشرح أحمد شاكر، الناشر مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الثانية 1398هـ.
11- خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه: للألباني، الطبعة الرابعة، سنة 1400هـ، المكتب الإسلامي.
12- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: للألباني، طبع المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1403هـ.
13- سنن الدارمي: لأبي محمد الدارمي، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، طبع دار المحاسن، القاهرة.(43/40)
14- سنن أبي داود: لأبي داود السجستاني، تحقيق عزت الدعاس، الناشر محمد على السيد، الطبعة الأولى، سنة 1388هـ.
15- سنن ابن ماجه: لأبي عبد الله ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء التراث العربي.
16- سنن النسائي: للحافظ لأبي عبد الرحمن النسائي، بشرح السيوطي، ترقيم عبد الفتاح أبو غده، طبع دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ.
17- صحيح البخاري: لأبي عبد الله البخاري، طبع المكتبة الإسلامية باستانبول، سنة 1981م.
18- صحيح سنن الترمذي: للألباني، الناشر مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى، سنة 1408هـ.
19- صحيح سنن أبي داود: للألباني، الناشر مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى، سنة 1409هـ.
20- صحيح سنن ابن ماجه: للألباني، توزيع المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1407هـ.
21- صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبع إحياء التراث العربي، بيروت.
22- ضعيف سنن الترمذي: للألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1411هـ.
23- ضعيف الجامع الصغير وزيادته: للألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1399هـ.
24- ضعيف ابن ماجه: للألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، سنة 1408هـ.
25- العظمة: لأبي الشيخ، تحقيق المباركفوري، دار العاصمة، النشرة الأولى، سنة 1411هـ.
26- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لإبن حجر، تعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز، نشر وتوزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية.
27- المستدرك على الصحيحين في الحديث: للحاكم، الناشر دار الكتب العلمية.
28- مسند الإمام أحمد بن حنبل: الناشر المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، الطبعة الرابعة، سنة 1403هـ.
29- مسند الإمام أحمد بن حنبل: تحقيق أحمد شاكر، طبع دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة 1373هـ.(43/41)
30- مشكاة المصابيح: للخطيب التبريزي، تحقيق الألباني، الناشر المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، سنة 1399هـ.
ثالثاً: كتب العقائد:
31- أسماء الله الحسنى: للغصن، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى سنة 1417هـ.
32- الأسماء والصفات: للبيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، سنة1405هـ.
33- تفسير أسماء الله الحسنى: للزجاج، تحقيق الدقاق، نشر دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الخامسة، 1406هـ.
34- توضيح الكافية الشافية: لابن سعدي، الناشر مكتبة ابن الجوزي، الطبعة
الأولى، سنة 1406هـ.
35- الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين الكافية الشافية: لابن سعدي، نشر دار ابن القيم، الطبعة الأولى 1406هـ.
36- درء تعارض العقل والنقل: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1401هـ.
37- شأن الدعاء: للخطابي، تحقيق أحمد الدقاق، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1404هـ.
38- شرح الأسماء الحسنى في ضوء الكتاب والسنة: للقحطاني، توزيع مؤسسة الجريسي، الطبعة الثانية، 1411هـ.
39- القواعد المثلى في صفات الله واسمائه الحسنى: لابن عثيمين، من مطبوعات جامعة الإمام، سنة 1405هـ.
40- كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد: لابن منده، تحقيق د. على فقيهي، من مطبوعات الجامعة الإسلامية مركز شئون الدعوة.
41- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية: للسفاريني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
42- المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى: للغزالي، مكتبة المعاهد العلمية بمصر.
43- النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى: للمحمود، مكتبة الإمام الذهبي، الكويت، الطبعة الأولى، 1413هـ.
رابعاً: كتب متنوعة:(43/42)
44- روضة الناضر عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين: للشيخ القاضي، مطابع الحلبي، الطبعة الأولى، سنة 1400هـ.
45- الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة: رسالة ماجستير، إعداد د. عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، الناشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1411هـ.
46- علماء نجد خلال ثمان قرون: للشيخ ابن بسام، مطابع دار العاصمة، الطبعة الثانية.
47- الفتاوى السعدية: لابن سعدي، منشورات المؤسسة السعدية بالرياض.
48- لسان العرب: لابن منظور، الناشر دار صادر، بيروت.
49 -مجموع فتاوى شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية، طبع بمطابع الرياض، الطبعة الأولى، 1382هـ.
50- مجموع الفوائد واقتناص الأوابد: لابن سعدي، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، سنة 1418هـ.
51- مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين: لابن القيم، تحقيق الفقي، طبع دار الفكر.
52- مشاهير علماء نجد وغيرهم: للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، إشراف دار اليمامة، الطبعة الأولى، سنة 1392هـ.
53- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد: للشيخ
حافظ أحمد حكمي، المطبعة السلفية ومكتبتها.
54- مقدمة كتاب الرياض النضرة: لابن سعدي، بقلم أحد تلاميذ الشيخ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1405هـ.(43/43)
الحدود في علم النحو
للعلامة أحمد الأبذي المتوفى سنة 860هـ
دراسة وتحقيق:
د. نجاة حسن عبد الله نولي
الأستاذ المساعد في كلية التربية للبنات بجدة
المقدمة
الحمدُ للهِ رب العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ المرسلين، نبينا محمد، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه إلى يومِ الدين.
أما بعدُ، فقد أثرى علماؤنا الأفذاذُ وأسلافُنا الجهابذةُ المكتبةَ بتراثٍ عظيمٍ يتمثَّلُ في هذا الزخم العاطر والكمِّ الهائلِ من المؤلفات والمصنَّفاتِ في مختلفِ فنونِ المعرفةِ وضروبِ العلمِ، ولكن هذه الأسفارَ العظامَ والكتبَ قابعةٌ في ظلماتِ الخزائنِ تهيلُ عليها السنون مزيداً من النسيانِ، لذا فإن تحقيقَ المخطوطاتِ، وبعثَها وإخراجَ كنوزِها وفضَّ غبارِ السنين عنها وإتاحةَ الفرصةِ لها لترى النور، من أعظمِ الخدماتِ التي تُقدَّمُ للتراث.
وقد قمتُ بعونِ اللهِ وتوفيقهِ بتحقيقِ كتابِ "الحدود في علمِ النحوِ"للعلاَّمةِ الأُبَّذي المتوفَّى سنة 860هـ.
والكتابُ على صغرِ حجمه، عظيمُ الفائدةِ، جمُّ المنافعِ، فهو يضمُ عدداً كبيراً من المصطلحاتِ والتعريفاتِ النحوية وقليلاً جداً من التعريفات الصرفية، مع شرحِها وتفسيرِها وتوضيحِها، في إيجازٍ غيرِ مقلٍ، وإجمالٍ غيرِ مخلٍّ، مع البعدِ عن الشواهدِ والأمثلةِ والآراءِ والمذاهبِ النحويةِ والخلافاتِ المذهبيةِ.
أما صاحبُ الكتابِ - وهو الأبذي - فقد توقفتْ كتبُ الطبقاتِ والتراجم عن الترجمةِ له إلا النزر اليسير، ولعلَ السببَ في ذلك تأخُره، فلم نجدْ سوى ترجمةٍ يسيرةٍ له ونبذة مختصرة عن حياتهِ. وإنا إذ نلقي الضوءَ على هذا المخطوطِ لنرجو اللهَ أن ينفعَ به، وأنْ يجعلَ في ذلك التوفيقَ والسداد.
ترجمة الأبذي
نسبه:
هو أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن أحمد الشهاب ويُقالُ: شهاب الدين البجائي الأٌبَّذي المغربي المالكي، نزيل الباسطية. ويُعرفُ بالأٌبَّذيٌ.(43/44)
وهناك خلافٌ في لقبِه:
فقد ذهبَ الحميريُّ، والحافظُ ابن حجر، والحافظُ الذهبيُّ، والبدرُ الدمامينيُّ في حواشي المغني والسيوطي،وعبد الباقي اليماني، والزركلي، وعمر رضا كحاله إلى أن دالَ مدينة أُبَّذة التي ينتسب إليها المؤلفُ، معجمةٌ، ومن ثَمَّ فإن لقبَه، "الأبذي"بذال معجمة. .
وذهبَ صاحبُ لب اللباب والتكملة وياقوت الحموي والفيروزآبادي والسخاويُّ وحاجي خليفة إلى أن دالَ مدينةِ "أُبَّدة"مهملة. وعليه فإن لقَبه الأُبَّدي بدالٍ مهملة.
وأرجحُ أنه الأبذيّ بذالٍ معجمة، لأن اسمَ المدينةِ "أُبَّذة"، ثم لما تناقل الناسُ اسمَها أهملوا الذالَ، فصارتْ "أُبَّدة"، والدليلُ: أنها صارتْ تُعرف بأُبدة العربِ، فكلا اللقبين صحيحٌ. خاصة أن ياقوت ذكر الحرفين فيها.
نشأته:
هو من أهل "أُبَّذة"بقربِ جيان. نشأ في بلادِ الأندلسِ، وتعلَّمَ في بجاية.
ثم انتقل إلى القاهرة، فدرسَ بالأزهرِ، ثم بالباسطية حيث سكنها برغبةِ أحدِ شيوخهِ. وحجَّ وارتحل إلى المدينةِ المنورة.
شيوخه:
1- البيوسقي البجائي:
هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله البيوسقي المغربي البجائي محمد نزيل بجاية.
وقرأ عليه الشيخُ الأبذيُّ الشفا ببجاية.
2- ابن القماح:
هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الأنصاريّ الخزرجيّ الأندلسيّ التونسيّ المالكيّ بن القماح. سمعَ بتونس والقاهرة ورجعَ إلى بلادِه الأندلس فعني بالحديثِ واشتهرَ به. وقد ولي قضاءَ بعضِ الجهاتِ بالمغرب. كان حسنَ البشرِ، سمحَ الأخلاقِ، وقرأ عليه بعضَ الشفا الشهابُ الأبذيُّ ببجاية. مات سنةَ سبع وثلاثين وثمانمائة.
3- القاياتي:(43/45)
هو محمد بن علي بن محمد بن يعقوب بن محمد القاياتي القاهري الشافعي. وُلِد سنة خمس وثمانين وسبعمائة تقريباً بالقايات، بلد قرب الفيومِ، وقرأ القرآنَ وحفظ المنهاجَ وألفيةَ النحوِ، والتسهيلَ وغيرها، وعرض على جماعة. كان إماماً عالماً علاَّمة، غاية في التحقيقِ وجودةِ الفكرِ والتدقيقِ، واضح العبارة، صائب النظر، صارَ شيخَ الفنونِ بلا مدافعة، وتصدَّى للإقراءِ زماناً، فانتفعَ به خلقٌ، وتزاحمَ الناسُ عليه من سائرِ أربابِ الفنونِ والمذاهبِ، وانتشرت تلامذتُه، وصاروا رؤساءَ في حياتهِ، كلُّ ذلك مع الدينِ والعقلِ والتواضعِ، والتقشّفِ والحلمِ والاحتمال، توفي سنة 850. قال السخاوي عن الأبذيّ: "قدمَ القاهرةَ فحضرَ دروسَ القاياتي".
4- ابن قديد:
هو عمر بن قديد، الركن، أبو حفص بن الأمير سيف الدين القَلَمْطائي القاهري الحنفيّ، ولد سنةَ خمسٍ وثمانين وسبعمائة بالقاهرةِ، ونشأ بها في غايةِ الرفاهيةِ، وكان من كبارِ الأمراءِ، ولي نيابة الكركِ والإسكندريةِ، وحفظ القرآنَ وبعضَ الكتبِ العلمية، وبحثَ في العرُوضِ وغيرهِ، وحجَّ مراراً وجاورَ، وزارَ بيتَ المقدسِ والإسكندرية، وتقَّدمَ في الفنونِ. وفاقَ في النحوِ والصرفِ. بحيث قيل إنه كان أنحى علماءِ مصرَ، وكان علاَّمةً خيِّراً متعبِّداً منقطعاً عن الناس، مع علو رتبتِه عندهم، متواضعاً مع الفقراء، بشوشاً، عاقلاً، ساكناً، طارحاً للتكلِّفِ في سائرِ أحوالهِ، على طريقةِ السلفِ، زائد الخفرِ والوقارِ، انتفع به الفضلاءُ، واشتهر اسمُه، مات بمكةَ سنة 856هفي رمضان، وكان من أئمة الحنفيةِ، اجتمعَ فيه العلمُ والزهدُ واتباعُ السلفِ.
5- الجمال الكازَرُوني:(43/46)
هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمود بن روزبة الجمال والمحب والشمس أبو عبد الله وأبو البركات بن الصفي أبي العباس الشمس أبي الإيادي بن الجمال أبي الثناء الكازروني الأصل، المدني الشافعي، ولد سنة 757هـ بالمدينة النبوية، ارتحلَ إلى مصرَ والشامِ وغيرهما، وسمعَ من كثيرين، وأخذَ الحديثَ والفقهَ والنحْو، وصارَ فقيهَ المدينةِ وعالمهَا وقاضيها، وقد أخذ عنه كثيرون، وممن أخذَ عنه إجازةٍ الأبذيُّ حين ذهبَ إلى الحجِّ، توفى بالمدينةِ في ليلة الاثنين ثاني عشر شوال سنة 843هـ.
6- العز عبد السلام البغدادي:
هو عز الدين عبد السلام بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد الشرف الحسيني القَيْلوي الأصل، نسبة لقريةٍ ببغداد، يُقالُ لها: "قليويه"كنفطويه، البغداديّ القاهريّ الحنبليّ الحنفيّ.(43/47)
ولد سنة ثمانين وسبعمائة تقريباً ببغداد، ونشأ بها فقرأَ القرآنَ، وحفظَ كتباً جمةً في فنونٍ كثيرة، وأكثر من المحفوظات جداً وبحثَ في غالبِ العلومِ على مشايخِ بغدادَ والعجم والروم، حتى أنه بحثَ في فقه الشافعية والحنابلة وبرع فيهما، وصار يُقرئُ كتبَهما، ولازمَ الرحلةَ في العلمِ، إلى أن صار أحدَ أركانِه، وأدمنَ الاشتغالَ به، بحيث بقي أوحدَ زمانِه، وسمعَ أصولَ الحنفيةِ ودرسَ النحوَ والصرفَ، وأخذَ أصولَ الدينِ وآدابَ البحثِ والفرائض، والطب والمعاني والبيان، والمنطق وعلم الجدل والموسيقى، وارتحلَ إلى تبريز، ثم إلى أرزبخان من بلادِ الرومِ، فأخذ علمَ التصوّفِ، ثم عادَ من بلادِ الرومِِ، وناظرَ في الشامِ، واجتمعَ في القدسِ ببعضِ العلماءِ، وقد أشيرَ إليه في الصرف والنحو والمعاني والبيانِ، والمنطق والجدل وآداب البحث، والطب والعروض والفقه والتفسير، والقراءات، والتصوف وغيرها، ونزل بالجمالية، وقُرِّر في صوفيتها، وأقبلَ الناسُ عليه، فأخذوا عنه، وعَظُم في عينِ السلطانِ، ونُعت بالشيخ الإمامِ العالمِ العامل الفاضل المفنن ذي الفوائد والفرائد مفيد الطالبين، وأُذنَ له في إقراءِ علومِ الحديثِ وإفادته، وقرَّره الزيني عبد الباسط متصدّراً بمدرستهِ ووصلَه بعطاء، وسكنها بعد الجمالية وقتاً ثم انتقل منها إلى غيرِها، فولي مشيختَها، وانتفعَ به الناسُ، وممن قرأ عليه الأبذيُّ وغيرهُ مِنَ المالكية، وصار غالبُ فضلاءِ الديارِ المصريةِ من تلامذته، كلّ ذلك مع الخيرِ، والديانةِ والأمانةِ، والزهدِ والعفِة، والتقشّفِ في مسكنِه وملبسِه ومأكلِه، والانعزال عن بني الدنيا، والتواضع مع الفقراء والإطعام وكرم النفس والصبر على الاشتغال، واحتمال جفاءِ الطلبةِ والتصدّي لهم طولَ النهارِ، والتقنّع بزراعاتٍ يزرعُها في الأريافِ، ومقاساة أمرِ المزارعين وإتعابهم، والإكثار من تأمل معاني كتاب الله عز وجلَ وتدبّره، مع كونِه لم يستظهرْ(43/48)
جميعَه، ويعتذرُ عن ذلك بكونِه لا يحبُّ قراءتَه بدونِ تأملٍ وتدبر وسُمع عن بعضِ علماءِ العصرِ أنه قال: لم نعلم أنه قدمَ مصرَ في هذه الأزمانِ مثلُه، ولقد تجملتْ هي وأهلها به، وكان ربما جاءه الصغير لتصحيح لوحه، ونحوه من الفقراء والمبتدئين لقراءة درسه، وعنده من يقرأ من الرؤساء، فيأمرهم بقطع قراءتهم، حتى ينتهي تصحيح ذاك الصغير، أو قراءة ذلك الفقير، ويقول: أرجو بذلك القربةَ وترغيبهم، وأن اندرج في الربانيين ولا يعكس، ولم يحصل له إنصاف من رؤساءِ الزمان في أمر الدنيا ولا أُعطى وظيفة مناسبة لعليّ مقامه، وكان فصيح اللسان مفوهاً، طلق العبارة، قويّ الحافظة، سريع النظم جداً، وشرع في جمع شِعره في ديوان على حروف المعجم، وكتب منه قطعة، إلى غير ذلك من التآليف والتعاليق التي كان يميلها على الطلبة، ومن ذلك على إيساغوجي والشمسية والألفية والتوضيح، واعتذر عن عدم الإكثار من التصانيف والتصدّي لها بأنه ليس من عدّة الموت لعدم الإخلاص فيه أو كما قال. وكان يُقصد بالفتاوى في النوازل الكبار ودونها، ولم يزل على طريقته متصدّياً لنشر العلم حتى مات في عشري رمضان سنة تسع وخمسين وثمانمائة. ولم يخلف بعدَه في مجموعه مثله.
7- العز عبد السلام القدسي:(43/49)
هو عبد السلام بن داود بن عثمان بن القاضي شهاب الدين عبد السلام بن عباس العز السلطي الأصل، المقدسيّ الشافعيّ، ويعرف بالعز القدسيّ، ولدَ في سنة إحدى أو اثنتين وسبعين وسبعمائة بكفر الماء، وهي قرية بالشام، ونشأ بها فقرأ القرآن، وفهمه عم والده بعض المسائل، ثم انتقل به قريبه البدر محمود العجلوني، أحد شيوخ البرهان الحلبي، في حدود سنة سبع وثمانين إلى القدس، فحفظ به في أسرع وقت عدة كتب في فنون شتى، بحيث كان يقضي العجب من قوة حافظته، وعلو همته ويقظته ونباهته، وبحث على البدر المذكور في الفقه إلى أن أذن له في الإفتاء والتدريس سريعاً، ثم ارتحل به إلى القاهرة في السنة التي تليها، فحضر بها دروس بعض العلماء، وسافر صحبةَ البدر إلى دمياط والاسكندرية وغيرهما من البلاد التي بينهما كسنباط، واجتمعا بقاضيها، ثم رجعا إلى القاهرة، ثم إلى القدس، وسمع بغزة على قاضيها، ثم عادا لبلادهما، ودخل صحبة البدر مدينة السلط والكرك وعجلون وحسبان، وجال في تلك البلاد، فلما مات البدر، ارتحل إلى دمشق، وذلك في حدود سنة سبع وتسعين، وجدَّ في الاشتغال بالحديث والفقه وأصله والعربية، وغيرها من علوم النقل والعقل على مشايخها، وسمع بها الحديث من جماعة كثيرين، وحج في سنة ثمانمائة، فسمع بالمدينة النبوية على بعض علمائها، وبمكة ثم رجع إلى دمشق، فسمع بها الكثير وأكثر من السماع والشيوخ، ثم انتقل في سنة ثلاث وثمانمائة إلى الديار المصرية، فقطن القاهرة ولازم علماء الفقه والحديث، ناب في القضاء سنة أربع ثم أعرض عن ذلك لكون والده عتبه عليه لتعطّله به عن الاشتغَال، ثم عاد إلى النيابة في سنة تسع، واستمر حتى صار من أجلاَّء النوَّاب، وصحب كاتب السر، وصار يزاحم الأكابر في المحافل، ويناطح الفحول الأماثل، بقوة بحثه وشهامته وغزارة علمه وفصاحتِه، واستمر في تدريس الحديث بالجمالية، وناب في الخطابة بالمؤيدية أول ما فتحت، واستقر به الزين عبد الباسط(43/50)
في مشيخة مدرسته بالقاهرة أول ما فتحت، بل ولي مشيخة الصلاحية ببيت المقدس، ثم رجع العز إلى القاهرة، فأقام بها على نيابة القضاء مع مرتب رتبه له عبد الباسط، إلى أن أعيد إلى الصلاحية، واستمر فيها حتى مات، وقد حدَّث بأشياء بالقاهرة وبيت المقدس وغيرهما، وممن قرأ عليه قاضي المالكية بحماة. ووصفه بشيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام علم المحققين حقاً وحائز فنون العلم صدقاً، وكذا درَّس وأفتى وأفاد، وانتفع به الفضلاء، سيما أهل تلك النواحي، وكان إماماً علاّمة، داهية، فصيحاً في التدريس والخطابة وغيرهما، حسن القراءة جداً، مفوهاً، طلق العبارة، قوي الحافظة، حتى في التاريخ وأخبار الملوك، جيّد الذهن، حسن الإقراء، كثير النقل والتنقيح، متين النقد والترجيح، وأقرأ هناك في جامع المختصرات فكان أمراً عجباً، صحيح العقيدة، شديد الحط والإنكار على أصحاب العقائد الرديئة، مغرماً ببيان تزييفها، جواداً كريماً إلى الغاية، قل أن ترى العيون في أبناء جنسه نظيره في الكرم.
تلاميذه:
أخذَ عنه الأعيانُ من كلِّ مذهبِّ فنوناً، كالفقهِ، والعربيةِ والصرفِ والمنطقِ والعروضِِ، وتصدَّى لنفعِ الطلبةِ بالأزهرِ ثم بالباسطيةِ، فأخذ عنه السخاويُّ العربيةَ وغيرها، وأخذ عنه أيضاً أخو السخاويِّ، والأشمونيُّ، والقاضي زكريا الأنصاري وابن الابشيهي، وفيما يلي ترجمة لكل منهم:
1- السخاوي:
هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان السخاوي الأصل، القاهري الشافعي، وربما يُقالُ له: "ابن البارد"، شهرةً لجدِّه بينَ أناس مخصوصين، ولم يشتهر بها أبوه، ولا هو، بل كان يكرهُها، ولا يذكرُه بها إلاً من يحتقرُه.(43/51)
ولد سنة 831هـ، ودرس الفقهَ والفرائضَ والأصولَ والمعاني والبيانَ والتفسيرَ، والعربية والصرفَ والمنطق، وحجَّ، وزارَ المدينةَ، وقرأ بها على بعض المشائخِ، ورجعَ للقاهرةِ فأقام بها ملازماً السماعَ والقراءةَ والتخريجَ والاستفادةَ من الشيوخ والأقران، ثم ارتحل إلى حلب، وسمع بغزةَ والرملِ وبيت المقدس والخليل ونابلس ودمشق، والزبداني وبعلبك وحمص وحماه،
والمعرَّة وطرابلس، له عدةُ مؤلفات.
2- الأشموني:
هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الأشمونيّ الأصل القاهريّ الشافعيّ المنهاجي نزيل الباسطية، وقيل له المنهاجي، لأنَّ جدَّه قدم من الأشمونيين قبل بلوغِه فحفظ القرآن والمنهاج في سنة فلُقِّب بذلك. ولد عبد الرحمن في ذي الحجةِ سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وأبوه غائبٌ بمكةَ فرأى في غيبتِه قائلاً يقول له: يُولد لك ذكرٌ فسمِّه عبد الرحمن، فلما قَدِم ووجدهم سمّوه بغيره، غيّره، ونشأ فحفظ القرآنَ والمنهاجَ وجمعَ الجوامع وألفيةَ النحو والتلخيصَ والشاطبيتين، ودرس الفقهَ وأخذ النحو عن العز عبد السلام البغدادي والأبذي وقرأ عليهما الألفية. وعلى أولهما الحاجبية مع المعاني والبيان وأصول الفقه، وحج وأقام بمكةَ عشرين سنة، ثم لما قدم تحَوّل إلى الباسطية ولزم الانجماع بها مع مزيد تقنّعه وتقلّله وعدم قبوله إلا نادراً. والغالبُ عليه سوءُ الطباع، مع فضل وفهم.
3- القاضي زكريا الأنصاري:
هو زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا.. الأنصاري السنبكي القاهري الأزهري الشافعي القاضي، ولد سنة 826هبسنبكة من الشرقية، ونشأ بها، ثم رحل إلى القاهرة، وأخذ عن كثيرين، ولم ينفك عن الاشتغال على طريقة جميلة من التواضع وحسن العشرة والأدب والعفة والانجماع عن بني الدنيا مع التقلل، وشرف النفس، ومزيد العقل، وسعة الباطن، والاحتمال والمداراة، إلى أن أذِن له غيرُ واحدٍ من شيوخه في الإفتاء والإقراء.(43/52)
قال عنه السخاويُّ: "وأصول الدين على العز المذكور ... والأبدي، وغيرهم، وعن كل مشايخه في أصل الدين أخذ النحو". وقال أيضاً بعد ذكره أحد شيوخه: "وعن من عداه من شيوخ الصرف أخذ المنطق وكذا عن و ... و ... والأبدي".
4- ابن الأبشيهي:
هو محمد بن أحمد بن محمد بن موسى بن الشهاب المغراوي الأبشيهي الأصل القاهري المالكي، ولد سنة 834هبالقاهرة، ونشأ فحفظ القرآن وغيره، واشتغل في الفقهِ وغيره، وأخذ عن كثيرين منهم الأُبَّذي، وتميَّز، ووُصف بالشيخِ العلامة، النحرير الفهَّامة، المحقِّق الأمجد، مات سنة 898هـ.
صفاته:
كان الأبذي متواضعاً، بشوشاً، رضياً، مُجَابَ الدعوة حتى قيل إنه
لكثرة ما كان يرى من تهكّم الشباسي بالطلبة، بل وبالشيوخ، دعا عليه، فابتُلي بالجذام، كما كان عديم التردد لبني الدنيا، بعيداً عن الشر.
مؤلفاته:
قال السخاوي عن الأبذي: "كتب بخطِّه أشياءَ، بل درَّب زوجته نفيسه، وكانت تكتُب له أيضاً":. ولكن لم تورد كتبُ الطبقاتِ القليلةُ التي ترجمت له إلا نزراً يسيراً عن مؤلفاته. ومن تلك المؤلفات:
1- كتاب الحدود في علم النحو الذي نحن بصدد تحقيقه. وذكر السخاوي أنه في إرشاد المبتدئين، وأثنى عليه بأنه نافع.
2- شرح على كتاب إيساغوجي في علم المنطق، وقد قرَّظه السخاويُّ بأنه مفيد.
مكانته العلمية:
تبوأ الأُبذَّي مكانةً رفيعةً ومنزلةً عاليةً بين علماءِ عصرهِ، لأنه حصَّلَ معظمَ العلومِ وتقدَّم فيها.
قال عنه السخاويُّ: "تقدَّم في العلوم سيما العربية".
وقد عدَّد السخاويُّ تلك العلوم، فذكر العربيَّةَ، والصرفَ والعروضَ والمنطقَ والفقه.
فكان شيخاً من شيوخ العربية والصرف، يُؤخذ عنه هذا العلم. قال السخاويُّ: "وكنتُ ممن أخذ عنه العربية وغيرها".
وجاء في ترجمة تلميذيه القاضي زكريا الأنصاري والأشموني أن ممن أخذا عنه النحو الأبذي وقد قرأ عليه الثاني الألفية.(43/53)
ولا أدلَّ على معرفته بالعربيةِ والصرفِ من وضعه كتاب الحدود، وقد وصفه السخاوي بأنه نافعٌ كما مَرّ بنا.
وكان إماماً في علم المنطق، ويشيرُ إلى إحاطته بهذا العلم وضعُه شرحاً على أحد كتبِ المناطقةِ، فوضع شرحاً على إيساغوجي، وتصدَّى لتدريسِ
علمِ المنطق كما تقدَّم، وقال عنه عمر رضا كحاله: "عالمٌ بالمنطق".
ويوميء إلى تبحره في الفقه أنه طلب منه القضاء فاعتذر عنه.
ويكفي للإشارة إلى علمه بأصول الدين أن القاضي زكريا الأنصاري درس على يديه هذا العلم كما تقدّم.
ولا شك أن رحلاتهِ في سبيل طلب العلم وتطوافه وتجواله بين حواضر العلم، ومنابره في ذلك الوقت، وانتقاله من بلدٍ لآخر، صقل شخصيّته العلميّة وجعله من متنوّعي الثقافة ومتعدّدي التخصّصات، فقد انتقل كما هي عادة علماء الأندلس إلى بلاد المشرق لينهل من مواردِ العلم.
فانتقلَ من الأندلس إلى المغربِ، وزار مصر والحجازَ، وأخذ عن العلماء والتقى بهم واستفادَ من علومِهم المختلفة ومعارفِهم المتنوعة.
كلُّ ذلك خوَّله ليكون من العلماءِ الذين يأخذُ عنهم الأعيانُ من كلِّ مذهبٍ فنوناً مختلفة.
قال السخاويُّ: "أخذ عنه الأعيان من كلِّ مذهبٍ فنوناً، كالفقهِ والعربيةِ والصرفِ والمنطقِ والعروضِ، وكنتُ ممن أخذَ عنه العربيةَ وغيرَها، بل أخذَ عنه أخي أيضاً".
وقد قضى الأبذي حياته عالماً ومتعلماً في البيتِ وخارج البيت، فجنَّد نفسه لخدمةِ العلمِ، حتى لقد درَّب زوجه على كتابةِ أشياء له، وهذا يدلُّ على شدةِ حبِّه للعلمِ واهتمامِه به، وولعِه بالمعارف، وأن يكون بيتُه بيتَ علم.
وقد انتفع طلابُ العلمِ بالأُبذي، قال عنه السخاويُّ: "وتصدَّى لنفعِ الطلبة بالأزهرِ أولاً، ثم بالباسطية، حين سكنها برغبةِ أحدِ شيوخِه العزّ البغداديّ له، إلى أن مات".(43/54)
وقد أُوتي الأبذي موهبةً عظيمة ومقدرةً كبيرة على إرشادِ المبتدئين وإعطائِهم أصولَ الصناعةِ وحدودَها بشكل عام ومبسّط ينتظمُ معظمَها ويشملُ غالبَ أبوابِها.
قال عنه السخاويُّ: "لم يكنْ بعدَ الشيخِ ابنِ خضرٍ من يدانيه في إرشادِ المبتدئين".
وفاته:
تُوفِّى في عشري رمضان سنة ستين وثمانمائة بالقاهرة، ودفن بتربة الصلاحية، وقد جاوز الستين.
وهناك من يقول: إن وفاته سنة إحدى وستين، وإن الجمالي ناظر الخاص أرسل يلتمس منه قضاء المالكية بعد وفاة السنباطي فاعتذر بضعفه، ولم يلبث أن مات، وهو ملتئم مع كونها في سنة إحدى، فإن السنباطي مات في رجب منها (1) .
نسخ التحقيق:
عثرتُ بفضلِ اللهِ على ثلاثِ نسخٍ لهذا المخطوط:
النسخة الأولى:
حصلتُ عليها من جامعةِ الملكِ سعود بالرياض، واعتمدتُها أصلاً لتحقيقِ الكتابِ، ورمزتُ لها بالرمز (أ) ، وهي واضحةٌ وخطُّها جيِّدٌ ووقعتْ في أربعةِ ألواحٍ، في كل لوحٍ صفحتان، وفي كلِّ صفحةٍ واحدٌ وعشرون سطراً.
النسخة الثانية:
وهي من جامعةِ الإمامِ محمد بن سعود الإسلاميةِ بالرياض، مصوَّرة عن الظاهريةِ 1845- الفهرس 201 بخطٍّ معتادٍ، ضمن مجموع 19-24، ووقعتْ في عشرِ صفحات، وتراوحت السطورُ بينَ اثني عشر سطراً وثلاثة عشر سطراً، وخمسة عشر وسبعة عشر. ورمزتُ لها بالرمز (ب) . وهي واضحةٌ، ولكن بها رطوبة.
النسخة الثالثة:
وهي من جامعةِ الإمامِ محمد بن سعود الإسلاميةِ بالرياضِ أيضاً. ومصوَّرة عن دارِ الكتبِ المصريةِ، وكتبها عبد العال بن منصور البحيريّ الأزهريّ سنة 1094هـ، بخطٍ نسخيٍّ، ووقعتْ في ثلاثةِ ألواحٍ، وفي كل صفحةٍ خمسةٌ وعشرونَ سطراً، وتصويُرها رديء، فصَعُبَ قراءةُ بعضِها، ورمزتُ لها بالرمز (ج) .
توثيق نسبة الكتاب إلى الأبذي:
جاءَ في نسخةِ (أ) : "كتاب الحدود في علمِ النحوِ: تأليف الشيخ الإمام أبي العباس أحمد الأبذي رحمه اللهُ ونفع به".
__________
(1) انظر الضوء اللامع 2: 181.(43/55)
وجاءَ في نسخة (ج) : "هذه حدود النحو: للعلامة الأبذي".
وجاء في الضوءِ اللامعِ في أخبار القرن التاسع للسخاوي في ترجمة أحمد الأبذي: "له فيها"يعني في العربية "حدود نافعة".
وجاء في إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: "حدود النحو: لشهاب الدين الأبدي، مختصر، أوله: حد النحو في اللغة: القصد".
جهدي في التحقيق:
- قابلتُ بينَ نسخِ الكتابِ الثلاثِ، وقارنتُها ببعضٍ، ونبَّهتُ على ما بينها من أوجهِ الاتفاقِ والاختلاف.
- تناولتُ ماندَّ عنِ الأفهامِ، وآستعصى على الإدراكِ من العباراتِ والأساليبِ والمصطلحاتِ بالشرحِ والتبيان، فوضحتُ ما غمضَ من عبارةِ الكتابِ وما اقتضب من جملتهِ.
- قمتُ بالتعقيبِ والتعليقِ على ما وجدتهُ مثارَ جدلٍ، وموضعَ خلافٍ بينَ النحاةِ، من المدارسِ المختلفةِ.
- عزوتُ النصوصَ إلى قائليها، وأرجعتُها إلى مصادرِها الأصلية.
- عرَّفتُ الأعلامَ الواردةَ في الكتابِ، وهي قليلة.
- عملتُ فهرساً للمراجعِ والمصادر وآخر لموضوعات ومحتويات الكتاب.
وهذا جهدُ المقلِّ، فما كان فيه من صوابٍ فمن الله، وما كان من خلافه فنسألُ اللهَ التجاوزَ عن الزللِ والتقصيرِ.. إنه نِعمَ المولى ونِعم النصير.
منهج الكتاب:
- ذكرَ المؤلفُ في المقدمةِ خطةَ الكتابِ، حيثُ أجملَها في قوله: "هذه نبذةٌ لطيفةٌ في النحوِ جمعتُها لمنْ أراد ذلك". فبيَّن أنه سيميلُ للاختصار.
- وقد وَفَى بما ذكرَه، فجاءَ الكتابُ موجزاً مختصراً، لأنَّه ألَّفه للمبتدئينَ مِنْ طلبةِ العلمِ، كما يقولُ السخاويُّ ولا غروَ فالأبذيُّ متخصِّصٌ ومشهورٌ في إرشادِ المبتدئينَ كما مرَّ بنا.
- يخلو الكتابُ من الشواهِد من أيِّ نوعٍ، وهذا يتفقُ مع خطةِ المؤلِّفِ في طلبِه الإيجازَ.(43/56)
- يحتوي الكتابُ على سردِ القواعدِ فقط، دونَ ذكرِ الأمثلةِ إلا قليلاً، مثالُ ذلك قولهُ: "مثالُ كلمةٍ: زَيْدٌ، مثالُ الكلمِ: إنْ قامَ زيدٌ، مثالُ الكلامِ: زيدٌ قائمٌ مثال ما اجتمعَ فيه الكلامُ والكَلِمُ: زيدٌ أبوه قائمٌ"
ومثلهُ أيضاً ذكرهُ العُمَرَان والقَمَران.
ومثلُه أيضاً ذكرُه "سواء"ثم قولُه: "فإنهم استغنوا عن تثنيتِةِ بتثنيةِ "سي"، فقالوا: "سيّان"".
- وانطلاقاً من مبدئِه في الإيجازِ، فقد جاءَ التعليلُ في موضعٍ واحدٍ فقط، حيثُ قال في معرِضِ حديثهِ عنِ الأسبابِ الخمسةِ للبناءٍ على حركةٍ: "الخامسُ: كونُ ما هي فيه شبيهاً بالمعربِ كالفعلِ الماضي، لأنه شبيهٌ بالمضارعِ في وقوعِه صفةً أو صلةً أو حالاً أو خبراً".
- لا يحتوي الكتابُ على مذاهبَ أو آراء أو خلافاتٍ للنحاةِ، إلا فيما ندرَ، وذلك كقولهِ: "السادسُ: اتفاقُ المعنى، فلا يُثَنَّى المشترك، خلافاً للحريريّ".
- وقوله بعد عرضِ أسبابِ البناءِ الأربعة: "وزادَ ابنُ مالكٍ خامساً، وهو الشبهُ الإهماليُّ".
- وقوله بعدَ سردِ المبنيّاتِ الستةِ منَ الأسماءِ: "وزادَ ابنُ مالكٍ سابعاً وهي الأسماءُ قبلَ التركيب".
- يُرَجِّحُ ما يراه صواباً، ومِنْ ذلك قولهُ: "أن يكونَ لَهُ ثَانٍ في الوجودِ، وأما نحو القمرانِ فمن بابِ المجاز".
وقوله: "وأما نحو العُمَرَان فمن بابِ التغليب".
مذهبُ المؤلِّفِ النحويّ:
غَلَبَتْ على المؤلِّفِ النزعةُ البصريةُ، والدليلُ الأمثلةُ الآتية:
1- يرى أنَّ الفعلَ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ حيثُ قالَ: "وأقسامُ الفعلِ ثلاثةٌ: - ماضٍ ومضارعٌ وأمرٌ" وهذا رأيُ البصريين. أما الكوفيون والأخفشُ فيرَوْنَ أنَّ الفعلَ قسمان، وأنَّ الأمرَ مقتطعٌ من المضارع
2- عبَّر عن حروفِ الجرِ بهذا المسمَّى، وهو مذهبُ البصريين. ويعبّرُ الكوفيون عنها بحروفِ الخفضِ وحروفِ الصفات(43/57)
3- يرى أنَّ مِنْ شروطِ جمعِ الكلمةِ جمعاً مذكراً سالماً أن تكونَ مذكرةً.
وهو ما ذهبَ إليه البصريون، وأجازَ الكوفيون جمعَ ذيِ التاءِ بالواوِ والنونِ مطلقاً.
4- ذهبَ مذهبَ البصريين في إطلاقِ مصطلحِ المضمر أما الكوفيون فيسمُّونه الكناية والمكنى.
5- ذهب مذهب البصريين أن فعل الأمر مبني والكوفيون يرون أنه معرب مجزوم بلام مقدرة.
6- استخدم مصطلحَ "البدل"، وبه قال البصريّون. والكوفيون يسمُّونه الترجمة والتبيين والتكرير.
7- وافق البصريين في أن أعرفَ المعارفِ المضمرُ، والكوفيون يرون أنه الاسم المبهم.
8- ذهب مذهب البصريين في التمييزِ بينَ ألقابِ الإعرابِ وألقابِ البناءِ، ولم يفرِّق الكوفيون بين ما هو للإعراب وما هو للبناء.
وهناك بعض المواضع التي ذهب فيها مذهب الكوفيين وهي:
1- ذكر أن "كي"تنصب بنفسها، وهو مذهبٌ كوفيٌّ. ومذهب سيبويه والأكثرين أن "كي"يجوز أن تكونَ هي الناصبة بنفسها، ويجوزُ أن تقدَّر بعدها أن، لأن كي عندهم حرف مشترك، فتارةً تكونُ حرفَ نصبٍ.
فتنصب المضارع. وتارةً تكونُ حرفَ جرٍ بمعنى اللام.
2- استخدمَ مصطلَح "النعت"، والتعبيرُ به اصطلاحُ الكوفيين، والبصريون يسمَّونه الوصفَ والصفة..
3- سارَ مع الكوفيين فيِ استعمالهِم مصطلحَ "عطف النسقً" والبصريون يقولون العطفَ بالحروفِ، والشركة.
4- لم يذكرْ حدَّ "عطف البيان". وقد نقلَ السيوطيُّ قولَ الأعلمِ في شرحِ الجمل:
"هذا البابُ يترجمُ له البصريون، ولا يترجم له الكوفيون".
5- استخدم في موضعين مصطلح "الخفض". وهو كما تقدم طريقةُ الكوفيين.(43/58)
تابع لحدود في علم النحو
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه ثقتي)
قالَ الشيخُ الإمامُ العالمُ العلامةُ أبو العباسِ الشيخُ شهابُ أحمدُ الأبديِ رحمه اللهُ تعالى، ونَفَعَنا ببركاتهِ في الدنيا والآخرة.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً. وبعدُ ... فهذه نبذةٌ لطيفةٌ في النحوِ جمعتُها لمن أرادَ ذلك. وبالله التوفيقُ، وهو حسبُنا ونعمَ الوكيل.
النحوُ في اللغةِ: القصدُ.
- حد النحو: علمٌ به يُعرف أحوالُ أواخرِ الكلم العربية إفراداً وتركيباً.
- حدُّ الكلامِ: ما تضمَّنَ مِنَ الكلامِ إسناداً مفيداً مقصوداً لذاته.
- حدُّ اللفظِ: هو الصوتُ المشتملُ على بعضِ الحروف.
- حدُّ التركيب: ضمُّ كلمةٍ إلى مثلِها فأكثر.
- حدُّ الإفادة: ما حصلَ للسامعِ ما لم يكنْ عنده بالوضعِ، أي بالقصد.
- حدُّ الكلمة: لفظٌ دالٌ بالقوةِ أو بالفعلِ على معنى مفرد.
- حدُّ الكلم: ما رُكِّب من ثلاثِ كلماتٍ فصاعداً، أفاد، أم لم يُفِد.
مثال كلمة: "زَيْد ".
مثالُ الكَلِم: "إن قامَ زيدٌ".
مثال الكلامِ: "زيدٌ قائمٌ".
مثال ما اجتمعَ فيه الكلامُ والكَلٍمُ "زَيْدٌ أبوه قَائِمٌ".
- أقسامُ الكلامِ: اسم وفعلٌ وحرفٌ.
- وأقسامُ الاسمِ ثلاثةٌ: ظاهرٌ ومضمرٌ ومبهم.
- وأقسامُ الفعلِ ثلاثة: ماضٍ ومضارعٌ وأمرٌ.
- وأقسام الحرف ثلاثةٌ: خاصٌّ بالأسماءِ، كحروفِ الجرِ خاص بالأفعال كالنواصبِ والجوازم، ومشتركٌ بينهما كـ"هل".
- حدُّ الاسم: كلُّ كلمةٍ دَلَّتْ على معنى في نفِسها، ولم تتعرَّضْ بنيتها للزمان.
- حدُّ الفعل كلُّ كلمةٍ دلتْ على معنى في نفسِها. وتعرضتْ بنيتُها للزمان.
- حدُّ الحرف: كلُّ كلمةٍ لا تدلُ على معنى في نفسِها، لكن في غيرها.
- حد الاسمِ الظاهر: ما دَلَّ بلفظِه وحروفِه على معناه.
- حد المضمر: ما دلَّ على مُسَمَّاهُ بقرينةِ التكلّمِ أو الخطاب أو الغيبة.(43/59)
- حد المبهم: ما افتقرَ في الدلالةِ على معناه إلى غيرهِ.
- حد الماضي: ما وقعَ وانقطع وصلح معهُ أمس.
- حدُّ المضارع: ما كانُ في أولهِ إحدى الزوائدِ الأربعِ، يجمعُها قولُك: "أنيت".
- حدُّ الأمر: ما دَلَّ على الطلَّبِ. وقَبِلَ نُونَ التَّوكيدِ.
الاسمُ لَهُ خَوَاصُّ: تخصه من أَوَّلِه وخَوَاصُّ تَخُصُّه مِنْ آخرِه وخَوَاصُّ تَخُصُّه مِنْ وَسَطِه وخَوَاصُّ تخصُّه من معناه.
فالذي يخصُّه من أولهِ:
حروفُ الجرِّ، وحروفُ القَسَمِ، والألفُ واللامُ التي للتعريف. .وأدواتُ النداءِ. ونواسخُ الابتداءِ.
والذي يخصُّه من وسطِه: التكسيرُ والتصغير.
والذي يخصُّه من آخرِه: الخفضُ والتنوين، وتاءُ التأنيثِ التي تبدلُ هاءً في الوقف، وعلامةُ التثنيةِ والجمعِ، وألفُ التأنيثِ المقصورةُ والممدودةُ، وياءُ النسبِ.
والذي يخصُّه من معناهُ: كونُه فاعلاً وكونهُ مفعولاً، وكونُه مبتدأ، وكونُه خبراً، وكونُه مفرداً، وكونُه مجموعاً، وكونُه معرفاً، وكونُه منكراً، وكونه مذكراً وكونُه مؤنثاً، وكونُه يُخبرُ عنه، وكونُه يُضاف ويُضاف إليه.
والفعلُ له خواصُّ: تخصُّه من أولهِ، وخواصُّ من وسطِه، وخواصُّ تخصُّه من آخره، وخواصُّ تخصُّه من معناه.
فالذي يخصُّه من أولهِ: قدْ، والسينُ، وسَوْفَ، وأدواتُ العَرْضِ وأدواتُ التحضيضِ والنَّواصبُ، والجَوَازم، وحروفُ الشرْطِ، ولَوْ التي هي حرفُ امتناعٍ لامتناعٍ، والذي يخصُّه مِنْ وسطِه:
التَّصرْيفُ، وهو اختلافُ أبنيتهِ لاختلافِ أزمنهِ.
والذي يخصُّه من آخرِه تاءُ الفاعلِ، وتاءُ التأنيثِ الساكنُة، وياءُ المخاطبةِ، ونونا التوكيدِ الثقيلةُ والخفيفةُ، واتصالُ الضمائر ِبه على حدِّ فَعَلا وفَعَلُوا وفَعَلْنَ. وبناؤُه من غيرِ عارضٍ يعرضُ له.(43/60)
والذي تخصُّه من معناه: كونُه ماضياً، وكونُه مضارعاً، وكونُه أمراً، وكونُه يُخبرُ به ولا يُخبرُ عنه، وكونُه لا يُضافُ ولا يُضافُ إليه.
الجَرُّ: عَلَمُ الإضافةِ، والرَّفْع علمُ الفاعليةِ والنصب علمُ المفعولية.
- حَدُّ التنوين: نونٌُ ساكنةٌ زائدةٌ تلحقُ الاسم بَعدَ كماله، تفصلُه عمَّا بعدهَ، تثبت لفظاً، وتسقطُ خطّاً، لغيرِ التوكيد.
أقسامُ التنوينِ الخاصِّ بالأسماءِ أربعةٌ:
- تنوينُ التمكين.
- وتنوينُ التنكيرِ.
- وتنوينُ المقابلةِ.
- وتنوينُ العِوَض.
- حَدُّ الإعرابِ: لفظاً ما جِيء به لبيانِ مقتضى العاملِ، من حركةٍ، أو حرفٍ، أو سكونٍ، أو حذفٍ. وحَدُّه معنى: تغييرُ أواخر ِالكلمِ، لاختلافِ العاملِ الداخلِ عليها، لفظاً أو تقديراً.
- حَدُّ البناءِ: لفظاً ما جِئَ به لا لبيانِ مقتضى العاملِ من شبهِ الإعرابِ، وليسَ حكايةً أو اتباعاً أو نقلاً أو تخلّصاً من سكونين.
وحدُّه معنى: لزومُ آخرِ الكلمةِ حركةً أو حرفاً أو سكوناً أو حذفاً لغيرِ عاملٍ ولا اعتلالٍ.
ألقابُ الإعرابُ أربعةٌ: رفعٌ ونصبٌ وخفضٌ وجزمٌ.
ألقابُ البناءِ أربعةٌ: ضمٌّ وكسرٌ وفتحٌ وسكونٌ.
الأصلُ في الأسماءِ الإعرابُ، وما بُني منها فَعَلَى خِلافِ الأصلِ.
والأصلُ في الأفعالِ البناءُ، وما أُعرب منها فَعَلَى خلافِ الأصلِ.
والمبنيُّ من الأسماءِ ستةٌ:
المضمراتُ، وأسماءُ الإشارةِ، وأسماءُ الشروطِ، وأسماءُ الاستفهامِ، وأسماءُ الأفعالِ وأسماء الموصولات، وزادَ ابنُ مالكٍ سابعاً وهي الأسماءُ قبلَ التركيب.
والمعربُ من الأفعالِ: الفعلُ المضارعُ بشرطِ أنْ يَعْرى منْ نونِ التوكيدِ المباشرةِ ومنْ نونِ الإناثِ.(43/61)
العدد 113
فهرس المحتويات
1- دراسات في الباقيات الصالحات
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
أ. د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
2- رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
... تابع (4)
أ. د. محمد بن خليفة بن علي التميمي
3- أحاديث القراءة في صلاة الفجر جمعا ودراسة
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
د. إبراهيم بن علي العبيد
4- تلوين الخطاب لابن كمال باشا
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
د. عبد الخالق بن مساعد الزهراني
5- المنهل المؤهول بالبناء للمجهول
... تابع (1)
... تابع (2)
... تابع (3)
لأبي الخير محمد بن ظهيرة تحقيق ودراسة د. عبد الرزاق بن فرج الصاعدي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(43/62)
دراسات في الباقيات الصالحات
إعداد
أ. د عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
الأستاذ في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
المقدّمة
أحمد الله بمحامده التي هو لها أهلٌ، وأُثني عليه الخير كلَّه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأصلِّي وأسلّم على خاتم رسله وأنبيائه، وإمام أوليائه وأصفيائه، نبيّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فلا يخفى على جميع المسلمين ما للكلمات الأربع: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر)) من مكانة في الدّين عظيمة، ومنزلة في الإسلام رفيعة، فهُنَّ أفضل الكلمات وأجلهنَّ، وهنَّ من القرآن، وهنَّ أطيب الكلام وأحبّه إلى الله، وأحبُّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلِّ ما طلعت عليه الشمس، وفيهنَّ رفعٌ للدرجات وتكفيرٌ للذنوب والسيّئات، وجُنَّة لقائلهنَّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنَّ ومقدّمات له، إلى غير ذلك من صنوف الفضائل وأنواع المناقب، ممّا يدلُّ على عظيم شرف هؤلاء الكلمات عند الله وعلوِّ منزلتهنَّ عنده، وكثرة ما يترتَّب عليهنَّ من خيرات متواصلة وفضائل متوالية في الدنيا والآخرة، لذا رأيت أنَّ من المفيد لي ولإخواني المسلمين أن أجمع في بحث مختصر بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل لهؤلاء الكلمات الأربع مع بيان دلالاتهنَّ ومقتضياتهنَّ، وقد جعلت ذلك كلَّه في مقدّمة - وهي هذه - وخمسة مباحث وخاتمة كما يلي:
المبحث الأول: في ذكر النصوص الدالة على فضل هؤلاء الكلمات الأربع.
المبحث الثاني: لا إله إلاَّ الله، فضلها ومعناها وشروطها ونواقضها، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضائل كلمة لا إله إلاَّ الله.
المطلب الثاني: مدلول ومعنى لا إله إلاَّ الله.
المطلب الثالث: شروط لا إله إلاّ الله.
المطلب الرابع: نواقض شهادة أن لا إله إلاّ الله.
المبحث الثالث: في التسبيح فضله ومكانته ومدلوله، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضل التسبيح.(43/63)
المطلب الثاني: تسبيحُ جميع الكائنات لله.
المطلب الثالث: معنى التسبيح.
المبحث الرابع: في الحمد، فضله وأنواعه ودلالته، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضلُ الحمدِ والأدلَّةُ عليه.
المطلب الثاني: المواطن التي يتأكّد فيها الحمد.
المطلب الثالث: في بيان موجبات الحمد وأنواعه.
المطلب الرابع: أفضلُ صِيَغِ الحمد وأكملُها.
المطلب الخامس: تعريفُ الحمد، وبيان الفرق بينه وبين الشكر.
المبحث الخامس: في التكبير فضله ومعناه، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فضل التكبير ومكانته من الدِّين.
المطلب الثاني: في معنى التكبير وبيان مدلوله.
الخاتمة: في بيان التلازم بين هؤلاء الكلمات الأربع.
وسمَّيته ((دراسات في الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر)) ؛ لأنَّ هؤلاء الكلمات الأربع هنَّ أفضل الباقيات الصالحات، واعتمدتُ في أغلب الأحاديث على أحكام العلاَّمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني يرحمه الله.
وإنِّي أرجو الله أن يكون في ذلك النفع لي وللمسلمين، إنَّه وليُّ التوفيق والسداد.
المبحث الأول:
النصوص الدّالة على فضل هؤلاء الكلمات الأربع
لقد ورد في فضل هؤلاء الكلمات الأربع نصوصٌ كثيرةٌ تدل دلالةً قويةً على عظم شأنهنَّ وجلالة قدرهنَّ، وما يترتّب على القيام بهنَّ من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ، وخيراتٍ متواليةٍ في الدنيا والآخرة، وفيما يلي عرضٌ لجملة من فضائل هؤلاء الكلمات:(43/64)
أولاً: فمِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ أحب الكلام إلى الله، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحبُّ الكلام إلى الله - تعالى - أربع، لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، ورواه الطيالسي في مسنده بلفظ: "أربع هنَّ من أطيب الكلام، وهنّ من القرآن، لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
ثانياً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهنَّ أحبُّ إليه مِمَّا طلعت عليه الشمس (أي: من الدنيا وما فيها) ، لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحبُّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس".
ثالثاً: ومن فضائلهنَّ: ما ثبت في مسند الإمام أحمد، وشعب الإيمان للبيهقي بإسناد جيّد عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: "إنِّي قد كبرتُ وضعُفت - أو كما قالت - فمُرني بعمل أعمله وأنا جالسة. قال: "سبّحي اللهَ مائة تسبيحة، فإنَّها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة، تعدل لكِ مائة فرس مُسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكَبِّري اللهَ مائة تكبيرة فإنَّها تعدل لك مائة بدَنة مُقلّدة متقبّلَة، وهلِّلي مائة تهليلة - قال ابن خلف (الراوي عن عاصم) أحسبه قال -: تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذ لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتيتِ به". قال المنذري: رواه أحمد بإسناد حسن. وحسّن إسناده العلامة الألباني حفظه الله.(43/65)
وتأمَّل هذا الثواب العظيم المترتِّب على هؤلاء الكلمات، فمن سبّح اللهَ مائة، أي قال: سبحان الله مائة مرّة فإنَّها تعدل عِتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، وخصَّ بني إسماعيل بالذِّكر لأنَّهم أشرفُ العرب نَسباً، ومن حَمِد الله مائة، أي من قال: الحمد لله مائة مرّة كان له من الثواب مثل ثواب من تصدّق بمائة فرس مسرجةٍ ملجمةٍ، أي: عليها سرجها ولجامها لحمل المجاهدين في سبيل الله، ومن كبّر اللهَ مائة مرّة، أي قال: الله أكبر مائة مرّة كان له من الثواب مثلُ ثواب إنفاق مائة بدنةٍ مقلّدةٍ متقبّلةٍ، ومن هلّل مائة، أي قال: لا إله إلا الله مائة مرة فإنَّها تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتى به.
رابعاً: ومِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ مكفِّرات للذنوب، فقد ثبت في المسند، وسنن الترمذي، ومستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض رجل يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كُفِّرت عنه ذنوبُه ولو كانت أكثر من زَبَد البحر"، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقرَّه الذهبي، وحسّنه الألباني.
والمراد بالذنوب المكفَّرة هنا أي: الصغائر، لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر"، فقيّد التكفير باجتناب الكبائر؛ لأنَّ الكبيرة لا يُكفِّرها إلا التوبة.(43/66)
وفي هذا المعنى ما رواه الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاه فتناثر الورق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لَتُساقط من ذنوب العبد كما تَساقط ورق هذه الشجرة"، وحسّنه الألباني.
خامساً: ومِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ غرس الجنة، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلامَ، وأخبِرهم أنَّ الجنةَ طيِّبةُ التربة، عذبةُ الماء، وأنَّها قيعان، غِراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وفي إسناد هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق، لكن للحديث شاهدان يتقوى بهما من حديث أبي أيوب الأنصاري، ومن حديث عبد الله بن عمر.
والقيعان جمع قاع، وهو المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه ماء السماء، فيمسكه ويستوي نباته، كذا في النهاية لابن الأثير، والمقصود أنَّ الجنة ينمو غراسها سريعاً بهذه الكلمات كما ينمو غراس القيعان من الأرض ونبتها.(43/67)
سادساً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام يكثر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده: روى الإمام أحمد، والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن عن عبد الله بن شداد: أنَّ نفرًا من بني عُذْرَة ثلاثةً أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يكفينيهم" قال طلحةُ: أنا، قال: فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدُهم فاستشهدَ، قال: ثم بَعَثَ بعثاً آخر، فخرج فيهم آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالثُ على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استُشهد أخيرًا يليه، ورأيت الذي استُشهد أولَهم آخرَهم، قال: فدخلني من ذلك، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنكرتَ من ذلك، ليس أحدٌ أفضل عند الله من مؤمن يُعمّرُ في الإسلام يَكثُر تكبيرُه وتسبيحُه وتهليله وتحميده".
وقد دلّ هذا الحديث العظيم على عِظم فضل من طال عمرُه وحسُن عملُه، ولم يزل لسانُه رَطْباً بذكر الله عز وجل.
سابعاً: ومن فضائلهنَّ: أنَّ الله اختار هؤلاء الكلمات واصطفاهنَّ لعِباده، ورتّب على ذِكر الله بهنّ أجورًا عظيمةً، وثواباً جزيلاً، ففي المسند للإمام أحمد ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كُتب له عشرون حسنة، وحُطّت عنه عشرون سيّئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين مِن قِبَل نفسِهِ كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطّ عنه ثلاثون خطيئة".(43/68)
وقد زاد في ثواب الحمد عندما يقوله العبد مِن قِبَل نفسه عن الأربع؛ لأنَّ الحمد لا يقع غالباً إلا بعد سبب كأكلٍ أو شُربٍ، أو حدوث نعمة، فكأنَّه وقع في مقابلة ما أُسديَ إليه وقت الحمد، فإذا أنشأ العبد الحمد من قِبَل نفسه دون أن يدفعه لذلك تجدُّدُّ نعمةٍ زاد ثوابه.
ثامناً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ جُنّةٌ لقائلهنّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنّ ومقدّمات له، روى الحاكم في المستدرك، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا جُنَّتَكم"، قلنا: يا رسول الله من عدو قد حضر! قال: "لا، بل جُنَّتُكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنَّهنّ يأتين يوم القيامة منجيات ومقدّمات، وهنّ الباقيات الصالحات". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححّه العلامة الألباني يرحمه الله.
وقد تضمّن هذا الحديث إضافة إلى ما تقدّم وصفَ هؤلاء الكلمات بأنَّهنَّ الباقيات الصالحات، وقد قال الله - تعالى -: {وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} والباقيات أي: التي يبقى ثوابُها، ويدوم جزاؤُها، وهذا خيرُ أمَلٍ يؤمِّله العبد وأفضل ثواب.
تاسعاً: ومن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ يَنعَطِفْن حول عرش الرحمن ولهنّ دويٌّ كدويِّ النحل، يذكرن بصاحبهنَّ، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم عن النعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، يَنعَطِفْن حول العرش لهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل، تذكر بصاحبها، أما يحب أحدكم أن يكون له، أو لا يزال له من يذكر به". قال البوصيري في زوائد سنن ابن ماجه: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وصحّحه الحاكم.(43/69)
فأفاد هذا الحديث هذه الفضيلة العظيمة، وهي أنَّ هؤلاء الكلمات الأربع يَنعَطِفْن حول العرش أي: يَمِلن حوله، ولهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل؛ أي: صوتٌ يشبه صوتَ النحل يذكرن بقائلهنّ، وفي هذا أعظم حضٍّ على الذِّكر بهذه الألفاظ، ولهذا قال في الحديث: "ألا يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به".
عاشراً: ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهنّ ثقيلاتٌ في الميزان، روى النسائي في عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وغيرهم عن أبي سلمى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بَخٍ بَخٍ، - وأشار بيده بخمس - ما أثقلهنّ في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولدُ الصالح يُتوفى للمرء المسلم فيحتسبُه"، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وللحديث شاهد من حديث ثوبان رضي الله عنه، خرّجه البزار في مسنده، وقال: إسناده حسن.
وقوله في الحديث: "بَخٍ بَخٍ" هي كلمة تُقال عند الإعجاب بالشيء وبيان تفضيله.
حادي عشر: ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ للعبد بقول كلِّ واحدة منهنّ صدقة، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضولِ أموالهم". قال: "أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إنَّ بكلِّ تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكلِّ تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلةٍ صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكرٍ صدقة، وفي بُضعِ أحدكم صدقة". قالوا: "يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ "قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ".(43/70)
وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ثاني عشر: ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعلهنّ عن القرآن الكريم في حقِّ من لا يُحسنه، روى أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إنِّي لا أستطيع أن أتعلّمَ القرآنَ، فعلِّمني شيئاً يُجزيني". قال: "تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". فقال الأعرابي: هكذا - وقبض يديه - فقال: "هذا لله، فمَا لي؟ "قال: "تقول: اللهمّ اغفر لي وارْحمني وعافِني وارْزقني واهْدِني"، فأخذها الأعرابيُّ وقبض كفّيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد مَلأَ يديه بالخير".
قال المحدّث أبو الطيّب العظيم آبادي في تعليقه على سنن الدارقطني: سنده صحيح. وقال الألباني يرحمه الله: سنده حسن.(43/71)
فهذه بعض الفضائل الواردة في السنة النبوية لهؤلاء الكلمات الأربع، وقد ورد لكلِّ كلمة منهن فضائلُ مخصوصةٌ سيأتي تفاصيلها إن شاء الله، ومن يتأمل هذه الفضائل المتقدّمة يجد أنَّها عظيمةٌ جدًا، ودالّةٌ على عِظم قدرِ هؤلاء الكلمات، ورِفعة شأنهنّ وكثرة فوائدهنّ وعوائدهنّ على العبد المؤمن، ولعلّ السر في هذا الفضل العظيم - والله أعلم - ما ذُكر عن بعض أهل العلم أنَّ أسماء الله - تبارك وتعالى - كلَّها مندرجةٌ في هذه الكلمات الأربع، فسبحان الله يندرج تحته أسماءُ التنزيه كالقدّوس والسلام، والحمد لله مشتملة على إثبات أنواع الكمال لله - تبارك في أسمائه وصفاته -، والله أكبر فيها تكبير الله وتعظيمه، وأنَّه لا يُحصي أحدٌ الثناءَ عليه، ومن كان كذلك فـ (لا إله إلا هو) أي: لا معبود حق سواه.
فلله ما أعظمَ هؤلاء الكلمات، وما أجلَّ شأنهنَّ، وما أكبرَ الخير المترتّب عليهنّ، فنسأل الله أن يوفقنا للمحافظة والمداومة عليهنّ، وأن يجعلنا من أهلهنّ الَّذين ألسنتهم رطبةٌ بذلك، إنَّه وليّ ذلك والقادر.
المبحث الثاني:
لا إله إلاَّ الله، فضلها ومعناها وشروطها ونواقضها:
· المطلب الأول: فضائل لا إله إلاَّ الله(43/72)
إنَّ كلمة التوحيد: لا إله إلاّ الله، هي أفضل هؤلاء الكلمات الأربع، وأجلّهنّ وأعظمهنّ؛ فلأجلها خُلقت الخليقةُ، وأُرسلت الرسلُ، وأُنزلت الكتبُ، وبها افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار، فهي العروة الوثقى، وهي كلمة التقوى، وهي أعظم أركان الدِّين وأهم شعب الإيمان، وهي سبيل الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي كلمة الشهادة، ومفتاح دار السعادة، وأصل الدين وأساسه ورأس أمره، وفضائل هذه الكلمة وموقعها من الدين فوق ما يصفُه الواصفون ويعرفه العارفون {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
ولهذا فإنَّ لهذه الكلمة الجليلة فضائلَ عظيمةً، وفواضلَ كريمةً، ومزاياً جمّةً، لا يُمكن لأحد استقصاؤها، ومما ورد في فضل هذه الكلمة في القرآن الكريم أنَّ الله - تبارك وتعالى - جعلها زبدةَ دعوة الرسل، وخلاصةَ رسالاتهم، قال الله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقال - تعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال - تعالى - في أول سورة النحل: {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} (2) وهذه الآية هي أول ما عدّد الله على عباده من النعم في هذه السورة، فدلّ ذلك على أنَّ التوفيق لذلك هو أعظم نعم الله تعالى التي أسبغها على عباده كما قال - سبحانه -: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (3) قال مجاهد: "لا إله إلا الله".
__________
(1) ورة الأنبياء، الآية: (25) .
(2) ورة النحل، الآية: (36) .
(3) ورة النحل، الآية: (2) .(43/73)
وقال سفيان بن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمةً أعظم من أن عرَّفهم لا إله إلا الله".
ومن فضائلها: أنَّ الله وصفها في القرآن بأنَّها الكلمة الطيّبة، قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حَينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
وهي القول الثابت في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} .
وهي العهد في قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: "العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرّأ إلى الله عز وجل من الحول والقوة، وهي رأس كلِّ تقوى".
ومن فضائلها: أنَّها العروة الوثقى التي من تمسّك بها نجا، ومن لم يتمسّك بها هلك، قال تعالى: {فَمَن يَّكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وقال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى} (1)
ومن فضائلها: أنَّها الكلمة الباقية التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام في عقِبِه لعلهم يرجعون، قال الله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
__________
(1) ورة البقرة، الآية: (256) .(43/74)
وهي كلمة التقوى التي ألزمها الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أحقَّ بها وأهلَها، قال الله - تعالى -: {إِذْ َجَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاِهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
روى أبو إسحاق السبيعي، عن عمرو بن ميمون قال: ما تكلّمَ الناس بشيء أفضل من لا إله إلا الله، فقال سعد بن عياض: "أتدري ما هي يا أبا عبد الله؟ هي والله كلمة التقوى ألزمها الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا أحقّ بها وأهلَها رضي الله عنهم".
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها منتهى الصواب وغايته، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفاًّ لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} .
روى علي بن طلحة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} أنَّه قال: "إلا من أذنَ له الربّ عز وجل بشهادة أن لا إله إلا لله، وهي منتهى الصواب".
وقال عكرمة: "الصواب: لا إله إلا الله".
ومن فضائلها: أنَّها هي دعوة الحق المرادة بقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} .
ومن فضائلها: أنَّها هي الرابطة الحقيقية التي اجتمع عليها أهل دين الإسلام، فعليها يُوالون ويعادون، وبها يُحبّون ويُبغضون، وبسببها أصبح المجتمع المسلم كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يَشُدُّ بعضها بعضاً.(43/75)
قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في كتابه أضواء البيان: "والحاصل أنَّ الرابطة الحقيقية التي تَجمع المفترقَ وتؤلف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، ألا ترى أنَّ هذه الرابطة التي تجمع المجتمع الإسلامي كلَّه كأنَّه جسدٌ واحدٌ، وتجعله كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كَلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} ، فقد أشار - تعالى - إلى أنَّ الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنَّما هي الإيمان بالله - جلَّ وعلا -.
إلى أن قال - رحمه الله -: وبالجملة فلا خلاف بين المسلمين أنَّ الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض وتربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة لا إله إلا الله، فلا يجوز ألبتة النداءُ برابطة غيرها" اهـ.
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها أفضل الحسنات، قال الله - تعالى -: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} .(43/76)
وقد ورد عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم: أنَّ المراد بالحسنة: "لا إله إلا الله"، وعن عكرمة - رحمه الله - في قول الله عز وجل: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال: "قول: لا إله إلا الله. قال: له منها خير؛ لأنَّه لا شيء خير من لا إله إلا الله".
وقد ثبت في المسند وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله عَلِّمني عملاً يُقرّبني من الجنة ويُباعدني من النار. فقال: "إذا عملتَ سيّئةً فاعمل حسنةً فإنَّها عشر أمثالها". قلت: يا رسول الله، أفَمِنَ الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: "نعم هي أحسن الحسنات".
فهذه بعض فضائل هذه الكلمة العظيمة، من خلال ما ورد في القرآن الكريم، وفيما يلي ذكر لبعض فضائلها من خلال ما ورد من ذلك في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
فمن فضائلها: أنَّها أفضلُ الأعمال وأكثرُها تضعيفاً، وتَعدِلُ عِتقَ الرِّقاب، وتكون لقائلها حِرزًا من الشيطان، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٌ في يوم مائة مرّة كانت له عِدْل عشرِ رقاب، وكُتب له مائة حسنة، ومُحي عنه مائة سيّئة، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ عملَ أكثرَ من ذلك".
وفيهما - أيضاً - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قالها عشرَ مرات كان كمن أَعتقَ أربعة أنفس من وَلَدِ إسماعيل".(43/77)
ومن فضائلها: أنَّها أفضل ما قاله النبيّون، لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أفضل ما قلتُ أنا والنبيّون عشيةَ عَرَفَةَ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير"، وفي لفظ: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلته أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير" (1)
ومن فضائلها: أنَّها ترجحُ بصحائف الذنوبِ يوم القيامة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - المُخرَّج في المسند، وسنن النسائي، والترمذي، وغيرهما بإسناد جيّد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يُصاح برجل من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامةِ، فيُنشرُ له تسعةٌ وتسعون سِجِلاً، كلُّ سِجِلٍّ منها مدّ البصر، ثم يقول الله - تبارك وتعالى - له: أَتُنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا ربّ. فيقول عز وجل: أَلَكَ عُذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول عز وجل: بلى إنَّ لك عندنا حسنة، وإنَّه لا ظلم عليك، فتُخرجُ له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السِجِلاَّت؟ فيقول عز وجل: إنَّك لا تُظلم، قال: فتُوضَع السجلات في كِفَّة والبطاقة في كِفَّة، فطاشت السِجِلاَّت وثقُلت البطاقة".
__________
(1) أخرجه الطبراني في الدعاء (رقم:874) من حديث علي رضي الله عنه.(43/78)
ولا ريب أنَّ هذا قد قام بقلبه من الإيمان ما جعل بطاقته التي فيها لا إله إلا الله تطيش بتلك السِجلاّت، إذ الناس متفاضلون في الأعمال بحسب ما يقوم بقلوبهم من الإيمان، وإلا فكم من قائل لا إله إلا الله لا يحصل له مثل هذا لضعف إيمانه بها في قلبه، فقد ورد في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرةٍ من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برّة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير"، فدلّ ذلك على أنَّ أهل لا إله إلا الله متفاوتون فيها بحسب ما قام في قلوبهم من إيمان.
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها لو وُزِنت بالسموات والأرض رجحت بهنّ كما في المسند عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ نوحاً قال لابنه عند موته: آمُرُك بلا إله إلا الله، فإنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وُضعت في كفة، ووُضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهنّ لا إله إلا الله، ولو أنَّ السموات السبع في حلقة مبهمة لقصمتهنّ لا إله إلا الله".
ومن فضائلها: أنَّها ليس لها دون الله حجاب، بل تخرق الحُجب حتى تصل إلى الله عز وجل، ففي الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما قال عبدٌ لا إله إلا الله مخلصاً إلا فُتحت له أبواب السماء حتى تُفضي إلى العرش ما اجتَنَب الكبائر".
ومن فضائلها: أنَّها نجاةٌ لقائلها من النار، ففي صحيح مسلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذِّناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: "خرج من النار"، وفي الصحيحين من حديث عِتبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" (1)
__________
(1) صحيح مسلم (رقم:382) .(43/79)
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعلها أفضل شُعب الإيمان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
ومن فضائلها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّها أفضلُ الذِّكر كما في الترمذي وغيره من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذِّكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله".
ومن فضائلها: أنَّ من قالها خالصاً من قلبه يكون أسعد الناس بشفاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قيل: يا رسول الله من أَسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك لما رأيت من حِرصك على الحديث، أَسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه".(43/80)
أحاديث القراءة في صلاة الفجر جمعا ودراسة
إعداد
د. إبراهيم بن علي العبيد
الأستاذ المشارك في كلية الحديث والدراسات الإسلامية
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .
أما بعد:
فهذا بحث متواضع في القراءة في صلاة الفجر جمعت فيه الأحاديث الواردة في القراءة في صلاة الفجر وسميته:
"أحاديث القراءة في صلاة الفجر جمعاً ودراسة"
وقسمته إلى مقدمة وثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: أحاديث القراءة في صلاة الفجر.
المبحث الثاني: أحاديث القراءة في صلاة الفجر يوم الجمعة.
المبحث الثالث: أحاديث القراءة في الصلاة غير مقيدة بالفجر ولا غيرها.
وخاتمة اشتملت على أهم النتائج في هذا البحث.
__________
(1) آل عمران، الآية (102) .
(2) النساء، الآية (1) .
(3) الأحزاب، الآية (70، 71) .(43/81)